الكتاب : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

قال نصر و كتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر سلام على أهل طاعة الله ممن هو سلم لأهل ولاية الله أما بعد فإن الله بجلاله و عظمته و سلطانه و قدرته خلق خلقا بلا عبث و لا ضعف في قوته لا حاجة به إلى خلقهم و لكنه خلقهم عبيدا و جعل منهم شقيا و سعيدا و غويا و رشيدا ثم اختارهم على علمه فاصطفى و انتخب منهم محمدا ص فاختصه برسالته و اختاره لوحيه و ائتمنه على أمره و بعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب و دليلا على الشرائع فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة و الموعظة الحسنة فكان أول من أجاب و أناب و صدق و وافق فأسلم و سلم أخوه و ابن عمه علي بن أبي طالب ع فصدقه بالغيب المكتوم و آثره على كل حميم و وقاه كل هول و واساه بنفسه في كل خوف فحارب حربه و سالم سلمه فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل و مقامات الروع حتى برز سابقا شرح نهج البلاغة ج : ص : 189لا نظير له في جهاده و لا مقارب له في فعله و قد رأيتك تساميه و أنت أنت و هو هو السابق المبرز في كل خير أول الناس إسلاما و أصدق الناس نية و أطيب الناس ذرية و أفضل الناس زوجة و خير الناس ابن عم و أنت اللعين ابن اللعين لم تزل أنت و أبوك تبغيان لدين الله الغوائل و تجتهدان على إطفاء نور الله و تجمعان على ذلك الجموع و تبذلان فيه المال و تحالفان في ذلك القبائل على هذا مات أبوك و على ذلك خلفته و الشاهد عليك بذلك من يأوي و يلجأ إليك من بقية الأحزاب و رءوس النفاق و الشقاق لرسول الله ص و الشاهد لعلي مع فضله و سابقته القديمة أنصاره الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن ففضلهم و أثنى عليهم من المهاجرين و الأنصار فهم معه كتائب و عصائب يجالدون حوله بأسيافهم و يهريقون دماءهم دونه يرون الفضل في اتباعه و الشقاق و العصيان في خلافه فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي و هو وارث رسول الله ص و وصيه و أبو ولده و أول الناس له اتباعا و آخرهم به عهدا

(4/162)


يخبره بسره و يشركه في أمره و أنت عدوه و ابن عدوه فتمتع ما استطعت بباطلك و ليمددك لك ابن العاص في غوايتك فكان أجلك قد انقضى و كيدك قد وهى و سوف تستبين لمن تكون العاقبة العليا و اعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده و أيست من روحه و هو لك بالمرصاد و أنت منه في غرور و بالله و بأهل بيت رسوله عنك الغناء و السلام على من اتبع الهدى. فكتب إليه معاوية من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر سلام على أهل طاعة الله أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته و سلطانه و ما أصفى به نبيه مع كلام ألفته و وضعته لرأيك فيه تضعيف و لأبيك فيه تعنيف ذكرت حق

(4/163)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 190ابن أبي طالب و قديم سابقته و قرابته من نبي الله و نصرته له و مواساته إياه في كل خوف و هول و احتجاجك علي و فخرك بفضل غيرك لا بفضلك فاحمد إلها صرف ذلك الفضل عنك و جعله لغيرك فقد كنا و أبوك معنا في حياة نبينا نرى حق ابن أبي طاللازما لنا و فضله مبرزا علينا فلما اختار الله لنبيه ما عنده و أتم له ما وعده و أظهر دعوته و أفلج حجته قبضه الله إليه فكان أبوك و فاروقه أول من ابتزه و خالفه على ذلك اتفقا و اتسقا ثم دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عنهما و تلكأ عليهما فهما به الهموم و أرادا به العظيم فبايعهما و سلم لهما لا يشركانه في أمرهما و لا يطلعانه على سرهما حتى قبضا و انقضى أمرهما ثم أقاما بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان يهتدي بهديهما و يسير بسيرتهما فعبته أنت و صاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي و بطنتما و ظهرتما و كشفتما له عداوتكما و غلكما حتى بلغتما منه مناكما فخذ حذرك يا ابن أبي بكر فسترى وبال أمرك و قس شبرك بفترك تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه و لا تلين على قسر قناته و لا يدرك ذو مدى أناته أبوك مهد له مهاده و بنى ملكه و شاده فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله و إن يكن جورا فأبوك أسه و نحن شركاؤه فبهداه أخذنا و بفعله اقتدينا رأينا أباك فعل ما فعل فاحتذينا مثاله و اقتدينا بفعاله فعب أباك بما بدا لك أو دع و السلام على من أناب و رجع من غوايته و ناب. قال و أمر علي ع الحارث الأعور أن ينادي في الناس اخرجوا إلى معسكركم شرح نهج الاغة ج : 3 ص : 191بالنخيلة فنادى الحارث في الناس بذلك و بعث إلى مالك بن حبيب اليربوعي صاحب شرطته يأمره أن يحشر الناس إلى المعسكر و دعا عقبة بن عمرو الأنصاري فاستخلفه على الكوفة و كان أصغر أصحاب العقبة السبعين ثم خرج ع و خرج الناس معه.

(4/164)


قال نصر و دعا علي ع زياد بن النضر و شريح بن هانئ و كانا على مذحج و الأشعريين فقال يا زياد اتق الله في كل ممسى و مصبح و خف على نفسك الدنيا الغرور لا تأمنها على حال و اعلم أنك إن لم تزعها عن كثير مما تحب مخافة مكروهة سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر فكن لنفسك مانعا وازعا من البغي و الظلم و العدوان فإني قد وليتك هذا الجند فلا تستطيلن عليهم إن خيركم عند الله أتقاكم تعلم من عالمهم و علم جاهلهم و احلم عن سفيههم فإنك إنما تدرك الخير بالحلم و كف الأذى و الجهل
فقال زياد أوصيت يا أمير المؤمنين حافظا لوصيتك مؤديا لأربك يرى الرشد في نفاذ أمرك و الغي في تضييع عهدك. فأمرهما أن يأخذا في طريق واحد و لا يختلفا و بعثهما في اثني عشر ألفا على مقدمته و كل واحد منهما على جماعة من ذلك الجيش فأخذ شريح يعتزل بمن معه من أصحابه على حدة و لا يقرب زيادا فكتب زياد إلى علي ع مع مولى له يقال له شوذب لعبد الله علي أمير المؤمنين من زياد بن النضر سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنك وليتني أمر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 192الناس و إن شريحا لا يرى بي عليه طاعة و لحقا و ذلك من فعله بي استخفاف بأمرك و ترك لعهدك و السلام. و كتب شريح بن هانئ إلى علي ع لعبد الله علي أمير المؤمنين من شريح بن هانئ سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن زياد بن النضر حين أشركته في أمرك و وليته جندا من جنودك طغى و استكبر و مال به العجب و الخيلاء و الزهو إلى ما لا يرضى الله تعالى به من القول و الفعل فإن رأى أمير المؤمنين ع أن يعزله عنا و يبعث مكانه من يحب فليفعل فإنا له كارهون و السلام.

(4/165)


فكتب علي ع إليهما من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زياد بن النضر و شريح بن هانئ سلام عليكما فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني قد وليت مقدمتي زياد بن النضر و أمرته عليها و شريح بن هانئ على طائفة منها أمير فإن انتهى جمعكما إلى بأس فزياد بن النضر على الناس كلهم و إن افترقتما فكل واحد منكما أمير الطائفة التي وليناه أمرها و اعلما أن مقدمة القوم عيونهم و عيون المقدمة طلائعهم فإذا أنتما خرجتما من بلادكما فلا تسأما من توجيه الطلائع و من نفض الشعاب و الشجر و الخمر في كل جانب كي لا يغتركما عدو أو يكون لهم كمين و لا تسيرن الكتائب و القبائل من لدن الصباح إلى المساء إلا على تعبئة فإن دهمكم عدو أو غشيكم مكروه كنتم قد تقدمتم في التعبئة فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الأشراف أو سفاح شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 193الجبال و أثناء الأنهاريما يكون ذلك لكم ردءا و تكون مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين و اجعلوا رقباءكما في صياصي الجبال و بأعالي الأشراف و مناكب الأنهار يرون لكم كي لا يأتيكم عدو من مكان مخافة أو أمن و إياكم و التفرق فإذا نزلتم فانزلوا جميعا و إذا رحلتم فارحلوا جميعا فإذا غشيكم الليل فنزلتم فحفوا عسكركم بالرماح و الترسة و لتكن رماتكم من وراء ترسكم و رماحكم يلونهم و ما أقمتم فكذلك فافعلوا كي لا تصاب لكم غفلة و لا تلفى لكم غرة فما قوم يحفون عسكرهم برماحهم و ترستهم من ليل أو نهار إلا كانوا كأنهم في حصون و احرسا عسكركما بأنفسكما و إياكما أن تذوقا نوما حتى تصبحا إلا غرارا أو مضمضة ثم ليكن ذلك شأنكما و دأبكما حتى تنتهيا إلى عدوكما و ليكن كل يوم عندي خبركما و رسول من قبلكما فإني و لا شي ء إلا ما شاء الله حثيث السير في أثركما عليكما في جريكما بالتؤدة و إياكما و العجلة إلا أن تمكنكما فرصة بعدالإعذار و الحجة و إياكما أن تقاتلا حتى أقدم عليكما إلا أن تبدءا أو

(4/166)


يأتيكما أمري إن شاء الله
قال نصر و كتب علي ع إلى أمراء الأجناد و كان قد قسم عسكره أسباعا فجعل على كل سبع أميرا فجعل سعد بن مسعود الثقفي على قيس و عبد القيس و معقل بن قيس اليربوعي على تميم و ضبة و الرباب و قريش شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 194و كنانة و أسد و مخنف بن سليم على الأزد وجيلة و خثعم و الأنصار و خزاعة و حجر بن عدي الكندي على كندة و حضرموت و قضاعة و زياد بن النضر على مذحج و الأشعريين و سعيد بن مرة الهمداني على همدان و من معهم من حمير و عدي بن حاتم الطائي على طيئ تجمعهم الدعوة مع مذحج و تختلف الرايتان راية مذحج مع زياد بن النضر و راية طيئ مع عدي بن حاتم هذه عساكر الكوفة و أما عساكر البصرة فخالد بن معمر السدوسي على بكر بن وائل و عمرو بن مرجوم العبدي على عبد القيس و ابن شيمان الأزدي على الأزد و الأحنف على تميم و ضبة و الرباب و شريك بن الأعور الحارثي على أهل العالية
أما بعد فإني أبرأ إليكم من معرة الجنود إلا من جوعة إلى شبعة و من فقر إلى غنى أو عمى إلى هدى فإن ذلك عليهم فأغربوا الناس عن الظلم و العدوان و خذوا على أيدي سفهائكم و احترسوا أن تعملوا أعمالا لا يرضى الله بها عنا فيرد بها علينا و عليكم دعاءنا فإنه تعالى يقول ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ و إن الله إذا مقت قوما من السماء هلكوا في الأرض فلا تألوا أنفسكم خيرا و لا الجند حسن سيرة و لا الرعية معونة و لا دين الله قوة و أبلوا في سبيله ما استوجب عليكم فإن الله قد اصطنع عندنا و عندكم ما يجب علينا أن نشكره بجهدنا و أن ننصره ما بلغت قوتنا و لا قوة إلا بالله

(4/167)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 195قال و كتب ع إلى جنوده يخبرهم بالذي لهم و عليهم أما بعد فإن الله جعلكم في الحق جميعا سواء أسودكم و أحمركم و جعلكم من الوالي و جعل الوالي منكم بمنزلة الوالد من الولد و بمنزلة الولد من الوالد الذي لا يكفيه منعه إياهم طلب عدوه ولتهمة به ما سمعتم و أطعتم و قضيتم الذي عليكم فحقكم عليه إنصافكم و التعديل بينكم و الكف عن فيئكم فإذا فعل معكم ذلك وجبت عليكم طاعته فيما وافق الحق و نصرته و الدفع عن سلطان الله فإنكم وزعة الله في الأرض فكونوا له أعوانا و لدينه أنصارا و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها إن الله لا يحب المفسدين

(4/168)


قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباته قال قال علي ع ما يقول الناس في هذا القبر و في النخيلة و بالنخيلة قبر عظيم يدفن اليهود موتاهم حوله فقال الحسن بن علي ع يقولون هذا قبر هود لما عصاه قومه جاء فمات هاهنا فقال كذبوا لأنا أعلم به منهم هذا قبر يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بكر يعقوب ثم قال أ هاهنا أحد من مهرة فأتي بشيخ كبير فقال أين منزلك قال على شاطئ البحر قال أين أنت من الجبل قال أنا قريب منه قال فما يقول قومك فيه قال يقولون إن فيه قبر ساحر قال كذبوا ذاك قبر هود النبي ع و هذا قبر يهودا بن يعقوب ثم قال شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 196ع يحشر من ظهر الكوفة سبعون ألفا على غرة الشمس يدخلون الجنة بغير حسابقال نصر فلما نزل علي ع النخيلة متوجها إلى الشام و بلغ معاوية خبره و هو يومئذ بدمشق قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان مختضبا بالدم و حول المنبر سبعون ألف شيخ يبكون حوله لا تجف دموعهم على عثمان خطبهم و قال يا أهل الشام قد كنتم تكذبونني في علي و قد استبان لكم أمره و الله ما قتل خليفتكم غيره و هو أمر بقتله و ألب الناس عليه و آوى قتلته و هم جنده و أنصاره و أعوانه و قد خرج بهم قاصدا بلادكم و دياركم لإبادتكم يا أهل الشام الله الله في دم عثمان فأنا وليه و أحق من طلب بدمه و قد جعل الله لولي المقتول ظلما سلطانا فانصروا خليفتكم المظلوم فقد صنع القوم به ما تعلمون قتلوه ظلما و بغيا و قد أمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية حتى تفي ء إلى أمر الله ثم نزل. قال نصر فأعطوه الطاعة و انقادوا له و جمع إليه أطرافه و استعد للقاء علي ع شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 47197- و من كلام له ع في ذكر الكوفةكَأَنِّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ وَ تُرْكَبِينَ بِالزَّلَازِلِ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ

(4/169)


سُوءاً إِلَّا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِشَاغِلٍ أَوْ رَمَاهُ بِقَاتِلٍ
عكاظ اسم سوق للعرب بناحية مكة كانوا يجتمعون بها في كل سنة يقيمون شهرا و يتبايعون و يتناشدون شعرا و يتفاخرون قال أبو ذؤيب
إذا بني القباب على عكاظ و قام البيع و اجتمع الألوف
فلما جاء الإسلام هدم ذلك و أكثر ما كان يباع الأديم بها فنسب إليها. و الأديم واحد و الجمع أدم كما قالوا أفيق للجلد الذي لم تتم دباغته و جمعه أفق و قد يجمع أديم على آدمة كما قالوا رغيف و أرغفة. و الزلازل هاهنا الأمور المزعجة و الخطوب المحركة. شرح نهج البلا ج : 3 ص : 198و قوله ع تمدين مد الأديم استعارة لما ينالها من العسف و الخبط و قوله تعركين من عركت القوم الحرب إذا مارستهم حتى أتعبتهم
فصل في ذكر فضل الكوفة
و قد جاء في فضل الكوفة عن أهل البيت ع شي ء كثير نحو قول أمير المؤمنين ع نعمت المدرة
و قوله ع إنه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفا وجوههم على صورة القمر
و قوله ع هذه مدينتنا و محلتنا و مقر شيعتنا
و قول جعفر بن محمد ع اللهم ارم من رماها و عاد من عاداها
و قوله ع تربة تحبنا و نحبها
فأما ما هم به الملوك و أرباب السلطان فيها من السوء و دفاع الله تعالى عنها فكثير.
قال المنصور لجعفر بن محمد ع إني قد هممت أن أبعث إلى الكوفة من ينقض منازلها و يجمر نخلها و يستصفي أموالها و يقتل أهل الريبة منها فأشر علي فقال يا أمير المؤمنين إن المرء ليقتدي بسلفه و لك أسلاف ثلاثة سليمان أعطي فشكر و أيوب ابتلي فصبر و يوسف قدر فغفر فاقتد بأيهم شئت فصمت قليلا ثم قال قد غفرت

(4/170)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 199و روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في كتاب المنتظم أن زيادا لما حصبه أهل الكوفة و هو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم و هم أن يخرب دورهم و يجمر نخلهم فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد و الرحبة يعرضهم على البراءة من علي و علم أنهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استئصالهم و إخراب بلدهم. قال عبد الرحمن بن السائب الأنصاري فإني لمع نفر من قومي و الناس يومئذ في أمر عظيم إذ هومت تهويمه فرأيت شيئا أقبل طويل العنق مثل عنق البعير أهدر أهدل فقلت ما أنت فقال أنا النقاد ذو الرقبة بعثت إلى صاحب هذا القصر فاستيقظت فزعا فقلت لأصحابي هل رأيتم ما رأيت قالوا لا فأخبرتهم و خرج علينا خارج من القصر فقال انصرفوا فإن الأمير يقول لكم إني عنكم اليوم مشغول و إذا بالطاعون قد ضربه فكان يقول إني لأجد في النصف من جسدي حر النار حتى مات فقال عبد الرحمن بن السائب
ما كان منتهيا عما أراد بنا حتى تناوله النقاد ذو الرقبةفاثبت الشق منه ضربة عظمت كما تناول ظلما صاحب الرحبة
قلت قد يظن ظان أن قوله صاحب الرحبة يمكن أن يحتج به من قال إن قبر أمير المؤمنين ع في رحبة المسجد بالكوفة و لا حجة في ذلك لأن أمير المؤمنين كان يجلس معظم زمانه في رحبة المسجد يحكم بين الناس فجاز أن ينسب إليه بهذا الاعتبار

(4/171)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 48200- و من خطبة له ع عند المسير إلى الشامالْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا وَقَبَ لَيْلٌ وَ غَسَقَ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا لَاحَ نَجْمٌ وَ خَفَقَ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَفْقُودِ الْإِنْعَامِ وَ لَا مُكَافَإِ الْإِفْضَالِ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ مُقَدِّمَتِي وَ أَمَرْتُهُمْ بِلُزُومِ هَذَا الْمِلْطَاطِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرِي وَ قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَقْطَعَ هَذِهِ النُّطْفَةَ إِلَى شِرْذِمَةٍ مِنْكُمْ مُوطِنِينَ أَكْنَافَ دِجْلَةَ فَأُنْهِضَهُمْ مَعَكُمْ إِلَى عَدُوِّكُمْ وَ أَجْعَلَهُمْ مِنْ أَمْدَادِ الْقُوَّةِ لَكُمْ
قال الرضي رحمه الله يعني ع بالملطاط هاهنا السمت الذي أمرهم بلزومه و هو شاطئ الفرات و يقال ذلك أيضا لشاطئ البحر و أصله ما استوى من الأرض و يعني بالنطفة ماء الفرات و هو من غريب العبارات و عجيبها وقب الليل أي دخل قال الله تعالى وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ. و غسق أي أظلم و خفق النجم أي غاب. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 201و مقدمة الجيش بكسر الدال أوله و ما يتقدم منه على جمهور العسكر و مقدمة الإنسان بفتح الدال صدره و الملطاط حافة الوادي و شفيرة و ساحل البحر قال رؤبةنحن جمعنا الناس بالملطاط

(4/172)


قال الأصمعي يعني به ساحل البحر و قول ابن مسعود هذا الملطاط طريق بقية المؤمنين هرابا من الدجال يعني به شاطئ الفرات. فأما قول الرضي رحمه الله تعالى الملطاط السمت الذي أمرهم بلزومه و هو شاطئ الفرات و يقال ذلك لشاطئ البحر فلا معنى له لأنه لا فرق بين شاطئ الفرات و شاطئ البحر و كلاهما أمر واحد و كان الواجب أن يقول الملطاط السمت في الأرض و يقال أيضا لشاطئ البحر. و الشرذمة نفر قليلون. و موطنين أكناف دجلة أي قد جعلوا أكنافها وطنا أوطنت البقعة و الأكناف الجوانب واحدها كنف و الأمداد جمع مدد و هو ما يمد به الجيش تقوية له. و هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع و هو بالنخيلة خارجا من الكوفة و متوجها إلى صفين لخمس بقين من شوال سنة سبع و ثلاثين ذكرها جماعة من أصحاب السير و زادوا فيها
قد أمرت على المصر عقبة بن عمرو الأنصاري و لم آلكم و لا نفسي فإياكم و التخلف و التربص فإني قد خلفت مالك بن حبيب اليربوعي و أمرته ألا يترك متخلفا إلا ألحقه بكم عاجلا إن شاء الله
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 202و روى نصر بن مزاحم عوض قوله فأنهضهم معكم إلى عدوكم فأنهضهم معكم إلى عدو الله قال نصر فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال يا أمير المؤمنين و الله ما يتخلف عنك إلا ظنين و لا يتربص بك إلا منافق فمر مالك بن حبيب فليضرب أعناق المتخلفين فقال قد أمرته بأمري و ليس بمقصر إن شاء الله
أخبار علي في جيشه و هو في طريقه إلى صفين
قال نصر بن مزاحم ثم سار ع حتى انتهى إلى مدينة بهرسير و إذا رجل من أصحابه يقال له حر بن سهم بن طريف من بني ربيعة بن مالك ينظر إلى آثار كسرى و يتمثل بقول الأسود بن يعفر
جرت الرياح على محل ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد

(4/173)


فقال له ع ألا قلت كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا مورثين و لم يشكروا النعمة فسلبوا دنياهم بالمعصية إياكم و كفر النعم لا تحل بكم النقم انزلوا بهذه الفجوة
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 203قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن مسلم الأعور عن حبة العرني قال أمر علي ع الحارث الأعور فصاح في أهل المدائن من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين ع صلاة العصر فوافوه في تلك الساعة فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإني قد تعجبت من تخلفكم عن دعوتكم و انقطاعكم عن أهل مصركم في هذه المساكن الظالم أهلها الهالك أكثر ساكنيها لا معروف يأمرون به و لا منكر ينهون عنه
قالوا يا أمير المؤمنين إنا ننتظر أمرك مرنا بما أحببت فسار و خلف عليهم عدي بن حاتم أقام عليهم ثلاثا ثم خرج في ثمانمائة رجل منهم و خلف ابنه زيدا بعده فلحقه في أربعمائة رجل منهم. و جاء علي ع حتى مر بالأنبار فاستقبله بنو خشنوشك دهاقينها قال نصر الكلمة فارسية أصلها خش أي الطيب قال فلما استقبلوه نزلوا عن خيولهم ثم جاءوا يشتدون معه و بين يديه و معهم براذين قد أوقفوها في طريقه فقال ما هذه الدواب التي معكم و ما أردتم بهذا الذي صنعتم قالوا أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الأمراء و أما هذه البراذين فهدية لك و قد صنعنا للمسلمين طعاما و هيأنا لدوابكم علفا كثيرا.

(4/174)


فقال ع أما هذا الذي زعمتم أنه فيكم خلق تعظمون به الأمراء فو الله ما ينفع ذلك الأمراء و إنكم لتشقون به على أنفسكم و أبدانكم فلا تعودوا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 204له و أما دوابكم هذه فإن أحببتم أن آخذها منكم و أحسبها لكم من خراجكم أخذناها منكم و أما طعام الذي صنعتم لنا فإنا نكره أن نأكل من أموالكم إلا بثمن قالوا يا أمير المؤمنين نحن نقومه ثم نقبل ثمنه قال إذا لا تقومونه قيمته نحن نكتفي بما هو دونه قالوا يا أمير المؤمنين فإن لنا من العرب موالي و معارف أ تمنعنا أن نهدي لهم أو تمنعهم أن يقبلوا منا فقال كل العرب لكم موال و ليس ينبغي لأحد من المسلمين أن يقبل هديتكم و إن غصبكم أحد فأعلمونا قالوا يا أمير المؤمنين إنا نحب أن تقبل هديتنا و كرامتنا قال ويحكم فنحن أغنى منكم و تركهم و سار
قال نصر و حدثنا عبد العزيز بن سياه قال حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال حدثنا أبو سعيد التيمي المعروف بعقيصي قال كنا مع علي ع في مسيره إلى الشام حتى إذا كنا بظهر الكوفة من جانب هذا السواد عطش الناس و احتاجوا إلى الماء فانطلق بنا علي ع حتى أتى بنا إلى صخرة ضرس في الأرض كأنها ربضة عنز فأمرنا فاقتلعناها فخرج لنا من تحتها ماء فشرب الناس منه و ارتووا ثم أمرنا فأكفأناها عليه و سار الناس حتى إذا مضى قليلا قال ع أ منكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه قالوا نعم يا أمير المؤمنين قال فانطلقوا إليه فانطلق منا رجال ركبانا و مشاة فاقتصصنا الطريق إليه حتى انتهينا إلى المكان الذي نرى أنه فيه فطلبناه فلم نقدر على شي ء حتى إذا عيل علينا انطلقنا إلى دير قريب شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 205منا فسألناهم أين هذا الماء الذي عندكم قالوا ليس قربنا ماء فقلنا بلى إنا شربنا منه قالواتم شربتم منه قلنا نعم فقال صاحب الدير و الله ما بني هذا الدير إلا بذلك الماء و ما استخرجه إلا نبي أو وصي نبي.

(4/175)


قال نصر ثم مضى ع حتى نزل بأرض الجزيرة فاستقبله بنو تغلب و النمر بن قاسط بجزور فقال ع ليزيد بن قيس الأرحبي يا يزيد قال لبيك يا أمير المؤمنين قال هؤلاء قومك من طعامهم فاطعم و من شرابهم فاشرب
قال ثم سار حتى أتى الرقة و جل أهلها عثمانية فروا من الكوفة إلى معاوية فأغلقوا أبوابها دونه و تحصنوا و كان أميرهم سماك بن مخرقة الأسدي في طاعة معاوية و قد كان فارق عليا ع في نحو من مائة رجل من بني أسد ثم كاتب معاوية و أقام بالرقة حتى لحق به سبعمائة رجل. قال نصر فروى حبة أن عليا ع لما نزل على الرقة نزل بموضع يقال له البليخ على جانب الفرات فنزل راهب هناك من صومعته فقال لعلي ع إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا كتبه أصحاب عيسى ابن مريم أعرضه عليك قال نعم فقرأ الراهب الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضي فيما قضي و سطر فيما كتب أنه باعث في الأميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب و الحكمة و يدلهم على سبيل الله لا فظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق و لا يجزي بالسيئة السيئة بل يعفو و يصفح أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشر و في كل صعود و هبوط تذل ألسنتهم شرح نهج الاغة ج : 3 ص : 206بالتكبير و التهليل و التسبيح و ينصره الله على من ناواه فإذا توفاه الله اختلفت أمته من بعده ثم اجتمعت فلبثت ما شاء الله ثم اختلفت فيمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و يقضي بالحق و لا يركس الحكم الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح و الموت أهون عليه من شرب الماء على الظمآن يخاف الله في السر و ينصح له في العلانية لا يخاف في الله لومة لائم فمن أدرك ذلك النبي من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني و الجنة و من أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن القتل معه شهادة. ثم قال له أنا مصاحبك فلا أفارقك حتى يصيبني ما أصابك فبكى ع

(4/176)


ثم قال الحمد لله الذي لم أكن عنده منسيا الحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار
فمضى الراهب معه فكان فيما ذكروا يتغدى مع أمير المؤمنين و يتعشى حتى أصيب يوم صفين فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم
قال ع اطلبوه فلما وجدوه صلى عليه و دفنه و قال هذا منا أهل البيت و استغفر له مرارا
روى هذا الخبر نصر بن مزاحم في كتاب صفين عن عمر بن سعد عن مسلم الأعور عن حبة العرني و رواه أيضا إبراهيم بن ديزيل الهمداني بهذا الإسناد عن حبة أيضا في كتاب صفين.
و روى ابن ديزيل في هذا الكتاب قال حدثني يحيى بن سليمان حدثني يحيى بن عبد الملك بن حميد بن عتيبة عن أبيه عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه و محمد شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 207بن فضيل عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبي سعيد الخدري رحمه الله قال كنا مع رسول الله فانقطع شسع نعله فألقاها إلى علي ع يصلحها ثم قال إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فقال أبو بكر الصديق أنا هو يا رسول الله فقال لا فقال عمر بن الخطاب أنا هو يا رسول الله قال لا و لكنه ذاكم خاصف النعل
و يد علي ع على نعل النبي ص يصلحها. قال أبو سعيد فأتيت عليا ع فبشرته بذلك فلم يحفل به كأنه شي ء قد كان علمه من قبل. و روى ابن ديزيل في هذا الكتاب أيضا عن يحيى بن سليمان عن ابن فضيل عن إبراهيم الهجري عن أبي صادق قال قدم علينا أبو أيوب الأنصاري العراق فأهدت ه الأزد جزرا فبعثوها معي فدخلت إليه فسلمت عليه و قلت له يا أبا أيوب قد كرمك الله عز و جل بصحبة نبيه ص و نزوله عليك فما لي أراك تستقبل الناس بسيفك تقاتلهم هؤلاء مرة و هؤلاء مرة قال إن رسول الله ص عهد إلينا أن نقاتل مع علي الناكثين فقد قاتلناهم و عهد إلينا أن نقاتل معه القاسطين فهذا وجهنا إليهم يعني معاوية و أصحابه و عهد إلينا أن نقاتل معه المارقين و لم أرهم بعد.

(4/177)


و روى ابن ديزيل أيضا في هذا الكتاب عن يحيى عن يعلى بن عبيد الحنفي عن إسماعيل السدي عن زيد بن أرقم قال كنا مع رسول الله ص و هو شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 208في الحجرة يوحى إليه و نحن ننتظره حتى اشتد الحر فجاء علي بن أبي طالب و معه فاطمة و حسن و حسين ع فقعا في ظل حائط ينتظرونه فلما خرج رسول الله ص رآهم فأتاهم و وقفنا نحن مكاننا ثم جاء إلينا و هو يظلهم بثوبه ممسكا بطرف الثوب و علي ممسك بطرفه الآخر و هو يقول اللهم إني أحبهم فأحبهم اللهم إني سلم لمن سالمهم و حرب لمن حاربهم قال فقال ذلك ثلاث مرات
قال إبراهيم في الكتاب المذكور و حدثنا يحيى بن سليمان قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا الحسن بن الحكم النخعي عن رباح بن الحارث النخعي قال كنت جالسا عند علي ع إذ قدم عليه قوم متلثمون فقالوا السلام عليك يا مولانا فقال لهم أ و لستم قوما عربا قالوا بلى و لكنا سمعنا رسول الله ص يقول يوم غدير خم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله قال فلقد رأيت عليا ع ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال اشهدوا
ثم إن القوم مضوا إلى رحالهم فتبعتهم فقلت لرجل منهم من القوم قالوا نحن رهط من الأنصار و ذاك يعنون رجلا منهم أبو أيوب صاحب منزل رسول الله ص قال فأتيته فصافحته.
قال نصر و حدثني عمر بن سعد عن نمير بن وعلة عن أبي الوداك أن عليا ع بعث من المدائن معقل بن قيس الرياحي في ثلاث آلاف و قال له خذ على شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 209الموصل ثم نصيبين ثم القنى بالرقة فإني موافيها و سكن الناس و أمنهم و لا تقاتل إلا من قاتلك و سالبردين و غور بالناس أقم الليل و رفه في السير و لا تسر أول الليل فإن الله جعله سكنا أرح فيه بدنك و جندك و ظهرك فإذا كان السحر أو حين يتبلج الفجر فسر

(4/178)


فسار حتى أتى الحديثة و هي إذ ذاك منزل الناس و إنما بنى مدينة الموصل بعد ذلك محمد بن مروان فإذا بكبشين ينتطحان و مع معقل بن قيس رجل من خثعم يقال له شداد بن أبي ربيعة قتل بعد ذلك مع الحرورية فأخذ يقول إيه إيه فقال معقل ما تقول فجاء رجلان نحو الكبشين فأخذ كل واحد منهما كبشا و انصرفا فقال الخثعمي لمعقل لا تغلبون و لا تغلبون فقال معقل من أين علمت قال أ ما أبصرت الكبشين أحدهما مشرق و الآخر مغرب التقيا فاقتتلا و انتطحا فلم يزل كل واحد من مصاحبه منتصفا حتى أتى كل واحد منهما صاحبه فانطلق به فقال معقل أ و يكون خيرا مما تقول يا أخا خثعم ثم مضى حتى وافى عليا ع بالرقة. قال نصر و قالت طائفة من أصحاب علي ع له يا أمير المؤمنين اكتب إلى معاوية و من قبله من قومك فإن الحجة لا تزداد عليهم بذلك إلا عظما

(4/179)


فكتب إليهم ع بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية و من قبله من قريش شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 210سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن لله عبادا آمنوا بالتنزيل و عرفوا التأويل و فقهوا في الدين و بين ال فضلهم في القرآن الحكيم و أنتم في ذلك الزمان أعداء للرسول تكذبون بالكتاب مجمعون على حرب المسلمين من ثقفتم منهم حبستموه أو عذبتموه أو قتلتموه حتى أراد الله تعالى إعزاز دينه و إظهار أمره فدخلت العرب في الدين أفواجا و أسلمت له هذه الأمة طوعا و كرها فكنتم فيمن دخل في هذا الدين إما رغبة و إما رهبة على حين فاز أهل السبق بسبقهم و فاز المهاجرون الأولون بفضلهم و لا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين و لا فضائلهم في الإسلام أن ينازعهم الأمر الذي هم أهله و أولى به فيجور و يظلم و لا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره و يعدو طوره و يشقى نفسه بالتماس ما ليس بأهله فإن أولى الناس بأمر هذه الأمة قديما و حديثا أقربها من الرسول و أعلمها بالكتاب و أفقهها في الدين أولها إسلاما و أفضلها جهادا و أشدها بما تحمله الأئمة من أمر الأمة اضطلاعا فاتقوا الله الذي إليه ترجعون و لا تلبسوا الحق بالباطل و تكتموا الحق و أنتم تعلمون و اعلموا أن خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون و أن شرارهم الجهال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم فإن للعالم بعلمه فضلا و إن الجاهل لا يزداد بمنازعته العالم إلا جهلا ألا و إني أدعوكم إلى كتاب الله و سنة نبيه و حقن دماء هذه الأمة فإن قبلتم أصبتم رشدكم و اهتديتم لحظكم و إن أبيتم إلا الفرقة و شق عصا هذه الأمة لم تزدادوا من الله إلا بعدا و لا يزداد الرب عليكم إلا سخطا و السلام
فكتب إليه معاوية جواب هذا الكتاب سطرا واحدا و هو أما بعد فإنه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 21ليس بيني و بين قيس عتاب غير طعن الكلي و ضرب الرقاب

(4/180)


فقال علي ع لما أتاه هذا الجواب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
قال نصر و قال علي ع لأهل الرقة جسروا لي جسرا أعبر عليه من هذا المكان إلى الشام
فأبوا و قد كانوا ضموا السفن إليهم فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج و خلف عليهم الأشتر فقال يا أهل هذا الحصن إني أقسم بالله إن مضى أمير المؤمنين ع و لم تجسروا له عند مدينتكم حتى يعبر منها لأجردن فيكم السيف فلأقتلن مقاتلكم و لأخربن أرضكم و لآخذن أموالكم. فلقي بعضهم بعضا فقالوا إن الأشتر يفي بما حلف عليه و إنما خلفه علي عندنا ليأتينا بشر فبعثوا إليه إنا ناصبون لكم جسرا فأقبلوا فأرسل الأشتر إلى علي ع فجاء و نصبوا له الجسر فعبر الأثقال و الرجال و أمر الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس حتى لم يبق من الناس أحد إلا عبر ثم عبر آخر الناس رجلا. قال نصر و ازدحمت الخيل حين عبرت فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين فنزل فأخذها و ركب ثم سقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج فنزل فأخذها ثم ركب فقال لصاحبه
فإن يك ظن الزاجري الطير صادقا كما زعموا أقتل وشيكا و تقتل

(4/181)


فقال عبد الله بن أبي الحصين ما شي ء أحب إلي مما ذكرت فقتلا معا يوم صفين. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 212قال نصر فلما قطع علي ع الفرات دعا زياد بن النضر و شريح بن هانئ فسرحهما أمامه نحو معاوية على حالهما الذي كانا عليه حين خرجا من الكوفة في اثني عشر ألفا و كانا حيث سرحهما من الكوفة مقدمة له أخذا على شاطئ الفرات من قبل البر مما يلي الكوفة حتى بلغا عانات فبلغهم أخذ علي ع طريق الجزيرة و علما أن معاوية قد أقبل في جنود الشام من دمشق لاستقباله فقالا و الله ما هذا برأي أن نسير و بيننا و بين أمير المؤمنين هذا البحر و ما لنا خير في أن نلقى جموع الشام في قلة من العدد منقطعين عن المدد فذهبوا ليعبروا من عانات فمنعهم أهلها و حبسوا عنهم السفن فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت و لحقوا عليا ع بقرية دون قرقيسيا فلما لحقوا عليا ع عجب و قال مقدمتي تأتي من ورائي فقام له زياد و شريح و أخبراه بالرأي الذي رأيا فقال قد أصبتما رشدكما فلما عبروا الفرات قدمهما أمامه نحو معاوية فلما انتهيا إلى معاوية لقيهما أبو الأعور السلمي في جنود من أهل الشام و هو على مقدمة معاوية فدعواه إلى الدخول في طاعة أمير المؤمنين ع فأبى فبعثوا إلى علي ع إنا قد لقينا أبا الأعور السلمي بسور الروم في جند من أهل الشام فدعوناه و أصحابه إلى الدخول في طاعتك فأبى علينا فمرنا بأمرك. فأرسل علي ع إلى الأشتر

(4/182)


فقال يا مال إن زيادا و شريحا أرسلا إلي يعلمانني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي في جند من أهل الشام بسور الروم و نبأني الرسول أنه تركهم متواقفين فالنجاء النجاء إلى أصحابك فإذا أتيتهم فأنت عليهم و إياك أن تبدأ القوم بقتال إن لم يبدءوك و ألقهم و اسمع منهم و لا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 213دعائهم و الإعذار إليهم مرة بعد مرة و اجعل على ميمنتك زيادا و على ميسرتك شريحا و قف من أصحابك وسطا و لا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب و لا تتباعد عنهم تباعد من يهاب الناس حتى أقدم عليك فإني حث السير إليك إن شاء الله
قال و كتب علي ع إليهما و كان الرسول الحارث بن جمهان الجعفي
أما بعد فإني قد أمرت عليكما مالكا فاسمعا له و أطيعا أمره و هو ممن لا يخاف رهقه و لا سقاطه و لا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم و لا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل و قد أمرته بمثل الذي أمرتكما ألا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم و يدعوهم و يعذر إليهم إن شاء الله

(4/183)


قال فخرج الأشتر حتى قدم على القوم فاتبع ما أمره به علي ع و كف عن القتال فلم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور فثبتوا له و اضطربوا ساعة ثم إن أهل الشام انصرفوا ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل و رجال حسن عدتها و عددها فخرج إليهم أبو الأعور السلمي فاقتتلوا يومهم ذلك تحمل الخيل على الخيل و الرجال على الرجال و صبر بعضهم لبعض ثم انصرفوا و بكر عليهم الأشتر فقتل من أهل الشام عبد الله بن المنذر التنوخي قتله ظبيان بن عمارة التميمي و ما هو يومئذ إلا فتى حديث السن و إن كان الشامي لفارس أهل الشام و أخذ الأشتر يقول ويحكم أروني أبا الأعور. ثم إن أبا الأعور دعا الناس فرجعوا نحوه فوقف على تل من وراء المكان الذي كان فيه أول مرة و جاء الأشتر حتى صف أصحابه في المكان الذي كان فيه أبو الأعور أول مرة فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي انطلق إلى أبو الأعور فادعه إلى المبارزة شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 214فقال إلى مبارزتي أم إلى مبارزتك فقال أ و لو أمرتك بمبارزته فعلت قال نعم و الذي لا إله إلا هو لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي لفعلت حتى أضربه بالسيف فقال يا ابن أخي أطال الله بقاءك قد و الله ازددت فيك رغبة لا ما أمر بمبارزته إنما أمرتك أن تدعوه لمبارزتي فإنه لا يبارز إن كان ذلك من شأنه إلا ذوي الأسنان و الكفاءة و الشرف و أنت بحمد الله من أهل الكفاءة و الشرف و لكنك حديث السن و ليس يبارز الأحداث فاذهب فادعه إلى مبارزتي. فأتاهم فقال أنا رسول فآمنوني فجاء حتى انتهى إلى أبي الأعور. قال نصر فحدثني عمر بن سعد عن أبي زهير العبسي عن صالح بن سنان عن أبيه قال فقلت له إن الأشتر يدعوك إلى المبارزة قال فسكت عني طويلا ثم قال إن خفة الأشتر و سوء رأيه و هوانه دعاه إلى إجلاء عمال عثمان و افترائه عليه يقبح محاسنه و يجهل حقه و يظهر عداوته و من خفة الأشتر و سوء رأيه أنه سار إلى عثمان في داره و قراره

(4/184)


فقتله فيمن قتله و أصبح متبعا بدمه لا حاجة لي في مبارزته. فقلت إنك قد تكلمت فاسمع حتى أجيبك فقال لا حاجة لي في جوابك و لا الاستماع منك اذهب عني و صاح بي أصحابه فانصرفت عنه و لو سمع لأسمعته عذر صاحبي و حجته. فرجعت إلى الأشتر فأخبرته أنه قد أبى المبارزة فقال لنفسه نظر. قال فتواقفنا فإذا هم قد انصرفوا قال و صبحنا علي ع غدوة سائرا نحو معاوية فإذا أبو الأعور قد سبق إلى سهولة الأرض و سعة المنزل و شريعة الماء مكان
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 215أفيح و كان أبو الأعور على مقدمة معاوية و اسمه سفيان بن عمرو و قد جعل على ساقته بسر بن أرطاة العامري و على الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب و دفع اللواء إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد و جعل على ميمنته حبيب بن مسلمة الفهري ولى رجالته من الميمنة يزيد بن زحر الضبي و على الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص و على الرجالة من الميسرة حابس بن سعيد الطائي و على خيل دمشق الضحاك بن قيس الفهري و على رجالة أهل دمشق يزيد بن أسد بن كرز البجلي و على أهل حمص ذا الكلاع و على أهل فلسطين مسلمة بن مخلد و كان وصول علي ع إلى صفين لثمان بقين من المحرم من سنة سبع و ثلاثين

(4/185)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 49216- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الْأَمُوُرِ وَ دَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلَامُ الظُّهُورِ وَ امْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ فَلَا عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ وَ لَا قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلَا شَيْ ءَ أَعلَى مِنْهُ وَ قَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلَا شَيْ ءَ أَقْرَبُ مِنْهُ فَلَا اسْتِعْلَاؤُهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْ خَلْقِهِ وَ لَا قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ فِي الْمَكَانِ بِهِ لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ وَ لَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ عْرِفَتِهِ فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلَامُ الْوُجُودِ عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ وَ الْجَاحِدُونَ لَهُ عُلُوّاً كَبِيراً

(4/186)


بطنت سر فلان أي أخفيته. و الأعلام جمع علم و هو المنار يهتدى به ثم جعل لكل ما دل على شي ء فقيل لمعجزات الأنبياء أعلام لدلالتها على نبوتهم و قوله ع أعلام الظهور أي الأدلة الظاهرة الواضحة. و قوله فيما بعد أعلام الوجود أي الأدلة الموجودة و الدلالة هي الوجود نسه و سيأتي شرح ذلك. و قوله و امتنع على عين البصير يقول إنه سبحانه ليس بمرئي بالعين و مع شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 217ذلك فلا يمكن من لم يره بعينه أن ينكره لدلالة كل شي ء عليه بل لدلالته سبحانه على نفسه. ثم قال و لا قلب من أثبته يبصره أي لا سبيل لمن أثبتوده أن يحيط علما بجميع أحواله و معلوماته و مصنوعاته أو أراد أنه لا تعلم حقيقة ذاته كما قاله قوم من المحققين. و قد روي هذا الكلام على وجه آخر قالوا في الخطبة فلا قلب من لم يره ينكره و لا عين من أثبته تبصره و هذا غير محتاج إلى تفسير لوضوحه. و قوله ع فلا استعلاؤه باعده أي ليس علوه و لا قربه كما نعقله من العلو و القرب المكانيين بل هو علو و قرب خارج من ذلك فليس علوه يقتضي بعده بالمكان عن الأجسام و لا قربه يقتضي مساواته إياها في الحاجة إلى المكان و الجهة. و الباء في به متعلقة بساواهم معناه و لا قربه ساواهم به في الحاجة إلى المكان أي لم يقتض قربه مماثلته و مساواته إياهم في ذلك
فصول في العلم الإلهي

(4/187)


و هذا الفصل يشتمل على عدة مباحث من العلم الإلهي أولها كونه تعالى عالما بالأمور الخفية. و الثاني كونه تعالى مدلولا عليه بالأمور الظاهرة يعني أفعاله. و الثالث أن هويته تعالى غير معلومة للبشر. و الرابع نفي تشبيهه بشي ء من مخلوقاته. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص 18و الخامس بيان أن الجاحد لإثباته مكابر بلسانه و عارف به بقلبه. و نحن نذكر القول في جميع ذلك على سبيل اقتصاص المذاهب و الأقوال و نحيل في البرهان على الحق من ذلك و بطلان شبه المخالفين فيه على ما هو مذكور في كتبنا الكلامية إذ ليس هذا الكتاب موضوعا لذلك و إن كنا قد لا نخلي بعض فصوله من إشارة إلى الدليل موجزة و تلويح إلى الشبهة لطيف فنقول أما
الفصل الأول و هو الكلام في كونه تعالى عالما بالأمور الخفية

(4/188)


فاعلم أن أمير المؤمنين ع إنما قال بطن خفيات الأمور و هذا القدر من الكلام يقتضي كونه تعالى عالما يعلم الأمور الخفية الباطنة و هذا منقسم قسمين أحدهما أن يعلم الأمور الخفية الحاضرة. و الثاني أن يعلم الأمور الخفية المستقبلة. و الكلام من حيث إطلاقه يحتمل الأمرين فنحمله عليهما معا فقد خالف في كل واحدة من المسألتين قوم فمن الناس من نفى كونه عالما بالمستقبلات و من الناس من نفى كونه عالما بالأمور الحاضرة سواء كانت خفية أو ظاهرة و هذا يقتضينا أن نشرح أقوال العقلاء في هذه المسائل فنقول إن الناس فيها على أقوال القول الأول قول جمهور المتكلمين و هو أن البارئ سبحانه يعلم كل معلوم الماضي و الحاضر و المستقبل ظاهرها و باطنها و محسوسها و غير محسوسها فهو تعالى العالم بما كان و ما هو حاضر و ما سيكون و ما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون كقوله شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 219تعالى وََوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ فهذا علم بأمر مقدر على تقدير وقوع أصله الذي قد علم أنه لا يكون. القول الثاني قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الأمور المستقبلة و شبهوه بكونه مدركا قالوا كما أنه لا يدرك المستقبلات فكذلك لا يعلم المستقبلات و هو قول هشام بن الحكم. القول الثالث قول من زعم أنه لا يعلم الأمور الحاضرة و هذا القول نقيض القول الثاني و شبهوه بكونه قادرا قالوا كما أنه لا يقدر على الموجود فكذلك لا يعلم الموجود و نسب ابن الراوندي هذا القول إلى معمر بن عباد أحد شيوخنا و أصحابنا يكذبونه في ذلك و يدفعون الحكاية عنه. القول الرابع قول من زعم أنه تعالى لا يعلم نفسه خاصة و يعلم كل ما عدا ذاته و نسب ابن الراوندي هذه المقالة إلى معمر أيضا و قال إنه يقول إن العالم غير المعلوم و الشي ء لا يكون غير نفسه و أصحابنا يكذبون ابن الراوندي في هذه الحكاية و ينزهون معمراعنها. القول الخامس قول من قال إنه تعالى لم يكن فيما لم يزل عالما

(4/189)


بشي ء أصلا و إنما أحدث لنفسه علما علم به الأشياء و هو قول جهم بن صفوان. القول السادس قول من قال إنه تعالى لا يعلم كل المعلومات على تفاصيلها و إنما يعلم ذلك إجمالا و هؤلاء يسمون المسترسلية لأهم يقولون يسترسل علمه على المعلومات شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 220إجمالا لا تفصيلا و هو مذهب الجويني من متكلمي الأشعرية. القول السابع قول من قال إنه تعالى يعلم المعلومات المفصلة ما لم يفض القول به إلى محال و زعموا أن القول بأنه يعلم كل شي ء يفضي إلى محالهو أن يعلم و يعلم أنه يعلم و هلم جرا إلى ما لا نهاية له و كذلك المحال لازم إذا قيل إنه يعلم الفروع و فروع الفروع و لوازمها و لوازم لوازمها إلى ما لا نهاية له قالوا و محال اجتماع كل هذه العلوم غير المتناهية في الوجود و هذا مذهب أبي البركات البغدادي صاحب المعتبر. القول الثامن قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الشخصيات الجزئية و إنما يعلم الكليات التي لا يجوز عليها التغيير كالعلم بأن كل إنسان حيوان و يعلم نفسه أيضا و هذا مذهب أرسطو و ناصري قوله من الفلاسفة كابن سينا و غيره. القول التاسع قول من زعم أنه تعالى لا يعلم شيئا أصلا لا كليا و لا جزئيا و إنما وجد العالم عنه لخصوصية ذاته فقط من غير أن يعلمه كما أن المغناطيس يجذب الحديد لقوة فيه من غير أن يعلم بالجذب و هذا قول قوم من قدماء الفلاسفة. فهذا تفصيل المذاهب في هذه المسألة. و اعلم أن حجة المتكلمين على كونه عالما بكل شي ء إنما تتضح بعد إثبات حدوث العالم و أنه فعله بالاختيار فحينئذ لا بد من كونه عالما لأنه لو لم يكن عالما بشي ء أصلا لما صح أن يحدث العالم على طريق الاختيار لأن الإحداث على طريق الاختيار إنما يكون بالغرض و الداعي و ذلك يقتضي كونه عالما فإذا ثبت أنه عالم ي ء أفسدوا حينئذ أن يكون عالما بمعنى اقتضى له العالمية أو بأمر خارج عن ذاته مختارا كان أو غير مختار شرح نهج البلاغة ج : 3 ص :

(4/190)


221فحينئذ ثبت لهم أنه إنما علم لأنه هذه الذات المخصوصة لا لشي ء أزيد منها فإذا كان لهم ذلك وجب أن يكون عالما بكل معلوم لأن الألذي أوجب كونه عالما بأمر ما هو ذاته يوجب كونه عالما بغيره من الأمور لأن نسبة ذاته إلى الكل نسبة واحدة. فأما الجواب عن شبه المخالفين فمذكور في المواضع المختصة بذلك فليطلب من كتبنا الكلامية
الفصل الثاني في تفسير قوله ع و دلت عليه أعلام الظهور
فنقول إن الذي يستدل به على إثبات الصانع يمكن أن يكون من وجهين و كلاهما يصدق عليه أنه أعلام الظهور أحدهما الوجود و الثاني الموجود. أما الاستدلال عليه بالوجود نفسه فهي طريقة المدققين من الفلاسفة فإنهم استدلوا على أن مسمى الوجود مشترك و أنه زائد على ماهيات الممكنات و أن وجود البارئ لا يصح أن يكون زائدا على ماهيته فتكون ماهيته وجودا و لا يجوز أن تكون ماهيته عارية عن الوجود فلم يبق إلا أن تكون ماهيته هي الوجود نفسه و أثبتوا وجوب ذلك الوجود و استحالة تطرق العدم بوجه ما فلم يفتقروا في إثبات البارئ إلى تأمل أمر غير نفس الوجود. و أما الاستدلال عليه بالموجود لا بالوجود نفسه فهو الاستدلال عليه بأفعاله و هي طريقة المتكلمين قالوا كل ما لم يعلم بالبديهة و لا بالحس فإنما يعلم بآثاره الصادرة عنه و البارئ تعالى كذلك فالطريق إليه ليس إلا أفعاله فاستدلوا عليه بالعالم و قالوا تارة العالم محدث و كل محدث له محدث و قالوا تارة أخرى العالم ممكن فله مؤثر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 222و قال ابن سينا إن الطريقة الأولى و هي الاستدلال عليه بالوجود نفسه أعلى و أشرف لأنه لم يحتج فيها إلى الاحتجاج بأمر خارج عن ذاته و استنبط آية من الكتاب اليز في هذا المعنى و هي قوله تعالى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. قال ابن سينا أقول إن هذا حكم لقوم يعني المتكلمين و غيرهم ممن يستدل عليه تعالى

(4/191)


بأفعاله و تمام الآية أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ. قال هذا حكم الصديقين الذين يستشهدون به لا عليه يعني الذين استدلوا عليه بنفس الوجود و لم يفتقروا إلى التعلق بأفعاله في إثبات ربوبيته الفصل الثالث في أن هويته تعالى غير هوية البشر
و ذلك معنى قوله ع و امتنع على عين البصير و قوله و لا قلب من أثبته يبصره و قوله و لم يطلع العقول على تحديد صفته فنقول إن جمهور المتكلمين زعموا أنا نعرف حقيقة ذات الإله و لم يتحاشوا من القول بأنه تعالى لا يعلم من ذاته إلا ما نعلمه نحن منها و ذهب ضرار بن عمرو أن لله تعالى ماهية لا يعلمها إلا هو و هذا هو مذهب شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 223الفلاسفة و قد حكي عن أبي حنيفة و أصحابه أيضا و هو الظاهر من كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصلالفصل الرابع في نفي التشبيه عنه تعالى

(4/192)


و هو معنى قوله ع بعد و قرب أي في حال واحدة و ذلك يقتضي نفي كونه تعالى جسما و كذلك قوله ع فلا استعلاؤه باعده و لا قربه ساواهم في المكان به فنقول إن مذهب جمهور المتكلمين نفي التشبيه و هذا القول يتنوع أنواعا. النوع الأول نفي كونه تعالى جسما مركبا أو جوهرا فردا غير مركب و المراد بالجوهر هاهنا الجرم و الحجم و هو قول المعتزلة و أكثر محققي المتكلمين من سائر الفرق و إليه ذهبت الفلاسفة أيضا. و قال قوم من مستضعفي المتكلمين خلاف ذلك فذهب هشام بن الحكم إلى أنه تعالى جسم مركب كهذه الأجسام و اختلفت الحكاية عنه فروي عنه أنه قال إنه يشبر نفسه سبعة أشبار و روي عنه أنه قال إنه على هيئة السبيكة و روي عنه أنه قال إنه على هيئة البلورة الصافية المستوية الاستدارة من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة و روي عنه أيضا قال إنه ذو صورة و أصحابه من الشيعة يدفعون اليوم هذه الحكايات عنه و يزعمون أنه لم يزد على قوله أنه جسم لا كالأجسام و أنه إنما أراد بإطلاق هذا اللفظ عليه إثباته. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 224و صدقوا عنه أنه كان يطلق عليه كونه نورا لقول الله سبحانه اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ. و حكي عن محمد بن النعن الأحول المعروف بشيطان الطاق و هشام بن سالم المعروف بالجواليقي و أبي مالك بن الحضرمي أنه نور على صورة الإنسان و أنكروا مع ذلك أن يكون جسما و هذه مناقضة ظاهرة. و حكي عن علي بن ميثم مثله و قد حكي عنه أنه كان يقول بالصورة و الجسم. و حكي عن مقاتل بن سليمان و داود الجواربي و نعيم بن حماد المصري أنه في صورة الإنسان و أنه لحم و دم و له جوارح و أعضاء من يد و رجل و لسان و رأس و عينين و هو مع ذلك لا يشبه غيره و لا يشبهه غيره وافقهم على ذلك جماعة من العامة و من لا نظر له. و حكي عن داود الجواربي أنه قال اعفوني من الفرج و اللحية و سلوني عما وراء ذلك و حكي عنه أنه قال هو أجوف من فيه

(4/193)


إلى صدره و ما سوى ذلك مصمت. و حكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم الجواليقي كان يقول إن له وفرة سوداء. و ذهب جماعة من هؤلاء إلى القول بالمؤانسة و الخلوة و المجالسة و المحادثة. و سئل بعضهم عن معنى قوله تعالى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ فقال يقعد معه على سريره و يغلفه بيده. و قال بعضهم سألت معاذا العنبري فقلت أ له وجه فقال نعم حتى عددت شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 225جميع الأعضاء من أنف و فم و صدر و بطن و استحييت أن أذكر الفرج فمأت بيدي إلى فرجي فقال نعم فقلت أ ذكر أم أنثى فقال ذكر. و يقال إن ابن خزيمة أشكل عليه القول في أنه أ ذكر أم أنثى فقال له بعض أصحابه إن هذا مذكور في القرآن و هو قوله تعالى وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى فقال أفدت و أجدت و أودعه كتابه. و دخل إنسان على معاذ بن معاذ يوم عيد و بين يديه لحم في طبيخ سكباج فسأله عن البارئ تعالى في جملة ما سأله فقال هو و الله مثل هذا الذي بين يدي لحم و دم. و شهد بعض المعتزلة عند معاذ بن معاذ فقال له لقد هممت أن أسقطك لو لا أني سمعتك تلعن حماد بن سلمة فقال أما حماد فلم ألعنه و لكني ألعن من يقول إنه سبحانه ينزل ليلة عرفة من السماء إلى الأرض على جمل أحمر في هودج من ذهب فإن كان حماد يروي هذا أو يقوله فعليه لعنة الله فقال أخرجوه فأخرج. و قال بعضهم خرجنا يوم عيد إلى المصلى فإذا جماعة بين يدي أمير و الطبول تضرب و الأعلام تخفق فقال واحد من خلفنا اللهم لا طبل إلا طبلك فقل له لا تقل هكذا فليس لله تعالى طبل فبكى و قال أ رأيتم هو يجي ء وحده و لا يضرب بين يديه طبل و لا ينصب على رأسه علم فإذن هو دون الأمير. و روى بعضهم أنه تعالى أجرى خيلا فخلق نفسه من مثلها. و روى قوم منهم أنه نظر في المرآة فرأى ورة نفسه فخلق آدم عليها. و رووا أنه يضحك حتى تبدو نواجذه.

(4/194)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 226و رووا أنه أمرد جعد قطط في رجليه نعلان من ذهب و أنه في روضة خضراء على كرسي تحمله الملائكة. و رووا أنه يضع رجلا على رجل و يستلقي فإنها جلسة الرب. و رووا أنه خلق الملائكة من زغب ذراعيه و أنه اشتكى عينه فعادته الملائكة و أنه يتر بصورة آدم و يحاسب الناس في القيامة و له حجاب من الملائكة يحجبونه.
و رووا عن النبي ص أنه قال رأيت ربي في أحسن صورة فسألته عما يختلف فيه الملأ الأعلى فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها فعلمت ما اختلفوا فيه

(4/195)


و رووا أنه ينزل إلى السماء الدنيا في نصف شعبان و أنه جالس على العرش قد فضل منه أربع أصابع من كل جانب و أنه يأتي الناس يوم القيامة فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك فيقول لهم أ فتعرفونه إن رأيتموه فيقولون بيننا و بينه علامة فيكشف لهم عن ساقه و قد تحول في الصورة التي يعرفونها فيخرون له سجدا. و رووا أنه يأتي في غمام فوقه هواء و تحته هواء. و كان بطبرستان قاص من المشبهة يقص على الناس فقال يوما في قصصه إن يوم القيامة تجي ء فاطمة بنت محمد معها قميص الحسين ابنها تلتمس القصاص من يزيد بن معاوية فإذا رآها الله تعلى من بعيد دعا يزيد و هو بين يديه فقال له ادخل تحت قوائم العرش لا تظفر بك فاطمة فيدخل و يختبئ و تحضر فاطمة فتتظلم و تبكي فيقول سبحانه انظري يا فاطمة إلى قدمي و يخرجها إليها و به جرح من سهم نمرود شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 227فيقول هذا جرح نمرود في قدمي و عفوت عنه أ فلا تعفين أنت عن يزيد فتقول هي أشهد يا رب أني قد عفوت عنه. و ذهب بعض متكلمي المجسمة إلى أن البارئ تعالى مركب من أعضاء على حروف المعجم. و قال بعضهم إنه ينزل على حمار في صورة غلام أمرد في رجليه نعلان من ذهب و على وجهه فراش من ذهب يتطاير. و قال بعضهم إنه في صورة غلام أمرد صبيح الوجه عليه كساء أسود ملتحف به. و سمعت أنا في عصري هذا من قال في قوله تعالى وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ إنهم قيام على رأسه بسيوفهم و أسلحتهم فقال له آخر على سبيل التهكم به يحرسونه من المعتزلة أن يفتكوا به فغضب و قال هذا إلحاد. و رووا أن النار تزفر و تتغيظ تغيظا شديدا فلا تسكن حتى يضع قدمه فيها فتقول قط قط أي حسبي حسبي و يرفعون هذا الخبر مسندا و قد ذكر شبيه به في الصحاح. و روي في الكتب الصحاح أيضا أن الله خلق آدم على صورته و قيل إن في التوراة نحو ذلك في السفر الأول. و اعلم أن أهل التوحيد يتأولون ما يحتمل التأويل من

(4/196)


هذه الروايات على وجوه محتملة غير مستبعدة و ما لا يحتمل التأويل منها يقطعون ببطلانه و بأنه موضوع و للاستقصاء في هذا المعنى موضع غير هذا الموضع. و حكى أبو إسحاق النظام و محمد بن عيسى برغوث أن قوما قالوا إنه تعالى الفضاء نفسه و ليس بجسم لأن الجسم يحتاج إلى مكان و نفسه مكان الأشياء. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 228و قال برغوث و طائفة منهم يقولون هو الفضاء نفسه و هو جسم تحل الأشياء فيه و ليس بذي غاية و لا نهاية و احتجوا بقوله تعالى وَ جاهِدُوا فِي اَّهِ حَقَّ جِهادِهِ. فأما من قال إنه جسم لا كالأجسام على معنى أنه بخلاف العرض الذي يستحيل أن يتوهم منه فعل و نفوا عنه معنى الجسمية و إنما أطلقوا هذه اللفظة لمعنى أنه شي ء لا كالأشياء و ذات لا كالذوات فأمرهم سهل لأن خلافهم في العبارة و هم علي بن منصور و الكاك و يونس بن عبد الرحمن و الفضل بن شاذان و كل هؤلاء من قدماء رجال الشيعة و قد قال بهذا القول ابن كرام و أصحابه قالوا معنى قولنا فيه سبحانه أنه جسم أنه قائم بذاته لا بغيره. و المتعصبون لهشام بن الحكم من الشيعة في وقتنا هذا يزعمون أنه لم يقل بالتجسيم المعنوي و إنما قال إنه جسم لا كالأجسام بالمعنى الذي ذكرناه عن يونس و السكاك و غيرهما و إن كان الحسن بن موسى النوبختي و هو من فضلاء الشيعة قد روي عنه التجسيم المحض في كتاب الآراء و الديانات. النوع الثاني نفي الأعضاء و الجوارح عنه سبحانه فالذي يذهب إليه المعتزلة و سائر المحققين من المتكلمين نفي ذلك عنه و قد تأولوا ما ورد في القرآن العزيز من ذلك من نحو قوله تعالى لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ و قوله سبحانه عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ و غير ذلك و حملوه على وجوه صحيحة جائزة في اللغة العربية. و أطلقت الكرامية عليه سبحانه لفظ اليدين و الوجه و قالوا لا نتجاوز الإطلاق شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 229و لا نفسر ذلك و لا نتأوله و إنما نقتصر على إطلاق

(4/197)


ما ورد به النص. و أثبت الأشعري اليدين صفة قائمة بالبارئ سبحانه و كذلك الوجه من غير تجسيم. و قالت المجسمة إن لله تعالى يدين هما عضوان له و كذلك الوجه و العين و أثبتوا له رجلين فضلتا عن عرشه و ساقين يكشف عنهما يوم القيامة و قدما يضعها في جهنم فتمتلئ و أثبتوا له ذلك معنى لا لفظا و حقيقة لا مجازا. فأما أحمد بن حنبل فلم يثبت عنه تشبيه و لا تجسيم أصلا و إنما كان يقول بترك التأويل فقط و يطلق ما أطلقه الكتاب و السنة و لا يخوض في تأويله و يقف على قوله تعالى وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ و أكثر المحصلين من أصحابه على هذا القول. النوع الثالث نفي الجهة عنه سبحانه فالذي يذهب إليه المعتزلة و جمهور المحققين من المتكلمين أنه سبحانه ليس في جهة و لا مكان و أن ذلك من توابع الجسمية أو العرضية اللاحقة بالجسمية فإذا انتفى عنه كونه جسما و كونه عرضا لم يكن في جهة أصلا و إلى هذا القول يذهب الفلاسفة. و ذهبت الكرامية و الحشوية إلى أن الله تعالى في جهة فوق و إليه ذهب هشام بن الحكم و علي بن منصور و يونس بن عبد الرحمن و هشام بن سالم الجواليقي و كثير من أهل الحديث. و ذهب محمد بن الهيصم متكلم الكرامية إلى أنه تعالى ذات موجودة منفردة بنفسها عن سائر الموجودات لا تحل شيئا حلول الأعراض و لا تمازج شيئا ممازجة الأجسام شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 230بل هو مباين للمخلوقين إلا أنه في جهة فوق و بينه و بين الع بعد لا يتناهى. هكذا يحكي المتكلمون عنه و لم أره في شي ء من تصانيفه و أحالوا ذلك لأن ما لا يتناهى لا يكون محصورا بين حاصرين و أنا أستبعد عنه هذه الحكاية لأنه كان أذكى من أن يذهب عليه فساد هذا القول و حقيقة مذهب مثبتي المكان أنه سبحانه متمكن على العرش كما تمكن الملك على سريره فقيل لبعض هؤلاء أ هو أكبر من العرش أم أصغر أم مساو له فقال بل أكبر من العرش فقيل له فكيف يحمله فقال كما تحمل رجلا الكركي جسم

(4/198)


الكركي و جسمه أكبر من رجليه و منهم من يجعله مساويا للعرش في المقدار و لا يمتنع كثير منهم من إطلاق القول بأن أطرافه تفضل عن العرش و قد سمعت أنا من قال منهم إنه مستو على عرشه كما أنا مستو على هذه الدكة و رجلاه على الكرسي الذي وسع السموات و الأرض و الكرسي تحت العرش كما يجعل اليوم الناس تحت أسرتهم كراسي يستريحون بوضع أرجلهم عليها. و قال هؤلاء كلهم إنه تعالى ينزل و يصعد حقيقة لا مجازا و إنه يتحرك و ينزل فمن ذلك نزوله إلى السماء الدنيا كما ورد في الخبر و من ذلك إتيانه و مجيئه كما نطق به الكتاب العزيز في قوله سبحانه هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ و قوله وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. و أطلق ابن الهيصم عليه هذه الألفاظ اتباعا لما ورد في الكتاب و السنة و قال لا أقول بمعانيها و لا أعتقد حركته الحقيقية و إنما أرسلها إرسالا كما وردت و أما غيره فاعتقد معانيها حقيقة و قال ابن الهيصم في كتاب المقالات إن أكثر الحشوية يجيز عليه تعالى العدو و الهرولة.

(4/199)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 231و قال قوم منهم إنه تعالى يجوز أن ينزل فيطوف البلدان و يدور في السكك. و قال بعض الأشعريين إن سائلا سأل السكاك فقال إذا أجزت عليه الحركة فهلا أجزت عليه أن يطفر فقال لا يجوز عليه الطفر لأن الطفر إنما يكون فرارا من ضد أو اتصالا كل فقال له فالحركة أيضا كذلك فلم يأت بفرق. فأما القول بأنه تعالى في كل مكان فإن المعتزلة يقولون ذلك و تريد به أنه و إن لم يكن في مكان أصلا فإنه عالم بما في كل مكان و مدبر لما في كل مكان و كأنه موجود في جميع الأمكنة لإحاطته بالجميع. و قال قوم من قدماء الفلاسفة إن البارئ تعالى روح شديد في غاية اللطافة و في غاية القوة ينفذ في كل العالم و هؤلاء يطلقون عليه أنه في كل مكان حقيقة لا تأويلا و من هؤلاء من أوضح هذا القول و قال إنه تعالى سار في هذا العالم سريان نفس الواحد منا في بدنه فكما أن كل بدن منا له نفس سارية فيه تدبره كذلك البارئ سبحانه هو نفس العالم و سار في كل جزء من العالم فهو إذا في كل مكان بهذا الاعتبار لأن النفس في كل جزء من البدن. و حكى الحسن بن موسى النوبختي عن أهل الرواق من الفلاسفة أن الجوهر الإلهي سبحانه روح ناري عقلي ليس له صورة لكنه قادر على أن يتصور بأي صورة شاء و يتشبه بالكل و ينفذ في الكل بذاته و قوته لا بعلمه و تدبيره. النوع الرابع نفي كونه عرضا حالا في المحل فالذي تذهب إليه المعتزلة و أكثر المسلمين و الفلاسفة نفي ذلك القول باستحالته عليه سبحانه لوجوب وجوده و كون كل حال في الأجسام ممكنا بل حادثا. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 232و ذهبت الحلولية من أهل الملة و غيرها إلى أنه تعالى يحل في بعض الأجسام دون بعض كما يشاء سبحانه و إلى هذا القول ذهب أكثر الغلاة في أمير المؤمنين و منهم من قال بانتقاله من أمير المؤمنين ع إلى أولاده و منهم من قال بانتقاله من أوده إلى قوم من شيعته و أوليائه و اتبعهم على هذه المقالة قوم من

(4/200)


المتصوفة كالحلاجية و البسطامية و غيرهم. و ذهبت النسطورية من النصارى إلى حلول الكلمة في بدن عيسى ع كحلول السواد في الجسم. فأما اليعقوبية من النصارى فلا تثبت الحلول و إنما تثبت الاتحاد بين الجوهر الإلهي و الجوهر الجسماني و هو أشد بعدا من الحلول. النوع الخامس في نفي كونه تعالى محلا لشي ء ذهبت المعتزلة و أكثر أهل الملة و الفلاسفة إلى نفي ذلك و القول باستحالته على ذاته سبحانه. و ذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تحل في ذاته فإذا أحدث جسما أحدث معنى حالا ف ذاته و هو الإحداث فحدث ذلك الجسم مقارنا لذلك المعنى أو عقيبه قالوا و ذلك المعنى هو قول كن و هو المسمى خلقا و الخلق غير المخلوق قال الله تعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ قالوا لكنه قد أشهدنا ذواتها فدل على أن خلقها غيرها.

(4/201)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 233و صرح ابن الهيصم في كتاب المقالات بقيام الحوادث بذات البارئ فقال إنه تعالى إذا أمر أو نهى أو أراد شيئا كان أمره و نهيه و إراداته كائنة بعد أن لم تكن و هي قائمة به لأن قوله منه يسمع و كذلك إرادته منه توجد. قال و ليس قيام الحوث بذاته دليلا على حدوثه و إنما يدل على الحدوث تعاقب الأضداد التي لا يصح أن يتعطل منها و البارئ تعالى لا تتعاقب عليه الأضداد. و ذهب أبو البركات البغدادي صاحب المعتبر إلى أن الحوادث تقوم بذات البارئ سبحانه و إنه لا يصح إثبات الإلهية إلا بذلك و قال إن المتكلمين ينزهونه عن ذلك و التنزيه عن هذا التنزيه هو الواجب. و ذهب أصحابنا و أكثر المتكلمين إلى أن ذلك لا يصح في حق واجب الوجود و أنه دليل على إمكان ذاته بل على حدوثها و أجازوا مع ذلك عليه أن يتجدد له صفات يعنون الأحوال لا المعاني نحو كونه مدركا بعد أن لم يكن و كقول أبي الحسين أنه يتجدد له عالمية بما وجد و كان من قبل عالما بأنه سيوجد و إحدى هاتين الصفتين غير الأخرى. و قالوا إن الصفات و الأحوال قيل مفرد عن المعاني و المحال إنما هو حلول المعاني في ذاته لا تجدد الصفات لذاته و للكلام في هذا الباب موضع هو أليق به. النوع السادس في نفي اتحاده تعالى بغيره ذهب أكثر العقلاء إلى استحالة ذلك و ذهبت اليعقوبية من النصارى إلى أن الكلمة اتحدت بعيسى فصارت جوهرا من جوهرين أحدهما إلهي و الآخر جسماني و قد أجاز الاتحاد في نفس الأمر لا في ذات شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 234البارئ قوم مندماء الفلاسفة منهم فرفريوس و أجازه أيضا منهم من ذهب إلى أن النفس إنما تعقل المعقولات لاتحادها بالجوهر المفارق المفيض للنفوس على الأبدان و هو المسمى بالعقل الفعال. النوع السابع في نفي الأعراض الجسمانية عنه من التعب و الاستراحة و الألم و اللذة و الغم و السرور و نحو ذلك. و ذهبت المعتزلة و أكثر العقلاء من أهل الملة و غيرهم

(4/202)


إلى نفي ذلك و القول باستحالته عليه سبحانه. و ذهبت الفلاسفة إلى جواز اللذة عليه و قالوا إنه يلتذ بإدراك ذاته و كماله لأن إدراك الكمال هو اللذة أو سبب اللذة و هو تعالى أكمل الموجودات و إدراكه أكمل الإدراكات و إلى هذا القول ذهب محمد الغزالي من الأشعرية. و حكى ابن الراوندي عن الجاحظ أن أحد قدماء المعتزلة و يعرف بأبي شعيب كان يجوز عليه تعالى السرور و الغم و الغيرة و الأسف و يذكر في ذلك ما روي
عن النبي ص أنه قال لا أحد أغير من الله و إنه تعالى يفرح بتوبة عبده و يسر بها

(4/203)


و قال تعالى فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ و قال مقال المتحسر على الشي ء يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ و حكي عنه أيضا أنه يجوز عليه أن يتعب و يستريح و يحتج بقوله وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 235و هذه الألفاظ كلها عند أصحابمتأولة محمولة على محامل صحيحة تشتمل على شرحها الكتب المبسوطة. النوع الثامن في أنه تعالى ليس بمتلون لم يصرح أحد من العقلاء قاطبة بأن الله تعالى متلون و إنما ذهب قوم من أهل التشبيه و التجسيم إلى أنه نور فإذا أبصرته العيون و أدركته أبصرت شخصا نورانيا مضيئا لم يزيدوا على ذلك و لم يصرحوا بإثبات اللون بهذه العبارة و إن كان كل مضي ء ملونا. النوع التاسع في أنه تعالى لا يشتهي و لا ينفر ذهب شيوخنا المتكلمون إلى أنه سبحانه لا يصح عليه الشهوة و النفرة لأنهما إنما يصحان على ما يقبل الزيادة و النقصان بطريق الاغتذاء و المو و البارئ سبحانه و تعالى يتعالى عن ذلك و ما عرفت لأحد من الناس خلافا في ذلك اللهم إلا أن يطلق هاتان اللفظتان على مسمى الإرادة و الكراهية على سبيل المجاز. النوع العاشر في أن البارئ تعالى غير متناهي الذات قالت المعتزلة لما كان البارئ تعالى ليس بجسم و جسماني و كانت النهاية من لواحق الأشياء ذوات المقادير يقال هذا الجسم متناه أي ذو طرف. قلنا إن ذات البارئ تعالى غير متناهية لا على معنى أن امتداد ذاته غير متناه فإنه سبحانه ليس بذي امتداد بل بمعنى أن الموضوع الذي يصدق عليه النهاية ليس بمتحقق في حقه سبحانه فقلنا إن ذاته غير متناهية كما يقول المهندس إن النقطة غير متناهية لا على معنى أن لها امتدادا غير متناه فإنها ليست بممتدة أصلا بل على معنى أن الأمر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 236الذي تصدق عليه النهاية و هو الامتداد لا يصدق عليها فإذن صدق عليها أنها غير متناهية و ه قول الفلاسفة و أكثر المحققين. و قالت الكرامية البارئ تعالى ذات واحدة

(4/204)


منفردة عن العالم قائمة بنفسها مباينة للموجودات متناهية في ذاتها و إن كنا لا نطلق عليها هذا اللفظ لما فيه من إيهام انقطاع وجودها و تصرم بقائها. و أطلق هشام بن الحكم و أصحابه عليه تعالى القول بأنه متناهي الذات غير متناهي القدرة. و قال الجاحظ إن لي قوما زعموا أنه تعالى ذاهب في الجهات الست التي لا نهاية لها. النوع الحادي عشر في أنه تعالى لا تصح رؤيته قالت المعتزلة رؤية البارئ تعالى مستحيلة في الدنيا و الآخرة و إنما يصح أن يرى المقابل ذو الجهة. و قالت الكرامية و الحنابلة و الأشعرية تصح رؤيته و يرى في الآخرة يراه المؤمنون ثم اختلفوا فقالت الكرامية و الحنابلة يرى في جهة فوق و حكي عن مضر و كهمس و أحمد الجبي أنهم أجازوا رؤيته في الدنيا و ملامسته و مصافحته و زعموا أن المخلصين يعانقونه متى شاءوا و يسمون الحبية. و حكى شيخنا أبو الحسين في التصفح عن أيوب السجستاني من المرجئة أن البارئ تعالى تصح رؤيته و لمسه. و ذهب قوم إلى أنهم لا يزالون يرون الله تعالى و أن الناس كلهم كافرهم و مؤمنهم يرونه و لكن لا يعرفونه.

(4/205)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 237و قال من ترفع عن هذه الطبقة منهم لا يجوز أن يرى بعين خلقت للفناء و إنما يرى في الآخرة بعين خلقت للبقاء. و قال كثير من هؤلاء إن محمدا ص رأى ربه بعيني رأسه ليلة المعراج. و رووا عن كعب الأحبار أن الله تعالى قسم كلامه و رؤيته بيموسى و محمد ع. و رووا عن المبارك بن فضالة أن الحسن كان يحلف بالله قد رأى محمد ربه. و تعلق كثير منهم بقوله تعالى وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى و قالوا كلمه موسى ع مرتين و رآه محمد ص مرتين. و أنكر ابن الهيصم مع اعتقاده أقوال الكرامية ذلك و قال إن محمدا ص لم يره و لكنه سوف يراه في الآخرة. قال و إلى هذا القول ذهبت عائشة و أبو ذر و قتادة و قد روي مثله عن ابن عباس و ابن مسعود. و اختلف من قال إنه يرى في الآخرة هل يجوز أن يراه الكافر فقال أكثرهم إن الكفار لا يرونه لأن رؤيته كرامة و الكافر لا كرامة له و قالت السالمية و بعض الحشوية إن الكفار يرونه يوم القيامة و هو قول محمد بن إسحاق بن خزيمة ذكر ذلك عنه محمد بن الهيصم. فأما الأشعري و أصحابه فإنهم لم يقولوا كما قال هؤلاء إنه يرى كما يرى الواحد منا بل قالوا يرى و ليس فوقا و لا تحتا و لا يمينا و لا شمالا و لا أماما و لا وراء و لا يرى كله و لا بعضه و لا هو في مقابلة الرائي و لا منحرفا عنه و لا تصح الإشارة إليه إذا رئي شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 238و هو مع ذلك يرى و يبصر و أجازوا أيضا عليه أن تسمع ذاته و أن تشم و تذاق و تحس لا على طريق الاتصال بل تتعلق هذه الإدراكات كلها اته تعلقا عاريا عن الاتصال و أنكرت الكرامية ذلك و لم يجيزوا عليه إلا إدراك البصر وحده و ناقضهم شيخنا أبو الحسين في التصفح و ألزمهم أحد أمرين إما نفي الجميع أو إثبات إدراكه من جميع الجهات كما يقوله الأشعرية. و ذهب ضرار بن عمرو إلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة بحاسة سادسة لا بهذا البصر و قيل ذلك عن جماعة غيره. و قال قوم

(4/206)


يجوز أن يحول الله تعالى قوة القلب إلى العين فيعلم الله تعالى بها فيكون ذلك الإدراك علما باعتبار أنه بقوة القلب و رؤية باعتبار أنه قد وقع بالمعنى الحال في العين. فهذه الأنواع الأحد عشر هي الأقوال و المذاهب التي يشتمل قوله ع بنفي التشبيه عليها و سيأتي من كلامه ع في نفي التشبيه ما هو أشد تصريحا من الألفاظ التي نحن في شرحها
الفصل الخامس في بيان أن الجاحد له مكابر بلسانه و مثبت له بقلبه
و هو معنى قوله ع فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود. لا شبهة في أن العلم بافتقار المتغير إلى المغير ضروري و العلم بأن المتغير ليس هو المغير شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 239إما أن يكون ضروريا أو قريبا من الضروري فإذا قد شهدت أعلام الوجود ع أن الجاحد لإثبات الصانع إنما هو جاحد بلسانه لا بقلبه لأن العقلاء لا يجحدون الأوليات بقلوبهم و إن كابروا بألسنتهم و لم يذهب أحد من العقلاء إلى نفي الصانع سبحانه. و أما القائلون بأن العالم وجد عن طبيعة و أن الطبيعة هي المدبرة له و القائلون بتصادم الأجزاء في الخلاء الذي لا نهاية له حتى حصل منها هذا العالم و القائلون بأن أصل العالم و أساس بنيته هو النور و الظلمة و القائلون بأن مبادئ العالم هي الأعداد المجردة و القائلون بالهيولى القديمة التي منها حدث العالم و القائلون بعشق النفس للهيولى حتى تكونت منها هذه الأجسام فكل هؤلاء أثبتوا الصانع و إنما اختلفوا في ماهيته و كيفية فعله. و قال قاضي القضاة إن أحدا من العقلاء لم يذهب إلى نفي الصانع للعالم بالكلية و لكن قوما من الوراقين اجتمعوا و وضعوا بينهم مقالة لم يذهب أحد إليها و هي أن العالم قديم لم يزل على هيئته هذه و لا إله للعالم و لا صانع أصلا و إنما هو هكذا ما زال و لا يزال من غير صانع و لا مؤثر. قال و أخذ ابن الراوندي هذه المقالة فنصرها في كتابه المعروف بكتاب التاج قال فأما الفلاسفة القدماء و المتأخرون

(4/207)


فلم ينفوا الصانع و إنما نفوا كونه فاعلا بالاختيار و تلك مسألة أخرى قال و القول بنفي الصانع قريب من القول بالسفسطة بل هو هو بعينه لأن من شك في المحسوس أعذر ممن قال إن المتحركات تتحرك من غير محرك حركها. و قول قاضي القضاة هذا هو محض كلام أمير المؤمنين ع و عينه و ليس قول الجاحظ هو هذا لأن الجاحظ يذهب إلى أن جميع المعارف و العلوم الإلهية ضرورية و نحن ما ادعينا في هذا المقام إلا أن العلم بإثبات الصانع فقط هو الضروري فأين أحد القولين من الآخر
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 50240- و من خطبة له عإِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّهِ فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ وَ لَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ يَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى

(4/208)


المرتاد الطالب و الضغث من الحشيش القبضة منه قال الله تعالى وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً. يقول ع إن المذاهب الباطلة و الآراء الفاسدة التي يفتتن الناس بها أصلها اتباع الأهواء و ابتداع الأحكام التي لم تعرف يخالف فيها الكتاب و تحمل العصبية و الهوى على تولي أقوام قالوا بها على غير وثيقة من الدين و مستند وقوع هذه الشبهات امتزاج الحق بالباطل في النظر الذي هو الطريق إلى استعلام المجهولات فلو أن النظر تخلص مقدماته و ترتب قضاياه من قضايا باطلة لكان الواقع عنه هو العلم المحض و انقطع عنه ألسن المخالفين و كذلك لو كان النظر تخلص مقدماته من قضايا صحيحة بأن كان كله مبنيا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 241على الفساد لظهر فساده لطلبة الحق و إنما يقع الاشتباه لامتزاج قضاياه الصادقة بالقضايا الكاذبة. مثال ذلك احتجاج من أجاز الرؤية بأن البارئ تعالى ذات موجودة و كل موجود يصح أن يرى فإحدالمقدمتين حق و الأخرى باطل فالتبس أمر النتيجة على كثير من الناس. و مثال ما يكون المقدمتان جميعا باطلتين قول قوم من الباطنية البارئ لا موجود و لا معدوم و كل ما لا يكون موجودا و لا معدوما يصح أن يكون حيا قادرا فالبارئ تعالى يصح أن يكون حيا قادرا فهاتان المقدمتان جميعا باطلتان لا جرم أن هذه المقالة مرغوب عنها عند العقلاء. و مثال ما تكون مقدماته حقا كلها العالم متغير و كل متغير ممكن فالعالم ممكن فهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء. فإن قيل فما معنى قوله ع فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه و ينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى أ ليس هذا إشعارا بقول المجبرة و تلويحا به. قيل لا إشعار في ذلك بالجبر و مراده ع أنه إذا امتزج في النظر الحق بالباطل و تركبت المقدمات من قضايا صحيحة و فاسدة تمكن الشيطان من الإضلال و الإغواء و وسوس إلى المكلف و خيل له النتيجة الباطلة و أماله إليها و زينها عنده بخلاف ما إذا كانت المقدمات حقا كلها فإنه لا يقدر

(4/209)


الشيطان على أن يخيل له ما يخالف العقل الصريح و لا يكون له مجال في تزيين الباطل عنده أ لا ترى أن الأوليات لا سبيل للإنسان إلى جحدها و إنكارها لا بتخييل الشيطان و لا بغير ذلك. شرح نهج البلاغة : 3 ص : 242و معنى قوله على أوليائه أي على من عنده استعداد للجهل و تمرن على اتباع الهوى و زهد في تحقيق الأمور العقلية على وجهها تقليدا للأسلاف و محبة لأتباع المذهب المألوف فذاك هو الذي يستولي عليه الشيطان و يضله و ينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى و هم الذين يتبعون محض العقل و لا يركنون إلى التقليد و يسلكون مسلك التحقيق و ينظرون النظر الدقيق يجتهدون في البحث عن مقدمات أنظارهم و ليس في هذا الكلام تصريح بالجبر و لا إشعار به على وجه من الوجوه و هذا واضح. و حمل الراوندي قوله ع فلو أن الباطل خلص إلى آخره على أن المراد به نفي القياس في الشرع قال لأن القائسين يحملون المسكوت عنه على المنطوق فيمتزج المجهول بالمعلوم فيلتبس و يظن لامتزاج بعضه ببعض حقا و هذا غير مستقيم لأن لفظ الخطبة أن الحق يمتزج بالباطل و أصحاب القياس لا يسلمون أن استخراج العلة من الحكم المعلوم باطل بل يقولون إنه حق و إن الدليل الدال على ورود العبارة بالقياس قد أمنهم من كونه باطلا. و اعلم أن هذا الكلام الذي قاله ع حق إذا تأملته و إن لم تفسره على ما قدمناه من التفسير فإن الذين ضلوا من مقلدة اليهود و النصارى و أرباب المقالات الفاسدة من أهل الملة الإسلامية و غيرها إنما ضل أكثرهم بتقليد الأسلاف و من يحسن الظن فيه من الرؤساء و أرباب المذاهب و إنما قلدهم الأتباع لما شاهدوا من إصلاح ظواهرهم و رفضهم الدنيا و زهدهم فيها و إقبالهم على العبادة و تمسكهم بالدين و أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر و شدتهم في ذات الله و جهادهم في سبيله و قوتهم في شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 243مذاهبهم و صلابتهم في عقائدهم فاعتقد الأتباع و الخلف و القرون التي جاءت

(4/210)


بعدهم أن هؤلاء يجب اتباعهم و تحرم مخالفتهم و أن الحق معهم و أن مخالفهم مبتدع ضال فقلدوهم في جميع ما نقل إليهم عنهم و وقع الضل و الغلط بذلك لأن الباطل استتر و انغمر بما مازجه من الحق الغالب الظاهر المشاهد عيانا أو الحكم الظاهر و لولاه لما تروج الباطل و لا كان له قبول أصلا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 51244- و من كلام له ع لما غلب أصحاب معاوية أصحابه ع على شريعة الفرات بصفين و منعوهم من الماءقَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَ الْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ أَلَا وَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَ عَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ
استطعموكم القتال كلمة مجازية و معناها طلبوا القتال منكم كأنه جعل القتال شيئا يستطعم أي يطلب أكله و في الحديث إذا استطعمكم الإمام فأطعموه يعني إمام الصلاة أي إذا ارتج فاستفتحكم فافتحوا عليه و تقول فلان يستطعمني الحديث أي يستدعيه مني و يطلبه. و اللممة بالتخفيف جماعة قليلة. و عمس عليهم الخبر يجوز بالتشديد و يجوز بالتخفيف و التشديد يعطي الكثرة و يفيدها و معناه أبهم عليهم الخبر و جعله مظلما ليل عماس أي مظلم و قد عمس الليل نفسه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 245بالكسر إذا أظلم و عمسه غيره و عمست عليه عمسا إذا أريته ك لا تعرف الأمر و أنت به عارف. و الأغراض جمع غرض و هو الهدف. و قوله فأقروا على مذلة و تأخير محلة أي أثبتوا على الذل و تأخر المرتبة و المنزلة أو فافعلوا كذا و كذا. و نحو قوله ع فالموت في حياتكم مقهورين قول أبي نصر بن نباتة و الحسين الذي رأى الموت في العز حياة و العيش في الذل قتلا. و قال التهامي

(4/211)


و من فاته نيل العلا بعلومه و أقلامه فليبغها بحسامه فموت الفتى في العز مثل حياته و عيشته في الذل مثل حمامهالأشعار الواردة في الإباء و الأنف من احتمال الضيم
و الأشعار في الإباء الأنف من احتمال الضيم و الذل و التحريض على الحرب كثيرة و نحن نذكر منها هاهنا طرفا فمن ذلك قول عمرو بن براقة الهمداني
و كيف ينام الليل من جل ماله حسام كلون الملح أبيض صارم كذبتم و بيت الله لا تأخذونها مراغمة ما دام للسيف قائم و من يطلب المال الممنع بالقنا يعش ماجدا أو تخترمه الخوار شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 246و مثلهو من يطلب المال الممنع بالقنا يعش ماجدا أو يؤذ فيما يمارس
و قال حرب بن مسعر
عطفت عليه المهر عطفة باسل كمي و من لا يظلم الناس يظلم فأوجرته لدن الكعوب مثقفا فخر صريعا لليدين و للفمو قال الحارث بن الأرقم
و ما ضاق صدري يا سليمى بسخطكم و لكنني في الحادثات صليب تروك لدار الخسف و الضيم منكر بصير بفعل المكرمات أريب إذا سامني السلطان ذلا أبيته و لم أعط خسفا ما أقام عسيو قال العباس بن مرداس السلمي
بأبي فوارس لا يعرى صواهلها أن يقبلوا الخسف من ملك و إن عظمالا و السيوف بأيدينا مجردة لا كان منا غداة الروع منهزما
و قال وهب بن الحارث
لا تحسبني كأقوام عبثت بهم لن يأنفوا الذل حتى تأنف الحمرلا تعلقني قذاة لست فاعلها و احذر شباتي فقدما ينفع الحذرفقد علمت بأني غير مهتضم حتى يلوح ببطن الراحة الشعر
و قال المسيب بن علس
أبلغ ضبيعة أن البلاد فيها لذي قوة مغضب
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 247و قد يقعد القوم في دارهم إذا لم يضاموا و إن أجدبواو يرتحل القوم عند الهوان عن دارهم بعد ما أخصبواو قد كان سامة في قومه له مطعم و له مشرب فساموه خسفا فلم يرضه و في الأرض عن ضيمهم مهو قال آخر

(4/212)


إن الهوان حمار القوم يعرفه و الحر ينكره و الرسلة الأجدو لا يقيم على خسف يراد به إلا الأذلان عير الحي و الوتدهذا على الخسف مشدود برمته و ذا يشج فلا يأوي له أحدفإن أقمتم على ضيم يراد بكم فإن رحلي له وال و معتمدو في البلاد إذا ما خفت بادرة مكروهة عن ولاة السوء مفتقد
و قال بعض بني أسد
إني امرؤ من بني خزيمة لا أطعم خسفا لناعب نعبالست بمعط ظلامة أبدا عجما و لا أتقي بها عربا
دخل مويلك السدوسي إلى البصرة يبيع إبلا فأخذ عامل الصدقة بعضها فخرج إلى البادية و قال
ناق إني أرى المقام على الضيم عظيما في قبة الإسلام قد أراني و لي من العامل النصف بحد السنان أو بالحسام شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 248و وثقت بالدنيا و أنت ترى جماعتها شتاتاو عزمت ويك على الحياة و طولها عزما بتاتايا من رأى أبويه فيمن قد رأى كانا فماتاهل فيهما لك عبرة أم خلت إن لك انفلاتاو من الذي طلب التفلت من منيته ففاتاكل تصبحه المنية أو تبيته بياتو له
أرى الدنيا لمن هي في يديه عذابا كلما كثرت لديه تهين المكرمين لها بصغر و تكرم كل من هانت عليه إذا استغنيت عن شي ء فدعه و خذ ما أنت محتاج إلو له
أ لم تر ريب الدهر في كل ساعة له عارض فيه المنية تلمع أيا باني الدنيا لغيرك تبتني و يا جامع الدنيا لغيرك تجمع أرى المرء وثابا على كل فرصة و للمرء يوما لا محالة مصرع ينازل ما لا يملك الملك غيره متى تنقضي حاجات من ليس يشبع و أي امرئ في غاية ليس نفسه إلى غأخرى سواها تطلع
و له
سل الأيام عن أمم تقضت ستخبرك المعالم و الرسوم
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 249و إلا حساما يبهر العين لمحه كصاعقة في عارض قد تبسمأباة الضيم و أخبارهم

(4/213)


سيد أهل الإباء الذي علم الناس الحمية و الموت تحت ظلال السيوف اختيارا له على الدنية أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب ع عرض عليه الأمان و أصحابه فأنف من الذل و خاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان إن لم يقتله فاختار الموت على ذلك. و سمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري يقول كان أبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت إلا في الحسين ع
و قد كان فوت الموت سهلا فرده إليه الحفاظ المر و الخلق الوعرو نفس تعاف الضيم حتى كأنه هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفرفأثبت في مستنقع الموت رجله و قال لها من تحت أخمصك الحشرتردى ثياب الموت حمرا فما أتى لها الليل إلا و هي من سندس خضر
لما فر أصحاب مصعب عنه و تخلف في نفر يسير من أصحابه كسر جفن سيفه و أنشد
فإن الألى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
فعلم أصحابه أنه قد استقتل.
و من كلام الحسين ع يوم الطف المنقول عنه نقله عنه زين العابدين علي ابنه ع ألا و إن الدعي بن الدعي قد خيرنا بين اثنتين السلة شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 250أو الذلة و هيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا و رسوله و المؤمنون و حجور طابت و حجز طهرت و أنوف حمية و وس أبية
و هذا نحو قول أبيه ع و قد ذكرناه فيما تقدم
إن امرأ أمكن عدوا من نفسه يعرق لحمه و يفري جلده و يهشم عظمه لعظيم عجزه ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره فكن أنت ذاك إن شئت فأما أنا فدون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام و تطيح السواعد و الأقدام
و قال العباس بن مرداس السلمي
مقال امرئ يهدي إليك نصيحة إذا معشر جادوا بعرضك فابخل و إن بوءوك منزلا غير طائل غليظا فلا تنزل به و تحول و لا تطعمن ما يعلفونك إنهم أتوك على قرباهم بالمثمل أراك إذا قد صرت للقوم ناضحا يقال له بالغرب أدبر و أقبل فخذها فليست للعزيز بخطة و فيها مقام لامرئ ل

(4/214)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 251و له أيضافحارب فإن مولاك حارد نصره ففي السيف مولى نصره لا يحارد
و قال مالك بن حريم الهمداني
و كنت إذا قوم غزوني غزوتهم فهل أنا في ذا يا ل همدان ظالم متى تجمع القلب الذكي و صارما و أنفا حميا تجتنبك المظالمو قال رشيد بن رميض العنزي
باتوا نياما و ابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين خفاق القدم قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل و لا غنم و لا بجزار على ظهر و ضم من يلقني يود كما أودت إو قال آخر
و لست بمبتاع الحياة بسبة و لا مرتق من خشية الموت سلماو لما رأيت الود ليس بنافعي عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما

(4/215)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 252و من أباة الضيم يزيد بن المهلب كان يزيد بن عبد الملك يشنؤه قبل خلافته لأسباب ليس هذا موضع ذكرها فلما أفضت إليه الخلافة خلعه يزيد بن المهلب و نزع يده من طاعته و علم أنه إن ظفر به قتله و ناله من الهوان ما القتل دونه فدخل البصرو ملكها عنوة و حبس عدي بن أرطاة عامل يزيد بن عبد الملك عليها فسرح إليه يزيد بن عبد الملك جيشا كثيفا و يشتمل على ثمانين ألفا من أهل الشام و الجزيرة و بعث مع الجيش أخاه مسلمة بن عبد الملك و كان أعرف الناس بقيادة الجيوش و تدبيرها و أيمن الناس نقيبه في الحرب و ضم إليه ابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك فسار يزيد بن المهلب من البصرة فقدم واسط فأقام بها أياما ثم سار عنها فنزل العقر و اشتملت جريدة جيشه على مائة و عشرين ألفا و قدم مسلمة بجيوش الشام فلما تراءى العسكران و شبت الحرب أمر مسلمة قائدا من قواده أن يحرق الجسور التي كان عقدها يزيد بن المهلب فأحرقها فلما رأى أهل العراق الدخان قد علا انهزموا فقيل ليزيد بن المهلب قد انهزم الناس قال و مم انهزموا هل كان قتال ينهزم الناس من مثله فقيل له إن مسلمة أحرق الجسور فلم يثبتوا فقال قبحهم الله بق دخن عليه فطار ثم وقف و معه أصحابه فقال اضربوا وجوه المنهزمين ففعلوا ذلك حتى كثروا عليه و استقبله منهم أمثال الجبال فقال دعوهم قبحهم الله غنم عدا في نواحيها الذئب و كان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار و قد كان أتاه يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي بواسط فقال له
فعش ملكا أو مت كريما فإن تمت و سيفك مشهور بكفك تعذر
فقال ما شعرت فقال شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 25إن بني مروان قد باد ملكهم فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر

(4/216)


فقال أما هذا فعسى فلما رأى يزيد انهزام أصحابه نزل عن فرسه و كسر جفن سيفه و استقتل فأتاه آت فقال إن أخاك حبيبا قد قتل فزاده ذلك بصيرة في توطينه نفسه على القتل و قال لا خير في العيش بعد حبيب و الله لقد كنت أبغض الحياة بعد الهزيمة و قد ازددت لها بغضا امضوا قدما فعلم أصحابه أنه مستميت فتسلل عنه من يكره القتال و بقي معه جماعة خشية فهو يتقدم كلما مر بخيل كشفها و هو يقصد مسلمة بن عبد الملك لا يريد غيره فلما دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب و حالت خيول أهل الشام بينهما و عطفت على يزيد بن المهلب فجالدهم بالسيف مصلتا حتى قتل و حمل رأسه إلى مسلمة و قتل معه أخوه محمد بن المهلب و كان أخوهما المفضل بن المهلب يقاتل أهل الشام في جهة أخرى و لا يعلم بقتل أخويه يزيد و محمد فأتاه أخوه عبد الملك بن المهلب و قال له ما تصنع و قد قتل يزيد و محمد و قبلهما قتل حبيب و قد انهزم الناس. و قد روي أنه لم يأته بالخبر على وجهه و خاف أن يخبره بذلك فيستقتل و يقتل فقال له إن الأمير قد انحدر إلى واسط فاقتص أثره فانحدر المفضل حينئذ فلما علم بقتل إخوته حلف ألا يكلم أخاه عبد الملك أبدا و كانت عين المفضل قد أصيبت من قبل في حرب الخوارج فقال فضحني عبد الملك فضحه الله ما عذري إذا رآني الناس فقالوا شيخ أعور مهزوم ألا صدقني فقتلت ثم قال
و لا خير في طعن الصناديد بالقنا و لا في لقاء الناس بعد يزيد

(4/217)


فلما اجتمع من بقي من آل المهلب بالبصرة بعد الكسرة أخرجوا عدي بن أرطاة أمير البصرة من الحبس فقتلوه و حملوا عيالهم في السفن البحرية و لججوا في البحر فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك بعثا عليه قائد من قواده فأدركهم في قندابيل فحاربهم شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 4و حاربوه و تقدم بنو المهلب بأسيافهم فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم و هم المفضل بن المهلب و زياد بن المهلب و مروان بن المهلب و عبد الملك بن المهلب و معاوية بن يزيد بن المهلب و المنهال بن أبي عيينة بن المهلب و عمرو و المغيرة ابنا قبيصة بن المهلب و حملت رءوسهم إلى مسلمة بن عبد الملك و في أذن كل واحد منهم رقعة فيها اسمه و استؤسر الباقون في الوقعة فحملوا إلى يزيد بن عبد الملك بالشام و هم أحد عشر رجلا فلما دخلوا عليه قام كثير بن أبي جمعة فأنشد

(4/218)


حليم إذا ما نال عاقب مجملا أشد العقاب أو عفا لم يثرب فعفوا أمير المؤمنين و حسبة فما تأته من صالح لك يكتب أساءوا فإن تصفح فإنك قادر و أفضل حلم حسبة حلم مغضفقال يزيد أطت بك الرحم يا أبا صخر لو لا أنهم قدحوا في الملك لعفوت عنهم ثم أمر بقتلهم فقتلوا و بقي منهم صبي صغير فقال اقتلوني فلست بصغير فقال يزيد بن عبد الملك انظروا هل أنبت فقال أنا أعلم بنفسي قد احتلمت و وطئت النساء فاقتلوني فلا خير في العيش بعد أهلي فأمر به فقتل. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى و أسماء الأسارى الذين قتلوا صبرا و هم أحد عشر مهلبيا المعارك و عبد الله و المغيرة و المفضل و المنجاب بنو يزيد بن المهلب و دريد و الحجاج و غسان و شبيب و الفضل بنو المفضل بن المهلب لصلبه و الفضل بن قبيصة بن المهلب قال و لم يبق بعد هذه الوقعة الثانية لأهل المهلب باقية إلا أبو عيينة بن المهلب و عمر بن يزيد بن المهلب و عثمان بن المفضل بن المهلب فإنهم لحقوا برتبيل ثم أومنوا بعد ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 255و قال الرضي الموسوي رحمه الله تعالىألا لله بادرة الطلاب و عزم لا يروع بالعتاب و كل مشمر البردين يهوي هوى المصلتات إلى الرقاب أعاتبه على بعد التنائي فيعذلني على قرب الإياب رأيت العجز يخضع لليالي و يرضى عن نوائبها الغضاب و آمل أن تطاوعني الليالي و ينشب في المنى ظفري و نابي و لو لا صولة ار دوني هجمت على العلا من كل باب
و قال أيضا
لا يبذ الهموم إلا غلام يركب الهول و الحسام رديف ما يذل الزمان بالفقر حرا كيفما كان فالشريف شريفو قال أيضا رحمه الله تعالى
و لست أضل في طرق المعالي و نار العز عالية الشعاع و دون المجد رأي مستطيل و باع غير مجبوب الذراع و يعجبني البعاد كان قلبي يحدث عن عدي بن الرقاع فرد نهي العلاء بلا رقيب و شمر في الأمور بلا نزاع و لا تغررك قعقعة الأعادي فذاك الصخر خر من اليفاع و نحن أحق با و لكن تخيرت القطوف على الوساع

(4/219)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 256و قال حارثة بن بدر الغدانيأهان و أقصى ثم ينتصحونني و من ذا الذي يعطي نصيحته قسرارأيت أكف المصلتين عليكم ملاء و كفى من عطائكم صفرامتى تسألوني ما علي و تمنعوا الذي لي لا أستطيع في ذلكم صبرا
و قال بعض الخوارج
تعيرني بالحرب عرسي و ما درت بأني لها في كل ما أمرت ضدلحا الله قوما يقعدون و عندهم سيوف و لم يعصب بأيديهم قد
و قال الأعشى
أ بالموت خشتني عباد و إنما رأيت منايا القوم يسعى دليلهاو ما موتة إن متها غير عاجز بعار إذا ما غالت النفس غولها
و قال آخر
فلا أسمعن فيكم بأمر هضيمة و ضيم و لا تسمع به هامتي بعدي فإن السنان يركب المرء حده من الضيم أو يعدو على الأسد الوردو مثله
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته على طرف الهجران إن كان يعقل و يركب حد السيف من أن تضيمه إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 257و قال آخركرهوا الموت فاستبيح حماهم و أقاموا فعل اللئيم الذليل أ من الموت تهربون فإن الموت الذليل غير جميلو قال بشامة بن الغدير
و إن التي سامكم قومكم هم جعلوها عليكم عدولاأ خزي الحياة و كره الممات فكلا أراه طعاما وبيلافإن لم يكن غير إحداهما فسيروا إلى الموت سيرا جميلاو لا تقعدوا و بكم منة كفى بالحوادث للمرء غولا
قال يزيد بن المهلب في حرب جرجان لأخيه أبي عيينة ما أحسن منظر رأيت في هذه الحرب قال سيف بن أبي سبرة و بيضته و كان عبد الله بن أبي سبرة حمل على غلام تركي قد أفرج الناس له و صدوا عنه لبأسه و شجاعته فتضاربا ضربتين فقتله ابن أبي سبرة بعد أن ضربه التركي في رأسه فنشب سيفه في بيضة ابن أبي سبرة فعاد إلى الصف و سيفه مصبوغ بدم التركي و سيف التركي ناشب في بيضته كجزء منها يلمع فقال الناس هذا كوكب الذنب و عجبوا من منظره. و قال هدبة بن خشرم

(4/220)


و إني إذ ما الموت لم يك دونه قدى الشبر أحمى الأنف أن أتأخراو لكنني أعطي الحفيظة حقها فأعرف معروفا و أنكر منكرا
و قال آخر
إني أنا المرء لا يغضي على ترة و لا يقر على ضيم إذا غشما
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 258ألقى المنية خوفا أن يقال فتى أمسى و قد ثبت الصفان منهزمو قال آخر
قوض خيامك و التمس بلدا تنأى عن الغاشيك بالظلم أو شد شدة بيهس فعسى أن يتقوك بصفحة السلماستنصر سبيع بن الخطيم التيمي من بني تيم اللات بن ثعلبة زيد الفوارس الضبي فنصره فقال
نبهت زيدا فلم أفزع إلى وكل رث السلاح و لا في الحي مغمورسالت عليه شعاب الحي حين دعا أنصاره بوجوه كالدنانير
و قال أبو طالب بن عبد المطلب
كذبتم و بيت الله نخلي محمدا و لما نطاعن دونه و نناضل و ننصره حتى نصرع حوله و نذهل عن أبنائنا و الحلائللما برز علي و حمزة و عبيدة ع يوم بدر إلى عتبة و شيبة و الوليد قتل علي ع الوليد و قتل حمزة شيبة على اختلاف في رواية ذلك هل كان شيبة قرنه أم عتبة و تجالد عبيدة و عتبة بسيفيهما فجرح عبيدة عتبة في رأسه و قطع عتبة ساق عبيدة فكر علي و حمزة ع على صاحبهما فاستنقذاه من عتبة و خبطاه بسيفيهما حتى قتلاه و احتملا صاحبهما فوضعاه بين يدي رسول الله ص في العريش و هو يجود بنفسه و إن مخ ساقه ليسيل فقال يا رسول الله لو كان أبو طالب حيا لعلم أني أولى منه بقوله شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 25كذبتم و بيت الله نخلي محمدا و لما نطاعن دونه و نناضل و ننصره حتى نصرع حوله و نذهل عن أبنائنا و الحلائلفبكى رسول الله ص و قال اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض

(4/221)


لما قدم جيش الحرة إلى المدينة و على الجيش مسلم بن عقبة المري أباح المدينة ثلاثا و استعرض أهلها بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم حتى ساخت الأقدام في الدم و قتل أبناء المهاجرين و الأنصار و ذرية أهل بدر و أخذ البيعة ليزيد بن معاوية على كل من استبقاه من الصحابة و التابعين على أنه عبد قن لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية هكذا كانت صورة المبايعة يوم الحرة إلا علي بن الحسين بن علي ع فإنه أعظمه و أجلسه معه على سريره و أخذ بيعته على أنه أخو أمير المؤمنين يزيد بن معاوية و ابن عمه دفعا له عما بايع عليه غيره و كان ذلك بوصاة من يزيد بن معاوية له فهرب علي بن عبد الله بن العباس رحمه الله تعالى إلى أخواله من كندة فحموه من مسلم بن عقبة و قالوا لا يبايع ابن أختنا إلا على ما بايع عليه ابن عمه علي بن الحسين فأبى مسلم بن عقبة ذلك و قال إني لم أفعل ما فعلت إلا بوصاة أمير المؤمنين و لو لا ذلك لقتلته فإن أهل هذا البيت أجدر بالقتل أو لأخذت بيعته على ما أخذت عليه بيعة غيره و سفر السفراء بينه و بينهم حتى وقع الاتفاق على أن يبايع و يقول أنا أبايع لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية و ألتزم طاعته و لا يقول غير ذلك فقال علي بن عبد الله بن العباس
أبي العباس رأس بني قصي و أخوالي الملوك بنو وليعه هم منعوا ذماري يوم جاءت كتائب مسرف و بنو اللكيعه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 260أراد بي التي لا عز فيها فحالت دونه أيد منيعمسرف كناية عن مسلم و أم علي بن عبد الله بن العباس زرعة بنت مشرح بن معديكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية بن كندة. قال الحسين بن الحمام
و لست بمبتاع الحياة بسبة و لا مرتق من خشية الموت سلماتأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدمافلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا و لكن على أقدامنا تقطر الدمانفلق هاما من رجال أعزة علينا و هم كانوا أعق و أظلماأبى لابن سلمى أنه غير خالد ملاقي المنايا أي صرف تيمما

(4/222)


ابن سلمى يعني نفسه و سلمى أمه. و قال الطرماح بن حكيم
و ما منعت دار و لا عز أهلها من الناس إلا بالقنا و القنابل
و قال آخر
و إن التي حدثتها في أنوفنا و أعناقنا من الإباء كما هيا
و قال آخر
فإن تكن الأيام فينا تبدلت ببؤسي و نعمى و الحوادث تفعل فما لينت منا قناة صليبة و لا ذللتنا للتي ليس تجمل و لكن رحلناها نفوسا كريمة تحمل ما لا يستطاع فتحمل شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 261و قال آخرإذا جانب أعياك فاعمد لجانب فإنك لاق في البلاد معولا
و قال أبو النشناش
إذا المرء لم يسرح سواما و لم يرح سواما و لم تعطف عليه أقاربه فللموت خير للفتى من قعوده عديما و من مولى تدب عقاربه و لم أر مثل الهم ضاجعه الفتى و لا كسواد الليل أخفق طالبه فعش معدما أو مت كريما فإنني أرى الموت لا ينجو من الموت هاروفد يحيى بن عروة بن الزبير على عبد الملك فجلس يوما على بابه ينتظر إذنه فجرى ذكر عبد الله بن الزبير فنال منه حاجب عبد الملك فلطم يحيى وجهه حتى أدمى أنفه فدخل على عبد الملك و دمه يجري من أنفه فقال من ضربك قال يحيى بن عروة قال أدخله و كان عبد الملك متكئا فجلس فلما دخل قال ما حملك على ما صنعت بحاجبي قال يا أمير المؤمنين إن عمي عبد الله كان أحسن جوارا لعمتك منك لنا و الله إن كان ليوصي أهل ناحيته ألا يسمعوها قذعا و لا يذكروكم عندها إلا بخير و إن كان ليقول لها من سب أهلك فقد سب أهله فأنا و الله المعم المخول تفرقت العرب بين عمي و خالي فكنت كما قال الأول
يداه أصابت هذه حتف هذه فلم تجد الأخرى عليها مقدما

(4/223)


فرجع عبد الملك إلى متكئه و لم يزل يعرف منه الزيادة في إكرام يحيى بعدها. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 262و أم يحيى هذه ابنة الحكم بن أبي العاص عمة عبد الملك بن مروان. و قال سعيد بن عمر الحرشي أمير خراسانفلست لعامر إن لم تروني أمام الخيل أطعن بالعوالي و أضرب هامة الجبار منهم بماضي الغرب حودث بالصقال فما أنا في الحروب بمستكين و لا أخشى مصاولة الرجال أبى لي والدي من كل ذم و خالي حين يذكر خير خقال عبد الله بن الزبير لما خطب حين أتاه نعي مصعب أما بعد فإنه أتانا من العراق خبر أفرحنا و أحزننا أتانا خبر قتل المصعب فأما الذي أحزننا فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه ثم يرعوي بعدها ذو اللب إلى حسن الصبر و كرم العزاء. و أما الذي أفرحنا فإن ذلك كان له شهادة و كان لنا و له خيرة إنا و الله ما نموت حبجا كما يموت آل أبي العاص ما نموت إلا قتلا قعصا بالرماح و موتا تحت ظلال السيوف فإن يهلك المصعب فإن في آل الزبير لخلفا. و خطب مرة أخرى فذكره فقال لوددت و الله أن الأرض قاءتني عنده حين لفظ غصته و قضى نحبه شعر
خذيه فجريه ضباع و أبشري بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 263و قال الشداخ بن يعمر الكنانيقاتلوا القوم يا خزاع و لا يدخلكم من قتالهم فشل القوم أمثالكم لهم شعر في الرأس لا ينشرون إن قتلواو قال يحيى بن منصور الحنفي
و لما نأت عنا العشيرة كلها أنخنا فحالفنا السيوف على الدهرفما أسلمتنا عند يوم كريهة و لا نحن أغضينا الجفون على وتر

(4/224)


قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد و يحك أ قتلتم ذرية رسول الله ص فقال عضضت بالجندل إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية تحطم الفرسان يمينا و شمالا و تلقي أنفسها على الموت لا تقبل الأمان و لا ترغب في المال و لا يحول حائل بينها و بين الورود على حياض المنية أو الاستيلاء على الملك فلو كففنا عنها رويدا لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها فما كنا فاعلين لا أم لك. السخاء من باب الشجاعة و الشجاعة من باب السخاء لأن الشجاعة إنفاق العمر و بذله فكانت سخاء و السخاء إقدام على إتلاف ما هو عديل المهجة فكان شجاعة أبو تمام في تفضيل الشجاعة على السخاء
كم بين قوم إنما نفقاتهم مال و قوم ينفقون نفوسا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 264قيل لشيخنا أبي عبد الله البصري رحمه الله تعالى أ تجد في النصوص ما يدل على تفضيل علي ع بمعنى كثرة الثواب لا بمعنى كثرة مناقبه فإن ذاك أمر مفروغ منه فذكر حديث الطائر المشوي و أن المحبة من الله تعالى إرادة الثواب فقيل له قد سبقالشيخ أبو علي رحمه الله تعالى إلى هذا فهل تجد غير ذلك قال نعم قول الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ فإذا كان أصل المحبة لمن ثبت كثبوت البنيان المرصوص فكل من زاد ثباته زادت المحبة له و معلوم أن عليا ع ما فر في زحف قط و فر غيره في غير موطن. و قال أبو تمام
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد و اللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك و الريب و العلم في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهو قال أبو الطيب المتنبي
حتى رجعت و أقلامي قوائل لي المجد للسيف ليس المجد للقلم

(4/225)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 265اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به فإنما نحن للأسياف كالخدم أسمعتني و دوائي ما أشرت به فإن غفلت فدائي قلة الفهم من اقتضى بسوى الهندي حاجته أجاب كل سؤال عن هل قال عطاف بن محمد الألوسي
أ مكابد الزفرات مؤصدة تلتذ خوف القطع بالشلل صرف همومك تنتدب همما فالسكر يعقب نشوة الثمل و لليلة الميلاد مفرحة تنسي الحوامل أشهر الحبل سر في البلاد تخوضها لججا فالدر ليس يصاب في الوشل و اجعل لصبوتك الظبا سكنا و الدور أكوارا على الإبل و العيش و الوطن الفي غرب الحسام و غارب الجمل و اشدد عليك و خذ إليك و دع ضعة الخمول و فترة الكسل و ارم العداة بكل صائبة ما الرمي موقوفا على ثعل لا تحسب النكبات منقصة قد يستجاد السيف بالفو قال عروة بن الورد
لحا الله صعلوكا إذا جن ليله مصافي المشاش آلفا كل مجزر
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 266يعد الغنى من نفسه كل ليلة أصاب قراها من صديق ميسرينام عشاء ثم يصبح ناعسا يحت الحصى من جنبه المتعفريعين نساء الحي ما يستعنه و يمسي طليحا كالبعير المحسرو لكن صعلوكا صفيحة وجهه كضوء شهاب القابس المتنورمطلا على أعدائه يزجرونه بستهم زجر المنيح المشهرو إن قعدوا لا يأمنون اقترابه تشوف أهل الغائب المتنظرفذلك إن يلق المنية يلقها حميدا و إن يستغن يوما فأجدر
و قال آخر
و لست بمولى سوءة أدعي لها فإن لسوآت الأمور موالياو سيان عندي أن أموت و أن أرى كبعض رجال يوطنون المخازياو لن يجد الناس الصديق و لا العدا أديمي إذا عدوا أديمي واهياو إن نجاري بابن غنم مخالف نجار لئام فابغني من ورائياو لست بهياب لمن لا يهابني و لست أرى للمرء ما لا يرى لياإذا المرء لم يحببك إلا تكرها عراض العلوق لم يكن ذاك باقيا

(4/226)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 267نهار بن توسعة في يزيد بن المهلبو ما كنا نؤمل من أمير كما كنا نؤمل من يزيدفأخطأ ظننا فيه و قدما زهدنا في معاشرة الزهيدإذا لم يعطنا نصفا أمير مشينا نحوه مشي الأسود
كان هدبة اليشكري و هو ابن عم شوذب الخارجي اليشكري شجاعا مقداما و كان ابن عمه بسطام الملقب شوذبا الخارج في خلافة عمر بن عبد العزيز و يزيد بن عبد الملك فأرسل إليه يزيد بن عبد الملك جيشا كثيفا فحاربه فانكشفت الخوارج و ثبت هدبة و أبى الفرار فقاتل حتى قتل فقال أيوب بن خولي يرثيه
فيا هدب للهيجا و يا هدب للندى و يا هدب للخصم الألد يحاربه و يا هدب كم من ملحم قد أجبته و قد أسلمته للرماح كتائبه تزودت من دنياك درعا و مغفرا و عضبا حساما لم تخنك مضاربه و أجرد محبوك السراة كأنه إذا انفض وافى الريش حجن مخالكانت وصايا إبراهيم الإمام و كتبه ترد إلى أبي مسلم بخراسان إن استطعت ألا تدع بخراسان أحدا يتكلم بالعربية إلا و قتلته فافعل و أيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 268فاقتله و عليك بمضر فإنهم العدو القريب الدار فأبد خضراءهم و لا تدع على أرض منهم ديارا. قال المتنبي
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
و له
و من عرف الأيام معرفتي بها و بالناس روى رمحه غير راحم فليس بمرحوم إذا ظفروا به و لا في الردى الجاري عليهم بآثمو قال المتنبي أيضا

(4/227)


ردي حياض الردى يا نفس و اطرحي حياض خوف الردى للشاء و النعم إن لم أذرك على الأرماح سائلة فلا دعيت ابن أم المجد و الكرمو من أباة الضيم قتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان و ما وراء النهر لم يصنع أحد صنيعه في فتح بلاد الترك و كان الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان بن عبد الملك من العهد بعده و يجعله في ابنه عبد العزيز بن الوليد فأجابه إلى ذلك قتيبة بن مسلم و جماعة من الأمراء فلما مات الوليد قبل إتمام ذلك و قام سليمان بالأمر بعده و كان شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 269قتيبة أشد الناس في أمر سليمان و خلعه عن العهد علم أنه سيعزله عن خراسان و يوليها يزيد بن المهلب لود كان بينه و بين سليمان فكتب قتيبة إليه كتابا يهنئه بالخلا و يذكر بلاءه و طاعته لعبد الملك و للوليد بعده و أنه على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان و كتب إليه كتابا آخر يذكره فيه بفتوحه و آثاره و نكايته في الترك و عظم قدره عند ملوكهم و هيبة العجم و العرب له و عظم صيته فيهم و يذم آل المهلب و يحلف له بالله لئن استعمل يزيد بن المهلب خراسان ليخلعنه و ليملأنها عليه خيلا و رجلا و كتب كتابا ثالثا فيه خلع سليمان و بعث بالكتب الثلاثة مع رجل من قومه من باهلة يثق به و قال له ادفع الكتاب الأول إليه فإن كان يزيد بن المهلب حاضرا عنده فقرأ الكتاب ثم دفعه إلى يزيد فادفع إليه هذا الثاني فإن قرأه و ألقاه إليه أيضا فادفع إليه الثالث و إن قرأ الكتاب الأول و لم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين معك. فقدم الرسول على سليمان و دخل عليه و عنده يزيد بن المهلب فدفع إليه الكتاب الأول فقرأ و ألقاه إلى يزيد فدفع إليه الكتاب الثاني فقرأه و ألقاه إلى يزيد أيضا فدفع إليه الكتاب الثالث فقرأه و تغير لونه و طواه و أمسكه بيده و أمر بإنزال الرسول و إكرامه ثم أحضره ليلا و دفع إليه جائزته و أعطاه عهد قتيبة على خراسان و كان ذلك مكيدة من سليمان يسكنه

(4/228)


ليطمئن ثم يعزله و بعث مع رسوله رسولا فلما كان بحلوان بلغه خلع قتيبة سليمان بن عبد الملك فرجع رسول سليمان إليه فلما اختلفت العرب على قتيبة حين أبدى صفحته لسليمان و خلع ربقة الطاعة بايعوا وكيع بن أبي سود التميمي على أمارة خراسان و كانت أمراء القبائل قد تنكرت لقتيبة لإذلاله إياهم و استهانته بهم و استطالته عليهم و كرهوا إمارته فكانت بيعة وكيع في أول الأمر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 270سرا ثم ظهر لقتيبة أمره فأرسل إليه يدعوه فوجده قد طلا رجله بمغرة و علق في عنقه خرزا و عنده رجلان يرقيان رجله فقال للرسول قد ترى ما برجلي فرجع و أخبر قتيبة فأعاده إليه فقال قل له ليأتي محمولا قال لا أستطيع فقال قتيبة لصاحب شرطته انطلق إلى وكيع فأتني به فإن أبى فاضرب عنقه و ائتني برأسه و وجه معه خيلا فقال وكيع لصاحب الشرطة البث قليلا تلحق الكتائب و قام فلبس سلاحه و نادى في الناس فأتوه فخرج فتلقاه رجل فقال ممن أنت فقال من بني أسد فقال ما اسمك فقال ضرغام فقال ابن من قال ابن ليث فتيمن به و أعطاه رايته و أتاه الناس إرسالا من كل وجه فتقدم بهم و هو يقول
قرم إذا حمل مكروهة شد الشراسيف لها و الحزيم
و اجتمع إلى قتيبة أهله و ثقاته و أكثر العرب ألسنتهم له و قلوبهم عليه فأمر قتيبة رجلا فنادى أين بنو عامر و قد كان قتيبة جفاهم في أيام سلطانه فقال له مجفر بن جزء الكلابي نادهم حيث وضعتهم فقال قتيبة أنشدكم الله و الرحم و ذاك لأن باهلة و عامرا من قيس عيلان فقال مجفر أنت قطعتها قال فلكم العتبى فقال مجفر لا أقالنا الله إذا فقال قتيبة
يا نفس صبرا على ما كان من ألم إذ لم أجد لفضول العيش أقرانا

(4/229)


ثم دعا ببرذون له مدرب ليركبه فجعل يمنعه الركوب حتى أعيا فلما رأى ذلك شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 271عاد إلى سريره فجلس و قال دعوه فإن هذا أمر يراد و جاء حيان النبطي و هو يومئذ أمير الموالي و عدتهم سبعة آلاف و كان واجدا على قتيبة فقال له عبد الله بن مسلم أخقتيبة احمل يا حيان فقال لم يأن بعد فقال له ناولني قوسك فقال حيان ليس هذا بيوم قوس ثم قال حيان لابنه إذ رأيتني قد حولت قلنسوتي و مضيت نحو عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلي فلما حول حيان قلنسوته و مضى نحو عسكر وكيع مالت الموالي معه بأسرها فبعث قتيبة أخاه صالح بن مسلم إلى الناس فرماه رجل من بني ضبة فأصاب رأسه فحمل إلى قتيبة و رأسه مائل فوضعه على مصلاه و جلس عند رأسه ساعة و تهايج الناس و أقبل عبد الرحمن بن مسلم أخو قتيبة نحوهم فرماه الغوغاء و أهل السوق فقتلوه و أشير على قتيبة بالانصراف فقال الموت أهون من الفرار و أحرق وكيع موضعا كانت فيه إبل قتيبة و دوابه و زحف بمن معه حتى دنا منه فقاتل دونه رجل من أهله قتالا شديدا فقال له قتيبة أنج بنفسك فإن مثلك يضن به عن القتل قال بئسما جزيتك به أيها الأمير إذا و قد أطعمتني الجردق و ألبستني النمرق و تقدم الناس حتى بلغوا فسطاط قتيبة فأشار عليه نصحاؤه بالهرب فقال إذا لست لمسلم بن عمرو ثم خرج إليهم بسيفه يجالدهم فجرح جراحات كثيرة حتى ارتث و سقط فأكبوا عليه فاحتزوا رأسه و قتل معه من إخوته عبد الرحمن و عبد الله و صالح و الحصين و عبد الكريم و مسلم و قتل معه جماعة من أهله و عدة من قتل معه من أهله و إخوته أحد عشر رجلا و صعد وكيع بن أبي سود المنبر و أنشد
من ينك العير ينك نياكا

(4/230)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 272إن قتيبة أراد قتلي و أنا قتال الأقران ثم أنشدقد جربوني ثم جربوني من غلوتين و من المئين حتى إذا شبت و شيبوني خلوا عناني ثم سيبوني حذار مني و تنكبوني فإنني رام لمن يرمينثم قال أنا أبو مطرف يكررها مرارا ثم قال أنا ابن خندف تنميني قبائلها للصالحات و عمي قيس عيلانا
ثم أخذ بلحيته و قال إني لأقتلن ثم لأقتلن و لأصلبن ثم لأصلبن إن مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى أسعاركم و الله لئن لم يصر القفيز بأربعة دراهم لأصلبنه صلوا على نبيكم. ثم نزل و طلب رأس قتيبة و خاتمه فقيل له إن الأزد أخذته فخرج مشهرا و قال و الله الذي لا إله إلا هو لا أبرح حتى أوتي بالرأس أو يذهب رأسي معه فقال له الحصين بن المنذر يا أبا مطرف فإنك تؤتى به ثم ذهب إلى الأزد فأخذ الرأس و أتاه به فسيره إلى سليمان بن عبد الملك فأدخل عليه و معه رءوس إخوته و أهله و عنده الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي فقال أ ساءك هذا يا هذيل قال لو ساءني لساء ناسا كثيرا فقال سليمان ما أردت هذا كله و إنما قال سليمان ذلك للهذيل لأن قيس عيلان تجمع كلابا و باهلة قالوا ما ولي خراسان أحد كقتيبة بن مسلم و لو كانت باهلة في الدناءة و الضعة و اللؤم إلى أقصى غاية لكان لها بقتيبة الفخر على قبائل العرب. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 273قال رؤساء خراسان من العجم لما قتل قتيبة يا معشر العرب قتلتم قتيبة و الله لو كان منا ثم مات لجعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا. و قال الأصبهبذ يا معشر العرب قتلتم قتيبة و يزيد بن المهلب لقد جئتم شيئا إدا فقيل له أما كان أعظم عندكم و أهيب قال لو كان قتيبة بأقصى حجرة في المغرب مكبلا بالحديد و القيود و يزيد معنا في بلدنا وال علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا و أعظم. و قال عبد الرحمن بن جماعة الباهلي يرثي قتيبة

(4/231)


كأن أبا حفص قتيبة لم يسر بجيش إلى جيش و لم يعل منبراو لم تخفق الرايات و الجيش حوله صفوفا و لم يشهد له الناس عسكرادعته المنايا فاستجاب لربه و راح إلى الجنات عفا مطهرافما رزئ الإسلام بعد محمد بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا
عبهر أم ولد له. و في الحديث الصحيح أن من خير الناس رجلا ممسكا بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع هيعة طار إليها
كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد و اعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك و تراك فإذا لقيت العدو فاحرص على الموت توهب لك الحياة و لا تغسل الشهداء من دمائهم فإن دم الشهيد يكون له نورا يوم القيامة. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 274عمر لا تزالون أصحاء ما نزعتم و نزوتم يد ما نزعتم في القوس و نزوتم على الخيل بعض الخوارج
و من يخش أظفار المنايا فإننا لبسنا لهن السابغات من الصبرو إن كريه الموت عذب مذاقه إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
حفص منصور بن عمار في قصصه على الغزو و الجهاد فطرحت في المجلس صرة فيها شي ء ففتحت فإذا فيها ضفيرتا امرأة و قد كتبت رأيتك يا ابن عمار تحض على الجهاد و و الله إني لا أملك لنفسي مالا و لا أملك سوى ضفيرتي هاتين و قد ألقيتهما إليك فتالله إلا جعلتهما قيد فرس غازفي سبيل الله فلعل الله أن يرحمني بذلك. فارتج المجلس بالبكاء و الضجيج. لبعض شعراء العجم
وا سوءتا لامرئ شبيبته في عنفوان و ماؤه خضل راض بنزر المعاش مضطهد على تراث الآباء يتكل لا حفظ الله ذاك من رجل و لا رعاه ما أطت الإبل كلا و ربي حتى تكون فتى قد نهكته الأسفار و الرحل مشمرا يطلب الرئاسة أو يضرب يوما بهلكه المثل حتى متى تتبع الرجال و لا تتما لأمك الهبل

(4/232)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 275عبد الله بن ثعلبة الأزديفلئن عمرت لأشفين النفس من تلك المساعي و لأعلمن البطن أن الزاد ليس بمستطاع أما النهار فقد أرى قومي بمرقبة يفاع في قرة هلك و شوك مثل أنياب الأفاعي ترد السباع معي فتحسبني السباع من السمجير الجراد أبو حنبل حارثة بن مر الطائي أجار جرادا نزل به و منع من صيده حتى طار من أرضه فسمي مجير الجراد. و قال هلال بن معاوية الطائي
و بالجبلين لنا معقل صعدنا إليه بصم الصعادملكناه في أوليات الزمان من قبل نوح و من قبل عادو منا ابن مر أبو حنبل أجار من الناس رجل الجرادو زيد لنا و لنا حاتم غياث الورى في السنين الشداد
و قال يحيى بن منصور الحنفي
و لما نأت عنا العشيرة كلها أنخنا فحالفنا السيوف على الدهرفما أسلمتنا عند يوم كريهة و لا نحن أغضينا الجفون على وتر

(4/233)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 276و قال آخرأرق لأرحام أراها قريبة لحار بن كعب لا لجرم و راسب و و إنا نرى أقدامنا في نعالهم و آنفنا بين اللحى و الحواجب و أقدامنا يوم الوغى و إباءنا إذا ما أبينا لا ندر لعاصحاصرت الترك مدينة برذعة من أعمال آذربيجان في أيام هشام بن عبد الملك حصارا شديدا و استضعفتها و كادت تملكها و توجه إليها لمعاونتها سعيد الحرشي من قبل هشام بن عبد الملك في جيوش كثيفة و علم الترك بقربه منهم فخافوا و أرسل سعيد واحدا من أصحابه إلى أهل برذعة سرا يعرفهم وصوله و يأمرهم بالصبر خوفا ألا يدركهم فسار الرجل و لقيه قوم من الترك فأخذوه و سألوه عن حاله فكتمهم فعذبوه فأخبرهم و صدقهم فقالوا إن فعلت ما نأمرك به أطلقناك و إلا قتلناك فقال ما تريدون قالوا أنت عارف بأصحابك ببرذعة و هم يعرفونك فإذا وصلت تحت السور فنادهم إنه ليس خلفي مدد و لا من يكشف ما بكم و إنما بعثت جاسوسا فأجابهم إلى ذلك فلما صار تحت سورها وقف حيث يسمع أهلها كلامه و قال لهم أ تعرفونني قالوا نعم أنت فلان بن فلان قال فإن سعيدا الحرشي قد وصل إلى مكان كذا في مائة ألف سيف و هو يأمركم بالصبر و حفظ البلد و هو مصبحكم أو ممسيكم فرفع أهل برذعة أصواتهم بالتكبير و قتلت الترك ذلك الرجل و رحلوا عنها و وصل سعيد فوجد أبوابها مفتوحة و أهلها سالمين. و قال الراجز
من كان ينوي أهله فلا رجع فر من الموت و في الموت وقع
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 277أشرف معاوية يوما فرأى عسكر علي ع بصفين فهاله فقال من طلب عظيما خاطر بعظيمته. و قال الكلحبةإذا المرء لم يغش المكارة أوشكت حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا
و من شعر الحماسة

(4/234)


أقول لها و قد طارت شعاعا من الأبطال ويحك لا تراعي فإنك لو سألت بقاء يوم على الأجل الذي لك لم تطاعي فصبرا في مجال الموت صبرا فما نيل الخلود بمستطاع و لا ثوب البقاء بثوب عز فيطوى عن أخي الخنع اليراع سبيل الموت غاية كل حي فداعيه لأهل الأرض داع و من لا يعسأم و يهرم و تسلمه المنون إلى انقطاع و ما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاعو منه أيضا
و في الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان
و منه أيضا
و لم ندر إن جضنا عن الموت جيضة كم العمر باق و المدى متطاول
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 278و منه أيضاو لا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها
و منه أيضا
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم لشي ء و لا أني من الموت أفرق و لا أن نفسي يزدهيها وعيدكم و لا أنني بالمشي في القيد أخرو منه أيضا
سأغسل عني العار بالسيف جالبا على قضاء الله ما كان جالباو أذهل عن داري و أجعل هدمها لعرصي من باقي المذمة حاجباو يصغر في عيني تلادي إذا انثنت يميني بإدراك الذي كنت طالبافإن تهدموا بالغر داري فإنها تراث كريم لا يبالي العواقباأخي عزمات لا يطيع على الذي يهم به من مفظع الأمر عاتباإذا هم ألقى بين عينيه عزمه و نكب عن ذكر العواقب جانبافيا لرزام رشحوا بي مقدما إلى الموت خواضا إليه السباسباإذا هم لم تردع عزيمة همه و لم يأت ما يأتي من الأمر هائباو لم يستشر في أمره غير نفسه و لم يرض إلا قائم السيف صاحبا
و منه أيضا
هما خطتا إما إسار و منة و إما دم و القتل بالحر أجدر
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 279و منه أيضاو أنا لقوم لا نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر و سلول يقصر حب الموت آجالنا لنا و تكرهه آجالهم فتطول و ما مات منا سيد حتف أنفه و لا طل منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظبات نفوسنا و ليست على غير السيوف تسو منه أيضا

(4/235)


لا يركنن أحد إلى الإحجام يوم الوغى متخوفا لحمام فلقد أراني للرماح دريئة من عن يميني تارة و أمامي حتى خضبت بما تحدر من دمي أكناف سرجي أو عنان لجامي ثم انصرفت و قد أصبت و لم أصب جذع البصيرة قارح الأقدو منه أيضا
و إني لدى الحرب الضروس موكل بإقدام نفس لا أريد بقاءهامتى يأت هذا الموت لا تلف حاجة لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
كتب عبد الحميد بن يحيى عن مروان بن محمد إلى أبي مسلم كتابا حمل على جمل لعظمه و كثرته و قيل إنه لم يكن في الطول إلى هذه الغاية و قد حمل على جمل تعظيما لأمره و قال لمروان بن محمد إن قرأه خاليا نخب قلبه و إن قرأه في ملإ من شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 280أصحابثبطهم و خذلهم فلما وصل إلى أبي مسلم أحرقه بالنار و لم يقرأه و كتب على بياض كان على رأسه و أعاده إلى مروان

(4/236)


محا السيف أسطار البلاغة و انتحت إليك ليوث الغاب من كل جانب فإن تقدموا نعمل سيوفا شحيذة يهون عليها العتب من كل عاتبو يقال إن أول الكتاب كان لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا و كتب أبو مسلم إلى نصر بن سيار و هو أول كتاب صدر عن أبي مسلم إلى نصر و ذلك حين لبس السواد و أعلن بالدعوة في شهر رمضان من سنة تسع و عشرين و مائة أما بعد فإن الله جل ثناؤه ذكر أقواما فقال وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا. فلما ورد الكتاب إلى نصر تعاظمه أمره و كسر له إحدى عينيه و قال إن لهذا الكتاب لأخوات و كتب إلى مروان يستصرخه و إلى يزيد بن هبيرة يستنجده فقعدا عنه حتى أفضى ذلك إلى خروج الأمر عن بني عبد شمس. الرضي الموسوي رحمه الله تعالى
سأمضي للتي لا عيب فيها و إن لم أستفد إلا عناء
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 281و أطلب غاية إن طوحت بي أصابت بي الحمام أو العلاءنماني من أباة الضيم آب أفاض علي تلك الكبرياءو منا كل أغلب مستميت إذا أنت لددته بالذل قاءإذا ما ضيم نمر صفحتيه و قام على براثنه إباءو نأبى أن ينال النصف منا و أن نعطي مقارعنا الاءو لو كان العداء يسوغ فينا لما سمنا الورى إلا العداء
و له
سيقطعك المهند ما تمنى و يعطيك المثقف ما تشاءو ما ينجي من الغمرات إلا طعان أو ضراب أو رماء

(4/237)


و من أهل الإباء الذين كرهوا الدنية و اختاروا عليها المنية عبد الله بن الزبير تفرق عنه لما حاربه الحجاج بمكة و حصره في الحرم عامة أصحابه و خرج كثير منهم إلى الحجاج في الأمان حتى حمزة و خبيب ابناه فدخل عبد الله على أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق و كانت قد كف بصرها و هي عجوز كبيرة فقال لها خذلني الناس حتى ولدي و أهلي و لم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة و القوم يعطونني من الدنيا ما سألت فما رأيك فقالت أنت يا بني أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق و إليه تدعو فامض له فقد قتل أكثر أصحابك فلا تمكن من رقبتك يتلاعب بها غلمان بني أمية و إن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 282نفسك و أهلكت من قتل معك و إن كنت قاتلت على الحق فما وهن أصحابك إلا ضعفت فليس هذا فعل الأحرار و لا أهل الدين و كم خلودك في الدنيا القتل أحسن. فدنا ع الله منها فقبل رأسها و قال هذا و الله رأيي و الله ما ركنت إلى الدنيا و لا أحببت الحياة فيها و ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله تعالى عز و جل أن تستحل محارمه و لكنني أحببت أن أعلم رأيك فقد زدتني بصيرة فانظري يا أماه أني مقتول يومي هذا فلا يشتد جزعك و سلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر و لا عملا بفاحشة و لم يجر في حكم الله و لم يظلم مسلما و لا معاهدا و لا بلغني ظلم عن عامل من عمالي فرضيت به بل أنكرته و لم يكن شي ء عندي آثر من رضا الله. اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي أنت أعلم بي و لكني أقوله تعزة لأمي لتسلو عني فقالت إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني فاخرج لأنظر إلى ما ذا يصير أمرك فقال جزاك الله خيرا يا أمي فلا تدعي الدعاء لي حيا و ميتا قالت لا أدعه أبدا فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل و ذلك النحيب في الظلماء و ذلك الصوم في هواجر مكة و

(4/238)


المدينة و بره بأبيه و بي اللهم إني قد أسلمت لأمرك و رضيت بما قضيت فيه فأثبني عليه ثواب الصابرين. و قد روي في قصة عبد الله مع أمه أسماء رواية أخرى أنه لما دخل عليها و عليه الدرع و المغفر و هي عمياء لا تبصر وقف فسلم ثم دنا فتناول يدها فقبلها قالت هذا وداع فلا تبعد فقال نعم إنما جئت مودعا إني لأرى هذا اليوم آخر أيامي من الدنيا و اعلمي يا أمي أني إذا قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي فقالت صدقت يا بني أقم على بصيرتك و لا تمكن ابن أبي عقيل منك ادن مني لأودعك فدنا منها فقبلته شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 283و عانقته فوجدت مس الدرع فقالت ما هذا صنع من يريد ما تريد فقال إنما لبسته لأشد منك قالت إنه لا يشد مني ثم انصرف عنها و هو يقولإني إذا أعرف يومي أصبر إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
و أقام أهل الشام على كل باب من أبواب الحرم رجالا و قائدا فكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة و لأهل دمشق باب بني شيبة و لأهل الأردن باب الصفا و لأهل فلسطين باب جمع و لأهل قنسرين باب بني سهم و خرج ابن الزبير فمرة يحمل هاهنا و مرة يحمل هاهنا و كأنه أسد لا يقدم عليه الرجال و أرسلت إليه زوجته أ أخرج فأقاتل معك فقال لا و أنشد
كتب القتل و القتال علينا و على المحصنات جر الذيول
فلما كان الليل قام يصلي إلى قريب السحر ثم أغفى محتبيا بحمائل سيفه ثم قام فتوضأ و صلى و قرأ ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ثم قال بعد انقضاء صلاته من كان عني سائلا فإني في الرعيل الأول ثم أنشد
و لست بمبتاع الحياة بسبة و لا مرتق من خشية الموت سلما
ثم حمل حتى بلغ الحجون فرمي بآجرة فأصابت وجهه فدمي فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه أنشد
و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا و لكن على أقدامنا تقطر الدما

(4/239)


ثم حمل على أهل الشام فغاص فيهم و اعتوروه بأسيافهم حتى سقط و جاء الحجاج شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 284فوقف عليه و هو ميت و معه طارق بن عمرو فقال ما ولدت النساء أذكر من هذا و بعث برأسه إلى المدينة فنصب بها ثم حمل إلى عبد الملك. أبو الطيب المتنبيأطاعن خيلا من فوارسها الدهر وحيدا و ما قولي كذا و معي الصبرو أشجع مني كل يوم سلامتي و ما ثبتت إلا و في نفسها أمرتمرست بالآفات حتى تركتها تقول أ مات الموت أم ذعر الذعرو أقدمت إقدام الأبي كأن لي سوى مهجتي أو كان لي عندها وترذر النفس تأخذ حظها قبل بينها فمفترق جاران دارهما العمرو لا تحسبن المجد زقا و قينة فما المجد إلا السيف و الفتكة البكرو تضريب هامات الملوك و أن ترى لك الهبوات السود و العسكر المجرو تركك في الدنيا دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر
و قال ابن حيوس
و لست كمن أخنى عليه زمانه فظل على أحداثه يتعتب تلذ له الشكوى و إن لم يفد بها صلاحا كما يلتذ بالحك أجرب و لكنني أحمي ذماري بعزمة تنوب مناب السيف و السيف مقض شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 285و ليس الفتى من لم تسم جسمه الظبا و يحطم فيه من قنا الخط أكعو له أيضا

(4/240)


أخفق المترف الجنوح إلى الخفض و فاز المخاطر المقدام و إذا ما السيوف لم تشهد الحرب فسيان صارم و كهامو ممن تقبل مذاهب الأسلاف في إباء الضيم و كراهية الذل و اختار القتل على ذلك و أن يموت كريما أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمه أم ولد و كان السبب في خروجه و خلعه طاعة بني مروان أنه كان يخاصم عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ع في صدقات علي ع هذا يخاصم عن بني حسين و هذا عن بني حسن فتنازعا يوما عند خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم أمير المدينة فأغلظ كل واحد منهما لصاحبه فسر خالد بن عبد الملك بذلك و أعجبه سبابهما و قال لهما حين سكنا اغدوا علي فلست بابن عبد الملك إن لم أفصل بينكما غدا فباتت المدينة تغلي كالمرجل فمن قائل يقول قال زيد كذا و قائل يقول قال عبد الله كذا فلما كان الغد جلس خالد في المسجد و جمع الناس فمن بين شامت و مغموم و دعا بهما و هو يحب أن يتشاتما فذهب عبد الله يتكلم فقال زيد لا تعجل يا أبا محمد أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا ثم أقبل على خالد فقال له أجمعت ذرية رسول الله ص لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر و لا عمر فقال خالد أ ما لهذا السفيه أحد يكلمه. فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال يا ابن أبي تراب و يا ابن شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 286حسين السفيه ما ترى عليك لوال حقا و لا طاعة فقال زيد اسكت أيها القحطاني فإنا لا نجيب مثلك فقال الأنصاري و لم ترغب عني فو الله إني لخير منك و أبي خير من أبيك و أمي خير من أمك فتضاحك زيد و قال يا معشر قريش هذا الدين قد ذهب أ فذهبت الأحساب فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال كذبت أيها القحطاني و الله لهو خير منك نفسا و أبا و أما و محتدا و تناوله بكلام كثير و أخذ كفا من الحصى فضرب به الأرض و قال إنه و الله ما لنا على هذا من صبر و قام. فقام زيد أيضا و شخص من فوره إلى هشام

(4/241)


بن عبد الملك فجعل هشام لا يأذن له و زيد يرفع إليه القصص و كلما رفع إليه قصة كتب هشام في أسفلها ارجع إلى أرضك فيقول زيد و الله لا أرجع إلى ابن الحارث أبدا ثم أذن له بعد حبس طويل و هشام في علية له فرقي زيد إليها و قد أمر هشام خادما له أن يتبعه حيث لا يراه زيد و يسمع ما يقول فصعد زيد و كان بادنا فوقف في بعض الدرجة فسمعه الخادم و هو يقول ما أحب الحياة إلا من ذل فأخبر الخادم هشاما بذلك فلما قعد زيد بين يدي هشام و حدثه حلف له على شي ء فقال هشام لا أصدقك فقال زيد إن الله لا يرفع أحدا عن أن يرضى بالله و لم يضع أحدا عن أن يرضى بذلك منه قال له هشا إنه بلغني أنك تذكر الخلافة و تتمناها و لست هناك لأنك ابن أمة فقال زيد إن لك جوابا قال تكلم قال إنه ليس أحد أولى بالله و لا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه و هو إسماعيل بن إبراهيم و هو ابن أمة قد اختاره الله لنبوته و أخرج منه خير البشر فقال هشام فما يصنع أخوك البقرة فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه ثم قال سماه رسول الله ص الباقر و تسميه أنت البقرة لشد ما اختلفتما لتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا فيرد الجنة و ترد النار.

(4/242)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 287فقال هشام خذوا بيد هذا الأحمق المائق فأخرجوه فأخذ الغلمان بيده فأقاموه فقال هشام احملوا هذا الخائن الأهوج إلى عامله فقال زيد و الله لئن حملتني إليه لا أجتمع أنا و أنت حيين و ليموتن الأعجل منا فأخرج زيد و أشخص إلى المدينة و م نفر يسيرونه حتى طردوه عن حدود الشام فلما فارقوه عدل إلى العراق و دخل الكوفة و بايع لنفسه فأعطاه البيعة أكثر أهلها و العامل عليها و على العراق يومئذ يوسف بن عمر الثقفي فكان بينهما من الحرب ما هو مذكور في كتب التواريخ و خذل أهل الكوفة زيدا و تخلف معه ممن تابعه نفر يسير و أبلى بنفسه بلاء حسنا و جهادا عظيما حتى أتاه سهم غرب فأصاب جانب جبهته اليسرى فثبت في دماغه فحين نزع منه مات ع. عنف محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ع زيدا لما خرج و حذره القتل و قال له إن أهل العراق خذلوا أباك عليا و حسنا و حسينا ع و إنك مقتول و إنهم خاذلوك فلم يثن ذلك عزمه و تمثل
بكرت تخوفني الحتوف كأنني أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها إن المنية منهل لا بد أن أسقى بذاك المنهل إن المنية لو تمثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضيق المنزل فاقني حياءك لا أبا لك و اعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أق شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 288العلوي البصري صاحب الزنج يقولو إذا تنازعني أقول لها قري موت الملوك على صعود المنبرما قد قضى سيكون فاصطبري له و لك الأمان من الذي لم يقدر
و قال أيضا
إني و قومي في أنساب قومهم كمسجد الخيف في بحبوحة الخيف ما علق السيف منا بابن عاشرة إلا و عزمته أمضى من السيفبعض الطالبيين
و إنا لتصبح أسيافنا إذا ما انتضين ليوم سفوك منابرهن بطون الأكف و أغمادهن رءوس الملوكبعض الخوارج يصف أصحابه

(4/243)


و هم الأسود لدى العرين بسالة و من الخشوع كأنهم أحباريمضون قد كسروا الجفون إلى الدعا متبسمين و فيهم استبشارفكأنما أعداؤهم أحبابهم فرحا إذا خطر القنا الخطاريردون حومات الحمام و إنها تالله عند نفوسهم لصغارو لقد مضوا و أنا الحبيب إليهم و هم لدي أحبة أبرارقدر يخلفني و يمضيهم به يا لهف كيف يفوتني المقدار
و في الحديث المرفوع خلقان يحبهما الله الشجاعة و السخاء
كان بشر بن المعتمر من قدماء شيوخنا رحمه الله تعالى يقول بتفضيل علي ع شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 289و يقول كان أشجعهم و أسخاهم و منه سرى القول بالتفضيل إلى أصحابنا البغداديين قاطبة و في كثير من البصريين. دخل النضر بن راشد العبدي على امرأته في حرب الترك بخران في ولاية الجنيد بن عبد الرحمن المري في خلافة هشام بن عبد الملك و الناس يقتتلون فقال لها كيف تكونين إذا أتيت بي في لبد قتيلا مضرجا بالدماء فشقت جيبها و دعت بالويل فقال حسبك لو أعولت علي كل أنثى لعصيتها شوقا إلى الجنة ثم خرج فقاتل حتى قتل و حمل إلى امرأته في لبد و دمه يقطر من خلاله. قال أبو الطيب المتنبي
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم يرى الجبناء إن الجبن حزم و تلك خديعة الطبع اللئيم و كل شجاعة في المرء تغني و لا مثل الشجاعة في الحكو قال
إذا لم تجد ما يبتر العمر قاعدا فقم و اطلب الشي ء الذي يبتر العمراو قال

(4/244)


أهم بشي ء و الليالي كأنها تطاردني عن كونه و أطاردوحيدا من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 290قيل لأبي مسلم في أيام صباه نراك تنظر إلى السماء كثيرا كأنك تسترق السمع أو تنتظر نزول الوحي قال لا و لكن لي همة عالية و نفس تتطلع إلى معالي الأمور مع عيش كعيش الهمج و الرعاع و حال متناهية في الاتضاع قيل فما الذي يشفي علتك و يي غلتك قال الملك قيل فاطلب الملك قال إن الملك لا يطلب هكذا قيل فما تصنع و أنت تذوب حسرا و تموت كمدا قال سأجعل بعض عقلي جهلا و أطلب به ما لا يطلب إلا بالجهل و أحرس بالباقي ما لا يحرس إلا بالعقل فأعيش بين تدبير ضدين فإن الخمول أخو العدم و الشهرة أخت الكون. قال ابن حيوس
أمواتهم بالذكر كالأحياء و لحيهم فضل على الأحياءنزلوا على حكم المروءة و امتطوا بالبأس ظهر العزة القعساءو العز لا يبقى لغير معود أن يكشف الغماء بالغماءلا تحسب الضراء ضراء إذا أفضت بصاحبها إلى السراء
و قال

(4/245)


و هي الرئاسة لا تبوح بسرها إلا لأروع لا يباح ذماره يحمي حماه قلبه و لسانه و تذود عنه يمينه و يساره لا العذل ناهيه و لا الحرص الذي أمر النفوس بشحها أماره فليعلم الساعي ليبلغ ذا المدى أن الطريق كثيرة أخطا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 291كان ثابت قطنة في خيل عبد الله بن بسطام في فتح شكند من بلاد الترك في أيام هشام بن عبد الملك فاشتدت شوكة الترك و انحاز كثير من المسلمين و استؤسر منهم خلق فقال ثابت و الله لا ينظر إلي بنو أمية غدا مشدودا في الحديد أطلب الفداء اهم إني كنت ضيف ابن بسطام البارحة فاجعلني ضيفك الليلة ثم حمل و حمل معه جماعة فكسرتهم الترك فرجع أصحابه و ثبت هو فرمي برذونه فشب و ضربه فأقدم فصرع ثابت و ارتث فقال اللهم إنك استجبت دعوتي و أنا الآن ضيفك فاجعل قراي الجنة فنزل تركي فأجهز عليه. قال يزيد بن المهلب لابنه خالد و قد أمره على جيش في حرب جرجان يا بني إن غلبت على الحياة فلا تغلبن علي الموت و إياك أن أراك غدا عندي مهزوما.
عن النبي ص الخير في السيف و الخير مع السيف و الخير بالسيف

(4/246)


كما يقال المنية و لا الدنية و النار و لا العار و السيف و لا الحيف. قال سيف بن ذي يزن حين أعانه بوهرز الديلمي و من معه لأنوشروان أيها الملك أين تقع ثلاثة آلاف من خمسين ألفا فقال يا أعرابي كثير الحطب يكفيه قليل النار. لما حبس مروان بن محمد إبراهيم الإمام خرج أبو العباس السفاح و أخوه أبو جعفر و عبد الوهاب و محمد ابنا إبراهيم الإمام و عيسى و صالح و إسماعيل و عبد الله و عبد الصمد أبناء علي بن عبد الله بن العباس و عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس و يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس من الحميمة من أرض السراة يطلبون الكوفة و قد كان داود بن علي بن عبد الله بن العباس و ابنه موسى بن داود بالعراق فخرجا يطلبان الشام فتلقاهما أبو العباس و أهل بيته بدومة الجندل فسألهم داود عن شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 292خروجهم فأخبروه أنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها و يدعوا ى البيعة لأبي العباس فقال يا أبا العباس يظهر أمرك الآن بالكوفة و مروان بن محمد شيخ بني أمية بحران مطل على العراق في جيوش أهل الشام و الجزيرة و يزيد بن عمر بن هبيرة شيخ العرب بالعراق في فرسان العرب فقال يا عم من أحب الحياة ذل ثم تمثل بقول الأعشى
فما ميتة إن متها غير عاجز بعار إذا ما غالت النفس غولها
فقال داود لابنه موسى صدق ابن عمك ارجع بنا معه فإما أن نهلك أو نموت كراما. و كان عيسى بن موسى يقول بعد ذلك إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة إن ثلاثة عشر رجلا خرجوا من ديارهم و أهليهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة هممهم كبيرة نفوسهم شديدة قلوبهم. أبو الطيب المتنبي
و إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
و له

(4/247)


إلى أي حين أنت في زي محرم و حتى متى في شقوة و إلى كم و إلا تمت تحت السيوف مكرماتمت و تقاسى الذل غير مكرم فثب واثقا بالله وثبة ماجديرى الموت في الهيجا جنى النحل في ال شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 293و قال آخرإن تقتلوني فآجال الرجال كما حدثت قتل و ما بالقتل من عارو إن سلمت لوقت بعده فعسى و كل شي ء إلى حد و مقدارخطب الحجاج فشكا سوء ضاعة أهل العراق فقام إليه جامع المحاربي فقال أيها الأمير دع ما يباعدهم منك إلى ما يقربهم إليك و التمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك فلو أحبوك لأطاعوك إنهم ما شنئوك بنسبك و لا لبأوك و لكن لإيقاعك بعد وعيدك و وعيدك بعد وعدك. فقال الحجاج ما أراني أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف فقال جامع أيها الأمير إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار فقال الحجاج الخيار يومئذ لله فقال أجل و لكنك لا تدري لمن يجعله الله فقال يا هناه إيها فإنك من محارب فقال جامع
و للحرب سمينا فكنا محاربا إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا

(4/248)


و من الشعر الجيد في تحسين الإباء و الحمية و التحريض على النهوض و الحرب و طلب الملك و الرئاسة قصيدة عمارة اليمني شاعر المصريين في فخر الدين تورانشاه بن أيوب التي يغريه فيها بالنهوض إلى اليمن و الاستيلاء على ملكها و صادفت هذه القصيدة محلا قابلا و ملك تورانشاه اليمن بما هزت هذه القصيدة من عطفه و حركت من عزمه و أولها شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 29العلم مذ كان محتاج إلى العلم و شفرة السيف تستغني عن القلم و خير خيلك إن غامرت في شرف عزم يفرق بين الساق و القدم إن المعالي عروس غير واصلة ما لم تخلق رادءيها بنضح دم ترى مسامع فخر الدين تسمع ما أملاه خاطر أفكاري على قلمي فإن أصبت فلي حظ المصيب و إن أخطأدك فاعذرني و لا تلم كم تترك البيض في الأجفان ظامئة إلى الموارد في الأعناق و القمم و مقلة المجد نحو العزم شاخصة فاترك قعودك عن إدراكها و قم فعمك الملك المنصور سومها من الفرات إلى مصر بلا سأم و اخلق لنفسك أمرا لا تضاف به إلى سواك و أور النار في العلم و لمشيرين إن لجت نصيحتهم أو لا فأنعم على العميان بالصمم و اعزم و صمم فقد طالت و قد سمجت قضية لفظتها ألسن الأمم فرب أمر يهاب الناس غايته و الأمر أهون فيه من يد لفم فكيف إن نهضت فيما هممت به أسد تسير من الخطى في أجم لا يدرك المجد إلا كل مقتحم في موج ملتطم وج مضطرم لا ينقض الخطوة الأولى بثانية و لا يفكر في العقبى من الندم كأنما السيف أفتاه بقتلهم في فتح مكة حل القتل في الحرم و لم يراعوا لعثمان و لا عمر و لا الحسين ذمام الأشهر الحرم فما تروم سوى فتح صوارمه يضحكن في كل يوم عابس البهم حتى كأن لسان السيف فييروي الشريعة عن عاد و عن إرم

(4/249)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 295هذا ابن تومرت قد كانت بدايته فيما يقول الورى لحما على وضم و قد ترقى إلى أن صار طالعة من الكواكب بالأنفاس و الكظم و كان أول هذا الدين من رجل سعى إلى أن دعوه سيد الكذب لم يظهر الدين الحنيف المقدس على الأديان بسعي البشر بل بالتأييد الإلهي و السر الرباني صلوات الله و سلامه على القائم به و المتحمل له
و البدر يبدو هلالا ثم يكشف بالأنوار ما سترته شملة الظلم و الغيث فهو كما قد قيل أوله قطر و بدء خراب السد بالعرم تنمو قوى الشي ء بالتدريج إن رزقت لطفا و يقوى شرار النار بالضرم حاسب ضميرك عن رأي أتاك و قل نصيحة وردت من غير متهم أقسمت ما أنت ممن جل همته م من نعم أو رق من نعم و إنما أنت مرجو لواحدة بنى بها الدهر مجدا غير منهدم كأنني بالليالي و هي هاتفة قد صم سمع رجال دونها و عمي و بالعلى كلما لاقتك قائلة أهلا بمنشر آمالي من الرو من أباة الضيم الذين اختاروا القتل على الأسر و الموت على الدنية مصعب بن الزبير كان أمير العراقين من قبل عبد الله بن الزبير و كان قد كسر جيوش عبد الملك مرارا و أعياه أمره فخرج إليه من الشام بنفسه فليم في ذلك و قيل له إنك تغرر بنفسك و خلافتك فقال إنه لا يقوم لحرب مصعب غيري هذا أمر يحتاج إلى أن يقوم به شجاع ذو رأي و ربما بعثت شجاعا و لا رأي له أو ذا رأي و لا شجاعة عنده و أنا بصير بالحرب شجاع بالسيف فلما أجمع على الخروج إلى حرب مصعب جاءته شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 296امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية فالتزمته بكت لفراقه و بكى جواريها حولها فقال عبد الملك قاتل الله ابن أبي جمعة كأنه شاهد هذه الصورة حيث يقول
إذا هم بالأعداء لم يثن عزمه حصان عليها نظم در يزينهانهته فلما لم تر النهي عاقه بكت فبكى مما عراها قطينها

(4/250)


فسار عبد الملك حتى إذا كان بمسكن من أرض العراق و قد دنا منه عسكر مصعب تقاعد بمصعب أصحابه و قواده و خذلوه فقال لابنه عيسى الحق بمكة فانج بنفسك و أخبر عمك عبد الله بما صنع أهل العراق بي و دعني فإني مقتول فقال لا تتحدث نساء قريش أني فررت عنك و لكن أقاتل دونك حتى نقتل فالفرار عار و لا عار في القتل ثم قاتل دونه حتى قتل و خف من يحامي عن مصعب من أهل العراق و أيقن بالقتل فأنفذ عبد الملك إليه أخاه محمد بن مروان فأعطاه الأمان و ولاية العراقين أبدا ما دام حيا و ألفي ألف درهم صلة فأبى و قال إن مثلي لا ينصرف عن هذا المكان إلا غالبا أو مقتولا فشد عليه أهل الشام و رموه بالنبل فأثخنوه و طعنه زائدة بن قيس بن قدامة السعدي و نادى يا لثارات المختار فوقع إلى الأرض فنزل إليه عبد الملك بن زياد بن ظبيان فاحتز رأسه و حمله إلى عبد الملك. لما حمل رأس مصعب إلى عبد الملك بكى و قال لقد كان أحب الناس إلي و أشدهم مودة لي و لكن الملك عقيم. كتب مصعب إلى سكينة بنت الحسين ع و كانت زوجته لما شخص إلى حرب عبد الملك و هي بالكوفة بعد ليال من فراقها
و كان عزيزا إن أبيت و بيننا حجاب فقد أصبحت مني على عشر

(4/251)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 297و أبكاهما و الله للعين فاعلمي إذا ازددت مثليها فصرت على شهرو أنكى لقلبي منهما اليوم أنني أخاف بألا نلتقي آخر الدهثم أرسل إليها و أشخصها فشهدت معه حرب عبد الملك فدخل عليها يوم قتل و قد نزع ثيابه ثم لبس غلالة و توشح بثوب واحد و هو محتضن سيفه فعلمت أنه غير راجع فصاحت وا حزناه عليك يا مصعب فالتفت إليها و قال إن كل هذا في قلبك قالت و ما أخفي أكثر قال لو كنت أعلم هذا لكان لي و لك شأن ثم خرج فلم يرجع. فقال عبد الملك يوما لجلسائه من أشجع الناس فقالوا قطري شبيب فلان و فلان قال عبد الملك بل رجل جمع بين سكينة بنت الحسين و عائشة بنت طلحة و أمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز و قلابة ابنة زبان بن أنيف الكلبي سيد العرب و ولي العراقين خمس سنين فأصاب كذا و كذا ألف درهم و أعطي الأمان على ذلك كله و على ولايته و ماله فأبى و مشى بسيفه إلى الموت حتى قتل ذاك مصعب بن الزبير لا من قطع الجسور مرة هاهنا و مرة هاهنا. سئل سالم بن عبد الله بن عمر أي ابني الزبير أشجع فقال كلاهما جاءه الموت و هو ينظر إليه. لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك أنشد
لقد أردى الفوارس يوم حسي غلاما غير مناع المتاع و لا فرح بخير إن أتاه و لا هلع من الحدثان لاع و لا وقافة و الخيل تردي و لا خال كأنبوب اليرا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 298كان ابن ظبيان يقول ما ندمت على شي ء ندمي على ألا أكون لما حملت إلى عبد الملك رأس مصعب فسجد قتلته في سجدته فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد. قال رجل لعبد الله بن ظبيان بما ذا تحتج عند الله عز و جل غدا و قد قتلت مصعبا قال تركت أحتج كنت أخطب من صعصعة بن صوحان. كان مصعب لما خرج إلى حرب عبد الملك سأل عن الحسين بن علي ع و كيف كان قتله فجعل عروة بن المغيرة يحدث عن ذلك فقال متمثلا بقول سليمان بن قتة
و إن الألى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التأسيا

(4/252)


قال عروة فعلمت أن مصعبا لا يفر. لما كان يوم السبخة و عسكر الحجاج بإزاء شبيب قال له الناس أيها الأمير لو تنحيت عن هذه السبخة فإنها منتنة الريح قال ما تنحونني و الله إليه أنتن و هل ترك مصعب لكريم مفرا ثم أنشد قول الكلحبة
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا
و روى أبو الفرج في كتاب الأغاني خطبة عبد الله بن الزبير في قتل مصعب برواية هي أتم مما ذكرناه نحن فيما تقدم قال لما أتي خبر المصعب إلى مكة أضرب عبد الله بن الزبير عن ذكره أياما حتى تحدث به جميع أهل مكة في الطريق ثم صعد المنبر فجلس عليه مليا لا يتكلم فنظر الناس إليه و إن الكآبة على وجهه لبادية و إن شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 299جبينه ليرشح عرفا فقال واحد لآخر ما له لا يتكلم أ تراه يهاب النطق فو الله إنه لخطيب فما تراه يهاب قال أراه يريد أن يذكر قتل المصعب سيد العرب فهو يقطع بذلك فابتدأ فقال الحمد لله الذي لهلخلق و الأمر ملك الدنيا و الآخرة يعز من يشاء و يذل من يشاء إلا أنه لا يذل من كان الحق معه و إن كان مفردا ضعيفا و لا يعز من كان الباطل معه و إن كان ذا عدد و كثرة ثم قال أتانا خبر من العراق بلد الغدر و الشقاق فساءنا و سرنا أتانا أن مصعبا قتل رحمه الله فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة و لوعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم يرعوي ذو الرأي و الدين إلى جميل الصبر و أما الذي سرنا منه فإن قتله كان له شهادة و إن الله جاعل لنا و له في ذلك الخيرة ألا إن أهل العراق باعوه بأقل الأثمان و أخسرها و أسلموه إسلام النعم المخطمة فقتل و إن قتل لقد قتل أبوه و عمه و أخوه و كانوا الخيار الصالحين و إنا و الله ما نموت حتف آنافنا ما نموت إلا قتلا قتلا و قعصا قعصا بين قصد الرماح و تحت ظلال السيوف ليس كما تموت بنو مروان و الله ما قتل منهم رجل في جاهلية و لا إسلام و إنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه

(4/253)


و لا يبيد ملكه فإن تقبل الدنيا علي لا آخذها أخذ اللئيم البطر و إن تدبر عني لا أبكي عليها بكاء الخرف المهتر ثم نزل. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 300و قال الطرماح بن حكيم و كان يرى رأي الخوارجو إني لمقتاد جوادي فقاذف به و بنفسي اليوم إحدى المتالف لأكسب مالا أو أءوب إلى غنى من الله يكفيني عداة الخلائف فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف و لكن قبري بطن نسر مقيله بجو السماء في نسور عواكف و أمسي شهيدا ثاويا في عصابة يصابون ف من الأرض خائف فوارس أشتات يؤلف بينهم هدى الله نزالون عند المواقفقال ابن شبرمة مررت يوما في بعض شوارع الكوفة فإذا بنعش حوله رجال و عليه مطرف خز أخضر فسألت عنه فقيل الطرماح فعلمت أن الله تعالى لم يستجب له. و قال محمد بن هانئ
و لم أجد الإنسان إلا ابن سعيه فمن كان أسعى كان بالمجد أجدراو بالهمة العلياء ترقي إلى العلا فمن كان أعلى همه كان أظهراو لم يتأخر من أراد تقدما و لم يتقدم من أراد تأخرا
الرضي الموسوي رحمه الله تعالى
و من أخرته نفسه مات عاجزا و من قدمته نفسه مات سيدا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 301و له رحمه اللهما مقامي على الهوان و عندي مقول صارم و أنف حمي و إباء محلق بي عن الضيم كما زاغ طائر وحشيأبو الطيب المتنبي
تقولين ما في الناس مثلك عاشق جدي مثل من أحببته تجدي مثلي محب كنى بالبيض عن مرهفاته و بالحسن في أجسامهن عن الصقل و بالسمر عن سمر القنا غير أنني جناها أحبائي و أطرافها رسلي عدمت فؤادا لم يبت فيه فضلة لغير ثنايا الغر و الحدق النجل تريدين إدراك المعالي رخي لا بد دون الشهد من أبر النحل
ابن الهبارية الهمم العلية و المهج الأبية تقرب المنية منك أو الأمنية. أبو تمام

(4/254)


فتى النكبات من يأوي إذا ما قطفن به إلى خلق و ساع يثير عجاجة في كل فج يهيم بها عدي بن الرقاع يخوض مع السباع الماء حتى لتحسبه السباع من السبا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 302فلب العزم إن حاولت يوما بأن تستطيع غير المستطاع فلم تركب كناجية المهاري و لم تركب همومك كالزمو له أيضا
إن خيرا مما رأيت من الصفح عن النائبات و الإغماض غربة تقتدي بغربة قيس بن زهير و الحارث بن مضاض غرضي نكبتين ما فتلا رأيا فخافا عليه نكث انتقاض من أبن البيوت أصبح في ثوب من العيش ليس بالفضفاض صلتان أعداؤه حيث حلوا في حديث من ذكره مستفاض و الفتى من تعرقتهالي و الفيافي كالحية النضناض كل يوم له بصرف الليالي فتكة مثل فتكة البراضو له أيضا
إن تريني ترى حساما صقيلا مشرفيا من السيوف الحدادثاني الليل ثالث البيد و السير نديم النجوم ترب السهاد
أخذ هذا اللفظ أبو عبادة البحتري فقال
يا نديمي بالسواجير من شمس بن عمرو و بحتر بن عتود
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 303اطلبا ثالثا سواي فإني رابع العيس و الدجى و البيدلست بالعاجز الضعيف و لا القائل يوما إن الغنى بالجدودو إذا استصعبت مقادة أمر سهلته أيدي المهاري القوو قال الرضي رحمه الله تعالى

(4/255)


و لم أر كالرجاء اليوم شيئا تذل له الجماجم و الرقاب و بعض العدم مأثرة و فخر و بعض المال منقصة و عاب بناني و العنان إذا نبت بي ربا أرض و رجلي و الركاب و قد عرفت توقلي الليالي كما عرفت توقلي العقاب لأمنع جانبا و أفيد عزا و عز الموت ما عز الجناب إذا هول دلا تهبه فلم يبق الذين أبوا و هابواكليب عافصته يد و أودى عتيبة يوم أقعصه ذؤاب سواء من أقل الترب منا و من وارى معالمه التراب و إن مزايل العيش اعتباطا مساو للذين بقوا و شابواو أولنا العناء إذا طلعنا إلى الدنيا و آخرنا الذهاب إلى كم ذا التردد في الأماني و كلوي بناظري السراب و لا نقع يثار و لا قتام و لا طعن يشب و لا ضراب شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 304و لا خيل معقدة النواصي يموج على شكائمها اللعاب عليها كل ملتهب الحواشي يصيب من العدو و لا يصاب سأخطبها بحد السيف فعلا إذا لم يغن قول أو خطاب و آخذها و إن رغمت أنوف مغالبة و إن ذلت قعد سليمان بن عبد الملك يعرض و يفرض فأقبل فتى من بني عبس وسيم فأعجبه فقال ما اسمك قال سليمان قال ابن من قال ابن عبد الملك فأعرض عنه و جعل يفرض لمن دونه فعلم الفتى أنه كره موافقة اسمه و اسم أبيه فقال يا أمير المؤمنين لا عدمت اسمك و لا شقي اسم يوافق اسمك فافرض فإنما أنا سيف بيدك إن ضربت به قطعت و إن أمرتني أطعت و سهم في كنانتك أشتد إن أرسلت و أنفذ حيث وجهت فقال له سليمان و هو يروزه و يختبره ما قولك يا فتى لو لقيت عدوا قال أقول حسبي الله و نعم الوكيل قال سليمان أ كنت مكتفيا بهذا لو لقيت عدوك دون ضرب شديد قال الفتى إنما سألتني يا أمير المؤمنين ما أنت قائل فأخبرتك و لو سألتني ما أنت فاعل لأنبأتك أنه لو كان ذلك لضربت بالسيف حتى يتعقف و لطعنت بالرمح حتى يتقصف و لعلمت إن ألمت فإنهم يألمون و لرجوت من الله ما لا يرجون فأعجب سليمان به و ألحقه في العطاء بالأشراف و تمثل

(4/256)


إذا ما اتقى الله الفتى ثم لم يكن على أهله كلا فقد كمل الفتى
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 305السر تحت قوله ثم لم يكن على أهله كلا يقال في المثل لا تكن كلا على أهلك فتهلك. عدي بن زيدفهل من خالد إما هلكنا و هل بالموت يا للناس عار
الرضي الموسوي رحمه الله تعالى
إذا لم يكن إلا الحمام فإنني سأكرم نفسي عن مقال اللوائم و ألبسها حمراء تضفو ذيولها من الدم بعدا عن لباس الملاوم فمن قبل ما اختار ابن الأشعث عيشه على شرف عال رفيع الدعائم فطار ذميما قد تقلد عارها بشر جناح يوم دير الجماجم و جاءهم يجرى البريد برأسه و لم يغغال به في الهزائم و قد حاص من خوف الردى كل حيصة فلم ينج و الأفدار ضربة لازم و هذا يزيد بن المهلب نافرت به الذل أعراق الجدود الأكارم فقال و قد عن الفرار أو الردى لحا الله أخزى ذكرة في المواسم و ما غمرات الموت إلا انغماسة و لا ذي المنايا غير تهويم ن شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 306رأى أن هذا السيف أهون محملا من العار يبقى وسمه في المخاطم و ما قلد البيض المباتير عنقه سوى الخوف من تقليدها بالأداهم فعاف الدنايا و امتطى الموت شامخا بمارن عز لا يذل لخاطم و قد حلقت خوف الهوان بمصعب قوادم آباء كرام المقا حين أعطوه الأمان فعافه و خير فاختار الردى غير نادم و في خدره غراء من آل طلحة علاقة قلب للنديم المخالم تحبب أيام الحياة و إنها لأعذب من طعم الخلود لطاعم ففارقها و الملك لما رآهما يجران إذلال النفوس الكرائم و لما ألاح الحوفزان من الردى حذاه المخازي رمح بن عاصم و غادرها شنعاء إن ذكرت له من العار طأطأ رأس خزيان واجم كذاك مني بعد الفرار أمية بشقشقة لوثاء من آل دارم و سل لها سل الحسام ابن معمر فكر على أعقاب ناب بصارم يردد ذكري كل نجد و غائر و ألجم خوفي كل باع و ظالم و هددني الأعداء في المهد لم يحن نهوضي تقطع عقود تمائمي و عندي يوم لو يزيد و مسلم بدا لهما لاستصغرا يوم واقم على العز مت لا ميتة

(4/257)


مستكينة تزيل عن الدنيا بشم المراغم و خاطر على الجلى خطار ابن حرة و إن زاحم الأمر العظيم فزا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 307و من أباة الضيم و مؤثري الموت على الحياة الذليلة محمد و إبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع لما أحاطت عساكر عيسى بن موسى بمحمد و هو بالمدينة قيل له أنج بنفسك فإن لك خيلا مضمرة و نجائب سابقة فاقعد علي و التحق بمكة أو باليمن قال إني إذا لعبد و خرج إلى الحرب يباشرها بنفسه و بمواليه فلما أمسى تلك الليلة و أيقن بالقتل أشير عليه بالاستتار فقال إذن يستعرض عيسى أهل المدينة بالسيف فيكون لهم يوم كيوم الحرة لا و الله لا أحفظ نفسي بهلاك أهل المدينة بل أجعل دمي دون دمائهم فبذل له عيسى الأمان على نفسه و أهله و أمواله فأبى و نهد إلى الناس بسيفه لا يقاربه أحد إلا قتله لا و الله ما يبقي شيئا و إن أشبه خلق الله به فيما ذكر هو حمزة بن عبد المطلب و رمي بالسهام و دهمته الخيل فوقف إلى ناحية جدار و تحاماه الناس فوجد الموت فتحامل على سيفه فكسره فالزيدية تزعم أنه كان سيف رسول الله ص ذا الفقار. و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب مقال الطالبيين أن محمدا ع قال لأخته ذلك اليوم إني في هذا اليوم على قتال هؤلاء فإن زالت الشمس و أمطرت السماء فإني مقتول و إن زالت الشمس و لم تمطر السماء و هبت الريح فإني أظفر بالقوم فأججي التنانير و هيئي هذه الكتب يعني كتب البيعة الواردة عليه من الآفاق فإن زالت الشمس و مطرت السماء فاطرحي هذه الكتب في التنانير فإن قدرتم على بدني شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 308فخذوه و إن لم تقدروا على رأسي فخذوا سائر بدني فأت به ظلة بني بلية على مقدار أربعة أذرع أو خمسة منها فاحفروا لي حفيرة و ادفنوني فيها فمطرت السماء وقت الزوال و قتل محمد ع و كان عندهم مشهورا أن آية قتل النفس الزكية أن يسيل دم بالمدينة حتى يدخل بيت عاتكة فكانوا يعجبون كيف يسيل الدم

(4/258)


حتى يدخل ذلك البيت فأمطرت السماء ذلك اليوم و سال الدم بالمطر حتى دخل بيت عاتكة و أخذ جسده فحفر له حفيرة في الموضع الذي حده لهم فوقعوا على صخرة فأخرجوها فإذا فيها مكتوب هذا قبر الحسن بن علي بن أبي طالب ع فقالت زينب أخت محمد ع رحم الله أخي كان أعلم حيث أوصى أن يدفن في هذا الموضع. و روى أبو الفرج قال قدم على المنصور قادم فقال هرب محمد فقال له كذبت إنا أهل البيت لا نفر. و أما إبراهيم ع فروى أبو الفرج عن المفضل بن محمد الضبي قال كان إبراهيم بن عبد الله بن الحسن متواريا عندي بالبصرة و كنت أخرج و أتركه فقال لي إذا خرجت ضاق صدري فأخرج إلي شيئا من كتبك أتفرج به فأخرجت إليه كتبا من الشعر فاختار منها القصائد السبعين التي صدرت بها كتاب المفضليات ثم أتممت عليها باقي الكتاب. فلما خرج خرجت معه فلما صار بالمربد مربد سليمان بن علي وقف عليهم و أمنهم و استسقى ماء فأتي به فشرب فأخرج إليه صبيان من صبيانهم فضمهم إليه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 309و قال هؤلاء و الله منا و نحن منهم لحمنا و دمنا و لكن آباءهم انتزوا على أمرنا و ابتزوا حقوقنا و سفكوا دماءنا ثم تمثلمهلا بني عمنا ظلامتنا إن بنا سورة من الغلق لمثلكم نحمل السيوف و لا تغمز أحسابنا من الرقق إني لأنمي إذا انتميت إلى عز عزيز و معشر صدق بيض سباط كان أعينهم تكحل يوم الهياج بالعفقلت له ما أجود هذه الأبيات و أفحلها فلمن هي فقال هذه يقولها ضرار بن الخطاب الفهري يوم عبر الخندق على رسول الله ص و تمثل بها علي بن أبي طالب يوم صفين و الحسين يوم الطف و زيد بن علي يوم السبخة و يحيى بن زيد يوم الجوزجان فتطيرت له من تمثله بأبيات لم يتمثل بها أحد إلا قتل ثم سرنا إلى باخمرى فلما قرب منها أتاه نعي أخيه محمد فتغير لونه و جرض بريقه ثم أجهش باكيا و قال اللهم إن كنت تعلم أن محمدا خرج يطلب مرضاتك و يؤثر أن تكون كلمتك العليا و أمرك المتبع المطاع فاغفر له و ارحمه و

(4/259)


ارض عنه و اجعل ما نقلته إليه من الآخرة خيرا مما نقلته عنه من الدنيا ثم انفجر باكيا ثم تمثل
أبا المنازل يا خير الفوارس من يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعاالله يعلم إني لو خشيتهم أو آنس القلب من خوف لهم فزعالم يقتلوك و لم أسلم أخي لهم حتى نعيش جميعا أو نموت معا
قال المفضل فجعلت أعزيه و أعاتبه على ما ظهر من جزعه فقال إني و الله في هذا كما قال دريد بن الصمة شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 31يقول ألا تبكي أخاك و قد أرى مكان البكا لكن بنيت على الصبرلمقتل عبد الله و الهالك الذي على الشرف الأعلى قتيل أبي بكرو عبد يغوث تحجل الطير حوله و جل مصابا جثو قبر على قبرفأما ترينا لا تزال دماؤنا لدى واتر يسعى بها آخر الدهرفإنا للحم السيف غير نكيرة و نلحمه طورا و ليس بذي نكريغار علينا واترين فيشتفى بنا إن أصبنا أو نغير على وتربذاك قسمنا الدهر شطرين بيننا فما ينقضي إلا و نحن على شطر
قال المفضل ثم ظهرت لنا جيوش أبي جعفر مثل الجراد فتمثل إبراهيم ع قوله
إن يقتلوني لا تصب أرماحهم ثأري و يسعى القوم سعيا جاهدانبئت أن بني جذيمة أجمعت أمرا تدبره لتقتل خالداأرمي الطريق و إن رصدت بضيقه و أنازل البطل الكمي الحاردا
فقلت له من يقول هذا الشعر يا ابن رسول الله فقال يقوله خالد بن جعفر بن كلاب يوم شعب جبلة و هذا اليوم الذي لقيت فيه قيس تميما قال و أقبلت عساكر أبي جعفر فطعن رجلا و طعنه آخر فقلت له أ تباشر القتال بنفسك و إنما العسكر منوط بك فقال إليك يا أخا بني ضبة فإني لكما قال عويف القوافي
ألمت سعاد و إلمامها أحاديث نفس و أحلامهامحجبة من بني مالك تطاول في المجد أعلامها

(4/260)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 311و إن لنا أصل جرثومة ترد الحوادث أيامهاترد الكتيبة مفلولة بها أفنها و بها ذامهو التحمت الحرب و اشتدت فقال يا مفضل احكني بشي ء فذكرت أبياتا لعويف القوافي لما كان ذكره هو من شعره فأنشدته ألا أيها الناهي فزارة بعد ما أجدت لسير إما أنت ظالم أبى كل حر أن يبيت بوتره و تمنع منه النوم إذ أنت نائم أقول لفتيان كرام تروحوا على الجرد في أفواههن الشكائم قفوا وقفة من يحي لا يخز بعدها و من يخترم لا تتبعه اللوائم و هل أنت إن باعدت نفسك عنهم لتسلم فيعد ذلك سالم
فقال أعد و تبينت من وجهه أنه يستقتل فانتهبت و قلت أو غير ذلك فقال لا بل أعد الأبيات فأعدتها فتمطى في ركابيه فقطعهما و حمل فغاب عني و أتاه سهم عائر فقتله و كان آخر عهدي به ع قلت في هذا الخبر ما يحتاج إلى تفسير أما قوله
إن بنا سورة من الغلق
فالغلق الضجر و ضيق الصدر و الحدة يقال احتد فلان فنشب في حدته و غلق و السورة الوثوب يقال إن لغضبه لسورة و إنه لسوار أي وثاب معربد و سورة الشراب وثوبه في الرأس و كذلك سورة السم و سورة السلطان سطوته و اعتداؤه. و أما قوله لمثلكم نحمل السيوف فمعناه أن غيركم ليس بكف ء لنا لنحمل له السيوف و إنما نحملها لكم لأنكم أكفاؤنا فنحن نحاربكم على الملك و الرئاسة و إن كانت أحسابنا واحدة و هي شريفة لا مغمز فيها. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 312و الرقق بفتح الراء الضعف و منه قول الشاعلم تلق في عظمها وهنا و لا رققا
و قوله
تكحل يوم الهياج بالعلق
فالعلق الدم يريد أن عيونهم حمر لشدة الغيظ و الغضب فكأنها كحلت بالدم. و قوله لكن بنيت على الصبر أي خلقت و بنيت بنية تقتضي الصبر و الشرف لأعلى العالي و بنو أبي بكر بن كلاب من قيس عيلان ثم أحد بني عامر بن صعصعة. و أما قوله
إن يقتلوني لا تصب أرماحهم

(4/261)


فمعناه أنهم إن قتلوني ثم حاولوا أن يصيبوا رجلا آخر مثلي يصلح أن يكون لي نظيرا و أن يجعل دمه بواء لدمي و سعوا في ذلك سعيا جاهدا فإنهم لم يجدوا و لم يقدروا عليه. و قوله أرمي الطريق... البيت يقول أسلك الطريق الضيق و لو جعل علي فيه الرصد لقتلي. و الحارد المنفرد في شجاعته الذي لا مثل له
غلبة معاوية على الماء بصفين ثم غلبة علي عليه بعد ذلك
فأما حديث الماء و غلب أصحاب معاوية على شريعة الفرات بصفين فنحن نذكره من كتاب صفين لنصر بن مزاحم. قال نصر كان أبو الأعور السلمي على مقدمة معاوية و كان قد ناوش مقدمة شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 313علي ع و عليها الأشتر النخعي مناوشة ليست بالعظيمة و قد ذكرنا ذ فيما سبق من هذا الكتاب و انصرف أبو الأعور عن الحرب راجعا فسبق إلى الماء فغلب عليه في الموضع المعروف بقناصرين إلى جانب صفين و ساق الأشتر يتبعه فوجده غالبا على الماء و كان في أربعة آلاف من مستبصري أهل العراق فصدموا أبا الأعور و أزالوه عن الماء فأقبل معاوية في جميع الفيلق بقضه و قضيضه فلما رآهم الأشتر انحاز إلى علي ع و غلب معاوية و أهل الشام على الماء و حالوا بين أهل العراق و بينه و أقبل علي ع في جموعه فطلب موضعا لعسكره و أمر الناس أن يضعوا أثقالهم و هم أكثر من مائة ألف فارس فلما نزلوا تسرع فوارس من فوارس علي ع على خيولهم إلى جهة معاوية يتطاعنون و يرمون بالسهام و معاوية بعد لم ينزل فناوشهم أهل الشام القتال فاقتتلوا هويا. قال نصر فحدثني عمر بن سعد عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباته فكتب معاوية إلى علي ع عافانا الله و إياك
ما أحسن العدل و الإنصاف من عمل و أقبح الطيش ثم النفش في الرجل
و كتب بعده

(4/262)


اربط حمارك لا تنزع سويته إذا يرد و قيد العير مكروب ليست ترى السيد زيدا في نفوسهم كما يراه بنو كوز و مرهوب إن تسألوا الحق نعط الحق سائله و الدرع محقبة و السيف مقروب أو تأنفون فإنا معشر أنف لا نطعم الضيم إن السم مشر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 314فأمر علي ع أن يوزع الناس عن القتال حتى أخذ أهل الشام مصافهم ثم قال أيها الناس إن هذا موقف من نطف فيه نطف يوم القيامة و من فلج فيه فلج يوم القيامة
ثم قال لما رأى نزول معاوية بصفين
لقد أتانا كاشرا عن نابه يهمط الناس على اعتزابه فليأتينا الدهر بما أتى به قال نصر و كتب علي ع إلى معاوية جواب كتابه أما بعد
فإن للحرب عراما شررا إن عليها قائدا عشنزراينصف من أحجر أو تنمرا على نواحيها مزجا زمجراإذا ونين ساعة تغشمرا
. و كتب بعده
أ لم تر قومي إن دعاهم أخوهم أجابوا و إن يغضب على القوم يغضبواهم حفظوا غيبي كما كنت حافظا لقومي أخرى مثلها إن يغيبوابنو الحرب لم تقعد بهم أمهاتهم و آباؤهم آباء صدق فأنجبوا

(4/263)


قال قد تراجع الناس كل من الفريقين إلى معسكرهم و ذهب شباب من الناس إلى أن يستقوا فمنعهم أهل الشام. قلت في هذه الألفاظ ما ينبغي أن يشرح. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 315قوله فاقتتلوا هويا بفتح الهاء أي قطعة من الزمان و ذهب هوي من الليل أي فريق منه. و النفش كة الكلام و الدعاوي و أصله من نفش الصوف. و السوية كساء محشو بثمام و نحوه كالبرذعة و كرب القيد إذا ضيقه على المقيد و قيد مكروب أي ضيق يقول لا تنزع برذعة حمارك عنه و اربطه و قيده و إلا أعيد إليك و قيده ضيق و هذا مثل ضربه لعلي ع يأمره فيه بأن يردع جيشه عن التسرع و العجلة في الحرب. و زيد المذكور في الشعر هو زيد بن حصين بن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان و هو المعروف بزيد الخيل و كان فارسهم و بنو السيد من ضبة أيضا و هم بنو السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة... إلى آخر النسب و بنو السيد بنو عم زيد الفوارس لأنه من بني ذهل بن مالك و هؤلاء بنو السيد بن مالك و بينهم عداوة النسب يقول إن بني السيد لا يرون زيدا في نفوسهم كما تراه أهله الأدنون منه نسبا و هم بنو كوز و بنو مرهوب فأما بنو كوز فإنهم بنو كوز بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك و أما بنو مرهوب فإنهم بنو مرهوب بن عبيد بن هاجر بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك يقول نحن لا نعظم زيدا و لا نعتقد فيه من الفضيلة ما يعتقده أهله و بنو عمه الأدنون و المثل لعلي ع أي نحن لا نرى في علي ما يراه أهل العراق من تعظيمه و تبجيله. و قوله
و الدرع محقبة و السيف مقروب

(4/264)


أي و الدرع بحالها في حقابها و هو ما يشد به في غلافها و السيف بحاله أي في قرابه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 316و هو جفنه يقال حقبت الدرع و قربت السيف كلاهما ثلاثيان يقول إن سألتم الحق أعطيناكموه من غير حاجة إلى الحرب بل نجيبكم إليه و الدروع بحالها لم تلبس ولسيوف في أجفانها لم تشهر. و أما إثبات النون في تأنفون فإن الأصوب حذفها لعطف الكلمة على المجزوم قبلها و لكنه استأنف و لم يعطف كأنه قال أ و كنتم تأنفون يقول و إن أنفتم و أبيتم إلا الحرب فإنا نأنف مثلكم أيضا لا نطعم الضيم و لا نقبله ثم قال إن السم مشروب أي إن السم قد نشربه و لا نشرب الضيم أي نختار الموت على الضيم و الذلة و يروى
و إن أنفتم فإنا معشر أنف لا نطعم الضيم إن الضيم مرهوب
و الشعر لعبد الله بن عنمة الضبي من بني السيد و من جملته

(4/265)


و قد أروح أمام الحي يقدمني صافي الأديم كميت اللون منسوب محنب مثل شاة الربل محتفز بالقصريين على أولاه مصبوب يبذ ملجمه هاد له تلع كأنه من جذوع العين مشذوب فذاك ذخري إذا ما خيلهم ركضت إلى المثوب أو مقاء سرحفأما قوله ع هذا موقف من نطف فيه نطف يوم القيامة أي من تلطخ شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 317فيه بعيب من فرار أو نكول عن العدو يقال نطف فلان بالكسر إذا تدنس بعيب و نطف أيضا إذا فسد يقول من فسدت حاله اليوم في هذا الجهاد فسدت حاله غدا عند الله. قوله من فلج فيه تح اللام أي من ظهر و فاز و كذلك يكون غدا عند الله يقال فلج زيد على خصمه بالفتح يفلج بضم اللام أي ظهرت حجته عليه و في المثل من يأت الحكم وحده يفلج. قوله يهمط الناس أي يقهرهم و يخبطهم و أصله الأخذ بغير تقدير. و قوله على اعتزابه أي على بعده عن الإمارة و الولاية على الناس و العرام بالضم الشراسة و الهوج و العشنزر الشديد القوي. و أحجر ظلم الناس حتى ألجأهم إلى أن دخلوا حجرهم أو بيوتهم و تنمر أي تنكر حتى صار كالنمر يقول هذا القائد الشديد القوي ينصف من يظلم الناس و يتنكر لهم أي ينصف منه فحذف حرف الجر كقوله وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه و المزج بكسر الميم السريع النفوذ و أصله الرمح القصير كالمزراق. و رجل زمجر أي مانع حوزته و الميم زائدة و من رواها زمخرا بالخاء عنى به المرتفع العالي الشأن و جعل الميم زائدة أيضا من زخر الوادي أي علا و ارتفع. و غشمر السيل أقبل و الغشمرة إثبات الأمر بغير تثبيت يقول إذا أبطأن ساقهن سوقا عنيفا. و الأبيات البائية لربيعة بن مقروم الطائي. قال نصر حدثنا عمر بن سعد عن يوسف بن يزيد عن عبد الله بن عوف بن شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 318الأحمر قال لما قدمنا على معاوية و أهل الشام بصفين وجدناهمد نزلوا منزلا اختاروه مستويا بساطا واسعا و أخذوا الشريعة فهي في أيديهم و قد صف عليها أبو الأعور الخيل و الرجالة و قدم

(4/266)


الرامية و معهم أصحاب الرماح و الدرق و على رءوسهم البيض و قد أجمعوا أن يمنعونا الماء ففزعنا إلى أمير المؤمنين ع فأخبرناه بذلك فدعا صعصعة بن صوحان
فقال ائت معاوية و قل له إنا سرنا إليك مسيرنا هذا و أنا كره لقتالكم قبل الإعذار إليكم و إنك قدمت خيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك و بدأتنا بالحرب و نحن ممن رأينا الكف حتى ندعوك و نحتج عليك و هذه أخرى قد فعلتموها قد حلتم بين الناس و بين الماء فخل بينهم و بينه حتى ننظر فيما بيننا و بينكم و فيما قدمنا له و قدمتم له و إن كان أحب إليك أن ندع ما جئنا له و ندع الناس يقتتلون حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا

(4/267)


فلما مضى صعصعة برسالته إلى معاوية قال معاوية لأصحابه ما ترون فقال الوليد بن عقبة أمنعهم الماء كما منعوه ابن عفان حصروه أربعين يوما يمنعونه برد الماء و لين الطعام أقتلهم عطشا قتلهم الله. و قال عمرو بن العاص خل بين القوم و بين الماء فإنهم لن يعطشوا و أنت ريان و لكن لغير الماء فانظر فيما بينك و بينهم. فأعاد الوليد مقالته. و قال عبد الله بن سعيد بن أبي سرح و كان أخا عثمان من الرضاعة أمنعهم الماء إلى الليل فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا و كان رجوعهم هزيمتهم أمنعهم الماء منعهم شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 319الله ي القيامة فقال صعصعة بن صوحان إنما يمنعه الله يوم القيامة الفجرة الكفرة شربة الخمر ضربك و ضرب هذا الفاسق يعني الوليد بن عقبة. فتواثبوا إليه يشتمونه و يتهددونه فقال معاوية كفوا عن الرجل فإنما هو رسول. قال عبد الله بن عوف بن أحمر إن صعصعة لما رجع إلينا حدثنا بما قال معاوية و ما كان منه و ما رده عليه قلنا و ما الذي رده عليك معاوية قال لما أردت الانصراف من عنده قلت ما ترد علي قال سيأتيكم رأيي قال فو الله ما راعنا إلا تسوية الرجال و الصفوف و الخيل فأرسل إلى أبي الأعور امنعهم الماء فازدلفنا و الله إليهم فارتمينا و أطعنا بالرماح و اضطربنا بالسيوف فطال ذلك بيننا و بينهم حتى صار الماء في أيدينا فقلنا لا و الله لا نسقيهم
فأرسل إلينا علي ع أن خذوا من الماء حاجتكم و ارجعوا إلى معسكركم و خلوا بينهم و بين الماء فإن الله قد نصركم عليهم بظلمهم و بغيهم
و روى نصر بن محمد بن عبد الله قال قام ذلك اليوم رجل من أهل الشام من السكون يعرف بالشليل بن عمر إلى معاوية فقال

(4/268)


اسمع اليوم ما يقول الشليل إن قولي قول له تأويل امنع الماء من صحاب علي أن يذوقوه فالذليل ذليل و اقتل القوم مثل ما قتل الشيخ صدى فالقصاص أمر جميل إننا و الذي تساق له البدن هدايا كأنهن الفيول لو علي و صحبه وردوا الماء لما ذقتموه حتى تقو شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 320قد رضينا بأمركم و علينا بعد ذاك الرضا جلاد ثقيل فامنع القوم ماءكم ليس للقوم بقاء و إن يكن فقلفقال معاوية أما أنت فندري ما تقول و هو الرأي و لكن عمرا لا يدري فقال عمرو خل بينهم و بين الماء فإن عليا لم يكن ليظمأ و أنت ريان و في يده أعنة الخيل و هو ينظر إلى الفرات حتى يشرب أو يموت و أنت تعلم أنه الشجاع المطرق و معه أهل العراق و أهل الحجاز
و قد سمعته أنا مرارا و هو يقول لو استمكنت من أربعين رجلا يعني في الأمر الأول
و روى نصر قال لما غلب أهل الشام على الفرات فرحوا بالغلبة و قال معاوية يا أهل الشام هذا و الله أول الظفر لا سقاني الله و لا أبا سفيان أن شربوا منه أبدا حتى يقتلوا بأجمعهم عليه و تباشر أهل الشام فقام إلى معاوية رجل من أهل الشام همداني ناسك يتأله و يكثر العبادة يعرف بمعري بن أقبل و كان صديقا لعمرو بن العاص و أخا له فقال يا معاوية سبحان الله لأن سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم عليه تمنعوهم الماء أما و الله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه أ ليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات فينزلوا على فرضة أخرى و يجازوكم بما صنعتم أ ما تعلمون أن فيهم العبد و الأمة و الأجير و الضعيف و من لا ذنب له هذا و الله أول الجور لقد شجعت الجبان و نصرت المرتاب و حملت من لا يريد قتالك على كتفيك فأغلظ له معاوية و قال لعمرو اكفني صديقك فأتاه عمرو فأغلظ له فقال الهمداني في ذلك شعرا
لعمر أبي معاوية بن حرب و عمرو ما لدائمها دواء

(4/269)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 321سوى طعن يحار العقل فيه و ضرب حين تختلط الدماءو لست بتابع دين ابن هند طوال الدهر ما أرسى حراءلقد ذهب العتاب فلا عتاب و قد ذهب الولاء فلا ولاءو قولي في حوادث كل خطب على عمرو و صاحبه العفاءألا لله درك يا ابن هند لقد برح الخفاء ا خفاءأ تحمون الفرات على رجال و في أيديهم الأسل الظماءو في الأعناق أسياف حداد كأن القوم عندهم نساءأ ترجو أن يجاوركم علي بلا ماء و للأحزاب ماءدعاهم دعوة فأجاب قوم كجرب الإبل خالطها الهناء
قال ثم سار الهمداني في سواد الليل حتى لحق بعلي ع. قال و مكث أصحاب علي ع بغير ماء و اغتم علي ع بما فيه أهل العراق. قال نصر و حدثنا محمد بن عبد الله عن الجرجاني قال لما اغتم علي بما فيه أهل العراق من العطش خرج ليلا قبل رايات مذحج فإذا رجل ينشد شعرا
أ يمنعنا القوم ماء الفرات و فينا الرماح و فينا الحجف و فينا الشوازب مثل الوشيج و فينا السيوف و فينا الزغف شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 322و فينا علي له سورة إذا خوفوه الردى لم يخف و نحن الذين غداة الزبير و طلحة خضنا غمار التلف فما بالنا أمس أسد العرين و ما بالنا اليوم شاء النجف فما للعراق و ما للحجاز سوى الشام خصم فصكوا الهدف و ثوروا عليهم كبزل الجمال دوينل و فوق القطف فإما تفوزوا بماء الفرات و منا و منهم عليه جيف و إما تموتوا على طاعة تحل الجنان و تحبو الشرف و إلا فأنتم عبيد العصا و عبد العصا مستذل نقال فحرك ذلك عليا ع ثم مضى إلى رايات كندة فإذا إنسان ينشد إلى جانب منزل الأشعث و هو يقول

(4/270)


لئن لم يجل الأشعث اليوم كربة من الموت فيها للنفوس تعنت فنشرب من ماء الفرات بسيفه فهبنا أناسا قبل ذاك فموتوافإن أنت لم تجمع لنا اليوم أمرنا و تنض التي فيها عليك المذلة شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 323فمن ذا الذي تثني الخناصر باسمه سواك و من هذا إليه التلفت و هل من بقاء بعد يوم و ليلة نظل خفوتا و العدو يصوت هلموا إلى ماء الفرات و دونه صدور العوالي و الصفيح المشتت و أنت امرؤ من عصبة يمنية و كل امرئ من سنخه حين قال فلما سمع الأشعث قول الرجل قام فأتى عليا ع فقال يا أمير المؤمنين أ يمنعنا القوم ماء الفرات و أنت فينا و السيوف في أيدينا خل عنا و عن القوم فو الله لا نرجع حتى نرده أو نموت و مر الأشتر فليعل بخيله و يقف حيث تأمره فقال علي ع ذلك إليكم. فرجع الأشعث فنادى في الناس من كان يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا فإني ناهض فأتاه اثنا عشر ألفا من كندة و أفناء قحطان واضعي سيوفهم على عواتقهم فشد عليه سلاحه و نهض بهم حتى كاد يخالط أهل الشام و جعل يلقي رمحه و يقول لأصحابه بأبي و أمي أنتم تقدموا إليهم قاب رمحي هذا فلم يزل ذلك دأبه حتى خالط القوم و حسر عن رأسه و نادى أنا الأشعث بن قيس خلوا عن الماء فنادى أبو الأعور أما و الله حتى لا تأخذنا و إياكم السيوف فقال الأشعث شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 324قد و الله أظنها دنت منا و منكم و كان الأشتر قد تعالى بخيله حيث أمره علي فبعثليه الأشعث أقحم الخيل فأقحمها حتى وضعت سنابكها في الفرات و أخذت أهل الشام السيوف فولوا مدبرين. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر و زيد بن الحسن قال فنادى الأشعث عمرو بن العاص فقال ويحك يا ابن العاص خل بيننا و بين الماء فو الله لئن لم تفعل لتأخذنا و إياكم السيوف فقال عمرو و الله لا نخلي عنه حتى تأخذنا السيوف و إياكم فيعلم ربنا أينا أصبر اليوم فترجل الأشعث و الأشتر و ذوو البصائر من أصحاب علي ع و ترجل معهما

(4/271)


اثنا عشر ألفا فحملوا على عمرو و أبي الأعور و من معهما من أهل الشام فأزالوهم عن الماء حتى غمست خيل علي ع سنابكها في الماء.
قال نصر فروى عمر بن سعد أن عليا ع قال ذلك اليوم هذا يوم نصرتم فيه بالحمية
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال سمعت تميما الناجي يقول سمعت الأشعث يقول حال عمرو بن العاص بيننا و بين الفرات فقلت له ويحك يا عمرو أما و الله إن كنت لأظن لك رأيا فإذا أنت لا عقل لك أ ترانا نخليك و الماء تربت يداك أ ما علمت أنا معشر عرب ثكلتك أمك و هبلتك لقد رمت أمرا عظيما فقال لي عمرو أما و الله لتعلمن اليوم أنا سنفي بالعهد و نحكم العقد و نلقاكم شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 325بصبر و جد فنادى به الأشتر يا ابن العاص أما و الله لقد نزلنا هذه الفرضة و إنا لنريد القتال على البصائر و الدين و ما قتالنا سائرليوم إلا حمية. ثم كبر الأشتر و كبرنا معه و حملنا فما ثار الغبار حتى انهزم أهل الشام. قالوا فلقي عمرو بن العاص بعد انقضاء صفين الأشعث فقال له يا أخا كندة أما و الله لقد أبصرت صواب قولك يوم الماء و لكن كنت مقهورا على ذلك الرأي فكابرتك بالتهدد و الوعيد و الحرب خدعة. قال نصر و لقد كان من رأي عمرو التخلية بين أهل العراق و الماء و رجع معاوية بأخرة إلى قوله بعد اختلاط القوم في الحرب فإن عمرا فيما روينا أرسل إلى معاوية أن خل بين القوم و بين الماء أ ترى القوم يموتون عطشا و هم ينظرون إلى الماء فأرسل معاوية إلى يزيد بن أسد القسري أن خل بين القوم و بين الماء يا أبا عبد الله فقال يزيد و كان شديد العثمانية كلا و الله لنقتلنهم عطشا كما قتلوا أمير المؤمنين.
قال فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال خطب علي ع يوم الماء فقال أما بعد فإن القوم قد بدءوكم بالظلم و فاتحوكم بالبغي و استقبلوكم بالعدوان و قد استطعموكم القتال حيث منعوكم الماء فأقروا على مذلة و تأخير مهلة

(4/272)


الفصل إلى آخره. قال نصر و كان قد بلغ أهل الشام أن عليا ع جعل للناس إن فتح الشام أن يقسم بينهم التبر و الذهب و هما الأحمران و أن يعطي كلا منهم خمسمائة كما أعطاهم بالبصرة فنادى ذلك اليوم منادي أهل الشام يا أهل العراق لما ذا نزلتم بعجاج شرح نهج البلاغة ج : ص : 326من الأرض نحن أزد شنوءة لا أزد عمان يا أهل العراق
لا خمس إلا جندل الأحرين و الخمس قد تجشمك الأمرين
قال نصر فحدثني عمرو بن شمر عن إسماعيل السدي عن بكر بن تغلب قال حدثني من سمع الأشعث يوم الفرات و قد كان له غناء عظيم من أهل العراق و قتل رجالا من أهل الشام بيده و هو يقول و الله إن كنت لكارها قتال أهل الصلاة و لكن معي من هو أقدم مني في الإسلام و أعلم بالكتاب و السنة فهو الذي يسخي بنفسه. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 327قال نصر و حمل ظبيان بن عمارة التميمي على أهل الشام و هو يقولهل لك يا ظبيان من بقاء في ساكني الأرض بغير ماءلا و إله الأرض و السماء فاضرب وجوه الغدر الأعداءبالسيف عند حمس الهيجاء حتى يجيبوك إلى السواء
قال فضربهم و الله حتى خلوا له الماء. قال نصر و دعا الأشتر بالحارث بن همام النخعي ثم الصهباني فأعطاه لواءه و قال له يا حارث لو لا أني أعلم أنك تصبر عند الموت لأخذت لوائي منك و لم أحبك بكرامتي فقال و الله يا مالك لأسرنك أو لأموتن فاتبعني ثم تقدم باللواء و ارتجز فقال

(4/273)


يا أخا الخيرات يا خير النخع و صاحب النصر إذا عم الفزع و كاشف الخطب إذا الأمر وقع ما أنت في الحرب العوان بالجذع قد جزع القوم و عموا بالجزع و جرعوا الغيظ و غصوا بالجرع إن تسقنا الماء فليست بالبدع أو نعطش اليوم فجند مقتطع ما شئت خذ منها و ما شئت فقال الأشتر ادن مني يا حارث فدنا منه فقبل رأسه فقال لا يتبع رأسه اليوم إلا خير ثم صاح الأشتر في أصحابه فدتكم نفسي شدوا شدة المحرج الراجي للفرج فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها فإذا عضتكم السيوف فليعض الرجل على نواجذه فإنه أشد لشئون الرأس ثم استقبلوا القوم بهامكم. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 328قال و كان الأشتر يومئذ على فرس له محذوف أدهم كأنه حلك الغراب و قتل بيده من أهل الشام من فرسانهم و صناديدهم سبعة صالح بن فيروز العكي و مالك بن أدهم السلماني و رياح بن عتيك الغساني و الأجلح بن منصور الكندي و كان فارس أهللشام و إبراهيم بن وضاح الجمحي و زامل بن عبيد الحزامي و محمد بن روضة الجمحي. قال نصر فأول قتيل قتله الأشتر بيده ذلك اليوم صالح بن فيروز ارتجز على الأشتر و قال له
يا صاحب الطرف الحصان الأدهم أقدم إذا شئت علينا أقدم أنا ابن ذي العز و ذي التكرم سيد عك كل عك فاعلمقال و كان صالح مشهورا بالشدة و البأس فارتجز عليه الأشتر فقال له
أنا ابن خير مذحج مركبا و خيرها نفسا و أما و أباآليت لا أرجع حتى أضربا بسيفي المصقول ضربا معجبا

(4/274)


ثم شد عليه فقتله فخرج إليه مالك بن أدهم السلماني و هو من مشهوريهم أيضا فحمل على الأشتر بالرمح فلما رهقه التوى الأشتر على فرسه و مار السنان فأخطأه ثم استوى على فرسه و شد على الشامي فقتله طعنا بالرمح ثم قتل بعده رياح بن عقيل و إبراهيم بن وضاح ثم برز إليه زامل بن عقيل و كان فارسا فطعن الأشتر في موضع الجوشن فصرعه عن فرسه و لم يصب مقتلا و شد عليه الأشتر بالسيف راجلا فكشف قوائم فرسه و ارتجز عليه فقال شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 32لا بد من قتلي أو من قتلكا قتلت منكم أربعا من قبلكاكلهم كانوا حماة مثلكا
ثم ضربه بالسيف و هما راجلان فقتله ثم خرج إليه محمد بن روضة فقال و هو يضرب في أهل العراق ضربا منكرا
يا ساكني الكوفة يا أهل الفتن يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن أورث قلبي قتله طول الحزن أضربكم و لا أرى أبا حسنفشد عليه الأشتر فقتله و قال
لا يبعد الله سوى عثمانا و أنزل الله بكم هواناو لا يسلى عنكم الأحزانا
ثم برز إليه الأجلح بن منصور الكندي و كان من شجعان العرب و فرسانها و هو على فرس له اسمه لاحق فلما استقبله الأشتر كره لقاءه و استحيا أن يرجع عنه فتضاربا بسيفيهما فسبقه الأشتر بالضربة فقتله فقالت أخته ترثيه
ألا فابكي أخا ثقة فقد و الله أبكينالقتل الماجد القمقام لا مثل له فيناأتانا اليوم مقتله فقد جزت نواصيناكريم ماجد الجدين يشفي من أعاديناشفانا الله من أهل العراق فقد أبادوناأ ما يخشون ربهم و لم يرعوا له دينا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 330قال و بلغ شعرها عليا ع فقال أما إنهن ليس بملكهن ما رأيتم من الجزع أما إنهم قد أضروا بنسائهم فتركوهن أيامى حزانى بائسات قاتل الله معاوية اللهم حمله آثامهم و أوزارا و أثقالا مع أثقاله اللهم لا تعف عنه
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن الحارث بن أدهم و عن صعصعة قال أقبل الأشتر يوم الماء فضرب بسيفه جمهور أهل الشام حتى كشفهم عن الماء و هو يقول

(4/275)


لا تذكروا ما قد مضى وفاة و الله ربي الباعث الأمواتامن بعد ما صاروا كذا رفاتا لأوردن خيلي الفراتاشعث النواصي أو يقال ماتا
قال و كان لواء الأشعث بن قيس مع معاوية بن الحارث فقال له الأشعث لله أبوك ليست النخع بخير من كندة قدم لواءك فإن الحظ لمن سبق فتقدم لواء الأشعث و حملت الرجال بعضها على بعض و حمل في ذلك اليوم أبو الأعور السلمي و حمل الأشتر عليه فلم ينتصف أحدهما من صاحبه و حمل شرحبيل بن السمط على الأشعث فكانا كذلك و حمل حوشب ذو ظليم على الأشعث أيضا و انفصلا و لم ينل أحدهما من صاحبه أمرا فما زالوا كذلك حتى انكشف أهل الشام عن الماء و ملك أهل العراق المشرعة. قال نصر فحدثنا محمد بن عبد الله عن الجرجاني قال قال عمرو بن العاص لمعاوية لما ملك أهل العراق الماء ما ظنك يا معاوية بالقوم إن منعوك اليوم الماء كما منعتهم شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 331أمس أ تراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه ما أغنى عنك أن تكشف لهم السوأة فقال معاوية دع عنك ما مضى فما ظنك بعلي قال ظني أنه لا يستحل منك ما استحل منه و أن الذي جاء له غير الماء قال فقال له معاوية قولا أغضبه فقال عمرو
أمرتك أمرا فسخفته و خالفني ابن أبي سرحةو أغمضت في الرأي إغماضة و لم تر في الحرب كالفسحةفكيف رأيت كباش العراق أ لم ينطحوا جمعنا نطحةفإن ينطحونا غدا مثلها نكن كالزبيري أو طلحةأظن لها اليوم ما بعدها و ميعاد ما بيننا صبحه و إن أخروها لما بعدها فقد قدموا الخبطو النفحةو قد شرب القوم ماء الفرات و قلدك الأشتر الفضحة
قال نصر فقال أصحاب علي ع له امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك فقال لا خلوا بينهم و بينه لا أفعل ما فعله الجاهلون سنعرض عليهم كتاب الله و ندعوهم إلى الهدى فإن أجابوا و إلا ففي حد السيف ما يغني إن شاء الله

(4/276)


قال فو الله ما أمسى الناس حتى رأوا سقاتهم و سقاة أهل الشام و رواياهم و روايا أهل الشام يزدحمون على الماء ما يؤذي إنسان إنسانا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 52332- و من خطبة له عو قد تقدم مختارها برواية و نذكر ما نذكره هنا برواية أخرى لتغاير الروايتين
أَلَا وَ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَ آذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ وَ تَنَكَّرَ مَعْرُوفُهَا وَ أَدْبَرَتْ حَذَّاءَ فَهِيَ تَحْفِزُ بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا وَ تَحْدُو بِالْمَوْتِ جِيرَانَهَا وَ قَدْ أَمَرَّ فِيهَا مَا كَانَ حُلْواً وَ كَدِرَ مِنْهَا مَا كَانَ صَفْواً فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الْإِدَاوَةِ أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ الْمَقْلَةِ لَوْ تَمَزَّزَهَا الصَّدْيَانُ لَمْ يَنْقَعْ فَأَزْمِعُوا عَبِادَ اللَّهِ الرَّحِيلَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْمَقْدُورِ عَلَى أَهْلِهَا الزَّوَالُ وَ لَا يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا الْأَمَلُ وَ لَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ فِيهَا الْأَمَدُ فَوَاللَّهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ وَ دَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ وَ جَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِي الرُّهْبَانِ وَ خَرَجْتُمْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ الْتِمَاسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَةٍ عِنْدَهُ أَوْ غُفْرَانِ سَيِّئَةٍ أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ وَ حَفِظَتْهَا رُسُلُهُ لَكَانَ قَلِيلًا فِيمَا أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوَابِهِ وَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَ بِاللَّهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُكُمُ انْمِيَاثاً وَ سَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَيْهِ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ دَماً ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا مَا الدُّنْيَا بَاقِيَةٌ مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ وَ لَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُمْ أَنْعُمَهُ عَلَيْكُمُ الْعِظَامَ وَ هُدَاهُ إِيَّاكُمْ

(4/277)


لِلْإِيمَانِ
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 333تصرمت انقطعت و فنيت و آذنت بانقضاء أعلمت بذلك آذنته بكذا أي أعلمته و تنكر معروفها جهل منها ما كان معروفا. و الحذاء السريعة الذهاب و رحم حذاء مقطوعة غير موصولة و من رواه جذاء بالجيم أراد منقطعة الدر و الخير. و تحفر بالفناء سكها تعجلهم و تسوقهم و أمر الشي ء صار مرا و كدر الماء بكسر الدال و يجوز كدر بضمها و المصدر من الأول كدرا و من الثاني كدورة. و السملة بفتح الميم البقية من الماء تبقى في الإناء و المقلة بفتح الميم و تسكين القاف حصاة القسم التي تلقى في الماء ليعرف قدر ما يسقى ل واحد منهم و ذلك عند قلة الماء في المفاوز قال
قذفوا سيدهم في ورطة قذفك المقلة وسط المعترك
و التمزز تمصص الشراب قليلا قليلا و الصديان العطشان. و لم ينقع لم يرو و هذا يمكن أن يكون لازما و يمكن أن يكون متعديا تقول نقع الرجل بالماء أي روي و شفى غليله ينقع و نقع الماء الصدى ينقع أي سكنه. فأزمعوا الرحيل أي اعزموا عليه يقال أزمعت الأمر و لا يجوز أزمعت على الأمر و أجازه الفراء. قوله المقدور على أهلها الزوال أي المكتوب قال
و اعلم بأن ذا الجلال قد قدر في الصحف الأولى الذي كان سطر

(4/278)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 334أي كتب و الوله العجال النوق الوالهة الفاقدة أولادها الواحدة عجول و الوله ذهاب العقل و فقد التمييز و هديل الحمام صوت نوحه و الجؤار صوت مرتفع و المتبتل المنقطع عن الدنيا و انماث القلب أي ذاب. و قوله و لو لم تبقوا شيئا من جهدكمعتراض في الكلام. و أنعمه منصوب لأنه مفعول جزت. و في هذا الكلام تلويح و إشارة إلى مذهب البغداديين من أصحابنا في أن الثواب على فعل الطاعة غير واجب لأنه شكر النعمة فلا يقتضي وجوب ثواب آخر و هو قوله ع لو انماثت قلوبكم انمياثا... إلى آخر الفصل. و أصحابنا البصريون لا يذهبون إلى ذلك بل يقولون إن الثواب واجب على الحكيم سبحانه لأنه قد كلفنا ما يشق علينا و تكليف المشاق كإنزال المشاق فكما اقتضت الآلام و المشاق النازلة بنا من جهته سبحانه أعواضا مستحقه عليه تعالى عن إنزالها بنا كذلك تقتضي التكليفات الشاقة ثوابا مستحقا عليه تعالى عن إلزامه إيانا بها قالوا فأما ما سلف من نعمه علينا فهو تفضل منه تعالى و لا يجوز في الحكمة أن يتفضل الحكيم على غيره بأمر من الأمور ثم يلزمه أفعالا شاقة و يجعلها بإزاء ذلك التفضل إلا إذا كان في تلك الأمور منافع عائدة على ذلك الحكيم فكان ما سلف من المنافع جاريا مجرى الأجرة كمن يدفع درهما إلى إنسان ليخيط له ثوبا و البارئ تعالى منزه عن المنافع و نعمه علينا منزهة أن تجري مجرى الأجرة على تكليفنا المشاق. و أيضا فقد يتساوى اثنان من الناس في النعم المنعم بها عليهما و يختلفان في التكاليف شرح نهج البلاغة ج 3 ص : 335فلو كان التكليف لأجل ما مضى من النعم لوجب أن يقدر بحسبها فإن قيل فعلى ما ذا يحمل كلام أمير المؤمنين ع و فيه إشارة إلى مذهب البغداديين. قيل إنه ع لم يصرح بمذهب البغداديين و لكنه قال لو عبدتموه بأقصى ما ينتهي الجهد إليه و ما وفيتم بشكر أنعمه و هذا حق غير مختلف فيه لأن نعم البارئ تعالى لا تقوم العباد بشكرها و إن

(4/279)


بالغوا في عبادته و الخضوع له و الإخلاص في طاعته و لا يقتضي صدق هذه القضية و صحتها صحة مذهب البغداديين في أن الثواب على الله تعالى غير واجب لأن التكليف إنما كان باعتبار أنه شكر النعمة السالفة
ما قيل من الأشعار في ذم الدنيا
فأما ما قاله الناس في ذم الدنيا و غرورها و حوادثها و خطوبها و تنكرها لأهلها و الشكوى منها و العتاب لها و الموعظة بها و تصرمها و تقلبها فكثير من ذلك قول بعضهم
هي الدنيا تقول بمل ء فيها حذار حذار من بطشي و فتكي فلا يغرركم حسن ابتسامي فقولي مضحك و الفعل مبو قال آخر
تنح عن الدنيا و لا تطلبنها و لا تخطبن قتالة من تناكح فليس يفي مرجوها بمخوفها و مكروهها إما تأملت راجح لقد قال فيها القائلون فأكثروا و عندي لها وصف لعمرك صالح سلاف قصاراها ذعاف و مركب شهي إذا استلذذته فهو جامح و شخص جميل يعجب الناس حسنه و لكن له أفعال سوء قبائح شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 33و قال أبو الطيب
أبدا تسترد ما تهب الدنيا فيا ليت جودها كان بخلا
و هي معشوقه على الغدر لا تحفظ عهدا و لا تتم وصلا
كل دمع يسيل منها عليها و بفك اليدين عنها تخلى
شيم الغانيات فيها و لا أدري لذا أنث اسمها الناس أم لا

و قال آخر
إنما الدنيا عوار و العواري مسترده
شدة بعد رخاء و رخاء بعد شده

و قال محمد بن هانئ المغربي
و ما الناس إلا ظاعن فمودع و ثاو قريح الجفن يبكي لراحل
فما الدهر إلا كالزمان الذي مضى و لا نحن إلا كالقرون الأوائل
نساق من الدنيا إلى غير دائم و نبكي من الدنيا على غير طائل
فما عاجل نرجوه إلا كآجل و لا آجل نخشاه إلا كعاجل

و قال ابن المظفر المغربي
دنياك دار غرور و نعمة مستعاره
و دار أكل و شرب و مكسب و تجاره
و رأس مالك نفس فخف عليها الخساره

شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 33و لا تبعها بأكل و طيب عرف و شاره
فإن ملك سليمان لا يفي بشراره

و قال أبو العتاهية

(4/280)


ألا إنما التقوى هي البر و الكرم و حبك للدنيا هو الفقر و العدم
و ليس على عبد تقي غضاضة إذا صحح التقوى و إن حاك أو حجم

و قال أيضا
تعلقت بآمال طوال أي آمال
و أقبلت على الدنيا ملحا أي إقبال
أيا هذا تجهز لفراق الأهل و المال
فلا بد من الموت على حال من الحال

و قال أيضا
سكن يبقى له سكن ما بهذا يؤذن الزمن
نحن في دار يخبرنا ببلاها ناطق لسن
دار سوء لم يدم فرح لامرئ فيها و لا حزن
في سبيل الله أنفسنا كلنا بالموت مرتهن
كل نفس عند موتتها حظها من مالها الكفن
إن مال المرء ليس له منه إلا ذكره الحسن

شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 33و قال أيضا
ألا إننا كلنا بائد و أي بني آدم خالد
و بدؤهم كان من ربهم و كل إلى ربه عائد
فوا عجبا كيف يعصي الإله أم كيف يجحده الجاحد
و في كل شي ء له آية تدل على أنه الواحد
و قال الرضي الموسوي
يا آمن الأيام بادر صرفها و اعلم بأن الطالبين حثاث
خذ من ثرائك ما استطعت فإنما شركاؤك الأيام و الوراث
لم يقض حق المال إلا معشر نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا
تحثو على عيب الغني يد الغنى و الفقر عن عيب الفتى بحاث
المال مال المرء ما بلغت به الشهوات أو دفعت به الأحداث
ما كان منه فاضلا عن قوته فليعلمن بأنه ميراث
ما لي إلى الدنيا الدنية حاجة فليجن ساحر كيدها النفاث
طلقتها ألفا لأحسم داءها و طلاق من عزم الطلاق ثلاث
و ثباتها مرهوبة و عداتها مكذوبة و حبالها أنكاث
أم المصائب لا تزال تروعنا منها ذكور حوادث و إناث
إني لأعجب للذين تمسكوا بحبائل الدنيا و هن رثاث
كنزوا الكنوز و اعقلوا شهواتهم فالأرض تشبع و البطون غراث
أ تراهم لم يعلموا أن التقى أزوادنا و ديارنا الأجداث

شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 33و قال آخر
هذه الدنيا إذا صرفت وجهها لم تنفع الحيل
و إذا ما أقبلت لعم بصرته كيف يفتعل
و إذا ما أدبرت لذكي غاب عنه السهل و الجبل
فهي كالدولاب دائرة ترتقي طورا و تستفل

(4/281)


في زمان صار ثعلبة أسدا و استذاب الحمل
فالذنابى فيه ناصية و النواصي خشع ذلل
فاصبري يا نفس و احتملي إن نفس الحر تحتمل

و قال أبو الطيب
نعد المشرفية و العوالي و تقتلنا المنون بلا قتال
و نرتبط السوابق مقربات و ما ينجين من خبب الليالي
و من لم يعشق الدنيا قديما و لكن لا سبيل إلى الوصال
نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال
رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال
و هان فما أبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي
يدفن بعضنا بعضا و يمشي أواخرنا على هام الأوالي
و كم عين مقبلة النواحي كحيل في الجنادل و الرمال

شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 34و مغض كان لا يغضي لخطب و بال كان يفكر في الهزال

و قال أبو العتاهية في أرجوزته المشهورة في ذم الدنيا و فيها أنواع مختلفة من
الحكمة
ما زالت الدنيا لنا دار أذى ممزوجة الصفو بألوان القذى
الخير و الشر بها أزواج لذا نتاج و لذا نتاج
من لك بالمحض و ليس محض يخبث بعض و يطيب بعض
لكل إنسان طبيعتان خير و شر و هما ضدان
و الخير و الشر إذا ما عدا بينهما بون بعيد جدا
إنك لو تستنشق الشحيحا وجدته أنتن شي ء ريحاحسبك مما تبتغيه القوت ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيما جاوز الكفافا من اتقى الله رجا و خافا
هي المقادير فلمني أو فذر إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
لكل ما يؤذي و إن قل ألم ما أطول الليل على من لم ينم
ما انتفع المرء بمثل عقله و خير ذخر المرء حسن فعله
إن الفساد ضده الصلاح و رب جد جره المزاح
من جعل النمام عينا هلكا مبلغك الشر كباغيه لكا
إن الشباب و الفراغ و الجده مفسدة للمرء أي مفسده
يغنيك عن كل قبيح تركه قد يوهن الرأي الأصيل شكه
ما عيش من آفته بقاه نغص عيشا ناعما فناه

شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 34يا رب من أسخطنا بجهده قد سرنا الله بغير حمده
ما تطلع الشمس و لا تغيب إلا لأمر شأنه عجيب

(4/282)


لكل شي ء قدر و جوهر و أوسط و أصغر و أكبرو كل شي ء لاحق بجوهره أصغره متصل بأكبرهمن لك بالمحض و كل ممتزج وساوس في الصدر منك تعتلج
عجبت و استغرقني السكوت حتى كأني حائر مبهوت
إذا قضى الله فكيف أصنع و الصمت إن ضاق الكلام أوسع

و قال أيضا
كل على الدنيا له حرص و الحادثات لنا بها قرص
و كان من واروه في جدث لم يبد منه لناظر شخص
يهوى من الدنيا زيادتها و زيادة الدنيا هي النقص
ليد المنية في تلطفها عن ذخر كل نفيسة فحص

و قال أيضا
أبلغ الدهر في مواعظه بل زاد فيهن لي من الإبلاغ
أي عيش يكون أطيب من عيش كفاف قوت بقدر البلاغ
غصبتني الأيام أهلي و مالي و شبابي و صحتي و فراغي
صاحب البغي ليس يسلم منه و على نفسه بغي كل باغ
رب ذي نعمة تعرض منها حائل بينه و بين المساغ

شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 34و قال ابن المعتز
حمدا لربي و ذما للزمان فما أقل في هذه الدنيا مسراتي
كفت يدي أملى عن كل مطلب و أغلقت بابها من دون حاجاتي

و له أيضا
أ لست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا فذما له لكن للخالق الشكرا
لقد حبب الموت البقاء الذي أرى فيا حبذا مني لمن سكن القبرا
و سبحان ربي راضيا بقضائه و كان اتقائي الشر يغري بي الشرا

و له
قل لدنياك قد تمكنت مني فافعلي ما أردت أن تفعلي بي
و اخرقي كيف شئت خرق جهول إن عندي لك اصطبار لبيب

و قال أبو العلاء المعري
و الدهر إبرام و نقض و تفريق و جمع و نهار و ليل
لو قال لي صاحبه سمه ما جزت عن ناجية أو بديل

و قال آخر
و الدهر لا يبقى على حالة لا بد أن يدبر أو يقبلا

و قال أبو الطيب
ما لي و للدنيا طلابي نجومها و مسعاي منها في شدوق الأراقم

شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 34و قال آخر
لعمرك ما الأيام إلا معارة فما اسطعت من معروفها فتزود

و قال آخر
لعمرك ما الأيام إلا كما ترى رزية مال أو فراق حبيب

الوزير المهلبي
أ لا موت يباع فأشتريه فهذا العيش ما لا خير فيه

(4/283)


أ لا رحم المهيمن نفس حر تصدق بالممات على أخيه

و له
أشكو إلى الله أحداثا من الزمن يبرينني مثل بري القدح بالسفن
لم يبق بالعيش لي إلا مرارته إذا تذوقته و الحلو منه فني
لا تحسبن نعما سرتك صحبتها إلا مفاتيح أبواب من الحزن

عبيد الله بن عبد الله بن طاهر
ألا أيها الدهر الذي قد مللته سألتك إلا ما سللت حياتي
فقد و جلال الله حببت جاهدا إلي على كره الممات مماتي

و له
أ لم تر أن الدهر يهدم ما بنى و يسلب ما أعطى و يفسد ما أسدى
فمن سره ألا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا

البحتري
كان الليالي أغريت حادثاتها بحب الذي نأبى و بغض الذي نهوى

شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 34و من عرف الأيام لم ير خفضها نعيما و لم يعدد مضرتها بلوى

أبو بكر الخوارزمي
ما أثقل الدهر على من ركبه حدثني عنه لسان التجربه
لا تشكر الدهر لخير سببه فإنه لم يتعمد بالهبه
و إنما أخطأ فيك مذهبه كالسيل قد يسقي مكانا أخربه
و السم يستشفي به من شربه

و قال آخر
يسعى الفتى في صلاح العيش مجتهدا و الدهر ما عاش في إفساده ساعى

آخر
يغر الفتى مر الليالي سليمة و هن به عما قليل عواثر

آخر
إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا

آخر
قل لمن أنكر حالا منكره و رأى من دهره ما حيره
ليس بالمنكر ما أنكرته كل من عاش رأى ما لم يره

ابن الرومي
سكن الزمان و تحت سكنته دفع من الحركات و البطش

شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 34كالأفعوان تراه منبطحا بالأرض ثم يثور للنهش

أبو الطيب
أنا لفي زمن ترك القبيح به من أكثر الناس إحسان و إجمال
ذكر الفتى عمره الثاني و حاجته ما قاته و فضول العيش أشغال

و قال آخر
جار الزمان علينا في تصرفه و أي حر عليه الدهر لم يجر
عندي من الدهر ما لو أن أيسره يلقى على الفلك الدوار لم يدر

آخر
هذا الزمان الذي كنا نحاذره فيما يحدث كعب و ابن مسعود

(4/284)


إن دام هذا و لم تعقب له غير لم يبك ميت و لم يفرح بمولود

آخر
يا زمانا ألبس الأحرار ذلا و مهانه
لست عندي بزمان إنما أنت زمانه
أ جنون ما نراه منك يبدو أم مجانه

الرضي الموسوي
تأبى الليالي أن تديما بؤسا لخلق أو نعيما
و المرء بالإقبال يبلغ وادعا خطرا جسيما
فإذا انقضى إقباله رجع الشفيع له خصيما

شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 34و هو الزمان إذا نبا سلب الذي أعطى قديما
كالريح ترجع عاصفا من بعد ما بدأت نسيما

أبو عثمان الخالدي
ألفت من حادثات الدهر أكبرها فما أعادي على أحداثها الصغر
تزيدني قسوة الأيام طيب نثا كأنني المسك بين الفهر و الحجر

السري الرفاء
تنكد هذا الدهر فيما يرومه على أنه فيما نحاذره ندب
فسير الذي نرجوه سير مقيد و سير الذي نخشى غوائله وثب

ابن الرومي
ألا إن في الدنيا عجائب جمة و أعجبها ألا يشيب وليدها
إذا ذل في الدنيا الأعزاء و اكتست أذلتها عزا و ساد مسودها
هناك فلا جادت سماء بصوبها و لا أمرعت أرض و لا اخضر عودها
أرى الناس مخسوفا بهم غير أنهم على الأرض لم يقلب عليهم صعيدها
و ما الخسف أن يلفى أسافل بلدة أعاليها بل أن يسود عبيدها

السري الرفاء
لنا من الدهر خصم لا نطالبه فما على الدهر لو كفت نوائبه
يرتد عنه جريحا من يسالمه فكيف يسلم منه من يحاربه
و لو أمنت الذي تجنى أراقمه علي هان الذي تجنى عقاربه

شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 34أبو فراس بن حمدان
تصفحت أحوال الزمان و لم يكن إلى غير شاك للزمان وصول
أ كل خليل هكذا غير منصف و كل زمان بالكرام بخيل

ابن الرومي
رأيت الدهر يرفع كل وغد و يخفض كل ذي شيم شريفه
كمثل البحر يغرق فيه حي و لا ينفك تطفو فيه جيفه
أو الميزان يخفض كل واف و يرفع كل ذي زنة خفيفه

ابن نباتة
و أصغر عيب في زمانك أنه به العلم جهل و العفاف فسوق
و كيف يسر الحر فيه بمطلب و ما فيه شي ء بالسرور حقيق
أبو العتاهية

(4/285)


لتجذبني يد الدنيا بقوتها إلى المنايا و إن نازعتها رسني
لله دنيا أناس دائبين لها قد ارتعوا في غياض الغي و الفتن
كسائمات رواع تبتغي سمنا و حتفها لو درت في ذلك السمن

و له أيضا
أنساك محياك المماتا فطلبت في الدنيا الثباتا

شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 34و قال يزيد بن مفرغ الحميري
لا ذعرت السوام في فلق الصبح مغيرا و لا دعيت يزيدا
يوم أعطى من المخافة ضيما و المنايا يرصدنني أن أحيدا

و قال آخر
لا تحسبيني يا أمامة عاجزا دنسا ثيابه
إني إذا خفت الهوان مشيع ذلل ركابه

مثله قول عنترة
ذلل ركابي حيث شئت مشايعي لبي و أحفزه برأي مبرم

و قال آخر
أ خشية الموت در دركم أعطيتم القوم فوق ما سألوا
إنا لعمر الإله نأبى الذي قالوا و لما تقصف الأسل
نقبل ضيما و نحن نعرفه ما دام منا بظهرها رجل

و قال آخر
و رب يوم حبست النفس مكرهة فيه لأكبت أعداء أحاشيها
آبى و آنف من أشياء آخذها رث القوى و ضعيف القوم يعطيها

مثله للشداخ
أبينا فلا نعطي مليكا ظلامة و لا سوقة إلا الوشيج المقوما شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 34تروم الخلد في دار التفاني و كم قد رام قبلك ما تروم لأمر ما تصرمت الليالي و أمر ما تقلبت النجوم تنام و لم تنم عنك المنايا تنبه للمنية يا نئوم إلى ديان يوم الدين نمضي و عند الله تجتمع الخصومحسبنا الله وحده و صلواته على خيرته من خلقه سيدنا محمد و آله الطاهرين
تم الجزء الثالث و يليه الجزء الرابع و أوله في ذكر يوم النحر و صفة الأضحية

(4/286)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 3الجزء الرابع
تتمة الخطب و الأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل الحكيم و صلى الله على رسوله الكريم
تتمة الخطبة الثانية و الخمسين
وَ مِنْهَا فِي ذِكْرِ يَوْمِ النَّحْرِ وَ صِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ وَ مِنْ تَمَامِ الْأُضْحِيَّةِ اسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا وَ سَلَامَةُ عَيْنِهَا فَإِذَا سَلِمَتِ الْأُذُنُ وَ الْعَيْنُ سَلِمَتِ الْأُضْحِيَّةُ وَ تَمَّتْ وَ لَوْ كَانَتْ عَضْبَاءَ الْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَى الْمَنْسَكِ
قال الرضي رحمه الله و المنسك هاهنا المذبح
الأضحية ما يذبح يوم النحر و ما يجري مجراه أيام التشريق من النعم و استشراف أذنها انتصابها و ارتفاعها أذن شرفاء أي منتصبة. و العضباء المكسورة القرن و التي تجر رجلها إلى المنسك كناية عن العرجاء و يجوز المنسك بفتح السين و كسرها
اختلاف الفقهاء في حكم الأضحية
و اختلف الفقهاء في وجوب الأضحية فقال أبو حنيفة هي واجبة على المقيمين من أهل شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 4الأمصار و يعتبر في وجوبها النصاب و به قال مالك و الثوري إلا أن مالكا لم يعتبر الإقامة. و قال الشافعي الأضحية سنة مؤكدة و به قال أبو يوسف و محمد و أحمد. اختلفوا في العمياء هل تجزئ أم لا فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ و كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل يقتضي ذلك لأنه قال إذا سلمت العين سلمت الأضحية فيقتضي أنه إذا لم تسلم العين لم تسلم الأضحية و معنى انتفاء سلامة الأضحية انتفاء أجزائها. و حكي عن بعض أهل الظاهر أنه قال تجزئ العمياء. و قال محمد بن النعمان المعروف بالمفيد رضي الله تعالى عنه أحد فقهاء الشيعة في كتابه المعروف بالمقنعة
إن الصادق ع سئل عن الرجل يهدي الهدي أو الأضحية و هي سمينة فيصيبها مرض أو تفقأ عينها أو تنكسر فتبلغ يوم النحر و هي حية أ تجزئ عنه فقال نعم

(5/1)


فأما الأذن فقال أحمد لا يجوز التضحية بمقطوعة الأذن و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي ذلك و قال سائر الفقهاء تجزئ إلا أنه مكروه. و أما العضباء فأكثر الفقهاء على أنها تجزئ إلا أنه مكروه و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي ذلك و كذلك الحكم في الجلحاء و هي التي لم يخلق لها قرن و القصماء و هي التي انكسر غلاف قرنها و الشرفاء و هي التي انثقبت أذنها من الكي و الخرقاء و هي التي شقت أذنها طولا. و قال مالك إن كانت العضباء يخرج من قرنها دم لم تجزئ. و قال أحمد و النخعي لا تجوز التضحية بالعضباء. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 5فأما العاء التي كنى عنها بقوله تجر رجلها إلى المنسك فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي أنها تجزئ و قد نقل أصحاب الشافعي عنه في أحد قوليه أن الأضحية إذا كانت مريضة مرضا يسيرا أجزأت. و قال الماوردي من الشافعية في كتابه المعروف بالحاوي إن عجزت عن أن تجر رجلها خلقة أجزأت و إن كان ذلك عن مرض لم تجزئ
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 536- و من كلام له ع في ذكر البيعةفَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الْإِبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا وَ قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا وَ خُلِعَتْ مَثَانِيهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَيَّ وَ قَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الْأَمْرَ بَطْنَهُ وَ ظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلَّا قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ وَ مَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الآْخِرَةِ

(5/2)


تداكوا ازدحموا و الهيم العطاش و يوم وردها يوم شربها الماء و المثاني الحبال جمع مثناة و مثناة بالفتح و الكسر و هو الحبل. و جهاد البغاة واجب على الإمام إذا وجد أنصارا فإذا أخل بذلك أخل بواجب و استحق العقاب. فإن قيل
إنه ع قال لم يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد ص
فكيف يكون تارك الواجب جاحدا لما جاء به النبي ص. قيل إنه في حكم الجاحد لأنه مخالف و عاص لا سيما على مذهبنا في أن تارك الواجب يخلد في النار و إن لم يجحد النبوة شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : بيعة علي و أمر المتخلفين عنها

(5/3)


اختلف الناس في بيعة أمير المؤمنين ع فالذي عليه أكثر الناس و جمهور أرباب السير أن طلحة و الزبير بايعاه طائعين غير مكرهين ثم تغيرت عزائمهما و فسدت نياتهما و غدرا به. و قال الزبيريون منهم عبد الله بن مصعب و الزبير بن بكار و شيعتهم و من وافق قولهم من بني تيم بن مرة أرباب العصبية لطلحة إنهما بايعا مكرهين و إن الزبير كان يقول بايعت و اللج على قفي و اللج سيف الأشتر و قفي لغة هذلية إذا أضافوا المقصور إلى أنفسهم قلبوا الألف ياء و أدغموا إحدى الياءين في الأخرى فيقولون قد وافق ذلك هوي أي هواي و هذه عصي أي عصاي. و ذكر صاحب كتاب الأوائل أن الأشتر جاء إلى علي ع حين قتل عثمان فقال قم فبايع الناس فقد اجتمعوا لك و رغبوا فيك و الله لئن نكلت عنها لتعصرن عليها عينيك مرة رابعة فجاء حتى دخل بئر سكن و اجتمع الناس و حضر طلحة و الزبير لا يشكان أن الأمر شورى فقال الأشتر أ تنتظرون أحدا قم يا طلحة فبايع فتقاعس فقال قم يا ابن الصعبة و سل سيفه فقام طلحة يجر رجله حتى بايع فقال قائل أول من بايعه أشل لا يتم أمره ثم لا يتم قال قم يا زبير و الله لا ينازع أحد إلا و ضربت قرطة بهذا السيف فقام الزبير فبايع ثم انثال الناس عليه فبايعوا. و قيل أول من بايعه الأشتر ألقى خميصة كانت عليه و اخترط سيفه و جذب يد علي ع فبايعه و قال للزبير و طلحة قوما فبايعا و إلا كنتما الليلة عند عثمان فقاما يعثران في ثيابهما لا يرجوان نجاة حتى صفقا بأيديهما على يده ثم قام بعدهما البصريون شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 8و أولهم د الرحمن بن عديس البلوي فبايعوا و قال له عبد الرحمن
خذها إليك و اعلمن أبا حسن أنا نمر الأمر إمرار الرسن

(5/4)


و قد ذكرنا نحن في شرح الفصل الذي فيه أن الزبير أقر بالبيعة و ادعى الوليجة أن بيعة أمير المؤمنين لم تقع إلا عن رضا جميع أهل المدينة أولهم طلحة و الزبير و ذكرنا في ذلك ما يبطل رواية الزبير. و ذكر أبو مخنف في كتاب الجمل أن الأنصار و المهاجرين اجتمعوا في مسجد رسول الله ص لينظروا من يولونه أمرهم حتى غص المسجد بأهله فاتفق رأي عمار و أبي الهيثم بن التيهان و رفاعة بن رافع و مالك بن عجلان و أبي أيوب خالد بن يزيد على إقعاد أمير المؤمنين ع في الخلافة و كان أشدهم تهالكا عليه عمار فقال لهم أيها الأنصار قد سار فيكم عثمان بالأمس بما رأيتموه و أنتم على شرف من الوقوع في مثله إن لم تنظروا لأنفسكم و إن عليا أولى الناس بهذا الأمر لفضله و سابقته فقالوا رضينا به حينئذ و قالوا بأجمعهم لبقية الناس من الأنصار و المهاجرين أيها الناس إنا لن نألوكم خيرا و أنفسنا إن شاء الله و إن عليا من قد علمتم و ما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الأمر منه و لا أولى به فقال الناس بأجمعهم قد رضينا و هو عندنا ما ذكرتم و أفضل. و قاموا كلهم فأتوا عليا ع فاستخرجوه من داره و سألوه بسط يده فقبضها فتداكوا عليه تداك الإبل الهيم على وردها حتى كاد بعضهم يقتل بعضا فلما رأى منهم ما رأى سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس و قال إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر. فنهض الناس معه حتى دخل المسجد فكان أول من بايعه طلحة فقال قبيصة بن ذؤيب الأسدي تخوفت ألا يتم له أمره لأن أول يد بايعته شلاء ثم بايعه الزبير شرحنهج البلاغة ج : 4 ص : 9و بايعه المسلمون بالمدينة إلا محمد بن مسلمة و عبد الله بن عمر و أسامة بن زيد و سعد بن أبي وقاص و كعب بن مالك و حسان بن ثابت و عبد الله بن سلام. فأمر بإحضار عبد الله بن عمر فقال له بايع قال لا أبايع حتى يبايع جميع الناس فقال له ع فأعني حميلا ألا تبرح قال و لا أعطيك حميلا فقال الأشتر يا أمير

(5/5)


المؤمنين إن هذا قد أمن سوطك و سيفك فدعني أضرب عنقه فقال لست أريد ذلك منه على كره خلوا سبيله فلما انصرف قال أمير المؤمنين لقد كان صغيرا و هو سيئ الخلق و هو في كبره أسوأ خلقا. ثم أتي بسعد بن أبي وقاص فقال له بايع فقال يا أبا الحسن خلني فإذا لم يبق غيري بايعتك فو الله لا يأتيك من قبلي أمر تكرهه أبدا فقال صدق خلوا سبيله. ثم بعث إلى محمد بن مسلمة فلما أتاه قال له بايع قال إن رسول الله ص أمرني إذا اختلف الناس و صاروا هكذا و شبك بين أصابعه أن أخرج بسيفي فأضرب به عرض أحد فإذا تقطع أتيت منزلي فكنت فيه لا أبرحه حتى تأتيني يد خاطية أو منية قاضية فقال له ع فانطلق إذا فكن كما أمرت به. ثم بعث إلى أسامة بن زيد فلما جاء قال له بايع فقال إني مولاك و لا خلاف مني عليك و ستأتيك بيعتي إذا سكن الناس فأمره بالانصراف و لم يبعث إلى أحد غيره.
و قيل له أ لا تبعث إلى حسان بن ثابت و كعب بن مالك و عبد الله بن سلام فقال لا حاجة لنا فيمن لا حاجة له فينا
فأما أصحابنا فإنهم يذكرون في كتبهم أن هؤلاء الرهط إنما اعتذروا بما اعتذروا به شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 10لما ندبهم إلى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل و أنهم لم يتخلفوا عن البيعة و إنما تخلفوا عن الحرب. و روى شيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى في كتاب الغرر أنهم لما اعتذروا إليه بهذه الأعذار قال لهم ما كل مفتون يعاتب أ عندكم شك في بيعتي قالوا لا قال فإذا بايعتم فقد قاتلتم و أعفاهم من حضور الحرب

(5/6)


فإن قيل رويتم أنه قال إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر ثم رويتم أن جماعة من أعيان المسلمين كرهوا و لم يقف مع كراهتهم. قيل إنما مراده ع أنه متى وقع الاختلاف قبل البيعة نفضت يدي عن الأمر و لم أدخل فيه فأما إذا بويع ثم خالف ناس بعد البيعة فلا يجوز له أن يرجع عن الأمر و يتركه لأن الإمامة تثبت بالبيعة و إذا ثبتت لم يجز له تركها. و روى أبو مخنف عن ابن عباس قال لما دخل علي ع المسجد و جاء الناس ليبايعوه خفت أن يتكلم بعض أهل الشنئان لعلي ع ممن قتل أباه أو أخاه أو ذا قرابته في حياة رسول الله ص فيزهد علي في الأمر و يتركه فكنت أرصد ذلك و أتخوفه فلم يتكلم أحد حتى بايعه الناس كلهم راضين مسلمين غير مكرهين. لما بايع الناس عليا ع و تخلف عبد الله بن عمر و كلمه علي ع في البيعة فامتنع عليه أتاه في اليوم الثاني فقال إني لك ناصح إن بيعتك لم يرض بها كلهم فلو نظرت لدينك و رددت الأمر شورى بين المسلمين فقال علي ع ويحك و هل ما كان عن طلب مني له أ لم يبلغك صنيعهم قم عني يا أحمق ما أنت و هذا الكلام شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 11فلما خرج أتى عليا في اليوم الثالث آت فقال إن ابن عمر قد خرج إلى مكة يفسد الناس عليك فأمر بالبعث أثره فجاءت أم كلثوم ابنته فسألته و ضرعت إليه فيه و قالت يا أمير المؤمنين إنما خرج إلى مكة ليقيم بها و إنه ليس بصاحب سلطان و لا هو من رجال هذا الشأن و طلبت إليه أن يقبل شفاعتها في أمره لأنه ابن بعلها فأجابها و كف عن البعثة إليه و قال دعوه و ما أراده

(5/7)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 5412- و من كلام له ع و قد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفينأَمَّا قَوْلُكُمْ أَ كُلَّ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي دَخَلْتُ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ الْمَوْتُ إِلَيَّ وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ شَكّاً فِي أَهْلِ الشَّامِ فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلَّا وَ أَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي وَ تَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلَالِهَا وَ إِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا
من رواه أ كل ذلك بالنصب فمفعول فعل مقدر أي تفعل كل ذلك و كراهية منصوب لأنه مفعول له و من رواه أ كل ذلك بالرفع أجاز في كراهية الرفع و النصب أما الرفع فإنه يجعل كل مبتدأ و كراهية خبره و أما النصب فيجعلها مفعولا له كما قلنا في الرواية الأولى و يجعل خبر المبتدأ محذوفا و تقديره أ كل هذا مفعول أو تفعله كراهية للموت ثم أقسم إنه لا يبالي أ تعرض هو للموت حتى يموت أم جاءه الموت ابتداء من غير أن يتعرض له. و عشا إلى النار يعشو استدل عليها ببصر ضعيف قال
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 13و هذا الكلام استعارة شبه من عساه يلحق به من أهل الشام بمن يعشو ليلا إلى النار و ذلك لأن بصائر أهل الشام ضعيفة فهم من الاهتداء بهداه ع كمن يعشو ببصر ضعيف إلى النار في الليل قال ذاك أحب إلي من أن أقتلهم على ضلالهم و إن كنت لو قتهم على هذه الحالة لباءوا بآثامهم أي رجعوا قال سبحانه إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ أي ترجع
من أخبار يوم صفين

(5/8)


لما ملك أمير المؤمنين ع الماء بصفين ثم سمح لأهل الشام بالمشاركة فيه و المساهمة رجاء أن يعطفوا إليه و استمالة لقلوبهم و إظهارا للمعدلة و حسن السيرة فيهم مكث أياما لا يرسل إلى معاوية و لا يأتيه من عند معاوية أحد و استبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال و قالوا يا أمير المؤمنين خلفنا ذرارينا و نساءنا بالكوفة و جئنا إلى أطراف الشام لنتخذها وطنا ائذن لنا في القتال فإن الناس قد قالوا قال لهم ع ما قالوا فقال منهم قائل إن الناس يظنون أنك تكره الحرب كراهية للموت و إن من الناس من يظن أنك في شك من قتال أهل الشام

(5/9)


فقال ع و متى كنت كارها للحرب قط إن من العجب حبي لها غلاما و يفعا و كراهيتي لها شيخا بعد نفاد العمر و قرب الوقت و أما شكي في القوم فلو شككت فيهم لشككت في أهل البصرة و الله لقد ضربت هذا الأمر ظهرا و بطنا فما وجدت يسعني إلا القتال أو أن أعصي الله و رسوله و لكني أستأني بالقوم عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة فإن شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 14رسول الله ص قال لي يوم خيبر لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمسقال نصر بن مزاحم حدثنا محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال فبعث علي ع إلى معاوية بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري و سعيد بن قيس الهمداني و شبث بن الربعي التميمي فقال ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله عز و جل و إلى الطاعة و الجماعة و إلى اتباع أمر الله سبحانه فقال له شبث يا أمير المؤمنين أ لا تطمعه في سلطان توليه إياه و منزلة يكون له بها أثره عندك إن هو بايعك فقال ائتوه الآن و القوه و احتجوا عليه و انظروا ما رأيه في هذا. فأتوه فدخلوا عليه فحمد أبو عمرو بن محصن الله و أثنى عليه و قال أما بعد يا معاوية فإن الدنيا عنك زائلة و إنك راجع إلى الآخرة و إن الله مجازيك بعملك و محاسبك بما قدمت يداك و إنني أنشدك الله ألا تفرق جماعة هذه الأمة و ألا تسفك دماءها بينها فقطع معاوية عليه الكلام و قال فهلا أوصيت صاحبك فقال سبحان الله إن صاحبي لا يوصى إن صاحبي ليس مثلك صاحبي أحق الناس بهذا الأمر في الفضل و الدين و السابقة في الإسلام و القرابة من الرسول قال معاوية فتقول ما ذا قال أدعوك إلى تقوى ربك و إجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق فإنه أسلم لك في دينك و خير لك في عاقبة أمرك قال و يطل دم عثمان لا و الرحمن لا أفعل ذلك أبدا. شرح نج البلاغة ج : 4 ص : 15فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبدره شبث بن الربعي فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا معاوية قد فهمت ما رددت على ابن محصن إنه لا يخفى علينا ما

(5/10)


تقر و ما تطلب إنك لا تجد شيئا تستغوي به الناس و لا شيئا تستميل به أهواءهم و تستخلص به طاعتهم إلا أن قت لهم قتل إمامكم مظلوما فهلموا نطلب بدمه فاستجاب لك سفهاء طغام رذال و قد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر و أحببت له القتل لهذه المنزلة التي تطلب و رب مبتغ أمرا و طالب له يحول الله دونه و ربما أوتي المتمني أمنيته و ربما لم يؤتها و و الله ما لك في واحدة منهما خير و الله لئن أخطأك ما ترجو أنك لشر العرب حالا و لئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق صلى النار فاتق الله يا معاوية و دع ما أنت عليه و لا تنازع الأمر أهله. فحمد معاوية الله و أثنى عليه و قال أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهك و خفة حلمك قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ثم عتبت بعد فيما لا علم لك به و لقد كذبت و لؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما وصفت و ذكرت انصرفوا من عندي فإنه ليس بيني و بينكم إلا السيف. و غضب فخرج القوم و شبث يقول أ علينا تهول بالسيف أما و الله لنجعلنه إليك فأتوا عليا ع فأخبروه بالذي كان من قوله و ذلك في شهر ربيع الآخر. قال نصر و خرج قراء أهل العراق و قراء أهل الشام فعسكروا ناحية صفين ثلاثين ألفا.

(5/11)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 16قال و عسكر علي ع على الماء و عسكر معاوية فوقه على الماء أيضا و مشت القراء فيما بين علي ع و معاوية منهم عبيدة السلماني و علقمة بن قيس النخعي و عبد الله بن عتبة و عامر بن عبد القيس و قد كان في بعض تلك السواحل فانصرف إلى عسكر علع فدخلوا على معاوية فقالوا يا معاوية ما الذي تطلب قال أطلب بدم عثمان قالوا ممن تطلب بدم عثمان قال أطلبه من علي قالوا و علي قتله قال نعم هو قتله و آوى قتلته فانصرفوا من عنده فدخلوا على علي ع فقالوا إن معاوية يزعم أنك قتلت عثمان قال اللهم لكذب فيما قال لم أقتله. فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال لهم إنه إن لم يكن قتله بيده فقد أمر و مالأ فرجعوا إلى علي فقالوا إن معاوية يزعم أنك إن لم تكن قلت بيدك فقد أمرت و مالأت على قتل عثمان فقال اللهم لكذب فيما قال فرجعوا إلى معاوية فقالوا إن عليا يزعم أنه لم يفعل فقال معاوية إن كان صادقا فليقدنا من قتلة عثمان فإنهم في عسكره و جنده و أصحابه و عضده فرجعوا إلى علي ع فقالوا إن معاوية يقول لك إن كنت صادقا فادفع إلينا قتلة عثمان أو مكنا منهم فقال لهم إن القوم تأولوا عليه القرآن و وقعت الفرقة فقتلوه في سلطانه و ليس على ضربهم قود فخصم علي معاوية. قلت على ضربهم هاهنا على مثلهم يقال زيد ضرب عمرو و من ضربه أي مثله و من صنفه و لا أدري لم عدل ع عن الحجة بما هو أوضح من هذا الكلام و هو أن يقول إن الذين باشروا قتله بأيديهم كانوا اثنين و هما قتيرة بن وهب و سودان بن حمران و كلاهما قتل يوم الدار قتلهما عبيد عثمان و الباقون الذين هم جندي و عضدي شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 17كما تزعمون لم يقتلوا بأيديهم و إنما أغروا به و حصروه و أجلبوا عليه و هجموا على داره كمحمد بن أبي بكر و الأشتر و عمرو بن الحمق و غيرهم و ليس على مثل هؤلاء قود. قال نصر فقال لهم اوية إن كان الأمر كما تزعمون فلم ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا

(5/12)


و لا ممن هاهنا معنا فقال علي ع إن الناس تبع المهاجرين و الأنصار و هم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم و أمراء دينهم فرضوا بي و بايعوني و لست أستحل أن أدع ضرب معاوية يحكم بيده على الأمة و يركبهم و يشق عصاهم. فرجعوا إلى معاوية فأخبروه بذلك فقال ليس كما يقول فما بال من هاهنا من المهاجرين و الأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر و يؤامروا فيه. فانصرفوا إلى علي ع فأخبروه بقوله فقال ويحكم هذا للبدريين دون الصحابة ليس في الأرض بدري إلا و قد بايعني و هو معي أو قد قام و رضي فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم و دينكم. قال نصر فتراسلوا بذلك ثلاثة أشهر ربيع الآخر و جماديين و هم مع ذلك يفزعون الفزعة فيما بينهما فيزحف بعضهم إلى بعض و تحجز القراء بينهم. قال فزعوا في ثلاثة أشهر خمسا و ثمانين فزعة كل فزعة يزحف بعضهم إلى بعض و تحجز القراء بينهم لا يكون بينهم قتال. قال نصر و خرج أبو أمامة الباهلي و أبو الدرداء فدخلا على معاوية و كانا معه فقالا يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل فو الله لهو أقدم منك إسلاما و أحق بهذا

(5/13)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 18الأمر و أقرب من رسول الله ص فعلام تقاتله فقال أقاتله على دم عثمان و إنه آوى قتلته فقولوا له فليقدنا من قتلته و أنا أول من بايعه من أهل الشام. فانطلقوا إلى علي ع فأخبروه بقول معاوية فقال إنما يطلب الذين ترون فخرج عشرون ألفا أوكثر متسربلين الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقالوا كلنا قتله فإن شاءوا فليروموا ذلك منا فرجع أبو أمامة و أبو الدرداء فلم يشهدا شيئا من القتال. قال نصر حتى إذا كان رجب و خشي معاوية أن يتابع القراء عليا ع أخذ في المكر و أخذ يحتال للقراء لكيما يحجموا و يكفوا حتى ينظروا. قال فكتب في سهم من عبد الله الناصح إني أخبركم أن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم فخذوا حذركم ثم رمى بالسهم في عسكر علي ع فوقع السهم في يد رجل فقرأه ثم أقرأه صاحبه فلما قرأه و قرأته الناس و أقرأه من أقبل و أدبر قالوا هذا أخ لنا ناصح كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية فلم يزل السهم يقرأ و يرتفع حتى رفع إلى علي ع و قد بعث معاوية مائتي رجل من العملة إلى عاقول من النهر بأيديهم المرور و الزبل يحفرون فيها بحيال عسكر علي ع فقال علي ع ويحكم إن الذي يعالج معاوية لا يستقيم له و لا يقوى عليه إنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم فانتهوا عن ذلك فقالوا له لا ندعهم و الله يحفرون فقال علي ع لا تكونوا ضعفى ويحكم لا تغلبوني على رأيي فقالوا و الله لنرتحلن فإن شئت فارتحل و إن شئت فأقم فارتحلوا و صعدوا بعسكرهم مليا و ارتحل علي ع في أخريات الناس و هو يقول شرح نهج البلا ج : 4 ص : 19

(5/14)


فلو أني أطعت عصمت قومي إلى ركن اليمامة أو شمام و لكني متى أبرمت أمرا منيت بخلف آراء الطغامقال و ارتحل معاوية حتى نزل معسكر علي ع الذي كان فيه فدعا علي ع الأشتر فقال أ لم تغلبني على رأيي أنت و الأشعث فدونكما فقال الأشعث أنا أكفيك يا أمير المؤمنين سأداوي ما أفسدت اليوم من ذلك فجمع كندة فقال لهم يا معشر كندة لا تفضحوني اليوم و لا تخزوني فإني إنما أقارع بكم أهل الشام فخرجوا معه رجاله يمشون و بيده رمح له يلقيه على الأرض و يقول امشوا قيد رمحي هذا فيمشون فلم يزل يقيس لهم الأرض برمحه و يمشون معه رجاله حتى لقي معاوية وسط بني سليم واقفا على الماء و قد جاءه أداني عسكره فاقتتلوا قتالا شديدا على الماء ساعة و انتهى أوائل أهل العراق فنزلوا و أقبل الأشتر في خيل من أهل العراق فحمل على معاوية و الأشعث يحارب في ناحية أخرى فانحاز معاوية في بني سليم فرد وجوه إبله قدر ثلاثة فراسخ ثم نزل و وضع أهل الشام أثقالهم و الأشعث يهدر و يقول أرضيتك يا أمير المؤمنين ثم تمثل بقول طرفة بن العبد
ففداء لبني سعد على ما أصاب الناس من خير و شرما أقلت قدماي إنهم نعم الساعون في الحي الشطرو لقد كنت عليكم عاتبا فعقبتم بذنوب غير مر
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 20كنت فيكم كالمغطى رأسه فانجلى اليوم قناعي و خمرسادرا أحسب غيي رشدا فتناهيت و قد صابت بقو قال الأشتر يا أمير المؤمنين قد غلب الله لك على الماء فقال علي ع أنتما كما قال الشاعر
تلاقين قيسا و أشياعه فيوقد للحرب نارا فناراأخو الحرب إن لقحت بازلا سما للعلا و أجل الخطارا

(5/15)


قال نصر فكان كل واحد من علي و معاوية يخرج الرجل الشريف في جماعة فيقاتل مثله و كانوا يكرهون أن يتزاحفوا بجميع الفيلق مخافة الاستئصال و الهلاك فاقتتل الناس ذا الحجة كله فلما انقضى تداعوا إلى أن يكف بعضهم عن بعض إلى أن ينقضي المحرم لعل الله أن يجري صلحا أو إجماعا فكف الناس في المحرم بعضهم عن بعض. قال نصر حدثنا عمر بن سعد عن أبي المجاهد عن المحل بن خليفة قال لما توادعوا في المحرم اختلفت الرسل فيما بين الرجلين رجاء الصلح فأرسل علي ع إلى معاوية عدي بن حاتم الطائي و شبث بن ربعي التميمي و يزيد بن قيس و زياد بن خصفة فلما دخلوا عليه حمد الله تعالى عدي بن حاتم الطائي و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإنا أتيناك لندعوك إلى أمر يجمع الله فيه كلمتنا و أمتنا و يحقن به دماء شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 21المسلمين ندعوك إلى أفضل الناس سابقة و أحسنهم في الإسلام آثارا و قد اجتمع إليهلناس و قد أرشدهم الله بالذي رأوا و أتوا فلم يبق أحد غيرك و غير من معك فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك الله و أصحابك بمثل يوم الجمل. فقال له معاوية كأنك إنما جئت مهددا و لم تأت مصلحا هيهات يا عدي إني لابن حرب ما يقعقع لي بالشنان أما و الله إنك من المجلبين على عثمان و إنك لمن قتلته و إني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله. فقال له شبث بن ربعي و زياد بن خصفة و تنازعا كلاما واحدا أتيناك فيما يصلحنا و إياك فأقبلت تضرب لنا الأمثال دع ما لا ينفع من القول و الفعل و أجبنا فيما يعمنا و إياك نفعه. و تكلم يزيد بن قيس الأرحبي فقال إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك و لنؤدي عنك ما سمعنا منك و لم ندع أن ننصح لك و أن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة أو أنه راجع بك إلى الألفة و الجماعة إن صاحبنا من قد عرفت و عرف المسلمون فضله و لا أظنه يخفى عليك إن أهل الدين و الفضل لا يعدلونك بعلي و لا يميلون بينك و بينه فاتق الله يا معاوية و لا تخالف عليا

(5/16)


فإنا و الله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى و لا أزهد في الدنيا و لا أجمع لخصال الخير كلها منه. فحمد الله معاوية و أثنى عليه و قال أما بعد فإنكم دعوتم إلى الجماعة و الطاعة فأما الجماعة التي دعوتم إليها فنعما هي و أما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها إن صاحبكم قتل خليفتنا و فرق جماعتنا و آوى ثأرنا و قتلتنا و صاحبكم يزعم أنه لم يقتله فنحن شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 22لا نرد ذلك عليه أ رأيتم قتلة صاحبنا أ لستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم فليدفعهم إلينا نقتلهم به و نحن نجيبكم إلى الطاعة و الجماعة. فقال له شبث بن ربعي أ يسرك بالله يا معاوية إن أمكنت من عمار بن ياسر فقتلته قال و ما يمنعني من ذلك و الله لو أمكنني صاحبكم من ابن سمية ما قتلته بعثمان و لكني كنت أقتله بنائل مولى عثمان. فقال شبث و إله السماء ما عدلت معدلا و لا و الذي لا إله إلا هو لا تصل إلى قتل ابن ياسر حتى تندر الهام عن كواهل الرجال و تضيق الأرض الفضاء عليك برحبها. فقال معاوية إنه إذا كان ذلك كانت عليك أضيق. ثم رجع القوم عن معاوية فبعث إلى زياد بن خصفة من بينهم فأدخل عليه فحمد معاوية الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد يا أخا ربيعة فإن عليا قطع أرحامنا و قتل إمامنا و آوى قتلة صاحبنا و إني أسألك النصرة بأسرتك و عشيرتك و لك علي عهد الله و ميثاقه إذا ظهرت أن أوليك أي المصرين أحببت. قال أبو المجاهد فسمعت زياد بن خصفة يحدث بهذا الحديث. قال فلما قضى معاوية كلامه حمدت الله و أثنيت عليه ثم قلت أما بعد فإني لعلى بينة من ربي و بما أنعم علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ثم قمت. فقال معاوية لعمرو بن العاص و كان إلى جانبه ما لهم عضبهم الله ما قلبهم إلا قلب رجل واحد. قال نصر و حدثنا سليمان بن أبي راشد عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود

(5/17)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 23قال بعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري إلى علي بن أبي طالب ع و بعث معه شرحبيل بن السمط و معن بن يزيد بن الأخنس السلمي فدخلوا على علي ع فتكلم حبيب بن مسلمة فحمد الله و أثنى عليه و قال أما بعد فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهديا يعمبكتاب الله و يثيب إلى أمر الله فاستسقلتم حياته و استبطأتم وفاته فعدوتم عليه فقتلتموه فادفع إلينا قتلة عثمان نقتلهم به فإن قلت إنك لم تقتله فاعتزل أمر الناس فيكون أمرهم هذا شورى بينهم يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم. فقال له علي و ما أنت لا أم لك و الولاية و العزل و الدخول في هذا الأمر اسكت فإنك لست هناك و لا بأهل لذاك فقام حبيب بن مسلمة و قال أما و الله لتريني حيث تكره فقال له ع و ما أنت و لو أجلبت بخيلك و رجلك اذهب فصوب و صعد ما بدا لك فلا أبقى الله عليك إن أبقيت. فقال شرحبيل بن السمط إن كلمتك فلعمري ما كلامي لك إلا نحو كلام صاحبي فهل لي عندك جواب غير الجواب الذي أجبته به فقال نعم قال فقله

(5/18)


فحمد الله علي ع و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمدا ص فأنقذ به من الضلالة و نعش به من الهلكة و جمع به بعد الفرقة ثم قبضه الله إليه و قد أدى ما عليه فاستخلف الناس أبا بكر ثم استخلف أبو بكر عمر فأحسنا السيرة و عدلا في الأمة و وجدنا شرح نهجلبلاغة ج : 4 ص : 24عليهما أن توليا الأمر دوننا و نحن آل الرسول و أحق بالأمر فغفرنا ذلك لهما ثم ولي أمر الناس عثمان فعمل بأشياء عابها الناس عليه فسار إليه ناس فقتلوه ثم أتاني الناس و أنا معتزل أمرهم فقالوا لي بايع فأبيت عليهم فقالوا لي بايع فإن الأمة لا ترضى إلا بك و إنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس فبايعتهم فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعا و خلاف معاوية إياي الذي لم يجعل الله له سابقة في الدين و لا سلف صدق في الإسلام طليق ابن طليق و حزب من الأحزاب لم يزل لله و لرسوله و للمسلمين عدوا هو و أبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين مكرهين فيا عجبا لكم و لإجلابكم معه و انقيادكم له و تدعون آل بيت نبيكم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم و لا خلافهم و لا تعدلوا بهم أحدا من الناس إني أدعوكم إلى كتاب ربكم و سنة نبيكم و إماتة الباطل و إحياء معالم الدين أقول قولي هذا و أستغفر الله لنا و لكل مؤمن و مؤمنة و مسلم و مسلمة
فقال له شرحبيل و معن بن يزيد أ تشهد أن عثمان قتل مظلوما فقال لهما إني لا أقول ذلك قالا فمن لم يشهد أن عثمان قتل مظلوما فنحن برآء منه ثم قاما فانصرفا.
فقال علي ع إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ثم أقبل على أصحابه فقال لا يكن هؤلاء في ضلالتهم بأولى بالجد منكم في حقكم و طاعة إمامكم

(5/19)


ثم مكث الناس متوادعين إلى انسلاخ المحرم فلما انسلخ المحرم و استقبل الناس صفرا من سنة سبع و ثلاثين بعث علي ع نفرا من أصحابه حتى إذا كانوا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 25من معسكر معاوية بحيث يسمعونهم الصوت قام مرثد بن الحارث الجشمي فنادى عند غروب الشمس يا أهللشام إن أمير المؤمنين عليا و أصحاب رسول الله ص يقولون لكم إنا لم نكف عنكم شكا في أمركم و لا إبقاء عليكم و إنما كففنا عنكم لخروج المحرم و قد انسلخ و إنا قد نبذنا إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين. قال فتحاجز الناس و ثاروا إلى أمرائهم. قال نصر فأما رواية عمرو بن شمر عن جابر عن أبي الزبير أن نداء مرثد بن الحارث الجشمي كانت صورته يا أهل الشام ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم إني قد استدمتكم و استأنيت بكم لتراجعوا الحق و تثوبوا إليه و احتججت عليكم بكتاب الله و دعوتكم إليه فلم تتناهوا عن طغيان و لم تجيبوا إلى حق و إني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين. قال فثار الناس إلى أمرائهم و رؤسائهم. قال نصر و خرج معاوية و عمرو بن العاص يكتبان الكتائب و يعبيان العساكر و أوقدوا النيران و جاءوا بالشموع و بات علي ع تلك الليلة كلها يعبئ الناس و يكتب الكتائب و يدور في الناس و يحرضهم.

(5/20)


قال نصر حدثنا عمر بن سعد بإسناده عن عبد الله بن جندب عن أبيه أن عليا ع كان يأمرنا في كل موطن لقينا معه عدوه فيقول شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 26لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم فهي حجة أخرى لكم عليهم فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا و لا تجهزوا على جريح و لا تكشفوا عورة و لا تمثلوا بقتيل فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا و لا تدخلوا دارا إلا بإذن و لا تأوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم و لا تهيجوا امرأة و إن شتمن أعراضكم و تناولن أمراءكم و صلحاءكم فإنهن ضعاف القوى و الأنفس و العقول و لقد كنا و إنا لنؤمر بالكف عنهن و هن مشركات و إن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالهراوة أو الحديد فيعير بها عقبه من بعده
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن إسماعيل بن يزيد يعني ابن أبي خالد عن أبي صادق أن عليا ع حرض الناس في حروبه فقال عباد الله اتقوا الله و غضوا أبصاركم و اخفضوا الأصوات و أقلوا الكلام و وطنوا أنفسكم على المنازلة و المجاولة و المبارزة و المعانقة و فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ اللهم ألهمهم الصبر و أنزل عليهم النصر و أعظم لهم الأجر

(5/21)


قال نصر و كان ترتيب عسكر علي ع بموجب ما رواه لنا عمرو بن شمر عن جابر عن محمد بن علي و زيد بن حسن و محمد بن عبد المطلب أنه جعل على الخيل عمار بن ياسر و على الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي و دفع اللواء شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 27إلى هاشم بن عتبةن أبي وقاص الزهري و جعل على الميمنة الأشعث بن قيس و على الميسرة عبد الله بن العباس و جعل على رجالة الميمنة سليمان بن صرد الخزاعي و على رجالة الميسرة الحارث بن مرة العبدي و جعل القلب مضر الكوفة و البصرة و جعل على ميمنة القلب اليمن و على ميسرته ربيعة و عقد ألوية القبائل فأعطاها قوما منهم بأعيانهم و جعلهم رؤساءهم و أمراءهم و جعل على قريش و أسد و كنانة عبد الله بن عباس و على كندة حجر بن عدي الكندي و على بكر البصرة الحصين بن المنذر الرقاشي و على تميم البصرة الأحنف بن قيس و على خزاعة عمرو بن الحمق و على بكر الكوفة نعيم بن هبيرة و على سعد البصرة و ربابها جارية بن قدامة السعدي و على بجيلة رفاعة بن شداد و على ذهل الكوفة رويما الشيباني أو يزيد بن رويم و على عمرو البصرة و حنظلتها أعين بن ضبيعة و على قضاعة و طيئ عدي بن حاتم الطائي و على لهازم الكوفة عبد الله بن حجل العجلي و على تميم الكوفة عمير بن عطارد و على الأزد و اليمن جندب بن زهير و على ذهل البصرة خالد بن المعمر السدوسي و على عمرو الكوفة و حنظلتها شبث بن ربعي و على همدان سعيد بن قيس و على لهازم البصرة حريث بن جابر الجعفي و على سعد الكوفة و ربابها الطفيل أبا صريمة و على مذحج الأشتر بن الحارث النخعي و على عبد القيس الكوفة صعصعة بن صوحان و على عبد القيس البصرة عمرو بن حنظلة و على قيس الكوفة عبد الله بن الطفيل البكائي و على قريش البصرة الحارث بن نوفل الهاشمي و على قيس البصرة قبيصة بن شداد الهلالي و على اللفيف من القواصي القاسم بن حنظلة الجهني. و أما معاوية فاستعمل على الخيل عبيد الله

(5/22)


بن عمر بن الخطاب و على الرجالة مسلم بن عقبة المري و جعل على الميمنة عبد الله بن عمرو بن العاص و على الميسرة حبيب شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 28بن مسلمة الفهري و أعطى اللواء عبد الرحمن بن خالدن الوليد و جعل على أهل دمشق و هم القلب الضحاك بن قيس الفهري و على أهل حمص و هم الميمنة ذا الكلاع الحميري و على أهل قنسرين و هم في الميمنة أيضا زفر بن الحارث الكلابي و على أهل الأردن و هم الميسرة سفيان بن عمرو أبا الأعور السلمي و على أهل فلسطين و هم في الميسرة أيضا مسلمة بن مخلد و على رجالة أهل دمشق بسر بن أبي أرطاة العامري بن لؤي بن غالب و على رجالة أهل حمص حوشبا ذا ظليم و على رجالة قيس طريف بن حابس الألهاني و على رجالة الأردن عبد الرحمن بن قيس القيني و على رجالة أهل فلسطين الحارث بن خالد الأزدي و على رجالة قيس دمشق همام بن قبيصة و على قضاعة حمص و إيادها بلال بن أبي هبيرة الأزدي و حاتم بن المعتمر الباهلي و على رجالة الميمنة حابس بن سعيد الطائي و على قضاعة دمشق حسان بن بحدل الكلبي و على قضاعة عباد بن يزيد الكلبي و على كندة دمشق حسان بن حوي السكسكي و على كندة حمص يزيد بن هبيرة السكوني و على سائر اليمن يزيد بن أسد البجلي و على حمير و حضرموت اليمان بن غفير و على قضاعة الأردن حبيش بن دلجة القيني و على كنانة فلسطين شريكا الكناني و على مذحج الأردن المخارق بن الحارث الزبيدي و على جذام فلسطين و لخمها ناتل بن قيس الجذامي و على همدان الأردن حمزة بن مالك الهمداني و على الخثعم حمل بن عبد الله الخثعمي و على غسان الأردن يزيد بن الحارث و على جميع القواصي القعقاع بن أبرهة الكلاعي أصيب في المبارزة أول يوم تراءت فيه الفئتان. قال نصر فأما رواية الشعبي التي رواها عنه إسماعيل بن أبي عميرة فإن عليا

(5/23)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 29ع بعث على ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي و على ميسرته عبد الله بن العباس و على خيل الكوفة الأشتر و على البصرة سهل بن حنيف و على رجالة الكوفة عمار بن ياسر و على رجالة أهل البصرة قيس بن سعد كان قد أقبل من مصر إلى صفين جعل معه هاشم بن عتبة و جعل مسعود بن فدكي التميمي على قراء أهل البصرة و أما قراء أهل الكوفة فصاروا إلى عبد الله بن بديل و عمار بن ياسر. قال نصر و أما ترتيب عسكر الشام فيما رواه لنا عمر بن سعد عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن القاسم مولى يزيد بن معاوية فإن معاوية بعث على ميمنته ذا الكلاع و على ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري و على مقدمته من يوم أقبل من دمشق أبا الأعور السلمي و كان على خيل دمشق كلها عمرو بن العاص و معه خيول أهل الشام بأسرها و جعل مسلم بن عقبة المري على رجالة دمشق و الضحاك بن قيس على سائر الرجالة بعد. قال نصر و تبايع رجال من أهل الشام على الموت و تحالفوا عليه و عقلوا أنفسهم بالعمائم و كانوا صفوفا خمسة معقلين كانوا يخرجون فيصطفون أحد عشر صفا و يخرج أهل العراق فيصطفون أحد عشر صفا أيضا. قال نصر فخرجوا أول يوم من صفر من سنة سبع و ثلاثين و هو يوم الأربعاء فاقتتلوا و على من خرج يومئذ من أهل الكوفة الأشتر و على أهل الشام حبيب بن مسلمة شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 30فاقتتلوا قتالا شديدا جل النهار ثم تراجعوا و قد انتصف بعضهم من بعض ثم خرج في اليوم الثاني هاشم بن عتبة في خيل و رجال حسن عددها و عدتها فخرج إليه أهل الشام أبو الأعور السلمي فاقتتلوا يومهم ذلك تحمل الخيل على الخيل و الرجال على الرجال. ثم انصرفوا و قد صبر القوم بعضهم لبعض و خرج في اليوم الثالث عمار بن ياسر و خرج إليه عمرو بن العاص فاقتتل الناس كأشد قتال كان و جعل عمار يقول يا أهل الشام أ تريدون أن تنظروا إلى من عادى الله و رسوله و جاهدهما و بغى على المسلمين و ظاهر

(5/24)


المشركين فلما أراد الله أن يظهر دينه و ينصر رسوله أتى إلى النبي ص فأسلم و هو و الله فيما يرى راهب غير راغب ثم قبض الله رسوله و إنا و الله لنعرفه بعداوة المسلم و مودة المجرم ألا و إنه معاوية فقاتلوه و العنوه فإنه ممن يطفئ نور الله و يظاهر أعداء الله. قال و كان مع عمار زياد بن النضر على الخيل فأمره أن يحمل في الخيل فحمل فصبروا له و شد عمار في الرجالة فأزال عمرو بن العاص عن موقفه و بارز يومئذ زياد بن النضر أخا له من بني عامر يعرف بمعاوية بن عمرو العقيلي و أمهما هند الزبيدية فانصرف كل واحد منهما عن صاحبه بعد المبارزة سالما و رجع الناس يومهم ذلك.
قال نصر و حدثني أبو عبد الرحمن المسعودي قال حدثني يونس بن الأرقم عمن حدثه من شيوخ بكر بن وائل قال كنا مع علي ع بصفين فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح فقال ناس هذا لواء عقده له رسول الله ص فلم يزالوا يتحدثون حتى وصل ذلك إلى علي ع فقال شرح نهالبلاغة ج : 4 ص : 31أ تدرون ما أمر هذا اللواء إن عدو الله عمرا أخرج له رسول الله ص هذه الشقة فقال من يأخذها بما فيها فقال عمرو و ما فيها يا رسول الله قال فيها ألا تقاتل بها مسلما و لا تقربها من كافر فأخذها فقد و الله قربها من المشركين و قاتل بها اليوم المسلمين و الذي فلق الحبة و برأ النسمة ما أسلموا و لكنهم استسلموا و أسروا الكفر فلما وجدوا عليه أعوانا أظهروه
و روى نصر عن أبي عبد الرحمن المسعودي عن يونس بن الأرقم عن عوف بن عبد الله عن عمرو بن هند البجلي عن أبيه قال لما نظر علي ع إلى رايات معاوية و أهل الشام قال و الذي فلق الحبة و برأ النسمة ما أسلموا و لكن استسلموا و أسروا الكفر فلما وجدوا عليه أعوانا رجعوا إلى عداوتهم لنا إلا أنهم لم يتركوا الصلاة

(5/25)


و روى نصر عن عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت قال لما كان قتال صفين قال رجل لعمار يا أبا اليقظان أ لم يقل رسول الله ص قاتلوا الناس حتى يسلموا فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم و أموالهم قال بلى و لكن و الله ما أسلموا و لكن استسلموا و أسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعوانا
و روى نصر عن عبد العزيز عن حبيب بن أبي ثابت عن منذر الثوري قال قال محمد بن الحنفية لما أتاهم رسول الله ص من أعلى الوادي و من أسفله شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 32و ملأ الأودية كتائب يعني يوم فتح مكة استسلموا حتى وجدوا أعوانا. و روى نصر عن الحكم بن ظهير عن إسماعيل عن الحسن قال و حدثنا الحكم أيضا عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ص إذا رأيتم معاوية بن أبي سفيان يخطب على منبري فاضربوا عنقه
فقال الحسن فو الله ما فعلوا و لا أفلحوا

(5/26)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 5533- و من كلام له عوَ لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَ أَبْنَاءَنَا وَ إِخْوَانَنَا وَ أَعْمَامَنَا مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وَ تَسْلِيماً وَ مُضِيّاً عَلَى اللَّقْمِ وَ صَبْراً عَلَى مَضَضِ الْأَلَمِ وَ جِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ وَ لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَ الآْخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَ مَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَ أَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَ مُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ وَ لَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَ لَا اخْضَرَّ لِلْإِيمَانِ عُودٌ وَ ايْمُ اللَّهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً وَ لَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً

(5/27)


لقم الطريق الجادة الواضحة منها و المضض لذع الألم و برحاؤه و التصاول أن يحمل كل واحد من القرنين على صاحبه و التخالس التسالب و الانتهاب و الكبت الإذلال و جران البعير مقدم عنقه و تبوأت المنزل نزلته و يقال لمن أسرف في الأمر لتحتلبن دما و أصله الناقة يفرط في حلبها فيحلب الحالب الدم. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 34و هذه ألفاظ مجازية من باب الاستعارة و هي. قوله استقر الإسلام ملقيا جرانه أي ثابتا متمكنا كالبعير يلقي جرانه على الأرض. و قوله متبوئا أوطانه جعله كالجسم المستقر في وطنه و مكانه. و قوله ما قام للدين عمود جه كالبيت القائم على العمد. و قوله و لا اخضر للإيمان عود جعله كالشجرة ذات الفروع و الأغصان. فأما قتلهم الأقارب في ذات الله فكثير قتل علي ع الجم الغفير من بني عبد مناف و بني عبد الدار في يوم بدر و أحد و هم عشيرته و بنو عمه و قتل عمر بن الخطاب يوم بدر خاله العاص بن هشام بن المغيرة و قتل حمزة بن عبد المطلب شيبة بن ربيعة يوم بدر و هو ابن عمه لأنهما ابنا عبد مناف و مثل ذلك كثير مذكور في كتب السيرة. و أما كون الرجل منهم و قرنه يتصاولان و يتخالسان فإن الحال كذلك كانت بارز علي ع الوليد بن عتبة و بارز طلحة بن أبي طلحة و بارز عمرو بن عبد ود و قتل هؤلاء الأقران مبارزة و بارز كثيرا من الأبطال غيرهم و قتلهم و بارز جماعة من شجعان الصحابة جماعة من المشركين فمنهم من قتل و منهم من قتل و كتب المغازي تتضمن تفصيل ذلك
فتنة عبد الله بن الحضرمي بالبصرة

(5/28)


و هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع في قصة ابن الحضرمي حيث قدم البصرة من قبل معاوية و استنهض أمير المؤمنين ع أصحابه إلى البصرة فتقاعدوا. قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 35حدثنا محمد بن يوسف قالدثنا الحسن بن علي الزعفراني عن محمد بن عبد الله بن عثمان عن ابن أبي سيف عن يزيد بن حارثة الأزدي عن عمرو بن محصن أن معاوية لما أصاب محمد بن أبي بكر بمصر و ظهر عليها دعا عبد الله بن عامر الحضرمي فقال له سر إلى البصرة فإن جل أهلها يرون رأينا في عثمان و يعظمون قتله و قد قتلوا في الطلب بدمه فهم موتورون حنقون لما أصابهم ودوا لو يجدون من يدعوهم و يجمعهم و ينهض بهم في الطلب بدم عثمان و احذر ربيعة و انزل في مضر و تودد الأزد فإن الأزد كلها معك إلا قليلا منهم و إنهم إن شاء الله غير مخالفيك. فقال عبد الله بن الحضرمي له إنا سهم في كنانتك و أنا من قد جربت و عدو أهل حربك و ظهيرك على قتلة عثمان فوجهني إليهم متى شئت فقال اخرج غدا إن شاء الله فودعه و خرج من عنده. فلما كان الليل جلس معاوية و أصحابه يتحدثون فقال لهم معاوية في أي منزل ينزل القمر الليلة فقالوا بسعد الذابح فكره معاوية ذلك و أرسل إليه ألا تبرح حتى يأتيك أمري فأقام. و رأى معاوية أن يكتب إلى عمرو بن العاص و هو يومئذ بمصر عامله عليها يستطلع رأيه في ذلك فكتب إليه و قد كان تسمى بإمرة المؤمنين بعد يوم صفين و بعد تحكيم الحكمين من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص سلام عليك أما بعد فإني قد رأيت رأيا هممت بإمضائه و لم يخذلني عنه شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 36إلا استطلاع رأيك فإن توافقني أحمد الله و أمضه و إن تخالفني فإني أستخير الله و أستهديه إني نظرت في أمر أهل البصرة فوجدت معظم أهلها لنا وليا و لعلي و شيعته عد و قد أوقع بهم علي الوقعة التي علمت فأحقاد تلك الدماء ثابتة في

(5/29)


صدورهم لا تبرح و لا تريم و قد علمت أن قتلنا ابن أبي بكر و وقعتنا بأهل مصر قد أطفأت نيران أصحاب علي في الآفاق و رفعت رءوس أشياعنا أينما كانوا من البلاد و قد بلغ من كان بالبصرة على مثل رأينا من ذلك ما بلغ الناس و ليس أحد ممن يرى رأينا أكثر عددا و لا أضر خلافا على علي من أولئك فقد رأيت أن أبعث إليهم عبد الله بن عامر الحضرمي فينزل في مضر و يتودد الأزد و يحذر ربيعة و يبتغي دم ابن عفان و يذكرهم وقعة علي بهم التي أهلكت صالحي إخوانهم و آبائهم و أبنائهم فقد رجوت عند ذلك أن يفسد على علي و شيعته ذلك الفرج من الأرض و متى يؤتوا من خلفهم و أمامهم يضل سعيهم و يبطل كيدهم فهذا رأيي فما رأيك فلا تحبس رسولي إلا قدر مضي الساعة التي ينتظر فيها جواب كتابي هذا أرشدنا الله و إياك و السلام عليك و رحمة الله و بركاته. فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية. أما بعد فقد بلغني رسولك و كتابك فقرأته و فهمت رأيك الذي رأيته فعجبت له و قلت إن الذي ألقاه في روعك و جعله في نفسك هو الثائر بابن عفان و الطالب بدمه و إنه لم يك منك و لا منا منذ نهضنا في هذه الحروب و بادينا أهلها و لا رأى الناس رأيا أضر على عدوك و لا أسر لوليك من هذا الأمر الذي ألهمته فامض رأيك مسددا فقد وجهت الصليب الأريب الناصح غير الظنين و السلام.

(5/30)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 37فلما جاءه كتاب عمرو دعا ابن الحضرمي و قد كان ظن حين تركه معاوية أياما لا يأمره بالشخوص أن معاوية قد رجع عن إشخاصه إلى ذلك الوجه فقال يا ابن الحضرمي سر على بركة الله إلى أهل البصرة فانزل في مضر و احذر ربيعة و تودد الأزد و انع ن عفان و ذكرهم الوقعة التي أهلكتهم و من لمن سمع و أطاع دنيا لا تفنى و أثرة لا يفقدها حتى يفقدنا أو نفقده. فودعه ثم خرج من عنده و قد دفع إليه كتابا و أمره إذا قدم أن يقرأه على الناس. قال عمرو بن محصن فكنت معه حين خرج فلما خرجنا سرنا ما شاء الله أن نسير فسنح لنا ظبي أعضب عن شمائلنا فنظرت إليه فو الله لرأيت الكراهية في وجهه ثم مضينا حتى نزلنا البصرة في بني تميم فسمع بقدومنا أهل البصرة فجاءنا كل من يرى رأي عثمان فاجتمع إلينا رءوس أهلها فحمد الله ابن الحضرمي و أثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فإن إمامكم إمام الهدى عثمان بن عفان قتله علي بن أبي طالب ظلما فطلبتم بدمه و قاتلتم من قتله فجزاكم الله من أهل مصر خيرا و قد أصيب منكم الملأ الأخيار و قد جاءكم الله بإخوان لكم لهم بأس يتقى و عدد لا يحصى فلقوا عدوكم الذين قتلوكم فبلغوا الغاية التي أرادوا صابرين و رجعوا و قد نالوا ما طلبوا فمالئوهم و ساعدوهم و تذكروا ثاركم لتشفوا صدوركم من عدوكم. فقام إليه الضحاك بن عبد الله الهلالي فقال قبح الله ما جئتنا به و ما دعوتنا إليه جئتنا و الله بمثل ما جاء به صاحباك طلحة و الزبير أتيانا و قد بايعنا عليا و اجتمعنا له فكلمتنا واحدة و نحن على سبيل مستقيم فدعوانا إلى الفرقة و قاما فينا بزخرف القول حتى ضربنا بعضنا ببعض عدوانا و ظلما فاقتتلنا على ذلك و ايم الله ما سلمنا من عظيم وبال شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 38ذلك و نحن الآن مجمعون على بيعة هذا العبد الصالح الذي أقال العثرة و عفا عن المء و أخذ بيعة غائبنا و شاهدنا أ فتأمرنا الآن أن نختلع أسيافنا من

(5/31)


أغمادها ثم يضرب بعضنا بعضا ليكون معاوية أميرا و تكون له وزيرا و نعدل بهذا الأمر عن علي و الله ليوم من أيام علي مع رسول الله ص خير من بلاء معاوية و آل معاوية لو بقوا في الدنيا ما الدنيا باقية. فقام عبد الله بن خازم السلمي فقال للضحاك اسكت فلست بأهل أن تتكلم في أمر العامة ثم أقبل على ابن الحضرمي فقال نحن يدك و أنصارك و القول ما قلت و قد فهمنا عنك فادعنا أنى شئت فقال الضحاك لابن خازم يا ابن السوداء و الله لا يعز من نصرت و لا يذل بخذلانك من خذلت فتشاتما. قال صاحب كتاب الغارات و الضحاك هذا هو الذي يقول
يا أيهذا السائلي عن نسبي بين ثقيف و هلال منصبي أمي أسماء و ضحاك أبيقال و هو القائل في بني العباس

(5/32)


ما ولدت من ناقة لفحل في جبل نعلمه و سهل كستة من بطن أم الفضل أكرم بها من كهلة و كهل عم النبي المصطفى ذي الفضل و خاتم الأنبياء بعد الرسقال فقام عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي ثم التيمي فقال عباد الله إنا لم ندعكم إلى الاختلاف و الفرقة و لا نريد أن تقتتلوا و لا تتنابزوا و لكنا إنما ندعوكم إلى أن تجمعوا كلمتكم و توازروا إخوانكم الذين هم على رأيكم و أن تلموا شعثكم شرح نهج البلاغة ج : 4 : 39و تصلحوا ذات بينكم فمهلا مهلا رحمكم الله استمعوا لهذا الكتاب و أطيعوا الذي يقرأ عليكم. ففضوا كتاب معاوية و إذا فيه من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى من قرئ كتاب هذا عليه من المؤمنين و المسلمين من أهل البصرة. سلام عليكم أما بعد فإن سفك الدماء بغير حلها و قتل النفوس التي حرم الله قتلها هلاك موبق و خسران مبين لا يقبل الله ممن سفكها صرفا و لا عدلا و قد رأيتم رحمكم الله آثار ابن عفان و سيرته و حبه للعافية و معدلته و سده للثغور و إعطاءه في الحقوق و إنصافه للمظلوم و حبه الضعيف حتى توثب عليه المتوثبون و تظاهر عليه الظالمون فقتلوه مسلما محرما ظمآن صائما لم يسفك فيهم دما و لم يقتل منهم أحدا و لا يطلبونه بضربة سيف و لا سوط و إنما ندعوكم أيها المسلمون إلى الطلب بدمه و إلى قتال من قتله فإنا و إياكم على أمر هدى واضح و سبيل مستقيم إنكم إن جامعتمونا طفئت النائرة و اجتمعت الكلمة و استقام أمر هذه الأمة و أقر الظالمون المتوثبون الذين قتلوا إمامهم بغير حق فأخذوا بجرائرهم و ما قدمت أيديهم إن لكم أن أعمل فيكم بالكتاب و أن أعطيكم في السنة عطاءين و لا أحتمل فضلا من فيئكم عنكم أبدا. فسارعوا إلى ما تدعون إليه رحمكم الله و قد بعثت إليكم رجلا من الصالحين كان من أمناء خليفتكم المظلوم ابن عفان و عماله و أعوانه على الهدى و الحق جعلنا الله و إياكم ممن يجيب إلى الحق و يعرفه و ينكر الباطل و يجحده و السلام عليكم و رحمة

(5/33)


الله. قال فلما قرئ عليهم الكتاب قال معظمهم سمعنا و أطعنا. قال و روى محمد بن عبد الله بن عثمان عن علي عن أبي زهير عن أبي منقر الشيباني قال قال الأحنف لما قرئ عليهم كتاب معاوية أما أنا فلا ناقة لي في هذا و لا جمل و أعتزل أمرهم ذلك.
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 40و قال عمرو بن مرجوم من عبد القيس أيها الناس الزموا طاعتكم و لا تنكثوا بيعتكم فتقع بكم واقعة و تصيبكم قارعة و لا يكن بعدها لكم بقية ألا إني قد نصحت لكم و لكن لا تحبون الناصحين. قال إبراهيم بن هلال و روى محمد بن عبد الله عن ابنبي سيف عن الأسود بن قيس عن ثعلبة بن عباد أن الذي كان سدد لمعاوية رأيه في تسريح ابن الحضرمي كتاب كتبه إليه عباس بن ضحاك العبدي و هو ممن كان يرى رأي عثمان و يخالف قومه في حبهم عليا ع و نصرتهم إياه و كان الكتاب. أما بعد فقد بلغنا وقعتك بأهل مصر الذين بغوا على إمامهم و قتلوا خليفتهم طمعا و بغيا فقرت بذلك العيون و شفيت بذلك النفوس و بردت أفئدة أقوام كانوا لقتل عثمان كارهين و لعدوه مفارقين و لكم موالين و بك راضين فإن رأيت أن تبعث إلينا أميرا طيبا ذكيا ذا عفاف و دين إلى الطلب بدم عثمان فعلت فإني لا إخال الناس إلا مجمعين عليك و إن ابن عباس غائب عن المصر و السلام. قال فلما قرأ معاوية كتابه قال لا عزمت رأيا سوى ما كتبت به إلي هذا و كتب إليه جوابه. أما بعد فقد قرأت كتابك فعرفت نصيحتك و قبلت مشورتك رحمك الله و سددك اثبت هداك الله على رأيك الرشيد فكأنك بالرجل الذي سألت قد أتاك و كأنك بالجيش قد أطل عليك فسررت و حبيت و السلام. قال إبراهيم و حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني علي بن أبي سيف عن أبي زهير شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 41قال لما نزل ابن الحضرمي في بني تميم أرسل إلى الرءوس فأتوه فقال لهم أجيبوني إلى الحق و انصروني علهذا الأمر. قال و إن الأمير بالبصرة يومئذ زياد بن عبيد قد استخلفه عبد الله بن عباس و قدم على

(5/34)


علي ع إلى الكوفة يعزيه عن محمد بن أبي بكر قال فقام إليه ابن ضحاك فقال إي و الذي له أسعى و إياه أخشى لننصرنك بأسيافنا و أيدينا. و قام المثنى بن مخرمة العبدي فقال لا و الذي لا إله إلا هو لئن لم ترجع إلى مكانك الذي أقبلت منه لنجاهدنك بأسيافنا و أيدينا و نبالنا و أسنة رماحنا نحن ندع ابن عم رسول الله ص و سيد المسلمين و ندخل في طاعة حزب من الأحزاب طاغ و الله لا يكون ذلك أبدا حتى نسير كتيبة و نفلق السيوف بالهام. فأقبل ابن الحضرمي على صبرة بن شيمان الأزدي فقال يا صبرة أنت رأس قومك و عظيم من عظماء العرب و أحد الطلبة بدم عثمان رأينا رأيك و رأيك رأينا و بلاء القوم عندك في نفسك و عشيرتك ما قد ذقت و رأيت فانصرني و كن من دوني فقال له إن أنت أتيتني فنزلت في داري نصرتك و منعتك فقال إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أنزل في قومه من مضر فقال اتبع ما أمرك به. و انصرف من عنده و أقبل الناس إلى ابن الحضرمي و كثر تبعه ففزع لذلك زياد و هاله و هو في دار الإمارة فبعث إلى الحضين بن المنذر و مالك بن مسمع فدعاهما فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإنكم أنصار أمير المؤمنين و شيعته و ثقته و قد جاءكم هذا الرجل بما قد بلغكم فأجيروني حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين و رأيه. فأما مالك بن مسمع فقال هذا أمر فيه نظر أرجع إلى من ورائي و أنظر و أستشير في ذلك. و أما الحضين بن المنذر فقال نعم نحن فاعلون و لن نخذلك و لن نسلمك.

(5/35)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 42فلم ير زياد من القوم ما يطمئن إليه فبعث إلى صبرة بن شيمان الأزدي فقال يا ابن شيمان أنت سيد قومك و أحد عظماء هذا المصر فإن يكن فيه أحد هو أعظم أهله فأنت ذاك أ فلا تجيرني و تمنعني و تمنع بيت مال المسلمين فإنما أنا أمين عليه فقابلى إن تحملت حتى تنزل في داري منعتك فقال إني فاعل. فارتحل ليلا حتى نزل دار صبرة بن شيمان و كتب إلى عبد الله بن عباس و لم يكن معاوية ادعى زيادا بعد لأنه إنما ادعاه بعد وفاة علي ع. للأمير عبد الله بن عباس من زياد بن عبيد. سلام عليك أما بعد فإن عبد الله بن عامر بن الحضرمي أقبل من قبل معاوية حتى نزل في بني تميم و نعى ابن عفان و دعا إلى حرب فبايعه جل أهل البصرة فلما رأيت ذلك استجرت بالأزد بصبرة بن شيمان و قومه لنفسي و لبيت مال المسلمين و رحلت من قصر الإمارة فنزلت فيهم و إن الأزد معي و شيعة أمير المؤمنين من فرسان القبائل تختلف إلي و شيعة عثمان تختلف إلى ابن الحضرمي و القصر خال منا و منهم فارفع ذلك إلى أمير المؤمنين ليرى فيه رأيه و أعجل إلي بالذي ترى أن يكون منه فيه و السلام عليك و رحمة الله و بركاته. قال فرفع ذلك ابن عباس إلى علي ع و شاع في الناس بالكوفة ما كان من ذلك و كانت بنو تميم و قيس و من يرى رأي عثمان قد أمروا ابن الحضرمي أن يسير إلى قصر الإمارة حين خلاه زياد فلما تهيأ لذلك و دعا أصحابه ركبت الأزد و بعثت إليه و إليهم إنا و الله لا ندعكم تأتون القصر فتنزلون فيه من لا نرضى و من نحن له كارهون حتى يأتي رجل لنا و لكم رضا فأبى أصحاب ابن الحضرمي إلا أن يسيروا إلى القصر و أبت الأزد إلا أن يمنعوهم فركب الأحنف فقال لأصحاب ابن الحضرمي إنكم و الله شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 43ما أنتم أحق بقصر الإمارة من القوم و ما لكم أن تؤمروا عليهم من يكرهونه فانصرفوا عنهم ففعلوا ثم ج إلى الأزد فقال إنه لم يكن ما تكرهون و لا يؤتى إلا ما تحبون

(5/36)


فانصرفوا رحمكم الله ففعلوا. قال إبراهيم و حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي سيف عن الكلبي أن ابن الحضرمي لما أتى البصرة و دخلها نزل في بني تميم في دار سنبيل و دعا بني تميم و أخلاط مضر فقال زياد لأبي الأسود الدؤلي أ ما ترى ما صغى أهل البصرة إلى معاوية و ما في الأزد لي مطمع فقال إن كنت تركتهم لم ينصروك و إن أصبحت فيهم منعوك. فخرج زياد من ليلته فأتى صبرة بن شيمان الحداني الأزدي فأجاره و قال له حين أصبح يا زياد إنه ليس حسنا بنا أن تقيم فينا مختفيا أكثر من يومك هذا فأعد له منبرا و سريرا في مسجد الحدان و جعل له شرطا و صلى بهم الجمعة في مسجد الحدان. و غلب ابن الحضرمي على ما يليه من البصرة و جباها و أجمعت الأزد على زياد فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا معشر الأزد إنكم كنتم أعدائي فأصبحتم أوليائي و أولى الناس بي و إني لو كنت في بني تميم و ابن الحضرمي فيكم لم أطمع فيه أبدا و أنتم دونه فلا يطمع ابن الحضرمي في و أنتم دوني و ليس ابن آكلة الأكباد في بقية الأحزاب و أولياء الشيطان بأدنى إلى الغلبة من أمير المؤمنين في المهاجرين و الأنصار و قد أصبحت فيكم مضمونا و أمانة مؤداة و قد رأينا وقعتكم يوم الجمل فاصبروا مع الحق صبركم مع الباطل فإنكم لا تحمدون إلا على النجدة و لا تعذرون على الجبن. فقام شيمان أبو صبرة و لم يكن شهد يوم الجمل و كان غائبا فقال يا معشر الأزد

(5/37)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 44ما أبقت عواقب الجمل عليكم إلا سوء الذكر و قد كنتم أمس على علي ع فكونوا اليوم له و اعلموا أن إسلامكم له ذل و خذلانكم إياه عار و أنتم حي مضماركم الصبر و عاقبتكم الوفاء فإن سار القوم بصاحبهم فسيروا بصاحبكم و إن استمدوا معاوية فامدوا عليا ع و إن وادعوكم فوادعوهم. ثم قام صبرة ابنه فقال يا معشر الأزد إنا قلنا يوم الجمل نمنع مصرنا و نطيع أمنا نطلب دم خليفتنا المظلوم فجددنا في القتال و أقمنا بعد انهزام الناس حتى قتل منا من لا خير فينا بعده و هذا زياد جاركم اليوم و الجار مضمون و لسنا نخاف من علي ما نخاف من معاوية فهبوا لنا أنفسكم و امنعوا جاركم أو فأبلغوه مأمنه. فقالت الأزد إنما نحن لكم تبع فأجيروه فضحك زياد و قال يا صبرة أ تخشون ألا تقوموا لبني تميم فقال صبرة إن جاءونا بالأحنف جئناهم بأبي صبرة و إن جاءونا بالحباب جئت أنا و إن كان فيهم شباب كثير فقال زياد إنما كنت مازحا. فلما رأت بنو تميم أن الأزد قد قامت دون زياد بعثت إليهم أخرجوا صاحبكم و نحن نخرج صاحبنا فأي الأميرين غلب علي أو معاوية دخلنا في طاعته و لا نهلك عامتنا. فبعث إليهم أبو صبرة إنما كان هذا يرجى عندنا قبل أن نجيره و لعمري ما قتل زياد و إخراجه إلا سواء و إنكم لتعلمون أنا لم نجره إلا كرما فالهوا عن هذا. قال و روى أبو الكنود أن شبث بن ربعي قال لعلي ع يا أمير المؤمنين ابعث إلى هذا الحي من تميم فادعهم إلى طاعتك و لزوم بيعتك و لا تسلط عليهم أزد عمان البعداء البغضاء فإن واحدا من قومك خير لك من عشرة من غيرهم. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 45فقال له مخنف بن سليم الأزدي إن البعيد البغيض من عصى الله و خالف أمير المؤمنين و هم قومك و إن الحبيب القريب من أطاع الله و نصر أمير المؤمنين و هم قومي و أحدهم خير لأمير المؤمنين من عشرة من قومك. فقال أمير المؤمنين ع مه تناهوا أيها الناس و ليردعكم الإسلام و وقاره عن

(5/38)


التباغي و التهاذي و لتجتمع كلمتكم و الزموا دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره و كلمة الإخلاص التي هي قوام الدين و حجة الله على الكافرين و اذكروا إذ كنتم قليلا مشركين متباغضين متفرقين فألف بينكم بالإسلام فكثرتم و اجتمعتم و تحاببتم فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم و لا تتباغضوا بعد إذ تحاببتم و إذا رأيتم الناس بينهم النائرة و قد تداعوا إلى العشائر و القبائل فاقصدوا لهامهم و وجوههم بالسيف حتى يفزعوا إلى الله و إلى كتابه و سنة نبيه فأما تلك الحمية من خطرات الشياطين فانتهوا عنها لا أبا لكم تفلحوا و تنجحوا
ثم إنه ع دعا أعين بن ضبيعة المجاشعي و قال يا أعين أ لم يبلغك أن قومك وثبوا على عاملي مع ابن الحضرمي بالبصرة يدعون إلى فراقي و شقاقي و يساعدون الضلال القاسطين علي فقال لا تسأ يا أمير المؤمنين و لا يكن ما تكره ابعثني إليهم فأنا لك زعيم بطاعتهم و تفريق جماعتهم و نفي ابن الحضرمي من البصرة أو قتله قال فاخرج الساعة. فخرج من عنده و مضى حتى قدم البصرة. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 46هذه رواية ابن هلال صاحب كتاب الغارات. و روى الواقدي أن عليا ع استنفر بني تميم أياما لينهض منهم إلى البصرة من يكفيه أمر ابن الحضرمي و يرد عادية بني تميم الذين أجاروه بها فلم يجبه أحد فخطبهم و قال أ ليس من العجب أن ينصرني الأزد و تخذلني مضر و أعجب من ذلك تقاعد تميم الكوفة بي و خلاف تميم البصرة علي و أن أستنجد بطائفة منها تشخص إلى إخوانها فتدعوهم إلى الرشاد فإن أجابت و إلا فالمنابذة و الحرب فكأني أخاطب صما بكما لا يفقهون حوارا و لا يجيبون نداء كل هذا جبنا عن البأس و حبا للحياة لقد كنا مع رسول الله ص نقتل آباءنا و أبناءنا

(5/39)


الفصل إلى آخره. قال فقام إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي فقال أنا إن شاء الله أكفيك يا أمير المؤمنين هذا الخطب و أتكفل لك بقتل ابن الحضرمي أو إخراجه عن البصرة فأمره بالتهيؤ للشخوص فشخص حتى قدم البصرة. قال إبراهيم بن هلال فلما قدمها دخل على زياد و هو بالأزد مقيم فرحب به و أجلسه إلى جانبه فأخبره بما قال له علي ع و ما رد عليه و ما الذي عليه رأيه فإنه إذ يكلمه جاءه كتاب من علي ع فيه
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زياد بن عبيد سلام عليك أما بعد فإني قد بعثت أعين بن ضبيعة ليفرق قومه عن ابن الحضرمي فارقب ما يكون منه فإن فعل و بلغ من ذلك ما يظن به و كان في ذلك تفريق تلك الأوباش فهو ما نحب و إن ترامت الأمور بالقوم إلى الشقاق و العصيان شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 47فانبذ بمن أطاعك إلى من عصاك فجاهدهم فإن ظهرت فهو ما ظننت و إلا فطاولهم و ماطلهم فكان كتائب المسلمين قد أطلت عليك فقتل الله المفسدين الظالمين و نصر المؤمنين المحقين و السلامفلما قرأه زياد أقرأه أعين بن ضبيعة فقال له إني لأرجو أن يكفى هذا الأمر إن شاء الله ثم خرج من عنده فأتى رحله فجمع إليه رجالا من قومه فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا قوم على ما ذا تقتلون أنفسكم و تهريقون دماءكم على الباطل مع السفهاء الأشرار و إني و الله ما جئتكم حتى عبيت إليكم الجنود فإن تنيبوا إلى الحق يقبل منكم و يكف عنكم و إن أبيتم فهو و الله استئصالكم و بواركم. فقالوا بل نسمع و نطيع فقال انهضوا الآن على بركة الله عز و جل فنهض بهم إلى جماعة ابن الحضرمي فخرجوا إليه مع ابن الحضرمي فصافوه و واقفهم عامة يومه يناشدهم الله و يقول يا قوم لا تنكثوا بيعتكم و لا تخالفوا إمامكم و لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا فقد رأيتم و جربتم كيف صنع الله بكم عند نكثكم بيعتكم و خلافكم. فكفوا عنه و لم يكن بينه و بينهم قتال و هم في ذلك يشتمونه و ينالون منه فانصرف عنهم و هو منهم منتصف

(5/40)


فلما أوى إلى رحله تبعه عشرة نفر يظن الناس أنهم خوارج فضربوه بأسيافهم و هو على فراشه و لا يظن أن الذي كان يكون فخرج يشتد عريانا فلحقوه في الطريق فقتلوه فأراد زياد أن يناهض ابن الحضرمي حين قتل أعين بجماعة من معه من الأزد و غيرهم من شيعة علي ع فأرسل بنو تميم إلى الأزد و الله ما عرضنا لجاركم إذ أجرتموه و لا لمال هو له و لا لأحد ليس على رأينا فما تريدون شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 48إلى حربنا و إلى جارنا فكان الأزد عند ذلك كرهت قتالهم. فكتب زياد إلى علي ع أما بعد يا أمير المؤمنين فإن أعين بن ضبيعة قدم علينا من قبلك د و مناصحة و صدق و يقين فجمع إليه من أطاعه من عشيرته فحثهم على الطاعة و الجماعة و حذرهم الخلاف و الفرقة ثم نهض بمن أقبل معه إلى من أدبر عنه فواقفهم عامة النهار فهال أهل الخلاف تقدمه و تصدع عن ابن الحضرمي كثير ممن كان يريد نصرته فكان كذلك حتى أمسى فأتى في رحله فبيته نفر من هذه الخارجة المارقة فأصيب رحمه الله تعالى فأردت أن أناهض ابن الحضرمي عند ذلك فحدث أمر قد أمرت صاحب كتابي هذا أن يذكره لأمير المؤمنين و قد رأيت إن رأى أمير المؤمنين ما رأيت أن يبعث إليهم جارية بن قدامة فإنه نافذ البصيرة و مطاع في العشيرة شديد على عدو أمير المؤمنين فإن يقدم يفرق بينهم بإذن الله و السلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته.
فلما جاء الكتاب دعا جارية بن قدامة فقال له يا ابن قدامة تمنع الأزد عاملي و بيت مالي و تشاقني مضر و تنابذني و بنا ابتدأها الله تعالى بالكرامة و عرفها الهدى و تداعوا إلى المعشر الذين حادوا الله و رسوله و أرادوا إطفاء نور الله سبحانه حتى علت كلمة الله و هلك الكافرون

(5/41)


فقال يا أمير المؤمنين ابعثني إليهم و استعن بالله عليهم قال قد بعثتك إليهم و استعنت بالله عليهم. قال إبراهيم فحدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني ابن أبي السيف عن سليمان بن أبي راشد عن كعب بن قعين قال خرجت مع جارية من الكوفة إلى البصرة شرح نهج البلاغة ج : 4 : 49في خمسين رجلا من بني تميم ما كان فيهم يماني غيري و كنت شديد التشيع فقلت لجارية إن شئت كنت معك و إن شئت ملت إلى قومي فقال بل معي فو الله لوددت أن الطير و البهائم تنصرني عليهم فضلا عن الإنس. قال و روى كعب بن قعين أن عليا ع كتب مع جارية كتابا و قال أقرئه على أصحابك قال فمضينا معه فلما دخلنا البصرة بدأ بزياد فرحب به و أجلسه إلى جانبه و ناجاه ساعة و ساءله ثم خرج فكان أفضل ما أوصاه به أن قال احذر على نفسك و اتق أن تلقى ما لقي صاحبك القادم قبلك. و خرج جارية من عنده فقام في الأزد فقال جزاكم الله من حي خيرا ما أعظم غناءكم و أحسن بلاءكم و أطوعكم لأميركم لقد عرفتم الحق إذ ضيعه من أنكره و دعوتم إلى الهدى إذ تركه من لم يعرفه ثم قرأ عليهم و على من كان معه من شيعة علي ع و غيرهم كتاب علي ع فإذا فيه

(5/42)


من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين و المسلمين سلام عليكم أما بعد فإن الله حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة قبل البينة و لا يأخذ المذنب عند أول وهلة و لكنه يقبل التوبة و يستديم الأناة و يرضي بالإنابة ليكون أعظم للحجة و أبلغ في المعذرة و قد كان من شقاق جلكم أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا عليه فعفوت عن مجرمكم و رفعت السيف عن مدبركم و قبلت من مقبلكم و أخذت بيعتكم فإن تفوا ببيعتي و تقبلوا نصيحتي و تستقيموا على طاعتي أعمل شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 50فيكم بالكتاب السنة و قصد الحق و أقم فيكم سبيل الهدى فو الله ما أعلم أن واليا بعد محمد ص أعلم بذلك مني و لا أعمل بقولي أقول قولي هذا صادقا غير ذام لمن مضى و لا منتقصا لأعمالهم و إن خبطت بكم الأهواء المردية و سفه الرأي الجائر إلى منابذتي تريدون خلافي فها أنا ذا قربت جيادي و رحلت ركابي و ايم الله لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل عندها إلا كلعقة لاعق و إني لظان ألا تجعلوا إن شاء الله على أنفسكم سبيلا و قد قدمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم و لن أكتب إليكم من بعده كتابا إن أنتم استغششتم نصيحتي و نابذتم رسولي حتى أكون أنا الشاخص نحوكم إن شاء الله تعالى و السلام

(5/43)


قال فلما قرئ الكتاب على الناس قام صبرة بن شيمان فقال سمعنا و أطعنا و نحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب و لمن سالم سلم إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك و إن أحببت أن ننصرك نصرناك. و قام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك و نحوه فلم يأذن لأحد منهم أن يسير معه و مضى نحو بني تميم. فقام زياد في الأزد فقال يا معشر الأزد إن هؤلاء كانوا أمس سلما فأصبحوا اليوم حربا و إنكم كنتم حربا فأصبحتم سلما و إني و الله ما اخترتكم إلا على التجربة و لا أقمت فيكم إلا على الأمل فما رضيتم أن أجرتموني حتى نصبتم لي منبرا و سريرا و جعلتم لي شرطا و أعوانا و مناديا و جمعة فما فقدت بحضرتكم شيئا إلا هذا الدرهم لا أجبيه اليوم فإن لم أجبه اليوم أجبه غدا إن شاء الله و اعلموا أن حربكم اليوم معاوية أيسر عليكم في الدنيا و الدين من حربكم أمس عليا و قد قدم عليكم جارية بن قدامة و إنما أرسله علي شرح نهج البلة ج : 4 ص : 51ليصدع أمر قومه و الله ما هو بالأمير المطاع و لو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أمير المؤمنين أو لكان لي تبعا و أنتم الهامة العظمى و الجمرة الحامية فقدموه إلى قومه فإن اضطر إلى نصركم فسيروا إليه إن رأيتم ذلك. فقام أبو صبرة شيمان فقال يا زياد إني و الله لو شهدت قومي يوم الجمل رجوت ألا يقاتلوا عليا و قد مضى الأمر بما فيه و هو يوم بيوم و أمر بأمر و الله إلى الجزاء بالإحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسيئ و التوبة مع الحق و العفو مع الندم و لو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء و استئناف الأمور و لكنها جماعة دماؤها حرام و جروحها قصاص و نحن معك نحب ما أحببت. فعجب زياد من كلامه و قال ما أظن في الناس مثل هذا. ثم قام صبرة ابنه فقال إنا و الله ما أصبنا بمصيبة في دين و لا دنيا كما أصبنا أمس يوم الجمل و إنا لنرجو اليوم أن نمحص ذلك بطاعة الله و طاعة أمير المؤمنين و أما أنت يا زياد فو الله ما أدركت أملك فينا و لا أدركنا

(5/44)


أملنا فيك دون ردك إلى دارك و نحن رادوك إليها غدا إن شاء الله تعالى فإذا فعلنا فلا يكن أحد أولى بك منا فإنك إلا تفعل لم تأت ما يشبهك و إنا و الله نخاف من حرب علي في الآخرة ما لا نخاف من حرب معاوية في الدنيا فقدم هواك و أخر هوانا فنحن معك و طوعك. ثم قام خنقر الحماني فقال أيها الأمير إنك لو رضيت منا بما ترضى به من غيرنا لم نرض ذلك لأنفسنا سر بنا إلى القوم إن شئت و ايم الله ما لقينا قوما قط إلا اكتفينا بعفونا دون جهدنا إلا ما كان أمس.

(5/45)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 52قال إبراهيم فأما جارية فإنه كلم قومه فلم يجيبوه و خرج إليه منهم أوباش فناوشوه بعد أن شتموه و أسمعوه فأرسل إلى زياد و الأزد يستصرخهم و يأمرهم أن يسيروا إليه فسارت الأزد بزياد و خرج إليهم ابن الحضرمي و على خيله عبد الله بن خازملسلمي فاقتتلوا ساعة و أقبل شريك بن الأعور الحارثي و كان من شيعة علي ع و صديقا لجارية بن قدامة فقال أ لا أقاتل معك عدوك فقال بلى فما لبثت بنو تميم أن هزموهم و اضطروهم إلى دار سنبيل السعدي فحصروا ابن الحضرمي و حدوه فأتى رجل من بني تميم و معه عبد الله بن خازم السلمي فجاءت أمه و هي سوداء حبشية اسمها عجلى فنادته فأشرف عليها فقالت يا بني انزل إلي فأبى فكشفت رأسها و أبدت قناعها و سألته النزول فأبى فقالت و الله لتنزلن أو لأتعرين و أهوت بيدها إلى ثيابها فلما رأى ذلك نزل فذهبت به و أحاط جارية و زياد بالدار و قال جارية علي بالنار فقالت الأزد لسنا من الحريق بالنار في شي ء و هم قومك و أنت أعلم فحرق جارية الدار عليهم فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلا أحدهم عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي التيمي و سمي جارية منذ ذلك اليوم محرقا و سارت الأزد بزياد حتى أوطنوه قصر الإمارة و مه بيت المال و قالت له هل بقي علينا من جوارك شي ء قال لا قالوا فبرئنا منه فقال نعم فانصرفوا عنه و كتب زياد إلى أمير المؤمنين ع أما بعد فإن جارية بن قدامة العبد الصالح قدم من عندك فناهض جمع ابن الحضرمي بمن نصره و أعانه من الأزد ففضه و اضطره إلى دار من دور ابصرة في عدد كثير من أصحابه فلم يخرج حتى حكم الله تعالى بينهما فقتل ابن الحضرمي و أصحابه منهم من أحرق بالنار و منهم من ألقي عليه جدار و منهم من هدم عليه البيت من أعلاه و منهم من قتل بالسيف و سلم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 53منهم نفر أنابوا و تابوا فصفح عنهو بعدا لمن عصى و غوى و السلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته.

(5/46)


فلما وصل كتاب زياد قرأه علي ع على الناس و كان زياد قد أنفذه مع ظبيان بن عمارة فسر علي ع بذلك و سر أصحابه و أثنى على جارية و على الأزد و ذم البصرة
فقال إنها أول القرى خرابا أما غرقا و أما حرقا حتى يبقى مسجدها كجؤجؤ سفينة ثم قال لظبيان أين منزلك منها فقال مكان كذا فقال عليك بضواحيها
و قال ابن العرندس الأزدي يذكر تحريق ابن الحضرمي و يعير تميما بذلك
رددنا زيادا إلى داره و جار تميم ينادي الشجب لحا الله قوما شووا جارهم لعمري لبئس الشواء الشصب ينادي الخناق و أبناءها و قد شيطوا رأسها باللهو الخناق لقب قوم بني تميم
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 5654- و من كلام له ع لأصحابهأَمَا إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ يَأْكُلُ مَا يَجِدُ وَ يَطْلُبُ مَا لَا يَجِدُ فَاقْتُلُوهُ وَ لَنْ تَقْتُلُوهُ أَلَا وَ إِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَ الْبَرَاءَةِ مِنِّي فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ وَ لَكُمْ نَجَاةٌ وَ أَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلَا تَتَبَرَّءُوا مِنِّي فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَ سَبَقْتُ إِلَى الْإِيمَانِ وَ الْهِجْرَةِ

(5/47)


مندحق البطن بارزها و الدحوق من النوق التي يخرج رحمها عند الولادة و سيظهر سيغلب و رحب البلعوم واسعه. و كثير من الناس يذهب إلى أنه ع عنى زيادا و كثير منهم يقول إنه عنى الحجاج و قال قوم إنه عنى المغيرة بن شعبة و الأشبه عندي أنه عنى معاوية لأنه كان موصوفا بالنهم و كثرة الأكل و كان بطينا يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه و كان معاوية جوادا بالمال و الصلات و بخيلا على الطعام يقال إنه مازح أعرابيا على طعامه و قد قدم بين يديه خروف فأمعن الأعرابي في أكله فقال له ما ذنبه إليك أ نطحك أبوه فقال الأعرابي و ما حنوك عليه أ أرضعتك أمه. و قال لأعرابي يأكل بين يديه و قد استعظم أكله أ لا أبغيك سكينا فقال شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 55كل امرئ سكينه في رأسه فقال ما اسمك قال لقيم قال منها أتيت. كان معاوية يأكل فيكثر ثم يقول ارفعوا فو الله ما شبعت و لكن مللت و تعبت. تظاهرت الأخبارأن رسول الله ص دعا على معاوية لما بعث إليه يستدعيه فوجده يأكل ثم بعث فوجده يأكل فقال اللهم لا تشبع بطنه
قال الشاعر
و صاحب لي بطنه كالهاوية كأن في أحشائه معاوية
و في هذا الفصل مسائل الأولى في تفسير قوله ع فاقتلوه و لن تقتلوه فنقول إنه لا تنافي بين الأمر بالشي ء و الإخبار عن أنه لا يقع كما أخبر الحكيم سبحانه عن أن أبا لهب لا يؤمن و أمره بالإيمان و كما قال تعالى فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثم قالوَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً و أكثر التكليفات على هذا المنهاج

(5/48)


مسألة كلامية في الأمر بالشي ء مع العلم بأنه لا يقع و اعلم أن أهل العدل و المجبرة لم يختلفوا في أنه تعالى قد يأمر بما يعلم أنه لا يقع أو يخبر عن أنه لا يقع و إنما اختلفوا هل يصح أن يريد ما يعلم أنه لا يقع أو يخبر عنه أنه لا يقع فقال أصحابنا يصح ذلك و قال المجبرة لا يصح لأن إرادة ما يعلم المريد أنه لا يقع قضية متناقضة لأن تحت قولنا أراد مفهوم أن ذلك المراد مما يمكن حصوله لأن إرادة المحال ممتنعة و تحت قولنا إنه يعلم أنه لا يقع مفهوم أن ذلك المراد مما لا يمكن حصوله لأنا قد شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 56فرضنا أنه لا يقع و ما لا يقع لا يمكن حصوله مع فرض كونه لا ي فقال لهم أصحابنا هذا يلزمكم في الأمر لأنكم قد أجزتم أن يأمر بما يعلم أنه لا يقع فقالوا في الجواب نحن عندنا أنه يأمر بما لا يريد فإذا أمر بما يعلم أنه لا يقع أو يخبر عن أنه لا يقع كان ذلك الأمر أمرا عاريا عن الإرادة و المحال إنما نشأ من إرادة ما علم المريد أنه لا يقع و هاهنا لا إرادة. فقيل لهم هب أنكم ذهبتم إلى أن الأمر قد يعرى من الإرادة مع كونه أمرا أ لستم تقولون أن الأمر يدل على الطلب و الطلب شي ء آخر غير الإرادة و تقولون إن ذلك الطلب قائم بذات البارئ فنحن نلزمكم في الطلب القائم بذات البارئ الذي لا يجوزأن يعرى الأمر منه ما ألزمتمونا في الإرادة. و نقول لكم كيف يجوز أن يطلب الطالب ما يعلم أنه لا يقع أ ليس تحت قولنا طلب مفهوم أن ذلك المطلوب مما يمكن وقوعه فالحال في الطلب كالحال في الإرادة حذو النعل بالنعل و لنا في هذا الموضع أبحاث دقيقة ذكرناها في كتبنا الكلامية
فصل فيما روي من سب معاوية و حزبه لعلي

(5/49)


المسألة الثانية في قوله ع يأمركم بسبي و البراءة مني فنقول إن معاوية أمر الناس بالعراق و الشام و غيرهما بسب علي ع و البراءة منه. و خطب بذلك على منابر الإسلام و صار ذلك سنة في أيام بني أمية إلى أن قام عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه فأزاله و ذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ أن معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة اللهم إن أبا تراب ألحد في دينك و صد عن سبيلك شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 57فالعنه لعنا وبيلا و عذبه عذابا أليما و كتب بذلك إلى الآفاق فكانت هذه الكلمات يشار بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبد العزيز. ذكر أبو عثمان أيضا أن هشام بن عبد الملك لما حج خطب بالموسم فقام إليه إنسان فقال يا أمير المؤمنين إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب فقال اكفف فما لهذا جئنا. و ذكر المبرد في الكامل أن خالد بن عبد الله القسري لما كان أمير العراق في خلافة هشام كان يلعن عليا ع على المنبر فيقول اللهم العن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم صهر رسول الله ص على ابنته و أبا الحسن و الحسين ثم يقبل على الناس فيقول هل كنيت. و روى أبو عثمان أيضا أن قوما من بني أمية قالوا لمعاوية يا أمير المؤمنين إنك قد بلغت ما أملت فلو كففت عن لعن هذا الرجل فقال لا و الله حتى يربو عليه الصغير و يهرم عليه الكبير و لا يذكر له ذاكر فضلا. و قال أبو عثمان أيضا و ما كان عبد الملك مع فضله و أناته و سداده و رجحانه ممن يخفى عليه فضل علي ع و أن لعنه على رءوس الأشهاد و في أعطاف الخطب و على صهوات المنابر مما يعود عليه نقصه و يرجع إليه وهنه لأنهما جميعا من بني عبد مناف و الأصل واحد و الجرثومة منبت لهما و شرف علي ع و فضله عائد عليه و محسوب له و لكنه أراد تشييد الملك و تأكيد ما فعله الأسلاف و أن يقرر في أنفس الناس أن بني هاشم لا حظ لهم في هذا الأمر و أن سيدهم الذي به يصولون و بفخره يفخرون

(5/50)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 58هذا حاله و هذا مقداره فيكون من ينتمي إليه و يدلي به عن الأمر أبعد و عن الوصول إليه أشحط و أنزح. و روى أهل السيرة أن الوليد بن عبد الملك في خلافته ذكر عليا ع فقال لعنه الله بالجر كان لص ابن لص. فعجب الناس من لحنه فيما لا يلحن ه أحد و من نسبته عليا ع إلى اللصوصية و قالوا ما ندري أيهما أعجب و كان الوليد لحانا. و أمر المغيرة بن شعبة و هو يومئذ أمير الكوفة من قبل معاوية حجر بن عدي أن يقوم في الناس فليلعن عليا ع فأبى ذلك فتوعده فقام فقال أيها الناس إن أميركم أمرني أن ألعن عليا فالعنوه فقال أهل الكوفة لعنه الله و أعاد الضمير إلى المغيرة بالنية و القصد. و أراد زياد أن يعرض أهل الكوفة أجمعين على البراءة من علي ع و لعنه و أن يقتل كل من امتنع من ذلك و يخرب منزله فضربه الله ذلك اليوم بالطاعون فمات لا رحمه الله بعد ثلاثة أيام و ذلك في خلافة معاوية. و كان الحجاج لعنه الله يلعن عليا ع و يأمر بلعنه و قال له متعرض به يوما و هو راكب أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليا فغير اسمي و صلني بما أتبلغ به فإني فقير فقال للطف ما توصلت به قد سميتك كذا و وليتك العمل الفلاني فاشخص إليه. فأما عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فإنه قال كنت غلاما أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود فمر بي يوما و أنا ألعب مع الصبيان و نحن نلعن عليا. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 59فكره ذلك و دخل المسجد فتركت الصبيان و جئت إليه لأدرس عليه وردي فلما رآني قام فصلى و أطال في الصلاة شبالمعرض عني حتى أحسست منه بذلك فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي فقلت له ما بال الشيخ فقال لي يا بني أنت اللاعن عليا منذ اليوم قلت نعم قال فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم فقلت يا أبت و هل كان علي من أهل بدر فقال ويحك و هل كانت بدر كلها إلا له فقلت لا أعود فقال الله أنك لا تعود قلت نعم فلم ألعنه بعدها ثم كنت

(5/51)


أحضر تحت منبر المدينة و أبي يخطب يوم الجمعة و هو حينئذ أمير المدينة فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه حتى يأتي إلى لعن علي ع فيجمجم و يعرض له من الفهاهة و الحصر ما الله عالم به فكنت أعجب من ذلك فقلت له يوما يا أبت أنت أفصح الناس و أخطبهم فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عليا فقال يا بني إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام و غيرهم لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد فوقرت كلمته في صدري مع ما كان قاله لي معلمي أيام صغري فأعطيت الله عهدا لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لأغيرنه فلما من الله علي بالخلافة أسقطت ذلك و جعلت مكانه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ و كتب به إلى الآفاق فصار سنة. و قال كثير بن عبد الرحمن يمدح عمر و يذكر قطعه السب
وليت فلم تشتم عليا و لم تخف بريا و لم تقبل إساءة مجرم و كفرت بالعفو الذنوب مع الذي أتيت فأضحى راضيا كل مسلم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 60ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه من الأود البادي ثقاف المقوم و ما زلت تواقا إلى كل غاية بلغت بها أعلى العلاء المقدم فلما أتاك الأمر عفوا و لم يكن لطالب دنيا بعده من تكلم تركت الذي يفنى لأن كان بائدا و آثرت ما يبقى برأي و قال الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى

(5/52)


يا ابن عبد العزيز لو بكت العين فتى من أمية لبكيتك غير أني أقول أنك قد طبت و إن لم يطب و لم يزك بيتك أنت نزهتنا عن السب و القذف فلو أمكن الجزاء جزيتك و لو أني رأيت قبرك لاستحييت من أن أرى و ما حييتك و قليل أن لو بذلت دماء البدن صرفا على الذرا و سقيتك دعان فيك مأوى أبي حفص بودي لو أنني آويتك دير سمعان لا أغبك غيث خير ميت من آل مروان ميتك أنت بالذكر بين عيني و قلبي إن تدانيت منك أو إن نأيتك و إذا حرك الحشا خاطر منك توهمت أنني قد رأيتك و عجيب أني قليت بني مروان طرا و أنني ما قليتك قرب العدل منك لما نأور بهم فاجتويتهم و اجتبيتك فلو أني ملكت دفعا لما نابك من طارق الردى لفديتك شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 61و روى ابن الكلبي عن أبيه عن عبد الرحمن بن السائب قال قال الحجاج يوما لعبد الله بن هانئ و هو رجل من بني أود حي من قحطان و كان شريفا في قومه قد شهد مع الحجاج مشاهده كلها و كان من أنصاره و شيعته و الله ما كافأتك بعد ثم أرسل إلى ماء بن خارجة سيد بني فزارة أن زوج عبد الله بن هانئ بابنتك فقال لا و الله و لا كرامة فدعا بالسياط فلما رأى الشر قال نعم أزوجه ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمانية زوج ابنتك من عبد الله بن أود فقال و من أود لا و الله لا أزوجه و لا كرامة فقال علي بالسيف فقال دعني حتى أشاور أهلي فشاورهم فقالوا زوجه و لا تعرض نفسك لهذا الفاسق فزوجه فقال الحجاج لعبد الله قد زوجتك بنت سيد فزارة و بنت سيد همدان و عظيم كهلان و ما أود هناك فقال لا تقل أصلح الله الأمير ذاك فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب قال و ما هي قال ما سب أمير المؤمنين عبد الملك في ناد لنا قط قال منقبة و الله قال و شهد منا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلا ما شهد منا مع أبي تراب إلا رجل واحد و كان و الله ما علمته امرأ سوء قال منقبة و الله قال و منا نسوة نذرن إن قتل الحسين بن علي أن تنحر كل واحدة عشر

(5/53)


قلائص ففعلن قال منقبة و الله قال و ما منا رجل عرض عليه شتم أبي تراب و لعنه إلا فعل و زاد ابنيه حسنا و حسينا و أمهما فاطمة قال منقبة و الله قال و ما أحد من العرب له من الصباحة و الملاحة ما لنا فضحك الحجاج و قال أما هذه يا أبا هانئ فدعها و كان عبد الله دميما شديد الأدمة مجدورا في رأسه عجر مائل الشدق أحول قبيح الوجه شديد الحول. و كان عبد الله بن الزبير يبغض عليا ع و ينتقصه و ينال من عرضه. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 62و روى عمر بن شبة و ابن الكلبي و الواقدي و غيرهم من رواة السير أنه مكث أيام ادعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلي فيها على النبي ص و قال لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بآنافها. و في رواية محمد بن حبيب و أبي عبيدة معمر بن المثنأن له أهيل سوء ينغضون رءوسهم عند ذكره. و روى سعيد بن جبير أن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن عباس ما حديث أسمعه عنك قال و ما هو قال تأنيبي و ذمي
فقال إني سمعت رسول الله ص يقول بئس المرء المسلم يشبع و يجوع جاره

(5/54)


فقال ابن الزبير إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة و ذكر تمام الحديث. و روى عمر بن شبة أيضا عن سعيد بن جبير قال خطب عبد الله بن الزبير فنال من علي ع فبلغ ذلك محمد بن الحنفية فجاء إليه و هو يخطب فوضع له كرسي فقطع عليه خطبته و قال يا معشر العرب شاهت الوجوه أ ينتقص علي و أنتم حضور إن عليا كان يد الله على أعداء الله و صاعقة من أمره أرسله على الكافرين و الجاحدين لحقه فقتلهم بكفرهم فشنئوه و أبغضوه و أضمروا له الشنف و الحسد و ابن عمه ص حي بعد لم يمت فلما نقله الله إلى جواره و أحب له ما عنده أظهرت له رجال أحقادها و شفت أضغانها فمنهم من ابتز حقه و منهم من ائتمر به ليقتله و منهم من شتمه و قذفه بالأباطيل فإن يكن لذريته و ناصري دعوته دولة تنشر عظامهم و تحفر على أجسادهم و الأبدان منهم يومئذ بالية بعد أن تقتل الأحياء منهم و تذل رقابهم فيكون الله عز اسمه قد عذبهم بأيدينا و أخزاهم و نصرنا عليهم و شفا صدورنا منهم إنه و الله ما يشتم عليا إلا كافر يسر شتم رسول الله ص و يخاف أن يبوح به شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 63فيكني بشتم علي ع عنه أما إنه قد تخطت المنية منكم من امتد عمره و سمع قول رسول الله ص فيه لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق
وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ فعاد ابن الزبير إلى خطبته و قال عذرت بني الفواطم يتكلمون فما بال ابن أم حنيفة فقال محمد يا ابن أم رومان و ما لي لا أتكلم و هل فاتني من الفواطم إلا واحدة و لم يفتني فخرها لأنها أم أخوي أنا ابن فاطمة بنت عمران بن عائذ بن مخزوم جده رسول الله ص و أنا ابن فاطمة بنت أسد بن هاشم كافلة رسول الله ص و القائمة مقام أمه أما و الله لو لا خديجة بنت خويلد ما تركت في بني أسد بن عبد العزى عظما إلا هشمته ثم قام فانصرف
فصل في ذكر الأحاديث الموضوعة في ذم علي

(5/55)


و ذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى و كان من المتحققين بموالاة علي ع و المبالغين في تفضيله و إن كان القول بالتفضيل عاما شائعا في البغداديين من أصحابنا كافة إلا أن أبا جعفر أشدهم في ذلك قولا و أخلصهم فيه اعتقادا أن معاوية وضع قوما من الصحابة و قوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي ع تقتضي الطعن فيه و البراءة منه و جعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه منهم أبو هريرة و عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و من التابعين عروة بن الزبير.
روى الزهري أن عروة بن الزبير حدثه قال حدثتني عائشة قالت كنت عند شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 64رسول الله إذ أقبل العباس و علي فقال يا عائشة إن هذين يموتان على غير ملتي أو قال دينيو روى عبد الرزاق عن معمر قال كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي ع فسألته عنهما يوما فقال ما تصنع بهما و بحديثهما الله أعلم بهما إني لأتهمهما في بني هاشم. قال فأما الحديث الأول فقد ذكرناه و أما الحديث الثاني فهو أن عروة زعم أن عائشة حدثته
قالت كنت عند النبي ص إذ أقبل العباس و علي فقال يا عائشة إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا فنظرت فإذا العباس و علي بن أبي طالب
و أما عمرو بن العاص فروي عنه الحديث الذي أخرجه البخاري و مسلم في صحيحيهما مسندا متصلا بعمرو بن العاص
قال سمعت رسول الله ص يقول إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله و صالح المؤمنين
و أما أبو هريرة فروي عنه الحديث الذي معناه أن عليا ع خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله ص فأسخطه فخطب على المنبر و قال لاها الله لا تجتمع ابنة ولي الله و ابنة عدو الله أبي جهل إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها فإن كان علي يريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي و ليفعل ما يريد

(5/56)


أو كلاما هذا معناه و الحديث مشهور من رواية الكرابيسي. قلت هذا الحديث أيضا مخرج في صحيحي مسلم و البخاري عن المسور بن مخرمة الزهري و قد ذكره المرتضى في كتابه المسمى تنزيه الأنبياء و الأئمة و ذكر أنه رواية شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 65حسين الكرابيسي و أنه مشر بالانحراف عن أهل البيت ع و عداوتهم و المناصبة لهم فلا تقبل روايته. و لشياع هذا الخبر و انتشاره ذكره مروان بن أبي حفصة في قصيدة يمدح بها الرشيد و يذكر فيها ولد فاطمة ع و ينحي عليهم و يذمهم و قد بالغ حين ذم عليا ع و نال منه و أولها
سلام على جمل و هيهات من جمل و يا حبذا جمل و إن صرمت حبلي
يقول فيها

(5/57)


علي أبوكم كان أفضل منكم أباه ذوو الشورى و كانوا ذوي الفضل و ساء رسول الله إذ ساء بنته بخطبته بنت اللعين أبي جهل فذم رسول الله صهر أبيكم على منبر بالمنطق الصادع الفضل و حكم فيها حاكمين أبوكم هما خلعاه خلع ذي النعل للنعل و قد باعها من بعده الحسن ابنه فقدلت دعواكم الرثة الحبل و خليتموها و هي في غير أهلها و طالبتموها حين صارت إلى أهلو قد روي هذا الخبر على وجوه مختلفة و فيه زيادات متفاوتة فمن الناس من يروي فيه مهما ذممنا من صهر فإنا لم نذم صهر أبي العاص بن الربيع و من الناس من يروي فيه ألا إن بني المغيرة أرسلوا إلى علي ليزوجوه كريمتهم و غير ذلك. و عندي أن هذا الخبر لو صح لم يكن على أمير المؤمنين فيه غضاضة و لا قدح لأن شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 66الأمة مجمعة على أنه لو نكح ابنة أبي جهل مضافا إلى نكاح فاطمة ع لجاز لأنه داخل تحت عموم الآية المبيحة للنساء الأربع فابنة أبي جهل المشار إليها كانت مسلمة لأن هذه القصة كانت بعد فتح مكة و إسلام لها طوعا و كرها و رواة الخبر موافقون على ذلك فلم يبق إلا أنه إن كان هذا الخبر صحيحا فإن رسول الله ص لما رأى فاطمة ع قد غارت و أدركها ما يدرك النساء عاتب عليا ع عتاب الأهل و كما يستثبت الوالد رأي الولد و يستعطفه إلى رضا أهله و صلح زوجته و لعل الواقع كان بعض هذا الكلام فحرف و زيد فيه و لو تأملت أحوال النبي ص مع زوجاته و ما كان يجري بينه و بينهن من الغضب تارة و الصلح أخرى و السخط تارة و الرضا أخرى حتى بلغ الأمر إلى الطلاق مرة و إلى الإيلاء مرة و إلى الهجر و القطيعة مرة و تدبرت ما ورد في الروايات الصحيحة مما كن يلقينه ع به و يسمعنه إياه لعلمت أن الذي عاب الحسدة و الشائنون عليا ع به بالنسبة إلى تلك الأحوال قطرة من البحر المحيط و لو لم يكن إلا قصة مارية و ما جرى بين رسول الله ص و بين تينك الامرأتين من الأحوال و الأقوال حتى أنزل فيهما قرآن يتلى في

(5/58)


المحاريب و يكتب في المصاحف و قيل لهما ما لا يقال للإسكندر ملك الدنيا لو كان حيا منابذا لرسول الله ص وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ثم أردف بعد ذلك بالوعيد و التخويف عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ الآيات بتمامها ثم ضرب لهما مثلا امرأة نوح و امرأة لوط اللتين خانتا بعليهما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً و تمام الآية معلوم فهل ما روي في الخبر من تعصب فاطمة على علي ع شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 67و غيرتها من تعريض ي المغيرة له بنكاح عقيلتهم إذا قويس إلى هذه الأحوال و غيرها مما كان يجري إلا كنسبة التأفيف إلى حرب البسوس و لكن صاحب الهوى و العصبية لا علاج له. ثم نعود إلى حكاية كلام شيخنا أبي جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى قال أبو جعفر و روى الأعمش قال لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مرارا و قال يا أهل العراق أ تزعمون أني أكذب على الله و على رسوله و أحرق نفسي بالنار
و الله لقد سمعت رسول الله ص يقول إن لكل نبي حرما و إن حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين

(5/59)


و أشهد بالله أن عليا أحدث فيها فلما بلغ معاوية قوله أجازه و أكرمه و ولاه أمارة المدينة. قلت أما قوله ما بين عير إلى ثور فالظاهر أنه غلط من الراوي لأن ثورا بمكة و هو جبل يقال له ثور أطحل و فيه الغار الذي دخله النبي ص و أبو بكر و إنما قيل أطحل لأن أطحل بن عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن عدنان كان يسكنه و قيل اسم الجبل أطحل فأضيف ثور إليه و هو ثور بن عبد مناف و الصواب ما بين عير إلى أحد. فأما قول أبي هريرة أن عليا ع أحدث في المدينة فحاش لله كان علي ع أتقى لله من ذلك و الله لقد نصر عثمان نصرا لو كان المحصور جعفر بن أبي طالب لم يبذل له إلا مثله. قال أبو جعفر و أبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية ضربه عمر شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 68بالدرة و قال قد أكثرت من الرواية و أحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله ص. و روى سفيان الثوري عن منصور عن راهيم التيمي قال كانوا لا يأخذون عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار. و روى أبو أسامة عن الأعمش قال كان إبراهيم صحيح الحديث فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه فأتيته يوما بأحاديث من حديث أبي صالح عن أبي هريرة فقال دعني من أبي هريرة إنهم كانوا يتركون كثيرا من حديثه. و قد روي عن علي ع أنه قال ألا إن أكذب الناس أو قال أكذب الأحياء على رسول الله ص أبو هريرة الدوسي. و روى أبو يوسف قال قلت لأبي حنيفة الخبر يجي ء عن رسول الله ص يخالف قياسنا ما تصنع به قال إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به و تركنا الرأيفقلت ما تقول في رواية أبي بكر و عمر فقال ناهيك بهما فقلت علي و عثمان قال كذلك فلما رآني أعد الصحابة قال و الصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا ثم عد منهم أبا هريرة و أنس بن مالك. و روى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمر بن عبد الغفار أن أبا هريرة لما قدم الكوفة مع معاوية كان يجلس بالعشيات بباب كندة و يجلس الناس إليه

(5/60)


فجاء شاب من الكوفة فجلس إليه فقال يا أبا هريرة أنشدك الله أ سمعت
رسول الله ص يقول لعلي بن أبي طالب اللهم وال من والاه و عاد من عاداه
فقال اللهم نعم قال فأشهد بالله لقد واليت عدوه و عاديت وليه ثم قام عنه. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 69و روت الرواة أن أبا هريرة كان يؤاكل الصبيان في الطريق و يلعب معهم و كان يخطب و هو أمير المدينة فيقول الحمد لله الذي جعل الدين قياما و أبا هريرة إماما يضحك ناس بذلك و كان يمشي و هو أمير المدينة في السوق فإذا انتهى إلى رجل يمشي أمامه ضرب برجليه الأرض و يقول الطريق الطريق قد جاء الأمير يعني نفسه. قلت قد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب المعارف في ترجمة أبي هريرة و قوله فيه حجة لأنه غير متهم عليه. قال أبو جعفر و كان المغيرة بن شعبة يلعن عليا ع لعنا صريحا على منبر الكوفة و كان بلغه عن علي ع في أيام عمر أنه قال لئن رأيت المغيرة لأرجمنه بأحجاره يعني واقعة الزناء بالمرأة التي شهد عليه فيها أبو بكرة و نكل زياد عن الشهادة فكان يبغضه لذاك و لغيره من أحوال اجتمعت في نفسه. قال و قد تظاهرت الرواية عن عروة بن الزبير أنه كان يأخذه الزمع عند ذكر علي ع فيسبه و يضرب بإحدى يديه على الأخرى و يقول و ما يغني أنه لم يخالف إلى ما نهي عنه و قد أراق من دماء المسلمين ما أراق. قال و قد كان في المحدثين من يبغضه ع و يروي فيه الأحاديث المنكرة منهم حريز بن عثمان كان يبغضه و ينتقصه و يروي فيه أخبارا مكذوبة و قد روى شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 70المحدثون أن حريزا رؤي في المنام بعد موته فقيل له ما فعل الله بك قال كاد يغفر لي لو لا بغض علي. قلت قد روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفقال حدثني أبو جعفر بن الجنيد قال حدثني إبراهيم بن الجنيد قال حدثني محفوظ بن المفضل بن عمر قال حدثني أبو البهلول يوسف بن يعقوب قال حدثنا حمزة بن حسان و كان مولى لبني أمية و كان مؤذنا عشرين

(5/61)


سنة و حج غير حجة و أثنى أبو البهلول عليه خيرا قال حضرت حريز بن عثمان و ذكر علي بن أبي طالب فقال ذاك الذي أحل حرم رسول الله ص حتى كاد يقع. قال محفوظ قلت ليحيي بن صالح الوحاظي قد رويت عن مشايخ من نظراء حريز فما بالك لم تحمل عن حريز قال إني أتيته فناولني كتابا فإذا فيه
حدثني فلان عن فلان إن النبي ص لما حضرته الوفاة أوصى أن تقطع يد علي بن أبي طالب ع
فرددت الكتاب و لم أستحل أن أكتب عنه شيئا. قال أبو بكر و حدثني أبو جعفر قال حدثني إبراهيم قال حدثني محمد بن عاصم صاحب الخانات قال قال لنا حريز بن عثمان أنتم يا أهل العراق تحبون علي بن أبي طالب ع و نحن نبغضه قالوا لم قال لأنه قتل أجدادي. قال محمد بن عاصم و كان حريز بن عثمان نازلا علينا. قال أبو جعفر رحمه الله تعالى و كان المغيرة بن شعبة صاحب دنيا يبيع دينه بالقليل النزر منها و يرضي معاوية بذكر علي بن أبي طالب ع قال يوما في مجلس معاوية إن عليا لم ينكحه رسول الله ابنته حبا و لكنه أراد أن يكافئ بذلك إحسان أبي طالب إليه. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 71قال و قد صح عندنا أن المغيرة لعنه على منبر العراق مرات لا تحصى و يروى أنه لما مات و دفنوه أقبل رجل راكب ظليما فوقف قريبا منه ثم قالأ من رسم دار من مغيرة تعرف عليها زواني الإنس و الجن تعزف فإن كنت قد لاقيت فرعون بعدنا و هامان فاعلم أن ذا العرش منصفقال فطلبوه فغاب عنهم و لم يروا أحدا فعلموا أنه من الجن. قال فأما مروان بن الحكم فأحقر و أقل من أن يذكر في الصحابة الذين قد غمصناهم و أوضحنا سوء رأينا فيهم لأنه كان مجاهرا بالإلحاد هو و أبوه الحكم بن أبي العاص و هما الطريدان اللعينان كان أبوه عدو رسول الله ص يحكيه في مشيه و يغمز عليه عينه و يدلع له لسانه و يتهكم به و يتهانف عليه هذا و هو في قبضته و تحت يده و في دار دعوته بالمدينة و هو يعلم أنه قادر على قتله أي وقت شاء من ليل أو نهار فهل يكون هذا إلا

(5/62)


من شانئ شديد البغضة و مستحكم العداوة حتى أفضى أمره إلى أن طرده رسول الله ص عن المدينة و سيره إلى الطائف. و أما مروان ابنه فأخبث عقيدة و أعظم إلحادا و كفرا و هو الذي خطب يوم وصل إليه رأس الحسين ع إلى المدينة و هو يومئذ أميرها و قد حمل الرأس على يديه فقال
يا حبذا بردك في اليدين و حمرة تجري على الخدين كأنما بت بمسجدين شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 72ثم رمى بالرأس نحو قبر النبي و قال يا محمد يوم بيوم بدر و هذا القول مشتق من الشعر الذي تمثل به يزيد بن معاوية و هو شعر ابن الزبعري يوم وصل الرأس إليه. و الخبر مشهور. قلت هكذا قال شيخنا أبو جعفر و الصحيح أن مروان لم يكن أمير الينة يومئذ بل كان أميرها عمرو بن سعيد بن العاص و لم يحمل إليه الرأس و إنما كتب إليه عبيد الله بن زياد يبشره بقتل الحسين ع فقرأ كتابه على المنبر و أنشد الرجز المذكور و أومأ إلى القبر قائلا يوم بيوم بدر فأنكر عليه قوله قوم من الأنصار. ذكر ذلك أبو عبيدة في كتاب المثالب. قال و روى الواقدي أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن ع و اجتماع الناس إليه خطب فقال أيها الناس
إن رسول الله ص قال لي إنك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة فإن فيها الأبدال

(5/63)


و قد اخترتكم فالعنوا أبا تراب فلعنوه فلما كان من الغد كتب كتابا ثم جمعهم فقرأه عليهم و فيه هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله الذي بعث محمدا نبيا و كان أميا لا يقرأ و لا يكتب فاصطفى له من أهله وزيرا كاتبا أمينا فكان الوحي ينزل على محمد و أنا أكتبه و هو لا يعلم ما أكتب فلم يكن بيني و بين الله أحد من خلقه فقال له الحاضرون كلهم صدقت يا أمير المؤمنين. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 73قال أبو جعفر و قد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب وَ مِنَ نَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ و أن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم و هي قوله تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فلم يقبل فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل فبذل له أربعمائة ألف فقبل و روى ذلك. قال و قد صح أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي ع و عاقبوا على ذلك الراوي له حتى أن الرجل إذا روى عنه حديثا لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه فيقول عن أبي زينب. و روى عطاء عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال وددت أن أترك فأحدث بفضائل علي بن أبي طالب ع يوما إلى الليل و أن عنقي هذه ضربت بالسيف. قال فالأحاديث الواردة في فضله لو لم تكن في الشهرة و الاستفاضة و كثرة النقل إلى غاية بعيدة لانقطع نقلها للخوف و التقية من بني مروان مع طول المدة و شدة العداوة. و لو لا أن لله تعالى في هذا الرجل سرا يعلمه من يعلمه لم يرو في فضله حديث و لا عرفت له منقبة أ لا ترى أن رئيس قرية لو سخط على واحد من أهلها و منع

(5/64)


الناس أن يذكروه بخير و صلاح لخمل ذكره و نسي اسمه و صار و هو موجود معدوما و هو حي ميتا هذه خلاصة ما ذكره شيخنا أبو جعفر رحمه الله تعالى في هذا المعنى في كتاب التفضيل
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 74فصل في ذكر المنحرفين عن عليو ذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن عدة من الصحابة و التابعين و المحدثين كانوا منحرفين عن علي ع قائلين فيه السوء و منهم من كتم مناقبه و أعان أعداءه ميلا مع الدنيا و إيثارا للعاجلة فمنهم أنس بن مالك
ناشد علي ع الناس في رحبة القصر أو قال رحبة الجامع بالكوفة أيكم سمع رسول الله ص يقول من كنت مولاه فعلي مولاه
فقام اثنا عشر رجلا فشهدوا بها و أنس بن مالك في القوم لم يقم فقال له يا أنس ما يمنعك أن تقوم فتشهد و لقد حضرتها فقال يا أمير المؤمنين كبرت و نسيت
فقال اللهم إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها الغمامة
قال طلحة بن عمير فو الله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه.
و روى عثمان بن مطرف أن رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن علي بن أبي طالب فقال إني آليت ألا أكتم حديثا سئلت عنه في علي بعد يوم الرحبة ذاك رأس المتقين يوم القيامة سمعته و الله من نبيكم
و روى أبو إسرائيل عن الحكم عن أبي سليمان المؤذن أن عليا ع نشد الناس من سمع رسول الله ص يقول من كنت مولاه فعلي مولاه فشهد له قوم و أمسك زيد بن أرقم فلم يشهد و كان يعلمها فدعا علي ع عليه بذهاب البصر فعمي
فكان يحدث الناس بالحديث بعد ما كف بصره. قالوا و كان الأشعث بن قيس الكندي و جرير بن عبد الله البجلي يبغضانه و هدم علي ع دار جرير بن عبد الله. قال إسماعيل بن جرير هدم علي دارنا مرتين. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 7 و روى الحارث بن حصين أن رسول الله ص دفع إلى جرير بن عبد الله نعلين نعاله و قال احتفظ بهما فإن ذهابهما ذهاب دينك

(5/65)


فلما كان يوم الجمل ذهبت إحداهما فلما أرسله علي ع إلى معاوية ذهبت الأخرى ثم فارق عليا و اعتزل الحرب. و روى أهل السيرة أن الأشعث خطب إلى علي ع ابنته فزبره
و قال يا ابن الحائك أ غرك ابن أبي قحافة
و روى أبو بكر الهذلي عن الزهري عن عبيد الله بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف قال قام الأشعث إلى علي ع فقال إن الناس يزعمون أن رسول الله ص عهد إليك عهدا لم يعهده إلى غيرك فقال إنه عهد إلي ما في قراب سيفي لم يعهد إلي غير ذلك فقال الأشعث هذه إن قلتها فهي عليك لا لك دعها ترحل عنك فقال له و ما علمك بما علي مما لي منافق ابن كافر حائك ابن حائك إني لأجد منك بنة الغزل ثم التفت إلى عبيد الله بن عدي بن الخيار فقال يا عبيد الله إنك لتسمع خلافا و ترى عجبا ثم أنشد
أصبحت هزءا لراعي الضأن أتبعه ما ذا يريبك مني راعي الضأن
. و قد ذكرنا في بعض الروايات المتقدمات أن سبب قوله هذه عليك لا لك أمر آخر و الروايات تختلف. و روى يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش أن جريرا و الأشعث خرجا إلى جبان الكوفة فمر بهما ضب يعدو و هما في ذم علي ع فنادياه يا أبا حسل هلم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 76ي نبايعك بالخلافة فبلغ عليا ع قولهما
فقال أما إنهما يحشران يوم القيامة و إمامهما ضب
و كان أبو مسعود الأنصاري منحرفا عنه ع
روى شريك عن عثمان بن أبي زرعة عن زيد بن وهب قال تذاكرنا القيام إذا مرت الجنازة عند علي ع فقال أبو مسعود الأنصاري قد كنا نقوم فقال علي ع ذاك و أنتم يومئذ يهود
و روى شعبة عن عبيد بن الحسن عن عبد الرحمن بن معقل قال حضرت عليا ع و قد سأله رجل عن امرأة توفي عنها زوجها و هي حامل فقال تتربص أبعد الأجلين فقال رجل فإن أبا مسعود يقول وضعها انقضاء عدتها فقال علي ع إن فروجا لا يعلم
فبلغ قوله أبا مسعود فقال بلى و الله إني لأعلم أن الآخر شر.

(5/66)


و روى المنهال عن نعيم بن دجاجة قال كنت جالسا عند علي ع إذ جاء أبو مسعود فقال علي ع جاءكم فروج فجاء فجلس فقال له علي ع بلغني أنك تفتي الناس قال نعم و أخبرهم أن الآخر شر قال فهل سمعت من رسول الله ص شيئا قال نعم سمعته يقول لا يأتي على الناس سنة مائة و على الأرض عين تطرف قال أخطأت استك الحفرة و غلطت في أول ظنك إنما عنى من حضره يومئذ و هل الرخاء إلا بعد المائة
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 77 و روى جماعة من أهل السير أن عليا ع كان يقول عن كعب الأحبار إنه لكذابو كان كعب منحرفا عن علي ع و كان النعمان بن بشير الأنصاري منحرفا عنه و عدوا له و خاض الدماء مع معاوية خوضا و كان من أمراء يزيد ابنه حتى قتل و هو على حاله. و قد روي أن عمران بن الحصين كان من المنحرفين عنه ع و أن عليا سيره إلى المدائن و ذلك أنه كان يقول إن مات علي فلا أدري ما موته و إن قتل فعسى أني إن قتل رجوت له. و من الناس من يجعل عمران في الشيعة. و كان سمرة بن جندب من شرطة زياد روى عبد الملك بن حكيم عن الحسن قال جاء رجل من أهل خراسان إلى البصرة فترك مالا كان معه في بيت المال و أخذ براءة ثم دخل المسجد فصلى ركعتين فأخذه سمرة بن جندب و اتهمه برأي الخوارج فقدمه فضرب عنقه و هو يومئذ على شرطة زياد فنظروا فيما معه فإذا البراءة بخط بيت المال فقال أبو بكرة يا سمرة أ ما سمعت الله تعالى يقول قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى فقال أخوك أمرني بذلك. و روى الأعمش عن أبي صالح قال قيل لنا قد قدم رجل من أصحاب رسول الله ص فأتيناه فإذا هو سمرة بن جندب و إذا عند إحدى رجليه خمر و عند الأخرى ثلج فقلنا ما هذا قالوا به النقرس و إذا قوم قد أتوه فقالوا يا سمرة شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 78ما تقول لربك غدا تؤ بالرجل فيقال لك هو من الخوارج فتأمر بقتله ثم تؤتى بآخر فيقال لك ليس الذي قتلته بخارجي ذاك فتى وجدناه ماضيا في حاجته

(5/67)


فشبه علينا و إنما الخارجي هذا فتأمر بقتل الثاني فقال سمرة و أي بأس في ذلك إن كان من أهل الجنة مضى إلى الجنة و إن كان من أهل النار مضى إلى النار.
و روى واصل مولى أبي عيينة عن جعفر بن محمد بن علي ع عن آبائه قال كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الأنصار فكان يؤذيه فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله ص فبعث إلى سمرة فدعاه فقال له بع نخلك من هذا و خذ ثمنه قال لا أفعل قال فخذ نخلا مكان نخلك قال لا أفعل قال فاشتر منه بستانه قال لا أفعل قال فاترك لي هذا النخل و لك الجنة قال لا أفعل فقال ص للأنصاري اذهب فاقطع نخله فإنه لا حق له فيه
و روى شريك قال أخبرنا عبد الله بن سعد عن حجر بن عدي قال قدمت المدينة فجلست إلى أبي هريرة فقال ممن أنت قلت من أهل البصرة قال ما فعل سمرة بن جندب قلت هو حي قال ما أحد أحب إلي طول حياة منه قلت و لم ذاك
قال إن رسول الله ص قال لي و له و لحذيفة بن اليمان آخركم موتا في النار
فسبقنا حذيفة و أنا الآن أتمنى أن أسبقه قال فبقي سمرة بن جندب حتى شهد مقتل الحسين. و روى أحمد بن بشير عن مسعر بن كدام قال كان سمرة بن جندب أيام مسير شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 79الحسين ع إلى الكوفة على شرطة عبيد الله بن زياد و كان يحرض الناس على الخروج إلىلحسين ع و قتاله. و من المنحرفين عنه المبغضين له عبد الله بن الزبير و قد ذكرناه آنفا
كان علي ع يقول ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله فأفسده

(5/68)


و عبد الله هو الذي حمل الزبير على الحرب و هو الذي زين لعائشة مسيرها إلى البصرة و كان سبابا فاحشا يبغض بني هاشم و يلعن و يسب علي بن أبي طالب ع و كان علي ع يقنت في صلاة الفجر و في صلاة المغرب و يلعن معاوية و عمر و المغيرة و الوليد بن عقبة و أبا الأعور و الضحاك بن قيس و بسر بن أرطاة و حبيب بن مسلمة و أبا موسى الأشعري و مروان بن الحكم و كان هؤلاء يقنتون عليه و يلعنونه. و روى شيخنا أبو عبد الله البصري المتكلم رحمه الله تعالى عن نصر بن عاصم الليثي عن أبيه قال أتيت مسجد رسول الله ص و الناس يقولون نعوذ بالله من غضب الله و غضب رسوله فقلت ما هذا قالوا معاوية قام الساعة فأخذ بيد أبي سفيان فخرجا من المسجد
فقال رسول الله ص لعن الله التابع و المتبوع رب يوم لأمتي من معاوية ذي الأستاه
قالوا يعني الكبير العجز. و قال روى العلاء بن حريز القشيري أن رسول الله ص قال لمعاوية لتتخذن يا معاوية البدعة سنة و القبح حسنا أكلك كثير و ظلمك عظيم
قال و روى الحارث بن حصيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجذ قال قال شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 80علي ع نحن و آل أبي سفيان قوم تعادوا في الأمر و الأمر يعود كما بداقلت و قد ذكرنا نحن في تلخيص نقض السفيانية ما فيه كفاية في هذا الباب.

(5/69)


و روى صاحب كتاب الغارات عن أبي صادق عن جندب بن عبد الله قال ذكر المغيرة بن شعبة عند علي ع و جده مع معاوية قال و ما المغيرة إنما كان إسلامه لفجرة و غدرة غدرها بنفر من قومه فتك بهم و ركبها منهم فهرب منهم فأتى النبي ص كالعائذ بالإسلام و الله ما رأى أحد عليه منذ ادعى الإسلام خضوعا و لا خشوعا ألا و إنه يكون من ثقيف فراعنة قبل يوم القيامة يجانبون الحق و يسعرون نيران الحرب و يوازرون الظالمين ألا إن ثقيفا قوم غدر لا يوفون بعهد يبغضون العرب كأنهم ليسوا منهم و لرب صالح قد كان منهم فمنهم عروة بن مسعود و أبو عبيد بن مسعود المستشهد يوم قس الناطف و إن الصالح في ثقيف لغريب

(5/70)


قال شيخنا أبو القاسم البلخي من المعلوم الذي لا ريب فيه لاشتهار الخبر به و إطباق الناس عليه أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان يبغض عليا و يشتمه و أنه هو الذي لاحاه في حياة رسول الله ص و نابذه و قال له أنا أثبت منك جنانا و أحد سنانا فقال له علي ع اسكت يا فاسق فأنزل الله تعالى فيهما أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ الآيات المتلوة و سمي الوليد بحسب ذلك في حياة رسول الله ص الفاسق فكان لا يعرف إلا بالوليد الفاسق. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 81و هذه الآية من الآيات التي نزل فيها القرآن بافقة علي ع كما نزل في مواضع بموافقة عمر و سماه الله تعالى فاسقا في آية أخرى و هو قوله تعالى إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا و سبب نزولها مشهور و هو كذبه على بني المصطلق و ادعاؤه أنهم منعوا الزكاة و شهروا السيف حتى أمر النبي ص بالتجهز للمسير إليهم فأنزل الله تعالى في تكذيبه و براءة ساحة القوم هذه الآية. و كان الوليد مذموما معيبا عند رسول الله ص يشنؤه و يعرض عنه و كان الوليد يبغض رسول الله ص أيضا و يشنؤه و أبوه عقبة بن أبي معيط هو العدو الأزرق بمكة و الذي كان يؤذي رسول الله ص في نفسه و أهله و أخباره في ذلك مشهورة فلما ظفر به يوم بدر ضرب عنقه و ورث ابنه الوليد الشنئان و البغضة لمحمد و أهله فلم يزل عليهما إلى أن مات. قال الشيخ أبو القاسم و هو أحد الصبية الذين قال أبو عقبة فيهم و قد قدم ليضرب عنقه من للصبية يا محمد فقال النار اضربوا عنقه. قال و للوليد شعر يقصد فيه الرد على رسول الله ص حيث
قال إن تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا

(5/71)


قال و ذلك أن عليا ع لما قتل قصد بنوه أن يخفوا قبره خوفا من بني أمية أن يحدثوا في قبره حدثا فأوهموا الناس في موضع قبره تلك الليلة و هي ليلة دفنه إيهامات مختلفة فشدوا على جمل تابوتا موثقا بالحبال يفوح منه روائح الكافور و أخرجوه من الكوفة في سواد الليل صحبة ثقاتهم يوهمون أنهم يحملونه إلى المدينة فيدفنونه عند فاطمة ع و أخرجوا بغلا و عليه جنازة مغطاة شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 82يوهمون أنهم يدفنونه بالحيرة و حفروا حفائر عدة منها بالمسجد و منها برحبة القصر قصر الإمارة و منها في حجرة من دور آل جعدة بن هبيرة المخزي و منها في أصل دار عبد الله بن يزيد القسري بحذاء باب الوراقين مما يلي قبلة المسجد و منها في الكناسة و منها في الثوية فعمي على الناس موضع قبره و لم يعلم دفنه على الحقيقة إلا بنوه و الخواص المخلصون من أصحابه فإنهم خرجوا به ع وقت السحر في الليلة الحادية و العشرين من شهر رمضان فدفنوه على النجف بالموضع المعروف بالغري بوصاة منه ع إليهم في ذلك و عهد كان عهد به إليهم و عمي موضع قبره على الناس و اختلفت الأراجيف في صبيحة ذلك اليوم اختلافا شديدا و افترقت الأقوال في موضع قبره الشريف و تشعبت و ادعى قوم أن جماعة من طيئ وقعوا على جمل في تلك الليلة و قد أضله أصحابه ببلادهم و عليه صندوق فظنوا فيه مالا فلما رأوا ما فيه خافوا أن يطلبوا به فدفنوا الصندوق بما فيه و نحروا البعير و أكلوه و شاع ذلك في بني أمية و شيعتهم و اعتقدوه حقا فقال الوليد بن عقبة من أبيات يذكره ع فيها
فإن يك قد ضل البعير بحمله فما كان مهديا و لا كان هاديا

(5/72)


و روى الشيخ أبو القاسم البلخي أيضا عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة الضبي قال مر ناس بالحسن بن علي ع و هم يريدون عيادة الوليد بن عقبة و هو في علة له شديدة فأتاه الحسن ع معهم عائدا فقال للحسن أتوب إلى الله تعالى مما كان بيني و بين جميع الناس إلا ما كان بيني و بين أبيك فإني لا أتوب منه. قال شيخنا أبو القاسم البلخي و أكد بغضه له ضربه إياه الحد في ولاية عثمان و عزله عن الكوفة. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 83و قد اتفقت الأخبار الصحيحة التي لا ريب فيها عند المحدثين على أن النبي ص قال لا يبغضك إلا منافق و لا يحبك إلا مؤمن
قال و روى حبة العرني عن علي ع أنه قال إن الله عز و جل أخذ ميثاق كل مؤمن على حبي و ميثاق كل منافق على بغضي فلو ضربت وجه المؤمن بالسيف ما أبغضني و لو صببت الدنيا على المنافق ما أحبني
و روى عبد الكريم بن هلال عن أسلم المكي عن أبي الطفيل قال سمعت عليا ع و هو يقول لو ضربت خياشيم المؤمن بالسيف ما أبغضني و لو نثرت على المنافق ذهبا و فضة ما أحبني إن الله أخذ ميثاق المؤمنين بحبي و ميثاق المنافقين ببغضي فلا يبغضني مؤمن و لا يحبني منافق أبدا

(5/73)


قال الشيخ أبو القاسم البلخي و قد روى كثير من أرباب الحديث عن جماعة من الصحابة قالوا ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ص إلا ببغض علي بن أبي طالب. ذكر إبراهيم بن هلال صاحب كتاب الغارات فيمن فارق عليا ع و التحق بمعاوية يزيد بن حجية التيمي من بني تيم بن ثعلبة بن بكر بن وائل و كان ع قد استعمله على الري و دستبني فكسر الخوارج و احتجن المال لنفسه فحبسه علي ع و جعل معه سعدا مولاه فقرب يزيد ركائبه و سعد نائم فالتحق بمعاوية و قال شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 8خادعت سعدا و ارتمت بي ركائبي إلى الشام و اخترت الذي هو أفضل و غادرت سعدا نائما في عباءة و سعد غلام مستهام مضللثم خرج حتى أتى الرقة و كذلك كان يصنع من يفارق عليا ع يبدأ بالرقة حتى يستأذن معاوية في القدوم عليه و كانت الرقة و الرها و قرقيسيا و حران من حيز معاوية و عليها الضحاك بن قيس و كانت هيت و عانات و نصيبين و دارا و آمد و سنجار من حيز علي ع و عليها الأشتر و كانا يقتتلان في كل شهر. و قال يزيد بن حجية و هو بالرقة يهجو عليا ع
يا طول ليلي بالرقات لم أنم من غير عشق صبت نفسي و لا سقم لكن لذكر أمور جمة طرقت أخشى على الأصل منها زلة القدم أخشى عليا عليهم أن يكون لهم مثل العقور الذي عفى على إرو بعد ذلك ما لا نذكره. قال إبراهيم بن هلال و قد كان زياد بن خصفة التيمي قال لعلي ع يوم هرب يزيد بن حجية ابعثني يا أمير المؤمنين في أثره أرده إليك فبلغ قوله يزيد بن حجية فقال في ذلك

(5/74)


أبلغ زيادا أنني قد كفيته أموري و خليت الذي هو عاتبه و باب شديد موثق قد فتحته عليك و قد أعيت عليك مذاهبه هبلت أ ما ترجو غنائي و مشهدي إذ الخصم لم يوجد له من يجاذب شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 85فأقسم لو لا أن أمك أمنا و أنك مولى ما طفقت أعاتبه و أقسم لو أدركتني ما رددتني كلانا قد اصطفت إليه جلائقال ابن هلال و كتب إلى العراق شعرا يذم فيه عليا ع و يخبره أنه من أعدائه فدعا عليه و قال لأصحابه عقيب الصلاة ارفعوا أيديكم فادعوا عليه فدعا عليه و أمن أصحابه.
قال أبو الصلت التيمي كان دعاؤه عليه اللهم إن يزيد بن حجية هرب بمال المسلمين و لحق بالقوم الفاسقين فاكفنا مكره و كيده و اجزه جزاء الظالمين
قال و رفع القوم أيديهم يؤمنون و كان في المسجد عفاق بن شرحبيل بن أبي رهم التيمي شيخا كبيرا و كان يعد ممن شهد على حجر بن عدي حتى قتله معاوية فقال عفاق على من يدعو القوم قالوا على يزيد بن حجية فقال تربت أيديكم أ على أشرافنا تدعون فقاموا إليه فضربوه حتى كاد يهلك و قام زياد بن خصفة و كان من شيعة علي ع فقال دعوا لي ابن عمي فقال علي ع دعوا للرجل ابن عمه فتركه الناس فأخذ زياد بيده فأخرجه من المسجد و جعل يمشي معه يمسح التراب عن وجهه و عفاق يقول و الله لا أحبكم ما سعيت و مشيت و الله لا أحبكم ما اختلفت الدرة و الجرة و زياد يقول ذلك أضر لك ذلك شر لك. و قال زياد بن خصفة يذكر ضرب الناس عفاقا
دعوت عفاقا للهدى فاستغشني و ولى فريا قوله و هو مغضب و لو لا دفاعي عن عفاق و مشهدي هوت بعفاق عوض عنقاء مغرب شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 86أنبئه أن الهدى في اتباعنا فيأبى و يضريه المراء فيشغب فإن لا يشايعنا عفاق فإننا على الحق ما غنى الحمام المطرب سيغني الإله عن عفاق و سعيه إذا بعثت للناس جأواء تحرب قبائل من حيي معد و مثلها يمانية لا تنثني حين تندب لهم عدد مراب و طاعة تود و بأس في الوغى لا يؤنب

(5/75)


فقال له عفاق لو كنت شاعرا لأجبتك و لكني أخبركم عن ثلاث خصال كن منكم و الله ما أرى أن تصيبوا بعدهن شيئا مما يسركم. أما واحدة فإنكم سرتم إلى أهل الشام حتى إذا دخلتم عليهم بلادهم قاتلتموهم فلما ظن القوم أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف فسخروا بكم فردوكم عنهم فلا و الله لا تدخلونها بمثل ذلك الجد و الحد و العدد الذي دخلتم به أبدا. و أما الثانية فإنكم بعثتم حكما و بعث القوم حكما فأما حكمكم فخلعكم و أما حكمهم فأثبتهم فرجع صاحبهم يدعى أمير المؤمنين و رجعتم متلاعنين متباغضين فو الله لا يزال القوم في علاء و لا تزالون في سفال. و أما الثالثة فإنه خالفكم قراؤكم و فرسانكم فعدوتم عليهم فذبحتموهم بأيديكم فو الله لا تزالون بعدها متضعضعين. قال و كان يمر عليهم بعد فيقول اللهم إني منهم بري ء و لابن عفان ولي فيقولون اللهم إنا لعلي أولياء و من ابن عفان برآء و منك يا عفاق. شرح نهجبلاغة ج : 4 ص : 87قال فأخذ لا يقلع فدعوا رجلا منهم له سجاعة كسجاعة الكهان فقالوا ويحك أ ما تكفينا بسجعك و خطبك هذا فقال كفيتكم فمر عفاق عليهم فقال كما كان يقول فلم يمهله أن قال له اللهم اقتل عفاقا فإنه أسر نفاقا و أظهر شقاقا و بين فراقا و تلون أخلاقا. فقال عفاق ويحكم من سلط علي هذا قال الله بعثني إليك و سلطني عليك لأقطع لسانك و أنصل سنامك و أطرد شيطانك. قال فلم يك يمر عليهم بعد إنما يمر على مزينة. و ممن فارقه ع عبد الله بن عبد الرحمن بن مسعود بن أوس بن إدريس بن معتب الثقفي شهد مع علي ع صفين و كان في أول أمره مع معاوية ثم صار إلى علي ع ثم رجع بعد إلى معاوية و كان علي ع يسميه الهجنع و الهجنع الطويل. و منهم القعقاع بن شور استعمله علي ع على كسكر فنقم منه أمورا منها أنه تزوج امرأة فأصدقها مائة ألف درهم فهرب إلى معاوية. و منهم النجاشي الشاعر من بني الحارث بن كعب كان شاعر أهل العراق بصفين و كان علي ع يأمره بمحاربة شعراء أهل الشام

(5/76)


مثل كعب بن جعيل و غيره فشرب الخمر بالكوفة فحده علي ع فغضب و لحق بمعاوية و هجا عليا ع. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 88حدث ابن الكلبي عن عوانة قال خرج النجاشي في أول يوم من شهر رمضان فمر بأبي ال الأسدي و هو قاعد بفناء داره فقال له أين تريد قال أردت الكناسة فقال هل لك في رءوس و أليات قد وضعت في التنور من أول الليل فأصبحت قد أينعت و قد تهرأت قال ويحك في أول يوم من رمضان قال دعنا مما لا نعرف قال ثم مه قال أسقيك من شراب كالورس يطيب النفس و يجرى في العرق و يزيد في الطرق يهضم الطعام و يسهل للفدم الكلام فنزل فتغديا ثم أتاه بنبيذ فشرباه فلما كان آخر النهار علت أصواتهما و لهما جار من شيعة علي ع فأتاه فأخبره بقصتهما فأرسل إليهما قوما فأحاطوا بالدار فأما أبو سمال فوثب إلى دور بني أسد فأفلت و أخذ النجاشي فأتي ع به فلما أصبح أقامه في سراويل فضربه ثمانين ثم زاده عشرين سوطا فقال يا أمير المؤمنين أما الحد فقد عرفته فما هذه العلاوة قال لجراءتك على الله و إفطارك في شهر رمضان ثم أقامه في سراويله للناس فجعل الصبيان يصيحون به خرئ النجاشي خرئ النجاشي و جعل يقول كلا إنها يمانية وكاؤها شعر. قال و مر به هند بن عاصم السلولي فطرح عليه مطرفا فجعل الناس يمرون به و يطرحون عليه المطارف حتى اجتمعت عليه مطارف كثيرة فمدح بني سلول فقال

(5/77)


إذا الله حيا صالحا من عباده تقيا فحيا الله هند بن عاصم و كل سلولي إذا ما دعوته سريع إلى داعي العلا و المكارم هم البيض أقداما و ديباج أوجه جلوها إذا اسودت وجوه الملائم و لا يأكل الكلب السروق نعالهم و لا يبتغي المخ الذي في الجما شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 89ثم لحق معاوية و هجا عليا ع فقالأ لا من مبلغ عني عليا بأني قد أمنت فلا أخاف عمدت لمستقر الحق لما رأيت أموركم فيها اختلافو روى عبد الملك بن قريب الأصمعي عن ابن أبي الزناد قال دخل النجاشي على معاوية و قد أذن للناس عامة فقال لحاجبه ادع النجاشي و النجاشي بين يديه و لكن اقتحمته عينه فقال ها أنا ذا النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين إن الرجال ليست بأجسامها إنما لك من الرجل أصغراه قلبه و لسانه قال ويحك أنت القائل
و نجا ابن حرب سابح ذو علالة أجش هزيم و الرماح دواني إذا قلت أطراف الرماح تنوشه مرته به الساقان و القدمانثم ضرب بيده إلى ثديه فقال ويحك إن مثلي لا تعدو به الخيل فقال يا أمير المؤمنين إني لم أعنك إنما عنيت عتبة. و روى صاحب كتاب الغارات أن عليا ع لما حد النجاشي غضبت اليمانية لذلك و كان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي فدخل عليه فقال يا أمير المؤمنين ما كنا نرى أن أهل المعصية و الطاعة و أهل الفرقة و الجماعة عند ولاة العدل و معادن الفضل سيان في الجزاء حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 90فأوغرت صدورنا و شتت أمورنا و حملتنا على الجادة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار فقال علي ع وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ يا أخا نهد و هل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدا كان كفارته إن الله تعالى يقول وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى

(5/78)


قال فخرج طارق من عنده فلقيه الأشتر فقال يا طارق أنت القائل لأمير المؤمنين أوغرت صدورنا و شتت أمورنا قال طارق نعم أنا قائلها قال و الله ما ذاك كما قلت إن صدورنا له لسامعة و إن أمورنا له لجامعة فغضب طارق و قال ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت فلما جنه الليل همس هو و النجاشي إلى معاوية فلما قدما عليه دخل آذنه فأخبره بقدومهما و عنده وجوه أهل الشام منهم عمرو بن مرة الجهني و عمرو بن صيفي و غيرهما فلما دخلا نظر إلى طارق و قال مرحبا بالمورق غصنه و المعرق أصله المسود غير المسود من رجل كانت منه هفوة و نبوة باتباعه صاحب الفتنة و رأس الضلالة و الشبهة الذي اغترز في ركاب الفتنة حتى استوى على رجلها ثم أوجف في عشوة ظلمتها و تيه ضلالتها و اتبعه رجرجة من الناس و أشبابة من الحثالة لا أفئدة لهم أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها. فقام طارق فقال يا معاوية إني متكلم فلا يسخطك ثم قال و هو متكئ على سيفه إن المحمود على كل حال رب علا فوق عباده فهم منه بمنظر و مسمع بعث فيهم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 91رسولا منهم يتلو كتابا لم يكن من قبله و لا يخطه بيمينه إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ فعليه السلام من رسول كان لمؤمنين برا رحيما أما بعد فإن ما كنا نوضع فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقي عادل مع رجال من أصحاب رسول الله ص أتقياء مرشدين ما زالوا منارا للهدى و معالم للدين خلفا عن سلف مهتدين أهل دين لا دنيا كل الخير فيهم و اتبعهم من الناس ملوك و أقيال و أهل بيوتات و شرف ليسوا بناكثين و لا قاسطين فلم يكن رغبة من رغب عنهم و عن صحبتهم إلا لمرارة الحق حيث جرعوها و لوعورته حيث سلكوها و غلبت عليهم دنيا مؤثرة و هو متبع و كان أمر الله قدرا مقدورا و قد فارق الإسلام قبلنا جبلة بن الأيهم فرارا من الضيم و أنفا من الذلة فلا تفخرن يا معاوية إن شددنا نحوك الرحال و أوضعنا إليك الركاب أقول قولي هذا و

(5/79)


أستغفر الله العظيم لي و لجميع المسلمين. فعظم على معاوية ما سمعه و غضب لكنه أمسك و قال يا عبد الله إنا لم نرد بما قلناه أن نوردك مشرع ظمأ و لا أن نصدرك عن مكرع ري و لكن القول قد يجري بصاحبه إلى غير ما ينطوي عليه من الفعل ثم أجلسه معه على سريره و دعا له بمقطعات و برود فصبها عليه و أقبل نحوه بوجهه يحدثه حتى قام. و قام معه عمرو بن مرة و عمرو بن صيفي الجهنيان فأقبلا عليه بأشد العتاب و أمضه يلومانه في خطبته و ما واجه به معاوية. فقال طارق و الله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل لي أن بطن الأرض خير لي من ظهرها عند سماعي ما أظهر من العيب و النقص لمن هو خير منه في الدنيا و الآخرة و ما زهت به نفسه و ملكه عجبه و عاب أصحاب رسول الله ص و استنقصهم فقمت مقاما أوجب الله علي فيه إلا أقول إلا حقا و أي خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 92فبلغ عليا ع قوله فقال لو قتل النهدي يومئذ لقتل شهيدا

(5/80)


و قال معاوية للهيثم بن الأسود أبي العريان و كان عثمانيا و كانت امرأته علوية الرأي تكتب بأخبار معاوية في أعنة الخيل و تدفعها إلى عسكر علي ع بصفين فيدفعونها إليه فقال معاوية بعد التحكيم يا هيثم أهل العراق كانوا أنصح لعلي في صفين أم أهل الشام لي فقال أهل العراق قبل أن يضربوا بالبلاء كانوا أنصح لصاحبهم قال كيف قلت ذلك قال لأن القوم ناصحوه على الدين و ناصحك أهل الشام على الدنيا و أهل الدين أصبر و هم أهل بصيرة و إنما أهل الدنيا أهل طمع ثم و الله ما لبث أهل العراق أن نبذوا الدين وراء ظهورهم و نظروا إلى الدنيا فالتحقوا بك. فقال معاوية فما الذي يمنع الأشعث أن يقدم علينا فيطلب ما قبلنا قال إن الأشعث يكرم نفسه أن يكون رأسا في الحرب و ذنبا في الطمع. و من المفارقين لعلي ع أخوه عقيل بن أبي طالب قدم على أمير المؤمنين بالكوفة يسترفده فعرض عليه عطاءه فقال إنما أريد من بيت المال فقال تقيم إلى يوم الجمعة فلما صلى ع الجمعة قال له ما تقول فيمن خان هؤلاء أجمعين قال بئس الرجل قال فإنك أمرتني أن أخونهم و أعطيك فلما خرج من عنده شخص إلى معاوية فأمر له يوم قدومه بمائة ألف درهم و قال له يا أبا يزيد أنا خير لك أم علي قال وجدت عليا أنظر لنفسه منه لي و وجدتك أنظر لي منك لنفسك. و قال معاوية لعقيل إن فيكم يا بني هاشم لينا قال أجل إن فينا لينا من غير شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 93ضعف و عزا من غير عنف و إن لينكم يا معاوية غدر و سلمكم كفر فقال معاوية و لا كل هذا يا أبا يزيد. و قال الوليد بن عقبةعقيل في مجلس معاوية غلبك أخوك يا أبا يزيد على الثروة قال نعم و سبقني و إياك إلى الجنة قال أما و الله إن شدقيه لمضمومان من دم عثمان فقال و ما أنت و قريش و الله ما أنت فينا إلا كنطيح التيس فغضب الوليد و قال و الله لو أن أهل الأرض اشتركوا في قتله لأرهقوا صعودا و إن أخاك لأشد هذه الأمة عذابا فقال صه و الله إنا لنرغب بعبد من

(5/81)


عبيده عن صحبة أبيك عقبة بن أبي معيط. و قال معاوية يوما و عنده عمرو بن العاص و قد أقبل عقيل لأضحكنك من عقيل فلما سلم قال معاوية مرحبا برجل عمه أبو لهب فقال عقيل و أهلا برجل عمته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد لأن امرأة أبي لهب أم جميل بنت حرب بن أمية. قال معاوية يا أبا يزيد ما ظنك بعمك أبي لهب قال إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشا عمتك حمالة الحطب أ فناكح في النار خير أم منكوح قال كلاهما شر و الله. و ممن فارقه ع حنظلة الكاتب خرج هو و جرير بن عبد الله البجلي من الكوفة إلى قرقيسيا و قالا لا نقيم ببلدة يعاب فيها عثمان. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 94و ممن فارقه وائل بن حجر الحضرمي و خبره مذكور في قصة بسر بن أرطاة. و روى صاحب كتاب الغارات عن إسماعيل بن حكيم عن أبي مسعود الجريري قال كان ثلاثةن أهل البصرة يتواصلون على بغض علي ع مطرف بن عبد الله بن الشخير و العلاء بن زياد و عبد الله بن شفيق. قال صاحب كتاب الغارات و كان مطرف عابدا ناسكا و قد روى هشام بن حسان عن ابن سيرين أن عمار بن ياسر دخل على أبي مسعود و عنده ابن الشخير فذكر عليا بما لا يجوز أن يذكر به فقال عمار يا فاسق و إنك لهاهنا فقال أبو مسعود أذكرك الله يا أبا اليقظان في ضيفي. قال و أكثر مبغضيه ع أهل البصرة كانوا عثمانية و كانت في أنفسهم أحقاد يوم الجمل و كان هو ع قليل التألف للناس شديدا في دين الله لا يبالي مع علمه بالدين و اتباعه الحق من سخط و من رضي.
قال و قد روى يونس بن أرقم عن يزيد بن أرقم عن أبي ناجية مولى أم هانئ قال كنت عند علي ع فأتاه رجل عليه زي السفر فقال يا أمير المؤمنين إني أتيتك من بلدة ما رأيت لك بها محبا قال من أين أتيت قال من البصرة قال أما إنهم لو يستطيعون أن يحبوني لأحبوني إني و شيعتي في ميثاق الله لا يزاد فينا رجل و لا ينقص إلى يوم القيامة

(5/82)


و روى أبو غسان البصري قال بنى عبيد الله بن زياد أربعة مساجد بالبصرة تقوم على بغض علي بن أبي طالب و الوقيعة فيه مسجد بني عدي و مسجد بني مجاشع شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 95و مسجد كان في العلافين على فرضة البصرة و مسجد في الأزد. و مما قيل عنه إنه يبغض عليا ع يذمه الحسن بن أبي الحسن البصري أبو سعيد و روى عنه حماد بن سلمة أنه قال لو كان علي يأكل الحشف بالمدينة لكان خيرا له مما دخل فيه و رواه عنه أنه كان من المخذلين عن نصرته.
و روي عنه أن عليا ع رآه و هو يتوضأ للصلاة و كان ذا وسوسة فصب على أعضائه ماء كثيرا فقال له أرقت ماء كثيرا يا حسن فقال ما أراق أمير المؤمنين من دماء المسلمين أكثر قال أ و ساءك ذلك قال نعم قال فلا زلت مسوأ
قالوا فما زال الحسن عابسا قاطبا مهموما إلى أن مات. فأما أصحابنا فإنهم يدفعون ذلك عنه و ينكرونه و يقولون إنه كان من محبي علي بن أبي طالب ع و المعظمين له. و روى أبو عمر بن عبد البر المحدث في كتابه المعروف بالاستيعاب في معرفة الصحاب أن إنسانا سأل الحسن عن علي ع فقال كان و الله سهما صائبا من مرامي الله على عدوه و رباني هذه الأمة و ذا فضلها و ذا سابقتها و ذا قرابتها من رسول الله ص لم يكن بالنؤمة عن أمر الله و لا بالملومة في دين الله و لا بالسروقة لمال الله أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة ذلك علي بن أبي طالب يا لكع. و روى الواقدي قال سئل الحسن عن علي ع و كان يظن به الانحراف عنه و لم يكن كما يظن فقال ما أقول فيمن جمع الخصال الأربع ائتمانه على براءة شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 96و ما قال له الرسول في غزاة تبوك فلو كان غير النبوة شي ء يفوته لاستثنا و قول النبي ص الثقلان كتاب الله و عترتي

(5/83)


و إنه لم يؤمر عليه أمير قط و قد أمرت الأمراء على غيره. و روى أبان بن عياش قال سألت الحسن البصري عن علي ع فقال ما أقول فيه كانت له السابقة و الفضل و العلم و الحكمة و الفقه و الرأي و الصحبة و النجدة و البلاء و الزهد و القضاء و القرابة إن عليا كان في أمره عليا رحم الله عليا و صلى عليه فقلت يا أبا سعيد أ تقول صلى عليه لغير النبي فقال ترحم على المسلمين إذا ذكروا و صل على النبي و آله و علي خير آله فقلت أ هو خير من حمزة و جعفر قال نعم قلت و خير من فاطمة و ابنيها قال نعم و الله إنه خير آل محمد كلهم و من يشك أنه خير منهم
و قد قال رسول الله ص و أبوهما خير منهما
و لم يجر عليه اسم شرك و لا شرب خمر
و قد قال رسول الله ص لفاطمة ع زوجتك خير أمتي

(5/84)


فلو كان في أمته خير منه لاستثناه و لقد آخى رسول الله ص بين أصحابه فآخى بين علي و نفسه فرسول الله ص خير الناس نفسا و خيرهم أخا فقلت يا أبا سعيد فما هذا الذي يقال عنك إنك قلته في علي فقال يا ابن أخي احقن دمي من هؤلاء الجبابرة و لو لا ذلك لشالت بي الخشب. قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى و وجدته أيضا في كتاب الغارات لإبراهيم بن هلال الثقفي و قد كان بالكوفة من فقهائها من يعادي عليا و يبغضه مع غلبة التشيع على الكوفة فمنهم مرة الهمداني. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 97و روى أبو نعيم الفضل بن دكين عن فطر بخليفة قال سمعت مرة يقول لأن يكون علي جملا يستقى عليه أهله خير له مما كان عليه. و روى إسماعيل بن بهرام عن إسماعيل بن محمد عن عمرو بن مرة قال قيل لمرة الهمداني كيف تخلفت عن علي قال سبقنا بحسناته و ابتلينا بسيئاته. قال إسماعيل بن بهرام و قد روينا عنه أنه قال أشد فحشا من هذا و لكنا نتورع عن ذكره. و روى الفضل بن دكين عن الحسن بن صالح قال لم يصل أبو صادق على مرة الهمداني. قال الفضل بن دكين و سمعت أن أبا صادق قال في أيام حياة مرة و الله لا يظلني و إياه سقف بيت أبدا. قال و لما مات لم يحضره عمرو بن شرحبيل قال لا أحضره لشي ء كان في قلبه على علي بن أبي طالب. قال إبراهيم بن هلال فحدثنا المسعودي عن عبد الله بن نمير بهذا الحديث قال ثم كان عبد الله بن نمير يقول و كذلك أنا و الله لو مات رجل في نفسه شي ء على علي ع لم أحضره و لم أصل عليه. و منهم الأسود بن يزيد و مسروق بن الدع روى سلمة بن كهيل أنهما كانا يمشيان إلى بعض أزواج رسول الله ص فيقعان في علي ع فأما الأسود فمات على ذلك و أما مسروق فلم يمت حتى كان لا يصلى لله تعالى صلاة شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 98إلا صلى بعدها على علي بن أبي طالب ع لحديث سمعه من عائشة في فضله. و روىبو نعيم الفضل بن دكين عن عبد السلام بن حرب عن ليث بن أبي سليم قال كان

(5/85)


مسروق يقول كان علي كحاطب ليل قال فلم يمت مسروق حتى رجع عن رأيه هذا. و روى سلمة بن كهيل قال دخلت أنا و زبيد اليمامي على امرأة مسروق بعد موته فحدثتنا قالت كان مسروق و الأسود بن يزيد يفرطان في سب علي بن أبي طالب ثم ما مات مسروق حتى سمعته يصلي عليه و أما الأسود فمضى لشأنه. قال فسألناها لم ذلك قالت شي ء سمعه من عائشة ترويه عن النبي ص فيمن أصاب الخوارج. و روى أبو نعيم عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق قال ثلاثة لا يؤمنون على علي بن أبي طالب مسروق ومرة و شريح. و روي أن الشعبي رابعهم. و روي عن هيثم عن مجالد عن الشعبي أن مسروقا ندم على إبطائه عن علي بن أبي طالب ع.
و روى الأعمش عن إبراهيم التيمي قال قال علي ع لشريح و قد قضى قضية نقم عليه أمرها و الله لأنفينك إلى بانقيا شهرين تقضي بين اليهود

(5/86)


قال ثم قتل علي ع و مضى دهر فلما قام المختار بن أبي عبيد قال لشريح ما قال لك أمير المؤمنين ع يوم كذا قال إنه قال لي كذا قال فلا و الله لا تقعد حتى تخرج إلى بانقيا تقضي بين اليهود فسيره إليها فقضى بين اليهود شهرين. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 99و منهم أبو وا شقيق بن سلمة كان عثمانيا يقع في علي ع و يقال إنه كان يرى رأي الخوارج و لم يختلف في أنه خرج معهم و أنه عاد إلى علي ع منيبا مقلعا. روى خلف بن خليفة قال قال أبو وائل خرجنا أربعة آلاف فخرج إلينا علي فما زال يكلمنا حتى رجع منا ألفان. و روى صاحب كتاب الغارات عن عثمان بن أبي شيبة عن الفضل بن دكين عن سفيان الثوري قال سمعت أبا وائل يقول شهدت صفين و بئس الصفوف كانت. قال و قد روى أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود قال كان أبو وائل عثمانيا و كان زر بن حبيش علويا. و من المبغضين القالين أبو بردة بن أبي موسى الأشعري ورث البغضة له لا عن كلالة. و روى عبد الرحمن بن جندب قال قال أبو بردة لزياد أشهد أن حجر بن عدي قد كفر بالله كفرة أصلع قال عبد الرحمن إنما عنى بذلك نسبة الكفر إلى علي بن أبي طالب ع لأنه كان أصلع. قال و قد روى عبد الرحمن المسعودي عن ابن عياش المنتوف قال رأيت أبا بردة قال لأبي العادية الجهني قاتل عمار بن ياسر أ أنت قتلت عمار بن ياسر قال نعم قال ناولني يدك فقبلها و قال لا تمسك النار أبدا. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 100و روى أبو نعيم عن هشام بن المغيرة عن الغضبان بن يزيد قال رأيت أبا بردة قال لأبي العادية قاتل عم بن ياسر مرحبا بأخي هاهنا فأجلسه إلى جانبه. و من المنحرفين عنه ع أبو عبد الرحمن السلمي القارئ روى صاحب كتاب الغارات عن عطاء بن السائب قال قال رجل لأبي عبد الرحمن السلمي أنشدك بالله إن سألتك لتخبرني قال نعم فلما أكد عليه قال بالله هل أبغضت عليا إلا يوم قسم المال في الكوفة فلم يصلك و لا أهل بيتك منه بشي ء قال أما إذ أنشدتني

(5/87)


بالله فلقد كان كذلك. قال و روى أبو عمر الضرير عن أبي عوانة قال كان بين عبد الرحمن بن عطية و بين أبي عبد الرحمن السلمي شي ء في أمر علي ع فأقبل أبو عبد الرحمن على حيان فقال هل تدري ما جرأ حبك على الدماء يعني عليا قال و ما جرأه لا أبا لغيرك
قال حدثنا أن رسول الله ص قال لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
أو كلاما هذا معناه. و كان عبد الله بن عكيم عثمانيا و كان عبد الرحمن بن أبي ليلى علويا فروى موسى الجهني عن ابنة عبد الله بن عكيم قالت تحدثا يوما فسمعت أبي يقول لعبد الرحمن أما إن صاحبك لو صبر لأتاه الناس. و كان سهم بن طريف عثمانيا و كان علي بن ربيعة علويا فضرب أمير الكوفة على الناس بعثا و ضرب على سهم بن طريف معهم فقال سهم لعلي بن ربيعة اذهب إلى الأمير فكلمه في أمري ليعفيني فأتى علي بن ربيعة الأمير فقال أصلحك الله شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 101إن سهما أعمى فأعفه قال قد أعفيته فلما التقيا قال قد أخبرت الأمير ك أعمى و إنما عنيت عمى القلب. و كان قيس بن أبي حازم يبغض عليا ع روى وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال أتيت عليا ع ليكلم لي عثمان في حاجة فأبى فأبغضته. قلت و شيوخنا المتكلمون رحمهم الله يسقطون روايته
عن النبي ص إنكم لترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر
و يقولون إنه كان يبغض عليا ع فكان فاسقا و نقلوا عنه
أنه قال سمعت عليا ع يخطب على المنبر و يقول انفروا إلى بقية الأحزاب

(5/88)


فدخل بغضه في قلبي. و كان سعيد بن المسيب منحرفا عنه ع و جبهه عمر بن علي ع في وجهه بكلام شديد. روى عبد الرحمن بن الأسود عن أبي داود الهمداني قال شهدت سعيد بن المسيب و أقبل عمر بن علي بن أبي طالب ع فقال له سعيد يا ابن أخي ما أراك تكثر غشيان مسجد رسول الله ص كما يفعل إخوتك و بنو أعمامك فقال عمر يا ابن المسيب أ كلما دخلت المسجد أجي ء فأشهدك فقال سعيد ما أحب أن تغضب سمعت أباك يقول إن لي من الله مقاما لهو خير لبني عبد المطلب مما على الأرض من شي ء فقال عمر و أنا سمعت أبي يقول ما كلمة حكمة شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 102في قلب منافق فيخرج من الدنيا حتى يتكلم بهافقال سعيد يا ابن أخي جعلتني منافقا قال هو ما أقول لك ثم انصرف. و كان الزهري من المنحرفين عنه ع.
و روى جرير بن عبد الحميد عن محمد بن شيبة قال شهدت مسجد المدينة فإذا الزهري و عروة بن الزبير جالسان يذكران عليا ع فنالا منه فبلغ ذلك علي بن الحسين ع فجاء حتى وقف عليهما فقال أما أنت يا عروة فإن أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لأبي على أبيك و أما أنت يا زهري فلو كنت بمكة لأريتك كبر أبيك

(5/89)


و قد روي من طرق كثيرة أن عروة بن الزبير كان يقول لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ص يزهو إلا علي بن أبي طالب و أسامة بن زيد. و روى عاصم بن أبي عامر البجلي عن يحيى بن عروة قال كان أبي إذا ذكر عليا نال منه. و قال لي مرة يا بني و الله ما أحجم الناس عنه إلا طلبا للدنيا لقد بعث إليه أسامة بن زيد أن ابعث إلي بعطائي فو الله إنك لتعلم أنك لو كنت في فم أسد لدخلت معك فكتب إليه أن هذا المال لمن جاهد عليه و لكن لي مالا بالمدينة فأصب منه ما شئت. قال يحيى فكنت أعجب من وصفه إياه بما وصفه به و من عيبه له و انحرافه عنه. و كان زيد بن ثابت عثمانيا شديدا في ذلك و كان عمرو بن ثابت عثمانيا من أعداء علي ع و مبغضيه و عمرو بن ثابت هو الذي روى عن أبي أيوب الأنصاري حديث ستة أيام من شوال. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 103روي عن عمرو أنه كان يركب و يدور القرى بالشام و يجمع أهلها و يقول أيها ناس إن عليا كان رجلا منافقا أراد أن ينخس برسول الله ص ليلة العقبة فالعنوه فيلعنه أهل تلك القرية ثم يسير إلى القرية الأخرى فيأمرهم بمثل ذلك و كان في أيام معاوية. و كان مكحول من المبغضين له ع روى زهير بن معاوية عن الحسن بن الحر قال لقيت مكحولا فإذا هو مطبوع يعني مملوءا بغضا لعلي ع فلم أزل به حتى لان و سكن. و روى المحدثون عن حماد بن زيد أنه قال أرى أن أصحاب علي أشد حبا له من أصحاب العجل لعجلهم و هذا كلام شنيع. و روي عن شبابة بن سوار أنه ذكر عنده ولد علي ع و طلبهم الخلافة فقال و الله لا يصلون إليها أبدا و الله ما استقامت لعلي و لا فرح بها يوما فكيف تصير إلى ولده هيهات هيهات لا و الله لا يذوق طعم الخلافة من رضي بقتل عثمان. و قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي كان أهل البصرة كلهم يبغضونه و كثير من أهل الكوفة و كثير من أهل المدينة و أما أهل مكة فكلهم كانوا يبغضونه قاطبة و كانت قريش كلها على خلافه و كان جمهور الخلق مع بني أمية عليه.

(5/90)


و روى عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال سمعت عليا ع و هو يقول ما لقي أحد من الناس ما لقيت ثم بكى ع
و روى الشعبي عن شريح بن هانئ قال قال علي ع اللهم إني أستعديك شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 104على قريش فإنهم قطعوا رحمي و أصغوا إنائي و صغروا عظيم منزلتي و أجمعوا على منازعتي و روى جابر عن أبي الطفيل قال سمعت عليا ع يقول اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قطعوا رحمي و غصبوني حقي و أجمعوا على منازعتي أمرا كنت أولى به ثم قالوا إن من الحق أن نأخذه و من الحق أن تتركه
و روى المسيب بن نجبة الفزاري قال قال علي ع من وجدتموه من بني أمية في ماء فغطوا على صماخه حتى يدخل الماء في فيه
و روى عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال لقي عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب فقال أ لم نكن نقرأ من جملة القرآن قاتلوهم في آخر الأمر كما قاتلتموهم في أوله قال بلى و لكن ذاك إذا كان الأمراء بني أمية و الوزراء بني مخزوم.
و روى أبو عمر النهدي قال سمعت علي بن الحسين يقول ما بمكة و المدينة عشرون رجلا يحبنا
و روى سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال أثنى رجل على علي بن أبي طالب في وجهه و كان يبغضه فقال علي أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك
و روى أبو غسان النهدي قال دخل قوم من الشيعة على علي ع في الرحبة و هو على حصير خلق فقال ما جاء بكم قالوا حبك يا أمير المؤمنين قال أما إنه من أحبني رآني حيث يحب أن يراني و من أبغضني رآني حيث يكره أن يراني ثم قال ما عبد الله أحد قبلي إلا نبيه ع و لقد هجم أبو طالب علينا و أنا و هو ساجدان فقال أ و فعلتموها ثم قال لي و أنا غلام ويحك انصر ابن عمك ويحك لا تخذله شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 105و جعل يحثني على مؤازرته و مكانفته فقال له رسول الله ص أ فلا تصلي أنت معنا يا عم فقال لا أفعل يا ابن أخي لا تعلوني استي ثم انف

(5/91)


و روى جعفر بن الأحمر عن مسلم الأعور عن حبة العرني قال قال علي ع من أحبني كان معي أما إنك لو صمت الدهر كله و قمت الليل كله ثم قتلت بين الصفا و المروة أو قال بين الركن و المقام لما بعثك الله إلا مع هواك بالغا ما بلغ إن في جنة ففي جنة و إن في نار ففي نار
و روى جابر الجعفي عن علي ع أنه قال من أحبنا أهل البيت فليستعد عدة للبلاء
و روى أبو الأحوص عن أبي حيان عن علي ع يهلك في رجلان محب غال و مبغض قال
و روى حماد بن صالح عن أيوب عن كهمس أن عليا ع قال يهلك في ثلاثة اللاعن و المستمع المقر و حامل الوزر و هو الملك المترف الذي يتقرب إليه بلعنتي و يبرأ عنده من ديني و ينتقص عنده حسبي و إنما حسبي حسب رسول الله ص و ديني دينه و ينجو في ثلاثة من أحبني و من أحب محبي و من عادى عدوي فمن أشرب قلبه بغضي أو ألب على بغضي أو انتقصني فليعلم أن الله عدوه و خصمه و الله عدو للكافرين
و روى محمد بن الصلت عن محمد بن الحنفية قال من أحبنا نفعه الله بحبنا و لو كان أسيرا بالديلم
و روى أبو صادق عن ربيعة بن ناجد عن علي ع قال قال لي رسول الله ص إن فيك لشبها من عيسى ابن مريم أحبته النصارى حتى أنزلته بالمنزلة التي ليست له و أبغضته اليهود حتى بهتت أمه
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 106و روى صاحب كتاب الغارات حديث البراءة على غير الوجه المذكور في كتاب نهج البلاغة قال أخبرنا يوسف بن كليب المسعودي عن يحيى بن سليمان العبدي عن أبي مريم الأنصاري عن محمد بن علي الباقر ع قال خطب علي ع على منبر الكوفة فقال سيعرض عليكم سبي و ستذبحون عليه فإن عرض عليكم سبي فسبوني و إن عرض عليكم البراءة مني فإني على دين محمد ص و لم يقل فلا تبرءوا مني

(5/92)


و قال أيضا حدثني أحمد بن مفضل قال حدثني الحسن بن صالح عن جعفر بن محمد ع قال قال علي ع و الله لتذبحن على سبي و أشار بيده إلى حلقه ثم قال فإن أمروكم بسبي فسبوني و إن أمروكم أن تبرءوا مني فإني على دين محمد ص و لم ينههم عن إظهار البراءة
و روى شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى عن سلمة بن كهيل عن المسيب بن نجبة قال بينا علي ع يخطب إذ قام أعرابي فصاح وا مظلمتاه فاستدناه علي ع فلما دنا قال له إنما لك مظلمة واحدة و أنا قد ظلمت عدد المدر و الوبر
قال و في رواية عباد بن يعقوب إنه دعاه فقال له ويحك و أنا و الله مظلوم أيضا هات فلندع على من ظلمنا
و روى سدير الصيرفي عن أبي جعفر محمد بن علي قال اشتكى علي ع شكاة فعاده أبو بكر و عمر و خرجا من عنده فأتيا النبي ص فسألهما من أين جئتما قالا عدنا عليا قال كيف رأيتماه قال رأيناه يخاف عليه مما به فقال كلا إنه لن يموت حتى يوسع غدرا و بغيا و ليكونن في هذه الأمة عبرة يعتبر به الناس من بعده
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 107 و روى عثمان بن سعيد عن عبد الله بن الغنوي أن عليا ع خطب بالرحبة فقال أيها الناس إنكم قد أبيتم إلا أن أقولها و رب السماء و الأرض إن من عهد النبي الأمي إلي أن الأمة ستغدر بك بعديو روى هيثم بن بشير عن إسماعيل بن سالم مثله و قد روى أكثر أهل الحديث هذا الخبر بهذا اللفظ أو بقريب منه.
و روى أبو جعفر الإسكافي أيضا أن النبي ص دخل على فاطمة ع فوجد عليا نائما فذهبت تنبهه فقال دعيه فرب سهر له بعدي طويل و رب جفوة لأهل بيتي من أجله شديدة فبكت فقال لا تبكي فإنكما معي و في موقف الكرامة عندي
و روى الناس كافة أن رسول الله ص قال له هذا وليي و أنا وليه عاديت من عاداه و سالمت من سالمه
أو نحو هذا اللفظ. و روى أيضا محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن زيد بن علي بن الحسين ع قال قال رسول الله ص لعلي ع عدوك عدوي و عدوي عدو الله عز و جل

(5/93)


و روى يونس بن حباب عن أنس بن مالك قال كنا مع رسول الله ص و علي بن أبي طالب معنا فمررنا بحديقة فقال علي يا رسول الله أ لا ترى ما أحسن هذه الحديقة فقال إن حديقتك في الجنة أحسن منها حتى مررنا بسبع حدائق يقول علي ما قال و يجيبه رسول الله ص بما أجابه ثم إن رسول الله ص وقف فوقفنا فوضع رأسه على رأس علي و بكى فقال علي ما يبكيك يا رسول الله قال ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 108فقال يا رسول الله أ فلا أضع سيفي على عاتقي فأبيد خضراءهم قال بل تصبر قال فإن صبرت قال تلاقي جهدا ق أ في سلامة من ديني قال نعم قال فإذا لا أبالي
و روى جابر الجعفي عن محمد بن علي ع قال قال علي ع ما رأيت منذ بعث الله محمدا ص رخاء لقد أخافتني قريش صغيرا و أنصبتني كبيرا حتى قبض الله رسوله فكانت الطامة الكبرى وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ
و روى صاحب كتاب الغارات عن الأعمش عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله ص يقول سيظهر على الناس رجل من أمتي عظيم السرم واسع البلعوم يأكل و لا يشبع يحمل وزر الثقلين يطلب الإمارة يوما فإذا أدركتموه فابقروا بطنه قال و كان في يد رسول الله ص قضيب قد وضع طرفه في بطن معاوية
قلت هذا الخبر مرفوع مناسب لما قاله علي ع في نهج البلاغة و مؤكد لاختيارنا أن المراد به معاوية دون ما قاله كثير من الناس إنه زياد و المغيرة.
و روى جعفر بن سليمان الضبعي عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال ذكر رسول الله ص يوما لعلي ما يلقى بعده من العنت فأطال فقال له ع أنشدك الله و الرحم يا رسول الله لما دعوت الله أن يقبضني إليه قبلك قال كيف أسأله في أجل مؤجل قال يا رسول الله فعلام أقاتل من أمرتني بقتاله قال على الحدث في الدين

(5/94)


و روى الأعمش عن عمار الدهني عن أبي صالح الحنفي عن علي ع قال شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 109قال لنا يوما لقد رأيت الليلة رسول الله ص في المنام فشكوت إليه ما لقيت حتى بكيت فقال لي انظر فنظرت فإذا جلاميد و إذا رجلان مصفدان قال الأعمش هما معاوية و عمرو بن الع قال فجعلت أرضخ رءوسهما ثم تعود ثم أرضخ ثم تعود حتى انتبهت
و روى نحو هذا الحديث عمرو بن مرة عن أبي عبد الله بن سلمة عن علي ع قال رأيت الليلة رسول الله ص فشكوت إليه فقال هذه جهنم فانظر من فيها فإذا معاوية و عمرو بن العاص معلقين بأرجلهما منكسين ترضخ رءوسهما بالحجارة أو قال تشدخ
و روى قيس بن الربيع عن يحيى بن هانئ المرادي عن رجل من قومه يقال له رياد بن فلان قال كنا في بيت مع علي ع نحن شيعته و خواصه فالتفت فلم ينكر منا أحدا فقال إن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم فيقطعون أيديكم و يسملون أعينكم فقال رجل منا و أنت حي يا أمير المؤمنين قال أعاذني الله من ذلك فالتفت فإذا واحد يبكي فقال له يا ابن الحمقاء أ تريد اللذات في الدنيا و الدرجات في الآخرة إنما وعد الله الصابرين

(5/95)


و روى زرارة بن أعين عن أبيه عن أبي جعفر محمد بن علي ع قال كان علي ع إذا صلى الفجر لم يزل معقبا إلى أن تطلع الشمس فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء و المساكين و غيرهم من الناس فيعلمهم الفقه و القرآن و كان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك فقام يوما فمر برجل فرماه بكلمة هجر قال لم يسمه محمد بن علي ع فرجع عوده على بدئه حتى صعد المنبر و أمر فنودي الصلاة جامعة فحمد الله و أثنى عليه و صلى على نبيه ثم قال أيها الناس إنه ليس شي ء أحب إلى الله و لا أعم نفعا من شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 110حلم إمام و فقهه و لا شي ء أبغض إلله و لا أعم ضررا من جهل إمام و خرقه ألا و إنه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ ألا و إنه من أنصف من نفسه لم يزده الله إلا عزا ألا و إن الذل في طاعة الله أقرب إلى الله من التعزز في معصيته ثم قال أين المتكلم آنفا فلم يستطع الإنكار فقال ها أنا ذا يا أمير المؤمنين فقال أما إني لو أشاء لقلت فقال إن تعف و تصفح فأنت أهل ذلك قال قد عفوت و صفحت فقيل لمحمد بن علي ع ما أراد أن يقول قال أراد أن ينسبه
و روى زرارة أيضا قال قيل لجعفر بن محمد ع إن قوما هاهنا ينتقصون عليا ع قال بم ينتقصونه لا أبا لهم و هل فيه موضع نقيصة و الله ما عرض لعلي أمران قط كلاهما لله طاعة إلا عمل بأشدهما و أشقهما عليه و لقد كان يعمل العمل كأنه قائم بين الجنة و النار ينظر إلى ثواب هؤلاء فيعمل له و ينظر إلى عقاب هؤلاء فيعمل له و إن كان ليقوم إلى الصلاة فإذا قال وجهت وجهي تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه و لقد أعتق ألف عبد من كد يده كل منهم يعرق فيه جبينه و تحفى فيه كفه و لقد بشر بعين نبعت في ماله مثل عنق الجزور فقال بشر الوارث بشر ثم جعلها صدقة على الفقراء و المساكين و ابن السبيل إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ليصرف الله النار عن وجهه و يصرف وجهه عن النار

(5/96)


و روى القناد عن أبي مريم الأنصاري عن علي ع لا يحبني كافر و لا ولد زنا
و روى جعفر بن زياد عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال كنا بنور إيماننا نحب علي بن أبي طالب ع فمن أحبه عرفنا أنه منا
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 111فصل في معنى قول علي فسبوني فإنه لي زكاةالمسألة الثالثة في معنى قوله ع فسبوني فإنه لي زكاة و لكم نجاة فنقول إنه أباح لهم سبه عند الإكراه لأن الله تعالى قد أباح عند الإكراه التلفظ بكلمة الكفر فقال إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ و التلفظ بكلمة الكفر أعظم من التلفظ بسب الإمام. فأما قوله فإنه لي زكاة و لكم نجاة فمعناه أنكم تنجون من القتل إذا أظهرتم ذلك و معنى الزكاة يحتمل أمرين أحدهما ما ورد في الأخبار النبوية أن سب المؤمن زكاة له و زيادة في حسناته. و الثاني أن يريد به أن سبهم لي لا ينقص في الدنيا من قدري بل أزيد به شرفا و علو قدر و شياع ذكر و هكذا كان فإن الله تعالى جعل الأسباب التي حاول أعداؤه بها الغض منه عللا لانتشار صيته في مشارق الأرض و مغاربها. و قد لمح هذا المعنى أبو نصر بن نباته فقال للشريف الجليل محمد بن عمر العلوي
و أبوك الوصي أول من شاد منار الهدى و صام و صلى نشرت حبله قريش فأعطته إلى صبحة القيامة فتلاو احتذيت أنا حذوه فقلت لأبي المظفر هبة الله بن موسى الموسوي رحمه الله تعالى في قصيده أذكر فيها أباه
أمك الدرة التي أنجبت من جوهر المجد راضيا مرضياو أبوك الإمام موسى كظيم الغيظ حتى يعيده منسيا

(5/97)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 112و أبوه تاج الهدى جعفر الصادق وحيا عن الغيوب وحياو أبوه محمد باقر العلم مضى لنا هاديا مهدياو أبوه السجاد أتقى عباد الله لله مخلصا و وفياو الحسين الذي تخير أن يقضي عزيزا و لا يعيش دنياو أبوه الوصي أول من طاف و لبى سبعا و ساق ادياطامنت مجده قريش فأعطته إلى سدرة السماء رقياأخملت صيته فطار إلى أن ملأ الأفق ضجة و دوياو أبو طالب كفيل أبي القاسم كهلا و يافعا و فتياو لشيخ البطحاء تاج معد شيبة الحمد هل علمت سمياو أبو عمر العلا هاشم الجود و من مثل هاشم بشرياو أبوه الهمام عبد مناف قل تقل صادقا و تبدي بدياثم زيد أعني قصي الذي لم يك عن ذروة العلاء قصيانسب إن تلفع النسب المحض لفاعا كان السليب العرياو إذا أظلمت مناسخة الأحساب يوما كان المنير الجليايا له مجدة على قدم الدهر و قد يفضل العتيق الطريا
و ذكرنا هاهنا ما قبل المعنى و ما بعده لأن الشعر حديث و الحديث كما قيل يأخذ بعضه برقاب بعض و لأن ما قبل المعنى و ما بعده مكمل له و موضح مقصده. فإن قلت أي مناسبة بين لفظ الزكاة و انتشار الصيت و السمع. قلت لأن الزكاة هي النماء و الزيادة و منه سميت الصدقة المخصوصة زكاة لأنها تنمي المال المزكى و انتشار الصيت نماء و زيادة

(5/98)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 113فصل في اختلاف الرأي في معنى السب و البراءةالمسألة الرابعة أن يقال كيف قال ع فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة و لكم نجاة و أما البراءة فلا تبرءوا مني و أي فرق بين السب و البراءة و كيف أجاز لهم السب و منعهم عن التبرؤ و السب أفحش من التبرؤ. و الجواب أما الذي يقوله أصحابنا في ذلك فإنه لا فرق عندهم بين سبه و التبرؤ منه في أنهما حرام و فسق و كبيرة و أن المكره عليهما يجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه كما يجوز له إظهار كلمة الكفر عند الخوف. و يجوز ألا يفعلهما و إن قتل إذا قصد بذلك إعزاز الدين كما يجوز له أن يسلم نفسه للقتل و لا يظهر كلمة الكفر إعزازا للدين و إنما استفحش ع البراءة لأن هذه اللفظة ما وردت في القرآن العزيز إلا عن المشركين أ لا ترى إلى قوله تعالى بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ و قال تعالى أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فقد ارت بحسب العرف الشرعي مطلقة على المشركين خاصة فإذن يحمل هذا النهي على ترجيح تحريم لفظ البراءة على لفظ السب و إن كان حكمهما واحدا أ لا ترى إن إلقاء المصحف في القذر أفحش من إلقاء المصحف في دن الشراب و إن كانا جميعا محرمين و كان حكمهما واحدا.
فأما الإمامية فتروي عنه ع أنه قال إذا عرضتم على البراءة منا فمدوا الأعناق
و يقولون إنه لا يجوز التبرؤ منه و إن كان الحالف صادقا و إن عليه الكفارة. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 114و يقولون إن حكم البراءة من الله تعالى و من الرسول و منه ع و من أحد الأئمة ع حكم واحد. و يقولون إن الإكراه على السب يبيح إظهاره و لا يجوز الاستسلام للقتلعه و أما الإكراه على البراءة فإنه يجوز معه الاستسلام للقتل و يجوز أن يظهر التبرؤ و الأولى أن يستسلم للقتل
فصل في معنى قول علي إني ولدت على الفطرة

(5/99)


المسألة الخامسة أن يقال كيف علل نهيه لهم على البراءة منه ع بقوله فإني ولدت على الفطرة فإن هذا التعليل لا يختص به ع لأن كل أحد يولد على الفطرة
قال النبي ص كل مولود يولد على الفطرة و إنما أبواه يهودانه و ينصرانه
و الجواب أنه ع علل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع أمور و علل و هي كونه ولد على الفطرة و كونه سبق إلى الإيمان و الهجرة و لم يعلل بآحاد هذا المجموع و مراده هاهنا بالولادة على الفطرة أنه لم يولد في الجاهلية لأنه ولد ع لثلاثين عاما مضت من عام الفيل و النبي ص أرسل لأربعين سنة مضت من عام الفيل و قد جاء في الأخبار الصحيحة أنه ص مكث قبل الرسالة سنين عشرا يسمع الصوت و يرى الضوء و لا يخاطبه أحد و كان ذلك إرهاصا لرسالته ع فحكم تلك السنين العشر حكم أيام رسالته ص فالمولود فيها إذا كان في حجره و هو المتولي لتربيته مولود في أيام كأيام النبوة و ليس بمولود في جاهلية محضة ففارقت حاله حال من يدعى له من الصحابة مماثلته في الفضل و قد روي أن السنة التي ولد فيها علي شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 115ع هي السنة التي بدئ فيها برسالة رسول الله ص فأسمع الهتاف من الأحجار و الأشجار و كشف عبصره فشاهد أنوارا و أشخاصا و لم يخاطب فيها بشي ء و هذه السنة هي السنة التي ابتدأ فيها بالتبتل و الانقطاع و العزلة في جبل حراء فلم يزل به حتى كوشف بالرسالة و أنزل عليه الوحي و كان رسول الله ص يتيمن بتلك السنة و بولادة علي ع فيها و يسميها سنة الخير و سنة الركة و قال لأهله ليلة ولادته و فيها شاهد ما شاهد من الكرامات و القدرة الإلهية و لم يكن من قبلها شاهد من ذلك شيئا
لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح الله علينا به أبوابا كثيرة من النعمة و الرحمة
و كان كما قال ص فإنه ع كان ناصره و المحامي عنه و كاشف الغماء عن وجهه و بسيفه ثبت دين الإسلام و رست دعائمه و تمهدت قواعده. و في المسألة تفسير آخر و هو أن يعني

(5/100)


بقوله ع فإني ولدت على الفطرة
أي على الفطرة التي لم تتغير و لم تحل و ذلك أن معنى
قول النبي ص كل مولود يولد على الفطرة
أن كل مولود فإن الله تعالى قد هيأه بالعقل الذي خلقه فيه و بصحة الحواس و المشاعر لأن يعلم التوحيد و العدل و لم يجعل فيه مانعا يمنعه عن ذلك و لكن التربية و العقيدة في الوالدين و الإلف لاعتقادهما و حسن الظن فيهما يصده عما فطر عليه و أمير المؤمنين ع دون غيره ولد على الفطرة التي لم تحل و لم يصد عن مقتضاها مانع لا من جانب الأبوين و لا من جهة غيرهما و غيره ولد على الفطرة و لكنه حال عن مقتضاها و زال عن موجبها. و يمكن أن يفسر بأنه ع أراد بالفطرة العصمة و أنه منذ ولد لم يواقع قبيحا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 116و لاان كافرا طرفة عين قط و لا مخطئا و لا غالطا في شي ء من الأشياء المتعلقة بالدين و هذا تفسير الإمامية فصل فيما قيل من سبق علي إلى الإسلام
المسألة السادسة أن يقال كيف قال و سبقت إلى الإيمان و قد قال قوم من الناس إن أبا بكر سبقه و قال قوم إن زيد بن حارثة سبقه. و الجواب أن أكثر أهل الحديث و أكثر المحققين من أهل السيرة رووا أنه ع أول من أسلم و نحن نذكر كلام أبي عمر يوسف بن عبد البر المحدث في كتابه المعروف بالإستيعاب. قال أبو عمر في ترجمة علي ع المروي عن سلمان و أبي ذر و المقداد و خباب و أبي سعيد الخدري و زيد بن أسلم أن عليا ع أول من أسلم و فضله هؤلاء على غيره. قال أبو عمر و قال ابن إسحاق أول من آمن بالله و بمحمد رسول الله ص علي بن أبي طالب ع و هو قول ابن شهاب إلا أنه قال من الرجال بعد خديجة.

(5/101)


قال أبو عمر و حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا علي بن عبد الله الدهقان قال حدثنا محمد بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال لعلي ع أربع خصال ليست شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 117لأحد غيره هو أول عربي و عي صلى مع رسول الله ص و هو الذي كان معه لواؤه في كل زحف و هو الذي صبر معه يوم فر عنه غيره و هو الذي غسله و أدخله قبره
قال أبو عمر و روي عن سلمان الفارسي أنه قال أول هذه الأمة ورودا على نبيها ص الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب
و قد روي هذا الحديث مرفوعا
عن سلمان عن النبي ص أنه قال أول هذه الأمة ورودا علي الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب
قال أبو عمر و رفعه أولى لأن مثله لا يدرك بالرأي. قال أبو عمر فأما إسناد المرفوع
فإن أحمد بن قاسم قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن الحارث بن أبي أسامة قال حدثني يحيى بن هاشم قال حدثنا سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن حنش بن المعتمر عن عليم الكندي عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله ص أولكم واردا علي الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب
قال أبو عمر و روى أبو داود الطيالسي قال حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس أنه قال أول من صلى مع النبي ص بعد خديجة علي بن أبي طالب
قال أبو عمر و حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا الحسن بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال كان علي أول من آمن من الناس بعد خديجة
قال أبو عمر هذا الإسناد لا مطعن فيه لأحد لصحته و ثقة نقلته و قد عارض شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 118ما ذكرنا في باب أبي بكر الصديق عن ابن عباس و الصحيح في أمر أبي بكر أنه أول من أظهر إسلامه

(5/102)


كذلك قاله مجاهد و غيره قالوا و منعه قومه. قال أبو عمر اتفق ابن شهاب و عبد الله بن محمد بن عقيل و قتادة و ابن إسحاق على أن أول من أسلم من الرجال علي و اتفقوا على أن خديجة أول من آمن بالله و رسوله و صدقه فيما جاء به ثم علي بعد. و روي عن أبي رافع مثل ذلك. قال أبو عمر و حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا عبد السلام بن صالح قال حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال حدثنا عمر مولى غفرة قال سئل محمد بن كعب القرظي عن أول من أسلم علي أم أبي بكر فقال سبحان الله علي أولهما إسلاما و إنما شبه على الناس لأن عليا أخفى إسلامه من أبي طالب و أسلم أبو بكر فأظهر إسلامه. قال أبو عمر و لا شك عندنا أن عليا أولهما إسلاما ذكر عبد الرزاق في جامعه عن معمر عن قتادة عن الحسن و غيره قالوا أول من أسلم بعد خديجة علي بن أبي طالب ع.
و روى معمر عن عثمان الجزري عن مقسم عن ابن عباس قال أول من أسلم علي بن أبي طالب
قال أبو عمر و روى ابن فضيل عن الأجلح عن حبة بن جوين العرني قال سمعت عليا ع يقول لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين
قال أبو عمر و روى شعبة عن سلمة بن كهيل عن حبة العرني قال سمعت عليا يقول إنا أول من صلى مع رسول الله ص

(5/103)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 119قال أبو عمر و قد روى سالم بن أبي الجعد قال قلت لابن الحنفية أبو بكر كان أولهما إسلاما قال لا. قال أبو عمر و روى مسلم الملائي عن أنس بن مالك قال استنبئ النبي ص يوم الإثنين و صلى علي يوم الثلاثاء. قال أبو عمر و قال زيد بن أرقمول من آمن بالله بعد رسول الله ص علي بن أبي طالب. قال و قد روي حديث زيد بن أرقم من وجوه ذكرها النسائي و أسلم بن موسى و غيرهما منها ما حدثنا به عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا شعبة قال أخبرني عمرو بن مرة قال سمعت أبا حمزة الأنصاري قال سمعت زيد بن أرقم يقول أول من صلى مع رسول الله ص علي بن أبي طالب. قال أبو عمر و حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير بن حرب حدثنا أبي قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال حدثنا ابن إسحاق قال حدثنا يحيى بن أبي الأشعث عن إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي عن أبيه عن جده قال كنت امرأ تاجرا فقدمت الحج فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة و كان امرأ تاجرا فو الله إني لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه فنظر إلى الشمس فلما رآها قد مالت قام يصلي ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل فقامت خلفه تصلي ثم خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء فقام معه يصلي فقلت للعباس ما هذا يا عباس قال هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي قلت من هذه المرأة شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 120قال امرأته خديجة بنت خويلد قلت هذا الفتى قال علي بن أبي طالب ابن عمه قلت ما هذا الذي يصنع قال يصلي و هو يزعم أنه نبي و لم يتبعه على أمره إلا امرأته و ابن عمه هذا الغلام و هو يزعم أنه سيفتح على أمته كنوز كسرى و قيصر قال فكان عفيف الكندي يقول و قد أسلم بعد ذلك و حسن إسلامه لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ كنت أكون ثانيا مع علي. قال أبو عمر و قد ذكرنا هذا

(5/104)


الحديث من طرق في باب عفيف الكندي من هذا الكتاب.
قال أبو عمر و لقد قال علي ع صليت مع رسول الله ص كذا و كذا لا يصلي معه غيري إلا خديجة
فهذه الروايات و الأخبار كلها ذكرها أبو عمر يوسف بن عبد البر في الكتاب المذكور و هي كما تراها تكاد تكون إجماعا. قال أبو عمر و إنما الاختلاف في كمية سنه ع يوم أسلم ذكر الحسن بن علي الحلواني في كتاب المعرفة له قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا الليث بن سعد عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن أنه بلغه أن عليا و الزبير أسلما و هما ابنا ثماني سنين كذا يقول أبو الأسود يتيم عروة و ذكره أيضا ابن أبي خيثمة عن قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد عن أبي الأسود و ذكره عمر بن شبة عن الحزامي عن أبي وهب عن الليث عن أبي الأسود قال الليث و هاجرا و هما ابنا ثمان عشرة سنة. قال أبو عمر و لا أعلم أحدا قال بقول أبي الأسود هذا. قال أبو عمر و روى الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن قال أسلم علي و هو ابن خمس عشرة سنة شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 121قاأبو عمر و أخبرنا أبو القاسم خلف بن قاسم بن سهل قال حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن إسماعيل الطوسي قال أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم السراج قال حدثنا محمد بن مسعود قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن قال أسلم علي و هو أول من أسلم و هو ابن خمس عشرة سنة أو ست عشرة سنة. قال أبو عمر قال ابن وضاح و ما رأيت أحدا قط أعلم بالحديث من محمد بن مسعود و لا بالرأي من سحنون. قال أبو عمر قال ابن إسحاق أول ذكر آمن بالله و رسوله علي بن أبي طالب ع و هو يومئذ ابن عشر سنين. قال أبو عمر و الروايات في مبلغ سنه ع مختلفة قيل أسلم و هو ابن ثلاث عشرة سنة و قيل ابن اثنتي عشرة سنة و قيل ابن خمس عشرة سنة و قيل ابن ست عشرة و قيل ابن عشر و قيل ابن ثمان. قال أبو عمر و ذكر عمر بن شبة عن

(5/105)


المدائني عن ابن جعدة عن نافع عن ابن عمر قال أسلم علي و هو ابن ثلاث عشرة سنة. قال و أخبرنا إبراهيم بن المنذر الحرامي قال حدثنا محمد بن طلحة قال حدثني جدي إسحاق بن يحيى عن طلحة قال كان علي بن أبي طالب ع و الزبير بن العوام و طلحة بن عبيد الله و سعد بن أبي وقاص أعمارا واحدة. قال و أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا إسماعيل بن علي الخطبي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا حجين أبو عمر قال حدثنا حبان عن معروف عن أبي معشر قال كان علي ع و طلحة و الزبير في سن واحدة. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 122قال و روى عبد الرزاق عن الحسن و غيره أن أول من أسلم بعد خجة علي بن أبي طالب ع و هو ابن خمس عشرة سنة أو ست عشرة. قال أبو عمر و روى أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا شريح بن النعمان قال حدثنا الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عمر قال أسلم علي و هو ابن ثلاث عشرة سنة و توفي و هو ابن ثلاث و ستين سنة. قال أبو عمر هذا أصح ما قيل في ذلك و الله أعلم. انتهى حكاية كلام أبي عمر في كتاب الإستيعاب. و اعلم أن شيوخنا المتكلمين لا يكادون يختلفون في أن أول الناس إسلاما علي بن أبي طالب ع إلا من عساه خالف في ذلك من أوائل البصريين فأما الذي تقررت المقالة عليه الآن فهو القول بأنه أسبق الناس إلى الإيمان لا تكاد تجد اليوم في تصانيفهم و عند متكلميهم و المحققين منهم خلافا في ذلك. و اعلم أن أمير المؤمنين ع ما زال يدعي ذلك لنفسه و يفتخر به و يجعله في أفضليته على غيره و يصرح بذلك و قد قال غير مرة أنا الصديق الأكبر و الفاروق الأول أسلمت قبل إسلام أبي بكر و صليت قبل صلاته. و روى عنه هذا الكلام بعينه أبو محمد بن قتيبة في كتاب المعارف و هو غير متهم في أمره.
و من الشعر المروي عنه ع في هذا المعنى الأبيات التي أولها
محمد النبي أخي و صهري و حمزة سيد الشهداء عمي
و من جملتها

(5/106)


سبقتكم إلى الإسلام طرا غلاما ما بلغت أوان حلمي
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 123و الأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة جدا لا يتسع هذا الكتاب لذكرها فلتطلب من مظانها. و من تأمل كتب السير و التواريخ عرف من ذلك ما قلناه. فأما الذاهبون إلى أن أبا بكر أقدمهما إسلاما فنفر قليلون و نحن نذكر ما أورده ابن عبد البأيضا في كتاب الإستيعاب في ترجمة أبي بكر. قال أبو عمر حدثني خالد بن القاسم قال حدثنا أحمد بن محبوب قال حدثنا محمد بن عبدوس قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا شيخ لنا قال أخبرنا مجالد عن الشعبي قال سألت ابن عباس أو سئل أي الناس كان أول إسلاما فقال أ ما سمعت قول حسان بن ثابت
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلاخير البرية أتقاها و أعدلها بعد النبي و أوفاها بما حملاو الثاني التالي المحمود مشهده و أول الناس منهم صدق الرسلا
و يروى أن النبي ص قال لحسان هل قلت في أبي بكر شيئا قال نعم و أنشده هذه الأبيات و فيها بيت رابع
و ثاني اثنين في الغار المنيف و قد طاف العدو به إذ صعدوا الجبلا
فسر بذلك رسول الله ص و قال أحسنت يا حسان و قد روي فيها بيت خامس
و كان حب رسول الله قد علموا من البرية لم يعدل به رجلا
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 124و قال أبو عمر و روى شعبة عن عمرو بن مرة عن إبراهيم النخعي قال أول من أسلم أبو بكر. قال و روى الجريري عن أبي نصر قال قال أبو بكر لعلي ع أنا أسلمت قبلك في حديث ذكره فلم ينكره عليه. قال أبو عمر و قال فيه أبو محجن الثقفيو سميت صديقا و كل مهاجر سواك يسمى باسمه غير منكرسبقت إلى الإسلام و الله شاهد و كنت جليسا بالعريش المشهرو بالغار إذ سميت خلا و صاحبا و كنت رفيقا للنبي المطهر

(5/107)


قال أبو عمر و روينا من وجوه عن أبي أمامة الباهلي قال حدثني عمرو بن عبسة قال أتيت رسول الله ص و هو نازل بعكاظ فقلت يا رسول الله ص من اتبعك على هذا الأمر فقال حر و عبد أبو بكر و بلال قال فأسلمت عند ذلك
و ذكر الحديث. هذا مجموع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في هذا الباب في ترجمة أبي بكر و معلوم أنه لا نسبة لهذه الروايات إلى الروايات التي ذكرها في ترجمة علي ع الدالة على سبقه و لا ريب أن الصحيح ما ذكره أبو عمر أن عليا ع كان هو السابق و أن أبا بكر هو أول من أظهر إسلامه فظن أن السبق له. و أما زيد بن حارثة فإن أبا عمر بن عبد البر رضي الله تعالى عنه ذكر في كتاب الإستيعاب أيضا في ترجمة زيد بن حارثة قال ذكر معمر بن شبة في جامعه عن الزهري أنه قال ما علمنا أحدا أسلم قبل زيد بن حارثة. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 125قال د الرزاق و ما أعلم أحدا ذكره غير الزهري. و لم يذكر صاحب الإستيعاب ما يدل على سبق زيد إلا هذه الرواية و استغربها فدل مجموع ما ذكرناه أن عليا ع أول الناس إسلاما و أن المخالف في ذلك شاذ و الشاذ لا يعتد به
فصل فيما ذكر من سبق علي إلى الهجرة

(5/108)


المسألة السابعة أن يقال كيف قال إنه سبق إلى الهجرة و معلوم أن جماعة من المسلمين هاجروا قبله منهم عثمان بن مظعون و غيره و قد هاجر أبو بكر قبله لأنه هاجر في صحبة النبي ص و تخلف علي ع عنهما فبات على فراش رسول الله ص و مكث أياما يرد الودائع التي كانت عنده ثم هاجر بعد ذلك. و الجواب أنه ع لم يقل و سبقت كل الناس إلى الهجرة و إنما قال و سبقت فقط و لا يدل ذلك على سبقه للناس كافة و لا شبهة أنه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة و لم يهاجر قبله أحد إلا نفر يسير جدا. و أيضا فقد قلنا إنه علل أفضليته و تحريم البراءة منه مع الإكراه بمجموع أمور منها ولادته على الفطرة و منها سبقه إلى الإيمان و منها سبقه إلى الهجرة و هذه الأمور الثلاثة لم تجتمع لأحد غيره فكان بمجموعها متميزا عن كل أحد من الناس. و أيضا فإن اللام في الهجرة يجوز ألا تكون للمعهود السابق بل تكون للجنس و أمير المؤمنين ع سبق أبا بكر و غيره إلى الهجرة التي قبل هجرة المدينة فإن النبي ص هاجر عن مكة مرارا يطوف على أحياء العرب و ينتقل من شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 126أرض قوم إلى غيرها و كان علي ع معه دون غيره. أما هجرته إلى بني شيبان فما اختلف أحد من أهل السيرة أن عليا ع كان ه هو و أبو بكر و أنهم غابوا عن مكة ثلاثة عشر يوما و عادوا إليها لما لم يجدوا عند بني شيبان ما أرادوه من النصرة. و روى المدائني في كتاب الأمثال عن المفضل الضبي أن رسول الله ص لما خرج عن مكة يعرض نفسه على قبائل العرب خرج إلى ربيعة و معه علي ع و أبو بكر فدفعوا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر و كان نسابة فسلم فردوا عليه السلام فقال ممن القوم قالوا من ربيعة قال أ من هامتها أم من لهازمها قالوا من هامتها العظمى فقال من أي هامتها العظمى أنتم قالوا من ذهل الأكبر قال أ فمنكم عوف الذي يقال له لا حر بوادي عوف قالوا لا قال أ فمنكم بسطام ذو اللواء و منتهى الأحياء قالوا لا قال أ

(5/109)


فمنكم جساس حامي الذمار و مانع الجار قالوا لا قال أ فمنكم الحوفزان قاتل الملوك و سالبها أنفسها قالوا لا قال أ فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة قالوا لا قال أ فأنتم أخوال الملوك من كندة قالوا لا قال فلستم إذن ذهلا الأكبر أنتم ذهل الأصغر فقام إليه غلام قد بقل وجهه اسمه دغفل فقال
إن على سائلنا أن نسأله و العب ء لا تعرفه أو تحمل شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 127يا هذا إنك قد سألتنا فأجبناك و لم نكتمك شيئا فممن الرجل قال من قريش قال بخ بخ أهل الشرف و الرئاسة فمن أي قريش أنت قال من تيم بن مرة قال أمكنت و الله الرامي من الثغرة أ منكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى مجمعاال لا قال أ فمنكم هاشم الذي هشم لقومه الثريد قال لا قال أ فمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء قال لا قال أ فمن المفيضين بالناس أنت قال لا قال أ فمن أهل الندوة أنت قال لا قال أ فمن أهل الرفادة أنت قال لا قال أ فمن أهل الحجابة أنت قال لا قال أ فمن أهل السقاية قال لا قال فاجتذب أبو بكر زمام ناقته و رجع إلى رسول الله ص هاربا من الغلام فقال دغفل
صادف درء السيل درء يصدعه
أما و الله لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش فتبسم رسول الله ص
و قال علي ع لأبي بكر لقد وقعت يا أبا بكر من الأعرابي على باقعة

(5/110)


قال أجل إن لكل طامة طامة و البلاء موكل بالمنطق فذهبت مثلا. و أما هجرته ص إلى الطائف فكان معه علي ع و زيد بن شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 128حارثة في رواية أبي الحسن المدائني و لم يكن معهم أبو بكر و أما رواية محمد بن إسحاق فإنه قال كان معه زيد بن حارثة وحده غاب رسول الله ص عن مكة في هذه الهجرة أربعين يوما و دخل إليها في جوار مطعم بن عدي. و أما هجرته ص إلى بني عامر بن صعصعة و إخوانهم من قيس عيلان فإنه لم يكن معه إلا علي ع وحده و ذلك عقيب وفاة أبي طالب أوحي إليه ص أخرج منها فقد مات ناصرك فخرج إلى بني عامر بن صعصعة و معه علي ع وحده فعرض نفسه عليهم و سألهم النصر و تلا عليهم القرآن فلم يجيبوه فعادا ع إلى مكة و كانت مدة غيبته في هذه الهجرة عشرة أيام و هي أول هجرة هاجرها ص بنفسه. فأما أول هجرة هاجرها أصحابه و لم يهاجر بنفسه فهجرة الحبشة هاجر فيها كثير من أصحابه ع إلى بلاد الحبشة في البحر منهم جعفر بن أبي طالب ع فغابوا عنه سنين ثم قدم عليه منهم من سلم و طالت أيامه و كان قدوم جعفر عليه عام فتح خيبر
فقال ص ما أدري بأيهما أنا أسر أ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 57129- و من كلام له ع كلم به الخوارجأَصَابَكُمْ حَاصِبٌ وَ لَا بَقِيَ مِنْكُمْ آبِرٌ أَ بَعْدَ إِيمَانِي بِاللَّهِ وَ جِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ وَ ارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الْأَعْقَابِ أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلًّا شَامِلًا وَ سَيْفاً قَاطِعاً وَ أَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً

(5/111)


قال الرضي رحمه الله قوله ع و لا بقي منكم آبر يروى على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون كما ذكرناه آبر بالراء من قولهم رجل آبر للذي يأبر النخل أي يصلحه. و يروى آثر بالثاء بثلاث نقط يراد به الذي يأثر الحديث أي يرويه و يحكيه و هو أصح الوجوه عندي كأنه ع قال لا بقي منكم مخبر. و يروى آبز بالزاي المعجمة و هو الواثب و الهالك أيضا يقال له آبز
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 130الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء و هو صغار الحصى و يقال لها أيضا حصبة قال لبيدجرت عليها إذ خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه
فأما التفسيرات التي فسر بها الرضي رحمه الله تعالى قوله ع آبر فيمكن أن يزاد فيها فيقال يجوز أن يريد بقوله و لا بقي منكم آبر أي نمام يفسد ذات البين و المئبرة النميمة و أبر فلان أي نم و الآبر أيضا من يبغي القوم الغوائل خفية مأخوذ من أبرت الكلب إذا أطعمته الإبرة في الخبز
و في الحديث المؤمن كالكلب المأبور
و يجوز أن يكون أصله هابر أي من يضرب بالسيف فيقطع و أبدلت الهاء همزة كما قالوا في آل أهل و إن صحت الرواية الأخرى آثر بالثاء بثلاث نقط فيمكن أن يريد به ساجي باطن خف البعير و كانوا يسجون باطن الخف بحديدة ليقتص أثره رجل آثر و بعير مأثور. و قوله ع فأوبوا شر مآب أي ارجعوا شر مرجع و الأعقاب جمع عقب بكسر القاف و هو مؤخر القدم و هذا كله دعاء عليهم قال لهم أولا أصابكم حاصب و هذا من دعاء العرب قال تميم بن أبي مقبل
فإذا خلت من أهلها و قطينها فأصابها الحصباء و السفان

(5/112)


ثم قال لهم ثانيا لا بقي منكم مخبر ثم قال لهم ثالثا ارجعوا شر مرجع ثم قال لهم رابعا عودوا على أثر الأعقاب و هو مأخوذ من قوله تعالى وَ نُرَدُّ شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 131عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ و المراد انعكاس حالهم و عودهم من العز إلالذل و من الهداية إلى الضلال. و قوله ع و أثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة فالأثرة هاهنا الاستبداد عليهم بالفي ء و الغنائم و اطراح جانبهم و قال النبي ص للأنصار ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 132أخبار الخوارج و ذكر رجالهم و حروبهمو اعلم أن الخوارج على أمير المؤمنين ع كانوا أصحابه و أنصاره في الجمل و صفين قبل التحكيم و هذه المخاطبة لهم و هذا الدعاء عليهم و هذا الإخبار عن مستقبل حالهم و قد وقع ذلك فإن الله تعالى سلط على الخوارج بعده الذل الشامل و السيف القاطع و الأثرة من السلطان و ما زالت حالهم تضمحل حتى أفناهم الله تعالى و أفنى جمهورهم و لقد كان لهم من سيف المهلب بن أبي صفرة و بنيه الحتف القاضي و الموت الزؤام. و نحن نذكر من أخبار الخوارج و حروبهم هاهنا طرفا
عروة بن حدير
فمنهم عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة من بني تميم و يعرف بعروة بن أدية و أدية جدة له جاهلية و كان له أصحاب و و أتباع و شيعة فقتله زياد في خلافة معاوية صبرا
نجدة بن عويمر الحنفي

(5/113)


و منهم نجدة بن عويمر الحنفي كان من رؤسائهم و له مقالة مفردة من مقالة الخوارج شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 133و له أتباع و أصحاب و إليهم أشار الصلتان العبدي بقولهأرى أمة شهرت سيفها و قد زيد في سوطها الأصبحي بنجدية أو حررية و أزرق يدعو إلى أزرقي فملتنا أننا مسلمون على دين صديقنا و النبي أشاب الصغير و أفنى الكبير مر الغداة و كر العشي إذا ليلة أهرمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي نروح و نغدو لحاجاتنا و حاجة من عاش لا تموت مع المرء حاجاته و تبقى له حاجة ما بقو كان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعة ]في كل جمعة[ و عبد الله يطلب الخلافة فيمسكان عن القتال من أجل الحرم. و قال الراعي يخاطب عبد الملك
إني حلفت على يمين برة لا أكذب اليوم الخليفة قيلاما إن أتيت أبا خبيب وافدا يوما أريد لبيعتي تبديلاو لما أتيت نجيدة بن عويمر أبغي الهدى فيزيدني تضليلامن نعمة الرحمن لا من حيلتي أنى أعد له علي فضولا
و استولى نجدة على اليمامة و عظم أمره حتى ملك اليمن و الطائف و عمان و البحرين و وادي تميم و عامر ثم إن أصحابه نقموا عليه أحكاما أحدثها في مذهبهم منها قوله إن شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 134المخطئ بعد الاجتهاد معذور و إن الدين أمران معرفة الله و معرفة رسوله ما سوى ذلك فالناس معذورون بجهله إلى أن تقوم عليهم الحجة فمن استحل محرما من طريق الاجتهاد فهو معذور حتى أن من تزوج أخته أو أمه مستحلا لذلك بجهالة فهو معذور و مؤمن فخلعوه و جعلوا اختيار الإمام إليه فاختار لهم أبا فديك أحد بني قيس بن ثعلبة فجعله رئيسهم ثم إن أبا فديك أنفذ إلى نجدة بعد من قتله ثم تولاه بعد قتله طوائف من أصحابه بعد أن تفرقوا عليه و قالوا قتل مظلوما
المستورد بن سعد التميمي

(5/114)


و منهم المستورد بن سعد أحد بني تميم كان ممن شهد يوم النخيلة و نجا بنفسه فيمن نجا من سيف علي ع ثم خرج بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة و هو والي الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان في جماعة من الخوارج فوجه المغيرة إليه معقل بن قيس الرياحي فلما تواقفا دعاه المستورد إلى المبارزة و قال له علام تقتل الناس بيني و بينك فقال معقل النصف سألت فأقسم عليه أصحابه فقال ما كنت لآبى عليه فخرج إليه فاختلفا ضربتين خر كل واحد منهما من ضربة صاحبه قتيلا. و كان المستورد ناسكا كثير الصلاة و له آداب و حكم مأثارة
حوثرة الأسدي
و منهم حوثرة الأسدي خرج على معاوية في عام الجماعة في عصابة من الخوارج فبعث إليه معاوية جيشا من أهل الكوفة فلما نظر حوثرة إليهم قال لهم يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه و أنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه فلما شرح نهج البلاغة ج : ص : 135التحمت الحرب قتل حوثرة قتله رجل من طيئ و فضت جموعه
قريب بن مرة و زحاف الطائي
و منهم قريب بن مرة الأزدي و زحاف الطائي كانا عابدين مجتهدين من أهل البصرة فخرجا في أيام معاوية في إمارة زياد و اختلف الناس أيهما كان الرئيس فاعترضا الناس فلقيا شيخا ناسكا من بني ضبيعة من ربيعة بن نزار فقتلاه و كان يقال له رؤبة الضبعي و تنادى الناس فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد و في يده السيف فناداه الناس من ظهور البيوت الحرورية أنج بنفسك فنادوه لسنا حرورية نحن الشرط فوقف فقتلوه فبلغ أبا بلال مرداس بن أدية خبرهما فقال قريب لا قربه الله و زحاف لا عفا الله عنه ركباها عشواء مظلمة يريد اعتراضهما الناس ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا حتى مرا على بني علي بن سود من الأزد و كانوا رماة كان فيهم مائة يجيدون الرمي فرموهم رميا شديدا فصاحوا يا بني علي البقيا لا رماء بيننا فقال رجل من بني علي بن سود

(5/115)


لا شي ء للقوم سوى السهام مشحوذة في غلس الظلامفعرد عنهم الخوارج و خافوا الطلب و اشتقوا مقبرة بني يشكر حتى نفذوا إلى مزينة ينتظرون من يلحق بهم من مضر و غيرها فجاءهم ثمانون و خرجت إليهم بنو طاحية من بنو سود و قبائل من مزينة و غيرها فاستقتلت الخوارج و حاربت حتى قتلت عن آخرها و قتل قريب و زحاف. شرح نهج بلاغة ج : 4 ص : 136و منهم أبو بلال مرداس بن أدية و هو أخو عروة بن حدير الذي ذكرناه أولا خرج في أيام عبيد الله بن زياد و أنفذ إليه ابن زياد عباس بن أخضر المازني فقتله و قتل أصحابه و حمل رأسه إلى ابن زياد و كان أبو بلال عابدا ناسكا شاعرا و من قدماء أصحابنا من يدعيه لما كان يذهب إليه من العدل و إنكار المنكر و من قدماء الشيعة من يدعيه أيضا
نافع بن الأزرق الحنفي

(5/116)


و منهم نافع بن الأزرق الحنفي و كان شجاعا مقدما في فقه الخوارج و إليه تنسب الأزارقة و كان يفتي بأن الدار دار كفر و أنهم جميعا في النار و كل من فيها كافر إلا من أظهر إيمانه و لا يحل للمؤمنين أن يجيبوا داعيا منهم إلى الصلاة و لا أن يأكلوا من ذبائحهم و لا أن يناكحوهم و لا يتوارث الخارجي و غيره و هم مثل كفار العرب و عبدة الأوثان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف و القعد بمنزلتهم و التقية لا تحل لأن الله تعالى يقول إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً و قال فيمن كان على خلافهم يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فتفرق عنه جماعة من الخوارج منهم نجدة بن عامر و احتج نجدة بقول الله تعالى وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ فسار نجدة و أصحابه إلى اليمامة و أضاف نافع إلى مقالته التي قدمناها استحلاله الغدر بأمانته لمن خالفه فكتب نجدة إليه شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 137أما بعد فإن عهدي بك و أنت لليتيم كالأب الرحيم و للضعيف كالأخ البر تعاضد قوى المسلمين و تصنع للأخرق منهم لا تأخذك في الله لومة لائم و لا ترى معونة ظالم كذلك ت أنت و أصحابك أ و لا تتذكر قولك لو لا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء مرضاته و أصبت من الحق فصه و صبرت على مره تجرد لك الشيطان و لم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك و من أصحابك فاستمالك و استهواك و أغواك فغويت و أكفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه من قعدة المسلمين و ضعفتهم قال الله عز و جل و قوله الحق و وعده الصدق لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ثم سماهم تعالى أحسن الأسماء فقال ما عَلَى

(5/117)


الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ثم استحللت قتل الأطفال و قد نهى رسول الله ص عن قتلهم و قال الله جل ثناؤه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و قال سبحانه في القعدة خيرا فقال وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً فتفضيله المجاهدين على القاعدين لا يدفع منزلة من هو دون المجاهدين أ و ما سمعت قوله تعالى لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ فجعلهم من المؤمنين و فضل عليهم المجاهدين بأعمالهم ثم إنك لا تؤدي أمانة إلى من خالفك و الله تعالى قد أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها فاتق الله في نفسك و اتق يوما لا يجزى فيه والد عن ولده و لا مولود هو جاز عن والده شيئا فإن الله بالمرصاد و حكمه العدل و قوله الفصل و السلام شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 138فكتب إليه نافعما بعد أتاني كتابك تعظني فيه و تذكرني و تنصح لي و تزجرني و تصف ما كنت عليه من الحق و ما كنت أوثره من الصواب و أنا أسأل الله أن يجعلني من القوم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. و عبت علي ما دنت به من إكفار القعدة و قتل الأطفال و استحلال الأمانة من المخالفين و سأفسر لك إن شاء الله. أما هؤلاء القعدة فليسوا كمن ذكرت ممن كان على عهد رسول الله ص لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا و لا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا و هؤلاء قد تفقهوا في الدين و قرءوا القرآن و الطريق لهم نهج واضح و قد عرفت ما قال الله تعالى فيمن كان مثلهم إذ قالوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ فقال أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها و قال سبحانه فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و قال وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ فخبر بتعذيرهم و

(5/118)


أنهم كذبوا الله و رسوله ثم قال سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فانظر إلى أسمائهم و سماتهم. و أما الأطفال فإن نوحا نبي الله كان أعلم بالله مني و منك و قد قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً فسماهم بالكفر و هم أطفال و قبل أن يولدوا فكيف كان ذلك
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 139في قوم نوح و لا تقوله في قومنا و الله تعالى يقول أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ و هؤلاء كمشركي العرب لا يقبل منهم جزية و ليس بيننا و بينهم إلا السيف أو الإسلام. و أما استحلال أماناتن خالفنا فإن الله تعالى أحل لنا أموالهم كما أحل دماءهم لنا فدماؤهم حلال طلق و أموالهم في ء للمسلمين فاتق الله و راجع نفسك فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة و لن يسعك خذلاننا و القعود عنا و ترك ما نهجناه لك من مقالتنا و السلام على من أقر بالحق و عمل به. و كتب إلىمن بالبصرة من المحكمة أما بعد فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة و الدين واحد ففيم المقام بين أظهر الكفار ترون الظلم ليلا و نهارا و قد ندبكم الله عز و جل إلى الجهاد فقال وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً و لم يجعل لكم في التخلف عذرا في حال من الأحوال فقال انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا و إنما عذر الضعفاء و المرضى و الذين لا يجدون ما ينفقون و من كانت إقامته لعلة ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين فقال لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلا تغتروا و تطمئنوا إلى الدنيا فإنها غرارة مكارة لذتها نافدة و نعيمها بائد حفت بالشهوات اغترارا و أظهرت حبرة و أضمرت عبرة فليس آكل منها أكلة تسره و لا شارب

(5/119)


منها شربة تؤنقه إلا و دنا بها درجة إلى أجله و تباعد بها مسافة من أمله و إنما جعلها الله دار المتزود منها إلى النعيم المقيم و العيش السليم فليس يرضى بها حازم دارا و لا حكيم قرارا فاتقوا الله و تزودوا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 140فإن خير الزاد التقوى و السلام على من اتبع الهدى. فلما أظهر نافع مقالته هذه و انفردن الخوارج بها أقام في أصحابه بالأهواز يستعرض الناس و يقتل الأطفال و يأخذ الأموال و يجبي الخراج و فشا عماله بالسواد فارتاع لذلك أهل البصرة و اجتمع منهم عشرة آلاف إلى الأحنف و سألوه أن يؤمر عليهم أميرا يحميهم من الخوارج و يجاهد بهم فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب و هو المسمى ببة فسأله أن يؤمر عليهم و ببة يومئذ أمير البصرة من قبل ابن الزبير فأمر عليهم مسلم بن عبيس بن كريز و كان دينا شجاعا فلما خرج بهم من جسر البصرة أقبل عليهم و قال أيها الناس إني ما خرجت لامتيار ذهب و لا فضة و إني لأحارب قوما إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا السيوف و الرماح فمن كان شأنه الجهاد فلينهض و من أحب الحياة فليرجع. فرجع نفر يسير و مضى الباقون معه فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع و أصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسرت الرماح و عقرت الخيل و كثر الجراح و القتل و تضاربوا بالسيوف و العمد فقتل ابن عبيس أمير أهل البصرة و قتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج و ادعى قتله سلامة الباهلي و كان نافع قد استخلف عبيد الله بن بشير بن الماحوز السليطي اليربوعي و استخلف ابن عبيس الربيع بن عمرو الأجذم الغداني اليربوعي فكان الرئيسان من بني يربوع فاقتتلوا بعد قتل ابن عبيس و نافع قتالا شديدا نيفا و عشرين يوما حتى قال الربيع لأصحابه إني رأيت البارحة كأن يدي شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 141التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني فلما كان الغد قاتلهم إلى الليل ثم عاودهم القتال فقتل فتدافع أهل البصرالراية حتى

(5/120)


خافوا العطب إذ لم يكن لهم رئيس ثم أجمعوا على الحجاج بن رباب الحميري فأباها فقيل له أ لا ترى رؤساء العرب قد اختاروك من بينهم فقال إنها مشئومة لا يأخذها أحد إلا قتل ثم أخذها فلم يزل يقاتل القوم بدولاب حتى التقى بعمران بن الحارث الراسبي و ذلك بعد أن اقتتلوا زهاء شهر فاختلفا ضربتين فخرا ميتين. و قام حارثة بن بدر الغداني بأمر أهل البصرة بعده و ثبت بإزاء الخوارج يناوشهم القتال مناوشة خفيفة و يزجي الأوقات انتظارا لقدوم أمير من قبل ببة يلي حرب الخوارج و هذه الحرب تسمى حرب دولاب و هي من حروب الخوارج المشهورة انتصف فيها الخوارج من المسلمين و انتصف المسلمون منهم فلم يكن فيها غالب و لا مغلوب
عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي

(5/121)


و منهم عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي قام بأمر الخوارج يوم دولاب بعد قتل نافع بن الأزرق و قام بأمر أهل البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي ولاه عبد الله بن الزبير ذلك و لقيه كتابه بالإمارة و هو يريد الحج و قد صار إلى بعض الطريق فرجع فأقام بالبصرة و ولى أخاه عثمان بن عبيد الله بن معمر محاربة الأزارقة فخرج إليهم في اثني عشر ألفا فلقيه أهل البصرة الذين كانوا في وجه الأزارقة و معهم حارثة بن بدر الغداني يقوم بأمرهم عن غير ولاية و كان ابن الماحوز حينئذ في سوق الأهواز فلما عبر شرح نهج البلاغة ج : 4 ص :42عثمان إليهم دجيلا نهضت إليه الخوارج فقال عثمان لحارثه ما الخوارج إلا ما أرى فقال حارثة حسبك بهؤلاء قال لا جرم لا أتغدى حتى أناجزهم فقال حارثة إن هؤلاء القوم لا يقاتلون بالتعسف فأبق على نفسك و جندك فقال أبيتم يا أهل العراق إلا جبنا و أنت يا حارثة ما علمك بالحرب أنت و الله بغير هذا أعلم يعرض له بالشراب و كان حارثة بن بدر صاحب شراب فغضب حارثة فاعتزل و حاربهم عثمان يومه إلى أن غربت الشمس فأجلت الحرب عنه قتيلا و انهزم الناس و أخذ حارثة بن بدر الراية و صاح بالناس أنا حارثة بن بدر فثاب إليه قوم فعبر بهم دجيلا و بلغ قتل عثمان البصرة فقال شاعر من بني تميم
مضى ابن عبيس صابرا غير عاجز و أعقبنا هذا الحجازي عثمان فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر و أبرق و البرق اليماني خوان فضحت قريشا غثها و سمينها و قيل بنو تيم بن مرة عزلان فلو لا ابن بدر للعراقين لم يقم بما قام فيه للعراقين إنسان إذا قيل من حامي الحقيقة أومأت معد بالأكف و قحطان

(5/122)


و وصل الخبر إلى عبد الله بن الزبير بمكة فكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر بعزله و ولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع البصرة فقدمها فكتب إليه حارثة بن بدر يسأله الولاية و المدد فأراد توليته فقال له رجل من بكر بن شرح نهج البلاغة ج 4 ص : 143وائل إن حارثة ليس بذلك إنما هو صاحب شراب و كان حارثة مستهترا بالشراب معاقرا للخمر و فيه يقول رجل من قومه
أ لم تر أن حارثة بن بدر يصلي و هو أكفر من حمارأ لم تر أن للفتيان حظا و حظك في البغايا و العقار
فكتب إليه القباع تكفى حربهم إن شاء الله فأقام حارثة يدافعهم حتى تفرق أصحابه عنه و بقي في خف منهم فأقام بنهر تيري فعبرت إليه الخوارج فهرب من تخلف معه من أصحابه و خرج يركض حتى أتى دجيلا فجلس في سفينة و اتبعه جماعة من أصحابه فكانوا معه فيها و وافاه رجل من بني تميم عليه سلاحه و الخوارج وراءه و قد توسط حارثة دجيلا فصاح به يا حارثة ليس مثلي يضيع فقال للملاح قرب فقرب إلى جرف و لا فرضة هناك فطفر بسلاحه في السفينة فساخت بالقوم جميعا و هلك حارثة. و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني الكبير أن حارثة لما عقدوا له الرئاسة و سلموا إليه الراية أمرهم بالثبات و قال لهم إذا فتح الله عليكم فللعرب زيادة فريضتين و للموالي زيادة فريضة و ندب الناس فالتقوا و ليس بأحد منهم طرق قد فشت فيهم الجراحات و ما تطأ الخيل إلا على القتلى فبينا هم كذلك إذ أقبل جمع شرح نهج البلاغة ج : 4 ص 144من الشراة من جهة اليمامة يقول المكثر إنهم مائتان و المقلل إنهم أربعون فاجتمعوا و هم مريحون مع أصحابهم فصاروا كوكبة واحدة فلما رآهم حارثة بن بدر ركض برايته منهزما و قال لأصحابه
كرنبوا و دولبوا أو حيث شئتم فاذهبوا
و قال
أير الحمار فريضة لعبيدكم و الخصيتان فريضة الأعراب

(5/123)


قال كرنبوا أي اطلبوا كرنبى و هي قرية قريبة من الأهواز و دولبوا اطلبوا دولاب و هي ضيعة بينها و بين الأهواز أربعة فراسخ. قال فتتابع الناس على أثره منهزمين و تبعتهم الخوارج فألقى الناس أنفسهم في الماء فغرق منهم بدجيل الأهواز خلق كثير
الزبير بن علي السليطي و ظهور أمر المهلب
و منهم الزبير بن علي السليطي التميمي كان على مقدمة ابن الماحوز و كان ابن الماحوز يخاطب بالخلافة و يخاطب الزبير بالإمارة و وصل الزبير بعد هلاك حارثة بن بدر و هرب أصحابه إلى البصرة فخافه الناس خوفا شديدا و ضج أهل البصرة إلى الأحنف فأتى القباع فقال أصلح الله الأمير إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا و فيئنا فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزالا قال فسموا إلى رجلا يلي الحرب فقال الأحنف لا أرى لها رجلا إلا المهلب بن أبي صفرة فقال أ و هذا رأي شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 145جميع أهل البصرة اجتمعوا إلي في غد نظر و جاء الزبير حتى نزل على البصرة و عقد الجسر ليعبر إليها فخرج أكثر أهل البصرة إليه و انضم إلى الزبير جميع كور الأهواز و أهلها رغبة و رهبة فوافاه البصريون في السفن و على الدواب فاسودت بهم الأرض فقال الزبير لما رآهم أبى قومنا إلا كفرا و قطع الجسر و أقام الخوارج بإزائهم و اجتمع الناس عند القباع و خافوا الخوارج خوفا شديدا و كانوا ثلاث فرق سمى قوم المهلب و سمى قوم مالك بن مسمع و سمى قوم زياد بن عمرو بن أشرف العتكي فاختبر القباع ما عند مالك و زياد فوجدهما متثاقلين عن الحرب و عاد إليه من أشار بهما و قالوا قد رجعنا عن رأينا ما نرى لها إلا المهلب فوجه إليه القباع فأتاه فقال له يا أبا سعيد قد ترى ما قد رهقنا من هذا العدو و قد أجمع أهل مصرك عليك و قال له الأحنف يا أبا سعيد أنا و الله ما آثرناك و لكنا لم نر من يقوم مقامك. ثم قال القباع و أومأ إلى الأحنف أن هذا الشيخ لم يسمك إلا إيثارا للدين و البقيا و كل من في

(5/124)


مصرك ماد عينه إليك راج أن يكشف الله عنه هذه الغمة بك فقال المهلب لا حول و لا قوة إلا بالله إني عند نفسي لدون ما وصفتم و لست آبى ما دعوتم إليه لكن لي شروطا أشترطها قالوا قل قال على أن أنتخب من أحببت قال الأحنف ذاك لك قال و لي إمرة كل بلد أغلب عليه قالوا لك ذلك قال و لي في ء كل بلد أظفر به قال الأحنف ليس ذاك لك و لا لنا إنما هو في ء للمسلمين فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوهم و لكن لك أن تعطي أصحابك من في ء كل بلد تغلب عليه ما أحببت و تنفق منه على محاربة عدوك فما عنكم كان للمسلمين فقال المهلب لا حول و لا قوة إلا بالله فمن لي بذلك قال الأحنف نحن و أميرك و جماعة أهل مصرك قال قد قبلت فكتبوا بينهم بذلك كتابا و وضع على يدي الصلت بن حريث بن جابر الجعفي و انتخب المهلب من جميع الأخماس فبلغت نخبته اثني عشر ألفا و نظروا في بيت المال شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 146فلم يكن إلا مائتي ألف درهم فعجزت فبعث المهلب إلى التجار فقال إن تجاراتكم منذ حول قد فسدت بانقطاع مواد الأهواز و فارس عنكم فهلموا فبايعوني و اخرجوا معي أوفكم حقوقكم فبايعوه و تاجروه فأخذ منهم من المال ما أصلح به عسكرو اتخذ لأصحابه الخفاتين و الرانات المحشوة بالصوف ثم نهض و كان أكثر أصحابه رجالة حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأصلحت و أحضرت فما ارتفع النهار حتى فرغ منها ثم أمر الناس بالعبور و أمر عليهم ابنه المغيرة فخرج الناس فلما قاربوا الشط خاضت إليهم الخوارج فحاربوهم و حاربهم المغيرة و نضحهم بالسهام حتى تنحوا و صار هو و أصحابه على الشط فحاربوا الخوارج فكشفوهم و شغلوهم حتى عقد المهلب الجسر و عبر و الخوارج منهزمون فنهى الناس عن اتباعهم ففي ذلك يقول شاعر من الأزد
إن العراق و أهله لم يخبروا مثل المهلب في الحروب فسلمواأمضى و أيمن في اللقاء نقيبة و أقل تهليلا إذا ما أحجموا

(5/125)


و أبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري من فرسان تميم و شجعانهم و من شعر عطية
يدعى رجال للعطاء و إنما يدعى عطية للطعان الأجرد
و قال فيه شاعر من بني تميم
و ما فارس إلا عطية فوقه إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفمابه هزم الله الأزارق بعد ما أباحوا من المصرين حلا و محرما
فأقام المهلب أربعين ليلة يجبي الخراج بكور دجلة و الخوارج بنهر تيرى و الزبير بن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز فقضى المهلب التجار و أعطى أصحابه شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 147فأسرع الناس إليه رغبة في مجاهدة العدو و طمعا في الغنائم و التجارات فكان فيمنتاه محمد بن واسع الأزدي و عبد الله بن رباح و معاوية بن قرة المزني و كان يقول لو جاءت الديلم من هاهنا و الحرورية من هاهنا لحاربت الحرورية و جاءه أبو عمران الجوني و كان يروى عن كعب أن قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أبواب. ثم أتى المهلب إلى نهر تيرى فتنحوا عنه إلى الأهواز و أقام المهلب يجبي ما حواليه من الكور و قد دس الجواسيس إلى عسكر الخوارج يأتونه بأخبارهم و من في عسكرهم و إذا حشوه ما بين قصاب و حداد و داعر فخطب المهلب الناس و ذكر لهم ذلك و قال أ مثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم و لم يزل مقيما حتى فهمهم و أحكم أمرهم و قوى أصحابه و كثرت الفرسان في عسكره و تتام أصحابه عشرين ألفا. ثم مضى يؤم كور الأهواز فاستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى و جعل المغيرة على مقدمته فسار حتى قاربهم فناوشهم و ناوشوه فانكشف عن المغيرة بعض أصحابه و ثبت المغيرة نفسه بقية يومه و ليلته يوقد النيران ثم غاداهم فإذا القوم قد أوقدوا النيران في بقية متاعهم و ارتحلوا عن سوق الأهواز فدخلها المغيرة و قد جاءت أوائل خيل المهلب فأقام بسوق الأهواز و كتب بذلك إلى الحارث القباع كتابا يقول فيه. أما بعد فإنا مذ خرجنا نؤم العدو في نعم من فضل الله متصلة علينا و نقم متتابعة عليهم نقدم و يحجمون

(5/126)


و نحل و يرتحلون إلى أن حللنا سوق الأهواز و الحمد لله رب العالمين الذي من عنده النصر و هو العزيز الحكيم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 148فكتب إليه الحارث هنيئا لك أخا الأزد الشرف في الدنيا و الأجر في الآخرة إن ء الله. فقال المهلب لأصحابه ما أجفى أهل الحجاز أ ما ترونه عرف اسمي و كنيتي و اسم أبي قالوا و كان المهلب يبث الأحراس في الأمن كما يبثهم في الخوف و يذكي العيون في الأمصار كما يذكيها في الصحاري و يأمر أصحابه بالتحرز و يخوفهم البيات و إن بعد منه العدو و يقول احذروا أن تكادوا كما تكيدون و لا تقولوا هزمناهم و غلبناهم و القوم خائفون وجلون فإن الضرورة تفتح باب الحيلة. ثم قام فيهم خطيبا فقال أيها الناس قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج و أنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم و سفكوا دماءكم فقاتلوهم على ما قاتلهم عليه أولكم علي بن أبي طالب لقد لقيهم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس و العجل المفرط عثمان بن عبيد الله و المعصي المخالف حارثة بن بدر فقتلوا جميعا و قتلوا فالقوهم بحد و جد فإنما هم مهنتكم و عبيدكم و عار عليكم و نقص في أحسابكم و أديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم و يطئوا حريمكم. ثم سار يريدهم و هم بمناذر الصغرى فوجه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلا يقال له واقد مولى لآل أبي صفرة من سبي الجاهلية في خمسين رجلا فيهم صالح بن مخراق إلى نهر تيرى و بها المعارك بن أبي صفرة فقتلوه و صلبوه فنمي

(5/127)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 149الخبر إلى المهلب فوجه ابنه المغيرة فدخل نهر تيرى و قد خرج واقد منها فاستنزل عمه فدفنه و سكن الناس و استخلف بها و رجع إلى أبيه و قد نزل بسولاف و الخوارج بها فواقعهم و جعل على بني تميم الحريش بن هلال فخرج رجل من أصحاب المهلب يل له عبد الرحمن الإسكاف فجعل يحض الناس و يهون أمر الخوارج و يختال بين الصفين فقال رجل من الخوارج لأصحابه يا معشر المهاجرين هل لكم في قتلة فيها الجنة فحمل جماعة منهم على الإسكاف فقاتلهم وحده فارسا ثم كبا به فرسه فقاتلهم راجلا قائما و باركا ثم كثرت به الجراحات فذبب بسيفه ثم جعل يحثو في وجوههم التراب و المهلب غير حاضر فقتل ثم حضر المهلب فأعلم فقال للحريش و لعطية العنبري أ سلمتما سيد أهل العراق لم تعيناه و لم تستنقذاه حسدا له لأنه رجل من الموالي و وبخهما. و حمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فقلته فحمل عليه المهلب فطعنه فقتله و مال الخوارج بأجمعهم على العسكر فانهزم الناس و قتل منهم سبعون رجلا و ثبت المهلب و ابنه المغيرة يومئذ و عرف مكانه. و يقال حاص المهلب يومئذ حيصة و يقول الأزد بل كان يرد المنهزمة و يحمي أدبارهم و بنو تميم تزعم أنه فر و قال شاعرهم
بسولاف أضعت دماء قومي و طرت على مواشكة درور
و قال آخر من بني تميم
تبعنا الأعور الكذاب طوعا يزجي كل أربعة حمارا
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 150فيا ندمى على تركي عطائي معاينة و أطلبه ضماراإذا الرحمن يسر لي قفولا فحرق في قرى سولاف نارقوله الأعور الكذاب يعني به المهلب كانت عينه عارت بسهم أصابها و سموه الكذاب لأنه كان فقيها و كان يتأول ما ورد في الأثر من أن كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة الكذب في الصلح بين رجلين و كذب الرجل لامرأته بوعد و كذب الرجل في الحرب بتوعد و تهدد
قالوا و جاء عنه ص إنما أنت رجل فخذل عنا ما استطعت
و قال إنما الحرب خدعة

(5/128)


فكان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به من أمر المسلمين ما ضعف و يضعف به من أمر الخوارج ما اشتد و كان حي من الأزد يقال لهم الندب إذا رأوا المهلب رائحا إليهم قالوا راح ليكذب و فيه يقول رجل منهم
أنت الفتى كل الفتى لو كنت تصدق ما تقول
فبات المهلب في ألفين فلما أصبح رجع بعض المنهزمة فصاروا في أربعة آلاف فخطب أصحابه فقال و الله ما بكم من قلة و ما ذهب عنكم إلا أهل الجبن و الضعف و الطبع و الطمع فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله فسيروا إلى عدوكم على بركة الله. فقام إليه الحريش بن هلال فقال أنشدك الله أيها الأمير أن تقاتلهم إلا أن يقاتلوك فإن في أصحابك جراحا و قد أثخنتهم هذه الجولة. فقبل منه و مضى المهلب في عشرة فأشرف على عسكر الخوارج فلم ير منهم أحدا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 151يتحرك فقال له الحريش ارتحل عن هذا المنزل فارتحل فعبر دجيلا و صار إلى عاقول لا يؤتى إلا من جهة واحدة فأقام به و أقام الناس ثلاثا مستريحين. و في يقوم سولاف يقول ابن قيس الرقياتأ لا طرقت من آل مية طارقه على أنها معشوقة الدل عاشقه تراءت و أرض السوس بيني و بينها و رستاق سولاف حمته الأزارقه إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة حرورية فيها من الموت بارقه أجازت عيلنا العسكرين كليهما فباتت لنا دون اللحاف معانفأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل و الخوارج بسلى و سلبرى فنزل قريبا منهم فقال ابن الماحوز لأصحابه ما تنتظرون بعدوكم و قد هزمتموهم بالأمس و كسرتم حدهم فقال له واقد مولى أبي صفرة يا أمير المؤمنين إنما تفرق عنهم أهل الضعف و الجبن و بقي أهل النجدة و القوة فإن أصبتهم لم يكن ظفرا هينا لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا و إن غلبوا ذهب الدين فقال أصحابه نافق واقد فقال ابن الماحوز لا تعجلوا على أخيكم فإنه إنما قال هذا نظرا لكم. ثم وجه الزبير بن علي إلى عسكر المهلب لينظر ما حالهم فأتاهم في مائتين فحزرهم و رجع و أمر

(5/129)


المهلب أصحابه بالتحارس حتى إذا أصبح ركب إليهم في تعبئة فالتقوا بسلى و سلبرى فتصافوا فخرج من الخوارج مائة فارس فركزوا رماحهم بين الصفين و اتكئوا عليها و أخرج إليهم المهلب أعدادهم ففعلوا مثل ما فعلوا لا يرعون إلا الصلاة حتى إذا أمسوا رجع كل قوم إلى معسكرهم ففعلوا هكذا ثلاثة أيام. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 152ثم إن الخوارج تطاردوا لهم في اليوم الثالث فحمل عليهم هؤلاء الفرسان فجالوا ساعة ثم إن رجلا من الخوارج حمل على رجل فطعنه فحمل عليه المهلب فطعنه فحمل الخوارج بأجمعهم كما صنعوا يوم سولاف فضعضعوا ااس و فقد المهلب و ثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان. ثم نجم المهلب في مائة و قد انغمس كماه في الدم و على رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر محشوة قزا و قد تمزقت و إن حشوها ليتطاير و هو يلهث و ذلك في وقت الظهر فلم يزل يحاربهم حتى أتى الليل و كثر القتلى في الفريقين فلما كان الغد غاداهم و قد كان وجه بالأمس رجلا من طاحية بن سود بن مالك بن فهم من الأزد من ثقاته و أصحابه يرد المنهزمين فمر به عامر بن مسمع فرده فقال إن الأمير أذن لي في الانصراف فبعث إلى المهلب فأعلمه فقال دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن و الضعف ثم غاداهم المهلب في ثلاثة آلاف و قد تفرق عنه أكثر الناس و قال لأصحابه ما بكم من قلة أ يعجز أحدكم أن يلقي رمحه ثم يتقدم فيأخذه ففعل ذلك رجل من كندة و اتبعه قوم ثم قال المهلب لأصحابه أعدوا مخالي فيها حجارة و ارموا بها في وقت الغفلة فإنها تصد الفارس و تصرع الراجل ففعلوا ثم أمر مناديا ينادي في أصحابه يأمرهم بالجد و الصبر و يطمعهم في العدو ففعل ذلك حتى مر ببني العدوية من بني مالك بن حنظلة فنادى فيهم فضربوه فدعا المهلب بسيدهم و هو معاوية بن عمرو فجعل يركله برجله فقال أصلح الله الأمير اعفني من أم كيسان و الأزد تسمى الركبة أم كيسان ثم حمل المهلب و حملوا و اقتتلوا قتالا شديدا فجهد الخوارج و

(5/130)


نادى مناد منهم ألا إن المهلب قد قتل شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 153فركب المهلب برذونا وردا و أقبل يركض بين الصفين و إن إحدى يديه لفي القباء و ما يشعر لها و هو يصيح أنا المهلب فسكن الس بعد أن كانوا قد ارتاعوا و ظنوا أن أميرهم قد قتل و كل الناس مع العصر فصاح المهلب بابنه المغيرة تقدم ففعل و صاح بذكوان مولاه قدم رايتك ففعل فقال له رجل من ولده إنك تغرر بنفسك فزبره و زجره و صاح يا بني سلمة آمركم فتعصونني فتقدم و تقدم الناس فاجتلدوا أشد جلاد حتى إذا كان مع المساء قتل ابن الماحوز و انصرف الخوارج و لم يشعر المهلب بقتله فقال لأصحابه ابغوا لي رجلا جلدا يطوف في القتلى فأشاروا عليه برجل من جرم و قالوا إنا لم نر قط رجلا أشد منه فجعل يطوف و معه النيران فجعل إذا مر بجريح من الخوارج قال كافر و رب الكعبة فأجهز عليه و إذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه و حمله و أقام المهلب يأمرهم بالاحتراس حتى إذا كان في نصف الليل وجه رجلا من اليحمد في عشرة فصاروا إلى عسكر الخوارج فإذا هم قد تحملوا إلى أرجان فرجع إلى المهلب فأعلمه فقال لهم أنا الساعة أشد خوفا احذروا البيات. و يروى عن شعبة بن الحجاج أن المهلب قال لأصحابه يوما إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم إلا من جهة البيات فإن يكن ذلك فاجعلوا شعاركم حم لا ينصرون فإن رسول الله ص كان يأمر بها. و يروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب ع. فلما أصبح القوم غدوا على القتلى فأصابوا ابن الماحوز قتيلا ففي ذلك يقول رجل من الخوارج شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 15بسلى و سلبرى مصارع فتية كرام و عقرى من كميت و من ورد
و قال آخر
بسلى و سلبرى جماجم فتية كرام و صرعى لم توسد خدودها
و قال رجل من موالي المهلب لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة رميت به رجلا فصرعته ثم رميت به رجلا فأصبت به أصل أذنه فصرعته ثم أخذت الحجر و صرعت به ثالثا و في ذلك يقول رجل من الخوارج

(5/131)


أتانا بأحجار ليقتلنا بها و هل يقتل الأبطال ويحك بالحجر
و قال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى و سلبرى و قتل ابن الماحوز
و يوم سلى و سلبرى أحاط بهم منا صواعق لا تبقي و لا تذرحتى تركنا عبيد الله منجدلا كما تجدل جذع مال منقعر
و يروى أن رجلا من الخوارج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب فطعنه فلما خالطه الرمح صاح يا أمتاه فصاح به المهلب لا كثر الله منك في المسلمين فضحك الخارجي و قال
أمك خير لك مني صاحبا تسقيك محضا و تعل رائبا
و كان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه نكس على شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 155قربوس السرج و حمل من تحتها فبرأها بسيفه و أثر في أصحابها فتحوميت الميمنة من أجله و كان أشد ما تكون الحرب استعارا أشد ما يكون تبسما و كان المهلب يقول ما شهد ي حربا قط إلا رأيت البشرى في وجهه. و قال رجل من الخوارج في هذا اليوم

(5/132)


فإن تك قتلى يوم سلى تتابعت فكم غادرت أسيافنا من قماقم غداة نكر المشرقية فيهم بسولاف يوم المأزق المتلاحمفكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع. أما بعد فإنا لقينا الأزارقة المارقة بحد و جد فكانت في الناس جولة ثم ثاب أهل الحفاظ و الصبر بنيات صادقة و أبدان شداد و سيوف حداد فأعقب الله خير عاقبة و جاوز بالنعمة مقدار الأمل فصاروا دريئة رماحنا و ضرائب سيوفنا و قتل الله أميرهم ابن الماحوز و أرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها و السلام. فكتب إليه القباع قد قرأت كتابك يا أخا الأزد فرأيتك قد وهب لك شرف الدنيا و عزها و ذخر لك إن شاء الله ثواب الآخرة و أجرها و رأيتك أوثق حصون المسلمين و هاد شرح نهج البلا ج : 4 ص : 156أركان المشركين و ذا الرئاسة و أخا السياسة فاستدم الله بشكره يتمم عليكم نعمه و السلام. و كتب إليه أهل البصرة يهنئونه و لم يكتب إليه الأحنف و لكن قال اقرءوا عليه السلام و قولوا إنا لك على ما فارقتك عليه فلم يزل يقرأ الكتب و ينظر في تضاعيفها و يلتمس كتاب الأحنف فلا يراه فلما لم يره قال لأصحابه أ ما كتب أبو بحر فقال له الرسول إنه حملني إليك رسالة فأبلغه فقال هذا أحب إلي من هذه الكتب. و اجتمعت الخوارج بأرجان فبايعوا الزبير بن علي و هو من بني سليط بن يربوع من رهط ابن الماحوز فرأى فيهم انكسارا شديدا و ضعفا بينا فقال لهم اجتمعوا فاجتمعوا فحمد الله و أثنى عليه و صلى على محمد رسوله ص ثم أقبل عليهم فقال إن البلاء للمؤمنين تمحيص و أجر و هو على الكافرين عقوبة و خزي و إن يصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلف و قد أصبتم منهم مسلم بن عبيس و ربيعا الأجذم و الحجاج بن رباب و حارثة بن بدر و أشجيتم المهلب و قتلتم أخاه المعارك و الله يقول لإخوانكم المؤمنين إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ

(5/133)


فيوم سلى كان لكم بلاء و تمحيصا و يوم سولاف كان لهم عقوبة و نكالا فلا تغلبن علي الشكر في حينه و الصبر في وقته و ثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض و العاقبة للمتقين. ثم تحمل للمحاربة نحو المهلب فنفحهم المهلب نفحة فرجعوا و أكمنوا للمهلب في غمض من غموض الأرض يقرب من عسكره مائة فارس ليغتالوه فسار المهلب شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 157يوما يطيف بعسكره و يتفقد سواده فوقف على جبل فقال إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كمينا فبعث المهلب عشرة فوارس فاطلعوا على المائة فلما علموا بهم قطعوا القنطرة و نجوا و انكشفت الشمس فصاحوا يا أعداءلله لو قامت القيامة لجددنا و نحن في جهادكم. ثم يئس الزبير من ناحية المهلب فضرب إلى ناحية أصبهان ثم كر راجعا إلى أرجان و قد جمع جموعا و كان المهلب يقول كأني بالزبير و قد جمع لكم فلا ترهبوهم فتنخب قلوبكم و لا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم فجاءوه من أرجان فلقوه مستعدا آخذا بأفواه الطرق فحاربهم فظهر عليهم ظهورا بينا ففي ذلك يقول رجل من بني يربوع
سقى الله المهلب كل غيث من الوسمي ينتحر انتحارافما وهن المهلب يوم جاءت عوابس خيلهم تبغي الغوارا
و قال المهلب يومئذ ما وقفت في مضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالا من بني الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون و كان لحاهم أذناب العقاعق و كانوا صبروا معه في غير مواطن. و قال رجل من أصحاب المهلب من بني تميم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 15ألا يا من لصب مستهام قريح القلب قد مل المزونالهان على المهلب ما لقينا إذا ما راح مسرورا بطينايجر السابري و نحن شعث كأن جلودنا كسيت طحينا
و حمل يومئذ الحارث بن هلال على قيس الإكاف و كان من أنجد فرسان الخوارج فطعنه فدق صلبه و قال
قيس الإكاف غداة الروع يعلمني ثبت المقام إذا لاقيت أقراني

(5/134)


و قد كان بعض جيش المهلب يوم سلى و سلبرى صاروا إلى البصرة فذكروا أن المهلب قد أصيب فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية حتى ورد كتابه بظفره فأقام الناس و تراجع من كان ذهب منهم فعند ذلك قال الأحنف البصرة بصرة المهلب و قدم رجل من كندة يعرف بابن أرقم فنعى ابن عم له و قال إني رأيت رجلا من الخوارج و قد مكن رمحه من صلبه فلم ينشب أن قدم المنعي سالما فقيل له ذلك فقال صدق ابن أرقم لما أحسست برمحه بين كتفي صحت به البقية فرفعه و تلا بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و وجه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلا من الأزد برأس عبيد الله بن بشير بن الماحوز إلى الحارث بن عبد الله فلما صار بكربج دينار لقيته إخوة عبيد الله حبيب و عبد الملك و علي بنو بشير بن الماحوز شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 159فقالوا ما الخبر و هو لا يعرفهم فقال قتل الله ابن الماحوز المارق و هذا ره معي فوثبوا عليه فقتلوه و صلبوه و دفنوا رأس أخيهم عبيد الله فلما ولي الحجاج دخل عليه علي بن بشير و كان وسيما جسيما فقال من هذا فخبره فقتله و وهب ابنه الأزهر و ابنته لأهل الأزدي المقتول و كانت زينب بنت بشير لهم مواصلة فوهبوهما لها. قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل و لم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحارث القباع حتى عزل و ولي مصعب بن الزبير فكتب إلى المهلب أن أقدم علي و استخلف ابنك المغيرة ففعل بعد أن جمع الناس و قال لهم إني قد استخلفت المغيرة عليكم و هو أبو صغيركم رقة و رحمة و ابن كبيركم طاعة و برا و تبجيلا و أخو مثله مواساة و مناصحة فلتحسن له طاعتكم و ليلن له جانبكم فو الله ما أردت صوابا قط إلا سبقني إليه. ثم مضى إلى مصعب فكتب مصعب إلى المغيرة بولايته و كتب إليه أنك إن لم تكن كأبيك فإنك كاف لما وليت فشمر و ائتزر و جد و اجتهد. ثم شخص المصعب إلى المزار فقتل أحمر بن شميط ثم أتى الكوفة فقتل المختار و

(5/135)


قال للمهلب أشر علي برجل أجعله بيني و بين عبد الملك فقال له اذكر واحدا من ثلاثة محمد بن عمير بن عطارد الدارمي أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي أو داود بن قحذم قال أ و تكفيني أنت قال أكفيك إن شاء الله فشخص فولاه الموصل فخرج إليها و صار مصعب إلى البصرة لينفر إلى أخيه بمكة فشاور الناس فيمن يستكفيه شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 160أمر الخوارج فقال قوم ول عبد الله بن أبي بكرة و قال قوم ول عمر بن عبيد الله بن معمر و قال قوم ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهو بلغت المشورة الخوارج فأداروا الأمر بينهم فقال قطري بن الفجاءة المازني و لم يكن أمروه عليهم بعد إن جاءكم عبد الله بن أبي بكرة أتاكم سيد سمح كريم جواد مضيع لعسكره و إن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم فارس شجاع بطل جاد يقاتل لدينه و لملكه و بطبيعة لم أر مثلها لأحد فقد شهدته في وقائع فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس حتى يشد على قرنه و يضربه و إن رد المهلب فهو من قد عرفتموه إذا أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر يمده إذا أرسلتموه و يرسله إذا مددتموه لا يبدؤكم إلا أن تبدءوه إلا أن يرى فرصة فينتهزها فهو الليث المبر و الثعلب الرواغ و البلاء المقيم. فولى مصعب عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر ولاه فارس و الخوارج بأرجان يومئذ و عليهم الزبير بن علي السليطي فشخص إليهم فقاتلهم و ألح عليهم حتى أخرجهم منها فألحقهم بأصبهان فلما بلغ المهلب أن مصعبا ولى حرب الخوارج عمر بن عبيد الله قال رماهم بفارس العرب و فتاها فجمع الخوارج له و أعدوا و استعدوا ثم أتوا سابور فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ فقال له مالك بن أبي حسان الأزدي إن المهلب كان يذكي العيون و يخاف البيات و يرتقب الغفلة و هو على أبعد من هذه المسافة منهم. فقال عمر اسكت خلع الله قلبك أ تراك تموت قبل أجلك و أقام هناك فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح فلم يظفروا منه

(5/136)


بشي ء فأقبل على مالك بن أبي حسان فقال كيف رأيت فقال قد سلم الله و لم يكونوا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 161يطمعون في مثلها من المهلب فقال أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب لرجوت أن أنفي هذا العدو و لكنكم تقولون قرشي حجازي بعيد الدار خيره لغيرنا فتقاتلون معي تعذيرا ثم زحف إلى الخوارج من غد ذلك اليوم فقاتلهم قتالا شديدا حتى ألجم إلى قنطرة فتكاثف الناس عليها حتى سقطت فأقام حتى أصلحها ثم عبر و تقدم ابنه عبيد الله بن عمر و أمه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب فقاتلهم حتى قتل فقال قطري للخوارج لا تقاتلوا عمر اليوم فإنه موتور قد قتلتم ابنه و لم يعلم عمر بقتل ابنه حتى أفضى إلى القوم و كان مع ابنه النعمان بن عباد فصاح به عمر يا نعمان أين ابني قال أحتسبه فقد استشهد صابرا مقبلا غير مدبر فقال إنا لله و إنا إليه راجعون ثم حمل على الخوارج حملة لم ير مثلها و حمل أصحابه بحملته فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلا من الخوارج و حمل على قطري فضربه على جبينه ففلقه و انهزمت الخوارج و انتهبها فلما استقروا و رأى ما نزل بهم قال أ لم أشر عليكم بالانصراف فجعلوه حينئذ من وجوههم حتى خرجوا من فارس و تلقاهم في ذلك الوقت الفزر بن مهزم العبدي فسألوه عن خبره و أرادوا قتله فأقبل على قطري و قال إني مؤمن مهاجر فسأله عن أقاويلهم فأجاب إليها فخلوا عنه ففي ذلك يقول في كلمة له

(5/137)


فشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي إلى قطري ذي الجبين المفلق و حاججتهم في دينهم فحججتهم و ما دينهم غير الهوى و التخلقثم رجعوا و تكانفوا و عادوا إلى ناحية أرجان فسار إليهم عمر بن عبيد الله و كتب إلى مصعب شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 162أما بعد فإني لقيت الأزارقة فرزق الله عز و جل عبيد الله بن عمر الشهادة و وهب له السعادة و رزقنا بعد عليهم الظفر فتفرقوا شذر مذر و بلغني عنهمودة فيممتهم و بالله أستعين و عليه أتوكل. فسار إليهم و معه عطية بن عمرو و مجاعة بن سعر فالتقوا فألح عليهم عمر حتى أخرجهم و انفرد من أصحابه فعمد إلى أربعة عشر رجلا من مذكوريهم و شجعانهم و في يده عمود فجعل لا يضرب رجلا منهم ضربة إلا صرعه فركض إليه قطري على فرس طمر و عمر على مهر فاستعلاه قطري بقوة فرسه حتى كاد يصرعه فبصر به مجاعة فأسرع إليه فصاحت الخوارج يا أبا نعامة إن عدو الله قد رهقك فانحط قطري على قربوسه و طعنه مجاعة و على قطري درعان فهتكهما و أسرع السنان في رأس قطري فكشط جلده و نجا و ارتحل القوم إلى أصفهان فأقاموا برهة ثم رجعوا إلى الأهواز و قد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعا فقال له كم جبيت قال تسعمائة ألف فقال هي لك. و قال يزيد بن الحكم لمجاعة
و دعاك دعوة مرهق فأجبته عمر و قد نسي الحياة و ضاعافرددت عادية الكتيبة عن فتى قد كاد يترك لحمه أوزاعا

(5/138)


قال ثم عزل مصعب بن الزبير و ولى عبد الله بن الزبير العراق ابنه حمزة شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 163بن عبد الله بن الزبير فمكث قليلا ثم أعيد مصعب إلى العراق و الخوارج بأطراف أصبهان و الوالي عليها عتاب بن ورقاء الرياحي فأقام الخوارج هناك يجبون شيئا من القرى أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله ما أنصفتنا أقمت بفارس تجبي الخراج و مثل هذا العدو يجتاز بك لا تحاربه و الله لو قاتلت ثم هزمت لكان أعذر لك. و خرج مصعب من البصرة يريدهم و أقبل عمر بن عبيد الله يريدهم فتنحى الخوارج إلى السوس ثم أتوا إلى المدائن و بسطوا في القتل فجعلوا يقتلون النساء و الصبيان حتى أتوا المذار فقتلوا أحمر طيئ و كان شجاعا و كان من فرسان عبيد الله بن الحر و في ذلك يقول الشاعر
تركتم فتى الفتيان أحمر طيئ بساباط لم يعطف عليه خليل
ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة فلما خالطوا سوادها و واليها الحارث القباع تثاقل عن الخروج و كان جبانا فذمره إبراهيم بن الأشتر و لامه الناس فخرج متحاملا حتى أتى النخيلة ففي ذلك يقول الشاعر
إن القباع سار سيرا نكرا يسير يوما و يقيم عشرا

(5/139)


و جعل يعد الناس بالخروج و لا يخرج و الخوارج يعيثون حتى أخذوا امرأة فقتلوا أباها بين يديها و كانت جميلة ثم أرادوا قتلها فقالت أ تقتلون من ينشأ في الحلية و هو في الخصام غير مبين فقال قائل منهم دعوها فقالوا قد فتنتك ثم قدموها فقتلوها. شرح نهج البلاغة ج : 4 : 164و قربوا امرأة أخرى و هم بإزاء القباع و الجسر معقود بينهم فقطعه القباع و هو في ستة آلاف و المرأة تستغيث به و هي تقبل و تقول علام تقتلونني فو الله ما فسقت و لا كفرت و لا زنيت و الناس يتفلتون إلى القتال و القباع يمنعهم. فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذاك بقطع الجسر فأقام بين دبيرى و دباها خمسة أيام و الخوارج بقربه و هو يقول للناس في كل يوم إذا لقيتم العدو غدا فأثبتوا أقدامكم و اصبروا فإن أول الحرب الترامي ثم إشراع الرماح ثم السلة فثكلت رجلا أمه فر من الزحف. فقال بعضهم لما أكثر عليهم أما الصفة فقد سمعناها فمتى يقع الفعل. و قال الراجز
إن القباع سار سيرا ملسا بين دباها و دبيرى خمسا

(5/140)


و أخذ الخوارج حاجتهم و كان شأن القباع التحصن منهم ثم انصرفوا و رجع إلى الكوفة و ساروا من فورهم إلى أصبهان فبعث عتاب بن ورقاء الرياحي إلى الزبير بن علي أنا ابن عمك و لست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري فبعث إليه الزبير إن أدنى الفاسقين و أبعدهم في الحق سواء. فأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال و يراوحونه حتى طال عليهم المقام و لم يظفروا بكبير شي ء فلما كثر عليهم ذلك انصرفوا لا يمرون بقرية بين أصبهان و الأهواز إلا استباحوها و قتلوا من فيها و شاور المصعب الناس فيهم فأجمع رأيهم على شرح نهج البلاغة 4 ص : 165المهلب فبلغ الخوارج مشاورتهم فقال لهم قطري إن جاءكم عتاب بن ورقاء فهو فاتك يطلع في أول المقنب و لا يظفر بكثير و إن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم إما عليه و إما له و إن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه و يأخذ منكم و لا يعطيكم فهو البلاء الملازم و المكروه الدائم. و عزم مصعب على توجيه المهلب و أن يشخص هو لحرب عبد الملك فلما أحس به الزبير خرج إلى الري و بها يزيد بن الحارث بن رويم فحاربه ثم حصره فلما طال عليه الحصار خرج إليه فكان الظفر للخوارج فقتل يزيد بن الحارث بن رويم و نادى يزيد ابنه حوشبا ففر عنه و عن أمه لطيفة و كان علي بن أبي طالب ع دخل على الحارث بن رويم يعود ابنه يزيد فقال عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك فسماها يزيد لطيفة فقتلت مع بعلها يزيد يومئذ و قال الشاعر
مواقفنا في كل يوم كريهة أسر و أشفى من مواقف حوشب دعاه أبوه و الرماح شوارع فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب و لو كان شهم النفس أو ذا حفيظة رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعو قال آخر
نجا حليلته و أسلم شيخه نصب الأسنة حوشب بن يزيد

(5/141)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 166قال ثم انحط الزبير على أصفهان فحصر بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر و عتاب يحاربه في بعضهن فلما طال به الحصار قال لأصحابه ما تنتظرون و الله ما تؤتون من قلة و إنكم لفرسان عشائركم و لقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم و ما بقي مع هذالحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه أخوه ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه فقاتلوا القوم و بكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه. فلما أصبح صلى بهم الصبح ثم خرج إلى الخوارج و هم غارون و قد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين فقال من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين و من أراد الجهاد فليخرج معي فخرج في ألفين و سبعمائة فارس فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج منهم مثله فعقروا منهم خلقا كثيرا و قتل الزبير بن علي و انهزمت الخوارج فلم يتبعهم عتاب ففي ذلك يقول القائل
و يوم بجي تلافيته و لو لاك لاصطلم العسكر
و قال آخر
خرجت من المدينة مستميتا و لم أك في كتيبة ياسمينا
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 167أ ليس من الفضائل أن قومي غدوا مستلئمين مجاهدينقال و تزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون و يحمل بعضهم على بعض و ربما كانت مواقفة بغير حرب و ربما اشتدت الحرب بينهم و كان رجل من أصحاب عتاب يقال له شريح و يكنى أبا هريرة إذا تحاجز القوم مع المساء نادى بالخوارج و الزبير بن علي
يا ابن أبي الماحوز و الأشرار كيف ترون يا كلاب النارشد أبي هريرة الهرار يهركم بالليل و النهارأ لم تروا جيا على المضمار تمسي من الرحمن في جوار
فغاظهم ذلك فكمن له عبيدة بن هلال فضربه بالسيف و احتمله أصحابه و ظنت الخوارج أنه قد قتل فكانوا إذا تواقفوا نادوهم ما فعل الهرار فيقولون ما به من بأس حتى أبل من علته فخرج إليهم فقال يا أعداء الله أ ترون بي بأسا فصاحوا به قد كنا نرى أنك قد لحقت بأمك الهاوية إلى النار الحامية

(5/142)


قطري بن الفجاءة المازني
و منهم قطري بن الفجاءة المازني قال أبو العباس لما قتل الزبير بن علي أدارت الخوارج أمرها فأرادوا تولية عبيدة بن هلال فقال أدلكم على من هو خير لكم مني من يطاعن في قبل و يحمي في دبر عليكم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 168بقطري بن الفجاءة المازني فبايعوه و قالواا أمير المؤمنين امض بنا إلى فارس فقال إن بفارس عمر بن عبيد الله بن معمر و لكن نسير إلى الأهواز فإن خرج مصعب من البصرة دخلناها فأتوا الأهواز ثم ترفعوا عنها على إيذج و كان المصعب قد عزم على الخروج إلى باجميرا و قال لأصحابه إن قطريا لمطل علينا و إن خرجنا عن البصرة دخلها فبعث إلى المهلب فقال اكفنا هذا العدو فخرج إليهم المهلب فلما أحس به قطري يمم نحو كرمان و أقام المهلب بالأهواز ثم كر عليه قطري و قد استعد و كانت الخوارج في حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم بكثرة السلاح و كثرة الدواب و حصانة الجنن فحاربهم المهلب فدفعهم فصاروا إلى رامهرمز و كان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب مراغما لعتاب بن ورقاء و يقال إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن علي و كان الحارث بن عميرة هو الذي قتله و خاض إليه أصحابه ففي ذلك يقول أعشى همدان

(5/143)


إن المكارم أكملت أسبابها لابن الليوث الغر من همدان للفارس الحامي الحقيقة معلما زاد الرفاق و فارس الفرسان شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 169الحارث بن عميرة الليث الذي يحمي العراق إلى قرى نجران ود الأزراق لو يصاب بطعنة و يموت من فرسانهم مائتقال أبو العباس و خرج مصعب إلى باجميرا ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن و لم يأت المهلب و أصحابه فتواقفوا يوما برامهرمز على الخندق فناداهم الخوارج ما تقولون في مصعب قالوا إمام هدى قالوا فما تقولون في عبد الملك قالوا ضال مضل فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل المصعب و إن أهل العراق قد اجتمعوا على عبد الملك و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته فلما تواقفوا ناداهم الخوارج ما تقولون في المصعب قالوا لا نخبركم قالوا فما تقولون في عبد الملك قالوا إمام هدى قالوا يا أعداء الله بالأمس ضال مضل و اليوم إمام هدى يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله. و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني الكبير قال كان الشراة و المسلمون في حرب المهلب و قطري يتواقفون و يتساءلون بينهم عن أمر الدين و غير ذلك على أمان و سكون لا يهيج بعضهم بعضا فتواقف يوما عبيدة بن هلال اليشكري و أبو حزابة التميمي فقال عبيدة يا أبا حزابة إني أسألك عن أشياء أ فتصدقني عنها في الجواب قال نعم إن ضمنت لي مثل ذلك قال قد فعلت قال فسل عما بدا لك قال ما تقولون في أئمتكم قال يبيحون الدم الحرام قال ويحك فكيف فعلهم في المال قال يحبونه من غير حله و ينفقونه في غير وجهه قال فكيف فعلهم في اليتيم قال يظلمونه ماله و يمنعونه حقه و ينيكون أمه قال ويحك يا أبا حزابة أ مثل هؤلاء تتبع قال قد أجبتك فاسمع سؤالي و دع عتابي على رأيي شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 170قال سل قال أي الخمر أطيب خمر السهل أم خمر الجبل قال ويحك أ مثلي يسأل عن هذا قال قد أوج على نفسك أن تجيب قال أما إذ أبيت فإن خمر الجبل أقوى و أسكر و خمر السهل أحسن و أسلس قال

(5/144)


فأي الزواني أفره أ زواني رامهرمز أم زواني أرجان قال ويحك إن مثلي لا يسأل عن هذا قال لا بد من الجواب أو تغدر. قال أما إذ أبيت فزواني رامهرمز أرق أبشارا و زواني أرجان أحسن أبدانا قال فأي الرجلين أشعر جرير أم الفرزدق قال عليك و عليهما لعنة الله قال لا بد أن تجيب قال أيهما الذي يقول
و طوى الطراد مع القياد بطونها طي التجار بحضرموت برودا
قال جرير قال فهو أشعرهما. قال أبو الفرج و قد كان الناس تجادلوا في أمر جرير و الفرزدق في عسكر المهلب حتى تواثبوا و صاروا إليه محكمين له في ذلك فقال أ تريدون أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين فيمضغاني ما كنت لأحكم بينهما و لكني أدلكم على من يحكم بينهما ثم يهون عليه سبابهما عليكم بالشراة فاسألوهم إذا تواقفتم فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك فأجابه بهذا الجواب. و روى أبو الفرج أن امرأة من الخوارج كانت مع قطري بن الفجاءة يقال لها أم حكيم و كانت من أشجع الناس و أجملهم وجها و أحسنهم بالدين تمسكا و خطبها شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 171جماعة منهم فردتهم و لم تجبهم فأخبر من شاهدها في الحرب أنها كانت تحمل على الناس و ترتجز فتقولأحمل رأسا قد سئمت حمله و قد مللت دهنه و غسله أ لا فتى يحمل عني ثقلهو الخوارج يفدونها بالآباء و الأمهات فما رأينا قبلها و لا بعدها مثلها. و روى أبو الفرج قال كان عبيدة بن هلال إذا تكاف الناس ناداهم ليخرج إلي بعضكم فيخرج إليه فتيان من عسكر المهلب فيقول لهم أيما أحب إليكم أقرأ عليكم القرآن أم أنشدكم الشعر فيقولون له أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك و لكن تنشدنا فيقول يا فسقة قد و الله علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن ثم لا يزال ينشدهم و يستنشدهم حتى يملوا و يفترقوا. قال أبو العباس و ولى خالد بن عبد الله بن أسيد فقدم فدخل البصرة فأراد عزل المهلب فأشير عليه بألا يفعل و قيل له إنما أمن أهل هذا المصر لأن المهلب بالأهواز و

(5/145)


عمر بن عبيد الله بفارس فقد تنحى عمر و إن نحيت المهلب لم تأمن على البصرة فأبى إلا عزله فقدم المهلب البصرة و خرج خالد إلى الأهواز فاستصحبه فلما صار بكربج دينار لقيه قطري فمنعه حط أثقاله و حاربه ثلاثين يوما. ثم أقام قطري بإزائه و خندق على نفسه فقال المهلب لخالد إن قطريا ليس شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 172بأحق بالخندق منك فعبر دجيلا إلى شق نهر تيرى و اتبعه قطري فصار إلى مدينة نهر تيرى فبنى سورها و خندق عليها فقال المهلب لخالد خندق على نفسك فإني لا آمن البيات فقال يابا سعيد الأمر أعجل من ذاك فقال المهلب لبعض ولده إني أرى أمرا ضائعا ثم قال لزياد بن عمرو خندق علينا فخندق المهلب على نفسه و أمر بسفنه ففرغت و أبى خالد أن يفرغ سفنه فقال المهلب لفيروز حصين صر معنا فقال يا أبا سعيد إن الحزم ما تقول غير إني أكره أن أفارق أصحابي قال فكن بقربنا قال أما هذه فنعم. و قد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره أن يمد خالدا بجيش كثيف أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ففعل فقدم عليه عبد الرحمن فأقام قطري يغاديهم القتال و يراوحهم أربعين يوما فقال المهلب لمولى أبي عيينة سر إلى ذلك الناوس فبت عليه كل ليلة فمتى أحسست خبرا للخوارج أو حركة أو صهيل خيل فأعجل إلينا. فجاءه ليلة فقال قد تحرك القوم فجلس المهلب بباب الخندق و أعد قطري سفنا فيها حطب و أشعلها نارا و أرسلها على سفن خالد و خرج في أدبارها حتى خالطهم لا يمر برجل إلا قتله و لا بدابة إلا عقرها و لا بفسطاط إلا هتكه فأمر المهلب يزيد ابنه فخرج في مائة فارس فقاتل و أبلي عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث يومئذ بلاء حسنا و خرج فيروز حصين في مواليه فلم يزل يرميهم بالنشاب هو و من معه فأثر أثرا جميلا و صرع يزيد بن المهلب يومئذ و صرع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا و سقط فيروز حصين في شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 173الخندق فأخذ بيده رجل من

(5/146)


الأزد فاستنقذه فوهب له فيروز عشرة آلاف و أصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء فجعل لا يرى إلا قتيلا أو جريحا فقال للمهلب يا أبا سعيد كدنا نفتضح فقال دق على نفسك فإن لم تفعل عادوا إليك فقال اكفني أمر الخندق فجمع له الأحماس فلم يبق شريف إلا عمل فيه فصاح بهم الخوارج و الله لو لا هذا الساحر المزوني لكان الله قد دمر عليكم و كانت الخوارج تسمى المهلب الساحر لأنهم كانوا يدبرون الأمر فيجدون المهلب قد سبق إلى نقض تدبيرهم. و قال أعشى همدان لابن الأشعث يذكره بلاء القحطانية عنده في كلمة طويلة
و يوم أهوازك لا تنسه ليس الثنا و الذكر بالبائد

(5/147)


ثم مضى قطري إلى كرمان و انصرف خالد إلى البصرة و أقام قطري بكرمان شهرا ثم عمد لفارس فخرج خالد إلى الأهواز و ندب الناس للرحيل فجعلوا يطلبون المهلب فقال خالد ذهب المهلب بحظ هذا المصر إني قد وليت أخي قتال الأزارقة. فولى أخاه عبد العزيز و استخلف المهلب على الأهواز في ثلاثمائة و مضى عبد العزيز و الخوارج بدرابجرد و هو في ثلاثين ألفا فجعل عبد العزيز يقول في طريقه يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر لا يتم إلا بالمهلب سيعلمون. قال صقعب بن يزيد فلما خرج عبد العزيز عن الأهواز جاءني كردوس شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 174حاجب اهلب فدعاني فجئت إلى المهلب و هو في سطح و عليه ثياب هروية فقال يا صقعب أنا ضائع كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز و أخشى أن توافيني الأزارقة و لا جند معي فابعث رجلا من قبلك يأتيني بخبرهم سابقا إلي به فوجهت رجلا من قبلي يقال له عمران بن فلان و قلت له اصحب عسكر عبد العزيز و اكتب إلي بخبر يوم فيوم فجعلت أورده على المهلب فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة فقال له الناس هذا منزل فينبغي أن تنزل فيه أيها الأمير حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا فقال كلا الأمر قريب فنزل الناس عن غير أمره فلم يستتم النزول حتى ورد عليه سعد الطلائع في خمسمائة فارس كأنهم خيط ممدود فناهضهم عبد العزيز فواقفوه ساعة ثم انهزموا عنه مكيدة و اتبعهم فقال له الناس لا تتبعهم فإنا على غير تعبية فأبى فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة فاقتحمها وراءهم و الناس ينهونه و يأبى و كان قد جعل على بني تميم عبس بن طلق الصريمي الملقب عبس الطعان و على بكر بن وائل مقاتل بن مسمع و على شرطته رجلا من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار فنزلوا عن العقبة و نزل خلفهم و كان لهم في بطن العقبة كمين فلما صاروا من ورائها خرج عليهم الكمين و عطف سعد الطلائع فترجل عبس بن طلق فقتل و قتل مقاتل بن مسمع و قتل الضبيعي صاحب شرطة عبد العزيز و انحاز عبد العزيز و اتبعهم

(5/148)


الخوارج فرسخين يقتلونهم كيف شاءوا و كان عبد العزيز قد أخرج معه أم حفص بنت المنذر بن الجارود امرأته فسبوا النساء يومئذ و أخذوا أسارى لا تحصى فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم وثاقا ثم سدوا عليهم بابه حتى ماتوا فيه. و قال بعض من حضر ذلك اليوم رأيت عبد العزيز و إن ثلاثين رجلا ليضربونه شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 175بسيوفهم فما تحيك في جنبه و نودي على السبي يومئذ فغولي بأم حفص فبلغ بها رجل سبعين ألفا و كان ذلك الرجل من مجوس كانوا أسلموا و لحقوا بالخوارج فضوا لكل رجل منهم خمسمائة فكاد ذلك الرجل يأخذ أم حفص فشق ذلك على قطري و قال ما ينبغي لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون ألفا إن هذه لفتنة فوثب عليها أبو الحديد العبدي فقتلها فأتي به قطري فقال مهيم يا أبا الحديد فقال يا أمير المؤمنين رأيت المؤمنين تزايدوا في هذه المشركة فخشيت عليهم الفتنة فقال قطري أحسنت فقال رجل من الخوارج
كفانا فتنة عظمت و جلت بحمد الله سيف أبي الحديدإهاب المسلمون بها و قالوا على فرط الهوى هل من مزيدفزاد أبو الحديد بنصل سيف رقيق الحد فعل فتى رشيد
و كان العلاء بن مطرف السعدي ابن عم عمرو القنا و كان يحب أن يلقاه في صدر مبارزة فلحقه عمرو القنا يومئذ و هو منهزم فضحك منه و قال متمثلا
تمناني ليلقاني لقيط أعام لك ابن صعصعة بن سعد

(5/149)


ثم صاح به أنج يا أبا المصدي و كان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 176إحداهما من بني ضبة يقال لها أم جميل و الأخرى بنت عمه يقال لها فلانة بنت عقيل فطلق الضبية و حملها أولا و تخلص بابنة عمه فقال في ذلكأ لست كريما إذ أقول لفتيتي قفوا فاحملوها قبل بنت عقيل و لو لم يكن عودي نضارا لأصبحت تجر على المتنين أم جميلقال الصقعب بن يزيد و بعثني المهلب لآتيه بالخبر فصرت إلى قنطرة أربك على فرس اشتريته بثلاثة آلاف درهم فلم أحس خبرا فسرت مهجرا إلى أن أمسيت فلما أمسينا و أظلمنا سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم فقلت ما وراءك قال الشر قلت فأين عبد العزيز قال أمامك فلما كان آخر الليل إذا أنا بزهاء خمسين فارسا معهم لواء فقلت لواء من هذا قالوا لواء عبد العزيز فتقدمت إليه فسلمت عليه و قلت أصلح الله الأمير لا يكبرن عليك ما كان فإنك كنت في شر جند و أخبثه قال لي أ و كنت معنا قلت لا و لكن كأني شاهد أمرك ثم أقبلت إلى المهلب و تركته فقال لي ما وراءك قلت ما يسرك هزم الرجل و فل جيشه فقال ويحك و ما يسرني من هزيمة رجل من قريش و فل جيش من المسلمين قلت قد كان ذلك ساءك أو سرك فوجه رجلا إلى خالد يخبره بسلامة أخيه قال الرجل فلما خبرت خالدا قال كذبت و لؤمت و دخل رجل من قريش فكذبني فقال لي خالد و الله لقد هممت أن أضرب عنقك فقلت أصلح الله الأمير إن كنت كاذبا فاقتلني و إن كنت صادقا فأعطني مطرف هذا المتكلم فقال خالد لبئس ما أخطرت به دمك فما برحت حتى دخل عليه بعض الفل و قدم عبد العزيز سوق الأهواز فأكرمه المهلب و كساه و قدم معه على خالد و استخلف المهلب ابنه حبيبا و قال له شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 177تجسس الأخبار فإن أحسست بخيل الأزارقة قريبا منك فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى فلما أحس حبيب بهم دخل البصرة و أعلم خالدا بدخوله فغضب و خاف حبيب منه فاستتر في بني عامر بن صعصعة و تزوج هناك في

(5/150)


استتاره الهلالية و أم ابنه عباد بن حبيب و قال الشاعر لخالد يفيل رأيه
بعثت غلاما من قريش فروقة و تترك ذا الرأي الأصيل المهلباأبى الذم و اختار الوفاء و أحكمت قواه و قد ساس الأمور و جربا
و قال الحارث بن خالد المخزومي
فر عبد العزيز إذ راء عيسى و ابن داود نازلا قطرياعاهد الله إن نجا ملمنايا ليعودن بعدها حرميايسكن الخل و الصفاح فغورينا مرارا و مرة نجدياحيث لا يشهد القتال و لا يسمع يوما لكر خيل دويا
و كتب خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز و قال للمهلب ما ترى أمير المؤمنين صانعا بي قال يعزلك قال أ تراه قاطعا رحمي قال نعم قد أتته هزيمة أمية أخيك ففعل يعني هرب أمية من سجستان فكتب عبد الملك إلى خالد شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 178أما بعد فإني كنت حددت لكدا في أمر المهلب فلما ملكت أمرك نبذت طاعتي وراءك و استبددت برأيك فوليت المهلب الجباية و وليت أخاك حرب الأزارقة فقبح الله هذا رأيا أ تبعث غلاما غرا لم يجرب الأمور و الحروب للحرب و تترك سيدا شجاعا مدبرا حازما قد مارس الحروب ففلج فشغلته بالجباية أما لو كافأتك على قدر ذنبك لأتاك من نكيري ما لا بقية لك معه و لكن تذكرت رحمك فكفتني عنك و قد جعلت عقوبتك عزلك و السلام قال و ولى بشر بن مروان الإمارة و هو بالكوفة و كتب إليه أما بعد فإنك أخو أمير المؤمنين يجمعك و إياه مروان بن الحكم و إن خالدا لا مجتمع له مع أمير المؤمنين دون أمية فانظر المهلب بي أبي صفرة فوله حرب الأزارقة فإنه سيد بطل مجرب و امدده من أهل الكوفة بثمانية آلاف رجل و السلام فشق على بشر ما أمره به في المهلب و قال و الله لأقتلنه فقال له موسى بن نصير أيها الأمير إن للمهلب حفاظا و وفاء و بلاء. و خرج بشر بن مروان يريد البصرة فكتب موسى بن نصير و عكرمة بن ربعي إلى المهلب أن يتلقاه لقاء لا يعرفه به فتلقاه المهلب على بغل و سلم عليه في غمار الناس فلما جلس بشر مجلسه قال ما فعل أميركم المهلب

(5/151)


قالوا قد تلقاك أيها الأمير و هو شاك فهم بشر أن يولي حرب الأزارقة عمر بن عبيد الله بن معمر و شد عزمه أسماء شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 179بن خارجة و قال له إنما ولاك أمير المؤمنين لترى رأيك فقال له عكرمة بن ربعي اكتب إلى أمير المؤمنين فأعلمه علة المهلب فكتب إليه بذلك و أن بالبصرة من يغني غناءه و وجه بالكتاب مع وفد أوفدهم إليه رئيسهم د الله بن حكيم المجاشعي فلما قرأ عبد الملك الكتاب خلا بعبد الله فقال له إن لك دينا و رأيا و حزما فمن لقتال هؤلاء الأزارقة قال المهلب قال إنه عليل قال ليست علته بمانعة فقال عبد الملك لقد أراد بشر أن يفعل ما فعل خالد فكتب إليه يعزم عليه أن يولي المهلب الحرب فوجه إليه فقال أنا عليل و لا يمكنني الاختلاف فأمر بشر بحمل الدواوين إليه فجعل ينتخب فعزم عليه بشر بالخروج فاقتطع أكثر نخبته ثم عزم عليه ألا يقيم بعد ثالثة و قد أخذت الخوارج الأهواز و خلفوها وراء ظهورهم و صاروا بالفرات فخرج المهلب حتى صار إلى شهار طاق فأتاه شيخ من بني تميم فقال أصلح الله الأمير إن سني ما ترى فهبني لعيالي فقال على أن تقول للأمير إذا خطب فحثكم على الجهاد كيف تحثنا على الجهاد و أنت تحبس عنه أشرافنا و أهل النجدة منا ففعل الشيخ ذلك فقال له بشر و ما أنت و ذاك ثم أعطى المهلب رجلا ألف درهم على أن يأتي بشرا فيقول له أيها الأمير أعن المهلب بالشرطة و المقاتلة ففعل الرجل ذلك فقال له بشر و ما أنت و ذاك فقال نصيحة حضرتني للأمير و المسلمين و لا أعود إلى مثلها فأمده بشر بالشرطة و المقاتلة و كتب إلى خليفته على الكوفة أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على ثمانية آلاف من كل ربع ألفين و يوجه بهم مددا للمهلب

(5/152)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 180فلما أتاه الكتاب بعث إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي يعقد له و اختار من كل ربع ألفين فكان على ربع أهل المدينة بشر بن جرير بن عبد الله البجلي و على ربع تميم و همدان محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني و على ربع كندة محمدن إسحاق بن الأشعث بن قيس الكندي و على ربع مذحج و أسد زحر بن قيس المذحجي فقدموا على بشر بن مروان فخلا بعبد الرحمن بن مخنف و قال له قد عرفت رأيي فيك و ثقتي بك فكن عند ظني بك و انظر إلى هذا المزوني فخالفه في أمره و أفسد عليه رأيه. فخرج عبد الرحمن و هو يقول ما أعجب ما طلب مني هذا الغلام يأمرني أن أصغر شأن شيخ من مشايخ أهلي و سيد من ساداتهم فلحق بالمهلب. فلما أحس الأزارقة بدنو المهلب منهم انكشفوا عن الفرات فأتبعهم المهلب إلى سوق الأهواز فنفاهم عنها ثم اتبعهم إلى رامهرمز فهزمهم عنها فدخلوا فارس و أبلى يزيد ابنه في وقائعه هذه بلاء شديدا تقدم فيه و هو ابن إحدى و عشرين سنة. فلما صار القوم إلى فارس وجه إليهم ابنه المغيرة فقال له عبد الرحمن بن صالح أيها الأمير إنه ليس لك برأي قتل هذه الأكلب و لئن و الله قتلتهم لتقعدن في بيتك و لكن طاولهم و كل بهم فقال ليس هذا من الوفاء فلم يلبث برامهرمز إلا شهرا حتى أتاه موت بشر بن مروان. فاضطرب الجند على ابن مخنف فوجه إلى إسحاق بن الأشعث و ابن زحر فاستحلفهما ألا يبرحا فحلفا له و لم يفيا و جعل الجند من أهل الكوفة يتسللون حتى اجتمعوا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 181بسوق الأهواز و أراد أهللبصرة الانسلال من المهلب فخطبهم فقال إنكم لستم كأهل الكوفة إنما تذبون عن مصركم و أموالكم و حرمكم. فأقام منهم قوم و تسلل منهم قوم كثير. و كان خالد بن عبد الله خليفة بشر بن مروان فوجه مولى له بكتاب منه إلى من بالأهواز يحلف بالله مجتهدا لئن لم يرجعوا إلى مراكزهم و انصرفوا عصاة لا يظفر بأحد إلا قتله فجاءهم مولاه فجعل يقرأ

(5/153)


عليهم الكتاب و لا يرى في وجوههم قبولا فقال إني أرى وجوها ما القبول من شأنها فقال له ابن زحر أيها العبد اقرأ ما في الكتاب و انصرف إلى صاحبك فإنك لا تدري ما في أنفسنا و جعلوا يستحثونه بقراءته ثم قصدوا قصد الكوفة فنزلوا النخيلة و كتبوا إلى خليفة بشر يسألونه أن يأذن لهم في دخول الكوفة فأبى فدخلوها بغير إذن. فلم يزل المهلب و من معه من قواده و ابن مخنف في عدد قليل فلم يلبثوا أن ولي الحجاج العراق. فدخل الكوفة قبل البصرة و ذلك في سنة خمس و سبعين فخطبهم الخطبة المشهورة و تهددهم ثم نزل فقال لوجوه أهلها ما كانت الولاة تفعل بالعصاة قالوا كانت تضرب و تحبس فقال و لكن ليس لهم عندي إلا السيف إن المسلمين لو لم يغزوا المشركين لغزاهم المشركون و لو ساغت المعصية لأهلها ما قوتل عدو و لا جبي في ء و لا عز دين. ثم جلس توجيه الناس فقال قد أجلتكم ثلاثا و أقسم بالله لا يتخلف أحد من شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 182أصحاب ابن مخنف بعدها إلا قتلته ثم قال لصاحب حرسه و لصاحب شرطته إذا مضت ثلاثة أيام فاشحذا سيوفكما فجاءه عمير بن ضابئ البرجمي بابنه فقال أصلح الله الأمير إن هذا أنفعكم مني و هو أشد بني تميم أبدانا و أجمعهم سلاحا و أربطهم جأشا و أنا شيخ كبير عليل و استشهد جلساءه فقال له الحجاج إن عذرك لواضح و إن ضعفك لبين و لكني أكره أن يجترئ بك الناس علي و بعد فأنت ابن ضابئ صاحب عثمان و أمر به فقتل فاحتمل الناس و إن أحدهم ليتبع بزاده و سلاحه ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي
أقول لعبد الله يوم لقيته أرى الأمر أمسى منصبا متشعبا

(5/154)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 183تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ عميرا و إما أن تزور المهلباهما خطتا خسف نجاؤك منهما ركوبك حوليا من الثلج أشهبافما إن أرى الحجاج يغمد سيفه مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبافأضحى و لو كانت خراسان دونه رآها مكان السوق أو هي أقربو هرب سوار بن المضرب السعدي من الحجاج و قال
أ قاتلي الحجاج إن لم أزر له دراب و أترك عند هند فؤاديا
في قصيدة مشهورة له. فخرج الناس عن الكوفة و أتى الحجاج البصرة فكان أشد عليهم إلحاحا و قد كان أتاهم خبره بالكوفة فتحمل الناس قبل قدومه و أتاه رجل من بني يشكر و كان شيخا أعور يجعل على عينه العوراء صوفة فكان يلقب ذا الكرسفة فقال شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 184لح الله الأمير إن بي فتقا و قد عذرني بشر بن مروان و قد رددت العطاء فقال إنك عندي لصادق ثم أمر به فضربت عنقه ففي ذلك يقول كعب الأشقري أو الفرزدق
لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربة تقرقر منها بطن كل عريف

(5/155)


و يروى عن أبي البئر قال إنا لنتغدى معه يوما إذ جاءه رجل من بني سليم برجل يقوده فقال أصلح الله الأمير إن هذا عاص فقال له الرجل أنشدك الله أيها الأمير في دمي فو الله ما قبضت ديوانا قط و لا شهدت عسكرا قط و إني لحائك أخذت من تحت الحف فقال اضربوا عنقه فلما أحس بالسيف سجد فلحقه السيف و هو ساجد فأمسكنا عن الأكل فأقبل علينا و قال ما لي أراكم قد صفرت أيديكم و اصفرت وجوهكم و حد نظركم من قتل رجل واحد ألا إن العاصي يجمع خلالا يخل بمركزه و يعصي أميره و يغر المسلمين و هو أجير لهم و إنما يأخذ الأجرة لما يعمل و الوالي مخير فيه إن شاء قتل و إن شاء عفا. ثم كتب إلى المهلب أما بعد فإن بشرا استكره نفسه عليك و أراك غناه عنك و أنا أريك حاجتي إليك فأرني الجد في قتال عدوك و من خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 185فإني قاتل من قبلي و من كان عندي ممن هرب عنكأعلمني مكانه فإني أرى أن آخذ السمي بالسمي و الولي بالولي. فكتب إليه المهلب ليس قبلي إلا مطيع و إن الناس إذا خافوا العقوبة كبروا الذنب و إذا أمنوا العقوبة صغروا الذنب و إذا يئسوا من العفو أكفرهم ذلك فهب لي هؤلاء الذين سميتهم عصاة فإنهم فرسان أبطال أرجو أن يقتل الله بهم العدو و نادم على ذنبه. فلما رأى المهلب كثرة الناس عنده قال اليوم قوتل هذا العدو. و لما رأى ذلك قطري قال لأصحابه انهضوا بنا نريد السردن فنتحصن فيها فقال عبيدة بن هلال أو تأتي سابور فتأخذ منها ما نريد و تصير إلى كرمان فأتوا سابور و خرج المهلب في آثارهم فأتى أرجان و خاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردن و ليست بمدينة و لكنها جبال محدقة منيعة فلم يصب بها أحدا فخرج فعسكر بكازرون و استعدوا لقتاله فخندق على نفسه و وجه إلى عبد الرحمن شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 186بن مخنف خندق على نفسك فوجه إليه خنادقنا سيوفنا فوجه المهلب إليه إني لا آمن عليك البيات فقال ابنه جعفر ذاك أهون

(5/156)


علينا من ضرطة جمل فأقبل المهلب على ابنه المغيرة فقال لم يصيبوا الرأي و لم يأخذوا بالوثيقة. فلما أصبح القوم عاودوه حرب فبعث إلى ابن مخنف يستمده فأمده بجماعة جعل عليهم ابنه جعفرا فجاءوا و عليهم أقبية بيض جدد فأبلوا يومئذ حتى عرف مكانهم المهلب و أبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيين أو أشد. ثم أتى رئيس من الخوارج يقال له صالح بن مخراق و هو ينتخب قوما من جلة العسكر حتى بلغ أربعمائة فقال لابنه المغيرة ما أراه يعد هؤلاء إلا للبيات. و انكشفت الخوارج و الأمر للمهلب عليهم و قد كثر فيهم الجراح و القتل و قد كان الحجاج يتفقد العصاة و يوجه الرجال و كان يحبسهم نهارا و يفتح الحبس ليلا فيتسلل الرجال إلى ناحية المهلب و كان الحجاج لا يعلم فإذا رأى إسراعهم تمثل
إن لها لسائقا عشنزرا إذا وثبن وثبة تغشمرا

(5/157)


ثم كتب الحجاج إلى المهلب يستحثه أما بعد فإنه قد بلغني أنك قد أقبلت على جباية الخراج و تركت قتال العدو و إني وليتك و أنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي و عباد بن الحصين الحبطي و اخترتك و أنت من أهل عمان ثم رجل من الأزد فالقهم يوم كذا في مكان كذا و إلا أشرعت إليك صدر الرمح. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 187فشاور المهلب بنيه فقالوا أيها الأمير لا تغلظ عليه في الجواب. فكتب إليه ورد إلي كتابك تزعم أني أقبلت على جباية الخراج و تركت قتال العدو و من عجز عن جباية الخراج فهو عن قتال العدو أعجز و زعمت أنك وليتني و أ ترى مكان عبد الله بن حكيم و عباد بن الحصين و لو وليتهما لكانا مستحقين لذلك لفضلهما و غنائهما و بطشهما و زعمت أنك اخترتني و أنا رجل من الأزد و لعمري إن شرا من الأزد لقبيلة تنازعتها ثلاث قبائل لم تستقر في واحدة منهن و زعمت أني إن لم ألقهم يوم كذا في مكان كذا أشرعت إلى صدر الرمح لو فعلت لقلبت لك ظهر المجن و السلام. قال ثم كانت الوقعة بينه و بين الخوارج عقيب هذا الكتاب. فلما انصرف الخوارج تلك الليلة قال لابنه المغيرة إني أخاف البيات على بني تميم فانهض إليهم فكن فيهم فأتاهم المغيرة فقال له الحريش بن هلال يا أبا حاتم أ يخاف الأمير أن يؤتى من ناحيتنا قل له فليبت آمنا فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله. فلما انتصف الليل و قد رجع المغيرة إلى أبيه سرى صالح بن مخراق في القوم الذين كان أعدهم للبيات إلى ناحية بني تميم و معه عبيدة بن هلال و هو يقول
إني لمذك للشراة نارها و مانع ممن أتاها دارهاو غاسل بالسيف عنها عارها
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 188فوجد بني تميم أيقاظا متحارسين و خرج إليهم الحريش بن هلال و هو يقولوجدتمونا وقرا أنجادا لا كشفا ميلا و لا أوغادا

(5/158)


ثم حمل على الخوارج فرجعوا عنه فاتبعهم ثم صاح بهم إلى أين يا كلاب النار فقالوا إنما أعدت لك و لأصحابك فقال الحريش كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار ما دخلها مجوسي فيما بين سفوان و خراسان. ثم قال بعضهم لبعض نأتي عسكر ابن مخنف فإنه لا خندق عليه و قد بعث فرسانهم اليوم مع المهلب و قد زعموا أنا أهون عليهم من ضرطة جمل فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف و أصحابه إلا و قد خالطوهم في عسكرهم. و كان ابن مخنف شريفا و فيه يقول رجل من بني عامر لرجل يعاتبه و يضرب بابن مخنف المثل
تروح و تغدو كل يوم معظما كأنك فينا مخنف و ابن مخنف
فترجل عبد الرحمن تلك الليلة يجالدهم حتى قتل و قتل معه سبعون رجلا من القراء فيهم نفر من أصحاب علي بن أبي طالب و نفر من أصحاب ابن مسعود و بلغ الخبر المهلب و جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب فجاءهم مغيثا فقاتل حتى ارتث و وجه المهلب إليهم ابنه حبيبا فكشفهم ثم جاء المهلب حتى صلى على عبد الرحمن بن مخنف و أصحابه و صار جنده في جند المهلب فضمهم إلى ابنه حبيب فعيرهم البصريون و سموا جعفرا خضفة الجمل. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 189و قال رجل منهم لجعفر بن عبد الرحمن بن مخنفتركت أصحابكم تدمى نحورهم و جئت تسعى إلينا خضفة الجمل

(5/159)


فلام المهلب أهل البصرة و قال بئسما قلتم و الله ما فروا و لا جبنوا و لكنهم خالفوا أميرهم أ فلا تذكرون فراركم بدولاب عني و فراركم بدارس عن عثمان. و وجه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلب يستحثه في مناجزة القوم و كتب إليه إنك تحب بقاءهم لتأكل بهم فقال المهلب لأصحابه حركوهم فخرج فرسان من أصحابه فخرج إليهم من الخوارج جمع كثير فاقتتلوا إلى الليل فقال لهم الخوارج ويلكم أ ما تملون فقالوا لا حتى تملوا فقالوا فمن أنتم قالوا تميم فقالت الخوارج و نحن تميم أيضا فلما أمسوا افترقوا فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب و خرج إليهم من الخوارج عشرة و احتفر كل واحد منهم حفيرة و أثبت قدميه فيها كلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره و قام مكانه حتى أعتموا فقال لهم الخوارج ارجعوا فقالوا بل ارجعوا أنتم قالوا لهم ويلكم من أنتم قالوا تميم قالوا و نحن شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 190يم أيضا فرجع البراء بن قبيصة إلى الحجاج فقال له مهيم قال رأيت أيها الأمير قوما لا يعين عليهم إلا الله. و كتب المهلب جواب الحجاج إني منتظر بهم إحدى ثلاث موتا ذريعا أو جوعا مضرا أو اختلافا من أهوائهم. و كان المهلب لا يتكل في الحراسة على أحد كان يتولى ذلك بنفسه و يستعين عليه بولده و بمن يحل محلهم في الثقة عنده. قال أبو حرملة العبدي يهجو المهلب و كان في عسكره
عدمتك يا مهلب من أمير أ ما تندى يمينك للفقيربدولاب أضعت دماء قومي و طرت على مواشكة درور
فقال له المهلب ويحك و الله إني لاقيكم بنفسي و ولدي قال جعلني الله فداء الأمير فذاك الذي نكره منك ما كلنا يحب الموت قال ويحك و هل عنه من محيص قال لا و لكنا نكره التعجيل و أنت تقدم عليه إقداما قال المهلب ويلك أ ما سمعت قول الكلحبة اليربوعي
فقلت لكأس ألجميها فإنما نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا

(5/160)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 191فقال بلى قد سمعت و لكن قولي أحب إلي منهو لما وقفتم غدوة و عدوكم إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري و طرت و لم أحفل ملامة جاهل يساقي المنايا بالردينية السمرفقال المهلب بئس حشو الكتيبة أنت و الله يا أبا حرملة إن شئت أذنت لك فانصرفت إلى أهلك قال بل أقيم معك أيها الأمير فوهب له المهلب و أعطاه فقال يمدحه
يرى حتما عليه أبو سعيد جلاد القوم في أولى النفيرإذا نادى الشراة أبا سعيد مشى في رفل محكمة القتير

(5/161)


قال و كان المهلب يقول ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع مكان بيهس بن صهيب فيقال له أيها الأمير بيهس ليس بشجاع فيقول أجل و لكنه سديد الرأي محكم العقل و ذو الرأي حذر سئول فأنا آمن أن يغتفل و لو كان مكانه ألف شجاع لخلت أنهم ينشامون حيث يحتاج إليهم. قال و مطرت السماء مطرا شديدا و هم بسابور و بين المهلب و بين الشراة عقبة فقال المهلب من يكفينا أمر هذه العقبة الليلة فلم يقم أحد فلبس المهلب سلاحه و قام إلى العقبة و اتبعه ابنه المغيرة فقال رجل من أصحابه دعانا الأمير إلى ضبط العقبة و الحظ شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 192فذلك لنا فلم نطعه و لبس سلاحه و اتبعه جماعة من العسكر فصاروا إليه فإذا المهلب و المغيرة و لا ثالث لهما فقالوا انصرف أيها الأمير فنحن نكفيك إن شاء الله فلما أصبحوا إذا هم بالشراة على العقبة فخرج إليهم غلام من أهل عمان على فرس فجعل يحمل و فرسه تزلق و يلقاه مدرك في جماعة معه حتى ردوهم عن العقبة فلما كان يوم النحر و المهلب على المنبر يخطب الناس إذ الشراة قد أكبوا فقال المهلب سبحان الله أ في مثل هذا اليوم يا مغيرة اكفنيهم فخرج إليهم المغيرة و أمامه سعد بن نجد القردوسي و كان سعد مقدما في شجاعته و كان الحجاج إذا ظن برجل أن نفسه قد أعجبته قال له لو كنت سعد بن نجد القردوسي ما عدا فخرج أمام المغيرة و مع المغيرة جماعة من فرسان المهلب فالتقوا و أمام الخوارج غلام جامع السلاح مديد القامة كريه الوجه شديد الحملة صحيح الفروسية فأقبل يحمل على الناس و يرتجز فيقول
نحن صبحناكم غداة النحر بالخيل أمثال الوشيج تجري

(5/162)


فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي من الأزد فتجاولا ساعة ثم طعنه سعد فقتله و التقى الناس فصرع المغيرة يومئذ فحامى عليه سعد بن نجد و دينار السجستاني و جماعة من الفرسان حتى ركب و انكشف الناس عند سقطة المغيرة حتى صاروا إلى المهلب فقالوا قتل المغيرة فأتاه دينار السجستاني فأخبره بسلامته فأعتق كل مملوك كان بحضرته. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 193قال و وجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب يستبطئه في مناجزة القوم و كتب إليه أما بعد فإنك جبيت الخراج بالعلل و تحصنت بالخنادق و طاولت القوم و أنت أعز ناصرا و أكثر عددا و مأظن بك مع هذا معصية و لا جبنا و لكنك اتخذتهم أكلا و كان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم فناجزهم و إلا أنكرتني و السلام. فقال المهلب للجراح يا أبا عقبة و الله ما تركت حيلة إلا احتلتها و لا مكيدة إلا أعملتها و ما العجب من إبطاء النصرة و تراخي الظفر و لكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره. ثم ناهضهم ثلاثة أيام يغاديهم القتال فلا يزالون كذلك إلى العصر و ينصرف أصحابه و بهم قرح و بالخوارج قرح و قتل فقال له الجراح قد أعذرت. فكتب المهلب إلى الحجاج أتاني كتابك تستبطئني في لقاء القوم على أنك لا تظن بي معصية و لا جبنا و قد عاتبتني معاتبة الجبان و أوعدتني وعيد العاصي فسل الجراح و السلام. فقال الحجاج للجراح كيف رأيت أخاك قال و الله أيها الأمير ما رأيت مثله قط و لا ظننت أن أحدا يبقى على مثل ما هو عليه و لقد شهدت أصحابه أياما ثلاثة يغدون إلى الحرب ثم ينصرفون عنها و هم يتطاعنون بالرماح و يتجالدون بالسيوف شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 194و يتخابطون بالعمد ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئا رواح قوم تلك عادتهم و تجارتهم. فقال الحجاج لشد ما مدحته أبا عقبة فقال الحق أولى. و كانت ركب الناس قديما من الخشب فكان الرجل يضرب ركابه فينقطع ذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد فأمر المهلب بضرب الركب من

(5/163)


الحديد فهو أول من أمر بطبعها و في ذلك يقول عمران بن عصام العنزي
ضربوا الدراهم في إمارتهم و ضربت للحدثان و الحرب حلقا ترى منها مرافقهم كمناكب الجمالة الجربقال و كتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي من بني رياح بن يربوع و هو والي أصفهان يأمره بالمسير إلى المهلب و أن يضم إليه جند عبد الرحمن بن مخنف فكل بلد يدخلانه من فتوح أهل البصرة فالمهلب أمير الجماعة فيه و أنت على أهل الكوفة فإذا دخلتم بلدا فتحه أهل الكوفة فأنت أمير الجماعة و المهلب على أهل البصرة. فقدم عتاب في إحدى جماديين من سنة ست و سبعين على المهلب و هو بسابور و هي من فتوح أهل البصرة فكان المهلب أمير الناس و عتاب على أصحاب ابن مخنف و الخوارج بأيديهم كرمان و هم بإزاء المهلب بفارس يحاربونه من جميع النواحي. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 195قال و وجه الحجاج إلى المهلب رجلين يستحثانه لمناجزة القوم أحدهما يقال له زياد بن عبد الرحمن من بني عامر بن صعصعة و الآخر من آل أبي عقيل من رهط الحجاج فضم المهلب زيادا إلى ابنه حبيب و ضم الثقفي إلى ابنه يزيد و قال لهما خذا يزيو حبيبا بالمناجزة و غادوا الخوارج فاقتتلوا أشد قتال فقتل زياد بن عبد الرحمن العامري و فقد الثقفي ثم باكروهم في اليوم الثاني و قد وجد الثقفي فدعا به المهلب و دعا بالغداء فجعل النبل يقع قريبا منهم و يتجاوزهم و الثقفي يعجب من أمر المهلب فقال الصلتان العبدي

(5/164)


ألا يا أصبحاني قبل عوق العوائق و قبل اختراط القوم مثل العقائق غداة حبيب في الحديد يقودنا يخوض المنايا في ظلال الخوافق حرون إذا ما الحرب طار شرارها و هاج عجاج النقع فوق المفارق فمن مبلغ الحجاج أن أمينه زيادا أطاحته رماح الأزافلم يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر حتى ظهر شبيب بن يزيد فكتب الحجاج إلى عتاب يأمره بالمصير إليه ليوجهه إلى شبيب و كتب إلى المهلب يأمره أن يرزق الجند فرزق أهل البصرة و أبى أن يرزق أهل الكوفة فقال له عتاب ما أنا ببارح حتى ترزق أهل الكوفة فأبى فجرت بينهما غلظة فقال له عتاب قد كان يبلغني أنك شجاع فرأيتك جبانا و كان يبلغني أنك جواد فرأيتك بخيلا فقال له المهلب يا ابن اللخناء فقال له عتاب لكنك معم مخول. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 196فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف و وثب نعيم بن هبيرة ابن أخي مصقلة بن هبيرعلى عتاب فشتمه و قد كان المهلب كارها للحلف فلما رأى نصرة بكر بن وائل له سره و اغتبط به فلم يزل يؤكده و غضبت تميم البصرة لعتاب و غضبت أزد الكوفة للمهلب فلما رأى ذلك المغيرة مشى بين أبيه و بين عتاب و قال لعتاب يا أبا ورقاء إن الأمير يصير إلى كل ما تحب و سأل أباه أن يرزق أهل الكوفة ففعل فصلح الأمر فكانت تميم قاطبة و عتاب بن ورقاء يحمدون المغيرة بن المهلب و كان عتاب يقول إني لأعرف فضله على أبيه. و قال رجل من الأزد من بني أياد بن سود
ألا أبلغ أبا ورقاء عنا فلو لا أننا كنا غضاباعلى الشيخ المهلب إذ جفانا للاقت خيلكم منا ضرابا

(5/165)


قال و كان المهلب يقول لبنيه لا تبدءوا الخوارج بقتال حتى يبدءوكم و يبغوا عليكم فإنهم إذا بغوا عليكم نصرتم عليهم. فشخص عتاب إلى الحجاج في سنة سبع و سبعين فوجهه إلى شبيب فقتله شبيب. و أقام المهلب على حربهم فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهرا اختلفوا و افترقت كلمتهم و كان سبب اختلافهم أن رجلا حدادا من الأزارقة كان يعمل نصالا مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب فرفع ذلك إلى المهلب فقال أنا أكفيكموه إن شاء الله فوجه رجلا من أصحابه بكتاب و ألف درهم إلى عسكر قطري فقال له ألق هذا الكتاب في العسكر و الدراهم و احذر على نفسك و كان الحداد يقال له أبزى فمضى الرجل و كان في الكتاب أما بعد فإن نصالك قد وصلت إلي و قد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها و زدنا من هذه النصال. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 197فوقع الكتاب إلى قطري فدعا بأبزى فقال ما هذا الكتاب قال لا أدري قال فما هذه الدراهم قالا أعلم فأمر به فقتل فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له أ قتلت رجلا على غير ثقة و لا تبين قال قطري فما حال هذه الألف قال يجوز أن يكون أمرها كذبا و يجوز أن يكون حقا فقال قطري إن قتل رجل في صلاح الناس غير منكر و للإمام أن يحكم بما رآه صلاحا و ليس للرعية أن تعترض عليه فتنكر له عبد ربه في جماعة معه و لم يفارقوه. و بلغ ذلك المهلب فدس إليهم رجلا نصرانيا جعل له جعلا يرغب في مثله و قال له إذا رأيت قطريا فاسجد له فإذا نهاك فقل إنما سجدت لك ففعل ذلك النصراني فقال قطري إنما السجود لله تعالى فقال ما سجدت إلا لك فقال رجل من الخوارج إنه قد عبدك من دون الله و تلا إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ فقال قطري إن النصارى قد عبدوا عيسى ابن مريم فما ضر عيسى ذلك شيئا فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله فأنكر قطري ذلك عليه و أنكر قوم من الخوارج إنكاره. و بلغ المهلب ذلك فوجه

(5/166)


إليهم رجلا يسألهم فأتاهم الرجل فقال أ رأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم فمات أحدهما في الطريق و بلغ الآخر إليكم فامتحنتموه فلم يجز المحنة ما تقولون فيهما فقال بعضهم أما الميت فمؤمن من أهل الجنة و أما الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيز المحنة. و قال قوم آخرون بل هما كافران حتى يجيز المحنة فكثر الاختلاف. و خرج قطري إلى حدود إصطخر فأقام شهرا و القوم في اختلافهم ثم أقبل فقال شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 198لهم صالح بن مخراق يا قوم إنكم أقررتم عين عدوكو أطمعتموه فيكم بما يظهر من خلافكم فعودوا إلى سلامة القلوب و اجتماع الكلمة. و خرج عمرو القنا و هو من بني سعد بن زيد مناة بن تميم فنادى يا أيها المحلون هل لكم في الطراد فقد طال عهدي به ثم قال
أ لم تر أنا مذ ثلاثين ليلة جديب و أعداء الكتاب على خفض
فتهايج القوم و أسرع بعضهم إلى بعض و كانت الوقعة و أبلى يومئذ المغيرة بن المهلب و صار في وسط الأزارقة فجعلت الرماح تحطه و ترفعه و اعتورت رأسه السيوف و عليه ساعد حديد فوضع يده على رأسه فلم يعمل السيف فيه شيئا و استنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع و كان الذي صرعه عبيدة بن هلال بن يشكر بن بكر بن وائل و كان يقول يومئذ
أنا ابن خير قومه هلال شيخ على دين أبي بلال و ذاك ديني آخر اللياليفقال رجل للمغيرة كنا نعجب كيف تصرع و الآن نعجب كيف تنجو و قال المهلب لبنيه إن سرحكم لغار و لست آمنهم عليه أ فوكلتم به أحدا قالوا لا فلم يستتم الكلام حتى أتاه آت فقال إن صالح بن مخراق قد أغار على السرح فشق على المهلب و قال كل أمر لا إليه بنفسي فهو ضائع و تذمر عليهم فقال له بشر بن المغيرة أرح نفسك فإن كنت إنما تريد مثلك فو الله ما يعدل خيرنا شسع نعلك شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 199فقال خذوا عليهم الطريق فبادر بشر بن المغيرة و مدرك و المفضل ابنا المهلب فسبق بشر إلى الطريق فإذا رجل أسود من الأزارقة يشل السرح و يقول

(5/167)


نحن قمعناكم بشل السرح و قد نكانا القرح بعد القرح
و لحقه المفضل و مدرك فصاحا برجل من طيئ اكفنا الأسود فاعتوره الطائي و بشر بن المغيرة فقتلاه و أسرا رجلا من الأزارقة من همدان و استردا السرح. قال و كان عياش الكندي شجاعا بئيسا فأبلي يومئذ فلما مات على فراشه بعد ذلك قال المهلب لا وألت نفس الجبان بعد عياش و قال المهلب ما رأيت تالله كهؤلاء القوم كلما انتقص منهم يزيد فيهم. و وجه الحجاج رجلين إلى المهلب يستحثانه بالقتال أحدهما من كلب و الآخر من سليم فقال المهلب متمثلا بشعر لأوس بن حجر
و مستعجب مما يرى من أناتنا و لو زبنته الحرب لم يترمرم
فقال المهلب ليزيد ابنه حرك القوم فحركهم فتهايجوا و ذلك في قرية من قرى إصطخر فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب و طعنه فشك فخذه بالسرج فقال المهلب للسلمي و الكلبي كيف يقاتل قوم هذا طعنهم و حمل شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 200يزيد عليهم و قد جاء الرق و هو من فرسان المهلب و هو أحد بني مالك بن ربيعة على فرس له أدهم و به نيف و عشرون جراحة و قد وضع عليها القطن فلما حمل يزيد ولى الجمع و حماهم فارسان منهم فقال يزيد لقيس الخشني مولى العتيك من لهذين قال أنا فحمل عليهما فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس فصرعه و حمل عليه الآخر فتعانقا فسقطا جميعا إلى الأرض فصاح قيس الخشني اقتلونا جميعا فحملت خيل هؤلاء و خيل هؤلاء فحجزوا بينهما فإذا معانق قيس امرأة فقام قيس مستحييا فقال له يزيد يا أبا بشر أما أنت فبارزتها على أنها رجل فقال أ رأيت لو قتلت أ ما كان يقال قتلته امرأة و أبلى يومئذ ابن المنجب السدوسي فقال غلام له يقال له خلاج و الله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى نصير إلى مستقرهم فاستلب مما هناك جاريتين فقال له مولاه ابن المنجب و كيف تمنيت ويحك اثنتين فقال لأعطيك إحداهما و آخذ الأخرى فقال ابن المنجب

(5/168)


أ خلاج إنك لن تعانق طفلة شرقا بها الجادي كالتمثال حتى تلاقي في الكتيبة معلما عمرو القنا و عبيدة بن هلال و ترى المقعطر في الفوارس مقدما في عصبة نشطوا على الضلا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 201أو أن يعلمك المهلب غزوه و ترى جبالا قد دنت لجباقال و كان بدر بن الهذيل من أصحاب المهلب شجاعا و كان لحانة كان إذا أحس بالخوارج ينادي يا خيل الله اركبي و إليه يشير القائل
و إذا طلبت إلى المهلب حاجة عرضت توابع دونه و عبيدالعبد كردس و بدر مثله و علاج باب الأحمرين شديد
قال و كان بشر بن المغيرة بن أبي صفرة أبلى يومئذ بلاء حسنا عرف مكانه فيه و كانت بينه و بين المهلب جفوة فقال لبنيه يا بني عم إني قد قصرت عن شكاة العاتب و جاوزت شكاة المستعتب حتى كأني لا موصول و لا محروم فاجعلوا لي فرجة أعيش بها و هبوني امرأ رجوتم نصره أو خفتم لسانه فرجعوا له و وصلوه و كلموا فيه المهلب فوصله. و ولى الحجاج كردما فارس و وجهه إليها و الحرب قائمة فقال رجل من أصحاب المهلب
و لو رآها كردم لكردما كردمة العير أحس الضيغما
فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر و دارابجرد لأرزاق الجند ففعل و قد كان قطري هدم مدينة إصطخر لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره و أراد مثل ذلك بمدينة فسا فاشتراها منه آزاذ مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 202فلمهدمها فواقعه وجه المهلب فهزمه فنفاه إلى كرمان و اتبعه المغيرة ابنه و قد كان دفع إليه سيفا وجه به الحجاج إلى المهلب و أقسم عليه أن يتقلده فدفعه إلى المغيرة بعد ما تقلده فرجع به المغيرة إليه و قد دماه فسر المهلب و قال ما يسرني أن يكون كنت دفعته إلى غيرك من ولدي و قال له اكفني جباية خراج هاتين الكورتين و ضم إليه الرقاد فجعلا يجبيان و لا يعطيان الجند شيئا ففي ذلك يقول رجل من بني تميم في كلمة له

(5/169)


و لو علم ابن يوسف ما نلاقي من الآفات و الكرب الشدادلفاضت عينه جزعا علينا و أصلح ما استطاع من الفسادألا قل للأمير جزيت خيرا أرحنا من مغيرة و الرقادفما رزق الجنود بهم قفيزا و قد ساست مطامير الحصاد
أي وقع فيها السوس. قال ثم حاربهم المهلب بالسيرجان حتى نفاهم عنها إلى جيرفت و اتبعهم و نزل قريبا منهم. ثم اختلفت كلمة الخوارج و كان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اتهم بامرأة رجل نجار رأوه يدخل مرارا إليها بغير إذن فأتى قطريا فذكروا ذلك له فقال لهم إن عبيدة من الدين بحيث علمتم و من الجهاد بحيث رأيتم فقالوا إنا لا نقار على الفاحشة فقال شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 203انصرفوا ثم بعث إلى عبيدة فأخبره و قال له أنا لا أقار على الفاحشة فقال بهتوني يا أمير المؤمنين فما ترى قال إني جامع بينك و بينهم فلا تخضع خضوع المذنب و تتطاول تطاول البري ء فجمع بينهم فتكلموا فقام عبيدة فقال بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ... حتى تلا الآيات فبكوا و قاموا إليه فاعتنقوه و قالوا استغفر لنا ففعل فقال عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة و الله لقد خعكم فتابع عبد ربه منهم ناس كثير و لم يظهروا و لم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتا. و كان قطري قد استعمل رجلا من الدهاقين فظهرت له أموال كثيرة فأتوا قطريا فقالوا إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا فقال قطري إني استعملته و له ضياع و تجارات فأوغر ذلك صدورهم و بلغ المهلب ذلك فقال اختلافهم أشد عليهم مني ثم قالوا لقطري أ لا تخرج بنا إلى عدونا فقال لا ثم خرج فقالوا قد كذب و ارتد فاتبعوه يوما فأحس بالشر و دخل دارا مع جماعة من أصحابه فاجتمعوا عليه و صاحوا اخرج إلينا يا دابة فخرج إليهم فقال أ رجعتم بعدي كفارا قالوا أ و لست دابة قال الله تعالى وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها و لكنك قد كفرت بقولك

(5/170)


أنا قد رجعنا كفارا فتب إلى الله فشاور عبيدة في ذلك فقال له إن تبت لم يقبلوا منك فقل إني استفهمت فقلت أ رجعتم بعدي كفارا فقال لهم ذلك فقبلوا منه فرجع إلى منزله
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 204عبد ربه الصغيرو منهم عبد ربه الصغير أحد موالي قيس بن ثعلبة. لما اختلفت الخوارج على قطري بايعه منهم جمع كثير و كان قطري قد عزم على أن يبايع للمقعطر العبدي و يخلع نفسه فجعله أمير الجيش في الحرب قبل أن يعهد إليه بالخلافة فكرهه القوم و أبوه و قال صالح بن مخراق عنهم و عن نفسه ابغ لنا غير المقعطر فقال لهم قطري إني أرى طول العهد قد غيركم و أنتم بصدد عدو فاتقوا الله و أقبلوا على شأنكم و استعدوا للقاء القوم فقال صالح إن الناس قبلنا قد سألوا عثمان بن عفان أن يعزل سعيد بن العاصي عنهم ففعل و يجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت فأبى قطري أن يعزل المقعطر فقال له القوم فإنا قد خلعناك و بايعنا عبد ربه الصغير و كان عبد ربه هذا معلم كتاب و كان عبد ربه الكبير بائع رمان و كلاهما من موالي قيس بن ثعلبة فانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم و جلهم الموالي و العجم و كان منهم هناك ثمانية آلاف و هم القراء ثم ندم صالح بن مخراق و قال لقطري هذه نفخة من نفخات الشيطان فأعفنا من المقعطر و سر بنا إلى عدونا و عدوك فأبى قطري إلا للمقعطر و حمل فتى من الشراة على صالح بن مخراق فطعنه فأنفذه و أوجره الرمح. فنشبت الحرب بينهم فتهايجوا ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا فأجلت الحرب عن ألفي قتيل فلما كان الغد عاودوا الحرب فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب عن المدينة فأقام عبد ربه بها و صار قطري خارجا من شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 205مدينة جيرفت بإزائهم فقال له عبيدة بن هلال يا أمير اؤمنين إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك إلا أن تخندق على نفسك فخندق على باب المدينة و جعل يناوشهم و ارتحل المهلب و كان

(5/171)


منهم على ليلة و رسول الحجاج معه يستحثه فقال له أصلح الله الأمير عاجلهم قبل أن يصطلحوا فقال المهلب إنهم لن يصطلحوا و لكن دعهم فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها ثم دس رجلا من أصحابه فقال ائت عسكر قطري فقل إني لم أزل أرى قطريا يصيب الرأي حتى نزل منزله هذا فظهر خطؤه أ يقيم بين المهلب و عبد ربه يغاديه القتال هذا و يراوحه هذا فنمي الكلام إلى قطري فقال صدق تنحوا بنا عن هذا الموضع فإن اتبعنا المهلب قاتلناه و إن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون. فقال له الصلت بن مرة يا أمير المؤمنين إن كنت إنما تريد الله فأقدم على القوم و إن كنت إنما تريد الدنيا فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا ثم قال

(5/172)


قل للمحلين قد قرت عيونكم بفرقة القوم و البغضاء و الهرب كنا أناسا على دين فغيرنا طول الجدال و خلط الجد باللعب ما كان أغنى رجالا قل جيشهم عن الجدال و أغناهم عن الخطب إني لأهونكم في الأرض مضطربا ما لي سوى فرسي و الرمح من نثم قال أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع منه فيه. و ارتحل قطري و بلغ ذلك المهلب فقال لهزيم بن أبي طحمة المجاشعي إني لا آمن أن يكون كاذبا بترك موضعه اذهب فتعرف الخبر فمضى الهزيم في اثني عشر فارسا فلم ير في المعسكر إلا عبدا و علجا مريضين فسألهما عن قطري و أصحابه فقالا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 206مضوا يرتادون غير هذا المنزل فرجع هزيم إلى المهلب فأخبره فارتحل حتى نزل خندق قطري فجعل يقاتل عبد ربه أحيانا بالغداة و أحيانا بالعشي فقال رجل من سدوس يقال له المعتق و كان فارساليت الحرائر بالعراق شهدننا و رأيننا بالسفح ذي الأجبال فنكحن أهل الجد من فرساننا و الضاربين جماجم الأبطالو وجه المهلب يزيد ابنه إلى الحجاج يخبره بأنه قد نزل منزل قطري و أنه مقيم على عبد ربه و يسأله أن يوجه في أثر قطري رجلا جلدا فسر بذلك الحجاج سرورا أظهره ثم كتب إلى المهلب يستحثه لمناجزة القوم مع عبيد بن موهب. أما بعد فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي فيرجعون بعذرك و ذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح و تنسى القتلى و تحمل الكال ثم تلقاهم فتحمل منهم ثقل ما يحتملون منك من وحشة القتل و ألم الجراح و لو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم و القرن قد قصم و لعمري ما أنت و القوم سواء لأن من ورائك رجالا و أمامك أموالا و ليس للقوم إلا ما نعهد و لا يدرك الوجيف بالدبيب و لا الظفر بالتعذير. فلما ورد عليه الكتاب قال لأصحابه يا قوم إن الله قد أراحكم من أمور أربعة قطري بن الفجاءة و صالح بن مخراق و عبيدة بن هلال و سعد بن الطلائع و إنما بين أيديكم عبد ربه الصغير في خشار من خشار الشيطان تقتلونهم إن شاء الله تعالى.

(5/173)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 207فكانوا يتغادون القتال و يتراوحون فتصيبهم الجراح ثم يتحاجزون فكأنما انصرفوا عن مجلس كانوا يتحدثون فيه يضحك بعضهم إلى بعض فقال عبيد بن موهب للمهلب قد بان عذرك فاكتب فإني مخبر الأمير. فكتب إلى حجاج أما بعد فإني لم أعط رسلك على قول الحق أجرا و لم أحتج منهم عن المشاهدة إلى تلقين ذكرت إني أجم القوم و لا بد من وقت راحة يستريح فيه الغالب و يحتال فيه المغلوب و ذكرت أن في الجمام ما ينسي القتلى و تبرأ منه الجراح هيهات أن ينسى ما بيننا و بينهم تأبى ذلك قتلى لم تجن و قروح لم تتقرب و نحن و القوم على حالة و هم يرقبون منا حالات إن طمعوا حاربوا و إن ملوا وقفوا و إن يئسوا انصرفوا و علينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا و نتحرز إذا وقفوا و نطلب إذا هربوا فإن تركتني و الرأي كان القرن مقصوما و الداء بإذن الله محسوما و إن أعجلتني لم أطعك و لم أعصك و جعلت وجهي إلى بابك و أعوذ بالله من سخط الله و مقت الناس. قال و لما اشتد الحصار على عبد ربه قال لأصحابه لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال فإن المسلم لا يفتقر مع الإسلام إلى غيره و المسلم إذا صح توحيده عز بربه و قد أراحكم الله من غلظة قطري و عجلة صالح بن مخراق و نخوته و اختلاط عبيدة بن هلال و وكلكم إلى بصائركم فالقوا عدوكم بصبر و نية و انتقلوا عن منزلكم هذا فمن قتل منكم قتل شهيدا و من سلم من القتل فهو المحروم. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 208قال و ورد في ذلك الوقت على المهلب عبيد بأبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفي من عند الحجاج يستحثه بالقتال و معه أمينان فقال للمهلب خالفت وصية الأمير و آثرت المدافعة و المطاولة فقال له المهلب و الله ما تركت جهدا. فلما كان العشي خرجت الأزارقة و قد حملوا حريمهم و أموالهم و خف متاعهم لينتقلوا فقال المهلب لأصحابه الزموا مصافكم و أشرعوا رماحكم و دعوهم و الذهاب فقال له عبيدة بن أبي ربيعة هذا لعمري أيسر عليك

(5/174)


فغضب و قال للناس ردوهم عن وجههم و قال لبنيه تفرقوا في الناس و قال لعبيدة بن أبي ربيعة كن مع يزيد فخذه بالمحاربة أشد الأخذ و قال لأحد الأمينين كن مع المغيرة و لا ترخص له في الفتور. فاقتتلوا قتالا شديدا حتى عقرت الخيل و صرع الفرسان و قتلت الرجالة و جعلت الخوارج تقاتل عن القدح يؤخذ منها و السوط و العلف و الحشيش أشد قتال. و سقط رمح لرجل من مراد من الخوارج فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح و القتل و ذلك مع المغرب و المرادي يرتجز و يقول
الليل ليل فيه ويل ويل قد سال بالقوم الشراة السيل إن جاز للأعداء فينا قول شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 209فلما عظم الخطب في ذلك الرمح بعث المهلب إلى المغيرة خل لهم عن الرمح عليهم لعنة الله فخلوا لهم عنه و مضت الخوارج فنزلت على أربعة فراسخ من جيرفت فدخلها المهلب و أمر بجمع ما كان لهم من متاع و ما خلفوه من دقيق و جثم عليه و هو و اقفي و الأمينان ثم اتبعهم فوجدهم قد نزلوا على ماء و عين لا يشرب منها أحد إلا قوي يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها و هناك قرية فيها أهلها فغاداهم القتال و ضم الثقفي إلى ابنه يزيد و أحد الأمينين إلى المغيرة فاقتتل القوم إلى نصف النهار. و قال المهلب لأبي علقمة العبدي و كان شجاعا و كان عاتيا هازلا أمددنا يا أبا علقمة بخيل اليحمد و قل لهم فليعيرونا جماجمهم ساعة فقال أيها الأمير إن جماجمهم ليست بفخار فتعار و لا أعناقهم كرادي فتنبت. و قال لحبيب بن أوس كر على القوم فلم يفعل و قال
يقول لي الأمير بغير علم تقدم حين جد به المراس فما لي إن أطعتك من حياة و ما لي غير هذا الرأس رأسو قال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة احمل فقال لا إلا أن تزوجني ابنتك أم مالك فقال قد زوجتك فحمل على الخوارج فكشفهم و طعن فيهم و قال
ليت من يشتري الحياة بمال ملكة كان عندنا فيرانا

(5/175)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 210نصل الكر عند ذاك بطعن إن للموت عندنا ألوانقوله ملكة أي تزويجا و نكاحا. قال ثم جال الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج فالتفت المهلب فقال للمغيرة ابنه ما فعل الأمين الذي كان معك قال قتل و هرب الثقفي فقال ليزيد ما فعل عبيد بن أبي ربيعة قال لم أره منذ كانت الجولة فقال الأمين الآخر للمغيرة أنت قتلت صاحبي فلما كان العشي رجع الثقفي فقال رجل من بني عامر بن صعصعة
ما زلت يا ثقفي تخطب بيننا و تغمنا بوصية الحجاج حتى إذا ما الموت أقبل زاخرا و سقى لنا صرفا بغير مزاج وليت يا ثقفي غير مناظر تنساب بين أحزة و فجاج ليست مقارعة الكماة لدى الوغى شرب المدامة في إناء زجفقال المهلب للأمين الآخر ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل حتى تبيتوا عسكرهم فقال ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما فعلت بصاحبي فضحك المهلب و قال ذاك إليك و لم يكن للقوم خنادق فكان كل حذرا من صاحبه غير أن الطعام و العدة مع المهلب و هو في زهاء ثلاثين ألفا فلما أصبح أشرف على واد فإذا هو برجل معه رمح مكسور مخضوب بالدم و هو ينشد
و إني لأعفي ذا الخمار و صنعتي إذا راح أطواء بني الأصاغر

(5/176)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 211أخادعهم عنه ليغبق دونهم و أعلم غير الظن أني مغاوركأني و أبدان السلاح عشية يمر بنا في بطن فيحان طائفقال له أ تميمي أنت قال نعم قال أ حنظلي قال نعم قال أ يربوعي قال نعم قال أ من آل نويرة قال نعم أنا ولد مالك بن نويرة قال قد عرفتك بالشعر. قال أبو العباس و ذو الخمار فرس مالك بن نويرة. قال فمكثوا أياما يتحاربون و دوابهم مسرجة و لا خنادق لهم حتى ضعف الفريقان فلما كان الليلة التي قتل في صبيحتها عبد ربه جمع أصحابه فقال يا معشر المهاجرين إن قطريا و عبيدة هربا طلبا للبقاء و لا سبيل إلى البقاء فالقوا عدوكم غدا فإن غلبوكم على الحياة فلا يغلبنكم على الموت فتلقوا الرماح بنحوركم و السيوف بوجوهكم و هبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة. فلما أصبحوا غادوا المهلب فاقتتلوا قتالا شديدا أنسى ما كان قبله و قال رجل من الأزد من أصحاب المهلب من يبايعني على الموت فبايعه أربعون رجلا من الأزد فصرع بعضهم و قتل بعضهم و جرح بعضهم. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 212و قال عبد الله رزام الحارثي للمهلب احملوا فقال المهلب أعرابي مجنون و كان من أهل نجران فحمل وحده فاخترق القوم حتى خرج من ناحية أخرى ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى و تهايج الناس فترجلت الخوارج و عقروا دوابهم فناداهم عمرو القنا و لم يترجل هو و لا أصحابه و هم زهاء أربعمائة فقال موتوا على ظهور دوابكم كراما و لا تعقروها فقالوا إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار فاقتتلوا و نادى المهلب بأصحابه الأرض الأرض و قال لبنيه تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم و نادت الخوارج ألا إن العيال لمن غلب فصبر بنو المهلب و قاتل يزيد بين يدي أبيه قتالا شديدا أبلى فيه فقال له أبوه يا بني إني أرى موطنا لا ينجو فيه إلا من صبر و ما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب. و كسرت الخوارج أجفان سيوفها و تجاولوا فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقتولا. فهرب عمرو

(5/177)


القنا و أصحابه و استأمن قوم و أجلت الحرب عن أربعة آلاف قتيل و جريح من الخوارج و مأسور و أمر المهلب أن يدفع كل جريح إلى عشيرته و ظفر بعسكرهم فحوى ما فيه ثم انصرف إلى جيرفت فقال الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض و الدعة فما كان عيشنا ذلك العيش. ثم نظر المهلب إلى قوم في عسكره و لم يعرفهم فقال ما أشد عادة السلاح ناولني درعي فلبسها ثم قال خذوا هؤلاء فلما صيرهم إليه قال ما أنتم قالوا جئنا لنطلب غرتك للفتك بك فأمر بهم فقتلوا
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 213طرف من أخبار المهلب و بينهو وجه كعب بن معدان الأشقري و مرة بن بليد الأزدي فوردا على الحجاج فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده
يا حفص إني عداني عنكم السفر

(5/178)


فقال الحجاج أ شاعر أم خطيب قال شاعر فأنشده القصيدة فأقبل عليه الحجاج و قال خبرني عن بني المهلب قال المغيرة سيدهم و فارسهم و كفى بيزيد فارسا شجاعا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 214و جوادهم و سخيهم قبيصة و لا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك و عبد الملك سم ناقع و حب موت ذعاف و محمد ليث غاب و كفاك بالفضل نجدة فقال له فكيف خلفت جماعة الناس قال خلفتهم بخير قد أدركوا ما أملوا و أمنوا ما خافوا قال فكيف كان بنو المهلب فيهم قال كانوا حماة السرح فإذا أليلوا ففرسان البيات قال فأيهم كان أنجد قال كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها قال فكيف كنتم أنتم و عدوكم قال كنا إذا أخذنا عفونا و إذا أخذوا يئسنا منهم و إذا اجتهدنا و اجتهدوا طمعنا فيهم قال الحجاج إن العاقبة للمتقين فكيف أفلتكم قطري قال كدناه و ظن أن قد كادنا بأن صرنا منه إلى التي نحب قال فهلا اتبعتموه قال كان حرب الحاضر آثر عندنا من اتباع الفل قال فكيف كان المهلب لكم و كنتم له قال كان لنا منه شفقة الوالد و له منا بر الولد قال فكيف كان اغتباط الناس به قال نشأ فيهم الأمن و شملهم النفل قال أ كنت أعددت لي هذا الجواب قال لا يعلم الغيب إلا الله قال هكذا و الله تكون الرجال المهلب كان أعلم بذلك حيث بعثك. هذه رواية أبي العباس. و روى أبو الفرج في الأغاني أن كعبا لما أوفده المهلب إلى الحجاج أنشده قصيدته التي أولها شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 21يا حفص إني عداني عنكم السفر و قد سهرت و آذى عيني السهر
يذكر فيها حروب المهلب مع الخوارج و يصف وقائعه فيهم في بلد و هي طويلة و من جملتها

(5/179)


كنا نهون قبل اليوم شأنهم حتى تفاقم أمر كان يحتقرلما وهنا و قد حلوا بساحتنا و استنفر الناس تارات فما نفروانادى امرؤ لا خلاف في عشيرته عنه و ليس به عن مثله قصرخبوا كمينهم بالسفح إذ نزلوا بكازرون فما عزوا و لا نصرواباتت كتائبنا تردي مسمومة حول المهلب حتى نور القمرهناك ولوا خزايا بعد ما هزموا و حال دونهم الأنهار و الجدرتأبى علينا حزازات النفوس فما نبقي عليهم و لا يبقون إن قدروا
فضحك الحجاج و قال إنك لمنصف يا كعب ثم قال له كيف كانت حالكم مع عدوكم قال كنا إذا لقيناهم بعفونا و عفوهم يئسنا منهم و إذا لقيناهم بجدنا وجدهم طمعنا فيهم قال فكيف كان بنو المهلب قال حماة الحريم نهارا و فرسان الليل تيقظا قال فأين السماع من العيان قال السماع دون العيان قال شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 216صفهم لي رجلا رجلا قال المغيرة فارسهم و سيدهم نار ذاكية و صعدة عالية و كفى بيزيد فارسا شجاعا ليث غاب و بحر جم العباب و جوادهم قبيصة ليث المغار و حامي الذمار و لا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك و كيف لا يفر من مدرك ويف لا يفر من الموت الحاضر و الأسد الخادر و عبد الملك سم ناقع و سيف قاطع و حبيب الموت الذعاف طود شامخ و بحر باذح و أبو عيينة البطل الهمام و السيف الحسام و كفاك بالمفضل نجدة ليث هدار و بحر مواز و محمد ليث غاب و حسام ضراب قال فأيهم أفضل قال هم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها قال فكيف جماعة الناس قال على أحسن حال أرضاهم العدل و أغناهم النفل قال فكيف رضاهم بالمهلب قال أحسن رضا لا يعدمون منه إشفاق الوالد و لا يعدم منهم بر الولد و ذكر تمام الحديث. و قال إن الحجاج أمر له بعشرين ألف درهم و حمله على فرس و أوفده على عبد الملك فأمر له بعشرين ألفا أخرى. قال أبو الفرج و كعب الأشقري من شعراء المهلب و مادحيه و هو شاعر مجيد قال عبد الملك بن مروان للشعراء تشبهونني مرة بالأسد و مرة بالبازي ألا قلتم كما قال كعب الأشقري

(5/180)


للمهلب و ولده
براك الله حين براك بحرا و فجر منك أنهارا غزارا
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 217بنوك السابقون إلى المعالي إذا ما أعظم الناس الخطاراكأنهم نجوم حول بدر تكمل إذ تكمل فاستداراملوك ينزلون بكل ثغر إذا ما الهام يوم الروع طارارزان في الخطوب ترى عليهم من الشيخ الشمائل و النجارانجوم يهتدى بهم إذا ما أخو الغمرات فالظلماء حارا
قال أبو الفرج و هذا الشعر من قصيدة لكعب يمدح بها المهلب و يذكر الخوارج و منها
سلوا أهل الأباطح من قريش عن المجد المؤثل أين صارا
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 218لقوم الأزد في الغمرات أمضى و أوفى ذمة و أعز جاراهم قادوا الجياد على وجاها من الأمصار يقذفن المهاراإلى كرمان يحملن المنايا بكل ثنية يوقدن ناراشوازب ما أصبنا الثار حتى رددناها مكلمة مراراغداة تركن مصرع عبد رب نثرن عليه من رهج اراو يوم الزحف بالأهواز ظلنا نروي منهم الأسل الحرارافقرت أعين كانت حزينا قليلا نومها إلا غراراو لو لا الشيخ بالمصرين ينفي عدوهم لقد نزلوا الدياراو لكن قارع الأبطال حتى أصابوا الأمن و احتلوا القرارا

(5/181)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 219إذا وهنوا و حل بهم عظيم يدق العظم كان لهم جباراو مبهمة يحيد الناس عنها تشب الموت شد لها إزاراشهاب تنجلي الظلماء عنه يرى في كل مظلمة منارابراك الله حين براك بحرا و فجر منك أنهارا غزارالأبيات المتقدمة. قال أبو الفرج و حدثني محمد بن خلف وكيع بإسناد ذكره أن الحجاج لما كتب إلى المهلب يأمره بمناجزة الخوارج حينئذ و يستبطئه و يضعفه و يعجزه من تأخيره أمرهم و مطاولته لهم قال المهلب لرسوله قل له إنما البلاء أن يكون الأمر لمن يملكه لا لمن يعرفه فإن كنت نصبتني لحرب هؤلاء القوم على أن أدبرها كما أرى فإذا أمكنتني فرصة انتهزتها و إن لم تمكني توقفت فأنا أدبر ذلك بما يصلحه و إن أردت أن أعمل برأيك و أنا حاضر و أنت غائب فإن كان صوابا فلك و إن كان خطأ فعلي فابعث من رأيت مكاني و كتب من فوره بذلك إلى عبد الملك فكتب عبد الملك إلى الحجاج لا تعارض المهلب فيما يراه و لا تعجله و دعه يدبر أمره. قال و قام كعب الأشقري إلى المهلب فأنشده بحضرة رسول الحجاج
إن ابن يوسف غره من أمركم خفض المقام بجانب الأمصارلو شهد الصفين حيث تلاقيا ضاقت عليه رحيبة الأقطارمن أرض سابور الجنود و خيلنا مثل القداح بريتها بشفار
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 220من كل صنديد يرى بلبانه وقع الظبات مع القنا الخطارلرأى معاودة الرباع غنيمة أزمان كان محالف الإقتارفدع الحروب لشيبها و شبابها و عليك كل غريرة معطافبلغت أبياته الحجاج فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الأشقري إليه فأعلم المهلب كعبا بذلك و أوفده إلى عبد الملك من ليلته و كتب إليه يستوهبه منه فقدم كعب على عبد الملك برسالة المهلب فاستنطقه فأعجبه و أوفده إلى الحجاج و كتب إليه يقسم عليه أن يصفح و يعفو عما بلغه من شعره فلما دخل قال إيه يا كعب
لرأي معاودة الرباع غنيمة

(5/182)


فقال أيها الأمير و الله لوددت في بعض ما شاهدته من تلك الحروب و ما أوردناه المهلب من خطرها أن أنجو منها و أكون حجاما أو حائكا قال أولى لك لو لا قسم أمير المؤمنين ما نفعك ما تقول الحق بصاحبك و رده إلى المهلب. قال أبو العباس و كان كتاب المهلب إلى الحجاج الذي بشره فيه بالظفر و النصر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الكافي بالإسلام فقد ما سواه الحاكم بألا ينقطع المزيد من فضله حتى ينقطع الشكر من عباده أما بعد شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 221فقد كان من أمرنا ما قد بلغك و كنا نحن و عدونا على حالين مختلفين يسرنا منهمكثر مما يسوءنا و يسوءهم منا أكثر مما يسرهم على اشتداد شوكتهم فقد كان علا أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة و نوم به الرضيع فانتهزت الفرصة منهم في وقت إمكانها و أدنيت السواد من السواد حتى تعارفت الوجوه فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين. فكتب إليه الحجاج أما بعد فقد فعل الله بالمسلمين خيرا و أراحهم من بأس الجلاد و ثقل الجهاد و لقد كنت أعلم بما قبلك فالحمد لله رب العالمين فإذا ورد عليك كتابي فأقسم في المجاهدين فيئهم و نفل الناس على قدر بلائهم و فضل من رأيت تفضيله و إن كانت بقيت من القوم بقية فخلف خيلا تقوم بإزائهم و استعمل على كرمان من رأيت و ول الخيل شهما من ولدك و لا ترخص لأحد في اللحاق بمنزلة دون أن تقدم بهم علي و عجل القدوم إن شاء الله. فولى المهلب يزيد ابنه كرمان و قال له يا بني إنك اليوم لست كما كنت إنما لك من كرمان ما فضل عن الحجاج و لن تحتمل إلا على ما احتمل عليه أبوك فأحسن إلى من تبعك و إن أنكرت من إنسان شيئا فوجه إلي و تفضل على قومك إن شاء الله. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 222ثم قدم المهلب على الحجاج فأجلسه إلى جانبه و أظهر بره و إكرامه و قال يا أهل العراق أن عبيد قن للمهلب ثم قال أنت و الله كما لقيط

(5/183)


فقلدوا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعالا يطعم النوم إلا ريث يبعثه هم يكاد حشاه يقصم الضلعالا مترفا إن رخاء العيش ساعده و لا إذا عض مكروه به خشعاما زال يحلب هذا الدهر أشطره يكون متبعا طورا و متبعاحتى استمرت على شرر مريرته مستحكم الرأي لا قحما و لا ضرعا
و روى أنه قام إليه رجل فقال أصلح الله الأمير و الله لكأني أسمع الساعة قطريا و هو يقول لأصحابه المهلب و الله كما قال لقيط الأيادي ثم أنشد هذا الشعر فسر الحجاج حتى امتلأ سرورا فقال المهلب أما و الله ما كنا أشد من عدونا و لا أحد و لكن دمغ الحق الباطل و قهرت الجماعة الفتنة و العاقبة للمتقين و كان ما كرهناه من المطاولة خيرا لنا مما أحببناه من المعاجلة. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 223فقال الحجاج صدقت اذكر لي القوم الذين أبلوا و صف لي بلاءهم فأمر الناس فكتبوا ذلك إلى الحجاج فقال لهم المهلب ما ذخر الله لكم خير لكم عاجل الدنيا إن شاء الله فذكرهم المهلب على مراتبهم في البلاء و تفاضلهم في الغناء و قدم بنيه المغيرة و يزيد و مدركا و حبيبا و قبيصة و المفضل و عبد الملك و محمدا و قال و الله لو واحد يقدمهم في البلاء لقدمته عليهم و لو لا أن أظلمهم لآخرتهم فقال الحجاج صدقت و ما أنت أعلم بهم مني و إن حضرت و غبت إنهم لسيوف من سيوف الله ثم ذكر معن بن المغيرة و الرقاد و أشباههما. فقال الحجاج من الرقاد فدخل رجل طويل أجنأ فقال المهلب هذا فارس العرب فقال الرقاد للحجاج أيها الأمير إني كنت أقاتل مع غير المهلب فكنت كبعض الناس فلما صرت مع من يلزمني الصبر و يجعلني أسوة نفسه و ولده و يجازيني على البلاء صرت أنا و أصحابي فرسانا. فأمر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم و زاد ولد المهلب ألفين ألفين و فعل بالرقاد و بجماعة شبيها بذلك. و قال يزيد بن حبناء من الأزارقة

(5/184)


دعي اللوم إن العيش ليس بدائم و لا تعجلي باللوم يا أم عاصم فإن عجلت منك الملامة فاسمعي مقالة معني بحقك عالم و لا تعذلينا في الهدية إنما تكون الهدايا من فضول المغان شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 224و ليس بمهد من يكون نهاره جلادا و يمسي ليله غير نائم يريد ثواب الله يوما بطعنه غموس كشدق العنبري بن سالم أبيت و سربالي دلاص حصينة و مغفرها و السيف فوق الحيازم حلفت برب الواقفين عشية لدى عرفات حلفة غير آثم لقد كان في القوم لقيتهم بسابور شغل عن بزوز اللطائم توقد في أيديهم زاعبية و مرهفة تفري شئون الجماجمو قال المغيرة الحنظلي من أصحاب المهلب
إني امرؤ كفني ربي و أكرمني عن الأمور التي في غبها وخم و إنما أنا إنسان أعيش كما عاشت رجال و عاشت قبلها أمم ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا عي بما صنعوا حولي و لا صمم و لو أردت قفولا ما تجهمني إذن الأمير و لا الكتاب إذ رقمواإن المهلب إن أشتق لرؤيته أو أمه فإن الناس قد علمواأنه الأريب الذي ترجى نوافله و المستنير الذي تجلى به الظلم و القائل الفاعل الميمون طائره أبو سعيد إذا ما عدت النعم أزمان كرمان إذ غص الحديد بهم و إذ تمنى رجال أنهم هزمو شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 225و قال حبيب بن عوف من قواد المهلبأبا سعيد جزاك الله صالحة فقد كفيت و لم تعنف على أحدداويت بالحلم أهل الجهل فانقمعوا و كنت كالوالد الحاني على الولد
و قال عبيدة بن هلال الخارجي يذكر رجلا من أصحابه
يهوي فترفعه الرماح كأنه شلو تنشب في مخالب ضاريهوي صريعا و الرماح تنوشه إن الشراة قصيرة الأعمار
شبيب بن يزيد الشيباني

(5/185)


و منهم شبيب بن يزيد الشيباني و كان في ابتداء أمره يصحب صالح بن مسرح أحد الخوارج الصفرية و كان ناسكا مصفر الوجه صاحب عبادة و له أصحاب يقرئهم القرآن و يفقههم و يقص عليهم و يقدم الكوفة فيقيم بها الشهر و الشهرين و كان بأرض الموصل و الجزيرة و كان إذا فرغ من التحميد و الصلاة على النبي ص ذكر أبا بكر فأثنى عليه و ثنى بعمر ثم ذكر عثمان و ما كان من أحداثه ثم عليا ع و تحكيمه الرجال في دين الله و يتبرأ من عثمان و علي ثم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 226يدعو إلى مجاهدة أئمة الضلال و قال تيسروا يا إخواني للخروج من دار الفن إلى دار البقاء و اللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة و لا تجزعوا من القتل في الله فإن القتل أيسر من الموت و الموت نازل بكم مفرق بينكم و بين آبائكم و إخوانكم و أبنائكم و حلائلكم و دنياكم و إن اشتد لذلك جزعكم ألا فبيعوا أنفسكم طائعين و أموالكم تدخلوا الجنة و أشباه هذا من الكلام. و كان فيمن يحضره من أهل الكوفة سويد و البطين فقال يوما لأصحابه ما ذا تنتظرون ما يزيد أئمة الجور إلا عتوا و علوا و تباعدا من الحق و جراءة على الرب فراسلوا إخوانكم حتى يأتوكم و ننظر في أمورنا ما نحن صانعون و أي وقت إن خرجنا نحن خارجون. فبينا هو كذلك إذ أتاه المحلل بن وائل بكتاب من شبيب بن يزيد و قد كتب إلى صالح أما بعد فقد أردت الشخوص و قد كنت دعوتني إلى أمر أستجيب لك فإن كان ذلك من شأنك فإنك شيخ المسلمين و لم يعدل بك منا أحد و إن أردت تأخير ذلك أعلمني فإن الآجال غادية و رائحة و لا آمن أن تخترمني المنية و لما أجاهد الظالمين فيا له غبنا و يا له فضلا جعلنا الله و إياكم ممن يريد الله بعلمه و رضوانه و النظر إلى وجهه و مرافقة الصالحين في دار السلام و السلام عليك.

(5/186)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 227فأجابه صالح بجواب جميل يقول فيه إنه لم يمنعني من الخروج مع ما أنا فيه من الاستعداد إلا انتظارك فأقدم علينا ثم اخرج بنا فإنك ممن لا تقضى الأمور دونه و السلام عليك. فلما ورد كتابه على شبيب دعا القراء من أصحابه فجمعهم إليه منهمخوه مصاد بن يزيد و المحلل بن وائل و الصقر بن حاتم و إبراهيم بن حجر و جماعة مثلهم ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح و هو بدارات أرض الموصل فبث صالح رسله و واعدهم بالخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست و تسعين. فاجتمع بعضهم إلى بعض و اجتمعوا عنده تلك الليلة فحدث فروة بن لقيط قال إني لمعهم تلك الليلة عند صالح و كان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المكر و الفساد في الأرض فقمت إليه فقلت يا أمير المؤمنين كيف ترى السيرة في هؤلاء الظلمة أ نقتلهم قبل الدعاء أم ندعوهم قبل القتال فإني أخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني بذلك إنا نخرج على قوم طاغين قد تركوا أمر الله أو راضين بذلك فأرى أن نضع السيف فقال لا بل ندعوهم و لعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك و ليقاتلنك من يزري عليك و الدعاء أقطع لحجتهم و أبلغ في الحجة عليهم لك فقلت شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 228و كيف ترى فيمن قاتلنا فظنا به و ما تقول في دمائهم و أموالهم فقال إن قتلنا و غنمنا فلنا و إن تجاوزنا و عفونا فموسع علينا. ثم قال صالح لأصحابه ليلته تلك اتقوا الله عباد الله و لا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلا أن يكونوا قوما يريدونكم و ينصبون لكم فإنكم إنما خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه و عصي في الأرض و سفكت الدماء بغير حقها و أخذت الأموال غصبا فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملونها فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسئولون و إن عظمكم رجالة و هذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق و ابدءوا بها فاحملوا عليها راجلكم و تقووا بها على عدوكم. ففعلوا ذلك و تحصن منهم أهل دارا. و بلغ خبرهم محمد بن مروان و

(5/187)


هو يومئذ أمير الجزيرة فاستخف بأمرهم و بعث إليهم عدي بن عميرة في خمسمائة و كان صالح في مائة و عشرة فقال عدي أصلح الله شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 229الأمير تبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين س و معه رجال سموا لي كانوا يعازوننا و إن الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة فقال له إني أزيدك خمسمائة فسر إليهم في ألف فارس. فسار من حران في ألف رجل و كأنما يساقون إلى الموت و كان عدي رجلا ناسكا فلما نزل دوغان نزل بالناس و أنفذ إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه فقال إن عديا بعثني إليك يسألك أن تخرج عن هذا البلد و تأتي بلدا آخر فتقاتل أهله فإني للقتال كاره فقال له صالح ارجع إليه فقل له إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف ثم نحن مدلجون عنك و إن كنت على رأي الجبابرة و أئمة السوء رأينا رأينا فإما بدأنا بك و إلا رحلنا إلى غيرك. فانصرف إليه الرسول فأبلغه فقال له عدي ارجع إليه فقل له إني و الله لا أرى رأيك و لكني أكره قتالك و قتال غيرك من المسلمين. فقال صالح لأصحابه اركبوا فركبوا و احتبس الرجل عنده و مضى بأصحابه حتى أتى عديا في سوق دوغان و هو قائم يصلي الضحى فلم يشعر إلا بالخيل طالعة عليهم فلما دنا صالح منهم رآهم على غير تعبئة و قد تنادوا و بعضهم يجول في بعض فأمر شبيبا فحمل عليهم في كتيبة ثم أمر سويدا فحمل في كتيبة فكانت هزيمتهم

(5/188)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 230و أتى عدي بدابته فركبها و مضى على وجهه و احتوى صالح على عسكره و ما فيه و ذهب فل عدي حتى لحقوا بمحمد بن مروان فغضب ثم دعا بخالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف و خمسمائة و دعا الحارث بن جعونة في ألف و خمسمائة و قال لهما اخرجا إلى ه الخارجة القليلة الخبيثة و عجلا الخروج و أغذا السير فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه فخرجا و أغذا في السير و جعلا يسألان عن صالح فقيل لهما توجه نحو آمد فاتبعاه حتى انتهيا إليه بأمد فنزلا ليلا و خندقا و هما متساندان كل واحد منهما على حدته فوجه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة في شطر أصحابه و توجه هو نحو خالد السلمي فاقتتلوا أشد قتال اقتتله قوم حتى حجز بينهم الليل و قد انتصف بعضهم من بعض. فتحدث بعض أصحاب صالح قال كنا إذا حملنا عليهم استقبلنا رجالهم بالرماح و نضحنا رماتهم بالنبل و خيلهم تطاردنا في خلال ذلك فانصرفنا عند الليل و قد كرهناهم و كرهونا فلما رجعنا و صلينا و تروحنا و أكلنا من الكسر دعانا صالح و قال يا أخلائي ما ذا ترون فقال شبيب إنا إن قاتلنا هؤلاء القوم و هم معتصمون بخندقهم لم ننل منهم طائلا و الرأي أن نرحل عنهم فقال صالح و أنا أرى ذلك فخرجوا من تحت ليلتهم حتى قطعوا أرض الجزيرة و أرض الموصل و مضوا حتى قطعوا أرض الدسكرة فلما بلغ ذلك الحجاج سرح عليهم الحارث بن عميرة في ثلاثة آلاف شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 231فسار و خرج صالح نحو جلولاء و خانقين و اتبعه الحارث حتى انتهى إلى قرية يقال لها المدبج و صالح يومئفي تسعين رجلا فعبى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنة و ميسرة و جعل صالح أصحابه ثلاثة كراديس و هو في كردوس و شبيب في ميمنة في كردوس و سويد بن سليم في كردوس في ميسرته في كل كردوس منهم ثلاثون رجلا فلما شد عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سليم و ثبت صالح فقتل و ضارب شبيب حتى صرع عن فرسه فوقع بين رجاله فجاء حتى انتهى إلى موقف

(5/189)


صالح فوجده قتيلا فنادى إلى يا معشر المسلمين فلاذوا به فقال لأصحابه ليجعل كل رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه و ليطاعن عدوه إذا قدم عليه حتى ندخل هذا الحصن و نرى رأينا. ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن و هم سبعون رجلا مع شبيب و أحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا و قال لأصحابه أحرقوا الباب فإذا صار جمرا فدعوه فإنهم لا يقدرون على الخروج حتى نصبح فنقتلهم ففعلوا ذلك بالباب ثم انصرفوا إلى معسكرهم. فقال شبيب لأصحابه يا هؤلاء ما تنتظرون فو الله إن صبحوكم غدوة إنه لهلاككم فقالوا له مرنا بأمرك فقال لهم إن الليل أخفى للويل بايعوني إن شئتم أو بايعوا من شئتم منكم ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم فإنهم آمنون منكم و إني أرجو أن ينصركم الله عليهم قالوا ابسط يدك فبايعوه فلما جاءوا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 232إلى البابجدوه جمرا فأتوه باللبود فبلوها بالماء ثم ألقوها عليه و خرجوا فلم يشعر الحارث بن عميرة إلا و شبيب و أصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم فضارب الحارث حتى صرع و احتمله أصحابه و انهزموا و خلوا لهم المعسكر و ما فيه و مضوا حتى نزلوا المدائن و كان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب
دخول شبيب الكوفة و أمره مع الحجاج

(5/190)


ثم ارتفع في أداني أرض الموصل ثم ارتفع إلى نحو آذربيجان يجبي الخراج و كان سفيان بن أبي العالية قد أمر أن يحارب صاحب طبرستان فأمر بالقفول نحو شبيب و أن يصالح صاحب طبرستان فصالحه فأقبل في ألف فارس و قد ورد عليه كتاب من الحجاج. أما بعد فأقم بالدسكرة فيمن معك حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة قاتل صالح بن مسرح ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه. ففعل سفيان ذلك و نزل إلى الدسكرة حتى أتوه و خرج مرتحلا في طلب شبيب فارتفع شبيب عنهم كأنه يكره قتالهم و لقاءهم و قد أكمن لهم أخاه مصادا في خمسين رجلا في هضم من الأرض فلما رأوا شبيبا جمع أصحابه و مضى في سفح من الجبل شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 233مشرقا قالوا هرب عدو الله و اتبعوه فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني أيها الناس لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض و نستبرئها فإن يكونوا أكمنوا كمينا حذرناه و إلا كان طلبهم بين أيدينا لن يفوتنا فلم معوا منه فأسرعوا في آثارهم. فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين عطف عليهم فحمل من أمامهم و خرج الكمين من ورائهم فلم يقاتل أحد و إنما كانت الهزيمة و ثبت سفيان بن أبي العالية في مائتي رجل فقاتل قتالا شديدا حتى انتصف من شبيب فقال سويد بن سليم لأصحابه أ منكم أحد يعرف أمير القوم ابن أبي العالية فقال له شبيب أنا من أعرف الناس به أ ما ترى صاحب الفرس الأغر الذي دونه المرامية فإنه هو فإن كنت تريده فأمهله قليلا. ثم قال يا قعنب اخرج في عشرين فأتهم من ورائهم فخرج قعنب في عشرين فارتفع عليهم فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا ينتقصون و يتسللون و حمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية يطاعنه فلم تصنع رماحهما شيئا ثم اضطربا بسيفهما ثم اعتنق كل واحد منهما صاحبه فوقعا إلى الأرض يعتركان ثم تحاجزا و حمل عليهم شبيب فانكشف من كان مع سفيان و نزل غلام له يقال له غزوان عن برذونه و قال لسفيان اركب يا مولاي فركب سفيان و أحاط به أصحاب شبيب

(5/191)


فقاتل دونه غزوان حتى قتل و كان معه رايته و أقبل سفيان منهزما حتى انتهى شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 234إلى بابل مهروذ فنزل بها و كتب إلى الحجاج و كان الحجاج أمر سورة بن أبجر أن يلحق بسفيان فكاتسورة سفيان و قال له انتظرني فلم يفعل و عجل نحو الخوارج فلما عرف الحجاج خبر سفيان و قرأ كتابه قال للناس من صنع كما صنع هذا و أبلى كما أبلى فقد أحسن ثم كتب إليه يعذره و يقول إذا خف عليك الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلك و كتب إلى سورة بن أبجر. أما بعد يا ابن أم سورة فما كنت خليقا أن تجترئ على ترك عهدي و خذلان جندي فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا إلى المدائن فلينتخب من جندها خمسمائة رجل ثم ليقدم بهم عليك ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة و احزم أمرك و كد عدوك فإن أفضل أمر الحروب حسن المكيدة و السلام. فلما أتى سورة كتاب الحجاج بعث عدي بن عمير إلى المدائن و كان بها ألف فارس فانتخب منهم خمسمائة ثم رحل بهم حتى قدم على سورة ببابل مهروذ

(5/192)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 235فخرج بهم في طلب شبيب و خرج شبيب يجول في جوخى و سورة في طلبه فجاء شبيب إلى المدائن فتحصن منه أهلها فانتهب المدائن الأولى و أصاب دواب من دواب الجند و قتل من ظهر له و لم يدخل البيوت ثم أتى فقيل له هذا سورة قد أقبل إليك فخرج في حابه حتى انتهى إلى النهروان فنزلوا به و توضئوا و صلوا ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب فاستغفروا لهم و تبرءوا من علي و أصحابه و بكوا فأطالوا البكاء ثم عبروا جسر النهروان فنزلوا جانبه الشرقي و جاء سورة حتى نزل بنفطرانا و جاءته عيونه فأخبروه بمنزل شبيب بالنهروان فدعا سورة رءوس أصحابه فقال لهم إن الخوارج قلما يلقون في صحراء أو على ظهر إلا انتصفوا و قد حدثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل و قد رأيت أن انتخبكم و أسير في ثلاثمائة رجل منكم من أقويائكم و شجعانكم فأبيتهم فإنهم آيسون من بياتكم و إني و الله أرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم في النهروان من قبل فقالوا اصنع ما أحببت. فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة و انتخب ثلاثمائة من شجعان أصحابه ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان و بات و قد أذكى الحرس ثم بيتهم فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم فاستووا على خيولهم و تعبوا تعبيتهم فلما انتهى إليهم سورة و أصحابه أصابوهم و قد نذروا فحمل عليهم سورة فصاح شبيب بأصحابه فحمل عليهم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 236حتى تركوا له العرصة و حمل شبيب و جعل يضرب و يقولمن ينك العير ينك نياكا

(5/193)


فرجع سورة مفلولا قد هزم فرسانه و أهل القوة من أصحابه و أقبل نحو المدائن و تبعه شبيب حتى انتهى سورة إلى بيوت المدائن و انتهى شبيب إليهم و قد دخل الناس البيوت و خرج ابن أبي عصيفير و هو أمير المدائن يومئذ في جماعة فلقيهم في شوارع المدائن و رماهم الناس بالنبل و الحجارة من فوق البيوت. ثم سار شبيب إلى تكريت فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف الناس فقالوا هذا شبيب قد أقبل يريد أن يبيت أهل المدائن فارتحل عامة الجند فلحقوا بالكوفة و إن شبيبا بتكريت فلما أتى الحجاج الخبر قال قبح الله سورة ضيع العسكر و خرج يبيت الخوارج و الله لأسوءنه. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 237ثم دعا الحجاج بالجزل و هو عثمان بن سعيد فقال له تيسر للخروج إلى هذه المارقة فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق النزق و لا تحجم إحجام الواني الفرق أ فهمت قال نعم أصلح الله الأمير قد فهمت قال فاخرج و عسكر بدير عبد رحمن حتى يخرج الناس إليك فقال أصلح الله الأمير لا تبعث معي أحدا من الجند المهزوم المفلول فإن الرعب قد دخل قلوبهم و قد خشيت ألا ينفعك و المسلمين منهم أحد قال ذلك لك و لا أراك إلا قد أحسنت الرأي و وفقت ثم دعا أصحاب الدواوين فقال اضربوا على الناس البعث و أخرجوا أربعة آلاف من الناس و عجلوا فجمعت العرفاء و جلس أصحاب الدواوين و ضربوا البعث فأخرجوا أربعة آلاف فأمرهم باللحاق بالعسكر ثم نودي فيهم بالرحيل فارتحلوا و نادى منادي الحجاج أن برئت الذمة من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلفا. فمضى بهم الجزل و قد قدم بين يديه عياض بن أبي لينة الكندي على مقدمته فخرج حتى أتى المدائن فأقام بها ثلاثا ثم خرج و بعث إليه ابن أبي عصيفير بفرس و برذون و ألفي درهم و وضع للناس من الحطب و العلف ما كفاهم ثلاثة أيام و أصاب الناس ما شاءوا من ذلك. ثم إن الجزل خرج بالناس أثر شبيب فطلبه في أرض جوخى فجعل شبيب يريه الهيبة فيخرج من رستاق إلى رستاق و من طسوج إلى

(5/194)


طسوج و لا يقيم له شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 238يريد بذلك أن يفرق الجزل أصحابه و يتعجل إليه فيلقاه في عدد يسير على غير تعبئة فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبئة و لا ينزل إلا خندق على نفسه و أصحابفلما طال ذلك على شبيب دعا يوما أصحابه و هم مائة و ستون رجلا هو في أربعين و مصاد أخوه في أربعين و سويد بن سليم في أربعين و المحلل بن وائل في أربعين و قد أتته عيونه فأخبرته أن الجزل بن سعيد قد نزل ببئر سعيد فقال لأخيه و للأمراء الذين ذكرناهم إني أريد أن أبيت الليلة هذا العسكر فأتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان و سآتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة و ائتهم أنت يا سويد من قبل المشرق و ائتهم أنت يا محلل من قبل المغرب و ليلج كل امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه و لا تقلعوا عنهم حتى يأتيكم أمري. قال فروة بن لقيط و كنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه فقال لجماعتنا تيسروا و ليسر كل امرئ منكم مع أميره و لينظر ما يأمره به أميره فليتبعه فلما قضمت دوابنا و ذلك أول ما هدأت العيون خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرارة فإذا القوم عليهم مسلحة ابن أبي لينة فما هو إلا أن رآهم مصاد أخو شبيب حتى حمل عليهم في أربعين رجلا و كان شبيب أراد أن يرتفع عليهم حتى يأتيهم من ورائهم كما أمره.

(5/195)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 239فلما لقي هؤلاء قاتلهم فصبروا له ساعة و قاتلوه ثم إنا دفعنا إليهم جميعا فهزمناهم و أخذوا الطريق الأعظم و ليس بينهم و بين عسكرهم بدير يزدجرد إلا نحو ميل فقال لنا شبيب اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استتم فاتبعناهم ملظين بهم ملحين عليهم ما نرفه عنهم و هم منهزمون ما لهم همة إلا عسكرهم. فمنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم و رشقوهم بالنبل و كانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا و كان الجزل قد خندق عليهم و تحرز و وضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الخرارة و وضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان. فلما اجتمعت المسالح و رشقوهم بالنبل و منعونا من خندقهم رأى شبيب أنه لا يصل إليهم فقال لأصحابه سيروا و دعوهم فلما سار عنهم أخذ على طريق حلوان حتى كان منهم على سبعة أميال قال لأصحابه انزلوا فاقضموا دوابكم و قيلوا و تروحوا فصلوا ركعتين ثم اركبوا ففعلوا ذلك ثم أقبل بهم راجعا إلى عسكر الكوفة و قال سيروا على تعبيتكم التي عبأتكم عليها أول الليل و أطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم فأقبلنا معه و قد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم و أمنوا فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر الخيل فانتهينا إليهم قبيل الصبح و أحطنا بعسكرهم و صحنا بهم من كل ناحية فقاتلونا و رمونا بالنبل فقال شبيب لأخيه مصاد و كان يقاتلهم من الجانب شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 240الذي يلي الكوفة خل لهم سبيل ]طريق[ الكوفة فخلى لهم و قاتلناهم من تلك الوجوه الثلاثة الأخرى إلى الصبح ثم سرنا و تركناهلأنا لم نظفر بهم فلما سار شبيب سار الجزل في أثره يطلبه و جعل لا يسير إلا على تعبية و ترتيب و لا ينزل إلا على خندق و أما شبيب فضرب في أرض جوخى و ترك الجزل فطال أمره على الحجاج فكتب إلى الجزل كتابا قرئ على الناس و هو أما بعد فإني بعثتك في فرسان أهل المصر و وجوه الناس و أمرتك باتباع هذه المارقة و ألا تقلع عنها حتى تقتلها و

(5/196)


تفنيها فجعلت التعريس في القرى و التخييم في الخنادق أهون عليك من المضي لمناهضتهم و مناجزتهم و السلام. قال فشق كتاب الحجاج على الجزل و أرجف الناس بأمره و قالوا سيعزله فما لبث الناس أن بعث الحجاج سعيد بن المجالد أميرا بدله و عهد إليه إذا لقي المارقة أن يزحف إليهم و لا يناظرهم و لا يطاولهم و لا يصنع صنع الجزل و كان الجزل يومئذ قد انتهى في طلب شبيب إلى النهروان و قد لزم عسكره و خندق عليهم فجاء سعيد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا فقام فيهم خطيبا فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا أهل الكوفة إنكم قد عجزتم و وهنتم و أغضبتم عليكم أميركم أنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين قد أخربوا بلادكم و كسروا خراجكم و أنتمم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 241حذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم و نزلوا بلدا سوى بلدكم اخرجوا على اسم الله إليهم. ثم خرج و خرج الناس معه فقال له الجزل ما تريد أن تصنع قال أقدم على شبيب و أصحابه في هذه الخيل فقال له جزل أقم أنت في جماعة الناس فارسهم و راجلهم و لا تفرق أصحابك و دعني أصحر له فإن ذلك خير لك و شر لهم. فقال سعيد بل تقف أنت في الصف و أنا أصحر له فقال الجزل إني بري ء من رأيك هذا سمع الله و من حضر من المسلمين فقال سعيد هو رأيي إن أصبت فيه فالله وفقني و إن أخأت فيه فأنتم برآء. فوقف الجزل في صف أهل الكوفة و قد أخرجهم من الخندق و جعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي و على ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الراسبي و وقف الجزل في جماعتهم و استقدم سعيد بن مجالد فخرج و أخرج الناس معه و قد أخذ شبيب إلى براز الروز فنزل قطفتا و أمر دهقانها أن يشوي لهم غنما و يعد لهم غداء ففعل و أغلق مدينة قطفتا و لم يفرغ

(5/197)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 242الدهقان من طعامه حتى أحاط بها ابن مجالد فصعد الدهقان ثم نزل و قد تغير لونه فقال شبيب ما بالك قال قد جاءك جمع عظيم قال أ بلغ شواؤك قال لا قال دعه يبلغ ثم أشرف الدهقان إشرافة أخرى ثم نزل فقال قد أحاطوا بالجوسق قال هات شواءك فج يأكل غير مكترث بهم و لا فزع فلما فرغ قال لأصحابه قوموا إلى الصلاة و قام فتوضأ فصلى بأصحابه صلاة الأولى و لبس درعه و تقلد سيفه و أخذ عموده الحديد ثم قال أسرجوا لي بغلتي فقال أخوه أ في مثل هذا اليوم تركب بغلة قال نعم أسرجوها فركبها ثم قال يا فلان أنت على الميمنة و أنت يا فلان على الميسرة و أنت يا مصاد يعني أخاه على القلب و أمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم. فخرج إليهم و هو يحكم و حمل حملة عظيمة فجعل سعيد و أصحابه يرجعون القهقرى حتى صار بينهم و بين الدير ميل و شبيب يصيح أتاكم الموت الزؤام فاثبتوا و سعيد يصيح يا معشر همدان إلي إلي أنا ابن ذي مران فقال شبيب لمصاد ويحك استعرضهم استعراضا فإنهم قد تقطعوا و إني حامل على أميرهم و أثكلنيك الله إن لم أثكله ولده ثم حمل على سعيد فعلاه بالعمود فسقط ميتا و انهزم أصحابه و لم يقتل يومئذ من الخوارج إلا رجل واحد. و انتهى قتل سعيد إلى الجزل فناداهم أيها الناس إلي إلي و صاح عياض بن أبي لينة أيها الناس إن يكن أميركم هذا القادم هلك فهذا أميركم الميمون النقيبة أقبلوا إليه فمنهم من أقبل إليه و منهم من ركب فرسه منهزما و قاتل الجزل يومئذ قتالا شديدا حتى صرع و حامى عنه خالد بن نهيك و عياض بن أبي لينة حتى استنقذاه شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 243مرتثا و أقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة و أتي بالجزل جريحا حتى دخل المدائن فكتب إلى الحجاج أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني فيه إلى عدوه و قد كنت حفظت ع الأمير إلي فيهم و رأيه فكنت أخرج إلى المارقين إذا رأيت الفرصة و

(5/198)


أحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة فلم أزل كذلك أدير الأمر و أرفق في التدبير و قد أرادني العدو بكل مكيدة فلم يصب مني غرة حتى قدم علي سعيد بن مجالد فأمرته بالتؤدة و نهيته عن العجلة و أمرته ألا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني و تعجل إليهم في الخيل فأشهدت الله عليه و أهل المصرين إني بري ء من رأيه الذي رأى و إني لا أهوى الذي صنع فمضى فقتل تجاوز الله عنه و دفع الناس إلي فنزلت و دعوتهم إلى نفسي و رفعت رايتي و قاتلت حتى صرعت فحملني أصحابي من بينالقتلى فما أفقت إلا و أنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة و أنا اليوم بالمدائن و في جراحات قد يموت الإنسان من دونها و قد يعافى من مثلها فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له و لجنده و عن مكايدتي عدوه و عن موقفي يوم البأس فإنه سيبين له عند ذلك أني صدقته و نصحت له و السلام. فكتب إليه الحجاج

(5/199)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 244أما بعد فقد أتاني كتابك و قرأته و فهمت كل ما ذكرته فيه من أمر سعيد و أمر نفسك و قد صدقتك في نصيحتك لأميرك و حيطتك على أهل مصرك و شدتك على عدوك و قد رضيت عجلة سعيد و تؤدتك فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة و أما تؤدتك فإنها لم تدع الفرصة إذا أمكنت حزم و قد أحسنت و أصبت و أجرت و أنت عندي من أهل السمع و الطاعة و النصيحة و قد أشخصت إليك حيان بن أبجر الطبيب ليداويك و يعالج جراحاتك و قد بعثت إليك بألفي درهم نفقة تصرفها في حاجتك و ما ينوبك و السلام. و بعث عبد الله بن أبي عصيفير والي المدائن إلى الجزل بألف درهم و كان يعوده و يتعاهده بالألطاف و الهدايا. و أما شبيب فأقبل حتى قطع دجلة عند الكرخ و أخذ بأصحابه نحو الكوفة و بلغ الحجاج مكانه بحمام أعين فبعث إليه سويد بن عبد الرحمن السعدي فجهزه بألفي فارس منتخبين و قال له اخرج إلى شبيب فالقه و لا تتبعه فخرج بالناس بالسبخة و بلغه أن شبيبا قد أقبل فسار نحوه كأنما يساق إلى الموت هو و أصحابه و أمر الحجاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس في السبخة و نادى ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة و لم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة فبينا سويد بن عبد الرحمن يسير في الألفين الذين معه و هو يعبيهم و يحرضهم إذ قيل له شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 245قد غشيك شبيب فنزل و نزل معه جل أصحابه و قدم رايته فأخبر أن شبيبا لما علم بمكانه تركه و وجد مخاضة فعبر الفرات يريد الكوفة من غير الوجه الذي سويد بن عبد الرن به ثم قيل أ ما تراهم فنادى في أصحابه فركبوا في آثارهم فأتى شبيب دار الرزق فنزلها و قيل له إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون فلما بلغهم مكان شبيب ماج الناس بعضهم إلى بعض و جالوا و هموا بدخول الكوفة حتى قيل هذا سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم و هو يقاتلهم في الخيل و مضى شبيب حتى أخذ على شاطئ الفرات ثم أخذ على الأنبار ثم

(5/200)


دخل دقوقاء ثم ارتفع إلى أداني آذربيجان. و خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة حيث بعد شبيب و استخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة فما شعر الناس إلا بكتاب من مادارست دهقان بابل مهروز إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أن تاجرا من تجار الأنبار من أهل بلادي شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 246أتاني يذكر أن شبيبا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل و أحببت إعلامك ذلك لترى رأيك و إني لم ألبث بعد ذلك إذ جاءني اثنان من جيراني فحدثاني أن شبيبا قد نزخانيجار. فأخذ عروة كتابه فأدرجه و سرح به إلى الحجاج إلى البصرة فلما قرأ الحجاج أقبل جادا إلى الكوفة و أقبل شبيب يسير حتى انتهى إلى قرية حربى على شاطئ دجلة فعبرها و قال لأصحابه يا هؤلاء إن الحجاج ليس بالكوفة و ليس دون أخذها شي ء إن شاء الله فسيروا بنا فخرجيبادر الحجاج إلى الكوفة و كتب عروة إلى الحجاج إن شبيبا قد أقبل مسرعا يريد الكوفة فالعجل العجل. فطوى الحجاج المنازل مسابقا لشبيب إلى الكوفة فسبقه و نزلها صلاة العصر و نزل شبيب السبخة صلاة العشاء الآخرة فأصاب هو و أصحابه من الطعام شيئا يسيرا ثم ركبوا خيولهم فدخل شبيب الكوفة في أصحابه حتى انتهى إلى السوق و شد حتى ضرب باب القصر بعموده فحدث جماعة أنهم رأوا أثر ضربة شبيب بالعمود بباب القصر ثم أقبل حتى وقف عند باب المصطبة و أنشد شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 24و كأن حافرها بكل ثنية فرق يكيل به شحيح معدم

(5/201)


ثم أقحم هو و أصحابه المسجد الجامع و لا يفارقه قوم يصلون فيه فقتل منهم جماعة و مر هو بدار حوشب و كان هو على شرطة الحجاج فوقف على بابه في جماعة فقالوا إن الأمير يعنون الحجاج يدعو حوشبا و قد أخرج ميمون غلامه برذونه ليركب فكأنه أنكرهم فظنوا أنه قد اتهمهم فأراد أن يدخل إلى صاحبه فقالوا له كما أنت حتى يخرج صاحبك إليك فسمع حوشب الكلام فأنكر القوم و ذهب لينصرف فعجلوا نحوه فأغلق الباب دونه فقتلوا غلامه ميمونا و أخذوا برذونه و مضوا حتى مروا بالجحاف بن نبيط الشيباني من رهط حوشب فقال له سويد انزل إلينا فقال ما تصنع بنزولي فقال انزل إني لم أقضك ثمن البكرة التي ابتعتها منك بالبادية فقال الجحاف بئس ساعة القضاء هذه و بئس المكان لقضاء الدين هذا ويحك أ ما ذكرت أداء أمانتك إلا و الليل مظلم و أنت على متن فرسك قبح الله يا سويد دينا لا يصلح و لا يتم إلا بقتل الأنفس و سفك الدماء ثم مروا بمسجد بني ذهل فلقوا ذهل بن الحارث و كان يصلي في مسجد قومه فيطيل الصلاة إلى الليل فصادفوه منصرفا إلى منزله فقتلوه ثم خرجوا متوجهين نحو الردمة و أمر الحجاج المنادي يا خيل الله اركبي و أبشري و هو فوق باب القصر و هناك مصباح مع غلام له قائم. شرح نهج الاغة ج : 4 ص : 248و كان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن و معه مواليه و ناس من أهله و قال أعلموا الأمير مكاني أنا عثمان بن قطن فليأمرني بأمره فناداه الغلام صاحب المصباح قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير و جاء الناس من كل جانب و بات عثمان مكانه فيمن اجتمع إليه من الناس حتى أصبح. و قد كان عبد الملك بن مروان بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان و كتب له عهده عليها و كتب إلى الحجاج إذا قدم عليك محمد بن موسى الكوفة فجهز معه ألفي رجل و عجل سراحه إلى سجستان. فلما قدم الكوفة جعل يتجهز فقال له أصحابه و نصحاؤه تعجل أيها الرجل إلى عملك فإنك لا تدري ما يحدث و عرض أمر شبيب حينئذ و دخوله

(5/202)


الكوفة فقيل للحجاج إن محمد بن موسى إن سار إلى سجستان مع نجدته و صهره لأمير المؤمنين عبد الملك فلجأ إليه أحد ممن تطلبه منعك منه قال فما الحيلة قالوا أن تذكر له أن شبيبا في طريقه و قد أعياك و أنك ترجو أن يريح الله منه على يده فيكون له ذكر ذلك و شهرته. فكتب إليه الحجاج إنك عامل على كل بلد مررت به و هذا شبيب في طريقك تجاهده و من معه و لك أجره و ذكره و صيته ثم تمضي إلى عملك فاستجاب له. و بعث الحجاج بشر بن غالب الأسدي في ألفي رجل و زياد بن قدامة في ألفين و أبا الضريس مولى تميم في ألف من الموالي و أعين صاحب حمام أعين مولى لبشر بن مروان في ألف و جماعة غيرهم فاجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات و ترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة هؤلاء القواد و أخذ نحو القادسية فوجه الحجاج زحر بن قيس شرح نهج البلاغة ج : 4 ص :49في جريدة خيل نقاوة عدتها ألف و ثمانمائة فارس و قال له اتبع شبيبا حتى تواقعه حيثما أدركته فخرج زحر بن قيس حتى انتهى إلى السيلحين و بلغ شبيبا مسيره إليه فأقبل نحوه فالتقيا و قد جعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز و كان شجاعا و على ميسرته عدي بن عدي بن عميرة الكندي و جمع شبيب خيله كلها كبكبة واحدة ثم اعترض بها الصف يوجف وجيفا حتى انتهى إلى زحر بن قيس فنزل زحر فقاتل حتى صرع و انهزم أصحابه و ظن أنه قد قتل. فلما كان الليل و أصابه البرد قام يمشي حتى دخل قرية فبات بها و حمل منها إلى الكوفة و بوجهه أربع عشرة ضربة فمكث أياما ثم أتى الحجاج و على وجهه و جراحه القطن فأجلسه معه على السرير و قال أصحاب شبيب لشبيب

(5/203)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 250و هم يظنون أنهم قد قتلوا زحرا قد هزمنا جندهم و قتلنا أميرا من أمرائهم عظيما فانصرف بنا الآن موفورين فقال لهم إن قتلكم هذا الرجل و هزيمتكم هذا الجند قد أرعب هؤلاء الأمراء فاقصدوا بنا قصدهم فو الله لئن نحن قتلناهم ما دون قتل اجاج و أخذ الكوفة شي ء فقالوا له نحن طوع لأمرك و رأيك فانقض بهم جادا حتى أتى ناحية عين التمر و استخبر عن القوم فعرف اجتماعهم في روذبار في أسفل الفرات على رأس أربعة و عشرين فرسخا من الكوفة. و بلغ الحجاج مسير شبيب إليهم فبعث إليهم إن جمعكم قتال فأمير الناس زئدة بن قدامة. فانتهى إليهم شبيب و فيهم سبعة أمراء على جماعتهم زائدة بن قدامة و قد عبى كل أمير أصحابه على حدة و هو واقف في أصحابه فأشرف شبيب على الناس و هو على فرس أغر كميت فنظر إلى تعبيتهم ثم رجع إلى أصحابه و أقبل في ثلاث كتائب يزحف بها حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 251فوقفت بإزاء ميمنة زائدة بن قدامة و فيها زياد بن عمرو العتكي و مضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب فوقفت بإزاء الميسرة و فيها بشر بن غالب الأسدي و جاء شبيب في كتيبة حتى وقف مقابل القوم في القلب فخرج زائ بن قدامة يسير في الناس بين الميمنة و الميسرة يحرض الناس و يقول عباد الله إنكم الطيبون الكثيرون و قد نزل بكم الخبيثون القليلون فاصبروا جعلت لكم الفداء إنما هي حملتان أو ثلاث ثم هو النصر ليس دونه شي ء أ لا ترونهم و الله لا يكونون مائتي رجل إنما هم أكلة رأسو هم السراق المراق إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم و يأخذوا فيئكم فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه و هم قليل و أنتم كثير و هم أهل فرقة و أنتم أهل جماعة غضوا الأبصار و استقبلوهم بالأسنة و لا تحملوا عليهم حتى آمركم. ثم انصرف إلى موقفه فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو العتكي فكشف صفه و ثبت زياد قليلا ثم ارتفع سويد عنهم

(5/204)


يسيرا ثم كر عليهم ثانية. فقال فروة بن لقيط الخارجي اطعنا ذلك اليوم ساعة فصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا و قاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا و لقد رأيت سويد بن سليم يومئذ و إنه لأشد العرب قتالا و أشجعهم و هو واقف لا يعرض لهم ثم ارتفعنا عنهم فإذا هم يتقوضون فقال بعض أصحابنا لبعض أ لا ترونهم يتقوضون احملوا عليهم فأرسل إلينا شبيب خلوهم لا تحملوا عليهم حتى يخفوا فتركناهم قليلا ثم حملنا عليهم الثالثة فانهزموا فنظرت إلى زياد بن عمرو و إنه ليضرب بالسيوف و ما من سيف يضرب به شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 252إلا نبا عنه و لقد اعتوره أكثر من عشرين سيفا و هو مجفف فما ضره شي ء منها ثم انهزم. و انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة أمير سجستان عند المغرب و هو قائم في أصحابه فقاتلناه قتالا شديدا و صبر لنا. ثم إن مصاحمل على بشر بن غالب في الميسرة فصبر و كرم و أبلى و نزل معه رجال من أهل البصرة نحو خمسين فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا ثم انهزم أصحابه فشددنا على أبي الضريس فهزمناه ثم انتهينا إلى موقف أعين ثم شددنا على أعين فهزمناهم حتى انتهينا إلى زائدة بن قدامة فلما انتهوا إليه نزل و نادى يا أهل الإسلام الأرض الأرض ألا لا يكونون على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم فقاتلوا عامة الليل إلى السحر. ثم إن شبيبا شد على زائدة بن قدامة في جماعة من أصحابه فقتله و قتل ربضة حوله من أهل الحفاظ و نادى شبيب في أصحابه ارفعوا السيف و ادعوهم إلى البيعة فدعوهم عند الفجر إلى البيعة. قال عبد الرحمن بن جندب فكنت فيمن تقدم فبايعه بالخلافة و هو واقف على

(5/205)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 253فرس أغر كميت و خيله واقفة دونه و كل من جاء ليبايعه ينزع سيفه عن عاتقه و يؤخذ سلاحه ثم يدنو من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين ثم يبايع فإنا كذلك إذ أضاء الفجر و محمد بن موسى بن طلحة في أقصى العسكر مع أصحابه و كان الحجاج قد جعموقفه آخر الناس و زائدة بن قدامة بين يديه و مقام محمد بن موسى مقام الأمير على الجماعة كلها فأمر محمد مؤذنه فأذن فلما سمع شبيب الأذان قال ما هذا قيل هذا ابن طلحة لم يبرح قال ظننت أن حمقه و خيلاءه سيحملانه على هذا نحوا هؤلاء عنا و انزلوا بنا فلنصل فنزل و أذن هو ثم استقدم فصلى بأصحابه و قرأ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ و أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ثم سلم و ركب و أرسل إلى محمد بن موسى بن طلحة إنك امرؤ مخدوع قد اتقى بك الحجاج المنية و أنت لي جار بالكوفة و لك حق فانطلق لما أمرت به و لك الله ألا أسوءك فأبى محاربته فأعاد عليه الرسول فأبى إلا قتاله فقال له شبيب كأني بأصحابك لو التقت حلقتا البطان قد أسلموك و صرعت مصرع أمثالك فأطعني و انصرف شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 254لشأنك فإني أنفس بك عن القتل فأبى و خرج بنفسه و دعا إلى البراز فبرز له البطين ثم قب بن سويد و هو يأبى إلا شبيبا فقالوا لشبيب إنه قد رغب عنا إليك قال فما ظنكم بمن يرغب عن الأشراف ثم برز له و قال له أنشدك الله يا محمد في دمك فإن لك جوارا فأبى إلا قتاله فحمل عليه بعموده الحديد و كان فيه اثنا عشر رطلا فهشم رأسه و بيضة كانت عليه فقتله و نزل إليه فكفنه و دفنه و تتبع ما غنم الخوارج من عسكره فبعث به إلى أهله و اعتذر إلى أصحابه و قال هو جاري بالكوفة و لي أن أهب ما غنمت فقال له أصحابه ما دون الكوفة الآن أحد يمنعك فنظر فإذا أصحابه قد فشا فيهم الجراح فقال ليس عليكم أكثر مما قد فعلتم. و خرج بهم على نفر ثم خرج بهم نحو بغداد يطلب خانيجار و بلغ الحجاج أن شبيبا قد أخذ

(5/206)


نحو نفر فظن أنه يريد المدائن و هي باب الكوفة و من أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر فهال ذلك الحجاج و بعث إلى عثمان بن قطن فسرحه إلى المدائن و ولاه منبرها و الصلاة و معونة جوخى كلها و خراج الأستان فجاء مسرعا حتى نزل المدائن و عزل الحجاج ابن أبي عصيفير عن المدائن و كان الجزل مقيما بها يداوي جراحاته و كان ابن أبي عصيفير يعوده و يكرمه و يلطفه فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده و لا يلطفه بشي ء فكان الجزل يقول اللهم زد ابن أبي عصيفر فضلا و كرما و زد عثمان بن قطن ضيقا و بخلا. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 255ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال له انتخب الناس فأخرج ستمائة من قومه من كندة و أخرج من سائر الناس ستة آلاف و استحثه الحجاج على الشخوص فخرج بعسكره بدير عبد الرحمن ما استتموا هناك كتب إليهم الحجاج كتابا قرئ عليهم. أما بعد فقد اعتدتم عادة الأذلاء و وليتم الدبر يوم الزحف دأب الكافرين و قد صفحت عنكم مرة بعد مرة و تارة بعد أخرى و إني أقسم بالله قسما صادقا لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا يكون أشد عليكم من هذا العدو الذي تنهزمون منه في بطون الأودية و الشعاب و تستترون منه بأثناء الأنهار و الواد الجبال فليخف من كان له معقول على نفسه و لا يجعل عليها سبيلا فقد أعذر من أنذر و السلام. و ارتحل عبد الرحمن بالناس حتى مر بالمدائن فنزل بها يوما ليشتري أصحابه منها حوائجهم ثم نادى في الناس بالرحيل و أقبل حتى دخل على عثمان بن قطن مودعا ثم أتى الجزل عائدا فسأله عن جراحته و حادثه فقال الجزل يا ابن عم إنك تسير إلى فرسان العرب و أبناء الحرب و أحلاس الخيل و الله لكأنما خلقوا من ضلوعها ثم ربوا على ظهورها ثم هم أسد الأجم الفارس منهم أشد من مائة إن لم يبدأ به

(5/207)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 256بدأ هو و إن هجهج أقدم و إني قد قاتلتهم و بلوتهم فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني و كان لهم الفضل علي و إذا خندقت أو قاتلت في مضيق نلت منهم ما أحب و كانت لي عليهم فلا تلقهم و أنت تستطيع إلا و أنت في تعبية أو خندق ثم ودعه و قال له ه فرسي الفسيفساء خذها فيها لا تجارى فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب فلما دنا منه ارتفع شبيب عنه إلى دقوقاء و شهرزور فخرج عبد الرحمن في طلبه حتى إذا كان على تخوم تلك الأرض أقام و قال إنما هو في أرض الموصل فليقاتل أمير الموصل و أهلها عن بلادهم أو فليدعوا. و بلغ ذلك الحجاج فكتب إليه أما بعد فاطلب شبيبا و اسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه عن الأرض فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين و الجند جنده و السلام. فلما قرأ عبد الرحمن كتاب الحجاج خرج في طلب شبيب فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه ليبيته فيجده قد خندق و حذر فيمضي و يتركه فيتبعه عبد الرحمن فإذا بلغ شبيبا أنه قد تحمل و سار يطلبه كر في الخيل نحوه فإذا انتهى إليه وجده قد صف خيله و رجالته المرامية فلا يصيب له غرة و لا غفلة فيمضي و يدعه. و لما رأى شبيب أنه لا يصيب غرته و لا يصل إليه صار يخرج كلما دنا منه عبد الرحمن حتى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا ثم يقيم في أرض غليظة وعرة فيجي ء عبد الرحمن في ثقله و خيله حتى إذا دنا من شبيب ارتحل فسار عشرين أو خمسة عشر فرسخا فنزل منزلا غليظا خشنا ثم يقيم حتى يبلغ عبد الرحمن ذلك المنزل ثم يرتحل فعذب العسكر و شق عليهم و أحفى دوبهم و لقوا منه كل بلاء. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 257فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى صار إلى خانقين و جلولاء ثم أقبل على تامرا فصار إلى البت و نزل على تخوم الموصل ليس بينه و بين الكوفة إلا نهر حولايا و جاء عبد الرحمن حتى نزل بشرقي حولايا و هم في راذان الأعلمن أرض جوخى و نزل في عواقيل من النهر و نزلها عبد الرحمن حيث نزلها و

(5/208)


هي تعجبه يرى أنها مثل الخندق الحصين. فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن أن هذه الأيام أيام عيد لنا و لكم فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فعلتم فأجابه عبد الرحمن إلى ذلك و لم يكن شي ء أحبإلى عبد الرحمن من المطاولة و الموادعة فكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلها عليه خندقا واحدا و خلى شبيبا و كسر خراجها فهو يأكل أهلها و السلام. فكتب إليه الحجاج قد فهمت ما ذكرت و قد لعمري فعل عبد الرحمن فسر إلى الناس فأنت أميرهم و عاجل المارقة حتى تلقاهم فإن الله إن شاء ناصرك عليهم و السلام. و بعث الحجاج على المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة و خرج عثمان حتى قدم على

(5/209)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 258عبد الرحمن و من معه و هم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البت و ذلك يوم التروية عشاء فنادى في الناس و هو على تلعة أيها الناس اخرجوا إلى عدوكم فوثبوا إليه و قالوا ننشدك الله هذا المساء قد غشينا و الناس لم يوطنوا أنفسهم على الال فبت الليلة ثم اخرج على تعبية فجعل يقول لأناجزنهم الليلة و لتكونن الفرصة لي أو لهم فأتاه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخذ بعنان بغلته و ناشده الله لما نزل و قال له عقيل بن شداد السلوني إن الذي تريده من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدا و هو خير لك و للناس إن هذه ساعة ريح قد اشتدت مساء فانزل ثم أبكر بنا غدوة. فنزل و سفت عليه الريح و شق عليه الغبار فاستدعى صاحب الخراج علوجا فبنوا له قبة فبات فيها ثم أصبح فخرج بالناس فاستقبلتهم ريح شديدة و غبرة فصاح الناس إليه و قالوا ننشدك الله ألا تخرج بنا في هذا اليوم فإن الريح علينا فأقام ذلك اليوم. و كان شبيب يخرج إليهم فلما رآهم لا يخرجون إليه أقام فلما كان الغد خرج عثمان يعبئ الناس على أرباعهم و سألهم من كان على ميمنتكم و ميسرتكم فقالوا خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا و عقيل بن شداد السلوني على ميمنتنا فدعاهما و قال لهما قفا في مواقفكما التي كنتما بها فقد وليتكما المجنبتين فاثبتا و لا تفرا فو الله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن أصولها فقالا نحن و الله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل فقال لهما جزاكما الله خيرا ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة ثم خرج بالخيل فنزل يمشي في الرجال و خرج شبيب و معه يومئذ مائة و أحد و ثمانون رجلا فقطع إليهم النهر و كان هو في ميمنة أصحابه و جعل على الميسرة سويد بن سليم و جعل في القلب مصادا أخاه و زحفوا و كان عثمان بن قطن يقول لأصحابه فيكثر قل لن شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 259ينفعكم ارار إن فررتم من الموت أو القتل و إذا لا تمتعون إلا قليلا. ثم قال

(5/210)


شبيب لأصحابه إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم و لا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري ثم حمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا و نزل عقيل بن شداد مع طائفة من أهل الحفاظ فقاتل حتى قتل و قتلوا معه. و دخل شبيب عسكرهم و حمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها و عليها خالد بن نهيك الكندي فنزل خالد و قاتل قتالا شديدا فحمل عليه شبيب من ورائه فلم ينثن حتى علاه بالسيف فقتله و مشى عثمان بن قطن و قد نزلت معه العرفاء و الفرسان و أشراف الناس نحو القلب و فيه أخو شبيب في نحو من ستين رجلا فلما دنا منهم عثمان شد عليهم في الأشراف و أهل الصبر فضربهم مصاد و أصحابه حتى فرقوا بينهم و حمل شبيب من ورائهم بالخيل فما شعروا إلا و الرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم و عطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله و قاتل عثمان فأحسن القتال. ثم إن الخوارج شدوا عليهم فأحاطوا بعثمان و حمل عليه مصاد أخو شبيب فضربه ضربة بالسيف فاستدار لها و سقط و قال و كان أمر الله قدرا مقدورا فقتل و قتل معه العرفاء و وجوه الناس و قتل من كندة يومئذ مائة و عشرون رجلا و قتل من سائر الناس نحو ألف و وقع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى الأرض فعرفه شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 260ابن أبي سبرة فنزل و أركبه و صار رديفا له و قال له عبد الرحمن ناد في الناس ألحقوا بدير ابن أبي مريم فنادى بذلك و انطلقا ذاهبين و أمر شبيب أصحابه فرفعوا عن الناس السيف و دعاهم إلى البيعة فأتاه من بقي من الرجال فبايعوه و بات عبالرحمن بدير اليعار فأتاه فارسان ليلا فخلا به أحدهما يناجيه طويلا و قام الآخر قريبا منهما ثم مضيا و لم يعرفا فتحدث الناس أن المناجي له كان شبيبا و أن الذي كان يرقبهما كان مصادا أخاه و اتهم عبد الرحمن بمكاتبة شبيب من قبل. ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل فسار حتى أتى

(5/211)


دير ابن أبي مريم فإذا هو بالناس قبله قد سبقوه و قد وضع لهم ابن أبي سبرة صبر الشعير و ألقت كأنها القصور و نحر لهم من الجزور ما شاءوا و اجتمع الناس إلى عبد الرحمن فقالوا له إن علم شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة قد تفرق الناس عنك و قتل خيارهم فالحق أيها الرجل بالكوفة. فخرج و خرج معه الناس حتى دخل الكوفة مستترا من الحجاج إلى أن أخذ له الأمان بعد ذلك. ثم إن شبيبا اشتد عليه الحر و على أصحابه فأتى ماه بهراذان فصيف بها ثلاثة أشهر و أتاه ناس ممن كان يطلب الدنيا و الغنيمة كثير و لحق به ناس ممن كان يطلبهم شرح نه البلاغة ج : 4 ص : 261الحجاج بمال و تبعة فمنهم رجل يقال له الحر بن عبد الله بن عوف كان قتل دهقانين من أهل نهر درقيط كانا أساءا إليه و لحق بشبيب حتى شهد معه مواطنه إلى أن هلك و له مقام عند الحجاج و كلام سلم به من القتل و هو أن الحجاج بعد هلاك شبيب أمن كل م خرج إليه ممن كان يطلبهم الحجاج بمال أو تبعة فخرج إليه الحر فيمن خرج فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج فأحضره و قال يا عدو الله قتلت رجلين من أهل الخراج فقال قد كان أصلحك الله مني ما هو أعظم من هذا قال و ما هو قال خروجي عن الطاعة و فراقي الجماعة ثم إنك أمنت كل من خرج عليك و هذا أماني و كتابك لي. فقال الحجاج قد لعمري فعلت ذلك أولى لك و خلى سبيله. ثم لما باخ الحر و سكن عن شبيب خرج من ماه نهروان في نحو من ثمانمائة رجل فأقبل نحو المدائن و عليها المطرف بن المغيرة بن شعبة فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان فكتب ماذراسب و هو عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج يخبره خبر شبيب و قدومه إلى قناطر حذيفة فقام الحجاج في الناس و خطبهم و قال أيها الناس لتقاتلن عن بلادكم و فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع و أسمع و أصبر على البلاء منكم فيقاتلون عدوكم و يأكلون فيئكم يعني جند الشام. فقام إليه الناس من كل جانب يقولون بل نحن نقاتلهم و نغيث الأمير

(5/212)


ليندبنا إليهم فإنا حيث يسره. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 262و قام إليه زهرة بن حوية و هو يومئذ شيخ كبير لا يستتم قائما حتى يؤخذ بيده فقال أصلح الله الأمير إنك إنما تبعث الناس متقطعين فاستنفر إهم الناس كافة و ابعث عليهم رجلا متينا شجاعا مجربا يرى الفرار هضما و عارا و الصبر مجدا و كرما فقال الحجاج فأنت ذاك فاخرج. فقال أصلح الله الأمير إنما يصلح لهذا الموقف رجل يحمل الرمح و الدرع و يهز السيف و يثبت على متن الفرس و أنا لا أطيق ذلك قد ضعفت و ضعف بصرى و لكن ابعثني مع أمير تعتمده فأكون في عسكره و أشير عليه برأيي. فقال جزاك الله عن الإسلام و الطاعة خيرا لقد نصحت و صدقت و أنا مخرج الناس كافة ألا فسيروا أيها الناس. فانصرف الناس يتجهزون و ينتشرون و لا يدرون من أميرهم. و كتب الحجاج إلى عبد الملك أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن شبيبا قد شارف المدائن و إنما يريد الكوفة و قد عجز أهل العراق عن قتاله في مواطن كثيرة في كلها تقتل أمراؤهم و يفل خيولهم و أجنادهم فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلي جندا من جند الشام ليقاتلوا عدوهم و يأكلوا بلادهم فعل إن شاء الله. فلما أتى عبد الملك كتابه بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف و بعث إليه حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين و سرحهم نحوه حين أتاه الكتاب.

(5/213)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 263و قد كان الحجاج بعث إلى عتاب بن ورقاء الرياحي ليأتيه و كان على خيل الكوفة مع المهلب و دعا الحجاج أشراف أهل الكوفة منهم زهرة بن حوية و قبيصة بن والق فقال من ترون أن أبعث على هذا الجيش قالوا رأيك أيها الأمير أفضل قال إني قد بع إلى عتاب بن ورقاء و هو قادم عليكم الليلة فيكون هو الذي يسير بالناس فقال زهرة بن حوية أصلح الله الأمير رميتهم بحجرهم لا و الله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل. فقال قبيصة بن والق و إني مشير عليك أيها الأمير برأي اجتهدته نصيحة لك و لأمير المؤمنين و لعامة المسلمين إن الناس قد تحدثوا أن جيشا قد وصل إليك من الشام لأن أهل الكوفة قد هزموا و هان عليهم الفرار و العار من الهزيمة فكأنما قلوبهم في صدور قوم آخرين فإن رأيت أن تبعث إلى الجيش الذي قد أمددت به من أهل الشام فليأخذوا حذرهم و لا يثبتوا بمنزل إلا و هم يرون أنهم يبيتون فعلت فإن فعلت فإنك إنما تحارب حولا قلبا محلالا مظعانا إن شبيبا بينا هو في أرض إذا هو في أخرى و لا آمن أن يأتيهم و هم غارون فإن يهلكوا يهلك العراق كله. فقال الحجاج لله أبوك ما أحسن ما رأيت و ما أصح ما أشرت به فبعث إلى الجيش الوارد عليه من الشام كتابا قرءوه و قد نزلوا هيت و هو أما بعد فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات و الأنبار و خذوا على عين التمر حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله. فأقبل القوم سراعا و قدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجاج إنه فيها قادم فأمره الحجاج فخرج بالناس و عسكر بحمام أعين و أقبل شبيب حتى انتهى شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 264إلى كلواذا فقطع منها دجلة و أقبل حتى نزل بهرسير و صار بينه و بين مطرف بن المغيرة بن شعبة جسر دجلة فقطع مطرف الجسر و رأى رأيا صالحا كاد به شبيبا حتى حبسه عن وجهه و ذلك أنه بعث إليه أن ابعث إلي رجالا من فقهاء حابك و قرائهم و أظهر له أنه يريد أن يدارسهم القرآن و ينظر فيما

(5/214)


يدعون إليه فإن وجد حقا اتبعه فبعث إليه شبيب رجالا فيهم قعنب و سويد و المحلل و وصاهم ألا يدخلوا السفينة حتى يرجع رسوله من عند مطرف و أرسل إلى مطرف أن ابعث إلي من أصحابك و وجوه فرسانك بعدة أصحابي ليكونوا رهنا في يدي حتى ترد على أصحابي فقال مطرف لرسوله القه و قل له كيف آمنك الآن على أصحابي إذ أبعثهم إليك و أنت لا تأمنني على أصحابك فأبلغه الرسول فقال قل له قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا و أنتم قوم غدر تستحلون الغدر و تفعلونه فبعث إليه مطرف جماعة من وجوه أصحابه فلما صاروا في يد شبيب سرح إليه أصحابه فعبروا إليه في السفينة فأتوه فمكثوا أربعة أيام يتناظرون و لم يتفقوا على شي ء فلما تبين لشبيب أن مطرفا كاده و أنه غير متابع له تعبى للمسير و جمع إليه أصحابه و قال لهم إن هذا الثقفي قطعني عن رأيي منذ أرعة أيام و ذلك أني هممت أن أخرج في جريدة من الخيل حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام و أرجو أن أصادف غرتهم قبل أن يحذروا و كنت ألقاهم منقطعين عن المصر ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه و لا لهم مصر كالكوفة يعتصمون به و قد جاءني عيون أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر فهم الآن قد شارفوا الكوفة و جاءني أيضا عيون من نحو عتاب أنه نزل بحمام أعين بجماعة أهل الكوفة و أهل البصرة فما أقرب ما بيننا و بينهم فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب.

(5/215)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 265و كان عتاب حينئذ قد أخرج معه خمسين ألفا من المقاتلة و هددهم الحجاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة و توعدهم و عرض شبيب أصحابه بالمدائن فكانوا ألف رجل فخطبهم و قال يا معشر المسلمين إن الله عز و جل كان ينصركم و أنتم مائة و مائتان و يوم فأنتم مئون و مئون ألا و إني مصل الظهر ثم سائر بكم إن شاء الله. فصلى الظهر ثم نادى في الناس فتخلف عنه بعضهم. قال فروة بن لقيط فلما جاز ساباط و نزلنا معه قص علينا و ذكرنا بأيام الله و زهدنا في الدنيا و رغبنا في الآخرة ثم أذن مؤذنه فصلى بنا العصر ثم أقبل حتى أشرف على عتاب بن ورقاء فلما رأى جيش عتاب نزل من ساعته و أمر مؤذنه فأذن ثم تقدم فصلى بأصحابه صلاة المغرب و خرج عتاب بالناس كلهم فعبأهم و كان قد خندق على نفسه مذ يوم نزل. و جعل على ميمنته محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني قال له يا ابن أخي إنك شريف فاصبر و صابر فقال أما أنا فو الله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان. و قال لقبيصة بن والق التغلبي اكفني الميسرة فقال أنا شيخ كبير غايتي أن أثبت تحت رايتي أ ما تراني لا أستطيع القيام إلا أن أقام و أخي نعيم بن عليم ذو غناء فابعثه على الميسرة فبعثه عليها و بعث حنظلة بن الحارث الرياحي ابن عمه و شيخ شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 266أهل بيته على الرجالة و بعث معه ثلاثة صفوف صف فيه الرجالة و معهم السيوف و صف هم أصحاب الرماح و صف فيه المرامية. ثم سار عتاب بين الميمنة و الميسرة يمر بأهل راية راية فيحرض من تحتها على الصبر ون كلامه يومئذ إن أعظم الناس نصيبا من الجنة الشهداء و ليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي أ لا ترون عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه لا يرى ذلك إلا قربة لهم فهم شرار أهل الأرض و كلاب أهل النار فلم يجبه أحد فقال أين القصاص يقصون على الناس و يحرضونهم فلم يتكلم أحد فقال أين من يروي شعر عنترة فيحرك الناس فلم يجبه أحد و لا رد عليه

(5/216)


كلمة فقال لا حول و لا قوة إلا بالله و الله لكأني بكم و قد تفرقتم عن عتاب و تركتموه تسفي في استه الريح ثم أقبل حتى جلس في القلب و معه زهرة بن حوية و عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. و أقبل شبيب في ستمائة و قد تخلف عنه من الناس أربعمائة فقال إنه لم يتخلف عني إلا من لا أحب أن أراه معي فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة و بعث المحلل بن وائل في مائتين إلى القلب و مضى هو في مائتين إلى الميمنة و ذلك بين المغرب و العشاء الآخرة حين أضاء القمر فناداهم لمن هذه الرايات قالوا رايات همدان. فقال رايات طالما نصرت الحق و طالما نصرت الباطل لها في كل نصيب أنا أبو المدلة اثبتوا إن شئتم ثم حمل عليهم و هم على مسناة أمام الخندق ففضهم و ثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق. فجاء شبيب فوقف عليه و قال لأصحابه مثل هذا قوله تعالى وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 267نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَثم حمل على الميسرة ففضها و صمد نحو القلب و عتاب جالس على طنفسة هو و زهرة بن حوية فغشيهم شبيب فانفض الناس عن عتاب و تركوه فقال عتاب يا زهرة هذا يوم كثر فيه العدد و قل فيه الغناء لهفي على خمسمائة فارس من وجوه الناس أ لا صابر لعدوه أ لا مواس بنفسه فمضى الناس على وجوههم فلما دنا منه شبيب وثب إليه في عصابة قليلة صبرت معه فقال له بعضهم إن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد هرب و انصفق معه ناس كثير فقال أما إنه قد فر قبل اليوم و ما رأيت مثل ذلك الفتى ما يبالي ما صنع ثم قاتلهم ساعة و هو يقول ما رأيت كاليوم قط موطنا لم أبل بمثله أقل ناصرا و لا أكثرها ربا خاذلا فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب و كان أصاب دما في قومه و التحق بشبيب فقال إني لأظن هذا المتكلم عتاب بن ورقاء فحمل عليه فطعنه فوقع و قتل و وطئت الخيل زهرة بن حوية فأخذ يذبب بسيفه و هو شيخ

(5/217)


كبير لا يستطيع أن ينهض فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله و انتهى إليه شبيب فوجده صريعا فعرفه فقال من قتل هذا قال الفضل أنا قتلته فقال شبيب هذا زهرة بن حوية أما و الله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك و عظم فيه غناؤك و لرب خيل للمشركين هزمتها و سرية لهم ذعرتها و مدينة لهم فتحتها ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين. و قتل يومئذ وجوه العرب من عسكر العراق في المعركة و استمكن شبيب من أهل العسكر فقال ارفعوا عنهم السيف و دعاهم إلى البيعة فبايعه الناس عامة من ساعتهم و احتوى على جميع ما في العسكر و بعث إلى أخيه و هو بالمدائن فأتاه فأقام بموضع المعركة يومين و دخل سفيان بن الأبرد الكلبي و حبيب بن عبد الرحمن فيمن معهما شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 268إلى الكوفة فشدوا ظهر الحجاج و استغنى بهم عن أهل العراق و وصلته أخبار عتاب و عسكره فصعد المنبر فقال يا أهل كوفة لا أعز الله من أراد بكم العز و لا نصر من أراد منكم النصر اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا و الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود و النصارى و لا يقاتلن معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء. و خرج شبيب يريد الكوفة فانتهى إلى سورا فقال لأصحابه أيكم يأتيني برأس عاملها فانتدب إليه قطين و قعنب و سويد و رجلان من أصحاب شبيب فكانوا خمسة و ساروا حتى انتهوا إلى دار الخراج و العمال فيها فقالوا أجيبوا الأمير فقال الناس أي أمير قالوا أمير قد خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيبا فاغتر بذلك عامل سورا فخرج إليهم فلما خالطهم شهروا السيوف و حكموا و خبطوه بها حتى قتلوه و قبضوا ما وجدوا في دار الخراج من مال و لحقوا بشبيب. فلما رأى شبيب البدر قال أتيتمونا بفتنة المسلمين هلم يا غلام الحربة فخرق بها البدر و أمر أن تنخس الدواب التي كانت البدر عليها فمرت رائحة و المال يتناثر من البدر حتى وردت الصراة فقال إن كان

(5/218)


بقي شي ء فاقذفوه في الماء. و قال سفيان بن الأبرد للحجاج ابعثني إلى شبيب أستقبله قبل أن يرد الكوفة فقال لا ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم و الكوفة في ظهرنا و أقبل شبيب حتى نزل حمام أعين و دعا الحجاج الحارث بن ماوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس لم يكونوا شهدوا يوم عتاب فخرج في ألف رجل حتى انتهى إلى شبيب ليدفعه عن الكوفة فلما رآه شبيب حمل عليه فقتله و فل أصحابه فجاءوا حتى دخلوا
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 269الكوفة و بعث شبيب البطين في عشرة فوارس يرتادون له منزلا على شاطئ الفرات في دار الرزق فوجه الحجاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة فأخذوا بأفواه السكك فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم فبعث إلى شبيب فأمده بفوارس من أصحابه فعقروا س حوشب و هزموه فنجا بنفسه و مضى البطين إلى دار الرزق في أصحابه و نزل شبيب بها و لم يوجه إليه الحجاج أحدا فابتنى مسجدا في أقصى السبخة و أقام ثلاثا لم يوجه إليه الحجاج أحدا و لا يخرج إليه من أهل الكوفة و لا من أهل الشام أحد و كانت امرأته غزالة نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما بالبقرة و آل عمران. فجاء شبيب مع امرأته حتى أوفت بنذرها في المسجد و أشير على الحجاج أن يخرج بنفسه إليه فقال لقتيبة بن مسلم إني خارج فاخرج أنت فارتد لي معسكرا فخرج و عاد فقال وجدت المدى سهلا فسر أيها الأمير على اسم الله و الطائر الميمون فخرج الحجاج بنفسه و مر على مكان فيه كناسة و أقذار فقال ألقوا لي هنا بساطا فقيل له إن الموضع قذر فقال ما تدعوني إليه أقذر الأرض تحته طيبة و السماء فوقه طيبة. و وقف هناك و أخرج مولى له يعرف بأبي الورد و عليه تجفاف و أحاط به غلمان كثير و قيل هذا الحجاج فحمل عليه شبيب فقتله و قال إن يكن الحجاج فقد أرحت الناس منه و دلف الحجاج نحوه حينئذ و على ميمنته مطر بن ناجية و على ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء و هو في زهاء أربعة آلاف فقيل

(5/219)


له أيها الأمير لا نعرف شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 270شبيبا بمكانك فتنكر و أخفى مكانه و تشبه به مولى آخر للحجاج في هيئته و زيه فحمل عليه شبيب فضربه بالعمود فقتله و يقال إنه قال لما سقط أخ بالخاء المعجمة فقال شبيب قاتل الله ابن أم الحجاج اتقى الموت بالعبيد و ذلك أن العرب تقول عندلتأوه أح بالحاء المهملة. ثم تشبه بالحجاج أعين صاحب حمام أعين و لبس لبسته فحمل عليه شبيب فقتله فقال الحجاج علي بالبغل لأركبه فأتي ببغل محجل و قيل أيها الأمير أصلحك الله إن الأعاجم كانت تتطير أن تركب مثل هذا البغل في مثل هذا اليوم فقال أدنوه مني فإنه أغر محجل و هذا يوم أغر محجل فركبه ثم سار في الناس يمينا و شمالا ثم قال اطرحوا لي عباءة فطرحت له فنزل فجلس عليها ثم قال ائتوني بكرسي فأتي به فقام فجلس عليه ثم نادى أهل الشام فقال يا أهل الشام يا أهل السمع و الطاعة لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم غضوا الأبصار و اجثوا على الركب و استقبلوا القوم بأطراف الأسنة فجثوا على الركب و كأنهم حرة سوداء. و منذ هذا الوقت ركدت ريح شبيب و أذن الله تعالى في إدبار أمره و انقضاء أيامه فأقبل حتى إذا دنا من أهل الشام عبى أصحابه ثلاثة كراديس كتيبة معه و كتيبة مع سويد بن سليم و كتيبة مع المحلل بن وائل و قال لسويد احمل عليهم في خيلك فحمل عليهم فثبتوا له حتى إذا غشي أطراف أسنتهم وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلا فصبروا له ثم طاعنوه قدما قدما حتى ألحقوه بأصحابه. فلما رأى شبيب صبرهم نادى يا سويد احمل في خيلك في هذه الرايات الأخرى لعلك تزيل أهلها فتأتي الحجاج من ورائه و نحمل نحن عليه من أمامه فحمل سويد على تلك الرايات و هي بين جدران الكوفة فرمى بالحجارة من سطوح البيوت و من أفواه السكك فانصرف و لم يظفروا.

(5/220)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 271و رماه عروة بن المغيرة بن شعبة بالسهام و قد كان الحجاج جعله في ثلاثمائة رام من أهل الشام ردءا له كي لا يؤتى من ورائه فصاح شبيب في أصحابه. يا أهل الإسلام إنما شريتم لله و من يكن شراؤه لله لم يضره ما أصابه من ألم و أذى لله أبو الصبر الصبر شدة كشداتكم الكريمة في مواطنكم المشهورة. فشدوا شدة عظيمة فلم يزل أهل الشام عن مراكزهم فقال شبيب الأرض دبوا دبيبا تحت تراسكم حتى إذا صارت أسنة أصحاب الحجاج فوقها فأذلقوها صعدا و ادخلوا تحتها و اضربوا سوقهم و أقدامهم و هي الهزيمة بإذن الله فأقبلوا يدبون دبيبا تحت الحجف صمدا صمدا نحو أصحاب الحجاج. فقال خالد بن عتاب بن ورقاء أيها الأمير أنا موتور و لا أتهم في نصيحتي فأذن لي حتى آتيهم من ورائهم فأغير على معسكرهم و ثقلهم فقال افعل ذلك فخرج في جمع من مواليه و شاكريته و بني عمه حتى صار من ورائهم فالتقى بمصاد أخي شبيب فقتله و قتل غزالة امرأة شبيب و ألقى النار في معسكرهم و التفت شبيب و الحجاج فشاهدا النار فأما الحجاج فكبر و كبر أصحابه و أما شبيب فوثب هو و كل راجل من أصحابه على خيولهم مرعوبين فقال الحجاج لأصحابه شدوا عليهم فقد أتاهم ما أرعبهم فشدوا عليهم فهزموهم و تخلف شبيب في خاصة الناس حتى خرج من الجسر و تبعه خيل الحجاج و غشيه النعاس فجعل يخفق برأسه و الخيل تطلبه. قال أصغر الخارجي كنت معه ذلك اليوم فقلت يا أمير المؤمنين التفت شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 272فانظر من خلفك فالتفت غير مكترث و جعل يخفق برأسه ق و دنوا منا فقلت يا أمير المؤمنين قد دنا القوم منك فالتفت و الله ثانية غير مكترث بهم و جعل يخفق برأسه و بعث الحجاج خيلا تركض تقول دعوه يذهب في حرق الله فتركوه و انصرفوا عنه. و مضى شبيب بأصحابه حتى قطعوا جسر المدائن فدخلوا ديرا هناك و خالد بن عتاب يقفوهم فحصرهم في الدير فخرج شبيب إليه فهزمه و أصحابه نحوا من فرسخين حتى ألقى

(5/221)


خالد نفسه في دجلة هو و أصحابه بخيولهم فمر به شبيب فرآه في دجلة و لواؤه في يده فقال قاتله الله فارسا و قاتل فرسه فرس هذا أشد الناس قوة و فرسه أقوى فرس في الأرض و انصرف فقيل له بعد انصرافه إن الفارس الذي رأيت هو خالد بن عتاب بن ورقاء فقال معرق في الشجاعة لو علمت لأقحمت خلفه و لو دخل النار. ثم دخل الحجاج الكوفة بعد هزيمة شبيب فصعد المنبر و قال و الله ما قوتل شبيب قط قبل اليوم ولى هاربا و ترك امرأته يكسر في استها القصب. ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام و قال احذر بياته و حيثما لقيته فنازله فإن الله تعالى قد فل حده و قصم نابه فخرج حبيب في أثره حتى نزل الأنبار و بعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب من جاءنا منكم فهو آمن فكان كل من ليست له بصيرة في دين الخوارج ممن هزه القتال و كرهه ذلك اليوم يجي ء فيؤمن و قبل ذلك كان الحجاج نادى يوم هزم شبيب من جاءنا فهو آمن فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 273و بلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن بالأنبار فأقبل بأصحابه حتى دنا منه فقال يزيد السكسكي كنت مع أهل الشام بالأنبار ليلة جاءنا شبيب فبيتنا فلما أمسينا جمعنا حبيب بن عبد الرحمن فجعلنا أرباعا و جعل على كل ربع أميرا و قال لنا لي كل ربع منكم جانبه فإن قتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الآخر فإنه بلغني أن الخوارج منكم قريب فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون فمقاتلون قال فما زلنا على تعبيتنا حتى جاءنا شبيب تلك الليلة فبيتنا فشد على ربع منا فصابرهم طويلا فما زالت قدم إنسان منهم ثم تركهم و أقبل إلى ربع آخر فقاتلهم طويلا فلم يظفر بشي ء ثم طاف بنا يحمل علينا ربعا ربعا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل و لصق بنا حتى قلنا لا يفارقنا ثم ترجل فنازلنا راجلا نزالا طويلا هو و أصحابه فسقطت و الله بيننا و بينهم الأيدي و الأرجل و فقئت الأعين و كثرت القتلى

(5/222)


فقتلنا نهم نحو ثلاثين و قتلوا منا نحو مائة و ايم الله لو كانوا أكثر من مائتي رجل لأهلكونا ثم فارقونا و قد مللناهم و ملونا و كرهناهم و كرهونا و لقد رأيت الرجل منا يضرب الرجل منهم بالسيف فما يضره من الإعياء و الضعف و لقد رأيت الرجل منا يقاتل جالسا ينفخ بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء و البهر حتى ركب شبيب و قال لأصحابه الذين نزلوا معه اركبوا و توجه بهم منصرفا عنا. فقال فروة بن لقيط الخارجي و كان شهد معه مواطنه كلها قال لنا ليلتئذ و قد رأى شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 274بنا كآبة ظاهرة و جراحات شديدة ما أشد هذا الذينا لو كنا نطلب الدنيا و ما أيسر هذا في طاعة الله و ثوابه فقال أصحابه صدقت يا أمير المؤمنين. قال فروة بن لقيط و سمعته تلك الليلة يحدث سويد بن سليم و يقول له لقد قتلت منهم أمس رجلين من أشجع الناس خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم فاشترى أحدهم حاجته و خرج قبل أصحابه فخرجت معه فقال لي أراك لم تشتر علفا فقلت إن لي رفقاء قد كفوني ذلك ثم قلت له أين ترى عدونا هذا نزل فقال بلغني أنه قد نزل قريبا منا و ايم الله لوددت أني لقيت شبيبهم هذا قلت أ فتحب ذلك قال إي و الله قلت فخذ حذرك فأنا و الله شبيب و انتضيت السيف فخر و الله ميتا فقلت له ارتفع ويحك و ذهبت أنظر فإذا هو قد مات فانصرفت راجعا فاستقبلت الآخر خارجا من القرية فقال أين تذهب هذه الساعة التي يرجع فيها الناس إلى معسكرهم فلم أكلمه و مضيت فنفرت بي فرسي و ذهبت تتمطر فإذا به في أثري حتى لحقني فعطفت عليه و قلت ما بالك قال أظنك و الله من عدونا قلت أجل و الله قال إذا لا تبرح حتى أقتلك أو تقتلني فحملت عليه و حمل علي فاضطربنا بسيفينا ساعة فو الله ما فضلته في شدة نفس و لا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته. و بلغ شبيبا أن جند الشام الذي مع حبيب حملوا معهم حجرا و حلفوا لا يفرون حتى يفر

(5/223)


هذا الحجر فأراد أن يكذبهم فعمد إلى أربعة أفراس و ربط في أذنابها ترسة
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 275في ذنب كل فرس ترسين ثم ندب ثمانية نفر من أصحابه و غلاما له يقال له حيان كان شجاعا فاتكا و أمره أن يحمل معه إداوة من ماء ثم سار ليلا حتى أتى ناحية من عسكر أهل الشام فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر الأربع و أن يكون مع كلجلين فرس ثم يلبسوها الحديد حتى تجد حره ثم يخلوها في العسكر و واعدهم تلعة قريبة من العسكر و قال من نجا منكم فإن موعده التلعة فكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم فنزل بنفسه حتى صنع بالخيل ما أمرهم به حتى دخلت في العسكر و دخل هو يتلوها و يشد خلفها شدا محكما فتفرقت في نواحي العسكر و اضطرب الناس فضرب بعضهم بعضا و ماجوا و نادى حبيب بن عبد الرحمن ويحكم إنها مكيدة فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الأمر ففعلوا و حصل شبيب بينهم فلزم الأرض معهم حتى رآهم قد سكنوا و قد أصابته ضربة عمود أوهنته. فلما هدأ الناس و رجعوا إلى مراكزهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة فإذا مولاه حيان فقال أفرغ ويحك على رأسي من هذه الإداوة فلما مد رأسه ليصب عليه من الماء هم حيان بضرب عنقه و قال لنفسه لا أجد مكرمة لي و لا ذكرا أرفع من هذا في هذه الخلوة و هو أماني من الحجاج فأخذته الرعدة حين هم بما هم به فلما أبطأ عليه قال له ويحك ما انتظارك بحلها ناولنيها و تناول السكين من موزجه فخرقها به ثم ناوله إياها فأفرغ عليه من الماء فكان حيان بعد ذلك يقول لقد هممت فأخذتني الرعدة فجبنت عنه و ما كنت أعهد نفسي جبانا. ثم إن الحجاج أخرج الناس إلى شبيب و قسم فيهم أموالا عظيمة و أعطى الجرحى و كل ذي بلاء و أمر سفيان بن الأبرد أن يسير بهم فشق ذلك على حبيب شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 276بن عبد الرحمن و قال تبعث سفيان إلى رجل قد فللته و قتلت فرسانه و كان شبيب قد أقام بكرمان حتى جبر و استراش هو و أصحابه فمضى سفيان بالرجال و

(5/224)


استقبله يب بدجيل الأهواز و عليه جسر معقود فعبر إلى سفيان فوجده قد نزل بالرجال و جعل مهاصر بن صيفي على خيله و بشر بن حسان الفهري على ميمنته و عمر بن هبيرة الفزاري على ميسرته و أقبل شبيب في ثلاثة كراديس هو في كتيبة و سويد بن سليم في كتيبة و قعنب في كتيبة و خلف المحلل في عسكره فلما حمل سويد و هو في ميمنته على ميسرة سفيان و قعنب و هو في ميسرته على ميمنة سفيان حمل هو على سفيان ثم اضطربوا مليا حتى رجعت الخوارج إلى مكانها الذي كانوا فيه. فقال يزيد السكسكي و كان من أصحاب سفيان يومئذ كر علينا شبيب و أصحابه أكثر من ثلاثين كرة و لا يزول من صفنا أحد فقال لنا سفيان لا تحملوا عليهم متفرقين و لكن لتزحف عليهم الرجال زحفا ففعلنا و ما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر فقاتلونا عليه أشد قتال يكون لقوم قط ثم نزل شبيب و نزل معه نحو مائة رجل فما هو إلا أن نزلوا حتى أوقعوا بنا من الضرب و الطعن شيئا ما رأينا مثله قط و لا ظنناه يكون فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم و لا يأمن ظفرهم دعا الرماة فقال ارشقوهم بالنبل و ذلك عند المساء و كان الالتقاء ذلك اليوم نصف النهار فرشقهم أصحابه و قد كان سفيان صفهم على حدة و عليهم أمير فلما رشقوهم شدوا عليهم فشددنا نحن و شغلناهم عنهم فلما رأوا ذلك ركب شبيب و أصحابه و كروا على أصحاب النبل كرة شديدة صرعوا منهم فيها أكثر من ثلاثين راميا ثم عطف علينا يطاعننا بالرماح حتى اختلط الظلام ثم انصرف عنا فقال سفيان بن الأبرد لأصحابه

(5/225)


شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 277يا قوم دعوهم لا تتبعوهم يا قوم دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم قال فكففنا عنهم و ليس شي ء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا. قال فروة بن لقيظ الخارجي فلما انتهينا إلى الجسر قال شبيب اعبروا معاشر المسلمين فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء ا تعالى قال فعبرنا أمامه و تخلف في آخرنا و أقبل يعبر الجسر و تحته حصان جموح و بين يديه فرس أنثى ماذيانة فنزا حصانه عليها و هو على الجسر فاضطربت الماذيانة و زل حافر فرس شبيب عن حرف السفينة فسقط في الماء فسمعناه يقول لما سقط ليقضي الله أمرا كان مفعولا و اغتمس في الماء ثم ارتفع فقال ذلك تقدير العزيز العليم ثم اغتمس في الماء فلم يرتفع. هكذا روى أكثر الناس و قال قوم إنه كان مع شبيب رجال كثير بايعوه في الوقائع التي كان يهزم الجيش فيها و كانت بيعتهم إياه على غير بصيرة و قد كان أصاب عشائرهم و ساداتهم فهم منه موتورون فلما تخلف في أخريات الناس يومئذ قال بعضهم لبعض هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثارنا الساعة فقالوا هذا هو الرأي فقطعوا الجسر فمالت به السفينة ففزع حصانه و نفر فسقط في الماء و غرق. و الرواية الأولى أشهر فحدث قوم من أصحاب سفيان قالوا سمعنا صوت الخوارج يقولون غرق أمير المؤمنين فعبرنا إلى عسكرهم فإذا هو ليس فيه صافر و لا أثر فنزلنا فيه و طلبنا شبيبا حتى استخرجناه من الماء و عليه الدرع فيزعم الناس أنهم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 278شقوا بطنه و أخرجوا قلبه فكان مجتمعا صلبا كالصخرة و أنه كان يضرب به الأرض فينبو و ب قامة الإنسان. و يحكى أن أم شبيب كانت لا تصدق أحدا نعاه إليها و قد كان قيل لها مرارا إنه قد قتل فلا تقبل فلما قيل لها إنه قد غرق بكت فقيل لها في ذلك فقالت رأيت في المنام حين ولدته أنه خرج من فرجي نار ملأت الآفاق ثم سقطت في ماء فخمدت فعلمت أنه لا يهلك إلا بالغرق

(5/226)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 3الجزء الخامس تتمة الخطب و الأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و آله أجمعين
58- و قال ع لما عزم على حرب الخوارج و قيل له إن القوم قد عبروا جسر النهروان
مَصَارِعُهُمْ دُونَ النُّطْفَةِ وَ اللَّهِ لَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ وَ لَا يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ
قال الرضي رحمه الله يعنى بالنطفة ماء النهر و هي أفصح كناية عن الماء و إن كان كثيرا جما و قد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم عند مضي ما أشبهه
هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة لاشتهاره و نقل الناس كافة له و هو من معجزاته و أخباره المفصلة عن الغيوب. و الأخبار على قسمين أحدهما الأخبار المجملة و لا إعجاز فيها نحو أن يقول الرجل لأصحابه إنكم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 4ستنصرون على هذه الفئالتي تلقونها غدا فإن نصر جعل ذلك حجة له عند أصحابه و سماها معجزة و إن لم ينصر قال لهم تغيرت نياتكم و شككتم في قولي فمنعكم الله نصره و نحو ذلك من القول و لأنه قد جرت العادة أن الملوك و الرؤساء يعدون أصحابهم بالظفر و النصر و يمنونهم الدول فلا يدل وقوع ما يقع من ذلك على إخبار عن غيب يتضمن إعجاز. و القسم الثاني في الأخبار المفصلة عن الغيوب مثل هذا الخبر فإنه لا يحتمل التلبيس لتقييده بالعدد المعين في أصحابه و في الخوارج و وقوع الأمر بعد الحرب بموجبه من غير زيادة و لا نقصان و ذلك أمر إلهي عرفه من جهة رسول الله ص و عرفه رسول الله ص من جهة الله سبحانه و القوة البشرية تقصر عن إدراك مثل هذا و لقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره. و بمقتضى ما شاهد الناس من معجزاته و أحواله المنافية لقوى البشر غلا فيه من غلا حتى نسب إلى أن الجوهر الإلهي حل في بدنه كما قالت النصارى في عيسى ع و قد أخبره النبي ص بذلك
فقال يهلك فيك رجلان محب غال و مبغض قال

(6/1)


و قال له تارة أخرى و الذي نفسي بيده لو لا أني أشفق أن يقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت اليوم فيك مقالا لا تمر بملإ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 5ذكر الخبر عن ظهور الغلاةو أول من جهر بالغلو في أيامه عبد الله بن سبإ قام إليه و هو يخطب فقال له أنت أنت و جعل يكررها فقال له ويلك من أنا فقال أنت الله فأمر بأخذه و أخذ قوم كانوا معه على رأيه.
و روى أبو العباس أحمد بن عبيد الله عن عمار الثقفي عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه و عن غيره من مشيخته أن عليا قال يهلك في رجلان محب مطر يضعني غير موضعي و يمدحني بما ليس في و مبغض مفتر يرميني بما أنا منه بري ء و قال أبو العباس و هذا تأويل الحديث المروي عن النبي ص فيه و هو
قوله إن فيك مثلا من عيسى ابن مريم أحبته النصارى فرفعته فوق قدره و أبغضته اليهود حتى بهتت أمه
قال أبو العباس و قد كان علي عثر على قوم خرجوا من محبته باستحواذ الشيطان عليهم إلى أن كفروا بربهم و جحدوا ما جاء به نبيهم و اتخذوه ربا و إلها و قالوا أنت خالقنا و رازقنا فاستتابهم و توعدهم فأقاموا على قولهم فحفر لهم حفرا دخن عليهم فيها طمعا في رجوعهم فأبوا فحرقهم بالنار
و قال
أ لا ترون قد حفرت حفرا إني إذا رأيت أمرا منكراوقدت ناري و دعوت قنبرا
. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 6و روى أصحابنا في كتب المقالات أنه لما حرقهم صاحوا إليه الآن ظهر لنا ظهورا بينا أنك أنت الإله لأن ابن عمك الذي أرسلته قال لا يعذب بالنار إلا رب النار

(6/2)


و روى أبو العباس عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه و مشيخته أن عليا مر بهم و هم يأكلون في شهر رمضان نهارا فقال أ سفر أم مرضى قالوا و لا واحدة منهما قال أ فمن أهل الكتاب أنتم قالوا لا قال فما بال الأكل في شهر رمضان نهارا قالوا أنت أنت لم يزيدوه على ذلك ففهم مرادهم فنزل عن فرسه فألصق خده بالتراب ثم قال ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله فاتقوا الله و ارجعوا إلى الإسلام فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على أمرهم فنهض عنهم ثم قال شدوهم وثاقا و علي بالفعلة و النار و الحطب ثم أمر بحفر بئرين فحفرتا فجعل إحداهما سربا و الأخرى مكشوفة و ألقى الحطب في المكشوفة و فتح بينهما فتحا و ألقى النار في الحطب فدخن عليهم و جعل يهتف بهم و يناشدهم ارجعوا إلى الإسلام فأبوا فأمر بالحطب و النار و ألقى عليهم فاحترقوا
فقال الشاعر

(6/3)


لترم بي المنية حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين إذا ما حشتا حطبا بنار فذاك الموت نقدا غير دينقال فلم يبرح واقفا عليهم حتى صاروا حمما. قال أبو العباس ثم إن جماعة من أصحاب علي منهم عبد الله بن عباس شفعوا في عبد الله بن سبإ خاصة و قالوا يا أمير المؤمنين إنه قد تاب فاعف عنه فأطلقه بعد أن اشترط عليه ألا يقيم بالكوفة فقال أين أذهب قال المدائن فنفاه إلى المدائن شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 7فلما قتل أمير المؤمنين ع أظهر مقالته و صارت له طائفة و فرقة يصدقونه و يتبعونه و قال لما بلغه قتل علي و الله لو جئتمونا بدماغه في سبعين صرة لعلمنا أنه لم يمت و لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه فلما بلغ ابن عباس ذلك قال لو علا أنه يرجع لما تزوجنا نساءه و لا قسمنا ميراثه. قال أصحاب المقالات و اجتمع إلى عبد الله بن سبإ بالمدائن جماعة على هذا القول منهم عبد الله بن صبرة الهمداني و عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي و آخرون غيرهما و تفاقم أمرهم. و شاع بين الناس قولهم و صار لهم دعوة يدعون إليها و شبهة يرجعون إليها و هي ما ظهر و شاع بين الناس من إخباره بالمغيبات حالا بعد حال فقالوا إن ذلك لا يمكن أن يكون إلا من الله تعالى أو ممن حلت ذات الإله في جسده و لعمري إنه لا يقدر على ذلك إلا بإقدار الله تعالى إياه عليه و لكن لا يلزم من إقداره إياه عليه أن يكون هو الإله أو تكون ذات الإله حالة فيه و تعلق بعضهم بشبهة ضعيفة نحو قول عمر و قد فقأ علي عين إنسان ألحد في الحرم ما أقول في يد الله فقأت عينا في حرم الله و نحو
قول علي و الله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية بل بقوة إلهية
و نحو قول رسول الله ص لا إله إلا الله وحده صدق وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده

(6/4)


و الذي هزم الأحزاب هو علي بن أبي طالب لأنه قتل بارعهم و فارسهم عمرا لما اقتحموا الخندق فأصبحوا صبيحة تلك الليلة هاربين مفلولين من غير حرب سوى قتل فارسهم و قد أومأ بعض شعراء الإمامية إلى هذه المقالة فجعلها من فضائله و ذلك قوله
إذا كنتم ممن يروم لحاقه فهلا برزتم نحو عمرو و مرحب
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 8و كيف فررتم يوم أحد و خيبر و يوم حنين مهربا بعد مهرب أ لم تشهدوا يوم الإخاء و بيعة الغدير و كل حضر غير غيب فكيف غدا صنو النفيلي ويحه أميرا على صنو النبي المرجب و كيف علا من لا يطأ ثوب أحمد على من علا من أحمد فوق منكب إمام ت له الشمس جهرة فصلى أداء عصره بعد مغرب و من قبله أفنى سليمان خيله رجاء فلم يبلغ بها نيل مطلب يجل عن الأفهام كنه صفاته و يرجع عنها الذهن رجعة أخيب فليس بيان القول عنه بكاشف غطاء و لا فصل الخطاب بمعرب و حق لقبر ضم أعضاء حيدر و غودر منه في صفيح م شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 9يكون ثراه سر قدس ممنع و حصباؤه من نور وحي محجب و تغشاه من نور الإله غمامة تغاديه من قدس الجلال بصيب و تنقض أسراب النجوم عواكفا على حجرتيه كوكب بعد كوكب فلولاك لم ينج ابن متى و لا خبا سعير لإبراهيم بعد تلهب و لا فلق البحر اان بالعصا و لا فرت الأحزاب عن أهل يثرب و لا قبلت من عابد صلواته و لا غفر الرحمن زلة مذنب و لم يغل فيك المسلمون جهالة و لكن لسر في علاك مغيو قالوا أيضا إن بكريا و شيعيا تجادلا و احتكما إلى بعض أهل الذمة ممن لا هوى له مع أحد الرجلين في التفضيل فأنشدهما
كم بين من شك في عقيدته و بين من قيل إنه الله
طرق الإخبار عن الغيوب

(6/5)


فأما الإخبار عن الغيوب فلمعترض أن يقول قد يقع الإخبار عن الغيوب من طريق النجوم فإن المنجمين قد اتفقوا على أن شكلا من أشكال الطالع إذا وقع لمولود اقتضى أن يكون صاحبه متمكنا من الإخبار عن الغيوب. و قد يقع الإخبار عن الغيوب من الكهان كما يحكى عن سطيح و شق و سواد بن قارب و غيرهم. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 10و قد يقع الإخبار عن الغيوب لأصحاب زجر الطير و البهائم كما يحكى عن بني لهب في الجاهلية. و قد يقع الإخبار عن الغيوب للقافة كما يحكى عن بني مدلج. و قد يخبر أرباب النيرنجات و أرباب السحر و الطلسمات بالمغيبات ود يقع الإخبار عن الغيوب لأرباب النفس الناطقة القوية الصافية التي تتصل مادتها الروحانية على ما تقوله الفلاسفة و قد يقع الإخبار عن الغيوب بطريق المنامات الصادقة على ما رآه أكثر الناس و قد وردت الشريعة نصا به. و قد يقع الإخبار عن الغيوب بأمر صناعي يشبه الطبيعي كما رأيناه عن أبي البيان و ابنه. و قد يقع الإخبار عن الغيوب بواسطة إعلام ذلك الغيب إنسانا آخر لنفسه بنفس ذلك المخبر اتحاد أو كالاتحاد و ذلك كما يحكي أبو البركات بن ملكا الطبيب في كتاب المعتبر قال و المرأة العمياء التي رأيناها ببغداد و تكررت مشاهدتنا لها منذ مدة مديدة قدرها ما يقارب ثلاثين سنة و هي على ذلك إلى الآن تعرض عليها الخبايا فتدل عليها بأنواعها و أشكالها و مقاديرها و أعدادها غريبها و مألوفها دقيقها شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 11و جليلها تجيب على أثر السؤال من غير توقف و لا استعانة بشي ء من الأشيالا أنها كانت تلتمس أن ترى الذي يسأل عنه أبوها أو يسمعه في بعض الأوقات دون بعض و عند قوم دون قوم فيتصور في أمرها أن الذي تقوله بإشارة من أبيها و كان الذي تقوله يبلغ من الكثرة إلى ما يزيد على عشرين كلمة إذا قيل بصريح الكلام الذي هو الطريق الأخصر و إنما كان أبوها يقول إذا رأى ما يراه من أشياء كثيرة مختلفة الأنواع و الأشكال في

(6/6)


مدة واحدة كلمة واحدة و أقصاه كلمتان و هي التي يكررها في كل قول و مع كل ما يسمع و يرى سلها و سلها تخبرك أو قولي له أو قولي يا صغيرة. قال أبو البركات و لقد عاندته يوما و حاققته في ألا يتكلم البتة و أريته عدة أشياء فقال لفظة واحدة فقلت له الشرط أملك فاغتاظ و احتد طيشه عن أن يملك نفسه فباح بخبيئته قال و مثلك يظن أنني أشرت إلى هذا كله بهذه اللفظة فاسمع الآن ثم التفت إليها و أخذ يشير بإصبعه إلى شي ء و هو يقول تلك الكلمة و هي تقول هذا كذا و هذا ذا على الاتصال من غير توقف و هو يقول تلك الكلمة لا زيادة عليها و هي لفظة واحدة بلحن واحد و هيئة واحدة حتى ضجرنا و اشتد تعجبنا و رأينا أن هذه الإشارة لو كانت تتضمن هذه الأشياء لكانت أعجب من كل ما تقوله العمياء. قال أبو البركات و من عجيب ما شاهدناه من أمرها أن أباها كان يغلط في شي ء يعتقده على خلاف ما هو به فتخبر هي عنه على معتقد أبيها كان نفسها هي نفسه. قال أبو البركات و رأيناها تقول ما لا يعلمه أبوها من خبيئة في الخبيئة التي اطلع عليها أبوها فكانت تطلع على ما قد علمه أبوها و على ما لم يعلمه أبوها و هذا أعج و أعجب.

(6/7)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 12قال أبو البركات و حكاياتها أكثر من أن تعد و عند كل أحد من الناس من حديثها ما ليس عند الآخر لأنها كانت تقول من ذلك على الاتصال لشخص شخص جوابا بحسب السؤال. قال و ما زلت أقول إن من يأتي بعدنا لا يصدق ما رأيناه منها فإن قلت لي أر أن تفيدني العلة في معرفة المغيبات هذه قلت لك العلة التي تصلح في جواب لم في نسبة المحمول إلى الموضوع تكون الحد الأوسط في القياس و هذه فالعلة الفاعلة الموجبة لذلك فيها هي نفسها بقوتها و خاصتها فما الذي أقوله في هذا و هل لي أن أجعل ما ليس بعلة علة. و اعلم أنا لا ننكر أن يكون في نوع البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب و لكن كل ذلك مستند إلى البارئ سبحانه بإقداره و تمكينه و تهيئة أسبابه فإن كان المخبر عن الغيوب ممن يدعي النبوة لم يجز أن يكون ذلك إلا بإذن الله سبحانه و تمكينه و أن يريد به تعالى استدلال المكلفين على صدق مدعى النبوة لأنه لو كان كاذبا لكان يجوز أن يمكن الله تعالى الجن من تعليمه ذلك إضلالا للمكلفين و كذلك لا يجوز أن يمكن سبحانه الكاذب في ادعاء النبوة من الإخبار عن الغيب بطريق السحر و تسخير الكواكب و الطلسمات و لا بالزجر و لا بالقيافة و لا بغير ذلك من الطرق المذكورة لما فيه من استفساد البشر و إغوائهم. و أما إذا لم يكن المخبر عن الغيوب مدعيا للنبوة نظر في حاله فإن كان ذلك من الصالحين الأتقياء نسب ذلك إلى أنه كرامة أظهرها الله تعالى على يده إبانة له و تمييزا شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 13من غيره كما في حق علي ع إن لم يكن كذلك أمكن أن يكون ساحرا أو كاهنا أو نحو ذلك. و بالجملة فصاحب هذه الخاصية أفضل و أشرف ممن لا تكون فيه من حيث اختصاصه بها فإن كان للإنسان العاري منها مزية أخرى يختص بها توازيها أو تزيد عليها فنرجع إلى التمييل و الترجيح بينهما و إلا فالمختص بهذه الخاصية أرجح و أعظم من الخالي منها على جميع الأحوال

(6/8)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 5914- و قال لما قتل الخوارجو قيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم
كَلَّا وَ اللَّهِ إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ قَرَارَاتِ النِّسَاءِ وَ كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلَّابِينَ
نجم ظهر و طلع قرارات النساء كناية لطيفة عن الأرحام. و من الكنايات اللطيفة الجارية هذا المجرى قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يعني الجماع. و قوله تعالى إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً. و قوله شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ يعني الفروج شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 1و قول رسول الله ص للحادي يا أنجشة رفقا بالقوارير
يعني النساء
الكناية و الرموز و التعريض مع ذكر مثل منها
و الكناية إبدال لفظة يستحى من ذكرها أو يستهجن ذكرها أو يتطير بها و يقتضي الحال رفضها لأمر من الأمور بلفظة ليس فيها ذلك المانع و من هذا الباب قول إمرئ القيس
سموت إليها بعد ما نام أهلها سمو حباب الماء حالا على حال فقالت لك الويلات إنك فاضحي أ لست ترى السمار و الناس أحوالي فلما تنازعنا الحديث و أسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال فصرنا إلى الحسنى و رق كلامنا و رضت فذلت صعبة أي إذلقوله فصرنا إلى الحسنى كناية عن الرفث و مقدمات الجماع. و قال ابن قتيبة تمازح معاوية و الأحنف فما رئي مازحان أوقر منهما قال شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 16معاوية يا أبا بحر ما الشي ء الملفف في البجاد فقال السخينة يا أمير المؤمنين و إنما كنى معاوية عن رمي بنييم بالنهم و حب الأكل بقول القائل

(6/9)


إذا ما مات ميت من تميم فسرك أن يعيش فجي ء بزادبخبز أو بتمر أو بسمن أو الشي ء الملفف في البجادتراه يطوف في الآفاق حرصا ليأكل رأس لقمان بن عاو أراد الشاعر وطب اللبن فقال الأحنف هو السخينة يا أمير المؤمنين لأن قريشا كانت تعير بأكل السخينة قبل الإسلام لأن أكثر زمانها كان زمان قحط و السخينة ما يسخن بالنار و يذر عليه دقيق و غلب ذلك على قريش حتى سميت سخينة قال حسان
زعمت سخينة أن ستغلب ربها و ليغلبن مغالب الغلاب
فعبر كل واحد من معاوية و الأحنف عما أراده بلفظ غير مستهجن و لا مستقبح و علم كل واحد منهما مراد صاحبه و لم يفهم الحاضرون ما دار بينهما و هذا من باب التعريض و هو قريب من الكناية. و من كنايات الكتاب العزيز أيضا قوله تعالى وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها كنى بذلك عن مناكح النساء. و منها قوله تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ كنى عن مواقع النسل بمواقع الحرث. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 17و مما ورد في الأخبار النبوية في هذا الباب ابر الذي فيه أن المرأة قالت للرجل القاعد منها مقعد القابلة لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فقام عنها و تركها. و قد أخذ الصاحب بن عباد هذه اللفظة فقال لأبي العلاء الأسدي الأصفهاني و قد دخل بزوجة له بكر
قلبي على الجمرة يا أبا العلا فهل فتحت الموضع المقفلاو هل فضضت الكيس عن ختمه و هل كحلت الناظر الأحولا
و أنشد الفرزدق في سليمان بن عبد الملك شعرا قال فيه
دفعن إلي لم يطمثن قبلي و هن أصح من بيض النعام فبتن بجانبي مصرعات و بت أفض أغلاق الختامفاستنكر سليمان ذلك و كان غيورا جدا و قال له قد أقررت بالزنا فلأجلدنك فقال يا أمير المؤمنين إني شاعر و إن الله يقول في الشعراء وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ و قد قلت ما لم أفعل قال سليمان نجوت بها.

(6/10)


و من الأخبار النبوية أيضا قوله ع في الشهادة على الزنا حتى تشاهد الميل في المكحلة
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 18و منها قوله ع للمرأة التي استفتته في الذي استخلت له و لم يستطع جماعها لا حتى تذوقي عسيلته و يذوق عسيلتكو منها قول المرأة التي شكت إلى عائشة زوجها أنه يطمح بصره إلى غيرها إني عزمت على أن أقيد الجمل إشارة إلى ربطه.
و منها قول عمر يا رسول الله هلكت قال و ما أهلكك قال حولت رحلي فقال ع أقبل و أدبر و اتق الحيضة
ففهم ص ما أراد. و رأى عبد الله بن سلام على إنسان ثوبا معصفرا فقال لو أن ثوبك في تنور أهلك لكان خيرا لك فذهب الرجل فأحرق ثوبه في تنور أهله و ظن أنه أراد الظاهر و لم يرد ابن سلام ذلك و إنما أراد لو صرف ثمنه في دقيق يخبزه في تنور أهله.
و من ذلك قوله ص إياكم و خضراء الدمن
و الدمن جمع دمنة و هي المزبلة فيها البعر تنبت نباتا أخضر و كنى بذلك عن المرأة الحسناء في منبت السوء. و من ذلك قولهم إياك و عقيلة الملح لأن الدرة تكون في الماء الملح و مرادهم النهي عن المرأة الحسناء و أهلها أهل سوء. و من ذلك قولهم لبس له جلد النمر و قلب له ظهر المجن و قال أبو نواس
لا أذود الطير عن شجر قد بلوت المر من ثمره

(6/11)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 19و قد فسر قوم قوله تعالى وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً فقالوا أراد و إذا عبروا عن اللفظ بما يقبح ذكره كنوا عنه فسمى التعبير عن الشي ء مرورا به و سمى الكناية عنه كرما. و من ذلك أن بنت أعرابية صرخت و قالت لسعتني ارب فقالت أمها أين فقالت موضع لا يضع الراقي فيه أنفه كنت بذلك عن السوأة. و من هذا الباب قوله سبحانه مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ قال كثير من المفسرين هو كناية عن الغائط لأنه يكون من الطعام فكني عنه إذا هو منه مسبب كما كنوا عن السمة بالنار فقالوا ما نار تلك أي ما سمتها و منه قول الشاعر
قد وسموا آبالهم بالنار و النار قد تشفي من الأوار
و هذا من أبيات المعاني يقول هم أهل عز و منعة فسقى راعيهم إبلهم بالسمات التي على الإبل و علم المزاحمون له في الماء أنه لا طاقة لهم بمنازعتهم عليه لعزهم فكانت السمات سببا لسقيها و الأوار العطش فكنى سبحانه بقوله يَأْكُلانِ الطَّعامَ عن إتيان الغائط لما كان أكل الطعام سببا له كما كنى الشاعر بالنار عن السمة لما كانت النار سبب السمة. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 20و من هذا الباب قوله سبحانه وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كنى بالإفضاء عن الجماع.و من الأحاديث النبوية من كشف قناع امرأة وجب عليه مهرها
كنى عن الدخول بها بكشف القناع لأنه يكشف في تلك الحالة غالبا. و العرب تقول في الكناية عن العفة ما وضعت مومسة عنده قناعا.
و من حديث عائشة كان رسول الله ص يصيب من رءوس نسائه و هو صائم
كنت بذلك عن القبلة. و من ذلك قوله تعالى هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ كنى بذلك عن الجماع و المخالطة. و قال النابغة الجعدي
إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت فكانت عليه لباسا

(6/12)


و قد كنت العرب عن المرأة بالريحان و بالسرحة قال ابن الرقيات
لا أشم الريحان إلا بعيني كرما إنما تشم الكلاب
أي أقنع من النساء بالنظر و لا أرتكب منهن محرما. و قال حميد بن ثور الهلالي
أبى الله إلا أن سرحة مالك على كل أفنان العضاه تروق فيا طيب رياها و برد ظلالها إذا حان من حامي النهار وديق شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 21و هل أنا إن عللت نفسي بسرحة من السرح مسدود علي طريو السرحة الشجرة. و قال أعرابي و كنى عن امرأتين
أيا نخلتي أود إذا كان فيكما جنى فانظرا من تطعمان جناكماو يا نخلتي أود إذا هبت الصبا و أمسيت مقرورا ذكرت ذراكما
و من الأخبار النبوية قوله ع من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره
أراد النهي عن نكاح الحبائل لأنه إذا وطئها فقد سقى ماءه زرع غيره.
و قال ص لخوات بن جبير ما فعل جملك يا خوات يمازحه فقال قيده الإسلام يا رسول الله
لأن خواتا في الجاهلية كان يغشى البيوت و يقول شرد جملي و أنا أطلبه و إنما يطلب النساء و الخلوة بهن و خوات هذا هو صاحب ذات النحيين. و من كنايات القرآن العزيز قوله تعالى وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ كنى بذلك عن الزنا لأن الرجل يكون في تلك الحال بين يدي المرأة و رجليها. و منه في الحديث إذا قعد الرجل بين شعبها الأربع. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 22و قد فسر قوم قوله تعالى وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ عن النميمة و العرب تقول لمن ينم و يشي يوقد بين الناس الحطبلرطب. و قال الشاعر يذكر امرأة
من البيض لم تصطد على خيل لامة و لم تمش بين الناس بالحطب الرطب
أي لم تؤخذ على أمر تلام عليه و لم تفسد بين الحي بالكذب و النميمة. و مما ورد نظير ممازحة معاوية و الأحنف من التعريضات أن أبا غسان المسمعي مر بأبي غفار السدوسي فقال يا غفار ما فعل الدرهمان فقال لحقا بالدرهم أراد بالدرهمين قول الأخطل

(6/13)


فإن تبخل سدوس بدرهميها فإن الريح طيبة قبول
و أراد الآخر قول بشار
و في جحدر لؤم و في آل مسمع صلاح و لكن درهم القوم كوكب
و كان محمد بن عقال المجاشعي عند يزيد بن مزيد الشيباني و عنده سيوف تعرض عليه فدفع سيفا منها إلى يد محمد فقال كيف ترى هذا السيف فقال نحن أبصر بالتمر منا بالسيوف أراد يزيد قول جرير في الفرزدق
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ضربت و لم تضرب بسيف ابن ظالم ضربت به عند الإمام فأرعشت يداك و قالوا محدث غير صارم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 23و أراد محمد قول مروان بن أبي حفصةلقد أفسدت أسنان بكر بن وائل من التمر ما لو أصلحته لمارها
و قال محمد بن عمير بن عطاء التميمي لشريك النميري و على يده صقر ليس في الجوارح أحب إلي من البازي فقال شريك إذا كان يصيد القطا أراد محمد قول جرير
أنا البازي المطل على نمير أتيح من السماء لها انصبابا
و أراد شريك قول الطرماح
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا و لو سلكت سبل المكارم ضلت
و دخل عبد الله بن ثعلبة المحاربي على عبد الملك بن يزيد الهلالي و هو يومئذ والي أرمينية فقال له ما ذا لقينا الليلة من شيوخ محارب منعونا النوم بضوضائهم و لغطهم فقال عبد الله بن ثعلبة إنهم أصلح الله الأمير أضلوا الليلة برقعا فكانوا يطلبونه أراد عبد الملك قول الشاعر
تكش بلا شي ء شيوخ محارب و ما خلتها كانت تريش و لا تبري ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت فدل عليها صوتها حية البحو أراد عبد الله قول القائل
لكل هلالي من اللؤم برقع و لابن يزيد برقع و جلال

(6/14)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 24و روى أبو بكر بن دريد في كتاب الأمالي عن أبي حاتم عن العتبي عن أبيه أنه عرض على معاوية فرس و عنده عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص فقال كيف ترى هذا الفرس يا أبا مطرف قال أراه أجش هزيما قال معاوية أجل لكنه لا يطلع على الكنائن ل يا أمير المؤمنين ما استوجبت منك هذا الجواب كله قال قد عوضتك عنه عشرين ألفا. قال أبو بكر بن دريد أراد عبد الرحمن التعريض بمعاوية بما قاله النجاشي في أيام صفين
و نجا ابن حرب سابح ذو علالة أجش هزيم و الرماح دواني إذا قلت أطراف الرماح تنوشه مرته له الساقان و القدمانفلم يحتمل معاوية منه هذا المزاح و قال لكنه لا يطلع على الكنائن لأن عبد الرحمن كان يتهم بنساء إخوته. و روى ابن دريد أيضا في كتاب الأمالي عن أبي حاتم النخعي أن النجاشي دخل على معاوية فقال له كيف قلت و نجا ابن حرب سابح و قد علمت أن الخيل لا تجري بمثلي فرارا قال إنما عنيت عتبة أخاك و عتبة جالس فلم يقل معاوية و لا عتبة شيئا.
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 25و ورد إلى البصرة غلام من بني فقعس كان يجلس في المربد فينشد شعرا و يجمع الناس إليه فذكر ذلك للفرزدق فقال لأسوءنه فجاء إليه فسمع شيئا من شعره فحسده عليه فقال ممن أنت قال من بني فقعس قال كيف تركت القنان فقال مقابل لصاف فقال يا غل هل أنجدت أمك قال بل أنجد أبي. قال أبو العباس المبرد أراد الفرزدق قول الشاعر
ضمن القنان لفقعس سوآتها إن القنان لفقعس لمعمر
و القنان جبل في بلاد فقعس يريد أن هذا الجبل يستر سوآتهم و أراد الغلام قول أبي المهوش
و إذا يسرك من تميم خلة فلما يسوءك من تميم أكثرأكلت أسيد و الهجيم و دارم أير الحمار و خصيتيه العنبرقد كنت أحسبهم أسود خفية فإذا لصاف يبيض فيه الحمر

(6/15)


و لصاف جبل في بلاد بني تميم و أراد بقوله هل أنجدت أمك أي إن كانت شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 26أنجدت فقد أصابها أبي فخرجت تشبهني فقال بل أنجد أبي يريد بل أبي أصاب أمك فوجدها بغيا. قال عبد الله بن سوار كنا على مائدة إسحاق بن عيسى بن علي الهاشمي فأتينا بحريرقد عملت بالسكر و السمن و الدقيق فقال معد بن غيلان العبدي يا حبذا السخينة ما أكلت أيها الأمير سخينة ألذ من هذه فقال إلا أنها تولد الرياح في الجوف كثيرا فقال إن المعايب لا تذكر على الخوان. أراد معد ما كانت العرب تعير به قريشا في الجاهلية من أكل السخينة و قد قدمنا ذكره و أراد إسحاق بن عيسى ما يعير به عبد القيس من الفسو قال الشاعر
و عبد القيس مصفر لحاها كان فساءها قطع الضباب
و كان سنان بن أحمس النميري يساير الأمير عمر بن هبيرة الفزاري و هو على بغلة له فتقدمت البغلة على فرس الأمير فقال اغضض بغلتك يا سنان فقال أيها الأمير إنها مكتوبة فضحك الأمير أراد عمر بن هبيرة قول جرير
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت و لا كلابا
و أراد سنان قول ابن داره
لا تأمنن فزاريا خلوت به على قلوصك و اكتبها بأسيار

(6/16)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 27و كانت فزارة تعير بإتيان الإبل و لذلك قال الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة هذا و يخاطب يزيد بن عبد الملكأمير المؤمنين و أنت بر تقي لست بالجشع الحريص أ أطعمت العراق و رافديه فزاريا أحذ يد القميص تفنق بالعراق أبو المثنى و علم قومه أكل الخبيص و لم يك قبلها راعي مخاض لتأمنه على وركي قلالرافدان دجلة و الفرات و أحذ يد القميص كناية عن السرقة و الخيانة و تفنق تنعم و سمن و جارية فنق أي سمينة. و البيت الآخر كناية عن إتيان الإبل الذي كانوا يعيرون به. و روى أبو عبيدة عن عبد الله بن عبد الأعلى قال كنا نتغدى مع الأمير عمر بن هبيرة فأحضر طباخه جام خبيص فكرهه للبيت المذكور السابق إلا أن جلده أدركه فقال ضعه يا غلام قاتل الله الفرزدق لقد جعلني أرى الخبيص فأستحي منه. قال المبرد و قد يسير البيت في واحد و يرى أثره عليه أبدا كقول أبي العتاهية شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 28في عبد الله بن معن بن زائدةفما تصنع بالسيف إذا لم تك قتالافكسر حلية السيف و صغها لك خلخالا
و كان عبد الله بن معن إذا تقلد السيف و رأى من يرمقه بان أثره عليه فظهر الخجل منه. و مثل ذلك ما يحكى أن جريرا قال و الله لقد قلت في بني تغلب بيتا لو طعنوا بعدها بالرماح في أستاههم ما حكوها و هو
و التغلبي إذا تنحنح للقرى حك استه و تمثل الأمثالا
و حكى أبو عبيدة عن يونس قال قال عبد الملك بن مروان يوما و عنده رجال هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر ودوا لو أنهم افتدوا منه بأموالهم فقال أسماء بن خارجة الفزاري نحن يا أمير المؤمنين قال و ما هو قال قول الحارث بن ظالم المري
و ما قومي بثعلبة بن سعد و لا بفزارة الشعر الرقابا

(6/17)


فو الله يا أمير المؤمنين إني لألبس العمامة الصفيقة فيخيل لي أن شعر قفاي قد بدا منها. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 29و قال هانئ بن قبيصة النميري نحن يا أمير المؤمنين قال و ما هو قال قول جريرفغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت و لا كلابا
كان النميري يا أمير المؤمنين إذا قيل له ممن أنت قال من نمير فصار يقول بعد هذا البيت من عامر بن صعصعة. و مثل ذلك ما يروى أن النجاشي لما هجا بني العجلان بقوله
إذا الله عادى أهل لؤم و قلة فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل قبيلة لا يغدرون بذمة و لا يظلمون الناس حبة خردل و لا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل و ما سمي العجلان إلا لقوله خذ القعب فاحلب أيها العبد و اعفكان الرجل منهم إذا سئل عن نسبه يقول من بني كعب و ترك أن يقول عجلاني. و كان عبد الملك بن عمير القاضي يقول و الله إن التنحنح و السعال ليأخذني و أنا في الخلاء فأرده حياء من قول القائل
إذا ذات دل كلمته لحاجة فهم بأن يقضى تنحنح أو سعل
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 30و من التعريضات اللطيفة ما روي أن المفضل بن محمد الضبي بعث بأضحية هزيل إلى شاعر فلما لقيه سأله عنها فقال كانت قليله الدم فضحك المفضل و قال مهلا يا أبا فلان أراد الشاعر قول القائلو لو ذبح الضبي بالسيف لم تجد من اللؤم للضبي لحما و لا دما
و روى ابن الأعرابي في الأمالي قال رأى عقال بن شبة بن عقال المجاشعي على إصبع ابن عنبس وضحا فقال ما هذا البياض على إصبعك يا أبا الجراح فقال سلح النعامة يا ابن أخي أراد قول جرير
فضح العشيرة يوم يسلح قائما سلح النعامة شبة بن عقال

(6/18)


و كان شبة بن عقال قد برز يوم الطوانة مع العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى رجل من الروم فحمل عليه الرومي فنكص و أحدث فبلغ ذلك جريرا باليمامة فقال فيه ذلك. و لقي الفرزدق مخنثا يحمل قماشه كأنه يتحول من دار إلى دار فقال أين راحت عمتنا فقال قد نفاها الأغر يا أبا فراس يريد قول جرير في الفرزدق
نفاك الأغر ابن عبد العزيز و حقك تنفى من المسجد
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 31و ذلك أن الفرزدق ورد المدينة و الأمير عليها عمر بن عبد العزيز فأكرمه حمزة بن عبد الله بن الزبير و أعطاه و قعد عنه عبد الله بن عمرو بن عفان و قصر به فمدح الفرزدق حمزة بن عبد الله و هجا عبد الله فقالما أنتم من هاشم في سرها فاذهب إليك و لا بني العوام قوم لهم شرف البطاح و أنتم وضر البلاط موطئوا الأقدامفلما تناشد الناس ذلك بعث إليه عمر بن عبد العزيز فأمره أن يخرج عن المدينة و قال له إن وجدتك فيها بعد ثلاث عاقبتك فقال الفرزدق ما أراني إلا كثمود حين قيل لهم تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فقال جرير يهجوه
نفاك الأغر ابن عبد العزيز و حقك تنفى من المسجدو سميت نفسك أشقى ثمود فقالوا ضللت و لم تهتدو قد أجلوا حين حل العذاب ثلاث ليال إلى الموعدوجدنا الفرزدق بالموسمين خبيث المداخل و المشهد
و حكى أبو عبيدة قال بينا نحن على أشراف الكوفة وقوف إذ جاء أسماء بن خارجة الفزاري فوقف و أقبل ابن مكعبر الضبي فوقف متنحيا عنه فأخذ أسماء خاتما كان في يده فصه فيروز أزرق فدفعه إلى غلامه و أشار إليه أن يدفعه إلى ابن مكعبر فأخذ ابن مكعبر شسع نعله فربطه بالخاتم و أعاده إلى أسماء فتمازحا و لم يفهم أحد من الناس ما أرادا أراد أسماء بن خارجة قول الشاعر
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر كذا كل ضبي من اللؤم أزرق
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 32و أراد ابن مكعبر قول الشاعرلا تأمنن فزاريا خلوت به على قلوصك و اكتبها بأسيار

(6/19)


و كانت فزارة تعير بإتيان الإبل و عيرت أيضا بأكل جردان الحمار لأن رجلا منهم كان في سفر فجاع فاستطعم قوما فدفعوا إليه جردان الحمار فشواه و أكله فأكثرت الشعراء ذكرهم بذلك و قال الفرزدق
جهز إذا كنت مرتادا و منتجعا إلى فزارة عيرا تحمل الكمراإن الفزاري لو يعمى فيطعمه أير الحمار طبيب أبرأ البصراإن الفزاري لا يشفيه من قرم أطايب العير حتى ينهش الذكرا
و في كتب الأمثال أنه اصطحب ثلاثة فزاري و تغلبي و مري و كان اسم التغلبي مرقمة فصادوا حمارا و غاب عنهما الفزاري لحاجة فقالوا نخبأ له جردانه نضحك منه و أكلوا سائره فلما جاء دفعا إليه الجردان و قالا هذا نصيبك فنهسه فإذا هو صلب فعرف أنهم عرضوا له بما تعاب به فزارة فاستل سيفه و قال لتأكلانه و دفعه إلى مرقمة فأبى أن يأكله فضربه فقتله فقال المري طاح مرقمة قال و أنت إن لم تلقمه فأكله. و ذكر أبو عبيدة أن إنسانا قال لمالك بن أسماء بن خارجة الفزاري اقض ديني أيها الأمير فإن علي دينا قال ما لك عندي إلا ما ضرب به الحمار بطنه فقال له عبيد بن أبي محجن شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 33بارك الله لكم يا بني فزارة في أير الحمار إن جعتم أكلتموه و إن أصابكم غرم قضيتموه به. و يحكى أن بني فزارة و بني هلال بن عامر بن صعصعة تنافروا إلى أنس بن مدرك الخثعمي و تراضوا به فقالت بنو هلال أكلتما بني فزارة أير الحمار فقالت بنو فزارة و أنتم مدرتم الحوض بسلحكم فقضى أنس لبني فزارة على بني هلال فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير كانوا تخاطروا عليها و في مادر يقول الشاعر
لقد جللت خزيا هلال بن عامر بني عامر طرا بسلحة مادرفأف لكم لا تذكروا الفخر بعدها بني عامر أنتم شرار المعاشر

(6/20)


و ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله و آلات لم يسمع مثلها فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليه و يعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم فأمر بدار ففرشت و في صحنها قدور يرتقى إليها بالسلاليم فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل و الناس جلوس على مراتبهم و الحضين شيخ كبير فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة ائذن لي في معاتبته قال لا ترده فإنه خبيث الجواب فأبى عبد الله إلا أن يأذن له و كان عبد الله يضعف و كان قد تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك فأقبل على الحضين فقال أ من الباب دخلت يا أبا ساسان قال أجل أسن عمك عن تسور شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 34الحيطان قال أ رأيت هذه القدور قال هي أعظم من ألا ترى قال ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها قال أجل و لا عيلان و لو رآها سمي شبعاو لم يسم عيلان فقال عبد الله أ تعرف يا أبا ساسان الذي يقول
عزلنا و أمرنا و بكر بن وائل تجر خصاها تبتغي من تحالف
فقال أعرفه و أعرف الذي يقول
فأدى الغرم من نادى مشيرا و من كانت له أسرى كلاب و خيبة من يخيب على غني و باهلة بن أعصر و الربابفقال أ فتعرف الذي يقول
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع و قد عرقت أفواه بكر بن وائل
قال نعم و أعرف الذي يقول
قوم قتيبة أمهم و أبوهم لو لا قتيبة أصبحوا في مجهل

(6/21)


قال أما الشعر فأراك ترويه فهل تقرأ من القرآن شيئا قال نعم أقرأ الأكثر الأطيب هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 35فأغضبه فقال و الله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه و هي حبلى من غه قال فما تحرك الشيخ عن هيأته الأولى بل قال على رسله و ما يكون تلد غلاما على فراشي فيقال فلان ابن الحضين كما يقال عبد الله بن مسلم فأقبل قتيبة على عبد الله و قال له لا يبعد الله غيرك. و غرضنا من هذه الحكاية الأدبية المستحسنة قول الحضين تعريضا بفاحشة عبد الله أجل أسن عمك عن تسور الحيطان. و يحكى أن أبا العيناء أهدى إلى أبي علي البصير و قد ولد له مولود حجرا يذهب في ذلك إلى
قوله ع الولد للفراش و للعاهر الحجر

(6/22)


فاستخرج أبو علي ذلك بفطنته و ذكائه ثم ولد بعد أيام لأبي العيناء مولود فقال له في أي وقت ولد لك قال وقت السحر فقال اطرد قياسه و خرج في الوقت الذي يخرج فيه أمثاله يعنى السؤال يعرض بأن أبا العيناء شحاذ و أن ولده خرج يشبهه. و من التعريضات و الرموز بالفعل دون القول ما ذكره مؤرج بن عمرو السدوسي في كتاب الأمثال أن الأحوص بن جعفر الكلابي أتاه آت من قومه فقال أن رجلا لا نعرفه جاءنا فلما دنا منا حيث نراه نزل عن راحلته فعلق على شجرة وطبا من لبن و وضع في بعض أغصانها حنظلة و وضع صرة من تراب و حزمة من شوك ثم أثار راحلته فاستوى عليها و ذهب و كان أيام حرب تميم و قيس عيلان فنظر الأحوص في ذلك فعي به فقال أرسلوا إلى قيس بن زهير فأتوا قيسا فجاءوا به إليه فقال له أ لم تك أخبرتني أنه لا يرد شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 36عليك أمر إلا عرفت ما فيه ما لم تر نواصي الخيل قال ما خبرك فأمه فقال قد بين الصبح لذي عينين هذا رجل قد أخذت عليه العهود ألا يكلمكم و لا يرسل إليكم و أنه قد جاء فأنذركم أما الحنظلة فإنه يخبركم أنه قد أتاكم بنو حنظلة و أما الصرة من التراب فإنه يزعم أنهم عدد كثير و أما الشوك فيخبركم أن لهم شوكة و أما الوطب فإنه يدلكم على قرب القوم و بعدهم فذوقوه فإن كان حليبا فالقوم قريب و إن كان قارصا فالقوم بعيد و إن كان المسيخ لا حلوا و لا حامضا فالقوم لا قريب و لا بعيد فقاموا إلى الوطب فوجدوه حليبا فبادروا الاستعداد و غشيتهم الخيل فوجدتهم مستعدين. و من الكنايات بل الرموز الدقيقة ما حكي أن قتيبة بن مسلم دخل على الحجاج و بين يديه كتاب قد ورد إليه من عبد الملك و هو يقرؤه و لا يعلم معناه و هو مفكر فقال ما الذي أحزن الأمير قال كتاب ورد من أمير المؤمنين لا أعلم معناه فقال إن رأى الأمير إعلامي به فناوله إياه و فيه أما بعد فإنك سالم و السلام. فقال قتيبة ما لي إن استخرجت لك ما أراد به قال ولاية خراسان قال

(6/23)


إنه ما يسرك أيها الأمير و يقر عينك إنما أراد قول الشاعر
يديرونني عن سالم و أديرهم و جلدة بين العين و الأنف سالم
أي أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر فولاه خراسان. حكى الجاحظ في كتاب البيان و التبيين قال خطب الوليد بن عبد الملك فقال شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 37أمير المؤمنين عبد الملك قال إن الحجاج جلدة ما بين عيني و أنفي ألا و إني أقول إن الحجاج جلدة وجهي كله. و علىكر هذا البيت حكي أن رجلا كان يسقي جلساءه شرابا صرفا غير ممزوج و كان يحتاج إلى المزج لقوته فجعل يغني لهم
يديرونني عن سالم و أديرهم و جلدة بين العين و الأنف سالم
فقال له واحد منهم يا أبا فلان لو نقلت ما من غنائك إلى شرابك لصلح غناؤنا و نبيذنا جميعا. و يشبه حكاية قتيبة و الحجاج كتاب عبد الملك إلى الحجاج جوابا عن كتاب كتبه إليه يغلظ فيه أمر الخوارج و يذكر فيه حال قطري و غيره و شدة شوكتهم فكتب إليه عبد الملك أوصيك بما أوصى به البكري زيدا و السلام. فلم يفهم الحجاج ما أراد عبد الملك فاستعلم ذلك من كثير من العلماء بأخبار العرب فلم يعلموه فقال من جاءني بتفسيره فله عشرة آلاف درهم و ورد رجل من أهل الحجاز يتظلم من بعض العمال فقال له قائل أ تعلم ما أوصى به البكري زيدا قال نعم أعلمه فقيل له فأت الأمير فأخبره و لك عشرة آلاف درهم فدخل عليه فسأله فقال نعم أيها الأمير إنه يعنى قوله

(6/24)


أقول لزيد لا تترتر فإنهم يرون المنايا دون قتلك أو قتلي فإن وضعوا حربا فضعها و إن أبوا فعرضة نار الحرب مثلك أو مثلي و إن رفعوا الحرب العوان التي ترى فشب وقود النار بالحطب الجزفقال الحجاج أصاب أمير المؤمنين فيما أوصاني و أصاب البكري فيما أوصى به زيدا و أصبت أيها الأعرابي و دفع إليه الدراهم. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 38و كتب إلى المهلب أن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به البكري زيدا و أنا أوصيك بذلك و بما أوصى به الحارث بن كعب يه. فنظر المهلب في وصية الحارث بن كعب فإذا فيها يا بني كونوا جميعا و لا تكونوا شيعا فتفرقوا و بزوا قبل أن تبزوا الموت في قوة و عز خير من الحياة في ذل و عجز. فقال المهلب صدق البكري و أصاب و صدق الحارث و أصاب. و اعلم أن كثيرا مما ذكرناه داخل في باب التعريض و خارج عن باب الكناية و إنما ذكرناه لمشابهة الكناية و كونهما كالنوعين تحت جنس عام و سنذكر كلاما كليا فيهما إذا انتهينا إلى آخر الفصل إن شاء الله. و من الكنايات قول أبي نواس
و ناظرة إلي من النقاب تلاحظني بطرف مستراب كشفت قناعها فإذا عجوز مموهة المفارق بالخضاب فما زالت تجشمني طويلا و تأخذ في أحاديث التصابي تحاول أن يقوم أبو زياد و دون قيامه شيب الغراب أتت بجرابها تكتال فيه فقامت و هي فارغة الجو الكناية في البيت الأخير و هي ظاهرة و منها قول أبي تمام
ما لي رأيت ترابكم بئس الثرى ما لي أرى أطوادكم تتهدم
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 39فكنى ببئس الثرى عن تنكر ذات بينهم و بتهدم الأطواد عن خفة حلومهم و طيش عقولهم. و منها قول أبي الطيبو شر ما قنصته راحتي قنص شهب البزاة سواء فيه و الرخم
كنى بذلك عن سيف الدولة و أنه يساوي بينه و بين غيره من أراذل الشعراء و خامليهم في الصلة و القرب. و قال الأقيشر لرجل ما أراد الشاعر بقوله
و لقد غدوت بمشرف يافوخه مثل الهراوة ماؤه يتفصدأرن يسيل من المراح لعابه و يكاد جلد إهابه يتقدد

(6/25)


قال إنه يصف فرسا فقال حملك الله على مثله و هذان البيتان من لطيف الكناية و رشيقها و إنما عنى العضو. و قريب من هذه الكناية قول سعيد بن عبد الرحمن بن حسان و هو غلام يختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب ولد هشام بن عبد الملك و قد جمشه عبد الصمد فأغضبه فدخل إلى هشام فقال له
إنه و الله لو لا أنت لم ينج مني سالما عبد الصمد
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 40فقال هشام و لم ذلك قالإنه قد رام مني خطة لم يرمها قبله مني أحد
قال هشام و ما هي ويحك قال
رام جهلا بي و جهلا بأبي يدخل الأفعى إلى بيت الأسد
فضحك هشام و قال لو ضربته لم أنكر عليك. و من هذا الباب قول أبي نواس
إذا ما كنت جار أبي حسين فنم و يداك في طرف السلاح فإن له نساء سارقات إذا ما بتن أطراف الرماح سرقن و قد نزلت عليه عضوي فلم أظفر به حتى الصباح فجاء و قد تخدش جانباه يئن إلى من ألم الجرو الكناية في قوله أطراف الرماح و في قوله في طرف السلاح. و من الكناية الحسنة قول الفرزدق يرثي امرأته و قد ماتت بجمع
و جفن سلاح قد رزئت فلم أنح عليه و لم أبعث عليه البواكياو في جوفه من دارم ذو حفيظة لو أن المنايا أخطأته لياليا
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 41أخذه الرضي رحمه الله تعالى فقال يرثي امرأةإن لم تكن نصلا فغمد نصول غالته أحداث الزمان بغول أو لم تكن بأبي شبول ضيغم تدمى أظافره فأم شبولو من الكنايات ما يروى أن رجلا من خواص كسرى أحب الملك امرأته فكان يختلف إليها سرا و تختلف إليه فعلم بذلك فهجرها و ترك فراشها فأخبرت كسرى فقال له يوما بلغني أن لك عينا عذبة و أنك لا تشرب منها فقال بلغني أيها الملك أن الأسد يردها فخفته فتركتها له فاستحسن ذلك منه و وصله. و من الكنايات الحسنة قول حاتم
و ما تشتكيني جارتي غير أنني إذا غاب عنها بعلها لا أزورهاسيبلغها خيري و يرجع بعلها إليها و لم يسبل على ستورها
فكنى بإسبال الستر عن الفعل لأنه يقع عنده غالبا. فأما

(6/26)


قول عمر من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب عليه المهر
فيمكن أن يكنى بذلك عن الجماع نفسه و يمكن أن يكنى به عن الخلوة فقط و هو مذهب أبي حنيفة و هو الظاهر من اللفظ لأمرين أحدهما قوله أغلق بابا فإنه لو أراد الكناية لم يحسن الترديد بأو و ثانيهما أنه قد كان مقررا عندهم أن الجماع نفسه يوجب كمال المهر فلم يكن به حاجة إلى ذكر ذلك. و يشبه قول حاتم في الكناية المقدم ذكرها قول بشار بن بشر شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 4و إني لعف عن زيارة جارتي و إني لمشنوء إلى اغتيابهاو لم أك طلابا أحاديث سرها و لا عالما من أي حوك ثيابهاإذا غاب عنها بعلها لم أكن لها زءورا و لم تنبح علي كلابها
و قال الأخطل في ضد ذلك يهجو رجلا و يرميه بالزنا
سبنتى يظل الكلب يمضغ ثوبه له في ديار الغانيات طريق
السبنتى النمر يريد أنه جري ء وقح و أن الكلب لأنسه به و كثرة اختلافه إلى جاراته يعرفه و يمضغ ثوبه يطلب ما يطعمه و العفيف ينكره الكلب و لا يأنس به ثم أكد ذلك بأنه قد صار له بكثرة تردده إلى ديار النساء طريق معروف. و من جيد الكناية عن العفة قول عقيل بن علفة امري
و لست بسائل جارات بيتي أ غياب رجالك أم شهود
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 43و لا ملق لذي الودعات سوطي ألاعبه و ريبته أريو من جيد ذلك و مختاره قول مسكين الدارمي
ناري و نار الجار واحدة و إليه قبلي تنزل القدرما ضر جارا لي أجاوره ألا يكون لبابة سترأعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر
و العرب تكني عن الفرج بالإزار فتقول هو عفيف الإزار و بالذيل فتقول هو طاهر الذيل و إنما كنوا بهما لأن الذيل و الإزار لا بد من رفعهما عند الفعل و قد كنوا بالإزار عن الزوجة في قول الشاعر
أ لا أبلغ أبا بشر رسولا فدا لك من أخي ثقة إزاري

(6/27)


يريد به زوجتي أو كنى بالإزار هاهنا عن نفسه. و قال زهير شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 4الحافظون ذمام عهدهم و الطيبون معاقد الأزرالستر دون الفاحشات و لا يلقاك دون الخير من ستر
و يقولون في الكناية عن العفيف ما وضعت مومسة عنده قناعها و لا رفع عن مومسة ذيلا. و قد أحسن ابن طباطبا في قوله
فطربت طربة فاسق متهتك و عففت عفة ناسك متحرج الله يعلم كيف كانت عفتي ما بين خلخال هناك و دملجو من الكناية عن العفة قول ابن ميادة
و ما نلت منها محرما غير أنني أقبل بساما من الثغر أفلجاو ألثم فاها آخذا بقرونها و أترك حاجات النفوس تحرجا
فكنى عن الفعل نفسه بحاجات النفوس كما كنى أبو نواس عنه بذلك العمل في قوله
مر بنا و العيون ترمقه تجرح منه مواضع القبل
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 45أفرغ في قالب الجمال فما يصلح إلا لذلك العمو كما كنى عنه ابن المعتز بقوله
و زارني في ظلام الليل مستترا يستعجل الخطو من خوف و من حذرو لاح ضوء هلال كاد يفضحه مثل القلامة قد قصت من الظفرفقمت أفرش خدي في الطريق له ذلا و أسحب أذيالي على الأثرفكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا و لا تسأل عن الخبر
و مما تطيروا من ذكره فكنوا عنه قولهم مات فإنهم عبروا عنه بعبارات مختلفة داخلة في باب الكناية نحو قولهم لعق إصبعه و قالوا اصفرت أنامله لأن اصفرار الأنامل من صفات الموتى قال الشاعر
فقرباني بأبي أنتما من وطني قبل اصفرار البنان و قبل منعاي إلى نسوة منزلها حران و الرقتانو قال لبيد
و كل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل
يعني الموت. و يقولون في الكناية عنه صك لفلان على أبي يحيى و أبو يحيى كنية الموت كني عنه بضده كما كنوا عن الأسود بالأبيض و قال الخوارزمي
سريعة موت العاشقين كأنما يغار عليهم من هواها أبو يحيى
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 46و كنى رسول الله ص عنه بهاذم اللذات فقال أكثروا من ذكر هاذم اللذات
و قال أبو العتاهية

(6/28)


رأيت المنايا قسمت بين أنفس و نفسي سيأتي بينهن نصيبهافيا هاذم اللذات ما منك مهرب تحاذر نفسي منك ما سيصيبها
و قالوا حلقت به العنقاء و حلقت به عنقاء مغرب قال
فلو لا دفاعي اليوم عنك لحلقت بشلوك بين القوم عنقاء مغرب
و قالوا فيه زل الشراك عن قدمه قال
لا يسلمون العداة جارهم حتى يزل الشراك عن قدمه
أي حتى يموت فيستغني عن لبس النعل. فأما قولهم زلت نعله فيكنى به تارة عن غلطه و خطئه و تارة عن سوء حاله و اختلال أمره بالفقر و هذا المعنى الأخير أراده الشاعر بقوله
سأشكر عمرا ما تراخت منيتي أيادي لم تمنن و إن هي جلت
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 47فتى غير محجوب الغنى عن صديقه و لا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى خلتي من حيث يخفى مكانها فكانت قذى عينيه حتى تجو يقولون فيه شالت نعامته قال
يا ليت أمي قد شالت نعامتها أيما إلى جنة أيما إلى نارليست بشبعى و لو أوردتها هجرا و لا بريا و لو حلت بذي قار
أي لا يشبعها كثرة التمر و لو نزلت هجر و هجر كثيرة النخل و لا تروى و لو نزلت ذا قار و هو موضع كثير الماء. قال ابن دريد و النعامة خط باطن القدم في هذه الكناية. و يقال أيضا للقوم قد تفرقوا بجلاء عن منازلهم شالت نعامتهم و ذلك لأن النعامة خفيفة الطيران عن وجه الأرض كأنهم خفوا عن منزلهم. و قال ابن السكيت يقال لمن يغضب ثم يسكن شالت نعامته ثم وقعت و قالوا أيضا في الكناية عن الموت مضى لسبيله و استأثر الله به و نقله إلى جواره و دعي فأجاب و قضى نحبه و النحب النذر كأنهم رأوا أن الموت لما كان حتما في الأعناق كان نذرا. و قالوا في الدعاء عليه اقتضاه الله بذنبه إشارة إلى هذا و قالوا ضحا ظله و معناه صار ظله شمسا و إذا صار الظل شمسا فقد عدم صاحبه. و يقولون أيضا خلى فلان مكانه و أنشد ثعلب للعتبي في السري بن عبد الله

(6/29)


كان الذي يأتي السري لحاجة أباح إليه بالذي جاء يطلب إذا ما ابن عبد الله خلى مكانه فقد حلقت بالجود عنقاء مغرب شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 48و قال دريد بن الصمفإن يك عبد الله خلى مكانه فما كان وقافا و لا طائش اليد
و كثير ممن لا يفهم يعتقد أنه أراد بقوله خلى مكانه فر و لو كان كذلك لكان هجاء. و يقولون وقع في حياض غتيم و هو اسم للموت. و يقولون طار من ماله الثمين يريدون الثمن يقال ثمن و ثمين و سبع و سبيع و ذلك لأن الميت ترث زوجته من ماله الثمن غالبا قال الشاعر يذكر جوده بماله و يخاطب امرأته
فلا و أبيك لا أولى عليها لتمنع طالبا منها اليمين فإني لست منك و لست مني إذا ما طار من مالي الثمينأي إذا مت فأخذت ثمنك من تركتي. و قالوا لحق باللطيف الخبير قال
و من الناس من يحبك حبا ظاهر الود ليس بالتقصيرفإذا ما سألته ربع فلس ألحق الود باللطيف الخبير
و قال أبو العلاء
لا تسل عن عداك أين استقروا لحق القوم باللطيف الخبير
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 49و يقولون قرض رباطه أي كاد يموت جهدا و عطشا. و قالوا في الدعاء عليه لا عد من نفره أي إذا عد قومه فلا عد معهم و إنما يكون كذلك إذا مات قال إمرؤ القيسفهو لا تنمي رميته ما له لا عد من نفره
و هذا إنما يريد به وصفه و التعجب منه لا أنه يدعو عليه حقيقة كما تقول لمن يجيد الطعن شلت يده ما أحذقه. و قالوا في الكناية عن الدفن أضلوه و أضلوا به قال الله تعالى وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي إذا دفنا في الأرض. و قال المخبل السعدي
أضلت بنو قيس بن سعد عميدها و سيدها في الدهر قيس بن عاصم
و يقولون للمقتول ركب الأشقر كناية عن الدم و إليه أشار الحارث بن هشام المخزومي في شعره الذي يعتذر به عن فراره يوم بدر عن أخيه أبي جهل بن هشام حين قتل
الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسي بأشقر مزبد

(6/30)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 50و علمت أني إن أقاتل واحدا أقتل و لا يضرر عدوي مشهدي فصددت عنهم و الأحبة فيهم طمعا لهم بعقاب يوم مرأراد بدم أشقر فحذف الموصوف و أقام الصفة مقامه كناية عنه و العرب تقيم الصفة مقام الموصوف كثيرا كقوله تعالى وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ أي على سفينة ذات ألواح و كقول عنترة
تمكو فريصته كشدق الأعلم
أي كشدق الإنسان الأعلم أو البعير الأعلم. و يقولون ترك فلان بجعجاع أي قتل قال أبو قيس بن الأسلت
من يذق الحرب يجد طعمها مرا و تتركه بجعجاع
أي تتركه قتيلا مخلى بالفضاء. و مما كنوا عنه قولهم للمقيد هو محمول على الأدهم و الأدهم القيد قال الشاعر
أوعدني بالسجن و الأداهم رجلي و رجلي شثنة المناسم
و قال الحجاج للغضبان بن القبعثرى لأحملنك على الأدهم فتجاهل عليه و قال مثل الأمير حمل على الأدهم و الأشهب. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 51و قد كنوا عن القيد أيضا بالأسمر أنشد ابن عرفة لبعضهمفما وجد صعلوك بصنعاء موثق بساقيه من سمر القيود كبول قليل الموالي مسلم بجريرة له بعد نومات العيون غليل يقول له البواب أنت معذب غداة غد أو رائح فقتيل بأكثر من وجدي بكم يوم راعني فراق حبيب ما إليه سبو هذا من لطيف شعر العرب و تشبيهها. و من كناياتهم عنه ركب ردعه و أصله في السهم يرمى به فيرتدع نصله فيه يقال ارتدع السهم إذا رجع النصل في السنخ متجاوزا فقولهم ركب ردعه أي وقص فدخل عنقه في صدره قال الشاعر و هو من شعر الحماسة
تقول و صكت صدرها بيمينها أ بعلي هذا بالرحا المتقاعس فقلت لها لا تعجلي و تبيني بلاي إذا التفت علي الفوارس أ لست أرد القرن يركب ردعه و فيه سنان ذو غرارين يابس لعمر أبيك الخير إني لخادم لضيفي و إني إن ركبت لفاو أنشد الجاحظ في كتاب البيان و التبيين لبعض الخوارج
و مسوم للموت يركب ردعه بين الأسنة و القنا الخطاريدنو و ترفعه الرماح كأنه شلو تنشب في مخالب ضاري

(6/31)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 52فثوى صريعا و الرماح تنوشه إن الشراة قصيرة الأعماو قد تطيرت العرب من لفظة البرص فكنوا عنه بالوضح فقالوا جذيمة الوضاح يريدون الأبرص و كني عنه بالأبرش أيضا و كل أبيض عند العرب وضاح و يسمون اللبن وضحا يقولون ما أكثر الوضح عند بني فلان. و مما تفاءلوا به قولهم للفلاة التي يظن فيها الهلاك مفازة اشتقاقا من الفوز و هو النجاة و قال بعض المحدثين
أحب الفأل حين رأى كثيرا أبوه عن اقتناء المجد عاجزفسماه لقلته كثيرا كتلقيب المهالك بالمفاوز
فأما من قال إن المفازة مفعلة من فوز الرجل أي هلك فإنه يخرج هذه اللفظة من باب الكنايات. و من هذا تسميتهم اللديغ سليما قال
كأني من تذكر ما ألاقي إذا ما أظلم الليل البهيم سليم مل منه أقربوه و أسلمه المجاور و الحميم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 53و قال أبو تمام في الشيبشعلة في المفارق استودعتني في صميم الأحشاء ثكلا صميماتستثير الهموم ما اكتن منها صعدا و هي تستثير الهمومادقة في الحياة تدعى جلالا مثلما سمي اللديغ سليماغرة بهمة ألا إنما كنت أغرا أيام كنت بهيماحلمتني زعمتم و أراني قبل هذا التحليم كنت حليما
و من هذا قولهم للأعور ممتع كأنهم أرادوا أنه قد متع ببقاء إحدى عينيه و لم يحرم ضوءهما معا. و من كناياتهم على العكس قولهم للأسود يا أبا البيضاء و للأسود أيضا يا كافور و للأبيض يا أبا الجون و للأقرع يا أبا الجعد. و سموا الغراب أعور لحدة بصره قال ابن ميادة
إلا طرقتنا أم عمرو و دونها فياف من البيداء يعشى غرابها

(6/32)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 54خص الغراب بذلك لحدة نظره أي فكيف غيره. و مما جاء في تحسين اللفظ ما روي أن المنصور كان في بستان داره و الربيع بين يديه فقال له ما هذه الشجرة فقال وفاق يا أمير المؤمنين و كانت شجرة خلاف فاستحسن منه ذلك. و مثل هذا استحسان الرشيدول عبد الملك بن صالح و قد أهدي إليه باكورة فاكهة في أطباق خيزران بعثت إلى أمير المؤمنين في أطباق قضبان تحمل من جنايا باكورة بستانه ما راج و أينع فقال الرشيد لمن حضر ما أحسن ما كنى عن اسم أمنا. و يقال إن عبد الملك سبق بهذه الكناية و إن الهادي قال لابن دأب و في يده عصا ما جنس هذه فقال من أصول القنا يعني الخيزران و الخيزران أم الهادي و الرشيد معا. و شبيه بذلك ما يقال إن الحسن بن سهل كان في يده ضغث من أطراف الأراك فسأله المأمون عنه ما هذه فقال محاسنك يا أمير المؤمنين تجنبا لأن يقول مساوئك و هذا لطيف. و من الكنايات اللطيفة أن عبد الملك بعث الشعبي إلى أخيه عبد العزيز بن مروان و هو أمير مصر يومئذ ليسبر أخلاقه و سياسته و يعود إليه فيخبره بحاله فلما عاد سأله فقال وجدته أحوج الناس إلى بقائك يا أمير المؤمنين و كان عبد العزيز يضعف. و من الألفاظ التي جاءت عن رسول الله ص من باب الكنايات
قوله ص بعثت إلى الأسود و الأحمر
يريد إلى العرب و العجم فكنى عن العرب بالسود و عن العجم بالحمر و العرب تسمى العجمي أحمر لأن الشقرة تغلب عليه. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 55قال ابن قتيبة خطب إلى عقيل بن علفة المري ابنته هشام بن إسماعيل المخزومي و كان والي المدينة و خال هشام بن عبد الملك فر لأنه كان أبيض شديد البياض و كان عقيل أعرابيا جافيا غيورا مفرط الغيرة و قال
رددت صحيفة القرشي لما أبت أعراقه إلا احمرارا
فرده لأنه توسم فيه أن بعض أعراقه ينزع إلى العجم لما رأى من بياض لونه و شقرته. و منه قول جرير يذكر العجم

(6/33)


يسموننا الأعراب و العرب اسمنا و أسماؤهم فينا رقاب المزاود
و إنما يسمونهم رقاب المزاود لأنها حمراء. و من كناياتهم تعبيرهم عن المفاخرة بالمساجلة و أصلها من السجل و هي الدلو الملي ء كان الرجلان يستقيان فأيهما غلب صاحبه كان الفوز و الفخر له قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب و أنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة من بيت العرب من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب برسول الله و ابني عمه و بعباس بن عبد المطلو يقال إن الفرزدق مر بالفضل و هو ينشد من يساجلني فقال أنا أساجلك شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 56و نزع ثيابه فقال الفضل برسول الله و ابن عمه فلبس الفرزدق ثيابه و قال أعض الله من يساجلك بما نفت المواسي من بظر أمه و رواها أبو بكر بن دريد بما أبقت المواسي. و قدزل القرآن العزيز على مخرج كلام العرب في المساجلة فقال تبارك و تعالى فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ الذنوب الدلو و المراد ما ذكرناه. و قال المبرد المراد بقوله و أنا الأخضر أي الأسمر و الأسود و العرب كانت تفتخر بالسمرة و السواد و كانت تكره الحمرة و الشقرة و تقول إنهما من ألوان العجم. و قال ابن دريد مراده أن بيتي ربيع أبدا مخصب كثير الخير لأن الخصب مع الخضرة و قال الشاعر
قوم إذا اخضرت نعالهم يتناهقون تناهق الحمر
أي إذا أعشبت الأرض اخضرت نعالهم من وطئهم إياها فأغار بعضهم على بعض و التناهق هاهنا أصواتهم حين ينادون للغارة و يدعو بعضهم بعضا و نظير هذا البيت قول الآخر
قوم إذا نبت الربيع لهم نبتت عداوتهم مع البقل
أي إذا أخصبوا و شبعوا غزا بعضهم بعضا و مثله قول الآخر
يا ابن هشام أهلك الناس اللبن فكلهم يغدو بسيف و قرن

(6/34)


أي تسفهوا لما رأوا من كثرة اللبن و الخصب فأفسدوا في الأرض و أغار بعضهم على بعض و القرن الجعبة. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 57و قيل لبعضهم متى يخاف من شر بني فلان فقال إذا ألبنوا. و من الكنايات الداخلة في باب الإيماء قول الشاعرفتى لا يرى قد القميص بخصره و لكنما يوهي القميص عواتقه
لما كان سلامة القميص من الخرق في موضع الخصر تابعا لدقة الخصر و وهنه في الكاهل تابعا لعظم الكاهل ذكر ما دل بهما على دقة خصر هذا الممدوح و عظم كاهله و منه قول مسلم بن الوليد
فرعاء في فرعها ليل على قمر على قضيب على حقف النقا الدهس كأن قلبي وشاحاها إذا خطرت و قلبها قلبها في الصمت و الخرس تجري محبتها في قلب عاشقها مجرى السلامة في أعضاء منتكفلما كان قلق الوشاح تابعا لدقة الخصر ذكره دالا به عليه. و من هذا الباب قول القائل
إذا غرد المكاء في غير روضة فويل لأهل الشاء و الحمرات
أومأ بذلك إلى الجدب لأن المكاء يألف الرياض فإذا أجدبت الأرض سقط في غير روضة و غرد فالويل حينئذ لأهل الشاء و الحمر. و منه قول القائل
لعمري لنعم الحي حي بني كعب إذا جعل الخلخال في موضع القلب
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 58القلب السوار يقول نعم الحي هؤلاء إذا ريع الناس و خافوا حتى إن المرأة لشدة خوفها تلبس الخلخال مكان السوار فاختصر الكلام اختصارا شديدا. و منه قول الأفوه الأوديإن بني أود هم ما هم للحرب أو للجدب عام الشموس
أشار إلى الجدب و قلة السحب و المطر أي الأيام التي كلها أيام شمس و صحو لا غيم فيها و لا مطر. فقد ذكرنا من الكنايات و التعريضات و ما يدخل في ذلك و يجري مجراه من باب الإيماء و الرمز قطعة صالحة و سنذكر شيئا آخر من ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى إذا مررنا في شرح كلامه ع بما يقتضيه و يستدعيه

(6/35)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 59حقيقة الكناية و التعريض و الفرق بينهماو قد كنا وعدنا أن نذكر كلاما كليا في حقيقة الكناية و التعريض و الفرق بينهما فنقول الكناية قسم من أقسام المجاز و هو إبدال لفظة عرض في النطق بها مانع بلفظة لا مانع عن النطق بها كقوله ع قرارات النساء لما وجد الناس قد تواضعوا على استهجان لفظة أرحام النساء. و أما التعريض فقد يكون بغير اللفظ كدفع أسماء بن خارجة الفص الفيروز الأزرق من يده إلى ابن معكبر الضبي ادكارا له بقول الشاعر
كذا كل ضبي من اللؤم أزرق
فالتعريض إذا هو التنبيه بفعل أو لفظ على معنى اقتضت الحال العدول عن التصريح به. و أنا أحكي هاهنا كلام نصر الله بن محمد بن الأثير الجزري في كتابه المسمى بالمثل السائر في الكناية و التعريض و أذكر ما عندي فيه قال خلط أرباب هذه الصناعة الكناية بالتعريض و لم يفصلوا بينهما فقال ابن سنان إن قول إمرئ القيس
فصرنا إلى الحسنى و رق كلامنا و رضت فذلت صعبة أي إذلال

(6/36)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 60من باب الكناية و الصحيح أنه من باب التعريض. قال و قد قال الغانمي و العسكري و ابن حمدون و غيرهم نحو ذلك و مزجوا أحد القسمين بالآخر. قال و قد حد قوم الكناية فقالوا هي اللفظ الدال على الشي ء بغير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين الكة و المكنى عنه كاللمس و الجماع فإن الجماع اسم لموضوع حقيقي و اللمس كناية عنه و بينهما وصف جامع إذ الجماع لمس و زيادة فكان دالا عليه بالوضع المجازي. قال و هذا الحد فاسد لأنه يجوز أن يكون حدا للتشبيه و المشبه فإن التشبيه هو اللفظ الدال على الوضع الحقيقي الجامع بين المشبه و المشبه به في صفة من الأوصاف أ لا ترى إذا قلنا زيد أسد كان ذلك لفظا دالا على غير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين زيد و الأسد و ذلك الوصف هو الشجاعة. قال و أما أصحاب أصول الفقه فقالوا في حد الكناية إنها اللفظ المحتمل و معناه أنها اللفظ الذي يحتمل الدلالة على المعنى و على خلافه. و هذا منقوض بالألفاظ المفردة المشتركة و بكثير من الأقوال المركبة المحتملة للشي ء و خلافه و ليست بكنايات. قال و عندي أن الكنايات لا بد أن يتجاذبها جانبا حقيقة و مجاز و متى أفردت جاز حملها على الجانبين معا أ لا ترى أن اللمس ي قوله سبحانه أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 61يجوز حمله على الحقيقة و المجاز و كل منهما يصح به المعنى و لا يختل و لهذا قال الشافعي إن ملامسة المرأة تنقض الوضوء و الطهارة. و ذهب غيره إلى أن المراد باللمس في الآية الجماع و هو الكناية مجازية فكل موضع يرد فيه الكناية فسبيله هذا السبيل و ليس التشبيه بهذه الصورة و لا غيره من أقسام المجاز لأنه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة و لو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى أ لا ترى أنا إذا قلنا زيد أسد لم يصح أن يحمل إلا على الجهة المجازية و هي التشبيه بالأسد في شجاعته و لا يجوز حمله على الجهة الحقيقية لأن

(6/37)


زيدا لا يكون سبعا ذا أنياب و مخالب فقد صار إذن حد الكناية أنها اللفظ الدال على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة و المجاز بوصف جامع بين الحقيقة و المجاز. قال و الدليل على ذلك أن الكناية في أصل الوضع أن تتكلم بشي ء و تريد غيره يقال كنيت بكذا عن كذا فهي تدل على ما تكلمت به و على ما أردته من غيره فلا يخلو إما أن يكون في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة و حقيقة أو في لفظ تجاذبه جانبا مجاز و مجاز أو في لفظ لا يتجاذبه أمر و ليس لنا قسم رابع. و الثاني باطل لأ ذاك هو اللفظ المشترك فإن أطلق من غير قرينة مخصصة كان مبهما غير مفهوم و إن كان معه قرينة صار مخصصا لشي ء بعينه و الكناية أن تتكلم بشي ء و تريد غيره و ذلك مخالف للفظ المشترك إذا أضيف إليه القرينة لأنه يختص بشي ء واحد بعينه و لا يتعداه إلى غيره و الثالث ب أيضا لأن المجاز لا بد له من حقيقة ينقل عنها لأنه فرع عليها. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 62و ذلك اللفظ الدال على المجاز إما أن يكون للحقيقة شركة في الدلالة عليه أو لا يكون لها شركة في الدلالة عليه كان اللفظ الواحد قد دل على ثلاثة أشياء أحدها الحقيقة و الآخن المجازان. و هذا مخالف لأصل الوضع لأن أصل الوضع أن تتكلم بشي ء و أنت تريد غيره و هاهنا يكون قد تكلمت بشي ء و أنت تريد شيئين غيرين و إن لم يكن للحقيقة شركة في الدلالة كان ذلك مخالفا لأصل الوضع أيضا إذ أصل الوضع أن تتكلم بشي ء و أنت تريد غيره فيكون الذي مت به دالا على غيره و إذا أخرجت الحقيقة عن أن يكون لها شركة في الدلالة لم يكن الذي تكلمت به و هذا محال فثبت إذن أن الكناية هي أن تتكلم بالحقيقة و أنت تريد المجاز. قال و هذا مما لم يسبقني إليه أحد. ثم قال قد يأتي من الكلام ما يجوز أن يكون كناية و يجوز أن يكون استعارة و يختلف ذلك باختلاف النظر إليه بمفرده و النظر إلى ما بعده كقول نصر بن سيار في أبياته المشهورة التي يحرض بها على بني أمية عند

(6/38)


خروج أبي مسلم
أرى خلل الرماد و ميض جمر و يوشك أن يكون له ضرام فإن النار بالزندين توري و إن الحرب أولها كلام شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 63أقول من التعجب ليت شعري أ أيقاظ أمية أم نيافالبيت الأول لو ورد بمفرده لكان كناية لأنه لا يجوز حمله على جانبي الحقيقة و المجاز فإذا نظرنا إلى الأبيات بجملتها كان البيت الأول المذكور استعارة لا كناية. ثم أخذ في الفرق بين الكناية و التعريض فقال التعريض هو اللفظ الدال على الشي ء من طريق المفهوم لا بالضع الحقيقي و لا بالمجازي فإنك إذا قلت لمن تتوقع معروفه و صلته بغير طلب أنا محتاج و لا شي ء في يدي و أنا عريان و البرد قد آذاني فإن هذا و أشباهه تعريض بالطلب و ليس اللفظ موضوعا للطلب لا حقيقة و لا مجازا و إنما يدل عليه من طريق المفهوم بخلاف قوله أَوْ لامَستُمُ النِّساءَ و على هذا ورد تفسير التعريض في خطبة النكاح كقولك للمرأة أنت جميلة أو إنك خلية و أنا عزب فإن هذا و شبهه لا يدل على طلب النكاح بالحقيقة و لا بالمجاز و التعريض أخفى من الكناية لأن دلالة الكناية وضعية من جهة المجاز و دلالة التعريض من جهة المفهوم المركب و ليست وضعية و إنما يسمى التعريض تعريضا لأن المعنى فيه يفهم من عرض اللفظ المفهوم أي من جانبه. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 64قال و اعلم أن الكناية تشتمل على اللفظ المفرد و اللفظ المركب فتأتي على هذا مرة و على هذا أخرى و أما التعريض فإنه يختص باللفظ مركب و لا يأتي في اللفظ المفرد البتة لأنه لا يفهم المعنى فيه من جهة الحقيقة و لا من جهة المجاز بل من جهة التلويح و الإشارة و هذا أمر لا يستقل به اللفظ المفرد و يحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب. قال فقد ظهر فيما قلنا في البيت الذي ذكره ابن سنان مثال الكناية و مثال التعريض هو بيت إمرئ القيس لأن غرض الشاعر منه أن يذكر الجماع إلا أنه لم يذكره بل ذكر كلاما آخر ففهم الجماع من عرضه لأن المصير إلى

(6/39)


الحسنى و رقة الكلام لا يدلان على الجماع لا حقيقة و لا مجازا. ثم ذكر أن من باب الكناية قوله سبحانه أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ... الآية قال كنى بالماء عن العلم و بالأودية عن القلوب و بالزبد عن الضلال. قال و قد تحقق ما اخترعناه و قدرناه من هذه الآية لأنه يجوز حملها على جانب الحقيقة كما يجوز حملها على جانب المجاز. قال و قد أخطأ الفراء حيث زعم أن قوله سبحانه و تعالى وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ كناية عن أمر النبي ص و أنه كنى عنه بالجبال قال و وجه الخطأ أنه لا يجوز أن يتجاذب اللفظ هاهنا جانبا الحقيقة و المجاز لأن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال الحقيقية فالآية إذا من باب المجاز لا من باب الكناية. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 65قال و من الكنايات المستحسنة قوله ع للحادي بالنساء يا أنجشة رفقا بالقوارير
و قول امرأة لرجل قعد منها مقعد القابلة لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه. و قول بديل بن ورقاء الخزاعي لرسول الله ص إن قريشا قد نزلت على ماء الحديبية معها العوذ المطافيل و إنهم صادوك عن البيت. قال فهذه كناية عن النساء و الصبيان لأن العوذ المطافيل الإبل الحديثات النتاج و معها أولادها. و من الكناية ما ورد في شهادة الزنا أن يشهد عليه برؤية الميل في المكحلة.
و منها قول عمر لرسول الله ص هلكت يا رسول الله قال و ما أهلكك قال حولت رحلي البارحة
قال أشار بذلك إلى الإتيان في غير المأتي. و منها قول ابن سلام لمن رأى عليه ثوبا معصفرا لو أن ثوبك في تنور أهلك لكان خيرا لك. قال و من الكنايات المستقبحة قول الرضي يرثي امرأة
إن لم تكن نصلا فغمد نصول
لأن الوهم يسبق في هذا الموضع إلى ما يقبح و إنما سرقه من قول الفرزدق في امرأته و قد ماتت بجمع

(6/40)


و جفن سلاح قد رزئت فلم أنح عليه و لم أبعث عليه البواكيا
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 66و في جوفه من دارم ذو حفيظة لو أن المنايا أخطأته لياليفأخذه الرضي فأفسده و لم يحسن تصريفه. قال فأما أمثلة التعريض فكثيرة منها قوله تعالى فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فقوله ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا تعريض بأنهم أحق بالنبوة و أن الله تعالى لو أراد أن يجعلها في واحد من البشر لجعلها فيهم فقالوا هب إنك واحد من الملأ و موازيهم في المنزلة فما جعلك أحق بالنبوة منهم أ لا ترى إلى قوله وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ. هذه خلاصة ما ذكره ابن الأثير في هذا الباب. و اعلم أنا قد تكلمنا عليه في كثير من هذا الموضع في كتابنا الذي أفردناه للنقض عليه و هو الكتاب المسمى بالفلك الدائر على المثل السائر فقلنا أولا أنه اختار حد الكناية و شرع يبرهن على التحديد و الحدود لا يبرهن عليها و لا هي من باب الدعاوي التي تحتاج إلى الأدلة لأن من وضع لفظ الكناية لمفهوم مخصوص لا يحتاج إلى دليل كمن وضع لفظ الجدار للحائط لا يحتاج إلى دليل. ثم يقال له لم قلت إنه لا بد من أن يتردد لفظ الكناية بين محملي حقيقة و مجاز و لم لا يتردد بين مجازين و ما استدللت به على ذلك لا معنى له.... أما أولا فلأنك أردت أن تقول إما أن تكون للفظة الدالة على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة أو لا يكون لها في الدلالة على الحقيقة شركة لأن كلامك هكذا يقتضي و لا ينتظم إلا إذا قلت هكذا فلم تقله و قلت إما أن يكون للحقيقة شركة في شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 67اللفظ الدال على المجازين و هذا قلب للكلام الصحيح و عكس له. و أما ثانيا فلم قلت إنه لا يكون للفظة

(6/41)


الدالة على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة التي هي أصل لهما فأما قولك ا فيقتضي أن يكون الإنسان متكلما بشي ء و هو يريد شيئين غيره و أصل الوضع أن يتكلم بشي ء و هو يريد غيره فليس معنى قولهم الكناية أن تتكلم بشي ء و أنت تريد غيره أنك تريد شيئا واحدا غيره كلا ليس هذا هو المقصود بل المقصود أن تتكلم بشي ء و أنت تريد ما هو مغايرو إن أردت شيئا واحدا أو شيئين أو ثلاثة أشياء أو ما زاد فقد أردت ما هو مغاير له لأن كل مغاير لما دل عليه ظاهر لفظك فليس في لفظه غير ما يقتضي الوحدة و الإفراد. و أما ثالثا فلم لا يجوز أن يكون للفظ الدال على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة أصلا بل يدل على المجازين فقط فأما قولك إذا خرجت الحقيقة عن أن يكون لها في ذلك شركة لم يكن الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به و هو محال و مرادك بهذا الكلام المقلوب أنه إذا خرجت اللفظة عن أن يكون لها شركة في الدلالة على الحقيقة التي هي موضوعة لها في الأصل لم يكن ما تكلم به الإنسان دالا على ما تكلم به و هو حقيقة و لا دالا أيضا على ما تكلم به و هو مجاز لأنه إذا لم يدل على الحقيقة و هي الأصل لم يجز أن يدل على المجاز الذي هو الفرع لأن انتفاء الدلالة على الأصل يوجب انتفاء الدلالة على الفرع و هكذا يجب أن يتأول استدلاله و إلا لم يكن له معنى محصل لأن اللفظ هو الدال على مفهوماته و ليس المفهوم دالا على اللفظ و لا له شركة في الدلالة عليه و لا على مفهوم آخر يعترض اللفظ بتقدير انتقال اللفظ اللهم إلا أن يكون دلالة عقلية و كلامنا في الألفاظ و دلالتها.

(6/42)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 68فإذا أصلحنا كلامه على ما ينبغي قلنا له في الاعتراض عليه لم قلت إنه إذا خرج اللفظ عن أن يكون له شركة في الدلالة على الحقيقة لم يكن ما تكلم به الإنسان دالا على ما تكلم به و لم لا يجوز أن يكون للحقيقة مجازان قد كثر استعمالهما حتنسيت تلك الحقيقة فإذا تكلم الإنسان بذلك اللفظ كان دالا به على أحد ذينك المجازين و لا يكون له تعرض ما بتلك الحقيقة فلا يكون الذي تكلم به غير دال على ما تكلم به لأن حقيقة تلك اللفظة قد صارت ملغاة منسية فلا يكون عدم إرادتها موجبا أن يكون اللفظ الذي يتكلم به المتكلم غير دال على ما تكلم به لأنها قد خرجت بترك الاستعمال عن أن تكون هي ما تكلم به المتكلم. ثم يقال إنك منعت أن يكون قولنا زيد أسد كناية و قلت لأنه لا يجوز أن يحمل أحد هذا اللفظ على أن زيدا هو السبع ذو الأنياب و المخالب و منعت من قول الفراء إن الجبال في قوله لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ كناية عن دعوة محمد ص و شريعته لأن أحدا لا يعتقد و لا يتصور أن مكر البشر يزيل الجبال الحقيقية عن أماكنها و منعت من قول من قال إن قول الشاعر
و لو سكتوا أثنت عليك الحقائب
من باب الكناية لأن أحدا لا يتصور أن الحقائب و هي جمادات تثني و تشكر. و قلت لا بد أن يصح حمل لفظ الكناية على محملي الحقيقة و المجاز ثم قلت إن شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 69قول عبد الله بن سلام لصاحب الثوب المعصفر لو أنك جعلت ثوبك في تنور أهلك كناية و قول الي في امرأة ماتت
إن لم تكن نصلا فغمد نصول
كناية و إن كانت مستقبحة
و قول النبي ص يا أنجشة رفقا بالقوارير

(6/43)


و هو يحدو بالنساء كناية فهل يجيز عاقل قط أو يتصور في الأذهان أن تكون المرأة غمدا للسيف و هل يحمل أحد قط قوله للحادي رفقا بالقوارير على أنه يمكن أن يكون نهاه عن العنف بالزجاج أو يحمل أحد قط قول ابن سلام على أنه أراد إحراق الثوب بالنار أو يحمل قط أحد قوله الميل في المكحلة على حقيقتها أو يحمل قط أحد قوله لا يحل لك فض الخاتم على حقيقته و هل يشك عاقل قط في أن هذه الألفاظ ليست دائرة بين المحملين دوران اللمس و الجماع و المصافحة و هذه مناقضة ظاهرة و لا جواب عنها إلا بإخراج هذه المواضع من باب الكناية أو بحذف ذلك الشرط الذي اشترطته في حد الكناية. فأما ما ذكره حكاية عن غيره في حد الكناية بأنها اللفظ الدال على الشي ء بغير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين الكناية و المكنى عنه و قوله هذا الحد هو حد التشبيه فلا يجوز أن يكون حد الكناية. فلقائل أن يقول إذا قلنا زيد أسد كان ذلك لظا دالا على غير الوضع الحقيقي و ذلك المدلول هو بعينه الوصف المشترك بين المشبه و المشبه به أ لا ترى أن المدلول هو الشجاعة و هي المشترك بين زيد و الأسد و أصحاب الحد قالوا في حدهم الكناية هي اللفظ الدال على الشي ء بغير الوضع الحقيقي باعتبار وصف جامع بينهما فعلوا المدلول أمرا شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 70و الوصف الجامع أمرا آخر باعتباره وقت الدلالة أ لا ترى أن لفظ لامَسْتُمُ يدل على الجماع الذي لم يوضع لفظ لامَسْتُمُ له و إنما يدل عليه باعتبار أمر آخر هو كون الملامسة مقدمة الجماع و مفضية إليه فقد تغاير إذن حدلتشبيه و حد الكناية و لم يكن أحدهما هو الآخر. فأما قوله إن الكناية قد تكون بالمفردات و التعريض لا يكون بالمفردات فدعوى و ذلك أن اللفظ المفرد لا ينتظم منه فائدة و إنما تفيد الجملة المركبة من مبتدأ و خبر أو من فعل و فاعل و الكناية و التعريض في هذا الباب سواء و أقل ما يمكن أن يقيد في الكناية قولك لامست هندا و كذلك أقل ما

(6/44)


يمكن أن يفيد في التعريض أنا عزب كما قد ذكره هو في أمثلة التعريض فإن قال أردت أنه قد يقال اللمس يصلح أن يكنى به عن الجماع و اللمس لفظ مفرد قيل له و قد يقال التعزب يصلح أن يعرض به في طلب النكاح. فأما قوله إن بيت نصر بن سيار إذا نظر إليه لمفرده صلح أن يكون كناية و إنما يخرجه عن كونه كناية ضم الأبيات التي بعده إليه و يدخله في باب الاستعارة فلزم عليه أن يخرج قول عمر حولت رحلي عن باب الكناية بما انضم إليه من قوله هلكت
و بما أجابه رسول الله ص من قوله أقبل و أدبر و اتق الدبر و الحيضة
و بقرينة الحال و كان يجب إلا تذكر هذه اللفظة في أمثلة الكنايات. فأما بيت إمرئ القيس فلا وجه لإسقاطه من باب الكناية و إدخاله في باب شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 71التعريض إلا فيما اعتمد عليه من أن من شرط الكناية أن يتجاذبها جانبا حقيقة و مجاز و قد بينا بطلانشتراط ذلك فبطل ما يتفرع عليه. و أما قول بديل بن ورقاء معها العوذ المطافيل فإنه ليس بكناية عن النساء و الأولاد كما زعم بل أراد به الإبل و نتاجها فإن كتب السير كلها متفقة على أن قريشا لم يخرج معها في سنة الحديبية نساؤها و أولادها و لم يحارب رسول الله ص قوما أحضروا معهم نساءهم و أولادهم إلا هوازن يوم حنين و إذا لم يكن لهذا الوجه حقيقة و لا وجود فقد بطل حمل اللفظ عليه. فأما ما زرى به على الرضي رحمه الله تعالى من قوله
إن لم تكن نصلا فغمد نصول

(6/45)


و قوله هذا مما يسبق الوهم فيه إلى ما يستقبح و استحسانه شعر الفرزدق و قوله إن الرضي أخذه منه فأساء الأخذ فالوهم الذي يسبق إلى بيت الرضي يسبق مثله إلى بيت الفرزدق لأنه قد جعل هذه المرأة جفن السلاح فإن كان الوهم يسبق هناك إلى قبيح فهاهنا أيضا يسبق إلى مثله. و أما الآية التي مثل بها على التعريض فإنه قال إن قوله تعالى ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه و لم يبين ذلك و إنما قال فحوى الكلام أنهم قالوا له هب إنك واحد من الملإ و موازيهم في المنزلة فما جعلك أحق بالنبوة منهم أ لا ترى إلى قوله وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ و هذا الكلام لا يقتضي ما ادعاه أولا من التعريض لأنه ادعى أن قوله ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه و ما قرره به يقتضي مساواته لهم و لا يقتضي كونهم أحق بالنبوة منه فبطل دعوى الأحقية التي زعم أن التعريض إنما كان بها. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 72فأما قوله تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً و قوله إن هذا من باب الكناية و إنه تعالى كنى به عن العلم و الضلال و قلوب البشر فبعيد و الحكيسبحانه لا يجوز أن يخاطب قوما بلغتهم فيعمي عليهم و أن يصطلح هو نفسه على ألفاظ لا يفهمون المراد بها و إنما يعلمها هو وحده أ لا ترى أنه لا يجوز أن يحمل قوله تعالى وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ على أنه أراد أنا زينا رءوس البشر بالحواس الباطنة و الظاهرة المجعولة فيها و جعلناها بالقوى الفكرية و الخيالية المركبة في الدماغ راجمة و طاردة للشبه المضلة و إن من حمل كلام الحكيم سبحانه على ذلك فقد نسبه إلى الإلغاز و التعمية و ذلك يقدح في حكمته تعالى و المراد بالآية المقدم ذكرها ظاهرها و المتكلف لحملها على غيرها سخيف العقل و

(6/46)


يؤكد ذلك قوله تعالى وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ أ فترى الحكيم سبحانه يقول إن للذهب و الفضة زبدا مثل الجهل و الضلال و يبين ذلك قوله كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ فضرب سبحانه الماء الذي يبقى في الأرض فينتفع به الناس و الزبد الذي يعلو فوق الماء فيذهب جفاء مثلا للحق و الباطل كما صرح به سبحانه فقال كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ و لو كانت هذه الآية من باب الكنايات و قد كنى سبحانه بالأودية عن القلوب و بالماء الذي أنزله من السماء عن العلم و بالزبد عن الضلال لما جعل تعالى هذه الألفاظ أمثالا فإن الكناية خارجة عن باب المثل و لهذا لا تقول إن قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ من باب المثل و لهذا أفرد هذا الرجل في كتابه بابا آخر غير باب الكناية سماه باب المثل و جعلهما قسمين متغايرين في علم البيان و الأمر في هذا شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 73الموضع واضح و لكن هذا الرجل كان يحب هذه الترهات و يذهب وقته فيها و قد استقصينا في مناقضته و الرد عليه في كتابنا الذي أشرنا إليه. فأما قه ع كلما نجم منهم قرن قطع فاستعارة حسنة يريد كلما ظهر منهم قوم استؤصلوا فعبر عن ذلك بلفظة قرن كما يقطع قرن الشاة إذا نجم و قد صح إخباره ع عنهم أنهم لم يهلكوا بأجمعهم في وقعة النهروان و أنها دعوة سيدعو إليها قوم لم يخلقوا بعد و هكذا وقع و صح إخباره ع أيضا أنه سيكون آخرهم لصوصا سلابين فإن دعوة الخوارج اضمحلت و رجالها فنيت حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطاع طريق متظاهرين بالفسوق و الفساد في الأرض
مقتل الوليد بن طريف الخارجي و رثاء أخته له

(6/47)


فممن انتهى أمره منهم إلى ذلك الوليد بن طريف الشيباني في أيام الرشيد بن المهدي فأشخص إليه يزيد بن مزيد الشيباني فقتله و حمل رأسه إلى الرشيد و قالت أخته ترثيه و تذكر أنه كان من أهل التقى و الدين على قاعدة شعراء الخوارج و لم يكن الوليد كما زعمت
أيا شجر الخابور ما لك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يحب الزاد إلا من التقى و لا المال إلا من قنا و سيوف شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 74و لا الذخر إلا كل جرداء شطبة و كل رقيق الشفرتين خفيف فقدناك فقدان الربيع و ليتنا فديناك من ساداتنا بألو قال مسلم بن الوليد يمدح يزيد بن مزيد و يذكر قتله الوليد
و المارق ابن طريف قد دلفت له بعارض للمنايا مسبل هطل لو أن شيئا بكى مما أطاف به فاز الوليد بقدح الناضل الخصل ما كان جمعهم لما لقيتهم إلا كرجل جراد ريع منجفل فاسلم يزيد فما في الملك من أود إذا سلمت و لا في الدين من خخروج ابن عمرو الخثعمي و أمره مع محمد بن يوسف الطائي
ثم خرج في أيام المتوكل ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة فقطع الطريق و أخاف السبيل و تسمى بالخلافة فحاربه أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي الثغري الصامتي فقتل كثيرا من أصحابه و أسر كثيرا منهم و نجا بنفسه هاربا فمدحه أبو عبادة البحتري و ذكر ذلك فقال
كنا نكفر من أمية عصبة طلبوا الخلافة فجرة و فسوقاو نلوم طلحة و الزبير كليهما و نعنف الصديق و الفاروقاو نقول تيم أقربت و عديها أمرا بعيدا حيث كان سحيقاو هم قريش الأبطحون إذا انتموا طابوا أصولا في العلا و عروقا

(6/48)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 75حتى غدت جشم بن بكر تبتغي إرث النبي و تدعيه حقوقاجاءوا براعيهم ليتخذوا به عمدا إلى قطع الطريق طريقاعقدوا عمامته برأس قناته و رأوه برا فاستحال عقوقاو أقام ينفذ في الجزيرة حكمه و يظن وعد الكاذبين صدوقاحتى إذا ما الحية الذكر انكفمن أرزن حربا يمج حريقاغضبان يلقى الشمس منه بهامة يعشى العيون تألقا و بروقاأوفى عليه فظل من دهش يظن البر بحرا و الفضاء مضيقاغدرت أمانيه به و تمزقت عنه غيابة سكره تمزيقاطلعت جيادك من ربا الجودي قد حملن من دفع المنون وسوقافدعا فريقا من سيوفك حتفهم و شددت في عقد الحديد فريقاو مضى ابن عمرو قد أساء بعمره ظنا ينزق مهره تنزيقافاجتاز دجلة خائضا و كأنها قعب على باب الكحيل أريقالو خاضها عمليق أو عوج إذا ما جوزت عوجا و لا عمليقالو لا اضطراب الخوف في أحشائه رسب العباب به فمات غريقالو نفسته الخيل لفتة ناظر ملأ البلاد زلازلا و فتوقالثنى صدور الخيل تكشف كربة و لوى رماح الخط تفرج ضيقاو لبكرت بكر و راحت تغلب في نصر دعوته إليه طروقاحتى يعود الذئب ليثا ضيغما و الغصن ساقا و القرارة نيقا
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 76هيهات مارس فليقا متيقظا قلقا إذا سكن البليد رشيقامستسلفا جعل الغبوق صبوحه و مرى صبوح غد فكان غبوقو هذه القصيدة من ناصع شعر البحتري و مختاره
ذكر جماعة ممن كان يرى رأي الخوارج

(6/49)


و قد خرج بعد هذين جماعة من الخوارج بأعمال كرمان و جماعة أخرى من أهل عمان لا نباهة لهم و قد ذكرهم أبو إسحاق الصابي في الكتاب التاجي و كلهم بمعزل عن طرائق سلفهم و إنما وكدهم و قصدهم إخافة السبيل و الفساد في الأرض و اكتساب الأموال من غير حلها و لا حاجة لنا إلى الإطالة بذكرهم و من المشهورين برأي الخوارج الذين تم بهم صدق قول أمير المؤمنين ع إنهم نطف في أصلاب الرجال و قرارات النساء عكرمة مولى ابن عباس و مالك بن أنس الأصبحي الفقيه يروى عنه أنه كان يذكر عليا ع و عثمان و طلحة و الزبير فيقول و الله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر. و منهم المنذر بن الجارود العبدي و منهم يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج. و روي أن الحجاج أتي بامرأة من الخوارج و بحضرته مولاه يزيد بن أبي مسلم و كان يستسر برأي الخوارج فكلم الحجاج المرأة فأعرضت عنه فقال لها يزيد الأمير ويلك يكلمك فقالت بل الويل لك أيها الفاسق الردي ء و الردي ء عند الخوارج هو الذي يعلم الحق من قولهم و يكتمه. و منهم صالح بن عبد الرحمن صاحب ديوان العراق. و ممن ينسب إلى هذا الرأي من السلف جابر بن زيد و عمرو بن دينار و مجاهد. و ممن ينسب إليه بعد هذه الطبقة أبو عبيدة معمر بن المثنى تيمي يقال إنه كان يرى رأي الصفرية. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 77و منهم اليمان بن رباب و كان على رأي البيهسية و عبد الله بن يزيد و محمد بن حرب و يحيى بن كامل و هؤلاء إباضية. و قد نسب إلى هذا المذهب أيضا من قبل أبو هارون العبدي و أبو الشعثاء و إسماعيل بن سم و هبيرة بن بريم. و زعم ابن قتيبة أن ابن هبيرة كان من غلاة الشيعة. و نسب أبو العباس محمد بن يزيد المبرد إلى رأي الخوارج لإطنابه في كتاب المعروف ب الكامل في ذكرهم و ظهور الميل منه إليهم

(6/50)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 6078- و قال ع في الخوارجلَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ
قال الرضي رحمه الله يعني معاوية و أصحابه
مراده أن الخوارج ضلوا بشبهة دخلت عليهم و كانوا يطلبون الحق و لهم في الجملة تمسك بالدين و محاماة عن عقيدة اعتقدوها و إن أخطئوا فيها و أما معاوية فلم يكن يطلب الحق و إنما كان ذا باطل لا يحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة و أحواله كانت تدل على ذلك فإنه لم يكن من أرباب الدين و لا ظهر عنه نسك و لا صلاح حال و كان مترفا يذهب مال الفي ء في مآربه و تمهيد ملكه و يصانع به عن سلطانه و كانت أحواله كلها مؤذنة بانسلاخه عن العدالة و إصراره على الباطل و إذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه و تحارب الخوارج عليه و إن كاوا أهل ضلال لأنهم أحسن حالا منه فإنهم كانوا ينهون عن المنكر و يرون الخروج على أئمة الجور واجبا. و عند أصحابنا أن الخروج على أئمة الجور واجب و عند أصحابنا أيضا أن الفاسق المتغلب شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 79بغير شبهة يعتمد عليها لا يجوز أن ينصر على من يخرجليه ممن ينتمي إلى الدين و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر بل يجب أن ينصر الخارجون عليه و إن كانوا ضالين في عقيدة اعتقدوها بشبهة دينية دخلت عليهم لأنهم أعدل منه و أقرب إلى الحق و لا ريب في تلزم الخوارج بالدين كما لا ريب في أن معاوية لم يظهر عنه مثل ذلك شرح هج البلاغة ج : 5 ص : 80عود إلى أخبار الخوارج و ذكر رجالهم و حروبهم

(6/51)


ذكر أبو العباس المبرد في الكتاب الكامل أن عروة بن أدية أحد بني ربيعة بن حنظلة و يقال إنه أول من حكم حضر حرب النهروان و نجا فيها فيمن نجا فلم يزل باقيا مدة من خلافة معاوية ثم أخذ فأتي به زياد و معه مولى له فسأله عن أبي بكر و عمر فقال خيرا فقال له فما تقول في عثمان و في أبي تراب فتولي عثمان ست سنين من خلافته ثم شهد عليه بالكفر و فعل في أمر علي ع مثل ذلك إلى أن حكم ثم شهد عليه بالكفر ثم سأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا ثم سأله عن نفسه فقال أولك لريبة و آخرك لدعوة و أنت بعد عاص ربك فأمر فضربت عنقه ثم دعا مولاه فقال صف لي أموره فقال أ أطنب أم أختصر قال بل اختصر قال ما أتيته بطعام في نهار قط و لا فرشت له فراشا في ليل قط. قال و حدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة فأحسوا بالخوارج فقال واصل لأهل الرفقة إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا و دعوني و إياهم و قد كانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا شأنك فخرج إليهم فقالوا ما أنت و أصحابك فقال قوم مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله و يفهموا حدوده فقالوا قد أجرناكم قال فعلمونا فجعلوا يعلمونهم أحكامهم و واصل يقول قد قبلت أنا و من معي قالوا فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا فقال ليس ذاك إليكم قال الله و عز و جل وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 81فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا ذاك لكم فساروا معهم بجمعهم حتى أبلغوهالمأمن. و قال أبو العباس أتي عبد الملك بن مروان برجل من الخوارج فبحثه فرأى منه ما شاء فهما و علما ثم بحثه فرأى منه ما شاء أدبا و ذهنا فرغب فيه فاستدعاه إلى الرجوع عن مذهبه فرآه مستبصرا محققا فزاده في الاستدعاء فقال تغنيك الأولى عن الثانية و قد قلت و سمعت فاسمع أقل قال قل فجعل يبسط من قول الخوارج و يزين له من مذهبهم

(6/52)


بلسان طلق و ألفاظ بينة و معان قريبة فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته و فضله لقد كاد يوقع في خاطري أن الجنة إنما خلقت لهم و أني أولى العباد بالجهاد منهم ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة و قرر في قلبي من الحق فقلت له الدنيا و الآخرة لله و قد سلطنا الله في الدنيا و مكن لنا فيها و أراك لست تجيبنا إلى ما نقول و الله لأقتلنك إن لم تطع فأنا في ذلك إذ دخل علي بابني مروان. قال أبو العباس و كان مروان أخا يزيد بن عبد الملك لأمه أمهما عاتكة بنت يزيد بن معاوية و كان أبيا عزيز النفس فدخل به على أبيه في هذا الوقت باكيا شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 82لضرب المؤدب إياه فشق ذلك على عبد الملك فأقبل عليه الخارجي و قال له دعه يبك فإنه أرحب لشدقه و أصح لدماغه و أذهب لصوته و أحرى ألا تأبى عليه عينه إذا حضرته طاعة و اسعى عبرتها. فأعجب ذلك من قوله عبد الملك و قال له متعجبا أ ما يشغلك ما أنت فيه و يعرضك عن هذا فقال ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شي ء فأمر بحبسه و صفح عن قتله و قال بعد معتذرا إليه لو لا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك ثم قال عبد الملك لقد شككني ووهمني حتى مالت بي عصمة الله و غير بعيد أن يستهوي من بعدي
مرداس بن حدير

(6/53)


قال أبو العباس و كان من المجتهدين من الخوارج البلجاء و هي امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. و كان مرداس بن حدير أبو بلال أحد بني ربيعة بن حنظلة ناسكا تعظمه الخوارج و كان كثير الصواب في لفظه مجتهدا فلقيه غيلان بن خرشة الضبي فقال يا أبا بلال إني سمعت الأمير البارحة يعني عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء و أحسبها ستؤخذ فمضى إليها أبو بلال فقال إن الله قد وسع على المؤمنين في التقية فاستتري فإن هذا شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 83المسرف على نفسه الجبار العنيد قد ذكرك قالت إن يأخذني فهو قى به فأما أنا فما أحب أن يعنت إنسان بسببي فوجه إليها عبيد الله بن زياد فأتي بها فقطع يديها و رجليها و رمى بها في السوق فمر بها أبو بلال و الناس مجتمعون فقال ما هذا قالوا البلجاء فعرج إليها فنظر ثم عض على لحيته و قال لنفسه لهذه أطيب نفسا من بقية الدنيا منك يا مرداس. قال ثم إن عبيد الله أخذ مرداسا فحبسه فرأى صاحب السجن منه شدة اجتهاده و حلاوة منطقه فقال له إني أرى لك مذهبا حسنا و إني لأحب أن أوليك معروفا أ فرأيتك إن تركتك تنصرف ليلا إلى بيتك أ تدلج إلي قال نعم فكان يفعل ذلك به. و لج عبيد الله في حبس الخوارج و قتلهم و كلم في بعضهم فأبى و قال أقمع النفاق قبل أن ينجم لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع. فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلا من الشرطة فقال ابن زياد ما أدري ما أصنع بهؤلاء كلما أمرت رجلا بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله لأقتلن من في حبسي منهم و أخرج السجان مرداسا إلى منزله كما كان يفعل فأتى مرداسا الخبر فلما كان في السحر تهيأ للرجوع إلى السجن فقال له أهله اتق الله في نفسك فإنك إذا رجعت قتلت فأبى و قال و الله ما كنت لألقى الله غادرا فرجع إلى السجان فقال إني قد علمت ما عزم عليه صاحبك قال أعلمت ثم جئت. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 84قال أبو العباس و يروى أن

(6/54)


مرداسا مر بأعرابي يهنأ بعيرا له فهرج البعير فسقط مرداس مغشيا عليه فظن الأعرابي أنه صرع فقرأ في أذنه فلما أفاق قال له الأعرابي إني قرأت في أذنك فقال مرداس ليس بي ما خفته علي و لكني رأيت بعيرا ج من القطران فذكرت به قطران جهنم فأصابني ما رأيت فقال الأعرابي لا جرم و الله لا أفارقك أبدا. قال أبو العباس و كان مرداس قد شهد مع علي ع صفين ثم أنكر التحكيم و شهد النهروان و نجا فيمن نجا ثم حبسه ابن زياد كما ذكرناه و خرج من حبسه فرأى جد ابن زياد في طلب الشراة فعزم على الخروج فقال لأصحابه إنه و الله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للقصد و الله إن الصبر على هذا لعظيم و إن تجريد السيف و إخافة الناس لعظيم و لكنا ننتبذ عنهم و لا نجرد سيفا و لا نقاتل إلا من قاتلنا فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا منهم حريث بن حجل و كهمس بن طلق الصريمي و أرادوا أن يولوا أمرهم حريثا فأبى فولوا أمرهم مرداسا فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاري و كان له صديقا فقال يا أخي أين تريد قال أريد أن أهرب بديني و دين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة فقال أ علم بكم أحد قال لا قال فارجع قال أ و تخاف علي نكرا قال نعم و أن يؤتى بك قال لا تخف فإني لا أجرد سيفا و لا أخيف أحدا و لا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل آسك و هي ما بين رامهرمز و أرجان فمر به مال يحمل إلى ابن شرح نهج البلاغة ج : 5 ص :5زياد و قد قارب أصحابه الأربعين فحط ذلك المال و أخذ منه عطاءه و عطاء أصحابه و رد الباقي على الرسل و قال قولوا لصاحبكم إنا قبضنا أعطياتنا فقال بعض أصحابه علام ندع الباقي فقال إنهم يقيمون هذا الفي ء كما يقيمون الصلاة فلا نقاتلهم على الصلاة. قال أبو العباس ولأبي بلال مرداس في الخروج أشعار اخترت منها قوله

(6/55)


أ بعد ابن وهب ذي النزاهة و التقى و من خاض في تلك الحروب المهالكاأحب بقاء أو أرجي سلامة و قد قتلوا زيد بن حصن و مالكافيا رب سلم نيتي و بصيرتي و هب لي التقى حتى ألاقي أولئكا
قال أبو العباس ثم إن عبيد الله بن زياد ندب جيشا إلى خراسان فحكى بعض من كان في ذلك الجيش قال مررنا بآسك فإذا نحن بهم ستة و ثلاثين رجلا فصاح بنا أبو بلال أ قاصدون لقتالنا أنتم قال و كنت أنا و أخي قد دخلنا زربا فوقف أخي ببابه فقال السلام عليكم فقال مرداس و عليكم السلام ثم قال لأخي أ جئتم لقتالنا قال لا إنما نريد خراسان قال فأبلغوا من لقيتم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض و لا لنروع أحدا و لكن هربا من الظلم و لسنا نقاتل إلا من يقاتلنا و لا نأخذ من الفي ء إلا أعطياتنا ثم قال أ ندب لنا أحد قلنا نعم أسلم بن زرعة الكلاي قال فمتى ترونه يصل إلينا قلنا يوم كذا و كذا فقال أبو بلال حسبنا الله و نعم الوكيل. قال أبو العباس و جهز عبيد الله بن زياد أسلم بن زرعة في أسرع مدة و وجهه إليهم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 86في ألفين و قد تتام أصحاب مرداس أربعين رجلا فلما صار أسلم إليهم ص به أبو بلال اتق الله يا أسلم فإنا لا نريد فسادا في الأرض و لا نحتجر فيئا فما الذي تريد قال أريد أن أردكم إلى ابن زياد قال إذن يقتلنا قال و إن قتلكم قال تشرك في دمائنا قال إني أدين بأنه محق و أنتم مبطلون فصاح به حريث بن حجل أ هو محق و هو يطيع الفجرة و هو أحدهم و يقتل بالظنة و يخص بالفي ء و يجور في الحكم أ ما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة برآء و أنا أحد قتلته و قد وضعت في بطنه دراهم كانت معه. ثم حملوا على أسلم حملة رجل واحد فانهزم هو و أصحابه من غير قتال و كاد يأسره معبد أحد الخوارج فلما عاد إلى ابن زياد غضبعليه غضبا شديدا و قال ويلك أ تمضي في ألفين فتهزم بهم من حملة أربعين فكان أسلم يقول لأن يذمني ابن زياد و أنا حي أحب إلي أن يمدحني و أنا ميت. و كان إذا

(6/56)


خرج إلى السوق أو مر بصبيان صاحوا به أبو بلال وراءك و ربما صاحوا به يا معبد خذه حتى شكا إلى ابن زياد فأمر الشرط أن يكفوا الناس عنه ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك من بني تيم اللات بن ثعلبة أحد الخوارج
فلما أصبحوا صلوا و قاموا إلى الجرد العتاق مسومينافلما استجمعوا حملوا عليهم فظل ذوو الجعائل يقتلونابقية يومهم حتى أتاهم سواد الليل فيه يراوغونايقول نصيرهم لما أتاهم فإن القوم ولوا هاربيناأ ألفا مؤمن فيكم زعمتم و يهزمكم بآسك أربعونا

(6/57)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 87كذبتم ليس ذاك كما زعمتم و لكن الخوارج مؤمنوناهم الفئة القليلة غير شك على الفئة الكثيرة ينصرونقال أبو العباس أما قول حريث بن حجل أ ما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة برآء و أنا أحد قتلته فابن سعاد هو المثلم بن مسروح الباهلي و سعاد اسم أمه و كان من خبره أنه ذكر لعبيد الله بن زياد رجل من سدوس يقال له خالد بن عباد أو ابن عبادة و كان من نساك الخوارج فوجه إليه فأخذه فأتاه رجل من آل ثور فكذب عنه و قال هو صهري و في ضمني فخلى عنه فلم يزل الرجل يتفقده حتى تغيب فأتى ابن زياد فأخبره فلم يزل يبعث إلى خالد بن عباد حتى ظفر به فأخذه فقال أين كنت في غيبتك هذه قال كنت عند قوم يذكرون الله و يسبحونه و يذكرون أئمة الجور فيتبرءون منهم قال ادللني عليهم قال إذن يسعدوا و تشقى و لم أكن لأروعهم قال فما تقول في أبي بكر و عمر فقال خيرا قال فما تقول في عثمان و في معاوية أ تتولاهما فقال إن كانا وليين لله فلست معاديهما فأراغه مرارا ليرجع عن قوله فلم يفعل فعزم على قتله فأمر بإخراجه إلى رحبة تعرف برحبة الرسي و قتله بها فجعل الشرطة يتفادون من قتله و يروغون عنه توقيا لأنه كان متقشفا عليه أثر العبادة حتى أتى المثلم بن مسروح الباهلي و كان من الشرطة فتقدم فقتله فائتمر به الخوارج أن يقتلوه و كان مغرما باللقاح يتبعها فيشتريها من مظانها و هم في تفقده فدسوا إليه رجلا في هيئة الفتيان عليه ردع شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 88زعفران فلقيه بالمربد و هو يسأل عن لقحة صفي فقال له الفتى إن كنت تبتغي فعندي ما يغنيك عن غيره فامض معي فمضى المثلم معه على فرسه يمشي الفتى أمامه حتى أتى به بني سعد فدخل دارا و قاله أدخل علي فرسك فلما دخل و توغل في الدار أغلق الباب و ثارت به الخوارج فاعتوره حريث بن حجل و كهمس بن طلق الصريمي فقتلاه و جعلا دراهم كانت معه في بطنه و دفناه في ناحية الدار و حكا آثار الدم و خليا فرسه

(6/58)


في الليل فأصيب في الغد في المربد و تجسس عنه الباهليون فلم يروا له أثرا فاتهموا بني سدوس به فاستعدوا عليهم السلطان و جعل السدوسية يحلفون فتحامل ابن زياد مع الباهليين فأخذ من السدوسيين أربع ديات و قال ما أدري ما أصنع بهؤلاء الخوارج كلما أمرت بقتل رجل اغتالوا قاتله فلم يعلم بمكان المثلم حتى خرج مرداس و أصحابه فلما واقفهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث و قال أ هاهنا من باهلة أحد قالوا نعم قال يا أعداء الله أخذتم للمثلم من بني سدوس أربع ديات و أنا قتلته و جعلت دراهم كانت معه في بطنه و هو في موضع كذا مدفون فلما انهزم ابن زرعة و أصحابه صاروا إلى الدار فأصابوا أشلاءه ففي ذلك يقول أبو الأسود
و آليت لا أغدو إلى رب لقحة أساومه حتى يئوب المثلم

(6/59)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 89قال أبو العباس فأما ما كان من مرداس فإن عبيد الله بن زياد ندب إليه الناس فاختار عباد بن أخضر المازني و ليس بابن أخضر بل هو عباد بن علقمة المازني و كان أخضر زوج أمه و غلب عليه فوجهه إلى مرداس و أصحابه في أربعة آلاف فارس و كانتلخوارج قد تنحت من موضعها بدارابجرد من أرض فارس فصار إليهم عباد فكان التقاؤهم في يوم جمعة فناداه أبو بلال اخرج إلي يا عباد فإني أريد أن أحاورك فخرج إليه فقال ما الذي تبغي قال أن آخذ بأقفيتكم فأردكم إلى الأمير عبيد الله بن زياد قال أ و غير ذلك إن نرجع فإنا لا نخيف سبيلا و لا نذعر مسلما و لا نحارب إلا من يحاربنا و لا نجبي إلا ما حمينا فقال عباد الأمر ما قلت لك فقال له حريث بن حجل أ تحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد ضال فقال لهم أنتم أولى بالضلال منه و ما من ذاك من بد. قال و قدم القعقاع بن عطية الباهلي من خراسان يريد الحج فلما رأى الجمعين قال ما هذا قالوا الشراة فحمل عليهم و نشبت الحرب بينهم فأخذت الخوارج القعقاع أسيرا فأتوا به أبا بلال فقال له من أنت قال ما أنا من أعدائك إنما قدمت للحج فحملت و غررت فأطلقه فرجع إلى عباد و أصلح من شأنه و حمل على الخوارج ثانية و هو يقول
أقاتلهم و ليس علي بعث نشاطا ليس هذا بالنشاطأكر على الحروريين مهري لأحملهم على وضح الصراط

(6/60)


فحمل عليه حريت بن حجل السدوسي و كهمس بن طلق الصريمي فأسراه و قتلاه و لم يأتيا به أبا بلال و لم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت صلاة الجمعة فناداهم أبو بلال يا قوم هذا وقت الصلاة فوادعونا حتى نصلي و تصلوا قالوا لك ذاك فرمى القوم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 90معون بأسلحتهم و عمدوا للصلاة فأسرع عباد و من معه و قضوا صلاتهم و الحرورية مبطئون فيهم ما بين راكع و ساجد و قائم في الصلاة و قاعد حتى مال عليهم عباد و من معه فقتلوهم جميعا و أتي برأس أبي بلال. قال و يرى الشراة أن مرداسا أبا بلال لما عقد على أصحابه و عزم على الخروج رفع يديه فقال اللهم إن كان ما نحن فيه حقا فأرنا آية فرجف البيت. و قال آخرون فارتفع السقف. و يقال إن رجلا من الخوارج ذكر ذلك لأبي العالية الرياحي يعجبه من الآية و يرغبه في مذهب القوم فقال أبو العالية كاد الخسف ينزل بهم ثم أدركتهم نظرة من الله. قال فلما فرغ عباد من الجماعة أقبل بهم فصلب رءوسهم و فيهم داود بن شبيب و كان ناسكا و فيهم حبيبة البكري من عبد القيس و كان مجتهدا و يروى عنه أنه قال لما عزمت على الخروج فكرت في بناتي فقلت ذات ليلة لأمسكن عن نفقتهن حتى أنظر فلما كان في جوف الليل استسقت بنية لي فقالت يا أبت اسقني فلم أجبها و أعادت فقامت أخت لها فسقتها فعلمت أن الله عز و جل غير مضيعهن فأتممت عزمي. و كان في القوم كهمس و كان من أبر الناس بأمه فقال لها يا أمه لو لا مكانك لخرجت فقالت يا بني وهبتك لله. ففي مقتلهم يقول عيسى بن فاتك الخطي

(6/61)


ألا في الله لا في الناس سالت بداود و إخوته الجذوع مضوا قتلا و تمزيقا و صلبا تحوم عليهم طير وقوع إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم و هم ركوع أطار الخوف نومهم فقاموا و أهل الأرض في الدنيا هج شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 91و قال عمران بن حطانيا عين بكي لمرداس و مصرعه يا رب مرداس اجعلني كمرداس تركتني هائما أبكي لمرزئه في منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ما الناس بعدك يا مرداس بالناس إما شربت بكأس دار أولها على القرون فذاقوا جرعة الكأس فكل من لم يذقها شاربا عجلا يسقى بأنفاس بعد أنفاس
و قال أيضا
لقد زاد الحياة إلي بغضا و حبا للخروج أبو بلال أحاذر أن أموت على فراشي و أرجو الموت تحت ذرا العوالي فمن يك همه الدنيا فإني لها و الله رب البيت قاعمران بن حطان
و قال أبو العباس و عمران هذا أحد بني عمرو بن يسار بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عك بن بكر بن وائل و كان رأس القعد من الصفرية و فقيههم و خطيبهم و شاعرهم و شعره هذا بخلاف شعر أبي خالد القناني و كان من قعد الخوارج أيضا و قد كان كتب قطري بن الفجاءة المازني يلومه على القعود شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 9أبا خالد أيقن فلست بخالد و ما جعل الرحمن عذرا لقاعدأ تزعم أن الخارجي على الهدى و أنتم مقيم بين لص و جاحد
فكتب إليه أبو خالد
لقد زاد الحياة إلي حبا بناتي إنهن من الضعاف أحاذر أن يرين الفقر بعدي و أن يشربن رنقا بعد صاف و أن يعرين إن كسي الجواري فتنبو العين عن كرم عجاف و لو لا ذاك قد سومت مهري و في الرحمن للضعفاء كو قال أبو العباس و مما حدثني به العباس بن أبي الفرج الرياشي عن محمد بن سلام أن عمران بن حطان لما طرده الحجاج جعل يتنقل في القبائل و كان إذا نزل بحي انتسب نسبا يقرب منهم ففي ذلك يقول

(6/62)


نزلنا في بني سعد بن زيد و في عك و عامر عوبثان و في لخم و في أدد بن عمرو و في بكر و حي بني الغدانثم خرج حتى لقي روح بن زنباع الجذامي و كان روح يقري الأضياف و كان مسايرا لعبد الملك بن مروان أثيرا عنده و قال ابن عبد الملك فيه من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة أعطي فقه الحجاز و دهاء أهل العراق و طاعة أهل الشام. و انتمى عمران إليه أنه من الأزد فكان روح لا يسمع شعرا نادرا و لا حديثا غريبا شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 93عند عبد الملك فيسأل عنه عمران إلا عرفه و زاد فيه فقال روح لعبد الملك إن لي ضيفا ما أسمع من أمير المؤمنين خبرا و لا شعرا إلا عرفه و زاد فيه فقال أخبرني ببعض أخباره فأخبره و أنشده فقال إن اللغة لغة عانية و لا أحسبه إلا عمران بن حطان حتى تذاكروا ليلة البيتين اللذين أولهما يا ضربة.... فلم يدر عبد الملك لمن هما فرجع روح فسأل عمران عنهما فقال هذا الشعر لعمران بن حطان يمدح عبد الرحمن بن ملجم فرجع روح إليه فأخبره فقال ضيفك عمران بن حطان فاذهب فجئني به فرجع إليه فقال أمير المؤمنين قد أحب أن يراك فقال له عمران قد أردت أن أسألك ذاك فاستحييت منك فاذهب فإني بالأثر فرجع روح إلى عبد الملك فخبره فقال أما إنك سترجع فلا تجده فرجع فوجد عمران قد احتمل و خلف رقعة فيها

(6/63)


يا روح كم من أخي مثوى نزلت به قد ظن ظنك من لخم و غسان حتى ذا خفته زايلت منزله من بعد ما قيل عمران بن حطان قد كنت جارك حولا لا يروعني فيه طوارق من إنس و لا جان حتى أردت بي العظمى فأدركني ما أدرك الناس من خوف ابن مروان فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له في الحا هنات ذات ألوان يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن و إن لقيت معديا فعدناني لو كنت مستغفرا يوما لطاغية كنت المقدم في سري و إعلاني لكن أبت ذاك آيات مطهرة عند التلاوة في طه و عمر شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 94. ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث أحد بني عمرو بن كلاب فانتسب له أوزاعيا و كان عمران يطيل الصلاة فكان غلمان بني عامر يضحكون منه فأتاه رجل ممن كان عند روح فسلم عليه فدعاه زفر فقال له من هذا فقال رجل من الأزد رأيته ضيفا لروح بننباع فقال له زفر يا هذا أزديا مرة و أوزاعيا أخرى إن كنت خائفا أمناك و إن كنت فقيرا جبرناك فلما أمسى خلف في منزله رقعة و هرب فوجدوا فيها
إن التي أصبحت يعيا بها زفر أعيت عياء على روح بن زنباع ما زال يسألني حولا لأخبره و الناس ما بين مخدوع و خداع حتى إذا انقطعت مني وسائله كف السؤال و لم يولع بإهلاع فاكفف لسانك عن لومي و مسألتي ما ذا تريد إلى شيخ بلا راع فاكفف كما كف عني إنني رجل إما صميم ا فقعة القاع
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 95أما الصلاة فإني غير تاركها كل امرئ للذي يعنى به ساع أكرم بروح بن زنباع و أسرته قوم دعا أوليهم للعلا داع جاورتهم سنة مما أسر به عرضي صحيح و نومي غير تهجاع فاعمل فإنك منعي بواحدة حسب اللبيب بهذا الشيب منثم ارتحل حتى أتى عمان فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال و يظهر فيهم فأظهر أمره فيهم فبلغ ذلك الحجاج فكتب فيه إلى أهل عمان فهرب حتى أتى قوما من الأزد في سواد الكوفة فنزل بهم فلم يزل عندهم حتى مات و في نزوله فيهم يقول

(6/64)


نزلنا بحمد الله في خير منزل نسر بما فيه من الأنس و الخفرنزلنا بقوم يجمع الله شملهم و ليس لهم دعوى سوى المجد يعتصرمن الأزد إن الأزد أكرم أسوة يمانية طابوا إذا انتسب البشرفأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر أتوني فقالوا من ربيعة أو مضرأم الحي قحطان فتلكم سفاهة كما قال لي روح و صاحبه زفرو ما منهما إلا يسر بنسبة تقربني منه و إن كان ذا نفرفنحن عباد الله و الله واحد و أولى عباد الله بالله من شكر
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 96قال أبو العباس و من الخوارج من مشى في الرمح و هو في صدره خارجا من ظهره حتى خالط طاعنه فضربه بالسيف فقتله و هو يقول و عجلت إليك رب لترضى. و منهم الذي سأل عليا ع يوم النهروان المبارزة في قولهأطعنهم و لا أرى عليا و لو بدا أوجرته الخطيا
فخرج إليه علي فضربه بالسيف فقتله فلما خالطه السيف قال يا حبذا الروحة إلى الجنة. و منهم ابن ملجم و قطع الحسن بن علي يديه و رجليه و هو في ذلك يذكر الله ثم عمد إلى لسانه فقطعه فجزع فقيل له في ذلك قال أحببت ألا يزال لساني رطبا من ذكر الله. و منهم القوم الذين وثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه فلفظها تورعا. و منهم أبو بلال مرداس الذي ينحله من الفرق لتقشفه و تصرمه و صحة عبادته و صلابة نيته. أما المعتزلة فتنتحله و تقول إنه خرج منكرا لجور السلطان داعيا إلى الحق و إنه من أهل العدل و يحتجون لذلك بقوله لزياد و قد كان قال في خطبته على المنبر و الله لآخذن المحسن بالمسي ء و الحاضر بالغائب و الصحيح بالسقيم فقام إليه مرداس فقال قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان و ما هكذا قال الله تعالى لنبيه إبراهيم إذ يقول شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 97 وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَف أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثم خرج عليه عقيب هذا اليوم. و أما الشيعة فتنتحله و تزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي إني و الله لست من الخوارج و لا أرى رأيهم و إني على دين أبيك إبراهيم

(6/65)


المستورد السعدي
و منهم المستورد أحد بني سعد بن زيد بن مناة كان ناسكا مجتهدا و هو أحد من ترأس على الخوارج في أيام علي و له الخطبة المشهورة التي أولها أن رسول الله ص أتانا بالعدل تخفق راياته و تلمع معالمه فبلغنا عن ربه و نصح لأمته حتى قبضه الله تعالى مخيرا مختارا. و نجا يوم النخيلة من سيف علي فخرج بعد مدة على المغيرة بن شعبة و هو والي الكوفة فبارزه معقل بن قيس الرياحي فاختلفا ضربتين فخر كل واحد منهما ميتا. و من كلام المستورد لو ملكت الدنيا بحذافيرها ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت. و من كلامه إذا أفضيت بسري إلى صديقي فأفشاه لم ألمه لأني كنت أولى بحفظه. و من كلامه كن أحرص على حفظ سرك منك على حقن دمك. و كان يقول أول ما يدل على عيب عائب الناس معرفته بالعيوب و لا يعيب إلا معيب. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 98و كان يقول المال غير باق عليك فاشتر به من الحمد و الأجر ما يبقى عك
حوثرة الأسدي

(6/66)


قال أبو العباس و خرج من الخوارج على معاوية بعد قتل علي حوثرة الأسدي و حابس الطائي خرجا في جمعهما فصارا إلى مواضع أصحاب النخيلة و معاوية يومئذ بالكوفة قد دخلها في عام الجماعة و قد نزل الحسن بن علي و خرج يريد المدينة فوجه إليه معاوية و قد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربة الخوارج فكان جواب الحسن و الله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين و ما أحسب ذاك يسعني أ فأقاتل عنك قوما أنت و الله أولى بالقتال منهم. قلت هذا موافق لقول أبيه لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه مثل من طلب الباطل فأدركه و هو الحق الذي لا يعدل عنه و به يقول أصحابنا فإن الخوارج عندهم أعذر من معاوية و أقل ضلالا و معاوية أولى بأن يحارب منهم. قال أبو العباس فلما رجع الجواب إلى معاوية أرسل إلى حوثرة الأسدي أباه و قال له اذهب فاكفني أمر ابنك فصار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع فأبى فماراه فصمم فقال يا بني أجيئك بابنك فلعلك تراه فتحن إليه فقال يا أبت أنا و الله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 99فرجع إلى معاوية فأخبره فقال يا أبا حوثرة لقد عتا بحق هذا جدا ثم وجه إليه جيشا أكثره أهل كوفة فلما نظر إليهم حوثرة قال لهم يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه و أنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه فخرج إليه أبوه فدعاه إلى البراز فقال يا أبت لك في غيري مندوحة و لي في غيرك مذهب ثم حمل على القوم و هو يقول
أكرر على هذي الجموع حوثرة فعن قليل ما تنال المغفرة
فحمل عليه رجل من طيئ فقتله فلما رأى أثر السجود قد لوح جبهته ندم على قتله
الرهين المرادي
و قال الرهين المرادي أحد فقهاء الخوارج و نساكها

(6/67)


يا نفس قد طال في الدنيا مراوغتي لا تأمنن لصرف الدهر تنغيصاإني لبائع ما يفنى لباقية إن لم يعقني رجاء العيش تربيصاو أسأل الله بيع النفس محتسبا حتى ألاقي في الفردوس حرقوصاو ابن المنيح و مرداسا و إخوته إذ فارقوا هذه الدنيا مخاميصا
قال أبو العباس و أكثرهم لم يكن يبالي بالقتل و شيمتهم استعذاب الموت و الاستهانة بالمنية. و منهم الهازئ بالأمراء و قد قدم إلى السيف ولى زياد شيبان بن عبد الله الأشعري صاحب مقبرة بني شيبان باب عثمان و ما يليه بالبصرة فجد في طلب الخوارج و أخافهم فلم
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 100يزل على ذلك حتى أتاه ليلة و هو متكئ بباب داره رجلان من الخوارج فضرباه بأسيافهما فقتلاه فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج فقال اذهبوا به فاقتلوه متكئا كما قتل شيبان متكئا فصاح به الخارجي يا عدلاه يهزأ بهعباد بن أخضر المازني

(6/68)


قال و أما عباد بن أخضر قاتل أبي بلال مرداس بن أدية و قد ذكرنا قصته فإنه لم يزل بعد قتله مرداسا محمودا في المصر موصوفا بما كان منه حتى ائتمر جماعة من الخوارج أن يقتلوه فذمر بعضهم بعضا على ذلك فجلسوا له يوم جمعة بعد أن أقبل على بغلته و ابنه رديفه فقام إليه رجل منهم فقال له أسألك عن مسألة قال قل قال رأيت رجلا قتل رجلا بغير حق و للقاتل جاه و قدر و ناحية من السلطان و لم يعد عليه السلطان لجوره أ لولي ذلك المقتول أن يقتل القاتل إن قدر عليه فقال بل يرفعه إلى السلطان قال إن السلطان لا يعدي عليه لمكانه منه و لعظم جاهه عنده قال أخاف عليه إن فتك به فتك به السلطان قال دع ما تخافه من السلطان أ يلحقه تبعة فيما بينه و بين الله قال لا فحكم هو و أصحابه ثم خبطوه بأسيافهم و رمى عباد بابنه فنجا و تنادي الناس قتل عباد فاجتمعوا فأخذوا أفواه الطرق و كان مقتل عباد في سكة بني مازن عند مسجد بني كليب بن يربوع فجاء معبد بن أخضر أخو عباد و هو معبد شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 101بن علقمة و أخضر زوج أمهما في جماعة من بني مازن و صاحوا بالناس دعونا و ثارنا فأحجم الناس فتقدم المازنيون فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعا لم يفلت منهم أحد إلا عبيدةن هلال فإنه خرق خصا و نفذ فيه ففي ذلك يقول الفرزدق
لقد أدرك الأوتار غير ذميمة إذا ذم طلاب الترات الأخاضرهم جردوا الأسياف يوم ابن أخضر فنالوا التي ما فوقها نال ثائرأقادوا به أسدا لها في اقتحامها إذا برزت نحو الحروب بصائر
ثم هجا كليب بن يربوع رهط جرير بن الخطفى لأنه قتل بحضرة مسجدهم و لم ينصروه فقال في كلمته هذه
كفعل كليب إذ أخلت بجارها و نصر اللئيم معتم و هو حاضرو ما لكليب حين تذكر أول و ما لكليب حين تذكر آخر

(6/69)


قال و كان مقتل عباد بن أخضر و عبيد الله بن زياد بالكوفة و خليفته على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة فكتب إليه يأمره ألا يدع أحدا يعرف بهذا الرأي إلا حبسه فجد في طلب من تغيب عنه و جعل يتبعهم و يأخذهم فإذا شفع إليه أحد منهم كفله إلى أن يقدم به على ابن زياد حتى أتوه بعروة بن أدية فأطلقه و قال أنا كفيلك فلما قدم ابن زياد أخذ من في الحبس فقتلهم جميعا و طلب الكفلاء بمن كفلوا به فكل من جاء بصاحبه أطلقه و قتل الخارجي و من لم يأت بمن كفل به منهم قتله. ثم قال لابن أبي بكرة هات عروة بن أدية قال لا أقدر عليه قال إذا و الله أقتلك فإنك كفيله فلم يزل يطلبه حتى دل عليه في سرب العلاء بن سوية المنقري فكتب بذلك إلى عبيد الله بن زياد فقرأ عليه كتابه فقال إنا قد أصبناه في شرب شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 102العلاء فتهانف به عبيد الله و قال صحفت و لؤمت إنما هو في سرب العلاء و لوددت ه كان ممن شرب النبيذ فلما أقيم عروة بين يديه قال لم جهزت أخاك علي يعني أبا بلال فقال و الله لقد كنت به ضنينا و كان لي عزا و لقد أردت له ما أريد لنفسي فعزم عزما فمضى عليه و ما أحب لنفسي إلا المقام و ترك الخروج فقال له أ فأنت على رأيه قال كلنا نعبد ربا واحدا قال أما و الله لأمثلن بك قال اختر لنفسك من القصاص ما شئت فأمر به فقطعوا يديه و رجليه ثم قال له كيف ترى قال أفسدت علي دنياي و أفسدت عليك آخرتك فأمر به فصلب على باب داره
أبو الوازع الراسبي

(6/70)


قال أبو العباس و كان أبو الوازع الراسبي من مجتهدي الخوارج و نساكها و كان يذم نفسه و يلومها على القعود و كان شاعرا و كان يفعل ذلك بأصحابه فأتى نافع بن الأزرق و هو في جماعة من أصحابه يصف لهم جور السلطان و فساد العامة و كان نافع ذا لسان عضب و احتجاج و صبر على المنازعة فأتاه أبو الوازع فقال له يا نافع إنك شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 103أعطيت لسانا صارما و قلبا كليلا فلوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك و كلال قلبك كان للسانك أ تحض على الحق و تقعد عنه و تقبح الباطل و تقيم عليه فقال نافع يا أبا الوازع إنما ننتظر الفرإلى أن تجمع من أصحابك من تنكئ به عدوك فقال أبو الوازع
لسانك لا تنكي به القوم إنما تنال بكفيك النجاة من الكرب فجاهد أناسا حاربوا الله و اصطبر عسى الله أن يجزي غوي بني حربيعني معاوية ثم قال و الله لا ألومك و نفسي ألوم و لأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبدا ثم مضى فاشترى سيفا و أتى صيقلا كان يذم الخوارج و يدل على عوارتهم فشاوره في السيف فحمده ثم قال اشحذه فشحذه حتى إذا رضيه خبط به الصيقل فقتله و حمل على الناس فهربوا منه حتى أتى مقبرة بني يشكر فدفع عليه رجل حائط ستره فشدخه و أمر ابن زياد بصلبه
عمران بن الحارث الراسبي
قال أبو العباس و من نساكهم الذين قتلوا في الحرب عمران بن الحارث الراسبي قتل يوم دولاب التقى هو و الحجاج بن باب الحميري و كان الأمير يومئذ على أهل البصرة و صاحب رايتهم فاختلفا ضربتين فخرا ميتين فقالت أم عمران ترثيه
الله أيد عمرانا و طهره و كان يدعو الله في السحر
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 104يدعوه سرا و إعلانا ليرزقه شهادة بيدي ملحادة غدرولى صحابته عن حر ملحمة و شد عمران كالضرغامة الذكقال و ممن قتل من رؤسائهم يوم دولاب نافع بن الأزرق و كان خليفتهم خاطبوه بإمرة المؤمنين فقال رجل منهم يرثيه

(6/71)


شمت ابن بدر و الحوادث جمة و الجائرون بنافع بن الأزرق و الموت حتم لا محالة واقع من لا يصبحه نهارا يطرق فئن أمير المؤمنين أصابه ريب المنون فمن يصبه يغلو قال قطري بن الفجاءة يذكر يوم دولاب
لعمرك إني في الحياة لزاهد و في العيش ما لم ألق أم حكيم من الخفرات البيض لم ير مثلها شفاء لذي بث و لا لسقيم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 105لعمرك إني يوم ألطم وجهها على نائبات الدهر جد لئيم فلو شهدتنا يوم دولاب شاهدت طعان فتى في الحرب غير ذميم غداة طفت علماء بكر بن وائل و عجنا صدور الخيل نحو تميم و كان بعبد القيس أول جدنا و أحلافها من يحصب و سليم و ظلت شيوخ في حومة الوغى تعوم فمن مستنزل و هزيم فلم أر يوما كان أكثر مقعصا يمج دما من فائظ و كليم و ضاربة خدا كريما على فتى أغر نجيب الأمهات كري شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 106أصيب بدولاب و لم تك موطنا له أرض دولاب و أرض حميم فلو شهدتنا يوم ذاك و خيلنا تبيح الكفار كل حريم رأت فتية باعوا الإله نفوسهم بجنات عدن عنده و نعبد الله بن يحيى طالب الحق

(6/72)


و من رؤساء الخوارج و كبارهم عبد الله بن يحيى الكندي الملقب طالب الحق و صاحبه المختار بن عوف الأزدي صاحب وقعة قديد و نحن نذكر ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني من قصتهما في كتاب الأغاني مختصرا محذوفا منه ما لا حاجة بنا في هذا الموضع إليه. قال أبو الفرج كان عبد الله بن يحيى من حضرموت و كان مجتهدا عابدا و كان يقول قبل أن يخرج لقيني رجل فأطال النظر إلي و قال ممن أنت قلت من كندة فقال من أيهم فقلت من بني شيطان فقال و الله لتملكن و تبلغن وادي القرى و ذلك بعد أن تذهب إحدى عينيك و قد ذهبت و أنا أتخوف ما قال و أستخير الله. فرأى باليمن جورا ظاهرا و عسفا شديدا و سيرة في الناس قبيحة فقال لأصحابه إنه لا يحل لنا المقام على ما نرى و لا الصبر عليه و كتب إلى جماعة من الإباضية بالبصرة و غيرها يشاورهم في الخروج فكتبوا إليه إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل شرح نهج البلاغة ج : 5 ص 107فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل و لست تدري متى يأتي أجلك و لله بقية خير من عباده يبعثهم إذا شاء بنصر دينه و يختص بالشهادة منهم من يشاء. و شخص إليه أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي و بلج بن عقبة المسعودي في رجال من الإباضية فقدموا عليه حضرموت فحرضوه على الخروج و أتوه بكتب أصحابه يوصونه و يوصون أصحابه إذا خرجتم فلا تغلوا و لا تغدروا و اقتدوا بسلفكم الصالحين و سيروا بسيرتهم فقد علمتم أن الذي أخرجهم على السلطان العيب لأعمالهم. فدعا عبد الله أصحابه فبايعوه و قصدوا دار الإمارة و على حضرموت يومئذ إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي فأخذه فحبسه يوما ثم أطلقه فأتى صنعاء و أقام عبد الله بحضرموت و كثر جمعه و سموه طالب الحق. و كتب إلى من كان من أصحابه بصنعاء أني قادم عليكم ثم استخلف على حضرموت عبد الله بن سعيد الحضرمي و توجه إلى صنعاء و ذلك في سنة تسع و عشرين و مائة في ألفين و العامل على صنعاء يومئذ القاسم بن عمرو أخو يوسف بن عمرو

(6/73)


الثقفي فجرت بينه و بين عبد الله بن يحيى حروب و مناوشات كانت الدولة فيها و النصرة لعبد الله بن يحيى فدخل إلى صنعاء و جمع ما فيها من الخزائن و الأموال فأحرزها. فلما استولى على بلاد اليمن خطب فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله و ذكر و حذر ثم قال إنا ندعوكم أيها الناس إلى كتاب الله و سنة نبيه و إجابة من دعا إليهما الإسلام ديننا و محمد نبينا و الكعبة قبلتنا و القرآن إمامنا رضينا بالحلال حلالا لا نبتغي به بدلا و لا نشتري به ثمنا و حرمنا الحرام و نبذناه وراء ظهورنا و لا حول و لا قوة إلا بالله و إلى الله المشتكى و عليه المعول من زنى فهو كافر و من سرق فهو كافر و من شرب الخمر فهو كافر و من شك في أنه كافر فهو كافر ندعوكم إلى فرائض بينات و آيات محكمات

(6/74)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 108و آثار نقتدي بها و نشهد أن الله صادق فيما وعد و عدل فيما حكم و ندعو إلى توحيد الرب و اليقين بالوعد و الوعيد و أداء الفرائض و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الولاية لأهل ولاية الله و العداوة و لأعداء الله أيها الناس إن منحمة الله أن جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى و يصبرون على الألم في جنب الله و يقتلون على الحق في سالف الأيام شهداء فما نسيهم ربهم و ما كان ربك نسيا أوصيكم بتقوى الله و حسن القيام على ما وكلتم بالقيام عليه و قابلوا الله حسنا في أمره و زجره أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم. قال و أقام عبد الله بن يحيى بصنعاء أشهرا يحسن السيرة في الناس و يلين جانبه لهم و يكف الأذى عنهم و كثر جمعه و أتته الشراة من كل جانب فلما كان في وقت الحج وجه أبا حمزة المختار بن عوف و بلج بن عقبة و أبرهة بن الصباح إلى مكة و الأمير عليهم أبو حمزة في ألف و أمره أن يقيم بمكة إذا صدر الناس و يوجه بلجا إلى الشام فأقبل المختار إلى مكة يوم التروية و عليها و على المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك في خلافة مروان بن محمد بن مروان و أم عبد الواحد بنت عبد الله بن خالد بن أسيد فكره عبد الواحد قتالهم و فزع الناس منهم حين رأوهم و قد طلعوا عليهم بعرفة و معهم أعلام سود في رءوس الرماح و قالوا لهم ما لكم و ما حالكم فأخبروهم بخلافهم مروان و آل مروان و التبري منهم فراسلهم عبد الواحد في ألا يعطلوا على الناس حجتهم فقال أبو حمزة نحن بحجنا أضن و عليه أشح فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتى ينفر الناس النفر الأخير و أصبحوا من الغد و وقفوا بحيال عبد الواحد بعرفة و دفع عبد الواحد بالناس فلما كانوا بمنى قيل لعبد الواحد قد أخطأت فيهم و لو حملت عليهم الحاج ما كانوا إلا أكلة رأس. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 109و بعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد

(6/75)


الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب و محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان و عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر و عبيد الله بن عمر بن حفص العمري و ربيعة بن عبد الرحمن و رجالا أمثالهم فا قربوا من أبي حمزة أخذتهم مسالحه فأدخلوا على أبي حمزة فوجدوه جالسا و عليه إزار قطري قد ربطه بحوره في قفاه فلما دنوا تقدم إليه عبد الله بن الحسن العلوي و محمد بن عبد الله العثماني فنسبهما فلما انتسبا له عبس في وجوههما و أظهر الكراهية لهما ثم تقدم إليه بعدهما البكري و العمري فنسبهما فانتسبا له فهش إليهما و تبسم في وجوههما و قال و الله ما خرجنا إلا لنسير سيرة أبويكما فقال له عبد الله بن حسن و الله ما جئناك لتفاخر بين آبائنا و لكن الأمير بعثنا إليك برسالة و هذا ربيعة يخبركها فلما أخبره ربيعة قال له إن الأمير يخاف نقض العهد قال معاذ الله أن ننقض العهد أو نخيس به و الله لا أفعل و لو قطعت رقبتي هذه و لكن إلى أن تنقضي الهدنة بيننا و بينكم. فخرجوا من عنده فأبلغوا عبد الواحد فلما كان النفر الأخير نفر عبد الواحد و خلى مكة لأبي حمزة فدخل بغير قتال فقال بعض الشعراء يهجو عبد الواحد
زار الحجيج عصابة قد خالفوا دين الإله ففر عبد الواحدترك الإمارة و المواسم هاربا و مضى يخبط كالبعير الشاردفلو أن والده تخير أمه لصفت خلائقه بعرق الوالد

(6/76)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 110ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة و دعا بالديوان فضرب على الناس البعث و زادهم في العطاء عشرة عشرة و استعمل على الجيش عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان فخرجوا فلقيتهم جزر منحورة فتشاءم الناس بها فلما كانوا بالعق علق لواء عبد العزيز بسمرة فانكسر الرمح فتشاءموا بذلك أيضا. ثم ساروا حتى نزلوا قديدا فنزل بها قوم معتزلون ليسوا بأصحاب حرب و أكثرهم تجار أغمار قد خرجوا في المصبغات و الثياب الناعمة و اللهو لا يظنون أن للخوارج شوكة و لا يشكون في أنهم في أيديهم. و قال رجل منهم من قريش لو شاء أهل الطائف لكفونا أمر هؤلاء و لكنهم داهنوا في دين الله و الله لنظفرن و لنسيرن إلى أهل الطائف فلنسبينهم ثم قال من يشتري مني من سبي أهل الطائف. قال أبو الفرج فكان هذا الرجل أول المنهزمين فلما وصل المدينة و دخل داره أراد أن يقول لجاريته أغلقي الباب قال لها غاق باق دهشا فلقبه أهل المدينة بعد ذلك غاق باق و لم تفهم الجارية قوله حتى أومأ إليها بيده فأغلقت الباب. قال و كان عبد العزيز يعرض الجيش بذي الحليفة فمر به أمية بن عنبسة بن سعيد بن العاص فرحب به و ضحك إليه ثم مر به عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير فلم يكلمه و لم يلتفت إليه فقال له عمران بن عبد الله بن مطيع و كان ابن خالته أما هما ابنتا عبد الله بن خالد بن أسيد سبحان الله مر بك شيخ من شيوخ قريش فلم تنظر شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 111إليه و لم تكلمه و مر بك غلام من بني أمية فضحكت إليه و لاطفته ا و الله لو التقى الجمعان لعلمت أيهما أصبر. قال فكان أمية بن عنبة أول من انهزم و ركب فرسه و مضى و قال لغلامه يا مجيب أما و الله لئن أحرزت هذه الأكلب من بني الشراة إني لعاجز. و أما عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير فقاتل يومئذ حتى قتل و كان يحمل و يتمثل
و إني إذا ضن الأمير بإذنه على الإذن من نفسي إذا شئت قادر

(6/77)


و الشعر للأغر بن حماد اليشكري. قال فلما بلغ أبا حمزة إقبال أهل المدينة إليه استخلف على مكة أبرهة بن الصباح و شخص إليهم و على مقدمته بلج بن عقبة. فلما كان في الليلة التي وافاهم في صبيحتها و أهل المدينة نزول بقديد قال لأصحابه إنكم ملاقو القوم غدا و أميرهم فيما بلغني ابن عثمان أول من خالف سنة الخلفاء و بدل سنة رسول الله ص و قد وضح الصبح لذي عينين فأكثروا ذكر الله و تلاوة القرآن و وطنوا أنفسكم على الموت و صبحهم غداة الخميس لتسع خلون من صفر سنة ثلاثين و مائة. قال أبو الفرج و قال عبد العزيز لغلامه في تلك الليلة ابغنا علفا قال هو غال فقال ويحك البواكي علينا غدا أغلى و أرسل أبو حمزة إليهم بلج بن عتبة ليدعوهم فأتاهم في ثلاثين راكبا فذكرهم الله و سألهم أن يكفوا عنهم و قال لهم خلوا سبيلنا إلى الشام لنسير شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 112إلى من ظلمكم و جار في الحكم عليكم لا تجعلوا حدنا بكم فإنا لا نريد قتالكم فشتمهم أهل المدينة و قالوا يا أعداء الله أ نحن نخليكم و نترككم تفسدون في الأرض. فقالت الخوارج يا أعداء الله أ نحن نفسد في الأرض إنما خرجنا لنكف الفساد و نقاتل من قاتلنا منكم و استأثر بالفي ء فانظروا لأنفسكم و اخلعوا ن لم يجعل الله له طاعة فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فادخلوا في السلم و عاونوا أهل الحق. فناداه عبد العزيز ما تقول في عثمان قال قد برئ منه المسلمون قبلي و إنا متبع آثارهم و مقتد بهم قال ارجع إلى أصحابك فليس بيننا و بينكم إلا السيف فرجع إلى أبي حمزة فأخبره فقال كفوا عنهم و لا تقاتلوهم حتى يبدءوكم بالقتال فواقفوهم و لم يقاتلوهم فرمى رجل من أهل المدينة بسهم في عسكر أبي حمزة فجرح منهم رجلا فقال أبو حمزة شأنكم الآن فقد حل قتالهم فحملوا عليهم فثبت بعضهم لبعض و راية قريش مع إبراهيم بن عبد الله بن مطيع ثم انكشف أهل المدينة فلم يتبعوهم و كان على عامتهم صخر بن الجهم بن حذيفة

(6/78)


العدوي فكبر و كبر الناس معه فقاتلوا قليلا ثم انهزموا فلم يبعدوا حتى كبر ثانية فثبت معه ناس و قاتلوا ثم انهزموا هزيمة لم يبق بعدها منهم باقية فقال علي بن الحصين لأبي حمزة اتبع آثار القوم أو دعني أتبعهم فأقتل المدبر و أذفف على الجريح فإن هؤلاء شر علينا من أهل الشام و لو قد جاءك أهل الشام غدا لرأيت من هؤلاء ما تكره قال لا أفعل و لا أخالف سيرة أسلافنا. و أخذ جماعة منهم أسرا و أراد إطلاقهم فمنعه علي بن الحصين و قال إن لكل شرح نهج البلاغة ج : 5 ص 113زمان سيرة و هؤلاء لم يؤسروا و هم هراب و إنما أسروا و هم يقاتلون و لو قتلوا في ذلك الوقت لم يحرم قتلهم فهكذا الآن قتلهم حلال و دعا بهم فكان إذا رأى رجلا من قريش قتله و إذا رأى رجلا من الأنصار أطلقه. قال أبو الفرج و ذلك لأن قريشا كانوا أكثر الجيش و بهم كانت الشوكة و أتى محمد بن عبد العزيز بن عمرو بن عثمان فنسبه فقال أنا رجل من الأنصار فسأل الأنصار فأقرت بذلك فأطلقه فلما ولى قال و الله إني لأعلم أنه قرشي و لكن قد أطلقته. قال و قد بلغت قتلى قديد ألفين و مائتين و ثلاثين رجلا منهم من قريش أربعمائة و خمسون رجلا و من الأنصار ثمانون رجلا و من الموالي و سائر الناس ألف و سبعمائة رجل. قال و كان في قتلى قريش من بني أسد بن عبد العزى بن قصي أربعون رجلا. قال و قتل يومئذ أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان خرج مقنعا فلم يكلم أحدا و قاتل حتى قتل و دخل بلج المدينة بغير حرب فدخلوا في طاعته و كف عنهم و رجع إلى ملكه و كان على شرطته أبو بكر بن عبد الله بن عمر من آل سراقة فكان أهل المدينة يقولون لعن الله السراقي و لعن الله بلجا العراقي و قالت نائحة أهل المدينة تبكيهم

(6/79)


ما للزمان و ما ليه أفنت قديد رجاليه فلأبكين سريرة و لأبكين علانيةو لأبكين على قديد بسوء ما أولانيه و لأعوين إذا خلوت مع الكلاب العاوي شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 114أبو حمزة الشاريقال أبو الفرج و لما سار عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشام و خلف المدينة لبلج أقبل أبو حمزة من مكة حتى دخلها فرقي المنبر فحمد الله و قال يا أهل المدينة سألناكم عن ولاتكم هؤلاء فأسأتم لعمري و الله القول فيهم و سألناكم هل يقتلون بالظن فقلتم نعم و سألناكم هل يستحلون المال الحرام و الفرج الحرام فقلتم نعم فقلنا لكم تعالوا نحن و أنتم فأنشدوا الله وحده أن يتنحوا عنا و عنكم ليختار المسلمون لأنفسهم فقلتم لا نفعل فقلنا لكم تعالوا نحن و أنتم نلقاهم فإن نظهر نحن و أنتم يأت من يقيم لنا كتاب الله و سنة نبيه و يعدل في أحكامكم و يحملكم على سنة نبيكم فأبيتم و قاتلتمونا فقاتلناكم و قتلناكم فأبعدكم الله و أسحقكم يا أهل المدينة مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك و قد أصابتكم عاهة في ثماركم فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم فكتب بوضعه عن قوم من ذوي اليسار منكم فزاد الغني غنى و الفقير فقرا و قلتم جزاه الله خيرا فلا جزاه خيرا و لا جزاكم. قال أبو الفرج فأما خطبتا أبي حمزة المشهورتان اللتان خطب بهما في المدينة فإن إحداهما قوله تعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا و أموالنا أشرا و لا بطرا و لا عبثا و لا لهوا و لا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه و لا لثأر قديم نيل منا و لكنا لما رأينا مصابيح الحق قد أطفئت و معالم العدل قد عطلت و عنف القائم بالحق و قتل القائم بالقسط ضاقت علينا الأرض بما رحبت و سمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن و حكم القرآن فأجبنا داعي الله وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 115فأقبلنا من قبائل شتى النفر منا على البعير الواحد و عليه

(6/80)


زادهم يتعاورون لحافا واحدا قليلون مستضعفون في الأرض فآوانا الله و أيدنا بنصره و أصبحنا و الله المحمود من أهل فضلو نعمته ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن و حكم القرآن فدعونا إلى طاعة الشيطان و حكم مروان فشتان لعمر الله ما بين الغي و الرشد ثم أقبلوا يزفون و يهرعون قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه و صدق عليهم إبليس ظنه و أقبل أنصار الله عصائب و كتائب بكل مهند ذي رونق فدارت رحانا و استدارت رحاهم بضرب يرتاب منه المبطلون. و ايم الله يا أهل المدينة إن تنصروا مروان و آل مروان فيسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا و يشف صدور قوم مؤمنين. يا أهل المدينة الناس منا و نحن منهم إلا مشركا عباد وثن أو كافرا من أهل الكتاب أو إماما جائرا. يا أهل المدينة من يزعم أن الله تعالى كلف نفسا فوق طاقتها و سألها عما لم يؤتها فهو لنا حرب. يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله في كتابه على القوي و الضعيف فجاء تاسع ليس له منها سهم فأخذها جميعا لنفسه مكابرا محاربا لربه ما تقولون فيه و فيمن عاونه على فعله. يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي قلتم هم شباب أحداث و أعراب جفاة ويحكم يا أهل المدينة و هل كان أصحاب رسول الله ص إلا شبابا

(6/81)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 116أحداثا نعم و الله إن أصحابي لشباب مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة عن الباطل أقدامهم قد باعوا أنفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا قد خلطوا كلالهم بكلالهم و قيام ليلهم بصيام نهارهم محنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلممروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار و كلما مروا بآية رجاء شهقوا شوقا إلى الجنة و إذا نظروا إلى السيوف و قد انتضيت و إلى الرماح و قد أشرعت و إلى السهام و قد فوقت و أرعدت الكتيبة بصواعق الموت استخفوا وعيدها عند وعيد الله و انغمسوا فيها فطوبى لهم و حسن مآب فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها من خشية الله و كم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا و ساجدا في طاعة الله أقول قولي هذا و أستغفر الله و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب. و أما الخطبة الثانية فقوله يا أهل المدينة ما لي رأيت رسم الدين فيكم عافيا و آثاره دارسة لا تقبلون عليه عظة و لا تفقهون من أهله حجة قد بليت فيكم جدته و انطمست عنكم سنته ترون معروفه منكرا و المنكر من غيره معروفا فإذا انكشفت لكم العبر و أوضحت لكم النذر عميت عنها أبصاركم و صمت عنها آذانكم ساهين في غمرة لاهين في غفلة تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر و تنقبض عن الحق إذا ذكر مستوحشة من العلم مستأنسة بالجهل كلما وردت عليها موعظة زادتها عن الحق نفورا تحملون قلوبا في صدوركم كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة فهي لا تلين بكتاب الله الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 117يا أهل المدينة إنه لا تغني عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم قد جعل الله لكل شي ء سببا غالبا عليه لينقاد إليه مطيع أمره فجعل القلوب غالبة على الأبدان فإذا مالت القلوب ميلا كانت الأبدان لها تبعا و إن القلوب لاين لأهلها إلا بصحتها و لا يصححها إلا المعرفة بالله و قوة النية و

(6/82)


نفاذ البصيرة و لو استشعرت تقوى الله قلوبكم لاستعملت في طاعة الله أبدانكم. يا أهل المدينة داركم دار الهجرة و مثوى الرسول ص لما نبت به داره و ضاق به قراره و آذاه الأعداء و تجهمت له فنقله الله إليكم بل إلى قوم لعمري لم يكونوا أمثالكم متوازرين مع الحق على الباطل مختارين الأجل على العاجل يصبرون للضراء رجاء ثوابها فنصروا الله و جاهدوا في سبيله و آزروا رسوله ص و اتبعوا النور الذي أنزل معه و آثروا الله على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة فقال الله تعالى لهم و لأمثالهم و لمن اهتدى بهديهم وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و أنتم أبناؤهم و من بقي من خلفهم تتركون أن تقتدوا بهم أو تأخذوا بسنتهم عمى القلوب صم الآذان اتبعتم الهوى فأرداكم عن الهدى و أسهاكم عن مواعظ القرآن لا تزجركم فتنزجرون و لا تعظكم فتتعظون و لا توقظكم فتستيقظون لبئس الخلف أنتم من قوم مضوا قبلكم ما سرتم سيرتهم و لا حفظتم وصيتهم و لا احتذيتم مثالهم لو شقت عنهم قبورهم فعرضت عليهم أعمالكم لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم أ لا ترون إلى خلافة الله و إمامة المسلمين كيف أضيعت حتى تداولها بنو مروان أهل بيت اللعنة و طرداء رسول الله و قوم من الطلقاء ليسوا من المهاجرين و لا الأنصار و لا التابعين بإحسان فأكلوا مال الله أكلا و تلعبوا بدين الله لعبا و اتخذوا عباد الله عبيدا يورث الأكبر منهم ذلك الأصغر فيا لها

(6/83)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 118أمة ما أضعفها و أضيعها و مضوا على ذلك من سيئ أعمالهم و استخفافهم بكتاب الله قد نبذوه وراء ظهورهم فالعنوهم لعنهم الله لعنا كما يستحقونه. و لقد ولى منهم عمر بن عبد العزيز فاجتهد و لم يكد و عجز عن الذي أظهر حتى مضى لسبيله قال وم يذكره بخير و لا بشر ثم قال و ولى بعده يزيد بن عبد الملك غلام سفيه ضعيف غير مأمون على شي ء من أمور المسلمين لم يبلغ أشده و لم يؤنس رشده و قد قال الله عز و جل فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ و أمر أمة محمد ص و أحكامهاو فروجها و دمائها أعظم عند الله من مال اليتيم و إن كان عند الله عظيما غلام مأبون في فرجه و بطنه يأكل الحرام و يشرب الخمر و يلبس بردين قد حيكا من غير حلهما و صرفت أثمانهما في غير وجهها بعد أن ضربت فيهما الأبشار و حلقت فيهما الأشعار استحل ما لم يحله الله لعبد صالح و لا لنبي مرسل فأجلس حبابة عن يمينه و سلامة عن يساره يغنيانه بمزامير الشيطان و يشرب الخمر الصراح المحرمة نصا بعينها حتى إذا أخذت منه مأخذها و خالطت روحه و لحمه و دمه و غلبت سورتها على عقله مزق برديه ثم التفت إليهما فقال أ تأذنان لي بأن أطير نعم فطر إلى النار طر إلى لعنة الله طر إلى حيث لا يردك الله. ثم ذكر بني أمية و أعمالهم فقال أصابوا إمرة ضائعة و قوما طغاما جهالا لا يقومون لله بحق و لا يفرقون بين الضلالة و الهدى و يرون أن بني أمية أرباب لهم فملكوا الأمر و تسلطوا فيه تسلط ربوبية بطشهم بطش الجبابرة يحكمون بالهوى و يقتلون على الغضب و يأخذون بالظن و يعطلون الحدود بالشفاعات و يؤمنون الخونة و يعصون ذوي شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 119الأمانة و يتناولون الصدقة من غير فرضها و يضعونها غير موضعها فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله فالعنوهم لعنهم الله. قال ذكر شيعة آل أبي طالب فقال و أما إخواننا من الشيعة و ليسوا بإخواننا

(6/84)


في الدين لكني سمعت الله يقول يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا فإنها فرقة تظاهرت بكتاب الله و آثرت الفرقة على الله لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن و لا عقل بالغ في الفقه و لا تفتيش عن حقيقة الثواب قد قلدوا أمورهم أهواءهم و جعلوا دينهم العصبية لحزب لزموه و أطاعوه في جميع ما يقوله لهم غيا كان أو رشدا ضلالة كان أو هدى ينتظرون الدول في رجعة الموتى و يؤمنون بالبعث قبل الساعة و يدعون علم الغيب لمخلوقين لا يعلم واحدهم ما في بيته بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه أو يحويه جسمه ينقمون المعاصي على أهلها و يعملون بها و لا يعلمون المخرج منها جفاة في دينهم قليلة عقولهم قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم و زعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة و تنجيهم من عقاب الأعمال السيئة قاتلهم الله أنى يؤفكون. فأي الفرق يا أهل المدينة تتبعون أم بأي مذاهبهم تقتدون و لقد بلغني مقالكم في أصحابي و ما عبتموه من حداثة أسنانهم ويحكم و هل كان أصحاب رسول الله ص إلا أحداثا نعم إنهم لشباب مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة في الباطل أرجلهم أنضاء عبادة قد نظر الله إليهم في جوف الليل محنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلما مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا و كلما مر بآية فيها ذكر النار شهق خوفا كأن زفير جهنم بين أذنيه قد أكلت الأرض جباههم و ركبهم

(6/85)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 120و وصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم مصفرة ألوانهم ناحلة أبدانهم من طول القيام و كثرة الصيام يوفون بعهد الله منجزون لوعد الله قد شروا أنفسهم في طاعة الله حتى إذا التقت الكتيبتان و أبرقت سيوفهما و فوقت سهامهما و أشرعت رماحهما لقوابا الأسنة و زجاج السهام و ظبى السيوف بنحورهم و وجوههم و صدورهم فمضى الشاب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه و اختضبت محاسن وجهه بالدماء و عفر جبينه بالتراب و الثرى و انحطت عليه الطير من السماء و مزقته سباع الأرض فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف الله و كم من وجه رقيق و جبين عتيق قد فلق بعمد الحديد. ثم بكى فقال آه آه على فراق الإخوان رحمة الله تعالى على تلك الأبدان اللهم أدخل أرواحها الجنان. قال أبو الفرج و سار أبو حمزة و خلف بالمدينة المفضل الأزدي في جماعة من أصحابه و بعث مروان بن محمد عبد الملك بن عطية السعدي في أربعة آلاف من أهل الشام فيهم فرسان عسكره و وجهوهم لحرب أبي حمزة و عبد الله بن يحيى طالب الحق و أمر ابن عطية بالجد في المسير و أعطى كل رجل من الجيش مائة دينار و فرسا عربيا و بغلا لثقله فخرج ابن عطية حتى إذا كان بالمعلى فكان رجل من أهل وادي القرى يقال له العلاء شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 121بن أفلح أبي الغيث يقول لقيني في ذلك اليوم و أنا غلام رجل من أصحاب ابن عطية فقال لي ما اسمك يا غلام فقلت العلاء فقال ابن من قلت ابن أفلح قال أ عربي أم مولى فقلت مولى قال مولى منلت مولى أبي الغيث قال فأين نحن قلت بالمعلى قال فأين نحن غدا قلت بغالب قال فما كلمني حتى أردفني خلفه و مضى حتى أدخلني على ابن عطية و قال له أيها الأمير سل الغلام ما اسمه فسأل و أنا أرد عليه القول فسر بذلك و وهب لي دراهم. قال أبو الفرج و قدم أبو حمزة و أمامه بلج بن عقبة في ستمائة رجل ليقاتل عبد الملك بن عطية فلقيه بوادي

(6/86)


القرى لأيام خلت من جمادى الأولى سنة ثلاثين و مائة فتواقفوا و دعاهم بلج إلى الكتاب و السنة و ذكر بني أمية و ظلمهم فشتمه أهل الشام و قالوا يا أعداء الله أنتم أحق بهذا ممن ذكرتم فحمل بلج و أصحابه عليهم و انكشفت طائفة من أهل الشام و ثبت ابن عطية في عصبة صبروا معه فناداهم يا أهل الشام يا أهل الحفاظ ناضلوا عن دينكم و أميركم و اصبروا و قاتلوا قتالا شديدا فقتل بلج و أكثر أصحابه و انحازت قطعة من أصحابه نحو المائة إلى جبل اعتصموا به فقاتلهم ابن عطية ثلاثة أيام فقتل منهم سبعين رجلا و نجا منهم ثلاثون. فرجعوا إلى أبي حمزة و هو بالمدينة و قد اغتموا و جزعوا من ذلك الخبر و قالوا فررنا من الزحف فقال لهم أبو حمزة لا تجزعوا فإنا لكم فئة و إلي تحيزتم. و خرج أبو حمزة إلى مكة فدعا عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أهل المدينة إلى قتال المفضل خليفة أبي حمزة على المدينة فلم يجد أحدا لأن القتل قد كان أسرع في الناس و خرج وجوه أهل البلد عنه فاجتمع إلى عمر البربر و الزنوج و أهل السوق و العبيد شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 122فقاتل بهم الشراة فقتل المفضل و عامة أصحابه و هرب ااقون فلم يبق منهم أحد فقال في ذلك سهيل مولى زينب بنت الحكم بن أبي العاص
ليت مروان رآنا يوم الإثنين عشيةإذ غسلنا العار عنا و انتضينا المشرفية

(6/87)


قال فلما قدم ابن عطية أتاه عمر بن عبد الرحمن فقال له أصلحك الله إني جمعت قضي و قضيضي فقاتلت هؤلاء الشراة فلقبه أهل المدينة قضي و قضيضي. قال أبو الفرج و أقام ابن عطية بالمدينة شهرا و أبو حمزة مقيم بمكة ثم توجه إليه فقال علي بن الحصين العبدي لأبي حمزة إني كنت أشرت عليك يوم قديد و قبله أن تقتل الأسرى فلم تفعل حتى قتلوا المفضل و أصحابنا المقيمين معه بالمدينة و أنا أشير عليك الآن أن تضع السيف في أهل مكة فإنهم كفرة فجرة و لو قد قدم ابن عطية لكانوا أشد عليك من أهل المدينة فقال لا أرى ذلك لأنهم قد دخلوا في الطاعة و أقروا بالحكم و وجب لهم حق الولاية. فقال إنهم سيغدرون فقال فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ. و قدم ابن عطية مكة فصير أصحابه فرقتين و لقي الخوارج من وجهين فكان هو بإزاء أبي حمزة في أسفل مكة و جعل طائفة أخرى بالأبطح بإزاء أبرهة بن الصباح فقتل أبرهة كمن له ابن هبار و هو على خيل دمشق فقتله عند بئر ميمون و التقى ابن عطية بأبي حمزة فخرج أهل مكة بأجمعهم مع ابن عطية و تكاثر الناس على أبي حمزة فقتل على فم الشعب و قتلت معه امرأته و هي ترتجز
أنا الجديعاء و بنت الأعلم من سأل عن اسمي فاسمي مريم

(6/88)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 123بعت سواري بعضب مخذو قتلت الخوارج قتلا ذريعا و أسر منهم أربعمائة فقال لهم ابن عطية ويلكم ما دعاكم إلى الخروج مع هذا فقالوا ضمن لنا الكنة يريدون الجنة فقتلهم كلهم و صلب أبا حمزة و أبرهة بن الصباح على شعب الخيف و دخل علي بن الحصين دارا من دور قريش فأحدق أهل الشام بها فأحرقوها فرمى بنفسه عليهم و قاتل فأسر و قتل و صلب مع أبي حمزة فلم يزالوا مصلوبين حتى أفضى الأمر إلى بني هاشم فأنزلوا في خلافة أبي العباس. قال أبو الفرج و ذكر ابن الماجشون أن ابن عطية لما التقى بأبي حمزة قال أبو حمزة لأصحابه لا تقاتلوهم حتى تختبروهم فصاحوا فقالوا يا أهل الشام ما تقولون في القرآن و العمل به فقال ابن عطية نضعه في جوف الجوالق قالوا فما تقولون في اليتيم قالوا نأكل ماله و نفجر بأمه في أشياء بلغني أنهم سئلوا عنها فلما سمعوا كلامهم قاتلوهم حتى أمسوا فصاحت الشراة ويحك يا ابن عطية إن الله جل و عز قد جعل الليل سكنا فاسكن و نسكن فأبى و قاتلهم حتى أفناهم. قال و لما خرج أبو حمزة من المدينة خطب فقال يا أهل المدينة إنا خارجون لحرب مروان فإن نظهر عليه نعدل في أحكامكم و نحملكم على سنة نبيكم و إن يكن ما تمنيتم لنا فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون شرح نهج البلاغة ج 5 ص : 124قال و قد كان اتبعه على رأيه قوم من أهل المدينة و بايعوه منهم بشكست النحوي فلما جاءهم قتله وثب الناس على أصحابه فقتلوهم و كان ممن قتلوه بشكست النحوي طلبوه فرقي في درجة دار فلحقوه فأنزلوه و قتلوه و هو يصيح يا عباد الله فيم تقتلونني فقيل فيه
لقد كان بشكست عبد العزيز من أهل القراءة و المسجدفبعدا لبشكست عبد العزيز و أما القرآن فلا تبعد

(6/89)


قال أبو الفرج و حدثني بعض أصحابنا أنه رأى رجلا واقفا على سطح يرمي بالحجارة قوم أبي حمزة بمكة فقيل له ويلك أ تدري من ترمي مع اختلاط الناس فقال و الله ما أبالي من رميت إنما يقع حجري في شام أو شار و الله ما أبالي أيهما قتلت. قال أبو الفرج و خرج ابن عطية إلى الطائف و أتى قتل أبي حمزة إلى عبد الله بن يحيى طالب الحق و هو بصنعاء فأقبل في أصحابه يريد حرب ابن عطية فشخص ابن عطية إليه و التقوا فقتل بين الفريقين جمع كثير و ترجل عبد الله بن يحيى في ألف رجل فقاتلوا حتى قتلوا كلهم و قتل عبد الله بن يحيى و بعث ابن عطية رأسه إلى مروان بن محمد و قال أبو صخر الهذلي يذكر ذلك
قتلنا عبيدا و الذي يكتني الكنى أبا حمزة القارئ المصلي اليمانياو أبرهة الكندي خاضت رماحنا و بلجا منحناه السيوف المواضيا
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 125و ما تركت أسيافنا منذ جردت لمروان جبارا على الأرض عاصيو قال عمرو بن الحصين العنبري يرثي أبا حمزة و غيره من الشراة و هذه القصيدة من مختار شعر العرب

(6/90)


هبت قبيل تبلج الفجر هند تقول و دمعها يجري إذ أبصرت عيني و أدمعها تنهل واكفة على النحرأنى اعتراك و كنت عهدي لا سرب الدموع و كنت ذا صبرأ قذى بعينك لا يفاوقها أم عائر أم ما لها تذري أم ذكر إخوان فجعت بهم سلكوا سبيلهم على قدرفأجبتها بل ذكر مصرعهم لا غيره عبرها تمري يا رب أسلكني سبيلهم ذا العرش و اشدد بالتقى أزري في فتية صبروا نفوسهم للمشرفية و القنا السمرتالله ما في الدهر مثلهم حتى أكون رهينة القبرأوفى بذمتهم إذا عقدوا و أعف عند العسر و اليسرمتأهبون لكل صالحة ناهون من لاقوا عن النكرصمت إذا حضروا مجالسهم من ر ماعي بهم يزري إلا تجيئهم فإنهم رجف القلوب بحضرة الذكر شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 126متأوهون كأن جمر غضا للموت بين ضلوعهم يسري فهم كأن بهم جرى مرض أو مسهم طرف من السحرلا ليلهم ليل فيلبسهم فيه غواشي النوم بالسكرإلا كرى خلسا و آونة حذر العقاب فهم على ذعركم من أخ لك قد فجعت به قوام ليلته إلى الفجرمتأوها يتلو قع من آي الكتاب مفزع الصدرظمآن وقدة كل هاجرة تراك لذته على قدررفاض ما تهوى النفوس إذا رغب النفوس دعت إلى المرزو مبرأ من كل سيئة عف الهوى ذا مرة شزرو المصطلي بالحرب يوقدها بحسامه في فتية زهريختاضها بأفل ذي شطب عضب المضارب ظاهر الأثرلا شي ء يلقاه أسر له من طنة في ثغرة النحرمنهارة منه تجيش بما كانت عواصم جوفه تجري

(6/91)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 127لخليلك المختار أذك به من مغتد في الله أو مسري خواض غمرة كل متلفة في الله تحت العثير الكدرنزال ذي النجوات مختضبا بنجيعه بالطعنة الشزرو ابن الحصين و هل له شبه في العرف أنى كان و النكربشهامة لم تحن أضلعه لذوي أحزته على غدرطلق سان بكل محكمة رآب صدع العظم ذي الكسرلم ينفكك في جوفه حزن تغلي حرارته و تستشري ترقي و آونة يخفضها بتنفس الصعداء و الزفرو مخالطي بلج و خالصتي سهم العدو و جابر الكسرنكل الخصوم إذا هم شغبوا و سداد ثلمة عورة الثغرو الخائض الغمرات يخطر في وسط الأعادي أيما خطربمطب أو غير ذي شطب هام العدا بذبابه يفري و أخيك أبرهة الهجان أخي الحرب العوان و موقد الجمرو الضارب الأخدود ليس لها حد ينهنهها عن السحرو ولى حكمهم فجعت به عمرو فوا كبدي على عمروقوال محكمة و ذو فهم عف الهوى متثبت الأمرو مسيب فاذكر وصيته لا تنس إما كنت ذا ذكر شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 128فكلاهما قد كان مختشعا لله ذا تقوى و ذا برفي مخبتين و لم أسمهم كانوا ندي و هم أولو نصري و هم مساعر في الوغي رجح و خيار من يمشي على العفرحتى وفوا لله حيث لقوا بعهود لا كذب و لا غدرفتخالسوا مهجات أنفسهم و عداتهم بقواضب بترو أسأثبتن في لدن خطية بأكفهم زهرتحت العجاج و فوقهم خرق يخفقن من سود و من حمرفتوقدت نيران حربهم ما بين أعلى البيت و الحجرو تصرعت عنهم فوارسهم لم يغمضوا عينا على وترصرعى فخاوية بيوتهم و خوامع بجسومهم تفري

(6/92)


قال أبو الفرج و أقام ابن عطية بحضرموت بعد ظفره بالخوارج حتى أتاه كتاب مروان يأمره بالتعجيل إلى مكة فيحج بالناس فشخص إلى مكة متعجلا مخفا في تسعة عشر فارسا و ندم مروان على ما كتبه و قال قتلت ابن عطية و سوف يخرج متعجلا مخفا من اليمن ليلحق الحج فيقتله الخوارج فكان كما قال صادفه في طريقه جماعة متلففة فمن كان منهم إباضيا قال ما تنتظر أن ندرك ثأر إخواننا و من لم يكن منهم إباضيا ظن أنه إباضي منهزم من ابن عطية فصمد له سعيد و جمانة ابنا الأخنس شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 129الكنديان في جماعة من قومهما و كانوا على رأيلخوارج فعطف ابن عطية على سعيد فضربه بالسيف و طعنه جمانة فصرعه فنزل إليه سعيد فقعد على صدره فقال له ابن عطية هل لك في أن تكون أكرم العرب أسيرا فقال سعيد يا عدو الله أ تظن الله يهملك أو تطمع في الحياة و قد قتلت طالب الحق و أبا حمزة و بلجا و أبرهة فذبحه و قتل أصحابه أجمعون. فهذا يسير مما هو معلوم من حال هذه الطائفة في خشونتها في الدين و تلزمها بناموسه و إن كانت في أصل العقيدة على ضلال و هكذا
قال النبي ص عنهم تستحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم و صيام أحدكم في جنب صيامهم
و معلوم أن معاوية و من بعده من بني أمية لم تكن هذه الطريقة طريقتهم و لا هذه السنة سنتهم و أنهم كانوا أهل دنيا و أصحاب لعب و لهو و انغماس في اللذات و قلة مبالاة بالدين و منهم من هو مرمي بالزندقة و الإلحاد
أخبار متفرقة عن معاوية

(6/93)


و قد طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية و لم يقتصروا على تفسيقه و قالوا عنه إنه كان ملحدا لا يعتقد النبوة و نقلوا عنه في فلتات كلامه و سقطات ألفاظه ما يدل على ذلك. و روى الزبير بن بكار في الموفقيات و هو غير متهم على معاوية و لا منسوب إلى اعتقاد الشيعة لما هو معلوم من حاله من مجانبة علي ع و الانحراف عنه قال المطرف بن المغيرة بن شعبة دخلت مع أبي على معاوية و كان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية و عقله و يعجب بما يرى منه إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء و رأيته مغتما فانتظرته ساعة و ظننت أنه لأمر حدث شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 130فينا فقلت ما لي أراك مغتما منذ الليلة فقال يا بني جئت من عند أكفر الناس و أخبثهم قلت و ما ذاك قال قلت له و قد خلوت به إنك قد بلغت سنا يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلا و بسطت خيرا فإنك قد كبرت و لو نظرت إلى إخوتك من بني هاشموصلت أرحامهم فو الله ما عندهم اليوم شي ء تخافه و إن ذلك مما يبقى لك ذكره و ثوابه فقال هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاءه ملك أخو تيم فعدل و فعل ما فعل فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل أبو بكر ثم ملك أخو عدي فاجتهد و شمر عشر سنين فما عدا أن هلك حتى لك ذكره إلا أن يقول قائل عمر و إن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله فأي عملي يبقى و أي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك لا و الله إلا دفنا دفنا. و أما أفعاله المجانبة للعدالة الظاهرة من لبسه الحرير و شربه في آنية الذهب و الفضة حتى أنكر عليه ذلك أبو الدرداء فقال له
إني سمعت رسول الله ص يقول إن الشارب فيها ليجرجر في جوفه نار جهنم

(6/94)


و قال معاوية أما أنا فلا أرى بذلك بأسا فقال أبو الدرداء من عذيري من معاوية أنا أخبره عن الرسول ص و هو يخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبدا. نقل هذا الخبر المحدثون و الفقهاء في كتبهم في باب الاحتجاج على أن خبر الواحد معمول به في الشرع و هذا الخبر يقدح في عدالته كما يقدح أيضا في عقيدته لأن من قال في مقابلة خبر قد روى عن رسول الله ص أما أنا فلا أرى بأسا فيما حرمه رسول الله ص ليس بصحيح العقيدة و من المعلوم أيضا من حالة استئثاره بمال الفي ء و ضربه من لا حد عليه و إسقاط الحد عمن يستحق إقامة الحد عليه و حكمه شرح ن البلاغة ج : 5 ص : 131برأيه في الرعية و في دين الله و استلحاقه زيادا و هو يعلم قول رسول الله ص الولد للفراش و للعاهر الحجر

(6/95)


و قتله حجر بن عدي و أصحابه و لم يجب عليهم القتل و مهانته لأبي ذر الغفاري و جبهه و شتمه و إشخاصه إلى المدينة على قتب بعير وطاء لإنكاره عليه و لعنه عليا و حسنا و حسينا و عبد الله بن عباس على منابر الإسلام و عهده بالخلافة إلى ابنه يزيد مع ظهور فسقه و شربه المسكر جهارا و لعبه بالنرد و نومه بين القيان المغنيات و اصطباحه معهن و لعبه بالطنبور بينهن و تطريقه بني أمية للوثوب على مقام رسول الله ص و خلافته حتى أفضت إلى يزيد بن عبد الملك و الوليد بن يزيد المفتضحين الفاسقين صاحب حبابة و سلامة و الآخر رامي المصحف بالسهام و صاحب الأشعار في الزندقة و الإلحاد. و لا ريب أن الخوارج إنما بري ء أهل الدين و الحق منهم لأنهم فارقوا عليا و برئوا منه و ما عدا ذلك من عقائدهم نحو القول بتخليد الفاسق في النار و القول بالخروج على أمراء الجور و غير ذلك من أقاويلهم فإن أصحابنا يقولون بها يذهبون إليها فلم يبق ما يقتضي البراءة منهم إلا براءتهم من علي و قد كان معاوية يلعنه على رءوس الأشهاد و على المنابر في الجمع و الأعياد في المدينة و مكة و في سائر مدن الإسلام فقد شارك الخوارج في الأمر المكروه منهم و امتازوا عليه بإظهار الدين و التلزم بقوانين الشريعة و الاجتهاد في العبادة و إنكار المنكرات و كانوا أحق بأن ينصروا عليه من أن ينصر عليهم فوضح بذلك قول أمير المؤمنين لا تقاتلوا الخوارج بعدي يعني في ملك معاوية و مما يؤكد هذا المعنى أن عبد الله بن الزبير استنصر على يزيد بن معاوية بالخوارج و استدعاهم إلى ملكه فقال فيه الشاعر
يا ابن الزبير أ تهوى فتية قتلوا ظلما أباك و لما تنزع الشكك ضحوا بعثمان يوم النحر ضاحية يا طيب ذاك الدم الزاكي الذي سفكوافقال ابن الزبير لو شايعني الترك و الديلم على محاربة بني أمية لشايعتهم و انتصرت بهم

(6/96)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 61132- و من كلام له ع لما خوف من الغيلةوَ إِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ جُنَّةً حَصِينَةً فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي انْفَرَجَتْ عَنِّي وَ أَسْلَمَتْنِي فَحِينَئِذٍ لَا يَطِيشُ السَّهْمُ وَ لَا يَبْرَأُ الْكَلْمُ
الغيلة القتل على غير علم و لا شعور و الجنة الدرع و ما يجن به أي يستتر من ترس و غيره و طاش السهم إذا صدف عن الغرض و الكلم الجرح و يعني بالجنة هاهنا الأجل و على هذا المعنى الشعر المنسوب إليه ع
من أي يومي من الموت أفر أ يوم لم يقدر أم يوم قدرفيوم لا يقدر لا أرهبه و يوم قد قدر لا يغني الحذر
و منه قول صاحب الزنج
و إذا تنازعني أقول لها قري موت يريحك أو صعود المنبرما قد قضى سيكون فاصطبري له و لك الأمان من الذي لم يقدر
و مثله
قد علم المستأخرون في الوهل أن الفرار لا يزيد في الأجل
و الأصل في هذا كله قوله تعالى وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 133و قوله تعالى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ. و قوله سبحانه تَوَفَّتْهُ رُسُلُناَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ و في القرآن العزيز كثير من ذلك
اختلاف الناس في الآجال

(6/97)


و اختلف الناس في الآجال فقالت الفلاسفة و الأطباء لا أجل مضروب لأحد من الحيوان كله من البشر و لا من غيرهم و الموت عندهم على ضربين قسري و طبيعي. فالقسري الموت بعارض إما من خارج الجسد كالمتردي و الغريق و المقتول و نحو ذلك أو من داخل الجسد كما يعرض من الأمراض القاتلة مثل السل و الاستسقاء و السرسام و نحو ذلك. و الموت الطبيعي ما يكون بوقوف القوة الغاذية التي تورد على البدن عوض ما يتحلل منه و هذه القوة المستخدمة للقوى الأربع الجاذبة و الدافعة و الماسكة و الهاضمة و البدن لا يزال في التحلل دائما من الحركات الخارجية و من الأفكار و الهموم و ملاقاة الشمس و الريح و العوارض الطارئة و من الجوع و العطش و القوة الغاذية تورد على البدن عوض الأجزاء المتحللة فتصرفها في الغذاء المتناول و استخدام القوى الأربع المذكورة. و منتهى بقاء هذه القوة في الأعم الأغلب للإنسان مائة و عشرون سنة و قد رأيت في كتب بعض الحكماء أنها تبقى مائة و ستين سنة و لا يصدق هؤلاء بما يروى من بقاء المعمرين فأما أهل الملل فيصدقون بذلك. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 134و اختلف المتكلمون في الآجال فقالت المعتزلة ينبغي أولا أن نحقق مفهوم قولنا أجل ليكون البحث في التصق بعد تحقق التصور فالأجل عندنا هو الوقت الذي يعلم الله أن حياة ذلك الإنسان أو الحيوان تبطل فيه كما أن أجل الدين هو الوقت الذي يحل فيه فإذا سألنا سائل فقال هل للناس آجال مضروبة قلنا له ما تعني بذلك أ تريد هل يعلم الله تعالى الأوقات التي تبطل فيها حياة الناس أم تريد بذلك أنه هل يراد بطلان حياة كل حي في الوقت الذي بطلت حياته فيه. فإن قال عنيت الأول قيل له نعم للناس آجال مضروبة بمعنى معلومة فإن الله تعالى عالم بكل شي ء. و إن قال عنيت الثاني قيل لا يجوز عندنا إطلاق القول بذلك لأنه قد تبطل حياة نبي أو ولي بقتل ظلم و البارئ تعالى لا يريد عندنا ذلك. فإن قيل فهل تقولون إن كل

(6/98)


حيوان يموت و تبطل حياته بأجله قيل نعم لأن الله قد علم الوقت الذي تبطل حياته فيه فليس تبطل حياته إلا في ذلك الوقت لا لأن العلم ساق إلى ذلك بل إنما تبطل حياته بالأمر الذي اقتضى بطلانه و البارئ تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فإن بطلت حياته بقتل ظالم فذلك ظلم و جور و إن بطلت حياته من قبل الله تعالى فذلك حكمة و صواب و قد يكون ذلك لطفا لبعض المكلفين. و اختلف الناس لو لم يقتل القاتل المقتول هل كان يجوز أن يبقيه الله تعالى فقطع الشيخ أبو الهذيل على موته لو لم يقتله القاتل و إليه ذهب الكرامية قال محمد بن الهيصم مذهبنا أن الله تعالى قد أجل لكل نفس أجلا لن ينقضي عمره دون بلوغه و لا يتأخر عنه و معنى الأجل هو الوقت الذي علم الله أن الإنسان يموت فيه و كتب ذلك في اللوح المحفوظ و ليس يجوز أن يكون الله تعالى قد أجل له أجلا ثم يقتل قبل بلوغه أو يخترم دونه و لا أن

(6/99)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 135يتأخر عما أجل له ليس على معنى أن القاتل مضطر إلى قتله حتى لا يمكنه الامتناع منه بل هو قادر على أن يمتنع من قتله و لكنه لا يمتنع منه إذ كان المعلوم أنه يقتله لأجله بعينه و كتب ذلك عليه. و لو توهمنا في التقدير أنه يمتنع من قتللكان الإنسان يموت لأجل ذلك لأنهما أمران مؤجلان بأجل واحد فأحدهما قتل القاتل إياه و الثاني تصرم مدة عمره و حلول الموت به فلو قدرنا امتناع القاتل من قتله لكان لا يجب بذلك ألا يقع المؤجل الثاني الذي هو حلول الموت به بل كان يجب أن يموت بأجله. قال و بيان ذلك من كتاب الله توبيخه المنافقين على قولهم لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا فقال تعالى لهم قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فدل على أنهم لو تجنبوا مصارع القتل لم يكونوا ليدرءوا بذلك الموت عن أنفسهم. و قالت الأشعرية و الجهمية و الجبرية كافة إنها آجال مضروبة محدودة و إذا أجل الأجل و كان في المعلوم أن بعض الناس يقتله وجب وقوع القتل منه لا محالة و ليس يقدر القاتل على الامتناع من قتله و تقدير انتفاء القتل ليقال كيف كانت تكون الحال تقدير أمر محال كتقدير عدم القديم و إثبات الشريك و تقدير الأمور المستحيلة لغو و خلف من القول. و قال قوم من أصحابنا البغداديين رحمهم الله بالقطع على حياته لو لم يقتله القاتل و هذا عكس مذهب أبي الهذيل و من وافقه و قالوا لو كان المقتول يموت في ذلك الوقت لو لم يقتله القاتل لما كان القاتل مسيئا إليه إذ لم يفوت عليه حياة لو لم يبطلها لبقيت و لما استحق شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 136القود و لكان ذابح الشاة بغير إذن مالكها قد أحسن إلى مالكها لأنه لو لم يذبحها لماتت فلم يكن ينتفع بلحمها. قالوا و الذي احتج به من كونهما مؤجلين بأجل واحد فلو قدرنا انتفاء أحدلأمرين في ذلك الوقت لم يجب انتفاء الآخر ليس بشي ء لأن أحدهما علة

(6/100)


الآخر فإذا قدرنا انتفاء العلة وجب أن ينتفي في ذلك التقدير انتفاء المعلول فالعلة قتل القاتل و المعلول بطلان الحياة و إنما كان يستمر و يصلح ما ذكروه لو لم يكن بين الأمرين علية العلية و المعلولة. قالوا و الآية التي تعلقوا فيها لا تدل على قولهم لأنه تعالى لم ينكر ذلك القول إنكار حاكم بأنهم لو لم يقتلوا لماتوا بل قال كل حي ميت أي لا بد من الموت إما معجلا و إما مؤجلا. قالوا فإذا قال لنا قائل إذا قلتم إنه يبقى لو لم يقتله القاتل أ لستم تكونون قد قلتم إن القاتل قد قطع عليه أجله. قلنا له إنما يكون قاطعا عليه أجله لو قتله قبل الوقت الذي علم الله تعالى أن حياته تبطل فيه و ليس الأمر كذلك لأن الوقت الذي علم الله تعالى أن حياته تبطل فيه هو الوقت الذي قتله فيه القاتل و لم يقتله القاتل قبل ذلك فيكون قد قطع عليه أجله. قالوا فإذا قال لنا فهل تقولون إنه قطع عليه عمره. قلنا له إن الزمان الذي كان يعيش فيه لو لم يقتله القاتل لا يسمى عمرا إلا على طريق المجاز باعتبار التقدير و لسنا نطلق ذلك إلا مقيدا لئلا يوهم و إنما قلنا إنا نقطع على أنه لو لم يقتل لم يمت و لا نطلق غير ذلك.

(6/101)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 137و قال قدماء الشيعة الآجال تزيد و تنقص و معنى الأجل الوقت الذي علم الله تعالى أن الإنسان يموت فيه إن لم يقتل قبل ذلك أو لم يفعل فعلا يستحق به الزيادة و النقصان في عمره. قالوا و ربما يقتل الإنسان الذي ضرب له من الأجل خمسون سنة هو ابن عشرين سنة و ربما يفعل من الأفعال ما يستحق به الزيادة فيبلغ مائة سنة أو يستحق به النقيصة فيموت و هو ابن ثلاثين سنة. قالوا فمما يقتضي الزيادة صلة الرحم و مما يقتضي النقيصة الزنا و عقوق الوالدين و تعلقوا بقوله تعالى وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ. و ربما قال قوم منهم إن الله تعالى يضرب الأجل لزيد خمسين سنة أو ما يشاء فيرجع عن ذلك فيما بعد و يجعله أربعين أو ثلاثين أو ما يشاء و بنوه على قولهم في البداء. و قال أصحابنا هذا يوجب أن يكون الله تعالى قد أجل الآجال على التخمين دون التحقيق حيث أجل لزيد خمسين فقتل لعشرين و أفسدوا أن يعلم الله تعالى الشي ء بشرط و أن يبدو له فيما يقضيه و يقدره بما هو مشهور في كتبهم. و قالوا في الآية إن المراد بها أن ينقص سبحانه بعض الناس عن مقدار أجل المعمر بأن يكون انتقص منه عمرا ليس نه ينقص من عمر ذلك المعمر. فأما مشايخنا أبو علي و أبو هاشم فتوقفا في هذه المسألة و شكا في حياة المقتول و موته و قالا لا يجوز أن يبقى لو لم يقتل و يجوز أن يموت قالا لأن حياته و موته مقدوران لله عز و جل و ليس في العقل ما يدل على قبح واحد منهما و لا في الشرع ما يدل على حصول واحد منهما فوجب الشك فيهما إذ لا دليل يدل على واحد منهما. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 138قالوا فأما احتجاج القاطعين على موته فقد ظهر فساده بما حكي من الجواب عنه. قالوا و مما يدل على بطلانه من الكتاب العزيز قوله تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصَِياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ فحكم سبحانه بأن إثباته القصاص مما يزجر

(6/102)


القاتل عن القتل فتدوم حياة المقتول فلو كان المقتول يموت لو لم يقتله القاتل ما كان في إثبات القصاص حياة. قالوا و أما احتجاج البغداديين على القطع على حياته بما حكي عنهم فلا حجة فيه أما إلزام القاتل القود و الغرامة فلأنا غير قاطعين على موت المقتول لو لم يقتل بل يجوز أن يبقى و يغلب ذلك على ظنوننا لأن الظاهر من حال الحيوان الصحيح ألا يموت في ساعته و لا بعد ساعته و ساعات فنحن نلزم القاتل القود و الغرامة لأن الظاهر أنه أبطل ما لو لم يبطله لبقي. و أيضا فموت المقتول لو لم يقتله القاتل لا يخرج القاتل من كونه مسيئا لأنه هو الذي تولى إبطال الحياة أ لا ترى أن زيدا لو قتل عمرا لكان مسيئا إليه و إن كان المعلوم أنه لو لم يقتله لقتله خالد في ذلك الوقت. و أيضا فلو لم يقتل القاتل المقتول و لم يذبح الشاة حتى ماتا لكان يستحق المقتول و مالك الشاة من الأعواض على البارئ سبحانه أكثر مما يستحقانه على القاتل و الذابح فقد أساء القاتل و الذابح حيث فوتا على المقتول و مالك الشاة زيادة الأعواض. فأما شيخنا أبو الحسين فاختار الشك أيضا في الأمرين إلا في صورة واحدة فإنه قطع فيها على دوام الحياة و هي أن الظالم قد يقتل في الوقت الواحد الألوف الكثيرة في المكان الواحد و لم تجر العادة بموت مثلهم في حالة واحدة في المكان الواحد و اتفاق ذلك نقض العادة و ذلك لا يجوز.
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 139قال الشيخ ليس يمتنع أن يقال في مثل هؤلاء إنه يقطع على أن جميعهم ما كانوا يموتون في ذلك المكان في ذلك الوقت لو لم يقتلهم القاتل إن كان الوقت وقتا لا يجوز انتقاض العادات فيه و لكن يجوز أن يموت بعضهم دون بعض لأنه ليس في موت الود و الاثنين في وقت واحد في مكان واحد نقض عادة و لا يمتنع هذا الفرض من موتهم بأجمعهم في زمان نبي من الأنبياء. و قد ذكرت في كتبي المبسوطة في علم الكلام في هذا الباب ما ليس هذا الشرح موضوعا لاستقصائه

(6/103)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 62140- و من خطبة له عأَلَا إِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لَا يُسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا فِيهَا وَ لَا يُنْجَى بِشَيْ ءٍ كَانَ لَهَا ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا مِنْهُ وَ حُوسِبُوا عَلَيْهِ وَ مَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَْهِ وَ أَقَامُوا فِيهِ فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْ ءِ الظِّلِّ بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَ زَائِداً حَتَّى نَقَصَ تقدير الكلام أن الدنيا دار لا يسلم من عقاب ذنوبها إلا فيها و هذا حق لأن العقاب المستحق إنما يسقط بأحد أمرين إما بثواب على طاعات تفضل على ذلك العقاب المستحق أو بتوبة كاملة الشروط. و كلا الأمرين لا يصح من المكلفين إيقاعه إلا في الدنيا فإن الآخرة ليست دار تكليف ليصح من الإنسان فيها عمل الطاعة و التوبة عن المعصية السالفة فقد ثبت إذا أن الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها. إن قيل بينوا أن الآخرة ليست بدار تكليف. قيل قد بين الشيوخ ذلك بوجهين أحدهما الإجماع على المنع من تجويز استحقاق ثواب أو عقاب في الآخرة. و الثاني أن الثواب يجب أن يكون خالصا من المشاق و التكليف يستلزم المشقة لأنها شرط في صحته فبطل أن يجوز استحقاق ثواب في الآخرة للمكلفين المثابين في الآخرة شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 141لأجل تكاليفهم في الآخرة و أما المعاقبون فلو كانوا مكلفين لجاز وقوع التوبة منهم و وط العقاب بها و هذا معلوم فساده ضرورة من دين الرسول ع. و هاهنا اعتراضان أحدهما أن يقال فما قولكم في قوله تعالى كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ و هذا أمر و خطاب لأهل الجنة و الأمر تكليف. و الثاني أن الإجماع حاصل على أن أهل الجنة يشكرون الله تعالى و الشكر عبادة و ذلك يستدعى استحقاق الثواب. و الجواب عن الأول أن قوله كُلُوا وَ اشْرَبُوا عند شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى ليس

(6/104)


بأمر على الحقيقة و إن كانت له صورته كما في قوله تعالى كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. و أما الشيخ أبو هاشم فعنده أن قوله كُلُوا وَ اشْرَبُوا أمر لكنه زائد في سرور أهل الجنة إذا علموا أن الله تعالى أراد منهم الأكل و أمرهم به و لكنه ليس بتكليف لأن الأمر إنما يكون تكليفا إذا انضمت إليه المشقة. و أما الجواب عن الثاني فإن الشكر الذي بالقلب رجوعه إلى الاعتقادات و الله تعالى يفعل في أهل الجنة المعارف كلها فلا وجوب إذا عليهم و أما الشكر باللسان فيجوز أن يكون لهم فيه لذة فيكون بذلك غير مناف للثواب الحاصل لهم. و بهذا الوجه نجيب عن قول من يقول أ ليس زبانية النار يعالجون أهل العذاب في جهنم أعاذنا الله منها و هل هذا إلا محض تكليف لأنا نقول إنه يجوز أن يكون للزبانية في ذلك لذة عظيمة فلا يثبت التكليف معها كما لا يكون الإنسان مكلفا في الدنيا بما يخلص إليه شهوته و لا مشقة عليه فيه. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 142إن قيل هذا الجواب ينبئ على أن معارف أهل الآخرة ضرورية لأنكم أجبتم عن مسألة الشكر بأن له تعالى يفعل المعارف في أهل الجنة فدللوا على ذلك بل يجب عليكم أن تدللوا أولا على أن أهل الآخرة يعرفون الله تعالى. قيل أما الدليل على أنهم يعرفونه تعالى فإن المثاب لا بد أن يعلم وصول الثواب إليه على الوجه الذي استحقه و لا يصح ذلك إلا مع المعرفة بالله تعالى ليعلم أن ما فعله به هو الذي لمستحقه و القول في المعاقب كالقول في المثاب. و أيضا فإن من شرط الثواب مقارنة التعظيم و التبجيل له من فاعل الثواب لأن تعظيم غير فاعل الثواب لا يؤثر و التعظيم لا يعلم إلا مع العلم بالقصد إلى التعظيم و يستحيل أن يعلموا قصده تعالى و لا يعلموه و القول في العقاب و كون الاستحقاق و الإهانة تقارنه تجري هذا المجرى. فأما بيان أن هذه المعرفة ضرورية فلأنها لو كانت من فعلهم لكانت إما أن تقع عن نظر يتحرون فيه و يلجئون إليه أو عن تذكر

(6/105)


نظر أو بأن يلجئوا إلى نفس المعرفة من غير تقدم نظر و الأول باطل لأن ذلك تكليف و فيه مشقة و قد بينا سقوط التكليف في الآخرة و لا يجوز أن يلجئوا إلى النظر لأنهم لو ألجئوا إلى النظر لكان إلجاؤهم إلى المعرفة أولا و إلجاؤهم إلى المعرفة يمنع من إلجائهم إلى النظر و لا يجوز وقوعها عند تذكر النظر لأن المتذكر للنظر تعرض له الشبه و يلزمه دفعها و في ذلك عود الأمر إلى التكليف و ليس معاينة الآيات بمانع عن وقوع الشبه كما لم تمنع معاينة المعجزات و الأعلام عن وقوعها و لا يجوز أن يكون الإلجاء إلى المعرفة لأن الإلجاء إلى أفعال القلوب لا يصح إلا من الله تعالى فيجب أن يكون الملجأ إلى المعرفة عارفا بهذه القضية و في ذلك استغناؤه بتقدم هذه المعرفة على الإلجاء إليها. إن قيل إذا قلتم إنهم مضطرون إلى المعارف فهل تقولون إنهم مضطرون إلى الأفعال.

(6/106)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 143قيل لا لأنه تعالى قال وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ و لأن من تدبر ترغيبات القرآن في الجنة و الثواب علم قطعا أن أهل الجنة غير مضطرين إلى أفعالهم كما يضطر المرتعش إلى الرعشة. إن قيل فإذا كانوا غير مضطرين فلم يمنعهم من وقوعلقبيح منهم. قيل لأن الله تعالى قد خلق فيهم علما بأنهم متى حاولوا القبيح منعوا منه و هذا يمنع من الإقدام على القبيح بطريق الإلجاء. و يمكن أيضا أن يعلمهم استغناءهم بالحسن عن القبيح مع ما في القبيح من المضرة فيكونون ملجئين إلى ألا يفعلوا القبيح. فأما قوله ع و لا ينجى بشي ء كان لها فمعناه أن أفعال المكلف التي يفعلها لأغراضه الدنيوية ليست طريقا إلى النجاة في الآخرة كمن ينفق ماله رئاء الناس و ليست طرق النجاة إلا بأفعال البر التي يقصد فيها وجه الله تعالى لا غير و قد أوضح ع ذلك بقوله فما أخذوه منها لها أخرجوا منه حوسبوا عليه و ما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه و أقاموا فيه. فمثال الأول من يكتسب الأموال و يدخرها لملاذه و مثال الثاني من يكسبها لينفقها في سبيل الخيرات و المعروف. ثم قال ع و إنها عند ذوي العقول كفي ء الظل... إلى آخر الفصل و إنما قال كفي ء الظل لأن العرتضيف الشي ء إلى نفسه قال تأبط شرا إذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل له كالئ من قلب شيحان فاتك

(6/107)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 144و يمكن أن يقال الظل أعم من الفي ء لأن الفي ء لا يكون إلا بعد الزوال و كل في ء ظل و ليس كل ظل فيئا فلما كان فيهما تغاير معنوي بهذا الاعتبار صحت الإضافة. و السابغ التام و قلص أي انقبض. و قوله ع بينا تراه أصل بينا بين فأشبعتحة فصارت بينا على وزن فعلى ثم تقول بينما فتزيد ما و المعنى واحد تقول بينا نحن نرقبه أتانا أي بين أوقات رقبتنا إياه أتانا و الجمل تضاف إليها أسماء الزمان كقولك أتيتك زمن الحجاج أمير ثم حذفت المضاف الذي هو أوقات و ولي الظرف الذي هو بين الجملة التي أقيمت مقام المضاف إليه كقوله وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ. و كان الأصمعي يخفض ببينا إذا صلح في موضعه بين و ينشد بيت أبي ذؤيب بالجر
بينا تعنقه الكمأة و روغه يوما أتيح له جري ء سلفعو غيره يرفع ما بعد بينا و بينما على الابتداء و الخبر و ينشد هذا البيت على الرفع. و هذا المعنى متداول قال الشاعر
ألا إنما الدنيا كظل غمامة أظلت يسيرا ثم خفت فولت
و قال
ظل الغمام و أحلام المنام فما تدوم يوما لمخلوق على حال

(6/108)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 63145- و من خطبة له عفَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَ ابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ وَ تَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ وَ اسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ وَ كُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا وَ عَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى وَ مَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَ بَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ إِلَّا الْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ وَ إِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ وَ تَهْدِمُهَا السَّاعَةُ لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ وَ إِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ وَ إِنَّ قَادِماً يَقْدَمُ بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ الْعُدَّةِ فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تُحْرِزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ نَصَحَ نَفْسَهُ وَ قَدَّمَ تَوْبَتَهُ وَ غَلَبَ شَهْوَتَهُ فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ وَ أَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ وَ الشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا وَ يُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً وَ أَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ وَ لَا تُقَصِّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ وَ لَا تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَ لَا كَآبَةٌ

(6/109)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 146بادروا آجالكم بأعمالكم أي سابقوها و عاجلوها البدار العجلة و ابتاعوا الآخرة الباقية بالدنيا الفانية الزائلة. و قوله فقد جد بكم أي حثثتم على الرحيل يقال جد الرحيل و قد جد بفلان إذا أزعج و حث على الرحيل. و استعدوا للموت يمكن أنكون بمعنى أعدوا فقد جاء استفعل بمعنى أفعل كقولهم استجاب له أي أجابه. و يمكن أن يكون بمعنى الطلب كما تقول استطعم أي طلب الطعام فيكون بالاعتبار الأول كأنه قال أعدوا للموت عدة و بمعنى الاعتبار الثاني كأنه قال اطلبوا للموت عدة. و أظلكم قرب منكم كأنه ألقى عليهم ظله و هذا من باب الاستعارة. و العبث اللعب أو ما لا غرض فيه أو ما لا غرض صحيح فيه. و قوله و لم يترككم سدى أي مهملين. و قوله أن ينزل به موضعه رفع لأنه بدل من الموت و الغائب المشار إليه هو الموت. و يحدوه الجديدان يسوقه الليل و النهار و قيل الغائب هنا هو الإنسان يسوقه الجديدان إلى الدار التي هي داره الحقيقية و هي الآخرة و هو في الدنيا غائب على الحقيقة عن داره التي خلق لها و الأول أظهر. و قوله فتزودوا في الدنيا من الدنيا كلام فصيح لأن الأمر الذي به يتمكن المكلف من إحراز نفسه في الآخرة إنما هو يكتسبه في الدنيا منها و هو التقوى و الإخلاص و الإيمان. و الفاء في قوله فاتقى عبد ربه لبيان ماهية الأمر الذي يحرز الإنسان به نفسه شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 147و لتفصيل أقسامه و أنواعه كما تقول فعل اليوم فلان أفعالا جميلة فأعطى فلانا و صفح عن فلان و فعل كذا و قد روي اتقى عبربه بلا فاء بتقدير هلا و معناه التحضيض. و قد روي ليسوفها بكسر الواو و فتحها و الضمير في الرواية الأولى يرجع إلى نفسه و قد تقدم ذكرها قبل بكلمات يسيرة و يجوز أن يعنى به ليسوف التوبة كأنه جعلها مخاطبة يقول لها سوف أوقعك و التسويف أن يقول في نفسه سوف أفعل و أكثر ما يستعمل للوعد الذي لا نجاز له و من روى بفتح الواو جعله فعل ما

(6/110)


لم يسم فاعله و تقديره و يمنيه الشيطان التوبة أي يجعلها في أمنيته ليكون مسوفا إياها أي يعد من المسوفين المخدوعين. و قوله فيا لها حسرة يجوز أن يكون نادى الحسرة و فتحة اللام على أصل نداء المدعو كقولك يا للرجال و يكون المعنى هذا وقتك أيتها الحسرة فاحضري و يجوز أن يكون المدعو غير الحسرة كأنه قال يا للرجال للحسرة فتكون لامها مكسورة نحو الأصل لأنها المدعو إليه إلا أنها لما كانت للضمير فتحت أي أدعوكم أيها الرجال لتقضوا العجب من هذه الحسرة
عظة للحسن البصري

(6/111)


و هذا الكلام من مواعظ أمير المؤمنين البالغة و نحوه من كلام الحسن البصري ذكره شيخنا أبو عثمان في البيان و التبيين شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 148ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا و لا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا و إذا رأيت الناس في الخير فقاسمهم فيه إذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم عليه البقاء هاهنا قليل و البقاء هناك طويل أمتكم آخر الأمم و أنتم آخر أمتكم و قد أسرع بخياركم فما تنتظرون المعاينة فكأن قد هيهات هيهات ذهبت الدنيا بحاليها و بقيت الأعمال قلائد في الأعناق فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة ألا إنه لا أمة بعد أمتكم و لا نبي بعد نبيكم و لا كتاب بعد كتابكم أنتم تسوقون الناس و الساعة تسوقكم و إنما ينتظر بأولكم أن يلحق آخركم من رأى محمدا ص فقد رآه غاديا رائحا لم يضع لبنة على لبنة و لا قصبة على قصبة رفع له علم فسما إليه فالوحى الوحى النجاء النجاء على ما ذا تعرجون ذهب أماثلكم و أنتم ترذلون كل يوم فما تنتظرون. إن الله بعث محمدا على علم منه اختاره لنفسه و بعثه برسالته و أنزل إليه كتابه و كان صفوته من خلقه و رسوله إلى عباده ثم وضعه من الدنيا موضعا ينظر إليه أهل الأرض فآتاه فيها قوتا و بلغة ثم قال لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فركن أقوام إلى غير عيشته و سخطوا ما رضي له ربه فأبعدهم و أسحقهم. يا ابن آدم طأ الأرض بقدمك فإنها عن قليل قبرك و اعلم أنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك رحم الله امرأ نظر فتفكر و تفكر فاعتبر و اعتبر شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 149فأبصر و أبصر فأقصر فقد أبصر أقوام و لم يقصروا ثم هلكوا فلم يدركوا ما طلبوا و لا رجعوا إلى ما فارقوا. يا ابن آدم اذكر قوله عز و جل وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابايَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ

(6/112)


عَلَيْكَ حَسِيباً عدل و الله عليك من جعلك حسيب نفسك. خذوا صفوة الدنيا و دعوا كدرها و دعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم ظهر الجفاء و قلت العلماء و عفت السنة و شاعت البدعة لقد صحبت أقواما ما كانت صحبتهم إلا قرة عين لكل مسلم و جلاء الصدور و لقد رأيت أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم من سيئاتكم أن تعذبوا عليها و كانوا مما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرم عليكم منها. ما لي أسمع حسيسا و لا أرى أنيسا ذهب الناس و بقي النسناس لو تكاشفتم ما تدافنتم تهاديتم الأطباق و لم تتهادوا النصائح أعدوا الجواب فإنكم مسئولون إن المؤمن من لا يأخذ دينه عن رأيه و لكن عن ربه ألا إن الحق قد أجهد أهله و حال بينهم و بين شهواتهم و ما يصبر عليه إلا من عرف فضله و رجا عاقبته فمن حمد الدنيا ذم الآخرة و لا يكره لقاء الله إلا مقيم على ما يسخطه إن الإيمان ليس بالتمني و لا بالتشهي و لكن ما وقر في القلوب و صدقته الأعمال. و هذا كلام حسن و موعظة بالغة إلا أنه في الجزالة و الفصاحة دون كلام أمير المؤمنين ع بطبقات شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 150من خطب عمر بن عبد العزيزو من خطب عمر بن عبد العزيز إن لكل سفر زادا لا محالة فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة فكونوا كمن عاين ما أعد الله تعالى من ثوابه و عقابه فرغبوا و رهبوا و لا يطولن عليكم الأمر فتقسو قلوبكم و تنقادوا لعدوكم فإنه و الله ما بسط من لا يدري لعله لا يصبح بعد إمسائه و لا يمسي بعد إصباحه و ربما كانت بين ذلك خطفات المنايا فكم رأينا و أنتم من كان بالدنيا مغترا فأصبح في حبائل خطوبها و مناياها أسيرا و إنما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله و إنما يفرح من أمن من أهوال يوم القيامة فأما من لا يبرأ من كلم إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يفرح أعوذ بالله أن أخبركم بما أنهى عنه نفسي فتخيب صفقتي و تظهر عورتي و تبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغني و

(6/113)


الفقير و الموازين منصوبة و الجوارح ناطقة لقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت و لو عنيت به الجبال لذابت أو الأرض لانفطرت أ ما تعلمون أنه ليس بين الجنة و النار منزلة و أنكم صائرون إلى أحدهما. و من خطب عمر بن عبد العزيز أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا و لم تتركوا سدى و إن لكم معادا يبين الله لكم فيه الحكم و الفصل بينكم فخاب و خسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شي ء و حرم الجنة اتي عرضها السموات و الأرض. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 151و اعلموا أن الأمان لمن خاف الله و باع قليلا بكثير و فانيا بباق أ لا ترون أنكم في أسلاب الهالكين و سيسلبها بعدكم الباقون حتى ترد إلى خير الوارثين ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا و رائحا إلى الله عز و جقد قضى نحبه و بلغ أجله تغيبونه في صدع من الأرض ثم تدعونه غير ممهد و لا موسد قد صرم الأسباب و فارق الأحباب و واجه الحساب و صار في التراب غنيا عما ترك فقيرا إلى ما قدم
من خطب ابن نباتة

(6/114)


و من خطب ابن نباتة الجيدة في ذكر الموت أيها الناس ما أسلس قياد من كان الموت جريره و أبعد سداد من كان هواه أميره و أسرع فطام من كانت الدنيا ظئره و أمنع جناب من أضحت التقوى ظهيره فاتقوا الله عباد الله حق تقواه و راقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه و تأهبوا لوثبات المنون فإنها كامنة في الحركات و السكون بينما ترى المرء مسرورا بشبابه مغرورا بإعجابه مغمورا بسعة اكتسابه مستورا عما خلق له لما يغرى به إذ أسعرت فيه الأسقام شهابها و كدرت له الأيام شرابها و حومت عليه المنية عقابها و أعلقت فيه ظفرها و نابها فسرت فيه أوجاعه و تنكرت عليه طباعه و أظل رحيله و وداعه و قل عنه منعه و دفاعه فأصبح ذا بصر حائر و قلب طائر و نفس غابر في قطب هلاك دائر قد أيقن بمفارقة أهله و وطنه و أذعن بانتزاع روحه عن بدنه حتى إذا تحقق منه اليأس و حل به المحذور و البأس أومأ إلى خاص عواده موصيا لهم بأصاغر أولاده جزعا عليهم من ظفر أعدائه و حساده شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 152و النفس بالسياق تجذب و الموت بالفراق يقرب العيون لهول مصرعه تسكب و الحامة عليه تعدد و تندب حتى تجلى له ملك الموت من حجبه فقضى فيه قضاء أمر ربه فعافه الجليس و أوحش منه الأنيس و زود من ما كفنا و حصر في الأرض بعمله مرتهنا وحيدا على كثرة الجيران بعيدا على قرب المكان مقيما بين قوم كانوا فزالوا و حوت عليهم الحادثات فحالوا لا يخبرون بما إليه آلوا و لو قدروا على المقال لقالوا قد شربوا من الموت كأسا مرة و لم يفقدوا من أعمالهم ذرة و آلى عليهم الدهر ألية برة ألا يجعل لهم الدنيا كرة كأنهم لم يكونوا للعيون قرة و لم يعدوا في الأحياء مرة أسكتهم الذي أنطقهم و أبادهم الذي خلقهم و سيوجدهم كما خلقهم و يجمعهم كما فرقهم يوم يعيد الله العالمين خلقا جديدا و يجعل الله الظالمين لنار جهنم وقودا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ

(6/115)


سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 64153- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالًا فَيَكُونَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً وَ يَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيلٌ وَ كُلُّ عَزِيزٍ غَيْرَهُ ذَلِيلٌ وَ كُلُّ قَوِيٍّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ وَ كُلُّ مَالِكٍ غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ وَ كُلُّ عَالِمٍ غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ وَ كُلُّ قَادِرٍ غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَ يَعْجِزُ وَ كُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الْأَصْوَاتِ وَ يُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَ يَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا وَ كُلُّ بَصِيرٍ غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الْأَلْوَانِ وَ لَطِيفِ الْأَجْسَامِ وَ كُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرَهُ غَيْرُ بَاطِنٍ وَ كُلُّ بَاطِنٍ غَيْرَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ وَ لَا تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ وَ لَا اسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لَا شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ وَ لَا ضِدٍّ مُنَافِرٍ وَ لَكِنْ خَلَائِقُ مَرْبُوبُونَ وَ عِبَادٌ دَاخِرُونَ لَمْ يَحْلُلْ فِي الْأَشْيَاءِ فَيُقَالَ هُوَ فِيهَا كَائِنٌ وَ لَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ وَ لَا تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ وَ لَا وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ وَ لَا وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَ قَدَّرَ بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَ عِلْمٌ مُحْكَمٌ وَ أَمْرٌ مُبْرَمٌ الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ

(6/116)


يصم بفتح الصاد لأن الماضي صممت يا زيد و الصمم فساد حاسة السمع و يصمه بكسرها يحدث الصمم عنده و أصممت زيدا. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 154و الند المثل و النظير و المثاور المواثب و الشريك المكاثر المفتخر بالكثرة و الضد المنافر المحاكم في الحسب نافرت زيدا فنفه أي غلبته و مربوبون مملوكون و داخرون ذليلون خاضعون. و لم ينأ لم يبعد و لم يؤده لم يتعبه و ذرأ خلق و ولجت عليه الشبهة بفتح اللام أي دخلت و المرهوب المخوف. فأما قوله الذي لم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخرا فيمكن تفسيره على وجهين أحدهما أن معنى كونه أولا أنه لم يزل موجودا و لا شي ء من الأشياء بموجود أصلا و معنى كونه آخرا أنه باق لا يزال و كل شي ء من الأشياء يعدم عدما محضا حسب عدمه فيما مضى و ذاته سبحانه ذات يجب لها اجتماع استحقاق هذين الاعتبارين معا في كل حال فلا حال قط إلا و يصدق على ذاته أنه ب كونها مستحقة للأولية و الآخرية بالاعتبار المذكور استحقاقا ذاتيا ضروريا و ذلك الاستحقاق ليس على وجه وصف الترتيب بل مع خلاف غيره من الموجودات الجسمانية فإن غيره مما يبقى زمانين فصاعدا إذا نسبناه إلى ما يبقى دون زمان بقائه لم يكن استحقاقه الأولية و الآخرية بالنسبة إليه على هذا الوصف بل إما يكون استحقاقا بالكلية بأن يكون استحقاقا قريبا فيكون إنما يصدق عليه أحدهما لأن الآخر لم يصدق عليه أو يكونا معا يصدقان عليه مجتمعين غير مرتبين لكن ليس ذلك لذات الموصوف بالأولية و الآخرية بل إنما ذلك الاستحقاق لأمر خارج عن ذاته. الوجه الثاني أن يريد بهذا الكلام أنه تعالى لا يجوز أن يكون موردا للصفات المتعاقبة على ما يذهب إليه قوم من أهل التوحيد قالوا لأنه واجب لذاته و الواجب لذاته شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 155واجب من جميع جهاته إذ لو فرضنا جواز اتصافه بأمر جديد ثبوتي أو سلبيقلنا إن ذاته لا تكفي في تحققه و لو قلنا ذلك لقلنا إن حصول ذلك الأمر

(6/117)


أو سلبه عنه يتوقف على حصول أمر خارج عن ذاته أو على عدم أمر خارج عن ذاته فتكون ذاته لا محالة متوقفة على حضور ذلك الحصول أو السلب و المتوقف على المتوقف على الغير متوقف على الغير و كل متوقف على الغير ممكن و الواجب لا يكون ممكنا فيكون معنى الكلام على هذا التفسير نفي كونه تعالى ذا صفة بكونه أولا و آخرا بل إنما المرجع بذلك إلى إضافات لا وجود لها في الأعيان و لا يكون ذلك من أحوال ذاته الراجعة إليها كالعالمية و نحوها لأن تلك أحوال ثابتة و نحن إنما ننفي عنه بهذه الحجة الأحوال المتعاقبة. و أما قوله أو يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا فإن للباطل و الظاهر تفسيرا على وجهين أحدهما أنه ظاهر بمعنى أن أدلة وجوده و أعلام ثبوته و إلهيته جلية واضحة و معنى كونه باطنا أنه غير مدرك بالحواس الظاهرة بل بقوة أخرى باطنة و هي القوة العقلية. و ثانيهما أنا نعني بالظاهر الغالب يقال ظهر فلان على بني فلان أي غلبهم و معنى الباطن العالم يقال بطنت سر فلان أي علمته و القول في نفيه عنه سبحانه أن يكون ظاهرا قبل كونه باطنا كالقول فيما تقدم من نفيه عنه سبحانه كونه أولا قبل كونه آخرا. و أما قوله كل مسمى بالوحدة غيره قليل فلأن الواحد أقل العدد و معنى كونه واحدا يباين ذلك لأن معنى كونه واحدا إما نفي الثاني في الإلهية أو كونه يستحيل عليها الانقسام و على كلا التفسيرين يسلب عنها مفهوم القلة. هذا إذا فسرنا كلامه على التفسير الحقيقي و إن فسرناه على قاعدة البلاغة و صناعة شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 156الخطابة كان ظاهرا لأن الناس يستحقرون القليل لقلته و يستعظمون الكثير لكثرته قال الشاعرتجمعتم من كل أوب و وجهة على واحد لا زلتم قرن واحد

(6/118)


و أما قوله و كل عزيز غيره ذليل فهو حق لأن غيره من الملوك و إن كان عزيزا فهو ذليل في قبضة القضاء و القدر و هذا هو تفسير قوله و كل قوى غيره ضعيف و كل مالك غيره مملوك. و أما قوله و كل عالم غيره متعلم فهو حق لأنه سبحانه مفيض العلوم على النفوس فهو المعلم الأول جلت قدرته. و أما قوله و كل قادر غيره يقدر و يعجز فهو حق لأنه تعالى قادر لذاته و يستحيل عليه العجز و غيره قادر لأمر خارج عن ذاته أما لقدرة كما قاله قوم أو لبنية و تركيب كما قاله قوم آخرون و العجز على من عداه غير ممتنع و عليه مستحيل. و أما قوله ع و كل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات و يصمه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها فحق لأن كل ذي سمع من الأجسام يضعف سمعه عن إدراك خفي الأصوات و يتأثر من شديدها و قويها لأنه يسمع بآلة جسمانية و الآلة الجسمانية ذات قوة متناهية واقفة عند حد محدود و الباري تعالى بخلاف ذلك. و اعلم أن أصحابنا اختلفوا في كونه تعالى مدركا للمسموعات و المبصرات فقال شيخنا أبو علي و أبو هاشم و أصحابهما إن كونه مدركا صفة زائدة على كونه عالما و قالا إنا نصف الباري تعالى فيما لم يزل بأنه سميع بصير و لا نصفه بأنه سامع مبصر و معنى كونه سامعا مبصرا أنه مدرك للمسموعات و المبصرات. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 157و قال شيخنا أبو القاسم و أبو الحسين و أصحابهما أن معنى كونه تعالى مدركا هو أنه عالم بالمدركات و لا صفة له زائدة على صفته بكونه عالما و هذا البحث مشروح في كتبي الكلامية لتقرير الطريقين و في شرح الغرر و غيرهم و القول في شرح قوله و كل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان و لطيف الأجسام كالقول فيما تقدم في إدراك السمع. و أما قوله و كل ظاهر غيره غير باطن و كل باطن غيره غير ظاهر فحق لأن كل ظاهر غيره على التفسير الأول فليس بباطن كالشمس و القمر و غيرهما من الألوان الظاهرة فإنها ليست إنما تدرك بالقوة العقلية بل بالحواس الظاهرة و أما هو

(6/119)


سبحانه فإنه أظهر وجودا من الشمس لكن ذلك الظهور لم يمكن إدراكه بالقوى الحاسة الظاهرة بل بأمر آخر إما خفي في باطن هذا الجسد أو مفارق ليس في الجسد و لا في جهة أخرى غير جهة الجسد. و أما على التفسير الثاني فلأن كل ملك ظاهر على رعيته أو على خصومه و قاهر لهم ليس بعالم ببواطنهم و ليس مطلعا على سرائرهم و البارئ تعالى بخلاف ذلك و إذا فهمت شرح القضية الأولى فهمت شرح الثانية و هي قوله و كل باطن غيره غير ظاهر
اختلاف الأقوال في خلق العالم

(6/120)


فأما قوله لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطانه إلى قوله عباد داخرون فاعلم أن شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 158الناس اختلفوا في كمية خلقه تعالى للعالم ما هي على أقوال القول الأول قول الفلاسفة قال محمد بن زكريا الرازي عن أرسطاطاليس إنه زعم أن العالم كان عن البارئ تعا لأن جوهره و ذاته جوهر و ذات مسخرة للمعدوم أن يكون مسخرا موجودا. قال و زعم ابن قيس أن علة وجود العالم وجود البارئ. قال و على كلا القولين يكون العالم قديما أما على قول أرسطو فلأن جوهر ذات البارئ لما كان قديما لم يزل وجب أن يكون أثرها و معلولها قديما و أما على قول ابن قيس فلأن البارئ موجود لم يزل لأن وجوده من لوازم ذاته فوجب أن يكون فيضه و أثره أيضا لم يزل هكذا. قال ابن زكريا فأما الذي يقول أصحاب أرسطاطاليس الآن في زماننا فهو أن العالم لم يجب عن الله سبحانه عن قصد و لا غرض لأن كل من فعل فعلا لغرض كان حصول ذلك الغرض له أولى من لا حصوله فيكون كاملا لحصول ذلك الغرض و واجب الوجود لا يجوز أن يكون كاملا بأمر خارج عن ذاته لأن الكامل لا من ذاته ناقص من ذاته. قالوا لكن تمثل نظام العالم في علم واجب الوجود يقتضي فيض ذلك النظام منه قالوا و هذا معنى قول الحكماء الأوائل إن علمه تعالى فعلي لا انفعالي و إن العلم على قسمين أحدهما ما يكون المعلوم سببا له و الثاني ما يكون هو سبب المعلوم مثال الأول أن نشاهد صورة فنعلمها و مثال الثاني أن يتصور الصائغ أو النجار أو البناء كيفية العمل فيوقعه في الخارج على حسب ما تصوره. شرح نهج البلا ج : 5 ص : 159قالوا و علمه تعالى من القسم الثاني و هذا هو المعنى المعبر عنه بالعناية و هو إحاطة علم الأول الحق سبحانه بالكل و بالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام و بأن ذلك واجب عن إحاطته فيكون الموجود وفق المعلوم من غير انبعاث قصد و طلب عن الأول الحق سبحانه فعلمه تعالى بكيفية الصواب في ترتيب الكل هو المنبع

(6/121)


لفيضان الوجود في الكل. القول الثاني قول حكاه أبو القاسم البلخي عن قدماء الفلاسفة و إليه كان يذهب محمد بن زكريا الرازي من المتأخرين. و هو أن علة خلق البارئ للعالم تنبيه النفس على أن ما تراه من الهيولى و تريده غير ممكن لترفض محبتها إياها و عشقها لها و تعود إلى عالمها الأول غير مشتاقة إلى هذا العالم. و اعلم أن هذا القول هو القول المحكي عن الحرنانية أصحاب القدماء الخمسة و حقيقة مذهبهم إثبات قدماء خمسة اثنان منهم حيان فاعلان و هما البارئ تعالى و النفس و مرادهم بالنفس ذات هي مبدأ لسائر النفوس التي في العالم كالأرواح البشرية و القوى النباتية و النفوس الفلكية و يسمون هذه الذات النفس الكلية و واحد من الخمسة منفعل غير حي و هو الهيولى و اثنان لا حيان و لا فاعلان و لا منفعلان و هما الدهر و القضاء قالوا و البارئ تعالى هو مبدأ العلوم و المنفعلات و هو قائم العلم و الحكمة كما أن النفس مبدأ الأرواح و النفوس فالعلوم و المنفعلات تفيض من البارئ سبحانه فيض النور عن قرص الشمس و النفوس و الأرواح تفيض عن النفس الكلية فيض النور عن القرص إلا أن النفوس جاهلة لا تعرف الأشياء إلا على أحد وجهين إما أن يفيض فيض البارئ تعالى عليها تعقلا و إدراكا و إما أن تمارس غيرها و تمازجه فتعرف ما تعرف باعتبار الممارسة و المخالطة معرفة ناقصة و كان البارئ تعالى في الأزل عالما بأن النفس تميل إلى التعلق بالهيولى

(6/122)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 160و تعشقها و تطلب اللذة الجسمانية و تكره مفارقة الأجسام و تنسى نفسها و لما كان البارئ سبحانه قائم العلم و الحكمة اقتضت حكمته تركب الهيولى لما تعلقت النفس بها ضروبا مختلفة من التراكيب فجعل منها أفلاكا و عناصر و حيوانات و نباتاتأفاض على النفوس تعقلا و شعورا جعله سببا لتذكرها عالمها الأول و معرفتها أنها ما دامت في هذا العالم مخالطة للهيولى لم تنفك عن الآلام فيصير ذلك مقتضيا شوقها إلى عالمها الأول الذي لها فيه اللذات الخالية عن الآلام و رفضها هذا العالم الذي هو سبب أذاها و مضرتها. القول الثالث قول المجوس إن الغرض من خلق العالم أن يتحصن الخالق جل اسمه من العدو و أن يجعل العالم شبكة له ليوقع العدو فيه و يجعله في ربط و وثاق و العدو عندهم هو الشيطان و بعضهم يعتقد قدمه و بعضهم حدوثه. قال قوم منهم إن البارئ تعالى استوحش ففكر فكرة رديئة فتولد منها الشيطان. و قال آخرون بل شك شكا رديئا فتولد الشيطان من شكه. و قال آخرون بل تولد من عفونة رديئة قديمة و زعموا أن الشيطان حارب البارئ سبحانه و كان في الظلم لم يزل بمعزل عن سلطان البارئ سبحانه فلم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب وثبة عظيمة فصار في سلطان الله تعالى في النور و أدخل معه الآفات و البلايا و السرور فبنى الله سبحانه هذه الأفلاك و الأرض و العناصر شبكة له و هو فيها محبوس لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه الأول و صار في الظلمة فهو أبدا يضطرب و يرمي الآفات على خلق الله سبحانه فمن أحياه الله رماه الشيطان بالموت و من أصحه رماه الشيطان بالسقم و من سره رماه بالحزن و الكآبة فلا يزال كذلك و كل يوم ينتقص سلطانه و قوته لأن الله تعالى يحتال له كل يوم و يضعفه إلى أن تذهب قوته كلها شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 161و تجمد و تصير جمادا لا حراك به فيضعه الله تعالى حينئذ في جو و الجو عندهم هو الظلمة و لا منتهى له فيصير في الجو جمادا جامدا

(6/123)


هوائيا و يجمع الله تعالى أهل الأديان فيعذبهم بقدر ما يطهرهم و يصفيهم من طاعة الشيطان و يغسلهم من الأدناس ثم يدخلهم الجنة و هي جنة لا أكل فيها و لا شرب و لا تمتع و لكنها موضع لذة و سرور. القول الرابع قول المانوية و هو أن النور لا نهاية له من جهة فوق و أما من جهة تحت فله نهاية و الظلمة لا نهاية لها من جهة أسفل و أما من جهة فوق فلها نهاية و كان النور و الظلمة هكذا قبل خلق العالم و بينهما فرجة و أن بعض أجزاء النور اقتحم تلك الفرجة لينظر إلى الظلمة فأسرته الظلمة فأقبل عالم كثير من النور فحارب الظلمة ليستخلص المأسورين من تلك الأجزاء و طالت الحرب و اختلط كثير من أجزاء النور بكثير من أجزاء الظلمة فاقتضت حكمة نور الأنوار و هو البارئ سبحانه عندهم أن عمل الأرض من لحوم القتلى و الجبال من عظامهم و البحار من صديدهم و دمائهم و السماء من جلودهم و خلق الشمس و القمر و سيرهما لاستقصاء ما في هذا العالم من أجزاء النور المختلطة بأجزاء الظلمة و جعل حول هذا العالم خندقا خارج الفلك الأعلى يطرح فيه الظلام المستقصى فهو لا يزال يزيد و يتضاعف و يكثر في هذا الخندق و هو ظلام صرف قد استقصى نوره و أما النور المستخلص فيلحق بعد الاستقصاء بعالم الأنوار من فوق فلا تزال الأفلاك متحركة و العالم مستمرا إلى أن يتم استقصاء النور الممتزج و حينئذ يبقى من النور الممتزج شي ء يسير فينعقد بالظلمة لا تقدر النيران على استقصائه فعند ذلك تسقط الجسام العالية و هي الأفلاك على الأجسام السافلة و هي الأرضون و تثور نار و تضطرم في تلك الأسافل

(6/124)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 162و هي المسماة بجهنم و يكون الاضطرام مقدار ألف و أربعمائة سنة فتحلل بتلك النار تلك الأجزاء المنعقدة من النور الممتزجة بأجزاء الظلمة التي عجز الشمس و القمر عن استقصائها فيرتفع إلى عالم الأنوار و يبطل العالم حينئذ و يعود النور ك إلى حالة الأولى قبل الامتزاج فكذلك الظلمة. القول الخامس قول متكلمي الإسلام و هو على وجوه أولها قول جمهور أصحابنا إن الله تعالى إنما خلق العالم للإحسان إليهم و الإنعام على الحيوان لأن خلقه حيا نعمة عليه لأن حقيقة النعمة موجودة فيه و ذلك أن النعمة هي المنفعة المفعولة للإحسان و وجود الجسم حيا منفعة مفعولة للإحسان أما بيان كون ذلك منفعة فلأن المنفعة هي اللذة و السرور و دفع المضار المخوفة و ما أدى إلى ذلك و صححه أ لا ترى أن من أشرف على أن يهوى من جبل فمنعه بعض الناس من ذلك فإنه يكون منعما عليه و من سر غيره بأمر و أوصل إليه لذة يكون قد أنعم عليه و من دفع إلى غيره مالا يكون قد أنعم عليه لأنه قد مكنه بدفعه إليه من الانتفاع و صححه له و لا ريب أن وجودنا أحياء يصحح لنا اللذات و يمكننا منها لأنا لو لم نكن أحياء لم يصح ذلك فينا قالوا و إنما قلنا إن هذه المنفعة مفعولة للإحسان لأنها إما أن تكون مفعولة لا لغرض أو لغرض و الأول باطل لأن ما يفعل لا لغرض عبث و البارئ سبحانه لا يصح أن تكون أفعاله عبثا لأنه حكيم. و أما الثاني فإما أن يكون ذلك الغرض عائدا عليه سبحانه بنفع أو دفع ضرر أو يعود على غيره و الأول باطل لأنه غني لذاته يستحيل عليه المنافع و المضار و لا يجوز أن يفعله لمضرة يوصلها إلى غيره لأن القصد إلى الإضرار بالحيوان من غير استحقاق و لا منفعة يوصل إليها بالمضرة قبيح تعالى الله عنه فثبت أنه سبحانه إنما خلق الحيوان شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 163لنفعه و أما غير الحيوان فلو ليفعله لينفع به الحيوان لكان خلقه عبثا و البارئ تعالى لا يجوز عليه

(6/125)


العبث فإذا جميع ما في العالم إنما خلقه لينفع به الحيوان. فهذا هو الكلام في علة خلق العالم عندهم و أما الكلام في وجه حسن تكليف الإنسان فذاك مقام آخر لسنا الآن في بيانه و لا الحاجة داعية إليه. و ثانيها قول قوم من أصحابنا البغداديين إنه خلق الخلق ليظهر به لأرباب العقول صفاته الحميدة و قدرته على كل ممكن و علمه بكل معلوم و ما يستحقه من الثناء و الحمد قالوا
و قد ورد الخبر أنه تعالى قال كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف

(6/126)


و هذا القول ليس بعيدا. و ثالثها للمجبرة إنه خلق الخلق لا لغرض أصلا و لا يقال لم كان كل شي ء لعلة و لا علة لفعله و مذهب الأشعري و أصحابه أن إرادته القديمة تعلقت بإيجاد العالم في الحال التي وجد فيها لذاتها و لا لغرض و لا لداع و ما كان يجوز ألا يوجد العالم حث وجد لأن الإرادة القديمة لا يجوز أن تتقلب و تتغير حقيقتها و كذلك القول عندهم في أجزاء العالم المجددة من الحركات و السكنات و الأجسام و سائر الأعراض. و رابعها قول بعض المتكلمين إن البارئ تعالى إنما فعل العالم لأنه ملتذ بأن يفعل و أجاز أرباب هذا القول عليه اللذة و السرور و الابتهاج قالوا و البارئ سبحانه و إن كان قبل أن يخلق العالم ملتذا بكونه قادرا على خلق العالم إلا أن لذة الفعل أقوى من لذة القدرة على الفعل كان يلتذ بأنه قادر على أن يكتب خطا مستحسنا أو يبنى بيتا محكما فإنه إذا أخرج تلك الصناعة من القوة إلى الفعل كانت لذته أتم و أعظم قالوا و لم يثبت بالدليل العقلي استحالة اللذة عليه و قد ورد في الآثار النبوية أن الله تعالى يسر و اتفقت الفلاسفة على أنه ملتذ بذاته و كماله. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 164و عندي في هذا القول نظر و لي في اللذة و الألم رسالة مفردة وما قوله لم يحلل في الأشياء فيقال لا هو فيها كائن و لا منها مباين فينبغي أن يحمل على أنه أراد أنه لم ينأ عن الأشياء نأيا مكانيا فيقال هو بائن بالمكان هكذا ينبغي أن يكون مراده لأنه لا يجوز إطلاق القول بأنه ليس ببائن عن الأشياء و كيف و المجرد بالضرورة بائن عن ذي الوضع و لكنها بينونة بالذات لا بالجهة و المسلمون كلهم متفقون على أنه تعالى يستحيل أن يحل في شي ء إلا من اعتزى إلى الإسلام من الحلولية كالذين قالوا بحلوله في علي و ولده و كالذين قالوا بحلوله في أشخاص يعتقدون فيها إظهاره كالحلاجية و غيرهم و الدليل على اتحالة حلوله سبحانه في الأجسام أنه لو صح أن يحل فيها لم يعقل منفردا

(6/127)


بنفسه أبدا كما أن السواد لا يعقل كونه غير حال في الجسم لأنه لو يعقل غير حال في الجسم لم يكن سوادا و لا يجوز أن يكون الله تعالى حالا أبدا و لا أن يلاقي الجسم إذ ذلك يستلزم قدم الأجسام و قد ثبت أنها حادثة. فأما قوله لم يؤده خلق ما ابتدأ إلى قوله عما خلق فهو حق لأنه تعالى قادر لذاته و القادر لذاته لا يتعب و لا يعجز لأنه ليس بجسم و لا قادر بقدرة يقف مقدورها عند حد و غاية بل إنما يقدر على شي ء لأنه تعالى ذات مخصوصة يجب لها أن تقدر على الممكنات فكون كل ممكن داخلا تحت هذه القضية الكلية و الذات التي تكون هكذا لا تعجز و لا تقف مقدوراتها عند حد و غاية أصلا و يستحيل عليها التعب لأنها ليست ذات أعضاء و أجزاء. و أما قوله و لا ولجت عليه شبهة إلى قوله و أمر مبرم فحق لأنه تعالى عالم لذاته أي إنما علم ما علمه لا بمعنى أن يتعلق بمعلوم دون معلوم بل إنما علم أي شي ء أشرت إليه لأنه ذات مخصوصة و نسبة تلك الذات إلى غير ذلك الشي ء المشار إليه شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 165كنسبتها إلى المشار إليه فكانت عالمة بكل معلوم و استحال دخول الشبهة عليها فيما يقضيه و يقدره. ا قوله المأمول مع النقم المرهوب مع النعم فمعنى لطيف و إليه وقعت الإشارة بقوله تعالى أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ و قوله سبحانه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ و قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً و قوله سبحانه فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً و إليه نظر الشاعر في قوله
من عاش لاقى ما يسوء من الأمور و ما يسرو لرب حتف فوقه ذهب و ياقوت و در
و قال البحتري

(6/128)


يسرك الشي ء قد يسوء و كم نوه يوما بخامل لقبه لا ييئس المرء أن ينجيه ما يحسب الناس أنه عطبو قال آخر
رب غم يدب تحت سرور و سرور يأتي من المحذور
و قال سعيد بن حميد
كم نعمة مطوية لك بين أثناء النوائب
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 166و مسرة قد أقبلت من حيث تنتظر المصائو قال آخر
أنتظر الروح و أسبابه أيأس ما كنت من الروح
و قال آخر
ربما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال
و قال آخر
العسر أكرمه ليسر بعده و لأجل عين ألف عين تكرم و المرء يكره يومه و لعله يأتيه فيه سعادة لا تعلمو قال الحلاج
و لربما هاج الكبير من الأمور لك الصغيرو لرب أمر قد تضيق به الصدور و لا يصير
و قال آخر
يا راقد الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
و قال آخر
كم مرة حفت بك المكاره خار لك الله و أنت كاره
و من شعري الذي أناجي به البارئ سبحانه في خلواتي و هو فن أطويه و أكتمه عن الناس و إنما ذكرت بعضه في هذا الموضع لأن المعنى ساق إليه و الحديث ذو شجون
يا من جفاني فوجدي بعده عدم هبني أسأت فأين العفو و الكرم

(6/129)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 167أنا المرابط دون الناس فاجف و صل و اقبل و عاقب و حاسب لست انهزم إن المحب إذا صحت محبته فما لوقع المواضي عنده ألم و حق فضلك ما استيأست من نعم تسري إلي و إن حلت بي النقم و لا أمنت نكالا منك أرهبه و إن ترادفت الآلاء و النعم تعرض عمن في حشاشته نار لحبك طول الدهر تضطرم أ لم تقل إن من يدنو إلي قدر الذراع أدنو له باعا و أبتسم و الله و الله لو عاقبتني حقبا بالنار تأكلني حطما و تلتهم ما حلت عن حبك الباقي فليس على حال بمنصرم و الدهر ينص شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 65168- و من كلام له ع كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفينمَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ وَ تَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ وَ عَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ وَ أَكْمِلُوا اللَّامَةَ وَ قَلْقِلُوا السُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا وَ الْحَظُوا الْخَزْرَ وَ اطْعُنُوا الشَّزْرَ وَ نَافِحُوا بِالظُّبَى وَ صِلُوا السُّيُوفَ بِالْخُطَا وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللَّهِ وَ مَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ فَعَاوِدُوا الْكَرَّ وَ اسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الْأَعْقَابِ وَ نَارٌ يَوْمَ الْحِسَابِ وَ طِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً وَ امْشُوا إِلَى الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً وَ عَلَيْكُمْ بِهَذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَ الرِّوَاقِ الْمُطَنَّبِ فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَامِنٌ فِي كِسْرِهِ وَ قَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً وَ أَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رَجُلًا فَصَمْداً صَمْداً حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ

(6/130)


قوله استشعروا الخشية أي اجعلوا الخوف من الله تعالى من شعاركم و الشعار من الثياب ما يكون دون الدثار و هو يلي الجلد و هو ألصق ثياب الجسد و هذه استعارة حسنة و المراد بذلك أمرهم بملازمة الخشية و التقوى كما أن الجلد يلازم الشعار. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 169له و تجلببوا السكينة أي اجعلوا السكينة و الحلم و الوقار جلبابا لكم و الجلباب الثوب المشتمل على البدن. قوله و عضوا على النواجذ جمع ناجذ و هو أقصى الأضراس و للإنسان أربعة نواجذ في كل شق و النواجذ بعد الأرحاء و يسمى الناجذ ضرس الحلم لأنه ينبت بعد البلوغ و كمال العقل و يقال إن العاض على نواجذه ينبو السيف عن هامته نبوا ما و هذا مما يساعد التعليل الطبيعي عليه و ذلك أنه إذا عض على نواجذه تصلبت الأعصاب و العضلات المتصلة بدماغه و زال عنها الاسترخاء فكانت على مقاومة السيف أقدر و كان تأثير السيف فيها أقل. و قوله فإنه أنبى الضمير راجع إلى المصدر الذي دل الفعل عليه تقديره فإن العض أنبى كقولهم من فعل خيرا كان له خيرا أي كان فعله خيرا و أنبى أفعل من نبا السيف إذا لم يقطع. قال الراوندي هذا كلام ليس على حقيقته بل هو كناية عن الأمر بتسكين القلب و ترك اضطرابه و استيلاء الرعدة عليه إلى أن قال ذلك أشد إبعادا لسيف العدو عن هامتكم. قوله و أكملوا اللأمة اللأمة بالهمزة الدرع و الهمزة ساكنة على فعلة مثل النأمة للصوت و إكمالها أن يزاد عليها البيضة و السواعد و نحوها و يجوز أن يعبر باللأمة عن جميع أداة الحرب كالدرع و الرمح و السيف يريد أكملوا السلاح الذي تحاربون العدو به. قوله و قلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها يوم الحرب لئلا يدوم مكثها في الأجفان فتلحج فيها فيستصعب سلها وقت الحاجة إليها. و قوله و الحظوا الخزر الخزر أن ينظر الإنسان بعينه و كأنه ينظر بمؤخرها و هي أمارة الغضب و الذي أعرفه الخزر بالتحريك قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 17إذا تخازرت

(6/131)


و ما بي من خزر ثم كسرت العين و ما بي من عورألفيتني ألوى بعيد المستمر أحمل ما حملت من خير و شر
فإن كان قد جاء مسكنا فتسكينه جائز للسجعة الثانية و هي قوله و اطعنوا الشزر و الطعن شزرا هو الطعن عن اليمين و الشمال و لا يسمى الطعن تجاه الإنسان شزرا و أكثر ما تستعمل لفظة الشزر في الطعن لما كان عن اليمين خاصة و كذلك إدارة الرحى و خزرا و شزرا صفتان لمصدرين محذوفين تقديره الحظوا لحظا خزرا و اطعنوا طعنا شزرا و عين اطعنوا مضمومة يقال طعنت بالرمح اطعن بالضم و طعنت في نسبه أطعن بالفتح أي قدحت قال
يطوف بي عكب في معد و يطعن بالصملة في قفيا
قوله نافحوا بالظبى أي ضاربوا نفحة بالسيف أي ضربة و نفحت الناقة برجلها أي ضربت و الظبى جمع ظبة و هي طرف السيف. قوله و صلوا السيوف بالخطا مثل قول الشاعر
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فنضارب
قالوا بكسر نضارب لأنه معطوف على موضع جزاء الشرط الذي هو إذا. و قال آخر
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا يوما و نلحقها إذا لم تلحق
و أنشدني شيخنا أبو القاسم الحسين بن عبد الله العكبري و لم يسم قائله و وجدته بعد لنابغة بني الحارث بن كعب
إن تسألي عنا سمي فإنه يسمو إلى قحم العلا أدنانا
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 171و تبيت جارتنا حصانا عفة ترضى و يأخذ حقه مولاناو نقوم إن رق المنون بسحرة لوصاة والدنا الذي أوصاناألا نفر إذا الكتيبة أقبلت حتى تدور رحاهم و رحاناو تعيش في أحلامنا أشياخنا مردا و ما وصل الوجوه لحاناو إذا السيوف قصرن طولها لنا ى تناول ما نريد خطانا
و قال حميد بن ثور الهلالي
إلى أن نزلنا بالفضاء و ما لنابه معقل إلا الرماح الشواجرو وصل الخطا بالسيف و السيف بالخطاإذا ظن أن المرء ذا السيف قاصر
و هذه الأبيات من قطعة لحميد جيدة و من جملتها

(6/132)


قضى الله في بعض المكاره للفتى برشد و في بعض الهوى ما يحاذرأ لم تعلمي أني إذا الإلف قادني إلى الجور لا انقاد و الإلف جائرو قد كنت في بعض الصباوة أتقي أمورا و أخشى أن تدور الدوائرو أعلم أني أن تغطيت مرة من الدهر مكشوف غطائي فناظر
و من المعنى الذي نحن في ذكره ما روي أن رجلا من الأزد رفع إلى المهلب سيفا له فقال يا عم كيف ترى سيفي هذا فقال إنه لجيد لو لا أنه قصير قال أطوله يا عم بخطوتي فقال و الله يا ابن أخي أن المشي إلى الصين أو إلى آذربيجان على أنياب الأفاعي أسهل من تلك الخطوة و لم يقل المهلب ذلك جبنا بل قال ما توجبه الصورة إذ كانت شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 172تلك الخطوة قريبة للموت قال أبو سعد المخزومي في هذا المعنىرب نار رفعتها و دجى الليل على الأرض مسبل الطيلسان و أمون نحرتها لضيوف و ألوف نقدتهن لجاني و حروب شهدتها جامع القلب فلم تنكر الكمأة مكاني و إذا ما الحسام كان قصيرا طولته إلى العدو بنامن الناس من يرويها في ديوانه لجاني بالجيم أي حملت الحمالة عنه و منهم من يرويها بالحاء يعني الخمار. و من المعنى المذكور أولا قول بعض الشعراء يمدح صخر بن عمرو بن الشريد الأسلمي
إن ابن عمرو بن الشريد له فخار لا يرام و حجا إذا عدم الحجا و ندى إذا بخل الغمام يصل الحسام بخطوة في الروع إن قصر الحساو مثله قول الراجز
يخطو إذا ما قصر العضب الذكر خطوا ترى منه المنايا تبتدر
و مثله
و إنا لقوم ما نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر و سلول يقصر ذكر الموت آجالنا لنا و تكرهه آجالهم فتطولو منها
و إن قصرت أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فتطول
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 173و مثله قول وداك بن ثميل المازنيمقاديم وصالون في الروع خطوهم بكل رقيق الشفرتين يماني إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأية حرب أم بأي مكانو قال آخر
إذا الكمأة تنحوا أن يصيبهم حد السيوف وصلناها بأيدينا
و قال آخر

(6/133)


وصلنا الرقاق المرهفات بخطونا على الهول حتى أمكنتنا المضارب
و قال بعض الرجاز
الطاعنون في النحور و الكلى و الواصلون للسيوف بالخطا
قوله ع و اعلموا أنكم بعين الله أي يراكم و يعلم أعمالكم و الباء هاهنا كالباء في قوله أنت بمرأى مني و مسمع. قوله فعاودوا الكر أي إذا كررتم على العدو كره فلا تقتصروا عليها بل كروا كرة أخرى بعدها ثم قال لهم و استحيوا من الفرار فإنه عار في الأعقاب أي في الأولاد فإن الأبناء يعيرون بفرار الآباء و يجوز أن يريد بالأعقاب جمع عقب و هو العاقبة و ما يئول إليه الأمر قال سبحانه خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً أي خير عاقبة فيعنى على هذا الوجه أن الفرار عار في عاقبة أمركم و ما يتحدث به الناس في مستقبل الزمان عنكم. ثم قال و نار يوم الحساب لأن الفرار من الزحف ذنب عظيم و هو عند شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 174أصحابنا المعتزلة من الكبائر قال الله تعالى وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ و الجهاد بين يدي الإمام كالجهاد بين يدي الرسول ع. قوله ع و طيبوا عن أنفسكم نفسا لما نصب نفسا على التمييز وحده لأن التمييز لا يكون إلا واحدا و إن كان في معنى الجمع تقول انعموا بالا و لا تضيقوا ذرعا و أبقى الأنفس على جمعها لما لم يكن به حاجة إلى توحيدها يقول وطنوا أنفسكم على الموت و لا تكرهوه و هونوه عليكم تقول طبت عن مالي نفسا إذا هونت ذهابه. و قوله و امشوا إلى الموت مشيا سجحا أي سهلا و السجاحة السهولة يقال في أخلاق فلان سجاحة و من رواه سمحا أراد سهلا أيضا. و السواد الأعظم يعني به جمهور أهل الشام. قوله و الرواق المطنب يريد به مضرب معاوية ذا الأطناب و كان معاوية في مضرب عليه قبة عالية و حوله صناديد أهل الشام و ثبجه وسطه و ثبج الإنسان ما بين كاهله إلى ظهره. و الكسر جانب

(6/134)


الخباء و قوله فإن الشيطان كامن في كسره يحتمل وجهين أحدهما أن يعنى به الشيطان الحقيقي و هو إبليس و الثاني أن يعنى به معاوية و الثاني هو الأظهر للقرينة التي تؤيده و هي قوله قد قدم للوثبة يدا و أخر للنكوص رجلا أي إن جبنتم وثب و إن شجعتم نكص أي تأخر و فر و من حمله على الوجه الأول جعله من باب المجاز أي إن إبليس كالإنسان الذي يعتوره دواع مختلفة بحسب المتجددات فإن أنتم صدقتم عدوكم القتال فر عنكم بفرار عدوكم و إن تخاذلتم و تواكلتم طمع فيكم بطمعه و أقدم عليكم بإقدامه.
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 175و قوله ع فصمدا صمدا أي اصمدوا صمدا صمدا صمدت لفلان أي قصدت له. و قوله حتى ينجلي لكم عمود الحق أي يسطع نوره و ضوءه و هذا من باب الاستعارة و الواو في قوله و أنتم الأعلون واو الحال. و لن يتركم أعمالكم أي لن ينقصكم و هاهنا مضاف ذوف تقديره جزاء أعمالكم و هو من كلام الله تعالى رصع به خطبته ع. و هذا الكلام خطب به أمير المؤمنين ع في اليوم الذي كانت عشيته ليلة الهرير في كثير من الروايات. و في رواية نصر بن مزاحم أنه خطب به في أول أيام اللقاء و الحرب بصفين و ذلك في صفر من سنة سبع و ثلاثين.
من أخبار يوم صفين
قال نصر كان علي ع يركب بغلة له يستلذها قبل أن يلتقي الفئتان بصفين فلما حضرت الحرب و بات تلك الليلة يعبئ الكتائب حتى أصبح قال ائتوني بفرس فأتي بفرس له ذنوب أدهم يقاد بشطنين يبحث الأرض بيديه جميعا له حمحمة شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 176و صهيل فركبه و قال سان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم

(6/135)


قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي قال كان علي ع إذا سار إلى قتال ذكر اسم الله قبل أن يركب كان يقول الحمد لله على نعمه علينا و فضله سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين و إنا إلى ربنا لمنقلبون ثم يستقبل القبلة و يرفع يديه إلى السماء و يقول اللهم إليك نقلت الأقدام و أتعبت الأبدان و أفضت القلوب و رفعت الأيدي و شخصت الأبصار رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ثم يقول سيروا على بركة الله ثم يقول الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر يا الله يا أحد يا صمد يا رب محمد اكفف عنا بأس الظالمين الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد و إياك نستعين بسم الله الرحمن الرحيم و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم قال و كانت هذه الكلمات شعاره بصفين
قال و روى سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال ما كان علي ع في قتال إلا نادى يا كهيعص
قال نصر و حدثنا قيس بن الربيع عن عبد الواحد بن حسان العجلي عمن حدثه أنه سمع عليا ع يقول يوم لقائه أهل الشام بصفين اللهم إليك رفعت الأبصار و بسطت الأيدي و نقلت الأقدام و دعت الألسن و أفضت القلوب و تحوكم إليك في الأعمال فاحكم بيننا و بينهم بالحق و أنت خير الفاتحين اللهم إنا نشكو إليك غيبة شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 177نبينا و قلة عددنا و كثرة عدونا و تشتت أهوائنا و شدة الزمان و ظهور الفتن فأعنا على ذلك بفتح منك تعجله و نصر تعز به سلطان الحق و تظهره قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن سلام بن سويد عن علي ع في قوله وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال هي لا إله إلا الله و في قوله الله أكبر قال هي آية النصر

(6/136)


قال سلام كانت شعاره ع يقولها في الحرب ثم يحمل فيورد و الله من اتبعه و من حاده حياض الموت. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال لما كان غداة الخميس لسبع خلون من صفر من سنة سبع و ثلاثين صلى علي ع الغداة فغلس ما رأيت عليا غلس بالغداة أشد من تغليسه يومئذ و خرج بالناس إلى أهل الشام فزحف نحوهم و كان هو يبدؤهم فيسير إليهم فإذا رأوه قد زحف استقبلوه بزحوفهم.
قال نصر فحدثني عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال لما خرج علي ع إليهم غداة ذلك اليوم فاستقبلوه رفع يديه إلى السماء و قال اللهم رب هذا السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته محيطا بالليل و النهار و جعلت فيه مجرى الشمس و القمر و منازل الكواكب و النجوم و جعلت سكانه سبطا من الملائكة لا يسأمون العبادة و رب هذه الأرض التي جعلتها قرارا للأنام و الهوام و الأنعام و ما لا يحصى مما يرى و مما لا يرى من خلقك العظيم و رب الفلك التي تجري في البحر المحيط بما ينفع الناس و رب السحاب المسخر بين السماء و الأرض و رب البحر شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 178المسجور المحيط بالعالمين و رب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا و للخلق متاعا إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي و سددنا للحق و إن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة و اعصم بقية أصحابي من الفتنةقال فلما رأوه قد أقبل تقدموا إليه بزحوفهم و كان على ميمنته يومئذ عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي و على ميسرته عبد الله بن العباس بن عبد المطلب و قراء العراق مع ثلاثة نفر عمار بن ياسر و قيس بن سعد بن عبادة و عبد الله بن بديل و الناس على راياتهم و مراكزهم و علي ع في القلب في أهل المدينة جمهورهم الأنصار و معه من خزاعة و من كنانة عدد حسن. قال نصر و كان علي ع رجلا ربعة أدعج العينين كان وجهه القمر ليلة البدر حسنا ضخم البطن عريض المسربة شثن الكفين ضخم الكسور كأن عنقه إبريق فضة أصلع من

(6/137)


خلفه شعر خفيف لمنكبه مشاش كمشاش الأسد الضاري إذا مشى تكفأ و مار به جسده و لظهره سنام كسنام الثور لا يبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجا لم يمسك بذراع رجل قط إلا أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس و لونه إلى سمرة ما و هو أذلف الأنف إذا مشى إلى الحرب هرول قد أيده الله تعالى في حروبه بالنصر و الظفر. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 179قال نصر و رفع معاوية قبة عظيمة و ألقى عليها الكرابيس و جلس تحتها. قال نصر و قد كان لهم قبل هذا اليوم أيام ثلاثة و هي الرابع من صفر هذا و اليوم الخامس و اليوم السادس كانت فيها مناوشات و قتال ليس بذلك الكثير فأما اليوملرابع فأن محمد بن الحنفية ع خرج في جمع من أهل العراق فأخرج إليه معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جمع من أهل الشام فاقتتلوا ثم إن عبيد الله بن عمر أرسل إلى محمد بن الحنفية أن اخرج إلي أبارزك فقال نعم ثم خرج إليه فبصر بهما علي ع فقال من هذان المتبارزان قيل محمد بن الحنفية و عبيد الله بن عمر فحرك دابته ثم دعا محمدا إليه فجاءه فقال أمسك دابتي فأمسكها فمشى راجلا بيده سيفه نحو عبيد الله و قال له أنا أبارزك فهلم إلي فقال عبيد الله لا حاجة بي إلى مبارزتك قال بلى فهلم إلي قال لا أبارزك ثم رجع إلى صفه فرجع علي ع فقال ابن الحنفية يا أبت لم منعتني من مبارزته فو الله لو تركتني لرجوت أن أقتله قال يا بني لو بارزته أنا لقتلته و لو بارزته أنت لرجوت لك أن تقتله و ما كنت آمن أن يقتلك فقال يا أبت أ تبرز بنفسك إلى هذا الفاسق اللئيم عدو الله و الله لو أبوه يسألك المبارزة لرغبت بك عنه فقال يا بني لا تذكر أباه و لا تقل فيه إلا خيرا رحم الله أباه. قال نصر و أما اليوم الخامس فإنه خرج فيه عبد الله بن العباس فخرج إليه الوليد بن عقبة فأكثر من سب بني عبد المطلب و قال يا ابن عباس قطعتم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 180أرحامكم و قتلتم إمام فكيف رأيتم صنع الله بكم لم تعطوا ما

(6/138)


طلبتم و لم تدركوا ما أملتم و الله إن شاء مهلككم و ناصرنا عليكم فأرسل إليه عبد الله بن العباس أن ابرز إلي فأبى أن يفعل و قاتل ابن عباس ذلك اليوم قتالا شديدا ثم انصرفوا و كل غير غالب. قال نصر و خرج في ذلك اليوم شمر بن أبرهة بن الصباح الحميري فلحق بعلي ع في ناس من قراء أهل الشام ففت ذلك في عضد معاوية و عمرو بن العاص و قال عمرو يا معاوية إنك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلا له من محمد ص قرابة قريبة و رحم ماسة و قدم في الإسلام لا يعتد أحد بمثله و حده في الحرب لم تكن لأحد من أصحاب محمد ص و إنه قد سار إليك بأصحاب محمد المعدودين و فرسانهم و قرائهم و أشرافهم و قدمائهم في الإسلام و لهم في النفوس مهابة فبادر بأهل الشام مخاشن الأوعار و مضايق العياض و احملهم على الجهد و ائتهم من باب الطمع قبل أن ترفههم فيحدث عندهم طول المقام مللا فتظهر فيهم كآبة الخذلان و مهما نسيت فلا تنس أنك على باطل و أن عليا على حق فبادر الأمر قبل اضطرابه عليك فقام معاوية في أهل الشام خطيبا فقال أيها الناس أعيرونا جماجمكم و أنفسكم لا تقتتلوا و لا تتجادلوا فإن اليوم يوم خطار و يوم حقيقة و حفاظ إنكم لعلى حق و بأيديكم حجة إنما تقاتلون من نكث البيعة و سفك الدم الحرام فليس له في السماء عاذر. قدموا أصحاب السلاح المستلئمة و أخروا الحاسر و احملوا بأجمعكم فقد بلغ الحق مقطعه و إنما هو ظالم و مظلوم. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 18 قال نصر و خطب علي ع أصحابه فيما حدثنا به عمر بن سعد عن أبي يحيى عن محمد بن طلحة عن أبي سنان عن أبيه قال كأني أنظر إليه متوكئا على قوسه و قد جمع أصحاب رسول الله ص عنده فهم يلونه كأنه أحب أن يعلم الناس أن الصحابة متوافرون معه فحمد الله و أثنى عليه و قال أما بعد فإن الخيلاء من التجبر و إن النخوة من التكبر و إن الشيطان عدو حاضر يعدكم الباطل ألا إن المسلم أخو المسلم فلا تنابذوا و لا تخاذلوا ألا إن شرائع الدين

(6/139)


واحدة و سبله قاصده من أخذ بها لحق و من فارقها محق و من تركها مرق ليس المسلم بالخائن إذا اؤتمن و لا بالمخلف إذا وعد و لا بالكذاب إذا نطق نحن أهل بيت الرحمة و قولنا الصدق و فعلنا القصد و منا خاتم النبيين و فينا قادة الإسلام و فينا حملة الكتاب ألا إنا ندعوكم إلى الله و إلى رسوله و إلى جهاد عدوه و الشدة في أمره و ابتغاء مرضاته و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و حج البيت و صيام شهر رمضان و توفير الفي ء على أهله ألا و إن من أعجب العجائب أن معاوية بن أبي سفيان الأموي و عمرو بن العاص السهمي أصبحا يحرضان الناس على طلب الدين بزعمهما و لقد علمتم أني لم أخالف رسول الله ص قط و لم أعصه في أمر أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص يها الأبطال و ترعد فيها الفرائص بنجدة أكرمني الله سبحانه بها و له الحمد و لقد قبض رسول الله ص و إن رأسه لفي حجري و لقد وليت غسله بيدي وحدي تقلبه الملائكة المقربون معي و ايم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 182 قال أبو سنان الأسلمي فأشهد لقد سمعت عمار بن ياسر يقول للناس أما أمير المؤمنين فقد أعلمكم أن الأمة لم تستقم عليه أولا و أنها لن تستقيم عليه آخراقال ثم تفرق الناس و قد نفذت أبصارهم في قتال عدوهم فتأهبوا و استعدوا

(6/140)


قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عليا ع قال في هذه الليلة حتى متى لا نناهض القوم بأجمعنا ثم قام في الناس فقال الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض و لا ينقض ما أبرم و لو شاء ما اختلف اثنان من هذه الأمة و لا من خلقه و لا تنازع البشر في شي ء من أمره و لا جحد المفضول ذا الفضل فضله و قد ساقتنا و هؤلاء القوم الأقدار حتى لفت بيننا في هذا الموضع و نحن من ربنا بمرأى و مسمع و لو شاء لعجل النقمة و لكان منه النصر حتى يكذب الله الظالم و يعلم الحق أين مصيره و لكنه جعل الدنيا دار الأعمال و الآخرة دا الجزاء و القرار لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ألا إنكم لاقوا العدو غدا إن شاء الله فأطيلوا الليلة القيام و أكثروا تلاوة القرآن و اسألوا الله الصبر و النصر و ألقوهم بالجد و الحزم و كونوا صادقين

(6/141)


قال فوثب الناس إلى رماحهم و سيوفهم و نبالهم يصلحونها و خرج ع فعبى الناس ليلته تلك كلها حتى أصبح و عقد الألوية و أمر الأمراء و كتب الكتائب و بعث إلى أهل الشام مناديا نادى فيهم اغدوا على مصافكم فضج أهل الشام في معسكرهم و اجتمعوا إلى معاوية فعبى خيله و عقد ألويته و أمر أمراءه و كتب كتائبه و أحاط به أهل حمص في راياتهم و عليهم أبو الأعور السلمي و أهل الأردن في راياتهم عليهم عمرو بن العاص و أهل قنسرين و عليهم زفر بن الحارث الكلابي و أهل دمشق و هم القلب شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 183و عليهم الضحاك بن قيس الفهري فافوا كلهم بمعاوية و كان أهل الشام أكثر من أهل العراق بالضعف و سار أبو الأعور و عمرو بن العاص و من معهما حتى وقفا بحيال أهل العراق فنظرا إليهم و استقلا جمعهم و طمعا فيهم و نصب لمعاوية منبر فقعد عليه في قبة ضربها ألقي عليها الثياب و الأرائك و أحاط به أهل يمن و قال لا يقربن هذا المنبر أحد لا تعرفونه إلا قتلتموه كائنا من كان. قال نصر و أرسل عمرو إلى معاوية قد عرفت ما بيننا من العهد و العقد فاعصب برأسي هذا الأمر و أرسل إلى أبي الأعور فنحه عني و دعني و القوم فأرسل معاوية إلى أبي الأعور أن لأبي عبد الله رأيا و تجربة ليست لي و لا لك و قد وليته أعنة الخيل فسر أنت حتى تقف بخيلك على تل كذا و دعه و القوم. فسار أبو الأعور و بقي عمرو بن العاص فيمن معه واقفا بإزاء عسكر العراق فنادى عمرو ابنيه عبد الله و محمدا فقال لهما قدما هؤلاء الدرع و أخرا هؤلاء الحسر و أقيما الصف قص الشارب فإن هؤلاء قد جاءوا بخطة قد بلغت السماء. فمشيا برايتهما فعدلا الصفوف و سار بينهما عمرو فأحسن الصف ثانية ثم حمل قيسا و كليبا و كنانة على الخيول و رجل سائر الناس. قال نصر و بات كعب بن جعيل التغلبي شاعر أهل الشام تلك الليلة يرتجز و ينشد

(6/142)


أصبحت الأمة في أمر عجب و الملك مجموع غدا لمن غلب أقول قولا صادقا غير كذب إن غدا يهلك أعلام العرب غدا نلاقي ربنا فنحتسب غدا يصيرون رمادا قد ذه شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 184بعد الجمال و الحياء و الحسب يا رب لا تشمت بنا و لا تصب من خلع الأنداد طرا و الصقال نصر و قال معاوية من في ميسرة أهل العراق فقيل ربيعة فلم يجد في الشام ربيعة فجاء بحمير فجعلها بإزاء ربيعة على قرعة أقرعها بين حمير و عك فقال ذو الكلاع الحميري باستك من سهم لم تبغ الضراب كأنه أنف عن أن تكون حمير بإزاء ربيعة فبلغ ذلك حجدرا الحنفي فحلف بالله إن عاينه ليقتلنه أو ليموتن دونه فجاءت حمير حتى وقفت بإزاء ربيعة و جعل السكاسك و السكون بإزاء كندة و عليهما الأشعث بن قيس و جعل بإزاء همدان العراق الأزد و بإزاء مذحج العراق عكا. و قال راجز من أهل الشام
ويل لأم مذحج من عك و أمهم قائمة تبكي نصكهم بالسيف أي صك فلا رجال كرجال عكقال و طرحت عك حجرا بين أيديهم و قالوا لا نفر حتى يفر هذا الحكر بالكاف و عك تقلب الجيم كافا و صف القلب خمسة صفوف و فعل أهل العراق أيضا مثل ذلك و نادى عمرو بن العاص بأعلى صوته
يا أيها الجند الصليب الإيمان قوموا قياما و استعينوا الرحمن إني أتاني خبر ذو ألوان إن عليا قتل ابن عفان ردوا علينا شيخنا كما كا شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 185فرد عليه أهل العراق و قالواأبت سيوف مذحج و همدان بأن ترد نعثلا كما كان خلقا جديدا مثل خلق الرحمن ذلك شأن قد مضى و ذا شانثم نادى عمرو بن العاص ثانية برفع صوته
ردوا علينا شيخنا ثم بجل أو لا تكونوا جزرا من الأسل
فرد عليه أهل العراق
كيف نرد نعثلا و قد قحل نحن ضربنا رأسه حتى انجفل و أبدل الله به خير بدل أعلم بالدين و أزكى بالعملو قال إبراهيم بن أوس بن عبيدة من أهل الشام

(6/143)


لله در كتائب جاءتكم تبكي فوارسها على عثمان تسعون ألفا ليس فيهم قاسط يتلون كل مفصل و مثان يسلون حق الله لا يعدونه و مجيبكم للملك و السلطان فأتوا ببينة على ما جئتم أو لا فحسبكم من العدوان و أتوا بما يمحو قصاص خليفة لله ليس بكاذب خ شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 186قال نصر و بات علي ع ليلته يعبئ الناس حتى إذا أصبح زحف بهم و خرج إليه معاوية في أهل الشام فجعل يقول من هذه القبيلة و من هذه القبيلة يعني قبائل أهل الشام فيسمون له حتى إذا عرفهم و عرف مراكزهم قال للأزد اكفوني الأزد و قال لخثعمكفوني خثعما و أمر كل قبيلة من العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام إلا قبيلة ليس منهم بالعراق إلا القليل مثل بجيلة فإن لخما كانت بإزائها ثم تناهض القوم يوم الأربعاء سادس صفر و اقتتلوا إلى آخر نهارهم و انصرفوا عند المساء و كل غير غالب. قال نصر فأما اليوم السابع فكان القتال فيه شديدا و الخطب عظيما و كان عبد الله بن بديل الخزاعي على ميمنة العراق فزحف نحو حبيب بن مسلمة و هو على ميسرة أهل الشام فلم يزل يحوزه و يكشف خيله حتى اضطر بهم إلى قبة معاوية وقت الظهر. قال نصر فحدثنا عمر بن سعد قال حدثنا مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عبد الله بن بديل قام في أصحابه فخطبهم فقال ألا إن معاوية ادعى ما ليس له و نازع الأمر أهله و من ليس مثله و جادل بالباطل ليدحض به الحق و صال عليكم بالأعراب و الأحزاب و زين لهم الضلالة و زرع في قلوبهم حب الفتنة و لبس عليهم الأمور و زادهم رجسا إلى رجسهم و أنتم و الله على نور و برهان مبين قاتلوا الطغاة الجفاة قاتلوهم و لا تخشوهم و كيف تخشونهم و في أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبين أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 187وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ

(6/144)


مُؤْمِنِينَ و لقد قاتلتهم مع النبي ص و الله ما هم في هذه بأزكى و لا أتقى و لا أبر انهضوا إلى عدو الله و عدوكم. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال حدثني عبد الرحمن عأبي عمرو عن أبيه أن عليا ع خطب في ليلة هذا اليوم فقال معاشر المسلمين استشعروا الخشية و تجلببوا السكينة و عضوا على النواجذ فإنه أنبى للسيوف عن الهام... الفصل بطوله إلى آخره و هو المذكور في الكتاب.
و روى نصر أيضا بالإسناد المذكور أن عليا ع خطب ذلك اليوم و قال أيها الناس إن الله تعالى ذكره قد دلكم على تجارة تنجيكم من العذاب و تشفي بكم على الخير إيمان بالله و رسوله و جهاد في سبيله و جعل ثوابه مغفرة الذنوب و مساكن طيبة في جنات عدن و رضوان من الله أكبر و أخبركم بالذي يحب فقال إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص و قدموا الدارع و أخروا الحاسر و عضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام و أربط للجأش و أسكن للقلوب و أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل و أولى بالوقار و التووا في أطراف الرماح فإنه أمور للأسنة و رايتكم فلا تميلوها و لا تزيلوها و لا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم المانعي الذمار و الصبر عند نزول الحقائق أهل الحفاظ شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 188الذين يحفون برايتكم و ينفونها يضربون خلفها و أمامها و لا تضيعوها أجزاء كل امرئ وقذ قرنه و واسى أخاه بنفسه و لم يكل قرنه إلى أخيه فيجمع عليه قرنه و قرن أخيه فيكسب بذلك من الإثم و يأتي به دناءة أنى هذا و كيف يكون هكذا هذا يقاتل اثنين و هذا ممسك يده قد خلى قرنه إلى أخيه هاربا منه أو قائما ينظر إليه من يفعل هذا يمقته الله فلا تعرضوا لمقت الله فإنما مردكم إلى الله قال الله تعالى لقوم عابهم لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا

(6/145)


قَلِيلًا و ايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة استعينوا بالصدق و الصبر فإنه بعد الصبر ينزل النصر
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن مالك بن قدامة الأرحبي قال قام سعيد بن قيس يخطب أصحابه بقناصرين فقال الحمد لله الذي هدانا لدينه و أورثنا كتابه و امتن علينا بنبيه فجعله رحمة للعالمين و سيدا للمرسلين و قائدا للمؤمنين و خاتما للنبيين و حجة الله العظيم على الماضين و الغابرين ثم كان فيما قضى الله و قدره و له الحمد على ما أحببنا و كرهنا أن ضمنا و عدونا بقناصرين فلا يجمل بنا اليوم الحياص و ليس هذا بأوان انصراف و لات حين مناص و قد خصنا الله منه برحمة لا نستطيع أداء شكرها و لا نقدر قدرها إن أصحاب محمد المصطفين الأخيار معنا شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 189و في حيز فو الله الذي هو بالعباد بصير أن لو كان قائدنا رجلا مجدعا إلا أن معنا من البدريين سبعين رجلا لكان ينبغي لنا أن تحسن بصائرنا و تطيب أنفسنا فكيف و إنما رئيسنا ابن عم نبينا بدري صدق صلى صغيرا و جا مع نبيكم كثيرا و معاوية طليق من وثاق الإسار و ابن طليق ألا إنه أغوى جفاة فأوردهم النار و أوردهم العار و الله محل بهم الذل و الصغار ألا إنكم ستلقون عدوكم غدا فعليكم بتقوى الله من الجد و الحزم و الصدق و الصبر فإن الله مع الصابرين ألا إنكم تفوزون بقتلهم و يشقون بقتلكم و الله لا يقتل رجل منكم رجلا منهم إلا أدخل الله القاتل جنات عدن و أدخل المقتول نارا تلظى لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ عصمنا الله و إياكم بما عصم به أولياءه و جعلنا و إياكم ممن أطاعه و اتقاه و أستغفر الله العظيم لي و لكم و للمؤمنين. ثم قال الشعبي و لقد صدق فعله ما قال في خطبته. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر و زيد بن الحسن قالا طلب معاوية إلى عمرو بن العاص أن يسوي صفوف أهل الشام فقال له عمرو على أن لي حكمي

(6/146)


أن قتل الله ابن أبي طالب و استوثقت لك البلاد فقال أ ليس حكمك في مصر قال و هل مصر تكون عوضا عن الجنة و قتل ابن أبي طالب ثمنا لعذاب النار الذي لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ فقال معاوية إن لك حكمك أبا عبد الله إن قتل ابن أبي طالب رويدا لا يسمع أهل الشام كلامك فقام عمرو شرح نهج البلاغة ج : 5 ص :90فقال معاشر أهل الشام سووا صفوفكم قص الشارب و أعيرونا جماجمكم ساعة فقد بلغ الحق مقطعه فلم يبق إلا ظالم أو مظلوم. قال نصر و أقبل أبو الهيثم بن التيهان و كان من أصحاب رسول الله ص بدريا نقيبا عقبيا يسوي صفوف أهل العراق و يقول يا معشر أهل العراق إنه ليس بينكم و بين الفتح في العاجل و الجنة في الآجل إلا ساعة من النهار فأرسوا أقدامكم و سووا صفوفكم و أعيروا ربكم جماجمكم استعينوا بالله إلهكم و جاهدوا عدو الله و عدوكم و اقتلوهم قتلهم الله و أبادهم و اصبروا فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين.

(6/147)


قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الفضل بن أدهم عن أبيه أن الأشتر قام يخطب الناس بقناصرين و هو يومئذ على فرس أدهم مثل حلك الغراب فقال الحمد لله الذي خلق السموات العلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء حمدا كثيرا بكرة و أصيلا من هداه الله فقد اهتدى و من يضلل فقد غوى أرسل محمدا بالصواب و الهدى فأظهره على الدين كله و لو كره المشركون صلى الله عليه و سلم ثم قد كان مما قضى الله سبحانه و قدر أن ساقتنا المقادير إلى أهل هذه البلدة من الأرض فلفت بيننا و بين عدو الله و عدونا فنحن بحمد الله و نعمه و منه و فضله قريرة أعيننا طيبة أنفسنا نرجو بقتالهم حسن الثواب و الأمن من العقاب معنا ابن عم نبينا و سيف من سيوف الله علي بن أبي طالب صلى مع رسول الله لم يسبقه إلى الصلاة شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 191ذكر حتى كان شيخا لم تكن له صبوة و لا نبوة و لا هفوة و لا سقطة فقيه في دين الله تعالى عالم بحدود الله ذو رأي أصيل و صبر جميل و عفاف قديم فاتقوا الله و عليكم بالحزم و الجد و اعلموا أنكم على الحق و أن القوم علالباطل إنما تقاتلون معاوية و أنتم مع البدريين قريب من مائة بدري سوى من حولكم من أصحاب محمد أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله و مع معاوية رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله فما يشك في قتال هؤلاء إلا ميت القلب أنتم على إحدى الحسنيين إما الفتح و إما الشهادة عصمنا الله و إياكم بما عصم به من أطاعه و اتقاه و ألهمنا و إياكم طاعته و تقواه و أستغفر الله لي و لكم

(6/148)


قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان عن زامل بن عمرو الجذامي قال طلب معاوية إلى ذي الكلاع أن يخطب الناس و يحرضهم على قتال علي ع و من معه من أهل العراق فعقد فرسه و كان من أعظم أصحاب معاوية خطرا و خطب الناس فقال الحمد لله حمدا كثيرا ناميا واضحا منيرا بكرة و أصيلا أحمده و أستعينه و أومن به و أتوكل عليه و كفى بالله وكيلا و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالفرقان إماما و بالهدى و دين الحق حين ظهرت المعاصي و درست الطاعة و امتلأت الأرض جورا و ضلالة و اضطرمت الدنيا نيرانا و فتنة و ورك عدو الله إبليس على أن يكون قد عبد في أكنافها و استولى على جميع أهلها فكان محمد ص هو الذي أطفأ الله به نيرانها و نزع به أوتادها و أوهن به شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 192قوى إبليس و آيسه مما كان قد طمع فيه من ظفره بهم أظهره على الدين كله و لو كره المشركون ثم كان من قضاء الله أن ضم بيننا و بين أهل ديننا بصفين و إنا لنعلم أن فيهم قوما قد كانت لهم مع رسول الله ص سابقة ذات شأن و خطر عظيم و لكني ضربت الأمر ظهرا و بطنا فلم أر يسعني أن يهدر دم عثمان صهر نبينا ص الذي جهز جيش العسرة و ألحق في مصلى رسول الله ص بيتا و بنى سقاية بايع له نبي الله بيده اليمنى على اليسرى و اختصه بكريمتيه أم كلثوم و رقية فإن كان قد أذنب ذنبا فقد أذنب من هو خير منه قال الله سبحانه لنبيه لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ و قتل موسى نفسا ثم استغفر الله فغفر له و قد أذنب نوح ثم استغفر الله فغفر له و قد أذنب أبوكم آدم ثم استغفر الله فغفر له و لم يعر أحدكم من الذنوب و إنا لنعلم أنه قد كانت لابن أبي طالب سابقة حسنة مع رسول الله ص فإن لم يكن مالأ على قتل عثمان فلقد خذله و إنه لأخوه في دينه و ابن عمه و سلفه و ابن عمته ثم قد أقبلوا من عراقهم

(6/149)


حتى نزلوا شامكم و بلادكم و بيضتكم و إنما عامتهم بين قاتل و خاذل فاستعينوا بالله و اصبروا فلقد ابتليتم أيتها الأمة و لقد رأيت في منامي في ليلتي هذه لكانا و أهل العراق اعتورنا مصحفا نضربه بسيوفنا و نحن في ذلك جميعا ننادي ويحكم الله و مع أنا و الله لا نفارق العرصة حتى نموت فعليكم بتقوى الله و لتكن النيات لله فإني
سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله ص يقول إنما يبعث المقتتلون على النيات
أفرغ الله علينا و عليكم الصبر و أعز لنا و لكم النصر و كان لنا و لكم في كل أمر و أستغفر الله لي و لكم. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 193قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن ابن عامر عن صعصعة العبدي عن أبرهة بن الصباح قال قام يزيد بن أسد البجلي في أهل الشام يخطب الن بصفين و عليه قباء من خز و عمامة سوداء آخذا بقائم سيفه واضعا نصل السيف في الأرض متوكئا عليه قال صعصعة فذكر لي أبرهة أنه كان يومئذ من أجمل العرب و أكرمها و أبلغها فقال الحمد لله الواحد الفرد ذي الطول و الجلال العزيز الجبار الحكيم الغفار الكبير المتعال ذي العطاء و الفعال و السخاء و النوال و البهاء و الجمال و المن و الإفضال مالك اليوم الذي لا بيع فيه و لا خلال أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء و في كل حال من شدة أو رخاء أحمده على نعمه التؤام و آلائه العظام حمدا يستنير بالليل و النهار و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة النجاة في الحياة و عند الوفاة و فيها الخلاص يوم القصاص و أشهد أن محمدا عبده و رسوله النبي المصطفى و إمام الهدى ص ثم كان من قضاء الله أن جمعنا و أهل ديننا في هذه الرقعة من الأرض و الله يعلم أني كنت كارها لذلك و لكنهم لم يبلعونا ريقنا و لم يتركونا نرتاد لأنفسنا و ننظر لمعادنا حتى نزلوا بين أظهرنا و في حريمنا و بيضتنا و قد علمنا أن في القوم أحلاما و طغاما و لسنا نأمن من طغامهم على ذرارينا و نسائنا و لقد كنا نحب ألا

(6/150)


نقاتل أهل ديننا فأخرجونا حتى صارت الأمور إلى أن قاتلناهم غدا حمية فإنا لله و إنا إليه راجعون و الحمد لله رب العالمين. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 194أما و الذي بعث محمدا بالرسالة لوددت أني مت منذ سنة و لكن الله إذا أراد أمرا لم يستطع العباد رده فنستعين بالله العظيم و أستغفر الله لي و لكم. قال نصر و حدثنا عمرو عن أبي روق الهمدا أن يزيد بن قيس الأرحبي حرض أهل العراق بصفين يومئذ فقال إن المسلم السليم من سلم دينه و رأيه و إن هؤلاء القوم و الله ما أن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه و لا على إحياء حق رأونا أمتناه و لا يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرة و ملوكا و لو ظهروا عليكم لا أراهم الله ظهورا و لا سرورا إذا لوليكم مثل سعيد و الوليد و عبد الله بن عامر السفيه يحدث أحدهم في مجلسه بذيت و ذيت و يأخذ مال الله و يقول لا إثم علي فيه كأنما أعطي تراثه من أبيه كيف إنما هو مال الله أفاءه علينا بأسيافنا و رماحنا قاتلوا عباد الله القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله و لا تأخذكم فيهم لومة لائم إنهم أن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم و دنياكم و هم من قد عرفتم و جربتم و الله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرا و أستغفر الله العظيم لي و لكم. قال نصر و ارتجز عمرو بن العاص و أرسل بها إلى علي شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 19لا تأمننا بعدها أبا حسن إنا نمر الأمر إمرار الرسن
و يروى
خذها إليك و اعلمن أبا حسن
لتصبحن مثلها أم لبن طاحنة تدقكم دق الحفن
قال فأجابه شاعر من شعراء أهل العراق

(6/151)


ألا احذروا في حربكم أبا حسن ليثا أبا شبلين محذور فطن يدقكم دق المهاريس الطحن لتغبنن يا جاهلا أي غبن حتى تغض الكف أو تقرع سقال نصر فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي أن أول فارسين التقيا في هذا اليوم و هو اليوم السابع من صفر و كان من الأيام العظيمة في صفين ذا أهوال شديدة حجر الخير و حجر الشر أما حجر الخير فهو حجر بن عدي صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع و أما حجر الشر فابن عمه كلاهما من كندة و كان من أصحاب معاوية فأطعنا برمحيهما و خرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة من عسكر معاوية فضرب حجر بن عدي ضربة برمحه فحمل أصحاب علي ع فقتلوا خزيمة الأسدي و نجا حجر الشر هاربا فالتحق بصف معاوية ثم برز حجر الشر شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 6ثانية فبرز إليه الحكم بن أزهر من أهل العراق فقتله حجر الشر فخرج إليه رفاعة بن ظالم الحميري من صف العراق فقتله و عاد إلى أصحابه يقول الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر. ثم إن عليا ع دعا أصحابه إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان في يده إلى أهل الشام فقال من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف فسكت الناس و أقبل فتى اسمه سعيد فقال أنا صاحبه فأعاد القول ثانية فسكت الناس و تقدم الفتى فقال أنا صاحبه فسلمه إليه فقبضه بيده ثم أتاهم فأنشدهم الله و دعاهم إلى ما فيه فقتلوه فقال علي ع لعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي احمل عليهم الآن فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة و عليه يومئذ سيفان و درعان فجعل يضرب بسيفه قدما و يقول

(6/152)


لم يبق غير الصبر و التوكل و الترس و الرمح و سيف مقصل ثم التمشي في الرعيل الأول مشى الجمال في حياض المنهلفلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية و الذين بايعوه إلى الموت فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل و بعث إلى حبيب بن مسلمة الفهري و هو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه و اختلط الناس و اضطرم الفيلقان ميمنة أهل العراق و ميسرة أهل الشام و أقبل عبد الله بن بديل يضرب الناس بسيفه قدما حتى أزال معاوية عن موقفه و جعل ينادي يا ثارات عثمان و إنما يعني أخا له قد قتل و ظن معاوية و أصحابه أنه يعني عثمان بن عفان و تراجع معاوية عن مكانه القهقرى كثيرا و أشفق على نفسه و أرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية و ثالثة يستنجده و يستصرخه و يحمل حبيب حملة شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 197شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق فكشفها حتى لم يبق مع ابن بديل إلا نحو مائة إنسان من القراء فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم و لجج ابن بديل في الناس و صمم على قتل معاوية و جعل يطلب موقفه و يصمد نحوه ى انتهى إليه و مع معاوية عبد الله بن عامر واقفا فنادى معاوية في الناس ويلكم الصخر و الحجارة إذا عجزتم عن السلاح فرضخه الناس بالصخر و الحجارة حتى أثخنوه فسقط فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه. و جاء معاوية و عبد الله بن عامر حتى وقفا عليه فأما عبد الله بن عامر فألقى عمامته على وجهه و ترحم عليه و كان له أخا صديقا من قبل فقال معاوية اكشف عن وجهه فقال لا و الله لا يمثل به و في روح فقال معاوية اكشف عن وجهه فإنا لا نمثل به قد وهبناه لك فكشف ابن عامر عن وجهه فقال معاوية هذا كبش القوم و رب الكعبة اللهم أظفرني بالأشتر النخعي و الأشعث الكندي و الله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر

(6/153)


أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها و إن شمرت عن ساقها الحرب شمراو يحمي إذا ما الموت كان لقاؤه قدى الشبر يحمي الأنف أن يتأخراكليث هزبر كان يحمي ذماره رمته المنايا قصدها فتقطرا
ثم قال إن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني فضلا عن رجالها لفعلت. قال نصر فحدثنا عمرو عن أبي روق قال استعلى أهل الشام عند قتل ابن بديل على أهل العراق يومئذ و انكشف أهل العراق من قبل الميمنة و أجفلوا إجفالا شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 198شديدا فأمر علي ع سهبن حنيف فاستقدم من كان معه ليرفد الميمنة و يعضدها فاستقبلهم جموع أهل الشام في خيل عظيمة فحملت عليهم فألحقتهم بالميمنة و كانت ميمنة أهل العراق متصلة بموقف علي ع في القلب في أهل اليمن فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي ع فانصرف يمشي نحو الميسرة فانكشف مضر عن الميسرة أيضا فلم يبق مع علي ع من أهل العراق إلا ربيعة وحدها في الميسرة. قال نصر فحدثنا عمرو قال حدثنا مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال لقد مر علي ع يومئذ و معه بنوه نحو الميسرة و معه ربيعة وحدها و إني لأرى النبل يمر بين عاتقه و منكبيه و ما من بنيه إلا من يقيه بنفسه فيكره علي ع ذلك فيتقدم عليه و يحول بينه و بين أهل الشام و يأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه من ورائه و يبصر به أحمر مولى بني أمية و كان شجاعا و قال علي ع و رب الكعبة قتلني الله إن لم أقتلك فأقبل نحوه فخرج إليه كيسان مولى علي ع فاختلفا ضربتين فقتله أحمر و خالط عليا ليضربه بالسيف و ينتهزه علي فتقع يده في جيب درعه فجذبه عن فرسه فحمله على عاتقه فو الله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان على عنق علي ثم ضرب به الأرض فكسر منكبه و عضديه و شد ابنا علي حسين و محمد فضرباه بأسيافهما حتى برد فكأني أنظر إلى علي قائما و شبلاه يضربان الرجل حتى إذا أتيا عليه أقبلا على أبيهما و الحسن قائم معه فقال له علي يا بني ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك فقال كفياني يا أمير

(6/154)


المؤمنين. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 199قال ثم إن أهل الشام دنوا منه يريدونه و الله ما يزيده قربهم منه و دنوهم إل سرعة في مشيته فقال له الحسن ما ضرك لو أسرعت حتى تنتهي إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك قال يعني ربيعة الميسرة فقال علي يا بني إن لأبيك يوما لن يعدوه و لا يبطئ به عند السعي و لا يقربه إليه الوقوف إن أباك لا يبالي أن وقع على الموت أو وقع الموت عليه.
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي إسحاق قال خرج علي ع يوما من أيام صفين و في يده عنزة فمر على سعيد بن قيس الهمداني فقال له سعد أ ما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد و أنت قرب عدوك فقال علي ع إنه ليس من أحد إلا و عليه من الله حفظة يحفظونه من أن يتردى في قليب أو يخر عليه حائط أو تصيبه آفة فإذا جاء القدر خلوا بينه و بينه
قال نصر و حدثنا عمرو عن فضيل بن خديج قال لما انهزمت ميمنة العراق يومئذ أقبل علي ع نحو الميسرة يركض يستثيب الناس و يستوقفهم و يأمرهم بالرجوع نحو الفزع
فمر بالأشتر فقال يا مالك قال لبيك يا أمير المؤمنين قال ائت هؤلاء القوم فقل لهم أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم

(6/155)


فمضى الأشتر فاستقبل الناس منهزمين فقال لهم الكلمات و ناداهم إلى أيها الناس أنا مالك بن الحارث يكررها فلم يلو أحد منهم عليه و ظن أن شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 200الأشتر أعرف في الناس من مالك بن الحارث فجعل ينادي ألا أيها الناس فأنا الأشتر فانقلب نحوه طائفة و ذهبت عنه طائفة فقال عضضتم بهن أباكم ما أقبح و الله ما فعلتم اليوم أيها الناس غضوا الأبصار و عضوا على النواجذ و استقبلوا القوم بهكم و شدوا عليهم شدة قوم موتورين بآبائهم و أبنائهم و إخوانهم حنقا على عدوهم قد وطنوا على الموت أنفسهم كي لا يسبقوا بثأر إن هؤلاء القوم و الله لن يقاتلوكم إلا عن دينكم ليطفئوا السنة و يحيوا البدعة و يدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة فطيبوا عباد الله نفسا بدمائكم دون دينكم فإن الفرار فيه سلب العز و الغلبة على الفي ء و ذل المحيا و الممات و عار الدنيا و الآخرة و سخط الله و أليم عقابه. ثم قال أيها الناس أخلصوا إلى مذحجا فاجتمعت إليه مذحج فقال لهم عضضتم بصم الجندل و لله ما أرضيتم اليوم ربكم و لا نصحت له في عدوه و كيف ذلك و أنتم أبناء الحرب و أصحاب الغارات و فتيان الصباح و فرسان الطراد و حتوف الأقران و مذحج الطعان الذين لم يكونوا سبقوا بثأرهم و لم تطل دماؤهم و لم يعرفوا في موطن من المواطن بخسف و أنتم سادة مصركم و أعز حي في قومكم و ما تفعلوا في هذا اليوم فهو مأثور بعد اليوم فاتقوا مأثور الحديث في غد و اصدقوا عدوكم اللقاء فإن الله مع الصابرين و الذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء و أشار بيده إلى أهل الشام رجل على مثل جناح البعوضة من دين الله لله أنتم ما أحسنتم اليوم القراع احبسوا سواد وجهي يرجع فيه دمي عليكم هذا السواد الأعظم فإن الله لو قد فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع السيل مقدمه. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 201فقالوا خذ بنا حيث أحببت فصمد بهم نحو عظمهم و استقبله أشباههم من همدان و هم نحو ثمانمائة

(6/156)


مقاتل قد انهزموا آخر الناس و كانوا قد صبروا في ميمنة علي ع حتى ل منهم مائة و ثمانون رجلا و أصيب منهم أحد عشر رئيسا كلما قتل منهم رئيس أخذ الراية آخر و هم بنو شريح الهمدانيون و غيرهم من رؤساء العشيرة فأول من أصيب منهم كريب بن شريح و شرحبيل بن شريح و مرثد بن شريح و هبيرة بن شريح و هريم بن شريح و شهر بن شريح و شمر بن شريح قتل هؤلاء الإخوة الستة في وقت واحد. ثم أخذ الراية سفيان بن زيد ثم كرب بن زيد ثم عبد بن زيد فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة أيضا ثم أخذ الراية عمير بن بشر ثم أخوه الحارث بن بشر فقتلا جميعا ثم أخذ الراية أبو القلوص وهب بن كريب فقال له رجل من قومه انصرف يرحمك الله بهذه الراية ترحها الله فقد قتل الناس حولها فلا تقتل نفسك و لا من بقي معك فانصرفوا و هم يقولون ليت لنا عديدا من العرب يحالفوننا على الموت ثم نستقدم نحن و هم فلا ننصرف حتى نظفر أو نقتل فمروا بالأشتر و هم يقولون هذا القول فقال لهم الأشتر أنا أحالفكم و أعاقدكم على ألا نرجع أبدا حتى نظفر أو نهلك فوقفوا معه على هذه النية و العزيمة فهذا معنى قول كعب بن جعيل
و همدان زرق تبتغي من تحالف

(6/157)


قال و زحف الأشتر نحو الميمنة و ثاب إليه أناس تراجعوا من أهل الصبر و الوفاء شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 202و الحياء فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها و لا لجمع إلا حازه و رده فإنه لكذلك إذا مر بزياد بن النضر مستلحما فقال الأشتر هذا و الله الصبر الجميل هذا و اللالفعل الكريم إلي و قد كان هو و أصحابه في ميمنة العراق فتقدم فرفع رايته لهم فصبروا و قاتل حتى صرع ثم لم يلبث الأشتر إلا يسيرا كلا شي ء حتى مر بهم يزيد بن قيس الأرحبي مستلحما أيضا محمولا فقال الأشتر من هذا قالوا يزيد بن قيس لما صرع زياد بن النضر دفع رايته لهل الميمنة فقاتل تحتها حتى صرع فقال الأشتر هذا و الله الصبر الجميل هذا و الله الفعل الكريم أ لا يستحيي الرجل أن ينصرف أ يقتل و لم يقتل و لم يشف به على القتل. قال نصر و حدثنا عمرو عن الحارث بن الصباح قال كان بيد الأشتر يومئذ صفيحة له يمانية إذا طأطأها خلت فيها ماء ينصب و إذا رفعها يكاد يعشي البصر شعاعها و مر يضرب الناس بها قدما و يقول
الغمرات ثم ينجلينا

(6/158)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 203قال فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي و الأشتر مقنع في الحديد فلم يعرفه فدنا منه و قال له جزاك الله منذ اليوم عن أمير المؤمنين و عن جماعة المسلمين خيرا فعرفه الأشتر فقال يا ابن جمهان أ مثلك يتخلف اليوم عن مثل موطني هذا فتأمله ا جمهان فعرفه و كان الأشتر من أعظم الرجال و أطولهم إلا أن في لحمه خفة قليلة فقال له جعلت فداك لا و الله ما علمت مكانك حتى الساعة و لا و الله لا أفارقك حتى أموت. قال نصر و حدثنا عمرو عن الحارث بن الصباح قال رأى الأشتر يومئذ منقذا و حميرا ابني قيس اليقظيان فقال منقذ لحمير ما في العرب رجل مثل هذا إن كان ما أرى من قتاله على نية فقال له حمير و هل النية إلا ما ترى قال إني أخاف أن يكون يحاول ملكا. قال نصر و حدثنا عمرو عن فضيل بن خديج عن مولى الأشتر قال لما اجتمع مع الأشتر عظم من كان انهزم من الميمنة حرضهم فقال لهم عضوا على النواجذ من الأضراس و استقبلوا القوم بهامكم فإن الفرار من الزحف فيه ذهاب العز و الغلبة على الفي ء و ذل المحيا و الممات و عار الدنيا و الآخرة. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 204ثم حمل على صفوف أهل الشام حتى كشفهم فألحقهم بمضارب معاوية و ذلك بين العصر لمغرب.

(6/159)


قال نصر و حدثنا عمرو عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عليا ع لما رأى ميمنته قد عادت إلى موقفها و مصافها و كشفت من بإزائها حتى ضاربوهم في مواقفهم و مراكزهم أقبل حتى انتهى إليهم فقال إني قد رأيت جولتكم و انحيازكم من صفوفكم يحوزكم الجفاة الطغاة و أعراب أهل الشام و أنتم لهاميم العرب و السنام الأعظم و عمار الليل بتلاوة القرآن و أهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون فلو لا إقبالكم بعد إدباركم و كركم بعد انحيازكم وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره و كنتم فيما أرى من الهالكين و لقد هون علي بعض وجدي و شفى بعض لاعج نفسي إني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم و أزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم تحشونهم بالسيوف يركب أولهم آخرهم كالإبل المطرودة الهيم فالآن فاصبروا نزلت عليكم السكينة و ثبتكم الله باليقين و ليعلم المنهزم أنه يسخط ربه و يوبق نفسه و في الفرار موجدة الله عليه و الذل اللازم له و فساد العيش و أن الفار لا يزيد الفرار في عمره و لا يرضي ربه فموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها و الإصرار عليها

(6/160)


قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا أبو علقمة الخثعمي أن عبد الله بن حنش الخثعمي رأس خثعم الشام أرسل إلى أبي كعب الخثعمي رأس خثعم العراق إن شئت تواقفنا فلم نقتتل فإن ظهر صاحبكم كنا معكم و إن ظهر صاحبنا كنتم معنا و لا يقتل شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 205بعضنا بع فأبى أبو كعب ذلك فلما التقت خثعم و خثعم و زحف الناس بعضهم إلى بعض قال عبد الله بن حنش لقومه يا معشر خثعم إنا قد عرضنا على قومنا من أهل العراق الموادعة صلة لأرحامها و حفظا لحقها فأبوا إلا قتالنا و قد بدءونا بالقطيعة فكفوا أيديكم عنهم حفظا لحقهم أبدا ما كفوا عنكم فإن قاتلوكم فقاتلوهم فخرج رجل من أصحابه فقال إنهم قد ردوا عليك رأيك و أقبلوا إليك يقاتلونك ثم برز فنادى رجل يا أهل العراق فغضب عبد الله بن حنش قال اللهم قيض له وهب بن مسعود يعني رجلا من خثعم الكوفة كان شجاعا يعرفونه في الجاهلية لم يبارزه رجل قط إلا قتله فخرج إليه وهب بن مسعود فقتله ثم اضطربوا ساعة و اقتتلوا أشد قتال فجعل أبو كعب يقول لأصحابه يا معشر خثعم خدموا أي اضربوا موضع الخدمة و هي الخلخال يعني اضربوهم في سوقهم فناداه عبد الله بن حنش يا أبا كعب الكل قومك فأنصف قال إي و الله و أعظم و اشتد قتالهم فحمل شمر بن عبد الله الخثعمي من خثعم الشام على أبي كعب فطعنه فقتله ثم انصرف يبكي و يقول يرحمك الله أبا كعب لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحما منهم و أحب إلي منهم نفسا و لكني و الله لا أدري ما أقول و لا أرى الشيطان إلا قد فتننا و لا أرى قريشا إلا و قد لعبت بنا قال و وثب كعب بن أبي كعب إلى راية أبيه فأخذها ففقئت عينه و صرع ثم أخذها شريح بن مالك الخثعمي فقاتل القوم تحتها حتى صرع منهم حول رايتهم نحو ثمانين رجلا و أصيب من خثعم الشام مثلهم ثم ردها شريح بن مالك بعد ذلك إلى كعب بن أبي كعب. قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا عبد السلام بن عبد الله بن جابر أن راية بجيلة في صفين مع

(6/161)


أهل العراق كانت في أحمس مع أبي شداد قيس بن المكشوح بن شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 206هلال بن الحارث بن عمرو بن عوف بن عامر بن علي بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار قالت له بجيلة خذ رايتنا فقاغيري خير لكم مني قالوا لا نريد غيرك قال فو الله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب قالوا و كان على رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهب يستره من الشمس فقالوا اصنع ما شئت فأخذها ثم زحف بها و هم حوله يضربون الناس حتى انتهى إلى صاحب الترس المذهب و هو في خيل عظيمة من أصحاب معاوية و كان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فاقتتل الناس هناك قتالا شديدا و شد أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس فتعرض له رومي من دونه لمعاوية فضرب قدم أبي شداد فقطعها و ضرب أبو شداد ذلك الرومي فقتله و أسرعت إليه الأسنة فقتل فأخذ الراية بعده عبد الله بن قلع الأحمسي و ارتجز و قال

(6/162)


لا يبعد الله أبا شداد حيث أجاب دعوة المنادي و شد بالسيف على الأعادي نعم الفتى كان لدى الطرادو في طعان الخيل و الجلادثم قاتل حتى قتل فأخذها بعده أخوه عبد الرحمن بن قلع فقاتل حتى قتل ثم أخذها عفيف بن إياس الأحمسي فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 207قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا عبد السلام قال قتل يومئذ من بني أحمس حازم بن أبي حازم أخو قيس بن أبي زم و نعيم بن شهيد بن التغلبية فأتى سميه ابن عمه نعيم بن الحارث بن التغلبية معاوية و كان من أصحابه فقال إن هذا القتيل ابن عمي فهبه لي أدفنه فقال لا تدفنوهم فليسوا لذلك بأهل و الله ما قدرنا على دفن عثمان بينهم إلا سرا قال و الله لتأذنن لي في دفنه أو لألحقن بهم و لأدعنك قال ويحك ترى أشياخ العرب لا نواريهم و أنت تسألني في دفن ابن عمك ادفنه إن شئت أو دعه فأتاه فدفنه. قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا أبو زهير العبسي عن النضر بن صالح أن راية غطفان العراق كانت مع عياش بن شريك بن حارثة بن جندب بن زيد بن خلف بن رواحة فخرج رجل من آل ذي الكلاع فسأل المبارزة فبرز إليه قائد بن بكير العبسي فبارزه فشد عليه الكلاعي فأوهطه فقال أبو سليم عياش بن شريك لقومه إني مبارز هذا الرجل فإن أصبت فرأسكم الأسود بن حبيب بن جمانة بن قيس بن زهير فإن أصيب فرأسكم هرم بن شتير بن عمرو بن جندب فإن أصيب فرأسكم عبد الله بن ضرار من بني حنظلة بن رواحة ثم مشى نحو الكلاعي فلحقه هرم بن شتير فأخذ بظهره و قال ليمسك رحم لا تبرز إلى هذا الطوال فقال هبلتك الهبول و هل هو إلا الموت قال و هل الفرار إلا منه قال و هل منه بد و الله لأقتلنه أو ليلحقني شرح نهج البلاغة : 5 ص : 208بقائد بن بكير فبرز له و معه حجفة من جلود الإبل فدنا منه فإذا الحديد مفرغ على الكلاعي لا يبين من نحره إلا مثل شراك النعل من عنقه بين بيضته و درعه فضربه الكلاعي فقطع جحفته إلا نحوا من شبر فضربه

(6/163)


عياش على ذلك الموضع فقطع نخاعه فقتله و خرج ابن الكلاعي ثائرا بأبيه فقتله بكير بن وائل. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن الصلت بن زهير النهدي أن راية بني نهد بالعراق أخذها مسروق بن الهيثم بن سلمة فقتل ثم أخذها صخر بن سمي فارتث ثم أخذها علي بن عمير فقاتل حتى ارتث ثم أخذها عبد الله بن كعب فقتل ثم أخذها سلمة بن خذيم بن جرثومة فارتث و صرع ثم أخذها عبد الله بن عمرو بن كبشة فارتث ثم أخذها أبو مسبح بن عمرو فقتل ثم أخذها عبد الله بن النزال فقتل ثم أخذها ابن أخيه عبد الرحمن بن زهير فقتل ثم أخذها مولاه مخارق فقتل حتى صارت إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي. قال نصر فحدثنا عمرو قال حدثنا الصلت بن زهير قال حدثني عبد الرحمن بن مخنف قال صرع يزيد بن المغفل إلى جنبي فقتلت قاتله و قمت على رأسه ثم صرع أبو زينب بن عروة فقتلت قاتله و قمت على رأسه و جاءني سفيان بن عوف فقال أ قتلتم يزيد بن المغفل فقلت إي و الله

(6/164)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 209إنه لهذا الذي تراني قائما على رأسه قال و من أنت حياك الله قلت أنا عبد الرحمن بن مخنف فقال الشريف الكريم حياك الله و مرحبا بك يا ابن عم أ فلا تدفعه إلي فأنا عمه سفيان بن عوف بن المغفل فقلت مرحبا بك أما الآن فنحن أحق به منك و نا بدافعيه إليك و أما ما عدا ذلك فلعمري أنت عمه و وارثه. قال نصر حدثنا عمرو قال حدثنا الحارث بن حصين عن أشياخ الأزد أن مخنف بن سليم خطب لما ندبت أزد العراق إلى قتال أزد الشام فقال الحمد لله و الصلاة على محمد رسوله ثم قال إن من الخطب الجليل و البلاء العظيم إنا صرفنا إلى قومنا و صرفوا إلينا و الله ما هي إلا أيدينا نقطعها بأيدينا و ما هي إلا أجنحتنا نحذفها بأسيافنا فإن نحن لم نفعل لم نناصح صاحبنا و لم نواس جماعتنا و إن نحن فعلنا فعزنا آلمنا و نارنا أخمدنا. و قال جندب بن زهير الأزدي و الله لو كنا آباؤهم ولدناهم أو كانوا آباؤنا ولدونا ثم خرجوا عن جماعتنا و طعنوا على إمامنا و وازروا الظالمين الحاكمين بغير الحق على أهل ملتنا و ديننا ما افترقنا بعد إن اجتمعنا حتى يرجعوا عما هم عليه و يدخلوا فيما ندعوهم إليه أو تكثر القتلى بيننا و بينهم. فقال مخنف أعزبك الله في التيه و الله ما علمتك صغيرا و لا إلا كبيرا مشئوما و الله ما ميلنا في الرأي بين أمرين قط أيهما نأتي و أيهما ندع في جاهلية و لا إسلام شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 210إلا اخترت أعسرهما و أنكدهما اللهم أن تعافينا أحب إلي من أن تبتلينا اللهم أعط كل رجل منا ما سألك. فدم جندب بن زهير فبارز أزديا من أزد الشام فقتله الشامي. قال نصر و حدثنا عمرو عن الحارث بن حصين عن أشياخ الحي أن عتبة بن جويرة قال يوم صفين لأهله و أصحابه ألا إن مرعى الدنيا قد أصبح هشيما و أصبح شجرها حصيدا و جديدها سملا و حلوها مرا ألا و إني أنبئكم نبأ امرئ صادق أني قد سئمت الدنيا و عزفت نفسي عنها و لقد كنت أتمنى الشهادة و

(6/165)


أتعرض لها في كل حين فأبى الله إلا أن يبلغني هذا اليوم إلا و إني متعرض ساعتي هذه لها و قد طمعت ألا أحرمها فما تنظرون عباد الله من جهاد أعداء الله أخوف الموت القادم عليكم الذاهب بنفوسكم أو من ضربة كف أو جبين بالسيف أ تستبدلون الدنيا بالنظر إلى وجه الله و مرافقة النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين في دار القرار ما هذا بالرأي السديد. ثم قال يا إخوتاه إني قد بعت هذه الدار بالدار التي أمامها و هذا وجهي إليها لا يبرح الله وجوهكم و لا يقطع أرحامكم. فتبعه أخواه عبد الله و عوف فقالا لا نطلب ورق العيش دونك قبح الله الدنيا بعدك اللهم إنا نحتسب أنفسنا عندك. فاستقدموا جميعا و قاتلوا حتى قتلوا. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 211قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثني رجل من آل الصلت بن خارجة أن تميما لما ذهبت لتهزذلك اليوم ناداهم مالك بن حري النهشلي ضاع الضراب اليوم و الذي إنا له عبد يا بني تميم فقالوا أ لا ترى الناس قد انهزموا فقال ويحكم أ فرارا و اعتذارا ثم نادى بالأحساب فجعل يكررها فقال له قوم منهم أ تنادي بنداء الجاهلية إن هذا لا يحل فقال الفرار ويلكم أقبح إن لم تقاتلوا على الدين و اليقين فقاتلوا على الأحساب ثم جعل يقاتل و يرتجز فيقول
إن تميما أخلفت عنك ابن مر و قد أراهم و هم الحي الصبرفإن يفروا أو يخيموا لا أفر
فقتل مالك ذلك اليوم أخوه نهشل بن حري التميمي يرثيه

(6/166)


تطاول هذا الليل ما كاد ينجلي كليل التمام ما يريد انصراماو بت بذكرى مالك بكآبة أؤرق من بعد العشاء نياماأبى جزعي في مالك غير ذكره فلا تعذليني إن جزعت أمامافأبكي أخي ما دام صوت حمامة يؤرق من وادي البطاح حماماو أبعث أنواحا عليه بسحرة و تذرف عيناي الدموع سجاماو أدعو سراة الحي تبكي لمالك و أبعث نوحا يلتدمن قيامايقلن ثوى رب السماحة و الحجا و ذو عزة يأبى بها أن يضاماو فارس خيل لا تنازل خيله إذا اضطرمت نار العدو ضراماو أحيا عن الفحشاء من ذات كلة يرى ما يهاب الصالحون حراما
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 212و أجرأ من ليث بخفان مخدر و أمضي إذا رام الرجال صدامو قال أيضا يرثيه
بكى الفتى الأبيض البهلول سنته عند النداء فلا نكسا و لا ورعابكى على مالك الأضياف إذ نزلوا حين الشتاء و عز الرسل فانقطعاو لم يجد لقراهم غير مربعة من العشار تزجي تحتها ربعاأهوى لها السيف صلتا و هي راتعة فأوهن السيف عظم الساق فانجذعافجاءهم بعد رفد الناس أطيبها و أشبعت منهم من نام و اضطجعايا فارس الروع يوم الروع قد علموا و صاحب العزم لا نكسا و لا طبعاو مدرك التبل في الأعداء يطلبه و إن طلبت بتبل عنده منعاقالوا أخوك أتى الناعي بمصرعه فانشق قلبي غدة القول فانصدعاثم ارعوى القلب شيئا بعد طربته و النفس تعلم أن قد أثبتت وجعا

(6/167)


قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثني يونس بن أبي إسحاق قال قال لنا أدهم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 213بن محرز الباهلي و نحن معه بأذرح هل رأى أحد منكم شمر بن ذي الجوشن فقال عبد الله بن كبار النهدي و سعيد بن حازم البلوي نحن رأيناه قال فهل رأيتما ضربة بوجهه قالا ن قال أنا و الله ضربته تلك الضربة بصفين. قال نصر و حدثنا عمرو قال قد كان خرج أدهم بن محرز من أصحاب معاوية إلى شمر بن ذي الجوشن في هذا اليوم فاختلفا ضربتين فضربه أدهم على جبينه فأسرع فيه السيف حتى خالط العظم و ضربه شمر فلم يصنع شيئا فرجع إلى عسكره فشرب ماء و أخذ رمحا ثم أقبل و هو يقول

(6/168)


إني زعيم لأخي باهله بطعنة إن لم أمت عاجله و ضربة تحت الوغى فاصله شبيهة بالقتل أو قاتلهثم حمل على أدهم و هو يعرف وجهه و أدهم ثابت له لم ينصرف فطعنه فوقع عن فرسه و حال أصحابه دونه فانصرف شمر و قال هذه بتلك. قال نصر و خرج سويد بن قيس بن يزيد الأرحبي من عسكر معاوية يسأل المبارزة فخرج إليه من عسكر العراق أبو العمرطة قيس بن عمرو بن عمير بن يزيد و هو ابن عم سويد و كان كل منهما لا يعرف صاحبه فلما تقاربا تعارفا و تواقفا و تساءلا و دعا كل واحد منهما صاحبه إلى دينه فقال أبو العمرطة أما أنا فو الله الذي لا إله إلا هو لئن استطعت لأضربن بسيفي هذه القبة البيضاء يعني القبة التي كان فيها معاوية ثم انصرف كل واحد منهما إلى أصحابه. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 214قال نصر ثم خرج رجل من عسكر الشام من أزد شنوءه يسأل المبارزة فخرج إليه رجل من أهل العراق فقتله الأزدي فخرج إليه الأشتر فما ألبثه أن قتله فقال قائل كان هذا ريحا فصارت إعصارا. قال نصر و قال رجل من أصحاب علي أما و الله لأحملن على معاوية حتى أقتله فركب فرسا ثم ضربه حتى قام على سنابكه ثم دفعه فلم ينهنهه شي ء عن الوقوف على رأس معاوية فهرب معاوية و دخل خباء فنزل الرجل عن فرسه و دخل عليه فخرج معاوية من جانب الخباء الآخر فخرج الرجل في أثره فاستصرخ معاوية بالناس فأاطوا به و حالوا بينهما فقال معاوية ويحكم إن السيوف لم يؤذن لها في هذا و لو لا ذلك لم يصل إليكم فعليكم بالحجارة فرضخوه بالحجارة حتى همد فعاد معاوية إلى مجلسه قال نصر و حمل رجل من أصحاب علي ع يدعى أبا أيوب و ليس بأبي أيوب الأنصاري على صف أهل الشام ثم رجع فوافق رجلا من أهل الشام صادرا قد حمل على صف أهل العراق ثم رجع فاختلفا ضربتين فنفحه أبو أيوب بالسيف فأبان عنقه فثبت رأسه على جسده كما هو و كذب الناس أن يكون هو ضربه فأرابهم ذلك حتى إذا أدخلته فرسه في صف أهل الشام ندر رأسه و وقع ميتا فقال

(6/169)


علي ع و الله لأنا من ثبات رأس الرجل أشد تعجبا من الضربة و إن كان إليها ينتهي وصف الواصفين. و جاء أبو أيوب فوقف بين يدي علي ع فقال له أنت و الله كما قال الشاعر
و علمنا الضرب آباؤنا و نحن نعلم أيضا بنينا
قال نصر فلما انقضى هذا اليوم بما فيه أصبحوا في اليوم الثامن من صفين و الفيلقان متقابلان فخرج رجل من أهل الشام فسأل المبارزة فخرج إليه رجل من أهل العراق شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 215فاقتتلا بين الصفين قتالا شديدا ثم إن العراقي اعتنقه فوقعا جميعا و غار الفان ثم إن العراقي قهره فجلس على صدره و كشف المغفر عنه يريد ذبحه فإذا هو أخوه لأبيه و أمه فصاح به أصحاب علي ع ويحك أجهز عليه قال إنه أخي قالوا فاتركه قال لا و الله حتى يأذن أمير المؤمنين فأخبر علي ع بذلك فأرسل إليه أن دعه فتركه فقام فعاد إلى صف معاوية. قال نصر و حدثنا محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال كان فارس معاوية الذي يعده لكل مبارز و لكل عظيم حريث مولاه و كان يلبس سلاح معاوية متشبها به فإذا قاتل قال الناس ذاك معاوية و إن معاوية دعاه فقال له يا حريث اتق عليا و ضع رمحك حيث شئت فأتاه عمرو بن العاص فقال يا حريث إنك و الله لو كنت قرشيا لأحب لك معاوية أن تقتل عليا و لكن كره أن يكون لك حظها فإن رأيت فرصة فاقتحم قال و خرج علي ع في هذا اليوم أمام الخيل فحمل عليه حريث.
قال نصر فحدثني عمرو بن شمر عن جابر قال برز حريث مولى معاوية هذا اليوم و كان شديدا أيدا ذا بأس لا يرام فصاح يا علي هل لك في المبارزة فأقدم أبا حسن إن شئت فأقبل علي ع و هو يقول
أنا علي و ابن عبد المطلب نحن لعمر الله أولى بالكتب
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 216منا النبي المصطفى غير كذب أهل اللواء و المقام و الحجب نحن نصرناه على كل العثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربة واحدة فقطعه نصفين

(6/170)


قال نصر فحدثنا محمد بن عبيد الله قال حدثني الجرجاني قال جزع معاوية على حريث جزعا شديدا و عاتب عمرا في إغرائه إياه بعلي ع و قال في ذلك شعرا
حريث أ لم تعلم و جهلك ضائر بأن عليا للفوارس قاهرو أن عليا لم يبارزه فارس من الناس إلا أقصدته الأظافرأمرتك أمرا حازما فعصيتني فجدك إذ لم تقبل النصح عاثرو دلاك عمرو و الحوادث جمة غرورا و ما جرت عليك المقادرو ظن حريث أن عمرا نصيحه و قد يهلك الإنسان من لا يحاذر
قال نصر فلما قتل حريث برز عمرو بن الحصين السكسكي فنادى يا أبا حسن هلم إلى المبارزة فأومأ ع إلى سعيد بن قيس الهمداني فبارزه فضربه بالسيف فقتله. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 21 و قال نصر و كان لهمدان بلاء عظيم في نصره علي ع في صفين و من الشعر الذي لا يشك أن قائله علي ع لكثرة الرواة له

(6/171)


دعوت فلباني من القوم عصبة فوارس من همدان غير لئام فوارس من همدان ليسوا بعزل غداة الوغى من شاكر و شبام بكل رديني و عضب تخاله إذا اختلف الأقوام شعل ضرام لهمدان أخلاق كرام تزينهم و بأس إذا لاقوا و حد خصام و جد و صدق في الحروب و نجدة و قول إذا قالوا بغير متى تأتهم في دارهم تستضيفهم تبت ناعما في خدمة و طعام جزى الله همدان الجنان فإنها سمام العدا في كل يوم زحام فلو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلوا بسلا قال نصر فحدثني عمرو بن شمر قال ثم قام علي ع بين الصفين و نادى يا معاوية يكررها فقال معاوية سلوه ما شأنه قال أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة فبرز معاوية و معه عمرو بن العاص فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو و قال لمعاوية ويحك علام يقتل الناس بيني و بينك و يضرب بعضهم بعضا ابرز إلي فأينا قتل صاحبه فالأمر له فالتفت معاوية إلى عمرو فقال ما ترى يا أبا عبد الله قال قد أنصفك الرجل و اعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سبه عليك و على عقبك ما بقي على ظهر الأرض عربي فقال معاوية يا ابن العاص ليس مثلي يخدع عن نفسه و الله ما بارز ابن أبي طالب شجاع قط إلا و سقي الأرض من دمه ثم انصرف معاوية راجعا حتى انتهى إلى شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 218آخر الصفوف و عمرو معه فلما رأى علي ع ذلك ضحك و عاد إلى موقفه. قال نصر و في حديث الجرجاني أن معاوية قال لعمرو ويحك ما أحمقك تدعوني إلى مبارزته و دي عك و جذام و الأشعرون. قال نصر قال و حقدها معاوية على عمرو باطنا و قال له ظاهرا ما أظنك قلت ما قلته يا أبا عبد الله إلا مازحا فلما جلس معاوية مجلسه أقبل عمرو يمشي حتى جلس إلى جانبه فقال معاوية

(6/172)


يا عمرو إنك قد قشرت لي العصا برضاك لي وسط العجاج برازي يا عمرو إنك قد أشرت بظنة حسب المبارز خطفة من بازي و لقد ظننتك قلت مزحة مازح و الهزل يحمله مقال الهازي فإذا الذي منتك نفسك حاكيا قتلي جزاك بما نويت الجازي و لقد كشفت قناعها مذمومة و لقد لبست بها ثياخازي
فقال عمرو أيها الرجل أ تجبن عن خصمك و تتهم نصيحك و قال مجيبا له
معاوي إن نكلت عن البراز و خفت فإنها أم المخازي معاوي ما اجترمت إليك ذنبا و لا أنا في الذي حدثت خازي شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 219و ما ذنبي بأن نادى علي و كبش القوم يدعى للبرازو لو بارزته بارزت ليثا حديد الناب يخطف كل بازي و تزعم أنني أضمرت غشا جزاني بالذي أضمرت جاو روى ابن قتيبة في كتابه المسمى عيون الأخبار قال قال أبو الأغر التميمي بينا أنا واقف بصفين مر بي العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب مكفرا بالسلاح و عيناه تبصان من تحت المغفر كأنهما عينا أرقم و بيده صفيحة يمانية يقلبها و هو على فرس له صعب فبينا هو يمغثه و يلين من عريكته هتف به هاتف من أهل الشام يعرف بعرار بن أدهم يا عباس هلم إلى البراز قال العباس فالنزول إذا فإنه إياس من القفول فنزل الشامي و هو يقول
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا أو تنزلون فإنا معشر نزل
و ثنى العباس رجله و هو يقول
و يصد عنك مخيلة الرجل العريض موضحة عن العظم بحسام سيفك أو لسانك و الكلم الأصيل كأرغب الكلمثم عصب فضلات درعه في حجزته و دفع فرسه إلى غلام له أسود يقال له أسلم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 220كأني و الله أنظر إلى فلافل شعره ثم دلف كل واحد منهما إلى صاحبه فذكرت قول أبي ذؤيبفتنازلا و تواقفت خيلاهما و كلاهما بطل اللقاء مخدع

(6/173)


و كفت الناس أعنة خيولهم ينظرون ما يكون من الرجلين فتكافحا بسيفيهما مليا من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته إلى أن لحظ العباس وهنا في درع الشامي فأهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندوته ثم عاد لمجاولته و قد أصحر له مفتق الدرع فضربه العباس ضربة انتظم بها جوانح صدره فخر الشامي لوجهه و كبر الناس تكبيرة ارتجت لها الأرض من تحتهم و سما العباس في الناس فإذا قائل يقول من ورائي قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ فالتفت فإذا أمير المؤمنين فقال لي يا أبا الأغر من المنازل لعدونا قلت هذا ابن أخيكم هذا العباس بن ربيعة فقال و إنه لهو يا عباس أ لم أنهك و ابن عباس أن تخلا بمراكزكما و أن تباشرا حربا قال إن ذلك كان قال فما عدا مما بدا قال يا أمير المؤمنين أ فأدعى إلى البراز فلا أجيب قال نعم طاعة إمامك أولى من إجابة عدوك ثم تغيظ و استطار حتى قلت الساعة الساعة ثم سكن و تطامن
و رفع يديه مبتهلا فقال اللهم اشكر للعباس مقامه و اغفر ذنبه إني قد غفرت له فاغفر له
قال و لهف معاوية على عرار و قال متى ينتطح فحل لمثله أ يطل دمه لاها الله إذا ألا رجل يشري نفسه لله يطلب بدم عرار فانتدب له رجلان من لخم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 221فقال لهما اذهبا فأيكما قتل العباس برازا فله كذا فأتياه فدعواه للبراز فقال إن لي سيدا أريد أؤامره فأتى عليا ع فأخبره الخبر
فقال ع و الله لود معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة إلا طعن في بطنه إطفاء لنور الله و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره المشركون أما و الله ليملكنهم منا رجال و رجال يسومونهم الخسف حتى يحتفروا الآبار و يتكففوا الناس و يتوكلوا على المساحي ثم قال يا عباس ناقلني سلاحك بسلاحي

(6/174)


فناقله و وثب على فرس العباس و قصد اللخميين فما شكا أنه هو فقالا إذن لك صاحبك فحرج أن يقول نعم فقال إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير فبرز إليه أحدهما فكأنما اختطفه ثم برز له الآخر فألحقه بالأول ثم أقبل و هو يقول الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ثم قال يا عباس خذ سلاحك و هات سلاحي فإن عاد لك أحد فعد إلي. قال فنمي الخبر إلى معاوية فقال قبح الله اللجاج إنه لقعود ما ركبته قط إلا خذلت. فقال عمرو بن العاص المخذول و الله اللخميان لا أنت فقال اسكت أيها الرجل و ليست هذه من ساعاتك قال و إن لم يكن فرحم الله اللخميين و ما أراه يفعل قال فإن ذاك و الله أخسر لصفقتك و أضيق لحجزتك. قال قد علمت ذاك و لو لا مصر لركبت المنجاة منها قال هي أعمتك و لولاها ألقيت بصيرا. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 222قالصر بن مزاحم و حدثنا عمرو قال حدثني فضيل بن خديج قال خرج رجل من أهل الشام يدعو إلى المبارزة فخرج إليه عبد الرحمن بن محرز الكندي ثم الطمحي فتجاولا ساعة ثم إن عبد الرحمن حمل على الشامي فطعنه في نقرة نحره فصرعه ثم نزل إليه فسلبه درعه و سلاحه فإذا هو عبد أسود فقال إنا لله أخطرت نفسي بعبد أسود قال و خرج رجل من عك فسأل البراز فخرج إليه قيس بن فهران الكندي فما ألبثه أن طعنه فقتله و قال
لقد علمت عك بصفين أننا إذا ما تلاقى الخيل نطعنها شزراو نحمل رايات القتال بحقها فنوردها بيضا و نصدرها حمرا

(6/175)


قال و حمل عبد الله بن الطفيل البكائي على صفوف أهل الشام فلما انصرف حمل عليه رجل من بني تميم يقال له قيس بن فهد الحنظلي اليربوعي فوضع الرمح بين كتفي عبد الله فاعترضه يزيد بن معاوية البكائي ابن عم عبد الله بن الطفيل فوضع الرمح بين كتفي التميمي و قال و الله لئن طعنته لأطعننك فقال عليك عهد الله لئن رفعت السنان عن ظهر صاحبك لترفعنه عن ظهري قال نعم لك العهد و الميثاق بذلك فرفع السنان عن ظهر عبد الله فرفع يزيد السنان عن التميمي فوقف التميمي و قال ليزيد ممن أنت قال من بني عامر قال جعلني الله فداكم أينما لقيناكم كراما أما و الله إني لآخر أحد عشر رجلا من بني تميم قتلتموهم اليوم. قال نصر فبعد ذلك بدهر عتب يزيد على عبد الله بن الطفيل فأذكره ما صنع معه يوم صفين فقال شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 22أ لم ترني حاميت عنك مناصحا بصفين إذ خلاك كل حميم و نهنهت عنك الحنظلي و قد أتى على سابح ذي ميعة و هزيمقال نصر و خرج ابن مقيدة الحمار الأسدي و كان ذا بأس و شجاعة و هو من فرسان الشام فطلب البراز فقام المقطع العامري و كان شيخا كبيرا فقال علي ع له اقعد فقال يا أمير المؤمنين لا تردني إما أن يقتلني فأتعجل الجنة و أستريح من الحياة الدنيا في الكبر و الهرم أو أقتله فأريحك منه. و قال له ع ما اسمك فقال المقطع قال ما معنى ذلك قال كنت أدعى هشيما فأصابتني جراحة منكرة فدعيت المقطع منها فقال له ع اخرج إليه و أقدم عليه اللهم انصر المقطع على ابن مقيدة الحمار فحمل على ابن مقيدة الحمار فأدهشه لشدة الحملة فهرب و هو يتبعه حتى مر بمضرب معاوية حيث يراه و المقطع على أثره فجاوزا معاوية بكثير فلما رجع المقطع و رجع ابن مقيدة الحمار ناداه معاوية لقد شمص بك العراقي قال أما إنه قد فعل أيها الأمير ثم عاد المقطع فوقف في موقفه. قال نصر فلما كان عام الجماعة و بايع الناس معاوية سأل عن المقطع العامري حتى أدخل عليه و هو شيخ كبير فلما

(6/176)


رآه قال آه لو لا أنك على مثل هذه الحال لما أفلت مني قال نشدتك الله إلا قتلتني و أرحتني من بؤس الحياة و أدنيتني إلى لقاء الله قال إني لا أقتلك و إن بي إليك لحاجة قال ما هي قال أحب أن تؤاخيني قال أنا و إياكم افترقنا في الله فلا نجتمع حتى يحكم الله بيننا في الآخرة. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 224قال فزوجني ابنتك قال قد منعتك ما هو أهون علي من ذلك قال فاقبل مني صلة قال لا حاجة لي فيما قبلك. قال فخرج من عنده و لم يقبل منه شيئا. قال نصر ثم التقى الناس فاقتتلوا قتالا شديدا واربت طيئ مع أمير المؤمنين ع حربا عظيما و تداعت و ارتجزت فقتل منها أبطال كثيرون و فقئت عين بشر بن العوس الطائي و كان من رجال طيئ و فرسانها فكان يذكر بعد ذلك أيام صفين فيقول وددت أني كنت قتلت يومئذ و وددت أن عيني هذه الصحيحة فقئت أيضا و قال
ألا ليت عيني هذه مثل هذه و لم امش بين الناس إلا بقائدو يا ليت رجلي ثم طنت بنصفها و يا ليت كفي ثم طاحت بساعدي و يا ليتني لم أبق بعد مطرف و سعد و بعد المستنير بن خالدفوارس لم تغد الحواضن مثلهم إذا هي أبدت عن خدام الخرائدقال نصر و أبلت محارب يومئذ مع أمير المؤمنين ع بلاء حسنا و كان عنتر بن عبيد بن خالد بن المحاربي أشجع الناس يومئذ فلما رأى أصحابه متفرقين ناداهم يا معشر قيس أ طاعة الشيطان أبر عندكم من طاعة الرحمن ألا إن الفرار فيه معصية الله و سخطه و إن الصبر فيه طاعة و رضوانه أ فتختارون سخط الله على رضوانه و معصيته على طاعته ألا إنما الراحة بعد الموت لمن مات محتسبا لنفسه ثم يرتجز فيقول
لا وألت نفس امرئ ولى الدبر أنا الذي لا أنثني و لا أفر

(6/177)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 225و لا يرى مع المعازيل الغدو قاتل حتى ارتث. قال نصر و قاتلت النخع مع علي ع ذلك اليوم قتالا شديدا و قطعت رجل علقمة بن قيس النخعي و قتل أخوه أبي بن قيس فكان علقمة يقول بعد ما أحب أن رجلي أصح ما كانت لما أرجو بها من حسن الثواب و كان يقول لقد كنت أحب أن أبصر أخي في نومي فرأيته فقلت له يا أخي ما الذي قدمتم عليه فقال لي التقينا نحن و أهل الشام بين يدي الله سبحانه فاحتججنا عنده فحججناهم فما سررت بشي ء منذ عقلت سروري بتلك الرؤيا. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن سويد بن حبة البصري عن الحضين بن المنذر الرقاشي قال إن ناسا أتوا عليا ع قبل الوقعة في هذا اليوم فقالوا له إنا لا نرى خالد بن المعمر السدوسي إلا قد كاتب معاوية و قد خشينا أن يلتحق به و يبايعه فبعث إليه علي ع و إلى رجال من أشراف ربيعة فجمعهم فحمد الله و أثنى عليه و قال يا معشر ربيعة أنتم أنصاري و مجيبو دعوتي و من أوثق أحياء العرب في نفسي و قد بلغني أن معاوية قد كاتب صاحبكم هذا و هو خالد بن المعمر و قد أتيت به و جمعتكم لأشهدكم عليه و تسمعوا مني و منه ثم أقبل عليه فقال يا خالد بن المعمر إن كان ما بلغني عنك حقا فإني أشهد من حضرني من المسلمين أنك آمن حتى تلحق بالعراق أو بالحجاز أو بأرض لا سلطان لمعاوية فيها و إن كنت مكذوبا عليك فأبر صدورنا بإيمان نطمئن إليها فحلف له شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 226خالد بالله ما فعل و قال رجال منا كثير الله يا أمير المؤمنين لو نعلم أنه فعل لقتلناه

(6/178)


و قال شقيق بن ثور السدوسي ما وفق الله خالد بن المعمر حين ينصر معاوية و أهل الشام على علي و أهل العراق و ربيعة فقال له زياد بن خصفة يا أمير المؤمنين استوثق من ابن المعمر بالأيمان لا يغدر بك فاستوثق منه ثم انصرفوا. فلما تصاف الناس في هذا اليوم و حمل بعضهم على بعض تضعضعت ميمنة أهل العراق فجاءنا علي ع و معه بنوه حتى انتهى إلينا فنادى بصوت عال جهير لمن هذه الرايات فقلنا رايات ربيعة فقال بل هي رايات الله عصم الله أهلها و صبرهم و ثبت أقدامهم ثم قال لي و أنا حامل راية ربيعة يومئذ يا فتى أ لا تدني رايتك هذه ذراعا فقلت بلى و الله و عشرة أذرع ثم ملت بها هكذا فأدنيتها فقال لي حسبك مكانك. قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثني يزيد بن أبي الصلت التيمي قال سمعت أشياخ الحي من بني تيم بن ثعلبة يقولون كانت راية ربيعة كلها كوفيتها و بصريتها مع خالد بن المعمر السدوسي من ربيعة البصرة ثم نافسه في الراية شقيق بن ثور من بكر بن وائل من أهل الكوفة فاصطلحا على أن يوليا الراية لحضين بن المنذر الرقاشي و هو من أهل البصرة أيضا و قالوا هذا فتى له حسب تعطيه الراية إلى أن نرى رأينا و كان الحضين يومئذ شابا حدث السن.

(6/179)


قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال أقبل الحضين بن المنذر يومئذ و هو غلام يزحف براية ربيعة و كانت حمراء فأعجب عليا ع زحفه و ثباته فقال شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 227لمن راية حمراء يخفق ظلها إذا قيل قدمها حضين تقدماو يدنو بها في الصف حتى يزيرها حمام المنايا تقطر الموت و الدماتراه إذا ما كان يوم عظيمة أبى فيه إلا عزة و تكرماجزى الله قوما صابروا في لقائهم لدى الناس حرا ما أعف و أكرماو أحزم صبرا يوم يدعى إلى الوغى إذا كان أصوات الكمأة تغمغماربيعة أعني إنهم أهل نجدة و بأس إذا لاقوا خميسا عرمرماو قد صبرت عك و لحم و حمير لمذحج حتى لم يفارق دم دماو نادت جذام يا ل مذحج ويحكم جزى الله شرا أينا كان أظلماأ ما تتقون الله في حرماتكم و ما قرب الرحمن منها و عظماأذقنا ابن حرب طعننا و ضرابنا بأسيافنا حتى تولى و أحجماو فر ينادى الزبرقان و ظالما و نادى كلاعا و الكريب و أنعماو عمرا و سفيانا و جهما و مالكا و حوشب و الغاوي شريحا و أظلماو كرز بن تيهان و عمرو بن جحدر و صباحا القيني يدعو و أسلما

(6/180)


. قلت هكذا روى نصر بن مزاحم و سائر الرواة رووا له ع الأبيات الستة الأولى و رووا باقي الأبيات من قوله و قد صبرت عك للحضين بن المنذر صاحب الراية. قال نصر و أقبل ذو الكلاع في حمير و من لف لفها و معهم عبيد الله بن عمر شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 228بن الخطاب فأربعة آلاف من قراء أهل الشام و ذو الكلاع في حمير في الميمنة و عبيد الله في القراء في الميسرة فحملوا على ربيعة و هم في ميسرة أهل العراق و فيهم عبيد الله بن العباس حملة شديدة فتضعضعت رايات ربيعة. ثم إن أهل الشام انصرفوا فلم يمكثوا إلا قليلا حتى كروا ثانية و عبيد الله بن عمر في أوائلهم يقول يا أهل الشام هذا الحي من العراق قتله عثمان بن عفان و أنصار علي بن أبي طالب و لئن هزمتم هذه القبيلة أدركتم ثأركم من عثمان و هلك علي و أهل العراق فشدوا على الناس شدة عظيمة فثبتت لهم ربيعة و صبرت صبرا حسنا إلا قليلا من الضعفاء. فأما أهل الرايات و ذوو البصائر منهم و الحفاظ فثبتوا و قاتلوا قتالا شديدا و أما خالد بن المعمر فإنه لما رأى بعض أصحابه قد انصرفوا انصرف معهم فلما رأى أهل الرايات ثابتين صابرين رجع إليهم و صاح بمن انهزم و أمرهم بالرجوع فكان من يتهمه من قومه يقول إنه فر فلما رآنا قد ثبتنا رجع إلينا و قال هو لما رأيت رجالا منا قد انهزموا رأيت أن أستقبلهم ثم أردهم إلى الحرب فجاء بأمر مشتبه. قال نصر و كان في جملة ربيعة من عنزة وحدها أربعة آلاف مجفف. قلت لا ريب عند علماء السيرة أن خالد بن المعمر كان له باطن سوء مع معاوية و أنه انهزم هذا اليوم ليكسر الميسرة على علي ع ذكر ذلك الكلبي و الواقدي و غيرهما و يدل على باطنه هذا أنه لما استظهرت ربيعة على معاوية و على صفوف أهل الشام في اليوم الثاني من هذا أرسل معاوية إلى خالد بن المعمر أن كف عني و لك إمارة خراسان

(6/181)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 229ما بقيت فكف عنه فرجع بربيعة و قد شارفوا أخذه من مضربه و سيأتي ذكر ذلك. قال نصر فلما رجع خالد بن المعمر و استوت صفوف ربيعة كما كانت خطبهم فقال يا معشر ربيعة إن الله تعالى قد أتى بكل رجل منكم من منبته و مسقط رأسه فجمعكم في هذالمكان جمعا لم تجتمعوا مثله قط منذ أفرشكم الله الأرض و إنكم إن تمسكوا أيديكم و تنكلوا عن عدوكم و تحولوا عن مصافكم لا يرضى الرب فعلكم و لا تعدموا معيرا يقول فضحت ربيعة الذمار و خاموا عن القتال و أتيت من قبلهم العرب فإياكم أن يتشاءم بكم اليوم المسلمون و إنكم إن تمضوا مقدمين و تصبروا محتسبين فإن الإقدام منكم عادة و الصبر منكم سجية فاصبروا و نيتكم صادقة تؤجروا فإن ثواب من نوى ما عند الله شرف الدنيا و كرامة الآخرة و الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. فقام إليه رجل من ربيعة و قال قد ضاع و الله أمر ربيعة حين جعلت أمرها إليك تأمرنا ألا نحول و لا نزول حتى نقتل أنفسنا و نسفك دماءنا. فقام إليه رجال من قومه فتناولوه بقسيهم و لكزوه بأيديهم و قالوا لخالد بن المعمر أخرجوا هذا من بينكم فإن هذا أن بقي فيكم ضركم و إن خرج منكم لم ينقصكم عددا هذا الذي لا ينقص العدد و لا يملأ البلد ترحك الله من خطيب قوم لقد جنبك الخير قبح الله ما جئت به. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 230قال نصر و اشتد القتال بين ربيعة و حمير و عبيد الله بن عمر حتى كثرت القتلى و جعل عبيد الله يحمل و يقول أنا الطيب ابن الطيب فتقول له ربيعة بل أنت الخبيث ابن الطيب. ثم خرج و خمسمائة فارس أو أكثر من أصحاب علي ع على رءوسهم البيض و هم غائصون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق و خرج إليهم من أهل الشام نحوهم في العدة فاقتتلوا بين الصفين و الناس وقوف تحت راياتهم فلم يرجع من هؤلاء و لا من هؤلاء مخبر لا عراقي و لا شامي قتلوا جميعا بين الصفين. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن تميم قال نادى منادي

(6/182)


أهل الشام ألا إن معنا الطيب ابن الطيب عبيد الله بن عمر فنادى منادي أهل العراق بل هو الخبيث ابن الطيب و نادى منادي أهل العراق ألا إن معنا الطيب ابن الطيب محمد بن أبي بكر فنادى منادي أهل الشام بل الخبيث ابن الطيب. قال نصر و كان بصفين تل تلقى عليه جماجم الرجال فكان يدعى تل الجماجم فقال عقبة بن مسلم الرقاشي من أهل الشام
و لم أر فرسانا أشد حفيظة و امنع منا يوم تل الجماجم غداة غدا أهل العراق كأنهم نعام تلافى في فجاج المخارم إذا قلت قد ولوا تثوب كتيبة ململمة في البيض شمط المقادم و قالوا لنا هذا علي فبايعوا فقلنا صه بل بالسيوف الصوا شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 231و قال شبث بن ربعي التميميوقفنا لديهم يوم صفين بالقنا لدن غدوة حتى هوت لغروب و ولى ابن حرب و الرماح تنوشه و قد أرضت الأسياف كل غضوب نجالدهم طورا و طورا نشلهم على كل محبوك السراة شبوب فلم أر فرسانا أشد حفيظة إذا غشي الآفاق رهج جنوب أكر و أحمى بالغطاريف و القنا و كل حديد الشفرتينب

(6/183)


قال نصر ثم ذهب هذا اليوم بما فيه فأصبحوا في اليوم التاسع من صفر و قد خطب معاوية أهل الشام و حرضهم فقال إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون و حضركم ما حضركم فإذا نهدتم إليهم إن شاء الله فقدموا الدارع و أخروا الحاسر و صفوا الخيل و أجنبوها و كونوا كقص الشارب و أعيرونا جماجمكم ساعة فإنما هو ظالم أو مظلوم و قد بلغ الحق مقطعه. قال نصر و روى الشعبي قال قام معاوية فخطب الناس بصفين في هذا اليوم فقال الحمد لله الذي دنا في علوه و علا في دنوه و ظهر و بطن و ارتفع فوق كل ذي شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 232منظر هو الأول و الآخو الظاهر و الباطن يقضي فيفصل و يقدر فيغفر و يفعل ما يشاء إذا أراد أمرا أمضاه و إذا عزم على شي ء قضاه لا يؤامر أحدا فيما يملك و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون و الحمد لله رب العالمين على ما أحببنا و كرهنا و قد كان فيما قضاه الله إن ساقتنا المقادير إلى هذه القعة من الأرض و لف بيننا و بين أهل العراق فنحن من الله بمنظر و قد قال الله سبحانه وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ. انظروا يا أهل الشام إنكم غدا تلقون أهل العراق فكونوا على إحدى ثلاث خصال إما أن تكونوا قوما طلبتم ما عند الله في قتال قوم بغوا عليكم فأقبلوا من بلادهم حتى نزلوا في بيضتكم و إما أن تكونوا قوما تطلبون بدم خليفتكم و صهر نبيكم و إما أن تكونوا قوما تذبون عن نسائكم و أبنائكم فعليكم بتقوى الله و الصبر الجميل أسأل الله لنا و لكم النصر و أن يفتح بيننا و بين قومنا بالحق و هو خير الفاتحين. فقام ذو الكلاع فقال يا معاوية إنا نحن الصبر الكرام لا ننثني عند الخصام بنو الملوك العظام ذوي النهى و الأحلام لا يقربون الآثام. فقال معاوية صدقت. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 233قال نصر و كانت التعبية في هذا اليوم كالتعبية في الذي قه و حمل عبيد الله بن عمر في قراء أهل الشام و معه ذو الكلاع في حمير

(6/184)


على ربيعة و هي في ميسرة علي ع فقاتلوا قتالا شديدا فأتى زياد بن خصفة إلى عبد القيس فقال لهم لا بكر بن وائل بعد اليوم إن ذا الكلاع و عبيد الله أبادا ربيعة فانهضوا لهم و إلا هلكوا فركبت عبد القيس و جاءت كأنها غمامة سوداء فشدت أزر الميسرة فعظم القتال فقتل ذو الكلاع الحميري قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف و تضعضعت أركان حمير و ثبتت بعد قتل ذي الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر و أرسل عبيد الله إلى الحسن بن علي ع أن لي إليك حاجة فالقني فلقيه الحسن ع فقال له عبيد الله إن أباك قد وتر قريشا أولا و آخرا و قد شنئه الناس فهل لك في خلعه و أن تتولى أنت هذا الأمر فقال كلا و الله لا يكون ذلك ثم قال يا ابن الخطاب و الله لكأني أنظر إليك مقتولا في يومك أو غدك أما إن الشيطان قد زين لك و خدعك حتى أخرجك مخلقا بالخلوق ترى نساء أهل الشام موقفك و سيصرعك الله و يبطحك لوجهك قتيلا. قال نصر فو الله ما كان إلا بياض ذلك اليوم حتى قتل عبيد الله و هو في كتيبة رقطاء و كانت تدعى الخضرية كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر فمر الحسن ع فإذا رجل متوسد برجل قتيل قد ركز رمحه في عينه و ربط فرسه برجله فقال الحسن ع لمن معه انظروا من هذا فإذا رجل من همدان و إذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب قد قتله الهمداني في أول الليل و بات عليه حتى أصبح. قال نصر و قد اختلف الرواة في قاتل عبيد الله فقالت همدان نحن قتلناه قتله هانئ بن الخطاب الهمداني و ركز رمحه في عينه و ذكر الحديث و قالت حضرموت نحن قتلناه قتله مالك بن عمرو الحضرمي و قالت بكر بن وائل نحن قتلناه قتله محرز شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 234بن الصحصح من بني تيم اللات بن ثعلبة و أخذ سيفه الوشاح. فلما كان عام الجماعة طلب معاوية السيف من ربيعة الفة فقالوا إنما قتله رجل من ربيعة البصرة يقال له محرز بن الصحصح فبعث إليه معاوية فأخذ السيف منه. قال نصر و قد روي أن قاتله حريث بن

(6/185)


جابر الحنفي و كان رئيس بني حنيفة يوم صفين مع علي ع حمل عبيد الله بن عمر على صف بني حنيفة و هو يقول
أنا عبيد الله ينميني عمر خير قريش من مضى و من غبرإلا رسول الله و الشيخ الأغر قد أبطأت عن نصر عثمان مضرو الربعيون فلا أسقوا المطر و سارع الحي اليمانون الغررو الخير في الناس قديما يبتدر
فحمل عليه حريث بن جابر الحنفي و قال
قد سارعت في نصرها ربيعة في الحق و الحق لها شريعةفاكفف فلست تارك الوقيعة في العصبة السامعة المطيعةحتى تذوق كأسها الفظيعة
و طعنه فصرعه. قال نصر فقال كعب بن جعيل التغلبي يرثي عبيد الله و كان كعب شاعر أهل الشام

(6/186)


ألا إنما تبكي العيون لفارس بصفين أجلت خيله و هو واقف تبدل من أسماء أسياف وائل و أي فتى لو أخطأته المتالف شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 235تركتم عبيد الله في القاع مسلما يمج دماء و العروق نوازف ينوء و تغشاه شآبيب من دم كما لاح في جيب القميص الكفائف دعاهن فاستسمعن من أين صوته فأقبلن شتى و العيون ذوارف تحللن عنه زر درع حصينة و ينكر منه بعد ذاك معارف و قرت تميا و ربابها و خالفت الخضراء فيمن يخالف و قد صبرت حول ابن عم محمد لدى الموت شهباء المناكب شارف بمرج ترى الرايات فيه كأنها إذا جنحت للطعن طير عواكف فما برحوا حتى رأى الله صبرهم و حتى أسرت بالأكف المصاحف جزى الله قتلانا بصفين خير ما أثيب عباد غادرتها الموقلت هذا الشعر نظمه كعب بن جعيل بعد رفع المصاحف و تحكيم الحكمين يذكر فيه ما مضى لهم من الحرب على عادة شعراء العرب و الضمير في قوله دعاهن فاستسمعن من أين صوته يرجع إلى نساء عبيد الله و كانت تحته أسماء بنت عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي و بحرية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني و كان عبيد الله قد أخرجهما معه إلى الحرب ذلك اليوم لينظرا إلى قتاله فوقفتا راجلتين و إلى أسماء بنت عطارد أشار كعب بن جعيل بقوله تبدل من أسماء أسياف وائل. و الشعر يدل على أن ربيعة قتلته لا همدان و لا حضرموت. و يدل أيضا على ذلك ما رواه إبراهيم بن ديزيل الهمداني في كتاب صفين قال شدت شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 236ربيعة الكوفة و عليها زياد بن خصفة على عبيد الله بن عمر ذلك اليوم و كان معاوية قد أقرع بين الناس فخرج سهم عبيد الله بن عمر على ربيعة فقتلته فلما ضرب فسطاط زياد بن خصفة بقي طنب من الأطناب ليجدوا له وتدا فشدوه برجل عبيد الله بن عمر و كان ناحية فجروه حتى ربطوا الطنب برجله و أقبلت امرأتاه حتى وقفتا عليه فبكتا عليه و صاحتا فخرج زياد بن خصفة فقيل له هذه بحرية ابنة هانئ بن قبيصة الشيباني ابنة عمك فقال لها ما حاجتك يا

(6/187)


ابنة أخي قالت تدفع زوجي إلي فقال نعم خذيه فجي ء ببغل فحملته عليه فذكروا أن يديه و رجليه خطتا بالأرض عن ظهر البغل. قال نصر و مما رثى به كعب بن جعيل عبيد الله بن عمر قوله يقول عبيد الله لما بدت له سحابة موت تقطر الحتف و الدماألا يا لقومي فاصبروا إن صبركم أعف و أحجى عفة و تكرمافلما تدانى القوم خر مجدلا صريعا تلاقى الترب كفيه و الفماو خلف أطفالا يتامى أذلة و عرسا عليه تسكب الدمع أيماحلالا لها الخطاب لا يمنعنهم و قد كان يحمي غيره أن تكلما
و قال الصلتان العبدي يذكر مقتل عبيد الله و أن حريث بن جابر الحنفي قتله
ألا يا عبيد الله ما زلت مولعا ببكر لها تهدي القرى و التهدداو كنت سفيها قد تعودت عادة و كل امرئ جار على ما تعودافأصبحت مسلوبا على شر آلة صريع القنا تحت العجاجة مفردا
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 237تشق عليك جيبها ابنة هانئ مسلبة تبدي الشجا و التلدداو كانت ترى ذا الأمر قبل عيانه و لكن حكم الله أهدى لك الردى و قالت عبيد الله لا تأت وائلا فقلت لها لا تعجلي و انظري غدافقد جاء ما قد مسها فتسلبت عليك و أمسى الجيب منها مقدداك أخو الهيجا حريث بن جابر بجياشة تحكي بها النهر مزبداكان حماة الحي بكر بن وائل بذي الرمث أسد قد تبوأن غرقدا

(6/188)


قال نصر فأما ذو الكلاع فقد ذكرنا مقتله و أن قاتله خندف البكري. و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال لما حمل ذو الكلاع ذلك اليوم بالفيلق العظيم من حمير على صفوف أهل العراق ناداهم أبو شجاع الحميري و كان من ذوي البصائر مع علي ع فقال يا معشر حمير تبت أيديكم أ ترون معاوية خيرا من علي ع أضل الله سعيكم ثم أنت يا ذا الكلاع قد كنا نرى أن لك نية في الدين فقال ذو الكلاع إيها يا أبا شجاع و الله إني لأعلم ما معاوية بأفضل من علي ع و لكني أقاتل على دم عثمان قال فأصيب ذو الكلاع حينئذ قتله خندف بن بكر البكري في المعركة. قال نصر فحدثنا عمرو قال حدثنا الحارث بن حصيرة أن ابن ذي الكلاع شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 238أرسل إلى الأشعث بن قيس رسولا يسأله أن يسلم إليه جثة أبيه فقال الأشعث إني أخاف أن يتهمني أمير المؤمنين في أمره فأطلبه من سعيد بن قيس فهو في الميمنة فذهب إلى معاوية فاستأذنأن يدخل إلى عسكر علي ع يطلب أباه بين القتلى فقال له إن عليا قد منع أن يدخل أحد منا إلى معسكره يخاف أن يفسد عليه جنده فخرج ابن ذي الكلاع فأرسل إلى سعيد بن قيس الهمداني يستأذنه في ذلك فقال سعيد إنا لا نمنعك من دخول العسكر إن أمير المؤمنين لا يبالي من دخل منكم إلى معسكره فأدخل فدخل من قبل الميمنة فطاف فلم يجده ثم أتى الميسرة فطاف فلم يجده ثم وجده و قد ربطت رجله بطنب من أطناب بعض فساطيط العسكر فجاء فوقف على باب الفسطاط فقال السلام عليكم يا أهل البيت فقيل له و عليك السلام فقال أ تأذنون لنا في طنب من أطناب فسطاطكم و معه عبد أسود لم يكن معه غيره فقالوا قد أذنا لكم و قالوا له معذرة إلى الله و إليكم أما إنه لو لا بغيه علينا ما صنعنا به ما ترون فنزل ابنه إليه فوجده قد انتفخ و كان من أعظم الناس خلقا فلم يطق احتماله فقال هل من فتى معوان فخرج إليه خندف البكري فقال تنحوا عنه فقال ابنه و من الذي يحمله إذا تنحينا عنه قال يحمله قاتله

(6/189)


فاحتمله خندف حتى رمى به على ظهر بغل ثم شده بالحبال فانطلقا به. قال نصر و قال معاوية لما قتل ذو الكلاع لأنا أشد فرحا بقتل ذي الكلاع مني بفتح مصر لو فتحتها قال لأن ذا الكلاع كان يحجر على معاوية في أشياء كان يأمر بها. قال نصر فلما قتل ذو الكلاع اشتدت الحرب و شدت عك و لخم و جذام و الأشعريون من أهل الشام على مذحج من أهل العراق جعلهم معاوية بإزائهم و نادى منادي عك شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 23ويل لأم مذحج من عك لنتركن أمهم تبكي نقتلهم بالطعن ثم الصك بكل قرن باسل مصك فلا رجال كرجال عفنادى منادي مذحج يا لمذحج خدموا أي اضربوا السوق مواضع الخدمة و هي الخلاخيل فاعترضت مذحج سوق القوم فكان فيه بوار عامتهم و نادى منادي جذام حين طحنت رحى القوم و خاضت الخيل و الرجال في الدماء. الله الله في جذام أ لا تذكرون الأرحام أفنيتم لخما الكرام و الأشعرين و آل ذي حمام أين النهى و الأحلام هذي النساء تبكي الأعلام. و نادى منادي عك يا عك أين المفر اليوم تعلم ما الخبر لأنكم قوم صبر كونوا كمجتمع المدر لا تشمتن بكم مضر حتى يحول ذا الخبر. و نادى منادي الأشعريين يا مذحج من للنساء غدا إذا أفناكم الردى الله الله في الحرمات أ ما تذكرون نساءكم و البنات أ ما تذكرون فارس و الروم و الأتراك لقد أذن الله فيكم بالهلاك. قال و القوم ينحر بعضهم بعضا و يتكادمون بالأفواه. قال نصر و حدثني عمرو بن الزبير لقد سمعت الحضين بن المنذر يقول أعطاني شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 240علي ع ذلك يوم راية ربيعة و قال باسم الله سر يا حضين و اعلم أنه لا تخفق على رأسك راية مثلها أبدا هذه راية رسول الله ص قال فجاء أبو عرفاء جبلة بن عطية الذهلي إلى الحضين و قال هل لك أن تعطيني الراية أحملها لك فيكون لك ذكرها و يكون لي أجرها فقال الحضين و ما غناي يا عم عن أجرها مع ذكرها قال إنه لا غنى بك عن ذلك و لكن أعرها عمك ساعة فما أسرع ما ترجع إليك قال الحضين

(6/190)


فقلت إنه قد استقتل و إنه يريد أن يموت مجاهدا فقلت له خذها فأخذها ثم قال لأصحابه إن عمل الجنة كره كله و ثقيل و إن عمل النار خف كله و خبيث إن الجنة لا يدخلها إلا الصابرون الذين صبروا أنفسهم على فرائض الله و أمره و ليس شي ء مما افترض الله على العباد أشد من الجهاد هو أفضل الأعمال ثوابا عند الله فإذا رأيتموني قد شددت فشدوا ويحكم أ ما تشتاقون إلى الجنة أ ما تحبون أن يغفر الله لكم فشد و شدوا معه فقاتلوا قتالا شديدا فقت أبو عرفاء رحمه الله تعالى و شدت ربيعة بعده شدة عظيمة على صفوف أهل الشام فنقضتها و قال مجزاة بن ثور
أضربهم و لا أرى معاوية الأبرج العين العظيم الحاويه هوت به في النار أم هاويه جاوره فيها كلاب عاويه أغوى طغاما لا هدته هاديقال نصر و كان حريث بن جابر يومئذ نازلا بين الصفين في قبة له حمراء يسقي أهل العراق اللبن و الماء و السويق و يطعمهم اللحم و الثريد فمن شاء أكل و من شاء شرب ففي ذلك يقول شاعرهم
فلو كان بالدهنا حريث بن جابر لأصبح بحرا بالمفازة جاريا

(6/191)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 241قلت هذا حريث بن جابر هو الذي كتب معاوية إلى زياد في أمره بعد عام الجماعة و حريث عامل لزياد على همدان أما بعد فاعزل حريث بن جابر عن عمله فما ذكرت مواقفه بصفين إلا كانت حزازة في صدري فكتب إليه زياد خفض عليك يا أمير المؤمنين فإحريثا قد بلغ من الشرف مبلغا لا تزيده الولاية و لا ينقصه العزل. قال نصر فاضطرب الناس يومئذ بالسيوف حتى تقطعت و تكسرت و صارت كالمناجل و تطاعنوا بالرماح حتى تقصفت و تناثرت أسنتها ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب يحثو بعضهم التراب في وجه بعض ثم تعانقوا و تكادموا بالأفواه ثم تراموا بالصخر و الحجارة ثم تحاجزوا فكان الرجل من أهل العراق يمر على أهل الشام فيقول كيف آخذ إلى رايات بني فلان فيقولون هاهنا لا هداك الله و يمر الرجل من أهل الشام على أهل العراق فيقول كيف آخذ إلى راية بني فلان فيقولون هاهنا لا حفظك الله و لا عافاك. قال نصر و قال معاوية لعمرو بن العاص أ ما ترى يا أبا عبد الله إلى ما قد دفعنا كيف ترى أهل العراق غدا صانعين إنا لبمعرض خطر عظيم فقال له إن أصبحت غدا ربيعة و هم متعطفون حول علي ع تعطف الإبل حول فحلها لقيت منهم جلادا صادقا و بأسا شديدا و كانت التي لا يتعزى لها فقال معاوية أ يجوز أنك تخوفنا يا أبا عبد الله قال إنك سألتني فأجبتك فلما أصبحوا في اليوم العاشر أصبحوا و ربيعة محدقة بعلي ع إحداق بياض العين بسوادها. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 242قال نصر فحدثني عمرو قال لما أصبح علي ع هذا اليوم جاء فوقف بين رات ربيعة فقال عتاب بن لقيط البكري من بني قيس بن ثعلبة يا معشر ربيعة حاموا عن علي منذ اليوم فإن أصيب فيكم افتضحتم أ لا ترونه قائما تحت راياتكم و قال لهم شقيق بن ثور يا معشر ربيعة ليس لكم عذر عند العرب إن وصل إلى علي و فيكم رجل حي فامنعوه اليوم و اصدقوا عدوكم اللقاء فإنه حمد الحياة تكسبونه فتعاهدت ربيعة و تحالفت بالأيمان

(6/192)


العظيمة منها تبايع سبعة آلاف على ألا ينظر رجل منهم خلفه حتى يردوا سرادق معاوية فقاتلوا ذلك اليوم قتالا شديدا لم يكن قبله مثله و أقبلوا نحو سرادق معاوية فلما نظر إليهم قد أقبلوا قال
إذا قلت قد ولت ربيعة أقبلت كتائب منها كالجبال تجالد
ثم قال لعمرو يا عمرو ما ترى قال أرى ألا تحنث أخوالي اليوم فقام معاوية و خلى لهم سرادقه و رحله و خرج فارا عنه لائذا ببعض مضارب العسكر في أخريات الناس فدخله و انتهبت ربيعة سرادقه و رحله و بعث إلى خالد بن المعمر إنك قد ظفرت و لك إمرة خراسان أن لم تتم فقطع خالد القتال و لم يتمه و قال لربيعة قد برت أيمانكم فحسبكم فلما كان عام الجماعة و بايع الناس معاوية أمره معاوية على خراسان و بعثه إليها فمات قبل أن يبلغها. قال نصر في حديث عمرو بن سعد أن عليا ع صلى بهم هذا اليوم صلاة الغداة ثم زحف بهم فلما أبصروه قد خرج استقبلوه بزحوفهم فاقتتلوا قتالا شديدا ثم إن خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق فاقتطعوا من أصحاب علي ع ألف رجل أو أكثر فأحاطوا بهم و حالوا بينهم و بين أصحابهم فلم يروهم فنادى شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 243علي ع يومئذ أ لا رجل يشري نفسه لله و يبيع دنياه بآخرتهأتاه رجل من جعف يقال له عبد العزيز بن الحارث على فرس أدهم كأنه غراب مقنع في الحديد لا يرى منه إلا عيناه فقال يا أمير المؤمنين مرني بأمرك فو الله لا تأمرني بشي ء إلا صنعته فقال علي ع سمحت بأمر لا يطاق حفيظة و صدقا و إخوان الوفاء قليل جزاك إله الناس خيرا فإنه لعمرك فضل ما هناك جزيليا أبا الحارث شد الله ركنك احمل على أهل الشام حتى تأتي أصحابك فتقول لهم إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام و يقول لكم هللوا و كبروا من ناحيتكم و نهلل نحن و نكبر من هاهنا و احملوا من جانبكم و نحمل نحن من جانبنا على أهل الشام فضرب الجعفي فرسه حتى إذا أقامه على أطراف سنابكه حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي ع فطاعنهم

(6/193)


ساعة و قاتلهم فأفرجوا له حتى خلص إلى أصحابه فلما رأوه استبشروا به و فرحوا و قالوا ما فعل أمير المؤمنين قال صالح يقرئكم السلام و يقول لكم هللوا و كبروا و احملوا حملة شديدة من جانبكم و نهلل نحن و نكبر و نحمل من جانبنا ففعلوا ما أمرهم به و هللوا و كبروا و هلل علي ع و كبر هو و أصحابه و حمل على أهل الشام و حملوا هم من وسط أهل الشام فانفرج القوم عنهم و خرجوا و ما أصيب منهم رجل واحد و لقد قتل من فرسان الشام يومئذ زهاء سبعمائة إنسان قال علي ع من أعظم الناس اليوم غناء فقالوا أنت يا أمير المؤمنين فقال كلا و لكنه الجعفي. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 244قال نصر و كان علي ع لا يعدل بربيعة أحدا من الناس فشق ذلك على مضر و أظهروا لهم القبيح و أبدوا ذات أنفسهم فقال الحضين بن المنذر الرقاشي شعرا أغضبهم به من جملته
أرى مضرا صارت ربيعة دونها شعار أمير المؤمنين و ذا الفضل فأبدوا لنا مما تجن صدورهم هو السوء و البغضاء و الحقد و الغل فأبلوا بلانا أو أقروا بفضلنا و لن تلحقونا الدهر ما حنت الإبفقام أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني و عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي و قبيصة بن جابر الأسدي و عبد الله بن الطفيل العامري في وجوه قبائلهم فأتوا عليا ع فتكلم أبو الطفيل فقال أنا و الله يا أمير المؤمنين ما نحسد قوما خصهم الله منك بخير و إن هذا الحي من ربيعة قد ظنوا أنهم أولى بك منا فاعفهم عن القتال أياما و اجعل لكل امرئ منا يوما يقاتل فيه فإنا إذا اجتمعنا اشتبه عليك بلاؤنا فقال علي ع نعم أعطيكم ما طلبتم و أمر ربيعة أن تكف عن القتال و كانت بإزاء اليمن من صفوف أهل الشام فغدا أبو الطفيل عامر بن واثلة في قومه من كنانة و هم جماعة عظيمة فتقدم أمام الخيل و يقول طاعنوا و ضاربوا ثم حمل و ارتجز فقال

(6/194)


قد ضاربت في حربها كنانه و الله يجزيها به جنانه من أفرغ الصبر عليه زانه أو غلب الجبن عليه شانه أو كفر الله فقد أهانه غدا يعض من عصى بنان شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 245فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انصرف أبو الطفيل إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إنك أنبأتنا أن أشرف القتل الشهادة و أحظى الأمر الصبر و قد و الله صبرنا حتى أصبنا فقتيلنا شهيد و حينا سعيد فليطلب من بقي ثأر من مضى فإنا و إن كنا قد ذهبفونا و بقي كدرنا فإن لنا دينا لا يميل به الهوى و يقينا لا تزحمه الشبهة فأثنى علي ع عليه خيرا. ثم غدا في اليوم الثاني عمير بن عطارد بجماعة من بني تميم و هو يومئذ سيد مضر الكوفة فقال يا قوم إني أتبع آثار أبي الطفيل فاتبعوا آثار كنانة ثم قدم رايته و ارتجز فقال
قد ضاربت في حربها تميم إن تميما خطبها عظيم لها حديث و لها قديم إن الكريم نسله كريم دين قويم و هوى سليم إن لم تردهم رايتي فلوموثم طعن برايته حتى خضبها و قاتل أصحابه قتالا شديدا حتى أمسوا و انصرف عمير إلى علي ع و عليه سلاحه فقال يا أمير المؤمنين قد كان ظني بالناس حسنا و قد رأيت منهم فوق ظني بهم قاتلوا من كل جهة و بلغوا من عفوهم جهد عدوهم و هم لهم إن شاء الله. ثم غدا في اليوم الثالث قبيصة بن جابر الأسدي في بني أسد و قال لأصحابه يا بني أسد أما أنا فلا أقصر دون صاحبي و أما أنتم فذاك إليكم ثم تقدم برايته و قال
قد حافظت في حربها بنو أسد ما مثلها تحت العجاج من أحد
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 246أقرب من يمن و أنأى من نكد كأننا ركنا ثبير أو أحدلسنا بأوباش و لا بيض البلد لكننا المحة من ولد معفقاتل القوم إلى أن دخل الليل ثم انصرفوا. ثم غدا في اليوم الرابع عبد الله بن الطفيل العامري في جماعة هوازن فحارب بهم حتى الليل ثم انصرفوا. قال نصر فانتصفوا المضرية من الربعية و ظهر أثرها و عرف بلاؤها و قال أبو الطفيل

(6/195)


و حامت كنانة في حربها و حامت تميم و حامت أسدو حامت هوازن يوم اللقا فما خام منا و منهم أحدلقينا الفوارس يوم الخميس و العيد و السبت ثم الأحدلقينا قبائل أنسابهم إلى حضرموت و أهل الجندفأمدادهم خلف آذانهم و ليس لنا من سوانا مددفلما تنادوا بآبائهم دعونا معدا و نعم المعدفظلنا نفلق هاماتهم و لم نك فيها ببيض البلدو نعم الفوارس يوم اللقا فقل في عديد و قل في عددو قل في طعان كفرغ الدلاء و ضرب عظيم كنار الوفدو لكن عصفنا بهم عصفة و في الحرب يمن و فيها نكدطحنا الفوارس وسط العجاج و سقنا الزعانف سوق النقد
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 247و قلنا علي لنا والد و نحن له طاعة كالولقال نصر و حدثنا عمرو عن الأشعث بن سويد عن كردوس قال كتب عقبة بن مسعود عامل علي على الكوفة إلى سليمان بن صرد الخزاعي و هو مع علي بصفين أما بعد فإنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا فعليك بالجهاد و الصبر مع أمير المؤمنين و السلام.

(6/196)


قال نصر و حدثنا عمرو بن سعد و عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر قال قام علي ع فخطب الناس بصفين فقال الحمد لله على نعمه الفاضلة على جميع من خلق من البر و الفاجر و على حججه البالغة على خلقه من أطاعه فيهم و من عصاه أن يرحم فبفضله و منه و إن عذب فبما كسبت أيديهم و إن الله ليس بظلام للعبيد أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء و أستعينه على ما نابنا من أمر الدنيا و الآخرة و أتوكل عليه و كفى بالله وكيلا ثم إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالهدى و دين الحق ارتضاه لذلك و كان أهله و اصطفاه لتبليغ رسالته و جعله رحمة منه على خلقه فكان علمه فيه رءوفا شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 248رحيما أكرم خلق الله حسبا و أجملهم منظرا و أسخاهم نفسا و أبرهم لوالد و أوصلهم لرحم و أفضلهم علما و أثقلهم حلما و أوفاهم لعهد و آمنهم على عقد لم يتعلعليه مسلم و لا كافر بمظلمة قط بل كان يظلم فيغفر و يقدر فيصفح حتى مضى ص مطيعا لله صابرا على ما أصابه مجاهدا في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ص فكان ذهابه أعظم المصيبة على أهل الأرض البر و الفاجر ثم ترك فيكم كتاب الله يأمركم بطاعة الله و ينهاكم عن معصيته و قد عهد إلى رسول الله عهدا فلست أحيد عنه و قد حضرتم عدوكم و علمتم أن رئيسهم منافق يدعوهم إلى النار و ابن عم نبيكم معكم و بين أظهركم يدعوكم إلى الجنة و إلى طاعة ربكم و العمل بسنة نبيكم و لا سواء من صلى قبل كل ذكر لم يسبقني بصلاة مع رسول الله أحد و أنا من أهل بدر و معاوية طليق و ابن طليق و الله أنا على الحق و إنهم على الباطل فلا يجتمعن على باطلهم و تتفرقوا عن حقكم حتى يغلب باطلهم حقكم قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم فإن لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم فقام أصحابه فقالوا يا أمير المؤمنين انهض بنا إلى عدونا و عدوك إذا شئت فو الله ما نريد بك بدلا بل نموت معك و نحيا معك فقال لهم و الذي

(6/197)


نفسي بيده لنظر إلى النبي ص أضرب بين يديه بسيفي هذا فقال لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي و قال لي يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 249موتك و حياتك يا علي معي و الله ما كذب و لا كذبت و لا ضل و لا ضللت و لا ضل بي و لا نسيت ما عهد إلى و إني على بينة من ربي و على الطريق الواضح ألقطه لقطا
ثم نهض إلى القوم فاقتتلوا من حين طلعت الشمس حتى غاب الشفق الأحمر و ما كانت صلاة القوم في ذلك اليوم إلا تكبيرا. قال و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان قال برز في بعض أيام صفين رجل من حمير من آل ذي يزن اسمه كريب بن الصباح ليس في الشام يومئذ رجل أشهر بالبأس و النجدة منه فنادى من يبارز فخرج إليه المرتفع بن الوضاح الزبيدي فقتله ثم نادى من يبارز فخرج إليه الحارث بن الجلاح فقتله ثم نادى من يبارز فخرج إليه عابد بن مسروق الهمداني فقتله ثم رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض و قام عليها بغيا و اعتداء و نادى من يبارز فخرج إليه علي و ناداه ويحك يا كريب إني أحذرك الله و بأسه و نقمته و أدعوك إلى سنة الله و سنة رسوله ويحك لا يدخلنك معاوية النار فكان جوابه له أن قال ما أكثر ما قد سمعت منك هذه المقالة و لا حاجة لنا فيها أقدم إذا شئت من يشتري سيفي و هذا أثره فقال علي لا حول و لا قوة إلا بالله ثم مشى إليه فلم يمهله أن ضربه ضربة خر منها قتيلا يشحط في دمه ثم نادى من يبرز فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتله ثم نادى من يبرز فبرز إليه المطاع بن مطلب العنسي شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 250فقتله ثم نادى من يبرز فلم يبرز إليه أحد فنادى يا معشر المسلمين الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و اتقوا الله و اعلموا أن الله مع المتقين ويحك يا معاوية هلم إلي فبارزني لا يقتلن الناس فيما بيننا فقال عمرو بن

(6/198)


العاص اغتنمه منتهزا قد قتل ثلاثة من أبطال العرب و إني أطمع أن يظفرك الله به فقال معاوية و الله لن تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي اذهب إليك عني فليس مثلي يخدع. قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا خالد بن عبد الواحد الجريري قال حدثني من سمع عمرو بن العاص قبل الوقعة العظمى بصفين و هو يحرض أهل الشام و قد كان منحنيا على قوس فقال الحمد لله العظيم في شأنه القوي في سلطانه العلي في مكانه الواضح في برهانه أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء في كل رزية من بلاء أو شدة أو رخاء و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله ثم إنا نحتسب عند الله رب العالمين ما أصبح في أمة محمد ص من اشتعال نيرانها و اضطراب حبلها و وقوع بأسها بينها فإنا لله و إنا إليه راجعون و الحمد لله رب العالمين أ و لا تعلمون أن صلاتنا و صلاتهم و صيامنا و صيامهم و حجنا و حجهم و قتلنا و قتلهم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 251و ديننا و دينهم واحد و لكن الأهواء مختلفة اللهم أصلح هذه الأمة بما أصلحت به أولها و احفظ في ما بينها مع أن القوم قد وطئوا بلادكم و نعوا عليكم فجدوا في قتال عدوكم و استعينوا باللربكم و حافظوا على حرماتكم ثم جلس

(6/199)


قال نصر و خطب عبد الله بن العباس أهل العراق يومئذ فقال الحمد لله رب العالمين الذي دحا تحتنا سبعا و سمك فوقنا سبعا و خلق فيما بينهن خلقا و أنزل لنا منهن رزقا ثم جعل كل شي ء قدرا يبلى و يفنى غير وجهه الحي القيوم الذي يحيا و يبقى إن الله تعالى بعث أنبياء و سلا فجعلهم حججا على عباده عذرا أو نذرا لا يطاع إلا بعلمه و إذنه يمن بالطاعة على من يشاء من عباده ثم يثيب عليها و يعصى بعلم منه فيعفو و يغفر بحلمه لا يقدر قدره و لا يبلغ شي ء مكانه أحصى كل شي ء عددا و أحاط بكل شي ء علما و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا ك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إمام الهدى و النبي المصطفى و قد ساقنا قدر الله إلى ما ترون حتى كان مما اضطرب من حبل هذه الأمة و انتشر من أمرها أن معاوية بن أبي سفيان وجد من طغام الناس أعوانا على علي ابن عم رسول الله و صهره و أول ذكر صلى معه بدري قد شهد مع رسول الله ص كل مشاهدة التي فيها الفضل و معاوية مشرك كان يعبد الأصنام و الذي ملك الملك وحده و بان به و كان أهله لقد قاتل علي بن أبي طالب مع رسول الله و هو يقول صدق الله و رسوله و معاوية يقول كذب الله و رسوله فعليكم بتقوى الله و الجد و الحزم و الصبر و الله إنا لنعلم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 252إنكم لعلى حق و إن القوم لعلى باطل فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم و إنا لنعلم أن الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم اللهم أعنا و لا تخذلنا و انصرنا على عدونا و لا تحل عنا و افتح بيننا و بين قومنا بالحو أنت خير الفاتحين

(6/200)


قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا عبد الرحمن بن جندب عن جندب بن عبد الله قال قام عمار يوم صفين فقال انهضوا معي عباد الله إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالإحسان فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم و لو درس هذا الدين لم قتلتموه فقلنا لإحداثه فقالوا إنه لم يحدث شيئا و ذلك لأنه مكنهم من الدنيا فهم يأكلونها و يرعونها و لا يبالون لو انهدمت الجبال و الله ما أظنهم يطلبون بدم و لكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحلوها و استمرءوها و علموا أن صاحب الحق لو وليهم لحال بينهم و بين ما يأكلون و يرعون منها إن القوم لم يكن لهم سابقة في الإسلام يستحقون بها الطاعة و الولاية فخدعوا أتباعهم بأن قالوا قتل إمامنا مظلوما ليكونوا بذلك جبابرة و ملوكا تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون و لولاها ما بايعهم من الناس رجل اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت و إن تجعل شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 253لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم ثم مضى و مضى معه أصحابه فدنا من عمرو بن العاص فقال يا عمرو بعت دينك بمصر فتبا لك و طالما بغيت للإسلام عوجا ثم قال اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أق بنفسي في هذا البحر لفعلت اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم انحنى عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت اللهم إني أعلم مما علمتني أني لا أعمل عملا صالحا هذا اليوم هو أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين و لو أعلم اليوم عملا هو أرضى لك منه لفعلته

(6/201)


قال نصر و حدثني عمرو بن سعيد عن الشعبي قال نادى عمار عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له بعت دينك بالدنيا من عدو الله و عدو الإسلام معاوية و طلبت هوى أبيك الفاسق فقال لا و لكني أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم قال كلا أشهد على علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشي ء ن فعلك وجه الله و أنك إن لم تقتل شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 254اليوم فستموت غدا فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيتك. و روى ابن ديزيل في كتاب صفين عن صيف الضبي قال سمعت الصعب بن حكيم بن شريك بن نملة المحاربي يروي عن أبيه عن جده شريك قال كان الناسن أهل العراق و أهل الشام يقتتلون أيام صفين و يتزايلون فلا يستطيع الرجل أن يرجع إلى مكانه حتى يسفر الغبار عنه فاقتتلوا يوما و تزايلوا و أسفر الغبار فإذا علي تحت رايتنا يعني بني محارب
فقال هل من ماء فأتيته بإداوة فخنثتها له ليشرب فقال لا إنا نهينا أن نشرب من أفواه الأسقية
ثم علق سيفه و إنه لمخضب بالدم من ظبته إلى قائمه فصببت له على يديه فغسلهما حتى أنقاهما ثم شرب بيديه حتى إذا روى رفع رأسه ثم قال أين مضر فقلت أنت فيهم يا أمير المؤمنين فقال من أنتم بارك الله فيكم فقلنا نحن بنو محارب فعرف موقفه ثم رجع إلى موضعه. قلت خنثت الإداوة إذا ثنيت فاها إلى خارج و إنما نهى رسول الله ص عن اختناث الأسقية لأن رجلا اختنث سقاء فشرب فدخل إلى جوفه حية كانت في السقاء.
قال ابن ديزيل و روى إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني عبد الملك بن قدامة بن إبراهيم بن حاطب الجمحي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال لي رسول الله ص كيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم و مواثيقهم و كانوا هكذا و خالف بين أصابعه فقلت تأمرني بأمرك يا رسول الله قال تأخذ مما تعرف و تدع ما تنكر و تعمل بخاصة نفسك و تدع الناس و هوام أمرهم

(6/202)


قال فلما كان يوم صفين قال له أبوه عمرو بن العاص يا عبد الله اخرج فقاتل فقال شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 255يا أبتاه أ تأمرني أن أخرج فأقاتل و قد سمعت ما سمعت يوم عهد إلى رسول الله ص ما عهد فقال أنشدك الله يا عبد الله أ لم يكن آخر ما عهد إليك رسول الله ص أنخذ بيدك فوضعها في يدي فقال أطع أباك فقال اللهم بلى قال فإني أعزم عليك أن تخرج فتقاتل فخرج عبد الله بن عمرو فقاتل يومئذ متقلدا سيفين قال و إن من شعر عبد الله بن عمرو بعد ذلك يذكر عليا بصفين

(6/203)


فلو شهدت جمل مقامي و مشهدي بصفين يوما شاب منها الذوائب عشية جا أهل العراق كأنهم سحاب ربيع رفعته الجنائب إذا قلت قد ولت سراعا بدت لنا كتائب منهم و ارجحنت كتائب و جئناهم فرادى كأن صفوفنا من البحر مد موجه متراكب فدارت رحانا و استدارت رحاهم سراة النهار ما المناكب فقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا فقلنا بلى إنا نرى أن تضاربواو روى ابن ديزيل عن يحيى بن سليمان الجعفي قال حدثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع الهمداني قال حدثني أبي عن عبد خير الهمداني قال كنت أنا و عبد خير في سفر قلت يا أبا عمارة حدثني عن بعض ما كنتم فيه بصفين فقال لي يا ابن أخي و ما سؤالك فقلت أحببت أن أسمع منك شيئا فقال يا ابن أخي إنا كنا لنصلي الفجر فنصف و يصف أهل الشام و نشرع الرماح إليهم و يشرعون بها نحونا أما لو دخلت تحتها لأظلتك و الله يا ابن أخي إنا كنا لنقف و يقفون في الحرب لا نفتر و لا يفترون حتى نصلي شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 256العشاء الآخرة ما يعرف الرجل م طول ذلك اليوم من عن يمينه و لا من عن يساره من شدة الظلمة و النقع إلا بقرع الحديد بعضه على بعض فيبرز منه شعاع كشعاع الشمس فيعرف الرجل من عن يمينه و من عن يساره حتى إذا صلينا العشاء الآخرة جررنا قتلانا إلينا فتوسدناهم حتى نصبح و جروا قتلاهم فتوسدوهم حتى يصبحوا قال قلت له يا أبا عمارة هذا و الله الصبر. و روى ابن ديزيل قال كان عمرو بن العاص إذا مر عليه رجل من أصحاب علي فسأل عنه فأخبر به فقال يرى علي و معاوية أنهما بريئان من دم هذا. قال ابن ديزيل و روى ابن وهب عن مالك بن أنس قال جلس عمرو بن العاص بصفين في رواق و كان أهل العراق يدفنون قتلاهم و أهل الشام يجعلون قتلاهم في العباء و الأكسية يحملونهم فيها إلى مدافنهم فكلما مر عليه برجل قال من هذا فيقال فلان فقال عمرو كم من رجل أحسن في الله عظيم الحال لم ينج من قتله فلان و فلان قال يعني عليا و معاوية. قلت ليت شعري لم برأ

(6/204)


نفسه و كان رأسا في الفتنة بل لولاه لم تكن و لكن الله تعالى أنطقه بهذا الكلام و أشباهه ليظهر بذلك شكه و أنه لم يكن على بصيرة من أمره. و روى نصر بن مزاحم قال حدثني يحيى بن يعلى قال حدثني صباح المزني عن الحارث بن حصن عن زيد بن أبي رجاء عن أسماء بن حكيم الفزاري قال كنا بصفين مع علي تحت راية عمار بن ياسر ارتفاع الضحى و قد استظللنا برداء أحمر إذ أقبل رجل يستقري الصف حتى انتهى إلينا فقال أيكم عمار بن ياسر فقال عمار أنا عمار قال أبو اليقظان قال نعم قال إن لي إليك حاجة أ فأنطق بها شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 257س أو علانية قال اختر لنفسك أيهما شئت قال لا بل علانية قال فانطق قال إني خرجت من أهلي مستبصرا في الحق الذي نحن عليه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم و أنهم على الباطل فلم أزل على ذلك مستبصرا حتى ليلتي هذه فإني رأيت في منامي مناديا تقدم فأذن و شهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ص و نادى بالصلاة و نادى مناديهم مثل ذلك ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاة واحدة و تلونا كتابا واحدا و دعونا دعوة واحدة فأدركني الشك في ليلتي هذه فبت بليلة لا يعلمها إلا الله تعالى حتى أصبحت فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له فقال هل لقيت عمار بن ياسر قلت لا قال فالقه فانظر ما ذا يقول لك عمار فاتبعه فجئتك لذلك فقال عمار تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي فإنها راية عمرو بن العاص قاتلتها مع رسول الله ص ثلاث مرات و هذه الرابعة فما هي بخيرهن و لا أبرهن بل هي شرهن و أفجرهن أ شهدت بدرا و أحدا و يوم حنين أو شهدها أب لك فيخبرك عنها قال لا قال فإن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله ص يوم بدر و يوم أحد و يوم حنين و إن مراكز رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب فهل ترى هذا العسكر و من فيه و الله لوددت أن جميع من فيه ممن أقبل مع معاوية يريد قتالنا مفارقا للذي نحن عليه كانوا خلقا واحدا فقطعته و ذبحته و

(6/205)


الله لدماؤهم جميعا أحل من دم عصفور أ فترى دم عصفور حراما قال لا بل حلال قال فإنهم حلال كذلك أ تراني بينت لك قال قد بينت لي قال فاختر أي ذلك أحببت.
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 258فانصرف الرجل فدعاه عمار ثم قال أما إنهم سيضربونكم بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولوا لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا و الله ما هم من الحق على ما يقذى عين ذباب و الله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا ا على حق و أنهم على باطل.
قال نصر و حدثنا يحيى بن يعلى عن الأصبغ بن نباتة قال جاء رجل إلى علي فقال يا أمير المؤمنين هؤلاء القوم الذين نقاتلهم الدعوة واحدة و الرسول واحد و الصلاة واحدة و الحج واحد فما ذا نسميهم قال سمهم بما سماهم الله في كتابه قال ما كل ما في الكتاب أعلمه قال أ ما سمعت الله تعالى يقول تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ إلى قوله وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى بالله و بالكتاب و بالنبي و بالحق فنحن الذين آمنوا و هم الذين كفروا و شاء الله قتالهم فقاتلهم بمشيئته و إرادته
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 25فقتله ثم نادى من يبرز فلم يبرز إليه أحد فنادى يا معشر المسلمين الشهر الحرام
بالشهر الحرام و الحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم و اتقوا الله و اعلموا أن الله مع المتقين ويحك يا معاوية هلم إلي فبارزني و لا
يقتلن الناس فيما بيننا فقال عمرو بن العاص اغتنمه منتهزا قد قتل ثلاثة من أبطال
العرب و إني أطمع أن يظفرك الله به فقال معاوية و الله لن تريد إلا أن أقتل فتصيب
الخلافة بعدي اذهب إليك عني فليس مثلي يخدع. قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا

(6/206)


خالد بن عبد الواحد الجريري قال حدثني من سمع عمرو بن العاص قبل الوقعة
العظمى بصفين و هو يحرض أهل الشام و قد كان منحنيا على قوس فقال الحمد لله
العظيم في شأنه القوي في سلطانه العلي في مكانه الواضح في برهانه أحمده على
حسن البلاء و تظاهر النعماء في كل رزية من بلاء أو شدة أو رخاء و أشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله ثم إنا نحتسب عند الله رب العالمين
ما أصبح في أمة محمد ص من اشتعال نيرانها و اضطراب حبلها و وقوع بأسها بينها فإنا
لله و إنا إليه راجعون و الحمد لله رب العالمين أ و لا تعلمون أن صلاتنا و صلاتهم و
صيامنا و صيامهم و حجنا و حجهم و قتلنا و قتلهم
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 25و ديننا و دينهم واحد و لكن الأهواء مختلفة اللهم أصلح هذه الأمة بما أصلحت به أولها
و احفظ في ما بينها مع أن القوم قد وطئوا بلادكم و نعوا عليكم فجدوا في قتال
عدوكم و استعينوا بالله ربكم و حافظوا على حرماتكم ثم جلس
قال نصر و خطب عبد الله بن العباس أهل العراق يومئذ فقال الحمد لله رب العالمين
الذي دحا تحتنا سبعا و سمك فوقنا سبعا و خلق فيما بينهن خلقا و أنزل لنا منهن رزقا ثم
جعل كل شي ء قدرا يبلى و يفنى غير وجهه الحي القيوم الذي يحيا و يبقى إن الله تعالى بعث أنبياء و رسلا فجعلهم حججا على عباده عذرا أو نذرا لا يطاع إلا بعلمه و
إذنه يمن بالطاعة على من يشاء من عباده ثم يثيب عليها و يعصى بعلم منه فيعفو و
يغفر بحلمه لا يقدر قدره و لا يبلغ شي ء مكانه أحصى كل شي ء عددا و أحاط بكل شي علما و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إمام
الهدى و النبي المصطفى و قد ساقنا قدر الله إلى ما ترون حتى كان مما اضطرب من
حبل هذه الأمة و انتشر من أمرها أن معاوية بن أبي سفيان وجد من طغام الناس أعوانا

(6/207)


على علي ابن عم رسول الله و صهره و أول ذكر صلى معه بدري قد شهد مع رسول الله
ص كل مشاهدة التي فيها الفضل و معاوية مشرك كان يعبد الأصنام و الذي ملك الملك
وحده و بان به و كان أهله لقد قاتل علي بن أبي طالب مع رسول الله و هو يقول صدق
الله و رسوله و معاوية يقول كذب الله و رسوله فعليكم بتقوى الله و الجد و الحزم و
الصبر و الله إنا لنعلم
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 25إنكم لعلى حق و إن القوم لعلى باطل فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في
حقكم و إنا لنعلم أن الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم اللهم أعنا و لا تخذلنا و
انصرنا على عدونا و لا تحل عنا و افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين
قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا عبد الرحمن بن جندب عن جندب بن عبد الله قال قام
عمار يوم صفين فقال انهضوا معي عباد الله إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم
إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالإحسان فقال هؤلاء الذين لا
يبالون إذا سلمت لهم دنياهم و لو درس هذا الدين لم قتلتموه فقلنا لإحداثه فقالوا إنه
لم يحدث شيئا و ذلك لأنه مكنهم من الدنيا فهم يأكلونها و يرعونها و لا يبالون لو
انهدمت الجبال و الله ما أظنهم يطلبون بدم و لكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحلوها و
استمرءوها و علموا أن صاحب الحق لو وليهم لحال بينهم و بين ما يأكلون و يرعون
منها إن القوم لم يكن لهم سابقة في الإسلام يستحقون بها الطاعة و الولاية فخدعوا
أتباعهم بأن قالوا قتل إمامنا مظلوما ليكونوا بذلك جبابرة و ملوكا تلك مكيدة قد
بلغوا بها ما ترون و لولاها ما بايعهم من الناس رجل اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت و
إن تجعل
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 25لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم ثم مضى و مضى معه أصحابه
فدنا من عمرو بن العاص فقال يا عمرو بعت دينك بمصر فتبا لك و طالما بغيت للإسلام

(6/208)


عوجا ثم قال اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر
لفعلت اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم انحنى
عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت اللهم إني أعلم مما علمتني أني لا أعمل عملا صالحا
هذا اليوم هو أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين و لو أعلم اليوم عملا هو أرضى لك منه
لفعلته
قال نصر و حدثني عمرو بن سعيد عن الشعبي قال نادى عمار عبد الله بن عمرو بن
العاص فقال له بعت دينك بالدنيا من عدو الله و عدو الإسلام معاوية و طلبت هوى
أبيك الفاسق فقال لا و لكني أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم قال كلا أشهد على
علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشي ء من فعلك وجه الله و أنك إن لم تقتل شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 25اليوم فستموت غدا فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيتك. و روى ابن ديزيل
في كتاب صفين عن صيف الضبي قال سمعت الصعب بن حكيم بن شريك بن نملة
المحاربي يروي عن أبيه عن جده شريك قال كان الناس من أهل العراق و أهل الشام
يقتتلون أيام صفين و يتزايلون فلا يستطيع الرجل أن يرجع إلى مكانه حتى يسفر
الغبار عنه فاقتتلوا يوما و تزايلوا و أسفر الغبار فإذا علي تحت رايتنا يعني بني محارب
فقال هل من ماء فأتيته بإداوة فخنثتها له ليشرب فقال لا إنا نهينا أن نشرب من أفواه
الأسقية
ثم علق سيفه و إنه لمخضب بالدم من ظبته إلى قائمه فصببت له على يديه فغسلهما
حتى أنقاهما ثم شرب بيديه حتى إذا روى رفع رأسه ثم قال أين مضر فقلت أنت فيهم يا
أمير المؤمنين فقال من أنتم بارك الله فيكم فقلنا نحن بنو محارب فعرف موقفه ثم
رجع إلى موضعه. قلت خنثت الإداوة إذا ثنيت فاها إلى خارج و إنما نهى رسول الله ص
عن اختناث الأسقية لأن رجلا اختنث سقاء فشرب فدخل إلى جوفه حية كانت في
السقاء.
قال ابن ديزيل و روى إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني عبد الملك بن قدامة بن

(6/209)


إبراهيم بن حاطب الجمحي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن
العاص قال قال لي رسول الله ص كيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد
مرجت عهودهم و مواثيقهم و كانوا هكذا و خالف بين أصابعه فقلت تأمرني بأمرك يا
رسول الله قال تأخذ مما تعرف و تدع ما تنكر و تعمل بخاصة نفسك و تدع الناس و
هوام أمرهم
قال فلما كان يوم صفين قال له أبوه عمرو بن العاص يا عبد الله اخرج فقاتل فقال
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 25يا أبتاه أ تأمرني أن أخرج فأقاتل و قد سمعت ما سمعت يوم عهد إلى رسول الله ص ما
عهد فقال أنشدك الله يا عبد الله أ لم يكن آخر ما عهد إليك رسول الله ص أن أخذ
بيدك فوضعها في يدي فقال أطع أباك فقال اللهم بلى قال فإني أعزم عليك أن تخرج
فتقاتل فخرج عبد الله بن عمرو فقاتل يومئذ متقلدا سيفين قال و إن من شعر عبد الله
بن عمرو بعد ذلك يذكر عليا بصفين
فلو شهدت جمل مقامي و مشهدي بصفين يوما شاب منها الذوائب
عشية جا أهل العراق كأنهم سحاب ربيع رفعته الجنائب
إذا قلت قد ولت سراعا بدت لنا كتائب منهم و ارجحنت كتائب
و جئناهم فرادى كأن صفوفنا من البحر مد موجه متراكب
فدارت رحانا و استدارت رحاهم سراة النهار ما تولى المناكب
فقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا فقلنا بلى إنا نرى أن تضاربوا

و روى ابن ديزيل عن يحيى بن سليمان الجعفي قال حدثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع
الهمداني قال حدثني أبي عن عبد خير الهمداني قال كنت أنا و عبد خير في سفر قلت يا
أبا عمارة حدثني عن بعض ما كنتم فيه بصفين فقال لي يا ابن أخي و ما سؤالك فقلت
أحببت أن أسمع منك شيئا فقال يا ابن أخي إنا كنا لنصلي الفجر فنصف و يصف أهل
الشام و نشرع الرماح إليهم و يشرعون بها نحونا أما لو دخلت تحتها لأظلتك و الله
يا ابن أخي إنا كنا لنقف و يقفون في الحرب لا نفتر و لا يفترون حتى نصلي

(6/210)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 25العشاء الآخرة ما يعرف الرجل منا طول ذلك اليوم من عن يمينه و لا من عن يساره من
شدة الظلمة و النقع إلا بقرع الحديد بعضه على بعض فيبرز منه شعاع كشعاع الشمس
فيعرف الرجل من عن يمينه و من عن يساره حتى إذا صلينا العشاء الآخرة جررنا قتلانا
إلينا فتوسدناهم حتى نصبح و جروا قتلاهم فتوسدوهم حتى يصبحوا قال قلت له يا أبا
عمارة هذا و الله الصبر. و روى ابن ديزيل قال كان عمرو بن العاص إذا مر عليه رجل من
أصحاب علي فسأل عنه فأخبر به فقال يرى علي و معاوية أنهما بريئان من دم هذا. قال
ابن ديزيل و روى ابن وهب عن مالك بن أنس قال جلس عمرو بن العاص بصفين في
رواق و كان أهل العراق يدفنون قتلاهم و أهل الشام يجعلون قتلاهم في العباء و
الأكسية يحملونهم فيها إلى مدافنهم فكلما مر عليه برجل قال من هذا فيقال فلان
فقال عمرو كم من رجل أحسن في الله عظيم الحال لم ينج من قتله فلان و فلان قال
يعني عليا و معاوية. قلت ليت شعري لم برأ نفسه و كان رأسا في الفتنة بل لولاه لم
تكن و لكن الله تعالى أنطقه بهذا الكلام و أشباهه ليظهر بذلك شكه و أنه لم يكن
على بصيرة من أمره. و روى نصر بن مزاحم قال حدثني يحيى بن يعلى قال حدثني صباح
المزني عن الحارث بن حصن عن زيد بن أبي رجاء عن أسماء بن حكيم الفزاري قال كنا
بصفين مع علي تحت راية عمار بن ياسر ارتفاع الضحى و قد استظللنا برداء أحمر إذ
أقبل رجل يستقري الصف حتى انتهى إلينا فقال أيكم عمار بن ياسر فقال عمار أنا عمار
قال أبو اليقظان قال نعم قال إن لي إليك حاجة أ فأنطق بها
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 25سرا أو علانية قال اختر لنفسك أيهما شئت قال لا بل علانية قال فانطق قال إني خرجت
من أهلي مستبصرا في الحق الذي نحن عليه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم و أنهم على
الباطل فلم أزل على ذلك مستبصرا حتى ليلتي هذه فإني رأيت في منامي مناديا تقدم

(6/211)


فأذن و شهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ص و نادى بالصلاة و نادى
مناديهم مثل ذلك ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاة واحدة و تلونا كتابا واحدا و دعونا
دعوة واحدة فأدركني الشك في ليلتي هذه فبت بليلة لا يعلمها إلا الله تعالى حتى
أصبحت فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له فقال هل لقيت عمار بن ياسر قلت لا قال
فالقه فانظر ما ذا يقول لك عمار فاتبعه فجئتك لذلك فقال عمار تعرف صاحب الراية
السوداء المقابلة لي فإنها راية عمرو بن العاص قاتلتها مع رسول الله ص ثلاث مرات و
هذه الرابعة فما هي بخيرهن و لا أبرهن بل هي شرهن و أفجرهن أ شهدت بدرا و أحدا و
يوم حنين أو شهدها أب لك فيخبرك عنها قال لا قال فإن مراكزنا اليوم على مراكز
رايات رسول الله ص يوم بدر و يوم أحد و يوم حنين و إن مراكز رايات هؤلاء على
مراكز رايات المشركين من الأحزاب فهل ترى هذا العسكر و من فيه و الله لوددت أن
جميع من فيه ممن أقبل مع معاوية يريد قتالنا مفارقا للذي نحن عليه كانوا خلقا واحدا
فقطعته و ذبحته و الله لدماؤهم جميعا أحل من دم عصفور أ فترى دم عصفور حراما قال
لا بل حلال قال فإنهم حلال كذلك أ تراني بينت لك قال قد بينت لي قال فاختر أي ذلك
أحببت.
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 25فانصرف الرجل فدعاه عمار ثم قال أما إنهم سيضربونكم بأسيافهم حتى يرتاب
المبطلون منكم فيقولوا لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا و الله ما هم من الحق
على ما يقذى عين ذباب و الله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا
على حق و أنهم على باطل.
قال نصر و حدثنا يحيى بن يعلى عن الأصبغ بن نباتة قال جاء رجل إلى علي فقال يا
أمير المؤمنين هؤلاء القوم الذين نقاتلهم الدعوة واحدة و الرسول واحد و الصلاة
واحدة و الحج واحد فما ذا نسميهم قال سمهم بما سماهم الله في كتابه قال ما كل ما

(6/212)


في الكتاب أعلمه قال أ ما سمعت الله تعالى يقول تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى
بَعْضٍ إلى قوله وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ
وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى
بالله و بالكتاب و بالنبي و بالحق فنحن الذين آمنوا و هم الذين كفروا و شاء الله
قتالهم فقاتلهم بمشيئته و إرادته

(6/213)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 3الجزء السادستتمة الخطب و الأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و آله الطاهرين
66- و من كلام له ع في معنى الأنصار
قَالُوا لَمَّا انْتَهَتْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع أَنْبَاءُ السَّقِيفَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ص قَالَ ع مَا قَالَتِ الْأَنْصَارُ قَالُوا قَالَتْ مِنَّا أَمِيرٌ وَ مِنْكُمْ أَمِيرٌ قَالَ ع فَهَلَّا احْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص وَصَّى بِأَنْ يُحْسَنَ إِلَى مُحْسِنِهِمْ وَ يُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ قَالُوا وَ مَا فِي هَذَا مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ ع لَوْ كَانَ الْإِمَامَةُ فِيهِمْ لَمْ تَكُنِ الْوَصِيَّةُ بِهِمْ ثُمَّ قَالَ ع فَمَا ذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ قَالُوا احْتَجَّتْ بِأَنَّهَا شَجَرَةُ الرَّسُولِ ص فَقَالَ ع شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 4احْتَجُّوا بِالشَّجَرَةِ وَ أَضَاعُوا الثَّمَرَةَقد ذكرنا فيما تقدم طرفا من أخبار السقيفة فأما هذا الخبر الوارد في الوصية بالأنصار فهو خبر صحيح أخرجه الشيخان محمد بن إسماعيل البخاري و مسلم بن الحجاج القشيري في مسنديهما عن أنس بن مالك قال مر أبو بكر و العباس رضي الله تعالى عنهما بمجلس من الأنصار في مرض رسول الله ص و هم يبكون فقالا ما يبكيكم قالوا ذكرنا محاسن رسول الله ص فدخلا على النبي ص و أخبراه بذلك فخرج ص و قد عصب على رأسه حاشية برده فصعد المنبر و لم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد الله و أثنى عليه
ثم قال أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي و عيبتي و قد قضوا الذي عليهم و بقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم و تجاوزوا عن مسيئهم

(7/1)


فأما كيفية الاحتجاج على الأنصار فقد ذكرها علي ع و هي أنه لو كان ص ممن يجعل الإمامة فيهم لأوصى إليهم و لم يوص بهم. و إلى هذا نظر عمرو بن سعيد بن العاص و هو المسمى بالأشدق فإن أباه لما مات خلفه غلاما فدخل إلى معاوية فقال إلى من أوصى بك أبوك فقال إن أبي أوصى إلي و لم يوص بي فاستحسن معاوية منه ذلك فقال إن هذا الغلام لأشدق فسمي الأشدق. فأما قول أمير المؤمنين احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة فكلام قد تكرر منه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 5ع أمثاله نحو قوله إذا احتج عليهم المهاجرون بالقرب من رسول الله ص كانت الحجة لنا على المهاجرين بذلك قائمة فإن فلجت حجتهم كانت لنا دونهم و إلا فالأنصار على دعوتهم
و نحو هذا المعنى قول العباس لأبي بكر و أما قولك نحن شجرة رسول الله ص فإنكم جيرانها و نحن أغصانها
يوم السقيفة

(7/2)


و نحن نذكر خبر السقيفة روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة قال أخبرني أحمد بن إسحاق قال حدثنا أحمد بن سيار قال حدثنا سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري أن النبي ص لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة فقالوا إن رسول الله ص قد قبض فقال سعد بن عبادة لابنه قيس أو لبعض بنيه إني لا أستطيع أن أسمع الناس كلامي لمرضي و لكن تلق مني قولي فأسمعهم فكان سعد يتكلم و يستمع ابنه و يرفع به صوته ليسمع قومه فكان من قوله بعد حمد الله و الثناء عليه أن قال إن لكم سابقة إلى الدين و فضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب أن رسول الله ص لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن و خلع الأوثان فما آمن به من قومه إلا قليل و الله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 6و لا يعزوا دينه و لا يدفعوا عنه عداه حتى أراد الله بكم خير الفضيلة و س إليكم الكرامة و خصكم بدينه و رزقكم الإيمان به و برسوله و الإعزاز لدينه و الجهاد لأعدائه فكنتم أشد الناس على من تخلف عنه منكم و أثقله على عدوه من غيركم حتى استقاموا لأمر الله طوعا و كرها و أعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا حتى أنجز الله لنبيكم الوعد و دانت لأسيافكم العرب ثم توفاه الله تعالى و هو عنكم راض و بكم قرير عين فشدوا يديكم بهذا الأمر فإنكم أحق الناس و أولاهم به. فأجابوا جميعا أن وفقت في الرأي و أصبت في القول و لن نعدو ما أمرت نوليك هذا الأمر فأنت لنا مقنع و لصالح المؤمنين رضا. ثم إنهم ترادوا الكلام بينهم فقالوا إن أبت مهاجرة قريش فقالوا نحن المهاجرون و أصحاب رسول الله ص الأولون و نحن عشيرته و أولياؤه فعلام تنازعوننا هذا الأمر من بعده فقالت طائفة منهم إذا نقول منا أمير و منكم أمير لن نرضى بدون هذا منهم أبدا لنا في الإيواء و النصرة ما لهم في الهجرة و لنا في كتاب الله ما لهم فليسوا يعدون شيئا إلا و نعد مثله و ليس من

(7/3)


رأينا الاستئثار عليهم فمنا أمير و منهم أمير. فقال سعد بن عبادة هذا أول الوهن. و أتى الخبر عمر فأتى منزل رسول الله ص فوجد أبا بكر في الدار و عليا في جهاز رسول الله ص و كان الذي أتاه بالخبر معن بن عدي فأخذ بيد عمر و قال قم فقال عمر إني عنك مشغول فقال إنه لا بد من قيام فقام معه فقال له إن هذا الحي من الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة معهم سعد بن عبادة يدورون حوله و يقولون أنت المرجى و نجلك المرجى و ثم أناس من

(7/4)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 7أشرافهم و قد خشيت الفتنة فانظر يا عمر ما ذا ترى و اذكر لإخوتك من المهاجرين و اختاروا لأنفسكم فإني انظر إلى باب فتنة قد فتح الساعة إلا أن يغلقه الله ففزع عمر أشد الفزع حتى أتى أبا بكر فأخذ بيده فقال قم فقال أبو بكر إني عنك مشغوفقال عمر لا بد من قيام و سنرجع إن شاء الله. فقام أبو بكر مع عمر فحدثه الحديث ففزع أبو بكر أشد الفزع و خرجا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة و فيها رجال من أشراف الأنصار و معهم سعد بن عبادة و هو مريض بين أظهرهم فأراد عمر أن يتكلم و يمهد لأبي بكر و قال خشيت أن يقصر أبو بكر عن بعض الكلام فلما نبس عمر كفه أبو بكر و قال على رسلك فتلق الكلام ثم تكلم بعد كلامي بما بدا لك فتشهد أبو بكر ثم قال. إن الله جل ثناؤه بعث محمدا بالهدى و دين الحق فدعا إلى الإسلام فأخذ الله بقلوبنا و نواصينا إلى ما دعانا إليه و كنا معاشر المسلمين المهاجرين أول الناس إسلاما و الناس لنا في ذلك تبع و نحن عشيرة رسول الله ص و أوسط العرب أنسابا ليس من قبائل العرب إلا و لقريش فيها ولادة و أنتم أنصار الله و أنتم نصرتم رسول الله ص ثم أنتم وزراء رسول الله ص و إخواننا في كتاب الله و شركاؤنا في الدين و فيما كنا فيه من خير فأنتم أحب الناس إلينا و أكرمهم علينا و أحق الناس بالرضا بقضاء الله و التسليم لما ساق الله إلى إخوانكم من المهاجرين و أحق الناس ألا تحسدوهم فأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة و أحق الناس ألا يكون انتفاض هذا الدين و اختلاطه على أيديكم و أنا أدعوكم إلى أبي عبيدة و عمر فكلاهما قد رضيت لهذا الأمر و كلاهما أراه له أهلا. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 8فقال عمر و أبو عبيدة ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك أنت صاحب الغار ثاني اثنين و أمرك رسول الله بالصلاة فأنت أحق الناس بهذا الأمر. فقال الأنصار و اه ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم و لا أحد أحب إلينا و لا أرضى

(7/5)


عندنا منكم و لكنا نشفق فيما بعد هذا اليوم و نحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا و لا منكم فلو جعلتم اليوم رجلا منكم بايعنا و رضينا على أنه إذا هلك اخترنا واحدا من الأنصار فإذا هلك كان آخر من المهاجرين أبدا ما بقيت هذه الأمة كان ذلك أجدر أن نعدل في أمة محمد ص فيشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشي و يشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري. فقام أبو بكر فقال إن رسول الله ص لما بعث عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخالفوه و شاقوه و خص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه و الإيمان به و المواساة له و الصبر معه على شدة أذى قومه و لم يستوحشوا لكثرة عدوهم فهم أول من عبد الله في الأرض و هم أول من آمن برسول الله و هم أولياؤه و عترته و أحق الناس بالأمر بعده لا ينازعهم فيه إلا ظالم و ليس أحد بعد المهاجرين فضلا و قدما في الإسلام مثلكم فنحن الأمراء و أنتم الوزراء لا نمتاز دونكم بمشورة و لا نقضي دونكم الأمور. فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال يا معشر الأنصار املكوا عليكم أيديكم إنما الناس في فيئكم و ظلكم و لن يجترئ مجترئ على خلافكم و لا يصدر الناس إلا عن أمركم أنتم أهل الإيواء و النصرة و إليكم كانت الهجرة و أنتم أصحاب الدار و الإيمان و الله ما عبد الله علانية إلا عندكم و في بلادكم

(7/6)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 9و لا جمعت الصلاة إلا في مساجدكم و لا عرف الإيمان إلا من أسيافكم فاملكوا عليكم أمركم فإن أبى هؤلاء فمنا أمير و منهم أمير. فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد إن العرب لا ترضى أن تؤمركم و نبيها من غيركم و ليس تمتنع العرب أن تولأمرها من كانت النبوة فيهم و أولو الأمر منهم لنا بذلك الحجة الظاهرة على من خالفنا و السلطان المبين على من نازعنا من ذا يخاصمنا في سلطان محمد و ميراثه و نحن أولياؤه و عشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة. فقام الحباب و قال يا معشر الأنصار لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من الأمر فإن أبوا عليكم ما أعطيتموهم فاجلوهم عن بلادكم و تولوا هذا الأمر عليهم فأنتم أولى الناس بهذا الأمر إنه دان لهذا الأمر بأسيافكم من لم يكن يدين له أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب إن شئتم لنعيدنها جذعة و الله لا يرد أحد علي ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف. قال فلما رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الأنصار من تأمير سعد بن عبادة و كان حاسدا له و كان من سادة الخزرج قام فقال أيها الأنصار إنا و إن كنا ذوي سابقة فإنا لم نرد بجهادنا و إسلامنا إلا رضا ربنا و طاعة نبينا و لا ينبغي لنا أن نستطيل بذلك على الناس و لا نبتغي به عوضا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 10من الدنيا إن محمدا ص رجل من قريش و قومه أحق بميراث أمره و ايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر فاتقوا الله و لا تنازعوهم و لا تخالفوهم. فقام أبو بكر و قال هذعمر و أبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم فقالا و الله لا نتولى هذا الأمر عليك و أنت أفضل المهاجرين و ثاني اثنين و خليفة رسول الله ص على الصلاة و الصلاة أفضل الدين ابسط يدك نبايعك. فلما بسط يده و ذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه فناداه الحباب بن المنذر يا بشير عقك عقاق و الله ما اضطرك إلى هذا الأمر إلا الحسد لابن عمك. و

(7/7)


لما رأت الأوس أن رئيسا من رؤساء الخزرج قد بايع قام أسيد بن حضير و هو رئيس الأوس فبايع حسدا لسعد أيضا و منافسة له أن يلي الأمر فبايعت الأوس كلها لما بايع أسيد و حمل سعد بن عبادة و هو مريض فأدخل إلى منزله فامتنع من البيعة في ذلك اليوم و فيما بعده و أراد عمر أن يكرهه عليها فأشير عليه ألا يفعل و أنه لا يبايع حتى يقتل و أنه لا يقتل حتى يقتل أهله و لا يقتل أهله حتى يقتل الخزرج و إن حوربت الخزرج كانت الأوس معها. و فسد الأمر فتركوه فكان لا يصلي بصلاتهم و لا يجمع بجماعتهم و لا يقضي بقضائهم و لو وجد أعوانا لضاربهم فلم يزل كذلك حتى مات أبو بكر ثم لقي عمر في خلافته و هو على فرس و عمر على بعير فقال له عمر هيهات يا سعد فقال سعد هيهات يا عمر فقال أنت صاحب من أنت صاحبه قال نعم أنا ذاك ثم قال لعمر و الله ما جاورني أحد هو أبغض إلي جوارا منك قال عمر فإنه من كره جوار رجل انتقل عنه فقال سعد إني لأرجو أن أخليها لك عاجلا إلى جوار من هو أحب إلي

(7/8)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 11جوارا منك و من أصحابك فلم يلبث سعد بعد ذلك إلا قليلا حتى خرج إلى الشام فمات بحوران و لم يبايع لأحد لا لأبي بكر و لا لعمر و لا لغيرهما. قال و كثر الناس على أبي بكر فبايعه معظم المسلمين في ذلك اليوم و اجتمعت بنو هاشم إلى بيت علبن أبي طالب و معهم الزبير و كان يعد نفسه رجلا من بني هاشم كان علي يقول ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ بنوه فصرفوه عنا. و اجتمعت بنو أمية إلى عثمان بن عفان و اجتمعت بنو زهرة إلى سعد و عبد الرحمن فأقبل عمر إليهم و أبو عبيدة فقال ما لي أراكم ملتاثين قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايع له الناس و بايعه الأنصار فقام عثمان و من معه و قام سعد و عبد الرحمن و من معهما فبايعوا أبا بكر. و ذهب عمر و معه عصابة إلى بيت فاطمة منهم أسيد بن حضير و سلمة بن أسلم فقال لهم انطلقوا فبايعوا فأبوا عليه و خرج إليهم الزبير بسيفه فقال عمر عليكم الكلب فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار ثم انطلقوا به و بعلي و معها بنو هاشم
و علي يقول أنا عبد الله و أخو رسول الله ص حتى انتهوا به إلى أبي بكر فقيل له بايع فقال أنا أحق بهذا الأمر منكم لا أبايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي أخذتم هذا الأمر من الأنصار و احتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله فأعطوكم المقادة و سلموا إليكم الإمارة و أنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم و اعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم و إلا فبوءوا بالظلم و أنتم تعلمون

(7/9)


فقال عمر إنك لست متروكا حتى تبايع فقال له علي احلب يا عمر حلبا لك شطره اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غدا ألا و الله لا أقبل قولك و لا أبايعه فقال له أبو بكر شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 12فإن لم تبايعني لم أكرهك فقال له أبو عبيدة يا أبا الحسن إنك حديث السن وؤلاء مشيخة قريش قومك ليس لك مثل تجربتهم و معرفتهم بالأمور و لا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك و أشد احتمالا له و اضطلاعا به فسلم له هذا الأمر و ارض به فإنك إن تعش و يطل عمرك فأنت لهذا الأمر خليق و به حقيق في فضلك و قرابتك و سابقتك و جهادك.
فقال علي يا معشر المهاجرين الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره و بيته إلى بيوتكم و دوركم و لا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس و حقه فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم أ ما كان منا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله العالم بالسنة المضطلع بأمر الرعية و الله إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعدا

(7/10)


فقال بشير بن سعد لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان و لكنهم قد بايعوا و انصرف علي إلى منزله و لم يبايع و لزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع. قلت هذا الحديث يدل على بطلان ما يدعى من النص على أمير المؤمنين و غيره لأنه لو كان هناك نص صريح لاحتج به و لم يجر للنص ذكر و إنما كان الاحتجاج منه و من أبي بكر و من الأنصار بالسوابق و الفضائل و القرب فلو كان هناك نص على أمير المؤمنين أو على أبي بكر لاحتج به أبو بكر أيضا على الأنصار و لاحتج به أمير المؤمنين على أبي بكر فإن هذا الخبر و غيره من الأخبار المستفيضة يدل على أنه قد كان كاشفهم و هتك القناع بينه و بينهم أ لا تراه كيف نسبهم إلى التعدي عليه و ظلمه و تمنع من طاعتهم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 13و أسمعهم من الكلام أشده و أغلظه فلو كان هناك نص لذكره أو ذكره بعض من كان من شيعته حزبه لأنه لا عطر بعد عروس. و هذا أيضا يدل على أن الخبر المروي في أبي بكر في صحيحي البخاري و مسلم غير صحيح
و هو ما روي من قوله ع لعائشة في مرضه ادعي لي أباك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يقول قائل أو يتمنى متمن و يأبى الله و المؤمنون إلا أبا بكر و هذا هو نص مذهب المعتزلة.
و قال أحمد بن عبد العزيز الجوهري أيضا حدثنا أحمد و قال حدثنا ابن عفير قال حدثنا أبو عوف عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنهما أن عليا حمل فاطمة على حمار و سار بها ليلا إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة و تسألهم فاطمة الانتصار له فكانوا يقولون يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به فقال علي أ كنت أترك رسول الله ميتا في بيته لا أجهزه و أخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه و قالت فاطمة ما صنع أبو حسن إلا ما كان ينبغي له و صنعوا هم ما الله حسبهم عليه

(7/11)


و قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز و حدثنا أحمد قال حدثني سعيد بن كثير قال حدثني ابن لهيعة أن رسول الله ص لما مات و أبو ذر غائب و قدم و قد ولي أبو بكر فقال أصبتم قناعه و تركتم قرابه لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيكم لما اختلف عليكم اثنان
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 14 قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا أبو قبيصة محمد بن حرب قال لما توفي النبي ص و جرى في السقيفة ما جرى تمثل عليو أصبح أقوام يقولون ما اشتهوا و يطغون لما غال زيدا غوائله
قصيدة أبي القاسم المغربي و تعصبه للأنصار على قريش

(7/12)


و حدثني أبو جعفر يحيى بن محمد بن زيد العلوي نقيب البصرة قال لما قدم أبو القاسم علي بن الحسين المغربي من مصر إلى بغداد استكتبه شرف الدولة أبو علي بن بويه و هو يومئذ سلطان الحضرة و أمير الأمراء بها و القادر خليفة ففسدت الحال بينه و بين القادر و اتفق لأبي القاسم المغربي أعداء سوء أوحشوا القادر منه و أوهموه أنه مع شرف الدولة في القبض عليه و خلعه من الخلافة فأطلق لسانه في ذكره بالقبيح و أوصل القول فيه و الشكوى منه و نسبه إلى الرفض و سب السلف و إلى كفران النعمة و أنه هرب من يد الحاكم صاحب مصر بعد إحسانه إليه. قال النقيب أبو جعفر رحمه الله تعالى فأما الرفض فنعم و أما إحسان الحاكم إليه فلا كان الحاكم قتل أباه و عمه و أخا من إخوته و أفلت منه أبو القاسم بخديعة الدين و لو ظفر به لألحقه بهم. قال أبو جعفر و كان أبو القاسم المغربي ينسب في الأزد و يتعصب لقحطان على عدنان و للأنصار على قريش و كان غاليا في ذلك مع تشيعه و كان أديبا فاضلا شاعرا مترسلا و كثير الفنون عالما و انحدر مع شرف الدولة إلى واسط فاتفق أن حصل بيد القادر كتاب بخطه شبه مجموع قد جمعه من خطه و شعره و كلامه مسود أتحفه به بعض من كان يشنأ أبا القاسم و يريد كيده فوجد القادر في ذلك المجموع قصيدة من شعره فيها تعصب شديد للأنصار على المهاجرين حتى خرج إلى نوع من الإلحاد و الزندقة لإفراط غلوه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 15و فيها تصريح بالرفض مع ذلك فوجدها القادر تمرة الغراب و أبرزها إلى ديوان الخلافة فقرئ المجموع و القصيدبمحضر من أعيان الناس من الأشراف و القضاة و المعدلين و الفقهاء و يشهد أكثرهم أنه خطه و أنهم يعرفونه كما يعرفون وجهه و أمر بمكاتبة شرف الدولة بذلك فإلى أن وصل الكتاب إلى شرف الدولة بما جرى اتصل الخبر بأبي القاسم قبل وصول الكتاب إلى شرف الدولة فهرب ليلا و معه بعض غلمانه و جارية كان يهواها و يتحظاها و مضى إلى البطيحة ثم

(7/13)


منها إلى الموصل ثم إلى الشام و مات في طريقه فأوصى أن تحمل جثته إلى مشهد علي فحملت في تابوت و معها خفراء العرب حتى دفن بالمشهد بالقرب منه ع. و كنت برهة أسأل النقيب أبا جعفر عن القصيدة و هو يدافعني بها حتى أملأها علي بعد حين و قد أوردت هاهنا بعضها لأني لم أستجز و لم أستحل إيرادها على وجهها فمن جملتها و هو يذكر في أولها رسول الله ص و يقول إنه لو لا الأنصار لم تستقم لدعوته دعامة و لا أرست له قاعدة في أبيات فاحشة كرهنا ذكرها
نحن الذين بنا استجار فلم يضع فينا و أصبح في أعز جواربسيوفنا أمست سخينة بركا في بدرها كنحائر الجزارو لنحن في أحد سمحنا دونه بنفوسنا للموت خوف العارفنجا بمهجته فلو لا ذبنا عنه تنشب في مخالب ضارو حمية السعدين بل بحماية السدين يوم الجحفل الجرارفي الخندق المشهور إذ ألقى بها بيد و رام دفاعها بثمارقالا معاذ الله إن هضيمه لم نعطها في سالف الأعصار

(7/14)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 16ما عندنا إلا السيوف و أقبلا نحو الحتوف بها بدار بدارو لنا بيوم حنين آثار متى تذكر فهن كرائم الآثارلما تصدع جمعه فغدا بنا مستصرخا بعقيرة و جؤارعطفت عليه كماتنا فتحصنت منا جموع هوازن بفرارو فدته من أبناء قيلة عصبة شروى النقير ونة البقارأ فنحن أولى بالخلافة بعده أم عبد تيم حاملو الأوزارما الأمر إلا أمرنا و بسعدنا زفت عروس الملك غير نوارلكنما حسد النفوس و شحها و تذكر الأذحال و الأوتارأفضى إلى هرج و مرج فانبرت عشواء خابطة بغير نهارو تداولتها أربع لو لا أبو حسن لقلت لؤمت من إستارمن عاجز ضرع و من ذي غلظة جاف و من ذي لوثة خوارثم ارتدى المحروم فضل ردائها فغلت مراجل إحنة و نفارفتأكلت تلك الجذى و تلمظت تلك الظبا و رقا أجيج النارتالله لو ألقوا إليه زمامها لمشى بهم سجحا بغير عثارو لو أنها حلت بساحة مجده بادي بدا سكنت بدار قرارهو كالنبي فضيلة لكن ذا من حظه كاس و هذا عارو الفضل ليس بنافع أربابه إلا بمسعدة من الأقدارثم امتطاها عبد شمس فاغتدت هزؤا و بدل ربحها بخسارو تنقلت في عصبة أموية ليسوا بأطهار و لا أبرار

(7/15)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 17ما بين مأفون إلى متزندق و مداهن و مضاعف و حمافهذه الأبيات هي نظيف القصيدة التقطناها و حذفنا الفاحش و في الملتقط المذكور أيضا ما لا يجوز و هو قوله نحن الذين بنا استجار و قوله ألقى بها بيد و قوله فنجا بمهجته البيت و قوله عن أبي بكر عبد تيم و قوله لو لا علي لقلت في الأربعة أنهم إستار لؤم و ذكره الثلاثة رضي الله عنهم بما ذكرهم و نسبهم إليه و قوله إن عليا كالنبي في الفضيلة و قوله إن النبوة حظ أعطيه و حرمه علي ع. فأما قوله في بني أمية ما بين مأفون البيت فمأخوذ من قول عبد الملك بن مروان و قد خطب فذكر الخلفاء من بني أمية قبله فقال إني و الله لست بالخليفة المستضعف و لا بالخليفة المداهن و لا بالخليفة المأفون عنى بالمستضعف عثمان و بالمداهن معاوية و بالمأفون يزيد بن معاوية فزاد هذا الشاعر فيهم اثنين و هما المتزندق و هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك و الحمار و هو مروان بن محمد بن مروان
أمر المهاجرين و الأنصار بعد بيعة أبي بكر
و روى الزبير بن بكار في الموفقيات قال لما بايع بشير بن سعد أبا بكر و ازدحم الناس على أبي بكر فبايعوه مر أبو سفيان بن حرب بالبيت الذي فيه علي بن أبي طالب ع فوقف و أنشد
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم و لا سيما تيم بن مرة أو عدي فما الأمر إلا فيكم و إليكم و ليس لها إلا أبو حسن علي شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 18أبا حسن فاشدد بها كف حازم فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي و أي امرئ يرمي قصيا و رأيها منبع الحمى و الناس من غالب ق فقال علي لأبي سفيان إنك تريد أمرا لسنا من أصحابه و قد عهد إلي رسول الله ص عهدا فأنا عليه

(7/16)


فتركه أبو سفيان و عدل إلى العباس بن عبد المطلب في منزله فقال يا أبا الفضل أنت أحق بميراث ابن أخيك امدد يدك لأبايعك فلا يختلف عليك الناس بعد بيعتي إياك فضحك العباس و قال يا أبا سفيان يدفعها علي و يطلبها العباس فرجع أبو سفيان خائبا. قال الزبير و ذكر محمد بن إسحاق أن الأوس تزعم أن أول من بايع أبا بكر بشير بن سعد و تزعم الخزرج أن أول من بايع أسيد بن حضير. قلت بشير بن سعد خزرجي و أسيد بن حضير أوسي و إنما تدافع الفريقان الروايتين تفاديا عن سعد بن عبادة و كراهية كل حي منهما أن يكون نقض أمره جاء من جهة صاحبه فالخزرج هم أهله و قرابته لا يقرون أن بشير بن سعد هو أول من بايع أبا بكر و أبطل أمر سعد بن عبادة و يحيلون بذلك على أسيد بن حضير لأنه من الأوس أعداء الخزرج و أما الأوس فتكره أيضا أن ينسب أسيد إلى أنه أول من نقض أمر سعد بن عبادة كي لا يرموه بالحسد للخزرج لأن سعد بن عبادة خزرجي فيحيلون بانتقاض أمره على قبيلته و هم الخزرج و يقولون إن أول من بايع أبا بكر و نقض دعوة سعد بن عبادة بشير بن سعد و كان بشير أعور. و الذي ثبت عندي أن أول من بايعه عمر ثم بشير بن سعد ثم أسيد بن حضير ثم أبو عبيدة بن الجراح ثم سالم مولى أبي حذيفة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 19قال الزبير و قد كان مالأ أبا بكر و عمر على نقض أمر سعد و إفساد حاله رجلان من الأنصار ممن شهد بدرا و هما عويم بن ساعدة و معن بن عدي. قلت كان هذان الرجلان ذوي حب لأبي بكر في حياة رسول الله ص و اتفق مع ذلك بغض و شحناء كانت بينهما بين سعد بن عبادة و لها سبب مذكور في كتاب القبائل لأبي عبيدة معمر بن المثنى فليطلب من هناك. و عويم بن ساعدة هو القائل لما نصب الأنصار سعدا يا معشر الخزرج إن كان هذا الأمر فيكم دون قريش فعرفونا ذلك و برهنوا حتى نبايعكم عليه و إن كان لهم دونكم فسلموا إليهم فو الله ما هلك رسول الله ص حتى عرفنا أن أبا بكر خليفة حين أمره أن

(7/17)


يصلي بالناس فشتمه الأنصار و أخرجوه فانطلق مسرعا حتى التحق بأبي بكر فشحذ عزمه على طلب الخلافة. ذكر هذا بعينه الزبير بن بكار في الموفقيات. و ذكر المدائني و الواقدي أن معن بن عدي اتفق هو و عويم بن ساعدة على تحريض أبي بكر و عمر على طلب الأمر و صرفه عن الأنصار قالا و كان معن بن عدي يشخصهما إشخاصا و يسوقهما سوقا عنيفا إلى السقيفة مبادرة إلى الأمر قبل فواته. قال الزبير بن بكار فلما بويع أبو بكر أقبلت الجماعة التي بايعته تزفه زفا إلى مسجد رسول الله ص فلما كان آخر النهار افترقوا إلى منازلهم فاجتمع قوم من الأنصار و قوم من المهاجرين فتعاتبوا فيما بينهم فقال عبد الرحمن بن عوف يا معشر الأنصار إنكم و إن كنتم أولي فضل و نصر و سابقة و لكن ليس فيكم مثل أبي بكر و لا عمر و لا علي و لا أبي عبيدة فقال زيد بن أرقم إنا لا ننكر فضل من ذكرت شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 20يا عبد الرحمن و إن منا لسيد الأنصار سعد بن عبادة و من أمر الله رسوله أن يقرئه السلام و أن يأخذ عنه القرآن أبي بن كعب و من يجي ء يوم القيامة أمام العلماء معاذ بن جبل و من أمضى رسول الله ص شهادته بشهادة رن خزيمة بن ثابت و إنا لنعلم أن ممن سميت من قريش من لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد علي بن أبي طالب. قال الزبير فلما كان من الغد قام أبو بكر فخطب الناس و قال أيها الناس إني وليت أمركم و لست بخيركم فإذا أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني إن لي شيطانا يعتريني فإياكم و إياي إذا غضبت لا أوثر في أشعاركم و أبشاركم الصدق أمانة و الكذب خيانة و الضعيف منكم قوي حتى أرد إليه حقه و القوي ضعيف حتى آخذ الحق منه إنه لا يدع قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل و لا تشيع في قوم الفاحشة إلا عمهم البلاء أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. قال ابن أبي عبرة القرشي

(7/18)


شكرا لمن هو بالثناء حقيق ذهب اللجاج و بويع الصديق من بعد ما زلت بسعد نعله و رجا رجاء دونه العيوق حفت به الأنصار عاصب رأسه فأتاهم الصديق و الفاروق و أبو عبيدة و الذين إليهم نفس المؤمل للقاء تتوق كنا نقول لها علي و الرضا عمر و أولاهم بذاك عتيق فدعت قريشه فأجابها إن المنوه باسمه الموثوق قل للألى طلبوا الخلافة زلة لم يخط مثل خطاهم مخلوق إن الخلافة في قريش ما لكم فيها و رب محمد معرو شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 21. و روى الزبير بن بكار قال روى محمد بن إسحاق أن أبا بكر لما بويع افتخرت تيم بن مرة قال و كان عامة المهاجرين و جل الأنصار لا يشكون أن عليا هو صاحب الأمر بعد رسول الله ص فقال الفضل بن العباس يا معشر قريش و خصوصا يا بني تيم إنكمنما أخذتم الخلافة بالنبوة و نحن أهلها دونكم و لو طلبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا حسدا منهم لنا و حقدا علينا و إنا لنعلم أن عند صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه. و قال بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم شعرا
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي حسن أ ليس أول من صلى لقبلتكم و أعلم الناس بالقرآن و السنن و أقرب الناس عهدا بالنبي و من جبريل عون له في الغسل و الكفن ما فيه ما فيهم لا يمترون به و ليس في القوم ما فيه من الحسن ما ذا الذي ردهم عنه فنعلم إن ذا غبننا من أعظم الغبن
قال الزبير فبعث إليه علي فنهاه و أمره ألا يعود
و قال سلامة الدين أحب إلينا من غيره

(7/19)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 22قال الزبير و كان خالد بن الوليد شيعة لأبي بكر و من المنحرفين عن علي فقام خطيبا فقال أيها الناس إنا رمينا في بدء هذا الدين بأمر ثقل علينا و الله محمله و صعب علينا مرتقاه و كنا كأنا فيه على أوتار ثم و الله ما لبثنا أن خف علينا له و ذل لنا صعبه و عجبنا ممن شك فيه بعد عجبنا ممن آمن به حتى أمرنا بما كنا ننهى عنه و نهينا عما كنا نأمر به و لا و الله ما سبقنا إليه بالعقول و لكنه التوفيق ألا و إن الوحي لم ينقطع حتى أحكم و لم يذهب النبي ص فنستبدل بعده نبيا و لا بعد الوحي وحيا و نحن اليوم أكثر منا أمس و نحن أمس خير منا اليوم من دخل في هذا الدين كان ثوابه على حسب عمله و من تركه رددناه إليه و إنه و الله ما صاحب الأمر يعني أبا بكر بالمسئول عنه و لا المختلف فيه و لا الخفي الشخص و لا المغموز القناة. فعجب الناس من كلامه و مدحه حزن بن أبي وهب المخزومي و هو الذي سماه رسول الله ص سهلا و هو جد سعيد بن المسيب الفقيه و قال
و قامت رجال من قريش كثيره فلم يك منهم في الرجال كخالدترقي فلم يزاق به صدر نعله و كف فلم يعرض لتلك الأوابدفجاء بها غراء كالبدر ضوءها فسميتها في الحسن أم القلائدأ خالد لا تعدم لؤي بن غالب قيامك فيها عند قذف الجلامدكساك الوليد بن المغيرة مجده و علمك الأشياخ ضرب القماحدتقارع في الإسلام عن صلب دينه و في الشرك عن أحساب جد و والد
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 23و كنت لمخزوم بن يقظة جنة يعدك فيها ماجدا و ابن ماجدإذا ما سما في حربها ألف فارس عدلت بألف عند تلك الشدائدو من يك في الحرب المثيرة واحدا فما أنت في الحرب العوان بواحدإذا ناب أمر في قريش مخلج تشيب له رءوس العذارى النواهدتوليت م ما يخاف و إن تغب يقولوا جميعا حظنا غير شاهد

(7/20)


قال الزبير و حدثنا محمد بن موسى الأنصاري المعروف بابن مخرمة قال حدثني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قال لما بويع أبو بكر و استقر أمره ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته و لام بعضهم بعضا و ذكروا علي بن أبي طالب و هتفوا باسمه و إنه في داره لم يخرج إليهم و جزع لذلك المهاجرون و كثر في ذلك الكلام. و كان أشد قريش على الأنصار نفر فيهم و هم سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي و الحارث بن هشام و عكرمة بن أبي جهل المخزوميان و هؤلاء أشراف قريش الذين حاربوا النبي ص ثم دخلوا في الإسلام و كلهم موتور قد وتره الأنصار أما سهيل بن عمرو فأسره مالك بن الدخشم يوم بدر و أما الحارث بن هشام فضربه عروة بن عمرو فجرحه يوم بدر و هو فار عن أخيه و أما عكرمة بن أبي جهل فقتل أباه ابنا عفراء و سلبه درعه يوم بدر زياد بن لبيد و في أنفسهم ذلك. فلما اعتزلت الأنصار تجمع هؤلاء فقام سهيل بن عمرو فقال يا معشر قريش إن هؤلاء القوم قد سماهم الله الأنصار و أثنى عليهم في القرآن فلهم بذلك حظ عظيم و شأن غالب و قد دعوا إلى أنفسهم و إلى علي بن أبي طالب و علي شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 24في بيته لو شاء لردهم فادعوهم إلى صاحبكم و إلى تجديديعته فإن أجابوكم و إلا قاتلوهم فو الله إني لأرجو الله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم. ثم قام الحارث بن هشام فقال إن تكن الأنصار تبوأت الدار و الإيمان من قبل و نقلوا رسول الله ص إلى دورهم من دورنا فآووا و نصروا ثم ما رضوا حتى قاسمونا الأموال و كفونا العمل فإنهم قد لهجوا بأمر إن ثبتوا عليه فإنهم قد خرجوا مما وسموا به و ليس بيننا و بينهم معاتبة إلا السيف و إن نزعوا عنه فقد فعلوا الأولى بهم و المظنون معهم. ثم قام عكرمة بن أبي جهل فقال و الله لو لا
قول رسول الله ص الأئمة من قريش

(7/21)


ما أنكرنا أمره الأنصار و لكانوا لها أهلا و لكنه قول لا شك فيه و لا خيار و قد عجلت الأنصار علينا و الله ما قبضنا عليهم الأمر و لا أخرجناهم من الشورى و إن الذي هم فيه من فلتات الأمور و نزغات الشيطان و ما لا يبلغه المنى و لا يحمله الأمل أعذروا إلى القوم فإن أبوا فقاتلوهم فو الله لو لم يبق من قريش كلها إلا رجل واحد لصير الله هذا الأمر فيه. قال و حضر أبو سفيان بن حرب فقال يا معشر قريش إنه ليس للأنصار أن يتفضلوا على الناس حتى يقروا بفضلنا عليهم فإن تفضلوا فحسبنا حيث انتهى بها و إلا فحسبهم حيث انتهى بهم و ايم الله لئن بطروا المعيشة و كفروا النعمة لنضربنهم على الإسلام كما ضربوا عليه فأما علي بن أبي طالب فأهل و الله أن يسود على قريش و تطيعه الأنصار. فلما بلغ الأنصار قول هؤلاء الرهط قام خطيبهم ثابت بن قيس بن شماس فقال يا معشر الأنصار إنما يكبر عليكم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش فأما إذا كان من أهل الدنيا لا سيما من أقوام كلهم موتور فلا يكبرن عليكم إنما الرأي شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 25و القول مع الأخيار المهاجرين فإن تكلمت رجال قريش و الذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء فعند ذلك قولوا ما أحببتم و إلا فأمسكوا. قال حسان بن ثابت يذكر ذلك

(7/22)


تنادي سهيل و ابن حرب و حارث و عكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل قتلنا أباه و انتزعنا سلاحه فأصبح بالبطحا أذل من النعل فأما سهيل فاحتواه ابن دخشم أسيرا ذليلا لا يمر و لا يحلي و صخر بن حرب قد قتلنا رجاله غداة لوا بدر فمرجله يغلي و راكضنا تحت العجاجة حارث على جرداء كباسقه النخل يقبلها طورا و طورا يحثها و يعدلها بالنفس و المال و الأهل أولئك رهط من قريش تبايعوا على خطة ليست من الخطط الفضل و أعجب منهم قابلو ذاك منهم كانا اشتملنا من قريش على ذحل و كلهم ثان عن الحق عطفه يقول اقتلوا الأنصار يا بئس من فعل نصرنا وا النبي و لم نخف صروف الليالي و البلاء على رجل بذلنا لهم أنصاف مال أكفنا كقسمة أيسار الجزور من الفضل و من بعد ذاك المال أنصاف دورنا و كنا أناسا لا نعير بالبخل و نحمي ذمار الحي فهر بن مالك و نوقد نار الحرب بالحطب الجزل فكان جزاء الفضل منا عليهم جهالتهم و ما ذاك بالعدل
فبلغ شعر حسان قريشا فغضبوا و أمروا ابن أبي عزة شاعرهم أن يجيبه فقال

(7/23)


معشر الأنصار خافوا ربكم و استجيروا الله من شر الفتن إنني أرهب حربا لاقحا يشرق المرضع فيها باللبن جرها سعد و سعد فتنة ليت سعد بن عباد لم يكن خلف برهوت خفيا شخصه بين بصرى ذي رعين و ج شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 26ليس ما قدر سعد كائنا ما جرى البحر و ما دام حضن ليس بالقاطع منا شعرة كيف يرجى خير أمر لم يحن ليس بالمدرك منها أبدا غير أضغاث أماني القال الزبير لما اجتمع جمهور الناس لأبي بكر أكرمت قريش معن بن عدي و عويم بن ساعدة و كان لهما فضل قديم في الإسلام فاجتمعت الأنصار لهما في مجلس و دعوهما فلما أحضرا أقبلت الأنصار عليهما فعيروهما بانطلاقهما إلى المهاجرين و أكبروا فعلهما في ذلك فتكلم معن فقال يا معشر الأنصار إن الذي أراد الله بكم خير مما أردتم بأنفسكم و قد كان منكم أمر عظيم البلاء و صغرته العاقبة فلو كان لكم على قريش ما لقريش عليكم ثم أردتموهم لما أرادوكم به لم آمن عليهم منكم مثل من آمن عليكم منهم فإن تعرفوا الخطأ فقد خرجتم منه و إلا فأنتم فيه. قلت قوله و قد كان منكم أمر عظيم البلاء و صغرته العاقبة يعني عاقبة الكف و الإمساك يقول قد كان منكم أمر عظيم و هو دعوى الخلافة لأنفسكم و إنما جعل البلاء معظما له لأنه لو لم يتعقبه الإمساك لأحدث فتنة عظيمة و إنما صغره سكونهم و رجوعهم إلى بيعة المهاجرين. و قوله و كان لكم على قريش إلى آخر الكلام معناه لو كان لكم الفضل على قريش كفضل قريش عليكم و ادعت قريش الخلافة لها ثم أردتم منهم الرجوع عن دعواهم و جرت بينكم و بينهم من المنازعة مثل هذه المنازعة التي جرت الآن بينكم لم آمن عليهم منكم أن تقتلوهم و تقدموا على سفك دمائهم و لم يحصل لي من سكون النفس إلى شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 27حلمكم عنهم و صبركم عليهم مثل ما أنا آمن عليكم منهم فإنهم صبروا و حلموا و لم يقدموا على استباحة حربكم و الدخول في دمائكم. قال الزبير ثم تكلم عويم بن ساعدة فقال يا معشر

(7/24)


الأنصار إن من نعم الله علم أنه تعالى لم يرد بكم ما أردتم بأنفسكم فاحمدوا الله على حسن البلاء و طول العافية و صرف هذه البلية عنكم و قد نظرت في أول فتنتكم و آخرها فوجدتها جاءت من الأماني و الحسد و احذروا النقم فوددت أن الله صير إليكم هذا الأمر بحقه فكنا نعيش فيه. فوثبت عليهما الأنصار فاغلظوا لهما و فحشوا عليهما و انبرى لهما فروة بن عمرو فقال أ نسيتما قولكما لقريش إنا قد خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماؤهم بفتنتهم هذا و الله ما لا يغفر و لا ينسى قد تصرف الحية عن وجهها و سمها في نابها فقال معن في ذلك

(7/25)


و قالت لي الأنصار إنك لم تصب فقلت أ ما لي في الكلام نصيب فقالوا بلى قل ما بدا لك راشدا فقلت و مثلي بالجواب طبيب تركتكم و الله لما رأيتكم تيوسا لها بالحرتين نبيب تنادون بالأمر الذي النجم دونه ألا كل شي ء ما سواه قريب فقلت لكم قول الشفيق عليكم و للقلب م البلاء وجيب دعوا الركض و اثنوا من أعنة بغيكم و دبوا فسير القاصدين دبيب و خلوا قريشا و الأمور و بايعوا لمن بايعوه ترشدوا و تصيبو شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 28أراكم أخذتم حقكم بأكفكم و ما الناس إلا مخطئ و مصيب فلما أبيتم زلت عنكم إليهم و كنت كأني يوم ذاك غريب فإن كان هذا الأمر ذنبي إليكم فلي فيكم بعد الذنوب ذنوب فلا تبعثوا مني الكلام فإنني إذا شئت يوما شاعر و خطيب و إني لحلو تعمرارة و ملح أجاج تارة و شروب لكل امرئ عندي الذي هو أهله أفانين شتى و الرجال ضروبو قال عويم بن ساعدة في ذلك و قالت لي الأنصار أضعاف قولهم لمعن و ذاك القول جهل من الجهل فقلت دعوني لا أبا لأبيكم فإني أخوكم صاحب الخطر الفصل أنا صاحب القول الذي تعرفونه أقطع أنفاس الرجال على مهل فإن تسكتوا أسكت و في الصمت راحة و إن تنطقوا أصمت مقالتكم تبلي و ما لمت نفسي في الخلافكم و إن كنتم مستجمعين على عذلي أريد بذاك الله لا شي ء غيره و ما عند رب الناس من درج الفضل و ما لي رحم في قريش قريبة و لا دارها داري و لا أصلها أصلي و لكنهم قوم علينا أئمة أدين لهم ما أنفذت قدمي نعلي و كان أحق الناس أن تقنعوا به و يحتملوا من جاء في قولي لأني أخف الناس فيما يسركم و فيما يسوء لا أمر و لا أحليقال فروة بن عمر و كان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر و كان ممن جاهد مع شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 29رسول الله و قاد فرسين في سبيل الله و كان يتصدق من نخله بألف وسق في كل عام و كان سيدا و هو من أصحاب علي و ممن شهد معه يوم الجمل قال فذكر معنا و عويما و عاتبهما علقولهما خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماؤهم بفتنتهم

(7/26)


ألا قل لمعن إذا جئته و ذاك الذي شيخه ساعده بأن المقال الذي قلتما خفيف علينا سوى واحده مقالكم إن من خلفنا مراض قلوبهم فاسده حلال الدماء على فتنة فيا بئسما ربت الوالده فلم تأخذا قدر أثمانها و لم تستفيدا بها فائده لقد كذب الله ما قلتما و قد يكذب الرائد اه
قال الزبير ثم إن الأنصار أصلحوا بين هذين الرجلين و بين أصحابهما ثم اجتمعت جماعة من قريش يوما و فيهم ناس من الأنصار و أخلاط من المهاجرين و ذلك بعد انصراف الأنصار عن رأيها و سكون الفتنة فاتفق ذلك عند قدوم عمرو بن العاص من سفر كان فيه فجاء إليهم فأفاضوا في ذكر يوم السقيفة و سعد و دعواه الأمر فقال عمرو بن العاص و الله لقد دفع الله عنا من الأنصار عظيمة و لما دفع الله عنهم أعظم كادوا و الله أن يحلوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه و يخرجوا منه من أدخلوا فيه و الله لئن كانوا سمعوا
قول رسول الله ص الأئمة من قريش
ثم ادعوها لقد هلكوا و أهلكوا و إن كانوا لم يسمعوها فما هم كالمهاجرين و لا كأبي بكر و لا المدينة شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 30كمكة و لقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء و لو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة فلم يجبه أحد و انصرف إلى منزله و قد ظفر فقالألا قل لأوس إذا جئتها و قل كلما جئت للخزرج تمنيتم الملك في يثرب فأنزلت القدر لم تنضج و أخدجتم الأمر قبل التمام و أعجب بذا المعجل المخدج تريدون نتج الحيال العشار و لم تلقحوه فلم ينتج عجبت لسعد و أصحابه و لو لم يهيجوه لم يهتج رجا الخزرجي رجاء السراب و قف المرء ما يرتجي فكان كمنح على كفه بكف يقطعها أهوجفلما بلغ الأنصار مقالته و شعره بعثوا إليه لسانهم و شاعرهم النعمان بن العجلان و كان رجلا أحمر قصيرا تزدريه العيون و كان سيدا فخما فأتى عمرا و هو في جماعة من قريش فقال و الله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلا ما كرهنا من حربكم و ما كان الله ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه

(7/27)


إن كان النبي ص قال الأئمة من قريش فقد قال لو سلك الناس شعبا و سلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار
و الله ما أخرجناكم من الأمر إذ قلنا منا أمير و منكم أمير و أما من ذكرت فأبو بكر لعمري خير من سعد لكن سعدا في الأنصار أطوع من أبي بكر في قريش فأما المهاجرون و الأنصار فلا فرق بينهم أبدا و لكنك يا ابن العاص وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة لقتل جعفر و أصحابه و وترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ثم انصرف فقال شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 3فقل لقريش نحن أصحاب مكة و يوم حنين و الفوارس في بدرو أصحاب أحد و النضير و خيبر و نحن رجعنا من قريظة بالذكرو يوم بأرض الشام أدخل جعفر و زيد و عبد الله في علق يجري و في كل يوم ينكر الكلب أهله نطاعن فيه بالمثقفة السمرو نضرب في نقع العجاجة أرؤسا ببيض كأمثال ابروق إذا تسري نصرنا و آوينا النبي و لم نخف صروف الليالي و العظيم من الأمرو قلنا لقوم هاجروا قبل مرحبا و أهلا و سهلا قد أمنتم من الفقرنقاسمكم أموالنا و بيوتنا كقسمة أيسار الجزور على الشطرو نكفيكم الأمر الذي تكرهونه و كنا أناسا نذهب العسر باليسرو قلتم حرام صب سعد و نصبكم عتيق بن عثمان حلال أبا بكرو أهل أبو بكر لها خير قائم و إن عليا كان أخلق بالأمرو كان هوانا في علي و إنه لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى و ينهى عن الفحشاء و البغي و النكروصي النبي المصطفى و ابن عمه و قاتل فرسان اضلالة و الكفرو هذا بحمد الله يهدي من العمى و يفتح آذانا ثقلن من الوقرنجي رسول الله في الغار وحده و صاحبه الصديق في سالف الدهرفلو لا اتقاء الله لم تذهبوا بها و لكن هذا الخير أجمع للصبرو لم نرض إلا بالرضا و لربما ضربنا بأيدينا إلى أسفل القدر

(7/28)


فلما انتهى شعر النعمان و كلامه إلى قريش غضب كثير منها و ألفى ذلك قدوم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن و كان رسول الله استعمله عليها و كان له و لأخيه أثر قديم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 32عظيم في الإسلام و هما من أول من أسلم من قريش و لهما عبادة و فضل فغضب أنصار و شتم عمرو بن العاص و قال يا معشر قريش إن عمرا دخل في الإسلام حين لم يجد بدا من الدخول فيه فلما لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه و إن من كيده الإسلام تفريقه و قطعه بين المهاجرين و الأنصار و الله ما حاربناهم للدين و لا للدنيا لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا و ما بذلنا دماءنا لله فيهم و قاسمونا ديارهم و أموالهم و ما فعلنا مثل ذلك بهم و آثرونا على الفقر و حرمناهم على الغنى و لقد وصى رسول الله بهم و عزاهم عن جفوة السلطان فأعوذ بالله أن أكون و إياكم الخلف المضيع و السلطان الجاني. قلت هذا خالد بن سعيد بن العاص هو الذي امتنع من بيعة أبي بكر و قال لا أبايع إلا عليا و قد ذكرنا خبره فيما تقدم. و أما قوله في الأنصار و عزاهم عن جفوة السلطان فإشارة إلى
قول النبي ص ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تقدموا علي الحوض
و هذا الخبر هو الذي يكفر كثير من أصحابنا معاوية بالاستهزاء به و ذلك أن النعمان بن بشير الأنصاري جاء في جماعة من الأنصار إلى معاوية فشكوا إليه فقرهم و
قالوا لقد صدق رسول الله ص في قوله لنا ستلقون بعدي أثرة فقد لقيناها قال معاوية فما ذا قال لكم قالوا قال لنا فاصبروا حتى تردوا علي الحوض
قال فافعلوا ما أمركم به عساكم تلاقونه غدا عند الحوض كما أخبركم و حرمهم و لم يعطهم شيئا. قال الزبير و قال خالد بن سعيد بن العاص في ذلك

(7/29)


تفوه عمرو بالذي لا نريده و صرح للأنصار عن شنأة البغض فإن تكن الأنصار زلت فإننا نقيل و لا نجزيهم بالقرض شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 33فلا تقطعن يا عمرو ما كان بيننا و لا تحملن يا عمرو بعضا على بعض أ تنسى لهم يا عمرو ما كان منهم ليالي جئناهم من النفل و الفرض و قسمتنا الأموال كاللحم بالمدى و قسمتنا الأوطان كل به يقضي ليالي كل الناس بالكفر جهرة ثقال علينا م على البغض فساووا و آووا و انتهينا إلى المنى و قر قرارانا من الأمن و الخفضقال الزبير ثم إن رجالا من سفهاء قريش و مثيري الفتن منهم اجتمعوا إلى عمرو بن العاص فقالوا له إنك لسان قريش و رجلها في الجاهلية و الإسلام فلا تدع الأنصار و ما قالت و أكثروا عليه من ذلك فراح إلى المسجد و فيه ناس من قريش و غيرهم فتكلم و قال إن الأنصار ترى لنفسها ما ليس لها و ايم الله لوددت أن الله خلى عنا و عنهم و قضى فيهم و فينا بما أحب و لنحن الذين أفسدنا على أنفسنا أحرزناهم عن كل مكروه و قدمناهم إلى كل محبوب حتى أمنوا المخوف فلما جاز لهم ذلك صغروا حقنا و لم يراعوا ما أعظمنا من حقوقهم. ثم التفت فرأى الفضل بن العباس بن عبد المطلب و ندم على قوله للخئولة التي بين ولد عبد المطلب و بين الأنصار و لأن الأنصار كانت تعظم عليا و تهتف باسمه حينئذ فقال الفضل يا عمرو إنه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك و ليس لنا أن نجيبك و أبو الحسن شاهد بالمدينة إلا أن يأمرنا فنفعل. ثم رجع الفضل إلى علي فحدثه فغضب و شتم عمرا و قال آذى الله و رسوله ثم قام فأتى المسجد فاجتمع إليه كثير من قريش و تكلم مغضبا

(7/30)


فقال يا معشر قريش إن حب الأنصار إيمان و بغضهم نفاق و قد قضوا ما عليهم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 34و بقي ما عليكم و اذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة فنقله إلى المدينة و كره له قريشا فنقله إلى الأنصار ثم قدمنا عليهم دارهم فقاسمونا الأموال و كفونا العمل فصا منهم بين بذل الغني و إيثار الفقير ثم حاربنا الناس فوقونا بأنفسهم و قد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن جمع لهم فيها بين خمس نعم فقال وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ألا و إن عمرو بن العاص قد قام مقاما آذى فيه الميت و الحي ساء به الواتر و سر به الموتور فاستحق من المستمع الجواب و من الغائب المقت و إنه من أحب الله و رسوله أحب الأنصار فليكفف عمرو عنا نفسه
قال الزبير فمشت قريش عند ذلك إلى عمرو بن العاص فقالوا أيها الرجل أما إذا غضب علي فاكفف. و قال خزيمة بن ثابت الأنصاري يخاطب قريشا
أيا ل قريش أصلحوا ذات بيننا و بينكم قد طال حبل التماحك فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا و لا خير فينا بعد فهر بن مالك كلانا على الأعداء كف طويلة إذا كان يوم فيه جب الحوارك فلا تذكروا ما كان منا و منكم ففي ذكر ما قد كان مشي التسا قال الزبير و قال علي للفضل يا فضل انصر الأنصار بلسانك و يدك فإنهم منك و إنك منهم
فقال الفضل
قلت يا عمرو مقالا فاحشا إن تعد يا عمرو و الله فلك

(7/31)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 35إنما الأنصار سيف قاطع من تصبه ظبة السيف هلك و سيوف قاطع مضربها و سهام الله في يوم الحلك نصروا الدين و آووا أهله منزل رحب و رزق مشترك و إذا الحرب تلظت نارها بركوا فيها إذا الموتو دخل الفضل على علي فأسمعه شعره ففرح به و قال وريت بك زنادي يا فضل أنت شاعر قريش و فتاها فأظهر شعرك و ابعث به إلى الأنصار فلما بلغ ذلك الأنصار قالت لا أحد يجيب إلا حسان الحسام فبعثوا إلى حسان بن ثابت فعرضوا عليه شعر الفضل فقال كيف أصنع بجوابه إن لم أتحر قوافيه فضحني فرويدا حتى أقفو أثره في القوافي فقال له خزيمة بن ثابت اذكر عليا و آله يكفك عن كل شي ء فقال جزى الله عنا و الجزاء بكفه أبا حسن عنا و من كأبي حسن سبقت قريشا بالذي أنت أهله فصدرك مشروح و قلبك ممتحن تمنت رجال من قريش أعزة مكانك هيهات الهزال من السمن و أنت من الإسلام في كل موطن بمنزلة الدلو البطين من الرسن غضبت لنا إذ قام عمرو بخطبة أمات بها التق أحيا بها الإحن فكنت المرجى من لؤي بن غالب لما كان منهم و الذي كان لم يكن حفظت رسول الله فينا و عهده إليك و من أولى به منك من و من أ لست أخاه في الهدى و وصيه و أعلم منهم بالكتاب و بالسنن فحقك ما دامت بنجد وشيجة عظيم علينا ثم بعد على ال قال الزبير و بعثت الأنصار بهذا الشعر إلى علي بن أبي طالب فخرج إلى المسجد شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 36و قال لمن به من قريش و غيرهم يا معشر قريش إن الله جعل الأنصار أنصارا فأثنى عليهم في الكتاب فلا خير فيكم بعدهم إنه لا يزال سفيه من سفهاء قريش وتره الإسلاو دفعه عن الحق و أطفأ شرفه و فضل غيره عليه يقوم مقاما فاحشا فيذكر الأنصار فاتقوا الله و ارعوا حقهم فو الله لو زالوا لزلت معهم لأن رسول الله قال لهم أزول معكم حيثما زلتم

(7/32)


فقال المسلمون جميعا رحمك الله يا أبا الحسن قلت قولا صادقا. قال الزبير و ترك عمرو بن العاص المدينة و خرج عنها حتى رضي عنه علي و المهاجرون قال الزبير ثم إن الوليد بن عقبة بن أبي معيط و كان يبغض الأنصار لأنهم أسروا أباه يوم بدر و ضربوا عنقه بين يدي رسول الله قام يشتم الأنصار و ذكرهم بالهجر فقال إن الأنصار لترى لها من الحق علينا ما لا نراه و الله لئن كانوا آووا لقد عزوا بنا و لئن كانوا آسوا لقد منوا علينا و الله ما نستطيع مودتهم لأنه لا يزال قائل منهم يذكر ذلنا بمكة و عزنا بالمدينة و لا ينفكون يعيرون موتانا و يغيظون أحياءنا فإن أجبناهم قالوا غضبت قريش على غاربها و لكن قد هون علي ذلك منهم حرصهم على الدين أمس و اعتذارهم من الذنب اليوم ثم قال
تباذخت الأنصار في الناس باسمها و نسبتها في الأزد عمرو بن عامرو قالوا لنا حق عظيم و منة على كل باد من معد و حاضرفإن يك للأنصار فضل فلم تنل بحرمته الأنصار فضل المهاجرو إن تكن الأنصار آوت و قاسمت معايشها من جاء قسمة جازرفقد أفسدت ما كان منها بمنها و ما ذاك فعل الأكرمين الأكابرإذا قال حسان و كعب قصيدة بشتم قريش غنيت في المعاشرو سار بها الركبان في كل وجهة و أعمل فيها كل خف و حافر

(7/33)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 37فهذا لنا من كل صاحب خطبة يقوم بها منكم و من كل شاعرو أهل بأن يهجو بكل قصيدة و أهل بأن يرموا بنبل فواققال ففشا شعره في الناس فغضبت الأنصار و غضب لها من قريش قوم منهم ضرار بن الخطاب الفهري و زيد بن الخطاب و يزيد بن أبي سفيان فبعثوا إلى الوليد فجاء. فتكلم زيد بن الخطاب فقال يا ابن عقبة بن أبي معيط أما و الله لو كنت من الفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا لأحببت الأنصار و لكنك من الجفاة في الإسلام البطاء عنه الذين دخلوا فيه بعد أن ظهر أمر الله و هم كارهون إنا نعلم أنا أتيناهم و نحن فقراء فأغنونا ثم أصبنا الغنى فكفوا عنا و لم يرزءونا شيئا فأما ذكرهم ذلة قريش بمكة و عزها بالمدينة فكذلك كنا و كذلك قال الله تعالى وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فنصرنا الله تعالى بهم و آوانا إلى مدينتهم. و أما غضبك لقريش فإنا لا ننصر كافرا و لا نواد ملحدا و لا فاسقا و لقد قلت و قالوا فقطعك الخطيب و ألجمك الشاعر. و أما ذكرك الذي كان بالأمس فدع المهاجرين و الأنصار فإنك لست من ألسنتهم في الرضا و لا نحن من أيديهم في الغضب. و تكلم يزيد بن أبي سفيان فقال يا ابن عقبة الأنصار أحق بالغضب لقتلى أحد فاكفف لسانك فإن من قتله الحق لا يغضب له. و تكلم ضرار بن الخطاب فقال أما و الله لو لا

(7/34)


أن رسول الله ص قال شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 38الأئمة من قريشلقلنا الأئمة من الأنصار و لكن جاء أمر غلب الرأي فاقمع شرتك أيها الرجل و لا تكن امرأ سوء فإن الله لم يفرق بين الأنصار و المهاجرين في الدنيا و كذلك الله لا يفرق بينهم في الآخرة. و أقبل حسان بن ثابت مغضبا من كلام الوليد بن عقبة و شعره فدخل المسجد و فيه قوم من قريش فقال يا معشر قريش إن أعظم ذنبنا إليكم قتلنا كفاركم و حمايتنا رسول الله ص و إن كنتم تنقمون منا منة كانت بالأمس فقد كفى الله شرها فما لنا و ما لكم و الله ما يمنعنا من قتالكم الجبن و لا من جوابكم العي إنا لحي فعال و مقال و لكنا قلنا إنها حرب أولها عار و آخرها ذل فأغضينا عليها عيوننا و سحبنا ذيولنا حتى نرى و تروا فإن قلتم قلنا و إن سكتم سكتنا. فلم يجبه أحد من قريش ثم سكت كل من الفريقين عن صاحبه و رضي القوم أجمعون و قطعوا الخلاف و العصبية. انتهى ما ذكره الزبير بن بكار في الموفقيات و نعود الآن إلى ذكر ما أورده أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة. قال أبو بكر حدثني أبو يوسف يعقوب بن شيبة عن بحر بن آدم عن رجاله عن سالم بن عبيد قال لما توفي رسول الله و قالت الأنصار منا أمير و منكم أمير أخذ عمر بيد أبي بكر و قال سيفان في غمد واحد إذا لا يصلحان ثم قال من له هذه الثلاث ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ من هما إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ من صاحبه إِنَّ اللَّهَ مَعَنا مع من ثم بسط يده إلى أبي بكر فبايعه فبايعه الناس أحسن بيعة و أجملها. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 39قال أبو بكر حدثنا أحمد بعبد الجبار العطاردي عن أبي بكر بن عياش عن زيد بن عبد الله قال إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد ع خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه و ابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب الأمم بعد قلبه فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه فما

(7/35)


رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن و ما رأى المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ. قال أبو بكر بن عياش و قد رأى المسلمون أن يولوا أبا بكر بعد النبي ص فكانت ولايته حسنة. قال أبو بكر و حدثنا يعقوب بن شيبة قال لما قبض رسول الله ص و قال الأنصار منا أمير و منكم أمير قال عمر أيها الناس أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ص في الصلاة رضيك الله لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني زيد بن يحيى الأنماطي قال حدثنا صخر بن جويرية عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال أخذ أبو بكر بيد عمر و يد رجل من المهاجرين يرونه أبا عبيدة حتى انطلقوا إلى الأنصار و قد اجتمعوا عند سعد في سقيفة بني ساعدة فقال عمر قلت لأبي بكر دعني أتكلم و خشيت جد أبي بكر و كان ذا جد فقال أبو بكر لا بل أنا أتكلم فما هو و الله إلا أن انتهينا إليهم فما كان في نفسي شي ء أريد أن أقوله إلا أتى أبو بكر عليه فقال لهم يا معشر الأنصار ما ينكر حقكم مسلم إنا و الله ما أصبنا خيرا قط إلا شركتمونا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 40فيه لقد آويتم و نصرتم و آزرتم و واسيتم و لكن قد علمتم أن العرب لا تقر و لا تطيع إلا لامرئ من قريش هم رهط النبي ص أوسط العرب وشيجة رحم و أوسط الناس دارا و أعرب الناس ألسنا و أصبح الناس أوجها و قد عرفتم بلاء ابن الخطاب في الإسل و قدمه هلم فلنبايعه. قال عمر بل إياك نبايع قال عمر فكنت أول الناس مد يده إلى أبي بكر فبايعه إلا رجلا من الأنصار أدخل يده بين يدي و يد أبي بكر فبايعه قبلي و وطئ الناس فراش سعد فقيل قتلتم سعدا فقال عمر قتل الله سعدا فوثب رجل من الأنصار فقال أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب فأخذ و وطئ في بطنه و دسوا في فيه التراب. قال أبو بكر و حدثني يعقوب عن محمد بن جعفر عن محمد بن إسماعيل عن مختار اليمان عن عيسى بن زيد قال لما بويع أبو بكر جاء أبو سفيان إلى علي فقال

(7/36)


أ غلبكم على هذا الأمر أذل بيت من قريش و أقلها أما و الله لئن شئت لأملأنها على أبي فصيل خيلا و رجلا و لأسدنها عليه من أقطارها فقال علي يا أبا سفيان طالما كدت الإسلام و أهله فما ضرهم شيئا أمسك عليك فإنا رأينا أبا بكر لها أهلا. قال أبو بكر و حدثنا يعقوب عن رجاله قال لما بويع أبو بكر تخلف علي فلم يبايع فقيل لأبي بكر إنه كره إمارتك فبعث إليه أ كرهت إمارتي قال لا و لكن القرآن خشيت أن يزاد فيه فحلفت ألا أرتدي رداء حتى أجمعه اللهم إلا إلى صلاة الجمعة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 41فقال أبو بكر لقد أحسنت قال فكتبه ع كما أنزل بناسخه و منسوخه. قال أبو بكر حدثنا يعقوب عن أبيلنضر عن محمد بن راشد عن مكحول أن رسول الله ص استعمل خالد بن سعيد بن العاص على عمل فقدم بعد ما قبض رسول الله ص و قد بايع الناس أبا بكر فدعاه إلى البيعة فأبى فقال عمر دعني و إياه فمنعه أبو بكر حتى مضت عليه سنة ثم مر به أبو بكر و هو جالس على بابه فناداه خالد يا أبا بكر هل لك في البيعة قال نعم قال فادن فدنا منه فبايعه خالد و هو قاعد على بابه.
قال أبو بكر و حدثنا أبو يوسف يعقوب بن شيبة عن خالد بن مخلد عن يحيى بن عمر قال حدثني أبو جعفر الباقر قال جاء أعرابي إلى أبي بكر على عهد رسول الله ص و قال له أوصني فقال لا تأمر على اثنين ثم إن الأعرابي شخص إلى الربذة فبلغه بعد ذلك وفاة رسول الله ص فسأل عن أمر الناس من وليه فقيل أبو بكر فقدم الأعرابي إلى المدينة فقال لأبي بكر أ لست أمرتني ألا أتأمر على اثنين قال بلى قال فما بالك فقال أبو بكر لم أجد لها أحدا غيري أحق مني قال ثم رفع أبو جعفر الباقر يديه و خفضهما فقال صدق صدق

(7/37)


قال أبو بكر و قد روي هذا الخبر برواية أتم من هذه الرواية حدثنا يعقوب بن شيبة قال حدثنا يحيى بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن سليمان الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن رافع بن أبي رافع الطائي قال بعث رسول الله ص جيشا فأمر عليهم عمرو بن العاص و فيهم أبو بكر و عمر و أمرهم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 42أن يستنفروا من مروا به فمروا علينا فاستنفرونا فنفرنا معهم في غزاة ذات السلاسل و هي التي تفخر بها أهل الشام فيقولون استعمل رسول الله ص عمرو بن العاص على جيش فيه أبو بكر و عمر قال فقلت و الله لأختارن في هذهلغزاة لنفسي رجلا من أصحاب رسول الله ص أستهديه فإني لست أستطيع إتيان المدينة فاخترت أبا بكر و لم آل و كان له كساء فدكي يخله عليه إذا ركب و يلبسه إذا نزل و هو الذي عيرته به هوازن بعد النبي ص و قالوا لا نبايع ذا الخلال قال فلما قضينا غزاتنا قلت له يا أبا بكر إني قد صحبتك و إن لي عليك حقا فعلمني شيئا أنتفع به فقال قد كنت أريد ذلك لو لم تقل لي تعبد الله لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة المكتوبة و تؤدي الزكاة المفروضة و تحج البيت و تصوم شهر رمضان و لا تتأمر على رجلين فقلت أما العبادات فقد عرفتها أ رأيت نهيك لي عن الإمارة و هل يصيب الناس الخير و الشر إلا بالإمارة فقال إنك استجهدتني فجهدت لك إن الناس دخلوا في الإسلام طوعا و كرها فأجارهم الله من الظلم فهم جيران الله و عواد الله و في ذمة الله فمن يظلم منكم إنما يحقر ربه و الله إن أحدكم ليأخذ شويهة جاره أو بعيره فيظل عمله بأسا بجاره و الله من وراء جاره قال فلم يلبث إلا قليلا حتى أتتنا وفاة رسول الله ص فسألت من استخلف بعده قيل أبو بكر قلت أ صاحبي الذي كان ينهاني عن الإمارة فشددت على راحلتي فأتيت المدينة فجعلت أطلب خلوته حتى قدرت عليها فقلت أ تعرفني أنا فلان بن فلان أ تعرف وصية أوصيتني بها قال نعم إن رسول الله قبض و الناس حديثو عهد

(7/38)


بالجاهلية فخشيت أن يفتتنوا و أن أصحابي حملونيها فما زال يعتذر إلي حتى عذرته و صار من أمري بعد أن صرت عريفا.
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة عن رجاله عن الشعبي قال قام الحسن بن علي ع إلى أبي بكر و هو يخطب على المنبر فقال له انزل عن منبر أبي فقال شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 43أبو بكر صدقت و الله إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي فبعث علي إلى أبي بكر إنه غلام حدث إنا لم نأمره فقال أبو بكر صدقت إنا لم نتهمك
قال أبو بكر و روى أبو زيد عن حباب بن يزيد عن جرير عن المغيرة أن سلمان و الزبير و بعض الأنصار كان هواهم أن يبايعوا عليا بعد النبي ص فلما بويع أبو بكر قال سلمان للصحابة أصبتم الخير و لكن أخطأتم المعدن قال و في رواية أخرى أصبتم ذا السن منكم و لكنكم أخطأتم أهل بيت نبيكم أما لو جعلتموها فيهم ما اختلف منكم اثنان و لأكلتموها رغدا. قلت هذا الخبر هو الذي رواه المتكلمون في باب الإمامة عن سلمان أنه قال كرديد و نكرديد تفسره الشيعة فتقول أراد أسلمتم و ما أسلمتم و يفسره أصحابنا فيقولون معناه أخطأتم و أصبتم. قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا غسان بن عبد الحميد قال لما أكثر في تخلف علي عن البيعة و اشتد أبو بكر و عمر في ذلك خرجت أم مسطح بن أثاثة فوقفت عند قبر النبي ص و نادته يا رسول الله

(7/39)


قد كان بعدك أنباء و هينمة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب إنا فقدناك فقد الأرض وابلها فاختل قومك فاشهدهم و لا تغبقال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز و سمعت أبا زيد عمر بن شبة يحدث رجلا بحديث لم أحفظ إسناده قال مر المغيرة بن شعبة بأبي بكر و عمر و هما جالسان على باب النبي حين قبض فقال ما يقعدكما قالا ننتظر هذا الرجل يخرج فنبايعه يعنيان عليا فقال أ تريدون أن تنظروا حبل الحبلة من أهل هذا البيت وسعوها في قريش تتسع. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 44قال فقاما إلى سقيفة بني ساعدة أو كلاما هذا معناه. قال أبو بكر و أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبد الملك الواسطي عن يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أنس بن مالك قال لما مرض رسول الله مرضه الذي مات فيه أتاه بلال يؤذنه بالصلاة فقال بعد مرتين يا بلال قد أبلغت فمن شاء فليصل بالناس و من شاء فليدع
قال و رفعت الستور عن رسول الله فنظرنا إليه كأنه ورقة بيضاء و عليه خميصة له فرجع إليه بلال فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس قال فما رأيناه بعد ذلك ع. و قال أبو بكر و حدثني أبو الحسن علي بن سليمان النوفلي قال سمعت أبيا يقول ذكر سعد بن عبادة يوما عليا بعد يوم السقيفة فذكر أمرا من أمره نسيه أبو الحسن يوجب ولايته فقال له ابنه قيس بن سعد أنت سمعت رسول الله ص يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب ثم تطلب الخلافة و يقول أصحابك منا أمير و منكم أمير لا كلمتك و الله من رأسي بعد هذا كلمة أبدا.

(7/40)


قال أبو بكر و حدثني أبو الحسن علي بن سليمان النوفلي قال حدثني أبي قال حدثني شريك بن عبد الله عن إسماعيل بن خالد عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال قال علي كنت مع الأنصار لرسول الله ص على السمع و الطاعة له في المحبوب و المكروه فلما عز الإسلام و كثر أهله قال يا علي زد فيها على أن تمنعوا رسول الله و أهل بيته مما تمنعون منه أنفسكم و ذراريكم قال فحملها على ظهور القوم فوفى بها من وفى و هلك من هلك
قلت هذا يطابق ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين أن شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 45جعفر بن محمد ع وقف مستترا في خفية يشاهد المحامل التي حمل عليها عبد الله بن الحسن و أهله في القيود و الحديد من المدينة إلى العراق فلما مروا به بكى و قال ما وفالأنصار و لا أبناء الأنصار لرسول الله ص بايعهم على أن يمعنوا محمدا و أبناءه و أهله و ذريته مما يمنعون منه أنفسهم و أبناءهم و أهلهم و ذراريهم فلم يفوا اللهم اشدد وطأتك على الأنصار
قال أبو بكر و حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد قال حدثنا أحمد بن الحكم قال حدثنا عبد الله بن وهب عن ليث بن سعد قال تخلف علي عن بيعة أبي بكر فأخرج ملببا يمضى به ركضا و هو يقول معاشر المسلمين علام تضرب عنق رجل من المسلمين لم يتخلف لخلاف و إنما تخلف لحاجة فما مر بمجلس من المجالس إلا يقال له انطلق فبايع
قال أبو بكر و حدثنا علي بن جرير الطائي قال حدثنا ابن فضل عن الأجلح عن حبيب بن ثعلبة بن يزيد قال سمعت عليا يقول أما و رب السماء و الأرض ثلاثا إنه لعهد النبي الأمي إلي لتغدرن بك الأمة من بعدي

(7/41)


قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد عمر بن شبة بإسناد رفعه إلى ابن عباس قال إني لأماشي عمر في سكة من سكك المدينة يده في يدي فقال يا ابن عباس ما أظن صاحبك إلا مظلوما فقلت في نفسي و الله لا يسبقني بها فقلت يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته فانتزع يده من يدي ثم مر يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته فقال لي يا ابن عباس ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم استصغروه فقلت في نفسي هذه شر من الأولى فقلت و الله ما استصغره الله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 46ذكر أمر فاطمة مع أبي بكرفأما ما رواه البخاري و مسلم في الصحيحين من كيفية المبايعة لأبي بكر بهذا اللفظ الذي أورده عليك
و لإسناد إلى عائشة أن فاطمة و العباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من النبي ص و هما حينئذ يطلبان أرضه من فدك و سهمه من خيبر فقال لهما أبو بكر إني سمعت رسول الله ص يقول إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال
و إني و الله لا أدع أمرا رأيت رسول الله ص يصنعه إلا صنعته فهجرته فاطمة و لم تكلمه في ذلك حتى ماتت فدفنها علي ليلا و لم يؤذن بها أبا بكر و كان لعلي وجه من الناس في حياة فاطمة فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي فمكثت فاطمة ستة أشهر ثم توفيت فقال رجل للزهري و هو الراوي لهذا الخبر عن عائشة فلم يبايعه على ستة أشهر قال و لا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي فلما رأى ذلك ضرع إلى مبايعة أبي بكر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا و لا يأت معك أحد و كره أن يأتيه عمر لما عرف من شدته فقال عمر لا تأتهم وحدك فقال أبو بكر و الله لآتينهم وحدي و ما عسى أن يصنعوا بي فانطلق أبو بكر حتى دخل على علي و قد جمع بني هاشم عنده

(7/42)


فقام علي فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنه لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضلك و لا منافسة لخير ساقه الله إليك و لكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم به علينا
و ذكر قرابته من رسول الله ص و حقه فلم يزل علي يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر فلما صمت علي تشهد أبو بكر فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 47فو الله لقرابة رسول الله ص أحب إلي أن أصلها من قرابتي و إني و الله ما آلوكم من ه الأموال التي كانت بيني و بينكم إلا الخير
و لكني سمعت رسول الله ص يقول لا نورث ما تركناه صدقة و إنما يأكل آل محمد في هذا المال

(7/43)


و إني و الله لا أترك أمرا صنعه رسول الله ص إلا صنعته إن شاء الله قال علي موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس ثم عذر عليا ببعض ما اعتذر به ثم قام علي فعظم من حق أبي بكر و ذكر فضله و سابقته ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه فأقبل الناس إلى علي فقالوا أصبت و أحسنت و كان علي قريبا إلى الناس حين قارب الأمر بالمعروف. و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز قال حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني إبراهيم بن المنذر قال حدثنا ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي الأسود قال غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة و غضب علي و الزبير فدخلا بيت فاطمة معهما السلاح فجاء عمر في عصابة فيهم أسيد بن حضير و سلمة بن سلامة بن قريش و هما من بني عبد الأشهل فاقتحما الدار فصاحت فاطمة و ناشدتهما الله فأخذوا سيفيهما فضربوا بهما الحجر حتى كسروهما فأخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا. ثم قام أبو بكر فخطب الناس فاعتذر إليهم و قال إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها و خشيت الفتنة و ايم الله ما حرصت عليها يوما قط و لا سألتها الله في سر و لا علانية قط و لقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة و لا يدان و لقد وددت أن أقوى الناس عليه مكاني. شرح نهج الاغة ج : 6 ص : 48فقبل المهاجرون و قال علي و الزبير ما غضبنا إلا في المشورة و إنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها إنه لصاحب الغار و ثاني اثنين و إنا لنعرف له سنه و لقد أمره رسول الله ص بالصلاة و هو حي. قال أبو بكر و ذكر ابن شهاب بن ثابت أن قيس بن شماس أخا بني الحارث من الخزرج كان مع الجماعة الذين دخلوا بيت فاطمة. قال و روى سعد بن إبراهيم أن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر ذلك اليوم و أن محمد بن مسلمة كان معهم و أنه هو الذي كسر سيف الزبير. قال أبو بكر و حدثني أبو زيد عمر بن شبة عن رجاله قال جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار و نفر قليل من المهاجرين فقال و الذي نفسي بيده

(7/44)


لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم فخرج إليه الزبير مصلتا بالسيف فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري و رجل آخر فندر السيف من يده فضرب به عمر الحجر فكسره ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا حتى بايعوا أبا بكر. قال أبو زيد و روى النضر بن شميل قال حمل سيف الزبير لما ندر من يده إلى أبي بكر و هو على المنبر يخطب فقال اضربوا به الحجر قال أبو عمرو بن حماس و لقد رأيت الحجر و فيه تلك الضربة و الناس يقولون هذا أثر ضربة سيف الزبير. قال أبو بكر و أخبرني أبو بكر الباهلي عن إسماعيل بن مجالد عن الشعبي قال قال أبو بكر يا عمر أين خالد بن الوليد قال هو هذا فقال انطلقا إليهما يعني عليا و الزبير فأتياني بهما فانطلقا فدخل عمر و وقف خالد على الباب من خارج فقال عمر للزبير ما هذا السيف قال أعددته لأبايع عليا قال و كان في البيت ناس كثير منهم المقداد بن الأسود و جمهور الهاشميين فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 49فكسره ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه فأخرجه و قال يا خالد دونك هذا فأمسكه خالد و كان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس أرسلهم أ بكر ردءا لهما ثم دخل عمر فقال لعلي قم فبايع فتلكأ و احتبس فأخذ بيده و قال قم فأبى أن يقوم فحمله و دفعه كما دفع الزبير ثم أمسكهما خالد و ساقهما عمر و من معه سوقا عنيفا و اجتمع الناس ينظرون و امتلأت شوارع المدينة بالرجال
و رأت فاطمة ما صنع عمر فصرخت و ولولت و اجتمع معها نساء كثير من الهاشميات و غيرهن فخرجت إلى باب حجرتها و نادت يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله و الله لا أكلم عمر حتى ألقى الله

(7/45)


قال فلما بايع علي و الزبير و هدأت تلك الفورة مشى إليها أبو بكر بعد ذلك فشفع لعمر و طلب إليها فرضيت عنه. قال أبو بكر و حدثني المؤمل بن جعفر قال حدثني محمد بن ميمون قال حدثني داود بن المبارك قال أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ع و نحن راجعون من الحج في جماعة فسألناه عن مسائل و كنت أحد من سأله فسألته عن أبي بكر و عمر فقال أجيبك بما أجاب به جدي عبد الله بن الحسن فإنه سئل عنهما فقال كانت أمنا صديقة ابنة نبي مرسل و ماتت و هي غضبى على قوم فنحن غضاب لغضبها. قلت قد أخذ هذا المعنى بعض شعراء الطالبيين من أهل الحجاز أنشدنيه النقيب جلال الدين عبد الحميد بن محمد بن عبد الحميد العلوي قال أنشدني هذا الشاعر لنفسه و ذهب عني اسمه قال
يا أبا حفص الهوينى و ما كنت مليا بذاك لو لا الحمام

(7/46)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 50أ تموت البتول غضبى و نرضى ما كذا يصنع البنون الكرايخاطب عمر و يقول له مهلا و رويدا يا عمر أي ارفق و اتئد و لا تعنف بنا و ما كنت مليا أي و ما كنت أهلا لأن تخاطب بهذا و تستعطف و لا كنت قادرا على ولوج دار فاطمة على ذلك الوجه الذي ولجتها عليه لو لا أن أباها الذي كان بيتها يحترم و يصان لأجله مات فطمع فيها من لم يكن يطمع ثم قال أ تموت أمنا و هي غضبى و نرضى نحن إذا لسنا بكرام فإن الولد الكريم يرضى لرضا أبيه و أمه و يغضب لغضبهما. و الصحيح عندي أنها ماتت و هي واجدة على أبي بكر و عمر و أنها أوصت ألا يصليا عليها و ذلك عند أصحابنا من الأمور المغفورة لهما و كان الأولى بهما إكرامها و احترام منزلها لكنهما خافا الفرقة و أشفقا من الفتنة ففعلا ما هو الأصلح بحسب ظنهما و كانا من الدين و قوة اليقين بمكان مكين لا شك في ذلك و الأمور الماضية يتعذر الوقوف على عللها و أسبابها و لا يعلم حقائقها إلا من قد شاهدها و لابسها بل لعل الحاضرين المشاهدين لها يعلمون باطن الأمر فلا يجوز العدول عن حسن الاعتقاد فيهما بما جرى و الله ولي المغفرة و العفو فإن هذا لو ثبت أنه خطأ لم يكن كبيرة بل كان من باب الصغائر التي لا تقتضي التبرؤ و لا توجب زوال التولي. قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن حاتم عن رجاله عن ابن عباس قال مر عمر بعلي و أنا معه بفناء داره فسلم عليه فقال له علي أين تريد قال البقيع قال أ فلا تصل صاحبك و يقوم معك قال بلى فقال لي علي قم معه فقمت فمشيت إلى جانبه فشبك أصابعه في أصابعي و مشينا قليلا حتى إذا خلفنا البقيع قال لي يا ابن عباس أما و الله إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله ص إلا أنا خفناه على اثنين قال ابن عباس فجاء بكلام لم أجد بدا من شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 51مسألته عنه فقلت ما هما يا أمير المؤمنين قال خفناه على حداثة سنه و حبه بني

(7/47)


عبد المطلب. قالبو بكر و حدثني أبو زيد قال حدثني محمد بن عباد قال حدثني أخي سعيد بن عباد عن الليث بن سعد عن رجاله عن أبي بكر الصديق أنه قال ليتني لم أكشف بيت فاطمة و لو أعلن علي الحرب.
قال أبو بكر و حدثنا الحسن بن الربيع عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن علي بن عبد الله بن العباس عن أبيه قال لما حضرت رسول الله ص الوفاة و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال رسول الله ص ائتوني بدواة و صحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي
فقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول الله ص ثم قال عندنا القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف من في البيت و اختصموا فمن قائل يقول القول ما قال رسول الله ص و من قائل يقول القول ما قال عمر فلما أكثروا اللغط و اللغو و الاختلاف غضب رسول الله
فقال قوموا إنه لا ينبغي لنبي أن يختلف عنده هكذا
فقاموا فمات رسول الله ص في ذلك اليوم
فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بيننا و بين كتاب رسول الله ص
يعني الاختلاف و اللغط. قلت هذا الحديث قد خرجه الشيخان محمد بن إسماعيل البخاري و مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحيهما و اتفق المحدثون كافة على روايته.
قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد عن رجاله عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 52ص إن تولوها أبا بكر تجدوه ضعيفا في بدنه قويا في أمر الله و إن تولوها عمر تجدوه قويا في بدنه قويا في أمر الله و إن تولوها عليا و ما أراكم فاعلين تجدوه ديا مهديا يحملكم على المحجة البيضاء و الصراط المستقيم

(7/48)


قال أبو بكر و حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح عن أحمد بن سيار عن سعيد بن كثير الأنصاري عن رجاله عن عبد الله بن عبد الرحمن أن رسول الله ص في مرض موته أمر أسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه جلة المهاجرين و الأنصار منهم أبو بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجراح و عبد الرحمن بن عوف و طلحة و الزبير و أمره أن يغير على مؤتة حيث قتل أبوه زيد و أن يغزو وادي فلسطين فتثاقل أسامة و تثاقل الجيش بتثاقله و جعل رسول الله ص في مرضه يثقل و يخف و يؤكد القول في تنفيذ ذلك البعث حتى قال له أسامة بأبي أنت و أمي أ تأذن لي أن أمكث أياما حتى يشفيك الله تعالى فقال اخرج و سر على بركة الله فقال يا رسول الله إن أنا خرجت و أنت على هذه الحال خرجت و في قلبي قرحة منك فقال سر على النصر و العافية فقال يا رسول الله إني أكره أن أسأل عنك الركبان فقال انفذ لما أمرتك به ثم أغمي على رسول الله ص و قام أسامة فتجهز للخروج فلما أفاق رسول الله ص سأل عن أسامة و البعث فأخبر أنهم يتجهزون فجعل يقول انفذوا بعث أسامة لعن الله من تخلف عنه و كرر ذلك

(7/49)


فخرج أسامة و اللواء على رأسه و الصحابة بين يديه حتى إذا كان بالجرف نزل و معه أبو بكر و عمر و أكثر المهاجرين و من الأنصار أسيد بن حضير و بشير بن سعد و غيرهم من الوجوه فجاءه رسول أم أيمن يقول له ادخل فإن رسول الله يموت فقام من فوره فدخل المدينة و اللواء معه فجاء به حتى ركزه بباب رسول الله و رسول الله قد مات في تلك الساعة. قال فما كان أبو بكر و عمر يخاطبان أسامة إلى أن ماتا إلا بالأمير شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 6753- و من كلام له ع لما قلد محمد بن أبي بكر مصر فملكت عليه و قتلوَ قَدْ أَرَدْتُ تَوْلِيَةَ مِصْرَ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ وَ لَوْ وَلَّيْتُهُ إِيَّاهَا لَمَا خَلَّى لَهُمُ الْعَرْصَةَ وَ لَا أَنْهَزَهُمُ الْفُرْصَةَ بِلَا ذَمٍّ لِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَلَقَدْ كَانَ إِلَيَّ حَبِيباً وَ كَانَ لِي رَبِيباً
ذكر محمد بن أبي بكر و ذكر ولده
أم محمد بن أبي بكر أسماء بنت عميس بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة بن خثعم كانت تحت جعفر بن أبي طالب و هاجرت معه إلى الحبشة فولدت له هناك عبد الله بن جعفر الجواد ثم قتل عنها يوم مؤتة فخلف عليها أبو بكر الصديق فأولدها محمدا ثم مات عنها فخلف عليها علي بن أبي طالب و كان محمد ربيبه و خريجه و جاريا عنده مجرى أولاده رضع الولاء و التشيع مذ زمن الصبا فنشأ عليه فلم يكن يعرف له أبا غير علي و لا يعتقد لأحد فضيلة غيره حتى
قال علي ع محمد ابني من صلب أبي بكر

(7/50)


و كان يكنى أبا القاسم في قول ابن قتيبة و قال غيره بل كان يكنى أبا عبد الرحمن. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 54و كان محمد من نساك قريش و كان ممن أعان على عثمان في يوم الدار و اختلف هل باشر قتل عثمان أم لا و من ولد محمد القاسم بن محمد بن أبي بكر فقيه الحجاز و ضلها و من ولد القاسم عبد الرحمن بن القاسم بن محمد كان من فضلاء قريش و يكنى أبا محمد و من ولد القاسم أيضا أم فروة تزوجها الباقر أبو جعفر محمد بن علي فأولدها الصادق أبا عبد الله جعفر بن محمد ع و إلى أم فروة أشار الرضي أبو الحسن بقوله
يفاخرنا قوم بمن لم نلدهم بتيم إذا عد السوابق أو عدي و ينسون من لو قدموه لقدموا عذار جواد في الجياد مقلدفتى هاشم بعد النبي و باعها لمرمي علا أو نيل مجد و سؤددو لو لا علي ما علوا سرواتها و لا جعجعوا فيها بمرعى و موردأخذنا عليكم بالنبي و فاطم طلاع المساعي منمقام و مقعدو طلنا بسبطي أحمد و وصيه رقاب الورى من متهمين و منجدو حزنا عتيقا و هو غاية فخركم بمولد بنت القاسم بن محمدفجد نبي ثم جد خليفة فأكرم بجدينا عتيق و أحمدو ما افتخرت بعد النبي بغيره يد صفقت يوم البياع على يد
قوله
و لو لا علي ما علوا سرواتها
البيت ينظر فيه إلى قول المأمون في أبيات يمدح فيها عليا أولها
الأم على حبي الوصي أبا الحسن و ذلك عندي من أعاجيب ذا الزمن
و البيت المنظور إليه منها قوله شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 5و لولاه ما عدت لهاشم إمرة و كان مدى الأيام يعصى و يمتهن
هاشم بن عتبة بن أبي وقاص و نسبه
و أما هاشم بن عتبة بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب فعمه سعد بن أبي وقاص أحد العشرة و أبوه عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعية رسول الله ص يوم أحد و كلم شفتيه و شج وجهه فجعل يمسح الدم عن وجهه
و يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم و هو يدعوهم إلى ربهم

(7/51)


فأنزل الله عز و جل لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ. و قال حسان بن ثابت في ذلك اليوم إذا الله حيا معشرا بفعالهم و نصرهم الرحمن رب المشارق فهدك ربي يا عتيب بن مالك و لقاك قبل الموت إحدى الصواعق بسطت يمينا للنبي محمد فدميت فاه قطعت بالبوارق فهلا ذكرت الله و المنزل الذي تصير إليه عند إحدى الصعائق فمن عاذري من عبد عذرة بعد ما هوى في دجوجي المضايق
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 56و أورث عارا في الحياة لأهله و في النار يوم البعث أم البوائو إنما قال عبد عذرة لأن عتبة بن أبي وقاص و إخوته و أقاربه في نسبهم كلام ذكر قوم من أهل النسب أنهم من عذرة و أنهم أدعياء في قريش و لهم خبر معروف و قصة مذكورة في كتب النسب. و تنازع عبد الله بن مسعود و سعد بن أبي وقاص في أيام عثمان في أمر فاختصما فقال سعد لعبد الله اسكت يا عبد هذيل فقال له عبد الله اسكت يا عبد عذرة. و هاشم بن عتبة هو المرقال سمي المرقال لأنه كان يرقل في الحرب إرقالا و هو من شيعه علي و سنفصل مقتله إذا انتهينا إلى فصل من كلامه يتضمن ذكر صفين
فأما قوله لما خلى لهم العرصة فيعني عرصة مصر و قد كان محمد رحمه الله تعالى لما ضاق عليه الأمر ترك لهم مصر و ظن أنه بالفرار ينجو بنفسه فلم ينج و أخذ و قتل. و قوله و لا أنهزهم الفرصة أي و لا جعلهم للفرصة منتهزين و الهمزة للتعدية يقال أنهزت الفرصة إذا أنهزتها غيري. و نحن نذكر في هذا الموضع ابتداء أمر الذين ولاهم علي ع مصر إلى أن ننتهي إلى كيفية ملك معاوية لها و قتل محمد بن أبي بكر و ننقل ذلك من كتاب إبراهيم بن سعد بن هلال الثقفي و هو كتاب الغارات شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 5ولاية قيس بن سعد على مصر ثم عزله

(7/52)


قال إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الله بن عثمان الثقفي قال حدثني علي بن محمد بن أبي سيف عن الكلبي أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس هو الذي حرض المصريين على قتل عثمان و ندبهم إليه و كان حينئذ بمصر فلما ساروا إلى عثمان و حصروه وثب هو بمصر على عامل عثمان عليها و هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح أحد بني عامر بن لؤي فطرده عنها و صلى بالناس فخرج ابن أبي سرح من مصر و نزل على تخوم أرضها مما يلي فلسطين و انتظر ما يكون من أمر عثمان فطلع عليه راكب فقال له يا عبد الله ما وراءك ما خبر الناس بالمدينة قال قتل المسلمون عثمان فقال ابن أبي سرح إنا لله و إنا إليه راجعون ثم صنعوا ما ذا يا عبد الله قال بايعوا ابن عم رسول الله علي بن أبي طالب فقال ثانية إنا لله و إنا إليه راجعون فقال الرجل أرى أن ولاية علي عدلت عندك قتل عثمان قال أجل فنظر إليه متأملا له فعرفه فقال أظنك عبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير مصر قال أجل قال إن كانت لك في الحياة حاجة فالنجاء النجاء فإن رأي علي فيك و في أصحابك إن ظفر بكم قتلكم أو نفاكم عن بلاد المسلمين و هذا أمير تقدم بعدي عليكم قال و من الأمير قال قيس بن سعد بن عبادة فقال ابن أبي سرح أبعد الله ابن أبي حذيفة فإنه بغى على ابن عمه و سعى عليه و قد كان كفله و رباه و أحسن إليه و أمن جواره فجهز الرجال إليه حتى قتل و وثب على عامله. و خرج ابن أبي سرح حتى قدم على معاوية بدمشق.

(7/53)


قال إبراهيم و كان قيس بن سعد بن عبادة من شيعة علي و مناصحيه فلما ولى الخلافة قال له سر إلى مصر فقد وليتكها و اخرج إلى ظاهر المدينة و اجمع ثقاتك و من شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 58أحببت أن يصحبك حتى تأتي مصر و معك جند فإن ذلك أرعب لعدوك و أعز لوليك فإذا أنقدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن و اشتد على المريب و ارفق بالعامة و الخاصة فالرفق يمن. فقال قيس رحمك الله يا أمير المؤمنين قد فهمت ما ذكرت فأما الجند فإني أدعه لك فإذا احتجت إليهم كانوا قريبا منك و إن أردت بعثهم إلى وجه من وجوهك كان لك عدة و لكني أسير إلى مصر بنفسي و أهل بيتي و أما ما أوصيتني به من الرفق و الإحسان فالله تعالى هو المستعان على ذلك قال فخرج قيس في سبعة نفر من أهله حتى دخل مصر فصعد المنبر و أمر بكتاب معه يقرأ على الناس فيه من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الله بحسن صنعه و قدره و تدبيره اختار الإسلام دينا لنفسه و ملائكته و رسله و بعث به أنبياءه إلى عباده فكان مما أكرم الله عز و جل به هذه الأمة و خصهم به من الفضل أن بعث محمدا ص إليهم فعلمهم الكتاب و الحكمة و السنة و الفرائض و أدبهم لكيما يهتدوا و جمعهم لكيلا يتفرقوا و زكاهم لكيما يتطهروا فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه فعليه صلوات الله و سلامه و رحمته و رضوانه ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا أميرين منهم صالحين فعملا بالكتاب و السنة و أحييا السيرة و لم يعدوا السنة ثم توفيا رحمهما الله فولي بعدهما وال أحدث أحداثا فوجدت الأمة عليه مقالا فقالوا ثم نقموا فغيروا ثم جاءوني فبايعوني و أنا أستهدي الله الهدى و أستعينه على التقوى ألا و إن لكم علينا العمل بكتاب الله و سنة رسوله و القيام بحقه و النصح لكم بالغيب و الله المستعان على ما تصفون و حسبنا الله و نعم الوكيل

(7/54)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 59و قد بعثت لكم قيس بن سعد الأنصاري أميرا فوازروه و أعينوه على الحق و قد أمرته بالإحسان إلى محسنكم و الشدة على مريبكم و الرفق بعوامكم و خواصكم و هو ممن أرضى هديه و أرجو صله و نصحه نسأل الله لنا و لكم عملا زاكيا و ثوابا جزيلا و رحمة واسعة و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
و كتبه عبد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست و ثلاثين. قال إبراهيم فلما فرغ من قراءة الكتاب قام قيس خطيبا فحمد الله و أثنى عليه و قال الحمد لله الذي جاء بالحق و أمات الباطل و كبت الظالمين أيها الناس إنا بايعنا خير من نعلم من بعد نبينا محمد ص فقوموا فبايعوا على كتاب الله و سنة رسوله فإن نحن لم نعمل بكتاب الله و سنة رسوله فلا بيعة لنا عليكم. فقام الناس فبايعوا و استقامت مصر و أعمالها لقيس و بعث عليها عماله إلا أن قرية منها قد أعظم أهلها قتل عثمان و بها رجل من بني كنانة يقال له يزيد بن الحارث فبعث إلى قيس إنا لا نأتيك فابعث عمالك فالأرض أرضك و لكن أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس. و وثب محمد بن مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري فنعى عثمان و دعا إلى الطلب بدمه فأرسل إليه قيس ويحك أ علي تثب و الله ما أحب أن لي ملك الشام و مصر و أني قتلتك فاحقن دمك فأرسل إليه مسلمة إني كاف عنك ما دمت أنت والي مصر. و كان قيس بن سعد ذا رأي و حزم فبعث إلى الذين اعتزلوا أني لا أكرهكم على البيعة و لكني أدعكم و أكف عنكم فهادنهم و هادن مسلمة بن مخلد و جبى الخراج و ليس أحد ينازعه. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 60قال إبراهيم و خرج علي إلى الجمل و قيس على مصر و رجع من البصرة إلى الكوفة و هو بمكانه فكان أثقل خلق الله على معاوية لقرب مصر و أعمالها من الشام و مخافة أن يقبل علي بأهل العراق و يقبل إليه قيس بأهل مصر فيقع بينهما. فكتب معاوية إلى قيس و علي يومئذ بالكوفة قبل أن يسير إلى صفين من معاوية بن أبي سفيان

(7/55)


إلى قيس بن سعد سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان في أثرة رأيتموها أو ضربة سوط ضربها أو في شتمه رجلا أو تعييره واحدا أو في استعماله الفتيان من أهله فإنكم قد علمتم إن كنتم تعلمون أن دمه لم يحل لكم بذلك فقد ركبتم عظيما من الأمر و جئتم شيئا إدا فتب يا قيس إلى ربك إن كنت من المجلبين على عثمان إن كانت التوبة قبل الموت تغني شيئا و أما صاحبك فقد استيقنا أنه أغرى الناس بقتله و حملهم على قتله حتى قتلوه و أنه لم يسلم من دمه عظم قومك فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل و تابعنا على علي في أمرنا هذا و لك سلطان العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت و لمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان و سلني عن غير هذا مما تحب فإنك لا تسألني شيئا إلا أتيته و اكتب إلى رأيك فيما كتبت إليك. فلما جاء إليه كتاب معاوية أحب أن يدافعه و لا يبدي له أمره و لا يعجل له حربه فكتب إليه أما بعد فقد وصل إلي كتابك و فهمت الذي ذكرت من أمر عثمان و ذلك أمر لم أقاربه و ذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى الناس بعثمان و دسهم إليه حتى قتلوه و هذا أمر لم أطلع عليه و ذكرت لي أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان فلعمري إن أولى

(7/56)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 61الناس كان في أمره عشيرتي و أما ما سألتني من مبايعتك على الطلب بدمه و ما عرضته علي فقد فهمته و هذا أمر لي نظر فيه و فكر و ليس هذا مما يعجل إلى مثله و أنا كاف عنك و ليس يأتيك من قبلي شي ء تكرهه حتى ترى و نرى إن شاء الله تعالى لسلام عليك و رحمة الله و بركاته. قال إبراهيم فلما قرأ معاوية كتابه لم يره إلا مقاربا مباعدا و لم يأمن أن يكون له في ذلك مخادعا مكايدا فكتب إليه أما بعد فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلما و لم أرك تتباعد فأعدك حربا أراك كحبل الجرور و ليس مثلي يصانع بالخداع و لا يخدع بالمكايد و معه عدد الرجال و أعنة الخيل فإن قبلت الذي عرضت عليك فلك ما أعطيتك و إن أنت لم تفعل ملأت مصر عليك خيلا و رجلا و السلام. فلما قرأ قيس كتابه و علم أنه لا يقبل منه المدافعة و المطاولة أظهر له ما في نفسه فكتب إليه من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فالعجب من استسقاطك رأيي و الطمع في أن تسومني لا أبا لغيرك الخروج من طاعة أولى الناس بالأمر و أقولهم بالحق و أهداهم سبيلا و أقربهم من رسول الله وسيلة و تأمرني بالدخول في طاعتك و طاعة أبعد الناس من هذا الأمر و أقولهم بالزور و أضلهم سبيلا و أدناهم من رسول الله وسيلة و لديك قوم ضالون مضلون طواغيت من طواغيت إبليس و أما قولك إنك تملأ علي مصر خيلا و رجلا فلئن لم أشغلك عن ذلك حتى يكون منك إنك لذو جد و السلام. فلما أتى معاوية كتاب قيس أيس و ثقل مكانه عليه و كان أن يكون مكانه غيره أحب إليه لما يعلم من قوته و تأبيه و نجدته و اشتداد أمره على معاوية فأظهر للناس أن شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 62قيسا قد بايعكم فادعوا الله له و قرأ عليهم كتابه الذي لان فيه و قاربه و اختلق كتابا نسبه إلى قيس فقرأه على أهل الشام. للأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سع أما بعد إن قتل عثمان كان حدثا في الإسلام عظيما و قد نظرت لنفسي و

(7/57)


ديني فلم أر يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلما محرما برا تقيا فنستغفر الله سبحانه لذنوبنا و نسأله العصمة لديننا ألا و إني قد ألقيت إليكم بالسلام و أجبتك إلى قتال قتلة إمام الهدى المظلوم فاطلب مني ما أحببت من الأموال و الرجال أعجله إليك إن شاء الله و السلام على الأمير و رحمة الله و بركاته. قال فشاع في الشام كلها أن قيسا صالح معاوية و أتت عيون علي بن أبي طالب إليه بذلك فأعظمه و أكبره و تعجب له و دعا ابنيه حسنا و حسينا و ابنه محمدا و عبد الله بن جعفر فأعلمهم بذلك و قال ما رأيكم فقال عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يريبك اعزل قيسا عن مصر قال علي و الله إني غير مصدق بهذا على قيس فقال عبد الله اعزله يا أمير المؤمنين فإن كان ما قد قيل حقا فلا يعتزل لك أن عزلته قال و إنهم لكذلك إذ جاءهم كتاب من قيس بن سعد فيه أما بعد فإني أخبر يا أمير المؤمنين أكرمك الله و أعزك إن قبلي رجالا معتزلين سألوني أن أكف عنهم و أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى و يرون و قد رأيت أن أكف عنهم و لا أعجل بحربهم و أن أتألفهم فيما بين ذلك لعل الله أن يقبل بقلوبهم و يفرقهم عن ضلالتهم إن شاء الله و السلام. فقال عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين إنك إن أطعته في تركهم و اعتزالهم استشرى الأمر و تفاقمت الفتنة و قعد عن بيعتك كثير ممن تريده على الدخول فيها و لكن مره بقتالهم

(7/58)


فكتب إليه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 63أما بعد فسر إلى القوم الذين ذكرت فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون و إلا فناجزهم و السلامقال فلما أتى هذا الكتاب قيسا فقرأه لم يتمالك أن كتب إلى علي أما بعد يا أمير المؤمنين تأمرني بقتال قوم كافين عنك و لم يمدوا يدا للفتنة و لا أرصدوا لها فأطعني يا أمير المؤمنين و كف عنهم فإن الرأي تركهم و السلام. فلما أتاه هذا الكتاب قال عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر إلى مصر يكفك أمرها و اعزل قيسا فو الله لبلغني أن قيسا يقول إن سلطانا لا يتم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء و الله ما أحب أن لي سلطان الشام مع سلطان مصر و أنني قتلت ابن مخلد و كان عبد الله بن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمه و كان يحب أن يكون له إمرة و سلطان فاستعمل علي ع محمد بن أبي بكر على مصر لمحبة له و لهوى عبد الله بن جعفر أخيه فيه و كتب معه كتابا إلى أهل مصر فسار حتى قدمها فقال له قيس ما بال أمير المؤمنين ما غيره أ دخل أحد بيني و بينه قال لا و هذا السلطان سلطانك و كان بينهما نسب كان تحت قيس قريبة بنت أبي قحافة أخت أبي بكر الصديق فكان قيس زوج عمته فقال قيس لا و الله لا أقيم معك ساعة واحدة و غضب حين عزله علي عنها و خرج منها مقبلا إلى المدينة و لم يمض إلى علي بالكوفة. قال إبراهيم و كان قيس مع شجاعته و نجدته جوادا مفضالا فحدثني علي بن محمد بن أبي سيف عن هاشم عن عروة عن أبيه قال لما خرج قيس بن سعد من مصر فمر بأهل بيت من بلقين فنزل بمائهم فنحر له صاحب المنزل جزورا و أتاه بها فلما كان الغد نحر له أخرى ثم حبستهم السماء اليوم الثالث فنحر لهم ثالثة ثم إن السماء أقلعت شرح نهج البغة ج : 6 ص : 64فلما أراد قيس أن يرتحل وضع عشرين ثوبا من ثياب مصر و أربعة آلاف درهم عند امرأة الرجل و قال لها إذا جاء صاحبك فادفعي هذه إليه ثم رحل فما أتت عليه إلا ساعة حتى لحقه الرجل صاحب المنزل

(7/59)


على فرس و معه رمح و الثياب و الدراهم بين يديه فقال يا هؤلاء خذوا ثيابكم و دراهمكم فقال قيس انصرف أيها الرجل فإنا لم نكن لنأخذها قال و الله لتأخذنها فقال قيس لله أبوك أ لم تكرمنا و تحسن ضيافتنا فكافأناك فليس بهذا بأس فقال الرجل إنا لا نأخذ لقرى الأضياف ثمنا و الله لا آخذها أبدا فقال قيس أما إذ أبى ألا يأخذها فخذوها فو الله ما فضلني رجل من العرب غيره. قال إبراهيم و قال أبو المنذر مر قيس في طريقه برجل من بلي يقال له الأسود بن فلان فأكرمه فلما أراد قيس أن يرتحل وضع عند امرأته ثيابا و دراهم فلما جاء الرجل دفعته إليه فلحقه فقال ما أنا بائع ضيافتي و الله لتأخذن هذا أو لأنفذن الرمح بين جنبيك فقال قيس ويحكم خذوه. قال إبراهيم ثم أقبل قيس حتى قدم المدينة فجاءه حسان بن ثابت شامتا به و كان عثمانيا فقال له نزعك علي بن أبي طالب و قد قتلت عثمان فبقي عليك الإثم و لم يحسن لك الشكر فزجره قيس و قال يا أعمى القلب يا أعمى البصر و الله لو لا ألقي بين رهطي و رهطك حربا لضربت عنقك ثم أخرجه من عنده. قال إبراهيم ثم إن قيسا و سهل بن حنيف خرجا حتى قدما على علي الكوفة فخبره قيس الخبر و ما كان بمصر فصدقه و شهد مع علي صفين هو و سهل بن حنيف قال إبراهيم و كان قيس طوالا أطول الناس و أمدهم قامة و كان سناطا أصلع شيخا شجاعا مجربا مناصحا لعلي و لولده و لم يزل على ذلك إلى أن مات. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 65قال إبراهيم حدثني أبو غسان قال أخبرني علي بن أبي سيف قال كان قيس بن سعد مع أبي بكر و عمر في سفر في حياة رسول الله ص فكان ينفق عليهما و على غيرهما و يفضل ال له أبو بكر إن هذا لا يقوم به مال أبيك فأمسك يدك فلما قدموا من سفرهم قال سعد بن عبادة لأبي بكر أردت أن تبخل ابني إنا لقوم لا نستطيع البخل. قال و كان قيس بن سعد يقول في دعائه اللهم ارزقني حمدا و مجدا و شكرا فإنه لا حمد إلا بفعال و لا مجد إلا بمال اللهم وسع

(7/60)


علي فإن القليل لا يسعني و لا أسعه
ولاية محمد بن أبي بكر على مصر و أخبار مقتله
قال إبراهيم و كان عهد علي إلى محمد بن أبي بكر الذي قرئ بمصر هذا ما عهد عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر أمره بتقوى الله في السر و العلانية و خوف الله تعالى في المغيب و المشهد و أمره باللين على المسلم و الغلظ على الفاجر و بالعدل على أهل الذمة و بالإنصاف للمظلوم و بالشدة على الظالم و بالعفو عن الناس و بالإحسان ما استطاع و الله يجزي المحسنين و أمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة و الجماعة فإن لهم في ذلك من العاقبة و عظم المثوبة ما لا يقدر قدره و لا يعرف كنهه و أمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل و لا ينتقص و لا يبتدع ثم يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمونه عليه من قبل و إن تكن لهم حاجة يواس بينهم في مجلسه و وجهه ليكون القريب و البعيد عنده على سواء و أمره أن يحكم بين الناس بالحق و أن يقوم بالقسط و لا يتبع الهوى و لا يخاف في الله لومة لائم فإن الله مع من اتقاه و آثر طاعته على من سواه
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 66و كتبه عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله لغرة شهر رمضان سنة ست و ثلاثين. قال إبراهيم ثم قام محمد بن أبي بكر خطيبا فحمد الله و أثنى عليه و قال أما بعد فالحمد لله الذي هدانا و إياكم لما اختلف فيه من الحق و بصرنا و إياكم كثيراما عمي عند الجاهلون ألا و إن أمير المؤمنين ولاني أموركم و عهد إلي بما سمعتم و أوصاني بكثير منه مشافهة و لن آلوكم خيرا ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب فإن يكن ما ترون آثاري و أعمالي طاعة لله و تقوى فاحمدوا الله على ما كان من ذلك فإنه هو الهادي إليه فإن رأيتم من ذلك عملا بغير الحق فارفعوه إلي و عاتبوني عليه فإني بذلك أسعد و أنتم بذلك جديرون وفقنا الله و إياكم لصالح العمل.

(7/61)


قال إبراهيم و حدثني يحيى بن صالح عن مالك بن خالد الأسدي عن الحسن بن إبراهيم عن عبد الله بن الحسن بن الحسن قال كتب علي ع إلى أهل مصر لما بعث محمد بن أبي بكر إليهم كتابا يخاطبهم به و يخاطب محمدا أيضا فيه أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله في سر أمركم و علانيته و على أي حال كنتم عليها و ليعلم المرء منكم أن الدنيا دار بلاء و فناء و الآخرة دار جزاء و بقاء فمن استطاع أن يؤثر ما يبقى على ما يفنى فليفعل فإن الآخرة تبقى و الدنيا تفنى رزقنا الله و إياكم بصرا لما بصرنا و فهما لما فهمنا حتى لا نقصر عما أمرنا و لا نتعدى إلى ما نهانا و اعلم يا محمد إنك و إن كنت محتاجا إلى نصيبك من الدنيا إلا أنك إلى نصيبك من الآخرة أحوج فإن عرض لك أمران أحدهما للآخرة و الآخر للدنيا فابدأ بأمر الآخرة و لتعظم رغبتك في الخير و لتحسن فيه نيتك فإن الله عز و جل يعطي العبد على قدر نيته و إذا أحب الخير و أهله و لم يعمله كان إن شاء الله كمن عمله فإن رسول الله ص قال حين رجع من تبوك إن بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير و لا هبطتم من واد إلا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 67كانوا معكم ما حبسهم إلا المرض يقول كانت لهم نية ثم اعلم يا محمد إني قد وليتك أعظم أجني أهل مصر و وليتك ما وليتك من أمر الناس فأنت محقوق أن تخاف فيه على نفسك و تحذر فيه على دينك و لو كان ساعة من نهار فإن استطعت ألا تسخط ربك لرضا أحد من خلقه فافعل فإن في الله خلفا من غيره و ليس في شي ء خلف منه فاشتد على الظالم و لن لأهل الخير و قربهم إليك واجعلهم بطانتك و إخوانك و السلام

(7/62)


قال إبراهيم حدثني يحيى بن صالح عن مالك بن خالد عن الحسن بن إبراهيم عن عبد الله بن الحسن بن الحسن قال كتب علي إلى محمد بن أبي بكر و أهل مصر أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله و العمل بما أنتم عنه مسئولون فأنتم به رهن و إليه صائرون فإن الله عز و جل يقول كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ و قال وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ و قال فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فاعلموا عباد الله أن الله سائلكم عن الصغير من أعمالكم و الكبير فإن يعذب فنحن الظالمون و إن يغفر و يرحم فهو أرحم الراحمين و اعلموا أن أقرب ما يكون العبد إلى الرحمة و المغفرة حينما يعمل بطاعة الله و مناصحته في التوبة فعليكم بتقوى الله عز و جل فإنها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها خير الدنيا و خير الآخرة يقول الله سبحانه وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ و اعلموا عباد الله أن المؤمنين المتقين قد ذهبوا بعاجل الخير و آجله شركوا أهل الدنيا في دنياهم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 68و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم يقول الله عز و جل قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الُنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما أكلت شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا من أفضل ما يأكلون و شربوا من أفضل ما يشربون و يلبسون من أفضل ما يلبسون و يسكنون من أفضل ما يسكنون أصابوا لذة أهل الدنيا مع أهل الدنيا مع أنهم غدا من جيران الله عز و جل يتمنون عليه لا يرد لهم دعوة و لا

(7/63)


ينقص لهم لذة أما في هذا ما يشتاق إليه من كان له عقل و اعلموا عباد الله أنكم إذا اتقيتم ربكم و حفظتم نبيكم في أهل بيته فقد عبدتموه بأفضل ما عبد و ذكرتموه بأفضل ما ذكر و شكرتموه بأفضل ما شكر و أخذتم بأفضل الصبر و جاهدتم بأفضل الجهاد و إن كان غيركم أطول صلاة منكم و أكثر صياما إذا كنتم أتقى لله و أنصح لأولياء الله من آل محمد ص و أخشع و احذروا عباد الله الموت و نزوله و خذوله فإنه يدخل بأمر عظيم خير لا يكون معه شر أبدا أو شر لا يكون معه خير أبدا و ليس أحد من الناس يفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أي المنزلتين يصير إلى الجنة أم إلى النار أ عدو هو لله أم ولي له فإن كان وليا فتحت له أبواب الجنة و شرع له طريقها و نظر إلى ما أعد الله عز و جل لأوليائه فيها فرغ من كل شغل و وضع عنه كل ثقل و إن كان عدوا فتحت له أبواب النار و سهل له طريقها و نظر إلى ما أعد الله فيها لأهلها و استقبل كل مكروه و فارق كل سرور قال الله تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ و اعلموا عباد الله أن الموت ليس منه فوت فاحذروه و أعدوا له عدته فإنكم

(7/64)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 69طرداء للموت إن قمتم أخذكم و إن هربتم أدرككم و هو ألزم لكم من ظلكم معقود بنواصيكم و الدنيا تطوى من خلفكم فأكثروا ذكر الموت عند ما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات فإنه كفى بالموت واعظا قال رسول الله ص أكثروا ذكر الموت فإنه هادم لذات و اعلموا عباد الله أن ما بعد الموت أشد من الموت لمن لم يغفر الله له و يرحمه و احذروا القبر و ضمته و ضيقه و ظلمته فإنه الذي يتكلم كل يوم أنا بيت التراب و أنا بيت الغربة و أنا بيت الدود و القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار إن المسلم إذا مات قالت له الأرض مرحبا و أهلا قد كنت ممن أحب أن تمشي على ظهري فإذ وليتك فستعلم كيف صنعي بك فيتسع له مد بصره و إذا دفن الكافر قالت له الأرض لا مرحبا و لا أهلا قد كنت ممن أبغض أن تمشي على ظهري فإذ وليتك فستعلم كيف صنعي بك فتنضم عليه حتى تلتقي أضلاعه و اعلموا أن المعيشة الضنك التي قال سبحانه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً هي عذاب القبر فإنه يسلط على الكافر في قبره حيات عظام تنهش لحمه حتى يبعث لو أن تنينا منها نفخ الأرض ما أنبت الزرع أبدا اعلموا عباد الله أن أنفسكم و أجسادكم الرقيقة الناعمة التي يكفيها اليسير من العقاب ضعيفة عن هذا فإن استطعتم أن ترحموا أنفسكم و أجسادكم مما لا طاقة لكم به و لا صبر لكم عليه فتعملوا بما أحب الله سبحانه و تتركوا ما كره فافعلوا و لا حول و لا قوة إلا بالله و اعلموا عباد الله أن ما بعد القبر أشد من القبر يوم يشيب فيه الصغير و يسكر فيه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 70الكبير و تذهل كل مرضعة عما أرضعت و احذروا يوما عبوسا قمطريرا كان شره مستطيرا أما إن شر ذلك اليوم و فزعه استطار حتى فزعت منه الملائكة الذين ليست لهم ذنوب و السبع الشداد و الجبال الأوتاد و الأرضون المهاد و انشقت السماء فهي يومئذ واة و تغيرت فكانت وردة كالدهان و كانت الجبال سرابا بعد ما كانت صما

(7/65)


صلابا يقول الله سبحانه وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فكيف بمن يعصيه بالسمع و البصر و اللسان و اليد و الفرج و البطن إن لم يغفر الله و يرحم و اعلموا عباد الله أن ما بعد ذلك اليوم أشد و أدهى نار قعرها بعيد و حرها شديد و عذابها جديد و مقامعها حديد و شرابها صديد لا يفتر عذابها و لا يموت ساكنها دار ليست لله سبحانه فيها رحمة و لا يسمع فيها دعوة و مع هذا رحمة الله التي وسعت كل شي ءلا تعجز عن العباد و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض خير لا يكون بعده شر أبدا و شهوة لا تنفد أبدا و لذة لا تفنى أبدا و مجمع لا يتفرق أبدا قوم قد جاوروا الرحمن و قام بين أيديهم الغلمان بصحاف من ذهب فيها الفاكهة و الريحان و إن أهل الجنة يزورون الجبار سبحانه في كل جمعة فيكون أقربهم منه على منابر من نور و الذين يلونهم على منابر من ياقوت و الذين يلونهم على منابر من مسك فبينا هم كذلك ينظرون الله جل جلاله و ينظر الله في وجوههم إذ أقبلت سحابة تغشاهم فتمطر عليهم من النعمة و اللذة و السرور و البهجة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه و مع هذا ما هو أفضل منه رضوان الله الأكبر أما إنا لو لم نخوف إلا ببعض ما خوفنا به لكنا محقوقين أن يشتد خوفنا مما لا طاقة

(7/66)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 71لنا به و لا صبر لقوتنا عليه و أن يشتد شوقنا إلى ما لا غنى لنا عنه و لا بد لنا منه فإن استطعتم عباد الله أن يشتد خوفكم من ربكم فافعلوا فإن العبد إنما تكون طاعته على قدر خوفه و إن أحسن الناس لله طاعة أشدهم له خوفا و انظر يا محمصلاتك كيف تصليها فإنما أنت إمام ينبغي لك أن تتمها و أن تخففها و أن تصليها لوقتها فإنه ليس من إمام يصلى بقوم فيكون في صلاته و صلاتهم نقص إلا كان إثم ذلك عليه و لا ينقص من صلاتهم شيئا و اعلم أن كل شي ء من عملك يتبع صلاتك فمن ضيع الصلاة فهو لغيرها أشد تضييعاو وضوءك من تمام الصلاة فأت به على وجهه فالوضوء نصف الإيمان أسأل الله الذي يرى و لا يرى و هو بالمنظر الأعلى أن يجعلنا و إياك من المتقين الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون فإن استطعتم يا أهل مصر أن تصدق أقوالكم أفعالكم و أن يتوافق سركم و علانيتكم و لا تخالف ألسنتكم قلوبكم فافعلوا عصمنا الله و إياكم بالهدى و سلك بنا و بكم المحجة الوسطى و إياكم و دعوة الكذاب ابن هند و تأملوا و اعلموا أنه لا سوى إمام الهدى و إمام الردى و وصي النبي و عدو النبي جعلنا الله و إياكم ممن يحب و يرضى و لقد سمعت رسول الله ص يقول إني لا أخاف على أمتي مؤمنا و لا مشركا أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه و أما المشرك فيخزيه الله بشركه و لكني أخاف عليهم كل منافق اللسان يقول ما تعرفون و يفعل ما تنكرون و اعلم يا محمد أن أفضل الفقه الورع في دين الله و العمل بطاعته فعليك بالتقوى في سر أمرك و علانيته أوصيك بسبع هن جوامع الإسلام اخش الله و لا تخش الناس في الله و خير القول ما صدقه العمل و لا تقض في أمر واحد بقضاءين مختلفين فيتناقض شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 72أمرك و تزيغ عن الحق و أحب لعامة رعيتك ما تحبه لنفسك و اكره لهم ما تكره لنفسك و أصلح أحوال رعيتك وض الغمرات إلى الحق و لا تخف لومة لائم و انصح لمن استشارك و اجعل نفسك

(7/67)


أسوة لقريب المسلمين و بعيدهم جعل الله خلتنا و ودنا خلة المتقين و ود المخلصين و جمع بيننا و بينكم في دار الرضوان إخوانا على سرر متقابلين إن شاء الله
قال إبراهيم بن سعد الثقفي فحدثني عبد الله بن محمد بن عثمان عن علي بن محمد بن أبي سيف عن أصحابه أن عليا لما كتب إلى محمد بن أبي بكر هذا الكتاب كان ينظر فيه و يتأدب بأدبه فلما ظهر عليه عمرو بن العاص و قتله أخذ كتبه أجمع فبعث بها إلى معاوية فكان معاوية ينظر في هذا الكتاب و يتعجب منه فقال الوليد بن عقبة و هو عند معاوية و قد رأى إعجابه به مر بهذه الأحاديث أن تحرق فقال معاوية مه لا رأي لك فقال الوليد أ فمن الرأي أن يعلم الناس أن أحاديث أبي تراب عندك تتعلم منها قال معاوية ويحك أ تأمرني أن أحرق علما مثل هذا و الله ما سمعت بعلم هو أجمع منه و لا أحكم فقال الوليد إن كنت تعجب من علمه و قضائه فعلام تقاتله فقال لو لا أن أبا تراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا عنه ثم سكت هنيهة ثم نظر إلى جلسائه فقال إنا لا نقول إن هذه من كتب علي بن أبي طالب و لكن نقول هذه من كتب أبي بكر الصديق كانت عند ابنه محمد فنحن ننظر فيها و نأخذ منها. قال فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أمية حتى ولي عمر بن عبد العزيز فهو الذي أظهر أنها من أحاديث علي بن أبي طالب ع. قلت الأليق أن يكون الكتاب الذي كان معاوية ينظر فيه و يعجب منه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 73و تي به و يقضي بقضاياه و أحكامه هو عهد علي ع إلى الأشتر فإنه نسيج وحده و منه تعلم الناس الآداب و القضايا و الأحكام و السياسة و هذا العهد صار إلى معاوية لما سم الأشتر و مات قبل وصوله إلى مصر فكان ينظر فيه و يعجب منه و حقيق من مثله أن يقتنى في خزائن الملوك. قال إبراهيم فلما بلغ عليا ع أن ذلك الكتاب صار إلى معاوية اشتد عليه حزنا.

(7/68)


و حدثني بكر بن بكار عن قيس بن الربيع عن ميسرة بن حبيب عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال صلى بنا علي ع فلما انصرف قال
لقد عثرت عثرة لا أعتذر سوف أكيس بعدها و أستمرو أجمع الأمر الشتيت المنتشر
فقلنا ما بالك يا أمير المؤمنين فقال إني استعملت محمد بن أبي بكر على مصر فكتب إلى أنه لا علم لي بالسنة فكتبت إليه كتابا فيه أدب و سنة فقتل و أخذ الكتاب
قال إبراهيم فحدثني عبد الله محمد عن ابن أبي سيف المدائني قال فلم يلبث محمد بن أبي بكر شهرا كاملا حتى بعث إلى أولئك المعتزلين الذين كان قيس بن سعد موادعا لهم فقال يا هؤلاء أما أن تدخلوا في طاعتنا و أما أن تخرجوا من بلادنا فبعثوا إليه أنا لا نفعل فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس فلا تعجل علينا فأبى عليهم فامتنعوا منه و أخذوا حذرهم ثم كانت وقعة صفين و هم لمحمد هائبون فلما أتاهم خبر معاوية و أهل الشام ثم صار الأمر إلى الحكومة و أن عليا و أهل العراق قد قفلوا عن معاوية و الشام إلى عراقهم اجترءوا على محمد بن أبي بكر و أظهروا المنابذة له فلما رأى محمد ذلك بعث إليهم ابن جمهان البلوي و معه يزيد بن الحارث الكناني فقاتلاهم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 74فقتلوهما ثم بعث إليهم رجلا من كلب فقتلوه أيضا و خرج معاوية بن حديج من السكاسك يدعو إلى الطلب بدم عثمان فأجابه قوم و ناس كثير آخرون و فسدت مصر على محمد بن أبي بكر فبلغ عليا توثبهم عليه فقال ما أرى لمصر إلا أحد الرجلين صاحبنا الذي عزلنا بالأمس يعني قيس بن سعد بن عبادة أو مالك بن الحارث الأشتر و كان علي حين رجع عن صفين رد الأشتر إلى عمله بالجزيرة و قال لقيس بن سعد أقم أنت معي على شرطتي حتى نفرغ من أمر هذه الحكومة ثم اخرج إلى آذربيجان فكان قيس مقيما على شرطته فلما أن انقضى أمر الحكومة

(7/69)


كتب علي إلى الأشتر و هو يومئذ بنصيبين أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين و أقمع به نخوة الأثيم و أسد به الثغر المخوف و قد كنت وليت محمد بن أبي بكر مصر فخرجت عليه خوارج و هو غلام حدث السن ليس بذي تجربة للحروب فاقدم علي لننظر فيما ينبغي و استخلف على عملك أهل الثقة و النصيحة من أصحابك و السلام
فأقبل الأشتر إلى علي و استخلف على عمله شبيب بن عامر الأزدي و هو جد الكرماني الذي كان بخراسان صاحب نصر بن سيار فلما دخل الأشتر على علي حدثه حديث مصر و خبره خبر أهلها و قال له ليس لها غيرك فاخرج إليها رحمك الله فإني لا أوصيك اكتفاء برأيك و استعن بالله على ما أهمك و اخلط الشدة باللين و ارفق ما كان الرفق أبلغ و اعتزم على الشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة. فخرج الأشتر من عنده فأتي برحله و أتت معاوية عيونه فأخبروه بولاية الأشتر مصر فعظم ذلك عليه و قد كان طمع في مصر فعلم أن الأشتر إن قدم عليها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر فبعث إلى رجل من أهل الخراج يثق به و قال له إن الأشتر قد ولي مصر فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت و بقيت فاحتل في هلاكه ما قدرت عليه. الوا و لكنا لا ندري و لعل أبا عبد الله قد أصاب فقال عمرو و أنا أبو عبد الله إن أفضل الظنون ما شابه اليقين. ثم إن معاوية حمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فقد رأيتم كيف صنع الله لكم في حربكم هذه على عدوكم و لقد جاءوكم و هم لا يشكون أنهم يستأصلون بيضتكم و يجوزون بلادكم ما كانوا يرون إلا أنكم في أيديهم فردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا و كفى الله المؤمنين القتال و كفاكم مئونتهم. و حاكمتموهم إلى الله فحكم لكم عليهم ثم جمع كلمتنا و أصلح ذات بيننا و جعلهم أعداء متفرقين يشهد بعضهم على بعض بالكفر و يسفك بعضهم دم بعض و الله إني لأرجو أن يتم الله لنا هذا الأمر و قد رأيت أن أحاول حرب مصر فما ذا ترون. فقال عمرو بن العاص قد أخبرتك عما سألت و

(7/70)


أشرت عليك بما سمعت. فقال معاوية ما ترون فقالوا نرى ما رأى عمرو بن العاص فقال معاوية إن عمرا قد عزم و صرم بما قال و لم يفسر كيف ينبغي أن نصنع. قال عمرو فإني مشير عليك بما تصنع أرى أن تبعث جيشا كثيفا عليهم رجل صارم تأمنه و تثق به فيأتي مصر فيدخلها فإنه سيأتينا من كان على مثل رأينا من أهلها فنظاهره على من كان من عدونا فإن اجتمع بها جندك و من كان بها من شيعتك على من بها من أهل حربك رجوت الله أن يعز نصرك و يظهر فلجك. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 81فقال معاوية هل عندك شي ء غير هذا نعمله فيما بيننا و بينهم قبل هذا قال ما أعلمه. قال معاوية فإن رأيي غير هذا أرى أن نكاتب من كان بها من شيعتنا و من كان بها من عدونا فأما شيعتنا فنأمرهم بالثبات علىرهم و نمنيهم قدومنا عليهم و أما من كان بها من عدونا فندعوهم إلى صلحنا و نمنيهم شكرنا و نخوفهم حربنا فإن صلح لنا ما قبلهم من غير حرب و لا قتال فذلك ما أحببنا و إلا فحربهم من وراء ذلك. إنك يا ابن العاص لامرؤ بورك لك في العجلة و بورك لي في التؤدة. قال عمرو فاعمل بما أراك الله فو الله ما أرى أمرك و أمرهم يصير إلا إلى الحرب. قال فكتب معاوية عند ذلك إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري و إلى معاوية بن حديج الكندي و كانا قد خالفا عليا أما بعد فإن الله عز و جل قد ابتعثكما لأمر عظيم أعظم به أجركما و رفع درجتكما و مرتبتكما في المسلمين طلبتما بدم الخليفة المظلوم و غضبتما لله إذ ترك حكم الكتاب و جاهدتما أهل الظلم و العدوان فأبشرا برضوان الله و عاجلا نصرة أولياء الله و المواساة لكما في دار الدنيا و سلطاننا حتى ينتهي ذلك إلى ما يرضيكما و يؤدى به حقكما فالزما أمركما و جاهدا عدوكما و ادعوا المدبرين منكما إلى هداكما فكان الجيش قد أظل عليكما فاندفع كل ما تكرهان و دام كل ما تهويان و السلام عليكما و رحمة الله. و بعث بالكتاب مع مولى له يقال له سبيع فخرج بكتابه حتى قدم به

(7/71)


عليهما بمصر
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 82و محمد بن أبي بكر يومئذ أميرها قد ناصبه هؤلاء النفر الحرب و هم هائبون الإقدام عليه فدفع الكتاب إلى مسلمة بن مخلد فقرأه فقال الق به معاوية بن حديج ثم القني به حتى أجيب عني و عنه فانطلق الرسول بكتاب معاوية فأقرأه إياه ثم قال لهن مسلمة قد أمرني أن أرد الكتاب إليه لكي يجيب عنك و عنه قال قل له فليفعل فأتى مسلمة بالكتاب فكتب الجواب عنه و عن معاوية بن حديج أما بعد فإن هذا الأمر الذي قد ندبنا له أنفسنا و ابتغيا الله به على عدونا أمر نرجو به ثواب ربنا و النصر على من خالفنا و تعجيل النقمة على من سعى على إمامنا و طأطأ الركض في مهادنا و نحن بهذه الأرض قد نفينا من كان بها من أهل البغي و أنهضنا من كان بها من أهل القسط و العدل و قد ذكرت موازرتك في سلطانك و ذات يدك و بالله إنه لا من أجل مال نهضنا و لا إياه أردنا فإن يجمع الله لنا ما نريد و نطلب أو يرينا ما تمنينا فإن الدنيا و الآخرة لله رب العالمين و قد يثوبهما الله جميعا عالما من خلقه كما قال في كتابه فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ عجل لنا بخيلك و رجلك فإن عدونا قد كان علينا جريئا و كنا فيهم قليلا و قد أصبحوا لنا هائبين و أصبحنا لهم منابذين فإن يأتنا مدد من قبلك يفتح الله عليك و لا قوة إلا بالله و هو حسبنا و نعم الوكيل. قال فجاء هذا الكتاب معاوية و هو يومئذ بفلسطين فدعا النفر الذين سميناهم من قريش و غيرهم و أقرأهم الكتاب و قال لهم ما ذا ترون قالوا نرى أن تبعث إليهم جيشا من قبلك فأنت مفتتحها إن شاء الله بإذن الله. قال معاوية فتجهز إليها يا أبا عبد الله يعني عمرو بن العاص فبعثه في ستة آلاف شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 83فخرج يسير و خرج معه معاوية يودعه فقال له معاوية عند وداعه إياه أيك بتقوى الله يا عمرو و بالرفق فإنه يمن و بالتؤدة فإن

(7/72)


العجلة من الشيطان و بأن تقبل من أقبل و تعفو عمن أدبر أنظره فإن تاب و أناب قبلت منه و إن أبى فإن السطوة بعد المعرفة أبلغ في الحجة و أحسن في العاقبة و ادع الناس إلى الصلح و الجماعة فإن أنت ظفرت فليكن أنصارك أبر الناس عندك و كل الناس فأول حسنا. قال فسار عمرو في الجيش حتى دنا من مصر فاجتمعت إليه العثمانية فأقام و كتب إلى محمد بن أبي بكر أما بعد فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر و إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك و رفض أمرك و ندموا على اتباعك و هم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان فاخرج منها فإني لك من الناصحين و السلام. قال و بعث عمرو إلى محمد مع هذا الكتاب كتاب معاوية إليه و هو أما بعد فإن غب الظلم و البغي عظيم الوبال و إن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا و التبعة الموبقة في الآخرة و ما نعلم أحدا كان أعظم على عثمان بغيا و لا أسوأ له عيبا و لا أشد عليه خلافا منك سعيت عليه في الساعين و ساعدت عليه مع المساعدين و سفكت دمه مع السافكين ثم تظن أني نائم عنك فتأتي بلده فتأمن فيها و جل أهلها أنصاري يرون رأيي و يرفضون قولك و يستصرخونني عليك و قد بعثت إليك قوما حناقا عليك يسفكون دمك و يتقربون إلى الله عز و جل بجهادك و قد أعطوا الله عهدا ليقتلنك و لو لم يكن منهم إليك ما قالوا لقتلك الله بأيديهم أو بأيدي غيرهم من أوليائه و أنا أحذرك و أنذرك فإن الله مقيد منك و مقتص لوليه و خليفته بظلمك له و بغيك عليه

(7/73)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 84و وقيعتك فيه و عداوتك يوم الدار عليه تطعن بمشاقصك فيما بين أحشائه و أوداجه و مع هذا فإني أكره قتلك و لا أحب أن أتولى ذلك منك و لن يسلمك الله من النقمة أين كنت أبدا فتنح و انج بنفسك و السلام. قال فطوى محمد بن أبي بكر كتابيهما بعث بهما إلى علي ع و كتب إليه أما بعد يا أمير المؤمنين فإن العاصي ابن العاص قد نزل أداني مصر و اجتمع إليه من أهل البلد من كان يرى رأيهم و هو في جيش جرار و قد رأيت ممن قبلي بعض الفشل فإن كان لك في أرض مصر حاجة فامددني بالأموال و الرجال و السلام عليك و رحمة الله و بركاته.
قال فكتب إليه علي أما بعد فقد أتاني رسولك بكتابك تذكر أن ابن العاص قد نزل في جيش جرار و أن من كان على مثل رأيه قد خرج إليه و خروج من كان يرى رأيه خير لك من إقامته عندك و ذكرت أنك قد رأيت ممن قبلك فشلا فلا تفشل و إن فشلوا حصن قريتك و اضمم إليك شيعتك و أذك الحرس في عسكرك و اندب إلى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنصيحة و التجربة و البأس و أنا نادب إليك الناس على الصعب و الذلول فاصبر لعدوك و امض على بصيرتك و قاتلهم على نيتك و جاهدهم محتسبا لله سبحانه و إن كانت فئتك أقل الفئتين فإن الله تعالى يعين القليل و يخذل الكثير و قد قرأت كتابي الفاجرين المتحابين على المعصية و المتلائمين على الضلالة و المرتشيين على الحكومة و المتكبرين على أهل الدين الذين استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 85قبلهم بخلاقهم فلا يضرنك إرعادهما و إبراقهما و أجبهما إكنت لم تجبهما بما هما أهله فإنك تجد مقالا ما شئت و السلام

(7/74)


قال فكتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية جواب كتابه أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر من أمر عثمان أمرا لا أعتذر إليك منه و تأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح و تخوفني بالحرب كأنك علي شفيق و أنا أرجو أن تكون الدائرة عليكم و أن يهلككم الله في الوقعة و أن ينزل بكم الذل و أن تولوا الدبر فإن يكن لكم الأمر في الدنيا فكم و كم لعمري من ظالم قد نصرتم و كم من مؤمن قد قتلتم و مثلتم به و إلى الله المصير و إليه ترد الأمور و هو أرحم الراحمين و الله المستعان على ما تصفون. قال و كتب محمد بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص جواب كتابه أما بعد فهمت كتابك و علمت ما ذكرت زعمت أنك تكره أن يصيبني منك ظفر فأشهد بالله إنك لمن المبطلين و زعمت أنك ناصح لي و أقسم أنك عندي ظنين و قد زعمت أن أهل البلد قد رفضوني و ندموا على اتباعي فأولئك حزبك و حزب الشيطان الرجيم و حسبنا الله رب العالمين و نعم الوكيل و توكلت على الله العزيز الرحيم رب العرش العظيم. قال إبراهيم فحدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني قال فأقبل عمرو بن العاص يقصد قصد مصر فقام محمد بن أبي بكر في الناس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد يا معشر المؤمنين فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة و يغشون الضلالة و يستطيلون بالجبرية قد نصبوا لكم العداوة و ساروا إليكم بالجنود فمن أراد الجنة و المغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجاهدهم في الله انتدبوا رحمكم الله مع شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 86كنانة بن بشر ثم ندب معه نحو ألفي رجل و تخلف محمد في ألفين و استقبلمرو بن العاص كنانة و هو على مقدمة محمد فلما دنا عمرو من كنانة سرح إليه الكتائب كتيبة بعد كتيبة فلم تأته من كتائب الشام كتيبة إلا شد عليها بمن معه فيضربها حتى يلحقها بعمرو ففعل ذلك مرارا فلما رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج الكندي فأتاه في مثل الدهم فلما رأى كنانة ذلك الجيش نزل عن فرسه و نزل معه أصحابه فضاربهم بسيفه

(7/75)


و هو يقول وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا. فلم يزل يضاربهم بالسيف حتى استشهد رحمه الله. قال إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني عن محمد بن يوسف أن عمرو بن العاص لما قتل كنانة أقبل نحو محمد بن أبي بكر و قد تفرق عنه أصحابه فخرج محمد متمهلا فمضى في طريقه حتى انتهى إلى خربة فآوى إليها و جاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط و خرج معاوية بن حديج في طلب محمد حتى انتهى إلى علوج على قارعة الطريق فسألهم هل مر بهم أحد ينكرونه قالوا لا قال أحدهم إني دخلت تلك الخربة فإذا أنا برجل جالس قال ابن حديج هو هو و رب الكعبة فانطلقوا يركضون حتى دخلوا على محمد فاستخرجوه و قد كاد يموت عطشا فأقبلوا به نحو الفسطاط. قال و وثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص و كان في جنده فقال لا و الله لا يقتل أخي صبرا ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه فأرسل عمرو بن العاص أن ائتني بمحمد فقال معاوية أ قتلتم كنانة بن بشر ابن عمي و أخلي عن محمد.

(7/76)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 87هيهات أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ فقال محمد اسقوني قطرة من الماء فقال له معاوية بن حديج لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدا إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائما محرما فسق الله من الرحيق المختوم و الله لأقتلنك يا ابن أبي بكر و أنت ظمآن و يسقيك الله من الحميم و الغسلين فقال له محمد يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك اليوم إليك و لا إلى عثمان إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه و يظمئ أعداءه و هم أنت و قرناؤك و من تولاك و توليته و الله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني ما بلغتم فقال له معاوية بن حديج أ تدري ما أصنع بك أدخلك جوف هذا الحمار الميت ثم أحرقه عليك بالنار قال إن فعلتم ذاك بي فطالما فعلتم ذاك بأولياء الله و ايم الله إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوفني بها بردا و سلاما كما جعلها الله على إبراهيم خليله و أن يجعلها عليك و على أوليائك كما جعلها على نمرود و أوليائه و إني لأرجو أن يحرقك الله و إمامك معاوية و هذا و أشار إلى عمرو بن العاص بنار تلظى كلما خبت زادها الله عليكم سعيرا فقال له معاوية بن حديج إني لا أقتلك ظلما إنما أقتلك بعثمان بن عفان قال محمد و ما أنت و عثمان رجل عمل بالجور و بدل حكم الله و القرآن و قد قال الله عز و جل وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فنقمنا عليه أشياء عملها فأردنا أن يخلع من الخلافة علنا فلم يفعل فقتله من قتله من الناس. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 88فغضب معاوية بن حديج فقدمه فضرب عنقه ثم ألقاه في جوف حمار و أحرقه بالنار. فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعا شديدا و قنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية بن أبسفيان و عمرو بن العاص و معاوية بن حديج و قبضت عيال محمد أخيها و

(7/77)


ولده إليها فكان القاسم بن محمد من عيالها. قال و كان ابن حديج ملعونا خبيثا يسب علي بن أبي طالب ع.
قال إبراهيم و حدثني عمرو بن حماد بن طلحة القناد عن علي بن هاشم عن أبيه عن داود بن أبي عوف قال دخل معاوية بن حديج على الحسن بن علي في مسجد المدينة فقال له الحسن ويلك يا معاوية أنت الذي تسب أمير المؤمنين عليا ع أما و الله لئن رأيته يوم القيامة و ما أظنك تراه لترينه كاشفا عن ساق يضرب وجوه أمثالك عن الحوض ضرب غرائب الإبل
قال إبراهيم و حدثني محمد بن عبد الله بن عثمان عن المدائني عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن شداد قال حلفت عائشة لا تأكل شواء أبدا بعد قتل محمد فلم تأكل شواء حتى لحقت بالله و ما عثرت قط إلا قالت تعس معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص و معاوية بن حديج. قال إبراهيم و قد روى هاشم أن أسماء بنت عميس لما جاءها نعي محمد ابنها و ما صنع به قامت إلى مسجدها و كظمت غيظها حتى تشخبت دما. قال إبراهيم و روى ابن عائشة التيمي عن رجاله عن كثير النواء أن أبا بكر خرج شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 89في حياة رسول الله ص في غزاة فت أسماء بنت عميس و هي تحته كأن أبا بكر مخضب بالحناء رأسه و لحيته و عليه ثياب بيض فجاءت إلى عائشة فأخبرتها فقالت إن صدقت رؤياك فقد قتل أبو بكر إن خضابه الدم و إن ثيابه أكفانه ثم بكت فدخل النبي ص و هي كذلك فقال ما أبكاها فقالوا يا رسول الله ما أبكاها أحد و لكن أسماء ذكرت رؤيا رأتها لأبي بكر فأخبر النبي ص
فقال ليس كما عبرت عائشة و لكن يرجع أبو بكر صالحا فيلقى أسماء فتحمل منه بغلام فتسميه محمدا يجعله الله غيظا على الكافرين و المنافقين

(7/78)


قال فكان كما أخبر ص. قال إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني قال فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبي سفيان عند قتل محمد بن أبي بكر و كنانة بن بشر أما بعد فإنا لقينا محمد بن أبي بكر و كنانة بن بشر في جموع من أهل مصر فدعوناهم إلى الكتاب و السنة فعصوا الحق فتهولوا في الضلال فجاهدناهم و استنصرنا الله جل و عز عليهم فضرب الله وجوههم و أدبارهم و منحنا أكتافهم فقتل محمد بن أبي بكر و كنانة بن بشر و الحمد لله رب العالمين.
قال إبراهيم و حدثني محمد بن عبد الله عن المدائني عن الحارث بن كعب بن عبد الله بن قعين عن حبيب بن عبد الله قال و الله إني لعند علي جالس إذ جاءه عبد الله بن معين و كعب بن عبد الله من قبل محمد بن أبي بكر يستصرخانه قبل الوقعة فقام علي فنادى في الناس الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله و أثنى شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 90عليه و ذكر رسول الله ص فصلى عليه ثم قال أما بعد فهذا صريخ محمد بن أبي بكر و إخوانكم من أهل مصر قد سار إليهم ابن النابغة عدو الله و عدو من والاه و ولي من عادى الله فلا يكونن أهل الضل إلى باطلهم و الركون إلى سبيل الطاغوت أشد اجتماعا على باطلهم و ضلالتهم منكم على حقكم فكأنكم بهم و قد بدءوكم و إخوانكم بالغزو فاعجلوا إليهم بالمواساة و النصر عباد الله إن مصر أعظم من الشام و خير أهلا فلا تغلبوا على مصر فإن بقاء مصر في أيديكم عز لكم و كبت لعدوكم اخرجوا إلى الجرعة قال و الجرعة بين الحيرة و الكوفة لنتوافى هناك كلنا غدا إن شاء الله
قال فلما كان الغد خرج يمشى فنزلها بكرة فأقام بها حتى انتصف النهار فلم يوافه مائة رجل فرجع فلما كان العشي بعث إلى الأشراف فجمعهم فدخلوا عليه القصر و هو كئيب حزين

(7/79)


فقال الحمد لله على ما قضى من أمر و قدر من فعل و ابتلاني بكم أيها الفرقة التي لا تطيع إذا أمرتها و لا تجيب إذا دعوتها لا أبا لغيركم ما ذا تنتظرون بنصركم و الجهاد على حقكم الموت خير من الذل في هذه الدنيا لغير الحق و الله إن جاءني الموت و ليأتيني لتجدنني لصحبتكم جدا قال أ لا دين يجمعكم أ لا حمية تغضبكم أ لا تسمعون بعدوكم ينتقص بلادكم و يشن الغارة عليكم أ و ليس عجبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام الظلمة فيتبعونه على غير عطاء و لا معونة و يجيبونه في السنة المرة و المرتين و الثلاث إلى أي وجه شاء ثم أنا أدعوكم و أنتم أولو النهى و بقية الناس تختلفون و تفترقون عني و تعصونني و تخالفون علي شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 91فقام إليه مالك بن كعب الأرحبي فقال يا أمير المؤمنين اندب الناس معي فإنه لا عطر بعد عروس و إن الأجر لا يأتي إلا بالكرة ثم التفت إلى الناس و قال اتقوا الله أجيبوا دعوة إمامكم و انصروا دعوته و قاتلوا عدوكم إنا نسير إليهم يا أمير المؤمنين فأمر علي سعدا مولاه أن ينادي ألا سيروا مع مالك بن كعب إلى مصر و كان وجها مكروها فلم يجتمعوا إليه شهرا فلما اجتمع له منهم ما اجتمع خرج بهم مالك بن كعب فعسكر بظاهر الكوفة و خرج معه علي فنظر فإذا جميع من خرج نحو من ألفين فقال علي سيروا و الله ما أنتم ما إخالكم تدركون القوم حتى ينقضي أمرهم
فخرج مالك بهم و سار خمس ليال و قدم الحجاج بن غزية الأنصاري على علي و قدم عليه عبد الرحمن بن المسيب الفزاري من الشام فأما الفزاري فكان عينا لعلي ع لا ينام و أما الأنصاري فكان مع محمد بن أبي بكر فحدثه الأنصاري بما عاين و شاهد و أخبره بهلاك محمد و أخبره الفزاري أنه لم يخرج من الشام حتى قدمت البشرى من قبل عمرو بن العاص يتبع بعضها بعضا بفتح مصر و قتل محمد بن أبي بكر و حتى أذن معاوية بقتله على المنبر

(7/80)


و قال يا أمير المؤمنين ما رأيت يوما قط سرورا مثل سرور رأيته بالشام حين أتاهم قتل محمد بن أبي بكر فقال علي أما إن حزننا على قتله على قدر سرورهم به لا بل يزيد أضعافا
قال فسرح علي عبد الرحمن بن شريح إلى مالك بن كعب فرده من الطريق
قال و حزن علي على محمد بن أبي بكر حتى رئي ذلك فيه و تبين في وجهه و قام في الناس خطيبا فحمد الله و أثنى عليه ثم قال ألا و إن مصر قد افتتحها الفجرة شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 92أولياء الجور و الظلم الذين صدوا عن سبيل الله و بغوا الإسلام عوجا ألا و إن محمد أبي بكر قد استشهد رحمة الله عليه و عند الله نحتسبه أما و الله لقد كان ما علمت ينتظر القضاء و يعمل للجزاء و يبغض شكل الفاجر و يحب سمت المؤمن إني و الله لا ألوم نفسي على تقصير و لا عجز و إني بمقاساة الحرب لجد بصير إني لأقدم على الحرب و أعرف وجه الحزم و أقوم بالرأي المصيب فأستصرخكم معلنا و أناديكم مستغيثا فلا تسمعون لي قولا و لا تطيعون إلى أمرا حتى تصير الأمور إلى عواقب المساءة و أنتم القوم لا يدرك بكم الثأر و لا تنقض بكم الأوتار دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع و خمسين ليلة فجرجرتم علي جرجرة الجمل الأسر و تثاقلتم إلى الأرض تثاقل من لا نية له في الجهاد و لا رأي له في الاكتساب للأجر ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف كأنما يساقون إلى الموت و هم ينظرون فأف لكم ثم نزل فدخل رحله

(7/81)


قال إبراهيم فحدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني قال كتب علي إلى عبد الله بن عباس و هو على البصرة من عبد الله علي أمير المؤمنين ع إلى عبد الله بن عباس سلام عليك و رحمة الله و بركاته أما بعد فإن مصر قد افتتحت و قد استشهد محمد بن أبي بكر فعند الله عز و جل تحتسبه و قد كنت كتبت إلى الناس و تقدمت إليهم في بدء الأمر و أمرتهم بإغاثته شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 93قبل الوقعة و دعوتهم سرا و جهرا و عودا و بدءا فمنهم الآتي كارها و منهم المتعلل كاذبا و منهم القاعد خاذلا أسأل الله أن يجعل لي منهم فرجا و أن يريحني منهم علا فو الله لو لا طمعي عند لقاء عدوي في الشهادة و توطيني نفسي عند ذلك لأحببت ألا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا عزم الله لنا و لك على تقواه و هداه إنه على كل شي ء قدير و السلام عليك و رحمة الله و بركاته قال فكتب إليه عبد الله بن عباس لعبد الله علي أمير المؤمنين من عبد الله بن عباس سلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته. أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه افتتاح مصر و هلاك محمد بن أبي بكر و إنك سألت الله ربك أن يجعل لك من رعيتك التي ابتليت بها فرجا و مخرجا و أنا أسأل الله أن يعلى كلمتك و أن يغشيك بالملائكة عاجلا و اعلم أن الله صانع لك و معز دعوتك و كابت عدوك و أخبرك يا أمير المؤمنين أن الناس ربما تباطئوا ثم نشطوا فارفق بهم يا أمير المؤمنين و دارهم و منهم و استعن بالله عليهم كفاك الله الهم و السلام عليك و رحمة الله و بركاته. قال إبراهيم و روي عن المدائني أن عبد الله بن عباس قدم من البصرة على علي فعزاه عن محمد بن أبي بكر.
و روى المدائني أن عليا قال رحم الله محمدا كان غلاما حدثا لقد كنت أردت أن أولي المرقال هاشم بن عتبة مصر فإنه و الله لو وليها لما خلى لابن العاص و أعوانه العرصة و لا قتل إلا و سيفه في يده بلا ذم لمحمد فلقد أجهد نفسه فقضى ما عليه

(7/82)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 94 قال المدائني و قيل لعلي ع لقد جزعت على محمد بن أبي بكر يا أمير المؤمنين فقال و ما يمنعني أنه كان لي ربيبا و كان لبني أخا و كنت له والدا أعده ولداخطبة للإمام علي بعد مقتل محمد بن أبي بكر
و روى إبراهيم عن رجاله عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال خطب علي ع بعد فتح مصر و قتل محمد بن أبي بكر فقال أما بعد فإن الله بعث محمدا نذيرا للعالمين و أمينا على التنزيل و شهيدا على هذه الأمة و أنتم معاشر العرب يومئذ على شر دين و في شر دار منيخون على حجارة خشن و حيات صم و شوك مبثوث في البلاد تشربون الماء الخبيث و تأكلون الطعام الخبيث تسفكون دماءكم و تقتلون أولادكم و تقطعون أرحامكم و تأكلون أموالكم بينكم بالباطل سبلكم خائفة و الأصنام فيكم منصوبة و لا يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون. فمن الله عز و جل عليكم بمحمد فبعثه إليكم رسولا من أنفسكم فعلمكم الكتاب و الحكمة و الفرائض و السنن و أمركم بصلة أرحامكم و حقن دمائكم و صلاح ذات البين و أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و أن توفوا بالعهد و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها و أن تعاطفوا و تباروا و تراحموا و نهاكم عن التناهب و التظالم و التحاسد و التباغي و التقاذف و عن شرب الخمر و بخس المكيال و نقص الميزان و تقدم إليكم فيما يتلى عليكم ألا تزنوا و لا تربوا و لا تأكلوا أموال شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 95اليتامى ظلما و أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و لا تعثوا في الأرض مفسدين و لا تدوا إن الله لا يحب المعتدين و كل خير يدني إلى الجنة و يباعد عن النار أمركم به و كل شر يدني إلى النار و يباعد عن الجنة نهاكم عنه فلما استكمل مدته توفاه الله إليه سعيدا حميدا فيا لها مصيبة خصت الأقربين و عمت المسلمين ما أصيبوا قبلها بمثلها و لن يعاينوا بعدها أختها فلما مضى لسبيله ص تنازع المسلمون الأمر بعده فو الله ما كان يلقى في روعي و لا يخطر على بالي أن

(7/83)


العرب تعدل هذا الأمر بعد محمد عن أهل بيته و لا أنهم منحوه عني من بعده فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر و إجفالهم إليه ليبايعوه فأمسكت يدي و رأيت أني أحق بمقام محمد ص في الناس ممن تولى الأمر من بعده فلبثت بذاك ما شاء الله حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين الله و ملة محمد ص فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلما و هدما يكون المصاب بهما علي أعظم من فوات ولاية أموركم التي إنما هي متاع أيام قلائل ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب و كما يتقشع السحاب فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته و نهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل و زهق و كانت كلمة الله هي العليا و لو كره الكافرون فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر و سدد و قارب و اقتصد و صحبته مناصحا و أطعته فيما أطاع الله فيه جاهدا و ما طمعت أن لو حدث به حادث و أنا حي أن يرد إلي الأمر الذي نازعته فيه طمع مستيقن و لا يئست منه يأس من لا يرجوه و لو لا خاصة ما كان بينه و بين عمر لظننت أنه لا يدفعها عني فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه فسمعنا و أطعنا و ناصحنا

(7/84)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 96و تولى عمر الأمر فكان مرضي السيرة ميمون النقيبة حتى إذا احتضر فقلت في نفسي لن يعدلها عني ليس يدافعها عني فجعلني سادس ستة فما كانوا لولاية أحد منهم أشد كراهة لولايتي عليهم كانوا يسمعون عند وفاة رسول الله ص لجاج أبي بكر و أقول معشر قريش إنا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا من يقرأ القرآن و يعرف السنة و يدين بدين الحق فخشي القوم إن أنا وليت عليهم ألا يكون لهم من الأمر نصيب ما بقوا فأجمعوا إجماعا واحدا فصرفوا الولاية إلى عثمان و أخرجوني منها رجاء أن ينالوها و يتداولوها إذ يئسوا أن ينالوا بها من قبلي ثم قالوا هلم فبايع و إلا جاهدناك فبايعت مستكرها و صبرت محتسبا فقال قائلهم يا ابن أبي طالب إنك على هذا الأمر لحريص فقلت أنتم أحرص مني و أبعد أينا أحرص أنا الذي طلبت ميراثي و حقي الذي جعلني الله و رسوله أولى به أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه و تحولون بيني و بينه فبهتوا و الله لا يهدي القوم الظالمين اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قطعوا رحمي و أضاعوا إياي و صغروا عظيم منزلتي و أجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به منهم فسلبونيه ثم قالوا ألا إن في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه فاصبر كمدا أو مت أسفا حنقا فنظرت فإذا ليس معي رافد و لا ذاب و لا ناصر و لا ساعد إلا أهل بيتي فضننت بهم عن المنية و أغضيت على القذى و تجرعت ريقي على الشجا و صبرت من كظم الغيظ علي أمر من العلقم و آلم للقلب من حز الشفار حتى إذا نقمتم على عثمان أتيتموه فقتلتموه ثم جئتموني لتبايعوني فأبيت عليكم و أمسكت يدي فنازعتموني و دافعتموني و بسطتم يدي فكففتها و مددتموها فقبضتها و ازدحمتم علي حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعضكم أو أنكم قاتلي فقلتم بايعنا لا نجد غيرك و لا نرضى إلا بك بايعنا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 97لا نفترق و لا تخت كلمتنا فبايعتكم و دعوت الناس إلى بيعتي فمن بايع طوعا قبلته و من

(7/85)


أبى لم أكرهه و تركته فبايعني فيمن بايعني طلحة و الزبير و لو أبيا ما أكرهتهما كما لم أكره غيرهما فما لبثا إلا يسيرا حتى بلغني أنهما خرجا من مكة متوجهين إلى البصرة في جيش ما منهم رجل إلا قد أعطاني الطاعة و سمح لي بالبيعة فقدما على عاملي و خزان بيت مالي و على أهل مصري الذين كلهم على بيعتي و في طاعتي فشتتوا كلمتهم و أفسدوا جماعتهم ثم وثبوا على شيعتي من المسلمين فقتلوا طائفة منهم غدرا و طائفة صبرا و منهم طائفة غضبوا لله و لي فشهروا سيوفهم و ضربوا بها حتى لقوا الله عز و جل صادقين فو الله لو لم يصيبوا منهم إلا رجلا واحدا متعمدين لقتله لحل لي به قتل ذلك الجيش بأسره فدع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين أكثر من العدة التي دخلوا بها عليهم و قد أدال الله منهم فبعدا للقوم الظالمين ثم إني نظرت في أمر أهل الشام فإذا أعراب أحزاب و أهل طمع جفاة طغاة يجتمعون من كل أوب من كان ينبغي أن يؤدب و أن يولى عليه و يؤخذ على يده ليسوا من الأنصار و لا المهاجرين و لا التابعين بإحسان فسرت إليهم فدعوتهم إلى الطاعة و الجماعة فأبوا إلا شقاقا و فراقا و نهضوا في وجوه المسلمين ينضحونهم بالنبل و يشجرونهم بالرماح فهناك نهدت إليهم بالمسلمين فقاتلتهم فلما عضهم السلاح و وجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها فأنبأتكم أنهم ليسوا بأهل دين و لا قرآن و أنهم رفعوها مكيدة و خديعة و وهنا و ضعفا فامضوا على حقكم و قتالكم فأبيتم علي و قلتم اقبل منهم فإن أجابوا إلى ما في الكتاب جامعونا على ما نحن عليه من

(7/86)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 98الحق و إن أبوا كان أعظم لحجتنا عليهم فقبلت منهم و كففت عنهم إذ ونيتم و أبيتم فكان الصلح بينكم و بينهم على رجلين يحييان ما أحيا القرآن و يميتان ما أمات القرآن فاختلف رأيهما و تفرق حكمهما و نبذا ما في القرآن و خالفا ما في الكتافجنبهما الله السداد و دلاهما في الضلالة فانحرفت فرقة منا فتركناهم ما تركونا حتى إذا عثوا في الأرض يقتلون و يفسدون أتيناهم فقلنا ادفعوا إلينا قتلة إخواننا ثم كتاب الله بيننا و بينكم قالوا كلنا قتلهم و كلنا استحل دماءهم و شدت علينا خيلهم و رجالهم فصرعهم الله مصارع الظالمين فلما كان ذلك من شأنهم أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوكم فقلتم كلت سيوفنا و نفدت نبالنا و نصلت أسنة رماحنا و عاد أكثرها قصدا فارجع بنا إلى مصرنا لنستعد بأحسن عدتنا فإذا رجعت زدت في مقاتلتنا عدة من هلك منا و فارقنا فإن ذلك أقوى لنا على عدونا فأقبلت بكم حتى إذا أطللتم على الكوفة أمرتكم أن تنزلوا بالنخيلة و أن تلزموا معسكركم و أن تضموا قواصيكم و أن توطنوا على الجهاد أنفسكم و لا تكثروا زيارة أبنائكم و نسائكم فإن أهل الحرب المصابروها و أهل التشمير فيها الذين لا ينقادون من سهر ليلهم و لا ظمإ نهارهم و لا خمص بطونهم و لا نصب أبدانهم فنزلت طائفة منكم معي معذرة و دخلت طائفة منكم المصر عاصية فلا من بقي منكم صبر و ثبت و لا من دخل المصر عاد و رجع فنظرت إلى معسكري و ليس فيه خمسون رجلا فلما رأيت ما أتيتم دخلت إليكم فلم أقدر على أن تخرجوا معي إلى يومنا هذا فما تنتظرون أ ما ترون أطرافكم قد انتقصت و إلى مصر قد فتحت و إلى شيعتي بها قد قتلت و إلى مسالحكم تعرى و إلى بلادكم تغزى و أنتم ذوو عدد كثير شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 99و شوكة و بأس شديد فما بالكم لله أنتم من أين تؤتون و ما لكم تؤفكون و أنى تسحرون و لو كم عزمتم و أجمعتم لم تراموا إلا أن القوم تراجعوا و تناشبوا و

(7/87)


تناصحوا و أنتم قد ونيتم و تغاششتم و افترقتم ما إن أنتم إن ألممتم عندي على هذا بسعداء فانتهوا بأجمعكم و أجمعوا على حقكم و تجردوا لحرب عدوكم و قد أبدت الرغوة عن الصريح و بين الصبح لذي عينين إنما تقاتلون الطلقاء و أبناء الطلقاء و أولي الجفاء و من أسلم كرها و كان لرسول الله ص أنف الإسلام كله حربا أعداء الله و السنة و القرآن و أهل البدع و الأحداث و من كان بوائقه تتقى و كان عن الإسلام منحرفا أكلة الرشا و عبدة الدنيا لقد أنهي إلي أن ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى أعطاه و شرط له أن يؤتيه ما هي أعظم مما في يده من سلطانه ألا صفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا و خزيت أمانة هذا المشتري نصرة فاسق غادر بأموال المسلمين و إن فيهم من قد شرب فيكم الخمر و جلد الحد يعرف بالفساد في الدين و الفعل السيئ و إن فيهم من لم يسلم حتى رضخ له رضيخه فهؤلاء قادة القوم و من تركت ذكر مساوئه من قادتهم مثل من ذكرت منهم بل هو شر و يود هؤلاء الذين ذكرت لو ولوا عليكم فأظهروا فيكم الكفر و الفساد و الفجور و التسلط بجبرية و اتبعوا الهوى و حكموا بغير الحق و لأنتم على ما كان فيكم من تواكل و تخاذل خير منهم و أهدى سبيلا فيكم العلماء و الفقهاء و النجباء و الحكماء و حملة الكتاب و المتهجدون بالأسحار و عمار المساجد بتلاوة القرآن أ فلا تسخطون و تهتمون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم و الأشرار الأراذل منكم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 100فاسمعوا قولي و أطيعوا أمري فو الله لئن أطعتموني لا تغوون و إن عصيتموني لا ترشدون خذوا للحرب أهبتها و أعدوا لها عدتها فقد شبت نارها و علا سنانها و تجرد لكم فيها الفاسقون كي يعذبوا عباد الله و يطفئوا نور الله ألا إنه ليس أولياءلشيطان من أهل الطمع و المكر و الجفاء بأولى في الجد في غيهم و ضلالتهم من أهل البر و الزهادة و الإخبات في حقهم و طاعة ربهم إني و الله لو لقيتهم فردا و هم ملأ الأرض ما باليت و

(7/88)


لا استوحشت و إني من ضلالتهم التي هم فيها و الهدى الذي نحن عليه لعلى ثقة و بينة و يقين و بصيرة و إني إلى لقاء ربي لمشتاق و لحسن ثوابه لمنتظر و لكن أسفا يعتريني و حزنا يخامرني أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجارها فيتخذوا مال الله دولا و عباده خولا و الفاسقين حزبا و ايم الله لو لا ذلك لما أكثرت تأنيبكم و تحريضكم و لتركتكم إذ ونيتم و أبيتم حتى ألقاهم بنفسي متى حم لي لقاؤهم فو الله إني لعلى الحق و إني للشهادة لمحب فانفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون و لا تثاقلوا إلى الأرض فتقروا بالخسف و تبوءوا بالذل و يكن نصيبكم الخسران إن أخا الحرب اليقظان و من ضعف أودى و من ترك الجهاد كان كالمغبون المهين اللهم اجمعنا و إياهم على الهدى و زهدنا و إياهم في الدنيا و اجعل الآخرة خيرا لنا و لهم من الأولى
خبر مقتل محمد بن أبي حذيفة
قال إبراهيم و حدثني محمد بن عبد الله بن عثمان عن المدائني أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس أصيب لما فتح عمرو بن العاص مصر فبعث به شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 101إلى معاوية بن أبي سفيان و هو يومئذ بفلسطين فحبسه معاوية في سجن له فمكث فيه غير ير ثم هرب و كان ابن خال معاوية فأرى معاوية الناس أنه كره انفلاته من السجن و كان يحب أن ينجو فقال لأهل الشام من يطلبه فقال رجل من خثعم يقال له عبيد الله بن عمرو بن ظلام و كان شجاعا و كان عثمانيا أنا أطلبه فخرج في خيل فلحقه بحوارين. و قد دخل بغار هناك فجاءت حمر فدخلته فلما رأت الرجل في الغار فزعت و نفرت فقال حمارون كانوا قريبا من الغار إن لهذه الحمر لشأنا ما نفرها من هذا الغار إلا أمر فذهبوا ينظرون فإذا هم به فخرجوا به فوافاهم عبد الله بن عمرو بن ظلام فسألهم و وصفه لهم فقالوا ها هو هذا فجاء حتى استخرجه و كره أن يصير به إلى معاوية فيخلي سبيله فضرب عنقه رحمه الله تعالى

(7/89)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 68102- و من كلام له ع في ذم أصحابهكَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى الْبِكَارُ الْعَمِدَةُ وَ الثِّيَابُ الْمُتَدَاعِيَةُ كُلَّمَا حِيصَتْ مِنْ جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ كُلَّمَا أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مِنْسَرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ وَ انْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ فِي جُحْرِهَا وَ الضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا الذَّلِيلُ وَ اللَّهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ وَ مَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ إِنَّكُمْ وَ اللَّهِ لَكَثِيرٌ فِي الْبَاحَاتِ قَلِيلٌ تَحْتَ الرَّايَاتِ وَ إِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ وَ يُقِيمُ أَوَدَكُمْ وَ لَكِنِّي وَ اللَّهِ لَا أَرَى إِصْلَاحَكُمْ بِإِفْسَادِ نَفْسِي أَضْرَعَ اللَّهُ خُدُودَكُمْ وَ أَتْعَسَ جُدُودَكُمْ لَا تَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَمَعْرِفَتِكُمُ الْبَاطِلَ وَ لَا تُبْطِلُونَ الْبَاطِلَ كَإِبْطَالِكُمُ الْحَقَّ

(7/90)


البكار جمع بكر و هو الفتى من الإبل و العمدة التي قد انشدخت أسنمتها من داخل و ظاهرها صحيح و ذلك لكثرة ركوبها. و الثياب المتداعية الأسمال التي قد أخلقت و إنما سميت متداعية لأن بعضها يتخرق فيدعو بعضها إلى مثل حاله. و حيصت خيطت و الحوص الخياطة و تهتكت تخرقت شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 103و أطل عليكم أي أشرف و روي أظل بالظاء المعجمة و المعنى واحد. و منسر قطعة من الجيش تمر قدام الجيش الكثير و الأفصح منسر بكسر الميم و فتح السين و يجوز منسر بفتح الميم و كسر السين. و انجحر استتر في بيته أجحرت الضب إذا ألجأته إلى جحرفانجحر. و الضبة أنثى الضباب و إنما أوقع التشبيه على الضبة مبالغة في وصفهم بالجبن و الفرار لأن الأنثى أجبن و أذل من الذكر و الوجار بيت الضبع. و السهم الأفوق الناصل المكسور الفوق المنزوع النصل و الفوق موضع الوتر من السهم يقال نصل السهم إذا خرج منه النصل فهو ناصل و هذا مثل يضرب لمن استنجد بمن لا ينجده. و الباحات جمع باحة و هي ساحة الدار و الأود العوج أود الشي ء بكسر الواو يأود أودا أي أعوج و تأود أي تعوج و أضرع الله خدودكم أذل وجوهكم. ضرع الرجل ذل و أضرعه غيره و منه المثل الحمى أضرعته لك. و أتعس جدودكم أي أحا حظوظكم و سعودكم و أهلكها فجعلها إدبارا و نحسا. و التعس الهلاك و أصله الكب و هو ضد الانتعاش تعس الرجل بفتح العين يتعس تعسا يقول كم أداريكم كما يداري راكب البعير بعيره المنفضخ السنام و كما يداري لابس الثوب السمل ثوبه المتداعي الذي كلما خيط منه جانب تمزق جانب. ثم ذكر خبئهم و ذلهم و قلة انتصار من ينتصر بهم و أنهم كثير في الصورة قليل في المعنى ثم قال إني عالم بما يصلحكم يقول إنما يصلحكم في السياسة السيف و صدق فإن كثيرا لا يصلح إلا عليه كما فعل الحجاج بالجيش الذي تقاعد بالمهلب شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 104فإنهادى مناديه من وجدناه بعد ثالثة لم يلتحق بالمهلب فقد حل لنا دمه ثم

(7/91)


قتل عمير بن ضابئ و غيره فخرج الناس يهرعون إلى المهلب. و أمير المؤمنين لم يكن ليستحل من دماء أصحابه ما يستحله من يريد الدنيا و سياسة الملك و انتظام الدولة
قال ع لكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي
أي بإفساد ديني عند الله تعالى. فإن قلت أ ليست نصرة الإمام واجبة عليهم فلم لا يقتلهم إذ أخلوا بهذا الواجب قلت ليس كل إخلال بواجب يكون عقوبته القتل كمن أخل بالحج و أيضا فإنه كان يعلم أن عاقبة القتل فسادهم عليه و اضطرابهم فلو أسرع في قتلهم لشغبوا عليه شغبا يفضي إلى أن يقتلوه و يقتلوا أولاده أو يسلموه و يسلموهم إلى معاوية و متى علم هذا أو غلب على ظنه لم يجز له أن يسوسهم بالقتل الذي يفضي إلى هذه المفسدة فلو ساسهم بالقتل و الحال هذه لكان آثما عند الله تعالى و مواقعا للقبيح و في ذلك إفساد دينه كما قال لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل إلى آخر الفصل فكأنه قال لا تعتقدون الصواب و الحق كما تعتقدون الخطأ و الباطل أي اعتقادكم الحق قليل و اعتقادكم الباطل كثير فعبر عن الاعتقاد العام بالمعرفة الخاصة و هي نوع تحت جنسه مجازا. ثم قال و لا تسرعون في نقض الباطل سرعتكم في نقض الحق و هدمه
طائفة من الأشعار الواردة في ذم الجبن
و اعلم أن الهجاء بالجبن و الذل الفرق كثير جدا و نظير قوله إنكم لكثير في الباحات قليل تحت الرايات قول معدان الطائي
فأما الذي يحصيهم فمكثر و أما الذي يطريهم فمقلل
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 105و نحو قول قراد بن حنش و هو من شعر الحماسةو أنتم سماء يعجب الناس رزها بآبدة تنحي شديد وئيدهاتقطع أطناب البيوت بحاصب و أكذب شي ء برقها و رعودهافويلمها خيلا بهاء و شارة إذا لاقت الأعداء لو لا صدودهاو من شعر الحماسة في هذا المعنى
لقد كان فيكم لو وفيتم بجاركم لحى و رقاب عردة و مناخرمن الصهب أثناء و جذعا كأنها عذارى عليها شارة و معاجر

(7/92)


و من الهجاء بالجبن و الفرار قول بعض بني طيئ يهجو حاتما و هو من شعر الحماسة أيضا
لعمري و ما عمري على بهين لبئس الفتى المدعو بالليل حاتم غداة أتى كالثور أحرج فاتقى بجبهته أقتاله و هو قائم كأن بصحراء المريط نعامة تبادرها جنح الظلام نعائم أعارتك رجليها و هافي لبها و قد جردت بيض المتون صوا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 106و نظير المعنى الأول أيضا قول بعضهم من شعر الحماسةكاثر بسعد إن سعدا كثيرة و لا ترج من سعد وفاء و لا نصرايروعك من سعد بن عمرو جسومها و تزهد فيها حين تقتلها خبرا
و منه قول عويف القوافي
و ما أمكم تحت الخوافق و القنا بثكلى و لا زهراء من نسوة زهرأ لستم أقل الناس عند لوائهم و أكثرهم عند الذبيحة و القدر
و ممن حسن الجبن و الفرار بعض الشعراء في قوله
أضحت تشجعني هند و قد علمت أن الشجاعة مقرون بها العطب لا و الذي حجت الأنصار كعبته ما يشتهي الموت عندي من له أرب للحرب قوم أضل الله سعيهم إذا دعتهم إلى حوماتها وثبواو لست منهم و لا أهوى فعالهم لا القتل يعجبني منها و لا السلو من هذا قول أيمن بن خريم الأسدي
إن للفتنة ميطا بينا و وريد الميط منها يعتدل فإذا كان عطاء فابتدر و إذا كان قتال فاعتزل إنما يسعرها جهالها حطب النار فدعها تشتعو ممن عرف بالجبن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد عيره عبد الملك بن مروان فقال شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 10إذا صوت العصفور طار فؤاده و ليث حديد الناب عند الثرائد
و قال آخر
يطير فؤاده من نبح كلب و يكفيه من الزجر الصفير
و قال آخر
و لو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا و أزنما
أخبار الجبناء و ذكر نوادرهم

(7/93)


و من أخبار الجبناء ما رواه ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار قال رأى عمرو بن العاص معاوية يوما فضحك و قال مم تضحك يا أمير المؤمنين أضحك الله سنك قال أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سوءتك يوم ابن أبي طالب و الله لقد وجدته منانا كريما و لو شاء أن يقتلك لقتلك فقال عمرو يا أمير المؤمنين أما و الله إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فأحولت عيناك و انفتح سحرك و بدا منك ما أكره ذكره لك فمن نفسك فاضحك أو فدع قال ابن قتيبة و قدم الحجاج على الوليد بن عبد الملك و عليه درع و عمامة سوداء و قوس عربية و كنانة فبعثت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان إلى الوليد و هي تحته يومئذ من هذا الأعرابي المستلئم في الصلاح عندك على خلوة و أنت في غلالة شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 108فأرسل إليها الوليد أنه الحجاج فأعادت عليه الرسول و الله لأن يخلو بك ملك الموت أحب إلي من أن يخلو بك الحجاج فضحك وخبر الحجاج بقولها و هو يمازحه فقال الحجاج يا أمير المؤمنين دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول فإنما المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة فلا تطلعها على سرك و مكايدة عدوك. فلما انصرف الحجاج و دخل الوليد على امرأته أخبرها بمقالة الحجاج فقالت يا أمير المؤمنين حاجتي إليك اليوم أن تأمره غدا أن يأتيني مستلئما ففعل ذلك و أتاها الحجاج فحجبته ثم أدخلته و لم تأذن له في القعود فلم يزل قائما ثم قالت إيه يا حجاج أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتلك ابن الزبير و ابن الأشعث أما و الله لو لا أن الله علم أنك شر خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام و لا بقتل ابن ذات النطاقين أول مولود في الإسلام و أما نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء و بلوغ لذاته و أوطاره فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالقبول منك و إن كن ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك أما و الله لو نفض نساء أمير المؤمنين الطيب من غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من القرن قد أظلتك

(7/94)


الرماح و أثخنك الكفاح و حين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من آبائهم و أبنائهم فأنجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه قاتل الله القائل حين ينظر إليك و سنان غزالة بين كتفيك
أسد علي و في الحروب نعامة ربداء تنفر من صفير الصافرهلا برزت إلى غزالة في الوغى أم كان قلبك في جناحي طائر
ثم قالت لجواريها أخرجنه فاخرج. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 109و من طريف حكايات الجبناء ما ذكره ابن قتيبة أيضا في الكتاب المذكور قال كان بالبصرة شيخ من بني نهشل بن دارم يقال له عروة بن مرثد و يكنى أبا الأعز ينزل في بني أخت له من الأزد في سكة بني مازن فخرج رلهم إلى ضياعهم في شهر رمضان و خرج النساء يصلين في مسجدهم و لم يبق في الدار إلا إماء فدخل كلب يتعسس فرأى بيتا مفتوحا فدخله و انصفق الباب عليه فسمع بعض الإماء الحركة فظنوا أنه لص دخل الدار فذهبت إحداهن إلى أبي الأعز فأخبرته فقال أبو الأعز إلام يبتغي اللص عندنا و أخذ عصاه و جاء حتى وقف بباب البيت و قال إيه يا فلان أما و الله إني بك لعارف فهل أنت من لصوص بني مازن شربت حامضا خبيثا حتى إذا دارت في رأسك منتك نفسك الأماني و قلت أطرق دور بني عمرو و الرجال خلوف و النساء يصلين في مسجدهن فأسرقهم سوءة لك و الله ما يفعل هذا ولد الأحرار و ايم الله لتخرجن أو لأهتفن هتفة مشئومة يلتقي فيها الحيان عمرو و حنظلة و تجي ء سعد عدد الحصى و تسيل عليك الرجال من هنا و هنا و لئن فعلت لتكونن أشأم مولود. فلما رأى أنه لا يجيبه أخذه باللين فقال اخرج بأبي أنت مستورا و الله ما أراك تعرفني و و عرفتني لقنعت بقولي و اطمأننت إلى ابن أختي البار الوصول أنا فديتك أبو الأعز النهشلي و أنا خال القوم و جلدة بين أعينهم لا يعصونني و لا تضار الليلة و أنت في ذمتي و عندي قوصرتان أهداهما إلى ابن أختي البار الوصول فخذ إحداهما فانبذها حلالا من الله و رسوله. و كان الكلب إذا سمع الكلام أطرق و إذا سكت أبو

(7/95)


الأعز وثب يريد المخرج فتهانف أبو الأعز ثم تضاحك و قال يا ألأم الناس و أوضعهم أ لا أراني لك منذ الليلة شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 110في واد و أنت لي في واد آخر أقبلت السوداء و البيضاء فتصيح و تطرق فإذا سكت عنك وثبتريد الخروج و الله لتخرجن أو لألجن عليك البيت. فلما طال وقوفه جاءت إحدى الإماء فقالت أعرابي مجنون و الله ما أرى في البيت شيئا فدفعت الباب فخرج الكلب شاردا و حاد عنه أبو الأعز ساقطا على قفاه شائلة رجلاه و قال تالله ما رأيت كالليلة هذه ما أراه إلا كلبا و لو علمت بحاله لولجت عليه. و نظير هذه الحكاية حكاية أبي حية النميري و كان جبانا قيل كان لأبي حية سيف ليس بينه و بين الخشب فرق كان يسميه لعاب المنية فحكى عنه بعض جيرانه أنه قال أشرفت عليه ليلة و قد انتضاه و هو واقف بباب بيت في داره و قد سمع فيه حسا و هو يقول أيها المغتر بنا المجترئ علينا بئس و الله ما اخترت لنفسك خير قليل و سيف صقيل لعاب المنية الذي سمعت به مشهورة صولته و لا تخاف نبوته اخرج بالعفو عنك لا أدخل بالعقوبة عليك إني و الله إن أدع قيسا تملأ الفضاء عليك خيلا و رجلا سبحان الله ما أكثرها و أطيبها و الله ما أنت ببعيد من تابعها و الرسوب في تيار لجتها. و قال وهبت ريح ففتحت الباب فخرج كلب يشتد فلبط بأبي حية و أربد و شغر برجليه و تبادرت إليه نساء الحي فقلن يا أبا حية لتفرخ روعتك إنما هو كلب فجلس و هو يقول الحمد لله الذي مسخك كلبا و كفاني حربا. و خرج مغيرة بن سعيد العجلي في ثلاثين رجلا ظهر الكوفة فعطعطوا و خالد بن عبد الله القسري أمير العراق يخطب على المنبر فعرق و اضطرب و تحير و جعل يقول أطعموني ماء فهجاه ابن نوفل فقال شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 11أ خالد لا جزاك الله خيرا و أيري في حرامك من أميرتروم الفخر في أعراب قسر كأنك من سراة بني جريرجرير من ذوي يمن أصيل كريم الأصل ذو خطر كبيرو أمك علجة و أبوك وغد و ما الأذناب عدل

(7/96)


للصدورو كنت لدى المغيرة عبد سوء تبول من المخافة للزئيرلأعلاج ثمانية و شيخ كبير السن ليس بذي ضريرصرخت من المخافة أطعموني شرابا ثم بلت على السرير
و قال آخر يعيره بذلك
بل المنابر من خوف و من دهش و استطعم الماء لما جد في الهرب
و من كلام ابن المقفع في ذم الجبن الجبن مقتلة و الحرص محرمة فانظر فيما رأيت و سمعت من قتل في الحرب مقبلا أكثر أم من قتل مدبرا و انظر من يطلب إليك بالإجمال و التكرم أحق أن تسخو نفسك له بالعطية أم من يطلب ذلك بالشره و الحرص
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 69112- و قال ع في سحرة اليوم الذي ضرب فيهمَلَكَتْنِي عَيْنِي وَ أَنَا جَالِسٌ فَسَنَحَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ذَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْأَوَدِ وَ اللَّدَدِ فَقَالَ ادْعُ عَلَيْهِمْ فَقُلْتُ أَبْدَلَنِيَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ وَ أَبْدَلَهُمْ بِي شَرّاً لَهُمْ مِنِّي
قال الرضي رحمه الله يعني بالأود الاعوجاج و باللدد الخصام و هذا من أفصح الكلام
قوله ملكتني عيني من فصيح الكلام يريد غلبني النوم قوله فسنح لي رسول الله ص يريد مر بي كما تسنح الظباء و الطير يمر بك و يعترض لك. و ذا هاهنا بمعنى الذي كقوله تعالى ما ذا تَرى أي ما الذي ترى يقول قلت له ما الذي لقيت من أمتك و ما هاهنا استفهامية كأي و يقال ذلك فيما يستعظم أمره كقوله سبحانه الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ و شرا هاهنا لا يدل على أن فيه شرا كقوله قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ لا يدل على أن في النار خيرا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 11خبر مقتل الإمام علي كرم الله وجهه

(7/97)


و يجب أن نذكر في هذا الموضع مقتله ع و أصح ما ورد في ذلك ما ذكره أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين. قال أبو الفرج علي بن الحسين بعد أسانيد ذكرها مختلفة متفرقة تجتمع على معنى واحد نحن ذاكروه إن نفرا من الخوارج اجتمعوا بمكة فتذاكروا أمر المسلمين فعابوهم و عابوا أعمالهم عليهم و ذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم و قال بعضهم لبعض لو أنا شرينا أنفسنا لله عز و جل فأتينا أئمة الضلال و طلبنا غرتهم و أرحنا منهم العباد و البلاد و ثأرنا بإخواننا الشهداء بالنهروان. فتعاقدوا عند انقضاء الحج فقال عبد الرحمن بن ملجم أنا أكفيكم عليا و قال واحد أنا أكفيكم معاوية و قال الثالث أنا أكفيكم عمرو بن العاص فتعاقدوا و تواثقوا على الوفاء و ألا ينكل أحد منهم عن صاحبه الذي يتوجه إليه و لا عن قتله و اتعدوا لشهر رمضان في الليلة التي قتل فيها ابن ملجم عليا. قال أبو الفرج قال أبو مخنف قال أبو زهير العبسي الرجلان الآخران البرك بن عبد الله التميمي و هو صاحب معاوية و عمرو بن بكر التميمي و هو صاحب عمرو بن العاص. قال فأما صاحب معاوية فإنه قصده فلما وقعت عينه عليه ضربه فوقعت ضربته على أليته و أخذ فجاء الطبيب إليه فنظر إلى الضربة فقال إن السيف مسموم فاختر إما أن أحمي لك حديدة فأجعلها في الضربة فتبرأ و إما أن أسقيك دواء فتبرأ و ينقطع نسلك فقال أما النار فلا أطيقها و أما النسل ففي يزيد و عبد الله ما تقر عيني و حسبي بهما. فسقاه الدواء فعوفي و عالج جرحه حتى التأم و لم يولد له بعد ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 114و قال له البرك بن عبد الله إن لك عندي بشارة قال و ما هي فأخبره خبر صاحبه و قال له إن عليا قتل في هذه الليلة فاحتبسني عندك فإن قتل فأنت ولي ما تراه في أمري و إن لم يقتل أعطيتك العهود و المواثيق أن أمضي إليه فأقتله ثم أعود يك فأضع يدي في يدك حتى تحكم في بما ترى فحبسه عنده فلما أتي الخبر

(7/98)


أن عليا قتل في تلك الليلة خلى سبيله. هذه رواية إسماعيل بن راشد و قال غيره من الرواة بل قتله من وقته. و أما صاحب عمرو بن العاص فإنه وافاه في تلك الليلة و قد وجد علة فأخذ دواء و استخلف رجلا يصلي بالناس يقال له خارجة بن أبي حبيبة أحد بني عامر بن لؤي فخرج للصلاة فشد عمرو بن بكر فضربه بالسيف فأثبته و أخذ الرجل فأتي به عمرو بن العاص فقتله و دخل من غد إلى خارجة و هو يجود بنفسه فقال أما و الله يا أبا عبد الله ما أراد غيرك قال عمرو و لكن الله أراد خارجة. و أما ابن ملجم فإنه قتل عليا تلك الليلة.
قال أبو الفرج و حدثني محمد بن الحسن الأشنانداني و غيره قال أخبرني علي بن المنذر الطريقي قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا فطر عن أبي الطفيل قال جمع علي ع الناس للبيعة فجاء عبد الرحمن بن ملجم فرده علي مرتين أو ثلاثا ثم مد يده فبايعه فقال له علي ما يحبس أشقاها فو الذي نفسي بيده لتخضبن هذه من هذه ثم أنشد
اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكاو لا تجزع من الموت إذا حل بواديكا
قال أبو الفرج شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 115و قد روي لنا من طرق غير هذه أن عليا أعطى الناس فلما بلغ ابن ملجم أعطاه و قال لهأريد حياته و يريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد

(7/99)


قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن عيسى العجلي بإسناد ذكره في الكتاب إلى أبي زهير العبسي قال كان ابن ملجم من مراد و عداده في كندة فأقبل حتى قدم الكوفة فلقي بها أصحابه و كتمهم أمره و طوى عنهم ما تعاقد هو و أصحابه عليه بمكة من قتل أمراء المسلمين مخافة أن ينتشر و زار رجلا من أصحابه ذات يوم من بني تيم الرباب فصادف عنده قطام بنت الأخضر من بني تيم الرباب و كان علي قتل أخاها و أباها بالنهروان و كانت من أجمل نساء أهل زمانها فلما رآها شغف بها و اشتد إعجابه فخطبها فقالت له ما الذي تسمي لي من الصداق فقال احتكمي ما بدا لك فقالت أحتكم عليك ثلاثة آلاف درهم و وصيفا و خادما و أن تقتل علي بن أبي طالب. فقال لها لك جميع ما سألت و أما قتل علي فأنى لي بذلك قالت تلتمس غرته فإن أنت قتلته شفيت نفسي و هنأك العيش معي و إن قتلت فما عند الله خير لك من الدنيا فقال لها أما و الله ما أقدمني هذا المصر و قد كنت هاربا منه لآمن أهله إلا ما سألتني من قتل علي. قالت له فأنا طالبة لك بعض من يساعدك على هذا و يقويك ثم بعثت إلى وردان بن مجالد أحد بني تيم الرباب فخبرته الخبر و سألته معاونة ابن ملجم فتحمل لها ذلك و خرج ابن ملجم فأتى رجلا من أشجع يقال له شبيب بن بجرة و قال له يا شبيب هل لك في شرف الدنيا و الآخرة قال و ما ذاك قال تساعدني على قتل علي و كان شبيب على رأي الخوارج فقال له هبلتك الهبول لقد جئت شيئا إدا و كيف تقدر ويحك على ذلك قال ابن ملجم نكمن له في المسجد الأعظم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 116فإذارج لصلاة الفجر فتكنا به و شفينا أنفسنا منه و أدركنا ثأرنا فلم يزل به حتى أجابه. فأقبل به حتى دخلا على قطام و هي معتكفة في المسجد الأعظم قد ضربت لها قبة فقالا لها قد أجمع رأينا على قتل هذا الرجل قالت لهما فإذا أردتما ذلك فالقياني في هذا الموضع فانصرفا من عندها فلبثا أياما ثم أتياها و معهما وردان بن مجالد الذي كلفته

(7/100)


مساعدة ابن ملجم و ذلك في ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربعين. قال أبو الفرج هكذا في رواية أبي مخنف و في رواية أبي عبد الرحمن السلمي أنها كانت ليلة سبع عشرة من شهر رمضان فقال لها ابن ملجم هذه الليلة هي التي وعدت فيها صاحبي و وعداني أن يقتل كل واحد منا صاحبه الذي يتوجه إليه. قلت إنما تواعدوا بمكة عبد الرحمن و البرك و عمرو على هذه الليلة لأنهم يعتقدون أن قتل ولاة الجور قربة إلى الله و أحرى القربات ما تقرب به في الأوقات الشريفة المباركة. و لما كانت ليلة الجمعة التاسعة عشرة من شهر رمضان ليلة شريفة يرجى أن تكون ليلة القدر عينوها لفعل ما يعتقدونه قربة إلى الله فليعجب المتعجب من العقائد كيف تسري في القلوب و تغلب على العقول حتى يرتكب الناس عظائم الأمور و أهوال الخطوب لأجلها قال أبو الفرج فدعت لهم بحرير فعصبت به صدورهم و تقلدوا سيوفهم و مضوا فجلسوا مقابل السدة التي كان يخرج منها علي ع إلى الصلاة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 117قال أبو الفرج و قد كان ابن ملجم أتى الأشعث بن قيس في هذه الليلة فخلا به في بعض نواحي المسجد و مر بهما حجر بن عدي فسمع العث و هو يقول لابن ملجم النجاء النجاء بحاجتك فقد فضحك الصبح قال له حجر قتلته يا أعور و خرج مبادرا إلى علي و قد سبقه ابن ملجم فضربه فأقبل حجر و الناس يقولون قتل أمير المؤمنين. قال أبو الفرج و للأشعث بن قيس في انحرافه عن أمير المؤمنين أخبار يطول شرحها

(7/101)


منها حديث حدثنيه محمد بن الحسين الأشنانداني قال حدثني إسماعيل بن موسى قال حدثنا علي بن مسهر عن الأجلح عن موسى بن أبي النعمان قال جاء الأشعث إلى علي يستأذن عليه فرده قنبر فأدمى الأشعث أنفه فخرج علي و هو يقول ما لي و لك يا أشعث أما و الله لو بعبد ثقيف تمرست لاقشعرت شعيراتك قيل يا أمير المؤمنين و من عبد ثقيف قال غلام لهم لا يبقي أهل بيت من العرب إلا أدخلهم ذلا قيل يا أمير المؤمنين كم يلي أو كم يمكث قال عشرين إن بلغها
قال أبو الفرج و حدثني محمد بن الحسين أيضا بإسناد ذكره أن الأشعث دخل على علي فكلمه فأغلظ علي له فعرض له الأشعث أنه سيفتك به فقال له علي أ بالموت تخوفني أو تهددني فو الله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع الموت علي

(7/102)


قال أبو الفرج قال أبو مخنف فحدثني أبي عن عبد الله بن محمد الأزدي قال إني لأصلي تلك الليلة في المسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر كانوا يصلون في ذلك الشهر من أول الليل إلى آخره إذ نظرت إلى رجال يصلون قريبا من السدة قياما و قعودا و ركوعا و سجودا ما يسأمون إذ خرج عليهم علي بن أبي طالب الفجر فأقبل ينادي الصلاة الصلاة فرأيت بريق السيف و سمعت قائلا يقول الحكم لله يا علي لا لك شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 118ثم رأيت بريق سيف آخر و سمعت صوت علي ع يقول لا يفوتنكم الرجل. قال أبو الفرج فأما بريق السيف الأول فإنه كان شبيبن بجرة ضربه فأخطأه و وقعت ضربته في الطاق و أما بريق السيف الثاني فإنه ابن ملجم ضربه فأثبت الضربة في وسط رأسه و شد الناس عليهما من كل ناحية حتى أخذوهما. قال أبو مخنف فهمدان تذكر أن رجلا منهم يكنى أبا أدماء أخذ ابن ملجم. و قال غيرهم بل أخذه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب طرح عليه قطيفة ثم صرعه و أخذ السيف من يده و جاء به. قال و أما شبيب بن بجرة فإنه خرج هاربا فأخذه رجل فصرعه و جلس على صدره و أخذ السيف من يده ليقتله فرأى الناس يقصدون نحوه فخشي أن يعجلوا عليه فوثب عن صدره و خلاه و طرح السيف عن يده و أما شبيب بن بجرة ففاته فخرج هاربا حتى دخل منزله فدخل عليه ابن عم له فرآه يحل الحرير عن صدره فقال له ما هذا لعلك قتلت أمير المؤمنين فأراد أن يقول لا فقال نعم فمضى ابن عمه فاشتمل على سيفه ثم دخل عليه فضربه حتى قتله.

(7/103)


قال أبو مخنف فحدثني أبي عن عبد الله بن محمد الأزدي قال أدخل ابن ملجم على علي ع و دخلت عليه فيمن دخل فسمعت عليا يقول النفس بالنفس إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني و إن سلمت رأيت فيه رأيي فقال ابن ملجم و لقد اشتريته بألف يعني السيف و سممته بألف فإن خانني فأبعده الله قال فنادته أم كلثوم يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين قال إنما قتلت أباك قالت يا عدو الله إني لأرجو شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 119ألا يكون عليه بأس قال فأراك إنما تبكين عليا إذا و الله لقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الأرض لأهلكتهمقال أبو الفرج و أخرج ابن ملجم من بين يديه و هو يقول
نحن ضربنا يا بنة الخير إذ طغى أبا حسن مأمومة فتفطراو نحن حللنا ملكه من نظامه بضربة سيف إذ علا و تجبراو نحن كرام في الصباح أعزة إذا المرء بالموت ارتدى و تأزرا
قال و انصرف الناس من صلاة الصبح فأحدقوا بابن ملجم ينهشون لحمه بأسنانهم كأنهم السباع و يقولون يا عدو الله ما ذا صنعت أهلكت أمة محمد و قتلت خير الناس و إنه لصامت ما ينطق.
قال أبو الفرج و روى أبو مخنف عن أبي الطفيل أن صعصعة بن صوحان استأذن على علي ع و قد أتاه عائدا لما ضربه ابن ملجم فلم يكن عليه إذن فقال صعصعة للآذن قل له يرحمك الله يا أمير المؤمنين حيا و ميتا فلقد كان الله في صدرك عظما و لقد كنت بذات الله عليما فأبلغه الآذن مقالته فقال قل له و أنت يرحمك الله فلقد كنت خفيف المئونة كثير المعونة

(7/104)


قال أبو الفرج ثم جمع له أطباء الكوفة فلم يكن منهم أحد أعلم بجرحه من أثير بن عمرو بن هانئ السكوني و كان متطببا صاحب كرسي يعالج الجراحات و كان من الأربعين غلاما الذين كان خالد بن الوليد أصابهم في عين التمر فسباهم فلما نظر أثير إلى جرح أمير المؤمنين دعا برئة شاة حارة فاستخرج منها عرقا و أدخله في الجرح ثم نفخه ثم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 120استخرجه و إذا عليه بياض الدماغ فقال يا أمير المؤمنين اعهد عهدك فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك فدعا علي ع عند ذلك بدواة و صحيفة و كتب وصيتههذا ما أوصى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون صلوات الله و بركاته عليه إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين أوصيك يا حسن و جميع ولدي و أهل بيتي و من بلغه كتابي هذا بتقوى الله ربنا و ربكم و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا فإني سمعت رسول الله يقول صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة و الصيام و إن المبيرة حالقة الدين إفساد ذات البين و لا قوة إلا بالله العلي العظيم انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوها يهون الله عليكم الحساب و الله الله في الأيتام فلا تغيرن أفواههم بجفوتكم و الله الله في جيرانكم فإنها وصية رسول الله ص فما زال يوصينا بهم حتى ظننا أنه سيورثهم الله و الله الله في القرآن فلا يسبقنكم بالعمل به غيركم و الله الله في الصلاة فإنها عماد دينكم و الله الله في صيام شهر رمضان فإنه جنة من النار و الله الله في الجهاد بأموالكم و أنفسكم و الله الله في زكاة أموالكم فإنها تطفئ غضب ربكم و الله الله في أهل بيت نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم و الله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله ص أوصى بهم و الله الله في الفقراء و

(7/105)


المساكين فأشركوهم في معايشكم و الله الله فيما ملكت أيمانكم فإنه كانت آخر وصية رسول الله ص إذ قال أوصيكم بالضعيفين فيما ملكت أيمانكم ثم الصلاة الصلاة لا تخافوا في الله لومة لائم يكفكم من بغى عليكم و من أرادكم بسوء قولوا للناس حسنا كما أمركم الله به و لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيتولى ذلك غيركم و تدعون فلا يستجاب لكم عليكم بالتواضع و التباذل و التبار و إياكم و التقاطع و التفرق شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 1و التدابر تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان و اتقوا الله إن الله شديد العقاب حفظكم الله من أهل بيت و حفظ فيكم نبيه أستودعكم الله خير مستودع و عليكم سلام الله و رحمته
قلت قوله و الله الله في الأيتام فلا تغيرن أفواههم بجفوتكم يحتمل تفسيرين أحدهما لا تجيعوهم فإن الجائع يخلف فمه و تتغير نكهته و الثاني لا تحوجوهم إلى تكرار الطلب و السؤال فإن السائل ينضب ريقه و تنشف لهواته و يتغير ريح فمه. و قوله حكاية عن رسول الله ص أوصيكم بالضعيفين فيما ملكت أيمانكم يعني به الحيوان الناطق و الحيوان الأعجم.
قال أبو الفرج و حدثني أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بإسناد ذكره في الكتاب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال قال لي الحسن بن علي ع خرجت و أبي يصلي في المسجد فقال لي يا بني إني بت الليلة أوقظ أهلي لأنها ليلة الجمعة صبيحة يوم بدر لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فملكتني عيناي فسنح لي رسول الله ص فقلت يا رسول الله ما ذا لقيت من أمتك من الأود و اللدد فقال لي ادع عليهم فقلت اللهم أبدلني بهم خيرا منهم و أبدلهم بي من هو شر مني قال الحسن ع و جاء ابن أبي الساج فأذنه بالصلاة فخرج فخرجت خلفه فاعتوره الرجلان فأما أحدهما فوقعت ضربته في الطاق و أما الآخر فأثبتها في رأسه

(7/106)


قال أبو الفرج قال حدثني أحمد بن عيسى قال حدثنا الحسين بن نصر قال شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 122حدثنا زيد بن المعدل عن يحيى بن شعيب عن أبي مخنف عن فضيل بن خديج عن الأسود الكندي و الأجلح قالا توفي علي ع و هو ابن أربع و ستين سنة في عام أربعين من الهجرة ليلة حدى و عشرين ليلة الأحد مضت من شهر رمضان و ولي غسله ابنه الحسن و عبد الله بن العباس و كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص و صلى عليه ابنه الحسن فكبر عليه خمس تكبيرات و دفن بالرحبة مما يلي أبواب كندة عند صلاة الصبح. هذه رواية أبي مخنف.
قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن سعيد قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي قال حدثنا يعقوب بن زيد عن ابن أبي عمير عن الحسن بن علي الخلال عن جده قال قلت للحسين بن علي ع أين دفنتم أمير المؤمنين ع قال خرجنا به ليلا من منزله حتى مررنا به على منزل الأشعث بن قيس ثم خرجنا به إلى الظهر بجنب الغري

(7/107)


قلت و هذه الرواية هي الحق و عليها العمل و قد قلنا فيما تقدم إن أبناء الناس أعرف بقبور آبائهم من غيرهم من الأجانب و هذا القبر الذي بالغري هو الذي كان بنو علي يزورونه قديما و حديثا و يقولون هذا قبر أبينا لا يشك أحد في ذلك من الشيعة و لا من غيرهم أعني بني علي من ظهر الحسن و الحسين و غيرهما من سلالته المتقدمين منهم و المتأخرين ما زاروا و لا وقفوا إلا على هذا القبر بعينه. و قد روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم وفاة شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 123أبي الغنائم محمد بن علي بن ميمونلنرسي المعروف بأبي لجوده قراءته قال توفي أبو الغنائم هذا في سنة عشر و خمسمائة و كان محدثا من أهل الكوفة ثقة حافظا و كان من قوام الليل و من أهل السنة و كان يقول ما بالكوفة من هو على مذهب أهل السنة و أصحاب الحديث غيري و كان يقول مات بالكوفة ثلاثمائة صحابي ليس قبر أحد منهم معروفا إلا قبر أمير المؤمنين و هو هذا القبر الذي يزوره الناس الآن جاء جعفر بن محمد ع و أبوه محمد بن علي بن الحسين ع إليه فزاراه و لم يكن إذ ذاك قبرا معروفا ظاهرا و إنما كان به سرح عضاه حتى جاء محمد بن زيد الداعي صاحب الديلم فأظهر القبر. و سألت بعض من أثق به من عقلاء شيوخ أهل الكوفة عما ذكره الخطيب أبو بكر في تاريخه أن قوما يقولون إن هذا القبر الذي تزوره الشيعة إلى جانب الغري هو قبر المغيرة بن شعبة فقال غلطوا في ذلك قبر المغيرة و قبر زياد بالثوية من أرض الكوفة و نحن نعرفهما و ننقل ذلك عن آبائنا و أجدادنا و أنشدني قول الشاعر يرثي زيادا و قد ذكره أبو تمام في الحماسة
صلى الإله على قبر و طهره عند الثوية يسفي فوقه المورزفت إليه قريش نعش سيدها فالحلم و الجود فيه اليوم مقبورأبا المغيرة و الدنيا مفجعة و إن من غرت الدنيا لمغرور

(7/108)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 124قد كان عندك للمعروف معرفة و كان عندك للمنكور تنكيرو كنت تغشى و تعطى المال من سعة فاليوم قبرك أضحى و هو مهجورو الناس بعدك قد خفت حلومهم كأنما نفخت فيه الأعاصيو سألت قطب الدين نقيب الطالبيين أبا عبد الله الحسين بن الأقساسي رحمه الله تعالى عن ذلك فقال صدق من أخبرك نحن و أهلها كافة نعرف مقابر ثقيف إلى الثوية و هي إلى اليوم معروفة و قبر المغيرة فيها إلا أنها لا تعرف و قد ابتلعها السبخ و زبد الأرض و فورانها فطمست و اختلط بعضها ببعض. ثم قال إن شئت أن تتحقق أن قبر المغيرة في مقابر ثقيف فانظر إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج علي بن الحسين و المح ما قاله في ترجمة المغيرة و أنه مدفون في مقابر ثقيف و يكفيك قول أبي الفرج فإنه الناقد البصير و الطبيب الخبير فتصفحت ترجمة المغيرة في الكتاب المذكور فوجدت الأمر كما قاله النقيب. قال أبو الفرج كان مصقلة بن هبيرة الشيباني قد لاحى المغيرة في شي ء كان بينهما منازعة فضرع له المغيرة و تواضع في كلامه حتى طمع فيه مصقلة فاستعلى عليه و شتمه و قال إني لأعرف شبهي في عروة ابنك فأشهد المغيرة على قول هذا شهودا ثم قدمه إلى شريح القاضي فأقام عليه البينة فضربه شريح الحد و آلى مصقلة ألا يقيم ببلدة فيها المغيرة فلم يدخل الكوفة حتى مات المغيرة فدخلها فتلقاه قومه فسلموا عليه فما فرغ من السلام حتى سألهم عن مقابر ثقيف فأرشدوه إليها فجعل قوم من مواليه شرح نهجلبلاغة ج : 6 ص : 125يلتقطون الحجارة فقال لهم ما هذا فقالوا نظن أنك تريد أن ترجم قبر المغيرة فقال ألقوا ما في أيديكم فانطلق حتى وقف على قبره ثم قال و الله لقد كنت ما علمت نافعا لصديقك ضارا لعدوك و ما مثلك إلا كما قال مهلهل في كليب أخيه

(7/109)


إن تحت الأحجار حزما و عزما و خصيما ألد ذا معلاق حية في الوجار أربد لا ينفع منه السليم نفثة راققال أبو الفرج فأما ابن ملجم فإن الحسن بن علي بعد دفنه أمير المؤمنين دعا به و أمر بضرب عنقه فقال له إن رأيت أن تأخذ علي العهود أن أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك بعد أن أمضي إلى الشام فأنظر ما صنع صاحبي بمعاوية فإن كان قتله و إلا قتلته ثم عدت إليك حتى تحكم في حكمك فقال هيهات و الله لا تشرب الماء البارد حتى تلحق روحك بالنار ثم ضرب عنقه و استوهبت أم الهيثم بنت الأسود النخعية جثته منه فوهبها لها فأحرقتها بالنار. و قال ابن أبي مياس الفزاري و هو من الخوارج
فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة كمهر قطام من غني و معدم ثلاثة آلاف و عبد و قينة و ضرب علي بالحسام المصمم فلا مهر أغلى من علي و إن غلا و لا فتك إلا دون فتك ابن ملجو قال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب
و هز علي بالعراقين لحية مصيبتها جلت على كل مسلم و قال سيأتيها من الله نازل و يخضبها أشقى البرية بالدم فعاجله بالسيف شلت يمينه لشؤم قطام عند ذاك ابن ملج شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 126فيا ضربة من خاسر ضل سعيه تبوأ منها مقعدا في جهنم ففاز أمير المؤمنين بحظه و إن طرقت إحدى الليالي بمعظم ألا إنما الدنيا بلاء و فتنة حلاوتها شيبت بصاب و عقال أبو الفرج و أنشدني عمي الحسن بن محمد قال أنشدني محمد بن سعد لبعض بني عبد المطلب يرثي عليا و لم يذكر اسمه
يا قبر سيدنا المجن سماحة صلى الإله عليك يا قبرما ضر قبرا أنت ساكنه ألا يحل بأرضه القطرفليندين سماح كفك بالثرى و ليورقن بجنبك الصخرو الله لو بك لم أجد أحدا إلا قتلت لفاتني الوتر

(7/110)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 70127- و من كلام له ع في ذم أهل العراقأَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَالْمَرْأَةِ الْحَامِلِ حَمَلَتْ فَلَمَّا أَتَمَّتْ أَمْلَصَتْ وَ مَاتَ قَيِّمُهَا وَ طَالَ تَأَيُّمُهَا وَ وَرِثَهَا أَبْعَدُهَا. أَمَا وَ اللَّهِ مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِيَاراً وَ لَكِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ سَوْقاً وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عَلِيٌّ يَكْذِبُ قَاتَلَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ أَ عَلَى اللَّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ أَمْ عَلَى نَبِيِّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ بِهِ كَلَّا وَ اللَّهِ لَكِنَّهَا لَهْجَةٌ غِبْتُمْ عَنْهَا وَ لَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا وَيْلُمِّهِ كَيْلًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ لَوْ كَانَ لَهُ وِعَاءٌ وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ

(7/111)


أملصت الحامل ألقت ولدها سقاطا و قيمها بعلها و تأيمها خلوها عن الأزواج يقول لما شارفتم استئصال أهل الشام و ظهرت أمارات الظفر لكم و دلائل الفتح نكصتم و جنحتم إلى السلم و الإجابة إلى التحكيم عند رفع المصاحف فكنتم كالمرأة الحامل لما أتمت أشهر حملها ألقت ولدها إلقاء غير طبيعي نحو أن تلقيه لسقطة أو ضربة أو عارض يقتضي أن تلقيه هالكا. ثم لم يكتف لهم بذلك حتى قال و مات بعلها و طال تأيمها و ورثها أبعدها أي لم يكن لها ولد و هو أقرب المخلفين إلى الميت و لم يكن لها بعل فورثها الأباعد عنها شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 128لسافلين من بني عم و كالمولاة تموت من غير ولد و لا من يجري مجراه فيرثها مولاها و لا نسب بينها و بينه. ثم أقسم أنه لم يأتهم اختيارا و لكن المقادير ساقته إليهم سوقا يعني اضطرارا. و صدق ع لأنه لو لا يوم الجمل لم يحتج إلى الخروج من المدينة إلى العراق و إنما استنجد بأهل الكوفة على أهل البصرة اضطرارا إليهم لأنه لم يكن جيشه الحجازي وافيا بأهل البصرة الذين أصفقوا على حربه و نكث بيعته و لم يكن خروجه عن المدينة و هي دار الهجرة و مفارقته لقبر رسول الله ص و قبر فاطمة عن إيثار و محبة و لكن الأحوال تحكم و تسوق الناس إلى ما لا يختارونه ابتداء. و قد روي هذا الكلام على وجه آخر ما أتيتكم اختيارا و لا جئت إليكم شوقا بالشين المعجمة. ثم قال بلغني أنكم تقولون يكذب و كان كثيرا ما يخبر عن الملاحم و الكائنات و يومئ إلى أمور أخبره بها رسول الله ص فيقول المنافقون من أصحابه يكذب كما كان المنافقون الأولون في حياة رسول الله ص يقولون عنه يكذب.
و روى صاحب كتاب الغارات عن الأعمش عن رجاله قال خطب علي ع فقال و الله لو أمرتكم فجمعتم من خياركم مائة ثم لو شئت لحدثتكم من غدوة إلى أن تغيب الشمس لا أخبرتكم إلا حقا ثم لتخرجن فلتزعمن أني أكذب الناس و أفجرهم

(7/112)


و قد روى صاحب هذا الكتاب و غيره من الرواة أنه قال إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قبله للإيمان
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 129و هذا الكلام منه كلام عارف عالم بأن في الناس من لا يصدقه فيما يقول و هذا أمر مركوز في الجبلة البشرية و هو استبعاد الأمور الغريبة و تكذيب الأخبار بها و إذا تأملت أحواله في خلافته كلها وجدتها هي مختصرة من أحوال رسول الله ص في اته كأنها نسخة منتسخة منها في حربه و سلمه و سيرته و أخلاقه و كثرة شكايته من المنافقين من أصحابه و المخالفين لأمره و إذا أردت أن تعلم ذلك علما واضحا فاقرأ سورة براءة ففيها الجم الغفير من المعنى الذي أشرنا إليه
ذكر مطاعن النظام على الإمام علي و الرد عليه
و اعلم أن النظام لما تكلم في كتاب النكت و انتصر لكون الإجماع ليس بحجة اضطر إلى ذكر عيوب الصحابة فذكر لكل منهم عيبا و وجه إلى كل واحد منهم طعنا و قال في علي إنه لما حارب الخوارج يوم النهروان كان يرفع رأسه إلى السماء تارة ينظر إليها ثم يطرق إلى الأرض فينظر إليها تارة أخرى يوهم أصحابه أنه يوحى إليه ثم يقول ما كذبت و لا كذبت فلما فرغ من قتالهم و أديل عليهم و وضعت الحرب أوزارها

(7/113)


قال الحسن ابنه يا أمير المؤمنين أ كان رسول الله ص تقدم إليك في أمر هؤلاء بشي ء فقال لا و لكن رسول الله ص أمرني بكل حق و من الحق أن أقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين قال النظام و قوله ما كذبت و لا كذبت و رفعه رأسه أحيانا إلى السماء و أطراقه إلى الأرض إيهام أما لنزول الوحي عليه أو لأنه قد أوصى من قبل في شأن الخوارج بأمر ثم هو يقول ما أوصى فيهم على خصوصيتهم بأمر و إنما أوصى بكل الحق و قتالهم من الحق. شرح نهج البلاغة ج 6 ص : 130و هذا عجيب طريف. فنقول إن النظام أخطأ عندنا في تعريضه بهذا الرجل خطأ قبيحا و قال قولا منكرا نستغفر الله له من عقابه و نسأله عفوه عنه و ليست الرواية التي رواها عن الحسن و سؤاله لأبيه و جوابه له بصحيحة و لا معروفة و المشهور المعروف المنقول نقلا يكاد يبلغ درجة المتواتر من الأخبار ما روي عن رسول الله ص في معنى الخوارج بأعيانهم و ذكرهم بصفاتهم
و قوله ص لعلي ع إنك مقاتلهم و قاتلهم و إن المخدج ذا الثدية منهم و إنك ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين

(7/114)


فجعلهم أصنافا ثلاثة حسب ما وقعت الحال عليه و هذا من معجزات الرسول ص و إخباره عن الغيوب المفصلة فما أعلم من أي كتاب نقل النظام هذه الرواية و لا عن أي محدث رواها و لقد كان رحمه الله تعالى بعيدا عن معرفة الأخبار و السير منصبا فكره مجهدا نفسه في الأمور النظرية الدقيقة كمسألة الجزء و مداخلة الأجسام و غيرهما و لم يكن الحديث و السير من فنونه و لا من علومه و لا ريب أنه سمعها ممن لا يوثق بقوله فنقلها كما سمعها. فأما كونه ع كان ينظر تارة إلى السماء و تارة إلى الأرض و قوله ما كذبت و لا كذبت فصحيح و موثوق بنقله لاستقامته و شهرته و كثرة رواته و الوجه في ذلك أنه استبطأ وجود المخدج حيث طلبه في جملة القتلى فلما طال الزمان و أشفق من دخول شبهة على أصحابه لما كان قدمه إليهم من الأخبار قلق و اهتم و جعل يكرر قوله ما كذبت و لا كذبت أي ما كذبت على رسول الله ص و لا كذبني رسول الله ص فيما أخبرني به. فأما رفعه رأسه إلى السماء تارة و أطراقه إلى الأرض أخرى فإنه حيث كان يرفع شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 131رأسه كان يدعو و يتضرع إلى الله في تعجيل الظفر بالمخدج و حيث يطرق كان يغلبه الهم و الفكر فيطرق. ثم حين يقول ما كذبت و لا كذبت كيف ينتظرزول الوحي فإن من نزل عليه الوحي لا يحتاج أن يسند الخبر إلى غيره و يقول ما كذبت فيما أخبرتكم به عن رسول الله ص. و مما طعن به النظام عليه
أنه ع قال إذا حدثتكم عن رسول الله ص فهو كما حدثتكم فو الله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله ص و إذا سمعتموني أحدثكم فيما بيني و بينكم فإنما الحرب خدعة

(7/115)


قال النظام هذا يجري مجرى التدليس في الحديث و لو لم يحدثهم عن رسول الله ص بالمعاريض و على طريق الإيهام لما اعتذر من ذلك. فنقول في الجواب إن النظام قد وهم و انعكس عليه مقصد أمير المؤمنين و ذلك أنه ع لشدة ورعه أراد أن يفصل للسامعين بين ما يخبر به عن نفسه و بين ما يرويه عن رسول الله ص و ذلك لأن الضرورة ربما تدعوه إلى استعماله المعاريض لا سيما في الحرب المبنية على الخديعة و الرأي فقال لهم كلما أقول لكم قال لي رسول الله ص فاعلموا أنه سليم من المعاريض خال من الرمز و الكناية لأني لا أستجيز و لا أستحل أن أعمي أو ألغز في حديث رسول الله ص. و ما حدثتكم به عن نفسي فربما أستعمل فيه المعاريض لأن الحرب خدعة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 132و هذا كلام رجل قد استعمل التقوى و الورع في جميع أموره و بلغ من تعظيم أمر الرسول عليه أفضل الصلاة و السلام و إجلال قدره و احترام حديثه ألارويه إلا بألفاظه لا بمعانيه و لا بأمر يقتضي فيه إلباسا و تعمية و لو كان مضطرا إلى ذلك ترجيحا للجانب الذي على جانب مصلحته في خاص نفسه فأما إذا هو قال كلاما يبتدئ به من نفسه فإنه قد يستعمل فيه المعاريض إذا اقتضت الحكمة و التدبير ذلك فقد كان رسول الله ص باتفاق الرواة كافة إذا أراد أن يغزو وجها ورى عنه بغيره و لما خرج ع من المدينة لفتح مكة قال لأصحابه كلاما يقتضي أنه يقصد بني بكر بن عبد مناة من كنانة فلم يعلموا حقيقة حاله حتى شارف مكة و قال حين هاجر و صحبه أبو بكر الصديق لأعرابي لقيهما من أين أنت و ممن أنت فلما انتسب لهما قال له الأعرابي أما أنا فقد اطلعتكما طلع أمري فممن أنت فقال من ماء لم يزده على ذلك فجعل الأعرابي يفكر و يقول من أي ماء من ماء بني فلان من ماء بني فلان فتركه و لم يفسر له و إنما أراد ع أنه مخلوق من نطفة. فأما قول النظام لو لم يحدث عن رسول الله ص بالمعاريض لما اعتذر من ذلك فليس في كلامه اعتذار و لكنه نفي أن

(7/116)


يدخل المعاريض في روايته و أجازها فيما يبتدئ به عن نفسه و ليس يتضمن هذا اعتذارا و قوله لأن أخر من السماء يدل على أنه ما فعل ذلك و لا يفعله
ثم قال على من أكذب يقول كيف أكذب على الله و أنا أول المؤمنين به و كيف أكذب على رسول الله و أنا أول المصدقين به أخرجه مخرج الاستبعاد لدعواهم و زعمهم. فإن قلت كيف يمكن أن يكون المكلف الذي هو من أتباع الرسول كاذبا على الله إلا بواسطة إخباره عن الرسول لأنه لا وصلة و لا واسطة بينه و بين الله تعالى إلا الرسول. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 133و إذا لم يمكن كذبه على الله إلا بكذبه على الرسول لم يبق لتقسيم الكذب و قوله أ فأنا أكذب على الله أو على رسوله معنى. قلت يمكن أن يكذب الكاذب على الله دون أن يكون كاذبا على الرس و إن كان من أتباع الرسول نحو أن يقول كنت مع الرسول ص ليلة في مقبرة فأحيا الله تعالى فلانا الميت فقام و قال كذا أو يقول كنت معه يوم كذا فسمعت مناديا يناديه من السماء افعل كذا أو نحو ذلك من الأخبار بأمور لا تستند إلى حديث الرسول. ثم قال ع كلا و الله أي لا و الله و قيل إن كلا بمعنى حقا و إنه إثبات. قال و لكنها لهجة غبتم عنها اللهجة بفتح الجيم و هي آلة النطق يقال له هو فصيح اللهجة و صادق اللهجة و يمكن أن يعنى بها لهجة رسول الله ص فيقول شهدت و غبتم و يمكن أن يعنى بها لهجته هو فيقول إنها لهجة غبتم عن منافعها و أعدمتم أنفسكم ثمن مناصحتها. ثم قال ويلمه الضمير راجع إلى ما دل عليه معنى الكلام من العلم لأنه لما ذكر اللهجة و شهوده إياها و غيبوبتهم عنها دل ذلك على علم له خصه به الرسول ع فقال ويلمه و هذه كلمة تقال للتعجب و الاستعظام يقال ويلمه فارسا و تكتب موصولة كما هي بهذه الصورة و أصله ويل أمه مرادهم التعظيم و المدح و إن كان اللفظ موضوعا لضد ذلك
كقوله ع فاظفر بذات الدين تربت يداك

(7/117)


و كقولهم للرجل يصفونه و يقرظونه لا أبا له. و قال الحسن البصري و هو يذكر عليا ع و يصف كونه على الحق شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 134في جميع أموره حتى قال فلما شارف الظفر وافق على التحكيم و ما لك في التحكيم و الحق في يديك لا أبا لك. قال أبو العباس المبرد هي كة فيها جفاء و خشونة كانت الأعراب تستعملها فيمن يستعظمون أمره قال و لما أنشد سليمان بن عبد الملك قول بعض الأعراب
رب العباد ما لنا و ما لكا قد كنت تسقينا فما بدا لكاأنزل علينا الغيث لا أبا لكا
قال أشهد أنه لا أب له و لا صاحبة و لا ولد فأخرجها أحسن مخرج. ثم قال ع كيلا بغير ثمن لو كان له وعاء انتصب كيلا لأنه مصدر في موضع الحال و يمكن أن ينتصب على التمييز كقولهم لله دره فارسا يقول أنا أكيل لكم العلم و الحكمة كيلا و لا أطلب لذلك ثمنا لو وجدت وعاء أي حاملا للعلم
و هذا مثل قوله ع ها إن بين جنبي علما جما لو أجد له حملة
ثم ختم الفصل بقوله تعالى وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ و هو أحسن ما ختم هذا الكلام به
خطبة الإمام علي بعد يوم النهروان

(7/118)


و روى المدائني في كتاب صفين قال خطب علي ع بعد انقضاء أمر النهروان فذكر طرفا من الملاحم قال إذا كثرت فيكم الأخلاط و استولت الأنباط دنا خراب العراق ذاك إذا بنيت مدينة ذات أثل و أنهار فإذا غلت فيها الأسعار و شيد فيها البنيان و حكم فيها الفساق و اشتد البلاء و تفاخر الغوغاء دنا خسوف البيداء و طاب الهرب و الجلاء و ستكون قبل الجلاء أمور يشيب منها الصغير و يعطب الكبير و يخرس الفصيح شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 135و يبهت اللبيب يعاجلون بالسيف صلتا و قد كانوا قبل ذلك في غضارة من عيشهم يمرحون فيا لها مصيبة حينئذ من الاء العقيم و البكاء الطويل و الويل و العويل و شدة الصريخ في ذلك أمر الله و هو كائن وقتا يريج فيا بن حرة الإماء متى تنتظر أبشر بنصر قريب من رب رحيم ألا فويل للمتكبرين عند حصاد الحاصدين و قتل الفاسقين عصاه ذي العرش العظيم فبأبي و أمي من عدة قليلة أسماؤهم في الأرض مجهولة قد دنا حينئذ ظهورهم و لو شئت لأخبرتكم بما يأتي و يكون من حوادث دهركم و نوائب زمانكم و بلايا أيامكم و غمرات ساعاتكم و لكنه أفضيه إلى من أفضيه إليه مخافة عليكم و نظرا لكم علما مني بما هو كائن و ما يكون من البلاء الشامل ذلك عند تمرد الأشرار و طاعة أولي الخسار ذاك أوان الحتف و الدمار ذاك أدبار أمركم و انقطاع أصلكم و تشتت ألفتكم و إنما يكون ذلك عند ظهور العصيان و انتشار الفسوق حيث يكون الضرب بالسيف أهون على المؤمنين من اكتساب درهم حلال حين لا تنال المعيشة إلا بمعصية الله في سمائه حين تسكرون من غير شراب و تحلفون من غير اضطرار و تظلمون من غير منفعة و تكذبون من غير إحراج تتفكهون بالفسوق و تبادرون بالمعصية قولكم البهتان و حديثكم الزور و أعمالكم الغرور فعند ذلك لا تأمنون البيات فيا له من بيات ما أشد ظلمته و من صائح ما أفظع صوته ذلك بيات لا ينمي صاحبه فعند ذلك تقتلون و بأنواع البلاء تضربون و بالسيف تحصدون و إلى النار

(7/119)


تصيرون و يعضكم البلاء كما يعض الغارب القتب يا عجبا كل العجب بين جمادى و رجب من جمع أشتات و حصد نبات و من أصوات بعدها أصوات ثم قال سبق القضاء سبق القضاء شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 136قال رجل من ل البصرة لرجل من أهل الكوفة إلى جانبه أشهد أنه كاذب على الله و رسوله قال الكوفي و ما يدريك قال فو الله ما نزل علي من المنبر حتى فلج الرجل فحمل إلى منزله في شق محمل فمات من ليلته
من خطب الإمام علي أيضا
و روى المدائني أيضا قال خطب علي ع فقال لو كسرت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم و بين أهل الفرقان بفرقانهم و ما من آية في كتاب الله أنزلت في سهل أو جبل إلا و أنا عالم متى أنزلت و فيمن أنزلت فقال رجل من القعود تحت منبره يا لله و للدعوى الكاذبة و قال آخر إلى جانبه أشهد أنك أنت الله رب العالمين
قال المدائني فانظر إلى هذا التناقض و التباين فيه
و روى المدائني أيضا قال خطب علي ع فذكر الملاحم فقال سلوني قبل أن تفقدوني أما و الله لتشغرن الفتنة الصماء برجلها و تطأ في خطامها يا لها من فتنة شبت نارها بالحطب الجزل مقبلة من شرق الأرض رافعة ذيلها داعية ويلها بدجلة أو حولها ذاك إذا استدار الفلك و قلتم مات أو هلك بأي واد سلك فقال قوم تحت منبره لله أبوه ما أفصحه كاذبا
و روى صاحب كتاب الغارات عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 137قال سمعت عليا يقول على المنبر ما أحد جرت عليه المواسي إلا و قد أنزل الله فيه قرآنا فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين فما أنزل الله تعالى فيك قال يريد تكذيبه ام الناس إليه يلكزونه في صدره و جنبه فقال دعوه أقرأت سورة هود قال نعم قال أ قرأت قوله سبحانه أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال نعم قال صاحب البينة محمد و التالي الشاهد أنا

(7/120)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 71138- و من خطبة له ع علم فيها الناس الصلاة على النبي صاللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ وَ دَاعِمَ الْمَسْمُوكَاتِ وَ جَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطَرَاتِهَا شَقِيِّهَا وَ سَعِيدِهَا اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ وَ نَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ وَ الْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ وَ الْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ وَ الدَّافِعِ جَيْشَاتِ الْأَبَاطِيلِ وَ الدَّامِغِ صَوْلَاتِ الْأَضَالِيلِ كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِكَ غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ وَ لَا وَاهٍ فِي عَزْمٍ وَاعِياً لِوَحْيِكَ حَافِظاً لِعَهْدِكَ مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ وَ أَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ وَ هُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَ الآْثَامِ وَ أَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الْأَعْلَامِ وَ نَيِّرَاتِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ وَ خَازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ وَ بَعِيثُكَ بِالْحَقِّ وَ رَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ اللَّهُمَّ افْسَحْ لَهُ مَفْسَحاً فِي ظِلِّكَ وَ اجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ اللَّهُمَّ وَ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَهُ وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ مَنْزِلَتَهُ وَ أَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ وَ اجْزِهِ مِنِ ابْتِعَاثِكَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ مَرْضِيَّ الْمَقَالَةِ ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ وَ خُطْبَةٍ فَصْلٍ اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ فِي بَرْدِ الْعَيْشِ وَ قَرَارِ النِّعْمَةِ وَ مُنَى الشَّهَوَاتِ وَ أَهْوَاءِ اللَّذَّاتِ وَ رَخَاءِ الدَّعَةِ وَ مُنْتَهَى الطُّمَأْنِينَةِ وَ تُحَفِ الْكَرَامَةِ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 139دحوت الرغيف دحوا بسطته

(7/121)


و المدحوات هنا الأرضون. فإن قلت قد ثبت أن الأرض كرية فكيف تكون بسيطة و البسيط هو المسطح و الكري لا يكون مسطحا. قلت الأرض بجملتها شكل كرة و ذلك لا يمنع أن تكون كل قطعة منها مبسوطة تصلح لأن تكون مستقرا وجالا للبشر و غيرهم من الحيوان فإن المراد بانبساطها هاهنا ليس هو السطح الحقيقي الذي لا يوجد في الكرة بل كون كل قطعة منها صالحة لأن يتصرف عليها الحيوان لا يعني به غير ذلك. و داحي المدحوات ينتصب لأنه منادى مضاف تقديره يا باسط الأرضين المبسوطات قوله و داعم المسموكات أي حافظ السموات المرفوعات دعمت الشي ء إذا حفظته من الهوى بدعامه و المسموك المرفوع قال إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز و أطول
و يجوز أن يكون عنى بكونها مسموكة كونها ثخينة و سمك الجسم هو البعد الذي يعبر عنه المتكلمون بالعمق و هو قسيم الطول و العرض و لا شي ء أعظم ثخنا من الأفلاك. فإن قلت كيف قال إنه تعالى دعم السموات و هي بغير عمد. قلت إذا كان حافظا لها من الهوى بقدرته و قوته فقد دق عليه كونه داعما لها لأن قوته الحافظة تجري مجرى الدعامة. قوله و جابل القلوب أي خالقها و الجبل الخلق و جبلة الإنسان خلقته و فطراتها بكسر الفاء و فتح الطاء جمع فطرة و يجوز كسر الطاء كما قالوا في سدرة سدرات و سدرات و الفطرة الحالة التي يفطر الله عليها الإنسان أي يخلقه عليها خاليا من الآراء شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 140و الديانات و العقائد و الأهوية و هي ما يقتضيه محض العقل و إنما يختار الإنسان بسوء نظره ما يفضي به إلى الشقوة و هذا معنى قول النبي ص كل مولود يولد على الفطرة فإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه

(7/122)


قوله شقيها و سعيدها بدل من القلوب و تقدير الكلام و جابل الشقي من القلوب و السعيد على ما فطرت عليه. و النوامي الزوائد و الخاتم لما سبق أي لما سبق من الملل و الفاتح لما انغلق من أمر الجاهلية و المعلن الحق بالحق أي المظهر للحق الذي هو خلاف الباطل بالحق أي بالحرب و الخصومة يقال حاق فلان فلانا فحقه أي خاصمه فخصمه و يقال ما فيه حق أي خصومة. قوله و الدافع جيشات الأباطيل جمع جيشة من جاشت القدر إذا ارتفع غليانها. و الأباطيل جمع باطل على غير قياس و المراد أنه قامع ما نجم من الباطل. و الدامغ المهلك من دمغه أي شجه حتى بلغ الدماغ و مع ذلك يكون الهلاك. و الصولات جمع صولة و هي السطوة و الأضاليل جمع ضلال على غير قياس. قوله كما حمل أي لأجل أنه يحمل و العرب تستعمل هذه الكاف بمعنى التعليل قال الشاعر
فقلت له أبا الملحاء خذها كما أوسعتنا بغيا و عدوا

(7/123)


أي هذه الضربة لبغيك علينا و تعديك. و قوله كما حمل يعني حمل أعباء الرسالة فاضطلع أي نهض بها قويا فرس ضليع أي قوي و هي الضلاعة أي القوة. مستوفزا أي غبر بطي ء بل يحث نفسه و يجهدها في رضا الله سبحانه و الوفز العجلة و المستوفز المستعجل. شرح نهج البلاغة ج : 6: 141غير ناكل عن قدم أي غير جبان و لا متأخر عن إقدام و المقدام المتقدم يقال مضى قدما أي تقدم و سار و لم يعرج. قوله و لا واه في عزم وهى أي ضعف و الواهي الضعيف. واعيا لوحيك أي فاهما وعيت الحديث أي فهمته و عقلته. ماضيا على نفاذ أمرك في الكلام حذف تقديره ماضيا مصرا على نفاذ أمرك كقوله تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ و لم يقل مرسلا لأن الكلام يدل بعضه على بعض. و قوله حتى أورى قبس القابس يقال ورى الزند يري أي خرج ناره و أوريته أنا و القبس شعله من النار و المراد بالقبس هاهنا نور الحق و القابس الذي يطلب النار يقال قبست منه نارا و أقبسني نارا أي أعطانيها. و قال الراوندي أقبست الرجل علما و قبسته نارا أعطيته فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته نارا. و قال الكسائي أقبسته نارا و علما سواء قال و يجوز قبسته بغير همزة فيهما. قوله و أضاء الطريق للخابط أي جعل الطريق للخابط مضيئة و الخابط الذي يسير ليلا على غير جادة واضحة. و هذه الألفاظ كلها استعارات و مجازات. و خوضات الفتن جمع خوضة و هي المرة الواحدة من خضت الماء و الوحل أخوضهما و تقدير الكلام و هديت به القلوب إلى الأعلام الموضحة بعد أن خاضت في الفتن أطوارا و الأعلام جمع علم و هو ما يستدل به على الطريق كالمنارة و نحوها. و الموضحة التي توضح للناس الأمور و تكشفها و النيرات ذوات النور. قوله فهو أمينك المأمون أي أمينك على وحيك و المأمون من ألقاب رسول الله ص قال كعب بن زهير شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 14سقاك أبو بكر بكأس روية و انهلك المأمون منها و علكا

(7/124)


و خازن علمك المخزون بالجر صفة علمك و العلم الإلهي المخزون هو ما اطلع الله تعالى عليه و رسوله من الأمور الخفية التي لا تتعلق بالأحكام الشرعية كالملاحم و أحكام الآخرة و غير ذلك لأن الأمور الشرعية لا يجوز أن تكون مخزونة عن المكلفين. و قوله و شهيدك يوم الدين أي شاهدك قال سبحانه فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً. و البعيث المبعوث فعيل بمعنى مفعول كقتيل و جريح و صريع و مفسحا مصدر أي وسع له مفسحا. و قوله في ظلك يمكن أن يكون مجازا كقولهم فلان يشملني بظله أي بإحسانه و بره و يمكن أن يكون حقيقة و يعني به الظل الممدود الذي ذكره الله تعالى فقال وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ. و قوله و أعل على بناء البانين بناءه أي اجعل منزلته في دار الثواب أعلى المنازل. و أتمم له نوره من قوله تعالى رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا و قد روي أنه تطفأ سائر الأنوار إلا نور محمد ص ثم يعطى المخلصون من أصحابه أنوارا يسيرة يبصرون بها مواطئ الأقدام فيدعون إلى الله تعالى بزيادة تلك الأنوار و إتمامها ثم إن الله تعالى يتم نور محمد ص فيستطيل حتى يملأ الآفاق فذلك هو إتمام نوره ص. قوله من ابتعاثك له أي في الآخرة. مقبول الشهادة أي مصدقا فيما يشهد به على أمته و على غيرها من الأمم. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 143و قوله ذا منطق عدل أي عادل و هو مصدر أقيم مقام اسم الفاعل كقولك رجل فطر و صوم أي مفطر و صائم. و قوله و خطبة فصل أي يخطب خطبة فاصلة يوم القيامةقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ أي فاصل يفصل بين الحق و الباطل و هذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى في الكتاب فقال عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً و هو الذي يشار إليه في الدعوات في قولهم اللهم آت محمدا الوسيلة و الفضيلة و الدرجة الرفيعة و ابعثه المقام المحمود. قوله في

(7/125)


برد العيش تقول العرب عيش بارد و معيشة باردة أي لا حرب فيها و لا نزاع لأن البرد و السكون متلازمان كتلازم الحر و الحركة. و قرار النعمة أي مستقرها يقال هذا قرار السيل أي مستقره و من أمثالهم لكل سائلة قرار. و منى الشهوات ما تتعلق به الشهوات من الأماني و أهواء اللذات ما تهواه النفوس و تستلذه و الرخاء المصدر من قولك رجل رخى البال فهو بين الرخاء أي واسع الحال. و الدعة السكون و الطمأنينة و أصلها الواو. و منتهى الطمأنينة غايتها التي ليس بعدها غاية. و التحف جمع تحفة و هي ما يكرم به الإنسان من البر و اللطف و يجوز فتح الحاء
معنى الصلاة على النبي و الخلاف في جواز الصلاة على غيره
فإن قلت ما معنى الصلاة على الرسول ص التي قال الله تعالى فيها شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 144 إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً. قلت الصلاة من الله تعالى هي الإكر و التبجيل و رفع المنزلة و الصلاة منا على النبي ص هي الدعاء له بذلك فقوله سبحانه هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ أي هو الذي يرفع منازلكم في الآخرة و قوله وَ مَلائِكَتُهُ أي يدعون لكم بذلك. و قيل جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنهم فاعلون التعظيم للمؤمن و رفع المنزلة و نظيره قوله حياك الله أي أحياك الله و أبقاك و حييتك أي دعوت لك بأن يحييك لأنك لاعتمادك على إجابة دعوتك و وثوقك بذلك كأنك تحييه و تبقيه على الحقيقة و هكذا القول في قوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ. و قد اختلف في الصلاة على النبي ص هل هي واجبة أم لا. فمن الناس من لم يقل بوجوبها و جعل الأمر في هذه الآية للندب و منهم من قال إنها واجبة. و اختلفوا في حال وجوبها فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره
و في الحديث من ذكرت عنده فلم يصل علي دخل النار و أبعده الله

(7/126)


و منهم من قال تجب في كل مجلس مرة واحدة و إن تكرر ذكره و منهم من أوجبها في العمر مرة واحدة و كذلك قال في إظهار الشهادتين. و اختلف أيضا في وجوبها في الصلاة المفروضة فأبو حنيفة و أصحابه لا يوجبونها فيها و روي عن إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكتفون يعني الصحابة عنها بالتشهد و هو السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته و أوجبها الشافعي و أصحابه و اختلف أصحابه في وجوب الصلاة على آل محمد ص فالأكثرون على أنها واجبة و أنها شرط في صحة الصلاة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 145فإن قلت فما تقول في الصلاة على الصحابة و اللحين من المسلمين. قلت القياس جواز الصلاة على كل مؤمن لقوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ و قوله وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ و قوله أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ و لكن العلماء قالوا إذا ذكر أحد من المسلمين تبعا للنبي ع فلا كلام في جواز ذلك و أما إذا أفردوا أو ذكر أحد منهم فأكثر الناس كرهوا الصلاة عليه لأن ذلك شعار رسول الله فلا يشركه فيه غيره. و أما أصحابنا من البغداديين فلهم اصطلاح آخر و هو أنهم يكرهون إذا ذكروا عليا ع أن يقولوا صلى الله عليه و لا يكرهون أن يقولوا صلوات الله عليه و جعلوا اللفظة الأولى مختصة بالرسول ص و جعلوا اللفظة الثانية مشتركة فيها بينهما ع و لم يطلقوا لفظ الصلاة على أحد من المسلمين إلا على علي وحده

(7/127)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 72146- و من كلام له ع قاله لمروان بن الحكم بالبصرةقَالُوا أُخِذَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَسِيراً يَوْمَ الْجَمَلِ فَاسْتَشْفَعَ الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ ع إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع فَكَلَّمَاهُ فِيهِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالَا لَهُ يُبَايِعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ ع أَ وَ لَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ لَا حَاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِهِ إِنَّهَا كَفٌ يَهُودِيَّةٌ لَوْ بَايَعَنِي بِيَدِهِ لَغَدَرَ بِسَبَّتِهِ أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَهُ وَ هُوَ أَبُو الْأَكْبَشِ الْأَرْبَعَةِ وَ سَتَلْقَى الْأُمَّةُ مِنْهُ وَ مِنْ وُلْدِهِ يَوْماً أَحْمَرَ
قد روي هذا الخبر من طرق كثيرة و رويت فيه زيادة لم يذكرها صاحب نهج البلاغة
و هي قوله ع في مروان يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه و إن له إمرة

(7/128)


إلى آخر الكلام. و قوله فاستشفع الحسن و الحسين إلى أمير المؤمنين ع هو الوجه يقال استشفعت فلانا إلى فلان أي سألته أن يشفع لي إليه و تشفعت إلى فلان في فلان فشفعني فيه تشفيعا و قول الناس استشفعت بفلان إلى فلان بالباء ليس بذلك الجيد. و قول أمير المؤمنين ع أ و لم يبايعني بعد قتل عثمان أي و قد غدر و هكذا لو بايعني الآن. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 147و معنى قوله إنها كف يهودية أي غادرة و اليهود تنسب إلى الغدر و الخبث و قال تعالى لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ. و السبة الاست بفتالسين سبه يسبه أي طعنه في الموضع و معنى الكلام محمول على وجهين. أحدهما أن يكون ذكر السبة إهانة له و غلظة عليه و العرب تسلك مثل ذلك في خطبها و كلامها قال المتوكل لأبي العيناء إلى متى تمدح الناس و تذمهم فقال ما أحسنوا و أساءوا ثم قال يا أمير المؤمنين إن الله تعالى رضي عن واحد فمدحه و سخط على آخر فهجاه و هجا أمه قال نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ و قال عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ و الزنيم ولد الزنا. الوجه الثاني أن يريد بالكلام حقيقة لا مجازا و ذلك لأن الغادر من العرب كان إذا عزم على الغدر بعد عهد قد عاهده أو عقد قد عقده حبق استهزاء بما كان قد أظهره من اليمين و العهد و سخرية و تهكما. و الإمرة الولاية بكسر الهمزة و قوله كلعقة الكلب أنفه يريد قصر المدة و كذلك كانت مدة خلافة مروان فإنه ولي تسعة أشهر. و الأكبش الأربعة بنو عبد الملك الوليد و سليمان و يزيد و هشام و لم يل الخلافة من بني أمية و لا من غيرهم أربعة إخوة إلا هؤلاء. و كل الناس فسروا الأكبش الأربعة بمن ذكرناه و عندي أنه يجوز أن يعني به شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 148بني مروان لصلبه و هم عبد الملك و عبد العزيز و بشر و محمد و كانوا كباشا أبطالا أنجادا أما ع الملك فولي الخلافة و أما بشر فولي العراق و أما محمد فولي الجزيرة و

(7/129)


أما عبد العزيز فولي مصر و لكل منهم آثار مشهورة و هذا التفسير أولى لأن الوليد و إخوته أبناء ابنه و هؤلاء بنوه لصلبه. و يقال لليوم الشديد يوم أحمر و للسنة ذات الجدب سنة حمراء. و كل ما أخبر به أمير المؤمنين ع في هذا الكلام وقع كما أخبر به و كذلك قوله يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه فإنه ولي الخلافة و هو ابن خمسة و ستين في أعدل الروايات
مروان بن الحكم و نسبه و أخباره
و نحن ذاكرون في هذا الموضع نسبه و جملا من أمره و ولايته للخلافة و وفاته على سبيل الاختصار. هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف و أمه آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية الكناني يكنى أبا عبد الملك ولد على عهد رسول الله ص منذ سنة اثنتين من الهجرة و قيل عام الخندق و قيل يوم أحد و قيل غير ذلك و قال قوم بل ولد بمكة و قيل ولد بالطائف ذكر ذلك كله أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب. قال أبو عمر و ممن قال بولادته يوم أحد مالك بن أنس و على قوله يكون شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 149رسول الله ص توفي و عمره ثمان سنين أو نحوها. و قيل إنه لما نفي مع أبيه إلى الطائف كان طفلا لا يعقل و إنه لم ير رسول الله ص و كان الحكم أبوه قد طرده رسول الله عن المدينة و سيره إلى الطائف فلم يزل بها حتى ولي عثمان فرده إلى المدينة فقدمها هو و ولده في خلافة عثمان و توفي فاستكتبه عثمان و ضمه إليه فاستولى عليه إلى أن قتل. و الحكم بن أبي العاص هو عم عثمان بن عفان كان من مسلمة الفتح و من المؤلفة قلوبهم و توفي الحكم في خلافة عثمان قبل قتله بشهور. و اختلف في السبب الموجب لنفي رسول الله ص فقيل إنه كان يتحيل و يستخفي و يتسمع ما يسره رسول الله ص إلى أكابر الصحابة في مشركي قريش و سائر الكفار و المنافقين و يفشي ذلك عنه حتى ظهر ذلك عنه. و قيل كان يتجسس على رسول الله ص و هو عند نسائه و يسترق السمع و يصغي إلى ما يجري هناك مما لا يجوز

(7/130)


الاطلاع عليه ثم يحدث به المنافقين على طريق الاستهزاء. و قيل كان يحكيه في بعض مشيته و بعض حركاته فقد قيل إن النبي ص كان إذا مشى يتكفأ و كان الحكم بن أبي العاص يحكيه و كان شانئا له مبغضا حاسدا فالتفت رسول الله ص يوما فرآه يمشي خلفه يحكيه في مشيته
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 150فقال له كذلك فلتكن يا حكم فكان الحكم مختلجا يرتعش من يومئذ فذكر ذلك عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقال لعبد الرحمن بن الحكم يهجوهإن اللعين أبوك فارم عظامه إن ترم ترم مخلجا مجنونايمشي خميص البطن من عمل التقى و يظل من عمل الخبيث بطينا
قال صاحب الإستيعاب أما قول عبد الرحمن بن حسان إن اللعين أبوك فإنه روي عن عائشة من طرق ذكرها ابن أبي خيثمة و غيره أنها قالت لمروان إذ قال في أخيها عبد الرحمن إنه أنزل فيه وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله ص لعن أباك و أنت في صلبه.
و روى صاحب كتاب الإستيعاب بإسناد ذكره عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ص قال يدخل عليكم رجل لعين قال عبد الله و كنت قد رأيت أبي يلبس ثيابه ليقبل إلى رسول الله ص فلم أزل مشفقا أن يكون أول من يدخل فدخل الحكم بن أبي العاص
قال صاحب الإستيعاب و نظر علي ع يوما إلى مروان فقال له ويل لك و ويل لأمة محمد منك و من بنيك إذا شاب صدغاك

(7/131)


و كان مروان يدعى شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 151خيط باطل قيل لأنه كان طويلا مضطربا. و ضرب يوم الدار على قفاه فخر لفيه فلما بويع له بالخلافة قال فيه أخوه عبد الرحمن بن الحكم و كان ماجنا شاعرا محسنا و كان لا يرى رأي مروانفو الله ما أدري و إني لسائل حليلة مضرب القفا كيف تصنع لحا الله قوما أمروا خيط باطل على الناس يعطي ما يشاء و يمنعو قيل إنما قال له أخوه عبد الرحمن ذلك حين ولاه معاوية إمرة المدينة و كان كثيرا ما يهجوه و من شعره فيه
وهبت نصيبي منك يا مرو كله لعمرو و مروان الطويل و خالدو رب ابن أم زائد غير ناقص و أنت ابن أم ناقص غير زائد
و قال مالك بن الريب يهجو مروان بن الحكم
لعمرك ما مروان يقضي أمورنا و لكن ما يقضي لنا بنت جعفرفيا ليتها كانت علينا أميره و ليتك يا مروان أمسيت ذاحر
و من شعر أخيه عبد الرحمن فيه
ألا من يبلغن مروان عني رسولا و الرسول من البيان بأنك لن ترى طردا لحر كإلصاق به بعض الهوان و هل حدثت قبلي عن كريم معين في الحوادث أو معان يقيم بدار مضيعة إذا لم يكن حيران أو خفق الجن شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 152فلا تقذف بي الرجوين إني أقل القوم من يغني مكاني سأكفيك الذي استكفيت مني بأمر لا تخالجه اليدان فلو أنا بمنزلة جرينا جريت و أنت مضطرب العنان و لو لا أن أم أبيك أمي و أن من قد هجاك فقد هجاني لقد جاهرت بالبغضاء إني إلى أمر ا و العلان
و لما صار أمر الخلافة إلى معاوية ولى مروان المدينة ثم جمع له إلى المدينة مكة و الطائف ثم عزله و ولى سعيد بن العاص فلما مات يزيد بن معاوية و ولي ابنه أبو ليلى معاوية بن يزيد في سنة أربع و ستين عاش في الخلافة أربعين يوما و مات فقالت له أمه أم خالد بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس اجعل الخلافة من بعدك لأخيك فأبى و قال لا يكون لي مرها و لكم حلوها فوثب مروان عليها و أنشد
إني أرى فتنة تغلي مراجلها و الملك بعد أبي ليلى لمن غلبا

(7/132)


و ذكر أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب الأغاني أن معاوية لما عزل مروان بن الحكم عن إمرة المدينة و الحجاز و ولى مكانه سعيد بن العاص وجه مروان أخاه عبد الرحمن بن الحكم أمامه إلى معاوية و قال له ألقه قبلي فعاتبه لي و استصلحه. قال أبو الفرج و قد روي أن عبد الرحمن كان بدمشق يومئذ فلما بلغه خبر عزل مروان و قدومه إلى الشام خرج و تلقاه و قال له أقم حتى أدخل إلى أخيك فإن كان عزلك عن موجدة دخلت إليه منفردا و إن كان عن غير موجدة دخلت إليه مع الناس شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 153فأقام مروان و مضى عبد الرحمن فل قدم على معاوية دخل إليه و هو يعشي الناس فأنشده
أتتك العيس تنفخ في براها تكشف عن مناكبها القطوع بأبيض من أمية مضرحي كأن جبينه سيف صنيعفقال له معاوية أ زائرا جئت أم مفاخرا مكابرا فقال أي ذلك شئت فقال ما أشاء من ذلك شيئا و أراد معاوية أن يقطعه عن كلامه الذي عن له فقال له على أي ظهر جئتنا فقال على فرس قال ما صفته قال أجش هزيم يعرض بقول النجاشي في معاوية يوم صفين

(7/133)


و نجا ابن حرب سابح ذو علالة أجش هزيم و الرماح دوان إذا قلت أطراف الرماح تناله مرته له الساقان و القدمانفغضب معاوية و قال إلا أنه لا يركبه صاحبه في الظلم إلى الريب و لا هو ممن يتسور على جاراته و لا يتوثب بعد هجعة الناس على كنائنه و كان عبد الرحمن يتهم بذلك في امرأة أخيه فخجل عبد الرحمن و قال يا أمير المؤمنين ما حملك على عزل ابن عمك الخيانة أوجبت ذلك أم لرأي رأيته و تدبير استصلحته قال بل لتدبير استصلحته قال فلا بأس بذلك فخرج من عنده فلقي أخاه مروان فأخبره بما دار بينه و بين معاوية فاستشاط غيظا و قال لعبد الرحمن قبحك الله ما أضعفك عرضت للرجل بما أغضبه حتى إذا انتصر شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 154منك أحجمت عنه ثلبس حلته و ركب فرسه و تقلد سيفه و دخل على معاوية فقال له حين رآه و تبين الغضب في وجهه مرحبا بأبي عبد الملك لقد زرتنا عند اشتياق منا إليك فقال لا ها الله ما زرتك لذلك و لا قدمت عليك فألفيتك إلا عاقا قاطعا و الله ما أنصفتنا و لا جزيتنا جزاءنا لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص و الصهر عن رسول الله ص لهم و الخلافة منهم فوصلوكم يا بني حرب و شرفوكم و ولوكم فما عزلوكم و لا آثروا عليكم حتى إذا وليتم و أفضى الأمر إليكم أبيتم إلا أثرة و سوء صنيعة و قبح قطيعة فرويدا رويدا فقد بلغ بنو الحكم و بنو بنيه نيفا و عشرين و إنما هي أيام قلائل حتى يكملوا أربعين ثم يعلم امرؤ ما يكون منهم حينئذ ثم هم للجزاء بالحسنى و السوء بالمرصاد. قال أبو الفرج هذا رمز إلى
قول رسول الله ص إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا اتخذوا مال الله دولا و عباد الله خولا

(7/134)


فكان بنو أبي العاص يذكرون أنهم سيلون أمر الأمة إذا بلغوا هذه العدة. قال أبو الفرج فقال له معاوية مهلا أبا عبد الملك إني لم أعزلك عن خيانة و إنما عزلتك لثلاثة لو لم يكن منهن إلا واحدة لأوجبت عزلك إحداهن أني أمرتك على عبد الله بن عامر و بينكما ما بينكما فلن تستطيع أن تشتفي منه و الثانية كراهيتك لإمرة زياد و الثالثة أن ابنتي رملة استعدتك على زوجها عمرو بن عثمان فلم تعدها فقال مروان أما ابن عامر فإني لا أنتصر منه في سلطاني و لكن إذا تساوت الأقدام علم أين موقعه و أما كراهتي لإمرة زياد فإن سائر بني أمية كرهوه و جعل الله لنا في ذلك الكره خيرا كثيرا و أما استعداء رملة على عمرو فو الله إنه ليأتي علي سنة أو أكثر شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 155و عندي بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا يعرض بأن رملة إنما تستعدي على عمرو بن عثمان طلب النكاح فغضب معاوية فقال يا ابن الوزغ لست هنافقال مروان هو ما قلت لك و إني الآن لأبو عشرة و أخو عشرة و عم عشرة و قد كاد ولد أبي أن يكملوا العدة يعني أربعين و لو قد بلغوها لعلمت أين تقع مني فانخزل معاوية و قال
فإن أك في شراركم قليلا فإني في خياركم كثيربغاث الطير أكثرها فراخا و أم الصقر مقلات نزور

(7/135)


ثم استخذى معاوية في يد مروان و خضع و قال لك العتبى و أنا رادك إلى عملك فوثب مروان و قال كلا و عيشك لا رأيتني عائدا و خرج. فقال الأحنف لمعاوية ما رأيت قط لك سقطة مثلها ما هذا الخضوع لمروان و أي شي ء يكون منه و من بني أبيه إذا بلغوا أربعين و ما الذي تخشاه مهم فقال ادن مني أخبرك ذلك فدنا الأحنف منه فقال له إن الحكم بن أبي العاص كان أحد من قدم مع أختي أم حبيبة لما زفت إلى رسول الله ص و هو يتولى نقلها إليه فجعل رسول الله ص يحد النظر إليه فلما خرج من عنده قيل يا رسول الله لقد أحددت النظر إلى الحكم فقال ابن المخزومية ذاك رجل إذا بلغ بنو أبيه ثلاثين أو أربعين ملكوا الأمر من بعدي فو الله لقد تلقاها مروان من عين صافية فقال الأحنف رويدا يا أمير المؤمنين لا يسمع هذا منك أحد فإنك تضع من قدرك و قدر ولدك بعدك و إن يقض الله أمرا يكن فقال شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 156معاو اكتمها يا أبا بحر علي إذا فقد لعمرك صدقت و نصحت. و ذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب مفاخرة هاشم و عبد شمس أن مروان كان يضعف و أنه كان ينشد يوم مرج راهط و الرءوس تندر عن كواهلها
و ما ضرهم غير حين النفوس أي غلامي قريش غلب

(7/136)


قال و هذا حمق شديد و ضعف عظيم قال و إنما ساد مروان و ذكر بابنه عبد الملك كما ساد بنوه و لم يكن في نفسه هناك. فأما خلافة مروان فذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ أن عبد الله بن الزبير لما أخرج بني أمية عن الحجاز إلى الشام في خلافة يزيد بن معاوية خرجوا و فيهم مروان و ابنه عبد الملك و لم تطل مدة يزيد فتوفي و مات ابنه بعده بأيام يسيرة و كان من رأي مروان أن يدخل إلى ابن الزبير بمكة فيبايعه بالخلافة فقدم عبيد الله بن زياد و قد أخرجه أهل البصرة عنها بعد وفاة يزيد فاجتمع هو و بنو أمية و أخبروه بما قد أجمع عليه مروان فجاء إليه و قال استجبت لك يا أبا عبد الملك فما يريد أنت كبير قريش و سيدها تصنع ما تصنع و تشخص إلى أبي خبيب فتبايعه بالخلافة فقال مروان ما فات شي ء بعد فقام مروان و اجتمع إليه بنو أمية و مواليهم و عبيد الله بن زياد و كثير من أهل اليمن و كثير منكلب فقدم دمشق و عليها الضحاك بن قيس الفهري قد بايعه الناس على أن يصلي بهم و يقيم لهم أمرهم حتى يجتمع شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 157الناس على إمام و كان هوى الضحاك مع ابن الزبير إلا أنه لم يبايع له بعد و كان زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين يخطب لابن الزبير ولنعمان بن بشير الأنصاري بحمص يخطب لابن الزبير و كان حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين يهوى هوى بني أمية ثم من بينهم بني حرب لأنه كان عاملا لمعاوية ثم ليزيد بن معاوية من بعده و كان حسان بن مالك مطاعا في قومه عظيما عندهم فخرج عن فلسطين يريد الأردن و استخلف على فلسطين روح بن زنباع الجذامي فوثب عليه بعد شخوص حسان بن مالك و ناتل بن قيس الجذامي أيضا فأخرجه عن فلسطين و خطب لابن الزبير و كان له فيه هوى فاستوثقت الشام كلها لابن الزبير ما عدا الأردن فإن حسان بن مالك الكلبي كان يهوى هوى بني أمية و يدعو إليهم فقام في أهل الأردن فخطبهم و قال لهم ما شهادتكم على ابن الزبير و قتلى

(7/137)


المدينة بالحرة قالوا نشهد أن ابن الزبير كان منافقا و أن قتلى أهل المدينة بالحرة في النار قال فما شهادتكم على يزيد بن معاوية و قتلاكم بالحرة قالوا نشهد أن يزيد بن معاوية كان مؤمنا و كان قتلانا بالحرة في الجنة قال و أنا أشهد أنه إن كان دين يزيد بن معاوية و هو حي حقا إنه اليوم لعلى حق هو و شيعته و إن كان ابن الزبير يومئذ هو و شيعته على باطل إنه اليوم و شيعته على باطل قالوا صدقت نحن نبايعك على أن نقاتل معك من خالفك من الناس و أطاع ابن الزبير على أن تجنبنا ولاية هذين الغلامين ابني يزيد بن معاوية و هما خالد و عبد الله فإنهما حديثة أسنانهما و نحن نكره أن يأتينا الناس بشيخ و نأتيهم بصبي. قال و قد كان الضحاك بن قيس يوالي ابن الزبير باطنا و يهوى هواه و يمنعه إظهار ذلك بدمشق و البيعة له أن بني أمية و كلبا كانوا بحضرته و كلب أخوال يزيد

(7/138)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 158بن معاوية و بنيه و يطلبون الإمرة لهم فكان الضحاك يعمل في ذلك سرا و بلغ حسان بن مالك بن بحدل ما أجمع عليه الضحاك فكتب إليه كتابا يعظم فيه حق بني أمية و يذكر الطاعة و الجماعة و حسن بلاء بني أمية عنده و صنيعهم إليه و يدعوه إلى عتهم و طاعتهم و يذكر ابن الزبير و يقع فيه و يشتمه و يذكر أن منافق قد خلع خليفتين و أمره أن يقرأ كتابه على الناس ثم دعا رجلا من كلب يقال له ناغضة فسرح بالكتاب معه إلى الضحاك بن قيس و كتب حسان نسخة ذلك الكتاب و دفعه إلى ناغضة و قال له إن قرأ الضحاك كتابي على الناس و إلا فقم أنت و اقرأ هذا الكتاب عليهم و كتب حسان إلى بني أمية يأمرهم أن يحضروا ذلك فقدم ناغضة بالكتاب على الضحاك فدفعه إليه و دفع كتاب بني أمية إليهم سرا. فلما كان يوم الجمعة و صعد الضحاك على المنبر و قدم إليه ناغضة فقال أصلح الله الأمير ادع بكتاب حسان فاقرأه على الناس فقال له الضحاك اجلس فجلس ثم قام ثانية فتكلم مثل ذلك فقال له اجلس فجلس ثم قام ثالثة و كان كالثانية و الأولى فلما رآه ناغضة لا يقرأ الكتاب أخرج الكتاب الذي معه فقرأه على الناس فقام الوليد بن عتبة بن أبي سفيان فصدق حسان و كذب ابن الزبير و شتمه و قام يزيد بن أبي النمس الغساني فصدق مقالة حسان و كتابه و شتم ابن الزبير و قام سفيان بن أبرد الكلبي فصدق مقالة حسان و شتم ابن الزبير و قام عمر بن يزيد الحكمي فشتم حسان و أثنى على ابن الزبير فاضطرب الناس و نزل الضحاك بن قيس فأمر بالوليد بن عتبة و سفيان بن الأبرد و يزيد بن أبي النمس الذين كانوا صدقوا حسان و شتموا ابن الزبير فحبسوا و جال الناس بعضهم في بعض و وثبت كلب على عمر بن يزيد الحكمي فضربوه و خرقوا ثيابه و قد كان قام خالد بن يزيد بن معاوية فصعد مرقاتين من المنبر و هو يومئذ غلام. و الضحاك بن قيس فوق المنبر فتكلم بكلام أوجز فيه لم يسمع بمثله ثم نزل.

(7/139)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 159فلما دخل الضحاك بن قيس داره جاءت كلب إلى السجن فأخرجوا سفيان بن أبرد الكلبي و جاءت غسان فأخرجوا يزيد بن أبي النمس و قال الوليد بن عتبة لو كنت من كلب أو غسان لأخرجت فجاء ابنا يزيد بن معاوية خالد و عبد الله و معهما أخوالهما منلب فأخرجوه من السجن. ثم إن الضحاك بن قيس خرج إلى مسجد دمشق فجلس فيه و ذكر يزيد بن معاوية فوقع فيه فقام إليه سنان من كلب و معه عصا فضربه بها و الناس جلوس حلقا متقلدي السيوف فقام بعضهم إلى بعض في المسجد فاقتتلوا فكانت قيس عيلان قاطبة تدعو إلى ابن الزبير و معهما الضحاك و كلب تدعو إلى بني أمية ثم إلى خالد بن يزيد فيتعصبون له فدخل الضحاك دار الإمارة و أصبح الناس فلم يخرج الضحاك إلى صلاة الفجر. فلما ارتفع النهار بعث إلى بني أمية فدخلوا عليه فاعتذر إليهم و ذكر حسن بلائهم عنده و أنه ليس يهوى شيئا يكرهونه ثم قال تكتبون إلى حسان و نكتب و يسير حسان من الأردن حتى ينزل الجابية و نسير نحن و أنتم حتى نوافيه بها فيجتمع رأي الناس على رجل منكم فرضيت بذلك بنو أمية و كتبوا إلى حسان و هو بالأردن و كتب إليه الضحاك يأمره بالموافاة في الجابية و أخذ الناس في الجهاز للرحيل. و خرج الضحاك بن قيس من دمشق و خرج الناس و خرجت بنو أمية و توجهت الرايات يريدون الجابية فجاء ثور بن معن يزيد بن الأخنس السلمي إلى الضحاك فقال دعوتنا إلى طاعة ابن الزبير فبايعناك على ذلك ثم أنت الآن تسير إلى هذا الأعرابي من كلب لتستخلف ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية فقال الضحاك فما الرأي قال الرأي أن شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 160نظهر ما كنا نسر و ندعو إلى طاعة ابن الزبير و نقاتل عليها فمال الضحاك بمن معه من الناس و انخزل من بني أمية و من معهم من قبائل اليمن فنزل مرج راهط. قال أبو جعفر و اختلف في أي وقت كانت الوقعة رج راهط فقال الواقدي كانت في سنة خمس و ستين و قال غيره في سنة أربع

(7/140)


و ستين. قال أبو جعفر و سارت بنو أمية و لفيفها حتى وافوا حسان بالجابية فصلى بهم أربعين يوما و الناس يتشاورن و كتب الضحاك بن قيس من مرج راهط إلى النعمان بن بشير الأنصاري و هو على حمص يستنجده و إلى زفر بن الحارث و هو في قنسرين و إلى ناتل بن قيس و هو على فلسطين ليستمدهم و كلهم على طاعة ابن الزبير فأمدوه فاجتمعت الأجناد إليه بمرج راهط و أما الذين بالجابية فكانت أهواؤهم مختلفة فأما مالك بن هبيرة السكوني فكان يهوى هوى يزيد بن معاوية و يحب أن تكون الخلافة في ولده و أما حصين بن نمير السكوني فكان يهوى هوى بني أمية و يحب أن تكون الخلافة لمروان بن الحكم فقال مالك بن هبيرة للحصين بن نمير هلم فلنبايع لهذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه و هو ابن أختنا فقد عرفت منزلتنا التي كانت من أبيه إنك إن تبايعه يحملك غدا على رقاب العرب يعني خالد بن يزيد فقال الحصين لا لعمر الله لا يأتينا العرب بشيخ و نأتيها بصبي فقال مالك أظن هواك في مروان و الله إن استخلفت مروان ليحسدنك على سوطك و شراك نعلك و ظل شجرة تستظل بها إن مروان أبو عشرة و أخو عشرة و عم عشرة فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم و لكن عليكم بابن أختكم خالد بن يزيد فقال الحصين إني رأيت في المنام قنديلا معلقا من السماء و إنه جاء كل من يمد عنقه إلى الخلافة ليتناوله فلم يصل إليه و جاء مروان فتناوله و الله لنستخلفنه.

(7/141)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 161فلما اجتمع رأيهم على بيعته و استمالوا حسان بن بحدل إليها قام روح بن زنباع الجذامي فحمد الله و أثنى عليه فقال أيها الناس إنكم تذكرون لهذا الأمر عبد الله بن عمر بن الخطاب و تذكرون صحبته لرسول الله ص و قدمه في الإسلام و هو كما كرون لكنه رجل ضعيف و ليس صاحب أمة محمد بالضعيف و أما عبد الله بن الزبير و ما يذكر الناس من أمره و أن أباه حواري رسول الله ص و أمه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين فهو لعمري كما تذكرون و لكنه منافق قد خلع خليفتين يزيد و أباه معاوية و سفك الدماء و شق عصا المسلمين و ليس صاحب أمة محمد ص بالمنافق و أما مروان بن الحكم فو الله ما كان في الإسلام صدع قط إلا كان مروان ممن يشعب ذلك الصدع و هو الذي قاتل عن عثمان بن عفان يوم الدار و الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل و إنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير و يستشبوا الصغير يعني بالكبير مروان و بالصغير خالد بن يزيد. فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان ثم لخالد بن يزيد من بعده ثم لعمرو بن سعيد بن العاص بعدهما على أن تكون في أيام خلافة مروان إمرة دمشق لعمرو بن سعيد و إمرة حمص لخالد بن يزيد فلما استقر الأمر على ذلك دعا حسان بن بحدل خالد بن يزيد فقال يا ابن أختي إن الناس قد أبوك لحداثة سنك و إني و الله ما أريد هذا الأمر إلا لك و لأهل بيتك و ما أبايع مروان إلا نظرا لكم فقال خالد بل عجزت عنا فقال لا و الله لم أعجز عنك و لكن الرأي لك ما رأيت. ثم إن حسان دعا مروان بن الحكم فقال له يا مروان إن الناس كلهم لا يرضون شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 162بك فما ترى فقال مروان إن يرد الله أن يعطينيها لم يمنعنها أحد من خلقه و إن يرد أن يمنعنيها لا يعطينيها أحد من خلقه فقال حسان صدقت. ثم صعد حسان المنبر فقال أيها الناس إني مستخلف في غد أحدكم إن شاء الله جتمع الناس بكرة الغد ينتظرون فصعد حسان المنبر و بايع لمروان و بايع

(7/142)


الناس و سار من الجابية حتى نزل بمرج راهط حيث الضحاك بن قيس نازل فجعل مروان على ميمنته عمرو بن سعيد بن العاص و على ميسرته عبيد الله بن زياد و جعل الضحاك على ميمنته زياد بن عمرو بن معاوية العتكي و على ميسرته ثور بن معن السلمي و كان يزيد بن أبي النمس الغساني بدمشق لم يشهد الجابية و كان مريضا فلما حصل الضحاك بمرج راهط ثار بأهل دمشق في عبيده و أهله فغلب عليها و أخرج عامل الضحاك منها و غلب على الخزائن و بيت المال و بايع لمروان و أمده من دمشق بالرجال و المال و السلاح فكان ذلك أول فتح فتح لمروان. ثم وقعت الحرب بين مروان و الضحاك فاقتتلوا بمرج راهط عشرين ليلة فهزم أصحاب الضحاك و قتلوا و قتل أشراف الناس من أهل الشام و قتلت قيس مقتلة لم تقتل مثلها في موطن قط و قتل ثور بن معن السلمي الذي رد الضحاك عن رأيه. قال أبو جعفر و روي أن بشير بن مروان كان صاحب الراية ذلك اليوم و أنه كان ينشد
إن على الرئيس حقا حقا أن يخضب الصعدة أو يندقا
و صرع ذلك اليوم عبد العزيز بن مروان ثم استنقذ. قال و مر مروان برجل من محارب و هو في نفر يسير من أصحاب مروان فقال له شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 163لو انضممت إلى أصحابك رحمك الله فإني أراك في قلة فقال إن معنا يا أمير المؤمنين من الملائكة مددا أضعاف من تأمرنبالانضمام إليهم قال فضحك مروان و سر بذلك و قال للناس ممن كان حوله أ لا تستمعون قال أبو جعفر و كان قاتل الضحاك رجلا من كلب يقال له زحنة بن عبد الله فلما قتله و أحضر الرأس إلى مروان ظهرت عليه كآبة و قال الآن حين كبرت سني و دق عظمي و صرت في مثل ظم ء الحمار أبلت أضرب الكتائب بعضها ببعض. قال أبو جعفر و روي أن مروان أنشد لما بويع و دعا إلى نفسه

(7/143)


لما رأيت الأمر أمرا نهبا سيرت غسان لهم و كلباو السكسكيين رجالا غلبا و طيئا تأباه إلا ضرباو القين تمشي في الحديد نكبا و من تنوخ مشمخرا صعبالا يملكون الملك إلا غصبا و إن دنت قيس فقل لا قربا
قال أبو جعفر و خرج الناس منهزمين بعد قتل الضحاك فانتهى أهل حمص إلى حمص و عليها النعمان بن بشير فلما عرف الخبر خرج هاربا و معه ثقله و ولده و تحير ليلته كلها و أصبح و هو بباب مدينة حمص فرآه أهل حمص فقتلوه و خرج زفر بن الحارث الكلابي من قنسرين هاربا فلحق بقرقيسياء و عليها عياض بن أسلم الجرشي فلم يمكنه من دخولها فحلف له زفر بالطلاق و العتاق أنه إذا دخل حمامها خرج منها و قال له إن لي حاجة إلى دخول الحمام فلما دخلها لم يدخل حمامها و أقام بها و أخرج عياضا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 164منها و تحصن فيها و ثابت إليهيس عيلان و خرج ناتل بن قيس الجذامي من فلسطين هاربا فالتحق بابن الزبير بمكة و أطبق أهل الشام على مروان و استوثقوا له و استعمل عليهم عماله ففي ذلك يقول زفر بن الحارث
أريني سلاحي لا أبا لك إنني أرى الحرب لا تزداد إلا تمادياأتاني عن مروان بالغيب أنه مريق دمي أو قاطع من لسانياو في العيس منجاة و في الأرض مهرب إذا نحن رفعنا لهن المبانيافقد ينبت المرعى على دمن الثرى و تبقى حزازات النفوس كما هياأ تذهب كلب لم تنلها رماحنا و تترك قتلى راهط هي ما هيالعمري لقد أبقت وقيعة راهط لحسان صدعا بينا متنائياأ بعد ابن عمرو و ابن معن تتايعا و مقتل همام أمنى الأمانياو لم تر مني نبوة قبل هذه فراري و تركي صاحبي ورائياأ يذهب يوم واحد إن أسأته بصالح أيامي و حسن بلائيافلا صلح حتى تنحط الخيل بالقنا و تثأر من نسوان كلب نسائيا
و قال زفر بن الحارث أيضا و هو من شعر الحماسة

(7/144)


أ في الله أما بحدل و ابن بحدل فيحيا و أما ابن الزبير فيقتل كذبتم و بيت الله لا تقتلونه و لما يكن يوم أغر محجل شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 165و لما يكن للمشرفية فوقكم شعاع كقرن الشمس حين ترجو أما وفاة مروان و السبب فيها أنه كان قد استقر الأمر بعده لخالد بن يزيد بن معاوية على ما قدمنا ذكره فلما استوثق له الأمر أحب أن يبايع لعبد الملك و عبد العزيز ابنيه فاستشار في ذلك فأشير عليه أن يتزوج أم خالد بن يزيد و هي ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة ليصغر شأنه فلا يرشح للخلافة فتزوجها ثم قال لخالد يوما في كلام دار بينهما و المجلس غاص بأهله اسكت يا ابن الرطبة فقال خالد أنت لعمري مؤتمن و خبير. ثم قام باكيا من مجلسه و كان غلاما حينئذ فدخل على أمه فأخبرها فقالت له لا يعرفن ذلك فيك و اسكت فأنا أكفيك أمره فلما دخل عليها مروان قال لها ما قال لك خالد قالت و ما عساه يقول قال أ لم يشكني إليك قالت إن خالدا أشد إعظاما لك من أن يشتكيك فصدقها ثم مكثت أياما فنام عندها و قد واعدت جواريها و قمن إليه فجعلن الوسائد و البراذع عليه و جلسن عليه حتى خنقه و ذلك بدمشق في شهر رمضان. و هو ابن ثلاث و ستين سنة في قول الواقدي. و أما هشام بن محمد الكلبي فقال ابن إحدى و ثمانين سنة و قال كان ابن إحدى و ثمانين عاش في الخلافة تسعة أشهر و قيل عشرة أشهر و كان في أيام كتابته لعثمان بن عفان أكثر حكما و أشد تلطفا و تسلطا منه في أيام خلافته و كان ذلك من أعظم الأسباب الداعية إلى خلع عثمان و قتله. و قد قال قوم إن الضحاك بن قيس لما نزل مرج راهط لم يدع إلى ابن الزبير و إنما دعا إلى نفسه و بويع بالخلافة و كان قرشيا و الأكثر الأشهر أنه كان يدعو إلى ابن الزبير

(7/145)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 73166- و من كلام له ع لما عزموا على بيعة عثمانلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي وَ وَ اللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَ فَضْلِهِ وَ زُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَ زِبْرِجِهِ
نافست في الشي ء منافسة و نفاسا إذا رغبت فيه على وجه المباراة في الكرم و تنافسوا فيه أي رغبوا. و الزخرف الذهب ثم شبه به كل مموه مزور قال تعالى حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها و المزخرف المزين. و الزبرج الزينة من وشي أو جوهر و نحو ذلك و يقال الزبر الذهب أيضا. يقول لأهل الشورى إنكم تعلمون أني أحق بالخلافة من غيري و تعدلون عني ثم أقسم ليسلمن و ليتركن المخالفة لهم إذا كان في تسليمه و نزوله عن حقه سلامة أمور المسلمين و لم يكن الجور و الحيف إلا عليه خاصة و هذا كلام مثله ع لأنه إذا علم أو غلب على ظنه أنه أن نازع و حارب دخل على الإسلام وهن و ثلم لم يختر له المنازعة و إن كان شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 167يطلب بالمنازعة ما هو حق و إن علم أو غلب على ظنه بالإمساك عن طلب حقه إنما يدخل الثلم و الوهن عليه خاصة و يسلم الإسلام من الفتنة وجب عليه أن يغضي و يصبر علىا أتوا إليه من أخذ حقه و كف يده حراسة للإسلام من الفتنة. فإن قلت فهلا سلم إلى معاوية و إلى أصحاب الجمل و أغضى على اغتصاب حقه حفظا للإسلام من الفتنة. قلت إن الجور الداخل عليه من أصحاب الجمل و من معاوية و أهل الشام لم يكن مقصورا عليه خاصة بل كان يعم الإسلام و المسلمين جميعا لأنهم لم يكونوا عنده ممن يصلح لرئاسة الأمة و تحمل أعباء الخلافة فلم يكن الشرط الذي اشترطه متحققا و هو قوله و لم يكن فيه جور إلا علي خاصة. و هذا الكلام يدل على أنه ع لم يكن يذهب إلى أن خلافة عثمان كانت تتضمن جورا

(7/146)


على المسلمين و الإسلام و إنما كانت تتضمن جورا عليه خاصة و أنها وقعت على جهة مخالفة الأولى لا على جهة الفساد الكلي و البطلان الأصلي و هذا محض مذهب أصحابنا
كلام لعلي قبل المبايعة لعثمان
و نحن نذكر في هذا الموضع ما استفاض في الروايات من مناشدته أصحاب الشورى و تعديده فضائله و خصائصه التي بان بها منهم و من غيرهم قد روى الناس ذلك فأكثروا و الذي صح عندنا أنه لم يكن الأمر كما روي من تلك التعديدات الطويلة
و لكنه قال لهم بعد أن بايع عبد الرحمن و الحاضرون عثمان و تلكا هو ع عن البيعة إن لنا حقا إن نعطه نأخذه و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى
في كلام قد ذكره أهل السيرة و قد أوردنا بعضه فيما تقدم
ثم قال لهم أنشدكم الله أ فيكم أحد آخى رسول الله ص بينه و بين نفسه حيث آخى بين بعض المسلمين و بعض غيري شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 168فقالوا لا فقال أ فيكم أحد قال له رسول الله ص من كنت مولاه فهذا مولاه غيري فقالوا لا فقال أ فيكم أحد قال له رسول الله ص أنت ي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي غيري قالوا لا قال أ فيكم من اؤتمن على سورة براءة و قال له رسول الله ص إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني غيري قالوا لا قال أ لا تعلمون أن أصحاب رسول الله ص فروا عنه في ماقط الحرب في غير موطن و ما فررت قط قالوا بلى قال أ لا تعلمون أني أول الناس إسلاما قالوا بلى قال فأينا أقرب إلى رسول الله ص نسبا قالوا أنت فقطع عليه عبد الرحمن بن عوف كلامه و قال يا علي قد أبى الناس إلا على عثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا ثم قال يا أبا طلحة ما الذي أمرك به عمر قال أن أقتل من شق عصا الجماعة فقال عبد الرحمن لعلي بايع اذن و إلا كنت متبعا غير سبيل المؤمنين و أنفذنا فيك ما أمرنا به فقال لقد علمتم أني أحق بها من غيري و الله لأسلمن
الفصل إلى آخره ثم مد يده فبايع

(7/147)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 74169- و من كلام له ع لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمانأَ وَ لَمْ يَنْهَ بَنِي أُمَيَّةَ عِلْمُهَا بِي عَنْ قَرْفِي أَ وَ مَا وَزَعَ الْجُهَّالَ سَابِقَتِي عَنْ تُهَمَتِي وَ لَمَا وَعَظَهُمُ اللَّهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ لِسَانِي أَنَا حَجِيجُ الْمَارِقِينَ وَ خَصِيمُ النَّاكِثِينَ الْمُرْتَابِينَ وَ عَلَى كِتَابِ اللَّه تُعْرَضُ الْأَمْثَالُ وَ بمَا في الصُّدُورِ تُجَازَى الْعِبَادُ
القرف العيب قرفته بكذا أي عبته و وزع كف و ردع و منه قوله لا بد للناس من وزعة جمع وازع أي من رؤساء و أمراء و التهمة بفتح الهاء هي اللغة الفصيحة و أصل التاء فيه واو. و الحجيج كالخصيم ذو الحجاج و الخصومة يقول ع أ ما كان في علم بني أمية بحالي ما ينهاها عن قرفي بدم عثمان و حاله التي أشار إليها و ذكر أن علمهم بها يقتضي ألا يقرفوه بذلك هي منزلته في الدين التي لا منزلة أعلى منها و ما نطق به الكتاب الصادق من طهارته و طهارة بنيه و زوجته في قوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
و قول النبي ص أنت مني بمنزلة هارون من موسى

(7/148)


و ذلك يقتضي عصمته عن الدم الحرام شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 170كما أن هارون معصوم عن مثل ذلك و ترادف الأقوال و الأفعال من رسول الله ص في أمره التي يضطر معها الحاضرون لها و المشاهدون إياها إلى أن مثله لا يجوز أن يسعى في إراقة دم أمير مسلم لم يحدث حدثا يستو به إحلال دمه. و هذا الكلام صحيح معقول و ذاك أنا نرى من يظهر ناموس الدين و يواظب على نوافل العبادات و نشاهد من ورعه و تقواه ما يتقرر معه في نفوسنا استشعاره الدين و اعتقاده إياه فيصرفنا ذلك عن قرفه بالعيوب الفاحشة و نستبعد مع ذلك طعن من يطعن فيه و ننكره و ناباه و نكذبه فكيف ساغ لأعداء أمير المؤمنين ع مع علمهم بمنزلته العالية في الدين التي لم يصل إليها أحد من المسلمين أن يطلقوا ألسنتهم فيه و ينسبوه إلى قتل عثمان أو الممالاة عليه لا سيما و قد اتصل بهم و ثبت عندهم أنه كان من أنصاره لا من المجلبين عليه و أنه كان أحسن الجماعة فيه قولا و فعلا. ثم قال أ لم تزع الجهال و تردعهم سابقتي عن تهمتي و هذا الكلام تأكيد للقول الأول. ثم قال إن الذي وعظهم الله تعالى به في القرآن من تحريم الغيبة و القذف و تشبيه ذلك بأكل لحم الميت أبلغ من وعظي لهم لأنه لا عظة أبلغ من عظة القرآن. ثم قال أنا حجيج المارقين و خصيم المرتابين يعني يوم القيامة
روي عنه ع أنه قال أنا أول من يجثو للحكومة بين يدي الله تعالى
و قد روي عن النبي ص مثل ذلك مرفوعا في قوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ و أنه ص سئل عنها فقال علي و حمزة و عبيدة و عتبة و شيبة و الوليد

(7/149)


و كانت حادثتهم أول حادثة وقعت فيها مبارزة أهل الإيمان لأهل الشرك و كان المقتول الأول بالمبارزة الوليد بن عتبة قتله علي ع ضربه على رأسه فبدرت عيناه على وجنته شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 171فقال النبي ص فيه و في أصحابه ما قال و كان علي ع يكثر من قوله أنا حجيالمارقين و يشير إلى هذا المعنى. ثم أشار إلى ذلك بقوله على كتاب الله تعرض الأمثال يريد قوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. ثم قال و بما في الصدور تجازى العباد إن كنت قتلت عثمان أو مالأت عليه فإن الله تعالى سيجازيني بذلك و إلا فسوف يجازي بالعقوبة و العذاب من اتهمني به و نسبه إلي. و هذا الكلام يدل على ما يقوله أصحابنا من تبرؤ أمير المؤمنين ع من دم عثمان و فيه رد و إبطال لما يزعمه الإمامية من كونه رضي به و أباحه و ليس يقول أصحابنا أنه ع لم يكن ساخطا أفعال عثمان و لكنهم يقولون إنه و إن سخطها و كرهها و أنكرها لم يكن مبيحا لدمه و لا ممالئا على قتله و لا يلزم من إنكار أفعال الإنسان إحلال دمه فقد لا يبلغ الفعل في القبح إلى أن يستحل به الدم كما في كثير من المناهي
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 75172- و من خطبة له عرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى وَ دُعِيَ إِلَى رَشَادٍ فَدَنَا وَ أَخَذَ بِحُجْزَةِ هَادٍ فَنَجَا رَاقَبَ رَبَّهُ وَ خَافَ ذَنْبَهُ قَدَّمَ خَالِصاً وَ عَمِلَ صَالِحاً اكْتَسَبَ مَذْخُوراً وَ اجْتَنَبَ مَحْذُوراً رَمَى غَرَضاً وَ أَحْرَزَ عِوَضاً كَابَرَ هَوَاهُ وَ كَذَّبَ مُنَاهُ جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ وَ التَّقْوَى عُدَّةَ وَفَاتِهِ رَكِبَ الطَّرِيقَةَ الْغَرَّاءَ لَزِمَ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ اغْتَنَمَ الْمَهَلَ وَ بَادَرَ الْأَجَلَ وَ تَزَوَّدَ مِنَ الْعَمَلِ

(7/150)


الحكم هاهنا الحكمة قال سبحانه وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا و وعى حفظ وعيت الحديث أعيه وعيا و أذن واعية أي حافظة و دنا قرب و الحجزة معقد الإزار و أخذ فلان بحجزة فلان إذا اعتصم به و لجأ إليه. ثم حذف ع الواو في اللفظات الأخر فلم يقل و راقب ربه و لا و قدم خالصا و كذلك إلى آخر اللفظات و هذا نوع من الفصاحة كثير في استعمالهم. و اكتسب بمعنى كسب يقال كسبت الشي ء و اكتسبته بمعنى. و الغرض ما يرمى بالسهام يقول رحم الله امرأ رمى غرضا أي قصد الحق كمن يرمي غرضا يقصده لا من يرمي في عمياء لا يقصد شيئا بعينه. شرح نهج ااغة ج : 6 ص : 173و العوض المحرز هاهنا هو الثواب. و قوله كابر هواه أي غالبه و روي كاثر بالثاء المنقوطة بالثلاث أي غالب هواه بكثرة عقله يقال كاثرناهم فكثرناهم أي غلبناهم بالكثرة. و قوله و كذب مناه أي أمنيته و الطريقة الغراء البيضاء و المهل النظر و التؤدة
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 76174- و من كلام له عإِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيُفَوِّقُونَنِي تُرَاثَ مُحَمَّدِ ص تَفْوِيقاً وَ اللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ لَأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحَّامِ الْوِذَامَ التَّرِبَةَ
قال الرضي رحمه الله و يروى التراب الوذمة و هو على القلب. و قوله ع ليفوقونني أي يعطونني من المال قليلا كفواق الناقة و هو الحلبة الواحدة من لبنها. و الوذام التربة جمع وذمة و هي الحزة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض
اعلم أن أصل هذا الخبر قد رواه أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب الأغاني بإسناد رفعه إلى الحارث بن حبيش قال بعثني سعيد بن العاص و هو يومئذ أمير الكوفة من قبل عثمان بهدايا إلى المدينة و بعث معي هدية إلى علي ع و كتب إليه أني لم أبعث إلى أحد أكثر مما بعثت به إليك إلا إلى أمير المؤمنين فلما أتيت عليا ع و قرأ كتابه

(7/151)


قال لشد ما يحظر علي بنو أمية تراث محمد ص أما و الله لئن وليتها لأنفضنها نفض القصاب التراب الوذمة
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 175قال أبو الفرج و هذا خطأ إنما هو الوذام التربة. قال و قد حدثني بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أبي زيد عمر بن شبة بإسناد ذكره في الكتاب أن سعيد بن العاص حيث كان أمير الكوفة بعث مع ابن أبي عائشة مولاه إلى علي بن أبي طالب ع لة فقال علي ع و الله لا يزال غلام من غلمان بني أمية يبعث إلينا مما أفاء الله على رسوله بمثل قوت الأرملة و الله لئن بقيت لأنفضنها نفض القصاب الوذام التربة
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 77176- و من كلمات كان ع يدعو بهااللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَيَّ بِالْمَغْفِرَةِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا وَأَيْتُ مِنْ نَفْسِي وَ لَمْ تَجِدْ لَهُ وَفَاءً عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَيْكَ بِلِسَانِي ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الْأَلْحَاظِ وَ سَقَطَاتِ الْأَلْفَاظِ وَ سَهَوَاتِ الْجَنَانِ وَ هَفَوَاتِ اللِّسَانِ

(7/152)


وأيت أي وعدت و الوأي الوعد و رمزات الألحاظ الإشارة بها و الألحاظ جمع لحظ بفتح اللام و هو مؤخر العين و سقطات الألفاظ لغوها و سهوات الجنان غفلاته و الجنان القلب و هفوات اللسان زلاته. و في هذا الموضع يقال ما فائدة الدعاء عندكم و القديم تعالى إنما يغفر الصغائر لأنها تقع مكفرة فلا حاجة إلى الدعاء بغفرانها و لا يؤثر الدعاء أيضا في أفعال الباري سبحانه لأنه إنما يفعل بحسب المصالح و يرزق المال و الولد و غير ذلك و يصرف المرض و الجدب و غيرهما بحسب ما يعلمه من المصلحة فلا تأثير للدعاء في شي ء من ذلك. و الجواب أنه لا يتنع أن يحسن الدعاء بما يعلم أن القديم يفعله لا محالة و يكون وجه حسنه صدوره عن المكلف على سبيل الانقطاع إلى الخالق سبحانه. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 177و يجوز أيضا أن يكون في الدعاء نفسه مصلحة و لطف للمكلف لقد حسن منا الاستغفار للمؤمنين و الصلاة على الأنبء و الملائكة. و أيضا فليس كل أفعال البارئ سبحانه واجبة عليه بل معظمها ما يصدر على وجه الإحسان و التفضل فيجوز أن يفعله و يجوز ألا يفعله. فإن قلت فهل يسمى فعل الواجب الذي لا بد للقديم تعالى من فعله إجابة لدعاء المكلف. قلت لا و إنما يسمى إجابة إذا فعل سبحانه ما يجوز أن يفعله و يجوز ألا يفعله كالتفضل و أيضا فإن اللطف و المصلحة قد يكون لطفا و مصلحة في كل حال و قد يكون لطفا عند الدعاء و لو لا الدعاء لم يكن لطفا و ليس بممتنع في القسم الثاني أن يسمى إجابة للدعاء لأن للدعاء على كل حال تأثيرا في فعله. فإن قيل أ يجوز أن يدعو النبي ص بدعاء فلا يستجاب له. قيل إن من شرط حسن الدعاء أن يعلم الداعي حسن ما طلبه بالدعاء و إنما يعلم حسنه بألا يكون فيه وجه قبح ظاهر و ما غاب عنه من وجوه القبح نحو كونه مفسدة يجب أن يشترطه في دعائه و يطلب ما يطلبه بشرط ألا يكون مفسدة و إن لم يظهر هذا الشرط في دعائه وجب أن يضمره في نفسه فمتى سأل النبي ربه تعالى

(7/153)


أمرا فلم يفعله لم يجز أن يقال إنه ما أجيبت دعوته لأنه يكون قد سأل بشرط ألا يكون مفسدة فإذا لم يقع ما يطلبه فلأن المطلوب قد علم الله فيه من المفسدة ما لم يعلمه النبي ص فلا يقال إنه ما أجيب دعاؤه لأن دعاءه كان مشروطا و إنما يصدق قولنا ما أجيب دعاؤه على من طلب أمرا طلبا مطلقا غير مشروط فلم يقع و النبي ص لا يتحقق ذلك في حقه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 17من أدعية رسول الله المأثورة
و نحن نذكر في هذا الموضع جملة من الأدعية المأثورة طلبا لبركتها و لينتفع قارئ الكتاب بها
كان من دعاء رسول الله ص إذا أصبح أن يقول أصبحنا و أصبح الملك و الكبرياء و العظمة و الجلال و الخلق و الأمر و الليل و النهار و ما يسكن فيهما لله عز و جل وحده لا شريك له اللهم اجعل أول يومي هذا صلاحا و أوسطه فلاحا و آخره نجاحا اللهم إني أسألك خير الدنيا و الآخرة يا أرحم الراحمين اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا و بين معاصيك و من طاعتنا ما تبلغنا به رحمتك و من اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا اللهم متعنا بأسماعنا و أبصارنا و اجعلهما الوارث منا و انصرنا على من ظلمنا و لا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا و لا تسلط علينا من لا يرحمنا
من أدعية الصحيفة

(7/154)


و من دعاء أمير المؤمنين ع و كان يدعو به زين العابدين علي بن الحسين ع و هو من أدعية الصحيفة يا من يرحم من لا يرحمه العباد و يا من يقبل من لا تقبله البلاد و يا من لا يحتقر أهل الحاجة إليه يا من لا يجبه بالرد أهل الإلحاح إليه يا من لا يخفى عليه صغير ما يتحف به و لا يضيع يسير ما يعمل له يا من يشكر على القليل و يجازي بالجليل يا من يدنو إلى من دنا منه يا من يدعو إلى نفسه من أدبر عنه يا من لا يغير النعمة و لا يبادر بالنقمة يا من يثمر الحسنة حتى ينميها و يتجاوز عن السيئة حتى يعفيها انصرفت شرح نهج البلاغة ج : 6 ص 179دون مدى كرمك الحاجات و امتلأت ببعض جودك أوعية الطلبات و تفسخت دون بلوغ نعتك الصفات فلك العلو الأعلى فوق كل عال و الجلال الأمجد فوق كل جلال كل جليل عندك حقير و كل شريف في جنب شرفك صغير خاب الوافدون على غيرك و خسر المتعرضون إلا لك و ضاع الملمون إلا بك و أجدب المنتجعون إلا من انتجع فضلك لأنك ذو غاية قريبة من الراغبين و ذو مجد مباح للسائلين لا يخيب لديك الآملون و لا يخفق من عطائك المتعرضون و لا يشقى بنقمتك المستغفرون رزقك مبسوط لمن عصاك و حلمك معرض لمن ناواك و عادتك الإحسان إلى المسيئين و سنتك الإبقاء على المعتدين حتى لقد غرتهم أناتك عن النزوع و صدهم إمهالك عن الرجوع و إنما تأنيت بهم ليفيئوا إلى أمرك و أمهلتهم ثقة بدوام ملكك فمن كان من أهل السعادة ختمت له بها و من كان من أهل الشقاوة خذلته لها. كلهم صائر إلى رحمتك و أمورهم آئلة إلى أمرك لم يهن على طول مدتهم سلطانك و لم تدحض لترك معاجلتهم حججك حجتك قائمة و سلطانك ثابت فالويل الدائم لمن جنح عنك و الخيبة الخاذلة لمن خاب أمله منك و الشقاء الأشقى لمن اغتر بك ما أكثر تقلبه في عذابك و ما أعظم تردده في عقابك و ما أبعد غايته من الفرج و ما أثبطه من سهولة المخرج عدلا من قضائك لا تجور فيه و إنصافا من حكمك لا تحيف عليه قد ظاهرت الحجج و

(7/155)


أزلت الأعذار و تقدمت بالوعيد و تلطفت في الترغيب و ضربت الأمثال و أطلت الإمهال و أخرت و أنت تستطيع المعاجلة و تأنيت و أنت ملي ء بالمبادرة لم تك أناتك عجزا و لا حلمك وهنا و لا إمساكك لعلة و لاانتظارك لمداراة بل لتكون حجتك الأبلغ و كرمك الأكمل و إحسانك الأوفى و نعمتك الأتم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 180كل ذلك كان و لم يزل و هو كائن لا يزول نعمتك أجل من أن توصف بكلها و مجدك أرفع من أن يحد بكنهه و إحسانك أكبر من أن يشكر على أقله فقد أقصرت ساكتا عتحميدك و تهيبت ممسكا عن تمجيدك لا رغبة يا إلهي عنك بل عجزا و لا زهدا فيما عندك بل تقصيرا و ها أنا ذا يا إلهي أؤمل بالوفادة و أسألك حسن الرفادة فاسمع ندائي و استجب دعائي و لا تختم عملي بخيبتي و لا تجبهني بالرد في مسألتي و أكرم من عندك منصرفي إنك غير ضائق عما تريد و لا عاجز عما تشاء و أنت على كل شي ء قدير و من أدعيته ع و هو من أدعية الصحيفة أيضا اللهم يا من برحمته يستغيث المذنبون و يا من إلى إحسانه يفزع المضطرون و يا من لخيفته ينتحب الخاطئون يا أنس كل مستوحش غريب يا فرج كل مكروب حريب يا عون كل مخذول فريد يا عائذ كل محتاج طريد أنت الذي وسعت كل شي ء رحمة و لما و أنت الذي جعلت لكل مخلوق في نعمتك سهما و أنت الذي عفوه أعلى من عقابه و أنت الذي رحمته أمام غضبه و أنت الذي إعطاؤه أكبر من منعه و أنت الذي وسع الخلائق كلهم بعفوه و أنت الذي لا يرغب في غنى من أعطاه و أنت الذي لا يفرط في عقاب من عصاه. و أنا يا سيدي عبدك الذي أمرته بالدعاء فقال لبيك و سعديك و أنا يا سيدي عبدك الذي أوقرت الخطايا ظهره و أنا الذي أفنت الذنوب عمره و أنا الذي بجهله عصاك و لم يكن أهلا منه لذلك فهل أنت يا مولاي راحم من دعاك فاجتهد في الدعاء أم أنت غافر لمن بكى لك فأسرع في البكاء أم أنت متجاوز عمن عفر لك وجهه متذللا أم أنت مغن من شكا إليك فقره متوكلا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص :

(7/156)


181اللهم فلا تخيب من لا يجد معطيا غيرك و لا تخذل من لا يستغني عنك بأحد دونك اللهم لا تعرض عني و قد أقبلت عليك و لا تحرمني و قد رغبت إليك و لا تجبهني بالرد و قد انتصبت بين يد أنت الذي وصفت نفسك بالرحمة و أنت الذي سميت نفسك بالعفو فارحمني و اعف عني فقد ترى يا سيدي فيض دموعي من خيفتك و وجيب قلبي من خشيتك و انتفاض جوارحي من هيبتك كل ذلك حياء منك بسوء عملي و خجلا منك لكثرة ذنوبي قد كل لساني عن مناجاتك و خمد صوتي عن الدعاء إليك يا إلهي فكم من عيب سترته علي فلم تفضحني و كم من ذنب غطيت عليه فلم تشهر بي و كم من عائبة ألممت بها فلم تهتك عني سترها و لم تقلدني مكروها شنارها و لم تبد علي محرمات سوآتها فمن يلتمس معايبي من جيرتي و حسدة نعمتك عندي ثم لم ينهني ذلك حتى صرت إلى أسوإ ما عهدت مني فمن أجهل مني يا سيدي برشدك و من أغفل مني عن حظه منك و من أبعد مني من استصلاح نفسه حين أنفقت ما أجريت علي من رزقك فيما نهيتني عنه من معصيتك و من أبعد غورا في الباطل و أشد إقداما على السوء مني حين أقف بين دعوتك و دعوة الشيطان فأتبع دعوته على غير عمى عن المعرفة به و لا نسيان من حفظي له و أنا حينئذ موقن أن منتهى دعوتك الجنة و منتهى دعوته النار سبحانك فما أعجب ما أشهد به على نفسي و أعدده من مكنون أمري و أعجب من ذلك أناتك عني و إبطاؤك عن معاجلتي و ليس ذلك من كرمي عليك بل تأتيا منك بي و تفضلا منك علي لأن أرتدع عن خطئي و لأن عفوك أحب إليك من عقوبتي بل أنا يا إلهي أكثر ذنوبا و أقبح آثارا و أشنع أفعالا و أشد في الباطل تهورا و أضعف عند طاعتك تيقظا و أغفل لوعيدك انتباها من أن أحصي لك عيوبي و أقدر على تعديد

(7/157)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 182ذنوبي و إنما أوبخ بهذا نفسي طمعا في رأفتك التي بها إصلاح أمر المذنبين و رجاء لعصمتك التي بها فكاك رقاب الخاطئين اللهم و هذه رقبتي قد أرقتها الذنوب فأعتقها بعفوك و قد أثقلتها الخطايا فخفف عنها بمنك اللهم إني لو بكيت حتى تسقط فار عيني و انتحبت حتى ينقطع صوتي و قمت لك حتى تنتشر قدماي و ركعت لك حتى ينجذع صلبي و سجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي و أكلت التراب طول عمري و شربت ماء الرماد آخر دهري و ذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك لما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي فإن كنت تغفر لي حين أستوجب مغفرتك و تعفو عني حين أستحق عفوك فإن ذلك غير واجب لي بالاستحقاق و لا أنا أهل له على الاستيجاب إذ كان جزائي منك من أول ما عصيتك النار فإن تعذبني فإنك غير ظالم إلهي فإن تغمدتني بسترك فلم تفضحني و أمهلتني بكرمك فلم تعاجلني و حلمت عني بتفضلك فلم تغير نعمك علي و لم تكدر معروفك عندي فارحم طول تضرعي و شدة مسكنتي و سوء موقفي اللهم صل على محمد و آل محمد و أنقذني من المعاصي و استعملني بالطاعة و ارزقني حسن الإنابة و طهرني بالتوبة و أيدني بالعصمة و استصلحني بالعافية و ارزقني حلاوة المغفرة و اجعلني طليق عفوك و اكتب لي أمانا من سخطك و بشرني بذلك في العاجل دون الآجل بشرى أعرفها و عرفني له علامة أتبينها أن ذلك لا يضيق عليك في وجدك و لا يتكاءدك في قدرتك و أنت على كل شي ء قدير و من أدعيته ع و هو من أدعية الصحيفة شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 183اللهم يا ذا الملك المتأبد بالخلود و السلطان الممتنع بغير جنود و المعز الباقي على مر الدهور عز سلطانك عزا لا حد له و لا منتهى لآخره و استعلى ملكك علوا سقطت الأشياء دون بلوغ أمده و لا يبلغ أى ما استأثرت به من ذلك نعوت أقصى نعت الناعتين ضلت فيك الصفات و تفسخت دونك النعوت و حارت في كبريائك لطائف الأوهام

(7/158)


كذلك أنت الله في أوليتك و على ذلك أنت دائم لا تزول و كذلك أنت الله في آخريتك و كذلك أنت ثابت لا تحول و أنا العبد الضعيف عملا الجسيم أملا خرجت من يدي أسباب الوصلات إلى رحمتك و تقطعت عني عصم الآمال إلا ما أنا معتصم به من عفوك قل عندي ما أعتد به من طاعتك و كثر عندي ما أبوء به من معصيتك و لن يفوتك عفو عن عبدك و إن أساء فاعف عني اللهم قد أشرف على كل خطايا الأعمال علمك و انكشف كل مستور عند خبرك فلا ينطوي عنك دقائق الأمور و لا يعزب عنك خفايا السرائر و قد هربت إليك من صغائر ذنوب موبقة و كبائر أعمال مردية فلا شفيع يشفع لي إليك و لا خفير يؤمنني منك و لا حصن يحجبني عنك و لا ملاذ ألجأ إليه غيرك هذا مقام العائذ بك و محل المعترف لك فلا يضيقن عني فضلك و لا يقصرن دوني عفوك و لا أكون أخيب عبادك التائبين و لا أقنط وفودك الآملين و اغفر لي إنك خير الغافرين اللهم إنك أمرتني فغفلت و نهيتني فركبت و هذا مقام من استحيا لنفسه منك و سخط عليها و رضي عنك و تلقاك بنفس خاشعة و عين خاضعة و ظهر مثقل من الخطايا واقفا بين الرغبة إليك و الرهبة منك و أنت أولى من رجاه و أحق من خشيه و اتقاه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 184فأعطني يا رب ما رجوت و أمني ما حذرت و عد علي بفضلك و رحمتك إنك أكرم المسئولين اللهم و إذ سترتني بعفوك و تغمدتني بفضلك في دار الفناء فأجرني من فضيحات دار البقاء عند مواقفلأشهاد من الملائكة المقربين و الرسل المكرمين و الشهداء الصالحين من جار كنت أكاتمه سيئاتي و من ذي رحم كنت أحتشم منه لسريراتي لم أثق بهم في الستر علي و وثقت بك في المغفرة لي و أنت أولى من وثق به و أعطى من رغب إليه و أرأف من استرحم فارحمني اللهم إني أعوذ بك من نار تغلظت بها على من عصاك و أوعدت بها من ضارك و ناواك و صدف عن رضاك و من نار نورها ظلمة و هينها صعب و قريبها بعيد و من نار يأكل بعضها بعضا و يصول بعضها على بعض و من نار تذر

(7/159)


العظام رميما و تسقي أهلها حميما و من نار لا تبقى على من تضرع و لا ترحم من استعطفها و لا تقدر على التخفيف عمن خشع لها و استبتل إليها تلقى سكانها بأحر ما لديها من أليم النكال و شديد الوبال اللهم بك أعوذ من عقاربها الفاغرة أفواهها و حياتها الناهشة بأنيابها و شرابها الذي يقطع الأمعاء و يذيب الأحشاء و أستهديك لما باعد عنها و أنقذ منها فأجرني بفضل رحمتك و أقلني عثرتي بحسن إقالتك و لا تخذلني يا خير المجيرين اللهم صل على محمد و آل محمد إذا ذكر الأبرار و صل على محمد و آل محمد ما اختلف الليل و النهار صلاة لا ينقطع مددها و لا يحصى عددها صلاة تشحن الهواء و تملأ الأرض و السماء صل اللهم عليه و عليهم حتى ترضى و صل عليه و عليهم بعد الرضا صلاة لا حد لها و لا منتهى يا أرحم الراحمين

(7/160)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 185 و من دعائه ع و هو من أدعية الصحيفة اللهم إني أعوذ بك من هيجان الحرص و سورة الغضب و غلبة الحسد و ضعف الصبر و قلة القناعة و شكاسة الخلق و إلحاح الشهوة و ملكة الحمية و متابعة الهوى و مخالفة الهدى و سنة الغفلة و تعاطي الكلفة و ثار الباطل على الحق و الإصرار على المآثم و الاستكثار من المعصية و الإقلال من الطاعة و مباهات المكثرين و الإزراء على المقلين و سوء الولاية على من تحت أيدينا و ترك الشكر لمن اصطنع العارفة عندنا و أن نعضد ظالما أو نخذل ملهوفا أو نروم ما ليس لنا بحق أو نقول بغير علم و نعوذ بك أن ننطوي على غش لأحد و أن نعجب بأموالنا و أعمالنا و أن نمد في آمالنا و نعوذ بك من سوء السريرة و احتقار الصغيرة و أن يستحوذ علينا الشيطان أو يشتد لنا الزمان أو يتهضمنا السلطان و نعوذ بك من حب الإسراف و فقدان الكفاف و من شماتة الأعداء و الفقر إلى الأصدقاء و من عيشة في شدة أو موت على غير عدة و نعوذ اللهم بك من الحسرة العظمى و المصيبة الكبرى و من سوء المآب و حرمان الثواب و حلول العقاب اللهم أعذنا من كل ذلك برحمتك و منك و جودك إنك على كل شي ء قدير و من دعائه ع و تحميده و ذكره النبي ص و هو من أدعية الصحيفة أيضا الحمد لله بكل ما حمده أدنى ملائكته إليه و أكرم خلقه عليه و أرضى حامديه لديه حمدا يفضل سائر الحمد كفضل ربنا جل جلاله على جميع خلقه ثم له الحمد مكان كل نعمة له علينا و على جميع عباده الماضين و الباقين عدد ما أحاط به علمه و من جميع الأشياء أضعافا مضاعفة أبدا سرمدا إلى يوم القيامة و إلى ما لا نهاية له شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 186من بعد القيامة حمدا لا غاية لحده و لا حساب لعده و لا مبلغ لأعداده و لا انقطاع لآماده حمدا يكون وصلة إلى طاعته و سببا ى رضوانه و ذريعة إلى مغفرته و طريقا إلى جنته و خفيرا من نقمته و أمنا من غضبه و ظهيرا على طاعته و حاجزا عن معصيته و

(7/161)


عونا على تأدية حقه و وظائفه حمدا نسعد به في السعداء من أوليائه و ننتظم به في نظام الشهداء بسيوف أعدائه و الحمد لله الذي من علينا بنبيه محمد ص دون الأمم الماضية و القرون السالفة لقدرته التي لا تعجز عن شي ء و إن عظم و لا يفوتها شي ء و إن لطف اللهم فصل على محمد أمينك على وحيك و نجيك من خلقك و صفيك من عبادك إمام الرحمة و قائد الخير و مفتاح البركة كما نصب لأمرك نفسه و عرض فيك للمكروه بدنه و كاشف فالدعاء إليك حاسته و حارب في رضاك أسرته و قطع في نصرة دينك رحمه و أقصى الأدنين على عنودهم عنك و قرب الأقصين على استجابتهم لك و والى فيك الأبعدين و عاند فيك الأقربين و أدأب نفسه في تبليغ رسالتك و أتعبها في الدعاء إلى ملتك و شغلها بالنصح لأهل دعوتك و هاجر إلى بلاد الغربة و محل النأي عن موطن رحله و موضع رجله و مسقط رأسه و مأنس نفسه إرادة منه لإعزاز دينك و استنصارا على أهل الكفر بك حتى استتب له ما حاول في أعدائك و استتم له ما دبر في أوليائك فنهد إلى المشركين بك مستفتحا بعونك و متقويا على ضعفه بنصرك فغزاهم في عقر ديارهم و هجم عليهم في بحبوحة قرارهم حتى ظهر أمرك و علت كلمتك و قد كره المشركون اللهم فارفعه بما كدح فيك إلى الدرجة العليا من جنتك حتى لا يساوى في منزلة و لا يكافأ في مرتبة و لا يوازيه لديك ملك مقرب و لا نبي مرسل و عرفه في أمته من شرح نهج البلاغة ج : 6 ص 187حسن الشفاعة أجل ما وعدته يا نافذ العدة يا وافي القول يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات إنك ذو الفضل العظيم
من الأدعية المأثورة عن عيسى ع

(7/162)


و من الأدعية المروية عن عيسى ابن مريم ع اللهم أنت إله من في السماء و إله من في الأرض لا إله فيهما غيرك و أنت حكيم من في السماء و حكيم من في الأرض لا حكيم فيهما غيرك و أنت ملك من في السماء و ملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك قدرتك في السماء كقدرتك في الأرض و سلطانك في السماء كسلطانك في الأرض أسألك باسمك الكريم و وجهك المنير و ملكك القديم أن تفعل بي كذا و كذا
من الأدعية المأثورة عن بعض الصالحين
و كان بعض الصالحين يدعو فيقول اللهم لا تدخلنا النار بعد أن أسكنت قلوبنا توحيدك و إني لأرجو ألا تفعل و إن فعلت لتجمعن بيننا و بين قوم عاديناهم فيك و من دعاء بعضهم اللهم إنك لم تشرك في خلقنا غيرك فلا تشرك في الإحسان إلينا غيرك اللهم لا رب لنا غيرك فلا تجعل حاجتنا عند غيرك اللهم إنا لا نعبد غيرك فلا تسلط علينا غيرك قام أعرابي على قبر رسول الله ص فقال شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 188بأبي أنت و أمي يا رسول الله قلت فقبلنا و تلوت فوعينا ثم ظلمنا أنفسنا و قرأنا فيما أتيتنا به عن ربنا وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُواَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً اللهم إنا قد جئنا رسولك و نحن نستغفرك و نسأل رسولك أن يستغفر لنا خطايانا فاغفر لنا و تب علينا. فيقال إن إنسانا حضر ذلك الدعاء فرأى تلك الليلة رسول الله ص في منامه يقول له أبلغ الأعرابي أن الله قد غفر له. و من أدعية بعض الصالحين اللهم إني لم آتك بعمل صالح قدمته و لا شفاعة مخلوق رجوته أتيتك مقرا بالظلم و الإساءة على نفسي أتيتك بلا حجة أتيتك أرجو عظيم عفوك الذي عدت به على الخاطئين ثم لم يمنعك عكوفهم على عظيم الجرم أن جدت لهم بالمغفرة فيا صاحب العفو العظيم اغفر الذنب العظيم برحمتك يا أرحم الراحمين

(7/163)


و روي أن عليا ع اعتمر فرأى رجلا متعلقا بأستار الكعبة و هو يقول يا من لا يشغله سمع عن سمع يا من لا تقلقه المسائل و لا يبرمه إلحاح الملحين أذقني برد عفوك و حلاوة مغفرتك و عذوبة عافيتك و الفوز بالجنة و النجاة من النار فقال علي ع و الذي نفسي بيده إن قالها و عليه مثل السموات و الأرض من الذنوب قولا مخلصا ليغفرن له
و دعا أعرابي عند الملتزم فقال اللهم إن لك علي حقوقا فتصدق بها علي و إن للناس قبلي تبعات فتحملها عني و قد أوجبت لكل ضيف قرى و أنا ضيفك الليلة فاجعل قراي الجنة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 189و دعا بعض الأعراب أيضا و قد خرج حاجا فقال اللهم إليك خرجت و ما عندطلبت فلا تحرمني خير ما عندك لشر ما عندي اللهم إن كنت لم ترحم تعبي و نصبي فإنها لمصيبة أصبت بها فلا تحرمني أجر المصاب على المصيبة. و دعا بعضهم فقال اللهم إنك سترت علينا في الدنيا ذنوبا كثيرة و نحن إلى سترها في الآخرة أحوج فاغفر لنا. و من دعاء بعضهم اللهم اجعل الموت خير غائب ننتظره و اجعل القبر خير بيت نعمره و اجعل ما بعده خيرا لنا منه اللهم إليك عجت الأصوات بصنوف اللغات تسألك الحاجات و حاجتي إليك أن تذكرني عند طول البلى إذا نسيني أهل الدنيا. و قال بعضهم كنت أدعو الله بعد وفاة مالك بن دينار أن أراه في منامي فرأيته بعد سنة فقلت يا أبا يحيى علمني كيف أدعو فقال قل اللهم يسر الجواز و سهل المجاز. و قال الشعبي حسدت عبد الملك بن مروان على دعاء كان يدعو به على المنبر يقول اللهم إن ذنوبي كثيرة جلت أن توصف و هي صغيرة في جنب عفوك فاعف عني. و من دعاء بعض الزهاد اللهم إني أعوذ بك من أهل يلهيني و من هوى يرديني و من عمل يخزيني و من صاحب يغويني و من جار يؤذيني و من غنى يطغيني و من فقر ينسيني اللهم اجعلنا نستحييك و نتقيك و نخافك و نخشاك و نرجوك و نطيعك في السر و العلانية اللهم استرنا بالمعافاة و الغنى أستعين الله على أموري و أستغفر الله

(7/164)


لذنوبي و أعوذ بك من شر نفسي.
و يروى أن رجلا أعمى جاء إلى رسول الله ص فشكا إليه ذهاب بصره فقال ص له قل يا سبوح يا قدوس يا نور الأنوار يا نور السموات و الأرض يا أول الأولين و يا آخر الآخرين و يا أرحم الراحمين أسألك شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 190أن تغفر لي الذنوب التي تغير النعم و الذن التي تنزل النقم و الذنوب التي تهتك العصم و الذنوب التي توجب البلاء و الذنوب التي تقطع الرجاء و الذنوب التي تحبس الدعاء و الذنوب التي تكشف الغطاء و الذنوب التي تعجل الفناء و الذنوب التي تظلم الهواء و أسألك باسمك العظيم و وجهك الكريم أن ترد علي بصري فدعا بذلك فرد عليه بصره
و من الآثار المنقولة أن الله تعالى غضب على أمة فأنزل عليهم العذاب و كان فيهم ثلاثة صالحون فخرجوا و ابتهلوا إلى الله سبحانه فقام أحدهم فقال اللهم إنك أمرتنا أن نعتق أرقاءنا و نحن أرقاؤك فاعتقنا ثم جلس و قام الثاني فقال اللهم إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا و قد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا ثم جلس و قام الثالث فقال اللهم أنا على ثقة أنك لم تخلق خلقا أوسع من مغفرتك فاجعل لنا في سعتها نصيبا فرفع عنهم العذاب.
قيل لسفيان بن عيينة ما حديث رويته عن رسول الله ص أفضل دعاء أعطيته أنا و النبيون قبلي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو حي لا يموت بيده الخير و هو على كل شي ء قدير كأنهم لم يروه دعاء فقال ما تنكرون من هذا
ثم روي لهم قول رسول الله ص من تشاغل بالثناء على الله أعطاه الله فوق رغبة السائلين
ثم قال هذا أمية بن أبي الصلت يقول لابن جدعان
أ أذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياءإذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضه الثناء
و قال هذا مخلوق يقول لمخلوق فما ظنكم برب العالمين. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 19 و من دعائه ص اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك و من الذل إلا لك

(7/165)


و من دعائه ع اللهم ارزقني عينين هطالتين تسقيان القلوب مذروف الدموع قبل أن يكون الدمع دما و قرع الضرس ندما
و من دعائه ع اللهم طهر لساني من الكذب و قلبي من النفاق و عملي من الرياء و بصري من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور
و مما رواه أنس بن مالك لا تعجزوا عن الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد
و من رواية جابر بن عبد الله لقد بارك الله للرجل في الحاجة بكثرة الدعاء فيها أعطيها أو منعها
أبو هريرة يرفعه اللهم أصلح لي في ديني الذي هو عصمة أمري و أصلح لي دنياي التي فيها معاشي و أصلح لي آخرتي التي إليها معادي و اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و الموت راحة لي من كل شر
قيل لأعرابي أ تحسن أن تدعو ربك فقال نعم ثم دعا فقال اللهم إنك مننت علينا بالإسلام من غير أن نسألك فلا تحرمنا الجنة و نحن نسألك سمعت أعرابية تقول في دعائها يا عريض الجفنة يا أبا المكارم يا أبيض الوجه فزجرها رجل فقالت دعوني أصف ربي بما يستحقه.
و كان موسى بن جعفر ع يقول في سجوده آخر الليل إلهي عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك
ذكر عند بعض الصالحين رجل قد أصابه بلاء عظيم و هو يدعو فتبطئ عنه الإجابة فقال بلغني أن الله تعالى يقول كيف أرحم المبتلى من شي ء أرحمه به شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 1 قال طاوس إني لفي الحجر ليلة إذ دخل علي بن الحسين ع فقلت رجل صالح من أهل بيت صالح لأسمعن دعاءه فسمعته يقول في أثناء دعائه عبدك بفنائك سائلك بفنائك مسكينك بفنائك فما دعوت بهن في كرب إلا و فرج عني

(7/166)


عمر بن ذر اللهم إن كنا عصيناك فقد تركنا من معاصيك أبغضها إليك و هو الإشراك و إن كنا قصرنا عن بعض طاعتك فقد تمسكنا منها بأحبها إليك و هو شهادة أن لا إله إلا أنت و أن رسلك جاءت بالحق من عندك. أعرابي اللهم إنا نبات نعمتك فلا تجعلنا حصائد نقمتك. بعضهم اللهم إن كنت قد بلغت أحدا من عبادك الصالحين درجة ببلاء فبلغنيها بالعافية. حج أعرابي فكان لا يستغفر إذا صلى كما يستغفر الناس فقيل له فقال كما أن تركي الاستغفار مع ما أعلم من عفو الله و رحمته ضعف فكذلك استغفاري مع ما أعلم من إصراري لؤم. لما صاف قتيبة بن مسلم الترك و هاله أمرهم سأل عن محمد بن واسع فقيل هو في أقصى الميمنة جانحا على سية قوسه مبصبصا بإصبعه نحو السماء فقال قتيبة لتلك الإصبع القارورة أحب إلي من مائة ألف سيف شهير و رمح طرير. سمع مطرف بن الشخير صيحة الناس بالدعاء فقال لقد هممت أن أحلف أن الله غفر لهم ثم ذكرت أني فيهم فكففت. كان المأمون إذا رفعت المائدة من بين يديه يقول الحمد لله الذي جعل أرزاقنا أكثر من أقواتنا. الحسن البصري من دخل المقبرة فقال اللهم رب الأرواح العالية و الأجساد البالية شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 193و العظام النخرة التي خرجت من الدنيا و هي منة بك أدخل عليهم روحا منك و سلاما مني كتب الله له بعدد من ولد منذ زمن آدم إلى أن تقوم الساعة حسنات.
علي ع الدعاء سلاح المؤمن و عماد الدين و نور السموات و الأرض

(7/167)


قيل إن فيما أنزله الله تعالى من الكتب القديمة أن الله يبتلي العبد و هو يحبه ليسمع دعاءه و تضرعه. أبو هريرة اطلبوا الخير دهركم كله و تعرضوا لنفحات من رحمة الله تعالى فإن لله تعالى نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده و اسألوا الله أن يستر عوراتكم و يؤمن روعاتكم. صلى رجل إلى جنب عبد الله بن المبارك فلما سلم الإمام سلم و قام عجلا فجذب عبد الله بثوبه و قال أ ما لك إلى ربك حاجة. قيل لعمر بن عبد العزيز جزاك الله عن الإسلام خيرا فقال لا بل جزى الله الإسلام عني خيرا.
علي ع الداعي بغير عمل كالرامي بغير وتر
كان الزهري إذا فرغ من الحديث تلاه فدعا اللهم إني أسألك خير ما أحاط به علمك في الدنيا و الآخرة و أعوذ بك من شر ما أحاط به علمك في الدنيا و الآخرة. كان زبيد النامي يستتبع الصبيان إلى المسجد و في كمه الجوز و يقول من يتبعني منكم فأعطيه خمس جوزات فإذا دخلوا المسجد قال ارفعوا أيديكم و قولوا اللهم اغفر لزبيد فإذا دعوا قال اللهم استجب لهم فإنهم لم يذنبوا.
علي ع جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته و استمطرت شآبيب رحمته فلا يقنطنك إبطاء شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 194إجابته فإن العطية على قدر النية و ربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل و أجزل لاء الآمل و ربما سألت الشي ء فلا تؤتاه و أوتيت خيرا منه أو صرف عنك بما هو لك خير و اعلم أنه رب أمر قد طلبت فيه هلاك دينك لو أوتيته و من الدعاء المرفوع اللهم من أراد بنا سوءا فأحط به ذلك السوء كإحاطة القلائد بترائب الولائد و أرسخه على هامته كرسوخ السجيل على قمم أصحاب الفيل
سمع عمر رجلا يقول في دعائه اللهم اجعلني من الأقلين فقال ما أردت بهذا قال قول الله عز و جل وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ و قوله تعالى وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ فقال عليكم من الدعاء بما عرف

(7/168)


قال سعيد بن المسيب مر بي صلة بن أشيم فقلت له ادع لي فقال رغبك الله فيما يبقى و زهدك فيما يفنى و وهب لك اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه و لا تعول إلا عليه. كان علي بن عيسى بن ماهان صاحب خراسان و في أيامه عصام بن يوسف الزاهد فلقيه في الطريق و سلم عليه علي فأعرض عنه و لم يرد عليه فوقف علي و رفع يديه و أسبل عينيه و قال اللهم إن هذا الرجل يتقرب إليك ببغضي و أنا أتقرب إليك بحبه فإن كنت غفرت له ببغضي فاغفر لي بحبه يا كريم ثم سار. قال الأصمعي سمعت أعرابيا يدعو و يقول اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله و إن كان في الأرض فأخرجه و إن كان بعيدا فقربه و إن كان قريبا فيسره و إن كان قليلا فكثره و إن كان كثيرا فبارك لي فيه. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 195من دعاء عمرو بن عبيد اللهم أغنني بالافتقار إليك و لا تفقرني بالاستغناء عنك اللهم أعني على الدنيا بالقناعة و على الدينالعصمة.
شكا رجل إلى الحسن رحمه الله تعالى رجلا يظلمه فقال له إذا صليت الركعتين بعد المغرب فاسجد و قل يا شديد القوى يا شديد المحال يا عزيز أذللت لعزك جميع من خلقت فصل على محمد و آل محمد و اكفني مئونة فلان بما شئت فدعا بها فلم يرعه إلا الواعية بالليل فسأل فقيل مات فلان فجأة
قال موسى ع يا رب إنك لتعطيني أكثر من أملي قال لأنك تكثر من قول ما شاء الله لا قوة إلا بالله
كان بعض الصالحين يقول قبل الصلاة يا محسن قد جاءك المسي ء و قد أمرت المحسن أن يتجاوز عن المسي ء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك اللهم ارزقني عمل الخائفين و خوف العاملين حتى أنعم بترك التنعم طمعا فيما وعدت و خوفا مما أوعدت. و من الأدعية الجامعة اللهم أغنني بالعلم و زيني بالحلم و جملني بالعافية و كرمني بالتقوى
أحمد بن يوسف كاتب المأمون إذا دخل عليه حياة بتحية أبرويز الملك عشت الدهر و نلت المنى و جنبت طاعة النساء.

(7/169)


و من الدعاء المروي عن رسول الله ص اللهم اغفر لي ذنوبي و خطاياي كلها اللهم أنعشني و أجزني و انصرني و اهدني لصالح الأعمال و الأخلاق شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 196إنه لا يهدي لصالحها و لا يصرف عن سيئها إلا أنت اللهم إني أسألك الثبات في الأمر و العزيمة على اشد و أسألك شكر نعمتك و حسن عبادتك و أسألك قلبا سليما و لسانا صادقا و أسألك من خير ما تعلم و أعوذ بك من شر ما تعلم و أستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب
آداب الدعاء
قالوا و من آداب الدعاء أن ترصد له الأوقات الشريفة كما بين الأذان و الإقامة و كوقت السجود و وقت السحر و يستحب أن يدعو مستقبل القبلة رافعا يديه
لما روى سلمان عن النبي ص أن ربكم كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا
و يستحب أن يمسح بهما وجهه بعد الدعاء فإن ذلك قد روي عن رسول الله ص. و يكره أن يرفع بصره إلى السماء
لقوله ع لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء أو لتخطفن أبصارهم
و قد رخص في ذلك للصديقين و الأئمة العادلين و يستحب أن يخفض صوته لقوله تعالى ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً
و قد روي أن عمر سمع رجلا يجهر بالدعاء فقال لكن زكريا نادى ربه نداء خفيا
و يكره أن يتكلف الكلام المسجوع و يستحب الإتيان بالمطبوع منه
لقوله ص إياكم و السجع في الدعاء بحسب أحدكم أن يقول اللهم إني أسألك الجنة و ما قرب إليها من قول أو عمل و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل

(7/170)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 197و قيل في الوصية الصالحة ادع ربك بلسان الذلة و الاحتقار لا بلسان الفصاحة و التشدق. و قال سفيان بن عيينة لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن الله تعالى أجاب دعاء شر خلقه إبليس حيث قال أَنْظِرْنِي. النبي ص إذا سأل أحدكم ربه مسألة فتعرف الإجابة فليقل الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات و من أبطأ عنه شي ء من ذاك فليقل الحمد لله على كل حال و من الآداب أن يفتتح بالذكر و إلا يبتدئ بالمسألة
كان رسول الله ص قبل أن يدعو يقول سبحان ربي العلي الوهاب
أبو سليمان الداراني من أراد أن يسأل الله تعالى حاجته فليبدأ بالصلاة على رسول الله ص ثم يسأل حاجته ثم يختم بالصلاة على رسول الله ص فإن الله تعالى يقبل الصلاتين و هو أكرم من أن يدع ما بينهما
و من دعاء علي ع اللهم صن وجهي باليسار و لا تبذل جاهي بالإقتار فأسترزق طالبي رزقك و أستعطف شرار خلقك و أبتلي بحمد من أعطاني و أفتتن بذم من منعني و أنت من وراء ذلك كله ولي الإعطاء و المنع إنك على كل شي ء قدير و من دعاء الحسن رحمه الله تعالى اللهم إني أعوذ بك من قلب يعرف و لسان يصف و أعمال تخالف
و من دعاء أهل البيت ع و فيه رائحة من كلام أمير المؤمنين ع الذي نحن في شرحه اللهم إني أستغفرك لما تبت منه إليك ثم عدت فيه و أستغفرك شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 198لما وعدتك من نفسي ثم أخلفتك و أستغفرك للنعم التي أنعمت بها علي فتقويت على معصيتك و أستغفرك منل ذنب تمكنت منه بعافيتك و نالته يدي بفضل نعمتك و انبسطت إليه بسعة رزقك و احتجبت فيه عن الناس بسترك و اتكلت فيه على أكرم عفوك اللهم إني أعوذ بك أن أقول حقا ليس فيه رضاك ألتمس به أحدا سواك و أعوذ بك أن أتزين للناس بشي ء يشينني عندك و أعوذ بك أن أكون عبرة لأد من خلقك و أن يكون أحد من خلقك أسعد بما علمتني مني و أعوذ بك أن أستعين بمعصية لك على ضر يصيبني

(7/171)


كان أبو مسلم الخولاني إذا أهمه أمر قال يا مالك يوم الدين إياك نعبد و إياك نستعين.
و من دعاء علي ع اللهم إن تهت عن مسألتي و أعميت عن طلبتي فدلني على مصالحي و خذ بقلبي إلى مراشدي اللهم احملني على عفوك و لا تحملني على عدلك
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 78199- و من كلام له ع قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارجو قد قال له إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم
فَقَالَ ع أَ تَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ وَ تُخَوِّفُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ الضُّرُّ فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ وَ اسْتَغْنَى عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي نَيْلِ الْمَحْبُوبِ وَ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ وَ تَبْتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ أَنْ يُولِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ لِأَنَّكَ بِزَعْمِكَ أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي نَالَ فِيهَا النَّفْعَ وَ أَمِنَ الضُّرَّ ثُمَّ أَقْبَلَ ع عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَ تَعَلُّمَ النُّجُومِ إِلَّا مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى الْكَهَانَةِ الْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ وَ الْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ وَ السَّاحِرُ كَالْكَافِرِ وَ الْكَافِرُ فِي النَّارِ سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ
حاق به الضر أي أحاط به قال تعالى وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. و يوليك الحمد مضارع أولاك و أولاك معدى بالهمزة من ولي يقال ولي شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 200الشي ء ولاية و أوليته ذلك أي جعلته واليا له و متسلطا عليه و الكاهن واحد الن و هم الذين كانوا يخبرون عن الشياطين بكثير من الغائبات
القول في أحكام النجوم

(7/172)