الكتاب : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

شرح نهج البلاغة
حول نهج البلاغة شروح نهج البلاغة تاريخ تأليفه
تبويبه ترجمته إلى الفارسية التلخيص
نسخة البرنامج صورة المجلد صورة النسخة الخطية
× × × × ×
لابن أبي الحديد المعتزلي، المتوفى سنة 656 ه.
حول نهج البلاغة
بعد ظهور الإسلام و انتشاره في العالم، عرف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله على أنه الشخصية التي لا نظير لها في تاريخ الإنسانية، ثم بدوره قام النبي صلى الله عليه وآله بتعيين أمير المؤمنين عليه السلام على أنه الرجل الأول الذي بيده قيادة العالم الإسلاميه، و بهذا المعنى صدرت أحاديث كثيرة تفوق حد التصور.
أثار مقام أمير المؤمنين عليه السلام الشامخ همم الكثير من الرجال حيث اهتموا بجمع كلماته و خطبه عليه السلام فكونت مئات الكتب في هذا المجال و يشمخ من بينها على الإطلاق »نهج البلاغة« كشمس مضيئة يعم نورها تمام الأرضفمنذ أن جمع الشريف الرضي »نهج البلاغة« في القرن الرابع الهجري حتى وجد الكثير من أهل المعرفة بغيتهم التي كانوا ينشدونها و ضالتهم التي كانوا يطلبونها، فهرعوا إليه يرتشفون من معين علومه و أحكامه. و ها أنت تجد الكثير من محبي أهل البيت عليهم السلام يتسابقون لحظه و تعلمه و كذا العلماء يتعاهدون تفسيره و دراسته.
شروح نهج البلاغة
تتجاوز شروح نهج البلاغة الخمسين شرحاً، و يعود أولها إلى زمان الشريف الرضي و قد قام بتأليف ذلك الشرح علي بن ناصر و بعد ذلك قام العالم الجليل أبو الحسين البيهقي و كذلك قطب الدين الراوندي بكتابة شروح على هذا الكتاب الشريف.
و أوسع شرح و أكثره قبولاً لدى المسلمين هو شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي.
تاريخ تأليفه
بدأ ابن أبي الحديد بتدوين كتابه سنة 644 ه، و انتهى منه سنة 649 ه، و قد كتبه للوزير العباسي مؤيد الدين ابن العلقمي فوقع موقع الإعجاب و التقدير من هذا الوزير الشيعي فمنحه بذلك الهدايا و العطايا الجزيلة.

(1/1)


بالنظر إلى تاريخ وفاة ابن أبي الحديد الذي يكون سنة 656 ه، يتبين أن المؤلف دون كتابه في أواخر حياته و بالضبط قبل 7 سنوات من وفاته.
تبويبه
رتب هذا الكتاب على منهجة نهج البلاغة، فيبدأ بالخطب و من ثم الرسائل و ينتهي بالكلمات القصار.
قسم ابن أبي الحديد الخطب إلى عدة فصول و في كل فصل قام بهذا الترتيب:
1 - ذكر الصرف و النحو و اللغة و معاني الكلمات.
2 - ذكر الشواهد العربية من الشعر و النثر على كلامه عليه السلام.3 - ذكر الوقائع و الأحداث المرتبطة بالكلام.
4 - ألحق مواضيع التوحيد و العدل و... عقيبها.
5 - أوضح بعض النقاط و الأمثال.
6 - في النهاية يذكر بعض الحكم و المواعظ و الآداب التي تناسب كلام أمير المؤمنين عليه السلام.و بهذا يكون الكتاب قد ضم مجموعة من الفصاحة و البلاغة و اللغة و التاريخ و الكلام و الأخلاق و الأمثال و الحكم و...
ترجمته إلى الفارسية
صدرت عدة تراجم و شروح و تعليقات و تلخيص لشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، و ذلك لما حظي به من القبول و الإعجاب في الأوساط العلمية، منها:
1 - ترجمة الحاج نصر الله بن فتح الله الدزفولي في القرن الثالث عشر و في أربعة مجلدات بعنوان »مظهر البينات و مظهر الدلالات«.
2 - ترجمة شمس الدين محمد بن مراد الخطيب في القرن الحادي عشر في سبعة أجزاء.
التلخيص
يقع كتاب شرح نهج البلاغة في عشرين جزءاً، لذا سعى البعض لتلخيص هذا الكتاب، منهم:
1 - السلطان محمود بن غلام علي الطبسي، من تلامذة العلامة المجلسي.
2 - الشيخ محمد بن قنبر علي الكاظمي المتوفى سنة 1314 ه، بعنوان »التقاط الدرر النخب«.
3 - فخر الدين عبد الله بن المؤيد بالله، بعنوان »العقد النضيد«.
4 - محيي الدين الخياط، بعنوان »منتخب شرح نهج البلاغة«.
كما أن هناك حواشي كثيرة على كتاب )نهج البلاغة( و كتاب )شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد( للسيد نعمة الله الجزائري المتوفى سنة 1112 ه.
نسخة البرنامج

(1/2)


تقع النسخة الموجودة في البرنامج في عشرين مجلداً، و قامت بطباعتها دار إحياء الكتب العربية في سنة 1385 ه. و قد جددت طباعته مكتبة آية الله العظمى السيد المرعشي في سنة 1404 ه.
قام بتحقيق هذا الكتاب محمد أبو الفضل إبراهيم، كما قدم مقدمة مفصلة حول شخصية أمير المؤمنين عليه السلام، كلماته، نهج البلاغة، شروحه و كذلك حول ابن أبي الحديد و شرح نهج البلاغة.في نهاية كل جزء هناك فهرس المطالب، و في حاشية الكتاب تجد مصادر الآيات و الروايات.
كما تم إرجاع الأقوال و الأشعار إلى مصادرها الأولى.

ابن أبي الحديد المعتزلي
دراساته مذهبه مناصبه
أساتذته شعره مؤلفاته
وفاته
× × × × ×
ولد أبو حامد، عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد المعتزلي سنة 586 ه، في المدائن.
دراساته
شرع بالدراسة في ذلك المكان و تعلم المذاهب الكلامية المختلفة.
و بعد مضي عدة سنوات من تعلم مختلف العلوم، هاجر إلى بغداد، مهد العلم و مركز الخلافة العباسية آنذاك.
بقي ابن أبي الحديد في بغداد لسنوات مديدة يطلب العلوم المختلفة و ارتقى في كثير من العلوم كعلم الفقه و الكلام و الأصول و الجدل و المناظرة و الأدبيات و الشعر و التاريخ و السيرة و أصبح في نفس الوقت كاتباً بارعاً و قديراً.
كانت بغداد آنذاك مقراً للخلفاء العباسيين و محلاً لاجتماع كبار العلماء و كانت مزدهرة بالدرس و البحث. و هذه فرصة ثمينة جداً لأن يستغلها ابن أبي الحديد في الإفادة من الأساتذة في كل فن و في مختلف المجالات.
عايش ابن أبي الحديد القرن السادس الهجري و هو عصر ازدهار العلم و المعرفة حيث ظهرت فيه مؤلفات كثيرة.
كانت بغداد آنذاك، مليئة بالمكتبات العامرة بالكتب النفيسة إذ قد يشاهد في مكتبة واحدة أكثر من عشرة آلاف نسخة خطية نفيسة.
مذهبه
تأثر ابن أبي الحديد في بغداد بالعقائد الاعتزالية و بالأخص بالجاحظ، و انتحل دين الاعتزال.

(1/3)


يعتبر ابن أبي الحديد معتزلياً متشيعاً و هذا بسبب اهتمامه بأمير المؤمنين عليه السلام و شرحه لنهج البلاغة و أقواله كالقول بأفضلية أمير المؤمنين عليه السلام و جامعيته مناصبه
حصل ابن أبي الحديد على اهتمام خاص في البلاط العباسي و عهد إليه مناصب مختلفة ككتابة التشريفات و كتابة الديوان و إدارة مكتبات بغداد في أواخر عمره.
أساتذته
من أساتذته، أبو جعفر يحيى بن زيد العلوي، نقيب البصرة الذي ينقل عنه كثيراً.
شعره
ابن أبي الحديد المعتزلي مضافاً إلى تضلعه في مختلف العلوم الإسلامية كالفقه و الأصول و التاريخ، فهو أديب بارع و شاعر قدير.
لقد بقيت منه آثار قيمة في مختلف أنواع الشعر و هي موجودة في ديوان شعره، و لكن أكثرها شهرة في المناجاة و الأشعار العرفانية التي يخاطب بها رب العالمين.
مؤلفاته
مدارج فضله و علمه ظاهرة من شرحه لنهج البلاغة و لو لم يكن له سوى هذا الكتاب لكان كافياً، و له مؤلفات أخرى، منها:
1 - شرح المحصل للفخر الرازي
2 - شرح مشكلات الغرر لأبي الحسين البصري
3 - ديوان أشعار
4 - العبقري الحسان
5 - الفلك الدائر
6 - المستنصريات
7 - نقض المحصول في علم الأصول
8 - شرح نهج البلاغة و هو أشهر مؤلفاته طبع في 20 مجلداً و جددت طباعته لمرات عديدة.
وفاته
توفي عن عمر يناهز السبعين عاماً قضاه في التحصيل و التدريس و أغمض عينيه و رحل إلى الديار السرمدية في سنة 656 ه..

(1/4)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 2الجزء الأول
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل الحمد لله الذي تفرد بالكمال فكل كامل سواه منقوص و استوعب عموم المحامد و الممادح فكل ذي عموم عداه مخصوص الذي وزع منفسات نعمه بين من يشاء من خلقه و اقتضت حكمته أن نافس الحاذق في حذقه فاحتسب به عليه من رزقه و زوى الدنيا عن الفضلاء فلم يأخذها الشريف بشرفه و لا السابق بسبقه و قدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف و اختص الأفضل من جلائل المآثر و نفائس المفاخر بما يعظم عن التشبيه و يجل عن التكييف و صلى الله على رسوله محمد الذي المكني عنه شعاع من شمسه و غصن من غرسه و قوة من قوى نفسه و منسوب إليه نسبة الغد إلى يومه و اليوم إلى أمسه فما هما إلا سابق و لاحق و قائد و سائق و ساكت و ناطق و مجل و مصل سبقا لمحة البارق و أنارا سدفة الغاسق صلى الله عليهما ما استخلب خبير و تناوح حراء و ثبير. و بعد فإن مراسم المولى الوزير الأعظم الصاحب الصدر الكبير المعظم العالم العادل المظفر المنصور المجاهد المرابط مؤيد الدين عضد الإسلام سيد وزراء الشرق و الغرب أبي طالب شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 4محمد بن أحمد بن محمد العلقمي نصير أمير المؤمنين أسبغ الله عليه من ملابس النعم أضفاها و أحله منراقب السعادة و مراتب السيادة أشرفها و أعلاها لما شرفت عبد دولته و ربيب نعمته بالاهتمام بشرح نهج البلاغة على صاحبه أفضل الصلوات و لذكره أطيب التحيات بادر إلى ذلك مبادرة من بعثه من قبل عزم ثم حمله أمر جزم و شرع فيه بادي الرأي شروع مختصر و على ذكر الغريب و المعنى مقتصر ثم تعقب الفكر فرأى أن هذه النغبة لا تشفي أواما و لا تزيد الحائم إلا خياما فتنكب ذلك المسلك و رفض ذلك المنهج و بسط القول في شرحه بسطا اشتمل على الغريب و المعاني و علم البيان و ما عساه يشتبه و يشكل من الإعراب و التصريف و أورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر و

(2/1)


الأشباه نثرا و نظما و ذكر ما يتضمنه من السير و الوقائع و الأحداث فصلا فصلا و أشار إلى ما ينطوي عليه من دقائق علم التوحيد و العدل إشارة خفيفة و لوح إلى ما يستدعي الشرح ذكره من الأنساب و الأمثال و النكت تلويحات لطيفة و رصعه من المواعظ الزهدية و الزواجر الدينية و الحكم النفسية و الآداب الخلقية المناسبة لفقره و المشاكلة لدرره و المنتظمة مع معانيه في سمط و المتسقة مع جواهره في لط بما يهزأ بشنوف النضار و يخجل قطع الروض غب القطار و أوضح ما يومئ إليه من المسائل الفقهية و برهن على أن كثيرا من فصوله داخل في باب المعجزات المحمدية لاشتمالها على شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 5الأخبار الغيبية و خروجها عن وسع الطبيعة البشرية و بين من مقامات العارفين التي يرمز إليها في كلامه ما لا يعقله إلا العالمون و لا يدركه إلا الروحانيون المقربون و كشف عن مقاصده ع في لفظة يرسا و معضلة يكني عنها و غامضة يعرض بها و خفايا يجمجم بذكرها و هنات تجيش في صدره فينفث بها نفثة المصدور و مرمضات مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحة المكروب. فخرج هذا الكتاب كتابا كاملا في فنه واحدا بين أبناء جنسه ممتعا بمحاسنه جليلة فوائده شريفة مقاصده عظيما شأنه عالية منزلته و مكانه و لا عجب أن يتقرب بسيد الكتب إلى سيد الملوك و بجامع الفضائل إلى جامع المناقب و بواحد العصر إلى أوحد الدهر فالأشياء بأمثالها أليق و إلى أشكالها أقرب و شبه الشي ء إليه منجذب و نحوه دان و مقترب. و لم يشرح هذا الكتاب قبلي فيما أعله إلا واحد و هو سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه المعروف بالقطب الراوندي و كان من فقهاء الإمامية و لم يكن من رجال هذا الكتاب لاقتصاره مدة عمره على الاشتغال بعلم الفقه وحده و أنى للفقيه أن يشرح هذه الفنون المتنوعة و يخوض في هذه العلوم المتشعبة لا جرم أن شرحه لا يخفى حاله عن الذكي و جرى الوادي فطم على القرى و قد تعرضت في هذا الشرح

(2/2)


لمناقضته
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 6في مواضع يسيرة اقتضت الحال ذكرها و أعرضت عن كثير مما قاله إذ لم أر في ذكره و نقضه كبير فائدة. و أنا قبل أن أشرع في الشرح أذكر أقوال أصحابنا رحمهم الله في الإمامة و التفضيل و البغاة و الخوارج و متبع ذلك بذكر نسب أمير المؤمنين ع لمع يسيرة من فضائله ثم أثلث بذكر نسب الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي رحمه الله و بعض خصائصه و مناقبه ثم أشرع في شرح خطبة نهج البلاغة التي هي من كلام الرضي أبي الحسن رحمه الله فإذا انتهيت من ذلك كله ابتدأت بعون الله و توفيقه في شرح كلام أمير المؤمنين ع شيئا فشيئا. و من الله سبحانه أستمد المعونة و أستدر أسباب العصمة و أستميح غمائم الرحمة و أمتري أخلاف البركة و أشيم بارق النماء و الزيادة فما المرجو إلا فضله و لا المأمول إلا طوله و لا الوثوق إلا برحمته و لا السكون إلا إلى رأفته رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : القول فيما يذهب إليه أصحابنا المعتزلة في الإمامة و التفضيل و البغاة و الخوارج

(2/3)


اتفق شيوخنا كافة رحمهم الله المتقدمون منهم و المتأخرون و البصريون و البغداديون على أن بيعة أبي بكر الصديق بيعة صحيحة شرعية و أنها لم تكن عن نص و إنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع و بغير الإجماع كونه طريقا إلى الإمامة. و اختلفوا في التفضيل فقال قدماء البصريين كأبي عثمان عمرو بن عبيد و أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام و أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ و أبي معن ثمامة بن أشرس و أبي محمد هشام بن عمرو الفوطي و أبي يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام و جماعة غيرهم إن أبا بكر أفضل من علي ع و هؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة. و قال البغداديون قاطبة قدماؤهم و متأخروهم كأبي سهل بشر بن المعتمر و أبي موسى عيسى بن صبيح و أبي عبد الله جعفر بن مبشر و أبي جعفر الإسكافي و أبي الحسين الخياط و أبي القاسم عبد الله بن محمود البلخي و تلامذته إن عليا ع أفضل من أبي بكر. و إلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي أخيرا و كان من قبل من المتوقفين كان يميل إلى التفضيل و لا يصرح به و إذا صنف ذهب إلى الوقف في مصنفاته و قال في كثير من تصانيفه إن صح خبر الطائر فعلي أفضل شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : م إن قاضي القضاة رحمه الله ذكر في شرح المقالات لأبي القاسم البلخي أن أبا علي رحمه الله ما مات حتى قال بتفضيل علي ع و قال إنه نقل ذلك عنه سماعا و لم يوجد في شي ء من مصنفاته و قال أيضا إن أبا علي رحمه الله يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه و كان قد ضعف عن رع الصوت فألقى إليه أشياء من جملتها القول بتفضيل علي ع. و ممن ذهب من البصريين إلى تفضيله ع الشيخ أبو عبد الله الحسين بن علي البصري رضي الله عنه كان متحققا بتفضيله و مبالغا في ذلك و صنف فيه كتابا مفردا. و ممن ذهب إلى تفضيله ع من البصريين قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رحمه الله ذكر ابن متويه عنه في كتاب الكفاية

(2/4)


في علم الكلام أنه كان من المتوقفين بين علي ع و أبي بكر ثم قطع على تفضيل علي ع بكامل المنزلة. و من البصريين الذاهبين إلى تفضيله ع أبو محمد الحسن بن متويه صاحب التذكرة نص في كتاب الكفاية على تفضيله ع على أبي بكر احتج لذلك و أطال في الاحتجاج. فهذان المذهبان كما عرفت. و ذهب كثير من الشيوخ رحمهم الله إلى التوقف فيهما و هو قول أبي حذيفة واصل بن عطاء و أبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف من المتقدمين و هما و إن ذهبا إلى التوقف بينه ع و بين أبي بكر و عمر قاطعان على تفضيله على عثمان. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 9و من الذاهبين إلى الوقف الشيخ أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي رحمهما الله و الشيخ أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري رحمه الله. و أما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله ع و قذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل و هل المراد به الأكثر ثوابا أو الأجمع لمزايا الفضل و الخلال الحميدة و بينا أنه ع أفضل على التفسيرين معا و ليس هذا الكتاب موضوعا لذكر الحجاج في ذلك أو في غيره من المباحث الكلامية لنذكره و لهذا موضع هو أملك به. و أما القول في البغاة عليه و الخوارج فهو على ما أذكره لك. أما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا هالكون كلهم إلا عائشة و طلحة و الزبير رحمهم الله فإنهم تابوا و لو لا التوبة لحكم لهم بالنار لإصرارهم على البغي. و أما عسكر الشام بصفين فإنهم هالكون كلهم عند أصحابنا لا يحكم لأحد منهم إلا بالنار لإصرارهم على البغي و موتهم عليه رؤساؤهم و الأتباع جميعا. و أما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين بالخبر النبوي المجمع عليه و لا يختلف أصحابنا في أنهم من أهل النار. و جملة الأمر أن أصحابنا يحكمون بالنار لكل فاسق مات على فسقه و لا ريب في أن الباغي على الإمام الحق و الخارج عليه بشبهة أو بغير شبهة فاسق و ليس هذا مما يخصون به عليا ع فلو خرج قوم من المسلمين على غيره من أئمة

(2/5)


الإسلام العدول لكان حكمهم حكم من خرج على علي ص. و قد برئ كثير من أصحابنا من قوم من الصحابة أحبطوا ثوابهم كالمغيرة بن شعبة 0و كان شيخنا أبو القاسم البلخي إذا ذكر عنده عبد الله بن الزبير يقول لا خير فيه و قال مرة لا يعجبني صلاته و صومه و ليسا بنافعين له مع قول رسول الله ص لعلي ع لا يبغضك إلا منافق و قال أبو عبد الله البصري رحمه الله لما سئل عنه ما صح عندي أنه تاب من يوم الجمل و لكنه استكثر مما كان عليه. فهذه هي المذاهب و الأقوال أما الاستدلال عليها فهو مذكور في الكتب الموضوعة لهذا الفن
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 11القول في نسب أمير المؤمنين علي ع و ذكر لمع يسيرة من فضائلههو أبو الحسن علي بن أبي طالب و اسمه عبد مناف بن عبد المطلب و اسمه شيبة بن هاشم و اسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي الغالب عليه من الكنية ع أبو الحسن و كان ابنه الحسن ع يدعوه في حياة رسول الله ص أبا الحسين و يدعوه الحسين ع أبا الحسن و يدعوان رسول الله ص أباهما فلما توفي النبي ص دعواه بأبيهما.
و كناه رسول الله ص أبا تراب وجده نائما في تراب قد سقط عنه رداؤه و أصاب التراب جسده فجاء حتى جلس عند رأسه و أيقظه و جعل يمسح التراب عن ظهره و يقول له اجلس إنما أنت أبو تراب
فكانت من أحب كناه إليه ص و كان يفرح إذا دعي بها و كانت ترغب بنو أمية خطباءها شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 12أن يسبوه بها على المنابر و جعلوها نقيصة له و وصمة عليه فكأنما كسوة بها الحلي و الحلل كما قال الحسن البصري رحمه الله. و كان اسمه الأول الذي سمته به أمحيدرة باسم أبيها أسد بن هاشم و الحيدرة الأسد فغير أبوه اسمه و سماه عليا. و قيل إن حيدرة اسم كانت قريش تسميه به و القول الأول أصح يدل عليه خبره يوم برز إليه مرحب و ارتجز عليه فقال
أنا الذي سمتني أمي مرحبا
فأجابه ع رجزا
أنا الذي سمتني أمي حيدرة

(2/6)


. و رجزهما معا مشهور منقول لا حاجة لنا الآن إلى ذكره. و تزعم الشيعة أنه خوطب في حياة رسول الله ص بأمير المؤمنين خاطبه بذلك جلة المهاجرين و الأنصار و لم يثبت ذلك في أخبار المحدثين إلا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى و إن لم يكن اللفظ بعينه و هو
قول رسول الله ص له أنت يعسوب الدين و المال يعسوب الظلمة
و في رواية أخرى هذا يعسوب المؤمنين شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 13و قائد الغر المحجلينو اليعسوب ذكر النحل و أميرها روى هاتين الروايتين أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني في المسند في كتابه فضائل الصحابة و رواهما أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء. و دعي بعد وفاة رسول الله ص بوصي رسول الله لوصايته إليه بما أراده و أصحابنا لا ينكرون ذلك و لكن يقولون إنها لم تكن وصية بالخلافة بل بكثير من المتجددات بعده أفضى بها إليه ع و سنذكر طرفا من هذا المعنى فيما بعد. و أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أول هاشمية ولدت لهاشمي كان علي ع أصغر بنيها و جعفر أسن منه بعشر سنين و عقيل أسن منه بعشر سنين و طالب أسن من عقيل بعشر سنين و فاطمة بنت أسد أمهم جميعا. و أم فاطمة بنت أسد فاطمة بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي و أمها حدية بنت وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر و أمها فاطمة بنت عبيد بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي و أمها سلمى بنت عامر بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر و أمها عاتكة بنت أبي همهمة و اسمه عمرو بن عبد العزى بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر و أمها تماضر بنت عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي و أمها حبيبة و هي أمة الله بنت عبد ياليل بن سالم بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي و هو ثقيف و أمها فلانة بنت مخزوم بن أسامة بن ضبع بن وائلة بن نصر بن صعصعة بن ثعلبة بن كنانة بن عمرو بن قين بن فهم بن عمرو

(2/7)


بن قيس بن عيلان شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 14بن مضر و أمها ريطة بنيسار بن مالك بن حطيط بن جشم بن ثقيف و أمها كلة بنت حصين بن سعد بن بكر بن هوازن و أمها حبى بنت الحارث بن النابغة بن عميرة بن عوف بن نصر بن بكر بن هوازن ذكر هذا النسب أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين. أسلمت فاطمة بنت أسد بعد عشرة من المسلمين و كانت الحادية عشرة
و كان رسول الله ص يكرمها و يعظمها و يدعوها أمي و أوصت إليه حين حضرتها الوفاة فقبل وصيتها و صلى عليها و نزل في لحدها و اضطجع معها فيه بعد أن ألبسها قميصه فقال له أصحابه أنا ما رأيناك صنعت يا رسول الله بأحد ما صنعت بها فقال إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة و اضطجعت معها ليهون عليها ضغطة القبر

(2/8)


و فاطمة أول امرأة بايعت رسول الله ص من النساء. و أم أبي طالب بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم و هي أم عبد الله والد سيدنا رسول الله ص و أم الزبير بن عبد المطلب و سائر ولد عبد المطلب بعد لأمهات شتى. و اختلف في مولد علي ع أين كان فكثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة و المحدثون لا يعترفون بذلك و يزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. و اختلف في سنه حين أظهر النبي ص الدعوة إذ تكامل له ص أربعون سنة فالأشهر من الروايات أنه كان ابن عشر و كثير من أصحابنا المتكلمين يقولون إنه كان ابن ثلاث عشرة سنة ذكر ذلك شيخنا أبو القاسم البلخي و غيره من شيوخنا. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 15و الأولون يقولون إنه قتل و هو ابن ثلاث و ستين سنة و هؤلاء يقولون ابن ست و ستين و الروايات في ذلك مختلفة و من الناس من يزعم أن سنهانت دون العشر و الأكثر الأظهر خلاف ذلك. و ذكر أحمد بن يحيى البلاذري و علي بن الحسين الأصفهاني أن قريشا أصابتها أزمة و قحط فقال رسول الله ص لعمية حمزة و العباس أ لا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل فجاءوا إليه و سألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم فقال دعوا لي عقيلا و خذوا من شئتم و كان شديد الحب لعقيل فأخذ العباس طالبا و أخذ حمزة جعفرا و أخذ محمد ص عليا و قال لهم قد اخترت من اختاره الله لي عليكم عليا قالوا فكان علي ع في حجر رسول الله ص منذ كان عمره ست سنين. و كان ما يسدي إليه ص من إحسانه و شفقته و بره و حسن تربيته كالمكافأة و المعاوضة لصنيع أبي طالب به حيث مات عبد المطلب و جعله في حجره و هذا يطابق
قوله ع لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين
و قوله كنت أسمع الصوت و أبصر الضوء سنين سبعا و رسول الله ص حينئذ صامت ما أذن له في الإنذار و التبليغ

(2/9)


و ذلك لأنه إذا كان عمره يوم إظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة و تسليمه إلى رسول الله ص من أبيه و هو ابن ست فقد صح أنه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين و ابن ست تصح منه العبادة إذا كان ذا تمييز على أن عبادة مثله هي التعظيم و الإجلال و خشوع القلب و استخذاء الجوارح إذا شاهد شيئا من جلال الله سبحانه و آياته الباهرة و مثل هذا موجود في الصبيان. و قتل ع ليلة الجمعة لثلاث عشرة بقين من شهر رمضان سنة أربعين في شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 16رواية أبي عبد الرحمن السلمي و هي الرواية المشهورة و في رواية أبي مخنف أنها كا لإحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان و عليه الشيعة في زماننا. و القول الأول أثبت عند المحدثين و الليلة السابعة عشرة من شهر رمضان هي ليلة بدر و قد كانت الروايات وردت أنه يقتل في ليلة بدر ع و قبره بالغري. و ما يدعيه أصحاب الحديث من الاختلاف في قبره و أنه حمل إلى المدينة أو أنه دفن في رحبة الجامع أو عند باب قصر الإمارة أو ند البعير الذي حمل عليه فأخذته الأعراب باطل كله لا حقيقة له و أولاده أعرف بقبره و أولاد كل الناس أعرف بقبور آبائهم من الأجانب و هذا القبر الذي زاره بنوه لما قدموا العراق منهم جعفر بن محمد ع و غيره من أكابرهم و أعيانهم و روى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين بإسناد ذكره هناك أن الحسين ع لما سئل أين دفنتم أمير المؤمنين فقال خرجنا به ليلا من منزله بالكوفة حتى مررنا به على مسجد الأشعث حتى انتهينا به إلى الظهر بجنب الغري. و سنذكر خبر مقتله ع فيما بعد. فأما فضائله ع فإنها قد بلغت من العظم و الجلالة و الانتشار و الاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها و التصدي لتفصيلها فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل و المعتمد رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر و القمر الزاهر الذي لا يخفى على الناظر فأيقنت أني حيث انتهى بي القول

(2/10)


منسوب إلى العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك و وكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك. و ما أقول في رجل أقر له أعداؤه و خصومه بالفضل و لم يمكنهم جحد مناقبه شرح نهج البلاغة ج 1 ص : 17و لا كتمان فضائله فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض و غربها و اجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره و التحريض عليه و وضع المعايب و المثالب له و لعنوه على جميع المنابر و توعدوا مادحيه بل حبسوهم و قتلوهم و منعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكرا حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه فما زاده ذلك إلا رفعة و سموا و كان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه و كلما كتم تضوع نشره و كالشمس لا تستر بالراح و كضوء النهار أن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة. و ما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة و تنتهي إليه كل فرقة و تتجاذبه كل طائفة فهو رئيس الفضائل و ينبوعها و أبو عذرها و سابق مضمارها و مجلي حلبتها كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ و له اقتفى و على مثاله احتذى. و قد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي لأن شرف العلم بشرف المعلوم و معلومه أشرف الموجودات فكان هو أشرف العلوم و من كلامه ع اقتبس و عنه نقل و إليه انتهى و منه ابتدأ فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد و العدل و أرباب النظر و منهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته و أصحابه لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية و أبو هاشم تلميذ أبيه و أبوه تلميذه ع و أما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري و هو تلميذ أبي علي الجبائي و أبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية ينتهون بآخره إلى أستاذ المعتزلة و معلمهم و هو علي بن أبي طالب ع. و أما الإمامية و الزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر.

(2/11)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 18و من العلوم علم الفقه و هو ع أصله و أساسه و كل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه و مستفيد من فقهه أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف و محمد و غيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة و أما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفو أما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة و أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد ع و قرأ جعفر على أبيه ع و ينتهي الأمر إلى علي ع و أما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي و قرأ ربيعة على عكرمة و قرأ عكرمة على عبد الله بن عباس و قرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبي طالب. و إن شئت فرددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك فهؤلاء الفقهاء الأربعة. و أما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر و أيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب و عبد الله بن عباس و كلاهما أخذ عن علي ع أما ابن عباس فظاهر و أما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه و على غيره من الصحابة و قوله غير مرة لو لا علي لهلك عمر و قوله لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن و قوله لا يفتين أحد في المسجد و علي حاضر فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه.
و قد روت العامة و الخاصة قوله ص أقضاكم علي

(2/12)


و القضاء هو الفقه فهو إذا أفقههم و روى الكل أيضا أنه ع قال له و قد بعثه إلى اليمن قاضيا اللهم اهد قلبه و ثبت لسانه قال فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 19و هو ع الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر و هو الذي أفتى في الحامل النية و هو الذي قال في المنبرية صار ثمنها تسعا و هذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب فما ظنك بمن قاله بديهة و اقتضبه ارتجالا. و من العلوم علم تفسير القرآن و عنه أخذ و منه فرع و إذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك لأن أكثره عنه و عن عبد الله بن عباس و قد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له و انقطاعه إليه و أنه تلميذه و خريجه و قيل له أين علمك من علم ابن عمك فقال كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط. و من العلوم علم الطريقة و الحقيقة و أحوال التصوف و قد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون و عنده يقفون و قد صرح بذلك الشبلي و الجنيد و سري و أبو يزيد البسطامي و أبو محفوظ معروف الكرخي و غيرهم و يكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم و كونهم يسندونها بإسناد متصل إليه ع. شرح نهج البلاغة ج 1 ص : 20و من العلوم علم النحو و العربية و قد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه و أنشأه و أملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه و أصوله من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء اسم و فعل و حرف و من جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة و نكرة و تقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع و النصب و الجر و الجزم و هذا يكاد يلحق بالمعجزات لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر و لا تنهض بهذا الاستنباط. و إن رجعت إلى الخصائص الخلقية و الفضائل النفسانية و الدينية وجدته ابن جلاها و طلاع ثناياها. و أما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله و محا اسم من يأتي بعده و مقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى

(2/13)


يوم القيامة و هو الشجاع الذي ما فر قط و لا ارتاع من كتيبة و لا بارز أحدا إلا قتله و لا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية و في الحديث كانت ضرباته وترا و لما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما قال له عمرو لقد أنصفك فقال معاوية ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم أ تأمرني بمبارزة أبي الحسن و أنت تعلم أنه الشجاع المطرق أراك طمعت في إمارة الشام بعدي و كانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه ع قتلهم أظهر و أكثر قالت أخت عمرو بن عبد ود ترثيه
لو كان قاتل عمرو غير قاتله بكيته أبدا ما دمت في الأبد

(2/14)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 21لكن قاتله من لا نظير له و كان يدعى أبوه بيضة البلو انتبه يوما معاوية فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره فقعد فقال له عبد الله يداعبه يا أمير المؤمنين لو شئت أن أفتك بك لفعلت فقال لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر قال و ما الذي تنكره من شجاعتي و قد وقفت في الصف إزاء علي بن أبي طالب قال لا جرم أنه قتلك و أباك بيسرى يديه و بقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها. و جملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهى و باسمه ينادي في مشارق الأرض و مغاربها. و أما القوة و الأيد فبه يضرب المثل فيهما قال ابن قتيبة في المعارف ما صارع أحدا قط إلا صرعه و هو الذي قلع باب خيبر و اجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه و هو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة و كان عظيما جدا و ألقاه إلى الأرض و هو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته ع بيده بعد عجز الجيش كله عنها و أنبط الماء من تحتها. و أما السخاء و الجود فحاله فيه ظاهرة و كان يصوم و يطوي و يؤثر بزاده و فيه أنزل وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً و روى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا و بدرهم نهارا و بدرهم سرا و بدرهم علانية فأنزل فيه الَّذِينَ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 22يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً. و روى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت يده و يتصدق بالأجرة و يشد علىطنه حجرا. و قال الشعبي و قد ذكره ع كان أسخى الناس كان على الخلق الذي يحبه الله السخاء و الجود ما قال لا لسائل قط و قال عدوه و مبغضه الذي يجتهد في وصمه و عيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال له جئتك من عند أبخل الناس فقال

(2/15)


ويحك كيف تقول إنه أبخل الناس لو ملك بيتا من تبر و بيتا من تبن لأنفد تبره قبل تبنه. و هو الذي كان يكنس بيوت الأموال و يصلي فيها و هو الذي قال يا صفراء و يا بيضاء غري غيري و هو الذي لم يخلف ميراثا و كانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام. و أما الحلم و الصفح فكان أحلم الناس عن ذنب و أصفحهم عن مسي ء و قد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم و كان أعدى الناس له و أشدهم بغضا فصفح عنه. و كان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الأشهاد و خطب يوم البصرة فقال قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبي طالب و كان علي ع يقول م زال الزبير

(2/16)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 23رجلا منا أهل البيت حتى شب عبد الله فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيرا فصفح عنه و قال اذهب فلا أرينك لم يزده على ذلك. و ظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة و كان له عدوا فأعرض عنه و لم يقل له شيئا. و قد علمتم ما كان من عائشة في ره فلما ظفر بها أكرمها و بعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم و قلدهن بالسيوف فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به و تأففت و قالت هتك ستري برجاله و جنده الذين وكلهم بي فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن و قلن لها إنما نحن نسوة. و حاربه أهل البصرة و ضربوا وجهه و وجوه أولاده بالسيوف و شتموه و لعنوه فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم و نادى مناديه في أقطار العسكر ألا لا يتبع مول و لا يجهز على جريح و لا يقتل مستأسر و من ألقى سلاحه فهو آمن و من تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن و لم يأخذ أثقالهم و لا سبى ذراريهم و لا غنم شيئا من أموالهم و لو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل و لكنه أبى إلا الصفح و العفو و تقيل سنة رسول الله ص يوم فتح مكة فإنه عفا و الأحقاد لم تبرد و الإساءة لم تنس. و لما ملك عسكر معاوية عليه الماء و أحاطوا بشريعة الفرات و قالت رؤساء الشام له اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا سألهم علي ع و أصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء فقالوا لا و الله و لا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان فلما رأى ع أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه و حمل على عساكر معاوية حملات كثيفة حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت منه الرءوس و الأيدي و ملكوا عليهم شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 24الماء و صار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم فقال له أصحابه و شيعته امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك و لا تسقهم منه قطرة و اقتلهم بسيوف العطش و خذهم قبضا بالأيدي فلااجة لك إلى الحرب فقال لا و الله لا أكافئهم بمثل فعلهم افسحوا لهم عن

(2/17)


بعض الشريعة ففي حد السيف ما يغني عن ذلك فهذه إن نسبتها إلى الحلم و الصفح فناهيك بها جمالا و حسنا و إن نسبتها إلى الدين و الورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله ع. و أما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه و عدوه أنه سيد المجاهدين و هل الجهاد لأحد من الناس إلا له و قد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله ص و أشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى قتل فيها سبعون من المشركين قتل علي نصفهم و قتل المسلمون و الملائكة النصف الآخر و إذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي و تاريخ الأشراف لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري و غيرهما علمت صحة ذلك دع من قتله في غيرها كأحد و الخندق و غيرهما و هذا الفصل لا معنى للإطناب فيه لأنه من المعلومات الضرورية كالعلم بوجود مكة و مصر و نحوهما. و أما الفصاحة فهو ع إمام الفصحاء و سيد البلغاء و في كلامه قيل دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوقين و منه تعلم الناس الخطابة و الكتابة قال عبد الحميد بن يحيى حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت و قال ابن نباتة حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الإنفاق إلا سعة و كثرة حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب. و لما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية جئتك من عند أعيا الناس قال له ويحك شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 25كيف يكون أعيا الناس فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره و يكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة و لا يبارى في البلا و حسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر و لا نصف العشر مما دون له و كفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب البيان و التبيين و في غيره من كتبه. و أما سجاحة الأخلاق و بشر الوجه و طلاقة المحيا و التبسم فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه

(2/18)


قال عمرو بن العاص لأهل الشام إنه ذو دعابة شديدة و قال علي ع في ذاك عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن في دعابة و أني امرؤ تلعابة أعافس و أمارس
و عمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه لله أبوك لو لا دعابة فيك إلا أن عمر اقتصر عليها و عمرو زاد فيها و سمجها. قال صعصعة بن صوحان و غيره من شيعته و أصحابه كان فينا كأحدنا لين جانب و شدة تواضع و سهولة قياد و كنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه. و قال معاوية لقيس بن سعد رحم الله أبا حسن فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة قال قيس نعم كان رسول الله ص يمزح و يبتسم إلى أصحابه و أراك تسر حسوا في ارتغاء و تعيبه بذلك أما و الله لقد كان مع تلك الفكاهة و الطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى تلك هيبة التقوى و ليس كما يهابك طغام أهل الشام. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 26و قد بقي هذا الخلق متوارثا متنافلا في محبيه و أوليائه إلى الآن كما بقي الجفاء و الخشونة و الوعورة في الجانب الآخر و من له أدنى معرفة بأخلاق الناس و عوائدهم يع ذلك. و أما الزهد في الدنيا فهو سيد الزهاد و بدل الأبدال و إليه تشد الرحال و عنده تنفض الأحلاس ما شبع من طعام قط و كان أخشن الناس مأكلا و ملبسا قال عبد الله بن أبي رافع دخلت إليه يوم عيد فقدم جرابا مختوما فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا فقدم فأكل فقلت يا أمير المؤمنين فكيف تختمه قال خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت. و كان ثوبه مرقوعا بجلد تارة و ليف أخرى و نعلاه من ليف و كان يلبس الكرباس الغليظ فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة و لم يخطه فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له و كان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل و لا يأكل اللحم إلا قليلا و يقول لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان و كان مع ذلك أشد

(2/19)


الناس قوة و أعظمهم أيدا لا ينقض الجوع قوته و لا يخون الإقلال منته و هو الذي طلق الدنيا و كانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلا من الشام فكان يفرقها و يمزقها ثم يقول
هذا جناي و خياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 27و أما العبادة فكان أعبد الناس و أكثرهم صلاة و صوما و منه تعلم الناس صلاة الليل و ملازمة الأوراد و قيام النافلة و ما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده و السهام تقع بين يديه تمر على صماخيه يمينا و شمالا فلا يرتاع لذلك و لا يقوم حتى يفرغ من وظيفته و ما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده. و أنت إذا تأملت دعواته و مناجاته و وقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه و إجلاله و ما يتضمنه من الخضوع لهيبته و الخشوع لعزته و الاستخذاء له عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص و فهمت من أي قلب خرجت و على أي لسان جرت. و
قيل لعلي بن الحسين ع و كان الغاية في العبادة أين عبادتك من عبادة جدك قال عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله ص

(2/20)


و أما قراءته القرآن و اشتغاله به فهو المنظور إليه في هذا الباب اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله ص و لم يكن غيره يحفظه ثم هو أول من جمعه نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة بل يقولون تشاغل بجمع القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن لأنه لو كان مجموعا في حياة رسول الله ص لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته ص و إذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه كأبي عمرو بن العلاء و عاصم بن أبي النجود و غيرهما لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 28و أبو عبد الرحمن كان تلميذه و عنه أخذ القرآن فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا مثل كثير مما سبق. و أما الرأي و التدبير فكان من أسد الناس رأيا و أصحهم تدبيرا و هو الذي ار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم و الفرس بما أشار و هو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها و لو قبلها لم يحدث عليه ما حدث و إنما قال أعداؤه لا رأي له لأنه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها و لا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه
و قد قال ع لو لا الدين و التقى لكنت أدهى العرب

(2/21)


و غيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه و يستوفقه سواء أ كان مطابقا للشرع أم لم يكن و لا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده و لا يقف مع ضوابط و قيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب و من كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب. و أما السياسة فإنه كان شديد السياسة خشنا في ذات الله لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه و لا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به و أحرق قوما بالنار و نقض دار مصقلة بن هبيرة و دار جرير بن عبد الله البجلي و قطع جماعة و صلب آخرين. و من جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل و صفين و النهروان و في أقل القليل منها مقنع فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه و بطشه و انتقامه مبلغ العشر مما فعل ع في هذه الحروب بيده و أعوانه. فهذه هي خصائص البشر و مزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الإمام المتبع فعله و الرئيس المقتفى أثره. و ما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة و تعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة و تصور ملوك الفرنج و الروم صورته في بيعها و بيوت عباداتها شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 29حاملا سيفه مشمرا لحربه و تصور ملوك الترك و الديلصورته على أسيافها كان على سيف عضد الدولة بن بويه و سيف أبيه ركن الدولة صورته و كان على سيف ألب أرسلان و ابنه ملكشاه صورته كأنهم يتفاءلون به النصر و الظفر. و ما أقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به و ود كل أحد أن يتجمل و يتحسن بالانتساب إليه حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه و صنفوا في ذلك كتبا و جعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه و قصروه عليه و سموه سيد الفتيان و عضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي أنه سمع من السماء يوم أحد
لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي

(2/22)


و ما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء و شيخ قريش و رئيس مكة قالوا قل أن يسود فقير و ساد أبو طالب و هو فقير لا مال له و كانت قريش تسميه الشيخ. و في حديث عفيف الكندي لما رأى النبي ص يصلي في مبدإ الدعوة و معه غلام و امرأة قال فقلت للعباس أي شي ء هذا قالهذا ابن أخي يزعم أنه رسول من الله إلى الناس و لم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام و هو ابن أخي أيضا و هذه الامرأة و هي زوجته قال فقلت ما الذي تقولونه أنتم قال ننتظر ما يفعل الشيخ يعنى أبا طالب و أبو طالب هو الذي كفل رسول الله ص صغيرا و حماه و حاطه كبيرا و منعه من مشركي قريش و لقي لأجله عنتا عظيما و قاسى بلاء شديدا و صبر على نصره و القيام بأمره و جاء في الخبر أنه لما توفي أبو طالب أوحي إليه ع و قيل له اخرج منها فقد مات ناصرك. و له مع شرف هذه الأبوة أن ابن عمه محمد سيد الأولين و الآخرين و أخاه جعفر ذو الجناحين الذي
قال له رسول الله ص أشبهت خلقي و خلقي
فمر يحجل شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 30فرحا و زوجته سيدة نساء العالمين و ابنيه سيدا شباب أهل الجنة فآباؤه آباء رسول الله و أمهاته أمهات رسول الله و هو مسوط بلحمه و دمه لم يفارقه منذ خلق الله آدم إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله و أبي طالب و أمهمااحدة فكان منهما سيد الناس هذا الأول و هذا التالي و هذا المنذر و هذا الهادي. و ما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى و آمن بالله و عبده و كل من في الأرض يعبد الحجر و يجحد الخالق لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير محمد رسول الله ص. ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه ع أول الناس اتباعا لرسول الله ص إيمانا به و لم يخالف في ذلك إلا الأقلون
و قد قال هو ع أنا الصديق الأكبر و أنا الفاروق الأول أسلمت قبل إسلام الناس و صليت قبل صلاتهم

(2/23)


و من وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك و علمه واضحا و إليه ذهب الواقدي و ابن جرير الطبري و هو القول الذي رجحه و نصره صاحب كتاب الإستيعاب. و لأنا إنما نذكر في مقدمة هذا الكتاب جملة من فضائله عنت بالعرض لا بالقصد وجب أن نختصر و نقتصر فلو أردنا شرح مناقبه و خصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه و بالله التوفيق
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 31القول في نسب الرضي أبي الحسن رحمه الله و ذكر طرف من خصائصه و مناقبههو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق ع مولده سنة تسع و خمسين و ثلاثمائة. و كان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر عظيم المنزلة في دولة بني العباس و دولة بني بويه و لقب بالطاهر ذي المناقب و خاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الأوحد و ولي نقابة الطالبيين خمس دفعات و مات و هو متقلدها بعد أن حالفته الأمراض و ذهب بصره و توفي عن سبع و تسعين سنة فإن مولده كان في سنة أربع و ثلاثمائة و توفي سنة أربعمائة و قد ذكر ابنه الرضي أبو الحسن كمية عمره في قصيدته التي رثاه بها و أولها
و سمتك حالية الربيع المرهم و سقتك ساقية الغمام المرزم سبع و تسعون اهتبلن لك العدا حتى مضوا و غبرت غير مذمم لم يلحقوا فيها بشأوك بعد ما أملوا فعاقهم اعتراض الأزلم إلا بقايا من غبارك أصبحت غصصا و أقذاء لعين أو فم إن يتبعوا عقبيك في طلب العلا فالذئب يعسل ريق الضيغم

(2/24)


و دفن النقيب أبو أحمد أولا في داره ثم نقل منها إلى مشهد الحسين ع. و هو الذي كان السفير بين الخلفاء و بين الملوك من بني بويه و الأمراء من بنى حمدان و غيرهم و كان مبارك الغرة ميمون النقيبة مهيبا نبيلا ما شرع في إصلاح أمر فاسد شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 32إلو صلح على يديه و انتظم بحسن سفارته و بركة همته و حسن تدبيره و وساطته و لاستعظام عضد الدولة أمره و امتلاء صدره و عينه به حين قدم العراق ما قبض عليه و حمله إلى القلعة بفارس فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة فأطلقه شرف الدولة أبو الفوارس شير ذيل بن عضد الدولة و استصحبه في جملته حيث قدم إلى بغداد و ملك الحضرة و لما توفي عضد الدولة ببغداد كان عمر الرضي أبي الحسن أربع عشرة سنة فكتب إلى أبيه و هو معتقل بالقلعة بشيراز
أبلغا عنى الحسين ألوكا أن ذا الطود بعد عهدك ساخاو الشهاب الذي اصطليت لظاه عكست ضوءه الخطوب فباخاو الفنيق الذي تذرع طول الأرض خوى به الردى و أناخاأن يرد مورد القذى و هو راض فبما يكرع الزلال النقاخاو العقاب الشغواء أهبطها النيق و قد أرعت النجوم صماخاأعجلتها المنون عنا و لكن خلفت في ديارنا أفراخاو على ذاك فالزمان بهم عاد غلاما من بعد ما كان شاخصا

(2/25)


و أم الرضي أبي الحسن فاطمة بنت الحسين بن أحمد بن الحسن الناصر الأصم صاحب الديلم و هو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب ع شيخ الطالبيين و عالمهم و زاهدهم و أديبهم و شاعرهم شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 33ملك بلاد الديلم و الجبل ولقب بالناصر للحق جرت له حروب عظيمة مع السامانية و توفي بطبرستان سنة أربع و ثلاثمائة و سنه تسع و سبعون سنة و انتصب في منصبه الحسن بن القاسم بن الحسين الحسني و يلقب بالداعي إلى الحق. و هي أم أخيه أبي القاسم علي المرتضى أيضا. و حفظ الرضي رحمه الله القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيرة و عرف من الفقه و الفرائض طرفا قويا و كان رحمه الله عالما أديبا و شاعرا مفلقا فصيح النظم ضخم الألفاظ قادرا على القريض متصرفا في فنونه إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب و إن أراد الفخامة و جزالة الألفاظ في المدح و غيره أتى بما لا يشق فيه غباره و إن قصد في المراثي جاء سابقا و الشعراء منقطع أنفاسها على أثره و كان مع هذا مترسلا ذا كتابة قوية و كان عفيفا شريف النفس عالي الهمة ملتزما بالدين و قوانينه و لم يقبل من أحد صلة و لا جائزة حتى أنه رد صلاة أبيه و ناهيك بذلك شرف نفس و شدة ظلف فأما بنو بويه فإنهم اجتهدوا على قبوله صلاتهم فلم يقبل. و كان يرضى بالإكرام و صيانة الجانب و إعزاز الأتباع و الأصحاب و كان الطائع أكثر ميلا إليه من القادر و كان هو أشد حبا و أكثر ولاء للطائع منه للقادر و هو القائل للقادر في قصيدته التي مدحه بها منها شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 3عطفا أمير المؤمنين فإننا في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت أبدا كلانا في المعالي معرق إلا الخلافة شرفتك فإنني أنا عاطل منها و أنت مطوفيقال إن القادر قال له على رغم أنف الشريف. و ذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ في وفاة الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري

(2/26)


الفقيه المالكي قال كان شيخ الشهود المعدلين ببغداد و متقدمهم و سمع الحديث الكثير و كان كريما مفضلا على أهل العلم قال و عليه قرأ الشريف الرضي رحمه الله القرآن و هو شاب حدث السن فقال له يوما أيها الشريف أين مقامك قال في دار أبي بباب محول فقال مثلك لا يقيم بدار أبيه قد نحلتك داري بالكرخ المعروفة بدار البركة فامتنع الرضي من قبولها و قال له لم أقبل من أبي قط شيئا فقال إن حقي عليك أعظم من حق أبيك عليك لأني حفظتك كتاب الله تعالى فقبلها. و كان الرضي لعلو همته تنازعه نفسه إلى أمور عظيمة يجيش بها خاطره و ينظمها في شعره و لا يجد من الدهر عليها مساعدة فيذوب كمدا و يفنى وجدا حتى توفي و لم يبلغ غرضا. فمن ذلك قوله
ما أنا للعلياء إن لم يكن من ولدي ما كان من والدي و لا مشت بي الخيل أن لم أطأ سرير هذا الأصيد الماجد شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 35و منه قولهمتى تراني مشيحا في أوائلهم يطفو بي النقع أحيانا و يخفيني لتنظرني مشيحا في أوائلها يغيب بي النقع أحيانا و يبديني لا تعرفوني إلا بالطعان و قد أضحى لثامي معصوبا بعرنينو منه قوله يعني نفسه
فوا عجبا مما يظن محمد و للظن في بعض المواطن غداريؤمل أن الملك طوع يمينه و من دون ما يرجو المقدر أقدارلئن هو أعفى للخلافة لمة لها طرر فوق الجبين و أطرارو رام العلا بالشعر و الشعر دائبا ففي الناس شعر خاملون و شعارو إني أرى زندا تواتر قدحه و يوشك يوما أن تكون له نار
و منه قوله
لا هم قلبي بركوب العلا يوما و لا بلت يدي بالسماح
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 36إن لم أنلها باشتراط كما شئت على بيض الظبى و اقتراح أفوز منها باللباب الذي يعيي الأماني نيله و الصراح فما الذي يقعدني عن مدى ما هو بالبسل و لا باللقاح يطمح من لا مجد يسمو به إني إذا أعذر عند الطماح أما فتى نال المنى فاشتفىل ذاق الردى فاستراح

(2/27)


و في هذه القصيدة ما هو أخشن مسا و أعظم نكاية و لكنا عدلنا عنه و تخطيناه كراهية لذكره و في شعره الكثير الواسع من هذا النمط. و كان أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب له صديقا و بينهما لحمة الأدب و وشائجه و مراسلات و مكاتبات بالشعر فكتب الصابي إلى الرضي في هذا النمط
أبا حسن لي في الرجال فراسة تعودت منها أن تقول فتصدقاو قد خبرتني عنك أنك ماجد سترقى إلى العلياء أبعد مرتقى فوفيتك التعظيم قبل أوانه و قلت أطال الله للسيد البقا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 37و أضمرت منه لفظة لم أبح بها إلى أن أرى إظهارها لي مطلقافإن مت أو إن عشت فاذكر بشارتي و أوجب بها حقا عليك محققاو كن لي في الأولاد و الأهل حافظا إذا ما اطمأن الجنب في مضجع البقفكتب إليه الرضي جوابا عن ذلك قصيدة أولها
سننت لهذا الرمح غربا مذلقا و أجريت في ذا الهندواني رونقاو سومت ذا الطرف الجواد و إنما شرعت له نهجا فخب و أعنقا
و هي قصيدة طويلة ثابتة في ديوانه يعد فيها نفسه و يعد الصابي أيضا ببلوغ آماله إن ساعد الدهر و تم المرام و هذه الأبيات أنكرها الصابي لما شاعت و قال إني عملتها في أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان كاتب الطائع و ما كان الأمر كما ادعاه و لكنه خاف على نفسه. و ذكر أبو الحسن الصابي و ابنه غرس النعمة محمد في تاريخهما أن القادر بالله عقد مجلسا أحضر فيه الطاهر أبا أحمد الموسوي و ابنه أبا القاسم المرتضى و جماعة من القضاة و الشهود و الفقهاء و أبرز إليهم أبيات الرضي أبي الحسن التي أولها

(2/28)


ما مقامي على الهوان و عندي مقول صارم و أنف حمي و إباء محلق بي عن الضيم كما زاغ طائر وحشي أي عذر له إلى المجد إن ذل غلام في غمدة المشرف شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 38أحمل الضيم في بلاد الأعادي و بمصر الخليفة العلوي من أبوه أبي و مولاه مولاي إذا ضامني البعيد القصي لف عرقي بعرقه سيدا الناس جميعا محمد و و قال القادر للنقيب أبي أحمد قل لولدك محمد أي هوان قد أقام عليه عندنا و أي ضيم لقي من جهتنا و أي ذل أصابه في مملكتنا و ما الذي يعمل معه صاحب مصر لو مضى إليه أ كان يصنع إليه أكثر من صنيعنا أ لم نوله النقابة أ لم نوله المظالم أ لم نستخلفه على الحرمين و الحجاز و جعلناه أمير الحجيج فهل كان يحصل له من صاحب مصر أكثر من هذا ما نظنه كان يكون لو حصل عنده إلا واحدا من أبناء الطالبيين بمصر فقال النقيب أبو أحمد أما هذا الشعر فمما لم نسمعه منه و لا رأيناه بخطه و لا يبعد أن يكون بعض أعدائه نحلة إياه و عزاه إليه فقال القادر إن كان كذلك فلتكتب الآن محضرا يتضمن القدح في أنساب ولاة مصر و يكتب محمد خطه فيه فكتب محضرا بذلك شهد فيه جميع من حضر المجلس منهم النقيب أبو أحمد و ابنه المرتضى و حمل المحضر إلى الرضي ليكتب خطه فيه حمله أبوه و أخوه فامتنع من سطر خطه و قال لا أكتب و أخاف دعاة صاحب مصر و أنكر الشعر و كتب خطه و أقسم فيه أنه ليس بشعره و أنه لا يعرفه فأجبره أبوه على أن يكتب خطه في المحضر فلم يفعل و قال أخاف دعاة المصريين و غيلتهم لي فإنهم معروفون بذلك فقال أبوه يا عجباه أ تخاف من بينك و بينه ستمائة فرسخ و لا تخاف من بينك و بينه مائة ذراع و حلف ألا يكلمه و كذلك المرتضى فعلا ذلك تقية و خوفا من القادر شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 39و تسكينا له و لما انتهى الأمر إلى القادر سكت على سوء أضمره و بعد ذلك بأيام صرفه عن النقابة و ولاها محمد بن عمر النهر سابسي. و قرأت بخط محمد بن إدريس الحلالفقيه الإمامي قال حكى

(2/29)


أبو حامد أحمد بن محمد الإسفرائيني الفقيه الشافعي قال كنت يوما عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة و ابنه سلطان الدولة فدخل عليه الرضي أبو الحسن فأعظمه و أجله و رفع من منزلته و خلى ما كان بيده من الرقاع و القصص و أقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو القاسم رحمه الله فلم يعظمه ذلك التعظيم و لا أكرمه ذلك الإكرام و تشاغل عنه برقاع يقرؤها و توقيعات يوقع بها فجلس قليلا و سأله أمرا فقضاه ثم انصرف. قال أبو حامد فتقدمت إليه و قلت له أصلح الله الوزير هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون و هو الأمثل و الأفضل منهما و إنما أبو الحسن شاعر قال فقال لي إذا انصرف الناس و خلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة. قال و كنت مجمعا على الانصراف فجاءني أمر لم يكن في الحساب فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا فلما لم يبق إلا غلمانه و حجابه دعا بالطعام فلما أكلنا و غسل يديه و انصرف عنه أكثر غلمانه و لم يبق عنده غيري قال لخادم هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام و أمرتك أن تجعلهما في السفط الفلاني فأحضرهما فقال هذا كتاب الرضي اتصل بي أنه قد ولد له ولد فأنفذت إليه ألف دينار و قلت له هذه للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء

(2/30)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 40إلى أخلائهم و ذوي مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال فردها و كتب إلى هذا الكتاب فاقرأه قال فقرأته و هو اعتذار عن الرد و في جملته إننا أهل بيت لا نطلع على أحوالنا قابلة غريبة و إنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا و لسن ممن يأن أجرة و لا يقبلن صلة قال فهذا هذا. و أما المرتضى فإننا كنا قد وزعنا و قسطنا على الأملاك ببادوريا تقسيطا نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما ثمنها دينار واحد قد كتب إلى منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب فاقرأه فقرأته و هو أكثر من مائة سطر يتضمن من الخضوع و الخشوع و الاستمالة و الهز و الطلب و السؤال في إسقاط هذه الدراهم المذكورة عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه. قال فخر الملك فأيهما ترى أولى بالتعظيم و التبجيل هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد و نفسه هذه النفس أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة و نفسه تلك النفس فقلت وفق الله تعالى سيدنا الوزير فما زال موفقا و الله ما وضع سيدنا الوزير الأمر إلا في موضعه و لا أحله إلا في محله و قمت فانصرفت. و توفي الرضي رحمه الله في المحرم من سنة أربع و أربعمائة و حضر الوزير فخر الملك و جميع الأعيان و الأشراف و القضاة جنازته و الصلاة عليه و دفن في داره بمسجد الأنباريين بالكرخ و مضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر ع لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته و دفنه و صلى عليه فخر الملك أبو غالب و مضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 41و مما رثاه به أخوه المرتضى الأبيات المشهورة التي من جملتهايا للرجال لفجعة جذمت يدي و وددت لو ذهبت على برأسي ما زلت آبى وردها حتى أتت فحسوتها في بعض ما أنا حاسي و مطلتها زمنا فلما صممت لم يثنها مطلي و

(2/31)


طول مكاسي لله عمرك من قصير طاهر و لرب عمر طال بالأدنو حدثني فخار بن معد العلوي الموسوي رحمه الله قال رأى المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان الفقيه الإمام في منامه كان فاطمة بنت رسول الله ص دخلت عليه و هو في مسجده بالكرخ و معها ولداها الحسن و الحسين ع صغيرين فسلمتهما إليه و قالت له علمهما الفقه فانتبه متعجبا من ذلك فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر و حولها جواريها و بين يديها ابناها محمد الرضي و علي المرتضى صغيرين فقام إليها و سلم عليها فقالت له أيها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه فبكى أبو عبد الله و قص عليها المنام و تولى تعليمهما الفقه و أنعم الله عليهما و فتح لهما من أبواب العلوم و الفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا و هو باق ما بقي الدهر
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 42القول في شرح خطبة نهج البلاغة قال الرضي رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه و معاذا من بلائه و وسيلا إلى جنانه و سببا لزيادة إحسانه و الصلاة على رسوله نبي الرحمة و إمام الأئمة و سراج الأمة المنتجب من طينة الكرم و سلالة المجد الأقدم و مغرس الفخار المعرق و فرع العلاء المثمر المورق و على أهل بيته مصابيح الظلم و عصم الأمم و منار الدين الواضحة و مثاقيل الفضل الراجحة فصلى الله عليهم أجمعين صلاة تكون إزاء لفضلهم و مكافأة لعملهم و كفاء لطيب أصلهم و فرعهم ما أنار فجر طالع و خوى نجم ساطع

(2/32)


اعلم أني لا أتعرض في هذا الشرح للكلام فيما قد فرغ منه أئمة العربية و لا لتفسير ما هو ظاهر مكشوف كما فعل القطب الراوندي فإنه شرع أولا في تفسير قوله أما بعد ثم قال هذا هو فصل الخطاب ثم ذكر ما معنى الفصل و أطال فيه و قسمه أقساما يشرح ما قد فرع له منه ثم شرح الشرح و كذلك أخذ يفسر قوله من بلائه و قوله إلى جنانه و قوله و سببا و قوله المجد و قوله شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 43الأقدم و هذا كله إطالة و تضييع للزمان من غير فائدة و لو أخذنا بشرح مثل ذلك لوجب أن نشرح لفظة أما المفتوحة و أن نذكر الفصل بينها و بين إما السورة و نذكر هل المكسورة من حروف العطف أو لا ففيه خلاف و نذكر هل المفتوحة مركبة أو مفردة و مهملة أو عاملة و نفسر معنى قول الشاعر
أبا خراشة أما كنت ذا نفر فإن قومي لم تأكلهم الضبع

(2/33)


بالفتح و نذكر بعد لم ضمت إذا قطعت عن الإضافة و لم فتحت هاهنا حيث أضيفت و نخرج عن المعنى الذي قصدناه من موضوع الكتاب إلى فنون أخرى قد أحكمها أربابها. و نبتدئ الآن فنقول قال لي إمام من أئمة اللغة في زماننا هو الفخار بكسر الفاء قال و هذا مما يغلط فيه الخاصة فيفتحونها و هو غير جائز لأنه مصدر فاخر و فاعل يجي ء مصدره على فعال بالكسر لا غير نحو قاتلت قتالا و نازلت نزالا و خاصمت خصاما و كافحت كفاحا و صارعت صراعا و عندي أنه لا يبعد أن تكون الكلمة مفتوحة الفاء و تكون مصدر فخر لا مصدر فاخر فقد جاء مصدر الثلاثي إذا كا عينه أو لامه حرف حلق على فعال بالفتح نحو سمح سماحا و ذهب ذهابا اللهم إلا أن ينقل ذلك عن شيخ أو كتاب موثوق به نقلا صريحا فتزول الشبهة و العصم جمع عصمة و هو ما يعتصم به و المنار الأعلام واحدها منارة بفتح الميم و المثاقيل جمع مثقال و هو مقدار وزن الشي ء تقو مثقال حبة و مثقال قيراط و مثقال دينار و ليس كما تظنه العامة أنه اسم للدينار خاصة فقوله مثاقيل الفضل أي زنات الفضل و هذا من باب الاستعارة و قوله تكون إزاء لفضلهم أي مقابلة له و مكافأة بالهمز من كافأته أي جازيته و كفاء بالهمز و المد أي نظيرا شرح نهج البلا ج : 1 ص : 44و خوى النجم أي سقط و طينة الكرم أصله و سلالة المجد فرعه و الوسيل جمع وسيلة و هو ما يتقرب به و لو قال و سبيلا إلى جنانه لكان حسنا و إنما قصد الإغراب على أنا قد قرأناه كذلك في بعض النسخ و قوله و مكافأة لعملهم إن أراد أن يجعله قرينة لفضلهم كان مستقبحا عند من يريد البديع لأن الأولى ساكنة الأوسط و الأخرى متحركة الأوسط و أما من لا يقصد البديع كالكلام القديم فليس بمستقبح و إن لم يرد أن يجعلها قرينة بل جعلها من حشو السجعة الثانية و جعل القرينة و أصلهم فهو جائز إلا أن السجعة الثانية تطول جدا و لو قال عوض لعملهم لفعلهم لكان حسنا

(2/34)


قال الرضي رحمه الله فإني كنت في عنفوان السن و غضاضة الغصن ابتدأت تأليف كتاب في خصائص الأئمة ع يشتمل على محاسن أخبارهم و جواهر كلامهم حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب و جعلته أمام الكلام و فرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا ص و عاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام و مماطلات الزمان و كنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا و فصلته فصولا فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه ع من الكلام القصير في المواعظ و الحكم و الأمثال و الآداب دون الخطب الطويلة و الكتب المبسوطة فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه و متعجبين من نواصعه و سألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام أمير المؤمنين ع في جميع فنونه و متشعبات غصونه من خطب و كتب و مواعظ و أدب علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة و غرائب الفصاحة و جواهر العربية و ثواقب الكلم الدينية و الدنياوية ما لا يوجد مجتمعا في كلام و لا مجموع الأطراف شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 45في كتاب إذ كان أمير المؤمنين ع مشرع الفصاحة و موردها و منشأ البلاغة و مولدها و منه ع ظهر مكنونها و عنه أخذت قوانينها و على أمثلته حذا كل قائل خطيو بكلامه استعان كل واعظ بليغ و مع ذلك فقد سبق و قصروا و تقدم و تأخروا لأن كلامه ع الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي و فيه عبقة من الكلام النبوي
عنفوان السن أولها و محاجزات الأيام ممانعاتها و مماطلات الزمان مدافعاته و قوله معجبين ثم قال و متعجبين فمعجبين من قولك أعجب فلان برأيه و بنفسه فهو معجب بهما و الاسم العجب بالضم و لا يكون ذلك إلا في المستحسن و متعجبين من قولك تعجبت من كذا و الاسم العجب و قد يكون في الشي ء يستحسن و يستقبح و يتهول منه و يستغرب و مراده هنا التهول و الاستغراب و من ذلك قول أبي تمام أبدت أسى إذ رأتني مخلس القصب و آل ما كان من عجب إلى عجب

(2/35)


يريد أنها كانت معجبة به أيام الشبيبة لحسنه فلما شاب انقلب ذلك العجب عجبا إما استقباحا له أو تهولا منه و استغرابا و في بعض الروايات معجبين ببدائعه أي أنهم يعجبون غيرهم و النواصع الخالصة و ثواقب الكلم مضيئاتها و منه الشهاب الثاقب و حذا كل قائل اقتفى و اتبع و قوله مسحة يقولون على فلان مسحة من جمال مثل قولك شي ء و كأنه هاهنا يريد ضوءا و صقالا و قوله عبقة أي رائحة شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 46و لو قال عوض العلم الإلهي الكتاب الإلهي لكان أحس قال الرضي رحمه الله فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع و منشور الذكر و مذخور الأجر و اعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير المؤمنين ع في هذه الفضيلة مضافة إلى المحاسن الدثرة و الفضائل الجمة و أنه انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر و الشاذ الشارد فأما كلامه ع فهو البحر الذي لا يساجل و الجم الذي لا يحافل و أردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به ص بقول الفرزدق
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
المحاسن الدثرة الكثيرة مال دثر أي كثير و الجمة مثله و يؤثر عنهم أي يحكى و ينقل قلته آثرا أي حاكيا و لا يساجل أي لا يكاثر أصله من النزع بالسجل و هو الدلو الملي ء قال من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب
و يروى و يساحل بالحاء من ساحل البحر و هو طرفه أي لا يشابه في بعد ساحله و لا يحافل أي لا يفاخر بالكثرة أصله من الحفل و هو الامتلاء و المحافلة المفاخرة بالامتلاء ضرع حافل أي ممتلئ. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 47و الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة التميمي و من هذالأبيات

(2/36)


و منا الذي اختير الرجال سماحة و جودا إذا هب الرياح الزعازع و منا الذي أحيا الوئيد و غالب و عمرو و منا حاجب و الأقارع و منا الذي قاد الجياد على الوجا بنجران حتى صبحته الترائع و منا الذي أعطى الرسول عطية أسارى تميم و العيون هواالترائع الكرام من الخيل يعني غزاة الأقرع بن حابس قبل الإسلام بني تغلب بنجران و هو الذي أعطاه الرسول يوم حنين أسارى تميم.
و منا غداة الروع فرسان غارة إذا منعت بعد الزجاج الأشاجع و منا خطيب لا يعاب و حامل أغر إذا التفت عليه المجامعأي إذا مدت الأصابع بعد الزجاج إتماما لها لأنها رماح قصيرة و حامل أي حامل للديات شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 4أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع بهم أعتلي ما حملتنيه دارم و أصرع أقراني الذين أصارع أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها و النجوم الطوالع فوا عجبا حتى كليب تسبني كأن أباها نهشل أو مجا قال الرضي رحمه الله و رأيت كلامه ع يدور على أقطاب ثلاثة أولها الخطب و الأوامر و ثانيها الكتب و الرسائل و ثالثها الحكم و المواعظ فأجمعت بتوفيق الله سبحانه على الابتداء باختيار محاسن الخطب ثم محاسن الكتب ثم محاسن الحكم و الأدب مفردا لكل صنف من ذلك بابا و مفصلا فيه أوراقا ليكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا و يقع إلي آجلا و إذا جاء شي ء من كلامه الخارج في أثناء حوار أو جواب سؤال أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها و قررت القاعدة عليها نسبته إلى أليق الأبواب به و أشدها ملامحة لغرضه و ربما اء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة و محاسن كلم غير منتظمة لأني أورد النكت و اللمع و لا أقصد التتالي و النسق

(2/37)


قوله أجمعت على الابتداء أي عزمت و قال القطب الراوندي تقديره أجمعت عازما على الابتداء قال لأنه لا يقال إلا أجمعت الأمر و لا يقال أجمعت على الأمر قال سبحانه فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 49هذا الذي ذكره الراوندي خلاف نص أهل اللغة قالواجمعت الأمر و على الأمر كله جائز نص صاحب الصحاح على ذلك. و المحاسن جمع حسن على غير قياس كما قالوا الملامح و المذاكر و مثله المقابح و الحوار بكسر الحاء مصدر حاورته أي خاطبته و الأنحاء الوجوه و المقاصد و أشدها ملامحة لغرضه أي أشدها إبصارا له و نظرا إليه من لمحت الشي ء و هذه استعارة يقال هذا الكلام يلمح الكلام الفلاني أي يشابهه كان ذلك الكلام يلمح و يبصر من هذا الكلام قال الرضي رحمه الله و من عجائبه ع التي انفرد بها و أمن المشاركة فيها أن كلامه الوارد في الزهد و المواعظ و التذكير و الزواجر إذا تأمله المتأمل و فكر فيه المفكر و خلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره و نفذ أمره و أحاط بالرقاب ملكه لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظ له في غير الزهادة و لا شغل له بغير العبادة قد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى سفح جبل لا يسمع إلا حسه و لا يرى إلا نفسه و لا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه فيقط الرقاب و يجدل الأبطال و يعود به ينطف دما و يقطر مهجا و هو مع تلك الحال زاهد الزهاد و بدل الأبدال و هذه من فضائله العجيبة و خصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد و ألف بين الأشتات و كثيرا ما أذاكر الإخوان بها و أستخرج عجبهم منها و هي موضع العبرة بها و الكفرة فيها

(2/38)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 50قبع القنفذ يقبع قبوعا إذا أدخل رأسه في جلده و كذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه و كل من انزوى في جحر أو مكان ضيق فقد قبع و كسر البيت جانب الخباء و سفح الجبل أسفله و أصله حيث يسفح فيه الماء و يقط الرقاب يقطعها عرضا لا طولا كما له الراوندي و إنما ذاك القد قددته طولا و قططته عرضا قال ابن فارس صاحب المجمل قال ابن عائشة كانت ضربات علي ع في الحرب أبكارا إن اعتلى قد و إن اعترض قط و يجدل الأبطال يلقيهم على الجدالة و هي وجه الأرض و ينطف دما يقطر و الأبدال قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر قد ورد ذلك في كثير من كتب الحديث. كان أمير المؤمنين ع ذا أخلاق متضادة فمنها ما قد ذكره الرضي رحمه الله و هو موضع التعجب لأن الغالب على أهل الشجاعة و الإقدام و المغامرة و الجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية و فتك و تمرد و جبرية و الغالب على أهل الزهد و رفض الدنيا و هجران ملاذها و الاشتغال بمواعظ الناس و تخويفهم المعاد و تذكيرهم الموت أن يكونوا ذوي رقة و لين و ضعف قلب و خور طبع و هاتان حالتان متضادتان و قد اجتمعتا له ع. و منها أن الغالب على ذوي الشجاعة و إراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية و طباع حوشية و غرائز وحشية و كذلك الغالب على أهل الزهادة و أرباب الوعظ و التذكير و رفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق و عبوس في الوجوه و نفار من الناس شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 51و استيحاش و أمير المؤمنين ع كان أشجع الناس و أعظمهم إرة للدم و أزهد الناس و أبعدهم عن ملاذ الدنيا و أكثرهم وعظا و تذكيرا بأيام الله و مثلاته و أشدهم اجتهادا في العبادة و آدابا لنفسه في المعاملة و كان مع ذلك ألطف العالم أخلاقا و أسفرهم وجها و أكثرهم بشرا و أوفاهم هشاشة و أبعدهم عن انقباض موحش أو خلق نافر أو تجهم مباعد أو غلظة و فظاظة تنفر معهما نفس أو يتكدر معهما قلب حتى عيب

(2/39)


بالدعابة و لما لم يجدوا فيه مغمزا و لا مطعنا تعلقوا بها و اعتمدوا في التنفير عنه عليها
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها
و هذا من عجائبه و غرائبه اللطيفة. و منها أن الغالب على شرفاء الناس و من هو من أهل بيت السيادة و الرئاسة أن يكون ذا كبر و تيه و تعظم و تغطرس خصوصا إذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخرى و كان أمير المؤمنين ع في مصاص الشرف و معدنه و معانيه لا يشك عدو و لا صديق أنه أشرف خلق الله نسبا بعد ابن عمه ص و قد حصل له من الشرف غير شرف النسب جهات كثيرة متعددة قد ذكرنا بعضها و مع ذلك فكان أشد الناس تواضعا لصغير و كبير و ألينهم عريكة و أسمحهم خلقا و أبعدهم عن الكبر و أعرفهم بحق و كانت حاله هذه في كلا زمانيه زمان خلافته شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 52و الزمان الذي قبله لم تغيره الإمرة و لا أحالت خلقه الرئاسة و كيف تحيل الرئاسة خلقه و ما زال رئيسا و كيف تغير الإمرة سجيته و ما برح أميرا لم يستفد بالخلافة شرفا و لا اكتسب بها زينة بل هو كما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم تذاكروا عند أحمد خلافة أبي بكر و علي و قالوا فأكثروا فرفع رأسه إليهم و قال قد أكثرتم أن عليا لم تزنه الخلافة و لكنه زانها و هذا الكلام دال بفحواه و مفهومه على أن غيره ازدان بالخلافة و تممت نقصه و أن عليا ع لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتمم بالخلافة و كانت الخلافة ذات نقص في نفسها فتم نقصها بولايته إياها. و منها أن الغالب على ذوي الشجاعة و قتل الأنفس و إراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح بعيدي العفو لأن أكبادهم واغرة و قلوبهم ملتهبة و القوة الغضبية عندهم شديدة و قد علمت حال أمير المؤمنين ع في كثرة إراقة الدم و ما عنده من الحلم و الصفح و مغالبة هوى النفس و قد رأيت فعله يوم الجمل و لقد أحسن مهيار في قوله

(2/40)


حتى إذا دارت رحى بغيهم عليهم و سبق السيف العذل عاذوا بعفو ماجد معود للعفو حمال لهم على العلل فنجت البقيا عليهم من نجا و أكل الحديد منهم من أكل أطت بهم أرحامهم فلم يطع ثائرة الغيظ و لم يشف الغو منها أنا ما رأينا شجاعا جوادا قط كان عبد الله بن الزبير شجاعا و كان أبخل الناس و كان الزبير أبوه شجاعا و كان شحيحا قال له عمر لو وليتها لظلت تلاطم الناس شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 53في البطحاء على الصاع و المد و أراد علي ع أن يحجر على عبد الله بن جعفر لذيره المال فاحتال لنفسه فشارك الزبير في أمواله و تجاراته فقال ع أما إنه قد لاذ بملاذ و لم يحجر عليه و كان طلحة شجاعا و كان شحيحا أمسك عن الإنفاق حتى خلف من الأموال ما لا يأتي عليه الحصر و كان عبد الملك شجاعا و كان شحيحا يضرب به المثل في الشح و سمي رشح الحجر لبخله و قد علمت حال أمير المؤمنين ع في الشجاعة و السخاء كيف هي و هذا من أعاجيبه أيضا ع

(2/41)


قال الرضي رحمه الله و ربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد و المعنى المكرر و العذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة فتقتضى الحال أن يعاد استظهارا للاختيار و غيره على عقائل الكلام و ربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا فأعيد بعضه سهوا و نسيانا لا قصدا أو اعتمادا و لا أدعي مع ذلك أنني أحيط بأقطار جميع كلامه ع حتى لا يشذ عني منه شاذ و لا يند ناد بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي و الحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي و ما علي إلا بذل الجهد و بلاغة الوسع و على الله سبحانه نهج السبيل و إرشاد الدليل. و رأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها و يقرب عليه طلابها و فيه حاجة العالم و المتعلم و بغية البليغ و الزاهد و يمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد و العدل و تنزيه الله سبحانه و تعالى عن شبه الخلق ما هو بلال كل غلة و شفاء كل علة و جلاء كل شبهة و من الله أستمد التوفيق و العصمة و أتنجز التسديد و المعونة و أستعيذه من خطإ الجنان قبل خطإ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 54اللسان و من زلة الكلم قبل زلة القدم و هو حسبي و نعم الوكيلفي أثناء هذا الاختيار تضاعيفه واحدها ثني كعذق و أعذاق و الغيرة بالفتح و الكسر خطأ و عقائل الكلام كرائمه و عقيلة الحي كريمته و كذلك عقيلة الذود و الأقطار الجوانب واحدها قطر و الناد المنفرد ند البعير يند الربقة عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة و قوله و على الله نهج السبيل أي إبانته و إيضاحه نهجت له نهجا و أما اسم الكتاب فنهج البلاغة و النهج هنا ليس بمصدر بل هو اسم للطريق الواضح نفسه و الطلاب بكسر الطاء الطلب و البغية ما يبتغى و بلال كل غلة بكسر الباء ما يبل به الصدى و منه

(2/42)


قوله انضحوا الرحم ببلالها أي صلوها بصلتها و ندوها قال أوس
كأني حلوت الشعر حين مدحته صفا صخرة صماء يبس بلالها
و إنما استعاذ من خطإ الجنان قبل خطإ اللسان لأن خطأ الجنان أعظم و أفحش من خطإ اللسان أ لا ترى أن اعتقاد الكفر بالقلب أعظم عقابا من أن يكفر الإنسان بلسانه و هو غير معتقد للكفر بقلبه و إنما استعاذ من زلة الكلم قبل زلة القدم لأنه أراد زلة القدم الحقيقية و لا ريب أن زلة القدم أهون و أسهل لأن العاثر يستقيل من عثرته و ذا الزلة تجده ينهض من صرعته و أما الزلة باللسان فقد لا تستقال عثرتها و لا ينهض صريعها و طالما كانت لا شوى لها قال أبو تمام
يا زلة ما وقيتم شر مصرعها و زلة الرأي تنسى زلة القدم
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 55باب الخطب و الأوامر شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 57 قال الرضي رحمه الله باب المختار من خطب أمير المؤمنين ص و أوامره و يدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحضورة و المواقف المذكورة و الخطوب الواردةالمقامات جمع مقامة و قد تكون المقامة المجلس و النادي الذي يجتمع إليه الناس و قد يكون اسما للجماعة و الأول أليق هاهنا بقوله المحضورة أي التي قد حضرها الناس. و منذ الآن نبتدئ بشرح كلام أمير المؤمنين ع و نجعل ترجمة الفصل الذي نروم شرحه الأصل فإذا أنهيناه قلنا الشرح فذكرنا ما عندنا فيه و بالله التوفيق
1- فمن خطبة له ع يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم

(2/43)


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ وَ لَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ وَ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ الَّذِي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ وَ لَا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَ لَا أَجْلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ نَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ

(2/44)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 58الذي عليه أكثر الأدباء و المتكلمين أن الحمد و المدح أخوان لا فرق بينهما تقول حمدت زيدا على إنعامه و مدحته على إنعامه و حمدته على شجاعته و مدحته على شجاعته فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان و فيما ليس من فعله كما ذكرناهن المثالين فأما الشكر فأخص من المدح لأنه لا يكون إلا على النعمة خاصة و لا يكون إلا صادرا من منعم عليه فلا يجوز عندهم أن يقال شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد. إن قيل الاستعمال خلاف ذلك لأنهم يقولون حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد قيل ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد أوجب سرور فلان فيكون شكر إنعام الأمير على زيد شكرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد و تكون لفظة زيد التي استعيرت ظاهرا لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة و يكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور و مدحا باعتبار آخر و هو المناداة على ذلك الجميل و الثناء الواقع بجنسه. ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد و المدح و الشكر لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء و التعظيم فإن استعمل شي ء من ذلك في الأفعال بالجارح كان مجازا و بقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان فإن الاستعمال لا يساعدهم لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره أو شكره رياء و سمعة إنه قد مدحه و شكره و إن كان منافقا عندهم و نظير هذا الموضع الإيمان فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي فأما شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 59أن يقصروا به عليه كما هو مذهب الأشعرية و الإمامية أو تؤخذ معه أمور أخرى و هي فعل الواجب و تجنب القبيح كما هو مذهب المعتزلة و لا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية فإن المنا عندهم يسمى مؤمنا و نظروا إلى مجرد الظاهر فجعلوا النطق اللساني وحده

(2/45)


إيمانا. و المدحة هيئة المدح كالركبة هيئة الركوب و الجلسة هيئة الجلوس و المعنى مطروق جدا و منه في الكتاب العزيز كثير كقوله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها
و في الأثر النبوي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
و قال الكتاب من ذلك ما يطول ذكره فمن جيد ذلك قول بعضهم الحمد لله على نعمه التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها و إن عجزنا عن إحصائها و عدها و قالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد
فما بلغت كف امرئ متناول بها المجد إلا و الذي نلت أطول
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 60و لا حبر المثنون في القول مدحة و إن أطنبوا إلا و ما فيك أفضو من مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم البارئ عز جلاله بلفظ الحمد قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية

(2/46)


الحمد لله بقدر الله لا قدر وسع العبد ذي التناهي و الحمد لله الذي برهانه أن ليس شأن ليس فيه شانه و الحمد لله الذي من ينكره فإنما ينكر من يصورو أما قوله الذي لا يدركه فيريد أن همم النظار و أصحاب الفكر و إن علت و بعدت فإنها لا تدركه تعالى و لا تحيط به و هذا حق لأن كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا أو متخيلا أو موجودا من فطرة النفس و الاستقراء يشهد بذلك مثال المحسوس السواد و الحموضة مثال المتخيل إنسان يطير أو بحر من دم مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم و اللذة و لما كان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع لم يكن متصورا. فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود فإنه يعني بصفته هاهنا كنهه و حقيقته يقول ليس لكنهه حد فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة لأنه ليس بمركب و كل محدود مركب. ثم قال و لا نعت موجود أي و لا يدرك بالرسم كما تدرك الأشياء برسومها و هو أن تعرف بلازم من لوازمها و صفة من صفاتها ثم قال و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فيه إشارة إلى الرد على من قال إنا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 61نعلم كنه البئ سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون إنا نعرف حينئذ كنهه فهو ع رد قولهم و قال إنه لا وقت أبدا على الإطلاق تعرف فيه حقيقته و كنهه لا الآن و لا بعد الآن و هو الحق لأنا لو رأيناه في الآخرة و عرفنا كنهه لتشخص تشخصا يمنع من حمله على كثيرين و لا يتصور أن يتشخص هذا التشخص إلا ما يشار إلى جهته و لا جهة له سبحانه و قد شرحت هذا الموضع في كتابي المعروف بزيادات النقضين و بينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الأشعري لا بد فيها من إثبات الجهة و أنها لا تجري مجرى العلم لأن العلم لا يشخص المعلوم و الرؤية تشخص المرئي و التشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة. و اعلم أن نفي الإحاطة مذكور في الكتاب العزيز في مواضع منها قوله تعالى وَ لا يُحِيطُونَ

(2/47)


بِهِ عِلْماً و منها قوله يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ و قال بعض الصحابة العجز عن درك الإدارك إدراك و قد غلا محمد بن هانئ فقال في ممدوحه المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي
أتبعته فكري حتى إذا بلغت غاياتها بين تصويب و تصعيدرأيت موضع برهان يلوح و ما رأيت موضع تكييف و تحديد
و هذا مدح يليق بالخالق تعالى و لا يليق بالمخلوق. فأما قوله فطر الخلائق إلى آخر الفصل فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز فقوله فطر الخلائق بقدرته من قوله تعالى قالَ رَبُّ السَّماواتِ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 62وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا و قوله و نشر الرح برحمته من قوله يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته. و قوله و وتد بالصخور ميدان أرضه من قوله وَ الْجِبالَ أَوْتاداً و الميدان التحرك و التموج. فأما القطب الراوندي رحمه الله فإنه قال إنه ع أخبر عن نفسه بأول هذا الفصل أنه يحمد الله و ذلك من ظاهر كلامه ثم أمر غيره من فحوى كلامه أن يحمد الله و أخبر ع أنه ثابت على ذلك مدة حياته و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا و لو قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك ثم قال و الحمد أعم من الشكر و الله أخص من الإله قال فأما قوله الذي لا يبلغ مدحته القائلون فإنه أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده و المعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود الذي حقت العبادة له في الأزل و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم التي يستحق بها العبادة. و لقائل أن يقول إنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر غيره أن يحمد الله و ليس يفهم من قول بعض رعية الملك لغيره منهم العظمة و الجلال لهذا الملك أنه قد أمرهم بتعظيمه و إجلاله و لا أيضا في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك مدة حياته و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا. و لا أعلم كيف قد وقع ذلك للراوندي فإن زعم أن العقل يقتضي ذلك فحق و لكن شرحنهج البلاغة ج : 1 ص :

(2/48)


63ليس مستفادا من الكلام و هو أنه قال إن ذلك موجود في الكلام. فأما قوله لو كان قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك فإنه لا فرق في انتفاء دلالة أحمد الله على ذلك و دلالة الحمد لله و هما سواء في أنهما لا يدلان على شي ء من أحوال غير القا فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلك و دوامه في حق غير القائل. و أما قوله الله أخص من الإله فإن أراد في أصل اللغة فلا فرق بل الله هو الإله و فخم بعد حذف الهمزة هذا قول كافة البصريين و إن أراد أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الأصنام لفظة الإلهة و لا يسمونها الله فحق و ذلك عائد إلى عرفهم و اصطلاحهم لا إلى أصل اللغة و الاشتقاق أ لا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القملة و إن كانت في أصل اللغة دابة. فأما قوله قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده فكلام يقتضي أن المدح غير الحمد و نحن لا نعرف فرقا بينهما و أيضا فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيام بالواجب لا من الممادح و لا من المحامد و لا فيه تعرض لذكر الوجوب و إنما نفى أن يبلغ القائلون مدحته لم يقل غير ذلك. و أما قوله الذي حقت العبادة له في الأزل و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم فكلام ظاهره متناقض لأنه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق فكيف يقال إنه استحقها في الأزل و هل يكون في الأزل مخلوق ليستحق عليه العبادة. و اعلم أن المتكلمين لا يطلقون على البارئ سبحانه أنه معبود في الأزل أو مستحق للعبادة في الأزل إلا بالقوة لا بالفعل لأنه ليس في الأزل مكلف يعبده تعالى و لا أنعم على أحد في الأزل بنعمة يستحق بها العبادة حتى أنهم قالوا في الأثر الوارد يا قديم

(2/49)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 64الإحسان إن معناه أن إحسانه متقادم العهد لا أنه قديم حقيقة كما جاء في الكتاب العزيز حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة. ثم قال الراوندي و الحمد و المدح يكونان بالقول و بالفعل و الألف اللام في القائلون لتعريف الجنس كمثلهما في الحمد و البلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه و إذا لم تشرف على حمده تعالى بالقول فكيف توصل إليه بالفعل و الإله مصدر بمعنى المألوه. و لقائل أن يقول الذي سمعناه أن التعظيم يكون بالقول و الفعل و بترك القول و الفعل قالوا فمن قال لغيره يا عالم فقد عظمه و من قام لغيره فقد عظمه و من ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه و من كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه و كذلك الاستخفاف و الإهانة تكون بالقول و الفعل و بتركهما حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم. فأما الحمد و المدح فلا وجه لكونهما بالفعل و أما قوله إن اللام في القائلون لتعريف الجنس كما أنها في الحمد كذلك فعجيب لأنها للاستغراق في القائلون لا شبهة في ذلك كالمؤمنين و المشركين و لا يتم المعنى إلا به لأنه للمبالغة بل الحق المحض أنه لا يبلغ مدحته كل القائلين بأسرهم و جعل اللام للجنس ينقص عن هذا المعنى إن أراد بالجنس المعهود و إن أراد الجنسية العامة فلا نزاع بيننا و بينه إلا أن قوله كما أنها في الحمد كذلك يمنع من أن يحمل كلامه على المحمل الصحيح لأنها ليست في الحمد للاستغراق يبين ذلك أنها لو كانت للاستغراق لما جاز أن يحمد رسول الله ص و لا غيره من الناس و هذا باطل. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 65و أيضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس و الأصل في مثل ذلك أن يفيد الجنسية المطلقة و لا يفيد الاستغراق فإن جاء منه شي ء للاستغراق كقوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ و أهلك الناس الدرهم و الار فمجاز و الحقيقة ما ذكرناه فأما قوله البلوغ المشارفة يقال بلغت

(2/50)


المكان إذا أشرفت عليه فالأجود أن يقول قالوا بلغت المكان إذا شارفته و بين قولنا شارفته و أشرفت عليه فرق. و أما قوله و إذا لم يشرف على حمده بالقول فكيف يوصل إليه بالفعل فكلام مبني على أن الحمد قد يكون بالفعل و هو خلاف ما يقوله أرباب هذه الصناعة. و قوله و الإله مصدر بمعنى المألوه كلام طريف أما أولا فإنه ليس بمصدر بل هو اسم كوجار للضبع و سرار للشهر و هو اسم جنس كالرجل و الفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا و السنة اسم لكل عام ثم غلب على عام القحط و أظنه رحمه الله لما رآه فعالا ظن أنه اسم مصدر كالحصاد و الجذاذ و غيرهما و أما ثانيا فلأن المألوه صيغة مفعول و ليست صيغة مصدر إلا في ألفاظ نادرة كقولهم ليس له معقول و لا مجلود و لم يسمع مألوه في اللغة لأنه قد جاء أله الرجل إذا دهش و تحير و هو فعل لازم لا يبنى منه مفعول. ثم قال الراوندي و في قول الله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها بلفظ الإفراد و قول أمير المؤمنين ع لا يحصي نعماءه العادون بلفظ الجمع سر عجيب لأنه تعالى أراد أن نعمة واحدة من نعمه لا يمكن العباد عد وجوه كونها نعمة و أراد أمير المؤمنين ع أن أصول نعمه لا تحصى لكثرتها فكيف تعد

(2/51)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 66وجوه فروع نعمائه و كذلك في كون الآية واردة بلفظة إن الشرطية و كلام أمير المؤمنين ع على صيغة الخبر تحته لطيفة عجيبة لأنه سبحانه يريد أنكم إن أردتم أن تعدوا نعمه لم تقدروا على حصرها و علي ع أخبر أنه قد أنعم النظر فعلم أن أحدا ليمكنه حصر نعمه تعالى. و لقائل أن يقول الصحيح أن المفهوم من قوله وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ الجنس كما يقول القائل أنا لا أجحد إحسانك إلى و امتنانك علي و لا يقصد بذلك إحسانا واحدا بل جنس الإحسان. و ما ذكره من الفرق بين كلام البارئ و كلام أمير المؤمنين ع غير بين فإنه لو قال تعالى و إن تعدوا نعم الله و قال ع و لا يحصي نعمته العادون لكان كل واحد منهما سادا مسد الآخر. أما اللطيفة الثانية فغير ظاهرة أيضا و لا مليحة لأنه لو انعكس الأمر فكان القرآن بصيغة الخبر و كلام علي ع بصيغة الشرط لكان مناسبا أيضا حسب مناسبته و الحال بعكس ذلك اللهم إلا أن تكون قرينة السجعة من كلام علي ع تنبو عن لفظة الشرط و إلا فمتى حذفت القرينة السجعية عن وهمك لم تجد فرقا و نحن نعوذ بالله من التعسف و التعجرف الداعي إلى ارتكاب هذه الدعاوي المنكرة. ثم قال الراوندي إنه لو قال أمير المؤمنين ع الذي لا يعد نعمه الحاسبون لم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارته لأن اشتقاق الحساب من الحسبان و هو الظن قال و أما اشتقاق العدد فمن العد و هو الماء الذي له مادة و الإحصاء الإطاقة أحصيته أي أطقته فتقدير الكلام لا يطيق عد نعمائه العادون و معنى ذلك شرح نهج الاغة ج : 1 ص : 67أن مدائحه تعالى لا يشرف على ذكرها الأنبياء و المرسلون لأنها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون و الكرام الكاتبون. و لقائل أن يقول أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن كما توهمه بل هو أصل برأسه أ لا ترى أن أحدهما حسبت أحسب و الآخر حسبت أحسب و أحسب بالفتح و الضم و هو من الألفاظ الأربعة التي جاءت شاذة

(2/52)


و أيضا فإن حسبت بمعنى ظننت يتعدى إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما و حسبت من العدد يتعدى إلى مفعول واحد ثم يقال له و هب أن الحاسبين لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة بل المبالغة كادت تكون أكثر لأن النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه أكثر من النعم التي لا يعدها العالم بعلومه و أما قوله العدد مشتق من العد و هو الماء الذي له مادة فليس كذلك بل هما أصلان و أيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر لوجب أن يكون العد مشتقا من العدد لأن المصادر هي الأصول التي يقع الاشتقاق منها سواء أ كان المشتق فعلا أو اسما أ لا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق أن الضرب الرجل الخفيف مشتق من الضرب أي السير في الأرض للابتغاء قال الله تعالى لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ فجعل الاسم منقولا و مشتقا من المصدر. و أما الإحصاء فهو الحصر و العد و ليس هو الإطاقة كما ذكر لا يقال أحصيت الحجر أي أطقت حمله. و أما ما قال إنه معنى الكلمة فطريف لأنه ع لم يذكر الأنبياء و لا

(2/53)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 68الملائكة لا مطابقة و لا تضمنا و لا التزاما و أي حاجة إلى هذا التقدير الطريف الذي لا يشعر الكلام به و مراده ع و هو أن نعمه جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص. قال الراوندي فأما قوله لا يدر بعد الهمم فالإدراك هو الرؤية و النيل و الإصابة و معنى الكلام الحمد لله الذي ليس بجسم و لا عرض إذ لو كان أحدهما لرآه الراءون إذا أصابوه و إنما خص بعد الهمم بإسناد نفي الإدراك و غوص الفطن بإسناد نفي النيل لغرض صحيح و ذلك أن الثنوية يقولون بقدم النور و الظلمة و يثبتون النور جهة العلو و الظلمة جهة السفل و يقولون إن العالم ممتزج منهما فرد ع عليهم بما معناه أن النور و الظلمة جسمان و الأجسام محدثة و البارئ تعالى قديم. و لقائل أن يقول إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام لأنه ع لم يقل الذي لا تدركه العيون و لا الحواس و إنما قال لا يدركه بعد الهمم و هذا يدل على أنه إنما أراد أن العقول لا تحيط بكنهه و حقيقته. و أيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له هب أن الأمر كما تزعم أ لست تريد بيان الأمر الذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الإدراك و خصص غوص الفطن بنفي النيل و قلت إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح و ما رأيناك أوضحت هذا الغرض و إنما حكيت مذهب الثنوية و ليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم بنفي الإدراك دون نفي النيل و لا يوجب تخصيص غوص الفطن شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 69بنفي النيل دون نفي الإدراك و أكثما في حكاية مذهبهم أنهم يزعمون أن إلهي العالم النور و الظلمة و هما جسمان و أمير المؤمنين ع يقول لو كان صانع العالم جسما لرئي و حيث لم ير لم يكن جسما أي شي ء في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم و التخصيص الذي زعمت أنه إنما خصصه و قسمه لغرض صحيح. ثم قال الروندي و يجوز أن يقال البعد و الغوص مصدران هاهنا بمعنى الفاعل كقولهم

(2/54)


فلأن عدل أي عادل و قوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا فيكون المعنى لا يدركه العالم البعيد الهمم فكيف الجاهل و يكون المقصد بذلك الرد على من قال إن محمدا ص رأى ربه ليلة الإسراء و إن يونس ع رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر. و لقائل أن يقول أن المصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة لا يجوز القياس عليها و لو جاز لما كان المصدر هاهنا بمعنى الفاعل لأنه مصدر مضاف و المصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل و لو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل لم يجز أن يحمل كلامه ع على الرد على من أثبت أن البارئ سبحانه مرئي لأنه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا و إنما غرض الكلام نفي معقوليته سبحانه و أن الأفكار و الأنظار لا تحيط بكنهه و لا تتعقل خصوصية ذاته جلت عظمته. ثم قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود و لا نعت موجود و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فالوقت تحرك الفلك و دورانه على وجه و الأجل

(2/55)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 70مدة الشي ء و معنى الكلام أن شكري لله تعالى متجدد عند تجدد كل ساعة و لهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها و هي الثانية كما أبدل الثانية من الأولى. و لقائل أن يقول الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك لا نفس حركته و الأجلس مطلق الوقت أ لا تراهم يقولون جئتك وقت العصر و لا يقولون أجل العصر و الأجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى أن حياة الحيوان تبطل فيه مأخوذ من أجل الدين و هو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه. فأما قوله و معنى الكلام أن شكري متجدد لله تعالى في كل وقت ففاسد و لا ذكر في هذه الألفاظ للشكر و لا أعلم من أين خطر هذا للراوندي و ظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط لأنها صفات كل واحدة منها صفة بعد أخرى كما تقول مررت بزيد العالم الظريف الشاعر. قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد فظاهره إثبات الصفة له سبحانه و أصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة كما يثبتها الأشعرية لكنهم يجعلونه على حال أو يجعلونه متميزا بذاته فأمير المؤمنين ع بظاهر كلامه و إن أثبت له صفة إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم أنه ليس بإثبات على الحقيقة و قد سألني سائل فقال هاهنا كلمتان إحداهما كفر و الأخرى ليست بكفر و هما لله تعالى شريك غير بصير ليس شريك الله تعالى بصيرا فأيهما كلمة الكفر فقلت له القضية الثانية و هي ليس شريك الله تعالى بصيرا كفر لأنها تتضمن إثبات الشريك و أما الكلمة الأخرى فيكون معناها لله شريك غير بصير بهمزة الاستفهام المقدرة المحذوفة. شرح نهجلبلاغة ج : 1 ص : 71ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة و المعنى و يبطل مذهب الأشعرية بما يقوله المتكلمون من أصحابنا و أخذ في توحيد الصفة لم جاء و كيف يدل نفي الصفة الواحدة على نفي مطلق الصفات و انتقل من ذلك إلى الكلام في الصفة الخامسة التي أثبتها أبو هاشم ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين و أطال جدا فيما لا حاجة إليه. و لقائل

(2/56)


أن يقول الأمر أسهل مما تظن فإنا قد بينا أن مراده نفي الإحاطة بكنهه و أيضا يمكن أن يجعل الصفة هاهنا قول الواصف فيكون المعنى لا ينتهي الواصف إلى حد إلا و هو قاصر عن النعت لجلالته و عظمته جلت قدرته. فأما القضيتان اللتان سأله السائل عنهما فالصواب غير ما أجاب به فيهما و هو أن القضية الأولى كفر لأنها صريحة في إثبات الشريك و الثانية لا تقتضي ذلك لأنه قد ينفي قول الشريك بصيرا على أحد وجهين إما لأن هناك شريكا لكنه غير بصير أو لأن الشريك غير موجود و إذا لم يكن موجودا لم يكن بصيرا فإذا كان هذا الاعتبار الثاني مرادا لم يكن كفرا و صار كالأثر المنقول كان مجلس رسول الله ص لا تؤثر هفواته أي لم يكن فيه هفوات فتؤثر و تحكى و ليس أنه كان المراد في مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر. قال الراوندي فإن قيل تركيب هذه الجملة يدل على أنه تعالى فطر الخليقة قبل خلق السموات و الأرض.

(2/57)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 72قلنا قد اختلف في ذلك فقيل أول ما يحسن منه تعالى خلقه ذاتا حية يخلق فيها شهوة لمدرك تدركه فتلتذ به و لهذا قيل تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان عبث و قبيح و قيل لا مانع من تقديم خلق الجماد إذا علم أن علم بعض المكلفين فيما بعد بقه قبله لطف له و لقائل أن يقول أما إلى حيث انتهى به الشرح فليس في الكلام تركيب يدل على أنه تعالى فطر خلقه قبل خلق السموات و الأرض و إنما قد يوهم تأمل كلامه ع فيما بعد شيئا من ذلك لما قال ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء على أنا إذا تأملنا لم نجد في كلامه ع ما يدل على تقديم خلق الحيوان لأنه قبل أن يذكر خلق السماء لم يذكر إلا أنه فطر الخلائق و تارة قال أنشأ الخلق و دل كلامه أيضا على أنه نشر الرياح و أنه خلق الأرض و هي مضطربة فأرساها بالجبال كل هذا يدل عليه كلامه و هو مقدم في كلامه على فتق الهواء و الفضاء و خلق السماء فأما تقديم خلق الحيوان أو تأخيره فلم يتعرض كلامه ع له فلا معنى لجواب الراوندي و ذكره ما يذكره المتكلمون من أنه هل يحسن تقديم خلق الجماد على الحيوان أم لا

(2/58)


أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَ كَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ وَ كَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَ مَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 73وَ مَنْ جَهِلَه فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَ مَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ وَ مَنْ قَالَ عَلَامَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ

(2/59)


إنما قال ع أول الدين معرفته لأن التقليد باطل و أول الواجبات الدينية المعرفة و يمكن أن يقول قائل أ لستم تقولون في علم الكلام أول الواجبات النظر في طريق معرفة الله تعالى و تارة تقولون القصد إلى النظر فهل يمكن الجمع بين هذا و بين كلامه ع. و جوابه أن النظر و القصد إلى النظر إنما وجبا بالعرض لا بالذات لأنهما وصله إلى المعرفة و المعرفة هي المقصود بالوجوب و أمير المؤمنين ع أراد أول واجب مقصود بذاته من الدين معرفة البارئ سبحانه فلا تناقض بين كلامه و بين آراء المتكلمين. و أما قوله و كمال معرفته التصديق به فلأن معرفته قد تكون ناقصة و قد تكون غير ناقصة فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بان للعالم صانعا غير العالم و ذلك باعتبار أن الممكن لا بد له من مؤثر فمن علم هذا فقط علم الله تعالى و لكن علما ناقصا و أما المعرفة التي ليست ناقصة فأن تعلم أن ذلك المؤثر خارج عن سلسلة الممكنات و الخارج عن كل الممكنات ليس بممكن و ما ليس بممكن فهو واجب الوجود فمن علم أن للعالم مؤثرا واجب الوجود فقد عرفه عرفانا أكمل من عرفان أن للعالم مؤثرا فقط و هذا الأمر الزائد هو المكني عنه بالتصديق به لأن أخص ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته هو وجوب الوجود. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 74و أما قوله ع و كمال التصديق به توحيده فلأن من علم أنه تعالى واجب الوجود مصدق بالبارئ سبحانه لكن ذلك التصديق قد يكون ناقصا و قد يكون غير ناقص فالتصديق الناقص أن يقتصر على أن يعلم أنه واجب الوجود فقط و التصديق الذي هو أكمل من ذلك و أم هو العلم بتوحيده سبحانه باعتبار أن وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين لأن فرض واجبي الوجود يفضي إلى عموم وجوب الوجود لهما و امتياز كل واحد منهما بأمر غير الوجوب المشترك و ذلك يفضي إلى تركيبهما و إخراجهما عن كونهما واجبي الوجود فمن علم البارئ سبحانه واحدا أي لا واجب الوجود إلا هو يكون أكمل تصديقا ممن لم يعلم ذلك و

(2/60)


إنما اقتصر على أن صانع العالم واجب الوجود فقط. و أما قوله و كمال توحيده الإخلاص له فالمراد بالإخلاص له هاهنا هو نفي الجسمية و العرضية و لوازمهما عنه لأن الجسم مركب و كل مركب ممكن و واجب الوجود ليس بممكن و أيضا فكل عرض مفتقر و واجب الوجود غير مفتقر فواجب الوجود ليس بعرض و أيضا فكل جرم محدث و واجب الوجود ليس بمحدث فواجب الوجود ليس بجرم و لا عرض فلا يكون حاصلا في جهة فمن عرف وحدانية البارئ و لم يعرف هذه الأمور كان توحيده ناقصا و من عرف هذه الأمور بعد العلم بوحدانيته تعالى فهو المخلص في عرفانه جل اسمه و معرفته تكون أتم و أكمل. و أما قوله و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه فهو تصريح بالتوحيد الذي تذهب إليه المعتزلة و هو نفي المعاني القديمة التي تثبتها الأشعرية و غيرهم قال ع

(2/61)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 75لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة و هذا هو دليل المعتزلة بعينه قالوا لو كان عالما بمعنى قديم لكان ذلك المعنى إما هو أو غيره أو ليس هو و لا غيره و الأول باطل لأنا نعقل ذاته قبل أن نعقل أو نتصور له عا و المتصور مغاير لما ليس بمتصور و الثالث باطل أيضا لأن إثبات شيئين أحدهما ليس هو الآخر و لا غيره معلوم فساده ببديهة العقل فتعين القسم الثاني و هو محال أما أولا فبإجماع أهل الملة و أما ثانيا فلما سبق من أن وجوب الوجود لا يجوز أن يكون لشيئين فإذا عرفت هذا فاعرف أن الإخلاص له تعالى قد يكون ناقصا و قد لا يكون فالإخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده و أنه واحد ليس بجسم و لا عرض و لا يصح عليه ما يصح على الأجسام و الأعراض و الإخلاص التام هو العلم بأنه لا تقوم به المعاني القديمة مضافا إلى تلك العلوم السابقة و حينئذ تتم المعرفة و تكمل. ثم أكد أمير المؤمنين ع هذه الإشارات الإلهية بقوله فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه و هذا حق لأن الموصوف يقارن الصفة و الصفة تقارنه. قال و من قرنه فقد ثناه و هذا حق لأنه قد أثبت قديمين و ذلك محض التثنية. قال و من ثناه فقد جزأه و هذا حق لأنه إذا أطلق لفظة الله تعالى على الذات و العلم القديم فقد جعل مسمى هذا اللفظ و فائدته متجزئة كإطلاق لفظ الأسود على الذات التي حلها سواد. قال و من جزأه فقد جهله و هذا حق لأن الجهل هو اعتقاد الشي ء على خلاف ما هو به. قال و من أشار إليه فقد حده و هذا حق لأن كل مشر إليه فهو محدود شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 76لأن المشار إليه لا بد أن يكون في جهة مخصوصة و كل ما هو في جهة فله حد و حدود أي أقطار و أطراف. قال و من حده فقد عده أي جعله من الأشياء المحدثة و هذا حق لأن كل محدود معدود في الذوات المحدثة. قال و من قال فيم فقدمنه و هذا حق لأن من تصور أنه في شي ء فقد جعله إما جسما مستترا في

(2/62)


مكان أو عرضا ساريا في محل و المكان متضمن للتمكن و المحل متضمن للعرض. قال و من قال علام فقد أخلى منه و هذا حق لأن من تصور أنه تعالى على العرش أو على الكرسي فقد أخلى منه غير ذلك الموضع و أصحابتلك المقالة يمتنعون من ذلك و مراده ع إظهار تناقض أقوالهم و إلا فلو قالوا هب أنا قد أخلينا منه غير ذلك الموضع أي محذور يلزمنا فإذا قيل لهم لو خلا منه موضع دون موضع لكان جسما و لزم حدوثه قالوا لزوم الحدوث و الجسمية إنما هو من حصوله في الجهة لا من خلو بعض الجهات عنه و أنتم إنما احتججتم علينا بمجرد خلو بعض الجهات منه فظهر أن توجيه الكلام عليهم إنما هو إلزام لهم لا استدلال على فساد قولهم فأما القطب الراوندي فإنه قال في معنى قوله نفي الصفات عنه أي صفات المخلوقين قال لأنه تعالى عالم قادر و له بذلك صفات فكيف يجوز أن يقال لا صفة له. و أيضا فإنه ع قد أثبت لله تعالى صفة أولا حيث قال الذي ليس لصفته حد محدود فوجب أن يحمل كلامه على ما يتنزه عن المناقضة.

(2/63)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 77و أيضا فإنه قد قال فيما بعد في صفة الملائكة أنهم لا يصفون الله تعالى بصفات المصنوعين فوجب أن يحمل قوله الآن و كمال توحيده نفي الصفات عنه على صفات المخلوقين حملا للمطلق على المقيد. و لقائل أن يقول لو أراد نفي صفات المخلوقين عنلم يستدل على ذلك بدليل الغيرية و هو قوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف لأن هذا الاستدلال لا ينطبق على دعوى أنه غير موصوف بصفات المخلوقين بل كان ينبغي أن يستدل بان صفات المخلوقين من لوازم الجسمية و العرضية و البارئ ليس بجسم و لا عرض و نحن قد بينا أن مراده ع إبطال القول بالمعاني القديمة و هي المسماة بالصفات في الاصطلاح القديم و لهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية فأما كونه قادرا و عالما فأصحابها أصحاب الأحوال و قد بينا أن مراده ع بقوله ليس لصفته حد محدود أي لكنهه و حقيقته و أما كون الملائكة لا تصف البارئ بصفات المصنوعين فلا يقتضي أن يحمل كل موضوع فيه ذكر الصفات على صفات المصنوعين لأجل تقييد ذلك في ذكر الملائكة و أين هذا من باب حمل المطلق على المقيد لا سيما و قد ثبت أن التعليل و الاستدلال يقضي ألا يكون المراد صفات المخلوقين. و قد تكلف الراوندي لتطبيق تعليله ع نفي الصفات عنه بقوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف بكلام عجيب و أنا أحكي ألفاظه لتعلم قال معنى هذا التعليل أن الفعل في الشاهد لا يشابه الفاعل و الفاعل غير الفعل لأن ما يوصف به الغير إنما هو الفعل أو معنى الفعل كالضارب و الفهم فإن الفهم و الضرب كلاهما فعل و الموصوف بهما فاعل و الدليل لا يختلف شاهدا و غائبا فإذا كان تعالى قديما و هذه الأجسام محدثة كانت معدومة ثم وجدت يدل على أنها غير الموصوف بأنه خالقها و مدبرها. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 78انقضى كلامه و حكايته تغني عن الرد عليه. ثم قال الأول على وزن أفعل يسي فيه المذكر و المؤنث إذا لم يكن فيه الألف و اللام فإذا كانا فيه

(2/64)


قيل للمؤنث الأولى. و هذا غير صحيح لأنه يقال كلمت فضلاهن و ليس فيه ألف و لام و كان ينبغي أن يقول إذا كان منكرا مصحوبا بمن استوى المذكر و المؤنث في لفظ أفعل تقول زيد أفضل من عمرو و هند أحسن من دعد
كَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ مَعَ كُلِّ شَيْ ءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْ ءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ وَ الآْلَةِ بَصِيرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَكَنَ سْتَأْنِسُ بِهِ وَ لَا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ ابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا وَ لَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لَاءَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ انْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا

(2/65)


قوله ع كائن و إن كان في الاصطلاح العرفي مقولا على ما ينزه البارئ عنه فمراده به المفهوم اللغوي و هو اسم فاعل من كان بمعنى وجد كأنه قال موجود غير محدث. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 79فان قيل فقد قال بعده موجود لا عن عدم فلا يبقى بين الكلمتين فرق. قيل بينهما ف و مراده بالموجود لا عن عدم هاهنا وجوب وجوده و نفي إمكانه لأن من أثبت قديما ممكنا فإنه و إن نفى حدوثه الزماني فلم ينف حدوثه الذاتي و أمير المؤمنين ع نفى عن البارئ تعالى في الكلمة الأولى الحدوث الزماني و نفى عنه في الكلمة الثاني الذاتي و قولنا في الممكن أنه موجود من عدم صحيح عند التأمل لا بمعنى أن عدمه سابق له زمانا بل سابق لوجوده ذاتا لأن الممكن يستحق من ذاته أنه لا يستحق الوجود من ذاته. و أما قوله مع كل شي ء لا بمقارنة فمراده بذلك أنه يعلم الجزئيات و الكليات كما قال سبحانه ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ ِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ. و أما قوله و غير كل شي ء لا بمزايلة فحق لأن الغيرين في الشاهد هما ما زايل أحدهما الآخر و باينه بمكان أو زمان و البارئ سبحانه يباين الموجودات مباينة منزهة عن المكان و الزمان فصدق عليه أنه غير كل شي ء لا بمزايلة. و أما قوله فاعل لا بنى الحركات و الآلة فحق لأن فعله اختراع و الحكماء يقولون إبداع و معنى الكلمتين واحد و هو أنه يفعل لا بالحركة و الآلة كما يفعل الواحد منا و لا يوجد شيئا من شي ء. و أما قوله بصير إذ لا منظور إليه من خلقه فهو حقيقة مذهب أبي هاشم رحمه الله و أصحابه لأنهم يطلقو عليه في الأزل أنه سميع بصير و ليس هناك مسموع و لا مبصر و معنى ذلك كونه بحال يصح منه إدراك المسموعات و المبصرات إذا وجدت شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 80و ذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به و لا يطلقون عليه أنه سامع مبصر في الأزل لأن السامع المبصر هو المدرك بالل لا بالقوة. و أما قوله متوحد إذ لا سكن يستأنس به و يستوحش لفقده فإذ

(2/66)


هاهنا ظرف و معنى الكلام أن العادة و العرف إطلاق متوحد على من قد كان له من يستأنس بقربه و يستوحش ببعده فانفرد عنه و البارئ سبحانه يطلق عليه أنه متوحد في الأزل و لا موجود سواه و إذا صدق سلب الموجودات كلها في الأزل صدق سلب ما يؤنس أو يوحش فتوحده سبحانه بخلاف توحد غيره. و أما قوله ع أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء فكلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء و البلغاء كقوله سبحانه لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ و قوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً. و قوله بلا روية أجالها فالروية الفكرة و أجالها رددها و من رواه أحالها بالحاء أراد صرفها و قوله و لا تجربة استفادها أي لم يكن قد خلق من قبل أجساما فحصلت له التجربة التي أعانته على خلق هذه الأجسام. و قوله و لا حركة أحدثها فيه رد على الكرامية الذين يقولون إنه إذا أراد أن يخلق شيئا مباينا عنه أحدث في ذاته حادثا يسمى الأحداث فوقع ذلك الشي ء المباين عن ذلك المعنى المتجدد المسمى أحداثا. و قوله و لا همامة نفس اضطرب فيها فيه رد على المجوس و الثنوية القائلين بالهمامة و لهم فيا خبط طويل يذكره أصحاب المقالات و هذا يدل على صحة ما يقال إن أمير المؤمنين ع كان يعرف آراء المتقدمين و المتأخرين و يعلم العلوم كلها و ليس ذلك ببعيد من فضائله و مناقبه ع.

(2/67)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 81و أما قوله أحال الأشياء لأوقاتها فمن رواها أحل الأشياء لأوقاتها فمعناه جعل محل كل شي ء و وقته كمحل الدين و من رواها أحال فهو من قولك حال في متن فرسه أي وثب و أحاله غيره أي أوثبه على متن الفرس عداه بالهمزة و كأنه لما أقر الأش في أحيانها و أوقاتها صار كمن أحال غيره على فرسه. و قوله و لاءم بين مختلفاتها أي جعل المختلفات ملتئمات كما قرن النفس الروحانية بالجسد الترابي جلت عظمته و قوله و غرز غرائزها المروي بالتشديد و الغريزة الطبيعة و جمعها غرائز و قوله غرزها أي جعلها غرائز كما قيل سبحان من ضوأ الأضواء و يجوز أن يكون من غرزت الإبرة بمعنى غرست و قد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف. و قوله و ألزمها أشباحها الضمير المنصوب في ألزمها عائد إلى الغرائز أي ألزم الغرائز أشباحها أي أشخاصها جمع شبح و هذا حق لأن كلا مطبوع على غريزة لازمة فالشجاع لا يكون جبانا و البخيل لا يكون جوادا و كذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل. و قوله عالما بها قبل ابتدائها إشارة إلى أنه عالم بالأشياء فيما لم يزل و قوله محيطا بحدودها و انتهائها أي بأطرافها و نهاياتها. و قوله عارفا بقرائنها و أحنائها القرائن جمع قرونة و هي النفس و الأحناء الجوانب جمع حنو يقول إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحها عارف بجهاتها و سائر أحوالها المتعلقة بها و الصادرة عنها. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 82فأما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله ع كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم أنه لم يزل مودا و لا يزال موجودا فهو باق أبدا كما كان موجودا أولا و هذا ليس بجيد لأن اللفظ لا يدل على ذلك و لا فيه تعرض بالبقاء فيما لا يزال. و قال أيضا قوله ع لا يستوحش كلام مستأنف و لقائل أن يقول كيف يكون كلاما مستأنفا و الهاء في فقده ترجع إلى السكن المذكور أولا. و قال أيضا يقال ما له في الأمر همة و لا همامة أي لا يهم به و الهمامة

(2/68)


التردد كالعزم و لقائل أن يقول العزم هو إرادة جازمة حصلت بعد التردد فبطل قوله أن الهمامة هي نفس التردد كالعزم و أيضا فقد بينا مراده ع بالهمامة حكى زرقان في كتاب المقالات و أبو عيسى الوراق و الحسن بن موسى و ذكره شيخنا أبو القاسم البلخي في كتابه في المقالات أيضا عن الثنوية أن النور الأعظم اضطربت عزائمه و إرادته في غزو الظلمة و الإغارة عليها فخرجت من ذاته قطعة و هي الهمامة المضطربة في نفسه فخالطت الظلمة غازية لها فاقتطعتها الظلمة عن النور الأعظم و حالت بينها و بينه و خرجت همامة الظلمة غازية للنور الأعظم فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمة و مزجها بأجزائه و امتزجت همامة النور بأجزاء الظلمة أيضا ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 83و تتدانيان و هما ممتزجتان بأجزاء هذا و هذا حتى انى منهما هذا العالم المحسوس و لهم في الهمامة كلام مشهور و هي لفظة اصطلحوا عليها و اللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمة و الذي عرفناه الهمة بالكسر و الفتح و المهمة و تقول لا همام لي بهذا الأمر مبني على الكسر كقطام و لكنها لفظة اصطلاحية مشهورة عند أهلها

(2/69)


ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الْأَجْوَاءِ وَ شَقَّ الْأَرْجَاءِ وَ سَكَائِكَ الْهَوَاءِ فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَيَّارُهُ مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ وَ الزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ وَ إِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ وَ سَاجِيَهُ عَلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً وَ عُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْكاً مَرْفُوعاً بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَ لَا دِسَارٍ يَنْتَظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وَ ضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ وَ أَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَ قَمَراً مُنِيراً فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِيمٍ مَائِرٍ

(2/70)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 84لسائل أن يسأل فيقول ظاهر هذا الكلام أنه سبحانه خلق الفضاء و السموات بعد خلق كل شي ء لأنه قد قال قبل فطر الخلائق و نشر الرياح و وتد الأرض بالجبال ثم عاد فقال أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء و هو الآن يقول ثم أنشأ سبحانه فتق جواء و لفظة ثم للتراخي. فالجواب أن قوله ثم هو تعقيب و تراخ لا في مخلوقات البارئ سبحانه بل في كلامه ع كأنه يقول ثم أقول الآن بعد قولي المتقدم إنه تعالى أنشأ فتق الأجواء و يمكن أن يقال إن لفظة ثم هاهنا تعطي معنى الجمع المطلق كالواو و مثل ذلك قوله تعالى وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى. و اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل يشتمل على مباحث منها أن ظاهر لفظه أن الفضاء الذي هو الفراغ الذي يحصل فيه الأجسام خلقه الله تعالى و لم يكن من قبل و هذا يقتضي كون الفضاء شيئا لأن المخلوق لا يكون عدما محضا و ليس ذلك ببعيد فقد ذهب إليه قوم من أهل النظر و جعلوه جسما لطيفا خارجا عن مشابهة هذه الأجسام و منهم من جعله مجردا. فإن قيل هذا الكلام يشعر بأن خلق الأجسام في العدم المحض قبل خلق الفضاء ليس بممكن و هذا ينافي العقل. قيل بل هذا هو محض مذهب الحكماء فإنهم يقولون إنه لا يمكن وجود جسم شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 85و لا حركة جسم خارج الفلك الأقصى و ليس ذلك إلا لاستحالة وجود الأجسام و حركتها إلا في الفضاء. و منها أن البارئ سبحانه خلق في الفضاء الذي أوجده ماء جعله على متن الريح فاستقل علي و ثبت و صارت مكانا له ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع فخلق منه السموات و هذا أيضا قد قاله قوم من الحكماء و من جملتهم تاليس الإسكندراني و زعم أن الماء أصل كل العناصر لأنه إذا انجمد صار أرضا و إذا لطف صار هواء و الهواء يستحيل نارا لأن النار صفوة الهواء. و يقال إن في التوراة في أول

(2/71)


السفر الأول كلاما يناسب هذا و هو أن الله تعالى خلق جوهرا فنظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ثم ارتفع من ذلك الماء بخار كالدخان فخلق منه السموات و ظهر على وجه ذلك الماء زبد فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال. و منها أن السماء الدنيا موج مكفوف بخلاف السموات الفوقانية و هذا أيضا قول قد ذهب إليه قوم و استدلوا عليه بما نشاهده من حركة الكواكب المتحيرة و ارتعادها في مرأى العين و اضطرابها قالوا لأن المتحيرة متحركة في أفلاكها و نحن نشاهدها بالحس البصري و بيننا و بينها أجرام الأفلاك الشفافة و نشاهدها مرتعدة حسب ارتعاد الجسم السائر في الماء و ما ذاك إلا لأن السماء الدنيا ماء متموج فارتعاد الكواكب شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 86المشاهدة حسا إنما هو بحسب ارتعاد أجزاء الفلك الأدنى قالوا فأما الكواكب البتة فإنا لم نشاهدها كذلك لأنها ليست بمتحركة و أما القمر و إن كان في السماء الدنيا إلا أن فلك تدويره من جنس الأجرام الفوقانية و ليس بماء متموج كالفلك الممثل التحتاني و كذلك القول في الشمس. و منها أن الكواكب في قوله ثم زينها بزينة الكواكب أين هي فإن اللفظ محتمل و ينبغي أن يتقدم على ذلك بحث في أصل قوله تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. فنقول إن ظاهر هذا اللفظ أن الكواكب في السماء الدنيا و أنها جعلت فيها حراسة للشياطين من استراق السمع فمن دنا منهم لذلك رجم بشهاب و هذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ و مذهب الحكماء أن السماء الدنيا ليس فيها إلا القمر وحده و عندهم أن الشهب المنقضة هي آثار تظهر في الفلك الأثيري الناري الذي تحت فلك القمر و الكواكب لا ينقض منها شي ء و الواجب التصديق بما في ظاهر لفظ الكتب العزيز و أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على مطابقته فيكون الضمير في قوله زينها راجعا إلى سفلاهن التي قال إنها موج مكفوف و يكون

(2/72)


الضمير في قوله و أجرى فيها راجعا إلى جملة السموات إذا وافقنا الحكماء في أن الشمس في السماء الرابعة. و منها أن ظاهر الكلام يقتضي أن خلق السموات بعد خلق الأرض أ لا تراه كيف لم يتعرض فيه لكيفية خلق الأرض أصلا و هذا قول قد ذهب إليه جماعة من أهل الملة
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 87و استدلوا عليه بقوله تعالى قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ثم قال ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ. و منها أن الهاء قوله فرفعه في هواء منفتق و الهاء في قوله فسوى منه سبع سموات إلى ما ذا ترجع فإن آخر المذكورات قبلها الزبد و هل يجوز أن تكون السموات مخلوقة من زبد الماء الحق أن الضمائر ترجع إلى الماء الذي عب عبابه لا إلى الزبد فإن أحدا لم يذهب إلى أن السماء مخلوقة من زبد الماء و إنما قالوا إنها مخلوقة من بخاره. و منها أن يقال إن البارئ سبحانه قادر على خلق الأشياء إبداعا و اختراعا فما الذي اقتضى أنه خلق المخلوقات على هذا الترتيب و هلا أوجدها إيجاد الماء الذي ابتدعه أولا من غير شي ء. فيقال في جواب ذلك على طريق أصحابنا لعل إخاره للمكلفين بذلك على هذا الترتيب يكون لطفا بهم و لا يجوز الإخبار منه تعالى إلا و المخبر عنه مطابق للإخبار. فهذا حظ المباحث المعنوية من هذا الفصل. ثم نشرع في تفسير ألفاظه أما الأجواء فجمع جو و الجو هنا الفضاء العالي بين السماء و الأرض و الأرجاء شرح نهج الاغة ج : 1 ص : 88الجوانب واحدها رجا مثل عصا و السكائك جمع سكاكة و هي أعلى الفضاء كما قالوا ذؤابة و ذوائب و التيار الموج و المتراكم الذي بعضه فوق بعض و الزخار الذي يزخر أي يمتد و يرتفع و الريح الزعزع الشديدة الهبوب و كذلك القاصفة كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها و معنى قوله فأمرها برده أي بمنعه عن الهبوط لأن الماء ثقيل و من شأن الثقيل

(2/73)


الهوي و معنى قوله و سلطها على شدة أي على وثاقة كأنه سبحانه لما سلط البريح على منعه من الهبوط فكأنه قد شده بها و أوثقه و منعه من الحركة و معنى قوله و قرنها إلى حده أي جعلها مكانا له أي جعل حد الماء المذكور و هو سطحه الأسفل مما ساطح الريح التي تحمله و تقله و الفتيق المفتوق المنبسط و الدفيق المدفوق و اعتقم مهبها أي جعل هبوبها عقيما و الريح العقيم التي لا تلقح سحابا و لا شجرا و كذلك كانت تلك الريح المشار إليها لأنه سبحانه إنما خلقها لتمويج الماء فقط و أدام مربها أي ملازمتها أرب بالمكان مثل ألب به أي لازمه. و معنى قوله و عصفت به عصفها بالفضاء فيه معنى لطيف يقول إن الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه كان عصفها شديدا لعدم المانع و هذه الريح عصفت بذلك الماء العظيم عصفا شديدا كأنها تعصف في فضاء لا ممانع لها فيه من الأجسام. و الساجي الساكن و المائر الذي يذهب و يجي ء و عب عبابه أي ارتفع أعلاه و ركامه ثبجه و هضبه و الجو المنفهق المفتوح الواسع و الموج المكفوف الممنوع من السيلان و عمد يدعمها يكون لها دعامة و الدسار واحد الدسر و هي المسامير. والثواقب النيرة المشرقة و سراجا مستطيرا أي منتشر الضوء يقال قد استطار

(2/74)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 89الفجر أي انتشر ضوءه و رقيم مائر أي لوح متحرك سمي الفلك رقيما تشبيها باللوح لأنه مسطح فأما القطب الراوندي فقال إنه ع ذكر قبل هذه الكلمات أنه أنشأ حيوانا له أعضاء و أحناء ثم ذكر هاهنا أنه فتق السماء و ميز بعضها عن بعض ثم ذكر أنين كل سماء و سماء مسيرة خمسمائة عام و هي سبع سموات و كذلك بين كل أرض و أرض و هي سبع أيضا و روى حديث البقرة التي تحمل الملك الحامل للعرش و الصخرة التي تحمل البقرة و الحوت الذي يحمل الصخرة. و لقائل أن يقول إنه ع لم يذكر فيما تقدم أن الله تعالى خلق حيوانا ذا أعضاء و لا قوله الآن ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء هو معنى قوله تعالى أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما أ لا تراه كيف صرح ع بأن البارئ سبحانه خلق الهواء الذي هو الفضاء و عبر عن ذلك بقوله ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء و ليس فتق الأجواء هو فتق السماء. فإن قلت فكيف يمكن التطبيق بين كلامه ع و بين الآية. قلت إنه تعالى لما سلط الريح على الماء فعصفت به حتى جعلته بخارا و زبدا و خلق من أحدهما السماء و من الآخر الأرض كان فاتقا لهما من شي ء واحد و هو الماء. فأما حديث البعد بين السموات و كونه مسير خمسمائة عام بين كل سماء و سماء فقد ورد ورودا لم يوثق به و أكثر الناس على خلاف ذلك و كون الأرض سبعا أيضا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 90خلاف ما يقوله جمهور العقلاء و ليس في القرآن العزيز ما يدل على تعدد الأرض إلا قوله تعالى وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ و قأولوه على الأقاليم السبعة و حديث الصخرة و الحوت و البقرة من الخرافات في غالب الظن و الصحيح أن الله تعالى يمسك الكل بغير واسطة جسم آخر. ثم قال الراوندي السكائك جمع سكاك و هذا غير جائز لأن فعالا لا يجمع على فعائل و إنما هو جمع سكاكة ذكر ذلك الجوهري. ثم قال و سلطها على شده الشد العدو و لا يجوز حمل الشد هاهنا على العدو لأنه لا

(2/75)


معنى له و الصحيح ما ذكرناه. و قال في تفسير قوله ع جعل سفلاهن موجا مكفوفا أراد تشبيهها بالموج لصفائها و اعتلائها فيقال له إن الموج ليس بعال ليشبه به الجسم العالي و أما صفاؤه فإن كل السموات صافية فلما ذا خص سفلاهن بذلك. ثم قال و يمكن أن تكون السماء السفلى قد كانت أول ما وجدت موجا ثم عقدها يقال له و السموات الأخر كذلك كانت فلما ذا خص السفلى بذلك. ثم قال الريح الأولى غير الريح الثانية لأن إحداهما معرفة و الأخرى نكرة و هذا مثل قوله صم اليوم صم يوما فإنه يقتضي يومين. يقال له ليست المغايرة بينهما مستفادة من مجرد التعريف و التنكير لأنه لو كان قال شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 91ع و حمله على متن ريح عاصفة و زعزع قاصفة لكانت الريحان الأولى و الثانية منكرتين معا و هما متغايرتان و إنما علمنا تغايرهما لأنحداهما تحت الماء و الأخرى فوقه و الجسم الواحد لا يكون في جهتين

(2/76)


ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلَا فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِكَتِهِ مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ وَ رُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وَ صَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ وَ مُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَ لَا سَهْوُ الْعُقُولِ وَ لَا فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ وَ لَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَ أَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ وَ مُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَ أَمْرِهِ وَ مِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَ السَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ وَ مِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ وَ الْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ وَ الْخَارِجَةُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ وَ الْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ وَ أَسْتَارُ الْقُدْرَةِ لَا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ وَ لَا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ وَ لَا يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ وَ لَا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ
القول في الملائكة و أقسامهم

(2/77)


الملك عند المعتزلة حيوان نوري فمنه شفاف عادم اللون كالهواء و منه ملون بلون الشمس و الملائكة عندهم قادرون عالمون أحياء بعلوم و قدر و حياة كالواحد منا و مكلفون كالواحد منا إلا أنهم معصومون و لهم في كيفية تكليفهم كلام لأن التكليف شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 9بني على الشهوة. و في كيفية خلق الشهوة فيهم نظر و ليس هذا الكتاب موضوعا للبحث في ذلك و قد جعلهم ع في هذا الفصل أربعة أقسام القسم الأول أرباب العبادة فمنهم من هو ساجد أبدا لم يقم من سجوده ليركع و منهم من هو راكع أبدا لم ينتصب قط و منهم الصافون في الصلاة بين يدي خالقهم لا يتزايلون و منهم المسبحون الذين لا يملون التسبيح و التحميد له سبحانه. و القسم الثاني السفراء بينه تعالى و بين المكلفين من البشر بتحمل الوحي الإلهي إلى الرسل و المختلفون بقضائه و أمره إلى أهل الأرض. و القسم الثالث ضربان أحدهما حفظة العباد كالكرام الكاتبين و كالملائكة الذين يحفظون البشر من المهالك و الورطات و لو لا ذلك لكان العطب أكثر من السلامة و ثانيهما سدنة الجنان. القسم الرابع حملة العرش

(2/78)


و يجب أن يكون الضمير في دونه و هو الهاء راجعا إلى العرش لا إلى البارئ سبحانه و كذلك الهاء في قوله تحته و يجب أن تكون الإشارة بقوله و بين من دونهم إلى الملائكة الذين دون هؤلاء في الرتبة. فأما ألفاظ الفصل فكلها غنية عن التفسير إلا يسيرا كالسدنة جمع سادن و هو الخادم و المارق الخارج و تلفعت بالثوب أي التحفت به. و أما القطب الراوندي فجعل الأمناء على الوحي و حفظة العباد و سدنة الجنان شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 93قسما واحدا فأعاد الأقسام الأربعة إلى ثلاثة و ليس بجيد لأنه قال و منهم الحفظة فلفظة و منهم تقتضي كون اقسام أربعة لأنه بها فصل بين الأقسام. و قال أيضا معنى قوله ع لا يغشاهم نوم العيون يقتضي أن لهم نوما قليلا لا يغفلهم عن ذكر الله سبحانه فأما البارئ سبحانه فإنه لا تأخذه سنة و لا نوم أصلا مع أنه حي و هذه هي المدحة العظمى. و لقائل أن يقول لو ناموا قليلا لكانوا زمان ذلك النوم و إن قل غافلين عن ذكر الله سبحانه لأن الجمع بين النوم و بين الذكر مستحيل. و الصحيح أن الملك لا يجوز عليه النوم كما لا يجوز عليه الأكل و الشرب لأن النوم من توابع المزاج و الملك لا مزاج له و أما مدح البارئ بأنه لا تأخذه سنة و لا نوم فخارج عن هذا الباب لأنه تعالى يستحيل عليه النوم استحالة ذاتية لا يجوز تبدلها و الملك يجوز أن يخرج عن كونه ملكا بأن يخلق في أجزاء جسمه رطوبة و يبوسة و حرارة و برودة يحصل من اجتماعها مزاج و يتبع ذلك المزاج النوم فاستحالة النوم عليه إنما هي ما دام ملكا فهو كقولك الماء بارد أي ما دام ماء لأنه يمكن أن يستحيل هواء ثم نارا فلا يكون باردا لأنه ليس حينئذ ماء و البارئ جلت عظمته يستحيل على ذاته أن يتغير فاستحال عليه النوم استحالة مطلقة مع أنه حي و من هذا إنشاء التمدح

(2/79)


و روى أبو هريرة عن النبي ص أن الله خلق الخلق أربعة أصناف الملائكة و الشياطين و الجن و الإنس ثم جعل الأصناف الأربعة عشرة أجزاء فتسعة منها الملائكة و جزء واحد الشياطين و الجن و الإنس ثم جعل هؤلاء الثلاثة عشرة أجزاء فتسعة منها الشياطين و جزء واحد الجن و الإنس ثم جعل الجن و الإنس عشرة أجزاء فتسعة منها الجن و جزء واحد الإنس
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 94و في الحديث الصحيح أن الملائكة كانت تصافح عمران بن الحصين و تزوره ثم افتقدها فقال يا رسول الله إن رجالا كانوا يأتونني لم أر أحسن وجوها و لا أطيب أرواحا منهم ثم انقطعوا فقال ع أصابك جرح فكنت تكتمه فقال أجل قال ثم أظهرته قال أجقال أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكة إلى أن تموت
و كان هذا الجرح أصابه في سبيل الله. و قال سعيد بن المسيب و غيره الملائكة ليسوا بذكور و لا إناث و لا يتوالدون و لا يأكلون و لا يشربون و الجن يتوالدون و فيهم ذكور و إناث و يموتون و الشياطين ذكور و إناث و يتوالدون و لا يموتون حتى يموت إبليس.
و قال النبي ص في رواية أبي ذر إني أرى ما لا ترون و أسمع ما لا تسمعون أطت السماء و حق لها أن تئط فما فيها موضع شبر إلا و فيه ملك قائم أو راكع أو ساجد واضع جبهته لله و الله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا و ما تلذذتم بالنساء على الفرش و لخرجتم إلى الفلوات تجأرون إلى الله و الله لوددت أني كنت شجرة تعضد

(2/80)


قلت و يوشك هذه الكلمة الأخيرة أن تكون قول أبي ذر. و اتفق أهل الكتب على أن رؤساء الملائكة و أعيانهم أربعة جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل و هو ملك الموت و قالوا إن إسرافيل صاحب الصور و إليه النفخة و إن ميكائيل صاحب النبات و المطر و إن عزرائيل على أرواح الحيوانات و إن جبرائيل على جنود السموات و الأرض كلها و إليه تدبير الرياح و هو ينزل إليهم كلهم بما يؤمرون به. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 9 و روى أنس بن مالك أنه قيل لرسول الله ص ما هؤلاء الذين استثني بهم في قوله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فقال جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل فيقول الله عز و جل لعزرائيل يا ملك الموت من بقي و هو سبحانه أعلم فيقول سبحانك ربي ذا الجلال و الإكرام بقي جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت فيقول يا ملك الموت خذ نفس إسرافيل فيقع في صورته التي خلق عليها كأعظم ما يكون من الأطواد ثم يقول و هو أعلم من بقي يا ملك الموت فيقول سبحانك ربي يا ذا الجلال و الإكرام جبرائيل و ميكائيل و ملك الموت فيقول خذ نفس ميكائيل فيقع في صورته التي خلق عليها و هي أعظم ما يكون من خلق إسرافيل بأضعاف مضاعفة ثم يقول سبحانه يا ملك الموت من بقي فيقول سبحانك ربي ذا الجلال و الإكرام جبرائيل و ملك الموت فيقول تعالى يا ملك الموت مت فيموت و يبقى جبرائيل و هو من الله تعالى بالمكان الذي ذكر لكم فيقول الله يا جبرائيل إنه لا بد من أن يموت أحدنا فيقع جبرائيل ساجدا يخفق بجناحيه يقول سبحانك ربي و بحمدك أنت الدائم القائم الذي لا يموت و جبرائيل الهالك الميت الفاني فيقبض الله روحه فيقع على ميكائيل و إسرافيل و أن فضل خلقه على خلقهما كفضل الطود العظيم على الظرب من الظراب

(2/81)


و في الأحاديث الصحيحة أن جبرائيل كان يأتي رسول الله ص على صورة دحية الكلبي و أنه كان يوم بدر على فرس اسمه حيزوم و أنه سمع ذلك اليوم صوته أقدم حيزوم. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 96و الكروبيون عند أهل الملة سادة الملائكة كجبرائيل و ميكائيل و عند الفلاسفة أن دة الملائكة هم الروحانيون يعنون العقول الفعالة و هي المفارقة للعالم الجسماني المسلوبة التعلق به لا بالحول و لا بالتدبير و أما الكروبيون فدون الروحانيين في المرتبة و هي أنفس الأفلاك المدبرة لها الجارية منها مجرى نفوسنا مع أجسامنا. ثم هي على قسمين قسم أشرف و أعلى من القسم الآخر فالقسم الأشرف ما كان نفسا ناطقة غير حالة في جرم الفلك كأنفسنا بالنسبة إلى أبداننا و القسم الثاني ما كان حالا في جرم الفلك و يجري ذلك مجرى القوى التي في أبداننا كالحس المشترك و القوة الباصرة

(2/82)


مِنْهَا فِي صِفَةِ خَلْقِ آدَمَ ع ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا تُرْبَةً سَنَّهَا بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ وَ لَاطَهَا بِالْبِلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ فَتَمَثَّلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا وَ فِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا وَ أَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ وَ الْأَذْوَاقِ وَ الْمَشَامِّ وَ الْأَلْوَانِ وَ الْأَجْنَاسِ مَعْجُوناً بِطِينَةِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 97وَ الْأَشْبَاهِلْمُؤْتَلِفَةِ وَ الْأَضْدَادِ الْمُتَعَادِيَةِ وَ الْأَخْلَاطِ الْمُتَبَايِنَةِ مِنَ الْحَرِّ وَ الْبَرْدِ وَ الْبِلَّةِ وَ الْجُمُودِ وَ الْمَسَاءَةِ وَ السُّرُورِ وَ اسْتَأْدَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَلَائِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ وَ عَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ فِي الْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ وَ الْخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ فَقَالَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ وَ قَبيلَهُ اعْتَرَتْهُمُ الْحَمِيَّةُ وَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشِّقْوَةُ وَ تَعَزَّزُوا بِخِلْقَةِ النَّارِ وَ اسْتَوْهَنُوا خَلْقَ الصَّلْصَالِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسَّخْطَةِ وَ اسْتِتْمَاماً لِلْبَلِيَّةِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَةِ فَقَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
الحزن ما غلظ من الأرض و سبخها ما ملح منها و سنها بالماء أي ملسها قال

(2/83)


ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء تمشي في مرمر مسنون
أي مملس و لاطها من قولهم لطت الحوض بالطين أي ملطته و طينته به و البلة بفتح الباء من البلل و لزبت بفتح الزاي أي التصقت و ثبتت فجبل منها أي خلق و الأحناء الجوانب جمع حنو و أصلدها جعلها صلدا أي صلبا متينا و صلصلت يبست و هو الصلصال و يختدمها يجعلها في مآربه و أوطاره كالخدم الذين تستعملهم و تستخدمهم و استأدى الملائكة وديعته طلب منهم أداءها و الخنوع الخضوع و الشقوة بكسر الشين و في الكتاب العزيز رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 98شِقْوَتُنا و استوهنوا عدوه واهنا ضعيفا و النظرة بفتح النون و كسرلظاء الإمهال و التأخير. فأما معاني الفصل فظاهرة و فيه مع ذلك مباحث. منها أن يقال اللام في قوله لوقت معدود بما ذا تتعلق. و الجواب أنها تتعلق بمحذوف تقديره حتى صلصلت كائنة لوقت فيكون الجار و المجرور في موضع الحال و يكون معنى الكلام أنه أصلدها حتى يبست و جفت معدة لوقت معلوم فنفخ حينئذ روحه فيها و يمكن أن تكون اللام متعلقة بقوله فجبل أي جبل و خلق من الأرض هذه الجثة لوقت أي لأجل وقت معلوم و هو يوم القيامة. و منها أن يقال لما ذا قال من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها. و الجواب أن المراد من ذلك أن يكون الإنسان مركبا من طباع مختلفة و فيه استعداد للخير و الشر و الحسن و القبح. و منها أن يقال لما ذا أخر نفخ الروح في جثة آدم مدة طويلة فقد قيل إنه بقي طينا تشاهده الملائكة أربعين سنة و لا يعلمون ما المراد به. و الجواب يجوز أن يكون في ذلك لطف للملائكة لأنهم تذهب ظنونهم في ذلك كل مذهب فصار كإنزال المتشابهات الذي تحصل به رياضة الأذهان و تخريجها و في ضمن ذلك يكون اللطف و يجوز أن يكون في أخبار ذرية آدم بذلك فيما بعد لطف بهم و لا يجوز إخبارهم بذلك إلا إذا كان المخبر عنه حقا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 99و منها أن يقال ما المعنبقوله ثم نفخ فيها

(2/84)


من روحه. الجواب أن النفس لما كانت جوهرا مجردا لا متحيزة و لا حالة في المتحيز حسن لذلك نسبتها إلى البارئ لأنها أقرب إلى الانتساب إليه من الجثمانيات و يمكن أيضا أن تكون لشرفها مضافة إليه كما يقال بيت الله للكعبة و أما النفخ فعبارة عن إفاضة النفس على الجسد و لما نفخ الريح في الوعاء عبارة عن إدخال الريح إلى جوفه و كان الإحياء عبارة عن إفاضة النفس على الجسد و يستلزم ذلك حلول القوى و الأرواح في الجثة باطنا و ظاهرا سمي ذلك نفخا مجازا. و منها أن يقال ما معنى قوله معجونا بطينة الألوان المختلفة. الجواب أنه ع قد فسر ذلك بقوله من الحر و البرد و البلة و الجمود يعني الرطوبة و اليبوسة و مراده بذلك المزاج الذي هو كيفية واحدة حاصلة من كيفيات مختلفة قد انكسر بعضها ببعض و قوله معجونا صفة إنسانا و الألوان المختلفة يعنى الضروب و الفنون كما تقول في الدار ألوان من الفاكهة. و منها أن يقال ما المعني بقوله و استأدى الملائكة وديعته لديهم و كيف كان هذا العهد و الوصية بينه و بينهم. الجواب أن العهد و الوصية هو قوله تعالى لهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 100و منها أن يقال كيف كانت شبهة إبليس و أصحابه في التعزز بخلقة النار. الجواب لما كانت النار مشرقة بالذات و الأرض مظلمة و كانت النار أشبه بالنور و النور أشبه بالمجردات جعل إبليس ذلك حجة احتج بها في شرف عنصره على عنصر آدم ع و لأن نار أقرب إلى الفلك من الأرض و كل شي ء كان أقرب إلى الفلك من غيره كان أشرف و البارئ تعالى لم يعتبر ذلك و فعل سبحانه ما يعلم أنه المصلحة و الصواب. و منها أن يقال كيف يجوز السجود لغير الله تعالى. و الجواب أنه قيل إن السجود لم يكن إلا لله تعالى و إنما كان آدمع قبلة و يمكن أن يقال إن السجود لله على وجه العبادة و لغيره على وجه

(2/85)


التكرمة كما سجد أبو يوسف و إخوته له و يجوز أن تختلف الأحوال و الأوقات في حسن ذلك و قبحه. و منها أن يقال كيف جاز على ما تعتقدونه من حكمة البارئ أن يسلط إبليس على المكلفين أ ليس هذا هو الاستفساد الذي تأبونه و تمنعونه. و الجواب أما الشيخ أبو علي رحمه الله فيقول حد المفسدة ما وقع عند الفساد و لولاه لم يقع مع تمكن المكلف من الفعل في الحالين و من فسد بدعاء إبليس لم يتحقق فيه هذا الحد لأن الله تعالى علم أن كل من فسد عند دعائه فإنه يفسد و لو لم يدعه. و أما أبو هاشم رحمه الله فيحد المفسدة بهذا الحد أيضا و يقول إن في الإتيان بالطاعة مع دعاء إبليس إلى القبيح مشقة زائدة على مشقة الإتيان بها لو لم يدع إبليس إلى شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 101القبيح فصار الإتيان بها مع اعتبار دعاء إبليس إلى خلافها خارجا عالحد المذكور و داخلا في حيز التمكن الذي لو فرضنا ارتفاعه لما صح من المكلف الإتيان بالفعل و نحن قلنا في الحد مع تمكن المكلف من الإتيان بالفعل في الحالين. و منها أن يقال كيف جاز للحكيم سبحانه أن يقول لإبليس إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إلى يوم القيامة و هذا إغراء بالقبيح و أنتم تمنعون أن يقول الحكيم لزيد أنت لا تموت إلى سنة بل إلى شهر أو يوم واحد لما فيه من الإغراء بالقبيح و العزم على التوبة قبل انقضاء الأمد. و الجواب أن أصحابنا قالوا إن البارئ تعالى لم يقل لإبليس إني منظرك إلى يوم القيامة و إنما قال إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ و هو عبارة عن وقت موته و اخترامه و كل مكلف من الإنس و الجن منظر إلى يوم الوقت المعلوم على هذا التفسير و إذا كان كذلك لم يكن إبليس عالما أنه يبقى لا محالة فلم يكن في ذلك إغراء له بالقبيح. فإن قلت فما معنى قوله ع و إنجازا للعدة أ ليس معنى ذلك أنه قد كان وعده أن يبقيه إلى يوم القيامة. قلت إنما وعده الإنظار و يمكن أن يكون إلى يوم القيامة و إلى غيره من الأوقات و لم

(2/86)


يبين له فهو تعالى أنجز له وعده في الإنظار المطلق و ما من وقت إلا و يجوز فيه أن يخترم إبليس فلا يحصل الإغراء بالقبيح و هذا الكلام عندنا ضعيف و لنا فيه نظر مذكور في كتبنا الكلامية شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 10ثُمَّ أَسْكَنَ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِيهَا عِيشَتَهُ وَ آمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ وَ حَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَ عَدَاوَتَهُ فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ وَ مُرَافَقَةِ الْأَبْرَارِ فَبَاعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ وَ الْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ وَ اسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلًا وَ بِالِاعْتِزَازِ نَدَماً ثُمَّ بَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي تَوْبَتِهِ وَ لَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ وَ وَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الْبَلِيَّةِ وَ تَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ

(2/87)


أما الألفاظ فظاهرة و المعاني أظهر و فيها ما يسأل عنه. فمنها أن يقال الفاء في قوله ع فأهبطه تقتضي أن تكون التوبة على آدم قبل هبوطه من الجنة. و الجواب أن ذلك أحد قولي المفسرين و يعضده قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى قالَ اهْبِطا مِنْها فجعل الهبوط بعد قبول التوبة. و منها أن يقال إذا كان تعالى قد طرد إبليس من الجنة لما أبى السجود فكيف توصل إلى آدم و هو في الجنة حتى استنزله عنها بتحسين أكل الشجرة له. الجواب أنه يجوز أن يكون إنما منع من دخول الجنة على وجه التقريب و الإكرام شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 103كدخول الملائكة و لم يمنع من دخولها على غير ذلك الوجه و قيل إنه دخل في جوف الحية كما ورد في التفسير. و منها أن يقال كيف اشتبه على آدم الحال في الشجرة المنهي عنها فخالف النهي. الجواب أنه قيل له لا تقربا هذه الشة و أريد بذلك نوع الشجرة فحمل آدم النهي على الشخص و أكل من شجرة أخرى من نوعها. و منها أن يقال هذا الكلام من أمير المؤمنين ع تصريح بوقوع المعصية من آدم ع و هو قوله فباع اليقين بشكه و العزيمة بوهنه فما قولكم في ذلك. الجواب أما أصحابنا فإنهم لا يمتنعون من إطلاق العصيان عليه و يقولون إنها كانت صغيرة و عندهم أن الصغائر جائزة على الأنبياء ع و أما الإمامية فيقولون إن النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم لأنهم لا يجيزون على الأنبياء الغلط و الخطأ لا كبيرا و لا صغيرا و ظواهر هذه الألفاظ تشهد بخلاف قولهم
اختلاف الأقوال في ابتداء خلق البشر

(2/88)


و اعلم أن الناس اختلفوا في ابتداء خلق البشر كيف كان فذهب أهل الملل من المسلمين و اليهود و النصارى إلى أن مبدأ البشر هو آدم الأب الأول ع و أكثر ما في القرآن العزيز من قصة آدم مطابق لما في التوراة. و ذهب طوائف من الناس إلى غير ذلك أما الفلاسفة فإنهم زعموا أنه لا أول لنوع البشر و لا لغيرهم من الأنواع. و أما الهند فمن كان منهم على رأي الفلاسفة فقوله ما ذكرناه و من لم يكن منهم شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 104على رأي الفلاسفة و يقول بحدوث الأجسام لا يثبت آدم و يقول إن الله تعالى خلق الأفلاك و خلق فيها طباعا محركة ا بذاتها فلما تحركت و حشوها أجسام لاستحالة الخلاء كانت تلك الأجسام على طبيعة واحدة فاختلفت طباؤعها بالحركة الفلكية فكان القريب من الفلك المتحرك أسخن و ألطف و البعيد أبرد و أكثف ثم اختلطت العناصر و تكونت منها المركبات و منها تكون نوع البشر كما يتكون الدود في الفاكهة و اللحم و البق في البطائح و المواضع العفنة ثم تكون بعض البشر من بعض بالتوالد و صار ذلك قانونا مستمرا و نسي التخليق الأول الذي كان بالتولد و من الممكن أن يكون بعض البشر في بعض الأراضي القاصية مخلوقا بالتولد و إنما انقطع التولد لأن الطبيعة إذا وجدت للتكون طريقا استغنت به عن طريق ثان. و أما المجوس فلا يعرفون آدم و لا نوحا و لا ساما و لا حاما و لا يافث و أول متكون عندهم من البشر البشري المسمى كيومرث و لقبه كوشاه أي ملك الجبل لأن كو هو الجبل بالفهلوية و كان هذا البشر في الجبال و منهم من يسميه كلشاه أي ملك الطين و كل اسم الطين لأنه لم يكن حينئذ بشر ليملكهم. و قيل تفسير كيومرث حي ناطق ميت قالوا و كان قد رزق من الحسن ما لا يقع عليه بصر حيوان إلا و بهت و أغمي عليه و يزعمون أن مبدأ تكونه و حدوثه أن يزدان و هو الصانع الأول عندهم أفكر في أمر أهرمن و هو الشيطان عندهم فكرة أوجبت أن عرق جبينه فمسح العرق و رمى به فصار منه

(2/89)


كيومرث و لهم خبط طويل في كيفية تكون أهرمن من فكرة يزدان أو من إعجابه بنفسه أو من توحشه و بينهم خلاف في قدم أهرمن و حدوثه لا يليق شرحه بهذا الموضع شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 105ثم اختلفوا في مدة بء كيومرث في الوجود فقال الأكثرون ثلاثون سنة و قال الأقلون أربعون سنة و قال قوم منهم إن كيومرث مكث في الجنة التي في السماء ثلاثة آلاف سنة و هي ألف الحمل و ألف الثور و ألف الجوزاء ثم أهبط إلى الأرض فكان بها آمنا مطمئنا ثلاثة آلاف سنة أخرى و هي ألف السرطان و ألف الأسد و ألف السنبلة. ثم مكث بعد ذلك ثلاثين أو أربعين سنة في حرب و خصام بينه و بين أهرمن حتى هلك. و اختلفوا في كيفية هلاكه مع اتفاقهم على أنه هلك قتلا فالأكثرون قالوا إنه قتل ابنا لأهرمن يسمى خزورة فاستغاث أهرمن منه إلى يزدان فلم يجد بدا من أن يقاصه به حفظا للعهود التي بينه و بين أهرمن فقتله بابن أهرمن و قال قوم بل قتله أهرمن في صراع كان بينهما قهره فيه أهرمن و علاه و أكله. و ذكروا في كيفية ذلك الصراع أن كيومرث كان هو القاهر لأهرمن في بادئ الحال و أنه ركبه و جعل يطوف به في العالم إلى أن سأله أهرمن أي الأشياء أخوف له و أهولها عنده فقال له باب جهنم فلما بلغ به أهرمن إليها جمح به حتى سقط من فوقه و لم يستمسك فعلاه و سأله عن أي الجهات يبتدئ به في الأكل فقال من جهة الرجل لأكون ناظرا إلى حسن العالم مدة ما فابتدأه أهرمن فأكله من عند رأسه فبلغ إلى موضع الخصي و أوعية المني من الصلب فقطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض فنبت منها ريباستان في جبل بإصطخر يعرف بجبل دام داذ ثم ظهرت على تينك الريباستين الأعضاء البشرية في أول الشهر التاسع و تمت في آخره فتصور منهما بشران ذكر و أنثى و هما ميشى و ميشانه و هما بمنزلة آدم و حواء عند المليين و يقال لهما أيضا ملهى و ملهيانه و يسميهما مجوس خوارزم مرد و مردانه

(2/90)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 106و زعموا أنهما مكثا خمسين سنة مستغنين عن الطعام و الشراب متنعمين غير متأذيين بشي ء إلى أن ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير فحملهما على التناول من فواكه الأشجار و أكل منها و هما يبصرانه شيخا فعاد شابا فأكلا منها حينئذ فوقعا فيبلايا و الشرور و ظهر فيهما الحرص حتى تزاوجا و ولد لهما ولد فأكلاه حرصا ثم ألقى الله تعالى في قلوبهما رأفة فولد لهما بعد ذلك ستة أبطن كل بطن ذكر و أنثى و أسماؤهم في كتاب أپستا و هو الكتاب الذي جاء به زرادشت معروفة ثم كان في البطن السابع سيامك و فرواك فتزاوجا فولد لهما الملك المشهور الذي لم يعرف قبله ملك و هو أوشهنج و هو الذي خلف جده كيومرث و عقد له التاج و جلس على السرير و بنى مدينتي بابل و السوس. فهذا ما يذكره المجوس في مبدأ الخلق
تصويب الزنادقة إبليس لامتناعه عن السجود لآدم
و كان في المسلمين ممن يرمى بالزندقة من يذهب إلى تصويب إبليس في الامتناع من السجود و يفضله على آدم و هو بشار بن برد المرعث و من الشعر المنسوب إليه
النار مشرقة و الأرض مظلمة و النار معبودة مذ كانت النار
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 107و كان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ أخو أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الفقيه الشافعي قاصا لطيفا و واعظا مفوها و هو من خراسان من مدينة طوس و قدم إلى بغداد و وعظ بها و سلك في وعظه مسلكا منكرا لأنه كان يتعصب لإيس و يقول إنه سيد الموحدين و قال يوما على المنبر من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق أمر أن يسجد لغير سيده فأبى
و لست بضارع إلا إليكم و أما غيركم حاشا و كلا

(2/91)


و قال مرة أخرى لما قال له موسى أرني فقال لن قال هذا شغلك تصطفي آدم ثم تسود وجهه و تخرجه من الجنة و تدعوني إلى الطور ثم تشمت بي الأعداء هذا عملك بالأحباب فكيف تصنع بالأعداء. و قال مرة أخرى و قد ذكر إبليس على المنبر لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت و أن قسي القدر إذا رمت أصمت ثم قال لسان حال آدم ينشد في قصته و قصة إبليس
و كنت و ليلى في صعود من الهوى فلما توافينا ثبت و زلت
و قال مرة أخرى التقى موسى و إبليس عند عقبة الطور فقال موسى يا إبليس لم لم تسجد لآدم فقال كلا ما كنت لأسجد لبشر كيف أوحده ثم ألتفت إلى غيره و لكنك أنت يا موسى سألت رؤيته ثم نظرت إلى الجبل فأنا أصدق منك في التوحيد. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 108و كان هذا الط في كلامه ينفق على أهل بغداد و صار له بينهم صيت مشهور و اسم كبير و حكى عنه أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ أنه قال على المنبر معاشر الناس إني كنت دائما أدعوكم إلى الله و أنا اليوم أحذركم منه و الله ما شدت الزنانير إلا في حبه و لا أديت الجزية إلا في عشقه. و قال أيضا إن رجلا يهوديا أدخل عليه ليسلم على يده فقال له لا تسلم فقال له الناس كيف تمنعه من الإسلام فقال احملوه إلى أبي حامد يعني أخاه ليعلمه لا لا المنافقين ثم قال ويحكم أ تظنون أن قوله لا إله إلا الله منشور ولايته ذا منشور عزله و هذا نوع تعرفه الصوفية بالغلو و الشطح. و يروى عن أبي يزيد البسطامي منه كثير. و مما يتعلق بما نحن فيه ما رووه عنه من قوله
فمن آدم في البين و من إبليس لولاكافتنت الكل و الكل مع الفتنة يهواكا
و يقال أول من قاس إبليس فأخطأ في القياس و هلك بخطئه و يقال إن أول حمية و عصبية ظهرت عصبية إبليس و حميته
اختلاف الأقوال في خلق الجنة و النار

(2/92)


فإن قيل فما قول شيوخكم في الجنة و النار فإن المشهور عنهم أنهما لم يخلقا و سيخلقان شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 109عند قيام الأجسام و قد دل القرآن العزيز و نطق كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل بأن آدم كان في الجنة و أخرج منها. قيل قد اختلف شيوخنا رحمهم اللهي هذه المسألة فمن ذهب منهم إلى أنهما غير مخلوقتين الآن يقول قد ثبت بدليل السمع أن سائر الأجسام تعدم و لا يبقى في الوجود إلا ذات الله تعالى بدليل قوله كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ و قوله هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ فلما كان أولا بمعنى أنه لا جسم فيالوجود معه في الأزل وجب أن يكون آخرا بمعنى أنه لا يبقى في الوجود جسم من الأجسام معه فيما لا يزال و بآيات كثيرة أخرى و إذا كان لا بد من عدم سائر الأجسام لم يكن في خلق الجنة و النار قبل أوقات الجزاء فائدة لأنه لا بد أن يفنيهما مع الأجسام التي تفنى يوم القيامة فلا يبقى مع خلقهما من قبل معنى و يحملون الآيات التي دلت على كون آدم ع كان في الجنة و أخرج منها على بستان من بساتين الدنيا قالوا و الهبوط لا يدل على كونهما في السماء لجواز أن يكون في الأرض إلا أنهما في موضع مرتفع عن سائر الأرض. و أما غير هؤلاء من شيوخنا فقالوا إنهما مخلوقتان الآن و اعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء و الثواب و قالوا لا يبعد أن يكون في إخبار المكلفين بوجود الجنة و النار لطف لهم في التكليف و إنما يحسن الإخبار بذلك إذا كان صدقا و إنما يكون صدقا إذا كان خبره على ما هو عليه
القول في آدم و الملائكة أيهما أفضل

(2/93)


فإن قيل فما الذي يقوله شيوخكم في آدم و الملائكة أيهما أفضل. قيل لا خلاف بين شيوخنا رحمهم الله أن الملائكة أفضل من آدم و من جميع الأنبياء شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 110ع و لو لم يدل على ذلك إلا قوله تعالى في هذه القصة إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَونا مِنَ الْخالِدِينَ لكفى. و قد احتج أصحابنا أيضا بقوله تعالى لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ و هذا كما تقول لا يستنكف الوزير أن يعظمني و يرفع من منزلتي و لا الملك أيضا فإن هذا يقتضي كون الملك أرفع منزلة من الوزير و كذلك قوله وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يقتضي كونهم أرفع منزلة من عيسى. و مما احتجوا به قولهم إنه تعالى لما ذكر جبريل و محمدا ع في معرض المدح مدح جبريل ع بأعظم مما مدح به محمدا ع فقال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ فالمديح الأول لجبريل و الثاني لمحمد ع و لا يخفى تفاوت ما بين المدحين. فإن قيل فهل كان إبليس من الملائكة أم من نوع آخر قيل قد اختلف في ذلك فمن قال إنه من الملائكة احتج بالاستثناء في قوله فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ و قال إن الاستثناء من غير الجنس خلاف الأصل و من قال إنه لم يكن منهم احتج بقوله تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. و أجاب الأولون عن هذا فقالوا إن الملائكة يطلق عليهم لفظ الجن لاجتنانهم و استتارهم عن الأعين و قالوا قد ورد ذلك في القرآن أيضا في قوله تعالى وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 111وَ بَيْنَ الْجِنَّ نَسَباً و الجنة هاهنا هم الملائكة لأنهم قالوا إن الملائكة بنات

(2/94)


الله بدليل قوله أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً و كتب التفسير تشتمل من هذا على ما لا نرى الإطالة بذكره فأما القطب الراوندي فقال في هذين الفصلين في تفسير ألفاظهما اللغوية العذب من الأرض ما ينبت و السبخ ما لا ينبت و هذا غير صحيح لأن السبخ ينبت النخل فيلزم أن يكون عذبا على تفسيره. و قال فجبل منها صورة أي خلق خلقا عظيما و لفظة جبل في اللغة تدل على خلق سواء كان المخلوق عظيما أو غير عظيم. و قال الوصول جمع وصل و هو العضو و كل شي ء اتصل بشي ء فما بينهما وصلة و الفصول جمع فصل و هو الشي ء المنفصل و ما عرفنا في كتب اللغة أن الوصل هو العضو و لا قيل هذا. و قوله بعد ذلك و كل شي ء اتصل بشي ء فما بينهما وصلة لا معنى لذعد ذلك التفسير و الصحيح أن مراده ع أظهر من أن يتكلف له هذا التكلف و مراده ع أن تلك الصورة ذات أعضاء متصلة كعظم الساق أو عظم الساعد و ذات أعضاء منفصلة في الحقيقة و إن كانت متصلة بروابط خارجة عن ذواتها كاتصال الساعد بالمرفق و اتصال الساق بالفخذ. ثم قال يقال استخدمته لنفسي و لغيري و اختدمته لنفسي خاصة و هذا مما لم أعرفه و لعله نقله من كتاب. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 112ثم قال و الإذعان الانقياد و الخنوع الخضوع و إنما كرر الخنوع بعد الإذعان لأن الأول يفيد أنهم أمروا بالخضوع له في السجود و الثاني يفيد ثباتهم ع الخضوع لتكرمته أبدا. و لقائل أن يقول إنه لم يكرر لفظة الخنوع و إنما ذكر أولا الإذعان و هو الانقياد و الطاعة و معناه أنهم سجدوا ثم ذكر الخنوع الذي معناه الخضوع و هو يعطي معنى غير المعنى الأول لأنه ليس كل ساجد خاضعا بقلبه فقد يكون ساجدا بظاهره دون باطنه و قول الراوندي أفاد بالثاني ثباتهم على الخضوع له لتكرمته أبدا تفسير لا يدل عليه اللفظ و لا معنى الكلام. ثم قال قبيل إبليس نسله قال تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ و كل جيل

(2/95)


من الإنس و الجن قبيل و الصحيح أن قبيله نوعه كما أن البشر قبيل كل بشري سواء كانوا من ولده أو لم يكونوا و قد قيل أيضا كل جماعة قبيل و إن اختلفوا نحو أن يكون بعضهم روما و بعضهم زنجا و بعضهم عربا و قوله تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ لا يدل على أنهم نسله. و قوله بعد و كل جيل من الإنس و الجن قبيل ينقض دعواه أن قبيله لا يكون إلا نسله. ثم تكلم في المعاني فقال إن القياس الذي قاسه إبليس كان باطلا لأنه ادعى أن النار أشرف من الأرض و الأمر بالعكس لأن كل ما يدخل إلى النار ينقص و كل ما يدخل التراب يزيد و هذا عجيب فإنا نرى الحيوانات الميتة إذا دفنت في الأرض تنقص أجسامها و كذلك الأشجار المدفونة في الأرض على أن التحقيق أن المحترق بالنار و البالي بالتراب لم تعدم أجزاؤه و لا بعضها و إنما استحالت إلى صور أخرى. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 113ثم قال و لما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح علمنا أن آدم كان أفضل من الملائكة في ذلك الوقت و فيماعده. و لقائل أن يقول أ ليس قد سجد يعقوب ليوسف ع أ فيدل ذلك على أن يوسف أفضل من يعقوب و لا يقال إن قوله تعالى وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً لا يدل على سجود الوالدين فلعل الضمير يرجع إلى الإخوة خاصة لأنا نقول هذا الاحتمال مدفوع بقوله وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ و هو كناية عن الوالدين. و أيضا قد بينا أن السجود إنما كان لله سبحانه و أن آدم كان قبلة و القبلة لا تكون أفضل من الساجد إليها أ لا ترى أن الكعبة ليست أفضل من النبي ع

(2/96)


وَ اصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وَ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ وَ اجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَ اقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ وَ يُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ وَ مَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ وَ أَحْدَاثٍ تَتَتَابَعُ عَلَيْهِمْ وَ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 114أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ وَ لَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ سَابِقٍُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ

(2/97)


اجتالتهم الشياطين أدارتهم تقول اجتال فلان فلانا و اجتاله عن كذا و على كذا أي أداره عليه كأنه يصرفه تارة هكذا و تارة هكذا يحسن له فعله و يغريه به. و قال الراوندي اجتالتهم عدلت بهم و ليس بشي ء. و قوله ع واتر إليهم أنبياءه أي بعثهم و بين كل نبيين فترة و هذا ما تغلط فيه العامة فتظنه كما ظن الراوندي أن المراد به المرادفة و المتابعة و الأوصاب الأمراض و الغابر الباقي. و يسأل في هذا الفصل عن أشياء منها عن قوله ع أخذ على الوحي ميثاقهم. و الجواب أن المراد أخذ على أداء الوحي ميثاقهم و ذلك أن كل رسول أرسل فمأخوذ عليه أداء الرسالة كقوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. و منها أن يقال ما معنى قوله ع ليستأدوهم ميثاق فطرته هل هذا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 115إشارة إلى ما يقوله أهل الحد في تفسير قوله تعالى وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى. و الجواب أنه لا حاجة في تفسير هذه اللفظة إلى تصحيح ذلك الخبر و مراده ع بهذا اللفظ أنه لما كانت المعرفة به تعالى و أدلة التوحيد و العدل مركوزة في العقول أرسل سبحانه الأنبياء أو بعضهم ليؤكدوا ذلك المركوز في العقول و هذه هي الفطرة المشار إليها
بقوله ع كل مولود يولد على الفطرة

(2/98)


و منها أن يقال إلى ما ذا يشير بقوله أو حجة لازمة هل هو إشارة إلى ما يقوله الإمامية من أنه لا بد في كل زمان من وجود إمام معصوم. الجواب أنهم يفسرون هذه اللفظة بذلك و يمكن أن يكون المراد بها حجة العقل. و أما القطب الراوندي فقال في قوله ع و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء الولد يقال على الواحد و الجمع لأنه مصدر في الأصل و ليس بصحيح لأن الماضي فعل بالفتح و المفتوح لا يأتي مصدره بالفتح و لكن فعلا مصدر فعل بالكسر كقولك ولهت عليه ولها و وحمت المرأة وحما. ثم قال إن الله تعالى بعث يونس قبل نوح و هذا خلاف إجماع المفسرين و أصحاب السير. ثم قال و كل واحد من الرسل و الأئمة كان يقوم بالأمر و لا يردعه عن ذلك قلة عدد أوليائه و لا كثرة عدد أعدائه فيقال له هذا خلاف قولك في الأئمة المعصومين فإنك تجيز عليهم التقية و ترك القيام بالأمر إذا كثرت أعداؤهم. و قال في تفسير قوله ع من سابق سمي له من بعده أو غابر عرفه شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 116من قبله كان من ألطاف الأنبياء المتقدمين و أوصيائهم أن يعرفوا الأنبياء المتأخرين و أوصياءهم فعرفهم الله تعالى ذلك و كان من اللطف بالمتأخرين و أوصيائهم أن يعرفوا أحوال المتقدمين من الأنبياء و الأوصياء رفهم الله تعالى ذلك أيضا فتم اللطف لجميعهم. و لقائل أن يقول لو كان ع قال أو غابر عرف من قبله لكان هذا التفسير مطابقا و لكنه ع لم يقل ذلك و إنما قال عرفه من قبله و ليس هذا التفسير مطابقا لقوله عرفه و الصحيح أن المراد به من نبي سابق عرف من يأتي بعده من الأنبياء أي عرفه الله تعالى ذلك أو نبي غابر نص عليه من قبله و بشر به كبشارة الأنبياء بمحمد ع

(2/99)


عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ وَ مَضَتِ الدُّهُورُ وَ سَلَفَتِ الآْبَاءُ وَ خَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً ص لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلَادُهُ وَ أَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ ص لِقَاءَهُ وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 117وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ كِتَابَ رَبِّكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ ورُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً جُمَلَهُ وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي الْكِتَابِ فَرْضُهُ وَ مَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُهُ وَ وَاجِبٍ فِي السُّنَّةِ أَخْذُهُ وَ مُرَخَّصٍ فِي الْكِتَابِ تَرْكُهُ وَ بَيْنَ وَاجِبٍ لِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ

(2/100)


غُفْرَانَهُ وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ وَ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ
قوله ع نسلت القرون ولدت و الهاء في قوله لإنجاز عدته راجعة إلى البارئ سبحانه و الهاء في قوله و إتمام نبوته راجعة إلى محمد ص و قوله مأخوذ على النبيين ميثاقه قيل لم يكن نبي قط إلا و بشر بمبعث محمد ص و أخذ عليه تعظيمه و إن كان بعد لم يوجد. فأما قوله و أهل الأرض يومئذ ملل متفرقة فإن العلماء يذكرون أن النبي ص بعث و الناس أصناف شتى في أديانهم يهود و نصارى و مجوس و صائبون و عبده أصنام و فلاسفة و زنادقة.
القول في أديان العرب في الجاهلية
فأما الأمة التي بعث محمد ص فيها فهم العرب و كانوا أصنافا شتى شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 118فمنهم معطلة و منهم غير معطلة فأما المعطلة منهم فبعضهم أنكر الخالق و البعث و الإعادة و قالوا ما قال القرآن العزيز عنهم ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ حْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فجعلوا الجامع لهم الطبع و المهلك لهم الدهر و بعضهم اعترف بالخالق سبحانه و أنكر البعث و هم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ و منهم من أقر بالخالق و نوع من الإعادة و أنكروا الرسل و عبدوا الأصنام و زعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة و حجوا لها و نحروا لها الهدي و قربوا لها القربان و حللوا و حرموا و هم جمهور العرب و هم الذين قال الله تعالى عنهم وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ. فممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلى بدر

(2/101)


فما ذا بالقليب قليب بدر من الفتيان و القوم الكرام و ما ذا بالقليب قليب بدر من الشيزى تكلل بالسنام أ يخبرنا ابن كبشة أن سنحيا و كيف حياة أصداء وهام إذا ما الرأس زال بمنكبيه فقد شبع الأنيس من الطعام أ يقتلني إذا ما كنت حيا و يحييني إذ رمت عظ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 119و كان من العرب من يعتقد التناسخ و تنقل الأرواح في الأجساد و من هؤلاء أرباب الهامة التي قال ع عنهم لا عدوى و لا هامة و لا صفر
و قال ذو الإصبع
يا عمرو إلا تدع شتمي و منقصتي أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
و قالوا إن ليلى الأخيلية لما سلمت على قبر توبة بن الحمير خرج إليها هامة من القبر صائحة أفزعت ناقتها فوقصت بها فماتت و كان ذلك تصديق قوله
و لو أن ليلى الأخيلية سلمت علي و دوني جندل و صفائح لسلمت تسليم البشاشة أو زقا إليها صدى من جانب القبر صائحو كان توبة و ليلى في أيام بني أمية. و كانوا في عبادة الأصنام مختلفين فمنهم من يجعلها مشاركة للبارئ تعالى و يطلق عليها لفظة الشريك و من ذلك قولهم في التلبية لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك و منهم من لا يطلق عليها لفظ الشريك و يجعلها وسائل و ذرائع إلى الخالق سبحانه و هم الذين قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى. و كان في العرب مشبهة و مجسمة منهم أمية بن أبي الصلت و هو القائل
من فوق عرش جالس قد حط رجليه إلى كرسيه المنصوب

(2/102)


و كان جمهورهم عبدة الأصنام فكان ود لكلب بدومة الجندل و سواع لهذيل شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 120و نسر لحمير و يغوث لهمدان و اللات لثقيف بالطائف و العزى لكنانة و قريش و بعض بني سليم و مناة لغسان و الأوس و الخزرج و كان هبل لقريش خاصة على ظهر الكعبة و أساف وائلة على الصفا و المروة و كان في العرب من يميل إلى اليهودية منهم جماعة من التبابعة و ملوك اليمن و منهم نصارى كبني تغلب و العباديين رهط عدي بن زيد و نصارى نجران و منهم من كان يميل إلى الصابئة و يقول بالنجوم و الأنواء. فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم و هم المتألهون أصحاب الورع و التحرج عن القبائح كعبد الله و عبد المطلب و ابنه أبي طالب و زيد بن عمرو بن نفيل و قس بن ساعدة الإيادي و عامر بن الظرب العدواني و جماعة غير هؤلاء. و غرضنا من هذا الفصل بيان قوله ع بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه إلى غير ذلك و قد ظهر بما شرحناه

(2/103)


ثم ذكر ع أن محمدا ص خلف في الأمة بعده كتاب الله تعالى طريقا واضحا و علما قائما و العلم المنار يهتدى به. ثم قسم ما بينه ع في الكتاب أقساما فمنها حلاله و حرامه فالحلال كالنكاح و الحرام كالزنا. و منها فضائله و فرائضه فالفضائل النوافل أي هي فضلة غير واجبة كركعتي الصبح و غيرهما و الفرائض كفريضة الصبح. و قال الراوندي الفضائل هاهنا جمع فضيلة و هي الدرجة الرفيعة و ليس بصحيح أ لا تراه كيف جعل الفرائض في مقابلتها و قسيما لها فدل ذلك على أنه أراد النوافل. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 121و منها ناسخه و منسوخه فالناسخ كقه فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ و المنسوخ كقوله لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. و منها رخصه و عزائمه فالرخص كقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ و العزائم كقوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ. و منها خاصه و عامه فالخاص كقوله تعالى وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ و العام كالألفاظ الدالة على الأحكام العامة لسائر المكلفين كقوله وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ و يمكن أن يراد بالخاص العمومات التي يراد بها الخصوص كقوله وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ و بالعام ما ليس مخصوصا بل هو على عموه كقوله تعالى وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. و منها عبره و أمثاله فالعبر كقصة أصحاب الفيل و كالآيات التي تتضمن النكال و العذاب النازل بأمم الأنبياء من قبل و الأمثال كقوله كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً. و منها مرسله و محدوده و هو عبارة عن المطلق المقيد و سمي المقيد محدودا و هي لفظة فصيحة جدا كقوله تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ و قال في موضع آخر وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ و منها محكمه و متشابهه فمحكمه كقوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ و المتشابه كقوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. ثم قسم ع الكتاب قسمة ثانية فقال إن منه ما لا يسع أحدا جهله شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 122و

(2/104)


منه ما يسع الناس جهله مثال الأول قوله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ و مثال الثاني كهيعص حم عسق. ثم قال و منه ما حكمه مذكور في الكتاب منسوخ بالسنة و ما حكمه مذكور في السنمنسوخ بالكتاب مثال الأول قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ نسخ بما سنه ع من رجم الزاني المحصن و مثال الثاني صوم يوم عاشوراء كان واجبا بالسنة ثم نسخه صوم شهر رمضان الواجب بنص الكتاب. ثم قال و بين واجب بوقته و زائل في مستقبله يريد الواجبات الموقتة كصلاة الجمعة فإنها تجب في وقت مخصوص و يسقط وجوبها في مستقبل ذلك الوقت. ثم قال ع و مباين بين محارمه الواجب أن يكون و مباين بالرفع لا بالجر فإنه ليس معطوفا على ما قبله أ لا ترى أن جميع ما قبله يستدعي الشي ء و ضده أو الشي ء وقيضه و قوله و مباين بين محارمه لا نقيض و لا ضد له لأنه ليس القرآن العزيز على قسمين أحدهما مباين بين محارمه و الآخر غير مباين فإن ذلك لا يجوز فوجب رفع مباين و أن يكون خبر مبتدأ محذوف ثم فسر ما معنى المباينة بين محارمه فقال إن محارمه تنقسم إلى كبيرة و صغيرة فالكبيرة أوعد سبحانه عليها بالعقاب و الصغيرة مغفورة و هذا نص مذهب المعتزلة في الوعيد. ثم عدل ع عن تقسيم المحارم المتباينة و رجع إلى تقسيم الكتاب فقال و بين مقبول في أدناه و موسع في أقصاه كقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ. فإن القليل من القرآن مقبول و الكثير منه موسع مرخص في تركه

(2/105)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 123وَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ يَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ وَ يَوْلَهُونَ إِلَيْهِ وَلَهَ الْحَمَامِ وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَامَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ وإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ وَ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ وَ صَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ وَ تَشَبَّهُوا بِمَلَائِكَتِهِ الْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ يُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ وَ يَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ عَلَماً وَ لِلْعَائِذِينَ حَرَماً وَ فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ وَ كَتَبَ عَلَيْهِ وِفَادَتَهُ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ
الوله شدة الوجد حتى يكاد العقل يذهب وله الرجل يوله ولها و من روى يألهون إليه ولوه الحمام فسره بشي ء آخر و هو يعكفون عليه عكوف الحمام و أصل أله عبد و منه الإله أي المعبود و لما كان العكوف على الشي ء كالعبادة له لملازمته و الانقطاع إليه قيل أله فلان إلى كذأي عكف عليه كأنه يعبده و لا يجوز أن يقال يألهون إليه في هذا الموضع بمعنى يولهون و أن أصل الهمزة الواو كما فسره الراوندي لأن فعولا لا يجوز أن يكون مصدرا من فعلت بالكسر و لو كان يألهون هو يولهون كان أصله أله بالكسر فلم يجز أن يقول ولوه الحمام و أما على ما فسرناه نحن فلا يمتنع أن يكون الولوه مصدرا لأن أله مفتوح فصار كقولك دخل دخولا و باقي الفصل غني عن التفسير شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 12فصل في فضل البيت و الكعبة

(2/106)


جاء في الخبر الصحيح أن في السماء بيتا يطوف به الملائكة طواف البشر بهذا البيت اسمه الضراح و أن هذا البيت تحته على خط مستقيم و أنه المراد بقوله تعالى وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ أقسم سبحانه به لشرفه و منزلته عنده
و في الحديث أن آدم لما قضى مناسكه و طاف بالبيت لقيته الملائكة فقالت يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام
قال مجاهد إن الحاج إذا قدموا مكة استقبلتهم الملائكة فسلموا على ركبان الإبل و صافحوا ركبان الحمير و اعتنقوا المشاة اعتناقا. من سنة السلف أن يستقبلوا الحاج و يقبلوا بين أعينهم و يسألوهم الدعاء لهم و يبادروا ذلك قبل أن يتدنسوا بالذنوب و الآثام.
و في الحديث أن الله تعالى قد وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف فإن نقصوا أتمهم الله بالملائكة و أن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة و كل من حجها متعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل الجنة فيدخلون معها
و في الحديث أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة و فيه أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن أن الله لا يغفر له
عمر بن ذر الهمداني لما قضى مناسكه أسند ظهره إلى الكعبة و قال مودعا للبيت ما زلنا نحل إليك عروة و نشد إليك أخرى و نصعد لك أكمة و نهبط أخرى و تخفضنا أرض و ترفعنا أخرى حتى أتيناك فليت شعري بم يكون منصرفنا أ بذنب مغفور فأعظم بها من نعمة أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة فيا من له خرجنا و إليه شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 125قصدنا و بحرمه أنخنا ارحم يا معطي الوفد بفنائك فقد أتيناك بها معراة جلودها ذابلة أسنمتها نقبة أخفافها و إن أعظم الرزية أن نرجع و قد اكتنفتنا الخيبة اللهم و إن للزائرين حقا فاجعل حقنا عليك غفراننوبنا فإنك جواد كريم ماجد لا ينقصك نائل و لا يبخلك سائل. ابن جريج ما ظننت أن الله ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة حتى كنت باليمن فسمعت منشدا ينشد قوله

(2/107)


بالله قولا له في غير معتبة ما ذا أردت بطول المكث في اليمن إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أخذت بترك الحج من ثمنفحركني ذلك على ترك اليمن و الخروج إلى مكة فخرجت فحججت. سمع أبو حازم امرأة حاجة ترفث في كلامها فقال يا أمة الله أ لست حاجة أ لا تتقين الله فسفرت عن وجه صبيح ثم قالت له أنا من اللواتي قال فيهن العرجي
أماطت كساء الخز عن حر وجهها و ردت على الخدين بردا مهلهلامن اللاء لم يحججن يبغين حسبة و لكن ليقتلن البري ء المغفلافقال أبو حازم فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال رحم الله أبا حازم لو كان من عباد العراق لقال لها اعزبي يا عدوة الله و لكنه ظرف نساك الحجاز
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 126فصل في الكلام على السجعو اعلم أن قوما من أرباب علم البيان عابوا السجع و أدخلوا خطب أمير المؤمنين ع في جملة ما عابوه لأنه يقصد فيها السجع و قالوا إن الخطب الخالية من السجع و القرائن و الفواصل هي خطب العرب و هي المستحسنة الخالية من التكلف

(2/108)


كخطبة النبي ص في حجة الوداع و هي الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوب إليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له و من يضلل الله فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أوصيكم عباد الله بتقوى الله و أحثكم على العمل بطاعته و أستفتح الله بالذي هو خير أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا أيها الناس إن دماءكم و أموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا أ هل بلغت اللهم اشهد من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها و إن ربا الجاهلية موضوع و أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب و إن دماء الجاهلية موضوعة و أول دم أبدأ به دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب و إن مآثر الجاهلية موضوعة غير شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 127السدانة و السقاية و العمد قود و شبه العمد ما قتل بالعصا و الحجر فيه مائة بعير فمن ازداد فهو من الجاهلية أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه و لكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحتقرون من أعمالكم أيها الن إنما النسي ء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما و إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض و إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض منها أربعة حرم ثلاثة متواليات و واحد فرد ذو العدة و ذو الحجة و محرم و رجب الذي بين جمادى و شعبان ألا هل بلغت أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا و لكم عليهن حقا فعليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم و لا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم و لا يأتين بفاحشة فإن فعلن فقد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع و تضربوهن فإن انتهين و أطعنكم فعليكم كسوتهن و رزقهن بالمعروف فإنما النساء عندكم

(2/109)


عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا أخذتموهن بأمانة الله و استحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء و استوصوا بهن خيرا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 128أيها الناس إنما المؤمنون إخوة و لا يحل لرئ مال أخيه إلا على طيب نفس ألا هل بلغت اللهم اشهد ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا كتاب الله ربكم ألا هل بلغت اللهم اشهد أيها الناس إن ربكم واحد و إن أباكم واحد كلكم لآدم و آدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم و ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ألا فليبلغ الشاهد الغائب أيها الناس إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث و لا تجوز وصية في أكثر من الثلث و الولد للفراش و للعاهر الحجر من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فهو ملعون لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا و السلام عليكم و رحمة الله عليكم
و اعلم أن السجع لو كان عيبا لكان كلام الله سبحانه معيبا لأنه مسجوع كله ذو فواصل و قرائن و يكفي هذا القدر وحده مبطلا لمذهب هؤلاء فأما خطبة رسول الله ص هذه فإنها و إن لم تكن ذات سجع فإن أكثر خطبه مسجوع
كقوله إن مع العز ذلا و إن مع الحياة موتا و إن مع الدنيا آخرة و إن لكل شي ء حسابا و لكل حسنة ثوابا و لكل سيئة عقابا و إن على كل شي ء رقيبا و إنه لا بد لك من قرين يدفن معك هو حي و أنت ميت فإن كان كريما أكرمك و إن كان لئيما أسلمك ثم لا يحشر إلا معك و لا تب إلا معه و لا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح أنست به و إن فسد لم تستوحش إلا منه و هو عملك

(2/110)


فأكثر هذا الكلام مسجوع كما تراه و كذلك خطبه الطوال كلها و أما كلامه شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 129القصير فإنه غير مسجوع لأنه لا يحتمل السجع و كذلك القصير من كلام أمير المؤمنين ع. فأما قولهم إن السجع يدل على التكلف فإن المذموم هو التكلف الذي تظهر سماجته و له للسامعين فأما التكلف المستحسن فأي عيب فيه أ لا ترى أن الشعر نفسه لا بد فيه من تكلف إقامة الوزن و ليس لطاعن أن يطعن فيه بذلك. و احتج عائبو السجع بقوله ع لبعضهم منكرا عليه أ سجعا كسجع الكهان و لو لا أن السجع منكر لما أنكر ع سجع الكهان و أمثاله فيقال لهم إنما أنكر ع السجع الذي يسجع الكهان أمثاله لا السجع على الإطلاق و صورة الواقعة أنه ع أمر في الجنين بغرة فقال قائل أ أدي من لا شرب و لا أكل و لا نطق و لا استهل و مثل هذا يطل فأنكر ع ذلك لأن الكهان كانوا يحكمون في الجاهلية بألفاظ مسجوعة كقولهم حبة بر في إحليل مهر و قولهم عبد المسيح على جمل مشيح لرؤيا الموبذان و ارتجاس الإيوان و نحو ذلك من كلامهم و كان ع قد أبطل الكهانة و التنجيم و السحر و نهى عنها فلما سمع كلام ذلك القائل أعاد الإنكار و مراده به تأكيد تحريم العمل على أقوال الكهنة و لو كان ع قد أنكر السجع لما قاله و قد بينا أن كثيرا من كلامه مسجوع و ذكرنا خطبته. و من كلامه ع المسجوع
خبر ابن مسعود رحمه الله تعالى قال قال رسول الله ص استحيوا من الله حق الحياء فقلنا إنا لنستحيي يا رسول الله من الله تعالى فقال ليس ذلك ما أمرتكم به و إنما الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 130و ما وعى و البطن و ما حوى و تذكر الموت البلى و من أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا
و من ذلك كلامه المشهور لما قدم المدينة ع أول قدومه إليها أيها الناس أفشوا السلام و أطعموا الطعام و صلوا الأرحام و صلوا بالليل و الناس نيام تدخلوا الجنة بسلام

(2/111)


و عوذ الحسن ع فقال أعيذك من الهامة و السامة و كل عين لامة
و إنما أراد ملمة فقال لامة لأجل السجع. و كذلك
قوله ارجعن مأزورات غير مأجورات
و إنما هو موزورات بالواو
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 2131- و من خطبة له ع بعد انصرافه من صفينصفين اسم الأرض التي كانت فيها الحرب و النون فيها أصلية ذكر ذلك صاحب الصحاح فوزنها على هذا فعيل كفسيق و خمير و صريع و ظليم و ضليل. فإن قيل فاشتقاقه مما ذا يكون. قيل لو كان اسما لحيوان لأمكن أن يكون من صفن الفرس إذا قام على ثلاث و أقام الرابعة على طرف الحافر يصفن بالكسر صفونا أو من صفن القوم إذا صفوا أقدامهم لا يخرج بعضها من بعض. فإن قيل أ يمكن أن يشتق من ذلك و هو اسم أرض. قيل يمكن على تعسف و هو أن تكون تلك الأرض لما كانت مما تصفن فيها الخيل أو تصطف فيها الأقدام سميت صفين. فإن قيل أ يمكن أن تكون النون زائدة مع الياء كما هما في غسلين و عفرين. قيل لو جاء في الأصل صف بكسر الصاد لأمكن أن تتوهم الزيادة كالزيادة شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 132في غسل و هو ما يغتسل به نحو الخطمي و غيره فقيل غسلين لما يسيل من صديد أهل النار و دمائهم و كالزيادة في عفر و هو الخبيث الداهيقيل عفرين لمأسدة بعينها و قيل عفريت للداهية هكذا ذكروه و لقائل أن يقول لهم أ ليس قد قالوا للأسد عفرني بفتح العين و أصله العفر بالكسر فقد بان أنهم لم يراعوا في اشتقاقهم و تصريف كلامهم الحركة المخصوصة و إنما يراعون الحرف و لا كل الحروف بل الأصلي منها فغير ممتنع على هذا عندنا أن تكون الياء و النون زائدتين في صفين. و صفين اسم غير منصرف للتأنيث و التعريف قال
إني أدين بما دان الوصي به يوم الخريبة من قتل المحليناو بالذي دان يوم النهر دنت به و شاركت كفه كفي بصفيناتلك الدماء معا يا رب في عنقي ثم اسقني مثلها آمين آمينا

(2/112)


أَحْمَدُهُ اسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِهِ وَ اسْتِسْلَاماً لِعِزَّتِهِ وَ اسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَ أَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلَى كِفَايَتِهِ إِنَّهُ لَا يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ وَ لَا يَئِلُ مَنْ عَادَاهُ وَ لَا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ فَإِنَّهُ أَرْجَحُ مَا وُزِنَ وَ أَفْضَلُ مَا خُزِنَ وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلَاصُهَا مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا نَتَمَسَّكُ بِهَا أَبَداً شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 133مَا أَبْقَانَا وَ نَدَّخِرُهَا لِأَهَايلِ مَا يَلْقَانَا فَإِنَّهَا عَزِيمَةُ الْإِيمَانِ وَ فَاتِحَةُ الْإِحْسَانِ وَ مَرْضَاةُ الرَّحْمَنِ وَ مَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ
وأل أي نجا يئل و المصاص خالص الشي ء و الفاقة الحاجة و الفقر الأهاويل جمع أهوال و الأهوال جمع هول فهو جمع الجمع كما قالوا أنعام و أناعيم و قيل أهاويل أصله تهاويل و هي ما يهولك من شي ء أي يروعك و إن جاز هذا فهو بعيد لأن التاء قل أن تبدل همزة و العزيمة النيالمقطوع عليها و مدحرة الشيطان أي تدحره أي تبعده و تطرده. و قوله ع استتماما و استسلاما و استعصاما من لطيف الكناية و بديعها فسبحان من خصه بالفضائل التي لا تنتهي ألسنة الفصحاء إلى وصفها و جعله إمام كل ذي علم و قدوة كل صاحب خصيصة. و قوله فإنه أرجح الهاء عائدة إلى ما دل عليه قوله أحمده يعني الحمد و الفعل يدل على المصدر و ترجع الضمائر إليه كقوله تعالى بَلْ هُوَ شَرٌّ و هو ضمير البخل الذي دل عليه قوله يَبْخَلُونَ
باب لزوم ما لا يلزم و إيراد أمثلة منه

(2/113)


و قوله ع وزن و خزن بلزوم الزاي من الباب المسمى لزوم ما لا يلزم و هو أحد أنواع البديع و ذلك أن تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفا واحدا هذا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 134في المنثور و أما في المنظوم فأن تتساوى الحروف التي قبل الروي مع كونها ليست بواجبة التسا مثال ذلك قول بعض شعراء الحماسة
بيضاء باكرها النعيم فصاغها بلباقة فأدقها و أجلهاحجبت تحيتها فقلت لصاحبي ما كان أكثرها لنا و أقلهاو إذا وجدت لها وساوس سلوة شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها
أ لا تراه كيف قد لزم اللام الأولى من اللامين اللذين صارا حرفا مشددا فالثاني منهما هو الروي و اللام الأول الذي قبله التزام ما لا يلزم فلو قال في القصيدة وصلها و قبلها و فعلها لجاز. و احترزنا نحن بقولنا مع كونها ليست بواجبة التساوي عن قول الراجز و هو من شعر الحماسة أيضا

(2/114)


و فيشة ليست كهذي الفيش قد ملئت من نزق و طيش إذا بدت قلت أمير الجيش من ذاقها يعرف طعم العيشفإن لزوم الياء قبل حرف الروي ليس من هذا الباب لأنه لزوم واجب أ لا ترى أنه لو قال في هذا الرجز البطش و الفرش و العرش لم يجز لأن الردف لا يجوز أن يكون حرفا خارجا عن حروف العلة و قد جاء من اللزوم في الكتاب العزيز مواضع شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 135ليست بكثي فمنها قوله سبحانه فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا و قوله تعالى وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ و قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ و قوله وَ الطُّورِ وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ و قوله بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ و قوله فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ و قوله فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ و الظاهر أن ذلك غير مقصود قصده. و مما ورد منه في كلام العرب أن لقيط بن زرارة تزوج ابنة قيس بن خالد الشيباني فأحبته فلما قتل عنها تزوجت غيره فكانت تذكر لقيطا فسألها عن حبها له فقالت أذكره و قد خرج تارة في يوم دجن و قد تطيب و شرب الخمر و طرد بقرا فصرع بعضها ثم جاءني و به نضح دم و عبير فضمني ضمة و شمني شمة فليتني كنت مت ثمة. و قد صنع أبو العلاء المعري كتابا في اللزوم من نظمه فأتى فيه بالجيد و الردي ء و أكثره متكلف و من جيده قوله لا تطلبن بآلة لك حالة قلم البليغ بغير حظ مغزل سكن السماكان السماء كلاهما هذا له رمح و هذا أعزلوَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ

(2/115)


وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ وَ الْعَلَمِ الْمَأْثُورِ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 136وَ الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ وَ النُّورِ السَّاطِعِ وَ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ وَ الْأَمْرِ الصَّادِعِ إِزَاحَةً لِلشبُهَاتِ وَ احْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ وَ تَحْذِيراً بِالآْيَاتِ وَ تَخْوِيفاً بِالْمَثُلَاتِ وَ النَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ وَ تَزَعْزَعَتْ سَوَارِي الْيَقِينِ وَ اخْتَلَفَ النَّجْرُ وَ تَشَتَّتَ الْأَمْرُ وَ ضَاقَ الْمَخْرَجُ وَ عَمِيَ الْمَصْدَرُ فَالْهُدَى خَامِلٌ وَ الْعَمَى شَامِلٌ عُصِيَ الرَّحْمَنُ وَ نُصِرَ الشَّيْطَانُ وَ خُذِلَ الْإِيمَانُ فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ وَ تَنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ وَ دَرَسَتْ سُبُلُهُ وَ عَفَتْ شُرُكُهُ أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَ وَرَدُوا مَنَاهِلَهُ بِهِمْ سَارَتْ أَعْلَامُهُ وَ قَامَ لِوَاؤُهُ فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا وَ وَطِئَتْهُمْ بِأَظْلَافِهَا وَ قَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ فِي خَيْرِ دَارٍ وَ شَرِّ جِيرَانٍ نَوْمُهُمْ سُهُودٌ وَ كُحْلُهُمْ دُمُوعٌ بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَ جَاهِلُهَا مُكْرَمٌ

(2/116)


قوله ع و العلم المأثور يجوز أن يكون عنى به القرآن لأن المأثور المحكي و العلم ما يهتدى به و المتكلمون يسمون المعجزات أعلاما و يجوز أن يريد به أحد معجزاته غير القرآن فإنها كثيرة و مأثورة و يؤكد هذا قوله بعد و الكتاب المسطور فدل على تغايرهما و من يذهب إلى الأول يقول المراد بهما واحد و الثانية توكيد الأولى على قاعدة الخطابة و الكتابة. و الصادع الظاهر الجلي قال تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي أظهره و لا تخفه. و المثلات بفتح الميم و ضم الثاء العقوبات جمع مثلة قال تعالى وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ. و انجذم انقطع و السواري جمع سارية و هي الدعامة يدعم بها السقف و النجرُّ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 137الأصل و مثله النجار و انهارت تساقطت و الشرك الطرائق جمع شراك و الأخفاف للإبل و الأظلاف للبقر و المعز. و قال الراوندي في تفسير قوله خير دار و شر جيران خير دار الكوفة و قيل الشام لأنها الأرض المقدسة و أهلها شر جيران يعني أصحابعاوية و على التفسير الأول يعني أصحابه ع. قال و قوله نومهم سهود يعني أصحاب معاوية لا ينامون طول الليل بل يرتبون أمره و إن كان وصفا لأصحابه ع بالكوفة و هو الأقرب فالمعنى أنهم خائفون يسهرون و يبكون لقلة موافقتهم إياه و هذا شكاية منه ع لهم. و كحلهم دموع أي نفاقا فإنه إذا تم نفاق المرء ملك عينيه. و لقائل أن يقول لم يجر فيما تقدم ذكر أصحابه ع و لا أصحاب معاوية و الكلام كله في وصف أهل الجاهلية قبل مبعث محمد ص ثم لا يخفى ما في هذا التفسير من الركاكة و الفجاجة و هو أن يريد بقوله نومهم سهود أنهم طوال الليل يرتبون أمر معاوية لا ينامون و أن يريد بذلك أن أصحابه يبكون من خوف معاوية و عساكره أو أنهم يبكون نفاقا و الأمر أقرب من أن يتمحل له مثل هذا. و نحن نقول إنه ع لم يخرج من صفة أهل الجاهلية و قوله في خير دار

(2/117)


يعني مكة و شر جيران يعني قريشا و هذا لفظ النبي ص حين حكى بالمدينة حالة كانت في مبدأ البعثة فقال كنت في خير دار و شر جيران ثم حكى ع ما جرى له مع عقبة بن أبي معيط و الحديث مشهور. و قوله نومهم سهود و كحلهم دموع مثل أن يقول جودهم بخل و أمنهم خوف أي لو استماحهم محمد ع النوم لجادوا عليه بالسهود عوضا عنه و لو استجداهم الكحل لكان كحلهم الذي يصلونه به الدموع.
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 138ثم قال بأرض عالمها ملجم أي من عرف صدق محمد ص و آمن به في تقية و خوف و جاهلها مكرم أي من جحد نبوته و كذبه في عز و منعة و هذا ظاهروَ مِنْهَا وَ يَعْنِي آلَ النَّبِيِّ ص هُمْ مَوْضِعُ سَرِّهِ وَ لَجَأُ أَمْرِهِ وَ عَيْبَةُ عِلْمِهِ وَ مَوْئِلُ حُكْمِهِ وَ كُهُوفُ كُتُبِهِ وَ جِبَالُ دِينِهِ بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَ أَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ
اللجأ ما تلتجئ إليه كالوزر ما تعتصم به و الموئل ما ترجع إليه يقول إن أمر النبي ص أي شأنه ملتجئ إليهم و علمه مودع عندهم كالثوب يودع العيبة. و حكمه أي شرعه يرجع و يؤول إليهم و كتبه يعني القرآن و السنة عندهم فهم كالكهوف له لاحتوائهم عليه و هم جبال دينه لا يتحلحلون عن الدين أو أن الدين ثابت بوجودهم كما أن الأرض ثابتة بالجبال و لو لا الجبال لمادت بأهلها. و الهاء في ظهره ترجع إلى الدين و كذلك الهاء في فرائصه و الفرائص جمع فريصة و هي اللحمة بين الجنب و الكتف لا تزال ترعد من الدابة

(2/118)


وَ مِنْهَا فِي الْمُنَافِقِينَ زَرَعُوا الْفُجُورَ وَ سَقَوْهُ الْغُرُورَ وَ حَصَدُوا الثُّبُورَ لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ ص مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ وَ لَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وَ عِمَادُ الْيَقِينِ إِلَيْهِمْ يَفِي ءُ الْغَالِي وَ بِهِمْ يُلْحَقُ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 139التَّالِي وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ وَ فِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَ الْوِرَاثَةُ الآْنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ وَ نُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهجعل ما فعلوه من القبيح بمنزلة زرع زرعوه ثم سقوه فالذي زرعوه الفجور ثم سقوه بالغرور و الاستعارة واقعة موقعها لأن تماديهم و ما سكنت إليه نفوسهم من الإمهال هو الذي أوجب استمرارهم على القبائح التي واقعوها فكان ذلك كما يسقى الزرع و يربى بالماء و يستحفظ. ثم قال و حصدوا الثبور أي كانت نتيجة ذلك الزرع و السقي حصاد ما هو الهلاك و العطب. و إشارته هذه ليست إلى المنافقين كما ذكر الرضي رحمه الله و إنما هي إشارة إلى من تغلب عليه و جحد حقه كمعاوية و غيره و لعل الرضي رحمه الله تعالى عرف ذلك و كنى عنه. ثم عاد إلى الثناء على آل محمد ص فقال هم أصول الدين إليهم يفي ء الغالي و بهم يلحق التالي جعلهم كمقنب يسير في فلاة فالغالي منه أي الفارط المتقدم الذي قد غلا في سيره يرجع إلى ذلك المقنب إذا خاف عدوا و من قد تخلف عن ذلك المقنب فصار تاليا له يلتحق به إذا أشفق من أن يتخطف. ثم ذكر خائص حق الولاية و الولاية الإمرة فأما الإمامية فيقولون أراد نص النبي ص عليه و على أولاده و نحن نقول لهم خصائص حق ولاية الرسول ص على الخلق. ثم قال ع و فيهم الوصية و الوراثة أما الوصية فلا ريب عندنا أن عليا ع كان وصي رسول الله ص و إن خالف في ذلك من هو منسوب شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 140عندنا إلى العناد و لسنا نعني بالوصية النص و

(2/119)


الخلافة و لكن أمورا أخرى لعلها إذا لمحت أشرف و أجل. و أما الوراثة فالإمامية يحملونها على ميراث المال و الخلافة و نحن نحملها على وراثة العلم. ثم ذكر ع أن الحق رجع الآن إلى أهله و هذا تضي أن يكون فيما قبل في غير أهله و نحن نتأول ذلك على غير ما تذكره الإمامية و نقول إنه ع كان أولى بالأمر و أحق لا على وجه النص بل على وجه الأفضلية فإنه أفضل البشر بعد رسول الله ص و أحق بالخلافة من جميع المسلمين لكنه ترك حقه لما علمه من المصلحة و ما تفرس فيه هو و المسلمون من اضطراب الإسلام و انتشار الكلمة لحسد العرب له و ضغنهم عليه و جائز لمن كان أولى بشي ء فتركه ثم استرجعه أن يقول قد رجع الأمر إلى أهله. و أما قوله و انتقل إلى منتقله ففيه مضاف محذوف تقديره إلى موضع منتقله و المنتقل بفتح القاف مصدر بمعنى الانقال كقولك لي في هذا الأمر مضطرب أي اضطراب قال
قد كان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول و العرض

(2/120)


و تقول ما معتقدك أي ما اعتقادك قد رجع الأمر إلى نصابه و إلى الموضع الذي هو على الحقيقة الموضع الذي يجب أن يكون انتقاله إليه. فإن قيل ما معنى قوله ع لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد و لا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا. قيل لا شبهة أن المنعم أعلى و أشرف من المنعم عليه و لا ريب أن محمدا ص شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 141و أهله الأدنين من بني هاشم لا سيما عليا ع أنعموا على الخلق كافة بنعمة لا يقدر قدرها و هي الدعاء إلى الإسلام و الهداية إليه فمحمد ص و إن كان هدى الخلق بالدعوة التي قام بها بلسانه و يده و نصره له تعالى له بملائكته و تأييده و هو السيد المتبوع و المصطفى المنتجب الواجب الطاعة إلا أن لعلي ع من الهداية أيضا و إن كان ثانيا لأول و مصليا على إثر سابق ما لا يجحد و لو لم يكن إلا جهاده بالسيف أولا و ثانيا و ما كان بين الجهادين من نشر العلوم و تفسير القرآن و إرشاد العرب إلى ما لم تكن له فاهمة و لا متصورة لكفى في وجوب حقه و سبوغ نعمته ع. فإن قيل لا ريب في أن كلامه هذا تعريض بمن تقدم عليه فأي نعمة له عليهم قيل نعمتان الأولى منهما الجهاد عنهم و هم قاعدون فإن من أنصف علم أنه لو لا سيف علي ع لاصطلم المشركون من أشار إليه و غيرهم من المسلمين و قد علمت آثاره في بدر و أحد و الخندق و خيبر و حنين و أن الشرك فيها فغرفاه فلو لا أن سده بسيفه لالتهم المسلمين كافة و الثانية علومه التي لولاه لحكم بغير الصواب في كثير من الأحكام و قد اعترف عمر له بذلك و الخبر مشهور لو لا علي لهلك عمر. و يمكن أن يخرج كلامه على وجه آخر و ذلك أن العرب تفضل القبيلة التي منها الرئيس الأعظم على سائر القبائل و تفضل الأدنى منه نسبا فالأدنى على سائر آحاد تلك القبيلة فإن بني دارم يفتخرون بحاجب و إخوته و بزرارة أبيهم على سائر بني تميم و يسوغ للواحد من أبناء بني دارم أن يقول لا يقاس ببني دارم أحد من بني تميم و لا يستوي

(2/121)


بهم من جرت رئاستهم عليه أبدا و يعني بذلك أن واحدا من بني دارم قد رأس على بني تميم فكذلك لما كان رسول الله ص رئيس الكل
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 142و المنعم على الكل جاز لواحد من بني هاشم لا سيما مثل علي ع أن يقول هذه الكلمات و اعلم أن عليا ع كان يدعي التقدم على الكل و الشرف على الكل و النعمة على الكل بابن عمه ص و بنفسه و بأبيه أبي طالب فإن من قرأ علوم السير عرف أن الإسم لو لا أبو طالب لم يكن شيئا مذكورا. و ليس لقائل أن يقول كيف يقال هذا في دين تكفل الله تعالى بإظهاره سواء كان أبو طالب موجودا أو معدوما لأنا نقول فينبغي على هذا ألا يمدح رسول الله ص و لا يقال إنه هدى الناس من الضلالة و أنقذهم من الجهالة و إن له حقا على المسلمين و إنه لولاه لما عبد الله تعالى في الأرض و ألا يمدح أبو بكر و لا يقال إن له أثرا في الإسلام و إن عبد الرحمن و سعدا و طلحة و عثمان و غيرهم من الأولين في الدين اتبعوا رسول الله ص لاتباعه له و إن له يدا غير مجحودة في الإنفاق و اشتراء المعذبين و إعتاقهم و إنه لولاه لاستمرت الردة بعد الوفاة و ظهرت دعوة مسيلمة و طليحة و إنه لو لا عمر لما كانت الفتوح و لا جهزت الجيوش و لا قوي أمر الدين بعد ضعفه و لا انتشرت الدعوة بعد خمولها. فإن قلتم في كل ذلك إن هؤلاء يحمدون و يثنى عليهم لأن الله تعالى أجرى هذه الأمور على أيديهم و وفقهم لها و الفاعل بذلك بالحقيقة هو الله تعالى و هؤلاء آلة مستعملة و وسائط تجرى الأفعال على أيديها فحمدهم و الثناء عليهم و الاعتراف لهم إنما هو باعتبار ذلك. قيل لكم في شأن أبي طالب مثله. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 143و اعلم أن هذه الكلمات و هي قوله الآن إذ رجع الحق إلى أهله إلى آخرها يبعد عندي أن تكون مقولة عقيب انصرافه ع من صفين لأنه انصرف عنها وقتئذ مضطرب الأمر منتشر الحبل بواقعة التحكيم و مكيدة ابن العاص و ما تم لمعاوية عليه من الاستظهار و ما

(2/122)


شاهد في عسكره من الخذلان و هذه الكلمات لا تقال في مثل هذه الحال و أخلق بها أن تكون قيلت في ابتداء بيعته قبل أن يخرج من المدينة إلى البصرة و أن الرضي رحمه الله تعالى نقل ما وجد و حكى ما سمع و الغلط من غيره و الوهم سابق له و ما ذكرناه واضح
ما ورد في الوصاية من الشعر
و مما رويناه من الشعر المقول في صدر الإسلام المتضمن كونه ع وصي رسول الله قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب
و منا علي ذاك صاحب خيبر و صاحب بدر يوم سالت كتائبه وصي النبي المصطفى و ابن عمه فمن ذا يدانيه و من ذا يقاربهو قال عبد الرحمن بن جعيل
لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة على الدين معروف العفاف موفقاعليا وصي المصطفى و ابن عمه و أول من صلى أخا الدين و التقى
و قال أبو الهيثم بن التيهان و كان بدريا
قل للزبير و قل لطلحة إننا نحن الذين شعارنا الأنصارنحن الذين رأت قريش فعلنا يوم القليب أولئك الكفاركنا شعار نبينا و دثاره يفديه منا الروح و الأبصار
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 144إن الوصي إمامنا و ولينا برح الخفاء و باحت الأسراو قال عمر بن حارثة الأنصاري و كان مع محمد بن الحنفية يوم الجمل و قد لامه أبوه ع لما أمره بالحملة فتقاعس
أبا حسن أنت فصل الأمور يبين بك الحل و المحرم جمعت الرجال على راية بها ابنك يوم الوغى مقحم و لم ينكص المرء من خيفة و لكن توالت له أسهم فقال رويدا و لا تعجلوا فإني إذا رشقوا مقدم فأعجلته و الفتى مجمع بما يكره الوجل المحجم سمي النبي و شبه الوصي و رايته لالعندم
و قال رجل من الأزد يوم الجمل
هذا علي و هو الوصي آخاه يوم النجوة النبي و قال هذا بعدي الولي وعاه واع و نسي الشقيو خرج يوم الجمل غلام من بني ضبة شاب معلم من عسكر عائشة و هو يقول

(2/123)


نحن بني ضبة أعداء علي ذاك الذي يعرف قدما بالوصي و فارس الخيل على عهد النبي ما أنا عن فضل علي بالعمي لكنني أنعى ابن عفان التقي إن الولي طالب ثأر الولو قال سعيد بن قيس الهمداني يوم الجمل و كان في عسكر علي ع
أية حرب أضرمت نيرانها و كسرت يوم الوغى مرانها
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 145قل للوصي أقبلت قحطانها فادع بها تكفيكها همدانهاهم بنوها و هم إخوانو قال زياد بن لبيد الأنصاري يوم الجمل و كان من أصحاب علي ع
كيف ترى الأنصار في يوم الكلب إنا أناس لا نبالي من عطب و لا نبالي في الوصي من غضب و إنما الأنصار جد لا لعب هذا علي و ابن عبد المطلب ننصره اليوم على من قد كذب من يكسب البغي فبئس ما اكتو قال حجر بن عدي الكندي في ذلك اليوم أيضا
يا ربنا سلم لنا عليا سلم لنا المبارك المضياالمؤمن الموحد التقيا لا خطل الرأي و لا غويابل هاديا موفقا مهديا و احفظه ربي و احفظ النبيافيه فقد كان له وليا ثم ارتضاه بعده وصيا
و قال خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين و كان بدريا في يوم الجمل أيضا
ليس بين الأنصار في جحمة الحرب و بين العداة إلا الطعان و قراع الكمأة بالقضب البيض إذا ما تحطم المران فادعها تستجب فليس من الخز رج و الأوس يا علي جبان يا وصي النبي قد أجلت الحرب الأعادي و سارت الأظعان و استقامت لك الأمور سوى الشام و في الشام يظهر الإذعاهم ما رأوا و حسبك منا هكذا نحن حيث كنا و كانوا
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 146و قال خزيمة أيضا في يوم الجملأ عائش خلي عن علي و عيبه بما ليس فيه إنما أنت والده وصي رسول الله من دون أهله و أنت على ما كان من ذاك شاهده و حسبك منه بعض ما تعلمينه و يكفيك لو لم تعلمي غير واحده إذا قيل ما ذا عبت منه رميته بخذل ابن عفان و ما تلك آبده و ليس سماء الله قاطرة دما لذاك والأرض الفضاء بمائده
و قال ابن بديل بن ورقاء الخزاعي يوم الجمل أيضا

(2/124)


يا قوم للخطة العظمى التي حدثت حرب الوصي و ما للحرب من آسي الفاصل الحكم بالتقوى إذا ضربت تلك القبائل أخماسا لأسداسو قال عمرو بن أحيحة يوم الجمل في خطبة الحسن بن علي ع بعد خطبة عبد الله بن الزبير.
حسن الخير يا شبيه أبيه قمت فينا مقام خير خطيب قمت بالخطبة التي صدع الله بها عن أبيك أهل العيوب و كشفت القناع فاتضح الأمر و أصلحت فاسدات القلوب لست كابن الزبير لجلج في القول و طأطأ عنان فسل مريب و أبى الله أن يقوم بما قام به ابن الوصي و ابن النجيب إن شين النبي لك الخير و بين الوصي غير مشوب
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 147و قال زحر بن قيس الجعفي يوم الجمل أيضاأضربكم حتى تقروا لعلي خير قريش كلها بعد النبي من زانه الله و سماه الوصي إن الولي حافظ ظهر الولي كما الغوي تابع أمر الغوذكر هذه الأشعار و الأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى في كتاب وقعة الجمل و أبو مخنف من المحدثين و ممن يرى صحة الإمامة بالاختيار و ليس من الشيعة و لا معدودا من رجالها. و مما رويناه من أشعار صفين التي تتضمن تسميته ع بالوصي ما ذكره نصر بن مزاحم بن يسار المنقري في كتاب صفين و هو من رجال الحديث قال نصر بن مزاحم قال زحر بن قيس الجعفي
فصلى الإله على أحمد رسول المليك تمام النعم رسول المليك و من بعده خليفتنا القائم المدعم عليا عنيت وصي النبي نجالد عنه غواه الأمقال نصر و من الشعر المنسوب إلى الأشعث بن قيس
أتانا الرسول رسول الإمام فسر بمقدمه المسلمونارسول الوصي وصي النبي له السبق و الفضل في المؤمنينا
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 148و من الشعر المنسوب إلى الأشعث أيضاأتانا الرسول رسول الوصي علي المهذب من هاشم وزير النبي و ذو صهره و خير البرية و العالم قال نصر بن مزاحم من شعر أمير المؤمنين ع في صفين

(2/125)


يا عجبا لقد سمعت منكرا كذبا على الله يشيب الشعراما كان يرضى أحمد لو أخبرا أن يقرنوا وصيه و الأبتراشاني الرسول و اللعين الأخزرا إني إذا الموت دنا و حضراشمرت ثوبي و دعوت قنبرا قدم لوائي لا تؤخر حذرالا يدفع الحذار ما قد قدرا لو أن عندي يا ابن حرب جعفراأو حمزة القرم الهمام الأزهرا رأت قريش نجم ليل ظهرا
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 149و قال جرير بن عبد الله البجلي كتب بهذا الشعر إلى شرحبيل بن السمط الكندي رئيس اليمانية من أصحاب معاويةنصحتك يا ابن السمط لا تتبع الهوى فما لك في الدنيا من الدين من بدل و لا تك كالمجرى إلى شر غاية فقد خرق السربال و استنوق الجمل مقال ابن هند في علي عضيهة و لله في صدر ابن أبي طالب أجل و ما كان إلا لازما قعر بيته إلى أن أتى عثمان في بيته الأجل وصي رسول الل دون أهله و فارسه الحامي به يضرب المثل
و قال النعمان بن عجلان الأنصاري
كيف التفرق و الوصي إمامنا لا كيف إلا حيرة و تخاذلالا تغبنن عقولكم لا خير في من لم يكن عند البلابل عاقلاو ذروا معاوية الغوي و تابعوا دين الوصي لتحمدوه آجلا
و قال عبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي
ألا أبلغ معاوية بن حرب فما لك لا تهش إلى الضراب فإن تسلم و تبق الدهر يوما نزرك بجحفل عدد التراب يقودهم الوصي إليك حتى يردك عن ضلال و ارتياو قال المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب
يا عصبة الموت صبرا لا يهولكم جيش ابن حرب فإن الحق قد ظهراو أيقنوا أن من أضحى يخالفكم أضحى شقيا و أمسى نفسه خسرا
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 150فيكم وصي رسول الله قائدكم و صهره و كتاب الله قد نشرو قال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب

(2/126)


وصي رسول الله من دون أهله و فارسه إن قيل هل من منازل فدونكه إن كنت تبغي مهاجرا أشم كنصل السيف عير حلاحلو الأشعار التي تتضمن هذه اللفظة كثير جدا و لكنا ذكرنا منها هاهنا بعض ما قيل في هذين الحزبين فأما ما عداهما فإنه يجل عن الحصر و يعظم عن الإحصاء و العد و لو لا خوف الملالة و الإضجار لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقا كثيرة
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 3151- و من خطبة له و هي المعروفة بالشقشقيةأَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنْ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً

(2/127)


سدلت دونها ثوبا أي أرخيت يقول ضربت بيني و بينها حجابا فعل الزاهد فيها الراغب عنها و طويت عنها كشحا أي قطعتها و صرمتها و هو مثل قالوا لأن من كان إلى جانبك الأيمن ماثلا فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه و الكشح ما بين الخاصرة و الجنب و عندي أنهم أرادوا غير ذلك و هو أن من أجاع نفسه فقد طوى كشحه كما أن من أكل و شبع فقد ملأ كشحه فكأنه أراد أني أجعت نفسي عنها و لم ألقمها و اليد الجذاء بالدال المهملة و بالذال المعجمة و الحاء المهملة مع الذال المعجمة كله بمعنى المقطوعة و الطخية قطعة من الغيم و السحاب و قوله عمياء تأكيد لظلام الحال و اسودادها يقولون مفازة عمياء أي يعمى فيها الدليل شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 152و يكدح يسعى و يكد مع مشقة قال تعالى إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً و هاتا بمعنى هذه ها للتنبيه و تا للإشارة و معنى تا ذي و هذا أحجى من كذا أي أليق بالحجا و هالعقل. و في هذا الفصل من باب البديع في علم البيان عشرة ألفاظ. أولها قوله لقد تقمصها أي جعلها كالقميص مشتملة عليه و الضمير للخلافة و لم يذكرها للعلم بها كقوله سبحانه حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ و كقوله كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ و كقول حاتم
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر
و هذه اللفظة مأخوذة من كتاب الله تعالى في قوله سبحانه وَ لِباسُ التَّقْوى و قول النابغة
تسربل سربالا من النصر و ارتدى عليه بعضب في الكريهة قاصل
الثانية قوله ينحدر عني السيل يعني رفعة منزلته ع كأنه في ذروة جبل أو يفاع مشرف ينحدر السيل عنه إلى الوهاد و الغيطان قال الهذلي
و عيطاء يكثر فيها الزليل و ينحدر السيل عنها انحدارا

(2/128)


الثالثة قوله ع و لا يرقى إلي الطير هذه أعظم في الرفعة و العلو من التي قبلها لأن السيل ينحدر عن الرابية و الهضبة و أما تعذر رقي الطير فربما يكون للقلال الشاهقة جدا بل ما هو أعلى من قلال الجبال كأنه يقول إني لعلو منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يرقى الطير إليها قال أبو الطيب
فوق السماء و فوق ما طلبوا فإذا أرادوا غاية نزلوا
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 153و قال حبيبمكارم لجت في علو كأنما تحاول ثأرا عند بعض الكواكب
الرابعة قوله سدلت دونها ثوبا قد ذكرناه. الخامسة قوله و طويت عنها كشحا قد ذكرناه أيضا. السادسة قوله أصول بيد جذاء قد ذكرناه. السابعة قوله أصبر على طخية عمياء قد ذكرناه أيضا. الثامنة قوله و في العين قذى أي صبرت على مضض كما يصبر الأرمد. التاسعة قوله و في الحلق شجا و هو ما يعترض في الحلق أي كما يصبر من غص بأمر فهو يكابد الخنق. العاشرة قوله أرى تراثي نهبا كنى عن الخلافة بالتراث و هو الموروث من المال. فأما قوله ع إن محلي منها محل القطب من الرحى فليس من هذا النمط الذي نحن فيه و لكنه تشبيه محض خارج من باب الاستعارة و التوسع يقول كما أن الرحى لا تدور إلا على القطب و دورانها بغير قطب لا ثمرة له و لا فائدة فيه كذلك نسبتي إلى الخلافة فإنها لا تقوم إلا بي و لا يدور أمرها إلا علي. هكذا فسروه و عندي أنه أراد أمرا آخر و هو أني من الخلافة في الصميم و في وسطها و بحبوحتها كما أن القطب وسط دائرة الرحى قال الراجز شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 15على قلاص مثل خيطان السلم إذا قطعن علما بدا علم حتى أنحناها إلى باب الحكم خليفة الحجاج غير المتهم في سرة المجد و بحبوح الكرو قال أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان
فحللت منها بالبطاح و حل غيرك بالظواهر

(2/129)


و أما قوله يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير فيمكن أن يكون من باب الحقائق و يمكن أن يكون من باب المجازات و الاستعارات أما الأول فإنه يعني به طول مدة ولاية المتقدمين عليه فإنها مدة يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير. و أما الثاني فإنه يعني بذلك صعوبة تلك الأيام حتى أن الكبير من الناس يكاد يهرم لصعوبتها و الصغير يشيب من أهوالها كقولهم هذا أمر يشيب له الوليد و إن لم يشب على الحقيقة. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 155و اعلم أن في الكلام تقديما و تأخيرا و تقديره و لا يرقى إلي الطير فطفقت أرتئي بين كذا و كذا فرأيأن الصبر على هاتا أحجى فسدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشحا ثم فصبرت و في العين قذى إلى آخر القصة لأنه لا يجوز أن يسدل دونها ثوبا و يطوي عنها كشحا ثم يطفق يرتئي بين أن ينابذهم أو يصبر أ لا ترى أنه إذا سدل دونها ثوبا و طوى عنها كشحا فقد تركها و صرمها و من يترك و يصرم لا يرتئي في المنابذة و التقديم و التأخير طريق لاحب و سبيل مهيع في لغة العرب قال سبحانه الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً أي أنزل على عبده الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و هذا كثير. و قوله ع حتى يلقى ربه بالوقف و الإسكان كما جاءت به الرواية في قوله سبحانه ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ بالوقف أيضا
نسب أبي بكر و نبذة من أخبار أبيه

(2/130)


ابن أبي قحافة المشار إليه هو أبو بكر و اسمه القديم عبد الكعبة فسماه رسول الله ص عبد الله و اختلفوا في عتيق فقيل كان اسمه في الجاهلية و قيل بل سماه به رسول الله ص و اسم أبي قحافة عثمان و هو عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب و أمه ابنة عم أبيه و هي أم الخير بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد أسلم أبو قحافة يوم الفتح جاء به ابنه أبو بكر إلى النبي ص و هو شيخ كبير رأسه كالثغامة البيضاء فأسلم فقال رسول الله ص غيروا شيبته. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 156و ولي ابنه الخلافة و هو حي مطع في بيته مكفوف عاجز عن الحركة فسمع ضوضاء الناس فقال ما الخبر فقالوا ولي ابنك الخلافة فقال رضيت بنو عبد مناف بذلك قالوا نعم قال اللهم لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت. و لم يل الخلافة من أبوه حي إلا أبو بكر و أبو بكر عبد الكريم الطائع لله ولي الأمر و أبوه المطيع حي خلع نفسه من الخلافة و عهد بها إلى ابنه و كان المنصور يسمي عبد الله بن الحسن بن الحسن أبا قحافة تهكما به لأن ابنه محمدا ادعى الخلافة و أبوه حي. و مات أبو بكر و أبو قحافة حي فسمع الأصوات فسأل فقيل مات ابنك فقال رزء جليل و توفي أبو قحافة في أيام عمر في سنة أربع عشرة للهجرة و عمره سبع و تسعون سنة و هي السنة التي توفي فيها نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم. إن قيل بينوا لنا ما عندكم في هذا الكلام أ ليس صريحه دالا على تظليم القوم و نسبتهم إلى اغتصاب الأمر فما قولكم في ذلك إن حكمتم عليهم بذلك فقد طعنتم فيهم و إن لم تحكموا عليهم بذلك فقد طعنتم في المتظلم المتكلم عليهم. قيل أما الإمامية من الشيعة فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها و تذهب إلى أن النبي ص نص على أمير المؤمنين ع و أنه غصب حقه. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 157و أما أصحابنا رحمهم الله فلهم أن يلوا إنه لما كان أمير المؤمنين ع هو الأفضل و الأحق و عدل عنه إلى من

(2/131)


لا يساويه في فضل و لا يوازيه في جهاد و علم و لا يماثله في سؤدد و شرف ساغ إطلاق هذه الألفاظ و إن كان من وسم بالخلافة قبله عدلا تقيا و كانت بيعته بيعة صحيحة أ لا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة فيجعل السلطان الأنقص علما منهما قاضيا فيتوجد الأعلم و يتألم و ينفث أحيانا بالشكوى و لا يكون ذلك طعنا في القاضي و لا تفسيقا له و لا حكما منه بأنه غير صالح بل للعدول عن الأحق و الأولى و هذا أمر مركوز في طباع البشر و مجبول في أصل الغريزة و الفطرة فأصحابنا رحمهم الله لما أحسنوا الظن بالصحابة و حملوا ما وقع منهم على وجه الصواب و أنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام و خافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط بل و تفضي إلى ذهاب النبوة و الملة فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق إلى فاضل آخر دونه فعقدوا له احتاجوا إلى تأويل هذه الألفاظ الصادرة عمن يعتقدونه في الجلالة و الرفعة قريبا من منزلة النبوة فتأولوها بهذا التأويل و حملوها على التألم للعدول عن الأولى. و ليس هذا بأبعد من تأويل الإمامية قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى و قولهم معنى عصى أنه عدل عن الأولى لأن الأمر بترك أكل الشجرة كان أمرا على سبيل الندب فلما تركه آدم كان تاركا للأفضل و الأولى فسمي عاصيا باعتبار مخالفة الأولى و حملوا غوى على خاب لا على الغواية بمعنى الضلال و معلوم أن تأويل كلام أمير المؤمنين ع و حمله على أنه شكا من تركهم الأولى أحسن من حمل قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ على أنه ترك الأولى.

(2/132)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 158إن قيل لا تخلو الصحابة إما أن تكون عدلت عن الأفضل لعلة و مانع في الأفضل أو لا لمانع فإن كان لا لمانع كان ذلك عقدا للمفضول بالهوى فيكون باطلا و إن كان لمانع و هو ما تذكرونه من خوف الفتنة و كون الناس كانوا يبغضون عليا ع و يحسده فقد كان يجب أن يعذرهم أمير المؤمنين ع في العدول عنه و يعلم أن العقد لغيره هو المصلحة للإسلام فكيف حسن منه أن يشكوهم بعد ذلك و يتوجد عليهم. و أيضا فما معنى قوله فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء على ما تأولتم به كلامه فإن تارك الأولى لا يصال عليه بالحرب. قيل يجوز أن يكون أمير المؤمنين ع لم يغلب على ظنه ما غلب على ظنون الصحابة من الشغب و ثوران الفتنة و الظنون تختلف باختلاف الأمارات فرب إنسان يغلب على ظنه أمر يغلب على ظن غيره خلافه و أما قوله أرتئي بين أن أصول فيجوز أن يكون لم يعن به صيال الحرب بل صيال الجدل و المناظرة يبين ذلك أنه لو كان جادلهم و أظهر ما في نفسه لهم فربما خصموه بأن يقولوا له قد غلب على ظنوننا أن الفساد يعظم و يتفاقم إن وليت الأمر و لا يجوز مع غلبة ظنوننا لذلك أن نسلم الأمر إليك فهو ع قال طفقت أرتئي بين أن أذكر لهم فضائلي عليهم و أحاجهم بها فيجيبوني بهذا الضرب من الجواب الذي تصير حجتي به جذاء مقطوعة و لا قدرة لي على تشييدها و نصرتها و بين أن أصبر على ما منيت به و دفعت إليه. إن قيل إذا كان ع لم يغلب على ظنه وجود العلة و المانع فيه و قد استراب الصحابة و شكاهم لعدولهم عن الأفضل الذي لا علة فيه عنده فقد سلمتم أنه ظلم الصحابة و نسبهم إلى غصب حقه فما الفرق بين ذلك و بين أن يستظلمهم لمخالفة النص و كيف شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 159هربتم من نسبته لهم إلى الظلم لدفع النص و وقعتم في نسبته لهم إلى الظلم لخلاف الأولى من غير علة في الأولى و معلوم أن مخالفة أولى من غير علة في الأولى كتارك النص لأن العقد في كلا الموضعين يكون

(2/133)


فاسدا. قيل الفرق بين الأمرين ظاهر لأنه ع لو نسبهم إلى مخالفة النص لوجب وجود النص و لو كان النص موجودا لكانوا فساقا أو كفارا لمخالفته و أما إذا نسبهم إلى ترك الأولى من غير علة في الأولى فقد نسبهم إلى أمر يدعون فيه خلاف ما يدعي ع و أحد الأمرين لازم و هو إما أن يكون ظنهم صحيحا أو غير صحيح فإن كان ظنهم هو الصحيح فلا كلام في المسألة و إن لم يكن ظنهم صحيحا كانوا كالمجتهد إذا ظن و أخطأ فإنه معذور و مخالفة النص أمر خارج عن هذا الباب لأن مخالفه غير معذور بحال فافترق المحملان
مرض رسول الله و أمره أسامة بن زيد على الجيش

(2/134)


لما مرض رسول الله ص مرض الموت دعا أسامة بن زيد بن حارثة فقال سر إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك على هذا الجيش و إن أظفرك الله بالعدو فأقلل اللبث و بث العيون و قدم الطلائع فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين و الأنصار إلا كان في ذلك الجيش منهم أبو بكر و عمر فتكلم قوم و قالوا يستعمل هذا الغلام على جلة المهاجرين و الأنصار فغضب رسول الله ص لما سمع ذلك و خرج عاصبا رأسه فصعد المنبر و عليه قطيفة فقال أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة لئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله و ايم الله إن كان لخليقا بالإمارة و ابنه من بعده لخليق بها شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 160و إنهما لمن أحب الناس إلي فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركمثم نزل و دخل بيته و جاء المسلمون يودعون رسول الله ص و يمضون إلى عسكر أسامة بالجرف. و ثقل رسول الله ص و اشتد ما يجده فأرسل بعض نسائه إلى أسامة و بعض من كان معه يعلمونهم ذلك فدخل أسامة من معسكره و النبي ص مغمور و هو اليوم الذي لدوه فيه فتطأطأ أسامة عليه فقبله و رسول الله ص قد أسكت فهو لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة كالداعي له ثم أشار إليه بالرجوع إلى عسكره و التوجه لما بعثه فيه فرجع أسامة إلى عسكره ثم أرسل نساء رسول الله ص إلى أسامة يأمرنه بالدخول و يقلن إن رسول الله ص قد أصبح بارئا فدخل أسامة من معسكره يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول فوجد رسول الله ص مفيقا فأمره بالخروج و تعجيل النفوذ و قال اغد على بركة الله و جعل يقول أنفذوا بعث أسامة و يكرر ذلك فودع رسول الله ص و خرج و معه أبو بكر و عمر فلما ركب جاءه رسول أم أيمن فقال إن رسول الله ص يموت فأقبل و معه أبو بكر و عمر و أبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله ص حين زالت الشمس من هذا اليوم و هو يوم الإثنين و قد مات و اللواء مع بريدة بن الحصيب فدخل باللواء فركزه

(2/135)


عند باب رسول الله ص و هو مغلق و علي ع و بعض بني هاشم مشتغلون بإعداد جهازه و غسله فقال العباس لعلي و هما في الدار امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 161اثنان فقال له أ و يطمع يا عم فيها طامع غيري قال ستعلم فلم يلبثا أن جاءتهما الأخبار بأن الأنصار أقعدت سعدا لتبايعه أن عمر جاء بأبي بكر فبايعه و سبق الأنصار بالبيعة فندم علي ع على تفريطه في أمر البيعة و تقاعده عنها و أنشده العباس قول دريد
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

(2/136)


و تزعم الشيعة أن رسول الله ص كان يعلم موته و أنه سير أبا بكر و عمر في بعث أسامة لتخلو دار الهجرة منهما فيصفو الأمر لعلي ع و يبايعه من تخلف من المسلمين بالمدينة على سكون و طمأنينة فإذا جاءهما الخبر بموت رسول الله ص و بيعة الناس لعلي ع بعده كانا عن المنازعة و الخلاف أبعد لأن العرب كانت تلتزم بإتمام تلك البيعة و يحتاج في نقضها إلى حروب شديدة فلم يتم له ما قدر و تثاقل أسامة بالجيش أياما مع شدة حث رسول الله ص على نفوذه و خروجه بالجيش حتى مات ص و هما بالمدينة فسبقا عليا إلى البيعة و جرى ما جرى. و هذا عندي غير منقدح لأنه إن كان ص يعلم موته فهو أيضا يعلم أن أبا بكر سيلي الخلافة و ما يعلمه لا يحترس منه و إنما يتم هذا و يصح إذا فرضنا أنه ع كان يظن موته و لا يعلمه حقيقة و يظن أن أبا بكر و عمر يتمالآن على ابن عمه و يخاف وقوع ذلك منهما و لا يعلمه حقيقة فيجوز إن كانت الحال هكذا أن ينقدح هذا التوهم و يتطرق هذا الظن كالواحد منا له ولدان يخاف من أحدهما شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 162أن يتغلب بعد موته على جميع ماله و لا يوصل أخاه إلى شي ء من حقه فإنه قد يخطر له عند مرضه الذي يتخوف أن يموت فيه أن يأمر الولد المخوف جانبه بالسفرى بلد بعيد في تجارة يسلمها إليه يجعل ذلك طريقا إلى دفع تغلبه على الولد الآخر
حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى ابْنِ الْخَطَّابِ بَعْدَهُ
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

(2/137)


فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ
مضى لسبيله مات و السبيل الطريق و تقديره مضى على سبيله و تجي ء اللام بمعنى على كقوله فخر صريعا لليدين و للفم
و قوله فأدلى بها من قوله تعالى وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 163وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ أي تدفعوها إليهم رشوة و أصله من أدليت الدلو في البئر أرسلتها. فإن قلت فإن أبا بكر إنما دفعها إلى عمر حين م و لا معنى للرشوة عند الموت. قلت لما كان ع يرى أن العدول بها عنه إلى غيره إخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق شبه ذلك بإدلاء الإنسان بماله إلى الحاكم فإنه إخراج للمال إلى غير وجهه فكان ذلك من باب الاستعارة.
عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر بن الخطاب

(2/138)


و ابن الخطاب هو أبو حفص عمر الفاروق و أبوه الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب و أم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. لما احتضر أبو بكر قال للكاتب اكتب هذا ما عهد عبد الله بن عثمان آخر عهده بالدنيا و أول عهده بالآخرة في الساعة التي يبر فيها الفاجر و يسلم فيها الكافر ثم أغمي عليه فكتب الكاتب عمر بن الخطاب ثم أفاق أبو بكر فقال اقرأ ما كتبت فقرأ و ذكر اسم عمر فقال أنى لك هذا قال ما كنت لتعدوه فقال أصبت ثم قال أتم كتابك قال ما أكتب قال اكتب و ذلك حيث أجال رأيه و أعمل فكره فرأى أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما يصلح به أوله و لا يحتمله إلا أفضل العرب مقدرة و أملكهم لنفسه و أشدهم في حال الشدة و أسلسهم في حال اللين و أعلمهم برأي ذوي الرأي لا يتشاغل بما لا يعنيه و لا يحزن لما لم ينزل به شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 164و لا يستحي من التعلم و لا يتحير عند البديهة قوي على الأمور لا يجوز بشي ء منها حده عدوانا و لا تقصيرا يرصد لما هو آت عتاده من الحذر. فلما فرغ من الكتاب دخل عليه قوم من الصحابة منهم طلحة فقال له ما أنت قائل لربك غدا و قد وليتينا فظا غليظا تفرق منه النفوس و تنفض عنه القلوب. فقال أبو بكر أسندوني و كان مستلقيا فأسندوه فقال لطلحة أ بالله تخوفني إذا قال لي ذلك غدا قلت له وليت عليهم خير أهلك. و يقال أصدق الناس فراسة ثلاثة العزيز في قوله لامرأته عن يوسف ع وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً و ابنة شعيب حيث قالت لأبيها في موسى يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ و أبو بكر في عمر. و روى كثير من الناس أن أبا بكر لما نزل به الموت دعا عبد الرحمن بن عوف فقال أخبرني عن عمر فقال إنه

(2/139)


أفضل من رأيك فيه إلا أن فيه غلظة فقال أبو بكر ذاك لأنه يراني رقيقا و لو قد أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه و قد رمقته إذا أنا غضبت على رجل أراني الرضا عنه و إذا لنت له أراني الشدة عليه ثم دعا عثمان بن عفان فقال أخبرني عن عمر فقال سريرته خير من علانيته و ليس فينا مثله فقال لهما لا تذكرا مما قلت لكما شيئا و لو تركت عمر لما عدوتك يا عثمان و الخيرة لك ألا تلي من أمورهم شيئا و لوددت أني كنت من أموركم خلوا و كنت فيمن مضى من سلفكم و دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال إنه بلغني أنك يا خليفة

(2/140)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 165رسول الله استخلفت على الناس عمر و قد رأيت ما يلقى الناس منه و أنت معه فكيف به إذا خلا بهم و أنت غدا لاق ربك فيسألك عن رعيتك فقال أبو بكر أجلسوني ثم قال أ بالله تخوفني إذا لقيت ربي فسألني قلت استخلفت عليهم خير أهلك فقال طلحة عمر خير الناس يا خليفة رسول الله فاشتد غضبه و قال إي و الله هو خيرهم و أنت شرهم أما و الله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك و لرفعت نفسك فوق قدرها حتى يكون الله هو الذي يضعها أتيتني و قد دلكت عينك تريد أن تفتنني عن ديني و تزيلني عن رأيي قم لا أقام الله رجليك أما و الله لئن عشت فواق ناقة و بلغني أنك غمصته فيها أو ذكرته بسوء لألحقنك بمحمضات قنة حيث كنتم تسقون و لا تروون و ترعون و لا تشبعون و أنتم بذلك بجحون راضون فقام طلحة فخرج. أحضر أبو بكر عثمان و هو يجود بنفسه فأمره أن يكتب عهدا و قال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد عبد الله بن عثمان إلى المسلمين أما بعد ثم أغمي عليه و كتب عثمان قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب و أفاق أبو بكر فقال اقرأ فقرأه فكبر أبو بكر و سر و قال أراك خفت أن يختلف الناس أن مت في غشيتي قال نعم قال جزاك الله خيرا عن الإسلام و أهله ثم أتم العهد و أمر أن يقرأ على الناس فقرئ عليهم ثم أوصى عمر فقال له إن لله حقا بالليل لا يقبله في النهار و حقا في النهار لا يقبله بالليل و إنه لا يقبل نافلة ما لم تؤد الفريضة و إنما ثقلت موازين من اتبع الحق مع ثقله عليه و إنما خفت موازين من اتبع الباطل لخفته عليه إنما أنزلت آية الرخاء مع آية الشدة لئلا يرغب المؤمن رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له و لئلا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 166يرهب رهبة يلقى فيها بيده فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت و لست معجزة ثم توفي أبو بكر. دعا أبو بكر عمر يوم موته بعد عهدإليه فقال إني لأرجو أن أموت في يومي هذا فلا تمسين حتى تندب الناس مع

(2/141)


المثنى بن حارثة و إن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس معه و لا تشغلنكم مصيبة عن دينكم و قد رأيتني متوفى رسول الله ص كيف صنعت. و توفي أبو بكر ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة
و أما البيت الذي تمثل به ع فإنه للأعشى الكبير أعشى قيس و هو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل من القصيدة التي قالها في منافرة علقمة بن علاثة و عامر بن الطفيل و أولها
علقم ما أنت إلى عامر الناقض الأوتار و الواتر
يقول فيها
و قد أسلي الهم إذ يعتري بجسرة دوسرة عاقرزيافة بالرحل خطارة تلوي بشرخي ميسة قاتر
شرخا الرحل مقدمه و مؤخره و الميس شجر يتخذ منه الرحال و رحل قاتر جيد الوقوع على ظهر البعير شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 16شتان ما يومي على كورها و يوم حيان أخي جابرأرمي بها البيداء إذ هجرت و أنت بين القرو و العاصرفي مجدل شيد بنيانه يزل عنه ظفر الطائر

(2/142)


تقول شتان ما هما و شتان هما و لا يجوز شتان ما بينهما إلا على قول ضعيف. و شتان أصله شتت كوشكان ذا خروجا من وشك و حيان و جابر ابنا السمين الحنفيان و كان حيان صاحب شراب و معاقرة خمر و كان نديم الأعشى و كان أخوه جابر أصغر سنا منه فيقال إن حيان قال للأعشى نسبتني إلى أخي و هو أصغر سنا مني فقال إن الروي اضطرني إلى ذلك فقال و الله لا نازعتك كأسا أبدا ما عشت يقول شتان يومي و أنا في الهاجرة و الرمضاء أسير على كور هذه الناقة و يوم حيان و هو في سكرة الشراب ناعم البال مرفه من الأكدار و المشاق و القرو شبه حوض يتخذ من جذع أو من شجر ينبذ فيه و العاصر الذي يعتصر العنب و المجدل الحصن المنيع. و شبيه بهذا المعنى قول الفضل بن الربيع في أيام فتنة الأمين يذكر حاله و حال أخيه المأمون إنما نحن شعب من أصل إن قوي قوينا و إن ضعف ضعفنا و إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء يشاور النساء و يقدم على الرؤيا قد أمكن أهل الخسارة و اللهو من سمعه فهم يمنونه الظفر و يعدونه عقب الأيام و الهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل ينام نوم الظربان و ينتبه انتباه الذئب همه بطنه و فرجه لا يفكر في زوال نعمة و لا يروى في إمضاء رأي و لا مكيدة قد شمر له عبد الله شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 168عن ساقه و فوق إليه أسد سهامه يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ و الموت القاصد قد عبا له المنايا على متون الخيل و ناط له البلايا بأسنة الرماح و شفار السيوف فهو كما قال الشاعرلشتان ما بيني و بين ابن خالد أمية في الرزق الذي الله يقسم يقارع أتراك ابن خاقان ليله إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم و آخذها حمراء كالمسك ريحها لها أرج من دنها يتنسم فيصبح من طول الطراد و جسمه نحيل و أضحي في النعيم أصو أمية المذكور في هذا الشعر هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس كان والي خراسان و حارب الترك و الشعر للبعيث.

(2/143)


يقول أمير المؤمنين ع شتان بين يومي في الخلافة مع ما انتقض علي من الأمر و منيت به من انتشار الحبل و اضطراب أركان الخلافة و بين يوم عمر حيث وليها على قاعدة ممهدة و أركان ثابتة و سكون شامل فانتظم أمره و اطرد حاله و سكنت أيامه. قوله ع فيا عجبا أصله فيا عجبي كقولك يا غلامي ثم قلبوا الياء ألفا فقالوا يا عجبا كقولهم يا غلاما فإن وقفت وقفت على هاء السكت فقلت يا عجباه و يا غلاماه قال العجب منه و هو يستقيل المسلمين من الخلافة أيام حياته فيقول أقيلوني ثم يعقدها عند وفاته لآخر و هذا يناقض الزهد فيها و الاستقالة منها و قال شاعر من شعراء الشيعة
حملوها يوم السقيفة أوزارا تخف الجبال و هي ثقال
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 169ثم جاءوا من بعدها يستقيلون و هيهات عثرة لا تقاو قد اختلف الرواة في هذه اللفظة فكثير من الناس رواها أقيلوني فلست بخيركم و من الناس من أنكر هذه اللفظة و لم يروها و إنما روى قوله وليتكم و لست بخيركم و احتج بذلك من لم يشترط الأفضلية في الإمامة و من رواها اعتذر لأبي بكر فقال إنما قال أقيلوني ليثور ما في نفوس الناس من بيعته و يخبر ما عندهم من ولايته فيعلم مريدهم و كارههم و محبهم و مبغضهم فلما رأى النفوس إليه ساكنة و القلوب لبيعته مذعنة استمر على إمارته و حكم حكم الخلفاء في رعيته و لم يكن منكرا منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته. قالوا و قد جرى مثل ذلك لعلي ع فإنه قال للناس بعد قتل عثمان
دعوني و التمسوا غيري فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا و قال لهم اتركوني فأنا كأحدكم بل أنا أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم

(2/144)


فأبوا عليه و بايعوه فكرهها أولا ثم عهد بها إلى الحسن ع عند موته. قالت الإمامية هذا غير لازم و الفرق بين الموضعين ظاهر لأن عليا ع لم يقل إني لا أصلح و لكنه كره الفتنة و أبو بكر قال كلاما معناه أني لا أصلح لها لقوله لست بخيركم و من نفى عن نفسه صلاحيته للإمامة لا يجوز أن يعهد بها إلى غيره. و اعلم أن الكلام في هذا الموضع مبني على أن الأفضلية هل هي شرط في الإمامة أم لا و قد تكلمنا في شرح الغرر لشيخنا أبي الحسين رحمه الله تعالى في هذا البحث بما لا يحتمله هذا الكتاب شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 170و قوله ع لشد ما ترا ضرعيها شد أصله شدد كقولك حب في حبذا أصله حبب و معنى شد صار شديدا جدا و معنى حب صار حبيبا قال البحتري
شد ما أغريت ظلوم بهجري بعد وجدي بها و غلة صدري

(2/145)


و للناقة أربعة أخلاف خلفان قادمان و خلفان آخران و كل اثنين منهما شطر و تشطرا ضرعيها اقتسما فائدتهما و نفعهما و الضمير للخلافة و سمى القادمين معا ضرعا و سمى الآخرين معا ضرعا لما كانا لتجاورهما و لكونهما لا يحلبان إلا معا كشي ء واحد. قوله ع فجعلها في حوزة خناء أي في جهة صعبة المرام شديدة الشكيمة و الكلم الجرح. و قوله يغلظ من الناس من قال كيف قال يغلظ كلمها و الكلم لا يوصف بالغلظ و هذا قلة فهم بالفصاحة أ لا ترى كيف قد وصف الله سبحانه العذاب بالغلظ فقال وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي متضاعف لأن الغليظ من الأجسام هو ما كثف و جسم فكان أجزاؤه و جواهره متضاعفة فلما كان العذاب أعاذنا الله منه متضاعفا سمي غليظا و كذلك الجرح إذا أمعن و عمق فكأنه قد تضاعف و صار جروحا فسمي غليظا. إن قيل قد قال ع في حوزة خشناء فوصفها بالخشونة فكيف أعاد ذكر الخشونة ثانية فقال يخشن مسها. قيل الاعتبار مختلف لأن مراده بقوله في حوزة خشناء أي لا ينال ما عندها و لا يرام يقال إن فلانا لخشن الجانب و وعر الجانب و مراده بقوله يخشن شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 171مسها أي تؤذي و تضر و تنكئ من يمسها يصف جفاء أخلاق الوالي المذكور و نفور طبعه و ش بادرته. قوله ع و يكثر العثار فيها و الاعتذار منها يقول ليست هذه الجهة جددا مهيعا بل هي كطريق كثير الحجارة لا يزال الماشي فيه عاثرا. و أما منها في قوله ع و الاعتذار منها فيمكن أن تكون من على أصلها يعني أن عمر كان كثيرا ما يحكم بالأمر ثم ينقضه و يفتي بالفتيا ثم يرجع عنها و يعتذر مما أفتى به أولا و يمكن أن تكون من هاهنا للتعليل و السببية أي و يكثر اعتذار الناس عن أفعالهم و حركاتهم لأجلها قال
أ من رسم دار مربع و مصيف لعينيك من ماء الشئون و كيف

(2/146)


أي لأجل أن رسم المربع و المصيف هذه الدار و كف دمع عينيك. و الصعبة من النوق ما لم تركب و لم ترض إن أشنق لها راكبها بالزمام خرم أنفها و إن أسلس زمامها تقحم في المهالك فألقته في مهواة أو ماء أو نار أو ندت فلم تقف حتى ترديه عنها فهلك. و أشنق الرجل ناقته إذا كفها بالزمام و هو راكبها و اللغة المشهورة شنق ثلاثية و في الحديث أن طلحة أنشد قصيدة فما زال شانقا راحلته حتى كتبت له و أشنق البعير نفسه إذا رفع رأسه يتعدى و لا يتعدى و أصله من الشناق و هو خيط يشد به فم القربة. و قال الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى إنما قال ع أشنق لها و لم يقل أشنقها لأنه جعل ذلك في مقابلة قوله أسلس لها و هذا حسن فإنهم إذا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 172قصدوا الازدواج في الخطابة فعلوا مثل هذا قالوا الغدايا و العشايا و الأصل الغدوات جمع غدوة و قال ص ارجعن مأزورات غير مأجورات
و أصله موزورات بالواو لأنه من الوزر. و قال الرضي رحمه الله تعالى و مما يشهد على أن أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي
ساءها ما لها تبين في الأيدي و إشناقها إلى الأعناق
قلت تبين في هذا البيت فعل ماض تبين يتبين تبينا و اللام في لها تتعلق بتبين يقول ظهر لها ما في أيدينا فساءها و هذا البيت من قصيدة أولها
ليس شي ء على المنون بباق غير وجه المسبح الخلاقو قد كان زارته بنية له صغيرة اسمها هند و هو في الحبس حبس النعمان و يداه مغلولتان إلى عنقه فأنكرت ذلك و قالت ما هذا الذي في يدك و عنقك يا أبت و بكت فقال هذا الشعر و قبل هذا البيت

(2/147)


و لقد غمني زيارة ذي قربى صغير لقربنا مشتاق ساءها ما لها تبين في الأيدي و إشناقها إلى الأعناقأي ساءها ما ظهر لها من ذلك و يروى ساءها ما بنا تبين أي ما بان و ظهر و يروى ما بنا تبين بالرفع على أنه مضارع. و يروى إشناقها بالرفع عطفا على ما التي هي بمعنى الذي و هي فاعلة و يروى بالجر عطفا على الأيدي. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 173و قال الرضي رحمه الله الى أيضا و يروى أن رسول الله ص خطب الناس و هو على ناقة قد شنق لها و هي تقصع بجرتها. قلت الجرة ما يعلو من الجوف و تجتره الإبل و الدرة ما يسفل و تقصع بها تدفع و قد كان للرضي رحمه الله تعالى إذا كانت الرواية قد وردت هكذا أن يحتج بها على جواز أشنق لها فإن الفعل في الخبر قد عدي باللام لا بنفسه قوله ع فمني الناس أي بلي الناس قال
منيت بزمردة كالعصا
و الخبط السير على غير جادة و الشماس النفار و التلون التبدل و الاعتراض السير لا على خط مستقيم كأنه يسير عرضا في غضون سيره طولا و إنما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط و بعير عرضي يعترض في مسيره لأنه لم يتم رياضته و في فلان عرضية أي عجرفة و صعوبة
طرف من أخبار عمر بن الخطاب

(2/148)


و كان عمر بن الخطاب صعبا عظيم الهيبة شديد السياسة لا يحابي أحدا و لا يراقب شريفا و لا مشروفا و كان أكابر الصحابة يتحامون و يتفادون من لقائه كان أبو سفيان بن حرب في مجلس عمر و هناك زياد ابن سمية و كثير من الصحابة فتكلم زياد فأحسن و هو يومئذ غلام فقال علي ع و كان حاضرا لأبي سفيان و هو إلى جانبه لله هذا الغلام لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه فقال له أبو سفيان أما و الله لو عرفت أباه لعرفت أنه من خير أهلك قال و من أبوه قال أنا وضعته و الله في رحم أمه فقال علي ع فما يمنعك من استلحاقه قال أخاف هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 174و قيل لابن عباس لما أظهر قوله في العول بعد موت عمر و لم يكن قبل يظهره هلا قلت هذا و عمر حي قال هبته و كان امرأ مهابا. و استدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر و كانت حاملا فلشدة هيبته ألقت ما في بطنها فأجهضت به جنينا ما فاستفتى عمر أكابر الصحابة في ذلك فقالوا لا شي ء عليك إنما أنت مؤدب فقال له علي ع إن كانوا راقبوك فقد غشوك و إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا عليك غرة يعني عتق رقبة فرجع عمر و الصحابة إلى قوله. و عمر هو الذي شد بيعة أبي بكر و وقم المخالفين فيها فكسر سيف ازبير لما جرده و دفع في صدر المقداد و وطئ في السقيفة سعد بن عبادة و قال اقتلوا سعدا قتل الله سعدا و حطم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب و توعد من لجأ إلى دار فاطمة ع من الهاشميين و أخرجهم منها و لولاه لم يثبت لأبي بكر أمر و لا قامت له قائمة. و هو الذي ساس العمال و أخذ أموالهم في خلافته و ذلك من أحسن السياسات. و روى الزبير بن بكار قال لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق و صامت فكتب إليه أما بعد فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك و لا كان لك مال قبل أن أستعملك فأنى لك هذا فو الله لو لم يهمني في ذات

(2/149)


الله إلا من اختان في مال الله لكثر همي و انتثر أمري و لقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك و لكني قلدتك رجاء غنائك فاكتب إلي من أين لك هذا المال و عجل.
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 175فكتب إليه عمرو أما بعد فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين فأما ما ظهر لي من مال فأنا قدمنا بلادا رخيصة الأسعار كثيرة الغزو فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها و و الله لو كانت خيانتك حلالا ما خنتك و قد ائتمنتنفإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك و ذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني فإذا كان ذاك فو الله ما دققت لك يا أمير المؤمنين بابا و لا فتحت لك قفلا فكتب إليه عمر أما بعد فإني لست من تسطيرك الكتاب و تشقيقك الكلام في شي ء و لكنكم معشر لأمراء قعدتم على عيون الأموال و لن تعدموا عذرا و إنما تأكلون النار و تتعجلون العار و قد وجهت إليك محمد بن مسلمة فسلم إليه شطر مالك. فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاما و دعاه فلم يأكل و قال هذه تقدمة الشر و لو جئتني بطعام الضيف لأكلت فنح عني طعامك و أحضر لي مالك فأحضره فأخذ شطره فلما رأى عمرو كثرة ما أخذ منه قال لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر و الله لقد رأيت عمر و أباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية لا تجاوز مأبض ركبتيه و على عنقه حزمة حطب و العاص بن وائل في مزررات الديباج فقال محمد إيها عنك يا عمرو فعمر و الله خير منك و أما أبوك و أبوه فإنهما في النار و لو لا الإسلام لألفيت معتلقا شاة يسرك غزرها و يسوؤك بكوؤها قال صدقت فاكتم علي قال أفعل قال الربيع بن زياد الحارثي كنت عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 176فكتب إليه عمر بالقدوم عه هو و عماله و أن يستخلفوا جميعا فلما قدمنا المدينة أتيت يرفأ حاجب عمر فقلت يا يرفأ مسترشد و ابن سبيل أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله فأومأ

(2/150)


إلي بالخشونة فاتخذت خفين مطارقين و لبست جبة صوف و لثت عمامتي على رأسي ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه فصعد بصره فينا و صوب فلم تأخذ عينه أحدا غيري فدعاني فقال من أنت قلت الربيع بن زياد الحارثي قال و ما تتولى من أعمالنا قلت البحرين قال كم ترزق قلت ألفا قال كثير فما تصنع به قلت أتقوت منه شيئا و أعود بباقيه على أقارب لي فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين قال لا بأس ارجع إلى موضعك فرجعت إلى موضعي من الصف فصعد فينا و صوب فلم تقع عينه إلا علي فدعاني فقال كم سنك قلت خمس و أربعون فقال الآن حيث استحكمت ثم دعا بالطعام و أصحابي حديث عهدهم بلين العيش و قد تجوعت له فأتى بخبز يابس و أكسار بعير فجعل أصحابي يعافون ذلك و جعلت آكل فأجيد و أنا أنظر إليه و هو يلحظني من بينهم ثم سبقت مني كلمة تمنيت لها أني سخت في الأرض فقلت يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا فزجرني ثم قال كيف قلت فقلت يا أمير المؤمنين أن تنظر إلى قوتك من الطحين فيخبز قبل إرادتك إياه بيوم و يطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز لينا و باللحم غريضا فسكن من غربه و قال أ هاهنا غرت قلت نعم فقال يا ربيع إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق و سبائك و صناب و لكني رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ شرح نهجلبلاغة ج : 1 ص : 177فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا

(2/151)


ثم أمر أبا موسى بإقراري و أن يستبدل بأصحابي. أسلم عمر بعد جماعة من الناس و كان سبب إسلامه أن أخته و بعلها أسلما سرا من عمر فدخل إليهما خباب بن الأرت يعلمهما الدين خفية فوشى بهم واش إلى عمر فجاء دار أخته فتوارى خباب منه داخل البيت فقال عمر ما هذه الهينمة عندكم قالت أخته ما عدا حديثا تحدثناه بيننا قال أراكما قد صبوتما قال ختنه أ رأيت إن كان هو الحق فوثب عليه عمر فوطئه وطئا شديدا فجاءت أخته فدفعته عنه فنفحها بيده فدمي وجهها ثم ندم و رق و جلس واجما فخرج إليه خباب فقال أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله لك الليلة فإنه لم يزل يدعو منذ الليلة اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام. قال فانطلق عمر متقلدا سيفه حتى أتى إلى الدار التي فيها رسول الله ص يومئذ و هي الدار التي في أصل الصفا و على الباب حمزة و طلحة و ناس من المسلمين فوجل القوم من عمر إلا حمزة فإنه قال قد جاءنا عمر فإن يرد الله به خيرا يهده و إن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا و النبي ص داخل الدار يوحى إليه فسمع كلامهم فخرج حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه و حمائل سيفه و قال ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي و النكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة اللهم هذا عمر اللهم أعز الإسلام بعمر فقال عمر أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله. مر يوما عمر في بعض شوارع المدينة فناداه إنسان ما أراك إلا تستعمل عمالك و تعهد إليهم العهود و ترى أن ذلك قد أجزأك كلا و الله إنك المأخوذ بهم إن لم تتعهدهم شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 178قال ما ذاك قال عياض بن غنم يلبس اللين و يأكل الطيب و يفعل كذا و كذا قال أ ساع قال بل مؤد ما عليه فقال لمحمد بن مسلمة الحق بعياض بن غنم فأتني به كما تجده فمضى محمد بن مسلمة حتى أتى باب عياض و هو أمير على حمص و إذا عليهواب فقال له قل لعياض على بابك رجل يريد أن يلقاك قال ما تقول قال

(2/152)


قل له ما أقول لك فقام كالمعجب فأخبره فعرف عياض أنه أمر حدث فخرج فإذا محمد بن مسلمة فأدخله فرأى على عياض قميصا رقيقا و رداء لينا فقال إن أمير المؤمنين أمرني ألا أفارقك حتى آتيه بك كما أجدك فأقدمه على عمر و أخبره أنه وجده في عيش ناعم فأمر له بعصا و كساء و قال اذهب بهذه الغنم فأحسن رعيها فقال الموت أهون من ذلك فقال كذبت و لقد كان ترك ما كنت عليه أهون عليك من ذلك فساق الغنم بعصاه و الكساء في عنقه فلما بعد رده و قال أ رأيت إن رددتك إلى عملك أ تصنع خيرا قال نعم و الله يا أمير المؤمنين لا يبلغك مني بعدها ما تكره فرده إلى عمله فلم يبلغه عنه بعدها ما ينقمه عليه. كان الناس بعد وفاة رسول الله ص يأتون الشجرة التي كانت بيعة الرضوان تحتها فيصلون عندها فقال عمر أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد ثم أمر بها فقطعت. لما مات رسول الله ص و شاع بين الناس موته طاف عمر على الناس قائلا إنه لم يمت و لكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه و ليرجعن فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم يزعمون أنه مات فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا و يخبطه و يتوعده حتى جاء أبو بكر فقال أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات

(2/153)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 179و من كان يعبد رب محمد فإنه حي لم يمت ثم تلا قوله تعالى أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ قالوا فو الله لكان الناس ما سمعوا هذه الآية حتى تلاها أبو بكر و قال عمر لما سمعته يتلوها هويت إلى الأرض و علمتن رسول الله قد مات. لما قتل خالد مالك بن نويرة و نكح امرأته كان في عسكره أبو قتادة الأنصاري فركب فرسه و التحق بأبي بكر و حلف ألا يسير في جيش تحت لواء خالد أبدا فقص على أبي بكر القصة فقال أبو بكر لقد فتنت الغنائم العرب و ترك خالد ما أمر به فقال عمر إن عليك أن تقيده بمالك فسكت أبو بكر و قدم خالد فدخل المسجد و عليه ثياب قد صدئت من الحديد و في عمامته ثلاثة أسهم فلما رآه عمر قال أ رياء يا عدو الله عدوت على رجل من المسلمين فقتلته و نكحت امرأته أما و الله إن أمكنني الله منك لأرجمنك ثم تناول الأسهم من عمامته فكسرها و خالد ساكت لا يرد عليه ظنا أن ذلك عن أمر أبي بكر و رأيه فلما دخل إلى أبي بكر و حدثه صدقه فيما حكاه و قبل عذره فكان عمر يحرض أبا بكر على خالد و يشير عليه أن يقتص منه بدم مالك فقال أبو بكر إيها يا عمر ما هو بأول من أخطأ فارفع لسانك عنه ثم ودى مالكا من بيت مال المسلمين. لما صالح خالد أهل اليمامة و كتب بينه و بينهم كتاب الصلح و تزوج ابنة مجاعة بن مرارة الحنفي وصل إليه كتاب أبي بكر لعمري يا ابن أم خالد إنك لفارغ حتى تزوج النساء و حول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد في كلام أغلظ له فيه فقال خالد هذا الكتاب ليس من عمل أبي بكر هذا عمل الأعيسر يعني عمر شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 180عزل عمر خالدا عن إمارة حمص في سنة سبع عشرة و إقامة للناس و عقله بعمامته و نزع قلنسوته عن رأسه و قال أعلمني من أين لك هذا المال و ذلك أنه أجاز الأشعث بن قيس بعشرة آلاف درهم فقال من الأنفال و السهمان فقال لا و الله لا تعمل لي عا بعد اليوم و شاطره ماله و

(2/154)


كتب إلى الأمصار بعزله و قال إن الناس فتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه و أحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع. لما أسر الهرمزان حمل إلى عمر من تستر إلى المدينة و معه رجال من المسلمين منهم الأحنف بن قيس و أنس بن مالك فأدخلوه المدينة في هيئته و تاجه و كسوته فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه فقال الهرمزان و أين عمر قالوا ها هو ذا قال أين حرسه قالوا لا حاجب له و لا حارس قال فينبغي أن يكون هذا نبيا قالوا إنه يعمل بعمل الأنبياء و استيقظ عمر فقال الهرمزان فقالوا نعم قال لا أكلمه أو لا يبقى عليه من حليته شي ء فرموا ما عليه و ألبسوه ثوبا صفيقا فلما كلمه عمر أمر أبا طلحة أن ينتضي سيفه و يقوم على رأسه ففعل ثم قال له ما عذرك في نقض الصلح و نكث العهد و قد كان الهرمزان صالح أولا ثم نقض و غدر فقال أخبرك قال قل قال و أنا شديد الطش فاسقني ثم أخبرك فأحضر له ماء فلما تناوله جعلت يده ترعد قال ما شأنك قال أخاف أن أمد عنقي و أنا أشرب فيقتلني سيفك قال لا بأس عليك حتى تشرب فألقى الإناء عن يده فقال ما بالك أعيدوا عليه الماء و لا تجمعوا عليه بين القتل و العطش قال إنك قد أمنتني قال كذبت قال لم أكذب قال أنس صدق يا أمير المؤمنين قال ويحك يا أنس أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور و البراء بن مالك و الله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك قال أنت يا أمير المؤمنين قلت لا بأس عليك حتى تشرب و قال له ناس من المسلمين

(2/155)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 181مثل قول أنس فقال للهرمزان ويحك أ تخدعني و الله لأقتلنك إلا أن تسلم ثم أومأ إلى أبي طلحة فقال الهرمزان أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله فأمنه و أنزله المدينة. سأل عمر عمرو بن معديكرب عن السلاح فقال له ما تقولي الرمح قال أخوك و ربما خانك قال فالنبل قال رسل المنايا تخطئ و تصيب قال فالدرع قال مشغلة للفارس متعبة للراجل و إنها مع ذلك لحصن حصين قال فالترس قال هو المجن و عليه تدور الدوائر قال فالسيف قال هناك قارعت أمك الهبل قال بل أمك قال و الحمى أضرعتني لك. و أول من ضرب عمر بالدرة أم فروة بنت أبي قحافة مات أبو بكر فناح النساء عليه و فيهن أخته أم فروة فنهاهن عمر مرارا و هن يعاودن فأخرج أم فروة من بينهن و علاها بالدرة فهربن و تفرقن. كان يقال درة عمر أهيب من سيف الحجاج و في الصحيح أن نسوة كن عند رسول الله ص قد كثر لغطهن فجاء عمر فهربن هيبة له فقال لهن يا عديات أنفسهن أ تهبنني و لا تهبن رسول الله قلن نعم أنت أغلظ و أفظ. و كان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه و يفتي بضده و خلافه قضى في الجد مع الإخوة قضايا كثيرة مختلفة ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 182و قال مرة لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي إلا ارتجعت ذلك منها فقالت له امرأة ما جعل الله لك ذلك إنه تعالى قال وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ أْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً فقال كل النساء أفقه من عمر حتى ربات الحجال أ لا تعجبون من إمام أخطأ و امرأة أصابت فاضلت إمامكم ففضلته. و مر يوما بشاب من فتيان الأنصار و هو ظمآن فاستسقاه فجدح له ماء بعسل فلم يشربه و قال إن الله تعالى يقول أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا فقال له الفتى يا أمير

(2/156)


المؤمنين إنها ليست لك و لا لأحد من هذه القبيلة اقرأ ما قبلها وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا فقال عمر كل الناس أفقه من عمر. و قيل إن عمر كان يعس بالليل فسمع صوت رجل و امرأة في بيت فارتاب فتسور الحائط فوجد امرأة و رجلا و عندهما زق خمر فقال يا عدو الله أ كنت ترى أن الله يسترك و أنت على معصيته قال يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث قال الله تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا و قد تجسست و قال وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و قد تسورت و قال فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا و ما سلمت. و قال متعتان كانتا على عهد رسول الله و أنا محرمهما و معاقب عليهما متعة النساء و متعة الحج و هذا الكلام و إن كان ظاهره منكرا فله عندنا مخرج و تأويل و قد ذكره أصحابنا الفقهاء في كتبهم. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 183و كان في أخلاق عمر و ألفاظه جفاء و عنجهية ظاهرة يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن قد أراد و يتوهم من تحكى له أنه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده فمنها الكلمة التي قها في مرض رسول الله ص و معاذ الله أن يقصد بها ظاهرها و لكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته و لم يتحفظ منها و كان الأحسن أن يقول مغمور أو مغلوب بالمرض و حاشاه أن يعني بها غير ذلك. و لجفاة الأعراب من هذا الفن كثير سمع سليمان بن عبد الملك أعرابيا يقول في سنة قحط
رب العباد ما لنا و ما لكا قد كنت تسقينا فما بدا لكاأنزل علينا القطر لا أبا لكا

(2/157)


فقال سليمان أشهد أنه لا أب له و لا صاحبه و لا ولد فأخرجه أحسن مخرج. و على نحو هذا يحتمل كلامه في صلح الحديبية لما قال للنبي ص أ لم تقل لنا ستدخلونها في ألفاظ نكره حكايتها حتى شكاه النبي ص إلى أبي بكر و حتى قال له أبو بكر الزم بغرزه فو الله إنه لرسول الله. و عمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة بل مفارقة دار الإسلام كلها و عاد مرتدا داخلا في دين النصرانية لأجل لطمة لطمها و قال جبلة بعد ارتداده متندما على ما فعل
تنصرت الأشراف من أجل لطمة و ما كان فيها لو صبرت لها ضررفيا ليت أمي لم تلدني و ليتني رجعت إلى القول الذي قاله عمر
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 184حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أَقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَ مَالَ الآْخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ
اللام في يا لله مفتوحة و اللام في و للشورى مكسورة لأن الأولى للمدعو و الثانية للمدعو إليه قال
يا للرجال ليوم الأربعاء أما ينفك يحدث لي بعد النهي طربا
اللام في للرجال مفتوحة و في ليوم مكسورة و أسف الرجل إذا دخل في الأمر الدني ء أصله من أسف الطائر إذا دنا من الأرض في طيرانه و الضغن الحقد. و قوله مع هن و هن أي مع أمور يكنى عنها و لا يصرح بذكرها و أكثر ما يستعمل ذلك في الشر قال على هنوات شرها متتابع

(2/158)


يقول ع إن عمر لما طعن جعل الخلافة في ستة هو ع أحدهم ثم تعجب من ذلك فقال متى اعترض الشك في مع أبي بكر حتى أقرن بسعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف و أمثالهما لكني طلبت الأمر و هو موسوم بالأصاغر منهم كما طلبته أولا و هو موسوم بأكابرهم أي هو حقي فلا أستنكف من طلبه إن كان المنازع فيه جليل القدر أو صغير المنزلة. و صغا الرجل بمعنى مال الصغو الميل بالفتح و الكسر شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 18قصة الشورى
و صورة هذه الواقعة أن عمر لما طعنه أبو لؤلؤة و علم أنه ميت استشار فيمن يوليه الأمر بعده فأشير عليه بابنه عبد الله فقال لاها الله إذا لا يليها رجلان من ولد الخطاب حسب عمر ما حمل حسب عمر ما احتقب لاها الله لا أتحملها حيا و ميتا ثم قال إن رسول الله مات و هو راض عن هذه الستة من قريش علي و عثمان و طلحة و الزبير و سعد و عبد الرحمن بن عوف و قد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم ثم قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر و إن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله ص ثم قال ادعوهم لي فدعوهم فدخلوا عليه و هو ملقى على فراشه يجود بنفسه. فنظر إليهم فقال أ كلكم يطمع في الخلافة بعدي فوجموا فقال لهم ثانية فأجابه الزبير و قال و ما الذي يبعدنا منها وليتها أنت فقمت بها و لسنا دونك في قريش و لا في السابقة و لا في القرابة. قال الشيخ أبو عثمان الجاحظ و الله لو لا علمه أن عمر يموت في مجلسه ذلك لم يقدم على أن يفوه من هذا الكلام بكلمة و لا أن ينبس منه بلفظة. فقال عمر أ فلا أخبركم عن أنفسكم قال قل فإنا لو استعفيناك لم تعفنا فقال أما أنت يا زبير فوعق لقس مؤمن الرضا كافر الغضب يوما إنسان و يوما شيطان و لعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير أ فرأيت إن أفضت إليك فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطانا و من يكون يوم تغضب و ما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة و أنت على

(2/159)


هذه الصفة. ثم أقبل على طلحة و كان له مبغضا منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر فقال له أقول أم أسكت قال قل فإنك لا تقول من الخير شيئا قال أما إني أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أحد و البأو الذي حدث لك و لقد مات رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 186ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب. قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رحمه له تعالى الكلمة المذكورة أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول الله ص ما الذي يغنيه حجابهن اليوم و سيموت غدا فننكحهن قال أبو عثمان أيضا لو قال لعمر قائل أنت قلت إن رسول الله ص مات و هو راض عن الستة فكيف تقول الآن لطلحة إنه مات ع ساخطا عليك للكلمة التي قلتها لكان قد رماه بمشاقصه و لكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا فكيف هذا. قال ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص فقال إنما أنت صاحب مقنب من هذه المقانب تقاتل به و صاحب قنص و قوس و أسهم و ما زهرة و الخلافة و أمور الناس. ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال و أما أنت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك به و لكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك و ما زهرة و هذا الأمر. ثم أقبل على علي ع فقال لله أنت لو لا دعابة فيك أما و الله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح و المحجة البيضاء ثم أقبل على عثمان فقال هيها إليك كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك فحملت بني أمية و بني أبي معيط على رقاب الناس و آثرتهم بالفي ء فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحا و الله لئن فعلوا لتفعلن و لئن فعلت ليفعلن ث أخذ بناصيته فقال فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه كائن. ذكر هذا الخبر كله شيخنا أبو عثمان في كتاب السفيانية و ذكره جماعة غيره في باب فراسة عمر و ذكر أبو عثمان في هذا الكتاب عقيب رواية هذا الخبر قال و روى

(2/160)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 187معمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لأهل الشورى إنكم إن تعاونتم و توازرتم و تناصحتم أكلتموها و أولادكم و إن تحاسدتم و تقاعدتم و تدابرتم و تباغضتم غلبكم على هذا الأمر معاويةن أبي سفيان و كان معاوية حينئذ أمير الشام. ثم رجع بنا الكلام إلى تمام قصة الشورى ثم قال ادعوا إلي أبا طلحة الأنصاري فدعوه له فقال انظر يا أبا طلحة إذا عدتم من حفرتي فكن في خمسين رجلا من الأنصار حاملي سيوفكم فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر و تعجيله و اجمعهم في بيت و قف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا و يختاروا واحدا منهم فإن اتفق خمسة و أبى واحد فاضرب عنقه و إن اتفق أربعة و أبى اثنان فاضرب أعناقهما و إن اتفق ثلاثة و خالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن فارجع إلى ما قد اتفقت عليه فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها و إن مضت ثلاثة أيام و لم يتفقوا على أمر فاضرب أعناق الستة و دع المسلمين يختاروا لأنفسهم. فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة و وقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار حاملي سيوفهم ثم تكلم القوم و تنازعوا فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان و ذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به عليا و عثمان و أن الخلافة لا تخلص له و هذان موجودان فأراد تقوية أمر عثمان و إضعاف جانب علي ع بهبة أمر لا انتفاع له به و لا تمكن له منه. فقال الزبير في معارضته و أنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي و إنما فعل ذلك لأنه لما رأى عليا قد ضعف و انخزل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حمية النسب لأنه ابن عمة أمير المؤمنين ع و هي صفية بنت عبد المطلب و أبو طالب خاله و إنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علي ع باعتبار أنه

(2/161)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 188تيمي و ابن عم أبي بكر الصديق و قد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لأجل الخلافة و كذلك صار في صدور تيم على بني هاشم و هذا أمر مركوز في طبيعة البشر و خصوصا طينة العرب و طباعها و التجربة إلى الآن تحقق ذلك فبقي من اتة أربعة. فقال سعد بن أبي وقاص و أنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن و ذلك لأنهما من بني زهرة و لعلم سعد أن الأمر لا يتم له فلما لم يبق إلا الثلاثة قال عبد الرحمن لعلي و عثمان أيكما يخرج نفسه من الخلافة و يكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين فلم يتكلم منهما أحد فقال عبد الرحمن أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما فأمسكا فبدأ بعلي ع و قال له أبايعك على كتاب الله و سنة رسول الله و سيرة الشيخين أبي بكر و عمر فقال بل على كتاب الله و سنة رسوله و اجتهاد رأيي فعدل عنه إلى عثمان فعرض ذلك عليه فقال نعم فعاد إلى علي ع فأعاد قوله فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثا فلما رأى أن عليا غير راجع عما قاله و أن عثمان ينعم له بالإجابة صفق على يد عثمان و قال السلام عليك يا أمير المؤمنين فيقال إن عليا ع قال له و الله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم. قيل ففسد بعد ذلك بين عثمان و عبد الرحمن فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن

(2/162)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 189ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل أما قوله ع فصغا رجل منهم لضغنه فإنه يعني طلحة و قال القطب الراوندي يعني سعد بن أبي وقاص لأن عليا ع قتل أباه يوم بدر و هذا خطأ فإن أباه أبو وقاص و اسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بنرة بن كعب بن لؤي بن غالب مات في الجاهلية حتف أنفه. و أما قوله و مال الآخر لصهره يعني عبد الرحمن مال إلى عثمان لأن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت تحته و أم كلثوم هذه هي أخت عثمان من أمه أروى بنت كريز. و روى القطب الراوندي أن عمر لما قال كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها
قال ابن عباس لعلي ع ذهب الأمر منا الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان فقال علي ع و أنا أعلم ذلك و لكني أدخل معهم في الشورى لأن عمر قد أهلني الآن للخلافة و كان قبل ذلك يقول إن رسول الله ص قال إن النبوة و الإمامة لا يجتمعان في بيت فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته

(2/163)


الذي ذكره الراوندي غير معروف و لم ينقل عمر هذا عن رسول الله ص و لكنه قال لعبد الله بن عباس يوما يا عبد الله ما تقول منع قومكم منكم قال لا أعلم يا أمير المؤمنين قال اللهم غفرا إن قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة و الخلافة فتذهبون في السماء بذخا و شمخا لعلكم تقولون إن أبا بكر أراد الإمرة عليكم و هضمكم كلا لكنه حضره أمر لم يكن عنده أحزم مما فعل و لو لا رأي أبي بكر شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 190في بعد موته لأعاد أمركم إليكم و لو فعل ما هنأكم مع قومكم إنهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره. فأما الرواية التي جاءبأن طلحة لم يكن حاضرا يوم الشورى فإن صحت فذو الضغن هو سعد بن أبي وقاص لأن أمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس و الضغينة التي عنده على علي ع من قبل أخواله الذين قتل صناديدهم و تقلد دماءهم و لم يعرف أن عليا ع قتل أحدا من بني زهرة لينسب الضغن إليه. و هذه الرواية هي التي اختارها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ قال لما طعن عمر قيل له لو استخلفت يا أمير المؤمنين فقال من أستخلف لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته و قلت لربي لو سألني
سمعت نبيك يقول أبو عبيدة أمين هذه الأمة
و لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته و قلت لربي إن سألني
سمعت نبيك ع يقول إن سالما شديد الحب لله

(2/164)


فقال له رجل ول عبد الله بن عمر فقال قاتلك الله و الله ما الله أردت بهذا الأمر ويحك كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته لا أرب لعمر في خلافتكم ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي إن تك خيرا فقد أصبنا منه و إن تك شرا يصرف عنا حسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد و يسأل عن أمر أمة محمد. فخرج الناس من عنده ثم راحوا إليه فقالوا له لو عهدت عهدا قال قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أولي أمركم رجلا هو أحراكم أن يحملكم على الحق شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 191و أشار إلى علي ع فرهقتني غشية فرأيت رجلا يدخل جنة قد غرسها فجعيقطف كل غضة و يانعة فيضمها إليه و يصيرها تحته فخفت أن أتحملها حيا و ميتا و علمت أن الله غالب أمره عليكم بالرهط الذي قال رسول الله عنهم إنهم من أهل الجنة ثم ذكر خمسة عليا و عثمان و عبد الرحمن و الزبير و سعدا. قال و لم يذكر في هذا المجلس طلحة و لا كان طلحة يومئذ بالمدينة ثم قال لهم انهضوا إلى حجرة عائشة فتشاوروا فيها و وضع رأسه و قد نزفه الدم فقال العباس لعلي ع لا تدخل معهم و ارفع نفسك عنهم قال إني أكره الخلاف قال إذن ترى ما تكره فدخلوا الحجرة فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم فقال عبد الله بن عمر إن أمير المؤمنين لم يمت بعد ففيم هذا اللغط و انتبه عمر و سمع الأصوات فقال ليصل بالناس صهيب و لا يأتين اليوم الرابع من يوم موتي إلا و عليكم أمير و ليحضر عبد الله بن عمر مشيرا و ليس له شي ء من الأمر و طلحة بن عبيد الله شريككم في الأمر فإن قدم إلى ثلاثة أيام فأحضروه أمركم و إا فأرضوه و من لي برضا طلحة فقال سعد أنا لك به و لن يخالف إن شاء الله تعالى. ثم ذكر وصيته لأبي طلحة الأنصاري و ما خص به عبد الرحمن بن عوف من كون الحق في الفئة التي هو فيها و أمره بقتل من يخالف ثم خرج الناس

(2/165)


فقال علي ع لقوم معه من بني هاشم إن أطيع فيكم قومكم من قريش لم تؤمروا أبدا و قال للعباس عدل بالأمر عني يا عم قال و ما علمك قال قرن بي عثمان
و قال عمر كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا و رجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن فسعد لا يخالف ابن عمه و عبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان فيوليها أحدهما الآخر فلو كان الآخران معي لم يغنيا شيئا فقال العباس لم أدفعك إلى شي ء إلا رجعت إلي شرح نهج ااغة ج : 1 ص : 192مستأخرا بما أكره أشرت عليك عند مرض رسول الله ص أن تسأله عن هذا الأمر فيمن هو فأبيت و أشرت عليك عند وفاته أن تعاجل البيعة فأبيت و قد أشرت عليك حين سماك عمر في الشورى اليوم أن ترفع نفسك عنها و لا تدخل معهم فيها فأبيت فاحفظ عني واحدة كلما عرض عليك القوم الأمر فقل لا إلا أن يولوك و اعلم أن هؤلاء لا يبرحون يدفعونك عن هذا الأمر حتى يقوم لك به غيرك و ايم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير فقال ع أما إني أعلم أنهم سيولون عثمان و ليحدثن البدع و الأحداث و لئن بقي لأذكرنك و إن قتل أو مات ليتداولنها بنو أمية بينهم و إن كنت حيا لتجدني حيث تكرهون ثم تمثل
حلفت برب الراقصات عشية غدون خفافا يبتدرن المحصباليجتلبن رهط ابن يعمر غدوة نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا

(2/166)


قال ثم التفت فرأى أبا طلحة الأنصاري فكره مكانه فقال أبو طلحة لا ترع أبا حسن فلما مات عمر و دفن و خلوا بأنفسهم للمشاورة في الأمر و قام أبو طلحة يحجبهم بباب البيت جاء عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد و أقامهما و قال إنما تريدان أن تقولا حضرنا و كنا في أصحاب الشورى. فتنافس القوم في الأمر و كثر بينهم الكلام فقال أبو طلحة أنا كنت لأن تدافعوها أخوف مني عليكم أن تنافسوها أما و الذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي وقفت لكم فاصنعوا ما بدا لكم. قال ثم إن عبد الرحمن قال لابن عمه سعد بن أبي وقاص إني قد كرهتها و سأخلع نفسي منها لأني رأيت الليلة روضة خضراء كثيرة العشب فدخل فحل ما رأيت شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 193أكرم منه فمر كأنه سهم لم يلتفت إلى شي ء منها حتى قطعها لم يعرج و دخل بعير يتلوه تابع أثره حتى خرج منها ثم دخل فحل عبقرير خطامه و مضى قصد الأولين ثم دخل بعير رابع فوقع في الروضة يرتع و يخضم و لا و الله لا أكون الرابع و إن أحدا لا يقوم مقام أبي بكر و عمر فيرضى الناس عنه. ثم ذكر خلع عبد الرحمن نفسه من الأمر على أن يوليها أفضلهم في نفسه و أن عثمان أجاب إلى ذلك و أن عليا ع سكت فلما روجع رضي على موثق أعطاه عبد الرحمن أن يؤثر الحق و لا يتبع الهوى و لا يخص ذا رحم و لا يألو الأمة نصحا و أن عبد الرحمن ردد القول بين علي و عثمان متلوما و أنه خلا بسعد تارة و بالمسور بن مخرمة الزهري تارة أخرى و أجال فكره و أعمل نظره و وقف موقف الحائر بينهما قال
قال علي ع لسعد بن أبي وقاص يا سعد اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ أسألك برحم ابني هذا من رسول الله ص و برحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا

(2/167)


قلت رحم حمزة من سعد هي أن أم حمزة هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة و هي أيضا أم المقوم و حجفل و اسمه المغيرة و الغيداق أبناء عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف هؤلاء الأربعة بنو عبد المطلب من هالة و هالة هذه هي عمة سعد بن أبي وقاص فحمزة إذن ابن عمة سعد و سعد ابن خال حمزة. قال أبو جعفر فلما أتى اليوم الثالث جمعهم عبد الرحمن و اجتمع الناس كافة فقال عبد الرحمن أيها الناس أشيروا علي في هذين الرجلين فقال عمار بن ياسر إن أردت ألا يختلف الناس فبايع عليا ع فقال المقداد صدق عمار و إن بايعت عليا سمعنا و أطعنا فقال عبد الله بن أبي سرح إن أردت ألا تختلف قريش شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 194فبايع عثمان قال عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي صدق إن بايعت عثمان سمعنا و أطعنا فشتم عمار ابن أبي سرح و قال له متى كنت تنصح الإسلام. فتكلم بنو هاشم و بنو أمية و قام عمار فقال أيها الناس إالله أكرمكم بنبيه و أعزكم بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم فقال رجل من بني مخزوم لقد عدوت طورك يا ابن سمية و ما أنت و تأمير قريش لأنفسها فقال سعد يا عبد الرحمن افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس فحينئذ عرض عبد الرحمن على علي ع العمل بسيرة الشيخين فقال بل أجتهد برأيي فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال نعم
فقال علي ع ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ و الله ما وليته الأمر إلا ليرده إليك و الله كل يوم في شأن

(2/168)


فقال عبد الرحمن لا تجعلن على نفسك سبيلا يا علي يعني أمر عمر أبا طلحة أن يضرب عنق المخالف فقام علي ع فخرج و قال سيبلغ الكتاب أجله فقال عمار يا عبد الرحمن أما و الله لقد تركته و إنه من الذين يقضون بالحق و به كانوا يعدلون فقال المقداد تالله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم وا عجبا لقريش لقد تركت رجلا ما أقول و لا أعلم أن أحدا أقضى بالعدل و لا أعلم و لا أتقى منه أما و الله لو أجد أعوانا فقال عبد الرحمن اتق الله يا مقداد فإني خائف عليك الفتنة.
و قال علي ع إني لأعلم ما في أنفسهم إن الناس ينظرون إلى قريش و قريش تنظر في صلاح شأنها فتقول إن ولي الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبدا و ما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش
قال و قدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان فتلكأ ساعة ثم بايع. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 19 و روى أبو جعفر رواية أخرى أطالها و ذكر خطب أهل الشورى و ما قاله كل منهم و ذكر كلاما قاله علي ع في ذلك اليوم و هو الحمد لله الذي اختار محمدا منا نبيا و ابتعثه إلينا رسولا فنحن أهل بيت النبوة و معدن الحكمة أمان لأهل الأرض و نجاة لمن طلب إن لنا حقا إن نعطه نأخذه و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى لو عهد إلينا رسول الله ص عهدا لأنفذنا عهده و لو قال لنا قولا لجالدنا عليه حتى نموت لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق و صلة رحم و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم اسمعوا كلامي و عوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا الجمع تنتضى فيه السيوف و تخان فيه العهود حتى لا يكون لكم جماعة و حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة و شيعة لأهل الجهالة

(2/169)


قلت و قد ذكر الهروي في كتاب الجمع بين الغريبين قوله و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و فسره على وجهين أحدهما أن من ركب عجز البعير يعاني مشقة و يقاسي جهدا فكأنه قال و إن نمنعه نصبر على المشقة كما يصبر عليها راكب عجز البعير. و الوجه الثاني أنه أراد نتبع غيرنا كما أن راكب عجز البعير يكون رديفا لمن هو أمامه فكأنه قال و إن نمنعه نتأخر و نتبع غيرنا كما يتأخر راكب البعير. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 196و قال أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل استجيبت دعوة علي ع في عثمان و عبد الرحمن فما ماتا إلا متهاجرين متعاديين أرسل عبالرحمن إلى عثمان يعاتبه و قال لرسوله قل له لقد وليتك ما وليتك من أمر الناس و إن لي لأمورا ما هي لك شهدت بدرا و ما شهدتها و شهدت بيعة الرضوان و ما شهدتها و فررت يوم أحد و صبرت فقال عثمان لرسوله قل له أما يوم بدر فإن رسول الله ص ردني إلى ابنته لما بها من المرض و قد كنت خرجت للذي خرجت له و لقيته عند منصرفه فبشرني بأجر مثل أجوركم و أعطاني سهما مثل سهامكم و أما بيعة الرضوان فإنه ص بعثني أستأذن قريشا في دخوله إلى مكة فلما قيل له إني قتلت بايع المسلمين على الموت لما سمعه عني و قال إن كان حيا فأنا أبايع عنه و صفق بإحدى يديه على الأخرى و قال يساري خير من يمين عثمان فيدك أفضل أم يد رسول الله ص و أما صبرك يوم أحد و فراري فلقد كان ذلك فأنزل الله تعالى العفو عني في كتابه فعيرتني بذنب غفره الله لي و نسيت من ذنوبك ما لا تدري أ غفر لك أم لم يغفر. لما بنى عثمان قصره طمار بالزوراء و صنع طعاما كثيرا و دعا الناس إليه كان فيهم عبد الرحمن فلما نظر للبناء و الطعام قال يا ابن عفان لقد صدقنا عليك ما كنا نكذب فيك و إني أستعيذ بالله من بيعتك فغضب عثمان و قال أخرجه عني يا غلام فأخرجوه و أمر الناس ألا يجالسوه فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس كان يأتيه فيتعلم منه القرآن و الفرائض و مرض عبد الرحمن فعاده

(2/170)


عثمان و كلمه فلم يكلمه حتى مات شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 19إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خَضْمَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ إِلَى أَنِ انْتَكَثَ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ
نافجا حضنيه رافعا لهما و الحضن ما بين الإبط و الكشح يقال للمتكبر جاء نافجا حضنيه و يقال لمن امتلأ بطنه طعاما جاء نافجا حضنيه و مراده ع هذا الثاني و النثيل الروث و المعتلف موضع العلف يريد أن همه الأكل و الرجيع و هذا من ممض الذم و أشد من قول الحطيئة الذي قيل إنه أهجى بيت للعرب
دع المكارم لا ترحل لبغيتها و اقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

(2/171)


و الخضم أكل بكل الفم و ضده القضم و هو الأكل بأطراف الأسنان و قيل الخضم أكل الشي ء الرطب و القضم أكل الشي ء اليابس و المراد على التفسيرين لا يختلف و هو أنهم على قدم عظيمة من النهم و شدة الأكل و امتلاء الأفواه و قال أبو ذر رحمه الله تعالى إن بني أمية يخضموو نقضم و الموعد لله و الماضي خضمت بالكسر و مثله قضمت. و النبتة بكسر النون كالنبات تقول نبت الرطب نباتا و نبتة و انتكث فتله انتقض و هذه استعارة و أجهز عليه عمله تمم قتله يقال أجهزت على الجريح مثل ذففت إذا أتممت قتله و كبت به بطنته كبا الجواد إذا سقط لوجهه و البطنة الإسراف في الشبع شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 19نتف من أخبار عثمان بن عفان و ثالث القوم هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف كنيته أبو عمرو و أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس. بايعه الناس بعد انقضاء الشورى و استقرار الأمر له و صحت فيه فراسة عمر فإنه أوطأ بني أمية رقاب الناس و ولاهم الولايات و أقطعهم القطائع و افتتحت إفريقية في أيامه فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان فقال عبد الرحمن بن حنبل الجمحي

(2/172)


أحلف بالله رب الأنام ما ترك الله شيئا سدى و لكن خلقت لنا فتنة لكي نبتلى بك أو تبتلى فإن الأمينين قد بينا منار الطريق عليه الهدى فما أخذا درهما غيلة و لا جعلا درهما في هوى و أعطيت مروان خمس البلاد فهيهات سعيك ممن الأمينان أبو بكر و عمر. و طلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم. و أعاد الحكم بن أبي العاص بعد أن كان رسول الله ص قد سيره ثم لم يرده أبو بكر و لا عمر و أعطاه مائة ألف درهم. و تصدق رسول الله ص بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم. و أقطع مروان فدك و قد كانت فاطمة ع طلبتها بعد وفاة أبيها ص شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 199تارة بالميراث و تارة بالنحلة فدفعت عنها. و حمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية. وعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب و هي من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين. و أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال و قد كان زوجه ابنته أم أبان فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان و بكى فقال عثمان أ تبكي أن وصلت رحمي قال لا و لكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله ص و الله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا فقال ألق المفاتيح يا ابن أرقم فأنا سنجد غيرك. و أتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة فقسمها كلها في بني أمية و أنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنة. و انضم إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون كتسيير أبي ذر رحمه الله تعالى إلى الربذة و ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه و ما أظهر من الحجاب و

(2/173)


العدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود و رد المظالم و كف الأيدي العادية و الانتصاب لسياسة الرعية و ختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين و اجتمع عليه كثير من أهل المدينة مع القوم الذين وصلوا من مصر لتعديد أحداثه عليه فقتلوه. و قد أجاب أصحابنا عن المطاعن في عثمان بأجوبة مشهورة مذكورة في كتبهم و الذي نقول نحن إنها و إن كانت أحداثا إلا أنها لم تبلغ المبلغ الذي يستباح به دمه شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 200و قد كان الواجب عليهم أن يخلعوه من الخلافة حيث لم يستصلحوه لها و لا يعجلوا بقتله و أمير المؤمنين ع أبرأ الناس من دمه و قد صرح بذلك في كثير من كلامه من ذلك قوله ع و الله ما قتلت عثمان و لا مالأت على قتله
و صدق ص فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَ النَّاسُ إِلَيَّ كَعُرْفِ الضَّبُعِ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ َ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ فَسَقَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بَلَى وَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا
عرف الضبع ثخين و يضرب به المثل في الازدحام و ينثالون يتتابعون مزدحمين و الحسنان الحسن و الحسين ع و العطفان الجانبان من المنكب إلى الورك و يروى عطافي و العطاف الرداء و هو أشبه بالحال إلا أن الرواية الأولى أشهر و المعنى خدش جانباي لشدة الاصطكاك منهم و الزحام و قال القطب الراوندي الحسنان إبهاما الرجل و هذا لا أعرفه. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 201

(2/174)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 201و قوله كربيضة الغنم أي كالقطعة الرابضة من الغنم يصف شدة ازدحامهم حوله و جثومهم بين يديه. و قال القطب الراوندي يصف بلادتهم و نقصان عقولهم لأن الغنم توصف بقلة الفطنة و هذا التفسير بعيد و غير مناسب للحال. فأما الطائفة الناكثة ف أصحاب الجمل و أما الطائفة الفاسقة فأصحاب صفين و سماهم رسول الله ص القاسطين و أما الطائفة المارقة فأصحاب النهروان و أشرنا نحن بقولنا سماهم رسول الله ص القاسطين إلى
قوله ع ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين
و هذا الخبر من دلائل نبوته ص لأنه إخبار صريح بالغيب لا يحتمل التمويه و التدليس كما تحتمله الأخبار المجملة و صدق قوله ع و المارقين
قوله أولا في الخوارج يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية
و صدق قوله ع الناكثين كونهم نكثوا البيعة بادئ بدء و قد كان ع يتلو وقت مبايعتهم له فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ. و أما أصحاب صفين فإنهم عند أصحابنا رحمهم الله مخلدون في النار لفسقهم فصح فيهم قوله تعالى وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً. و قوله ع حليت الدنيا في أعينهم تقول حلا الشي ء في فمي يحلو و حلي لعيني يحلى و الزبرج الزينة من وشي أو غيره و يقال الزبرج الذهب. فأما الآية فنحن نذكر بعض ما فيها فنقول إنه تعالى لم يعلق الوعد بترك العلو في الأرض و الفساد و لكن بترك إرادتهماو هو كقوله تعالى وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 202ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ علق الوعيد بالركون إليهم و الميل معهم و هذا شديد في الوعيد. و يروى عن أمير المؤمنين ع أنه قال إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أحسن من شراك نعل صاحبه
فيدخل تحت هذه الآية و يقال إن عمر بن عبد العزيز كان يرددها حتى قبض

(2/175)


أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ
فلق الحبة من قوله تعالى فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى و النسمة كل ذي روح من البشر خاصة. قوله لو لا حضور الحاضر يمكن أن يريد به لو لا حضور البيعة فإنها بعد عقدها تتعين المحاماة عنها و يمكن أن يريد بالحاضر من حضره من الجيش الذين يستعين بهم على الحرب و الكظة بكسر الكاف ما يعتري الإنسان من الثقل و الكرب عند الامتلاء من الطعام و السغب الجوع و قولهم قد ألقى فلان حبل فلان على غاربه شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 203أي تركه هملا يسرح حيث يشاء من غير وازع و لا مانع و الفقهاء يذكرون هذه اللفظة في كنايات الطلاق و عفطة عنز متنثره من أنفها عفطت تعفط بالكسر و أكثر ما يستعمل ذلك في النعجة فأما العنز فالمستعمل الأشهر فيها النفطة بالنون و يقولون ما له عافط و لا نافط أي نعجة و لا عنز فإن قيل أ يجوز أن يقال العفطة هاهنا الحبقة فإن ذلك يقال في العنز خاصة عفطت تعفط قيل ذلك جائز إلا أن الأحسن و الأليق بكلام أمير المؤمنين ع التفسير الأول فإن جلالته و سؤدده تقتضي أن يكون ذاك أراد لا الثاني فإن صح أنه لا يقال في العطسة عفطة إلا للنعجة قلنا إنه استعمله في العنز مجازا. يقول ع لو لا وجود من ينصرني لا كما كانت الحال عليها أولا بعد وفاة رسول الله ص فإني لم أكن حينئذ واجدا للناصر مع كوني مكلفا إلا أمكن الظالم من ظلمه لتركت الخلافة و لرفضتها الآن كما رفضتها قبل و لوجدتم هذه الدنيا عندي أهون من عطسة عنز و هذا إشارة إلى ما يقوله

(2/176)


أصحابنا من وجوب النهي عن المنكر عند التمكن
قَالُوا وَ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اطَّرَدَتْ مَقَالَتُكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ فَقَالَ هَيْهَاتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَاللَّهِ مَا أَسَفْتُ عَلَى كَلَامٍ قَطُّ كَأَسَفِي عَلَى هَذَا الْكَلَامِ أَلَّا يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرَادَ
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 204 قوله عليه السلام في هذه الخطبة كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحم يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام و هي تنازعه رأسها خرم أنفها و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها يقال أشنق الناقة إذا جذب رأسهبالزمام فرفعه و شنقها أيضا ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق و إنما قال ع أشنق لها و لم يقل أشنقها لأنه جعله في مقابلة قوله أسلس لها فكأنه قال إن رفع لها رأسها بالزمام يعني أمسكه عليها و في الحديث أن رسول الله ص خطب على ناقة و قد شنق لها فهي تقصع بجرتها و من الشاهد على أن أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي
ساءها ما لها تبين في الأيدي و إشناقها إلى الأعناق

(2/177)


سمي السواد سوادا لخضرته بالزروع و الأشجار و النخل و العرب تسمي الأخضر أسود قال سبحانه مُدْهامَّتانِ يريد الخضرة و قوله لو اطردت مقالتك أي أتبعت الأول قولا ثانيا من قولهم اطرد النهر إذا تتابع جريه. و قوله من حيث أفضيت أصل أفضى خرج إلى الفضاء فكأنه شبهه ع حيث سكت عما كان يقوله بمن خرج من خباء أو جدار إلى فضاء من الأرض و ذلك لأن النفس و القوى و الهمة عند ارتجال الخطب و الأشعار تجتمع إلى القلب فإذا قطع الإنسان و فرغ تفرقت و خرجت عن حجر الاجتماع و استراحت شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 205و الشقشقة بالكسر فيهما ش يخرجه البعير من فيه إذا هاج و إذا قالوا للخطيب ذو شقشقة فإنما شبهوه بالفحل و الهدير صوتها. و أما قول ابن عباس ما أسفت على كلام إلى آخره فحدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث و ستمائة قال قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة فلما انتهيت إلى هذا الموضع قال لي لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له و هل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف ألا يكون بلغ من كلامه ما أراد و الله ما رجع عن الأولين و لا عن الآخرين و لا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله ص. قال مصدق و كان ابن الخشاب صاحب دعابة و هزل قال فقلت له أ تقول إنها منحولة فقال لا و الله و إني لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدق قال فقلت له إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى فقال أنى للرضي و لغير الرضي هذا النفس و هذا الأسلوب قد وقفنا على رسائل الرضي و عرفنا طريقته و فنه في الكلام المنثور و ما يقع مع هذا الكلام في خل و لا خمر ثم قال و الله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة و لقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها و أعرف خطوط من هو من العلماء و أهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي. قلت و قد وجدت أنا

(2/178)


كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 206إمام البغداديين من المعتزلة و كان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة و وجدت أيضا كثيرا منها في كت أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية و هو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف و كان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى و مات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجودا
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 4207- و من خطبة له عبِنَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظَّلْمَاءِ وَ تَسَنَّمْتُمُ الْعَلْيَاءَ وَ بِنَا انْفَجَرْتُمْ عَنِ السِّرَارِ وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْوَاعِيَةَ وَ كَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ الْخَفَقَانُ مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الْغَدْرِ وَ أَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ الْمُغْتَرِّينَ سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبَابُ الدِّينِ وَ بَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الْحَقِّ فِي جَوَادِّ الْمَضَلَّةِ حَيْثُ تَلْتَقُونَ وَ لَا دَلِيلَ وَ تَحْتَفِرُونَ وَ لَا تُمِيهُونَ الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ عَزَبَ رَأْيُ امْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ لَمْ يُوجِسْ مُوسَى خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الْجُهَّالِ وَ دُوَلِ الضَّلَالِ الْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأْ

(2/179)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 208هذه الكلمات و الأمثال ملتقطة من خطبة طويلة منسوبة إليه ع قد زاد فيها قوم أشياء حملتهم عليها أهواؤهم لا توافق ألفاظها طريقته ع في الخطب و لا تناسب فصاحتها فصاحته و لا حاجة إلى ذكرها فهي شهيرة و نحن نشرح هذه الألفاظ لأنها كلامع لا يشك في ذلك من له ذوق و نقد و معرفة بمذاهب الخطباء و الفصحاء في خطبهم و رسائلهم و لأن الرواية لها كثيرة و لأن الرضي رحمة الله تعالى عليه قد التقطها و نسبها إليه ع و صححها و حذف ما عداها. و أما قوله ع بنا اهتديتم في الظلماء فيعني بالظلماء الجهالة و تسنمتم العلياء ركبتم سنامها و هذه استعارة. قوله و بنا انفجرتم عن السرار أي دخلتم في الفجر و السرار الليلة و الليلتان يستتر فيهما القمر في آخر الشهر فلا يظهر و روي أفجرتم و هو أفصح و أصح لأن انفعل لا يكون إلا مطاوع فعل نحو كسرته فانكسر و حطمته فانحطم إلا ما شذ من قولهم أغلقت الباب فانغلق و أزعجته فانزعج و أيضا فإنه لا يقع إلا حيث يكون علاج و تأثير نحو انكسر و انحطم و لهذا قالوا إن قولهم انعدم خطأ و أما أفعل فيجي ء لصيرورة الشي ء على حال و أمر نحو أغد البعير أي صار ذا غدة و أجرب الرجل إذا صار ذا إبل جربى و غير ك فأفجرتم أي صرتم ذوي فجر. و أما عن في قوله عن السرار فهي للمجاوزة على حقيقة معناها الأصلي أي منتقلين عن السرار و متجاوزين له. و قوله ع وقر سمع هذا دعاء على السمع الذي لم يفقه الواعية بالثقل و الصمم وقرت أذن زيد بضم الواو فهي موقورة و الوقر بالفتح الثقل في الأذن شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 209وقرت أذنه بفتح الواو و كسر القاف توقر وقرا أي صمت و المصدر في هذا الموضع جاء بالسكون و هو شاذ و قياسه التحريك بالفتح نحو ورم ورما و الواعية الصارخة من الوعاء و هو الجلبة و الأصوات و المراد العبر و المواعظ. قوله كيف يرا النبأة هذا مثل آخر يقول كيف يلاحظ و يراعي العبر الضعيفة من لم ينتفع

(2/180)


بالعبر الجلية الظاهرة بل فسد عندها و شبه ذلك بمن أصمته الصيحة القوية فإنه محال أن يراعي بعد ذلك الصوت الضعيف و النبأة هي الصوت الخفي. فإن قيل هذا يخالف قولكم إن الاستفساد لا يجوز على الحكيم سبحانه فإن كلامه ع صريح في أن بعض المكلفين يفسد عند العبر و المواعظ. قيل إن لفظة أفعل قد تأتي لوجود الشي ء على صفة نحو أحمدته إذا أصبته محمودا و قالوا أحييت الأرض إذا وجدتها حية النبات فقوله أصمته الصيحة ليس معناه أن الصيحة كانت علة لصممه بل معناه صادفه أصم و بهذا تأول أصحابنا قوله تعالى وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ. قوله ربط جنان لم يفارقه الخفقان هذا مثل آخر و هو دعاء لقلب لا يزال خائفا من الله يخفق بالثبوت و الاستمساك. قوله ما زلت أنتظر بكم يقول كنت مترقبا غدركم متفرسا فيكم الغرر و هو الغفلة. و قيل إن هذه الخطبة خطبها بعد مقتل طلحة و الزبير مخاطبا بها لهما و لغيرهما من أمثالهما كما قال النبي ص يوم بدر بعد قتل من قتل من قريش يا عتبة بن ربيعة

(2/181)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 210يا شيبة بن ربيعة يا عمرو بن هشام و هم جيف منتنة قد جروا إلى القليب. قوله سترني عنكم هذا يحتمل وجوها أوضحها أن إظهاركم شعار الإسلام عصمكم مني مع علمي بنفاقكم و إنما أبصرت نفاقكم و بواطنكم الخبيثة بصدق نيتي كما يقال المؤمن يبصبنور الله و يحتمل أن يريد سترني عنكم جلباب ديني و منعني أن أعرفكم نفسي و ما أقدر عليه من عسفكم كما تقول لمن استهان بحقك أنت لا تعرفني و لو شئت لعرفتك نفسي. و فسر القطب الراوندي قوله ع و بصرنيكم صدق النية قال معناه أنكم إذا صدقتم نياتكم و نظرتم بأعين لم تطرف بالحسد و الغش و أنصفتموني أبصرتم عظيم منزلتي. و هذا ليس بجيد لأنه لو كان هو المراد لقال و بصركم إياي صدق النية و لم يقل ذلك و إنما قال بصرنيكم فجعل صدق النية مبصرا له لا لهم و أيضا فإنه حكم بأن صدق النية هو علة التبصير و أعداؤه لم يكن فيهم صادق النية و ظاهر الكلام الحكم و القطع لا التعليق بالشرط. قوله أقمت لكم على سنن الحق يقال تنح عن سنن الطريق و سنن الطريق بفتح السين و ضمها فالأول مفرد و الثاني جمع سنة و هي جادة الطريق و الواضح منها و أرض مضلة و مضلة بفتح الضاد و كسرها يضل سالكها و أماه المحتفر يميه أنبط الماء يقول فعلت من إرشادكم و أمركم بالمعروف و نهيكم عن المنكر ما يجب على مثلي فوقفت لكم على جادة الحق و منهجه حيث طرق الضلال كثيرة مختلفة من سائر جهاتي و أنتم تائهون فيها تلتقون و لا دليل لكم و تحتفرون لتجدوا ماء تنقعون به غلتكم فلا تظفرون بالماء و هذه كلها استعارات. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 211قوله اليوم أنطق هذا مثل آخر و العجماء التي لا نطق لها و هذا إشارة إلى الرموز التي تتضمنها هذه الخطبة يقول هي خفية غامضة و هي مع غموضها جلية لأولى الألباب فكأنها تنطق كما ينطق ذوو الألسنة كما قيل ما الأمور الصامتالناطقة فقيل الدلائل المخبرة و العبر الواعظة و في الأثر سل الأرض من

(2/182)


شق أنهارك و أخرج ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا. قوله عزب رأي امرئ تخلف عني هذا كلام آخر عزب أي بعد و العازب البعيد و يحتمل أن يكون هذا الكلام إخبارا و أن يكون دعاء كما أن قوله تعالى حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ يحتمل الأمرين. قوله ما شككت في الحق مذ رأيته هذا كلام آخر يقول معارفي ثابتة لا يتطرق إليها الشك و الشبهة. قوله لم يوجس موسى هذا كلام شريف جدا يقول إن موسى لما أوجس الخيفة بدلالة قوله تعالى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى لم يكن ذلك الخوف على نفسه و إنما خاف من الفتنة و الشبهة الداخلة على المكلفين عند إلقاء السحرة عصيهم فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى و كذلك أنا لا أخاف على نفسي من الأعداء الذين نصبوا لي الحبائل و أرصدوا لي المكايد و سعروا علي نيران الحرب و إنما أخاف أن يفتتن المكلفون بشبههم و تمويهاتهم فتقوى دولة الضلال و تغلب كلمة الجهال. قوله اليوم تواقفنا القاف قبل الفاء تواقف القوم على الطريق أي وقفوا كلهم عليها يقول اليوم اتضح الحق و الباطل و عرفناهما نحن و أنتم. قوله من وثق بماء لم يظمأ الظمأ الذي يكون عند عدم الثقة بالماء و ليس شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 212يريد النفي المطلق لأن الواثق بالماء قد يظمأ و لكن لا يكون عطشه على حد العطش الكائن عند عدم الماء و عدم الوثوق بوجوده و هذا كقول أبي الطيبو ما صبابة مشتاق على أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل
و الصائم في شهر رمضان يصبح جائعا تنازعه نفسه إلى الغذاء و في أيام الفطر لا يجد تلك المنازعة في مثل ذلك الوقت لأن الصائم ممنوع و النفس تحرص على طلب ما منعت منه يقول إن وثقتم بي و سكنتم إلى قولي كنتم أبعد عن الضلال و أقرب إلى اليقين و ثلج النفس كمن وثق بأن الماء في إداوته يكون عن الظمأ و خوف الهلاك من العطش أبعد ممن لم يثق بذلك

(2/183)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 5213- و من كلام له ع لما قبض رسول الله ص و خاطبه العباس و أبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافةأَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ وَ عَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ وَ ضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ مَاءٌ آجِنٌ وَ لُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا وَ مُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ وَ إِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَ الَّتِي وَ اللَّهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ

(2/184)


المفاخرة أن يذكر كل واحد من الرجلين مفاخره و فضائله و قديمه ثم يتحاكما إلى ثالث و الماء الآجن المتغير الفاسد أجن الماء بفتح الجيم يأجن و يأجن بالكسر و الضم و الإيناع إدراك الثمرة و اللتيا تصغير التي كما أن اللذيا تصغير الذي و اندمجت انطويت و الطوي البئر المطوية بالحجارة يقول تخلصوا عن الفتنة و انجوا منها بالمتاركة و المسالمة و العدول عن المنافرة و المفاخرة. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 214أفلح من نهض بجناح أي مات شبه الميت المفارق للدنيا بطائر نهض عن الأرض بجناحه و يحتمل أن يريد بذلك أفلح من اعتزل هذا العالم ساح في الأرض منقطعا عن تكاليف الدنيا و يحتمل أيضا أن يريد أفلح من نهض في طلب الرئاسة بناصر ينصره و أعوان يجاهدون بين يديه و على التقادير كلها تنطبق اللفظة الثانية و هي قوله أو استسلم فأراح أي أراح نفسه باستسلامه. ثم قال الإمرة على الناس وخيمة العاقبة ذات مشقة في العاجلة فهي في عاجلها كالماء الآجن يجد شاربه مشقة و في آجلها كاللقمة التي تحدث عن أكلها الغصة و يغص مفتوح حرف المضارعة و مفتوح الغين أصله غصصت بالكسر و يحتمل أن يكون الأمران معا للعاجلة لأن الغصص في أول البلع كما أن ألم شرب الماء الآجن يحدث في أول الشرب و يجوز ألا يكون عنى الإمرة المطلقة بل هي الإمرة المخصوصة يعني بيعة السقيفة. ثم أخذ في الاعتذار عن الإمساك و ترك المنازعة فقال مجتني الثمرة قبل أن تدرك لا ينتفع بما اجتناه كمن زرع في غير أرضه و لا ينتفع بذلك الزرع يريد أنه ليس هذا الوقت هو الوقت الذي يسوغ لي فيه طلب الأمر و أنه لم يأن بعد. ثم قال قد حصلت بين حالين إن قلت قال الناس حرص على الملك و إن لم أقل قالوا جزع من الموت. قال هيهات استبعادا لظنهم فيه الجزع ثم قال اللتيا و التي أي أ بعد اللتيا و التي أجزع أ بعد أن قاسيت الأهوال الكبار و الصغار و منيت بكل داهية عظيمة و صغيرة فاللتيا للصغيرة و التي للكبيرة.

(2/185)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 215ذكر أن أنسه بالموت كأنس الطفل بثدي أمه و أنه انطوى على علم هو ممتنع لموجبه من المنازعة و أن ذلك العلم لا يباح به و لو باح به لاضطرب سامعوه كاضطراب الأرشية و هي الحبال في البئر البعيدة القعر و هذا إشارة إلى الوصية التي خص بها إنه قد كان من جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه
استطراد بذكر طائفة من الاستعارات
و اعلم أن أحسن الاستعارات ما تضمن مناسبة بين المستعار و المستعار منه كهذه الاستعارات فإن قوله ع شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة من هذا النوع و ذلك لأن الفتن قد تتضاعف و تترادف فحسن تشبيهها بأمواج البحر المضطربة و لما كانت السفن الحقيقية تنجي من أمواج البحر حسن أن يستعار لفظ السفن لما ينجي من الفتن و كذلك قوله و ضعوا تيجان المفاخرة لأن التاج لما كان مما يعظم به قدر الإنسان استعارة لما يتعظم به الإنسان من الافتخار و ذكر القديم و كذلك استعارة النهوض بالجناح لمن اعتزل الناس كأنه لما نفض يديه عنهم صار كالطائر الذي ينهض من الأرض بجناحيه. و في الاستعارات ما هو خارج عن هذا النوع و هو مستقبح و ذلك كقول أبي نواس
بح صوت المال مما منك يبكي و ينوح
و كذلك قوله
ما لرجل المال أضحت تشتكي منك الكلالا
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 216و قول أبي تمامو كم أحرزت منكم على قبح قدها صروف النوى من مرهف حسن القد
و كقوله
بلوناك أما كعب عرضك في العلا فعال و لكن خد مالك أسفل
فإنه لا مناسبة بين الرجل و المال و لا بين الصوت و المال و لا معنى لتصييره للنوى قدا و لا للعرض كعبا و لا للمال خدا. و قريب منه أيضا قوله
لا تسقني ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي

(2/186)


و يقال إن مخلدا الموصلي بعث إليه بقارورة يسأله أن يبعث له فيها قليلا من ماء الملام فقال لصاحبه قل له يبعث إلي بريشة من جناح الذل لأستخرج بها من القارورة ما أبعثه إليه. و هذا ظلم من أبي تمام المخلد و ما الأمران سوء لأن الطائر إذا أعيا و تعب ذل و خفض جناحيه و كذلك الإنسان إذا استسلم ألقى بيديه ذلا و يده جناحه فذاك هو الذي حسن قوله تعالى وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أ لا ترى أنه لو قال و اخفض لهما ساق الذل أو بطن الذل لم يكن مستحسنا. و من الاستعارة المستحسنة في الكلام المنثور ما اختاره قدامة بن جعفر في كتاب الخراج نحو قول أبي الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة في جوابه لأبي الجيش خمارويه شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 217بن أحمد بن طولون عن المعتضد بالله لما كتب بإنفاذ ابنته قطر الندى التي تزوجها المعتضد و ذلك قول ابن ثوابة هذا و أما الوديعة فهي بمنزلة ما انتقل من الك إلى يمينك عناية بها و حياطة لها و رعاية لمودتك فيها. و قال ابن ثوابة لما كتب هذا الكتاب لأبي القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد و الله إن تسميتي إياها بالوديعة نصف البلاغة. و ذكر أحمد بن يوسف الكاتب رجلا خلا بالمأمون فقال ما زال يفتله في الذروة و الغارب حتى لفته عن رأيه. و قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي النبيذ قيد الحديث. و ذكر بعضهم رجلا فذمه فقال هو أملس ليس فيه مستقر لخير و لا شر. و رضي بعض الرؤساء عن رجل من موجدة ثم أقبل يوبخه عليها فقال إن رأيت ألا تخدش وجه رضاك بالتوبيخ فافعل. و قال بعض الأعراب خرجنا في ليلة حندس قد ألقت على الأرض أكارعها فمحت صورة الأبدان فما كنا نتعارف إلا بالآذان. و غزت حنيفة نميرا فأتبعتهم نمير فأتوا عليهم فقيل لرجل منهم كيف صنع قومك قال اتبعوهم و الله و قد أحقبوا كل جمالية خيفانة فما زالوا يخصفون آثار المطي بحوافر الخيل حتى لحقوهم فجعلوا المران أرشية الموت فاستقوا بها أرواحهم. و

(2/187)


من كلام لعبد الله بن المعتز يصف القلم يخدم الإرادة و لا يمل الاستزادة شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 218و يسكت واقفا و ينطق سائرا على أرض بياضها مظلم و سوادها مضي فأما القطب الراوندي فقال قوله ع شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة معناه كونوا مع أهل البيت لأنهم سفن النجاة
لقوله ع مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق
و لقائل أن يقول لا شبهة أن أهل البيت سفن النجاة و لكنهم لم يرادوا هاهنا بهذه اللفظة لأنه لو كان ذلك هو المراد لكان قد أمر أبا سفيان و العباس بالكون مع أهل البيت و مراده الآن ينقض ذلك لأنه يأمر بالتقية و إظهار اتباع الذين عقد لهم الأمر و يرى أن الاستسلام هو المتعين فالذي ظنه الراوندي لا يحتمله الكلام و لا يناسبه. و قال أيضا التعريج على الشي ء الإقامة عليه يقال عرج فلان على المنزل إذا حبس نفسه عليه فالتقدير عرجوا على الاستقامة منصرفين عن المنافرة. و لقائل أن يقال التعريج يعدى تارة بعن و تارة بعلى فإذا عديته عن أردت التجنب و الرفض و إذا عديته بعلى أردت المقام و الوقوف و كلامه ع معدى بعن قال و عرجوا عن طريق المنافرة. و قال أيضا آنس بالموت أي أسر به و ليس بتفسير صحيح بل هو من الأنس ضد الوحشة
اختلاف الرأي في الخلافة بعد وفاة رسول الله

(2/188)


لما قبض رسول الله ص و اشتغل علي ع بغسله و دفنه و بويع أبو بكر خلا الزبير و أبو سفيان و جماعة من المهاجرين بعباس و علي ع شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 219لإجالة الرأي و تكلموا بكلام يقتضي الاستنهاض و التهييج فقال العباس رضي الله عنه قد سمعنا قولكم فلا لقلة نسين بكم و لا لظنة نترك آراءكم فأمهلونا نراجع الفكر فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصر بنا و بهم الحق صرير الجدجد و نبسط إلى المجد أكفا لا نقبضها أو نبلغ المدى و إن تكن الأخرى فلا لقلة في العدد و لا لوهن في الأيد و الله لو لا أن الإسلام قيد الفتك لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العلي. فحل علي ع حبوته و قال الصبر حلم و التقوى دين و الحجة محمد و الطريق الصراط أيها الناس شقوا أمواج الفتن... الخطبة ثم نهض فدخل إلى منزله و افترق القوم. و قال البراء بن عازب لم أزل لبني هاشم محبا فلما قبض رسول الله ص خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله ص فكنت أتردد إلى بني هاشم و هم عند النبي ص في الحجرة و أتفقد وجوه قريش فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر و عمر و إذا قائل يقول القوم في سقيفة بني ساعدة و إذا قائل آخر يقول قد بويع أبو بكر فلم ألبث و إذا أنا بأبي بكر قد أقبل و معه عمر و أبو عبيدة و جماعة من أصحاب السقيفة و هم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه و قدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى فأنكرت عقلي و خرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم و الباب مغلق فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا و قلت قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة فقال العباس تربت أيديكم إلى آخر الدهر أما إني قد أمرتكم فعصيتموني فمكثت أكابد ما في نفسي و رأيت شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 220في الليل المقداد و سلمان و ا ذر و عبادة بن الصامت و أبا الهيثم بن التيهان و حذيفة و عمارا و هم

(2/189)


يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين. و بلغ ذلك أبا بكر و عمر فأرسلا إلى أبي عبيدة و إلى المغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي فقال المغيرة الرأي أن تلقوا العباس فتجعلوا له و لولده في هذه الإمرة نصيبا ليقطعوا بذلك ناحية علي بن أبي طالب. فانطلق أبو بكر و عمر و أبو عبيدة و المغيرة حتى دخلوا على العباس و ذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ص فحمد أبو بكر الله و أثنى عليه و قال إن الله ابتعث لكم محمدا ص نبيا و للمؤمنين وليا فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم حتى اختار له ما عنده فخلى على الناس أمورهم ليختاروا لأنفسهم متفقين غير مختلفين فاختاروني عليهم واليا و لأمورهم راعيا فتوليت ذلك و ما أخاف بعون الله و تسديده وهنا و لا حيرة و لا جبنا و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب و ما أنفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين يتخذكم لجأ فتكونون حصنه المنيع و خطبه البديع فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس أو صرفتموهم عما مالوا إليه فقد جئناك و نحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا و لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله ص و إن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ص و مكان أهلك ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم و على رسلكم بني هاشم فإن رسول الله ص منا و منكم. فاعترض كلامه عمر و خرج إلى مذهبه في الخشونة و الوعيد و إتيان الأمر من أصعب جهاته فقال إي و الله و أخرى إنا لم نأتكم حاجة إليكم و لكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم فيتفاقم الخطب بكم و بهم فانظروا لأنفسكم و لعامتهم ثم سكت.

(2/190)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 221فتكلم العباس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال إن الله ابتعث محمدا نبيا كما وصفت و وليا للمؤمنين فمن الله به على أمته حتى اختار له ما عنده فخلى الناس على أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق مائلين عن زيغ الهوى فإن كنت برسول الله طت فحقنا أخذت و إن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ما تقدمنا في أمركم فرطا و لا حللنا وسطا و لا نزحنا شحطا فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين و ما أبعد قولك إنهم طعنوا من قولك إنهم مالوا إليك و أما ما بذلت لنا فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك و إن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه و إن يكن حقنا لم نرض لك ببعضه دون بعض و ما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه و لكن للحجة نصيبها من البيان و أما قولك إن رسول الله ص منا و منكم فإن رسول الله ص من شجرة نحن أغصانها و أنتم جيرانها و أما قولك يا عمر إنك تخاف الناس علينا فهذا الذي قدمتموه أول ذلك و بالله المستعان. لما اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان و هو يقول أما و الله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم يا لعبد مناف فيم أبو بكر من أمركم أين المستضعفان أين الأذلان يعني عليا و العباس ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ثم قال لعلي ابسط يدك أبايعك فو الله إن شئت لأملأنها على أبي فصيل... خيلا و رجلا فامتنع عليه علي ع فلما يئس منه قام عنه و هو ينشد شعر المتلمس شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 22و لا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان عير الحي و الوتدهذا على الخسف مربوط برمته و ذا يشج فلا يرثي له أحد

(2/191)


قيل لأبي قحافة يوم ولي الأمر ابنه قد ولي ابنك الخلافة فقرأ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ثم قال لم ولوه قالوا لسنه قال أنا أسن منه. نازع أبو سفيان أبا بكر في أمر فأغلظ له أبو بكر فقال له أبو قحافة يا بني أ تقول هذا لأبي سفيان شيخ البطحاء قال إن الله تعالى رفع بالإسلام بيوتا و وضع بيوتا فكان مما رفع بيتك يا أبت و مما وضع بيت أبي سفيان
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 6223- و من كلام له لما أشير عليه بألا يتبع طلحة و الزبير و لا يرصد لهما القتالوَ اللَّهِ لَا أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا وَ يَخْتِلَهَا رَاصِدُهَا وَ لَكِنِّي أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إِلَى الْحَقِّ الْمُدْبِرَ عَنْهُ وَ بِالسَّامِعِ الْمُطِيعِ الْعَاصِيَ الْمُرِيبَ أَبَداً حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ مُنْذُ قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا
يقال أرصد له بشر أي أعد له و هيأه و في الحديث إلا أن أرصده لدين علي و اللدم صوت الحجر أو العصا أو غيرهما تضرب به الأرض ضربا ليس بشديد. و لما شرح الراوندي هذه اللفظات قال و في الحديث و الله لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد و قد كان سامحه الله وقت تصنيفه الشرح ينظر في صحاح الجوهري و ينقل منها فنقل هذا الحديث ظنا منه أنه حديث عن رسول الله ص و ليس كما ظن بل الحديث الذي أشار إليه الجوهري هو حديث علي ع الذي نحن بصدد تفسيره. و يختلها راصدها يخدعها مترقبها ختلت فلانا خدعته و رصدته ترقبته و مستأثرا علي أي مستبدا دوني بالأمر و الاسم الأثرة

(2/192)


و في الحديث أنه ص شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 224قال للأنصار ستلقون بعدي أثرة فإذا كان ذلك فاصبروا حتى تردوا علي الحوضو العرب تقول في رموزها و أمثالها أحمق من الضبع و يزعمون أن الصائد يدخل عليها وجارها فيقول لها أطرقي أم طريق خامري أم عامر و يكرر ذلك عليها مرارا معنى أطرقي أم طريق طأطئي رأسك و كناها أم طريق لكثرة إطراقها على فعيل كالقبيط للناطف و العليق لنبت و معنى خامري الزمي وجارك و استتري فيه خامر الرجل منزله إذا لزمه قالوا فتلجأ إلى أقصى مغارها و تتقبض فيقول أم عامر ليست في وجارها أم عامر نائمة فتمد يديها و رجليها و تستلقي فيدخل عليها فيوثقها و هو يقول لها أبشري أم عامر بكم الرجال أبشري أم عامر بشاء هزلى و جراد عظلى أي يركب بعضه بعضا فتشد عراقيبها فلا تتحرك و لو شاءت أن تقتله لأمكنها قال الكميت
فعل المقرة للمقالة خامري يا أم عامر
و قال الشنفري

(2/193)


لا تقبروني إن قبري محرم عليكم و لكن خامري أم عامرإذا ما مضى رأسي و في الرأس أكثري و غودر عند الملتقى ثم سائري هنا لك لا أرجو حياة تسرني سجيس الليالي مبسلا بالجرائر شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 225أوصاهم ألا يدفنوه إذا قتل و قال اجعلوني أكلا للسباع كالشي ء الذي يرغب به الضبع في الخروج و تقدير الكلام لا تقبروني و لكن اجعلوني كالتي يقال لها خامري أم عامر و هي الضبع فإنها لا تقبر و يمكن أن يقال أيضا أراد لا تقبروني و اجني فريسة للتي يقال لها خامري أم عامر لأنها تأكل الجيف و أشلاء القتلى و الموتى. و قال أبو عبيدة يأتي الصائد فيضرب بعقبه الأرض عند باب مغارها ضربا خفيفا و ذلك هو اللدم و يقول خامري أم عامر مرارا بصوت ليس بشديد فتنام على ذلك فيدخل إليها فيجعل الحبل في عرقوبها و يجرها فيخرجها يقول لا أقعد عن الحرب و الانتصار لنفسي و سلطاني فيكون حالي مع القوم المشار إليهم حال الضبع مع صائدها فأكون قد أسلمت نفسي فعل العاجز الأحمق و لكني أحارب من عصاني بمن أطاعني حتى أموت ثم عقب ذلك بقوله إن الاستئثار علي و التغلب أمر لم يتجدد الآن و لكنه كان منذ قبض رسول الله ص
طلحة و الزبير و نسبهما
و طلحة هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة أبوه ابن عم أبي بكر و أمه الصعبة بنت الحضرمي و كانت قبل أن تكون عند عبيد الله تحت أبي سفيان صخر بن حرب فطلقها ثم تبعتها نفسه فقال فيها شعرا أوله
و إني و صعبة فيما أرى بعيدان و الود ود قريب
في أبيات مشهورة و طلحة أحد العشرة المشهود لهم بالجنة و أحد أصحاب الشورى و كان له في الدفاع عن رسول الله ص يوم أحد أثر عظيم و شلت بعض شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 226أصابعه يومئذ وقى رسول الله ص بيده من سيوف المشركين و قال رسول الله ص يومئذ اليوم أوجب طلحة الجنة

(2/194)


و الزبير هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي أمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عمة رسول الله ص و هو أحد العشرة أيضا و أحد الستة و ممن ثبت مع رسول الله ص يوم أحد و أبلى بلاء حسنا
و قال النبي ص لكل نبي حواري و حواري الزبير
و الحواري الخالصة تقول فلان خالصة فلان و خلصانه و حواريه أي شديد الاختصاص به و الاستخلاص له
خروج طارق بن شهاب لاستقبال علي بن أبي طالب
خرج طارق بن شهاب الأحمسي يستقبل عليا ع و قد صار بالربذة طالبا عائشة و أصحابها و كان طارق من صحابة علي ع و شيعته قال فسألت عنه قبل أن ألقاه ما أقدمه فقيل خالفه طلحة و الزبير و عائشة فأتوا البصرة فقلت في نفسي إنها الحرب أ فأقاتل أم المؤمنين و حواري رسول الله ص إن هذا لعظيم ثم قلت أ أدع عليا و هو أول المؤمنين إيمانا بالله و ابن عم رسول الله ص و وصيه هذا أعظم ثم أتيته فسلمت عليه ثم جلست إليه فقص علي قصة القوم و قصته ثم صلى بنا الظهر فلما انفتل جاءه الحسن ابنه ع فبكى بين يديه قال ما بالك قال أبكي لقتلك غدا بمضيعة و لا ناصر لك أما إني أمرتك فعصيتني ثم أمرتك فعصيتني فقال ع لا تزال تخن خنين الأمة ما الذي أمرتني به فعصيتك قال أمرتك حين أحاط الناس بعثمان أن تعتزل فإن الناس إذا قتلوه طلبوك أينما كنت حتى يبايعوك فلم تفعل ثم أمرتك لما قتل عثمان ألا توافقهم على شرح نهج بلاغة ج : 1 ص : 227البيعة حتى يجتمع الناس و يأتيك وفود العرب فلم تفعل ثم خالفك هؤلاء القوم فأمرتك ألا تخرج من المدينة و أن تدعهم و شأنهم فإن اجتمعت عليك الأمة فذاك و إلا رضيت بقضاء الله فقال ع و الله لا أكون كالضبع تنام على اللدم حتى يدخل إليها طالبها فيعلق الحبل برجلها و يقول لها دباب دباب حتى يقطع عرقوبها... و ذكر تمام الفصل فكان طارق بن شهاب يبكي إذا ذكر هذا الحديث دباب اسم الضبع مبني على الكسر كبراح اسم للشمس

(2/195)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 7228- و من خطبة له عاتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلَاكاً وَ اتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً فَبَاضَ وَ فَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ وَ دَبَّ وَ دَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ وَ نَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ وَ نَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِهِ
يجوز أن يكون أشراكا جمع شريك كشريف و أشراف و يجوز أن يكون جمع شرك كجبل و أجبال و المعنى بالاعتبارين مختلف. و باض و فرخ في صدورهم استعارة للوسوسة و الإغواء و مراده طول مكثه و إقامته عليهم لأن الطائر لا يبيض و يفرخ إلا في الأعشاش التي هي وطنه و مسكنه و دب و درج في حجورهم أي ربوا الباطل كما يربي الوالدان الولد في حجورهما ثم ذكر أنه لشدة اتحاده بهم و امتزاجه صار كمن ينظر بأعينهم و ينطق بألسنتهم أي صار الاثنان كالواحد قال أبو الطيب
ما الخل إلا من أود بقلبه و أرى بطرف لا يرى بسوائه
و قال آخر
كنا من المساعده نحيا بروح واحده
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 229و قال آخرجبلت نفسك في نفسي كما تجبل الخمرة بالماء الزلال فإذا مسك شي ء مسني فإذا أنت أنا في كل حاو الخطل القول الفاسد و يجوز أشركه الشيطان في سلطانه بالهمزة و شركه أيضا و بغير الهمزة أفصح
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 8230- و من كلام له ع يعني به الزبير في حال اقتضت ذلكيَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ بِيَدِهِ وَ لَمْ يُبَايِعْ بِقَلْبِهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْبَيْعَةِ وَ ادَّعَى الْوَلِيجَةَ فَلْيَأْتِ عَلَيْهَا بِأَمْرٍ يُعْرَفُ وَ إِلَّا فَلْيَدْخُلْ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ

(2/196)


الوليجة البطانة و الأمر يسر و يكتم قال الله سبحانه وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً كان الزبير يقول بايعت بيدي لا بقلبي و كان يدعي تارة أنه أكره و يدعي تارة أنه ورى في البيعة تورية و نوى دخيلة و أتى بمعاريض لا تحمل على ظاهرها فقال ع هذا الكلام إقرار منه بالبيعة و ادعاء أمر آخر لم يقم عليه دليلا و لم ينصب له برهانا فإما أن يقيم دليلا على فساد البيعة الظاهرة و أنها غير لازمة له و إما أن يعاود طاعته.
قال علي ع للزبير يوم بايعه إني لخائف أن تغدر بي و تنكث بيعتي قال لا تخافن فإن ذلك لا يكون مني أبدا فقال ع فلي الله عليك بذلك راع و كفيل قال نعم الله لك علي بذلك راع و كفيل
أمر طلحة و الزبير مع علي بن أبي طالب بعد بيعتهما له

(2/197)


لما بويع علي ع كتب إلى معاوية أما بعد فإن الناس قتلوا عثمان عن غير شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 231مشورة مني و بايعوني عن مشورة منهم و اجتماع فإذا أتاك كتابي فبايع لي و أوفد إلي أشراف أهل الشام قبلكفلما قدم رسوله على معاوية و قرأ كتابه بعث رجلا من بني عميس و كتب معه كتابا إلى الزبير بن العوام و فيه بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان سلام عليك أما بعد فإني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا و استوسقوا كما يستوسق الجلب فدونك الكوفة و البصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب فإنه لا شي ء بعد هذين المصرين و قد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك فأظهرا الطلب بدم عثمان و ادعوا الناس إلى ذلك و ليكن منكما الجد و التشمير أظفركما الله و خذل مناوئكما. فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير ر به و أعلم به طلحة و أقرأه إياه فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية و أجمعا عند ذلك على خلاف علي ع. جاء الزبير و طلحة إلى علي ع بعد البيعة بأيام فقالا له يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلها و علمت رأي عثمان كان في بني أمية و قد ولاك الله الخلافة من بعده فولنا بعض أعمالك فقال لهما ارضيا بقسم الله لكما حتى أرى رأيي و اعلما أني لا أشرك في أمانتي إلا من أرضى بدينه و أمانته من أصحابي و من قد عرفت دخيلته. فانصرفا عنه و قد دخلهما اليأس فاستأذناه في العمرة. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص 232طلب طلحة و الزبير من علي ع أن يوليهما المصرين البصرة و الكوفة فقال حتى أنظر ثم استشار المغيرة بن شعبة فقال له أرى أن توليهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس فخلا بابن عباس و قال ما ترى قال يا أمير المؤمنين إن الكوفة و البصرة عين الخلافة و بهما كنوز الرجال و مكان طلحة و الزبير من الإسلام ما قد علمت و لست آمنهما إن وليتهما أن يحدثا أمرا فأخذ علي ع برأي ابن عباس و قد كان استشار المغيرة

(2/198)


أيضا في أمر معاوية فقال له أرى إقراره على الشام و أن تبعث إليه بعده إلى أن يسكن شغب الناس و لك بعد رأيك فلم يأخذ برأيه. فقال المغيرة بعد ذلك و الله ما نصحته قبلها و لا أنصحه بعدها ما بقيت.
دخل الزبير و طلحة على علي ع فاستأذناه في العمرة فقال ما العمرة تريدان فحلفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة فقال لهما ما العمرة تريدان و إنما تريدان الغدرة و نكث البيعة فحلفا بالله ما الخلاف عليه و لا نكث بيعة يريدان و ما رأيهما غير العمرة قال لهما فأعيدا البيعة لي ثانية فأعاداها بأشد ما يكون من الإيمان و المواثيق فأذن لهما فلما خرجا من عنده قال لمن كان حاضرا و الله لا ترونهما إلا في فتنة يقتتلان فيها قالوا يا أمير المؤمنين فمر بردهما عليك قال ليقضي الله أمرا كان مفعولا لما خرج الزبير و طلحة من المدينة إلى مكة لم يلقيا أحدا إلا و قالا له ليس لعلي في أعناقنا بيعة و إنما بايعناه مكرهين فبلغ عليا ع قولهما فقال أبعدهما الله و أغرب دارهما أما و الله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل و يأتيان من شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 233وردا عليه بأشأم يوم و الله العمرة يريدان و لقد أتياني بوجهي فاجرين و رجعا بوجهي غادرين ناكثين و الله لا يلقيانني بعد اليوم إلا في كتيبة خشناء يقتلان فيها أنفسهما فبعدا لهما و سحقا

(2/199)


و ذكر أبو مخنف في كتاب الجمل أن عليا ع خطب لما سار الزبير و طلحة من مكة و معهما عائشة يريدون البصرة فقال أيها الناس إن عائشة سارت إلى البصرة و معها طلحة و الزبير و كل منهما يرى الأمر له دون صاحبه أما طلحة فابن عمها و أما الزبير فختنها و الله لو ظفروا بما أرادوا و لن ينالوا ذلك أبدا ليضربن أحدهما عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد و الله إن راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة و لا تحل عقدة إلا في معصية الله و سخطه حتى تورد نفسها و من معها موارد الهلكة إي و الله ليقتلن ثلثهم و ليهربن ثلثهم و ليتوبن ثلثهم و إنها التي تنبحها كلاب الحوأب و إنهما ليعلمان أنهما مخطئان و رب عالم قتله جهله و معه علمه لا ينفعه و حسبنا الله و نعم الوكيل فقد قامت الفتنة فيها الفئة الباغية أين المحتسبون أين المؤمنون ما لي و لقريش أما و الله لقد قتلتهم كافرين و لأقتلنهم مفتونين و ما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أنا أدخلناها في حيزنا و الله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته فقل لقريش فلتضج ضجيجها ثم نزل
برز علي ع يوم الجمل و نادى بالزبير يا أبا عبد الله مرارا فخرج الزبير فتقاربا حتى اختلفت أعناق خيلهما فقال له علي ع إنما دعوتك لأذكرك حديثا قاله لي و لك رسول الله ص أ تذكر يوم رآك و أنت معتنقي فقال لك شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 234أ تحبه قلت و ما لي لا أحبو هو أخي و ابن خالي فقال أما إنك ستحاربه و أنت ظالم له

(2/200)


فاسترجع الزبير و قال أذكرتني ما أنسانيه الدهر و رجع إلى صفوفه فقال له عبد الله ابنه لقد رجعت إلينا بغير الوجه الذي فارقتنا به فقال أذكرني علي حديثا أنسانيه الدهر فلا أحاربه أبدا و إني لراجع و تارككم منذ اليوم فقال له عبد الله ما أراك إلا جبنت عن سيوف بني عبد المطلب إنها لسيوف حداد تحملها فتية أنجاد فقال الزبير ويلك أ تهيجني على حربه أما إني قد حلفت ألا أحاربه قال كفر عن يمينك لا تتحدث نساء قريش أنك جبنت و ما كنت جبانا فقال الزبير غلامي مكحول حر كفارة عن يميني ثم أنصل سنان رمحه و حمل على عسكر علي ع برمح لا سنان له فقال علي ع أفرجوا له فإنه محرج ثم عاد إلى أصحابه ثم حمل ثانية ثم ثالثة ثم قال لابنه أ جبنا ويلك ترى فقال لقد أعذرت. لما أذكر علي ع الزبير بما أذكره به و رجع الزبير قال

(2/201)


نادى علي بأمر لست أنكره و كان عمر أبيك الخير مذ حين فقلت حسبك من عذل أبا حسن بعض الذي قلت منذ اليوم يكفيني ترك الأمور التي تخشى مغبتها و الله أمثل في الدنيا و في الدين فاخترت عارا على نار مؤججة أنى يقوم لها خلق من الطلما خرج علي ع لطلب الزبير خرج حاسرا و خرج إليه الزبير دارعا مدججا فقال للزبير يا أبا عبد الله قد لعمري أعددت سلاحا و حبذا فهل أعددت عند الله عذرا فقال الزبير إن مردنا إلى الله قال علي ع يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق و يعلمون أن الله هو الحق المبين ثم أذكره الخبر فلما كر شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 235الزبير راجعا إلى أصحابه نادما واجما رجع علي ع إلى أصحابه جذلا مسرورا فقال له أصحابه يا أمير المؤمنين تبرز إلى الزبير حاسرا و هو شاك في السلاح و أنت تعرف شجاعته قال إنه ليس بقاتلي إنما يقتلني رجل خامل الذكر ضئيل نسب غيلة في غير مأقط حرب و لا معركة رجال ويلمه أشقى البشر ليودن أن أمه هبلت به أما إنه و أحمر ثمود لمقرونان في قرن. لما انصرف الزبير عن حرب علي ع مر بوادي السباع و الأحنف بن قيس هناك في جمع من بني تميم قد اعتزل الفريقين فأخبر الأحنف بمرور الزبير فقال رافعا صوته ما أصنع بالزبير لف غارين من المسلمين حتى أخذت السيوف منهما مأخذها انسل و تركهم أما إنه لخليق بالقتل قتله الله فاتبعه عمرو بن جرموز و كان فاتكا فلما قرب منه وقف الزبير و قال ما شأنك قال جئت لأسألك عن أمر الناس قال الزبير إني تركتهم قياما في الركب يضرب بعضهم وجه بعض بالسيف فسار ابن جرموز معه و كل واحد منهما يتقي الآخر فلما حضرت الصلاة قال الزبير يا هذا إنا نريد أن نصلي. فقال ابن جرموز و أنا أريد ذلك فقال الزبير فتؤمني و أؤمنك قال نعم فثنى الزبير رجله و أخذ وضوءه فلما قام إلى الصلاة شد ابن جرموز عليه فقتله و أخذ رأسه و خاتمه و سيفه و حثا عليه ترابا يسيرا و رجع إلى الأحنف فأخبره فقال و الله ما أدري أسأت أم

(2/202)


أحسنت اذهب إلى علي ع فأخبره فجاء إلى علي ع فقال للآذن قل له عمرو بن جرموز بالباب و معه رأس الزبير و سيفه فأدخله و في كثير من الروايات أنه لم يأت بالرأس بل بالسيف فقال له و أنت قتلته قال نعم قال و الله ما كان ابن صفية جبانا و لا لئيما و لكن الحين و مصارع السوء شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 236ثم قال ناولني سيفه فناوله فهزه و قال سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله ص فقال ابن جرموز الجائزة يا أمير المؤمنيفقال أما إني سمعت رسول الله ص يقول بشر قاتل ابن صفية بالنار
فخرج ابن جرموز خائبا و قال
أتيت عليا برأس الزبير أبغي به عنده الزلفه فبشر بالنار يوم الحساب فبئست بشارة ذي التحفه فقلت له إن قتل الزبير لو لا رضاك من الكلفه فإن ترض ذاك فمنك الرضا و إلا فدونك لي حلفه و رب المحلين و المحرمين و رب الجماعة و الألفه لسيان عندي قتل الزبير و ضرطة عنزالجحفه
ثم خرج ابن جرموز على علي ع مع أهل النهر فقتله معهم فيمن قتل
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 9237- و من كلام له عوَ قَدْ أَرْعَدُوا وَ أَبْرَقُوا وَ مَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْفَشَلُ وَ لَسْنَا نُرْعِدُ حَتَّى نُوقِعَ وَ لَا نُسِيلُ حَتَّى نُمْطِرَ
أرعد الرجل و أبرق إذا أوعد و تهدد و كان الأصمي ينكره و يزعم أنه لا يقال إلا رعد و برق و لما احتج عليه ببيت الكميت
أرعد و أبرق يا يزيد فما وعيدك لي بضائر

(2/203)


قال الكميت قروي لا يحتج بقوله. و كلام أمير المؤمنين ع حجة دالة على بطلان قول الأصمي و الفشل الجبن و الخور. و قوله و لا نسيل حتى نمطر كلمة فصيحة يقول إن أصحاب الجمل في وعيدهم و إجلابهم بمنزلة من يدعي أنه يحدث السيل قبل إحداث المطر و هذا محال لأن السيل إنما يكون من المطر فكيف يسبق المطر و أما نحن فإنا لا ندعي ذلك و إنما نجري الأمور على حقائقها فإن كان منا مطر كان منا سيل و إذا أوقعنا بخصمنا أوعدنا حينئذ بالإيقاع به غيره من خصومنا. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 238و قوله ع و مع هذين الأمرين الفشل معنى حسن لأن اللب من الجبناء كثرة الضوضاء و الجلبة يوم الحرب كما أن الغالب من الشجعان الصمت و السكون. و سمع أبو طاهر الجنابي ضوضاء عسكر المقتدر بالله و دبادبهم و بوقاتهم و هو في ألف و خمسمائة و عسكر المقتدر في عشرين ألفا مقدمهم يوسف بن أبي الساج فقال لبعض أصحابه ما هذا الزجل قال فشل قال أجل. و يقال إنه ما رئي جيش كجيش أبي طاهر ما كان يسمع لهم صوت حتى أن الخيل لم تكن لها حمحمة فرشق عسكر ابن أبي الساج القرامطة بالسهام المسمومة فجرح منهم أكثر من خمسمائة إنسان. و كان أبو طاهر في عمارية له فنزل و ركب فرسات و حمل بنفسه و معه أصحابه حملة على عسكر ابن أبي الساج فكسروه و فلوه و خلصوا إلى يوسف فأسروه و تقطع عسكره بعد أن أتى بالقتل على كثير منهم و كان ذلك في سنة خمس عشرة و ثلاثمائة. و من أمثالهم الصدق ينبئ عنك لا الوعيد
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 10239- و من خطبة له عأَلَا وَ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ وَ اسْتَجْلَبَ خَيْلَهُ وَ رَجِلَهُ وَ إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي وَ لَا لُبِّسَ عَلَيَّ وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ لَا يَصْدُرُونَ عَنْهُ وَ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ

(2/204)


يمكن أن يعني بالشيطان الشيطان الحقيقي و يمكن أن يعني به معاوية فإن عنى معاوية فقوله قد جمع حزبه و استجلب خيله و رجله كلام جار على حقائقه و إن عنى به الشيطان كان ذلك من باب الاستعارة و مأخوذا من قوله تعالى وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ و الرجل جمع راجل كالشرب جمع شارب و الركب جمع راكب. قوله و إن معي لبصيرتي يريد أن البصيرة التي كانت معي في زمن رسول الله ص تتغير. و قوله ما لبست تقسيم جيد لأن كل ضال عن الهداية فإما أن يضل من تلقاء نفسه أو بإضلال غيره له. و قوله لأفرطن من رواها بفتح الهمزة فأصله فرط ثلاثي يقال فرط شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 240زيد القوم أي سبقهم و رجل فرط يسبق القوم إلى البئر فيهيئ لهم الأرشية و الدلاء و منه قوله ع إنا فرطكم على الحوض و يكون تقدير الكلام و ايم الله لأفرطن لهم إ حوض فلما حذف الجار عدي الفعل بنفسه فنصب كقوله تعالى وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ و تكون اللام في لهم إما لام التعدية كقوله و يؤمن للمؤمنين أي و يؤمن المؤمنين أو تكون لام التعليل أي لأجلهم و من رواها لأفرطن بضم الهمزة فهو من أفرط المزادة أي ملأها. و الماتح المستقي متح يمتح بالفتح و المائح بالياء الذي ينزل إلى البئر فيملأ الدلو. و قيل لأبي علي رحمه الله ما الفرق بين الماتح و المائح فقال هما كإعجامهما يعني أن التاء بنقطتين من فوق و كذلك الماتح لأنه المستقي فهو فوق البئر و الياء بنقطتين من تحت و كذلك المائح لأنه تحت في الماء الذي في البئر يملأ الدلاء و معنى قوله أنا ماتحه أنا خبير به كما يقول من يدعي معرفة الدار أنا باني هذه الدار و الكلام استعارة يقول لأملأن لهم حياض الحرب التي هي دربتي و عادتي أو لأسبقنهم إلى حياض حرب أنا متدرب بها مجرب لها إذا وردوها لا يصدرون عنها يعني قتلهم و إزهاق أنفسهم و من فر منهم لا يعود إليها و من

(2/205)


هذا اللفظ قول الشاعر
مخضت بدلوه حتى تحسى ذنوب الشر ملأى أو قرابا
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 11241- و من كلام له ع لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجملتَزُولُ الْجِبَالُ وَ لَا تَزُلْ عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ أَعِرِ اللَّهَ جُمْجُمَتَكَ تِدْ فِي الْأَرْضِ قَدَمَكَ ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ وَ غُضَّ بَصَرَكَ وَ اعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
قوله تزول الجبال و لا تزل خبر فيه معنى الشرط تقديره إن زالت الجبال فلا تزل أنت و المراد المبالغة في أخبار صفين أن بني عكل و كانوا مع أهل الشام حملوا في يوم من أيام صفين خرجوا و عقلوا أنفسهم بعمائمهم و تحالفوا أنا لا نفر حتى يفر هذا الحكر بالكاف قالوا لأن عكلا تبدل الجيم كافا. و الناجذ أقصى الأضراس و تد أمر من وتد قدمه في الأرض أي أثبتها فيها كالوتد و لا تناقض بين قوله ارم ببصرك و قوله غض بصرك و ذلك لأنه في الأولى أمره أن يفتح عينه و يرفع طرفه و يحدق إلى أقاصي القوم ببصره فعل الشجاع المقدام غير المكترث و لا المبالي لأن الجبان تضعف نفسه و يخفق قلبه فيقصر بصره و لا يرتفع طرفه و لا يمتد عنقه و يكون ناكس الرأس غضيض الطرف و في الثانية أمره أن يغض بصره عن بريق سيوفهم و لمعان دروعهم لئلا يبرق بصره و يدهش و يستشعر خوفا و تقدير الكلام و احمل و حذف ذلك للعلم به فكأنه قال إذا عزمت على الحملة شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 242و صممت فغض حينئذ بصرك و احمل و كن كالعشواء التي تخبط ما أمامها و لا تبالي. و قوله عض على ناجذك قالوا إن العاض على نواجذه ينبو السيف عن دماغه لأن عظام الرأس تشتد و تصلب و قد جاء في كلامه ع هذا مشروحا في ضع آخر و هو قوله و عضوا على النواجذ فإنه أنبى للصوارم عن الهام و يحتمل أن يريد به شدة الحنق قالوا فلان يحرق علي الأرم يريدون شدة الغيظ و الحرق صريف الأسنان و صوتها و الأرم الأضراس. و قوله

(2/206)


أعر الله جمجمتك معناه ابذلها في طاعة الله و يمكن أن يقال إن ذلك إشعار له أنه لا يقتل في تلك الحرب لأن العارية مردودة و لو قال له بع الله جمجمتك لكان ذلك إشعارا له بالشهادة فيها. و أخذ يزيد بن المهلب هذه اللفظة فخطب أصحابه بواسط فقال إني قد أسمع قول الرعاع جاء مسلمة و جاء العباس و جاء أهل الشام و من أهل الشام و الله ما هم إلا تسعة أسياف سبعة منها معي و اثنان علي و أما مسلمة فجرادة صفراء و أما العباس فنسطوس ابن نسطوس أتاكم في برابرة و صقالبة و جرامقة و جراجمة و أقباط و أنباط و أخلاط إنما أقبل إليكم الفلاحون و أوباش كأشلاء اللحم و الله ما لقوا قط كحديدكم و عديدكم أعيروني سواعدكم ساعة تصفقون بها خراطيمهم فإنما هي غدوة أو روحة حتى يحكم الله بيننا و بين القوم الظالمين. من صفات الشجاع قولهم فلان مغامر و فلان غشمشم أي لا يبصر ما بين يديه في الحرب و ذلك لشدة تقحمه و ركوبه المهلكة و قلة نظره في العاقبة و هذا هو معنى قوله ع لمحمد غض بصرك شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 24ذكر خبر مقتل حمزة بن عبد المطلب
و كان حمزة بن عبد المطلب مغامرا غشمشما لا يبصر أمامه قال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف لعبده وحشي يوم أحد ويلك إن عليا قتل عمي طعيمة سيد البطحاء يوم بدر فإن قتلته اليوم فأنت حر و إن قتلت محمدا فأنت حر و إن قتلت حمزة فأنت حر فلا أحد يعدل عمي إلا هؤلاء فقال أما محمد فإن أصحابه دونه و لن يسلموه و لا أراني أصل إليه و أما علي فرجل حذر مرس كثير الالتفات في الحرب لا أستطيع قتله و لكن سأقتل لك حمزة فإنه رجل لا يبصر أمامه في الحرب فوقف لحمزة حتى إذا حاذاه زرقه بالحربة كما تزرق الحبشة بحرابها فقتله
محمد بن الحنفية و نسبه و بعض أخباره

(2/207)


دفع أمير المؤمنين ع يوم الجمل رايته إلى محمد ابنه ع و قد استوت الصفوف و قال له احمل فتوقف قليلا فقال له احمل فقال يا أمير المؤمنين أ ما ترى السهام كأنها شآبيب المطر فدفع في صدره فقال أدركك عرق من أمك ثم أخذ الراية فهزها ثم قال
اطعن بها طعن أبيك تحمد لا خير في الحرب إذا لم توقدبالمشرفي و القنا المسدد
ثم حمل و حمل الناس خلفه فطحن عسكر البصرة
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 244قيل لمحمد لم يغرر بك أبوك في الحرب و لا يغرر بالحسن و الحسين ع فقال إنهما عيناه و أنا يمينه فهو يدفع عن عينيه بيمينهكان علي ع يقذف بمحمد في مهالك الحرب و يكف حسنا و حسينا عنها.
و من كلامه في يوم صفين املكوا عني هذين الفتيين أخاف أن ينقطع بهما نسل رسول الله ص
أم محمد رضي الله عنه خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. و اختلف في أمرها فقال قوم إنها سبية من سبايا الردة قوتل أهلها على يد خالد بن الوليد في أيام أبي بكر لما منع كثير من العرب الزكاة و ارتدت بنو حنيفة و ادعت نبوة مسيلمة و إن أبا بكر دفعها إلى علي ع من سهمه في المغنم. و قال قوم منهم أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني هي سبية في أيام رسول الله ص قالوا بعث رسول الله ص عليا إلى اليمن فأصاب خولة في بني زبيد و قد ارتدوا مع عمرو بن معديكرب و كانت زبيد سبتها من بني حنيفة في غارة لهم عليهم فصارت في سهم علي ع
فقال له رسول الله ص إن ولدت منك غلاما فسمه باسمي و كنه بكنيتي

(2/208)


فولدت له بعد موت فاطمة ع محمدا فكناه أبا القاسم. و قال قوم و هم المحققون و قولهم الأظهر إن بني أسد أغارت على بني حنيفة في خلافة أبي بكر الصديق فسبوا خولة بنت جعفر و قدموا بها المدينة فباعوها من علي ع شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 245و بلغ قومها خبرها فقدموا مدينة على علي ع فعرفوها و أخبروه بموضعها منهم فأعتقها و مهرها و تزوجها فولدت له محمدا فكناه أبا القاسم. و هذا القول هو اختيار أحمد بن يحيى البلاذري في كتابه المعروف بتاريخ الأشراف. لما تقاعس محمد يوم الجمل عن الحملة و حمل علي ع بالراية فضعضع أركان عسكر الجمل دفع إليه الراية و قال امح الأولى بالأخرى و هذه الأنصار معك. و ضم إليه خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين في جمع من الأنصار كثير منهم من أهل بدر فحمل حملات كثيرة أزال بها القوم عن مواقفهم و أبلى بلاء حسنا فقال خزيمة بن ثابت لعلي ع أما إنه لو كان غير محمد اليوم لافتضح و لئن كنت خفت عليه الحين و هو بينك و بين حمزة و جعفر لما خفناه عليه و إن كنت أردت أن تعلمه الطعان فطالما علمته الرجال.
و قالت الأنصار يا أمير المؤمنين لو لا ما جعل الله تعالى للحسن و الحسين لما قدمنا على محمد أحدا من العرب فقال علي ع أين النجم من الشمس و القمر أما إنه قد أغنى و أبلى و له فضله و لا ينقص فضل صاحبيه عليه و حسب صاحبكم ما انتهت به نعمة الله تعالى إليه فقالوا يا أمير المؤمنين إنا و الله لا نجعله كالحسن و الحسين و لا نظلمهما له و لا نظلمه لفضلهما عليه حقه فقال علي ع أين يقع ابني من ابني بنت رسول الله ص
فقال خزيمة بن ثابت فيه
محمد ما في عودك اليوم وصمة و لا كنت في الحرب الضروس معرداأبوك الذي لم يركب الخيل مثله علي و سماك النبي محمدافلو كان حقا من أبيك خليفة لكنت و لكن ذاك ما لا يرى بدا

(2/209)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 246و أنت بحمد الله أطول غالب لسانا و أنداها بما ملكت يداو أقربها من كل خير تريده قريش و أوفاها بما قال موعداو أطعنهم صدر الكمي برمحه و أكساهم للهام عضبا مهنداسوى أخويك السيدين كلاهما إمام الورى و الداعيان إلى الهدى أبى الله أنطي عدوك مقعدا من الأرض أو في الأوج مرقى و مصعدا
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 12247- و من كلام له ع لما أظفره الله بأصحاب الجملوَ قَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلَاناً كَانَ شَاهِدَنَا لِيَرَى مَا نَصَرَكَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَعْدَائِكَ فَقَالَ عَلِيٌّ ع أَ هَوَى أَخِيكَ مَعَنَا فَقَالَ نَعَمْ قَالَ فَقَدْ شَهِدَنَا وَ لَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا قَوْمٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ أَرْحَامِ النِّسَاءِ سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ وَ يَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَانُ
يرعف بهم الزمان يوجدهم و يخرجهم كما يرعف الإنسان بالدم الذي يخرجه من أنفه قال الشاعر
و ما رعف الزمان بمثل عمرو و لا تلد النساء له ضريبا
و المعنى مأخوذ من قول النبي ص لعثمان و لم يكن شهد بدرا تخلف على رقية ابنة رسول الله ص لما مرضت مرض موتها لقد كنت شاهدا و إن كنت غائبا لك أجرك و سهمك
من أخبار يوم الجمل

(2/210)


قال الكلبي قلت لأبي صالح كيف لم يضع علي ع السيف في أهل البصرة يوم الجمل بعد ظفره قال سار فيهم بالصفح و المن الذي سار به رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 248في أهل مكة يوم الفتح فإنه أراد أن يستعرضهم بالسيف ثم من عليهم و كان يحب أن يهديهم الله. قال ف بن خليفة ما دخلت دار الوليد بالكوفة التي فيها القصارون إلا و ذكرت بأصواتهم وقع السيوف يوم الجمل. حرب بن جيهان الجعفي لقد رأيت الرماح يوم الجمل قد أشرعها الرجال بعضهم في صدر بعض كأنها آجام القصب لو شاءت الرجال أن تمشي عليها لمشت و لقد صدقونا القتال حتى ما ظننت أن ينهزموا و ما رأيت يوما قط أشبه بيوم الجمل من يوم جلولاء الوقيعة. الأصبغ بن نباتة لما انهزم أهل البصرة ركب علي ع بغلة رسول الله ص الشهباء و كانت باقية عنده و سار في القتلى يستعرضهم فمر بكعب بن سور القاضي قاضي البصرة و هو قتيل فقال أجلسوه فأجلس فقال له ويلمك كعب بن سور لقد كان لك علم لو نفعك و لكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار أرسلوه ثم مر بطلحة بن عبيد الله قتيلا فقال أجلسوه فأجلس قال أبو مخنف في كتابه فقال ويلمك طلحة لقد كان لك قدم لو نفعك و لكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار. و أما أصحابنا فيروون غير ذلك يروون أنه ع قال له لما أجلسوه أعزز علي أبا محمد أن أراك معفرا تحت نجوم السماء و في بطن هذا الوادي أ بعد جهادك في الله و ذبك عن رسول الله ص فجاء إليه إنسان فقال أشهد يا أمير المؤمنين لقد مررت عليه بعد أن أصابه السهم و هو صريع فصاح بي فقال من أصحاب من أنت فقلت من أصحاب أمير المؤمنين ع فقال امدد يدك لأبايع شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 249لأمير المؤمنين ع فمددت إليه يدي فبايعني لك فقال علي ع أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلا و بيعتي في عنقه

(2/211)


ثم مر بعبد الله بن خلف الخزاعي و كان ع قتله بيده مبارزة و كان رئيس أهل البصرة فقال أجلسوه فأجلس فقال الويل لك يا ابن خلف لقد عانيت أمرا عظيما. و قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ و مر ع بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فقال أجلسوه فأجلس فقال هذا يعسوب قريش هذا اللباب المحض من بني عبد مناف ثم قال شفيت نفسي و قتلت معشري إلى الله أشكو عجري و بجري قتلت الصناديد من بني عبد مناف و أفلتني الأعيار من بني جمح فقال له قائل لشد ما أطريت هذا الفتى منذ اليوم يا أمير المؤمنين قال إنه قام عني و عنه نسوة لم يقمن عنك. قال أبو الأسود الدؤلي لما ظهر علي ع يوم الجمل دخل بيت المال بالبصرة في ناس من المهاجرين و الأنصار و أنا معهم فلما رأى كثرة ما فيه قال غري غيري مرارا ثم نظر إلى المال و صعد فيه بصره و صوب و قال اقسموه بين أصحابي خمسمائة خمسمائة فقسم بينهم فلا و الذي بعث محمدا بالحق ما نقص درهما و لا زاد درهما كأنه كان يعرف مبلغه و مقداره و كان ستة آلاف ألف درهم و الناس اثنا عشر ألفا.

(2/212)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 250حبة العرني قسم علي ع بيت مال البصرة على أصحابه خمسمائة خمسمائة و أخذ خمسمائة درهم كواحد منهم فجاءه إنسان لم يحضر الوقعة فقال يا أمير المؤمنين كنت شاهدا معك بقلبي و إن غاب عنك جسمي فأعطني من الفي ء شيئا فدفع إليه الذي أخذه له و هو خمسمائة درهم و لم يصب من الفي ء شيئا. اتفقت الرواة كلها على أنه ع قبض ما وجد في عسكر الجمل من سلاح و دابة و مملوك و متاع و عروض فقسمه بين أصحابه و أنهم قالوا له اقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقا فقال لا فقالوا فكيف تحل لنا دماءهم و تحرم علينا سبيم فقال كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة و إسلام أما ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم و أما ما وارت الدور و أغلقت عليه الأبواب فهو لأهله و لا نصيب لكم في شي ء منه فلما أكثروا عليه قال فأقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه القرعة فقالوا نستفر الله يا أمير المؤمنين ثم انصرفوا

(2/213)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 13251- و من كلام له ع في ذم أهل البصرةكُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ وَ أَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ رَغَا فَأَجَبْتُمْ وَ عُقِرَ فَهَرَبْتُمْ أَخْلَاقُكُمْ دِقَاقٌ وَ عَهْدُكُمْ شِقَاقٌ وَ دِينُكُمْ نِفَاقٌ وَ مَاؤُكُمْ زُعَاقٌ وَ الْمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ وَ الشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَأَنِّي بِمَسْجِدِكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهَا وَ مِنْ تَحْتِهَا وَ غَرَّقَ مَنْ فِي ضِمْنِهَا وَ فِي رِوَايَةٍ وَ ايْمُ اللَّهِ لَتُغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ أَوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ وَ فِي رِوَايَةٍ كَجُؤْجُؤِ طَيْرٍ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِلَادُكُمْ أَنْتَنُ بِلَادِ اللَّهِ تُرْبَةً أَقْرَبُهَا مِنَ الْمَاءِ وَ أَبْعَدُهَا مِنَ السَّمَاءِ وَ بِهَا تِسْعَةُ أَعْشَارِ الشَّرِّ الْمُحْتَبَسُ فِيهَا بِذَنْبِهِ وَ الْخَارِجُ بِعَفْوِ اللَّهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى قَرْيَتِكُمْ هَذِهِ قَدْ طَبَّقَهَا الْمَاءُ حَتَّى مَا يُرَى مِنْهَا إِلَّا شُرَفُ الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ جُؤْجُؤُ طَيْرٍ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 252قوله و أتباع البهيمة يعني الجمل و كان جمل عائشة راية عسكر البصرة قتلوا دونه كما تقتل الرجال تحت راياتها. و قوله أخلاقكم دقاق يصفهم باللؤم و في الحديث أن رجلا قال له يا رسول الله إني أحب أن أنكح فلانة إلا أن في أخلاق أهلها دقه فقال له إياك و خضراء الدمن إياك و المرأة الحسناء في منبت السوء

(2/214)


قوله و عهدكم شقاق يصفهم بالغدر يقول عهدكم و ذمتكم لا يوثق بها بل هي و إن كانت في الصورة عهدا أو ذمة فإنها في المعنى خلاف و عداوة. قوله و ماؤكم زعاق أي ملح و هذا و إن لم يكن من أفعالهم إلا أنه مما تذم به المدينة كما قال
بلاد بها الحمى و أسد عرينة و فيها المعلى يعتدي و يجورفإني لمن قد حل فيها لراحم و إني من لم يأتها لنذير
و لا ذنب لأهلها في أنها بلاد الحمى و السباع. ثم وصف المقيم بين أظهرهم بأنه مرتهن بذنبه لأنه إما أن يشاركهم في الذنوب أو يراها فلا ينكرها و مذهب أصحابنا أنه لا تجوز الإقامة في دار الفسق كما لا تجوز الإقامة في دار الكفر. و جؤجؤ عظم الصدر و جؤجؤ السفينة صدرها. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 253فأما إخباره ع أن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها فقد رأيت من يذكر أن كتب الملاحم تدل على أن البصرة تهلك بالماء الأسود ينفجر من أرضها فتغرق و يبقى مسجدها. و الصحيح أن المخبر به قد وقع فإن البصرة غرقت مرتين مرة في أيام القا بالله و مرة في أيام القائم بأمر الله غرقت بأجمعها و لم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزا بعضه كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين ع جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس و من جهة الجبل المعروف بجبل السنام و خربت دورها و غرق كل ما في ضمنها و هلك كثير من أهلها. و أخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة يتناقلها خلفهم عن سلفهم
من أخبار يوم الجمل أيضا

(2/215)


قال أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني و محمد بن عمر الواقدي ما حفظ رجز قط أكثر من رجز قيل يوم الجمل و أكثره لبني ضبة و الأزد الذين كانوا حول الجمل يحامون عنه و لقد كانت الرءوس تندر عن الكواهل و الأيدي تطيح من المعاصم و أقتاب البطن تندلق من الأجواف و هم حول الجمل كالجراد الثابتة لا تتحلحل و لا تتزلزل حتى لقد صرخ ع بأعلى صوته ويلكم اعقروا الجمل فإنه شيطان ثم قال اعقروه و إلا فنيت العرب لا يزال السيف قائما و راكعا حتى يهوي هذا البعير شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 254إلى الأرض فصمدوا له حتى عقروه فسقط و له رغ شديد فلما برك كانت الهزيمة. و من الأراجيز المحفوظة يوم الجمل لعسكر البصرة قول بعضهم
نحن بني ضبة أصحاب الجمل ننازل الموت إذا الموت نزل ننعى ابن عفان بأطراف الأسل ردوا علينا شيخنا ثم بجل الموت أحلى عندنا من العسل لا عار في الموت إذا حان الأجل إن عليا هو من شر البدل إن تعدلوا بشيخنا لا يعتدل أين الوهاد و شماريخ الفأجابه رجل من عسكر الكوفة من أصحاب أمير المؤمنين ع
نحن قتلنا نعثلا فيمن قتل أكثر من أكثر فيه أو أقل أنى يرد نعثل و قد قحل نحن ضربنا وسطه حتى انجدل لحكمه حكم الطواغيت الأول آثر بالفي ء و جافى في العمل فأبدل الله به خير بدل إني امرؤ مستقدم غير وكل مشمر للحرب معروفو من أراجيز أهل البصرة
يا أيها الجند الصليب الإيمان قوموا قياما و استغيثوا الرحمن
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 255إني أتاني خبر ذو ألوان إن عليا قتل ابن عفان ردوا إلينا شيخنا كما كان يا رب و ابعث ناصرا لعثمان يقتلهم بقوة و سلفأجابه رجل من عسكر الكوفة.
أبت سيوف مذحج و همدان بأن ترد نعثلا كما كان خلقا سويا بعد خلق الرحمن و قد قضى بالحكم حكم الشيطان و فارق الحق و نور الفرقان فذاق كأس الموت شرب الظمآو من الرجز المشهور المقول يوم الحمل قاله أهل البصرة

(2/216)


يا أمنا عائش لا تراعي كل بنيك بطل المصاع ينعى ابن عفان إليك ناع كعب بن سور كاشف القناع فارضي بنصر السيد المطاع و الأزد فيها كرم الطباو منه قول بعضهم
يا أمنا يكفيك منا دنوه لن يؤخذ الدهر الخطام عنوه و حولك اليوم رجال شنوه و حي همدان رجال الهبوه و المالكيون القليلو الكبوه و الأزد حي ليس فيهم نبوقالوا و خرج من أهل البصرة شيخ صبيح الوجه نبيل عليه جبة وشي يحض الناس على الحرب و يقول
يا معشر الأزد عليكم أمكم فإنها صلاتكم و صومكم و الحرمة العظمى التي تعمكم فأحضروها جدكم و حزمكم شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 256لا يغلبن سم العدو سمكم إن العدو إن علاكم زمكم و خصكم بجوره و عمكم لا تفضحوا اليوم فداكم قومقال المدائني و الواقدي و هذا الرجز يصدق الرواية أن الزبير و طلحة قاما في الناس فقالا إن عليا إن يظفر فهو فناؤكم يا أهل البصرة فاحموا حقيقتكم فإنه لا يبقي حرمة إلا انتهكها و لا حريما إلا هتكه و لا ذرية إلا قتلها و لا ذوات خدر إلا سباهن فقاتلوا مقاتلة من يحمي عن حريمه و يختار الموت على الفضيحة يراها في أهله. و قال أبو مخنف لم يقل أحد من رجاز البصرة قولا كان أحب إلى أهل الجمل من قول هذا الشيخ استقتل الناس عند قوله و ثبتوا حول الجمل و انتدبوا فخرج عوف بن قطن الضبي و هو ينادي ليس لعثمان ثأر إلا علي بن أبي طالب و ولده فأخذ خطام الجمل و قال
يا أم يا أم خلا مني الوطن لا أبتغي القبر و لا أبغي الكفن من هاهنا محشر عوف بن قطن إن فاتنا اليوم علي فالغبن أو فاتنا ابناه حسين و حسن إذا أمت بطول هم و حزثم تقدم فضرب بسيفه حتى قتل. و تناول عبد الله بن أبزى خطام الجمل و كان كل من أراد الجد في الحرب و قاتل قتال مستميت يتقدم إلى الجمل فيأخذ بخطامه ثم شد على عسكر علي ع و قال
أضربهم و لا أرى أبا حسن ها إن هذا حزن من الحزن

(2/217)


فشد عليه علي أمير المؤمنين ع بالرمح فطعنه فقتله و قال قد رأيت أبا حسن فكيف رأيته و ترك الرمح فيه. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 257و أخذت عائشة كفا من حصى فحصبت به أصحاب علي ع و صاحت بأعلى صوتها شاهت الوجوه كما صنع رسول الله ص يوم حنين فقال لها قائل و ما رميإذ رميت و لكن الشيطان رمى و زحف علي ع نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين و الأنصار و حوله بنوه حسن و حسين و محمد ع و دفع الراية إلى محمد و قال أقدم بها حتى تركزها في عين الجمل و لا تقفن دونه فتقدم محمد فرشقته السهام فقال لأصحابه رويدا حتى تنفد سهامهم فلم يبق لهم إلا رشقة أو رشقتان فأنفذا إليه علي ع إليه يستحثه و يأمره بالمناجزة فلما أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن و قال له أقدم لا أم لك فكان محمد رضي الله عنه إذا ذكر ذلك بعد يبكي و يقول لكأني أجد ريح نفسه في قفاي و الله لا أنسى أبدا ثم أدركت عليا ع رقة على ولده فتناول الراية منه بيده اليسرى و ذو الفقار مشهور في يمنى يديه ثم حمل فغاص في عسكر الجمل ثم رجع و قد انحنى سيفه فأقامه بركبته فقال له أصحابه و بنوه و الأشتر و عمار نحن نكفيك يا أمير المؤمنين فلم يجب أحدا منهم و لا رد إليهم بصره و ظل ينحط و يزأر زئير الأسد حتى فرق من حوله و تبادروه و إنه لطامح ببصره نحو عسكر البصرة لا يبصر من حوله و لا يرد حوارا ثم دفع الراية إلى ابنه محمد ثم حمل حملة ثانية وحده فدخل وسطهم فضربهم بالسيف قدما قدما و الرجال تفر من بين يديه و تنحاز عنه يمنة و يسرة حتى خضب الأرض بدماء القتلى ثم رجع و قد انحنى سيفه فأقامه بركبته فاعصوصب به أصحابه و ناشدوه الله في نفسه و في الإسلام و قالوا إنك إن تصب يذهب الدين فأمسك و نحن نكفيك فقال و الله ما أريد بما ترون إلا وجه الله و الدار الآخرة ثم قال لمحمد ابنه هكذا تصنع يا ابن الحنفية فقال الناس من الذي يستطيع ما تستطيعه يا

(2/218)


أمير المؤمنين. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 258و من كلماته الفصيحة ع في يوم الجمل ما رواه الكلبي عن رجل من الأنصار قال بينا أنا واقف في أول الصفوف يوم الجمل إذ جاء علي ع فانحرفت إليه فقال أين مث القوم فقلت هاهنا نحو عائشة. قال الكلبي يريد أين عددهم و أين جمهورهم و كثرتهم و المال الثري على فعيل هو الكثير و منه رجل ثروان و امرأة ثروى و تصغيرها ثريا و الصدقة مثراة للمال أي مكثرة له. قال أبو مخنف و بعث علي ع إلى الأشتر أن احمل على ميسرتهم فحمل عليها و فيها هلال بن وكيع فاقتتلوا قتالا شديدا و قتل هلال قتله الأشتر فمالت الميسرة إلى عائشة فلاذوا بها و عظمهم بنو ضبة و بنو عدي ثم عطفت الأزد و ضبة و ناجية و باهلة إلى الجمل فأحاطوا به و اقتتل الناس حوله قتالا شديدا و قتل كعب بن سور قاضي البصرة جاءه سهم غرب فقتله و خطام الجمل في يده ثم قتل عمرو بن يثربي الضبي و كان فارس أصحاب الجمل و شجاعهم بعد أن قتل كثيرا من أصحاب علي ع. قالوا كان عمرو أخذ بخطام الجمل فدفعه إلى ابنه ثم دعا إلى البراز فخرج إليه علباء بن الهيثم السدوسي فقتله عمرو ثم دعا إلى البراز فخرج إليه هند بن عمرو الجملي فقتله عمرو ثم دعا إلى البراز فقال زيد بن صوحان العبدي لعلي ع يا أمير المؤمنين إني رأيت يدا أشرفت علي من السماء و هي تقول هلم إلينا و أنا خارج إلى شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 259ابن يثربي فإذا قتلني فادفني بدمي و لا تغسلني فإني مخاصم عند ربثم خرج فقتله عمرو ثم رجع إلى خطام الجمل مرتجزا يقول

(2/219)


أرديت علباء و هندا في طلق ثم ابن صوحان خضيبا في علق قد سبق اليوم لنا ما قد سبق و الوتر منا في عدي ذي الفرق و الأشتر الغاوي و عمرو بن الحمق و الفارس المعلم في الحرب الحنق ذاك الذي في الحادثات لم يطق أعني عليا ليته فينا مقال قوله و الوتر منا في عدي يعني عدي بن حاتم الطائي و كان من أشد الناس على عثمان و من أشدهم جهادا مع علي ع ثم ترك ابن يثربي الخطام و خرج يطلب المبارزة فاختلف في قاتله فقال قوم إن عمار بن ياسر خرج إليه و الناس يسترجعون له لأنه كان أضعف من برز إليه يومئذ أقصرهم سيفا و أقصفهم رمحا و أحمشهم ساقا حمالة سيفه من نسعة الرحل و ذباب سيفه قريب من إبطه فاختلفا ضربتين فنشب سيف ابن يثربي في حجفة عمار فضربه عمار على رأسه فصرعه ثم أخذ برجله يسحبه حتى انتهى به إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين استبقني أجاهد بين يديك و أقتل منهم مثل ما قتلت منكم فقال له علي ع أ بعد زيد و هند و علباء أستبقيك لاها الله إذا قال فأدنني منك أسارك قال له أنت متمرد و قد أخبرني رسول الله ص بالمتمردين و ذكرك فيهم فقال أما و الله لو وصلت إليك لعضضت أنفك عضة أبنته منك. فأمر به علي ع فضربت عنقه. شرح نهج بلاغة ج : 1 ص : 260و قال قوم إن عمرا لما قتل من قتل و أراد أن يخرج لطلب البراز قال للأزد يا معشر الأزد إنكم قوم لكم حياء و بأس و إني قد وترت القوم و هم قاتلي و هذه أمكم نصرها دين و خذلانها عقوق و لست أخشى أن أقتل حتى أصرع فإن صرعت فاستنقذوني فقالت له الأزد ما في هذا الجمع أحد نخافه عليك إلا الأشتر قال فإياه أخاف. قال أبو مخنف فقيضه الله له و قد أعلما جميعا فارتجز الأشتر
إني إذا ما الحرب أبدت نابها و أغلقت يوم الوغى أبوابهاو مزقت من حنق أثوابها كنا قداماها و لا أذنابهاليس العدو دوننا أصحابها من هابها اليوم فلن أهابهالا طعنها أخشى و لا ضرابها

(2/220)


ثم حمل عليه فطعنه فصرعه و حامت عنه الأزد فاستنقذوه فوثب و هو وقيذ ثقيل فلم يستطع أن يدفع عن نفسه و استعرضه عبد الرحمن بن طود البكري فطعنه فصرعه ثانية و وثب عليه رجل من سدوس فأخذه مسحوبا برجله حتى أتى به عليا ع فناشده الله و قال يا أمير المؤمنين اعف عني فإن العرب لم تزل قائلة عنك إنك لم تجهز على جريح قط فأطلقه و قال اذهب حيث شئت فجاء إلى أصحابه و هو لما به حضره الموت فقالوا له دمك عند أي الناس فقال أما الأشتر فلقيني و أنا كالمهر الأرن فعلا حده حدي و لقيت رجلا يبتغي له عشرة أمثالي و أما البكري فلقيني و أنا لما بي و كان يبتغي لي عشرة أمثاله و تولى أسري أضعف القوم و صاحبي الأشتر. قال أبو مخنف فلما انكشفت الحرب شكرت ابنة عمرو بن يثربي الأزد و عابت قومها فقالت شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 26يا ضب إنك قد فجعت بفارس حامي الحقيقة قاتل الأقران عمرو بن يثرب الذي فجعت به كل القبائل من بني عدنان لم يحمه وسط العجاجة قومه و حنت عليه الأزد أزد عمان فلهم علي بذاك حادث نعمة و لحبهم أحببت كل يمان لو كان يدفع عن منية هالك طول الأكف بذابل المران أو معشوا الخطا بسيوفهم وسط العجاجة و الحتوف دوان ما نيل عمر و الحوادث جمة حتى ينال النجم و القمران لو غير الأشتر ناله لندبته و بكيته ما دام هضب أبان لكنه من لا يعاب بقتله أسد الأسود و فارس الفرسقال أبو مخنف و بلغنا أن عبد الرحمن بن طود البكري قال لقومه أنا و الله قتلت عمرا و إن الأشتر كان بعدي و أنا أمامه في الصعاليك فطعنت عمرا طعنة لم أحسب أنها تجعل للأشتر دوني و إنما الأشتر ذو حظ في الحرب و إنه ليعلم أنه كان خلفي و لكن أبى الناس إلا أنه صاحبه و لا أرى أن أكون خصم العامة و إن الأشتر لأهل ألا ينازع فلما بلغ الأشتر قوله قال أما و الله لو لا أني أطفأت جمرته عنه ما دنا منه و ما صاحبه غيري و إن الصيد لمن وقذه فقال عبد الرحمن لا أنازع فيه ما القول إلا ما قاله

(2/221)


و أنى لي أن أخالف الناس. قال و خرج عبد الله بن خلف الخزاعي و هو رئيس البصرة و أكثر أهلها مالا و ضياعا فطلب البراز و سأل ألا يخرج إليه إلا علي ع و ارتجز فقال
أبا تراب ادن مني فترا فإنني دان إليك شبراو إن في صدري عليك غمرا
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 262فخرج إليه علي ع فلم يمهله أن ضربه ففلق هامته. قالوا استدار الجمل كما تدور الرحى و تكاثفت الرجال من حوله و اشتد رغاؤه و اشتد زحام الناس عليه و نادى الحتات المجاشعي أيها الناس أمكم أمكم و اختلط الناس فضرب بعضهم بعضا و تقصد أهللكوفة قصد الجمل و الرجال دونه كالجبال كلما خف قوم جاء أضعافهم فنادى علي ع ويحكم ارشقوا الجمل بالنبل اعقروه لعنه الله فرشق بالسهام فلم يبق فيه موضع إلا أصابه النبل و كان مجففا فتعلقت السهام به فصار كالقنفذ و نادت الأزد و ضبة يا لثارات عثمان فاتخذوها شعارا و نادى أصحاب علي ع يا محمد فاتخذوها شعارا و اختلط الفريقان و نادى علي ع بشعار رسول الله ص يا منصور أمت و هذا في اليوم الثاني من أيام الجمل فلما دعا بها تزلزلت أقدام القوم و ذلك وقت العصر بعد أن كانت الحرب من وقت الفجر. قال الواقدي
و قد روي أن شعاره ع كان في ذلك اليوم حم لا ينصرون اللهم انصرنا على القوم الناكثين
ثم تحاجز الفريقان و القتل فاش فيهما إلا أنه في أهل البصرة أكثر و أمارات النصر لائحة لعسكر الكوفة ثم تواقفوا في اليوم الثالث فبرز أول الناس عبد الله بن الزبير و دعا إلى المبارزة فبرز إليه الأشتر فقالت عائشة من برز إلى عبد الله قالوا الأشتر فقالت وا ثكل أسماء فضرب كل منهما صاحبه فجرحه ثم اعتنقا فصرع الأشتر عبد الله و قعد على صدره و اختلط الفريقان هؤلاء لينقذوا عبد الله و هؤلاء ليعينوا الأشتر و كان الأشتر طاويا ثلاثة أيام شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 263لم يطعم و هذه عادته في الحرب و كان أيضا شيخا عالي السن فجععبد الله ينادي
اقتلوني و مالكا

(2/222)


فلو قال اقتلوني و الأشتر لقتلوهما إلا أن أكثر من كان يمر بهما لا يعرفهما لكثرة من وقع في المعركة صرعى بعضهم فوق بعض و أفلت ابن الزبير من تحته و لم يكد فذلك قول الأشتر
أ عائش لو لا أنني كنت طاويا ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكاغداة ينادي و الرجال تحوزه بأضعف صوت اقتلوني و مالكافلم يعرفوه إذ دعاهم و غمه خدب عليه في العجاجة باركافنجاه مني أكله و شبابه و أني شيخ لم أكن متماسكا
و روى أبو مخنف عن الأصبغ بن نباتة قال دخل عمار بن ياسر و مالك بن الحارث الأشتر على عائشة بعد انقضاء أمر الجمل فقالت عائشة يا عمار من معك قال الأشتر فقالت يا مالك أنت الذي صنعت بابن أختي ما صنعت قال نعم و لو لا أني كنت طاويا ثلاثة أيام لأرحت أمة محمد منه فقالت أ ما علمت
أن رسول الله ص قال لا يحل دم مسلم إلا بأحد أمور ثلاثة كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق
فقال الأشتر على بعض هذه الثلاثة قاتلناه يا أم المؤمنين و ايم الله ما خانني سيفي قبلها و لقد أقسمت ألا يصحبني بعدها. قال أبو مخنف ففي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشعر الذي ذكرناه
و قالت على أي الخصال صرعته بقتل أتى أم رده لا أبا لكاأم المحصن الزاني الذي حل قتله فقلت لها لا بد من بعض ذلكا

(2/223)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 264قال أبو مخنف و انتهى الحارث بن زهير الأزدي من أصحاب علي ع إلى الجمل و رجل آخذ بخطامه لا يدنو منه أحد إلا قتله فلما رآه الحارث بن زهير مشى إليه بالسيف و ارتجز فقال لعائشةيا أمنا أعق أم نعلم و الأم تغذو ولدها و ترحم أ ما ترين كم شجاع يكلم و تختلى هامته و المعصمفاختلف هو و الرجل ضربتين فكلاهما أثخن صاحبه. قال جندب بن عبد الله الأزدي فجئت حتى وقفت عليهما و هما يفحصان بأرجلهما حتى ماتا قال فأتيت عائشة بعد ذلك أسلم عليها بالمدينة فقالت من أنت قلت رجل من أهل الكوفة قالت هل شهدتنا يوم البصرة قلت نعم قالت مع أي الفريقين قلت مع علي قالت هل سمعت مقالة الذي قال
يا أمنا أعق أم نعلم
قلت نعم و أعرفه قالت و من هو قلت ابن عم لي قالت و ما فعل قلت قتل عند الجمل و قتل قاتله قال فبكت حتى ظننت و الله أنها لا تسكت ثم قالت لوددت و الله أنني كنت مت قبل ذلك اليوم بعشرين سنة. قالوا و خرج رجل من عسكر البصرة يعرف بخباب بن عمرو الراسبي فارتجز فقال
أضربهم و لو أرى عليا عممته أبيض مشرفياأريح منه معشرا غويا
فصمد عليه الأشتر فقتله. ثم تقدم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس و هو شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 265من أشراف قريش و كان اسم سيفه ولول فارتجز فقالأنا ابن عتاب و سيفي ولول و الموت دون الجمل المجلل

(2/224)


فحمل عليه الأشتر فقتله ثم خرج عبد الله بن حكيم بن حزام من بني أسد بن عبد العزى بن قصي من أشراف قريش أيضا فارتجز و طلب المبارزة فخرج إليه الأشتر فضربه على رأسه فصرعه ثم قام فنجا بنفسه. قالوا و أخذ خطام الجمل سبعون من قريش قتلوا كلهم و لم يكن يأخذ بخطام الجمل أحد إلا سالت نفسه أو قطعت يده و جاءت بنو ناجية فأخذوا بخطام الجمل و لم يكن يأخذ الخطام أحد إلا سألت عائشة من هذا فسألت عنهم فقيل بنو ناجية فقالت عائشة صبرا يا بني ناجية فإني أعرف فيكم شمائل قريش قالوا و بنو ناجية مطعون في نسبهم إلى قريش فقتلوا حولها جميعا. قال أبو مخنف و حدثنا إسحاق بن راشد عن عبد الله بن الزبير قال أمسيت يوم الجمل و بي سبعة و ثلاثون جرحا من ضربة و طعنة و رمية و ما رأيت مثل يوم الجمل قط ما كان الفريقان إلا كالجبلين لا يزولان.
قال أبو مخنف و قام رجل إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين أي فتنة أعظم من هذه إن البدرية ليمشي بعضها إلى بعض بالسيف فقال علي ع ويحك أ تكون فتنة أنا أميرها و قائدها و الذي بعث محمدا بالحق و كرم وجهه ما كذبت و لا كذبت و لا ضللت و لا ضل بي و لا زللت و لا زل بي و إني لعلى بينة من ربي بينها الله لرسوله و بينها رسوله لي و سأدعى يوم القيامة و لا ذنب لي و لو كان لي ذنب لكفر عني ذنوبي ما أنا فيه من قتالهم

(2/225)


قال أبو مخنف و حدثنا مسلم الأعور عن حبة العرني قال فلما رأى علي ع شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 266أن الموت عند الجمل و أنه ما دام قائما فالحرب لا تطفأ وضع سيفه على عاتقه و عطف نحوه و أمر أصحابه بذلك و مشى نحوه و الخطام مع بني ضبة فاقتتلوا قتالا شديدا و استحالقتل في بني ضبة فقتل منهم مقتلة عظيمة و خلص علي ع في جماعة من النخع و همدان إلى الجمل فقال لرجل من النخع اسمه بجير دونك الجمل يا بجير فضرب عجز الجمل بسيفه فوقع لجنبه و ضرب بجرانه الأرض و عج عجيجا لم يسمع بأشد منه فما هو إلا أن صرع الجمل حتى فرت الرجال كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب و احتملت عائشة بهودجها فحملت إلى دار عبد الله بن خلف و أمر علي ع بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح
و قال ع لعنه الله من دابة فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ثم قرأ وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 14267- و من كلام له ع في مثل ذلكأَرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمَاءِ بَعِيدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ خَفَّتْ عُقُولُكُمْ وَ سَفِهَتْ حُلُومُكُمْ فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ وَ أُكْلَةٌ لآِكِلٍ وَ فَرِيسَةٌ لِصَائِلٍ

(2/226)


الغرض ما ينصب ليرمى بالسهام و النابل ذو النبل و الأكلة بضم الهمزة المأكول و فريسة الأسد ما يفترسه. و سفه فلان بالكسر أي صار سفيها و سفه بالضم أيضا فإذا قلت سفه فلان رأيه أو حلمه أو نفسه لم تقل إلا بالكسر لأن فعل بالضم لا يتعدى و قولهم سفه فلان نفسه و غبن رأيه و بطر عيشه و ألم بطنه و رفق حاله و رشد أمره كان الأصل فيه كله سفهت نفس زيد فلما حول الفعل إلى الرجل انتصب ما بعده بالمفعولية هذا مذهب البصريين و الكسائي من الكوفيين. و قال الفراء لما حول الفعل إلى الرجل خرج ما بعده مفسرا ليدل على أن السفاهة فيه و كان حكمه أن يكون سفه زيد نفسا لأن المفسر لا يكون إلا نكرة و لكنه ترك على إضافته و نصب كنصب النكرة تشبيها بها. و يجوز عند البصريين و الكسائي تقديم المنصوب كما يجوز ضرب غلامه زيد و عند الفراء لا يجوز تقديمه لأن المفسر لا يتقدم. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 268فأماوله أرضكم قريبة من الماء بعيدة من السماء فقد قدمنا معنى قوله قريبة من الماء و ذكرنا غرقها من بحر فارس دفعتين و مراده ع بقوله قريبة من الماء أي قريبة من الغرق بالماء و أما بعيدة من السماء فإن أرباب علم الهيئة و صناعة التنجيم يذكرون أن أبعد موضع في الأرض عن السماء الأبلة و ذلك موافق لقوله ع. و معنى البعد عن السماء هاهنا هو بعد تلك الأرض المخصوصة عن دائرة معدل النهار و البقاع و البلاد تختلف في ذلك و قد دلت الأرصاد و الآلات النجومية على أن أبعد موضع في المعمورة عن دائرة معدل النهار هو الأبلة و الأبلة هي قصبة البصرة. و هذا الموضع من خصائص أمير المؤمنين ع لأنه أخبر عن أمر لا تعرفه العرب و لا تهتدى إليه و هو مخصوص بالمدققين من الحكماء و هذا من أسراره و غرائبه البديعة

(2/227)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 15269- و من كلام له ع فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان رضي الله عنهوَ اللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ وَ مُلِكَ بِهِ الْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً وَ مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ
القطائع ما يقطعه الإمام بعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج و يسقط عنه خراجه و يجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج و قد كان عثمان أقطع كثيرا من بني أمية و غيرهم من أوليائه و أصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه الصورة و قد كان عمر أقطع قطائع و لكن لأرباب الغناء في الحرب و الآثار المشهورة في الجهاد فعل ذلك ثمنا عما بذلوه من مهجهم في طاعة الله سبحانه و عثمان أقطع القطائع صلة لرحمه و ميلا إلى أصحابه عن غير عناء في الحرب و لا أثر.
و هذه الخطبة ذكرها الكلبي مروية مرفوعة إلى أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عليا ع خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان و كل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال فإن الحق القديم لا يبطله شي ء و لو وجدته و د تزوج به النساء و فرق في البلدان لرددته إلى حاله فإن في العدل سعة و من ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق

(2/228)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 270و تفسير هذا الكلام أن الوالي إذا ضاقت عليه تدبيرات أموره في العدل فهي في الجور أضيق عليه لأن الجائر في مظنة أن يمنع و يصد عن جوره. قال الكلبي ثم أمر ع بكل سلاح وجد لعثمان في داره مما تقوى به على المسلمين فقبض و أمر بقبض نجائكانت في داره من إبل الصدقة فقبضت و أمر بقبض سيفه و درعه و أمر ألا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمون و بالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره و في غير داره و أمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها. فبلغ ذلك عمرو بن العاص و كان بأيلة من أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها فكتب إلى معاوية ما كنت صانعا فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها. و قال الوليد بن عقبة و هو أخو عثمان من أمه يذكر قبض علي ع نجائب عثمان و سيفه و سلاحه
بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم و لا تنهبوه لا تحل مناهبه بني هاشم كيف الهوادة بيننا و عند علي درعه و نجائبه بني هاشم كيف التودد منكم و بز ابن أروى فيكم و حرائبه بني هاشم إلا تردوا فإننا سواء علينا قاتلاه و سالبه بني هاشم إنا و ما كان منكم كصدع الصفا لا يالصدع شاعبه قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه كما غدرت يوما بكسرى مرازبه شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 271فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بأبيات طويلة من جملتهافلا تسألونا سيفكم إن سيفكم أضيع و ألقاه لدى الروع صاحبه و شبهته كسرى و قد كان مثله شبيها بكسرى هدبه و ضرائبهأي كان كافرا كما كان كسرى كافرا. و كان المنصور رحمه الله تعالى إذا أنشد هذا الشعر يقول لعن الله الوليد هو الذي فرق بين بني عبد مناف بهذا الشعر

(2/229)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 16272- و من خطبة له ع لما بويع بالمدينةذِمَّتِي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَثُلَاتِ حَجَزَتْهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ أَلَا وَ إِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلَاكُمْ وَ أَعْلَاكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَ لَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَ لَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا وَ اللَّهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً وَ لَا كَذَبْتُ كِذْبَةً وَ لَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا الْمَقَامِ وَ هَذَا الْيَوْمِ أَلَا وَ إِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وَ خُلِعَتْ لُجُمُهَا فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي النَّارِ أَلَا وَ إِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وَ أُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَ بَاطِلٌ وَ لِكُلٍّ أَهْلٌ فَلَئِنْ أَمِرَ الْبَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ وَ لَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ لَرُبَّمَا وَ لَعَلَّ وَ لَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيْ ءٌ فَأَقْبَلَ قال الرضي و أقول إن في هذا الكلام الأدنى من مواقع شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 273الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان و إن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به و فيه مع الحال التي وصفنا زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان و لا يطلع فجها إنسان و لا يعرف ما أقول إ من ضرب في هذه الصناعة بحق و جرى فيها على عرق وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ

(2/230)


و من هذه الخطبةشُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَ النَّارُ أَمَامَهُ سَاعٍ سَرِيعٌ نَجَا وَ طَالِبٌ بَطِي ءٌ رَجَا وَ مُقَصِّرٌ فِي النَّارِ هَوَى الْيَمِينُ وَ الشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَ الطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ وَ آثَارُ الُّبُوَّةِ وَ مِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ وَ إِلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ هَلَكَ مَنِ ادَّعَى وَ خَابَ مَنِ افْتَرَى مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ عِنْدَ جَهَلَةِ النَّاسِ وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلَّا يَعْرِفَ قَدْرَهُ لَا يَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ وَ لَا يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ وَ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَ التَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ وَ لَا يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلَّا رَبَّهُ وَ لَا يَلُمْ لَائِمٌ إِلَّا نَفْسَهُ

(2/231)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 274الذمة العقد و العهد يقول هذا الدين في ذمتي كقولك في عنقي و هما كناية عن الالتزام و الضمان و التقلد و الزعيم الكفيل و مخرج الكلام لهم مخرج الترغيب في سماع ما يقوله كما يقول المهتم بإيضاح أمر لقوم لهم أنا المدرك المتقلد بصدق مأقوله لكم و صرحت كشفت و العبر جمع عبرة و هي الموعظة و المثلات العقوبات و حجزه منعه. و قوله لتبلبلن أي لتخلطن تبلبلت الألسن أي اختلطت و لتغربلن يجوز أن يكون من الغربال الذي يغربل به الدقيق و يجوز أن يكون من غربلت اللحم أي قطعته فإن كان الأول كان له معنيان أحدهما الاختلاط كالتبلبل لأن غربلة الدقيق تخلط بعضه ببعض و الثاني أن يريد بذلك أنه يستخلص الصالح منكم من الفاسد و يتميز كما يتميز الدقيق عند الغربلة من نخالته. و تقول ما عصيت فلانا وشمة أي كلمة و حصان شموس يمنع ظهره شمس الفرس بالفتح و به شماس و أمر الباطل كثر. و قوله لقديما فعل أي لقديما فعل الباطل ذلك و نسب الفعل إلى الباطل مجازا و يجوز أن يكون فعل بمعنى انفعل كقوله
قد جبر الدين الإله فجبر
أي فانجبر و السنخ الأصل و قوله سنخ أصل كقوله
إذا حاص عينيه كرى النوم
و في بعض الروايات من أبدى صفحته للحق هلك عند جهلة الناس
و التأويل مختلف فمراده على الرواية الأولى و هي الصحيحة من كاشف الحق مخاصما له هلك شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 275و هي كلمة جارية مجرى المثل و مراده على الرواية الثانية من أبدى صفحته لنصرة الحق غلبه أهل الجهل لأنهم العامة و فيهم الكثرة فهلك. و هذه الخطبة منلائل خطبه ع و من مشهوراتها قد رواها الناس كلهم و فيها زيادات حذفها الرضي إما اختصارا أو خوفا من إيحاش السامعين و قد ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان و التبيين على وجهها و رواها عن أبي عبيدة معمر بن المثنى.

(2/232)


قال أول خطبة خطبها أمير المؤمنين علي ع بالمدينة في خلافته حمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي ص ثم قال ألا لا يرعين مرع إلا على نفسه شغل من الجنة و النار أمامه ساع مجتهد ينجو و طالب يرجو و مقصر في النار ثلاثة و اثنان ملك طار بجناحيه و نبي أخذ الله بيده لا سادس هلك من ادعى و ردي من اقتحم اليمين و الشمال مضلة و الوسطى الجادة منهج عليه باقي الكتاب و السنة و آثار النبوة إن الله داوى هذه الأمة بدواءين السوط و السيف لا هوادة عند الإمام فيهما استتروا في بيوتكم و أصلحوا ذات بينكم و التوبة من ورائكم من أبدى صفحته شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 276للحق هلك قد كانت لكم أمور ملتم فيها على ميلة لم تكونوا عندي فيها محمودين و لا مصيبين أما إني لو أشاء لقلت عفا الله عما سلف سبق الرجلان و قام الثالث كالغراب همته بطنه ويحه لو قص جناحاه و قطع رأسه لكان خيرا له انظروا فإن أنكرتمأنكروا و إن عرفتم فآزروا حق و باطل و لكل أهل و لئن أمر الباطل لقديما فعل و لئن قل الحق لربما و لعل و قلما أدبر شي ء فأقبل و لئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء و إني لأخشى أن تكونوا في فترة و ما علينا إلا الاجتهاد قال شيخنا أبو عثمان رحمه الله تعالى و قال أبو عبيدة و زاد فيها في رواية جعفر بن محمد ع عن آبائه ع ألا إن أبرار عترتي و أطايب أرومتي أحلم الناس صغارا و أعلم الناس كبارا ألا و إنا أهل بيت من علم الله علمنا و بحكم الله حكمنا و من قول صادق سمعنا فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا و إن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا و معنا راية الحق من تبعها لحق و من تأخر عنها غرق ألا و بنا يدرك ترة كل مؤمن و بنا تخلع ربقة الذل عن أعناقكم و بنا فتح لا بكم و منا يختم لا بكم

(2/233)


قوله لا يرعين أي لا يبقين أرعيت عليه أي أبقيت يقول من أبقى على الناس فإنما أبقى على نفسه و الهوادة الرفق و الصلح و أصله اللين و التهويد المشي شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 277رويدا و في الحديث أسرعوا المشي في الجنازة و لا تهودوا كما تهود أهل الكتاب
و آزرت زيدا أعنته الترة و الوتر و الربقة الحبل يجعل في عنق الشاة و ردي هلك من الردى كقولك عمي من العمى و شجي من الشجا. و قوله شغل من الجنة و النار أمامه يريد به أن من كانت هاتان الداران أمامه لفي شغل عن أمور الدنيا إن كان رشيدا. و قوله ساع مجتهد إلى قوله لا سادس كلام تقديره المكلفون على خمسة أقسام ساع مجتهد و طالب راج و مقصر هالك ثم قال ثلاثة أي فهؤلاء ثلاثة أقسام و هذا ينظر إلى قوله سبحانه ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ثم ذكر القسمين الرابع و الخامس فقال هما ملك طار بجناحيه و نبي أخذ الله بيده يريد عصمة هذين النوعين من القبيح ثم قال لا سادس أي لم يبق في المكلفين قسم سادس و هذا يقتضي أن العصمة ليست إلا للأنبياء و الملائكة و لو كان الإمام يجب أن يكون معصوما لكان قسما سادسا فإذن قد شهد هذا الكلام بصحة ما تقوله المعتزلة في نفي اشتراط العصمة في الإمامة اللهم إلا أن يجعل الإمام المعصوم داخلا في القسم الأول و هو الساعي المجتهد و فيه بعد و ضعف. و قوله هلك من ادعى و ردي من اقتحم يريد هلك من ادعى و كذب لا بد من تقدير ذلك لأن الدعوى تعم الصدق و الكذب و كأنه يقول هلك من ادعى الإمامة و ردي من اقتحمها و ولجها عن غير استحقاق لأن كلامه ع في هذه الخطبة كله كنايات عن الإمامة لا عن غيرها. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 278و قوله اليمين و الشمال مث لأن السالك الطريق المنهج اللاحب ناج و العادل عنها يمينا و شمالا معرض

(2/234)


للخطر. و نحو هذا الكلام ما روي عن عمر أنه لما صدر عن منى في السنة التي قتل فيها كوم كومة من البطحاء فقام عليها فخطب الناس فقال أيها الناس قد سنت لكم السنن و فرضت لكم الفرائض و تركتم على الواضحة إلا أن تميلوا بالناس يمينا و شمالا ثم قرأ أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ثم قال إلا إنهما نجدا الخير و الشر فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير
من كلام للحجاج و زياد نسجا فيه على منوال كلام علي
و قوله إن الله داوى هذه الأمة بدواءين كلام شريف و على منواله نسج الحجاج و زياد كلامهما المذكور فيه السوط و السيف فمن ذلك قول الحجاج من أعياه داؤه فعلي دواؤه و من استبطأ أجله فعلي أن أعجله و من استثقل رأسه وضعت عنه ثقله و من استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه إن للشيطان طيفا و إن للسلطان سيفا فمن سقمت سريرته صحت عقوبته و من وضعه ذنبه رفعه صلبه و من لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة و من سبقته بادرة فمه سبق بدنه سفك دمه إني لأنذر ثم لا أنظر و أحذر ثم لا أعذر و أتوعد ثم لا أغفر إنما أفسدكم ترقيق ولاتكم و من استرخى لببه ساء أدبه إن الحزم و العزم سلباني شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 279سوطي و جعلا سوطي سيفي فقائمه في يدي و نجاده في عنقي و ذبابه قلادة لمن عصاني و الله لا آمر أحدا أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه. و من ذلك قول زياد ما هو زجر بالقول ثم ضرب بالسوط ثم الثالثة التي لا شوى لها فلا يكونن لسان أحدكم شفرة تجري على أوداجه و ليعلم إذا خلا بنفسه أني قد حملت سيفي بيده فإن شهره لم أغمده و إن أغمده لم أشهره

(2/235)


و قوله ع كالغراب يعني الحرص و الجشع و الغراب يقع على الجيفة و يقع على التمرة و يقع على الحبة و في الأمثال أجشع من غراب و أحرص من غراب. و قوله ويحه لو قص يريد لو كان قتل أو مات قبل أن يتلبس بالخلافة لكان خيرا له من أن يعيش و يدخل فيها ثم قال لهم أفكروا فيما قد قلت فإن كان منكرا فأنكروه و إن كان حقا فأعينوا عليه. و قوله استتروا في بيوتكم نهي لهم عن العصبية و الاجتماع و التحزب فقد كان قوم بعد قتل عثمان تكلموا في قتله من شيعة بني أمية بالمدينة. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 280و أما قوله قد كانت أمور لم تكونوا عن فيها محمودين فمراده أمر عثمان و تقديمه في الخلافة عليه و من الناس من يحمل ذلك على خلافة الشيخين أيضا و يبعد عندي أن يكون أراده لأن المدة قد كانت طالت و لم يبق من يعاتبه ليقول قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها محمودين فإن هذا الكلام يشعر بمعاتبة قوم على أمر كان أنكره منهم و أما بيعة عثمان ثم ما جرى بينه و بين عثمان من منازعات طويلة و غضب تارة و صلح أخرى و مراسلات خشنة و لطيفة و كون الناس بالمدينة كانوا حزبين و فئتين إحداهما معه ع و الأخرى مع عثمان فإن صرف الكلام إلى ما قلناه بهذا الاعتبار أليق. و لسنا نمنع من أن يكون في كلامه ع الكثير من التوجد و التألم لصرف الخلافة بعد وفاة الرسول ص عنه و إنما كلامنا الآن في هذه اللفظات التي في هذه الخطبة على أن قوله ع سبق الرجلان و الاقتصار على ذلك فيه كفاية في انحرافه عنهما. و أما قوله حق و باطل إلى آخر الفصل فمعناه كل أمر فهو إما حق و إما باطل و لكل واحد من هذين أهل و ما زال أهل الباطل أكثر من أهل الحق و لئن كان الحق قليلا لربما كثر و لعله ينتصر أهله. ثم قال على سبيل التضجر بنفسه و قلما أدبر شي ء فأقبل استبعد ع أن تعود دولة قوم بعد زوالها عنهم و إلى هذا المعنى ذهب الشاعر ي قوله

(2/236)


و قالوا يعود الماء في النهر بعد ما ذوي نبت جنبيه و جف المشارع فقلت إلى أن يرجع النهر جاريا و يعشب جنباه تموت الضفادع شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 281 ثم قال و لئن رجعت عليكم أموركم أي إن ساعدني الوقت و تمكنت من أن أحكم فيكم بحكم الله تعالى و رسوله و عادت إليكم أيام شبيهة بأيام رسول الله ص و سيرة مماثلة لسيرته في أصحابه إنكم لسعداء. ثم قال و إني لأخشى أن تكونوا في فترةالفترة هي الأزمنة التي بين الأنبياء إذا انقطعت الرسل فيها كالفترة التي بين عيسى ع و محمد ص لأنه لم يكن بينهما نبي بخلاف المدة التي كانت بين موسى و عيسى ع لأنه بعث فيها أنبياء كثيرون فيقول ع إني لأخشى ألا أتمكن من الحكم بكتاب الله تعالى فيكم فتكونوا كالأمم الذين في أزمنة الفترة لا يرجعون إلى نبي يشافههم بالشرائع و الأحكام و كأنه ع قد كان يعلم أن الأمر سيضطرب عليه. ثم قال و ما علينا إلا الاجتهاد يقول أنا أعمل ما يجب علي من الاجتهاد في القيام بالشريعة و عزل ولاة السوء و أمراء الفساد عن المسلمين فإن تم ما أريده فذاك و إلا كنت قد أعذرت. و أما التتمة المروية عن جعفر بن محمد ع فواضحة الألفاظ و قوله في آخرها و بنا تختم لا بكم إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الزمان و أكثر المحدثين على أنه من ولد فاطمة ع و أصحابنا المعتزلة لا ينكرونه و قد صرحوا بذكره في كتبهم و اعترف به شيوخهم إلا أنه عندنا لم يخلق بعد و سيخلق. و إلى هذا المذهب يذهب أصحاب الحديث أيضا.
و روى قاضي القضاة شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 282رحمه الله تعالى عن كافي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عباد رحمه الله بإسناد متصل بعلي ع أنه ذكر المهدي و قال إنه من ولد الحسين ع و ذكر حليته فقال رجل أجلى الجبين أقنى الأنف ضخم البطن أزيل الفخذين أبلج الثنايبفخذه اليمنى شامة
و ذكر هذا الحديث بعينه عبد الله بن قتيبة في كتاب غريب الحديث

(2/237)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 17283- و من كلام له ع في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة و ليس لذلك بأهلإِنَّ أَبْغَضَ الْخَلَائِقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى رَجُلَانِ رَجُلٌ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ مَشْغُوفٌ بِكَلَامِ بِدْعَةٍ وَ دُعَاءِ ضَلَالَةٍ فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ ضَالٌّ عَنْ هُدَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مُضِلٌّ لِمَنِ اقْتَدَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَ بَعْدَ وَفَاتِهِ حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ وَ رَجُلٌ قَمَشَ جَهْلًا مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الْأُمَّةِ عَادٍ فِي أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ آجِنٍ وَ اكْتَنَزَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ لَا يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ وَ إِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالَاتٍ عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ يُذْرِي الرِّوَايَاتِ إِذْرَاءَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ لَا مَلِي ءٌ وَ اللَّهِ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيهِ وَ لَا هُوَ أَهْلٌ لِمَا فُوِّضَ إِلَيْهِ لَا يَحْسَبُ الْعِلْمَ فِي شَيْ ءٍ مِمَّا أَنْكَرَهُ وَ لَا يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ وَ إِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا

(2/238)


يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ تَصْرُخُ ِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ وَ تَعَجُّ مِنْهُ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 284الْمَوَارِيثُ إِلَى اللَّهِ مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالًا وَ يَمُوتُونَ ضُلَّالًا لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ وَ لَا سْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَ لَا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ لَا عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَ لَا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْكَرِ
وكله إلى نفسه تركه و نفسه وكلته وكلا و وكولا و الجائر الضال العادل عن الطريق و قمش جهلا جمعه و موضع مسرع أوضع البعير أسرع و أوضعه راكبه فهو موضع به أي أسرع به. و أغباش الفتنة ظلمها الواحدة غبش و أغباش الليل بقايا ظلمته
و منه الحديث في صلاة الصبح و النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغبش

(2/239)


و الماء الآجن الفاسد و أكثر كقولك استكثر و يروى اكتنز أي اتخذ العلم كنزا. و التخليص التبيين و هو و التلخيص متقاربان و لعلهما شي ء واحد من المقلوب. و المبهمات المشكلات و إنما قيل لها مبهمة لأنها أبهمت عن البيان كأنها أصمتت فلم يجعل عليها دليل و لا إليها سبل أو جعل عليها دليل و إليها سبيل إلا أنه متعسر مستصعب و لهذا قيل لما لا ينطق من الحيوان بهيمة و قيل للمصمت اللون الذي لا شية فيه بهيم. و قوله حشوا رثا كلام مخرجه الذم و الرث الخلق ضد الجديد. و قوله حشوا يعني كثيرا لا فائدة فيه و عاش خابط في ظلام و قوله لم يعض يريد أنه لم يتقن و لم يحكم الأمور فيكون بمنزلة من يعض بالناجذ و هو آخر الأضراس و إنما شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 285يطلع إذا استحكمت شبيبة الإنسان و اشتدت مرته و لذلك يدعوه العوام ضرس الحلم كأن الحلم يأتي مع طلوعه و يذهب نزق الصبا و يقولون رجل منجذ أيجرب محكم كأنه قد عض على ناجذه و كمل عقله. و قوله يذري الروايات هكذا أكثر النسخ و أكثر الروايات يذري من أذرى رباعيا و قد أوضحه قوله إذراء الريح يقال طعنه فأذراه أي ألقاه و أذريت الحب للزرع أي ألقيته فكأنه يقول يلقي الروايات كما يلقي الإنسان الشي ء على الأر و الأجود الأصح الرواية الأخرى يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم و هكذا ذكر ابن قتيبة في غريب الحديث لما ذكر هذه الخطبة عن أمير المؤمنين ع قال تعالى فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ و الهشيم ما يبس من النبت و تفتت. قوله لا ملي ء أي لا قيم به و فلان غن ملي ء أي ثقة بين الملأ و الملاء بالمد و في كتاب ابن قتيبة تتمة هذا الكلام و لا أهل لما قرظ به قال أي ليس بمستحق للمدح الذي مدح به و الذي رواه ابن قتيبة من تمام كلام أمير المؤمنين ع هو الصحيح الجيد لأنه يستقبح في العربية أن تقول لا زيد قائم حتى تقول و لا مرو أو تقول و لا قاعد فقوله ع لا ملي ء أي لا هو ملي ء و هذا يستدعي لا

(2/240)


ثانية و لا يحسن الاقتصار على الأولى. و قوله ع اكتتم به أي كتمه و ستره و قوله تصرخ منه و تعج العج رفع الصوت و هذا من باب الاستعارة. و في كثير من النسخ إلى الله أشكو فمن روى ذلك وقف على مواريث شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 286و من روى الرواية الأولى وقف على قوله إلى الله و يكون قوله من معشر من تمام صفات ذلك الحاكم أي هو من معشر صفتهم كذا. و أبور أفعل من البور الفاسد بار الشي ء أي فسد و بارت السلعة أي كسدت و لم تنفق و هو المراد هاهنا و أصلهفساد أيضا. إن قيل بينوا الفرق بين الرجلين اللذين أحدهما وكله الله إلى نفسه و الآخر رجل قمش جهلا فإنهما في الظاهر واحد. قيل أما الرجل الأول فهو الضال في أصول العقائد كالمشبه و المجبر و نحوهما أ لا تراه كيف قال مشغوف بكلام بدعة و دعاء ضلالة و هذا يشعر بما قلناه من أن مراده به المتكلم في أصول الدين و هو ضال عن الحق و لهذا قال إنه فتنة لمن افتتن به ضال عن هدى من قبله مضل لمن يجي ء بعده و أما الرجل الثاني فهو المتفقه في فروع الشرعيات و ليس بأهل لذلك كفقهاء السوء أ لا تراه كيف يقول جلس بين الناس قاضيا. و قال أيض تصرخ من جور قضائه الدماء و تعج منه المواريث فإن قيل ما معنى قوله في الرجل الأول رهن بخطيئته قيل لأنه إن كان ضالا في دعوته مضلا لمن اتبعه فقد حمل خطاياه و خطايا غيره فهو رهن بالخطيئتين معا و هذا مثل قوله تعالى وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ. إن قيل ما معنى قوله عم بما في عقد الهدنة قيل الهدنة أصلها في اللغة السكون يقال هدن إذا سكن و معنى الكلام أنه لا يعرف ما في الفتنة من الشر و لا ما في السكون و المصالحة من الخير.

(2/241)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 287و يروى بما في غيب الهدنة أي في طيها و في ضمنها و يروى غار في أغباش الفتنة أي غافل ذو غرة. و روي من جمع بالتنوين فتكون ما على هذا اسما موصولا و هي و صلتها في موضع جر لأنها صفة جمع و من لم يرو التنوين في جمع حذف الموصوف تقديرهن جمع شي ء ما قل منه خير مما كثر فتكون ما مصدرية و تقدير الكلام قلته خير من كثرته و يكون موضع ذلك جرا أيضا بالصفة شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 18288- و من كلام له ع في ذم اختلاف العلماء في الفتياتَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً وَ إِلَهُهُمْ وَاحِدٌ وَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ وَ كِتَابُهُمْ وَاحِدٌ أَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاخْتِلَافِ فَأَطَاعُوهُ أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ ص عَنْ تَبْلِيغِهِ وَ أَدَائِهِ وَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ ذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً وَ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً وَ نَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَ بَاطِنُهُ عَمِيقٌ لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ وَ لَا تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ وَ لَا تُكْشَفُ

(2/242)


الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِهِ
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 289الأنيق المعجب و آنقني الشي ء أي أعجبني يقول لا ينبغي أن يحمل جميع ما في الكتاب العزيز على ظاهره فكم من ظاهر فيه غير مراد بل المراد به أمر آخر باطن و المراد الرد على أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية و إفساد قول من قال كل مجتهصيب و تلخيص الاحتجاج من خمسة أوجه الأول أنه لما كان الإله سبحانه واحدا و الرسول ص واحدا و الكتاب واحدا وجب أن يكون الحكم في الواقعة واحدا كالملك الذي يرسل إلى رعيته رسولا بكتاب يأمرهم فيه بأوامر يقتضيها ملكه و إمرته فإنه لا يجوز أن تتناقض أوامره و لو تناقضت لنسب إلى السفه و الجهل. الثاني لا يخلو الاختلاف الذي ذهب إليه المجتهدون إما أن يكون مأمورا به أو منهيا عنه و الأول باطل لأنه ليس في الكتاب و السنة ما يمكن الخصم أن يتعلق به في كون الاختلاف مأمورا به و الثاني حق و يلزم منه تحريم الاختلاف. الثالث إما أن يكون دين الإسلام ناقصا أو تاما فإن كان الأول كان الله سبحانه قد استعان بالمكلفين على إتمام شريعة ناقصة أرسل بها رسوله إما استعانة على سبيل النيابة عنه أو على سبيل المشاركة له و كلاهما كفر و إن كان الثاني فإما أن يكون الله تعالى أنزل الشرع تاما فقصر الرسول عن تبليغه أو يكون الرسول قد أبلغه على تمامه و كماله فإن كان الأول فهو كفر أيضا و إن كان الثاني فقد بطل الاجتهاد لأن الاجتهاد إنما يكون فيما لم يتبين فأما ما قد بين فلا مجال للاجتهاد فيه. الرابع الاستدلال بقوله تعالى ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ وقوله تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ و قوله سبحانه وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 290مُبِينٍ فهذه الآيات دالة على اشتمال الكتاب العزيز على جميع الأحكام فكل ما ليس في الكتاب وجب ألا يكون في الشرع. الخامس قوله تعالى وَ لَوانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا

(2/243)


فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً فجعل الاختلاف دليلا على أنه ليس من عند الله لكنه من عند الله سبحانه بالأدلة القاطعة الدالة على صحة النبوة فوجب ألا يكون فيه اختلاف. و اعلم أن هذه الوجوه هي التي يتعلق بها الإمامية و نفاه القياس و الاجتهاد في الشرعيات و قد تكلم عليها أصحابنا في كتبهم و قالوا إن أمير المؤمنين ع كان يجتهد و يقيس و ادعوا إجماع الصحابة على صحة الاجتهاد و القياس و دفعوا صحة هذا الكلام المنسوب في هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين ع و قالوا إنه من رواية الإمامية و هو معارض بما ترويه الزيدية عنه و عن أبنائه ع في صحة القياس و الاجتهاد و مخالطة الزيدية لأئمة أهل البيت ع كمخالطة الإمامية لهم و معرفتهم بأقوالهم و أحوالهم و مذاهبهم كمعرفة الإمامية لا فرق بين الفئتين في ذلك و الزيدية قاطبة جاروديتها و صالحيتها تقول بالقياس و الاجتهاد و ينقلون في ذلك نصوصا عن أهل البيت ع و إذا تعارضت الروايتان تساقطتا و عدنا إلى الأدلة المذكورة في هذه المسألة و قد تكلمت في اعتبار الذريعة للمرتضى على احتجاجه في إبطال القياس و الاجتهاد بما ليس هذا موضع ذكره
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 19291- و من كلام له ع قاله للأشعث بن قيسو هو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض كلامه شي ء اعترضه الأشعث فيه فقال يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك فخفض إليه بصره ع ثم قال وَ مَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ لَعْنَةُ اللَّاعِنِينَ حَائِكٌ ابْنُ حَائِكٍ مُنَافِقٌ ابْنُ كَافِرٍ وَ اللَّهِ لَقَدْ أَسَرَكَ الْكُفْرُ مَرَّةً وَ الْإِسْلَامُ أُخْرَى فَمَا فَدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَالُكَ وَ لَا حَسَبُكَ وَ إِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ السَّيْفَ وَ سَاقَ إِلَيْهِمُ الْحَتْفَ لَحَرِيٌّ أَنْ يَمْقُتَهُ الْأَقْرَبُ وَ لَا يَأْمَنَهُ الْأَبْعَدُ

(2/244)


قال الرضي رحمه الله يريد ع أنه أسر في الكفر مرة و في الإسلام مرة. و أما قوله ع دل على قومه السيف فأراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة غر فيه قومه و مكر بهم حتى أوقع بهم خالد و كان قومه بعد ذلك يسمونه عرف النار و هو اسم للغادر عندهم
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 292خفض إليه بصره طأطأه و قوله فما فداك لا يريد به الفداء الحقيقي فإن الأشعث فدي في الجاهلية بفداء يضرب به المثل فقال أغلى فداء من الأشعث و سنذكره و إنما يريد ما دفع عنك الأسر مالك و لا حسبك و يمقته يبغضه و المقت البغضالأشعث بن قيس و نسبه و بعض أخباره
اسم الأشعث معديكرب و أبوه قيس الأشج سمي الأشج لأنه شج في بعض حروبهم ابن معديكرب بن معاوية بن معديكرب بن معاوية بن جبلة بن عبد العزى بن ربيعة بن معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد. و أم الأشعث كبشة بنت يزيد بن شرحبيل بن يزيد بن إمرئ القيس بن عمرو المقصور الملك. كان الأشعث أبدا أشعث الرأس فسمي الأشعث و غلب عليه حتى نسي اسمه و لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث يقول أعشى همدان
يا ابن الأشج قريع كندة لا أبالي فيك عتبا

(2/245)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 293أنت الرئيس ابن الرئيس و أنت أعلى الناس كعبو تزوج رسول الله ص قتيلة أخت الأشعث فتوفي قبل أن تصل إليه. فأما الأسر الذي أشار أمير المؤمنين ع إليه في الجاهلية فقد ذكره ابن الكلبي في جمهرة النسب فقال إن مرادا لما قتلت قيسا الأشج خرج الأشعث طالبا بثأره فخرجت كندة متساندين على ثلاثة ألوية على أحد الألوية كبس بن هانئ بن شرحبيل بن الحارث بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين و يعرف هانئ بالمطلع لأنه كان يغزو فيقول اطلعت بني فلان فسمي المطلع و على أحدها القشعم أبو جبر بن يزيد الأرقم و على أحدها الأشعث فأخطئوا مرادا و لم يقعوا عليهم و وقعوا على بني الحارث بن كعب فقتل كبس و القشعم أبو جبر و أسر الأشعث ففدي بثلاثة آلاف بعير لم يفد بها عربي بعده و لا قبله فقال في ذلك عمرو بن معديكرب الزبيدي
فكان فداؤه ألفي بعير و ألفا من طريفات و تلد
و أما الأسر الثاني في الإسلام فإن رسول الله ص لما قدمت كندة حجاجا قبل الهجرة عرض رسول الله ص نفسه عليهم كما كان يعرض نفسه على أحياء العرب فدفعه بنو وليعة من بني عمرو بن معاوية و لم يقبلوه فلما هاجر ص و تمهدت دعوته و جاءته وفود العرب جاءه وفد كندة فيهم الأشعث و بنو وليعة فأسلموا فأطعم رسول الله ص بني وليعة طعمة من صدقات حضرموت و كان قد استعمل على حضرموت زياد بن لبيد البياضي الأنصاري فدفعها زياد إليهم فأبوا أخذها و قالوا لا ظهر لنا فابعث بها إلى بلادنا على ظهر شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 294من عندك فأبى زياد حدث بينهم و بين زياد شر كاد يكون حربا فرجع منهم قوم إلى رسول الله ص و كتب زياد إليه ع يشكوهم و في هذه الوقعة كان

(2/246)


الخبر المشهور عن رسول الله ص قال لبني وليعة لتنتهن يا بني وليعة أو لأبعثن عليكم رجلا عديل نفسي يقتل مقاتلتكم و يسبي ذراريكم قال عمر بن الخطاب فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ و جعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول هو هذا فأخذ بيد علي ع و قال هو هذا
ثم كتب لهم رسول الله ص إلى زياد فوصلوا إليه بالكتاب و قد توفي رسول الله ص و طار الخبر بموته إلى قبائل العرب فارتدت بنو وليعة و غنت بغاياهم و خضبن له أيديهن. و قال محمد بن حبيب كان إسلام بني وليعة ضعيفا و كان رسول الله ص يعلم ذلك منهم و لما حج رسول الله ص حجة الوداع و انتهى إلى فم الشعب دخل أسامة بن زيد ليبول فانتظره رسول الله ص و كان أسامة أسود أفطس فقال بنو وليعة هذا الحبشي حبسنا فكانت الردة في أنفسهم. قال أبو جعفر محمد بن جرير فأمر أبو بكر زيادا على حضرموت و أمره بأخذ البيعة على أهلها و استيفاء صدقاتهم فبايعوه إلا بني وليعة فلما خرج ليقبض الصدقات من بني عمرو بن معاوية أخذ ناقة لغلام منهم يعرف بشيطان بن حجر و كانت صفية نفيسة اسمها شذرة فمنعه الغلام عنها و قال خذ غيرها فأبى زياد ذلك و لج فاستغاث شيطان بأخيه العداء بن حجر فقال لزياد دعها و خذ غيرها فأبى زياد ذلك و لج الغلامان في أخذها و لج زياد و قال لهما لا تكونن شذرة عليكما كالبسوس شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 295فهتف الغلامان يا لعمرو أ نضام و نضطهد إن الذليل من أكل في داره و هتفا بمسروق بن معديكرب فقال مسروق لزياد أطلقها فأبى فقال مسروقيطلقها شيخ بخديه الشيب ملمع فيه كتلميع الثوب ماض على الريب إذا كان الريبثم قام فأطلقها فاجتمع إلى زياد بن لبيد أصحابه و اجتمع بنو وليعة و أظهروا أمرهم فبيتهم زياد و هم غارون فقتل منهم جمعا كثيرا و نهب و سبى و لحق فلهم بالأشعث بن قيس فاستنصروه فقال لا أنصركم حتى تملكوني عليكم فملكوه و توجوه كما يتوج الملك من قحطان فخرج إلى زياد في جمع كثيف و كتب أبو بكر إلى

(2/247)


المهاجر بن أبي أمية و هو على صنعاء أن يسير بمن معه إلى زياد فاستخلف على صنعاء و سار إلى زياد فلقوا الأشعث فهزموه و قتل مسروق و لجأ الأشعث و الباقون إلى الحصن المعروف بالنجير فحاصرهم المسلمون حصارا شديدا حتى ضعفوا و نزل الأشعث ليلا إلى المهاجر و زياد فسألهما الأمان على نفسه حتى يقدما به على أبي بكر فيرى فيه رأيه على أن يفتح لهم الحصن و يسلم إليهم من فيه. و قيل بل كان في الأمان عشرة من أهل الأشعث. فأمناه و أمضيا شرطه ففتح لهم الحصن فدخلوه و استنزلوا كل من فيه و أخذوا أسلحتهم و قالوا للأشعث اعزل العشرة فعزلهم فتركوهم و قتلوا الباقين و كانوا ثمانمائة و قطعوا أيدي النساء اللواتي شمتن برسول الله ص و حملوا الأشعث شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 296إلى أبي بكر موثقا في الحديد هو و العشرة فعفا عنه و عنهم و زوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة و نت عمياء فولدت للأشعث محمدا و إسماعيل و إسحاق. و خرج الأشعث يوم البناء عليها إلى سوق المدينة فما مر بذات أربع إلا عقرها و قال للناس هذه وليمة البناء و ثمن كل عقيرة في مالي فدفع أثمانها إلى أربابها. قال أبو جعفر محمد بن جرير في التاريخ و كان المسلمون يلعنون الأشعث و يلعنه الكافرون أيضا و سبايا قومه و سماه نساء قومه عرف النار و هو اسم للغادر عندهم. و هذا عندي هو الوجه و هو أصح مما ذكره الرضي رحمه الله تعالى من قوله في تفسير قول أمير المؤمنين و إن امرأ دل على قومه السيف أنه أراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة غر فيه قومه و مكر بهم حتى قتلهم فإنا لم نعرف في التواريخ أن الأشعث جرى له باليمامة مع خالد هذا و لا شبهه و أين كندة و اليمامة كندة باليمن و اليمامة لبني حنيفة و لا أعلم من أين نقل الرضي رحمه الله تعالى هذا. فأما الكلام الذي كان أمير المؤمنين ع قاله على منبر الكوفة فاعترضه فيه الأشعث فإن عليا ع قام إليه و هو يخطب و يذكر أمر الحكمين رجل

(2/248)


من أصحابه بعد أن انقضى أمر الخوارج فقال له نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها فما ندري أي الأمرين أرشد فصفق ع بإحدى يديه على الأخرى و قال هذا جزاء من ترك العقدة و كان مراده ع هذا جزاؤكم إذ تركتم الرأي و الحزم و أصررتم على إجابة القوم إلى التحكيم فظن الأشعث أنه أراد هذا جزائي حيث تركت الرأي و الحزم و حكمت لأن هذه اللفظة محتملة أ لا ترى أن الرئيس شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 297إذا شغب عليه جنده و طلبوا منه اعتماد أمريس بصواب فوافقهم تسكينا لشغبهم لا استصلاحا لرأيهم ثم ندموا بعد ذلك قد يقول هذا جزاء من ترك الرأي و خالف وجه الحزم و يعني بذلك أصحابه و قد يقوله يعني به نفسه حيث وافقهم أمير المؤمنين ع إنما عنى ما ذكرناه دون ما خطر للأشعث فلما قال له هذه عليك لا لك قال له و ما يدريك ما علي مما لي عليك لعنة الله و لعنة اللاعنين. و كان الأشعث من المنافقين في خلافة علي ع و هو في أصحاب أمير المؤمنين ع كما كان عبد الله بن أبي بن سلول في أصحاب رسول الله ص كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه
و أما قوله ع للأشعث حائك ابن حائك فإن أهل اليمن يعيرون بالحياكة و ليس هذا مما يخص الأشعث. و من كلام خالد بن صفوان ما أقول في قوم ليس فيهم إلا حائك برد أو دابغ جلد أو سائس قرد ملكتهم امرأة و أغرقتهم فأرة و دل عليهم هدهد

(2/249)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 20298- و من خطبة له عفَإِنَّكُمْ لَوْ قَدْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ لَجَزِعْتُمْ وَ وَهِلْتُمْ وَ سَمِعْتُمْ وَ أَطَعْتُمْ وَ لَكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا قَدْ عَايَنُوا وَ قَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ الْحِجَابُ وَ لَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ وَ أُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ وَ هُدِيتُمْ إِنِ اهْتَدَيْتُمْ وَ بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ لَقَدْ جَاهَرَتْكُمْ الْعِبَرُ وَ زُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَ مَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ بَعْدَ رُسُلِ السَّمَاءِ إِلَّا الْبَشَرُ
الوهل الخوف وهل الرجل يوهل. و ما في قوله ما يطرح مصدرية تقديره و قريب طرح الحجاب يعني رفعه بالموت. و هذا الكلام يدل على صحة القول بعذاب القبر و أصحابنا كلهم يذهبون إليه و إن شنع عليهم أعداؤهم من الأشعرية و غيرهم بجحده. و ذكر قاضي القضاة رحمه الله تعالى أنه لم يعرف معتزليا نفى عذاب القبر لا من شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 299متقدميهم و لا من متأخريهم قال و إنما نفاه ضرار بن عمرو لمخالطته لأصحابنا و أخذه عن شيوخنا ما نسب قوله إليهم. و يمكن أن يقول قائل هذا الكلام لا يدل على صحة القول بعذاب القبر لجواز أن يعني عاينة من قد مات ما يشاهده المحتضر من الحالة الدالة على السعادة أو الشقاوة
فقد جاء في الخبر لا يموت امرؤ حتى يعلم مصيره هل هو إلى الجنة أم إلى النار
و يمكن أن يعني به ما يعاينه المحتضر من ملك الموت و هول قدومه و يمكن أن يعني به ما كان ع يقوله عن نفسه إنه لا يموت ميت حتى يشاهده ع حاضرا عنده و الشيعة تذهب إلى هذا القول و تعتقده
و تروي عنه ع شعرا قاله للحارث الأعور الهمداني

(2/250)


يا حار همدان من يمت يرني من مؤمن أو منافق قبلايعرفني طرفه و أعرفه بعينه و اسمه و ما فعلاأقول للنار و هي توقد للعرض ذريه لا تقربي الرجلاذريه لا تقربيه إن له حبلا بحبل الوصي متصلاو أنت يا حار إن تمت ترني فلا تخف عثرة و لا زللاأسقيك من بارد على ظمإ تخاله في الحلاوة العسلا
و ليس هذا بمنكر إن صح أنه ع قاله عن نفسه ففي الكتاب العزيز ما يدل على أن أهل الكتاب لا يموت منهم ميت حتى يصدق بعيسى ابن مريم ع و ذلك قوله وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 300الْقامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قال كثير من المفسرين معنى ذلك أن كل ميت من اليهود و غيرهم من أهل الكتب السالفة إذا احتضر رأى المسيح عيسى عنده فيصدق به من لم يكن في أوقات التكليف مصدقا به. و شبيه بقوله ع لو عاينتم ما عاين من مات قبلكم قول أبي حازم لسليمان بن عبد الملك في كلام يعظه به أن آباءك ابتزوا هذا الأمر من غير مشورة ثم ماتوا فلو علمت ما قالوا و ما قيل لهم فقيل إنه بكى حتى سقط ِ
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 21301- و من خطبة له عفَإِنَّ الْغَايَةَ أَمَامَكُمْ وَ إِنَّ وَرَاءَكُمُ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ
قال الرضي رحمه الله أقول إن هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه و بعد كلام رسول الله ص بكل كلام لمال به راجحا و برز عليه سابقا. فأما قوله ع تخففوا تلحقوا فما سمع كلام أقل منه مسموعا و لا أكثر محصولا و ما أبعد غورها من كلمة و أنقع نطفتها من حكمة و قد نبهنا في كتاب الخصائص و على عظم قدرها و شرف جوهرها

(2/251)


غاية المكلفين هي الثواب أو العقاب فيحتمل أن يكون أراد ذلك و يحتمل أن يكون أراد بالغاية الموت و إنما جعل ذلك أمامنا لأن الإنسان كالسائر إلى الموت أو كالسائر إلى الجزاء فهما أمامه أي بين يديه. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 302ثم قال و إن وراءكم الساعة تحدوكم أتسوقكم و إنما جعلها وراءنا لأنها إذا وجدت ساقت الناس إلى موقف الجزاء كما يسوق الراعي الإبل فلما كانت سائقة لنا كانت كالشي ء يحفز الإنسان من خلفه و يحركه من ورائه إلى جهة ما بين يديه. و لا يجوز أن يقال إنما سماها وراءنا لأنها تكون بعد موتنا و خروجنا من الديا و ذلك أن الثواب و العقاب هذا شأنهما و قد جعلهما أمامنا. و أما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله فإن الغاية أمامكم يعني أن الجنة و النار خلفكم و معنى قوله وراءكم الساعة أي قدامكم. و لقائل أن يقول أما الوراء بمعنى القدام فقد ورد و لكن ما ورد أمام بمعنى خلف و لا سمعنا ذلك. و أما قوله تخففوا تلحقوا فأصله الرجل يسعى و هو غير مثقل بما يحمله يكون أجدر أن يلحق الذين سبقوه و مثله قوله نجا المخففون. و قوله ع فإنما ينتظر بأولكم آخركم يريد إنما ينتظر ببعث الذين ماتوا في أول الدهر مجي ء من يخلقون و يموتون في آخره كأير يريد إعطاء جنده إذا تكامل عرضهم إنما يعطي الأول منهم إذا انتهى عرض الأخير. و هذا كلام فصيح جدا. و الغور العمق و النطفة ما صفا من الماء و ما أنقع هذا الماء أي ما أرواه للعطش

(2/252)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 22303- و من خطبة له عأَلَا وَ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَرَ حِزْبَهُ وَ اسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ لِيَعُودَ الْجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ وَ يَرْجِعَ الْبَاطِلُ إِلَى نِصَابِهِ وَ اللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً وَ لَا جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نَصَفاً وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ وَ إِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا التَّبِعَةُ إِلَّا عِنْدَهُمْ وَ إِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ وَ يُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ يَا خَيْبَةَ الدَّاعِي مَنْ دَعَا وَ إِلَامَ أُجِيبَ وَ إِنِّي لَرَاضٍ بِحُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَ عِلْمِهِ فِيهِمْ فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ وَ كَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ الْبَاطِلِ وَ نَاصِراً لِلْحَقِّ وَ مِنَ الْعَجَبِ بَعْثَتُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ وَ أَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلَادِ هَبِلَتْهُمُ الْهَبُولُ لَقَدْ كُنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ وَ لَا أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ وَ إِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّي وَ غَيْرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِينِي

(2/253)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 304يروى ذمر بالتخفيف و ذمر بالتشديد و أصله الحض و الحث و التشديد دليل على التكثير. و استجلب جلبه الجلب بفتح اللام ما يجلب كما يقال جمع جمعه و يروى جلبه و جلبه و هما بمعنى و هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه أي جمع قوما كالجهام اي لا نفع فيه و روي ليعود الجور إلى قطابه و القطاب مزاج الخمر بالماء أي ليعود الجور ممتزجا بالعدل كما كان و يجوز أن يعني بالقطاب قطاب الجيب و هو مدخل الرأس فيه أي ليعود الجور إلى لباسه و ثوبه. و قال الراوندي قطابه أصله و ليس ذلك بمعروف في اللغة. و روي الباطل بالنصب على أن يكون يرجع متعديا تقول رجعت زيدا إلى كذا و المعنى و يرد الجور الباطل إلى أوطانه. و قال الراوندي يعود أيضا مثل يرجع يكون لازما و متعديا و أجاز نصب الجور به و هذا غير صحيح لأن عاد لم يأت متعديا و إنما يعدى بالهمزة. و النصف الذي ينصف. و قال الراوندي النصف النصفة و المعنى لا يحتمله لأنه لا معنى لقوله و لا جعلوا بيني و بينهم إنصافا بل المعنى لم يجعلوا ذا انصاف بيني و بينهم. يرتضعون أما قد فطمت يقول يطلبون الشي ء بعد فواته لأن الأم إذا فطمت ولدها فقد انقضى إرضاعها. و قوله يا خيبة الداعي هاهنا كالناء في قوله تعالى يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ و قوله يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها أي يا خيبة احضري فهذا أوانك. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 305و كلامه في هذه الخطبة مع أصحاب الجمل و الداعي هو أحد الثلاثة الرجلان و المرأة. ثم قال على سبيل الاستصغار ل و الاستحقار من دعا و إلى ما ذا أجيب أي أحقر بقوم دعاهم هذا الداعي و أقبح بالأمر الذي أجابوه إليه فما أفحشه و أرذله. و قال الراوندي يا خيبة الداعي تقديره يا هؤلاء فحذف المنادى ثم قال خيبة الداعي أي خاب الداعي خيبة و هذا ارتكاب ضرورة لا حاجة إليها و إنما يحذف المنادى في المواضع التي دل الدليل فيها على الحذف كقوله

(2/254)


يا فانظر أيمن الوادي على إضم
و أيضا فإن المصدر الذي لا عامل فيه غير جائز حذف عامله و تقدير حذفه تقدير ما لا دليل عليه. و هبلته أمه بكسر الباء ثكلته. و قوله لقد كنت و ما أهدد بالحرب معناه ما زلت لا أهدد بالحرب و الواو زائدة و هذه كلمة فصيحة كثيرا ما تستعملها العرب و قد ورد في القرآن العزيز كان بمعنى ما زال في قوله وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً و نحو ذلك من الآي معنى ذلك لم يزل الله عليما حكيما و الذي تأوله المرتضى رحمه الله تعالى في تكملة الغرر و الدرر كلام متكلف و الوجه الصحيح ما ذكرناه. و هذه الخطبة ليست من خطب صفين كما ذكره الراوندي بل من خطب الجمل و قد ذكر كثيرا منها أبو مخنف رحمه الله تعالى

(2/255)


قال حدثنا مسافر بن عفيف بن أبي الأخنس. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 306قال لما رجعت رسل علي ع من عند طلحة و الزبير و عائشة يؤذنونه بالحرب قام فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ص ثم قال أيها الناس إني قد راقبت هؤلاء القوم كي يرعووا أو يرجعوا و وبختهم بنهم و عرفتهم بغيهم فلم يستحيوا و قد بعثوا إلي أن أبرز للطعان و أصبر للجلاد و إنما تمنيك نفسك أماني الباطل و تعدك الغرور ألا هبلتهم الهبول لقد كنت و ما أهدد بالحرب و لا أرهب بالضرب و لقد أنصف القارة من راماها فليرعدوا و ليبرقوا فقد رأوني قديما و عرفوا نكايتي فكيف رأوني أنا أبو الحسن الذي فللت حد المشركين و فرقت جماعتهم و بذلك القلب ألقى عدوي اليوم و إني لعلى ما وعدني ربي من النصر و التأييد و على يقين من أمري و في غير شبهة من ديني أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم و لا يعجزه الهارب ليس عن الموت محيد و لا محيص من لم يقتل مات إن أفضل الموت القتل و الذي نفس علي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على الفراش اللهم إن طلحة نكث بيعتي و ألب على عثمان حتى قتله ثم عضهني به و رماني اللهم فلا تمهله اللهم إن الزبير قطع رحمي و نكث بيعتي و ظاهر على عدوي فاكفنيه اليوم بما شئت ثم نزل
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 307خطبة علي بالمدينة في أول إمارتهو اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع و كلام أصحابه و عماله في واقعة الجمل كله يدور على هذه المعاني التي اشتملت عليها ألفاظ هذا الفصل

(2/256)


فمن ذلك الخطبة التي رواها أبو الحسن علي بن محمد المدائني عن عبد الله بن جنادة قال قدمت من الحجاز أريد العراق في أول إمارة علي ع فمررت بمكة فاعتمرت ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول الله ص إذ نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس و خرج علي ع متقلدا سيفه فشخصت الأبصار نحوه فحمد الله و صلى على رسوله ص ثم قال أما بعد فإنه لما قبض الله نبيه ص قلنا نحن أهله و ورثته و عترته و أولياؤه دون الناس لا ينازعنا سلطانه أحد و لا يطمع في حقنا طامع إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا فصارت الإمرة لغيرنا و صرنا سوقة يطمع فينا الضعيف و يتعزز علينا الذليل فبكت الأعين منا لذلك و خشنت الصدور و جزعت النفوس و ايم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين و أن يعود الكفر و يبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه فولي الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرا ثم استخرجتموني أيها الناس من بيتي فبايعتموني على شين مني لأمركم و فراسة تصدقني ما في قلوب كثير منكم و بايعني هذان الرجلان في أول من بايع تعلمون ذلك و قد نكثا و غدرا و نهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم و يلقيا بأسكم بينكم اللهم فخذهما بما عملا أخذة رابية شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 308و لا تنعش لهمصرعة و لا تقل لهما عثرة و لا تمهلهما فواقا فإنهما يطلبان حقا تركاه و دما سفكاه اللهم إني أقتضيك وعدك فإنك قلت و قولك الحق ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ اللهم فأنجز لي موعدك و لا تكلني إلى نفسي إنك على كل شي ء قدير ثم نزل خطبته عند مسيره للبصرة

(2/257)


و روى الكلبي قال لما أراد علي ع المسير إلى البصرة قام فخطب الناس فقال بعد أن حمد الله و صلى على رسوله ص إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر و دفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين و سفك دمائهم و الناس حديثو عهد بالإسلام و الدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن و يعكسه أقل خلف فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا ثم انتقلوا إلى دار الجزاء و الله ولي تمحيص سيئاتهم و العفو عن هفواتهم فما بال طلحة و الزبير و ليسا من هذا الأمر بسبيل لم يصبرا علي حولا و لا شهرا حتى وثبا و مرقا و نازعاني أمرا لم يجعل الله لهما إليه سبيلا بعد أن بايعا طائعين غير مكرهين يرتضعان أما قد فطمت و يحييان بدعة قد أميتت أدم عثمان زعما و الله ما التبعة إلا عندهم و فيهم و إن أعظم حجتهم لعلى شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 309أنفسهم و ا راض بحجة الله عليهم و عمله فيهم فإن فاءا و أنابا فحظهما أحرزا و أنفسهما غنما و أعظم بها غنيمة و إن أبيا أعطيتهما حد السيف و كفى به ناصرا لحق و شافيا لباطل ثم نزل
خطبته بذي قار

(2/258)


و روى أبو مخنف عن زيد بن صوحان قال شهدت عليا ع بذي قار و هو معتم بعمامة سوداء ملتف بساج يخطب فقال في خطبة الحمد لله على كل أمر و حال في الغدو و الآصال و أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله ابتعثه رحمة للعباد و حياة للبلاد حين امتلأت الأرض فتنة و اضطرب حبلها و عبد الشيطان في أكنافها و اشتمل عدو الله إبليس على عقائد أهلها فكان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أطفأ الله به نيرانها و أخمد به شرارها و نزع به أوتادها و أقام به ميلها إمام الهدى و النبي المصطفى ص فلقد صدع بما أمر به و بلغ رسالات ربه فأصلح الله به ذات البين و آمن به السبل و حقن به الدماء و ألف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور حتى أتاه اليقين ثم قبضه الله إليه حميدا ثم استخلف الناس أبا بكر فلم يأل جهده ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده ثم استخلف الناس عثمان فنال منكم و نلتم منه حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني لتبايعوني لا حاجة لي في ذلك و دخلت منزلي فاستخرجتموني فقبضت يدي فبسطتموها و تداككتم علي حتى ظننت أنكم قاتلي و أن بعضكم قاتل بعض فبايعتموني و أنا غير مسرور بذلك و لا جذل شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 310و قد علم الله سبحانه أ كنت كارها للحكومة بين أمة محمد ص و لقد سمعته يقول ما من وال يلي شيئا من أمر أمتي إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رءوس الخلائق ثم ينشر كتابه فإن كان عادلا نجا و إن كان جائرا هوى حتى اجتمع علي ملؤكم و بايعني طلحة و الزبير و أنا أعرف الغدر في أوجههما و النكث في أعينهما ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان فسارا إلى مكة و استخفا عائشة و خدعاها و شخص معهما أبناء الطلقاء فقدموا البصرة فقتلوا بها المسلمين و فعلوا المنكر و يا عجبا لاستقامتهما لأبي بكر و عمر و بغيهما علي و هما يعلمان أني لست دون أحدهما و لو شئت أن أقول لقلت و لقد كان معاوية كتب

(2/259)


إليهما من الشام كتابا يخدعهما فيه فكتماه عني و خرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان و الله ما أنكرا علي منكرا و لا جعلا بيني و بينهم نصفا و إن دم عثمان لمعصوب بهما و مطلوب منهما يا خيبة الداعي إلام دعا و بما ذا أجيب و الله إنهما لعلى ضلالة صماء و جهالة عمياء و إن الشيطان قد ذمر لهما حزبه و استجلب منهما خيله و رجله ليعيد الجور إلى أوطانه و يرد الباطل إلى نصابه ثم رفع يديه فقال اللهم إن طلحة و الزبير قطعاني و ظلماني و ألبا علي و نكثا بيعتي فاحلل ما عقدا و انكث ما أبرما و لا تغفر لهما أبدا و أرهما المساءة فيما عملا و أملا
قال أبو مخنف فقام إليه الأشتر فقال الحمد لله الذي من علينا فأفضل و أحسن إلينا فأجمل قد سمعنا كلامك يا أمير المؤمنين و لقد أصبت و وفقت و أنت ابن عم نبينا و صهره و وصيه و أول مصدق به و مصل معه شهدت شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 311مشاهده كلها فكان لك الفضل فيهعلى جميع الأمة فمن اتبعك أصاب حظه و استبشر بفلجه و من عصاك و رغب عنك فإلى أمه الهاوية لعمري يا أمير المؤمنين ما أمر طلحة و الزبير و عائشة علينا بمخيل و لقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه و فارقا على غير حدث أحدثت و لا جور صنعت فإن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان فليقيدا من أنفسهما فإنهما أول من ألب عليه و أغرى الناس بدمه و أشهد الله لئن لم يدخلا فيما خرجا منه لنلحقنهما بعثمان فإن سيوفنا في عواتقنا و قلوبنا في صدورنا و نحن اليوم كما كنا أمس ثم قعد

(2/260)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 23312- و من خطبة له عأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ كَقَطْرِ الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِيرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلَا تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً فَإِنَّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ وَ يُغْرَى بِهَا لِئَامُ النَّاسِ كَانَ كَالْفَالِجِ الْيَاسِرِ الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ وَ يُرْفَعُ عَنْهُ بِهَا الْمَغْرَمُ وَ كَذَلِكَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْبَرِي ءُ مِنَ الْخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اللَّهِ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِمَّا دَاعِيَ اللَّهِ فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ وَ إِمَّا رِزْقَ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَ مَال وَ مَعَهُ دِينُهُ وَ حَسَبُهُ إِنَّ الْمَالَ وَ الْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا وَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآْخِرَةِ وَ قَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ فَاحْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَ اخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ وَ اعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَ لَا سُمْعَةٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللَّهِ يَكِلْهُ اللَّهُ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ نَسْأَلُ اللَّهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَ مُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ وَ مُرَافَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ وَ إِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عَشِيرَتِهِ وَ دِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَلْسِنَتِهِمْ وَ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ وَ أَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ وَ أَعْطَفُهُمْ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 313عَيْهِ عِنْدَ

(2/261)


نَازِلَةٍ إِنْ نَزَلَتْ بِهِ وَ لِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يُوَرِّثُهُ غَيْرَهُ وَ مِنْهَا أَلَا لَا يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ الْقَرَابَةِ يَرَى بِهَا الْخَصَاصَةَ أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لَا يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَ لَا يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ وَ مَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ وَ تُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ وَ مَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ الْمَوَدَّةَ
قال الرضي رحمه الله أقول الغفيرة هاهنا الزيادة و الكثرة من قولهم للجمع الكثير الجم الغفير و الجماء الغفير و يروى عفوة من أهل أو مال و العفوة الخيار من الشي ء يقال أكلت عفوة الطعام أي خياره. و ما أحسن المعنى الذي أراده ع بقوله و من يقبض يده عن عشيرته... إى تمام الكلام فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة فإذا احتاج إلى نصرتهم و اضطر إلى مرافدتهم قعدوا عن نصره و تثاقلوا عن صوته فمنع ترافد الأيدي الكثيرة و تناهض الأقدام الجمة

(2/262)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 314الفالج الظافر الفائز فلج يفلج بالضم و في المثل من يأت الحكم وحده يفلج و الياسر الذي يلعب بالقداح و اليسر مثله و الجمع أيسار و في الكلام تقديم و تأخير تقديره كالياسر الفالج أي كاللاعب بالقداح المحظوظ منها و هو من باب تقديم الة على الموصوف كقوله تعالى وَ غَرابِيبُ سُودٌ و حسن ذلك هاهنا أن اللفظتين صفتان و إن كانت إحداهما مرتبة على الأخرى. و قوله ليست بتعذير أي ليست بذات تعذير أي تقصير فحذف المضاف كقوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ أي ذي النار. و قوله هم أعظم الناس حيطة كبيعة أي رعاية و كلاءة و يروى حيطة كغيبة و هي مصدر حاط أي تحننا و تعطفا. و الخصاصة الفقر يقول القضاء و القدر ينزلان من السماء إلى الأرض كقطر المطر أي مبثوث في جميع أقطار الأرض إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان في المال و العمر و الجاه و الولد و غير ذلك فإذا رأى أحدكم لأخيه زيادة في رزق أو عمر أو ولد و غير ذلك فلا يكونن ذلك له فتنة تفضي به إلى الحسد فإن الإنسان المسلم إذا كان غير مواقع لدناءة و قبيح يستحيي من ذكره بين الناس و يخشع إذا قرع به و يغرى لئام الناس بهتك ستره به كاللاعب بالقداح المحظوظ منها ينتظر أول فوزة و غلبة من قداحه تجلب له نفعا و تدفع عنه ضرا كذلك من وصفنا حاله يصبر و ينتظر إحدى الحسنيين إما أن يدعوه الله فيقبضه إليه و يستأثر به فالذي عند الله خير له و إما أن ينسأ في أجله فيرزقه الله أهلا و مالا فيصبح و قد اجتمع له ذلك مع حسبه و دينه و مروءته المحفوظة عليه. ثم قال المال و البنون حرث الدنيا و هو من قوله سبحانه الْمالُ وَ الْبَنُونَ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 315زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا و من قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُردُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ

(2/263)


نَصِيبٍ. قال و قد يجمعهما الله لأقوام فإنه تعالى قد يرزق الرجل الصالح مالا و بنين فتجمع له الدنيا و الآخرة. ثم قال فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه و ذلك لأنه تعالى قال فَاتَّقُونِ و قال فَارْهَبُونِ و قال فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ و غير ذلك من آيات التحذير. ثم قال و لتكن التقوى منكم أقصى نهايات جهدكم لا ذات تقصيركم فإن العمل القاصر قاصر الثواب قاصر المنزلة
فصل في ذم الحاسد و الحسد
و اعلم أن مصدر هذا الكلام النهي عن الحسد و هو من أقبح الأخلاق المذمومة
و روى ابن مسعود عن النبي ص ألا لا تعادوا نعم الله قيل يا رسول الله و من الذي يعادي نعم الله قال الذين يحسدون الناس
و كان ابن عمر يقول تعوذوا بالله من قدر وافق إرادة حسود. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 316قيل لأرسطو ما بال الحسود أشد غما من المكروب قال لأنه يأخذ نصيبه من غموم الدنيا و يضاف إلى ذلك غمه بسرور الناس. و قال رسول الله ص استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود
و قال منصور الفقيه
منافسة الفتى فيما يزول على نقصان همته دليل و مختار القليل أقل منه و كل فوائد الدنيا قليل و من الكلام المروي عن أمير المؤمنين ع لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله
و من كلام عثمان بن عفان يكفيك من انتقامك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك. و قال مالك بن دينار شهادة القراء مقبولة في كل شي ء إلا شهادة بعضهم على بعض فإنهم أشد تحاسدا من السوس في الوبر. و قال أبو تمام و إذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسودلو لا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العودلو لا محاذرة العواقب لم تزل للحاسد النعمى على المحسود

(2/264)


و تذاكر قوم من ظرفاء البصرة الحسد فقال رجل منهم إن الناس ربما حسدوا على الصلب فأنكروا ذلك ثم جاءهم بعد ذلك بأيام فقال إن الخليفة قد أمر بصلب شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 317الأحنف بن قيس و مالك بن مسمع و حمدان الحجام فقالوا هذا الخبيث يصلب مع هذين الرئيسين ال أ لم أقل لكم إن الناس يحسدون على الصلب.
و روى أنس بن مالك مرفوعا أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
و في الكتب القديمة يقول الله عز و جل الحاسد عدو نعمتي متسخط لفعلي غير راض بقسمتي
و قال الأصمعي رأيت أعرابيا قد بلغ مائة و عشرين سنة فقلت له ما أطول عمرك فقال تركت الحسد فبقيت. و قال بعضهم ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد. قال الشاعر
تراه كأن الله يجدع أنفه و أذنيه إن مولاه ثاب إلى وفر
و قال آخر
قل للحسود إذا تنفس ضغنه يا ظالما و كأنه مظلوم
و من كلام الحكماء إياك و الحسد فإنه يبين فيك و لا يبين في المحسود. و من كلامهم من دناءة الحاسد أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب. و قيل لبعضهم لزمت البادية و تركت قومك و بلدك قال و هل بقي إلا حاسد نعمة أو شامت بمصيبة. بينا عبد الملك بن صالح يسير مع الرشيد في موكبه إذ هتف هاتف يا أمير المؤمنين طأطئ من إشرافه و قصر من عنانه و اشدد من شكاله و كان عبد الملك متهما شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 318عند الرشيد بالطمع في الخلافة فقال الرشيد ما يقول هذا فقال عبد الملك مقال حاسد و دسيس حاقد يا أمير المؤمنين قال قد صدقت نقص القوم فضلتهم و تخلفوا و سبقتهم حتى برز شأوك و قصر عنك غيرك ففي صدورهم جمرات التخلف و حزازات التبلد قال عبد الملك فأضرمها يا أمير المؤمنين عليهم بالمزيد. و قال شاعر

(2/265)


يا طالب العيش في أمن و في دعة محضا بلا كدر صفوا بلا رنق خلص فؤادك من غل و من حسد فالغل في القلب مثل الغل في العنقو من كلام عبد الله بن المعتز إذا زال المحسود عليه علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شي ء. و من كلامه الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له بخيل بما لا يملكه. و من كلامه لا راحة لحاسد و لا حياة لحريص. و من كلامه الميت يقل الحسد له و يكثر الكذب عليه و من كلامه ما ذل وم حتى ضعفوا و ما ضعفوا حتى تفرقوا و ما تفرقوا حتى اختلفوا و ما اختلفوا حتى تباغضوا و ما تباغضوا حتى تحاسدوا و ما تحاسدوا حتى استأثر بعضهم على بعض. و قال الشاعر
إن يحسدوني فإني غير لائمهم قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوافدام لي و لهم ما بي و ما بهم و مات أكثرنا غيظا بما يجد
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 319و من كلامهم ما خلا جسد عن حسد. و حد الحسد هو أن تغتاظ مما رزقه غيرك و تود أنه زال عنه و صار إليك و الغبطة ألا تغتاظ و لا تود زواله عنه و إنما تود أن ترزق مثله و ليست الغبطة بمذمومة. و قال الشاعرحسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالكل أعداء له و خصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدا و بغيا إنه لدميمفصل في مدح الصبر و انتظار الفرج
و اعلم أنه ع بعد أن نهى عن الحسد أمر بالصبر و انتظار الفرج من الله إما بموت مريح أو بظفر بالمطلوب. و الصبر من المقامات الشريفة و قد وردت فيه آثار كثيرة
روى عبد الله بن مسعود عن النبي ص أن الصبر نصف الإيمان و اليقين الإيمان كله
و قالت عائشة لو كان الصبر رجلا لكان كريما.
و قال علي ع الصبر إما صبر على المصيبة أو على الطاعة أو عن المعصية و هذا القسم الثالث أعلى درجة من القسمين الأولين
و عنه ع الحياء زينة و التقوى كرم و خير المراكب مركب الصبر
و عنه ع القناعة سيف لا ينبو و الصبر مطية لا تكبو و أفضل العدة الصبر على الشدة

(2/266)


قال الحسن ع جربنا و جرب المجربون فلم نر شيئا أنفع وجدانا و لا أضر فقدانا من الصبر تداوى به الأمور و لا يداوى هو بغيره
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 320و قال سعيد بن حميد الكاتبلا تعتبن على النوائب فالدهر يرغم كل عاتب و اصبر على حدثانه إن الأمور لها عواقب كم نعمة مطوية لك بين أثناء النوائب و مسرة قد أقبلت من حيث تنتظر المصاو من كلامهم الصبر مر لا يتجرعه إلا حر. قال أعرابي كن حلو الصبر عند مرارة النازلة. و قال كسرى لبزرجمهر ما علامة الظفر بالأمور المطلوبة المستصعبة قال ملازمة الطلب و المحافظة على الصبر و كتمان السر. و قال الأحنف بن قيس لست حليما إنما أنا صبور فأفادني الصبر صفتي بالحلم.
و سئل علي ع أي شي ء أقرب إلى الكفر قال ذو فاقة لا صبر له و من كلامه ع الصبر يناضل الحدثان و الجزع من أعوان الزمان
و قال أعشى همدان
إن نلت لم أفرح بشي ء نلته و إذا سبقت به فلا أتلهف و متى تصبك من الحوادث نكبة فاصبر فكل غيابة تتكشو الأمر يذكر بالأمر و هذا البيت هو الذي قاله له الحجاج يوم قتله ذكر ذلك أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في الأمالي قال لما أتي الحجاج بأعشى همدان أسيرا و قد كان خرج مع ابن الأشعث قال له يا ابن اللخناء أنت القائل لعدو الرحمن يعني عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 32يا ابن الأشج قريع كندة لا أبالي فيك عتباأنت الرئيس ابن الرئيس و أنت أعلى الناس كعبانبئت حجاج بن يوسف خر من زلق فتبافانهض هديت لعله يجلو بك الرحمن كرباو ابعث عطية في الحروب يكبهن عليه كبا
ثم قال عبد الرحمن خر من زلق فتب و خسر و انكب و ما لقي ما أحب و رفع بها صوته و اهتز منكباه و در ودجاه و احمرت عيناه و لم يبق في المجلس إلا من هابه فقال أيها الأمير و أنا القائل

(2/267)


أبى الله إلا أن يتمم نوره و يطفئ نار الكافرين فتخمداو ينزل ذلا بالعراق و أهله كما نقضوا العهد الوثيق المؤكداو ما لبث الحجاج أن سل سيفه علينا فولى جمعنا و تبددا
فالتفت الحجاج إلى من حضر فقال ما تقولون قالوا لقد أحسن أيها الأمير و محا بآخر قوله أوله فليسعه حلمك فقال لاها الله إنه لم يرد ما ظننتم و إنما أراد تحريض أصحابه ثم قال له ويلك أ لست القائل
إن نلت لم أفرح بشي ء نلته و إذا سبقت به فلا أتلهف و متى تصبك من الحوادث نكبة فاصبر فكل غيابة تتكشأما و الله لتظلمن عليك غيابة لا تنكشف أبدا أ لست القائل في عبد الرحمن
و إذا سألت المجد أين محله فالمجد بين محمد و سعيد
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 322بين الأشج و بين قيس نازل بخ بخ لوالده و للمولوو الله لا يبخبخ بعدها أبدا يا حرسي اضرب عنقه. و مما جاء في الصبر قيل للأحنف إنك شيخ ضعيف و إن الصيام يهدك فقال إني أعده لشر يوم طويل و إن الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله. و من كلامه من لم يصبر على كلمة سمع كلمات رب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه. يونس بن عبيد لو أمرنا بالجزع لصبرنا. ابن السماك المصيبة واحدة فإن جزع صاحبها منها صارت اثنتين يعني فقد المصاب و فقد الثواب. الحارث بن أسد المحاسبي لكل شي ء جوهر و جوهر الإنسان العقل و جوهر العقل الصبر. جابر بن عبد الله سئل رسول الله ص عن الإيمان فقال الصبر و السماحة
و قال العتابي
اصبر إذا بدهتك نائبة ما عال منقطع إلى الصبرالصبر أولى ما اعتصمت به و لنعم حشو جوانح الصدر
و من كلام علي ع الصبر مفتاح الظفر و التوكل على الله رسول الفرج
و من كلامه ع انتظار الفرج بالصبر عبادة

(2/268)


أكثم بن صيفي الصبر على جرع الحمام أعذب من جنا الندم. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 323و من كلام بعض الزهاد و اصبر على عمل لا غناء بك عن ثوابه و اصبر عن عمل لا صبر على عقابك به. و كتب ابن العميد أقرأ في الصبر سورا و لا أقرأ في الجزع آية و أحفظ في التماسك و اللد قصائد و لا أحفظ في التهافت قافية. و قال الشاعر
و يوم كيوم البعث ما فيه حاكم و لا عاصم إلا قنا و دروع حبست به نفسي على موقف الردى حفاظا و أطراف الرماح شروع و ما يستوي عند الملمات إن عرت صبور على مكروهها و جزوأبو حية النميري
إني رأيت و في الأيام تجربة للصبر عاقبة محمودة الأثرو قل من جد في أمر يحاوله و استصحب الصبر إلا فاز بالظفر
و وصف الحسن البصري عليا ع فقال كان لا يجهل و إن جهل عليه حلم و لا يظلم و إن ظلم غفر و لا يبخل و إن بخلت الدنيا عليه صبر. عبد العزيز بن زرارة الكلابي
قد عشت في الدهر أطوارا على طرق شتى فقاسيت منه الحلو و البشعاكلا بلوت فلا النعماء تبطرني و لا تخشعت من لأوائها جزعالا يملأ الأمر صدري قبل موقعه و لا يضيق به صدري إذا وقعا
و من كلام بعضهم من تبصر تصبر الصبر يفسح الفرج و يفتح المرتتج المحنة إذا تلقيت بالرضا و الصبر كانت نعمة دائمة و النعمة إذا خلت من الشكر كانت محنة لازمة. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 324قيل لأبي مسلم صاحب الدولة بم أصبت ما أصبت قال ارتديت بالصبر و اتزرت بالكتن و حالفت الحزم و خالفت الهوى و لم أجعل العدو صديقا و لا الصديق عدوا. منصور النمري في الرشيد
و ليس لأعباء الأمور إذا عرت بمكترث لكن لهن صبوريرى ساكن الأطراف باسط وجهه يريك الهوينى و الأمور تطير

(2/269)


من كلام أمير المؤمنين ع أوصيكم بخمس لو ضربتم إليهن آباط الإبل كانت لذلك أهلا لا يرجون أحدكم إلا ربه و لا يخافن إلا ذنبه و لا يستحين إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم و لا يستحيي إذا جهل أمرا أن يتعلمه و عليكم بالصبر فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فكما لا خير في جسد لا رأس له لا خير في إيمان لا صبر معه
و عنه ع لا يعدم الصبور الظفر و إن طال به الزمان
نهشل بن حري
و يوم كأن المصطلين بحرة و إن لم يكن جمرا قيام على جمرصبرنا له حتى تجلى و إنما تفرج أيام الكريهة بالصبر
علي ع اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر و حسن اليقين
و عنه ع و إن كنت جازعا على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك
و في كتابه ع الذي كتبه إلى عقيل أخيه و لا تحسبن ابن أمك و لو أسلمه الناس متضرعا متخشعا و لا مقرا للضيم واهنا و لا سلس الزمام للقائد و لا وطي ء الظهر للراكب و لكنه كما قال أخو بني سليم شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 32فإن تسأليني كيف أنت فإنني صبور على ريب الزمان صليب يعز علي أن ترى بي كآبة فيشمت عاد أو يساء حبيبفصل في الرياء و النهي عنه
و اعلم أنه ع بعد أن أمرنا بالصبر نهى عن الرياء في العمل و الرياء في العمل منهي عنه بل العمل ذو الرياء ليس بعمل على الحقيقة لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى و أصحابنا المتكلمون يقولون ينبغي أن يعمل المكلف الواجب لأنه واجب و يجتنب القبيح لأنه قبيح و لا يفعل الطاعة و يترك المعصية رغبة في الثواب و خوفا من العقاب فإن ذلك يخرج عمله من أن يكون طريقا إلى الثواب و شبهوه بالاعتذار في الشي ء فإن من يعتذر إليك من ذنب خوفا أن تعاقبه على ذلك الذنب لا ندما على القبيح الذي سبق منه لا يكون عذره مقبولا و لا ذنبه عندك مغفورا وهذا مقام جليل لا يصل إليه إلا الأفراد من ألوف الألوف. و قد جاء في الآثار من النهي عن الرياء و السمعة كثير

(2/270)


روي عن النبي ص أنه قال يؤتى في يوم القيامة بالرجل قد عمل أعمال الخير كالجبال أو قال كجبال تهامة و له خطيئة واحدة فيقال إنما عملتها ليقال عنك فقد قيل و ذاك ثوابك و هذه خطيئتك أدخلوه بها إلى جهنم
و قال ع ليست الصلاة قيامك و قعودك إنما الصلاة إخلاصك و أن تريد بها الله وحده
و قال حبيب الفارسي لو أن الله تعالى أقامني يوم القيامة و قال هل تعد سجدة سجدت ليس للشيطان فيها نصيب لم أقدر على ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 326توصل عبد الله بن الزبير إلى امرأة عبد الله بن عمر و هي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي في أن تكلم بعلها عبد اه بن عمر أن يبايعه فكلمته في ذلك و ذكرت صلاته و قيامه و صيامه فقال لها أ ما رأيت البغلات الشهب التي كنا نراها تحت معاوية بالحجر إذا قدم مكة قالت بلى قال فإياها يطلب ابن الزبير بصومه و صلاته.
و في الخبر المرفوع أن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء في العمل ألا و إن الرياء في العمل هو الشرك الخفي
صلى و صام لأمر كان يطلبه حتى حواه فلا صلى و لا صاما
فصل في الاعتضاد بالعشيرة و التكثر بالقبيلة
ثم إنه ع بعد نهيه عن الرياء و طلب السمعة أمر بالاعتضاد بالعشيرة و التكثر بالقبيلة فإن الإنسان لا يستغني عنهم و إن كان ذا مال و قد قالت الشعراء في هذا المعنى كثيرا فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة

(2/271)


إذا المرء لم يغضب له حين يغضب فوارس إن قيل اركبوا الموت يركبواو لم يحبه بالنصر قوم أعزة مقاحيم في الأمر الذي يتهيب تهضمه أدنى العداة فلم يزل و إن كان عضا بالظلامة يضرب فآخ لحال السلم من شئت و اعلمن بأن سوى مولاك في الحرب أجنب و مولاك مولاك الذي إن دعوتهابك طوعا و الدماء تصبب فلا تخذل المولى و إن كان ظالما فإن به تثأى الأمور و ترأب شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 327و من شعر الحماسة أيضاأفيقوا بني حزن و أهواؤنا معا و أرحامنا موصولة لم تقضب لعمري لرهط المرء خير بقية عليه و إن عالوا به كل مركب إذا كنت في قوم و أمك منهم لتعزى إليهم في خبيث و طيب و إن حدثتك النفس أنك قادر على ما حوت أيدي الرجال فكو من شعر الحماسة أيضا
لعمرك ما أنصفتني حين سمتني هواك مع المولى و أن لا هوى لياإذا ظلم المولى فزعت لظلمه فحرق أحشائي و هرت كلابيا
و من شعر الحماسة أيضا
و ما كنت أبغي العم يمشي على شفا و إن بلغتني من أذاه الجنادع و لكن أواسيه و أنسى ذنوبه لترجعه يوما إلي الرواجع و حسبك من ذل و سوء صنيعة مناواة ذي القربى و أن قيل قاطو من شعر الحماسة أيضا
ألا هل أتى الأنصار أن ابن بحدل حميدا شفى كلبا فقرت عيونهافإنا و كلبا كاليدين متى تقع شمالك في الهيجا تعنها يمينها
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 328و من شعر الحماسة أيضاأخوك أخوك من ينأى و تدنو مودته و إن دعي استجاباإذا حاربت حارب من تعادي و زاد غناؤه منك اقترابايواسي في كريهته و يدنو إذا ما مضلع الحدثان نابا
فصل في حسن الثناء و طيب الأحدوثة

(2/272)


ثم إنه ع ذكر أن لسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خيرا له من المال يورثه غيره و لسان الصدق هو أن يذكر الإنسان بالخير و يثنى عليه به قال سبحانه وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. و قد ورد في هذا المعنى من النثر و النظم الكثير الواسع فمن ذلك قول عمر لابنة هرم ما الذي أعطى أبوك زهيرا قالت أعطاه مالا يفنى و ثيابا تبلى قال لكن ما أعطاكم زهير لا يبليه الدهر و لا يفنيه الزمان. و من شعر الحماسة أيضا
إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد بفضل الغنى ألفيت ما لك حامدو قل غناء عنك مال جمعته إذا كان ميراثا و واراك لاحد
و قال يزيد بن المهلب المال و الحياة أحب شي ء إلى الإنسان و الثناء الحسن أحب إلي منهما و لو أني أعطيت ما لم يعطه أحد لأحببت أن يكون لي أذن أسمع بها ما يقال في غدا و قد مت كريما. و حكى أبو عثمان الجاحظ عن إبراهيم السندي قال قلت في أيام ولايتي الكوفة شرح نالبلاغة ج : 1 ص : 329لرجل من وجوهها كان لا يجف لبده و لا يستريح قلمه و لا تسكن حركته في طلب حوائج الناس و إدخال السرور على قلوبهم و الرفق على ضعفائهم و كان عفيف الطعمة خبرني عما هون عليك النصب و قواك على التعب فقال قد و الله سمعت غناء الأطيار بالأسحار على أغصان الأشجار و سمعت خفق الأوتار و تجاوب العود و المزمار فما طربت من صوت قط طربي من ثناء حسن على رجل محسن فقلت لله أبوك فلقد ملئت كرما. و قال حاتم
أماوي إن يصبح صداي بقفرة من الأرض لا ماء لدي و لا خمرترى أن ما أنفقت لم يك ضرني و أن يدي مما بخلت به صفرأماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر
بعض المحدثين
من اشترى بماله حسن الثناء غبناأفقره سماحه و ذلك الفقر الغنى
و من أمثال الفرس كل ما يؤكل ينتن و كل ما يوهب يأرج. و قال أبو الطيب
ذكر الفتى عمره الثاني و حاجته ما قاته و فضول العيش أشغال
فصل في مواساة الأهل و صلة الرحم

(2/273)


ثم إنه ع بعد أن قرظ الثناء و الذكر الجميل و فضله على المال أمر بمواساة شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 330الأهل و صلة الرحم و إن قل ما يواسى به فقال ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة إلى آخر الفصل و قد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا فمن ذلك قول زهيرو من يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه يستغن عنه و يذمم
و قال عثمان إن عمر كان يمنع أقرباءه ابتغاء وجه الله و أنا أعطيتهم ابتغاء وجه الله و لن تروا مثل عمر.
أبو هريرة مرفوعا الرحم مشتقة من الرحمن و الرحمن اسم من أسماء الله العظمى قال الله لها من وصلك وصلته و من قطعك قطعته
و في الحديث المشهور صلة الرحم تزيد في العمر
و قال طرفة يهجو إنسانا بأنه يصل الأباعد و يقطع الأقارب
و أنت على الأدنى شمال عرية شآمية تزوي الوجوه بليل و أنت على الأقصى صبا غير قرة تذاءب منها مزرع و مسيلو من شعر الحماسة
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى و إن قل مالي لا أكلفهم رفداو لا أحمل الحقد القديم عليهم و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 24331- و من خطبة له عوَ لَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ الْحَقَّ وَ خَابَطَ الْغَيَّ مِنْ إِدْهَانٍ وَ لَا إِيهَانٍ فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَ فِرُّوا إِلَى اللَّهِ مِنَ اللَّهِ وَ امْضُوا فِي الَّذِي نَهَجَهُ لَكُمْ وَ قُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِكُمْ فَعَلِيٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ آجِلًا إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عَاجِلًا

(2/274)


الإدهان المصانعة و المنافقة قال سبحانه وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. و الإيهان مصدر أوهنته أي أضعفته و يجوز وهنته بحذف الهمزة و نهجه أوضحه و جعله نهجا أي طريقا بينا و عصبه بكم ناطه بكم و جعله كالعصابة التي تشد بها الرأس و الفلج الفوز و الظفر. و قوله و خابط الغي كأنه جعله و الغي متخابطين يخبط أحدهما في الآخر و ذلك أشد مبالغة من أن تقول خبط في الغي لأن من يخبط و يخبطه غيره يكون أشد اضطرابا ممن يخبط و لا يخبطه غيره و قوله و فروا إلى الله من الله أي اهربوا إلى رحمة الله من عذابه و قد نظر الفرزدق إلى هذا فقال
إليك فررت منك و من زياد و لم أحسب دمي لكم حلالا
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 25332- و من خطبة له ع و قد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلادو قدم عليه عاملاه على اليمن و هما عبيد الله بن عباس و سعيد بن نمران لما غلب عليهما بسر بن أرطاة فقام ع على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد و مخالفتهم له في الرأي فقال
مَا هِيَ إِلَّا الْكُوفَةُ أَقْبِضُهَا وَ أَبْسُطُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْتِ تَهُبُّ أَعَاصِيرُكِ فَقَبَّحَكِ اللَّهُ وَ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ
لَعَمْرُ أَبِيكَ الْخَيْرِ يَا عَمْرُو إِنَّنِي عَلَى وَضَرٍ مِنْ ذَا الْإِنَاءِ قَلِيلِ

(2/275)


ثُمَّ قَالَ ع أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ وَ إِنِّي وَ اللَّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ وَ بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وَ طَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ وَ بِأَدَائِهِمُ الْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَ خِيَانَتِكُمْ وَ بِصَلَاحِهِمْ فِي بِلَادِهِمْ وَ فَسَادِكُمْ فَلَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلَاقَتِهِ اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَ مَلُّونِي وَ سَئِمْتُهُمْ وَ سَئِمُونِي فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 333وَ أَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ أَمَا وَ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِيِكُمْ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ
هُنَالِكَ لَوْ دَعَوْتَ أَتَاكَ مِنْهُمْ فَوَارِسُ مِثْلُ أَرْمِيَةِ الْحَمِيمِ
ثُمَّ نَزَلَ ع مِنَ الْمِنْبَرِ
قال الرضي رحمه الله أقول الأرمية جمع رمي و هو السحاب و الحميم هاهنا وقت الصيف و إنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنه أشد جفولا و أسرع خفوقا لأنه لا ماء فيه و إنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء و ذلك لا يكون في الأكثر إلا زمان الشتاء و إنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا و الإغاثة إذا استغيثوا و الدليل على ذلك قوله
هنالك لو دعوت أتاك منهم

(2/276)


تواترات عليه الأخبار مثل ترادفت و تواصلت الناس من يطعن في هذا و يقول التواتر لا يكون إلا مع فترات بين أوقات الإتيان و منه قوله سبحانه ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ليس المراد أنهم مترادفون بل بين كل نبيين فترة قالوا و أصل تترى من الواو و اشتقاقها من الوتر و هو الفرد و عدوا هذا الموضع مما تغلط فيه الخاصة. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 33نسب معاوية بن أبي سفيان و ذكر بعض أخباره
و معاوية هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. و أمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي و هي أم أخيه عتبة بن أبي سفيان فأما يزيد بن أبي سفيان و محمد بن أبي سفيان و عنبسة بن أبي سفيان و حنظلة بن أبي سفيان و عمرو بن أبي سفيان فمن أمهات شتى. و أبو سفيان هو الذي قاد قريشا في حروبها إلى النبي ص و هو رئيس بني عبد شمس بعد قتل عتبة بن ربيعة ببدر ذاك صاحب العير و هذا صاحب النفير و بهما يضرب المثل فيقال للخامل لا في العير و لا في النفير. و روى الزبير بن بكار أن عبد الله بن يزيد بن معاوية جاء إلى أخيه خالد بن يزيد في أيام عبد الملك فقال لقد هممت اليوم يا أخي أن أفتك بالوليد بن عبد الملك قال بئسما هممت به في ابن أمير المؤمنين و ولي عهد المسلمين فما ذاك قال إن خيلي مرت به فعبث بها و أصغرني فقال خالد أنا أكفيك فدخل على عبد الملك و الوليد عنده فقال يا أمير المؤمنين إن الوليد مرت به خيل ابن عمه عبد الله فعبث بها و أصغره و كان عبد الملك مطرقا فرفع رأسه و قال إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ فقال خالد وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً فقال عبد الملك أ في عبد الله تكلمني و

(2/277)


الله لقد دخل أمس علي فما أقام لسانه لحنا قال شرح نهج البلاغة ج 1 ص : 335خالد أ فعلى الوليد تعول يا أمير المؤمنين قال عبد الملك إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان لا فقال خالد و إن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالدا لا فالتفت الوليد إلى خالد و قال له اسكت ويحك فو الله ما تعد في العير و لا في النفير فقال اسمع يا أمير المؤمنين ثم التفت إلى الوليد فقال له ويحك فمن صاحب العير و النفير غير جدي أبي سفيان صاحب العير و جدي عتبة صاحب النفير و لكن لو قلت غنيمات و حبيلات و الطائف و رحم الله عثمان لقلنا صدقت. و هذا من الكلام المستحسن و الألفاظ الفصيحة و الجوابات المسكتة و إنما كان أبو سفيان صاحب العير لأنه هو الذي قدم بالعير التي رام رسول الله ص و أصحابه أن يعترضوها و كانت قادمة من الشام إلى مكة تحمل العطر و البر فنذر بهم أبو سفيان فضرب وجوه العير إلى البحر فساحل بها حتى أنقذها منهم و كانت وقعة بدر العظمى لأجلها لأن قريشا أتاهم النذير بحالها و بخروج النبي ص بأصحابه من المدينة في طلبها لينفروا و كان رئيس الجيش النافر لحمايتها عتبة بن ربيعة بن شمس جد معاوية لأمه. و أما غنيمات و حبيلات إلى آخر الكلام فإن رسول الله ص لما طرد الحكم بن أبي العاص إلى الطائف لأمور نقمها عليه أقام بالطائف في حبلة ابتاعها و هي الكرمة و كان يرعى غنيمات اتخذها يشرب من لبنها فلما ولي أبو بكر شفع إليه عثمان في أن يرده فلم يفعل فلما ولي عمر شفع إليه أيضا فلم يفعل فلما ولي هو الأمر رده و الحكم جد عبد الملك فعيرهم خالد بن يزيد به. و بنو أمية صنفان الأعياص و العنابس فالأعياص العاص و أبو العاص شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 336و العيص و أبو العيص و العنابس حرب و أبو حرب و سفيان و أبو سفيان فبنو مروان و عثمان من الأعياص و معاوية و ابنة من العنابس و لكل واحد من الصنفين المذكورين و شيعتهم كلام طويل و اختلاف شديد في تفضيل بعضهم ى

(2/278)


بعض. و كانت هند تذكر في مكة بفجور و عهر. و قال الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار كان معاوية يعزى إلى أربعة إلى مسافر بن أبي عمرو و إلى عمارة بن الوليد بن المغيرة و إلى العباس بن عبد المطلب و إلى الصباح مغن كان لعمارة بن الوليد قال و قد كان أبو سفيان دميما قصيرا و كان الصباح عسيفا لأبي سفيان شابا وسيما فدعته هند إلى نفسها فغشيها. و قالوا إن عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضا و قالوا إنها كرهت أن تدعه في منزلها فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك و في هذا المعنى يقول حسان أيام المهاجاة بين المسلمين و المشركين في حياة رسول الله ص قبل عام الفتح
لمن الصبي بجانب البطحا في الترب ملقى غير ذي مهدنجلت به بيضاء آنسة من عبد شمس صلتة الخد

(2/279)


و الذين نزهوا هندا عن هذا القذف رووا غير هذا فروى أبو عبيدة معمر بن المثنى أن هندا كانت تحت الفاكه بن المغيرة المخزومي و كان له بيت ضيافة يغشاه الناس فيدخلونه من غير إذن فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع فيه الفاكه و هند ثم قام الفاكه و ترك هندا في البيت لأمر عرض له ثم عاد إلى البيت فإذا رجل قد خرج من البيت فأقبل إلى هند فركلها برجله و قال من الذي كان عندك فقالت لم يكن عندي شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 337أحد و إنما كنت نائمة فقال الحقي بأهلك فقامت من فورها إلى أهلها فتكلم الناس في ذلك فقال لها عتبة أبوها يا بنية إالناس قد أكثروا في أمرك فأخبريني بقصتك على الصحة فإن كان لك ذنب دسست إلى الفاكه من يقتله فتنقطع عنك القالة فحلفت أنها لا تعرف لنفسها جرما و إنه لكاذب عليها فقال عتبة للفاكه إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم و خرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف و أخرج معه هندا و نسوة معها فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند و تنكر أمرها و اختطف لونها فرأى ذلك أبوها فقال لها إني أرى ما بك و ما ذاك إلا لمكروه عندك فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا قالت يا أبت إن الذي رأيت مني ليس لمكروه عندي و لكني أعلم أنكم تأتون بشرا يخطئ و يصيب و لا آمن أن يسمني ميسما يكون علي عارا عند نساء مكة قال لها فإني سأمتحنه قبل المسألة بأمر ثم صفر بفرس له فأدلى ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليله و شده بسير و تركه حتى إذا وردوا على الكاهن أكرمهم و نحر لهم فقال عتبة إنا قد جئناك لأمر و قد خبأت لك خبيئا أختبرك به فانظر ما هو فقال ثمرة في كمرة فقال أبين من هذا قال حبة بر في إحليل مهر قال صدقت انظر الآن في أمر هؤلاء النسوة فجعل يدنو من واحدة واحدة منهن و يقول انهضي حتى صار إلى هند فضرب على كتفها و قال انهضي غير رقحاء و لا زانية و لتلدن ملكا يقال له

(2/280)


معاوية فوثب إليها الفاكه فأخذها بيده و قال قومي إلى بيتك فجذبت يدها من يده و قالت إليك عني فو الله لا كان منك و لا كان إلا من غيرك فتزوجها أبو سفيان بن حرب. الرقحاء البغي التي تكتسب بالفجور و الرقاحة التجارة. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 338و ولي معاوية اثنتين و أربعين سنة منها اثنتان و عشرون سنة ولي فيها إمارة الشام منذ مات أخوه يزيد بن أبي سفيان بعد خمس سنين من خلافة عمر إلى أن قتل أمير المؤمنين علي ع في سنة أربعين و منها عشرون سنة خليفة إلى أن م في سنة ستين. و مر به إنسان و هو غلام يلعب مع الغلمان فقال إني أظن هذا الغلام سيسود قومه فقالت هند ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه. و لم يزل معاوية ذا همة عالية يطلب معالي الأمور و يرشح نفسه للرئاسة و كان أحد كتاب رسول الله ص و اختلف في كتابته له كيف كانت فالذي عليه المحققون من أهل السيرة أن الوحي كان يكتبه علي ع و زيد بن ثابت و زيد بن أرقم و أن حنظلة بن الربيع التيمي و معاوية بن أبي سفيان كانا يكتبان له إلى الملوك و إلى رؤساء القبائل و يكتبان حوائجه بين يديه و يكتبان ما يجبى من أموال الصدقات و ما يقسم في أربابها. و كان معاوية على أس الدهر مبغضا لعلي ع شديد الانحراف عنه و كيف لا يبغضه و قد قتل أخاه حنظلة يوم بدر و خاله الوليد بن عتبة و شرك عمه في جده و هو عتبة أو في عمه و هو شيبة على اختلاف الرواية و قتل من بني عمه عبد شمس نفرا كثيرا من أعيانهم و أماثلهم ثم جاءت الطامة الكبرى واقعة عثمان فنسبها كلها إليه بشبهة إمساكه عنه و انضواء كثير من قتلته إليه ع فتأكدت البغضة و ثارت الأحقاد و تذكرت تلك الترات الأولى حتى أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه. و قد كان معاوية مع عظم قدر علي ع في النفوس و اعتراف العرب بشجاعته و أنه البطل الذي لا يقام له يتهدده و عثمان بعد حي بالحرب و المنابذة و يراسله من الشام رسائل خشنة حتى قال له في وجهه ما رواه أبو هلال

(2/281)


العسكري في كتاب الأوائل قال
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 339قدم معاوية المدينة قدمة أيام عثمان في أواخر خلافته فجلس عثمان يوما للناس فاعتذر من أمور نقمت عليه فقال إن رسول الله ص قبل توبة الكافر و إني رددت الحكم عمي لأنه تاب فقبلت توبته و لو كان بينه و بين أبي بكر و عمر من الرحم ما بي و بينه لآوياه فأما ما نقمتم علي أني أعطيت من مال الله فإن الأمر إلي أحكم في هذا المال بما أراه صلاحا للأمة و إلا فلما ذا كنت خليفة فقطع عليه الكلام معاوية و قال للمسلمين الحاضرين عنده أيها المهاجرون قد علمتم أنه ليس منكم رجل إلا و قد كان قبل الإسلام مغمورا في قومه تقطع الأمور من دونه حتى بعث الله رسوله فسبقتم إليه و أبطأ عنه أهل الشرف و الرئاسة فسدتم بالسبق لا بغيره حتى إنه ليقال اليوم رهط فلان و آل فلان و لم يكونوا قبل شيئا مذكورا و سيدوم لكم هذا الأمر ما استقمتم فإن تركتم شيخنا هذا يموت على فراشه و إلا خرج منكم و لا ينفعكم سبقكم و هجرتكم. فقال له علي ع ما أنت و هذا يا ابن اللخناء فقال معاوية مهلا يا أبا الحسن عن ذكر أمي فما كانت بأخس نسائكم و لقد صافحها رسول الله ص يوم أسلمت و لم يصافح امرأة غيرها أما لو قالها غيرك فنهض علي ع ليخرج مغضبا فقال عثمان اجلس فقال له لا أجلس فقال عزمت عليك لتجلسن فأبى و ولى فأخذ عثمان طرف ردائه فترك الرداء في يده و خرج فأتبعه عثمان بصره فقال و الله لا تصل إليك و لا إلى أحد من ولدك. قال أسامة بن زيد كنت حاضرا هذا المجلس فعجبت في نفسي من تألي عثمان فذكرته لسعد بن أبي وقاص فقال لا تعجب فإني
سمعت رسول الله ص يقول لا ينالها علي و لا ولده

(2/282)


قال أسامة فإني في الغد لفي المسجد و علي و طلحة و الزبير و جماعة من المهاجرين جلوس إذ جاء معاوية فتآمروا بينهم ألا يوسعوا له فجاء حتى جلس بين أيديهم شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 340فقال أ تدرون لما ذا جئت قالوا لا قال إني أقسم بالله إن لم تتركوا شيخكم يموت ع فراشه لا أعطيكم إلا هذا السيف ثم قام فخرج. فقال علي ع لقد كنت أحسب أن عند هذا شيئا فقال له طلحة و أي شي ء يكون عنده أعظم مما قال قاتله الله لقد رمى الغرض فأصاب و الله ما سمعت يا أبا الحسن كلمة هي أملأ لصدرك منها. و معاوية مطعون في دينه عند شيوخنا رحمهم اله يرمى بالزندقة و قد ذكرنا في نقض السفيانية على شيخنا أبي عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه من الإلحاد و التعرض لرسول الله ص و ما تظاهر به من الجبر و الإرجاء و لو لم يكن شي ء من ذلك لكان في محاربته الإمام ما يكفي في فساد حاله لا سيما علىقواعد أصحابنا و كونهم بالكبيرة الواحدة يقطعون على المصير إلى النار و الخلود فيها إن لم تكفرها التوبة
بسر بن أرطاة و نسبه
و أما بسر بن أرطاة فهو بسر بن أرطاة و قيل ابن أبي أرطاة بن عويمر بن عمران بن الحليس بن سيار بن نزار بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف و أمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي ع فقتل خلقا كثيرا و قتل فيمن قتل ابني عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب و كانا غلامين صغيرين فقالت أمهما ترثيهما
يا من أحس بنيي اللذين هما كالدرتين تشظى عنهما الصدف
في أبيات مشهورة شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 34عبيد الله بن العباس و بعض أخباره

(2/283)


و كان عبيد الله عامل علي ع على اليمن و هو عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أمه و أم إخوته عبد الله و قثم و معبد و عبد الرحمن لبابة بنت الحارث بن حزن من بني عامر بن صعصعة و مات عبيد الله بالمدينة و كان جوادا و أعقب و من أولاده قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس ولاه أبو جعفر المنصور المدينة و كان جوادا ممدوحا و له يقول ابن المولى
أعفيت من كور و من رحلة يا ناق إن أدنيتني من قثم في وجهه نور و في باعه طول و في العرنين منه شممو يقال ما رئي قبور إخوة أكثر تباعدا من قبور بني العباس رحمه الله تعالى قبر عبد الله بالطائف و قبر عبيد الله بالمدينة و قبر قثم بسمرقند و قبر عبد الرحمن بالشام و قبر معبد بإفريقية

(2/284)


ثم نعود إلى شرح الخطبة الأعاصير جمع إعصار و هي الريح المستديرة على نفسها قال الله تعالى فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ. و الوضر بقية الدسم في الإناء و قد اطلع اليمن أي غشيها و غزاها و أغار عليها. و قوله سيدالون منكم أي يغلبونكم و تكون لهم الدولة عليكم و ماث زيد الملح في الماء أذابه. و بنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة حي مشهور بالشجاعة منهم شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 342علقمة بن فراس و هو جذل الطعان و منهم ربيعة بن مكدم بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن فراس الشجاع المشهور حامى الظعن حيا و ميتا و لم يحالحريم و هو ميت أحد غيره عرض له فرسان من بني سليم و معه ظعائن من أهله يحميهم وحده فطاعنهم فرماه نبيشة بن حبيب بسهم أصاب قلبه فنصب رمحه في الأرض و اعتمد عليه و هو ثابت في سرجه لم يزل و لم يمل و أشار إلى الظعائن بالرواح فسرن حتى بلغن بيوت الحي و بنو سليم قيام إزاءه لا يقدمون عليه و يظنونه حيا حتى قال قائل منهم إني لا أراه إلا ميتا و لو كان حيا لتحرك إنه و الله لماثل راتب على هيئة واحدة لا يرفع يده و لا يحرك رأسه فلم يقدم أحد منهم على الدنو منه حتى رموا فرسه بسهم فشب من تحته فوقع و هو ميت و فاتتهم الظعائن. و قال الشاعر

(2/285)


لا يبعدن ربيعة بن مكدم و سقى الغوادي قبره بذنوب نفرت قلوصي من حجارة حرة بنيت على طلق اليدين و هوب لا تنفري يا ناق منه فإنه شريب خمر مسعر لحروب لو لا السفار و بعد خرق مهمة لتركتها تجثو على العرقوب نعم الفتى أدى نبيشة بزه يوم اللقاء نبيشة بن حو قوله ع ما هي إلا الكوفة أي ما ملكتي إلا الكوفة أقبضها و أبسطها أي أتصرف فيها كما يتصرف الإنسان في ثوبه يقبضه و يبسطه كما يريد. ثم قال على طريق صرف الخطاب فإن لم تكوني إلا أنت خرج من الغيبة إلى خطاب الحاضر كقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يقول إن لم يكن لي من الدنيا ملك إلا ملك الكوفة ذات الفتن و الآراء المختلفة فأبعدها الله. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 343و شبه ما كان يحدث من أهلها من الاختلاف و الشقاق بأعاصير لإثارتها التراب و إفسادها الأرض ثم ذكر علة إدالة أهل الشام من أهل العراق و هي اجتماع كلمتهم و طاعتهم لصاحبهم و أداؤهم الأمانة و إصلاحهم بلادهم
أهل العراق و خطب الحجاج فيهم

(2/286)


و قال أبو عثمان الجاحظ العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء و طاعة أهل الشام أن أهل العراق أهل نظر و ذوو فطن ثاقبة و مع الفطنة و النظر يكون التنقيب و البحث و مع التنقيب و البحث يكون الطعن و القدح و الترجيح بين الرجال و التمييز بين الرؤساء و إظهار عيوب الأمراء و أهل الشام ذوو بلادة و تقليد و جمود على رأي واحد لا يرون النظر و لا يسألون عن مغيب الأحوال. و ما زال العراق موصوفا أهله بقلة الطاعة و بالشقاق على أولي الرئاسة. و من كلام الحجاج يا أهل العراق يا أهل الشقاق و النفاق و مساوئ الأخلاق أما و الله لألحونكم لحو العصا و لأعصبنكم عصب السلم و لأضربنكم ضرب غرائب الإبل إني أسمع لكم تكبيرا ليس بالتكبير الذي يراد به الترغيب و لكنه تكبير الترهيب ألا إنها عجاجة تحتها قصف يا بني اللكيعة و عبيد العصا و أبناء الإماء إنما مثلي و مثلكم كما قال ابن براقة
و كنت إذا قوم غزوني غزوتهم فهل أنا في ذا يال همدان ظالم

(2/287)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 344متى تجمع القلب الذكي و صارما و أنفا حميا تجتنبك المظالو الله لا تقرع عصا عصا إلا جعلتها كأمس الذاهب. و كانت هذه الخطبة عقيب سماعه تكبيرا منكرا في شوارع الكوفة فأشفق من الفتنة. و مما خطب به في ذم أهل العراق بعد وقعة دير الجماجم. يا أهل العراق يا أهل الشقاق و النفاق إن الشيطان استبطنكم فخالط اللحم و الدم و العصب و المسامع و الأطراف و الأعضاء و الشغاف ثم أفضى إلى الأمخاخ و الأصماخ ثم ارتفع فعشش ثم باض ففرخ فحشاكم نفاقا و شقاقا و ملأكم غدرا و خلافا اتخذتموه دليلا تتبعونه و قائدا تطيعونه و مؤامرا تستشيرونه فكيف تنفعكم تجربة أو تعظكم واقعة أو يحجزكم إسلام أو يعصمكم ميثاق أ لستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر و سعيتم بالغدر و ظننتم أن الله يخذل دينه و خلافته و أنا أرميكم بطرفي و أنتم تتسللون لواذا و تنهزمون سراعا ثم يوم الزاوية و ما يوم الزاوية بها كان فشلكم و كسلكم و تخاذلكم و تنازعكم و براءة الله منكم و نكول وليكم عنكم إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها النوازع إلى أعطانها لا يسأل المرء عن أخيه و لا يلوي الأب على بنيه لما عضكم السلاح و قصمتكم الرماح ثم يوم دير الجماجم و ما يوم دير الجماجم شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 345بها كانت المعارك و الملاحم بضرب يزيل الهام عن مله و يذهل الخليل عن خليله. يا أهل العراق يا أهل الشقاق و النفاق الكفرات بعد الفجرات و الغدرات بعد الخترات و النزوة بعد النزوات إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم و خنتم و إن أمنتم أرجفتم و إن خفتم نافقتم لا تذكرون حسنة و لا تشكرون نعمة. هل استخفكم ناكث أو استغواكم غاو أو استفزكم عاص أو استنصركم ظالم أو استعضدكم خالع إلا اتبعتموه و آويتموه و نصرتموه و زكيتموه. يا أهل العراق هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو زفر كاذب إلا كنتم أشياعه و أتباعه و حماته و أنصاره. يا أهل العراق أ لم تزجركم المواعظ أ لم تنبهكم

(2/288)


الوقائع أ لم تردعكم الحوادث. ثم التفت إلى أهل الشام و هم حول المنبر فقال يا أهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها القذر و يباعد عنها الحجر و يكنها من المطر و يحميها من الضباب و يحرسها من الذئاب. يا أهل الشام أنتم الجنة و الرداء و أنتم العدة و الحذاء. ثم نزل. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 346و من خطبة له في هذا المعنى و قد أراد الحج يا أهل الكوفة إني أريد الحج و قد استخلفت عليكم ابني محمدا و أوصيته بخلاف وصية رسول الله ص في الأنصار فإنه أمر أن يقبل من محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم و إني قد أوصيته ألا يقبل من محسنكو لا يتجاوز عن مسيئكم ألا و إنكم ستقولون بعدي لا أحسن الله له الصحابة ألا و إني معجل لكم الجواب لا أحسن الله لكم الخلافة. و من خطبة له في هذا المعنى يا أهل الكوفة إن الفتنة تلقح بالنجوى و تنتج بالشكوى و تحصد بالسيف أما و الله إن أبغضتموني لا تضروني و إن أحببتموني لا تنفعوني و ما أنا بالمستوحش لعداوتكم و لا المستريح إلى مودتكم زعمتم أني ساحر و قد قال الله تعالى وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ و قد أفلحت و زعمتم أني أعلم الاسم الأكبر فلم تقاتلون من يعلم ما لا تعلمون. ثم التفت إلى أهل الشام فقال لأزواجكم أطيب من المسك و لأبناؤكم آنس بالقلب من الولد و ما أنتم إلا كما قال أخو ذبيان

(2/289)


إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك و لست مني هم درعي التي استلأمت فيها إلى يوم النسار و هم مجني شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 347ثم قال بل أنتم يا أهل الشام كما قال الله سبحانه وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ. و خطب مرة بعد موت أخيه و ابنه قال بلغني أنكم تقون يموت الحجاج و مات الحجاج فمه و ما كان ما ذا و الله ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت و ما رضي الله البقاء إلا لأهون المخلوقين عليه إبليس قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ثم قال يا أهل العراق أتيتكم و أنا ذو لمة وافرة أرفل فيها فما زال بي شقاقكم و عصيانكم حتى حص شعري ثم كشف رأسه و هو أصلع و قال
من يك ذا لمة يكشفها فإنني غير ضائري زعري لا يمنع المرء أن يسود و أن يضرب بالسيف قلة الشعرفأما قوله ع اللهم أبدلني بهم خيرا منهم و أبدلهم بي شرا مني و لا خير فيهم و لا شر فيه ع فإن أفعل هاهنا بمنزلته في قوله تعالى أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ و بمنزلته في قوله قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 348و يحتمل أن يكون الذي تمناه ع من إبداله بهم خيرا منهم قوما صالحين ينصرونه و يوفقون لطاعته. و يحتمل أن يريد بذلك ما بعد الموت من مرافقة النبي ص. و قال القطب الراوندي بنو فراس بن غنم هم الروم و ليس بجيد و الصحيح ما ذناه. و البيت المتمثل به أخيرا لأبي جندب الهذلي و أول الأبيات
ألا يا أم زنباع أقيمي صدور العيس نحو بني تميم

(2/290)


و هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع بعد فراغه من صفين و انقضاء أمر الحكمين و الخوارج و هي من أواخر خطبه ع. تم الجزء الأول من شرح نهج البلاغة بحمد الله و منه و الحمد لله وحده العزيز و صلى الله على محمد و آله الطيبين الطاهرين

(2/291)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 3الجزء الثاني
تتمة الخطب و الأوامر
تتمة خطبة 25
بسم الله الرحمن الرحيم
بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز و اليمن
فأما خبر بسر بن أرطاة العامري من بني عامر بن لؤي بن غالب و بعث معاوية له ليغير على أعمال أمير المؤمنين ع و ما عمله من سفك الدماء و أخذ الأموال فقد ذكر أرباب السير أن الذي هاج معاوية على تسريح بسر بن أرطاة و يقال ابن أبي أرطاة إلى الحجاز و اليمن أن قوما بصنعاء كانوا من شيعة عثمان يعظمون قتله لم يكن لهم نظام و لا رأس فبايعوا لعلي ع على ما في أنفسهم و عامل علي ع على صنعاء يومئذ عبيد الله بن عباس و عامله على الجند سعيد بن نمران. فلما اختلف الناس على علي ع بالعراق و قتل محمد بن أبي بكر بمصر و كثرت غارات أهل الشام تكلموا و دعوا إلى الطلب بدم عثمان فبلغ ذلك عبيد الله بن عباس فأرسل إلى ناس من وجوههم فقال ما هذا الذي بلغني عنكم قالوا إنا لم نزل ننكر قتل عثمان و نرى مجاهدة من سعى عليه فحبسهم فكتبوا إلى من بالجند من أصحابهم فثاروا بسعيد بن نمران فأخرجوه من الجند و أظهروا أمرهم و خرج إليهم من كان بصنعاء و انضم إليهم كل من كان على رأيهم و لحق بهم قوم لم يكونوا على رأيهم إرادة أن يمنعوا الصدقة و التقى عبيد الله بن عباس و سعيد بن نمران و معهما شيعة علي ع فقال ابن عباس لابن نمران و الله لقد اجتمع هؤلاء و إنهم لنا شرح نهج الاغة ج : 2 ص : 4لمقاربون و إن قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة فهلم لنكتب إلى أمير المؤمنين ع بخبرهم و قدحهم و بمنزلهم الذي هم به. فكتبا إلى أمير المؤمنين ع أما بعد فإنا نخبر أمير المؤمنين أن شيعة عثمان وثبوا بنا و أظهروا أن معاوية قد شيد أمره و اتسق له أكثر الناس و أنا سرنا إليهم بشيعة أمير المؤمنين و من كان على طاعته و أن ذلك أحمشهم و ألبهم فعبئوا لنا و تداعوا علينا من كل أوب و نصرهم علينا من لم يكن له رأي فيهم إرادة أن

(3/1)


يمنع حق الله المفروض عليه و ليس يمنعنا من مناجزتهم إلا انتظار أمر أمير المؤمنين أدام الله عزه و أيده و قضى له بالأقدار الصالحة في جميع أموره و السلام. فلما وصل كتابهما ساء عليا ع و أغضبه و كتب إليهما من علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن العباس و سعيد بن نمران سلام الله عليكما فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنه أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة و تعظمان من شأنها صغيرا و تكثران من عددها قليلا و قد علمت أن نخب أفئدتكما و صغر أنفسكما و شتات رأيكما و سوء تدبيركما هو الذي أفسد عليكما من لم يكن عليكما فاسدا و جزأ عليكما من كان عن لقائكما جبانا فإذا قدم رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم و تدعواهم إلى حظهم و تقوى ربهم فإن أجابوا حمدنا الله و قبلناهم و إن حاربوا استعنا بالله عليهم و نابذناهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين قالوا و قال علي ع ليزيد بن قيس الأرحبي أ لا ترى إلى ما صنع قومك شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 5فقال إن ظني يا أمير المؤمنين بقومي لحسن في طاعتك فإن شئت خرجت إليهم فكفيتهم و إن شئت كتبت إليهم فتنظر ما يجيبونك فكتب علي ع إليهم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلمن شاق و غدر من أهل الجند و صنعاء أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو الذي لا يعقب له حكم و لا يرد له قضاء و لا يرد بأسه عن القوم المجرمين و قد بلغني تجرؤكم و شقاقكم و إعراضكم عن دينكم بعد الطاعة و إعطاء البيعة فسألت أهل الدين الخالص و الورع الصادق و اللب الراجح عن بدء محرككم و ما نويتم به و ما أحمشكم له فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شي ء منه عذرا مبينا و لا مقالا جميلا و لا حجة ظاهرة فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا و انصرفوا إلى رحالكم أعف عنكم و أصفح عن جاهلكم و أحفظ قاصيكم و أعمل فيكم بحكم الكتاب فإن لم فعلوا فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان عظيم الأركان يقصد لمن

(3/2)


طغى و عصى فتطحنوا كطحن الرحى فمن أحسن فلنفسه وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
و وجه الكتاب مع رجل من همدان فقدم عليهم بالكتاب فلم يجيبوه إلى خير فقال لهم إني تركت أمير المؤمنين يريد أن يوجه إليكم يزيد بن قيس الأرحبي في جيش كثيف فلم يمنعه إلا انتظار جوابكم فقالوا نحن سامعون مطيعون إن عزل عنا هذين الرجلين عبيد الله و سعيدا. فرجع الهمداني من عندهم إلى علي ع فأخبره خبر القوم. قالوا و كتبت تلك العصابة حين جاءها كتاب علي ع إلى معاوية يخبرونه و كتبوا في كتابهم
معاوي إلا تسرع السير نحونا نبايع عليا أو يزيد اليمانيا

(3/3)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 6فلما قدم كتابهم دعا بسر بن أبي أرطاة و كان قاسي القلب فظا سفاكا للدماء لا رأفة عنده و لا رحمة فأمره أن يأخذ طريق الحجاز و المدينة و مكة حتى ينتهي إلى اليمن و قال له لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك حتى ير أنهم لا نجاء لهم و أنك محيط بهم ثم اكفف عنهم و ادعهم إلى البيعة لي فمن أبى فاقتله و اقتل شيعة علي حيث كانوا. و روى إبراهيم بن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن يزيد بن جابر الأزدي قال سمعت عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري يحدث في خلافة عبد الملك قال لما دخلت سنة أربعين تحدث الناس بالشام أن عليا ع يستنفر الناس بالعراق فلا ينفرون معه و تذاكروا أن قد اختلفت أهواؤهم و وقعت الفرقة بينهم قال فقمت في نفر من أهل الشام إلى الوليد بن عقبة فقلنا له إن الناس لا يشكون في اختلاف الناس على علي ع بالعراق فادخل إلى صاحبك فمره فليسر بنا إليهم قبل أن يجتمعوا بعد تفرقهم أو يصلح لصاحبهم ما قد فسد عليه من أمره فقال بلى لقد قاولته في ذلك و راجعته و عاتبته حتى لقد برم بي و استثقل طلعتي و ايم الله على ذلك ما أدع أن أبلغه ما مشيتم إلي فيه. فدخل عليه فخبره بمجيئنا إليه و مقالتنا له فأذن لنا فدخلنا عليه فقال ما هذا الخبر الذي جاءني به عنكم الوليد فقلنا هذا خبر في الناس سائر فشمر للحرب و ناهض الأعداء و اهتبل الفرصة و اغتنم الغرة فإنك لا تدري متى تقدر على عدوك على مثل حالهم التي هم عليها و أن تسير إلى عدوك أعز لك من أن يسيروا إليك و اعلم شرح نه البلاغة ج : 2 ص : 7و الله أنه لو لا تفرق الناس عن صاحبك لقد نهض إليك فقال لنا ما أستغني عن رأيكم و مشورتكم و متى أحتج إلى ذلك منكم أدعكم إن هؤلاء الذين تذكرون تفرقهم على صاحبهم و اختلاف أهوائهم لم يبلغ ذلك عندي بهم أن أكون أطمع في استئصالهم و اجتياحهم و ن أسير إليهم مخاطرا بجندي لا أدري علي تكون الدائرة أم لي فإياكم و

(3/4)


استبطائي فإني آخذ بهم في وجه هو أرفق بكم و أبلغ في هلكتهم قد شننت عليهم الغارات من كل جانب فخيلي مرة بالجزيرة و مرة بالحجاز و قد فتح الله فيما بين ذلك مصر فأعز بفتحها ولينا و أذل به عدونا فأشراف أهل العراق لما يرون من حسن صنيع الله لنا يأتوننا على قلائصهم في كل الأيام و هذا مما يزيدكم الله به و ينقصهم و يقويكم و يضعفهم و يعزكم و يذلهم فاصبروا و لا تعجلوا فإني لو رأيت فرصتي لاهتبلتها. فخرجنا من عنده و نحن نعرف الفصل فيما ذكر فجلسنا ناحية و بعث معاوية عند خروجنا من عنده إلى بسر بن أبي أرطاة فبعثه في ثلاثة آلاف و قال سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس و أخف من مررت به و انهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا فإذا دخلت المدينة فأرهم أنك تريد أنفسهم و أخبرهم أنه لا براءة لهم عندك و لا عذر حتى إذا ظنوا أنك موقع بهم فاكفف عنهم ثم سر حتى تدخل مكة و لا تعرض فيها لأحد و أرهب الناس عنك فيما بين المدينة و مكة و اجعلها شردا حتى تأتي صنعاء و الجند فإن لنا بهما شيعة و قد جاءني كتابهم. فخرج بسر في ذلك البعث حتى أتى دير مروان فعرضهم فسقط منهم أربعمائة فمضى في ألفين و ستمائة فقال الوليد بن عقبة أشرنا على معاوية برأينا أن يسير

(3/5)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 8إلى الكوفة فبعث الجيش إلى المدينة فمثلنا و مثله كما قال الأول أريها السها و تريني القمر. فبلغ ذلك معاوية فغضب و قال و الله لقد هممت بمساءة هذا الأحمق الذي لا يحسن التدبير و لا يدري سياسة الأمور ثم كف عنه قلت الوليد كان لشدة بغ عليا ع القديم التالد لا يرى الأناة في حربه و لا يستصلح الغارات على أطراف بلاده و لا يشفي غيظه و لا يبرد حزازات قلبه إلا باستئصاله نفسه بالجيوش و تسييرها إلى دار ملكه و سرير خلافته و هي الكوفة و أن يكون معاوية بنفسه هو الذي يسير بالجيوش إليه ليكون ذلك أبلغ في هلاك علي ع و اجتثاث أصل سلطانه و معاوية كان يرى غير هذا الرأي و يعلم أن السير بالجيش للقاء علي ع خطر عظيم فاقتضت المصلحة عنده و ما يغلب على ظنه من حسن التدبير أن يثبت بمركزه بالشام في جمهور جيشه و يسرب الغارات على أعمال علي ع و بلاده فتجوس خلال الديار و تضعفها فإذا أضعفتها أضعفت بيضة ملك علي ع لأن ضعف الأطراف يوجب ضعف البيضة و إذا أضعفت البيضة كان على بلوغ إرادته و المسير حينئذ إن استصوب المسير أقدر. و لا يلام الوليد على ما في نفسه فإن عليا ع قتل أباه عقبة بن أبي معيط صبرا يوم بدر و سمي الفاسق بعد ذلك في القرآن لنزاع وقع بينه و بينه شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 9ثم جلده الحد في خلافة عثمان و عزله عن الكوفة و كان عاملها و ببعض هذا عند العرب أرباب الدين و التقى تستحل المحارم و تستباح الدماء و لا تبقى مراقبة في شفاء الغيظ لدين و لا لعقاب و لا لثواب فكيف الول المشتمل على الفسوق و الفجور مجاهرا بذلك و كان من المؤلفة قلوبهم مطعونا في نسبه مرميا بالإلحاد و الزندقة. قال إبراهيم بن هلال روى عوانة عن الكلبي و لوط بن يحيى أن بسرا لما أسقط من أسقط من جيشه سار بمن تخلف معه و كانوا إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها و قادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر فيردون تلك الإبل و

(3/6)


يركبون إبل هؤلاء فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب إلى المدينة. قال و قد روي أن قضاعة استقبلتهم ينحرون لهم الجزر حتى دخلوا المدينة قال فدخلوها و عامل علي ع عليها أبو أيوب الأنصاري صاحب منزل رسول الله ص فخرج عنها هاربا و دخل بسر المدينة فخطب الناس و شتمهم و تهددهم يومئذ و توعدهم و قال شاهت الوجوه إن الله تعالى يقول وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها الآية و قد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم و جعلكم أهله كان بلدكم مهاجر النبي ص و منزله و فيه قبره و منازل الخلفاء من بعده فلم تشكروا نعمة ربكم و لم ترعوا حق نبيكم و قتل خليفة الله بين أظهركم فكنتم بين قاتل و خاذل و متربص و شامت إن كانت للمؤمنين قلتم أ لم نكن معكم و إن كان للكافرين نصيب قلتم أ لم نستحوذ عليكم و نمنعكم من

(3/7)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 10المؤمنين ثم شتم الأنصار فقال يا معشر اليهود و أبناء العبيد بني زريق و بني النجار و بني سلمة و بني عبد الأشهل أما و الله لأوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين و آل عثمان أما و الله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة. فتهددهم حتى ف الناس أن يوقع بهم ففزعوا إلى حويطب بن عبد العزى و يقال إنه زوج أمه فصعد إليه المنبر فناشده و قال عترتك و أنصار رسول الله و ليسوا بقتلة عثمان فلم يزل به حتى سكن و دعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه و نزل فأحرق دورا كثيرة منها دار زرارة بن حرون أحد بني عمرو بن عوف و دار رفاعة بن رافع الزرقي و دار أبي أيوب الأنصاري و تفقد جابر بن عبد الله فقال ما لي لا أرى جابرا يا بني سلمة لا أمان لكم عندي أو تأتوني بجابر فعاذ جابر بأم سلمة رضي الله عنها فأرسلت إلى بسر بن أرطاة فقال لا أؤمنه حتى يبايع فقالت له أم سلمة اذهب فبايع و قالت لابنها عمر اذهب فبايع فذهبا فبايعاه. قال إبراهيم و روى الوليد بن كثير عن وهب بن كيسان قال سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول لما خفت بسرا و تواريت عنه قال لقومي لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر فأتوني و قالوا ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت فحقنت دمك و دماء قومك فإنك إن لم تفعل قتلت مقاتلينا و سبيت ذرارينا فاستنظرتهم الليل فلما أمسيت دخلت على أم سلمة فأخبرتها الخبر فقالت يا بني انطلق فبايع احقن دمك و دماء قومك فإني قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع و إني لأعلم أنها بيعة ضلالة. شرح نهج البلاغة ج 2 ص : 11قال إبراهيم فأقام بسر بالمدينة أياما ثم قال لهم إني قد عفوت عنكم و إن لم تكونوا لذلك بأهل ما قوم قتل إمامهم بين ظهرانيهم بأهل أن يكف عنهم العذاب و لئن نالكم العفو مني في الدنيا إني لأرجو ألا تنالكم رحمة الله عز و جل في الآخرة و قد استخلفت عليكم أبا هريرة فإياكم و خلافه ثم خرج إلى مكة. قال إبراهيم روى الوليد بن

(3/8)


هشام قال أقبل بسر فدخل المدينة فصعد منبر الرسول ص ثم قال يا أهل المدينة خضبتم لحاكم و قتلتم عثمان مخضوبا و الله لا أدع في المسجد مخضوبا إلا قتلته ثم قال لأصحابه خذوا بأبواب المسجد و هو يريد أن يستعرضهم فقام إليه عبد الله بن الزبير و أبو قيس أحد بني عامر بن لؤي فطلبا إليه حتى كف عنهم و خرج إلى مكة فلما قرب منها هرب قثم بن العباس و كان عامل علي ع و دخلها بسر فشتم أهل مكة و أنبهم ثم خرج عنها و استعمل عليها شيبة بن عثمان. قال إبراهيم و قد روى عوانة عن الكلبي أن بسرا لما خرج من المدينة إلى مكة قتل في طريقه رجالا و أخذ أموالا و بلغ أهل مكة خبره فتنحى عنها عامة أهلها و تراضى الناس بشيبة بن عثمان أميرا لما خرج قثم بن العباس عنها و خرج إلى بسر قوم من قريش فتلقوه فشتمهم ثم قال أما و الله لو تركت و رأيي فيكم لتركتكم و ما فيكم روح تمشي على الأرض فقالوا ننشدك الله في أهلك و عترتك فسكت ثم دخل و طاف بالبيت و صلى ركعتين ثم خطبهم فقال الحمد لله الذي أعز دعوتنا و جمع ألفتنا و أذل عدونا بالقتل و التشريد هذا ابن أبي طالب بناحية العراق في ضنك و ضيق قد ابتلاه الله بخطيئته و أسلمه بجريرته

(3/9)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 12فتفرق عنه أصحابه ناقمين عليه و ولي الأمر معاوية الطالب بدم عثمان فبايعوا و لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا فبايعوا. و تفقد سعيد بن العاص فطلبه فلم يجده و أقام أياما ثم خطبهم فقال يا أهل مكة إني قد صفحت عنكم فإياكم و الخلاف فو اللهن فعلتم لأقصدن منكم إلى التي تبير الأصل و تحرب المال و تخرب الديار. ثم خرج إلى الطائف فكتب إليه المغيرة بن شعبة حين خرج من مكة إليها أما بعد فقد بلغني مسيرك إلى الحجاز و نزولك مكة و شدتك على المريب و عفوك عن المسي ء و إكرامك لأولي النهى فحمدت رأيك في ذلك دم على صالح ما كنت عليه فإن الله عز و جل لن يزيد بالخير أهله إلا خيرا جعلنا الله و إياك من الآمرين بالمعروف و القاصدين إلى الحق و الذاكرين الله كثيرا قال و وجه رجلا من قريش إلى تبالة و بها قوم من شيعة علي ع و أمره بقتلهم فأخذهم و كلم فيهم و قيل له هؤلاء قومك فكف عنهم حتى نأتيك بكتاب من بسر بأمانهم فحبسهم و خرج منيع الباهلي من عندهم إلى بسر و هو بالطائف يستشفع إليه فيهم فتحمل عليه بقوم من الطائف فكلموه فيهم و سألوه الكتاب بإطلاقهم فوعدهم و مطلهم بالكتاب حتى ظن أنه قد قتلهم القرشي المبعوث لقتلهم و أن كتابه لا يصل إليهم حتى يقتلوا ثم كتب لهم فأتى منيع منزله و كان قد نزل على امرأة بالطائف و رحله عندها فلم يجدها في منزلها فوطئ على ناقته بردائه و ركب فسار يوم الجمعة و ليلة السبت لم ينزل عن راحلته قط فأتاهم ضحوة و قد أخرج القوم ليقتلوا و استبطئ كتاب بسر فيهم فقدم رجل منهم فضربه رجل من أهل الشام فانقطع سيفه فقال الشاميون بعضهم لبعض شمسوا سيوفكم حتى تلين فهزوها و تبصر منيع شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 13الباهلي بريق السيوف فألمع بثوبه فقال القوم هذا راكب عنده خير فكفوا و قام به بعيره فنزل عنه و جاء على رجليه يشتد فدفع كتاب إليهم فأطلقوا و كان الرجل المقدم الذي ضرب بالسيف فانكسر السيف

(3/10)


أخاه. قال إبراهيم و روى علي بن مجاهد عن ابن إسحاق أن أهل مكة لما بلغهم ما صنع بسر خافوه و هربوا فخرج ابنا عبيد الله بن العباس و هما سليمان و داود و أمهما جويرية ابنة خالد بن قرظ الكنانية و تكنى أم حكيم و هم حلفاء بني زهرة و هما غلامان مع أهل مكة فأضلوهما عند بئر ميمون بن الحضرمي و ميمون هذا هو أخو العلاء بن الحضرمي و هجم عليهما بسر فأخذهما و ذبحهما فقالت أمهما
ها من أحس بابني اللذين هما كالدرتين تشظى عنهما الصدف ها من أحس بابني اللذين هما سمعي و قلبي فقلبي اليوم مختطف ها من أحس بابني اللذين هما مخ العظام فمخي اليوم مزدهف نبئت بسرا و ما صدقت ما زعموا من قولهم و من الإفك الذي اقترفواأنحى على ودجي ابني مرهفة مشح و كذاك الإثم يقترف من دل والهة حرى مسلبة على صبيين ضلا إذ مضى السلف شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 14و قد روي أن اسمهما قثم و عبد الرحمن و روي أنهما ضلا في أخوالهما من بني كنانة و روي أن بسرا إنما قتلهما باليمن و أنهما ذبحا على درج صنعاء. و روى عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن أبيه أن بسرا لما دخل الطائف و قد كلمه المغيرة قال للقد صدقتني و نصحتني فبات بها و خرج منها و شيعه المغيرة ساعة ثم ودعه و انصرف عنه فخرج حتى مر ببني كنانة و فيهم ابنا عبيد الله بن العباس و أمهما فلما انتهى بسر إليهم طلبهما فدخل رجل من بني كنانة و كان أبوهما أوصاه بهما فأخذ السيف من بيته و خرج فقال له بسر ثكلتك أمك و الله ما كنا أردنا قتلك فلم عرضت نفسك للقتل قال أقتل دون جاري أعذر لي عند الله و الناس ثم شد على أصحاب بسر بالسيف حاسرا و هو يرتجز
آليت لا يمنع حافات الدار و لا يموت مصلتا دون الجارإلا فتى أروع غير غدار

(3/11)


فضارب بسيفه حتى قتل ثم قدم الغلامان فقتلا فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهن هذه الرجال يقتلها فما بال الولدان و الله ما كانوا يقتلون في جاهلية و لا إسلام و الله إن سلطانا لا يشتد إلا بقتل الضرع الضعيف و الشيخ الكبير و رفع الرحمة و قطع الأرحام لسلطان سوء فقال بسر و الله لهممت أن أضع فيكن السيف قالت و الله إنه لأحب إلي إن فعلت. قال إبراهيم و خرج بسر من الطائف فأتى نجران فقتل عبد الله بن عبد المدان و ابنه مالكا و كان عبد الله هذا صهرا لعبيد الله بن العباس ثم جمعهم و قام فيهم و قال شرح نهج البلاغة ج : 2 : 15يا أهل نجران يا معشر النصارى و إخوان القرود أما و الله إن بلغني عنكم ما أكره لأعودن عليكم بالتي تقطع النسل و تهلك الحرث و تخرب الديار. و تهددهم طويلا ثم سار حتى بلغ أرحب فقتل أبا كرب و كان يتشيع و يقال إنه سيد من كان بالبادية من همدان فقدمه فقتله. و أتى صنعاء و قد خرج عنها عبيد الله بن العباس و سعيد بن نمران و قد استخلف عبيد الله عليها عمرو بن أراكة الثقفي فمنع بسرا من دخولها و قاتله فقتله بسر و دخل صنعاء فقتل منها قوما و أتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد و رجع إلى قومه فقال لهم أنعى قتلانا شيوخا و شبانا. قال إبراهيم و هذه الأبيات المشهورة لعبد الله بن أراكة الثقفي يرثي بها ابنه عمرا
لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارسا بصنعاء كالليث الهزبر أبي الأجرتعز فإن كان البكا رد هالكا على أحد فاجهد بكاك على عمروو لا تبك ميتا بعد ميت أجنه علي و عباس و آل أبي بكر

(3/12)


قال و روى نمير بن وعلة عن أبي وداك قال كنت عند علي ع لما قدم عليه سعيد بن نمران الكوفة فعتب عليه و على عبيد الله ألا يكونا قاتلا بسرا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 16فقال سعيد قد و الله قاتلت و لكن ابن عباس خذلني و أبى أن يقاتل و لقد خلوت به حين دنا منا بسر لت إن ابن عمك لا يرضى مني و منك بدون الجد في قتالهم قال لا و الله ما لنا بهم طاقة و لا يدان فقمت في الناس فحمدت الله ثم قلت يا أهل اليمن من كان في طاعتنا و على بيعة أمير المؤمنين ع فإلي إلي فأجابني منهم عصابة فاستقدمت بهم فقاتلت قتالا ضعيفا و تفرق الناس عني و انصرفت. قال ثم خرج بسر من صنعاء فأتى أهل جيشان و هم شيعة لعلي ع فقاتلهم و قاتلوه فهزمهم و قتلهم قتلا ذريعا ثم رجع إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس لأن ابني عبيد الله بن العباس كانا مستترين في بيت امرأة من أبنائهم تعرف بابنة بزرج. و قال الكلبي و أبو مخنف فندب علي ع أصحابه لبعث سرية في إثر بسر فتثاقلوا و أجابه جارية بن قدامة السعدي فبعثه في ألفين فشخص إلى البصرة ثم أخذ طريق الحجاز حتى قدم اليمن و سأل عن بسر فقيل أخذ في بلاد بني تميم فقال أخذ في ديار قوم يمنعون أنفسهم و بلغ بسرا مسير جارية فانحدر إلى اليمامة و أغذ جارية بن قدامة السير ما يلتفت إلى مدينة مر بها و لا أهل حصن و لا يعرج على شي ء إلا أن يرمل بعض أصحابه من الزاد فيأمر أصحابه بمواساته أو يسقط بعير رجل أو تحفى دابته فيأمر أصحابه بأن يعقبوه حتى انتهوا إلى أرض اليمن فهربت شيعة عثمان حتى لحقا بالجبال و اتبعهم شيعة علي ع و تداعت عليهم من كل جانب و أصابوا منهم و صمد نحو بسر و بسر بين يديه يفر من جهة إلى جهة أخرى حتى أخرجه من أعمال علي ع كلها. فلما فعل به ذلك أقام جارية بحرس نحوا من شهر حتى استراح و أراح أصحابه و وثب الناس ببسر في طريقه لما انصرف من بين يدي جارية لسوء سيرته و فظاظته و ظلمه و غشمه و أصاب بنو

(3/13)


تميم ثقلا من ثقله في بلاده و صحبه إلى معاوية ليبايعه على الطاعة ابن مجاعة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 17رئيس اليمامة فلما وصل بسر إلى معاوية قال يا أمير المؤمنين هذا ابن مجاعة قد أتيتك به فاقت فقال معاوية تركته لم تقتله ثم جئتني به فقلت اقتله لا لعمري لا أقتله ثم بايعه و وصله و أعاده إلى قومه. و قال بسر أحمد الله يا أمير المؤمنين أني سرت في هذا الجيش أقتل عدوك ذاهبا جائيا لم ينكب رجل منهم نكبة فقال معاوية الله قد فعل ذلك لا أنت. و كان الذي قتل بسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفا و حرق قوما بالنار فقال يزيد بن مفرغ
تعلق من أسماء ما قد تعلقا و مثل الذي لاقى من الشوق أرقاسقى هزم الأرعاد منبعج الكلى منازلها من مسرقان فسرقاإلى الشرف الأعلى إلى رامهرمز إلى قريات الشيخ من نهر أربقاإلى دشت بارين إلى الشط كله إلى مجمع السلان من بطن دورقاإلى حيث يرفا من دجيل سفينه إلى مجمع النهرين حيث تفرقاإلى حيث سار المرء بسر بجيشه فقتل بسر ما استطاع و حرقا
و روى أبو الحسن المدائني قال اجتمع عبيد الله بن العباس و بسر بن أرطاة يوما عند معاوية بعد صلح الحسن ع فقال له ابن عباس أنت أمرت اللعين السيئ الفدم أن يقتل ابني فقال ما أمرته بذلك و لوددت أنه لم يكن قتلهما فغضب بسر و نزع سيفه فألقاه و قال لمعاوية اقبض سيفك قلدتنيه و أمرتني أن أخبط به الناس ففعلت حتى إذا بلغت ما أردت قلت لم أهو و لم آمر فقال خذ سيفك إليك فلعمري شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 18إنك ضعيف مائق حين تلقي السيف بين يدي رجل من بني عبد مناف قد قتلت أمس ابنيه. فقال له عبيد الله أ تحسبني يا معاوية قاتلا با بأحد ابني هو أحقر و ألأم من ذلك و لكني و الله لا أرى لي مقنعا و لا أدرك ثأرا إلا أن أصيب بهما يزيد و عبد الله. فتبسم معاوية و قال و ما ذنب معاوية و ابني معاوية و الله ما علمت و لا أمرت و لا رضيت و لا هويت و احتملها منه لشرفه و سؤدده.

(3/14)


قال و دعا علي ع على بسر فقال اللهم إن بسرا باع دينه بالدنيا و انتهك محارمك و كانت طاعة مخلوق فاجر آثر عنده مما عندك اللهم فلا تمته حتى تسلبه عقله و لا توجب له رحمتك و لا ساعة من نهار اللهم العن بسرا و عمرا و معاوية و ليحل عليهم غضبك و لتنزل بهم نقمتك و ليصبهم بأسك و رجزك الذي لا ترده عن القوم المجرمين
فلم يلبث بسر بعد ذلك إلا يسيرا حتى وسوس و ذهب عقله فكان يهذي بالسيف و يقول أعطوني سيفا أقتل به لا يزال يردد ذلك حتى اتخذ له سيف من خشب و كانوا يدنون منه المرفقة فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه فلبث كذلك إلى أن مات. قلت كان مسلم بن عقبة ليزيد و ما عمل بالمدينة في وقعة الحرة كما كان بسر لمعاوية و ما عمل في الحجاز و اليمن و من أشبه أباه فما ظلم
نبني كما كانت أوائلنا تبني و نفعل مثل ما فعلوا
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 2619- و من خطبة له عإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً ص نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ أَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ وَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَ فِي شَرِّ دَارٍ مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَ حَيَّاتٍ صُمٍّ تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ وَ تَأْكُلُونَ الْجَشِبَ وَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ تَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ الْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ وَ الآْثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ

(3/15)


يجوز أن يعني بقوله بين حجارة خشن و حيات صم الحقيقة لا المجاز و ذلك أن البادية بالحجاز و نجد و تهامة و غيرها من أرض العرب ذات حيات و حجارة خشن و قد يعني بالحجارة الخشن الجبال أيضا أو الأصنام فيكون داخلا في قسم الحقيقة إذا فرضناه مرادا و يكون المعني بذلك وصف ما كانوا عليه من البؤس و شظف العيشة و سوء الاختيار في العبادة فأبدلهم الله تعالى بذلك الريف و لين المهاد و عبادة من يستحق العبادة. و يجوز أن يعني به المجاز و هو الأحسن يقال للأعداء حيات و الحية الصماء أدهى من التي ليست بصماء لأنها لا تنزجر بالصوت و يقال للعدو أيضا إنه لحجر خشن المس إذا كان ألد الخصام. و الجشب من الطعام الغليظ الخشن. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 20و قال أبو البختري وهب بن وهب القاضي كنت عند الرشيد يوما و استدعى ماء مبردا بالثلج فلم يوجد في الخزانة ثلج فاعتذر إليه بذلك و أحضر إليه ماء غير مثل فضرب وجه الغلام بالكوز و استشاط غضبا فقلت له أقول يا أمير المؤمنين و أنا آمن فقال قل قلت يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من الغير بالأمس يعني زوال دولة بني أمية و الدنيا غير دائمة و لا موثوق بها و الحزم ألا تعود نفسك الترفه و النعمة بل تأكل اللين و الجشب و تلبس الناعم و الخشن و تشرب الحار و القار فنفحني بيده و قال لا و الله لا أذهب إلى ما تذهب إليه بل ألبس النعمة ما لبستني فإذا نابت نوبة الدهر عدت إلى نصاب غير خوار. و قوله و الآثام بكم معصوبة استعارة كأنها مشدودة إليهم. و عنى بقوله تسفكون دماءكم و تقطعون أرحامكم ما كانوا عليه في الجاهلية من الغارات و الحروب
وَ مِنْهَا فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِي فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَوْتِ وَ أَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى وَ شَرِبْتُ عَلَى الشَّجَا وَ صَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ الْكَظَمِ وَ عَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ الْعَلْقَمِ

(3/16)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 21الكظم بفتح الظاء مخرج النفس و الجمع أكظام و ضننت بالكسر بخلت و أغضيت على كذا غضضت طرفي و الشجا ما يعترض في الحلقحديث السقيفة
اختلفت الروايات في قصة السقيفة فالذي تقوله الشيعة و قد قال قوم من المحدثين بعضه و رووا كثيرا منه أن عليا ع امتنع من البيعة حتى أخرج كرها و أن الزبير بن العوام امتنع من البيعة و قال لا أبايع إلا عليا ع و كذلك أبو سفيان بن حرب و خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس و العباس بن عبد المطلب و بنوه و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و جميع بني هاشم و قالوا إن الزبير شهر سيفه فلما جاء عمر و معه جماعة من الأنصار و غيرهم قال في جملة ما قال خذوا سيف هذا فاضربوا به الحجر و يقال إنه أخذ السيف من يد الزبير فضرب به حجرا فكسره و ساقهم كلهم بين يديه إلى أبي بكر فحملهم على بيعته و لم يتخلف إلا علي ع وحده فإنه اعتصم ببيت فاطمة ع فتحاموا إخراجه منه قسرا و قامت فاطمة ع إلى باب البيت فأسمعت من جاء يطلبه فتفرقوا و علموا أنه بمفرده لا يضر شيئا فتركوه. و قيل إنهم أخرجوه فيمن أخرج و حمل إلى أبي بكر فبايعه و قد روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري كثيرا من هذا. فأما حديث التحريق و ما جرى مجراه من الأمور الفظيعة و قول من قال إنهم أخذوا عليا ع يقاد بعمامته و الناس حوله فأمر بعيد و الشيعة تنفرد به على أن جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه و سنذكر ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 22و قال أبو جعفر إن الأنصار لما فاتها ما طلبت من الخلافة قالت أو قال بعضها لا نبايع إلا عليا و ذكر نحو هذا علي بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير الموصلي في تاريخه. فأما قوله لم يكن لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عنلموت فقول ما زال علي ع يقوله و لقد قاله عقيب وفاة رسول الله ص قال لو وجدت أربعين ذوي عزم. ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفين و ذكره كثير من أرباب السيرة. و أما الذي

(3/17)


يقوله جمهور المحدثين و أعيانهم فإنه ع امتنع من البيعة ستة أشهر و لزم بيته فلم يبايع حتى ماتت فاطمة ع فلما ماتت بايع طوعا. و في صحيحي مسلم و البخاري كانت وجوه الناس إليه و فاطمة باقية بعد فلما ماتت فاطمة ع انصرفت وجوه الناس عنه و خرج من بيته فبايع أبا بكر و كانت مدة بقائها بعد أبيها ع ستة أشهر. و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ عن ابن عباس رضي الله عنه قال قال لي عبد الرحمن بن عوف و قد حججنا مع عمر شهدت اليوم أمير المؤمنين بمنى و قال له رجل إني سمعت فلانا يقول لو قد مات عمر لبايعت فلانا فقال عمر إني لقائم العشية في الناس أحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 23يصبوا الناس أمرهم قال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس و غوغاءهم و هم الذين يقربون من مجلسك و يغلبون عليه و أخاف أن تقول مقالة لا يعونها و لا يحفظونها فيطيروا بها و لكن أمهل حتى تقدم المدينة و تخلص بأصحاب رسول الله فتقول ما قلت متمكنا فيسمعوا مقالتك فقال و الله لأقومن بها أول مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس فلما قدمناها هجرت يوم الجمعة لحديث عبد الرحمن فلما جلس عمر على المنبر حمد الله و أثنى عليه ثم قال بعد أن ذكر الرجم و حد الزناء إنه بلغني أن قائلا منكم يقول لو مات أمير المؤمنين بايعت فلانا فلا يغرن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فلقد كانت كذلك و لكن الله وقى شرها و ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق كأبي بكر و إنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله ص أن عليا و الزبير تخلفا عنا في بيت فاطمة و من معهما و تخلفت عنا الأنصار و اجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار فانطلقنا نحوهم فلقينا رجلان صالحان من الأنصار قد شهدا بدرا أحدهما عويم بن ساعدة و الثاني معن بن عدي فقالا لنا ارجعوا فاقضوا أمركم بينكم فأتينا الأنصار و هم مجتمعون في

(3/18)


سقيفة
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 24بني ساعدة و بين أظهرهم رجل مزمل فقلت من هذا قالوا سعد بن عبادة وجع فقام رجل منهم فحمد الله و أثنى عليه فقال أما بعد فنحن الأنصار و كتيبة الإسلام و أنتم يا معشر قريش رهط نبينا قد دفت إلينا دافة من قومكم فإذا أنتم تريدون أن تغصنا الأمر. فلما سكت و كنت قد زورت في نفسي مقالة أقولها بين يدي أبي بكر فلما ذهبت أتكلم قال أبو بكر على رسلك فقام فحمد الله و أثنى عليه فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي إلا جاء به أو بأحسن منه و قال يا معشر الأنصار إنكم لا تذكرون فضلا إلا و أنتم له أهل و إن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش أوسط العرب دارا و نسبا و قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين و أخذ بيدي و يد أبي عبيدة بن الجراح و الله ما كرهت من كلامه غيرها إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلى من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر. فلما قضى أبو بكر كلامه قام رجل من الأنصار فقال أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب منا أمير و منكم أمير شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 25و ارتفعت الأصوات و اللغط فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر ابسط يدك أبايعك فبسط يده فبايعته و بايعه الناس ثم نزونا على سعد بن عبادة فقال قائلهم لتم سعدا فقلت اقتلوه قتله الله و أنا و الله ما وجدنا أمرا هو أقوى من بيعة أبي بكر خشيت إن فارقت القوم و لم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون فساد. هذا حديث متفق عليه من أهل السيرة و قد وردت الروايات فيه بزيادات روى المدائني قال لما أخذ أبو بكر بيد عمر و أبي عبيدة و قال للناس قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين قال أبو عبيدة لعمر امدد يدك نبايعك فقال عمر ما لك في الإسلام فهة غيرها أ تقول هذا و أبو بكر حاضر ثم قال للناس أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ص للصلاة رضيك رسول الله ص لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا ثم مد يده إلى

(3/19)


أبي بكر فبايعه. و هذه الرواية هي التي ذكرها قاضي القضاة رحمه الله تعالى في كتاب المغني. و قال الواقدي في روايته في حكاية كلام عمر و الله لأن أقدم فأنحر كما ينحر البعير أحب إلى من أن أتقدم على أبي بكر. و قال شيخنا أبو القاسم البلخي قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ إن الرجل الذي قال لو قد مات عمر لبايعت فلانا عمار بن ياسر قال لو قد مات عمر لبايعت عليا ع فهذا القول هو الذي هاج عمر أن خطب بما خطب به. و قال غيره من أهل الحديث إنما كان المعزوم على بيعته لو مات عمر طلحة بن عبيد الله. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 26فأما حديث الفلتة فقد كان سبق من عمر أن قال إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. و هذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس و عبد الرحمن بن عوف فيه حديث الفلتة و لكنه منسوق على مااله أولا أ لا تراه يقول فلا يغرن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فلقد كانت كذلك فهذا يشعر بأنه قد كان قال من قبل إن بيعة أبي بكر كانت فلتة. و قد أكثر الناس في حديث الفلتة و ذكرها شيوخنا المتكلمون فقال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى الفلتة ليست الزلة و الخطيئة بل هي البغتة و ما وقع فجأة من غير روية و لا مشاورة و استشهد بقول الشاعر
من يأمن الحدثان بعد صبيرة القرشي ماتاسبقت منيته المشيب و كان ميتته افتلاتا

(3/20)


يعني بغتة. و قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى ذكر الرياشي أن العرب تسمي آخر يوم من شوال فلتة من حيث إن كل من لم يدرك ثأره فيه فاته لأنهم كانوا إذا دخلوا في الأشهر الحرم لا يطلبون الثأر و ذو القعدة من الأشهر الحرم فسموا ذلك اليوم فلتة لأنهم إذا أدركوا فيه ثأرهم فقد أدركوا ما كان يفوتهم فأراد عمر أن بيعة أبي بكر تداركها بعد أن كادت تفوت. و قوله وقى الله شرها دليل على تصويب البيعة لأن المراد بذلك أن الله تعالى دفع شر الاختلاف فيها. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 27فأما قوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه فالمراد من ع إلى أن يبايع من غير مشاورة و لا عدد يثبت صحة البيعة به و لا ضرورة داعية إلى البيعة ثم بسط يده على المسلمين يدخلهم في البيعة قهرا فاقتلوه. قال قاضي القضاة رحمه الله تعالى و هل يشك أحد في تعظيم عمر لأبي بكر و طاعته إياه و معلوم ضرورة من حال عمر إعظامه له و القول بإمامته و الرضا بالبيعة و الثناء عليه فكيف يجوز أن يترك ما يعلم ضرورة لقول محتمل ذي وجوه و تأويلات و كيف يجوز أن تحمل هذه اللفظة من عمر على الذم و التخطئة و سوء القول. و اعلم أن هذه اللفظة من عمر مناسبة للفظات كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله الله تعالى عليه من غلظ الطينة و جفاء الطبيعة و لا حيلة له فيها لأنه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها و لا ريب عندنا أنه كان يتعاطى أن يتلطف و أن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة فينزع به الطبع الجاسي و الغريزة الغليظة إلى أمثال هذه اللفظات و لا يقصد بها سوءا و لا يريد بها ذما و لا تخطئة كما قدمنا من قبل في اللفظة التي قالها في مرض رسول الله ص و كاللفظات التي قالها عام الحديبية و غير ذلك و الله تعالى لا يجازي المكلف إلا بما نواه و لقد كانت نيته من أطهر النيات و أخلصها لله سبحانه و للمسلمين و من أنصف علم أن هذا الكلام حق و أنه يغني عن تأويل شيخنا أبي علي. و نحن من بعد نذكر ما قاله

(3/21)


المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب الشافي لما تكلم في هذا الموضع قال أما ما ادعي من العلم الضروري برضا عمر ببيعة أبي بكر و إمامته فالمعلوم ضرورة بلا شبهة أنه كان راضيا بإمامته و ليس كل من رضي شيئا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 28كان متدينا به معتقدا لصوابه فإن كثيرا من الناس يرضون بأشياء من حيث كانت دافعة لما هو أضر منها و إن كانوا لا يرونها صوابا و لو ملكوا الاختيار لاختاروا غيرها و قد علمنا أن معاوية كان راضيا ببيعة يزيد و ولاية العهد له من بعده و لم ي متدينا بذلك و معتقدا صحته و إنما رضي عمر ببيعة أبي بكر من حيث كانت حاجزة عن بيعة أمير المؤمنين ع و لو ملك الاختيار لكان مصير الأمر إليه أسر في نفسه و أقر لعينه و إن ادعي أن المعلوم ضرورة تدين عمر بإمامة أبي بكر و أنه أولى بالإمامة منه فهذا مدفوع أشد دفع مع أنه قد كان يبدر من عمر في وقت بعد آخر ما يدل على ما أوردناه روى الهيثم بن عدي من عبد الله بن عياش الهمداني عن سعيد بن جبير قال ذكر أبو بكر و عمر عند عبد الله بن عمر فقال رجل كانا و الله شمسي هذه الأمة و نوريها فقال ابن عمر و ما يدريك قال الرجل أ و ليس قد ائتلفا قال ابن عمر بل اختلفا لو كنتم تعلمون أشهد أني كنت عند أبي يوما و قد أمرني أن أحبس الناس عنه فاستأذن عليه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال عمر دويبة سوء و لهو خير من أبيه فأوحشني ذلك منه فقلت يا أبت عبد الرحمن خير من أبيه فقال و من ليس بخير من أبيه لا أم لك ائذن لعبد الرحمن فدخل عليه فكلمه في الحطيئة الشاعر أن يرضى عنه و قد كان عمر حبسه في شعر قاله فقال عمر إن في الحطيئة أودا فدعني أقومه بطول حبسه فألح عليه عبد الرحمن و أبى عمر

(3/22)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 29فخرج عبد الرحمن فأقبل علي أبي و قال أ في غفلة أنت إلى يومك هذا عما كان من تقدم أحيمق بني تيم علي و ظلمه لي فقلت لا علم لي بما كان من ذلك قال يا بني فما عسيت أن تعلم فقلت و الله لهو أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم قال إن ذلك لكذ على رغم أبيك و سخطه قلت يا أبت أ فلا تجلي عن فعله بموقف في الناس تبين ذلك لهم قال و كيف لي بذلك مع ما ذكرت أنه أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم إذن يرضخ رأس أبيك بالجندل قال ابن عمر ثم تجاسر و الله فجسر فما دارت الجمعة حتى قام خطيبا في الناس فقال أيها الناس إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه. و روى الهيثم بن عدي عن مجالد بن سعيد قال غدوت يوما إلى الشعبي و أنا أريد أن أسأله عن شي ء بلغني عن ابن مسعود أنه كان يقوله فأتيته و هو في مسجد حيه و في المسجد قوم ينتظرونه فخرج فتعرفت إله و قلت أصلحك الله كان ابن مسعود يقول ما كنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة قال نعم كان ابن مسعود يقول ذلك و كان ابن عباس يقوله أيضا و كان عند ابن عباس دفائن علم يعطيها أهلها و يصرفها عن غيرهم فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الأزد فجلس إلينا فأخذنا في ذكر أبي بكر و عمر فضحك الشعبي و قال لقد كان في صدر عمر ضب على أبي بكر فقال الأزدي و الله ما رأينا و لا سمعنا برجل قط كان أسلس قيادا لرجل شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 30و لا أقول فيه بالجميل من عمر في أبي بكر فأقبل على الشعبي و قال هذا مما سأ عنه ثم أقبل على الرجل و قال يا أخا الأزد فكيف تصنع بالفلتة التي وقى الله شرها أ ترى عدوا يقول في عدو يريد أن يهدم ما بنى لنفسه في الناس أكثر من قول عمر في أبي بكر فقال الرجل سبحان الله أنت تقول ذلك يا أبا عمرو فقال الشعبي أنا أقوله قاله عمر بن الخطاب على رءوس الأشهاد فلمه أو دع فنهض الرجل مغضبا و هو يهمهم في الكلام بشي ء

(3/23)


لم أفهمه قال مجالد فقلت للشعبي ما أحسب هذا الرجل إلا سينقل عنك هذا الكلام إلى الناس و يبثه فيهم قال إذن و الله لا أحفل به و شي ء لم يحفل به عمر حين قام على رءوس الأشهاد من المهاجرين و الصار أحفل به أنا أذيعوه أنتم عني أيضا ما بدا لكم. و روى شريك بن عبد الله النخعي عن محمد بن عمرو بن مرة عن أبيه عن عبد الله بن سلمة عن أبي موسى الأشعري قال حججت مع عمر فلما نزلنا و عظم الناس خرجت من رحلي أريده فلقيني المغيرة بن شعبة فرافقني ثم قال أين تريد فقلت أمير المؤمنين فهل لك قال نعم فانطلقنا نريد رحل عمر فإنا لفي طريقنا إذ ذكرنا تولى عمر و قيامه بما هو فيه و حياطته على الإم و نهوضه بما قبله من ذلك ثم خرجنا إلى ذكر أبي بكر فقلت للمغيرة يا لك الخير لقد كان أبو بكر مسددا في عمر لكأنه ينظر إلى قيامه من بعده و جده و اجتهاده و غنائه في الإسلام فقال المغيرة لقد كان ذلك و إن كان قوم كرهوا ولاية عمر ليزووها عنه و ما كان لهم في ذلك من حظ فقلت له لا أبا لك و من القوم الذين كرهوا ذلك لعمر فقال المغيرة لله أنت كأنك

(3/24)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 31لا تعرف هذا الحي من قريش و ما خصوا به من الحسد فو الله لو كان هذا الحسد يدرك بحساب لكان لقريش تسعة أعشاره و للناس كلهم عشر فقلت مه يا مغيرة فإن قريشا بانت بفضلها على الناس فلم نزل في مثل ذلك حتى انتهينا إلى رحل عمر فلم نجده فلنا عنه فقيل قد خرج آنفا فمضينا نقفو أثره حتى دخلنا المسجد فإذا عمر يطوف بالبيت فطفنا معه فلما فرغ دخل بيني و بين المغيرة فتوكأ على المغيرة و قال من أين جئتما فقلنا خرجنا نريدك يا أمير المؤمنين فأتينا رحلك فقيل لنا خرج إلى المسجد فاتبعناك فقال اتبعكما الخير ثم نظر المغيرة إلي و تبسم فرمقه عمر فقال مم تبسمت أيها العبد فقال من حديث كنت أنا و أبو موسى فيه آنفا في طريقنا إليك قال و ما ذاك الحديث فقصصنا عليه الخبر حتى بلغنا ذكر حسد قريش و ذكر من أراد صرف أبي بكر عن استخلاف عمر فتنفس الصعداء ثم قال ثكلتك أمك يا مغيرة و ما تسعة أعشار الحسد بل و تسعة أعشار العشر و في الناس كلهم عشر العشر بل و قريش شركاؤهم أيضا فيه و سكت مليا و هو يتهادى بيننا ثم قال أ لا أخبركما بأحسد قريش كلها قلنا بلى يا أمير المؤمنين قال و عليكما ثيابكما قلنا نعم قال و كيف بذلك و أنتما ملبسان ثيابكما قلنا يا أمير المؤمنين و ما بال الثياب قال خوف الإذاعة منها قلنا له أ تخاف الإذاعة من الثياب أنت و أنت من ملبس الثياب أخوف و ما الثياب أردت قال هو ذاك ثم انطلق و انطلقنا معه حتى انتهينا إلى رحله فخلى أيدينا من يده ثم قال لا تريما و دخل فقلت للمغيرة لا أبا لك لقد عثرنا بكلامنا معه و ما كنا فيه و ما نراه حبسنا إلا ليذاكرنا إياها قال فإنا لكذلك إذ أخرج إذنه إلينا فقال ادخلا فدخلنا فوجدناه مستلقيا على برذعة برحل فلما رآنا تمثل بقول كعب بن زهير
لا تفش سرك إلا عند ذي ثقة أولى و أفضل ما استودعت أسرارا

(3/25)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 32صدرا رحيبا و قلبا واسعا قمنا ألا تخاف متى أودعت إظهارفعلمنا أنه يريد أن نضمن له كتمان حديثه فقلت أنا له يا أمير المؤمنين الزمنا و خصنا و صلنا قال بما ذا يا أخا الأشعرين فقلت بإفشاء سرك و أن تشركنا في همتك فنعم المستشاران نحن لك قال إنكما كذلك فاسألا عما بدا لكما ثم قام إلى الباب ليعلقه فإذا الآذن الذي أذن لنا عليه في الحجرة فقال امض عنا لا أم لك فخرج و أغلق الباب خلفه ثم أقبل علينا فجلس معنا و قال سلا تخبرا قلنا نريد أن يخبرنا أمير المؤمنين بأحسد قريش الذي لم يأمن ثيابنا على ذكره لنا فقال سألتما عن معضلة و سأخبركما فليكن عندكما في ذمة منيعة و حرز ما بقيت فإذا مت فشأنكما و ما شئتما من إظهار أو كتمان قلنا فإن لك عندنا ذلك قال أبو موسى و أنا أقول في نفسي ما يريد إلا الذين كرهوا استخلاف أبي بكر له كطلحة و غيره فإنهم قالوا لأبي بكر أ تستخلف علينا فظا غليظا و إذا هو يذهب إلى غير ما في نفسي فعاد إلى التنفس ثم قال من تريانه قلنا و الله ما ندري إلا ظنا قال و ما تظنان قلنا عساك تريد القوم الذين أرادوا أبا بكر على صرف هذا الأمر عنك قال كلا و الله بل كان أبو بكر أعق و هو الذي سألتما عنه كان و الله أحسد قريش كلها ثم أطرق طويلا فنظر المغيرة إلي و نظرت إليه و أطرقنا مليا لإطراقه و طال السكوت منا و منه حتى ظننا أنه قد ندم على ما بدا منه ثم قال وا لهفاه على ضئيل بني تيم بن مرة لقد تقدمني ظالما و خرج إلي منها آثما فقال المغيرة أما تقدمه عليك يا أمير المؤمنين ظالما فقد عرفناه كيف خرج إليك منها آثما قال ذاك لأنه لم يخرج إلي منها إلا بعد يأس منها أما و الله لو كنت أطعت يزيد بن الخطاب و أصحابه لم يتلمظ من حلاوتها بشي ء أبدا و لكني قدمت و أخرت و صعدت و صوبت و نقضت و أبرمت فلم أجد إلا الإغضاء على ما نشب به منها و التلهف على نفسي و أملت إنابته و رجوعه فو الله ما فعل

(3/26)


حتى نغر بها بشما شرنهج البلاغة ج : 2 ص : 33قال المغيرة فما منعك منها يا أمير المؤمنين و قد عرضك لها يوم السقيفة بدعائك إليها ثم أنت الآن تنقم و تتأسف قال ثكلتك أمك يا مغيرة إني كنت لأعدك من دهاة العرب كأنك كنت غائبا عما هناك إن الرجل ماكرني فماكرته و ألفاني أحذر من قطاة إنهلما رأى شغف الناس به و إقبالهم بوجوههم عليه أيقن أنهم لا يريدون به بدلا فأحب لما رأى من حرص الناس عليه و ميلهم إليه أن يعلم ما عندي و هل تنازعني نفسي إليها و أحب أن يبلوني بإطماعي فيها و التعريض لي بها و قد علم و علمت لو قبلت ما عرضه علي لم يجب الناس إلى ذلك فألفاني قائما على أخمصي مستوفزا حذرا و لو أجبته إلى قبولها لم يسلم الناس إلي ذلك و اختبأها ضغنا علي في قلبه و لم آمن غائلته و لو بعد حين مع ما بدا لي من كراهة الناس لي أ ما سمعت نداءهم من كل ناحية عند عرضها علي لا نريد سواك يا أبا بكر أنت لها فرددتها إليه عند ذلك فلقد رأيته التمع وجهه لذلك سرورا و لقد عاتبني مرة على كلام بلغه عني و ذلك لما قدم عليه بالأشعث أسيرا فمن عليه و أطلقه و زوجه أخته أم فروة فقلت للأشعث و هو قاعد بين يديه يا عدو الله أ كفرت بعد إسلامك و ارتددت ناكصا على عقبيك فنظر إلي نظرا علمت أنه يريد أن يكلمني بكلام في نفسه ثم لقيني بعد ذلك في سكك المدينة فقال لي أنت صاحب الكلام يا ابن الخطاب فقلت نعم يا عدو الله و لك عندي شر من ذلك فقال بئس الجزاء هذا لي منك قلت و علام تريد مني حسن الجزاء قال لأنفتي لك من اتباع هذا الرجل و الله ما جرأني على الخلاف عليه إلا تقدمه عليك و تخلفك عنها و لو كنت صاحبها لما رأيت مني خلافا عليك قلت لقد كان ذلك فما تأمر الآن قال إنه ليس بوقت أمر بل وقت صبر و مضى و مضيت و لقي الأشعث الزبرقان بن بدر فذكر له ما جرى بيني و بينه فنقل ذلك إلى أبي بكر فأرسل إلي بعتاب مؤلم فأرسلت إليه أما و الله

(3/27)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 34لتكفن أو لأقولن كلمة بالغة بي و بك في الناس تحملها الركبان حيث ساروا و إن شئت استدمنا ما نحن فيه عفوا فقال بل نستديمه و إنها لصائرة إليك بعد أيام فظننت أنه لا يأتي عليه جمعة حتى يردها علي فتغافل و الله ما ذاكرني بعد ذلك حرفا ى هلك. و لقد مد في أمدها عاضا على نواجذه حتى حضره الموت و أيس منها فكان منه ما رأيتما فاكتما ما قلت لكما عن الناس كافة و عن بني هاشم خاصة و ليكن منكما بحيث أمرتكما قوما إذا شئتما على بركة الله فقمنا و نحن نعجب من قوله فو الله ما أفشينا سره حتى هلك. قال المرتضى و ليس في طعن عمر على أبي بكر ما يؤدي إلى فساد خلافته إذ له أن يثبت إمامة نفسه بالإجماع لا بنص أبي بكر عليه و أما الفلتة فإنها و إن كانت محتملة للبغتة كما قاله أبو علي رحمه الله تعالى إلا أن قوله وقى الله شرها يخصصها بأن مخرجها مخرج الذم و كذلك قوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه و قوله المراد وقى الله شر الاختلاف فيها عدول عن الظاهر لأن الشر في الكلام مضاف إليها دون غيرها و أبعد من هذا التأويل قوله إن المراد من عاد إلى مثلها من غير ضرورة و أكره المسلمين عليها فاقتلوه لأن ما جرى هذا المجرى لا يكون مثلا لبيعة أبي بكر عندهم لأن كل ذلك ما جرى فيها على مذاهبهم و قد كان يجب على هذا أن يقول فمن عاد إلى خلافها فاقتلوه. و ليس له أن يقول إنما أراد بالمثل وجها واحدا و هو وقوعها من غير مشاورة لأن ذلك إنما تم في أبي بكر خاصة بظهور أمره و اشتهار فضله و لأنهم بادروا إلى العقد خوفا من الفتنة و ذلك لأنه غير منكر أن يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر و اشتهار أمره و خوف الفتنة ما اتفق لأبي بكر فلا يستحق قتلا و لا ذما على أن قوله مثلها يقتضي وقوعها على الوجه الذي وقعت عليه فكيف يكون ما وقع من غير مشاورة لضرورة داعية و أسباب موجبة مثلا لما وقع بلا مشاورة و من غير ضرورة و لا أسباب و الذي رواه عن أهل

(3/28)


اللغة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 35من أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة من حيث إن من لم يدرك فيه الثأر فإنه قول لا نعرفه و الذي نعرفه أنهم يسمون الليلة التي ينقضي بها آخر الأشهر الحرم و يتم فلتة هي آخر ليلة من ليالي الشهر لأنه ربما رأى الهلال قوم لتسع و عشرين و لم يبصره الباقون فيغير هؤلاء على أولئك و هم غارون فلهذا سميت تلك الليلة فلتة على أنا قد بينا أن مجموع الكلام يقتضي ما ذكرناه من المعنى لو سلم له ما رواه عن أهل اللغة في احتمال هذه اللفظة. قال و قد ذكر صاحب كتاب العين أن الفلتة الأمر الذي يقع على غير إحكام فقد صح أنها موضوعة في اللغة لهذا و إن جاز ألا تختص به بل تكون لفظة مشتركة. و بعد فلو كان عمر لم يرد بقوله توهين بيعة أبي بكر بل أراد ما ظنه المخالفون لكان ذلك عائدا عليه بالنقص لأنه وضع كلامه في غير موضعه و أراد شيئا فعبر عن خلافه فليس يخرج هذا الخبر من أن يكون طعنا على أبي بكر إلا بأن يكون طعنا على عمر. و اعلم أنه لا يبعد أن يقال إن الرضا و السخط و الحب و البغض و ما شاكل ذلك من الأخلاق النفسانية و إن كانت أمورا باطنة فإنها قد تعلم و يضطر الحاضرون إلى تحصيلها بقرائن أحوال تفيدهم العلم الضروري كما يعلم خوف الخائف و سرور المبتهج و قد يكون الإنسان عاشقا لآخر فيعلم المخالطون لهما ضرورة أنه يعشقه لما يشاهدونه من قرائن الأحوال و كذلك يعلم من قرائن أحوال العابد المجتهد في العبادة و صوم الهواجر و ملازمة الأوراد و سهر الليل أنه يتدين بذلك فغير منكر أن يقول قاضي القضاة رحمه الله

(3/29)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 36تعالى إن المعلوم ضرورة من حال عمر تعظيم أبي بكر و رضاه بخلافته و تدينه بذلك فالذي اعترضه رحمه الله تعالى به غير وارد عليه و أما الأخبار التي رواها عن عمر فأخبار غريبة ما رأيناها في الكتب المدونة و ما وقفنا عليها إلا من كتاب ارتضى و كتاب آخر يعرف بكتاب المسترشد لمحمد بن جرير الطبري و ليس هو محمد بن جرير صاحب التاريخ بل هو من رجال الشيعة و أظن أن أمه من بني جرير من مدينة آمل طبرستان و بنو جرير الآمليون شيعة مستهترون بالتشيع فنسب إلى أخواله و يدل على ذلك شعر مروي له و هو

(3/30)


بآمل مولدي و بنو جرير فأخوالي و يحكي المرء خاله فمن يك رافضيا عن أبيه فإني رافضي عن كلالهو أنت تعلم حال الأخبار الغريبة التي لا توجد في الكتب المدونة كيف هي فأما إنكاره ما ذكره شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى من أن الفلتة هي آخر يوم من شوال و قوله إنا لا نعرفه فليس الأمر كذلك بل هو تفسير صحيح ذكره الجوهري في كتاب الصحاح قال الفلتة آخر ليلة من كل شهر و يقال هي آخر يوم من الشهر الذي بعده الشهر الحرام و هذا يدل على أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة و كذلك آخر يوم من جمادى الآخرة و إنما التفسير الذي ذكره المرتضى غير معروف عند أهل اللغة. و أما ما ذكره من إفساد حمل الفلتة في الخبر على هذه الوجوه المتأولة فجيد إلا أن الإنصاف أن عمر لم يخرج الكلام مخرج الذم لأمر أبي بكر و إنما أراد باللفظة محض حقيقتها في اللغة ذكر صاحب الصحاح أن الفلتة الأمر الذي يعمل فجأة من شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 37غير تردد و لا تدبر و هكذا كانت بيعة أبي بكر لأن الأمر لم يكن فيها شورى ب المسلمين و إنما وقعت بغتة لم تمحص فيها الآراء و لم يتناظر فيها الرجال و كانت كالشي ء المستلب المنتهب و كان عمر يخاف أن يموت عن غير وصية أو يقتل قتلا فيبايع أحد من المسلمين بغتة كبيعة أبي بكر فخطب بما خطب به و قال معتذرا إلا أنه ليس فيكم من تقطع إليه الأعاق كأبي بكر. و أيضا قول المرتضى قد يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر و خوف الفتنة مثل ما اتفق لأبي بكر فلا يستحق القتل فإن لقائل أن يقول إن عمر لم يخاطب بهذا إلا أهل عصره و كان هو رحمه الله يذهب إلى أنه ليس فيهم كأبي بكر و لا من يحتمل له أن يبايع فلتة كما احتمل ذلك لأبي بكر فإن اتفق أن يكون في عصر آخر بعد عصره من يظهر فضله و يكون في زمانه كأبي بكر في زمانه فهو غير داخل في نهي عمر و تحريمه. و اعلم أن الشيعة لم تسلم لعمر أن بيعة أبي بكر كانت فلتة قال محمد بن هانئ المغربي

(3/31)


و لكن أمرا كان أبرم بينهم و إن قال قوم فلتة غير مبرم
و قال آخر
زعموها فلتة فاجئة لا و رب البيت و الركن المشيدإنما كانت أمورا نسجت بينهم أسبابها نسج البرود
و روى أبو جعفر أيضا في التاريخ أن رسول الله ص لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة و أخرجوا سعد بن عبادة ليولوه الخلافة و كان شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 38مريضا فخطبهم و دعاهم إلى إعطائه الرئاسة و الخلافة فأجابوه ثم ترادوا الكلام فقالوا فإن أبى المهاون و قالوا نحن أولياؤه و عترته فقال قوم من الأنصار نقول منا أمير و منكم أمير فقال سعد فهذا أول الوهن و سمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله ص و فيه أبو بكر فأرسل إليه أن اخرج إلي فأرسل أني مشغول فأرسل إليه عمر أن اخرج فقد حدث أمر لا بد أن تحضره فخرج فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين نحوهم و معهما أبو عبيدة فتكلم أبو بكر فذكر قرب المهاجرين من رسول الله ص و أنهم أولياؤه و عترته ثم قال نحن الأمراء و أنتم الوزراء لا نفتات عليكم بمشورة و لا نقضي دونكم الأمور. فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم و لن يجترئ مجترئ على خلافكم و لا يصدر أحد إلا عن رأيكم أنتم أهل العزة و المنعة و أولو العدد و الكثرة و ذوو البأس و النجدة و إنما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير و منهم أمير. فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد و الله لا ترضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم و لا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة منهم من ينازعنا سلطان محمد و نحن أولياؤه و عشيرته. فقال الحباب بن المنذر يا معشر الأنصار املكوا أيديكم و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد فأنتم أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين أنا جذيلها المحكك و عذيقها

(3/32)


المرجب شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 39أنا أبو شبل في عريسة الأسد و الله إن شئتم لنعيدنها جذعةفقال عمر إذن يقتلك الله قال بل إياك يقتل. فقال أبو عبيدة يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر و آزر فلا تكونوا أول من بدل و غير. فقام بشير بن سعد والد النعمان بن بشير فقال يا معشر الأنصار ألا إن محمدا من قريش و قومه أولى به و ايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر. فقال أبو بكر هذا عمر و أبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم فقالا و الله لا نتولى هذا الأمر عليك و أنت أفضل المهاجرين و خليفة رسول الله ص في الصلاة و هي أفضل الدين ابسط يدك فلما بسط يده ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه فناداه الحباب بن المنذر يا بشير عققت عقاق أ نفست على ابن عمك الإمارة. فقال أسيد بن حضير رئيس الأوس لأصحابه و الله لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبدا فقاموا فبايعوا أبا بكر. فانكسر على سعد بن عبادة و الخزرج ما اجتمعوا عليه و أقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب ثم حمل سعد بن عبادة إلى داره فبقي أياما و أرسل إليه أبو بكر ليبايع فقال لا و الله حتى أرميكم بما في كنانتي و أخضب سنان رمحي و أضرب بسيفي ما أطاعني و أقاتلكم بأهل بيتي و من تبعني و لو اجتمع معكم الجن و الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي. فقال عمر لا تدعه حتى يبايع فقال بشير بن سعد إنه قد لج و ليس بمبايع لكم

(3/33)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 40حتى يقتل و ليس بمقتول حتى يقتل معه أهله و طائفة من عشيرته و لا يضركم تركه إنما هو رجل واحد فتركوه. و جاءت أسلم فبايعت فقوي بهم جانب أبي بكر و بايعه الناس. و في كتب غريب الحديث في تتمة كلام عمر فأيما رجل بايع رجلا بغير مشورة مالناس فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا. قالوا غرر تغريرا و تغرة كما قالوا حلل تحليلا و تحلة و علل تعليلا و تعلة و انتصب تغرة هاهنا لأنه مفعول له و معنى الكلام أنه إذا بايع واحد لآخر بغتة عن غير شورى فلا يؤمر واحد منهما لأنهما قد غررا بأنفسهما تغرة و عرضاهما لأن تقتلا. و روى جميع أصحاب السيرة أن رسول الله ص لما توفي كان أبو بكر في منزله بالسنح فقال عمر بن الخطاب فقال ما مات رسول الله ص و لا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله و ليرجعن فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم ممن أرجف بموته لا أسمع رجلا يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي فجاء أبو بكر و كشف عن وجه رسول الله ص و قال بأبي و أمي طبت حيا و ميتا و الله لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج و الناس حول عمر و هو يقول لهم إنه لم يمت و يحلف فقال له أيها الحالف على رسلك ثم قال من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و قال أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ قال عمر فو الله شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 41ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض و علمت أن رسول الله قد مات و قد تكلمت الشيعة في هذا الموضع و قالوا إنه بلغ من قلة علمه أنه لم يعلم أن الموت يجوز على رسول الله ص و أنه أسوة الأنبياء في ذلك و قال لما تلا أبو بكر الآيات أيقنت الآن بوفاته كأني لم أسمع هذه الآية فلو كان يحفظ القرآن أو يتفكر فيه ما قال ذلك و من هذه حاله لا يجوز أن يكون إماما. و أجاب قاضي القضاة رحمه الله تعالى

(3/34)


في المغني عن هذا فقال إن عمر لم يمنع من جواز موته ع و لا نفى كونه ممكنا و لكنه تأول في ذلك قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ و قال كيف يموت و لم يظهر ص على الدين كله فقال أبو بكر إذا ظهر دينه فقد ظهر هو و سيظهر دينه بعد وفاته. فحمل عمر قوله تعالى أَ فَإِنْ ماتَ على تأخر الموت لا على نفيه بالكلية قال و لا يجب فيمن ذهل عن بعض أحكام القرآن ألا يحفظ القرآن لأن الأمر لو كان كذلك لوجب ألا يحفظ القرآن إلا من عرف جميع أحكامه على أن حفظ جميع القرآن غير واجب و لا يقدح الإخلال به في الفضل. و اعترض المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب الشافي هذا الكلام فقال لا يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله ص من أن يكون على سبيل الإنكار لموته على كل حال و الاعتقاد أن الموت لا يجوز عليه على كل وجه أو يكون منكرا لموته في

(3/35)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 42تلك الحال من حيث لم يظهر على الدين كله فإن كان الأول فهو مما لا يجوز خلاف عاقل فيه و العلم بجواز الموت على جميع البشر ضروري و ليس يحتاج في حصول هذا العلم إلى تلاوة الآيات التي تلاها أبو بكر و إن كان الثاني فأول ما فيه أن هذا اختلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر عليه من قوله إِنَّكَ مَيِّتٌ لأن عمر لم ينكر على هذا الوجه جواز الموت عليه و صحته و إنما خالف في وقته فكان يجب أن يقول لأبي بكر و أي حجة في هذه الآيات علي فإني لم أمنع جواز موته و إنما منعت وقوع موته الآن و جوزته في المستقبل و الآيات إنما تدل على جواز الموت فقط لا على تخصيصه بحال معينة. و بعد فكيف دخلت هذه الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق و من أين زعم أنه سيعود فيقطع أيدي رجال و أرجلهم و كيف لم يحصل له من اليقين لما رأى من الواعية و كآبة الخلق و إغلاق الباب و صراخ النساء ما يدفع به ذلك الوهم و الشبهة البعيدة فلم يحتج إلى موقف. و بعد فيجب إن كانت هذه شبهته أن يقول في مرض النبي ص و قد رأى جزع أهله و خوفهم عليه الموت و قول أسامة صاحب الجيش لم أكن لأرحل و أنت هكذا و أسأل عنك الركب يا هؤلاء لا تخافوا و لا تجزعوا و لا تخف أنت يا أسامة فإن رسول الله ص لا يموت الآن لأنه لم يظهر على الدين كله. و بعد فليس هذا من أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها على ما ظن المعتذر له. و نحن نقول إن عمر كان أجل قدرا من أن يعتقد ما ظهر عنه في هذه الواقعة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 43و لكنه لمالم أن رسول الله ص قد مات خاف من وقوع فتنة في الإمامة و تقلب أقوام عليها إما من الأنصار أو غيرهم و خاف أيضا من حدوث ردة و رجوع عن الإسلام فإنه كان ضعيفا بعد لم يتمكن و خاف من ترات تشن و دماء تراق فإن أكثر العرب كان موتورا في حياة رسول الله ص لقتل من قتل أصحابه منهم و في مثل ذلك الحال تنتهز الفرصة و تهتبل الغرة فاقتضت

(3/36)


المصلحة عنده تسكين الناس بأن أظهر ما أظهره من كون رسول الله ص لم يمت و أوقع تلك الشبهة في قلوبهم فكسر بها شرة كثير منهم و ظنوها حقا فثناهم بذلك عن حادث يحدثونه تخيلا منهم أن رسول الله ص ما مات و إنما غاب كما غاب موسى عن قومه و هكذا كان عمر يقول لهم إنه قد غاب عنكم كما غاب موسى عن قومه و ليعودن فليقطعن أيدي قوم أرجفوا بموته. و مثل هذا الكلام يقع في الوهم فيصد عن كثير من العزم أ لا ترى أن الملك إذا مات في مدينة وقع فيها في أكثر الأمر نهب و فساد و تحريق و كل من في نفسه حقد على آخر بلغ منه غرضه إما بقتل أو جرح أو نهب مال إلى أن تتمهد قاعدة الملك الذي يلي بعده فإذا كان في المدينة وزير حازم الرأي كتم موت الملك و سجن قوما ممن أرجف نداء بموته و أقام فيهم السياسة و أشاع أن الملك حي و أن أوامره و كتبه نافذة و لا يزال يلزم ذلك الناموس إلى أن يمهد قاعدة الملك للوالي بعده و كذلك عمر أظهر ما أظهر حراسة للدين و الدولة إلى أن جاء أبو بكر و كان غائبا بالسنح و هو منزل بعيد عن المدينة فلما اجتمع بأبي بكر قوي به جأشه و اشتد به أزره و عظم طاعة الناس له و ميلهم إليه فسكت حينئذ عن تلك الدعوى التي كان ادعاها لأنه قد أمن بحضور أبي بكر من خطب يحدث أو فساد يتجدد و كان أبو بكر محببا إلى الناس لا سيما المهاجرين.

(3/37)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 44و يجوز عند الشيعة و عند أصحابنا أيضا أن يقول الإنسان كلاما ظاهر الكذب على جهة المعاريض فلا وصمة على عمر إذا كان حلف أن رسول الله ص لم يمت و لا وصمة عليه في قوله بعد حضور أبي بكر و تلاوة ما تلا كأني لم أسمعها أو قد تيقنت الآن اته ص لأنه أراد بهذا القول الأخير تشييد القول الأول و كان هو الصواب و كان من سيئ الرأي و قبيحه أن يقول إنما قلته تسكينا لكم و لم أقله عن اعتقاد فالذي بدا به حسن و صواب و الذي ختم به أحسن و أصوب. و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عمر بن شبة عن محمد بن منصور عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال كان النبي ص قد بعث أبا سفيان ساعيا فرجع من سعايته و قد مات رسول الله ص فلقيه قوم فسألهم فقالوا مات رسول الله ص فقال من ولي بعده قيل أبو بكر قال أبو فصيل قالوا نعم قال فما فعل المستضعفان علي و العباس أما و الذي نفسي بيده لأرفعن لهما من أعضادهما. قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز و ذكر الراوي و هو جعفر بن سليمان أن أبا سفيان قال شيئا آخر لم تحفظه الرواة فلما قدم المدينة قال إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم قال فكلم عمر أبا بكر فقال إن أبا سفيان قد قدم و أنا لا نأمن شره فدع له ما في يده فتركه فرضي. و روى أحمد بن عبد العزيز أن أبا سفيان قال لما بويع عثمان كان هذا الأمر في تيم و أنى لتيم هذا الأمر ثم صار إلى عدي فأبعد و أبعد ثم رجعت إلى منازلها و استقر الأمر قراره فتلقفوها تلقف الكرة. شرح نهج البلا ج : 2 ص : 45قال أحمد بن عبد العزيز و حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال ذاكرت إسماعيل بن إسحاق القاضي بهذا الحديث و أن أبا سفيان قال لعثمان بأبي أنت أنفق و لا تكن كأبي حجر و تداولوها يا بني أمية تداول الولدان الكرة فو الله ما من جنة و لا نار و كان الزبير حاضرا فقال عثمان لأبي سفيان اعزب فقال يا بني أ هاهنا أحد قال الزبير

(3/38)


نعم و الله لا كتمتها عليك قال فقال إسماعيل هذا باطل قلت و كيف ذلك قال ما أنكر هذا من أبي سفيان و لكن أنكر أن يكون سمعه عثمان و لم يضرب عنقه.
و روى أحمد بن عبد العزيز قال جاء أبو سفيان إلى علي ع فقال وليتم على هذا الأمر أذل بيت في قريش أ ما و الله لئن شئت لأملأنها على أبي فصيل خيلا و رجلا فقال علي ع طالما غششت الإسلام و أهله فما ضررتهم شيئا لا حاجة لنا إلى خيلك و رجلك لو لا أنا رأينا أبا بكر لها أهلا لما تركناه

(3/39)


و روى أحمد بن عبد العزيز قال لما بويع لأبي بكر كان الزبير و المقداد يختلفان في جماعة من الناس إلى علي و هو في بيت فاطمة فيتشاورون و يتراجعون أمورهم فخرج عمر حتى دخل على فاطمة ع و قال يا بنت رسول الله ما من أحد من الخلق أحب إلينا من أبيك و ما من أحد أحب إلينا منك بعد أبيك و ايم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بتحريق البيت عليهم فلما خرج عمر جاءوها فقالت تعلمون أن عمر جاءني و حلف لي بالله إن عدتم ليحرقن عليكم البيت و ايم الله ليمضين لما حلف له فانصرفوا عنا راشدين فلم يرجعوا إلى بيتها و ذهبوا فبايعوا لأبي بكر. و روى أحمد و روى المبرد في الكامل صدر هذا الخبر عن عبد الرحمن شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 46بن عوف قال دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي مات فيه فسلمت و سألته كيف به فاستوى جالسا فقلت لقد أصبحت بحمد الله بارئا فقال أما إني على ما ترىوجع و جعلتم لي معشر المهاجرين شغلا مع وجعي و جعلت لكم عهدا مني من بعدي و اخترت لكم خيركم في نفسي فكلكم ورم لذلك أنفه رجاء أن يكون الأمر له و رأيتم الدنيا قد أقبلت و الله لتتخذن ستور الحرير و نضائد الديباج و تألمون ضجائع الصوف الأذربي كأن أحدكم على حسك السعدان و الله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يسبح في غمرة الدنيا و إنكم غدا لأول ضال بالناس يجورون عن الطريق يمينا و شمالا يا هادي الطريق جرت إنما هو البجر أو الفجر فقال له عبد الرحمن لا تكثر على ما بك فيهيضك و الله ما أردت إلا خيرا و إن صاحبك لذو خير و ما الناس إلا رجلان رجل رأى ما رأيت فلا خلاف عليك منه و رجل رأى غير ذلك و إنما يشير عليك برأيه فسكن و سكت هنيهة فقال عبد الرحمن ما أرى بك بأسا و الحمد لله فلا تأس على الدنيا فو الله إن علمناك إلا صالحا مصلحا فقال أما إني لا آسى إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلن و ثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن و ثلاث

(3/40)


وددت أني سألت رسول الله ص عنهن فأما الثلاث التي فعلتها و وددت أني لم أكن فعلتها فوددت أني لم أكن كشفت شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 47عن بيت فاطمة و تركته و لو أغلق على حرب و وددت أني يوم سقيفة بنساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين عمر أو أبي عبيدة فكان أميرا و كنت وزيرا و وددت أني إذ أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته و كنت قتلته بالحديد أو أطلقته. و أما الثلاث التي تركتها و وددت أني فعلتها فوددت أني يوم أتيت بالأشعث كنت ضربت عنقه فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه و وددت أني حيث وجهت خالدا إلى أهل الردة أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون و إلا كنت ردءا لهم و وددت حيث وجهت خالدا إلى الشام كنت وجهت عمر إلى العراق فأكون قد بسطت كلتا يدي اليمين و الشمال في سبيل الله. و أما الثلاث اللواتي وددت أني كنت سألت رسول الله ص عنهن فوددت أني سألته فيمن هذا الأمر فكنا لا ننازعه أهله و وددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب و وددت أني سألته عن ميراث العمة و ابنة الأخت فإن في نفسي منهما حاجة. و من كتاب معاوية المشهور إلى علي ع و أعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار و يداك في يدي ابنيك الحسن و الحسين يوم بويع أبو بكر الصديق فلم تدع أحدا من أهل بدر و السوابق إلا دعوتهم إلى نفسك و مشيت إليهم بامرأتك و أدليت إليهم بابنيك و استنصرتهم على صاحب رسول الله فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة و لعمري لو كنت محقا لأجابوك و لكنك ادعيت باطلا و قلت ما لا تعرف و رمت ما لا يدرك و مهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك و هيجك لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم فما يوم المسلمين منك بواحد و لا بغيك على الخلفاء بطريف و لا مستبدع.

(3/41)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 48و سنذكر تمام هذا الكتاب و أوله عند انتهائنا إلى كتب علي ع. و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أبي المنذر و هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال كان بين العباس و علي مباعدة فلقي ابن عباس عليا فقاإن كان لك في النظر إلى عمك حاجة فأته و ما أراك تلقاه بعدها فوجم لها و قال تقدمني و استأذن فتقدمته و استأذنت له فأذن فدخل فاعتنق كل واحد منهما صاحبه و أقبل علي ع على يده و رجله يقبلهما و يقول يا عم ارض عني رضي الله عنك قال قد رضيت عنك. ثم قال يا ابن أخي قد أشرت عليك بأشياء ثلاثة فلم تقبل و رأيت في عاقبتها ما كرهت و ها أنا ذا أشير عليك برأي رابع فإن قبلته و إلا نالك ما نالك مما كان قبله قال و ما ذاك يا عم قال أشرت عليك في مرض رسول الله ص أن تسأله فإن كان الأمر فينا أعطاناه و إن كان في غيرنا أوصى بنا فقلت أخشى إن منعناه لا يعطيناه أحد بعده فمضت تلك فلما قبض رسول الله ص أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة فدعوناك إلى أن نبايعك و قلت لك ابسط يدك أبايعك و يبايعك هذا الشيخ فإنا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف و إذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك أحد من قريش و إذا بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب فقلت لنا بجهاز رسول الله ص شغل و هذا الأمر فليس نخشى عليه فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة فقلت يا عم ما هذا قلت ما دعوناك إليه فأبيت قلت سبحان الله أ و يكون هذا قلت نعم قلت أ فلا يرد قلت لك و هل رد مثل هذا قط ثم أشرت عليك حين طعن عمر فقلت لا تدخل نفسك في الشورى فإنك إن اعتزلتهم قدموك و إن ساويتهم تقدموك فدخلت معهم فكان ما رأيت شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 49ثم أنا الآن أشير عليك برأي رابع فإن قبلته و إلا نالك ما نالك مما كان قبله إني أرى أن هذا رجل يعني عثمان قد أخذ في أمور و الله لكأني بالعرب قد سارت إليه حتى

(3/42)


ينحر في بيته كما ينحر الجمل و الله إن كان ذلك و أنت بالمدينة ألزمك الناس به و إذا كان ذلك لم تنل من الأمر شيئا إلا من بعد شر لا خير معه قال عبد الله بن عباس فلما كان يوم الجمل عرضت له و قد قتل طلحة و قد أكثر أهل الكوفة في سبه و غمصه فقال علي ع أما و الله لئن قالوا ذلك لقد كان كما قال أخو جعفي
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى و يبعده الفقر
ثم قال و الله لكان عمي كان ينظر من وراء ستر رقيق و الله ما نلت من هذا الأمر شيئا إلا بعد شر لا خير معه. و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز عن حباب بن يزيد عن جرير بن المغيرة أن سلمان و الزبير و الأنصار كان هواهم أن يبايعوا عليا ع بعد النبي ص فلما بويع أبو بكر قال سلمان أصبتم الخبرة و أخطأتم المعدن. قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا علي بن أبي هاشم قال حدثنا عمر بن ثابت عن حبيب بن أبي ثابت قال قال سلمان يومئذ أصبتم ذا السن منكم و أخطأتم أهل بيت نبيكم لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان و لأكلتموها رغدا. قال أبو بكر و أخبرنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى قال حدثنا غسان

(3/43)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 50بن عبد الحميد قال لما أكثر الناس في تخلف علي ع عن بيعة أبي بكر و اشتد أبو بكر و عمر عليه في ذلك خرجت أم مسطح بن أثاثة فوقفت عند القبر و قالتكانت أمور و أبناء و هنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب إنا فقدناك فقد الأرض وابلها و اختل قومك فاشهدهم و لا تغبقال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي الأسود قال غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة و غضب علي و الزبير فدخلا بيت فاطمة ع معهما السلاح فجاء عمر في عصابة منهم أسيد بن حضير و سلمة بن سلامة بن وقش و هما من بني عبد الأشهل فصاحت فاطمة ع و ناشدتهم الله فأخذوا سيفي علي و الزبير فضربوا بهما الجدار حتى كسروهما ثم أخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا ثم قام أبو بكر فخطب الناس و اعتذر إليهم و قال إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها و خشيت الفتنة و ايم الله ما حرصت عليها يوما قط و لقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة و لا يدان و لوددت أن أقوى الناس عليه مكاني و جعل يعتذر إليهم فقبل المهاجرون عذره و قال علي و الزبير ما غضبنا إلا في المشورة و إنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها إنه لصاحب الغار و إنا لنعرف له سنه و لقد أمره رسول الله ص بالصلاة بالناس و هو حي. قال أبو بكر و قد روي بإسناد آخر ذكره أن ثابت بن قيس بن شماس كان مع الجماعة الذين حضروا مع عمر في بيت فاطمة ع و ثابت هذا أخو بني الحارث بن الخزرج. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 51و روي أيضا أن محمدن مسلمة كان معهم و أن محمدا هو الذي كسر سيف الزبير.

(3/44)


قال أبو بكر و حدثني يعقوب بن شيبة عن أحمد بن أيوب عن إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عباس قال خرج علي ع على الناس من عند رسول الله ص في مرضه فقال له الناس كيف أصبح رسول الله ص يا أبا حسن قال أصبح بحمد الله بارئا قال فأخذ العباس بيد علي ثم قال يا علي أنت عبد العصا بعد ثلاث أحلف لقد رأيت الموت في وجهه و إني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب فانطلق إلى رسول الله ص فاذكر له هذا الأمر إن كان فينا أعلمنا و إن كان في غيرنا أوصى بنا فقال لا أفعل و الله إن منعناه اليوم لا يؤتيناه الناس بعده قال فتوفي رسول الله ذلك اليوم

(3/45)


و قال أبو بكر حدثني المغيرة بن محمد المهلبي من حفظه و عمر بن شبة من كتابه بإسناد رفعه إلى أبي سعيد الخدري قال سمعت البراء بن عازب يقول لم أزل لبني هاشم محبا فلما قبض رسول الله ص تخوفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عن بني هاشم فأخذني ما يأخذ الواله العجول. ثم ذكر ما قد ذكرناه نحن في أول هذا الكتاب في شرح قوله ع أما و الله لقد تقمصها فلان و زاد فيه في هذه الرواية فمكثت أكابد ما في نفسي فلما كان بليل خرجت إلى المسجد فلما صرت فيه تذكرت أني كنت أسمع همهمة رسول الله ص بالقرآن فامتنعت من مكاني فخرجت إلى الفضاء فضاء بني بياضة و أجد نفرا يتناجون فلما دنوت منهم سكتوا فانصرفت عنهم فعرفوني و ما أعرفهم فدعوني إليهم فأتيتهم فأجد المقداد بن الأسود و عبادة بن الصامت و سلمان الفارسي و أبا ذر و حذيفة و أبا الهيثم بن التيهان و إذا حذيفة يقول لهم و الله ليكونن ما أخبرتكم شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 52به و الله ما كذبت و لا كذبت و إذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين. ثم قال ائتوا أبي بن كعب فقد علم كما علمت قال فانطلقنا إلى أبي فضربنا عليه بابه حتى صار خلف الباب فقال من أنتم فكلمه المقداد فقال ما حاجتكم فقال افتح عليك بابك فإن الأمر أعظم من أن يجرى من وراء حجاب قال ما أنا بفاتح بابي و قد عرفت ما جئتم له كأنكم أردتم النظر في هذا العقد فقلنا نعم فقال أ فيكم حذيفة فقلنا نعم قال فالقول ما قال و بالله ما أفتح عني بابي حتى يجرى على ما هي جارية و لما يكون بعدها شر منها و إلى الله المشتكى. قال و بلغ الخبر أبا بكر و عمر فأرسلا إلى أبي عبيدة و المغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي فقال المغيرة أن تلقوا العباس فتجعلوا له في هذا الأمر نصيبا فيكون له و لعقبه فتقطعوا به من ناحية علي و يكون لكم حجة عند الناس على علي إذا مال معكم العباس. فانطلقوا حتى دخلوا على العباس في الليلة الثانية من وفاة

(3/46)


رسول الله ص ثم ذكر خطبة أبي بكر و كلام عمر و ما أجابهما العباس به و قد ذكرناه فيما تقدم من هذا الكتاب في الجزء الأول و روى أبو بكر قال أخبرنا أحمد بن إسحاق بن صالح قال حدثنا عبد الله بن عمر عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال لما توفي النبي ص اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة فأتاهم أبو بكر و عمر و أبو عبيدة فقال الحباب شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 53بن المنذر منا أمير و منكم أمير إنا و الله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط و لا نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبناءهم و آباءهم و إخوانهم فقال عمر بن الخطاب إذا كان ذلك قمت إن استطعت فتكلم أبو بكر فقال نحن الأمراء و أنتم الوزراء و الأمر بيننا نصفان كشق الأبلمة فبويع و كان أول من بايعه بشير بن سعد والد النعمان بن بشير. فلما اجتمع الناس على أبي بكر قسم قسما بين نساء المهاجرين و الأنصار فبعث إلى امرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت فقالت ما هذا قال قسم قسمه أبو بكر للنساء قالت أ تراشونني عن ديني و لله لا أقبل منه شيئا فردته عليه. قلت قرأت هذا الخبر على أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي الحسيني المعروف بابن أبي زيد نقيب البصرة رحمه الله تعالى في سنة عشر و ستمائة من كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري قال لقد صدقت فراسة الحباب فإن الذي خافه وقع يوم الحرة و أخذ من الأنصار ثأر المشركين يوم بدر ثم قال لي رحمه الله تعالى و من هذا خاف أيضا رسول الله ص على ذريته و أهله فإنه كان ع قد وتر الناس و علم أنه إن مات و ترك ابنته و ولدها سوقة و رعية تحت أيدي الولاة كانوا بعرض خطر عظيم فما زال يقرر لابن عمه قاعدة الأمر بعده حفظا لدمه و دماء أهل بيته فإنهم إذا كانوا ولاة الأمر كانت دماؤهم أقرب إلى الصيانة و العصمة مما إذا كانوا سوقة تحت يد وال من غيرهم فلم يساعده القضاء و القدر و كان من الأمر ما كان ثم أفضى أمر ذريته فيما بعد

(3/47)


إلى ما قد علمت.
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 54قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز حدثني يعقوب بن شيبة بإسناد رفعه إلى طلحة بن مصرف قال قلت لهذيل بن شرحبيل إن الناس يقولون إن رسول الله ص أوصى إلى علي ع فقال أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله ص ود أبو بكر أنه وجد من رسول الله ص عه فخزم أنفه. قلت هذا الحديث قد خرجه الشيخان محمد بن إسماعيل البخاري و مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحيهما عن طلحة بن مصرف قال سألت عبد الله بن أبي أوفى أوصى رسول الله ص قال لا قلت فكيف كتب على المسلمين الوصية أو كيف أمر بالوصية و لم يوص قال أوصى بكتاب الله قال طلحة ثم قال ابن أوفى ما كان أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله ص ود أبو بكر أنه وجد من رسول الله ص عهدا فخزم أنفه بخزامه. و روى الشيخان في الصحيحين عن عائشة أنه ذكر عندها أن رسول الله ص أوصى قالت و متى أوصى و من يقول ذلك قيل إنهم يقولون قالت من يقوله لقد دعا بطست ليبول و إنه بين سحري و نحري فانخنث في صدري فمات و ما شعرت. و في الصحيحين أيضا خرجاه معا عن ابن عباس أنه كان يقول يوم الخميس و ما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى فقلنا يا ابن عباس و ما يوم الخميس شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 5 قال اشتد برسول الله ص وجعه فقال ائتوني بكتاب أكتبه لكم لا تضلوا بعدي أبدا فتنازعوا فقال إنه لا ينبغي عندي تنازع فقال قائل ما شأنه أ هجر استفهموه فذهبوا يعيدون عليه فقال دعوني و الذي أنا فيه خير من الذي أنتم فيه ثم أمر بثلاثة أشياء فقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب و أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم
و سئل ابن عباس عن الثالثة فقال إما ألا يكون تكلم بها و إما أن يكون قالها فنسيت. و في الصحيحين أيضا خرجاه معا عن ابن عباس رحمه الله تعالى قال لما احتضر رسول الله ص و في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب
قال النبي ص هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده

(3/48)


فقال عمر إن رسول الله ص قد غلب عليه الوجع و عندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف القوم و اختصموا فمنهم من يقول قربوا إليه يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده و منهم من يقول القول ما قاله عمر فلما أكثروا اللغو و الاختلاف عنده ع قال لهم قوموا فقاموا فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ص و بين أن يكتب لكم ذلك الكتاب. قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري و حدثني أحمد بن إسحاق بن صالح قال حدثني عبد الله بن عمر بن معاذ عن ابن عون قال حدثني رجل من زريق شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 56أن عمر كان يوم قال يعني يوم بويع أبو بكر محتجزا يهرول بين يدي أبي بكر و يقول ألا إن الناس قد بايعوا أبا بكر قال فجاء أبو بكر حتى جلس على منبر رسول الله ص فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإني وليتكم و لست بخيركم و لكنه نزل القرآن و سنت السنن و علمنا فتعلمنا أن أكيس الكيس التقى و أحمق الحمق الفجور و إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بالحق و أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق أيها الناس إنما أنا متبع و لست بمبتدع إذا أحسنت فأعينوني و إذا زغت فقوموني. قال أبو بكر و حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا أحمد بن معاوية قال حدثني النضر بن شميل قال حدثنا محمد بن عمرو عن سلمة بن عبد الرحمن قال لما جلس أبو بكر على المنبر كان علي ع و الزبير و ناس من بني هاشم في بيت فاطمة فجاء عمر إليهم فقال و الذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم فخرج الزبير مصلتا سيفه فاعتنقه رجل من الأنصار و زياد بن لبيد فبدر السيف فصاح به أبو بكر و هو على المنبر اضرب به الحجر فدق به قال أبو عمرو بن حماس فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة و يقال هذه ضربة سيف الزبير ثم قال أبو بكر دعوهم فسيأتي الله بهم قال فخرجوا إليه بعد ذلك فبايعوه. قال أبو بكر و قد روي في رواية أخرى أن سعد بن أبي وقاص كان معهم في بيت فاطمة ع و

(3/49)


المقداد بن الأسود أيضا و أنهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليا ع فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت فخرج إليه الزبير بالسيف و خرجت فاطمة ع تبكي و تصيح فنهنهت من الناس و قالوا ليس عندنا معصية و لا خلاف في خير اجتمع عليه الناس و إنما اجتمعنا لنؤلف القرآن في مصحف واحد ثم بايعوا أبا بكر فاستمر الأمر و اطمأن الناس.
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 57قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال أخبرنا أبو بكر الباهلي قال حدثنا إسماعيل بن مجالد عن الشعبي قال سأل أبو بكر فقال أين الزبير فقيل عند علي و قد تقلد سيفه فقال قم يا عمر قم يا خالد بن الوليد انطلقا حتى تأتياني بهما فالقا فدخل عمر و قام خالد على باب البيت من خارج فقال عمر للزبير ما هذا السيف فقال نبايع عليا فاخترطه عمر فضرب به حجرا فكسره ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه و قال يا خالد دونكه فأمسكه ثم قال لعلي قم فبايع لأبي بكر فتلكأ و احتبس فأخذ بيده و قال قم فأبى أن يقوم فحمله و دفعه كما دفع الزبير فأخرجه و رأت فاطمة ما صنع بهما فقامت على باب الحجرة و قالت يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله و الله لا أكلم عمر حتى ألقى الله قال فمشى إليها أبو بكر بعد ذلك و شفع لعمر و طلب إليها فرضيت عنه. قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا الحرامي قال حدثنا الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن ابن عباس قال مر عمر بعلي و عنده ابن عباس بفناء داره فسلم فسألاه أين تريد فقال مالي بينبع قال علي أ فلا نصل جناحك و نقوم معك فقال بلى فقال لابن عباس قم معه قال فشبك أصابعه في أصابعي و مضى حتى إذا خلفنا البقيع قال يا ابن عباس أما و الله إن كان صاحبك هذا أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله إلا أنا خفناه على اثنتين قال ابن عباس فجاء بمنطق لم أجد بدا معه من مسألته عنه فقلت يا أمير المؤمنين ما هما قال خشيناه على حداثة سنه و حبه بني

(3/50)


عبد المطلب. قال أبو بكر و حدثني أبو زيد قال حدثنا هارون بن عمر بإسناد رفعه إلى ابن عباس رحمه الله تعالى قال تفرق الناس ليلة الجابية عن عمر فسار شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 58كل واحد مع إلفه ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته فشكالي تخلف علي عنه فقلت أ لم يعتذر إليك قال بلى فقلت هو ما اعتذر به قال يا ابن عباس إن أول من ريثكم عن هذا الأمر أبو بكر إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوة قلت لم ذاك يا أمير المؤمنين أ لم ننلهم خيرا قال بلى و لكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا جحفا.
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال حدثنا علي بن هشام مرفوعا إلى عاصم بن عمرو بن قتادة قال لقي علي ع عمر فقال له علي ع أنشدك الله هل استخلفك رسول الله ص قال لا قال فكيف تصنع أنت و صاحبك قال أما صاحبي فقد مضى لسبيله و أما أنا فسأخلعها من عنقي إلى عنقك فقال جدع الله أنف من ينقذك منها لا و لكن جعلني الله علما فإذا قمت فمن خالفني ضل

(3/51)


قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عن هارون بن عمر عن محمد بن سعيد بن الفضل عن أبيه عن الحارث بن كعب عن عبد الله بن أبي أوفى الخزاعي قال كان خالد بن سعيد بن العاص من عمال رسول الله ص على اليمن فلما قبض رسول الله ص جاء المدينة و قد بايع الناس أبا بكر فاحتبس عن أبي بكر فلم يبايعه أياما و قد بايع الناس و أتى بني هاشم فقال أنتم الظهر و البطن و الشعار دون الدثار و العصا دون اللحا فإذا رضيتم رضينا و إذا سخطتم سخطنا حدثوني إن كنتم قد بايعتم هذا الرجل قالوا نعم قال على برد و رضا من جماعتكم قالوا نعم قال شرح نهج البلاغة : 2 ص : 59فأنا أرضى و أبايع إذا بايعتم أما و الله يا بني هاشم إنكم الطوال الشجر الطيبو الثمر ثم إنه بايع أبا بكر و بلغت أبا بكر فلم يحفل بها و اضطغنها عليه عمر فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام قال له عمر أ تولي خالدا و قد حبس عليك بيعته و قال لبني هاشم ما قال و قد جاء بورق من اليمن و عبيد و حبشان و دروع و رماح ما أرى أن توليه و ما آمن خلافه فانصرف عنه أبو بكر و ولى أبا عبيدة بن الجراح و يزيد بن أبي سفيان و شرحبيل بن حسنة. و اعلم أن الآثار و الأخبار في هذا الباب كثيرة جدا و من تأملها و أنصف علم أنه لم يكن هناك نص صريح و مقطوع به لا تختلجه الشكوك و لا تتطرق إليه الاحتمالات كما تزعم الإمامية فإنهم يقولون إن الرسول ص نص على أمير المؤمنين ع نصا صريحا جليا ليس بنص يوم الغدير و لا خبر المنزلة و لا ما شابههما من الأخبار الواردة من طرق العامة و غيرها بل نص عليه بالخلافة و بإمرة المؤمنين و أمر المسلمين أن يسلموا عليه بذلك فسلموا عليه بها و صرح لهم في كثير من المقامات بأنه خليفة عليهم من بعده و أمرهم بالسمع و الطاعة له و لا ريب أن المنصف إذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة رسول الله ص يعلم قطعا أنه لم يكن هذا النص و لكن قد سبق إلى النفوس و العقول أنه قد كان هناك تعريض و تلويح و

(3/52)


كناية و قول غير صريح و حكم غير مبتوت و لعله ص كان يصده عن التصريح بذلك أمر يعلمه و مصلحة يراعيها أو وقوف مع إذن الله تعالى في ذلك. فأما امتناع علي ع من البيعة حتى أخرج على الوجه الذي أخرج عليه فقد شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 60ذكره المحدثون و رواه أهل السير و قد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب و هو من رجال الحديث و من الثقات المأمونين و قد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة. فأما الأمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذلى بيت فاطمة ع و أنه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج و بقي أثره إلى أن ماتت و أن عمر أضغطها بين الباب و الجدار فصاحت يا أبتاه يا رسول الله و ألقت جنينا ميتا و جعل في عنق علي ع حبل يقاد به و هو يعتل و فاطمة خلفه تصرخ و تنادي بالويل و الثبور و ابناه حسن و حسين معهما يبكيان و أن عليا لما أحضر سألوه البيعة فامتنع فتهدد بالقتل فقال إذن تقتلون عبد الله و أخا رسول الله فقالوا أما عبد الله فنعم و أما أخو رسول الله فلا و أنه طعن فيهم في أوجههم بالنفاق و سطر صحيفة الغدر التي اجتمعوا عليها و بأنهم أرادوا أن ينفروا ناقة رسول الله ص ليلة العقبة فكله لا أصل له عند أصحابنا و لا يثبته أحد منهم و لا رواه أهل الحديث و لا يعرفونه و إنما هو شي ء تنفرد الشيعة بنقله وَ مِنْهَا وَ لَمْ يُبَايِعْ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ عَلَى الْبَيْعَةِ ثَمَناً فَلَا ظَفِرَتْ يَدُ الْبَائِعِ وَ خَزِيَتْ أَمَانَةُ الْمُبْتَاعِ فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا وَ أَعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا فَقَدْ شَبَّ لَظَاهَا وَ عَلَا سَنَاهَا وَ اسْتَشْعِرُوا الصَّبْرَ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى النَّصْرِ

(3/53)


هذا فصل من كلام يذكر فيه ع عمرو بن العاص و قوله فلا ظفرت يد البائع يعني معاوية و قوله و خزيت أمانة المبتاع يعني عمرا و خزيت أي شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 61خسرت و هانت و في أكثر النسخ فلا ظفرت يد المبايع بميم المفاعلة و الظاهر ما رويناه. و في بعض النسخ فإ أحزم للنصر من حزمت الشي ء إذا شددته كأنه يشد النصر و يوثقه و الرواية التي ذكرناها أحسن. و الأهبة العدة و شب لظاها استعارة و أصله صعود طرف النار الأعلى و السنا بالقصر الضوء و استشعروا الصبر اتخذوه شعارا و الشعار ما يلي الجسد في الثياب و هو ألزم الثياب للجد يقول لازموا الصبر كما يلزم الإنسان ثوبه الذي يلي جلده لا بد له منه و قد يستغني عن غيره من الثياب
قدوم عمرو بن العاص على معاوية

(3/54)


لما نزل علي ع الكوفة بعد فراغه من أمر البصرة كتب إلى معاوية كتابا يدعوه إلى البيعة أرسل فيه جرير بن عبد الله البجلي فقدم عليه به الشام فقرأه و اغتم بما فيه و ذهبت به أفكاره كل مذهب و طاول جريرا بالجواب عن الكتاب حتى كلم قوما من أهل الشام في الطلب بدم عثمان فأجابوه و وثقوا له و أحب الزيادة في الاستظهار فاستشار أخاه عتبة بن أبي سفيان فقال له استعن بعمرو بن العاص فإنه من قد علمت في دهائه و رأيه و قد اعتزل عثمان في حياته و هو لأمرك أشد اعتزالا إلا أن يثمن له دينه فسيبيعك فإنه صاحب دنيا. فكتب إليه معاوية أما بعد فإنه كان من أمر علي و طلحة و الزبير ما قد بلغك و قد سقط إلينا مروان بن الحكم في نفر من أهل البصرة و قدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي و قد حبست نفسي عليك فأقبل أذاكرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها إن شاء الله شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 62فلما قدم الكتابلى عمرو استشار ابنيه عبد الله بن عمرو و محمد بن عمرو فقال لهما ما تريان فقال عبد الله أرى أن رسول الله ص قبض و هو عنك راض و الخليفتان من بعده و قتل عثمان و أنت عنه غائب فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة و لا تزيد على أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة أوشكتما أن تهلكا فتستويا في عقابها و قال محمد أرى أنك شيخ قريش و صاحب أمرها و أن تصرم هذا الأمر و أنت فيه غافل تصاغر أمرك فالحق بجماعة أهل الشام و كن يدا من أيديها طالبا بدم عثمان فإنه سيقوم بذلك بنو أمية. فقال عمرو أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني و أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي و أنا ناظر فلما جنه الليل رفع صوته و أهله يسمعون فقال

(3/55)


تطاول ليلي بالهموم الطوارق و خوف التي تجلو وجوه العوائق و إن ابن هند سألني أن أزوره و تلك التي فيها بنات البوائق أتاه جرير من علي بخطة أمرت عليه العيش ذات مضايق فإن نال مني ما يؤمل رده و إن لم ينله ذل ذل المطابق فو الله ما أدري و ما كنت هكذا أكون و مهمدني فهو سابقي أخادعه إن الخداع دنية أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 63أم أقعد في بيتي و في ذاك راحة لشيخ يخاف الموت في كل شارق و قد قال عبد الله قولا تعلقت به النفس إن لم تقتطعني عوائقي و خالفه فيه أخوه محمد و إني لصلب العود عند الحقفقال عبد الله رحل الشيخ و دعا عمرو غلامه وردان و كان داهيا ماردا فقال ارحل يا وردان ثم قال احطط يا وردان ثم قال ارحل يا وردان احطط يا وردان فقال له وردان خلطت أبا عبد الله أما إنك إن شئت أنبأتك بما في قلبك قال هات ويحك قال اعتركت الدنيا و الآخرة على قلبك فقلت علي معه الآخرة في غير دنيا و في الآخرة عوض من الدنيا و معاوية معه الدنيا بغير آخرة و ليس في الدنيا عوض من الآخرة و أنت واقف بينهما قال قاتلك الله ما أخطأت ما في قلبي فما ترى يا وردان قال أرى أن تقيم في بيتك فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم و إن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك قال الآن لما أشهرت العرب سيري إلى معاوية فارتحل و هو يقول

(3/56)


يا قاتل الله وردانا و قدحته أبدى لعمرك ما في النفس وردان لما تعرضت الدنيا عرضت لها بحرص نفسي و في الأطباع إدهان نفس تعف و أخرى الحرص يغلبها و المرء يأكل تبنا و هو غرثان أما علي فدين ليس يشركه دنيا و ذاك له دنيا و سلط شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 64فاخترت من طمعي دنيا على بصر و ما معي بالذي أختار برهان إني لأعرف ما فيها و أبصره و في أيضا لما أهواه ألوان لكن نفسي تحب العيش في شرف و ليس يرضى بذل العيش إنفسار حتى قدم على معاوية و عرف حاجة معاوية إليه فباعده من نفسه و كايد كل واحد منهما صاحبه. فقال له معاوية يوم دخل عليه أبا عبد الله طرقتنا في ليلتنا ثلاثة أخبار ليس فيها ورد و لا صدر قال و ما ذاك قال منها أن محمد بن أبي حذيفة كسر سجن مصر فخرج هو و أصحابه و هو من آفات هذا الدين و منها أن قيصر زحف بجماعة الروم ليغلب على الشام و منها أن عليا نزل الكوفة و تهيأ للمسير إلينا. فقال عمرو ليس كل ما ذكرت عظيما أما ابن أبي حذيفة فما يتعاظمك من رجل خرج في أشباهه أن تبعث إليه رجلا يقتله أو يأتيك به و إن قاتل لم يضرك و أما قيصر فأهد له الوصائف و آنية الذهب و الفضة و سله الموادعة فإنه إليها سريع و أما علي فلا و الله يا معاوية ما يسوي العرب بينك و بينه في شي ء من الأشياء و إن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش و إنه لصاحب ما هو فيه إلا أن تظلمه هكذا في رواية نصر بن مزاحم ع محمد بن عبيد الله. و روى نصر أيضا عن عمر بن سعد قال قال معاوية لعمرو يا أبا عبد الله إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى الله و شق عصا المسلمين و قتل الخليفة و أظهر الفتنة و فرق شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 65الجماعة و قطع الرحم فقال عمرو من هو قال علي ق و الله يا معاوية ما أنت و علي بحملي بعير ليس لك هجرته و لا سابقته و لا صحبته و لا جهاده و لا فقهه و لا علمه و و الله إن له مع ذلك لحظا في الحرب ليس لأحد غيره و لكني قد تعودت من

(3/57)


الله تعالى إحسانا و بلاء جميلا فما تجعل لي إن شايعتك على حربه و أنت تعلم ما فيه من الغرر و الخطر قال حكمك فقال مصر طعمة فتلكأ عليه معاوية. قال نصر و في حديث غير عمر بن سعد فقال له معاوية يا أبا عبد الله إني أكره لك أن تتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا قال عمرو دعني عنك فقال معاوية إني لو شئت أن أمنيك و أخدعك لفعلت قال عمرو لا لعمر الله ما مثلي يخدع لأنا أكيس من ذلك قال معاوية ادن مني أسارك فدنا منه عمرو ليساره فعض معاوية أذنه و قال هذه خدعة هل ترى في البيت أحدا ليس غيري و غيرك. قلت قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى قول عمرو له دعني عنك كناية عن الإلحاد بل تصريح به أي دع هذا الكلام لا أصل له فإن اعتقاد الآخرة و أنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات. و قال رحمه الله تعالى و ما زال عمرو بن العاص ملحدا ما تردد قط في الإلحاد و الزندقة و كان معاوية مثله و يكفي من تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي و أن معاوية عض أذن عمرو أين هذا من سيرة عمر و أين هذا من أخلاق علي ع و شدته في ذات الله و هما مع ذلك يعيبانه بالدعابة. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 66قال نصر فأنشأ عمرو يقولمعاوي لا أعطيك ديني و لم أنل به منك دنيا فانظرن كيف تصنع فإن تعطني مصرا فأربح بصفقة أخذت بها شيخا يضر و ينفع و ما الدين و الدنيا سواء و إنني لآخذ ما تعطي و رأسي مقنع و لكنني أغضي الجفون و إنني لأخدع نفسي و المخادع يخدع و أعطيك أمرا فيه للملك قوة و ألفيإن زلت النعل أصرع و تمنعني مصرا و ليست برغبة و إني بذا الممنوع قدما لمولعقال شيخنا أبو عثمان الجاحظ كانت مصر في نفس عمرو بن العاص لأنه هو الذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمر فكان لعظمها في نفسه و جلالتها في صدره و ما قد عرفه من أموالها و سعة الدنيا لا يستعظم أن يجعلها ثمنا من دينه و هذا معنى قوله
و إني بذا الممنوع قدما لمولع

(3/58)


قال نصر فقال له معاوية يا أبا عبد الله أ ما تعلم أن مصر مثل العراق قال بلى و لكنها إنما تكون لي إذا كانت لك و إنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق. قال و قد كان أهل مصر بعثوا بطاعتهم إلى علي ع. فلما حضر عتبة بن أبي سفيان قال لمعاوية أ ما ترضى أن تشتري عمرا بمصر شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 67إن هي صفت لك ليتك لا تغلب على الشام فقال معاوية يا عتبة بت عندنا الليلة فلما جن الليل على عتبة رفع صوته ليسمع معاوية و قالأيها المانع سيفا لم يهز إنما ملت على خز و قزإنما أنت خروف ماثل بين ضرعين و صوف لم يجزأعط عمرا إن عمرا تارك دينه اليوم لدنيا لم تحزيا لك الخير فخذ من دره شخبه الأول و ابعد ما غرزو اسحب الذيل و بادر فوقها و انتهزها إن عمرا ينتهزأعطه مصرا و زده مثلها إنما مصر لمن عز فبزو اترك الحرص عليها ضلة و اشبب النار لمقرور يكزإن مصرا لعلي أو لنا يغلب اليوم عليها من عجز

(3/59)


قال فلما سمع معاوية قول عتبة أرسل إلى عمرو فأعطاه مصر فقال عمرو لي الله عليك بذلك شاهد قال نعم لك الله علي بذلك إن فتح الله علينا الكوفة فقال عمرو و اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ. فخرج عمرو من عنده فقال له ابناه ما صنعت قال أعطانا مصر طعمة قالا و ما مصر في ملك العرب قال لا أشبع الله بطونكما إن لم تشبعكما مصر. قال و كتب معاوية له بمصر كتابه و كتب على ألا ينقض شرط طاعة فكتب عمرو على ألا تنقض طاعة شرطا فكايد كل واحد منهما صاحبه. قلت قد ذكر هذا اللفظ أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه الكامل شرح نهج الاغة ج : 2 ص : 68و لم يفسره و تفسيره أن معاوية قال للكاتب اكتب على ألا ينقض شرط طاعة يريد أخذ إقرار عمرو له أنه قد بايعه على الطاعة بيعة مطلقة غير مشروطة بشي ء و هذه مكايدة له لأنه لو كتب ذلك لكان لمعاوية أن يرجع في إعطائه مصر و لم يكن لعمرو أن يرجع عن طاعه و يحتج عليه برجوعه عن إعطائه مصر لأن مقتضى المشارطة المذكورة أن طاعة معاوية واجبة عليه مطلقا سواء أ كانت مصر مسلمة إليه أم لا. فلما انتبه عمرو إلى هذه المكيدة منع الكاتب من أن يكتب ذلك و قال بل اكتب على ألا تنقض طاعة شرطا يريد أخذ إقرار معاوية له بأنه إذا كان أطاعه لا تنقض طاعته إياه ما شارطه عليه من تسليم مصر إليه و هذا أيضا مكايدة من عمرو لمعاوية و منع له من أن يغدر بما أعطاه من مصر قال نصر و كان لعمرو بن العاص عم من بني سهم أريب فلما جاء عمرو بالكتاب مسرورا عجب الفتى و قال أ لا تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش أعطيت دينك و تمنيت دنيا غيرك أ ترى أهل مصر و هم قتلة عثمان يدفعونها إلى معاوية و علي حي و أ تراها إن صارت لمعاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمه في الكتاب فقال عمرو يا ابن أخي إن الأمر لله دون علي و معاوية فقال الفتى

(3/60)


ألا يا هند أخت بني زياد رمي عمرو بداهية البلادرمي عمرو بأعور عبشمي بعيد القعر مخشي الكيادله خدع يحار العقل منها مزخرفة صوائد للفؤادفشرط في الكتاب عليه حرفا يناديه بخدعته المنادي
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 69و أثبت مثله عمرو عليه كلا المرأين حية بطن وادألا يا عمرو ما أحرزت مصرا و لا ملت الغداة إلى الرشادأ بعت الدين بالدنيا خسارا فأنت بذاك من شر العبادفلو كنت الغداة أخذت مصرا و لكن دونها خرط القتادوفدت إلى معاوية بن حرب فكنت بها كفد قوم عادو أعطيت الذي أعطيت منها بطرس فيه نضح من مدادأ لم تعرف أبا حسن عليا و ما نالت يداه من الأعادي عدلت به معاوية بن حرب فيا بعد البياض من السوادو يا بعد الأصابع من سهيل و يا بعد الصلاح من الفسادأ تأمن أن تدال على خدب يحث الخيل بالأسل الحدادينادي بالنال و أنت منه قريب فانظرن من ذا تعادي
فقال عمرو يا ابن أخي لو كنت عند علي لوسعني و لكني الآن عند معاوية قال الفتى إنك لو لم ترد معاوية لم يردك و لكنك تريد دنياه و هو يريد دينك و بلغ معاوية قول الفتى فطلبه فهرب فلحق بعلي ع فحدثه أمره فسر به و قربه. قال و غضب مروان و قال ما بالي لا أشتري كما اشتري عمرو فقال معاوية إنما يشترى الرجال لك
فلما بلغ عليا ع ما صنع معاوية قال
يا عجبا لقد سمعت منكرا كذبا على الله يشيب الشعرايسترق السمع و يعشي البصرا ما كان يرضى أحمد لو أخبرا

(3/61)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 70أن يقرنوا وصيه و الأبترا شاني الرسول و اللعين الأخزراكلاهما في جنده قد عسكرا قد باع هذا دينه فأفجرامن ذا بدنيا بيعه قد خسرا بملك مصر أن أصاب الظفراإني إذا الموت دنا و حضرا شمرت ثوبي و دعوت قنبراقدم لوائي لا تؤخر حذرا لا يدفع حذار ما قد قدرالما رأيت الموت موتا أحمرا عبأت همدان و عبوا حميراحي يمان يعظمون الخطرا قرن إذا ناطح قرنا كسراقل لابن حرب لا تدب الخمرا أرود قليلا أبد منك الضجرالا تحسبني يا ابن هند غمرا و سل بنا بدرا معا و خيبرايوم جعلناكم ببدر جزرا لو أن عندي يا ابن هند جعفراأو حمزة القرم الهمام الأزهرا رأت قريش نجم ليل ظهرا

(3/62)


. قال نصر فلما كتب الكتاب قال معاوية لعمرو ما ترى الآن قال أمض الرأي الأول فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمد بن أبي حذيفة فأدركه فقتله و بعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه ثم قال ما ترى في علي قال أرى فيه شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 71خيرا إنه قد أتاك في طلبلبيعة خير أهل العراق و من عند خير الناس في أنفس الناس و دعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد و رأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي و هو عدو لجرير المرسل إليك فابعث إليه و وطن له ثقاتك فليفشوا في الناس أن عليا قتل عثمان و ليكونوا أهل رضا عند شرحبيل فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب و إن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشي ء أبدا. فكتب إلى شرحبيل أن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي بن أبي طالب بأمر مفظع فاقدم. و دعا معاوية يزيد بن أسد و بسر بن أرطاة و عمرو بن سفيان و مخارق بن الحارث الزبيدي حمزة بن مالك و حابس بن سعد الطائي و هؤلاء رءوس قحطان و اليمن و كانوا ثقات معاوية و خاصته و بني عم شرحبيل بن السمط فأمرهم أن يلقوه و يخبروه أن عليا قتل عثمان فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل و هو بحمص استشار أهل اليمن فاختلفوا عليه فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي و هو صاحب معاذ بن جبل و ختنه و كان أفقه أهل الشام فقال يا شرحبيل بن السمط إن الله لم يزل يزيدك خيرا منذ هاجرت إلى اليوم و إنه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس و إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم إنه قد ألقي إلى معاوية أن عليا قتل عثمان و لهذا يريدك فإن كان قتله فقد بايعه المهاجرون و الأنصار و هم الحكام على الناس و إن لم يكن قتله فعلام تصدق معاوية عليه لا تهلكن نفسك و قومك فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير فسر إلى علي فبايعه عن شامك و قومك فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية فكتب إليه عياض الثمالي و كان ناسكا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 7يا شرح

(3/63)


يا ابن السمط إنك بالغ بود علي ما تريد من الأمرو يا شرح إن الشام شامك ما بها سواك فدع عنك المضلل من فهرفإن ابن هند ناصب لك خدعة تكون علينا مثل راغية البكرفإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا هنيئا له و الحرب قاصمة الظهرفلا تبغين حرب العراق فإنها تحرم أطهار النساء من الذعرو إن عليا خير من وطئ الثرى من الهاشميين المداريك للوترله في رقاب الناس عهد و ذمة كعهد أبي حفص و عهد أبي بكرفبايع و لا ترجع على العقب كافرا أعيذك بالله العزيز من الكفرو لا تسمعن قول الطغاة فإنهم يريدون أن يلقوك في لجة البحرو ما ذا عليهم أن تطاعن دونهم عليا بأطراف المثقفة السمرفإن غلبوا كانوا علينا أئمة و كنا بحمد الله من ولد الطهرو إن غلبوا لم يصل بالخطب غيرنا و كان علي حربنا آخر الدهريهون على عليا لؤي بن غالب دماء بني قحطان في ملكهم تجري فدع عنك عثمان بن عفان إنما لك الخبر لا تدري بأنك لا تدي على أي حال كان مصرع جنبه فلا تسمعن قول الأعيور أو عمروقال فلما قدم شرحبيل على معاوية أمر الناس أن يتلقوه و يعظموه فلما شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 73دخل على معاوية تكلم معاوية فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا شرحبيل إن جرير بن عبد الله قدم علينا يدعونا إلى بيعة علي و علي خير الناس لو لا أنه قتل عثمان بن عفان ود حبست نفسي عليك و إنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا و أكره ما كرهوا. فقال شرحبيل أخرج فأنظر فلقيه هؤلاء النفر الموطئون له فكلهم أخبره أن عليا قتل عثمان فرجع مغضبا إلى معاوية فقال يا معاوية أبى الناس إلا أن عليا قتل عثمان و الله إن بايعت له لنخرجنك من شامنا أو لنقتلنك فقال معاوية ما كنت لأخالف عليكم ما أنا إلا رجل من أهل الشام قال فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذن فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق و أن الشام كله مع شرحبيل و كتب إلى علي ع ما سنورده فيما بعد إن شاء الله تعالى

(3/64)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 2774- و من خطبة له عأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَ هُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَ دِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ وَ جُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَ شَمِلَهُ الْبَلَاءُ وَ دُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَ الْقَمَاءَةِ وَ ضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ وَ أُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَ سِيمَ الْخَسْفَ وَ مُنِعَ النَّصَفَ أَلَا وَ إِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا وَ نَهَاراً وَ سِرّاً وَ إِعْلَاناً وَ قُلْتُ لَكُمْ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ فَهَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ وَ قَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وَ أَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَ الْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَا وَ قَلَائِدَهَا وَ رُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ وَ الِاسْتِرْحَامِ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ وَ لَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً فَيَا عَجَباً عَجَباً وَ اللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَ يَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ

(3/65)


حَقِّكُمْ فَقُبْحاً لَكُمْ وَ تَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 75عَلَيْكُمْ وَ لَا تُغِيرُونَ وَ تُغْزَوْنَ وَ لَا تَغْزُونَ وَ يُعْصَى اللَّهُ وَ تَرْضَوْنَ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ وَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَ الْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَ الْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَ اللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَ لَا رِجَالَ حُلُومُ الْأَطْفَالِ وَ عُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَ لَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً وَ اللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وَ أَعْقَبَتْ سَدَماً قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلَاتُمْ قَلْبِي قَيْحاً وَ شَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وَ جَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً وَ أَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَ الْخِذْلَانِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَ لَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ لِلَّهِ أَبُوهُمْ وَ هَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً وَ أَقْدَمُ فِيهَا مُقَاماً مِنِّي لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَ مَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ وَ هَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ وَ لَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ

(3/66)


هذه الخطبة من مشاهير خطبه ع قد ذكرها كثير من الناس و رواها أبو العباس المبرد في أول الكامل و أسقط من هذه الرواية ألفاظا و زاد فيها ألفاظا و قال في أولها إنه انتهى إلى علي ع أن خيلا وردت الأنبار لمعاوية فقتلوا عاملا له شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 76يقال له ان بن حسان فخرج مغضبا يجر رداءه حتى أتى النخيلة و اتبعه الناس فرقي رباوة من الأرض فحمد الله و أثنى عليه و صلى على نبيه ص
ثم قال أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل و سيما الخسف
و قال في شرح ذلك قوله و سيما الخسف هكذا حدثونا به و أظنه سيم الخسف من قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ و قال فإن نصرنا ما سمعناه فسيما الخسف تأويله علامة الخسف قال الله تعالى سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ و قال يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ و سيما مقصور و في معناه سيمياء ممدود قال الشاعر
غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر

(3/67)


و نحن نقول إن السماع الذي حكاه أبو العباس غير مرضي و الصحيح ما تضمنه نهج البلاغة و هو سيم الخسف فعل ما لم يسم فاعله و الخسف منصوب لأنه مفعول و تأويله أولي الخسف و كلف إياه و الخسف الذل و المشقة. و أيضا فإن في نهج البلاغة لا يمكن أن يكون إلا كما اخترناه لأنه بين أفعال متعددة بنيت للمفعول به و هي ديث و ضرب و أديل و منع شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 77و لا يمكن أن يكون ما بين هذه الأفعال معطوفا عليها إلا مثلها و لا يجوز أن يكون اسما. و أما قوله ع و هو لباس التقوى فهو لفظة مأخوذة من الكتاب العزيز قال الله سبحانه دْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى. و الجنة ما يجتن به أي يستتر كالدرع و الحجفة. و تركه رغبة عنه أي زهدا فيه رغبت عن كذا ضد رغبت في كذا. و ديث بالصغار أي ذلل بعير مديث أي مذلل و منه الديوث الذي لا غيرة له كأنه قد ذلل حتى صار كذلك. و الصغار الذل و الضيم. و القماء بالمد مصدر قمؤ الرجل قماء و قماءة أي صار قميئا و هو الصغير الذليل فأما قمأ بفتح الميم فمعناه سمن و مصدره القموء و القموءة. و روى الراوندي و ديث بالصغار و القما بالقصر و هو غير معروف. و قوله ع و ضرب على قلبه بالإسهاب فالإسهاب هاهنا هو ذهاب العقل و يمكن أن يكون من الإسهاب الذي هو كثرة الكلام كأنه عوقب بأن يكثر كلامه فيما لا فائدة تحته. قوله و أديل الحق منه بتضييع الجهاد قد يظن ظان أنه يريد ع و أديل الحق منه بأن أضيع جهاده كالباءات المتقدمة و هي قوله و ديث بالصغار و ضرب على قلبه بالإسهاب و ليس كما ظن بل المراد و أديل الحق منه شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 78لأجل تضييعه الجهاد فالباء هاهنا للسببية كقوله تعالى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ. و النصف الإنصاف و عقر دارهم بالضم أصل دارهم و العقر الأصل و منه العقاللنخل كأنه أصل المال و تواكلتم من وكلت الأمر إليك و وكلته إلي أي لم

(3/68)


يتوله أحد منا و لكن أحال به كل واحد على الآخر و منه رجل وكل أي عاجز يكل أمره إلى غيره و كذلك وكله. و تخاذلتم من الخذلان. و شنت عليكم الغارات فرقت و ما كان من ذلك متفرقا نحو إرسال الماء على الوجه دفعة بعد دفعة فهو بالشين المعجمة و ما كان أرسالا غير متفرق فهو بالسين المهملة و يجوز شن الغارة و أشنها. و المسالح جمع مسلحة و هي كالثغر و المرقب
و في الحديث كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب
و المعاهدة ذات العهد و هي الذمية و الحجل الخلخال و من هذا قيل للفرس محجل و سمي القيد حجلا لأنه يكون مكان الخلخال و رعثها شنوفها جمع رعاث بكسر الراء و رعاث جمع رعثة فالأول مثل خمار و خمر و الثاني مثل جفنة و جفان و القلب جمع قلب و هو السوار المصمت و الاسترجاع قوله إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ و الاسترحام أن تناشده الرحم و انصرفوا وافرين أي تامين وفر الشي ء نفسه أي تم فهو وافر و وفرت الشي ء متعد أي أتممته. و في رواية المبرد موفورين قال من الوفر أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ في بدن أو مال. شرح البلاغة ج : 2 ص : 79
و في رواية المبرد أيضا فتواكلتم و تخاذلتم و ثقل عليكم قولي وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا
قال أي رميتم به وراء ظهوركم أي لم تلتفتوا إليه يقال في المثل لا تجعل حاجتي منك بظهر أي لا تطرحها غير ناظر إليها قال الفرزدق
تميم بن مر لا تكونن حاجتي بظهر و لا يعيا عليك جوابها
و الكلم الجراح و في رواية المبرد أيضا مات من دون هذا أسفا
و الأسف التحسر و في رواية المبرد أيضا من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم
أي من تعاونهم و تظاهرهم
و في رواية المبرد أيضا و فشلكم عن حقكم

(3/69)


الفشل الجبن و النكول عن الشي ء فقبحا لكم و ترحا دعاء بأن ينحيهم الله عن الخير و أن يخزيهم و يسوءهم. و الغرض الهدف و حمارة القيظ بتشديد الراء شدة حره و يسبخ عنا الحر أي يخف و في الحديث أن عائشة أكثرت من الدعاء على سارق سرق منها شيئا فقال لها النبي ص لا تسبخي عنه بدعائك
و صبارة الشتاء بتشديد الراء شدة برده و لم يرو المبرد هذه اللفظة
و روى إذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قر و صر و إن قلت لكم اغزوهم في الصيف قلتم هذه حمارة القيظ أنظرنا ينصرم عنا الحر
الصر شدة البرد قال تعالى كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ. و لم يرو المبرد حلوم الأطفال و روى عوضها يا طغام الأحلام و قال الطغام من لا معرفة عنده و منه قولهم طغام أهل الشام. و رباب الحجال النساء و الحجال جمع حجلة و هي بيت يزين بالستور و الثياب و الأسرة شرح نهجلبلاغة ج : 2 ص : 80و السدم الحزن و الغيظ و القيح ما يكون في القرحة من صديدها و شحنتم ملأتم. و النغب جمع نغبة و هي الجرعة و التهمام بفتح التاء الهم و كذلك كل تفعال كالترداد و التكرار و التجوال إلا التبيان و التلقاء فإنهما بالكسر. و أنفاسا أي جرعة بعد جرعة يقال أكرع في الإناء نفسين أو ثلاثة. و ذرفت على الستين أي زدت و رواها المبرد نيفت. و روى المبرد في آخرها فقام إليه رجل و معه أخوه فقال يا أمير المؤمنين إني و أخي هذا كما قال الله تعالى رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي فمرنا بأمرك فو الله لننتهين إليه و لو حال بيننا و بينه جمر الغضا و شوك القتاد فدعا لهما بخير و قال و أين تقعان مما أريد ثم نزل
استطراد بذكر كلام لابن نباتة في الجهاد

(3/70)


و اعلم أن التحريض على الجهاد و الحض عليه قد قال فيه الناس فأكثروا و كلهم أخذوا من كلام أمير المؤمنين ع فمن جيد ذلك ما قاله ابن نباتة الخطيب أيها الناس إلى كم تسمعون الذكر فلا تعون و إلى كم تقرعون بالزجر فلا تقلعون كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ و كأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ و عدوكم يعمل شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 81في دياركم عمله و يبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله و صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه و ندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه و هذه البهائم تناضل عن ذمارها و هذه الطير تموت حمية دون أوكارها بلا كتاب أنزل علا و لا رسول أرسل إليها و أنتم أهل العقول و الأفهام و أهل الشرائع و الأحكام تندون من عدوكم نديد الإبل و تدرعون له مدارع العجز و الفشل و أنتم و الله أولى بالغزو إليهم و أحرى بالمغار عليهم لأنكم أمناء الله على كتابه و المصدقون بعقابه و ثوابه خصكم الله بالنجدة و البأس و جعلكم خير أمة أخرجت للناس فأين حمية الإيمان و أين بصيرة الإيقان و أين الإشفاق من لهب النيران و أين الثقة بضمان الرحمن فقد قال الله عز و جل في القرآن بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فاشترط عليكم التقوى و الصبر و ضمن لكم المعونة و النصر أ فتتهمونه في ضمانه أم تشكون في عدله و إحسانه فسابقوا رحمكم الله إلى الجهاد بقلوب نقية و نفوس أبية و أعمال رضية و وجوه مضية و خذوا بعزائم التشميز و اكشفوا عن رءوسكم عار التقصير و هبوا نفوسكم لمن هو أملك بها منكم و لا تركنوا إلى الجزع فإنه لا يدفع الموت عنكم لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا فالجهاد الجهاد أيها الموقنون و الظفر الظفر أيها الصابرون و الجنة الجنة أيها الراغبون و النار النار أيها الراهبون فإن الجهاد أثبت قواعد الإيمان و أوسع أبواب الرضوان و أرفع

(3/71)


درجات الجنان و إن من ناصح الله لبين منزلتين مرغوب فيهما مجمع على تفضيلهما إما السعادة بالظفر في العاجل و إما الفوز بالشهادة في الأجل و أكره المنزلتين إليكم أعظمهما نعمة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص 82عليكم فانصروا الله فإن نصره حرز من الهلكات حريز وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. هذا آخر خطبة ابن نباتة فانظر إليها و إلى خطبته ع بعين الإنصاف تجدها بالنسبة إليها كمخنث بالنسبة إلى فحل أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد و انظر ما عليها من أثر التوليد و شين التكلف و فجاجة كثير من الألفاظ أ لا ترى إلى فجاجة قوله كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ و كأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ و كذلك ليس يخفى نزول قوله تندون من عدوكم نديد الإبل و تدرعون له مدارع العجز و الفشل. و فيها كثير من هذا الجنس إذا تأمله الخبير عرفه و مع هذا فهي مسروقة من كلام أمير المؤمنين ع أ لا ترى أن قوله ع أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة قد سرقه ابن نباتة فقال فإن الجهاد أثبت قواعد الإيمان و أوسع أبواب الرضوان و أرفع درجات الجنان و قوله ع من اجتماع هؤلاء على باطلهم و تفرقكم عن حقكم سرقه أيضا فقال صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه و ندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه و قوله ع قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم إلى آخره سرقه أيضا فقال كم تسمعون الذكر فلا تعون و تقرعون بالزجر فلا تقلعون و قوله ع حتى شنت عليكم الغارات و ملكت عليكم الأوطان سرقه أيضا و قال و عدوكم يعمل في دياركم عمله و يبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله و أما باقي خطبة ابن نباتة فمسروق من خطب لأمير المؤمنين ع أخر سيأتي ذكرها.

(3/72)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 83و اعلم أني أضرب لك مثلا تتخذه دستورا في كلام أمير المؤمنين ع و كلام الكتاب و الخطباء بعده كابن نباتة و الصابي و غيرهما انظر نسبة شعر أبي تمام و البحتري و أبي نواس و مسلم إلى شعر إمرئ القيس و النابغة و زهير و الأعشى هل إذا تأم أشعار هؤلاء و أشعار هؤلاء تجد نفسك حاكمة بتساوي القبيلين أو بتفضيل أبي نواس و أصحابه عليهم ما أظن أن ذلك مما تقوله أنت و لا قاله غيرك و لا يقوله إلا من لا يعرف علم البيان و ماهية الفصاحة و كنه البلاغة و فضيلة المطبوع على المصنوع و مزية المتقدم على المتأخر فإذا أقررت من نفسك بالفرق و الفضل و عرفت فضل الفاضل و نقص الناقص فاعلم أن نسبة كلام أمير المؤمنين ع إلى هؤلاء هذه النسبة بل أظهر لأنك تجد في شعر إمرئ القيس و أصحابه من التعجرف و الكلام الحوشي و اللفظ الغريب المستكره شيئا كثيرا و لا تجد من ذلك في كلام أمير المؤمنين ع شيئا و أكثر فساد الكلام و نزوله إنما هو باستعمال ذلك. فإن شئت أن تزداد استبصارا فانظر القرآن العزيز و اعلم أن الناس قد اتفقوا على أنه في أعلى طبقات الفصاحة و تأمله تأملا شافيا و انظر إلى ما خص به من مزية الفصاحة و البعد عن التقعير و التقعيب و الكلام الوحشي الغريب و انظر كلام أمير المؤمنين ع فإنك تجده مشتقا من ألفاظه و مقتضبا من معانيه و مذاهبه و محذوا به حذوه و مسلوكا به في منهاجه فهو و إن لم يكن نظيرا و لا ندا يصلح أن يقال إنه ليس بعده كلام أفصح منه و لا أجزل و لا أعلى و لا أفخم و لا أنبل إلا أن يكون كلام ابن عمه ع و هذا أمر لا يعلمه إلا من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة و ليس كل الناس يصلح لانتقاد الجوهر بل و لا لانتقاد الذهب و لكل صناعة أهل و لكل عمل رجال. و من خطب ابن نباتة التي يحرض فيها على الجهاد

(3/73)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 84ألا و إن الجهاد كنز وفر الله منه أقسامكم و حرز طهر الله به أجسامكم و عز أظهر الله به إسلامكم فإن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم فانفروا رحمكم الله جميعا و ثبات و شنوا على أعدائكم الغارات و تمسكوا بعصم الإقدام و معاقل الثباو أخلصوا في جهاد عدوكم حقائق النيات فإنه و الله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا و لا قعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا و اعلموا أنه لا يصلح الجهاد بغير اجتهاد كما لا يصلح السفر بغير زاد فقدموا مجاهدة القلوب قبل مشاهدة الحروب و مغالبة الأهواء قبل محاربة الأعداء و بادروا بإصلاح السرائر فإنها من أنفس العدد و الذخائر و اعتاضوا من حياة لا بد من فنائها بالحياة التي لا ريب في بقائها و كونوا ممن أطاع الله و شمر في مرضاته و سابقوا بالجهاد إلى تملك جناته فإن للجنة بابا حدوده تطهير الأعمال و تشييده إنفاق الأموال و ساحته زحف الرجال و طريقه غمغمة الأبطال و مفتاحه الثبات في معترك القتال و مدخله من مشرعة الصوارم و النبال. فلينظر الناظر في هذا الكلام فإنه و إن كان قد أخذ من صناعة البديع بنصيب إلا أنه في حضيض الأرض و كلام أمير المؤمنين ع في أوج السماء فإنه لا ينكر لزومه فيه لما لا يلزمه اقتدارا و قوة و كتابة نحو قوله كنز فإنه بإزاء حرز و عز و قوله مشاهدة بإزاء قوله مجاهدة و مغالبة بإزاء محاربة و حدوده بإزاء تشييده لكن مثله بالقياس إلى كلام أمير المؤمنين ع كدار مبنية من اللبن و الطين مموهة الجدران بالنقوش و التصاوير مزخرفة بالذهب من فوق الجص و الإسفيداج بالقياس إلى دار مبنية بالصخر الأصم الصلد المسبوك بينه عمد الرصاص و النحاس المذاب و هي مكشوفة غير مموهة و لا مزخرفة فإن بين هاتين الدارين بونا بعيدا و فرقا عظيما و انظر قوله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا كيف تصيح من بين الخطبة صياحا و تنادي على نفسها نداء فصيحا و تعلم سامعها أنها ليست من

(3/74)


المعدن شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 85الذي خرج باقي الكلام منه و لا من الخاطر الذي صدر ذلك السجع عنه و لعمر الله لقد جملت الخطبة و حسنتها وزانتها و ما مثلها فيها إلا كآية من الكتاب العزيز يتمثل ب في رسالة أو خطبة فإنها تكون كاللؤلؤة المضيئة تزهر و تنير و تقوم بنفسها و تكتسي الرسالة بها رونقا و تكتسب بها ديباجة. و إذا أردت تحقيق ذلك فانظر إلى السجعة الثانية التي تكلفها ليوازنها بها و هي قوله و لا قعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا فإنك إذا نظرت إليها وجدت عليها من التكلف و الغثاثة ما يقوى عندك صدق ما قلته لك. على أن في كلام ابن نباتة في هذا الفصل ما ليس بجيد و هو قوله و حرز طهر الله به أجسامكم فإنه لا يقال في الحرز إنه يطهر الأجسام و لو قال عوض طهر حصن الله به أجسامكم لكان أليق لكنه أراد أن يقول طهر ليكون بإزاء وفر و بإزاء أظهر فأداه حب التقابل إلى ما ليس بجيد
غارة سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار

(3/75)


فأما أخو غامد الذي وردت خيله الأنبار فهو سفيان بن عوف بن المغفل الغامدي و غامد قبيلة من اليمن و هي من الأزد أزد شنوءة و اسم غامد عمر بن عبد الله بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد و سمي غامدا لأنه كان بين قومه شر فأصلحه و تغمدهم بذلك. روى إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن أبي الكنود قال حدثني سفيان بن عوف الغامدي قال دعاني معاوية فقال إني باعثك في جيش كثيف ذي أداة و جلادة فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 86فتقطعها فإن وجدت بها جندفأغر عليهم و إلا فامض حتى تغير على الأنبار فإن لم تجد بها جندا فامض حتى توغل في المدائن ثم أقبل إلي و اتق أن تقرب الكوفة و اعلم أنك إن أغرت على أهل الأنبار و أهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم و تفرح كل من له فينا هوى منهم و تدعو إلينا كل من خاف الدوائر فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك و أخرب كل ما مررت به من القرى و احرب الأموال فإن حرب الأموال شبيه بالقتل و هو أوجع للقلب. قال فخرجت من عنده فعسكرت و قام معاوية في الناس فخطبهم فقال أيها الناس انتدبوا مع سفيان بن عوف فإنه وجه عظيم فيه أجر سريعة فيه أوبتكم إن شاء الله ثم نزل. قال فو الذي لا إله غيره ما مرت ثالثة حتى خرجت في ستة آلاف ثم لزمت شاطئ الفرات فأغذذت السير حتى أمر بهيت فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات فمررت بها و ما بها عريب كأنها لم تحلل قط فوطئتها حتى أمر بصندوداء ففروا فلم ألق بها أحدا فأمضي حتى افتتح الأنبار و قد نذروا بي فخرج صاحب المسلحة إلي فوقف لي فلم أقدم عليه حتى أخذت غلمانا من أهل القرية فقلت لهم أخبروني كم بالأنبار من أصحاب علي ع قالوا عدة رجال المسلحة خمسمائة و لكنهم قد تبددوا و رجعوا إلى الكوفة و لا ندري الذي يكون فيها قد يكون مائتي رجل فنزلت

(3/76)


فكتبت أصحابي كتائب ثم أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة فيقاتلهم و الله و يصبر لهم و يطاردهم و يطاردونه في الأزقة فلما رأيت ذلك أنزلت إليهم نحوا من مائتين شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 87و أتبعتهملخيل فلما حملت عليهم الخيل و أمامها الرجال تمشي لم يكن شي ء حتى تفرقوا و قتل صاحبهم في نحو من ثلاثين رجلا و حملنا ما كان في الأنبار من الأموال ثم انصرفت فو الله ما غزوت غزاة كانت أسلم و لا أقر للعيون و لا أسر للنفوس منها و بلغني و الله أنها أرعبت الناس فلا عدت إلى معاوية حدثته الحديث على وجهه فقال كنت عند ظني بك لا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره و إن أحببت توليته وليتك و ليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني. قال فو الله ما لبثنا إلا يسيرا حتى رأيت رجال أهل العراق يأتوننا على الإبل هرابا من عسكر علي ع. قال إبراهيم كان اسم عامل علي ع على مسلحة الأنبار أشرس بن حسان البكري. و روى إبراهيم عن عبد الله بن قيس عن حبيب بن عفيف قال كنت مع أشرس بن حسان البكري بالأنبار على مسلحتها إذ صبحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع الأبصار منها فهالونا و الله و علمنا إذ رأيناهم أنه ليس لنا طاقة بهم و لا يد فخرج إليهم صاحبنا و قد تفرقنا فلم يلقهم نصفنا و ايم الله لقد قاتلناهم فأحسنا قتالهم حتى كرهونا ثم نزل صاحبنا و هو يتلو قوله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ثم قال لنا من كان لا يريد لقاء الله و لا يطيب نفسا بالموت فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم فإن قتالنا إياهم شاغل لهم عن طلب هارب و من أراد ما عند الله فما عند الله خير للأبرار ثم نزل في ثلاثين رجلا فهممت بالنزول معه ثم أبت نفسي و استقدم هو و أصحابه فقاتلوا حتى قتلوا رحمهم الله و انصرفنا نحن منهزمين.

(3/77)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 88قال إبراهيم و قدم علج من أهل الأنبار على علي ع فأخبره الخبر فصعد المنبر فخطب الناس و قال إن أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار و هو معتز لا يخاف ما كان و اختار ما عند الله على الدنيا فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم فإن أصبتم منهم طرفا كلتموهم عن العراق أبدا ما بقوا. ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم فلم ينبس أحد منهم بكلمة فلما رأى صمتهم نزل و خرج يمشي راجلا حتى أتى النخيلة و الناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم فقالوا ارجع يا أمير المؤمنين و نحن نكفيك فقال ما تكفونني و لا تكفون أنفسكم فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله فرجع و هو واجم كئيب و دعا سعيد بن قيس الهمداني فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف و ذلك أنه خبر أن القوم جاءوا في جمع كثيف. فخرج سعيد بن قيس على شاطئ الفرات في طلب سفيان بن عوف حتى إذا بلغ عانات سرح أمامه هانئ بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم حتى دخل أداني أرض قنسرين و قد فاتوه فانصرف. قال و لبث علي ع ترى فيه الكآبة و الحزن حتى قدم عليه سعيد بن قيس و كان تلك الأيام عليلا فلم يقو على القيام في الناس بما يريده من القول فجلس بباب السدة التي تصل إلى المسجد و معه ابناه حسن و حسين ع و عبد الله بن جعفر و دعا سعدا مولاه فدفع إليه الكتاب و أمره أن يقرأه على الناس فقام سعد بحيث يستمع علي ع صوته و يسمع ما يرد الناس عليه ثم قرأ هذه الخطبة التي نحن في شرحها. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 89و ذكر أن القائم إليه العارض نفسه عه جندب بن عفيف الأزدي هو و ابن أخ له يقال له عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف. قال ثم أمر الحارث الأعور الهمداني فنادى في الناس أين من يشتري نفسه لربه و يبيع دنياه بآخرته أصبحوا غدا بالرحبة إن شاء الله و لا يحضر إلا صادق النية في السير معنا و الجهاد لعدونا فأصبح و ليس بالرحبة إلا دون ثلاثمائة فلما عرضهم قال لو كانوا ألفا

(3/78)


كان لي فيهم رأي. و أتاه قوم يعتذرون فقال وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ و تخلف المكذبون و مكث أياما باديا حزنه شديد الكآبة ثم جمع الناس فخطبهم فقال أما بعد أيها الناس فو الله لأهل مصركم في الأمصار أكثر من الأنصار في العرب و ما كانوا يوم أعطوا رسول الله ص أن يمنعوه و من معه من المهاجرين حتى يبلغ رسالات ربه إلا قبيلتين قريبا مولدهما ما هما بأقدم العرب ميلادا و لا بأكثرهم عددا فلما آووا النبي ص و أصحابه و نصروا الله و دينه رمتهم العرب عن قوس واحدة فتحالفت عليهم اليهود و غزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة فتجردوا لنصرة دين الله و قطعوا ما بينهم و بين العرب من الحبائل و ما بينهم و بين اليهود من الحلف و نصبوا لأهل نجد و تهامة و أهل مكة و اليمامة و أهل الحزن و السهل و أقاموا قناة الدين و صبروا تحت حماس الجلاد حتى دانت العرب لرسول الله ص و رأى منهم قرة العين قبل أن يقبضه الله عز و جل إليه و أنتم اليوم في الناس أكثر من أولئك ذلك الزمان في العرب. فقام إليه رجل آدم طوال فقال ما أنت بمحمد و لا نحن بأولئك الذين

(3/79)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 90ذكرت فقال ع أحسن سمعا تحسن إجابة ثكلتكم الثواكل ما تزيدونني إلا غما هل أخبرتكم أني محمد و أنكم الأنصار إنما ضربت لكم مثلا و إنما أرجو أن تتأسوا بهم. ثم قام رجل آخر فقال ما أحوج أمير المؤمنين اليوم و أصحابه إلى أصحاب النهروان تكلم الناس من كل ناحية و لغطوا و قام رجل منهم فقال بأعلى صوته استبان فقد الأشتر على أهل العراق أشهد لو كان حيا لقل اللغط و لعلم كل امرئ ما يقول. فقال علي ع هبلتكم الهوابل أنا أوجب عليكم حقا من الأشتر و هل للأشتر عليكم من الحق إلا حق المسلم على المسلم. فقام حجر بن عدي الكندي و سعيد بن قيس الهمداني فقالا لا يسوؤك الله يا أمير المؤمنين مرنا بأمرك نتبعه فو الله ما نعظم جزعا على أموالنا إن نفدت و لا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك فقال تجهزوا للمسير إلى عدونا. فلما دخل منزله و دخل عليه وجوه أصحابه قال لهم أشيروا علي برجل صليب ناصح يحشر الناس من السواد فقال له سعيد بن قيس يا أمير المؤمنين أشير عليك بالناصح الأريب الشجاع الصليب معقل بن قيس التميمي قال نعم. ثم دعاه فوجهه فسار فلم يقدم حتى أصيب أمير المؤمنين ع

(3/80)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 2891- و من خطبة له عأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَ آذَنَتْ بِوَدَاعٍ وَ إِنَّ الآْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَ أَشْرَفَتْ بِاطِّلَاعٍ أَلَا وَ إِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ وَ غَداً السِّبَاقَ وَ السَبَقَةُ الْجَنَّةُ وَ الْغَايَةُ النَّارُ أَ فَلَا تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ أَ لَا عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ أَلَا وَ إِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ فَمَنْ عَمِلَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ وَ لَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ وَ مَنْ قَصَّرَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ خَسِرَ عَمَلُهُ وَ ضَرَّهُ أَجَلُهُ أَلَا فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ أَلَا وَ إِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا وَ لَا كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا أَلَا وَ إِنَّهُ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ الْحَقُّ يَضُرُّهُ الْبَاطِلُ وَ مَنْ لَا يَسْتَقِيمُ بِهِ الْهُدَى يَجُرُّ بِهِ الضَّلَالُ إِلَى الرَّدَى أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ وَ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ وَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَ طُولُ الْأَمَلِ فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تُحْرِزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً

(3/81)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 92 قال الرضي رحمه الله و أقول إنه لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا و يضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام و كفى به قاطعا لعلائق الآمال و قادحا زناد الاتعاظ و الازدجار و من أعجبه قوله ع ألا و إن اليوم المضمار و غدا اباق و السبقة الجنة و الغاية النار فإن فيه مع فخامة اللفظ و عظم قدر المعنى و صادق التمثيل و واقع التشبيه سرا عجيبا و معنى لطيفا و هو قوله ع و السبقة الجنة و الغاية النار فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين و لم يقل السبقة النار كما قال السبقة الجنة لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب و غرض مطلوب و هذه صفة الجنة و ليس هذا المعنى موجودا في النار نعوذ بالله منها فلم يجز أن يقول و السبقة النار بل قال و الغاية النار لأن الغاية قد ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء إليها و من يسره ذلك فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا فهي في هذا الموضع كالمصير و المآل قال الله تعالى قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ و لا يجوز في هذا الموضع أن يقال فإن سبقتكم إلى النار فتأمل ذلك فباطنه عجيب و غوره بعيد لطيف و كذلك أكثر كلامه ع. و في بعض النسخ و قد جاء في رواية أخرى و السبقة الجنة بضم السين و السبقة عندهم اسم لما يجعل للسابق إذا سبق من مال أو عرض و المعنيان متقاربان لأن ذلك لا يكون جزاء على فعل الأمر المذموم و إنما يكون جزاء على فعل الأمر المحمود
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 93آذنت أعلمت و المضمار منصوب لأنه اسم إن و اليوم ظرف و موضعه رفع لأنه خبر إن و ظرف الزمان يجوز أن يكون خبرا عن الحدث و المضمار و هو الزمان الذي تضمر فيه الخيل للسباق و الضمر الهزال و خفة اللحم و إعراب قوله و غدا السباق على هذا وجه أيضا. و يجوز الرفع في الموضعين على أن تجعلهما خبر إن بأنفسهما. و قوله ع أ لا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه أخذه ابن نباتة مصالتة

(3/82)


فقال في بعض خطبه أ لا عامل لنفسه قبل حلول رمسه
قوله ألا فاعملوا في الرغبة يقول لا ريب أن أحدكم إذا مسه الضر من مرض شديد أو خوف مقلق من عدو قاهر فإنه يكون شديد الإخلاص و العبادة و هذه حال من يخاف الغرق في سفينة تتلاعب بها الأمواج فهو ع أمر بأن يكون المكلف عاملا أيام عدم الخوف مثل عمله و إخلاصه و انقطاعه إلى الله أيام هذه العوارض. قوله لم أر كالجنة نام طالبها يقول إن من أعجب العجائب من يؤمن بالجنة كيف يطلبها و ينام و من أعجب العجائب من يوقن بالنار كيف لا يهرب منها و ينام أي لا ينبغي أن ينام طالب هذه و لا الهارب من هذه. و قد فسر الرضي رحمه الله تعالى معنى قوله و السبقة الجنة
نبذ من أقوال الصالحين و الحكماء

(3/83)


و نحن نورد في هذا الفصل نكتا من مواعظ الصالحين يرحمهم الله تناسب هذا المأخذ فمما يؤثر عن أبي حازم الأعرج كان في أيام بني أمية قوله لعمر بن عبد العزيز شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 94و قد قال له يا أبا حازم إني أخاف الله مما قد دخلت فيه فقال لست أخاف عليك أن اف و إنما أخاف عليك ألا تخاف. و قيل له كيف يكون الناس يوم القيامة قال أما العاصي فآبق قدم به على مولاه و أما المطيع فغائب قدم على أهله. و من كلامه إنما بيني و بين الملوك يوم واحد أما أمس فلا يجدون لذته و لا أجد شدته و أما غدا فإني و إياهم منه على خطر و إنما هو اليوم فما عسى أن يكون. و من كلامه إذا تتابعت عليك نعم ربك و أنت تعصيه فاحذره. و قال له سليمان بن عبد الملك عظني فقال عظم ربك أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك. و قيل له ما مالك قال شيئان لا عدم بي معهما الرضا عن الله و الغنى عن الناس. و من كلامه عجبا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة و يتركون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة. و من كلامه إن عوفينا من شر ما أعطانا لم يضرنا فقد ما زوي عنا. و من كلامه نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب و نحن لا نتوب حتى نموت. و لما ثقل عبد الملك رأى غسالا يلوي بيده ثوبا فقال وددت أني كنت غسالا مثل هذا أعيش بما أكتسب يوما فيوما فذكر ذلك لأبي حازم فقال الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه و لا نتمنى عند الموت ما هم فيه. و من كلام غيره من الصالحين دخل سالم بن عبد الله بن عمر على هشام بن عبد الملك شرح نه البلاغة ج : 2 ص : 95في الكعبة فكلمه هشام ثم قال له سل حاجتك قال معاذ الله أن أسأل في بيت الله غير الله. و قيل لرابعة القيسية لو كلمت أهلك أن يشتروا لك خادما يكفيك مئونة بيتك قالت إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف من لا يملكها. و قال بكر بن عبد الل أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم. عامر بن عبد القيس الدنيا والدة

(3/84)


للموت ناقضة للمبرم مرتجعة للعطية و كل من فيها يجري إلى ما لا يدري و كل مستقر فيها غير راض بها و ذلك شهيد على أنها ليست بدار قرار. باع عتبة بن عبد الله بن مسعود أرضا له بثمانين ألفا فتصدق بها فقيل له لو جعلت هذا المال أو بعضه ذخرا لولدك قال بل أجعل هذا المال ذخرا لي و أجعل الله تعالى ذخرا لولدي. رأى إياس بن قتادة شيبة في لحيته فقال أرى الموت يطلبني و أراني لا أفوته فلزم بيته و ترك الاكتساب فقال له أهله تموت هزالا قال لأن أموت مؤمنا مهزولا أحب إلي من أن أعيش منافقا سمينا. بكر بن عبد الله المزني ما الدنيا ليت شعري أما ما مضى منها فحلم و أما ما بقي فأماني. مورق العجلي خير من العجب بالطاعة ألا تأتي بالطاعة. و من كلامه ضاحك معترف بذنبه خير من باك مدل على ربه. و من كلامه أوحى الله إلى الدنيا من خدمني فاخدميه و من خدمك فاستخدميه.

(3/85)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 96قيل لرابعة هل عملت عملا ترين أنه يقبل منك قالت إن كان فخوفي أن يرد علي. نظر حبيب إلى مالك بن دينار و هو يقسم صدقته علانية فقال يا أخي إن الكنوز لتستر فما بال هذا يجهر به. قال عمرو بن عبيد للمنصور إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فتر نفسك منه ببعضها و إن هذا الذي أصبح اليوم في يدك لو كان مما يبقى على الناس لبقي في يد من كان قبلك و لم يصر إليك فاحذر ليلة تمخض بيوم لا ترى بعده إلا يوم القيامة فبكى المنصور و قال يا أبا عثمان سل حاجة قال حاجتي ألا تعطيني حتى أسألك و لا تدعني حتى أجيئك قال إذن لا نلتقي أبدا قال فذاك أريد. كان يقال الدنيا جاهلة و من جهلها أنها لا تعطي أحدا ما يستحقه إما أن تزيده و إما أن تنقصه. قيل لخالد بن صفوان من أبلغ الناس قال الحسن لقوله فضح الموت الدنيا. قيل لبعض الزهاد كيف سخط نفسك على الدنيا قال أيقنت أني خارج منها كرها فأحببت أن أخرج منها طوعا. مر إبراهيم بن أدهم بباب أبي جعفر المنصور فنظر السلاح و الحرس فقال المريب خائف. قيل لزاهد ما أصبرك على الوحدة قال كلا أنا أجالس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه و إذا شئت أن أناجيه صليت. كان يقال خف الله لقدرته عليك و استح منه لقربه منك شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 97قال الرشيد للفضيل بن عياض ما أزهدك قال أنت يا هارون أزهد مني لأني زهدت في دنيا فانية و زهدت في آخرة باقية. و قال الفضيل يا ربي إني لأستحيي أن أقول توكلت عليك لو توكلت عليك ما خفت إلا منك و لا رجوت إلا إياك. عوتب ب الزهاد على كثرة التصدق بماله فقال لو أراد رجل أن ينتقل من دار إلى دار ما أظنه كان يترك في الدار الأولى شيئا. قال بعض الملوك لبعض الزهاد ما لك لا تغشى بابي و أنت عبدي قال لو علمت أيها الملك لعلمت أنك عبد عبدي لأني أملك الهوى و الهوى يملكك. دخل متظلم على سليمان بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين اذكر يوم الأذان قال و ما

(3/86)


يوم الأذان قال اليوم الذي قال تعالى فيه فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فبكى سليمان و أزال ظلامته. سئل الفضيل بن عياض عن الزهد فقال يجمعه حرفان في كتاب الله لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ. كتب يحيى بن خالد من الحبس إلى الرشيد ما يمر يوم من نعيمك إلا و يمر يوم من بؤسي و كلاهما إلى نفاد. قيل لحاتم الأصم علام بنيت أمرك قال على أربع خصال علمت أن رزقي لا يأكله غيري فلم أهتم به و علمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به و علمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره و علمت أني بعين الله في كل حال فاستحييت منه. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 98نظر بعض الصالحين إلى رجل يفحش في قوله فقال يا هذا إنما تملي على حافظيك كتابا إلى ربك فانظر ما دعه. كان يقال مثل الدنيا و الآخرة مثل ضرتين لبعل واحد إن أرضى هذه أسخط الأخرى. قيل لبعضهم ما مثل الدنيا قال هي أقل من أن يكون لها مثل. دخل لص على بعض الزهاد الصالحين فلم ير في داره شيئا فقال له يا هذا أين متاعك قال حولته إلى الدار الأخرى. قيل للربيع بن خيثم يا ربيع ما نراك تذم أحدا فقال ما أنا عن نفسي براض فأتحول من ذمي إلى ذم الناس إن الناس خافوا الله على ذنوب العباد و أمنوه على ذنوبهم. قال عيسى بن موسى لأبي شيبة القاضي لم لا تأتينا قال إن قربتني فتنتني و إن أقصيتني أحزنتني و ليس عندي ما أخافك عليه و لا عندك ما أرجوك له. من كلام بعض الزهاد تأمل ذا الغنى ما أشد نصبه و أقل راحته و أخس من ماله حظه و أشد من الأيام حذره هو بين سلطان يتهضمه و عدو يبغي عليه و حقوق تلزمه و أكفاء يحسدونه و ولد يود فراقه قد بعث عليه غناه من سلطانه العنت و من أكفائه الحسد و من أعدائه البغي و من ذوي الحقوق الذم و من الولد الملالة. و من كلام سفيان الثوري يا ابن آدم جوارحك سلاح الله عليك بأيها شاء قتلك. ميمون بن

(3/87)


مهران في قوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ قال إنها لتعزية للمظلوم و وعيد للظالم.
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 99دخل عبد الوارث بن سعيد على مريض يعوده فقال له ما نمت منذ أربعين ليلة فقال يا هذا أحصيت ليالي البلاء فهل أحصيت ليالي الرخاء. بعضهم وا عجباه لمن يفرح بالدنيا فإنما هي عقوبة ذنب. ابن السماك خف الله حتى كأنك لم تطعه قط و ارجه حتىأنك لم تعصه قط. بعضهم العلماء أطباء هذا الخلق و الدنيا داء هذا الخلق فإذا كان الطبيب يطلب الداء فمتى يبرئ غيره. قيل لمحمد بن واسع فلان زاهد قال و ما قدر الدنيا حتى يحمد من يزهد فيها رئي عبد الله بن المبارك واقفا بين مقبرة و مزبلة فقيل له ما أوقفك قال أنا بين كنزين من كنوز الدنيا فيهما عبرة هذا كنز الأموال و هذا كنز الرجال. قيل لبعضهم أتعبت نفسك فقال راحتها أطلب. دخل الإسكندر مدينة فتحها فسأل عمن بقي من أولاد الملوك بها فقيل رجل يسكن المقابر فدعا به فقال ما دعاك إلى لزوم هذه المقابر فقال أحببت أن أميز بين عظام الملوك و عظام عبيدهم فوجدتها سواء فقال هل لك أن تتبعني فأحيا شرفك و شرف آبائك إن كانت لك همة قال همتي عظيمة قال و ما همتك قال حياة لا موت معها و شباب لا هرم معه و غنى لا فقر معه و سرور لا مكروه معه فقال ليس هذا عندي قال فدعني ألتمسه ممن هو عنده. مات ابن لعمر بن ذر فقال لقد شغلني الحزن لك يا بني عن الحزن عليك. كان يقال من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها و لا ينال ما عنده إلا بتركها. و من كلام عبد الله بن شداد أرى دواعي الموت لا تقلع و أرى من مضى لا يرجع شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 100فلا تزهدن في معروف فإن الدهر ذو صروف كم من راغب قد كان مرغوبا إليه و الزمان ذو ألوان من يصحب الزمان ير الهوان و إن غلبت يوما على المال فلا تغلبن علي الحيلة على كل حال و كن أحسن ما تكون في الظاهر حالا أقل ما تكون

(3/88)


في الباطن مآل كان يقال إن مما يعجل الله تعالى عقوبته الأمانة تخان و الإحسان يكفر و الرحم تقطع و البغي على الناس. الربيع بن خيثم لو كانت الذنوب تفوح روائحها لم يجلس أحد إلى أحد. قيل لبعضهم كيف أصبحت قال آسفا على أمسي كارها ليومي متهما لغدي. و قيل لآخر لم تركت الدنيا قال أنفت من قليلها و أنف مني كثيرها و هذا كما قال بعضهم و قد قيل له لم لا تقول الشعر قال يأباني جيده و آبى رديئه. بعض الصالحين لو أنزل الله تعالى كتابا أني معذب رجلا واحدا خفت أن أكونه أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه. مطرف بن الشخير خير الأمور أوساطها و شر السير الحقحقة و هذا الكلام قد روي مرفوعا. يحيى بن معاذ أن لله عليك نعمتين في السراء التذكر و في الضراء التصبر فكن في السراء عبدا شكورا و في الضراء حرا صبورا. دخل ابن السماك على الرشيد فقال له عظني ثم دعا بماء ليشربه فقال له ناشدتك الله لو منعك الله من شربه ما كنت فاعلا قال كنت أفتديه بنصف ملكي قال فاشربه فلما شرب قال ناشدتك الله لو منعك الله من خروجه ما كنت فاعلا قال كنت أفتديه بنصف ملكي قال إن ملكا يفتدى به شربة ماء لخليق ألا ينافس عليه. قال المنصور لعمرو بن عبيد رحمه الله تعالى عظني قال بما رأيت أم بما سمعت

(3/89)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 101قال بما رأيت قال رأيت عمر بن عبد العزيز و قد مات فخلف أحد عشر ابنا و بلغت تركته سبعة عشر دينارا كفن منها بخمسة دنانير و اشتري موضع قبره بدينارين و أصاب كل واحد من ولده دون الدينار ثم رأيت هشام بن عبد الملك و قد مات و خلف عشرذكور فأصاب كل واحد من ولده ألف ألف دينار و رأيت رجلا من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله و رأيت رجلا من ولد هشام يسأل الناس ليتصدقوا عليه. حسان بن أبي سنان ما شي ء أهون من ورع إذا رابك شي ء فدعه. مورق العجلي لقد سألت اللحاجة أربعين سنة ما قضاها و لا يئست منها قيل و ما هي قال ترك ما لا يعنيني. قتادة إن الله ليعطي العبد على نية الآخرة ما يسأله من الدنيا و لا يعطيه على نية الدنيا إلا الدنيا. من كلام محمد بن واسع ليس في النار عذاب أشد على أهلها من علمهم بأنه ليس لكربهم تنفيس و لا لضيقتهم ترفيه و لا لعذابهم غاية و ليس في الجنة نعيم أبلغ من علم أهلها بأن ذلك الملك لا يزول عنهم. قال بعض الملوك لبعض الزهاد أذمم لي الدنيا قال أيها الملك هي الآخذة لما تعطي المورثة بعد ذلك الندم السالبة ما تكسو المورثة بعد ذلك الفضوح تسد بالأراذل مكان الأفاضل و بالعجزة مكان الحزمة تجد في كل من كل خلفا و ترضى بكل من كل بدلا تسكن دار كل قرن قرنا و تطعم سؤر كل قوم قوما. و من كلام الحجاج و كان مع غشمه و إلحاده واعظا بليغا مفوها خطب فقال اللهم أرني الغي غيا فأتجنبه و أرني الهدى هدى فأتبعه و لا تكلني إلى نفسي فأضل شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 102ضلالا بعيدا و الله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بعمامتي هذه و لما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء و قال مالك بن دينار غدوت إلى الجمعة فجلست قريبا من المنبر فصعد الحجاج فسمعته يقول امرؤ زور عمله امرؤ حاسب نفسه امرؤكر فيما يقرؤه في صحيفته و يراه في ميزانه امرؤ كان عند قلبه زاجر و عند

(3/90)


همه آمر امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله فإن قاده إلى طاعة الله تبعه و إن قاده إلى معصية الله كفه إننا و الله ما خلقنا للفناء و إنما خلقنا للبقاء و إنما ننتقل من دار إلى دار. و خطب يوما فقال إن الله أمرنا بطلب الآخرة و كفانا مئونة الدنيا فليته كفانا مئونة الآخرة و أمرنا بطلب الدنيا فقال الحسن ضالة المؤمن خرجت من قلب المنافق. و من الكلام المنسوب إليه و أكثر الناس يروونه
عن أمير المؤمنين ع أيها الناس اقدعوا هذه الأنفس فإنها أسأل شي ء إذا أعطيت و أبخل لشي ء إذا سئلت فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاما و زماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله و عطفها بزمامها عن معصية الله فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب اللهو من كلامه أن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه و يستغفر من ذنبه و يفكر في معاده لجدير أن يطول حزنه و يتضاعف أسفه إن الله كتب على الدنيا الفناء و على الآخرة البقاء فلا بقاء لما كتب عليه الفناء و لا فناء لما كتب عليه البقاء فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة و اقهروا طول الأمل بقصر الأجل. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 103و نقلت من أمالي أبي أحمد العسكري رحمه الله تعالى قال خطب الحجاج يوما فقال أيها الناس قد أصبحتم في أجل منقوص و عمل محفوظ رب دائب مضيع و ساع لغيره و الموت في أعقابكم و النار بين أيدم و الجنة أمامكم خذوا من أنفسكم لأنفسكم و من غناكم لفقركم و مما في أيديكم لما بين أيديكم فكان ما قد مضى من الدنيا لم يكن و كان الأموات لم يكونوا أحياء و كل ما ترونه فإنه ذاهب هذه شمس عاد و ثمود و قرون كثيرة بين ذلك هذه الشمس التي طلعت على التبابعة و الأكاسرة و خزائنهم السائرة بين أيديهم و قصورهم المشيدة ثم طلعت على قبورهم أين الملوك الأولون أين الجبابرة المتكبرون المحاسب الله و الصراط منصوب و جهنم تزفر و تتوقد و أهل الجنة ينعمون هم في روضة يحبرون

(3/91)


جعلنا الله و إياكم من الذين إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً. قال فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول أ لا تعجبون من هذا الفاجر يرقى عتبات المنبر فيتكلم بكلام الأنبياء و ينزل فيفتك فتك الجبارين يوافق الله في قوله و يخالفه في فعله
استطراد بلاغي في الكلام على المقابلة
و أما ما ذكره الرضي رحمه الله تعالى من المقابلة بين السبقة و الغاية فنكته جيدة من علم البيان و نحن نذكر فيها أبحاثا نافعة فنقول إما أن يقابل الشي ء ضده أو ما ليس بضده. فالأول كالسواد و البياض و هو قسمان أحدهما مقابله في اللفظ و المعنى. شرح نهج البلاغة ج2 ص : 104و الثاني مقابله في المعنى لا في اللفظ. أما الأول فكقوله تعالى فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً فالضحك ضد البكاء و القليل ضد الكثير و كذلك قوله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ و من كلام النبي ص خير المال عين ساهرة لعين نائمة
و من كلام أمير المؤمنين ع لعثمان أن الحق ثقيل مري ء و أن الباطل خفيف وبي ء و أنت رجل إن صدقت سخطت و إن كذبت رضيت و كذلك قوله ع لما قالت الخوارج لا حكم إلا لله كلمة حق أريد بها باطل

(3/92)


و قال الحجاج لسعيد بن جبير لما أراد قتله ما اسمك فقال سعيد بن جبير فقال بل شقي بن كسير. و قال ابن الأثير في كتابه المسمى بالمثل السائر إن هذا النوع من المقابلة غير مختص بلغة العرب فإنه لما مات قباذ أحد ملوك الفرس قال وزيره حركنا بسكونه. و في أول كتاب الفصول لبقراط في الطب العمر قصير و الصناعة طويلة و هذا الكتاب على لغة اليونان. قلت أي حاجة به إلى هذا التكلف و هل هذه الدعوى من الأمور التي يجوز أن يعتري الشك و الشبهة فيها ليأتي بحكاية مواضع من غير كلام العرب يحتج بها أ ليس كل قبيلة و كل أمة لها لغة تختص بها أ ليس الألفاظ دلالات على ما في الأنفس شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 105من المعاني فإذا خطر في النفس كلام يتضمن أمرين ضدين فلا بد لصاحب ذلك الخاطر سواء أ كان عربيا أم فارسيا أم زنجيا أم حبشيا أن ينطق بلفظ يدل على تلك المعاني المتضادة و هذا أمر يعم العقلاء كلهملى أن تلك اللفظة التي قالها ما قيلت في موت قباذ و إنما قيلت في موت الإسكندر لما تكلمت الحكماء و هم حول تابوته بما تكلموا به من الحكم. و مما جاء من هذا القسم من المقابلة في الكتاب العزيز قوله تعالى في صفة الواقعة خافِضَةٌ رافِعَةٌ لأنها تخفض العاصين و ترفع المطيعين. و قوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ. و قوله أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ. و من هذا الباب
قول النبي ص للأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع و تقلون عند الطمع
و مما جاء من ذلك في الشعر قول الفرزدق يهجو قبيلة جرير
يستيقظون إلى نهيق حميرهم و تنام أعينهم عن الأوتار
و قال آخر
فلا الجود يفني المال و الجد مقبل و لا البخل يبقي المال و الجد مدبر
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 106و قال أبو تمامما إن ترى الأحساب بيضا وضحا إلا بحيث ترى المنايا سودا

(3/93)


و كذلك قال من هذه القصيدة أيضا
شرف على أولى الزمان و إنما خلق المناسب ما يكون جديدا
و أما القسم الثاني من القسم الأول و هو مقابلة الشي ء بضده بالمعنى لا باللفظ فكقول المقنع الكندي لهم جل مالي إن تتابع لي غنى و إن قل مالي لا أكلفهم رفدا
فقوله إن تتابع لي غنى في قوة قوله إن كثر مالي و الكثرة ضد القلة فهو إذن مقابل بالمعنى لا باللفظ بعينه. و من هذا الباب قول البحتري
تقيض لي من حيث لا أعلم النوى و يسري إلي الشوق من حيث أعلم
فقوله لا أعلم ليس ضدا لقوله أعلم لكنه نقيض له و في قوة قوله أجهل و الجهل ضد العلم. و من لطيف ما وقعت المقابلة به من هذا النوع قول أبي تمام
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس قنا الخط إلا أن تلك ذوابل

(3/94)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 107فقابل بين هاتا و بين تلك و هي مقابلة معنوية لا لفظية لأن هاتا للحاضرة و تلك للغائبة و الحضور ضد الغيبة. و أما مقابلة الشي ء لما ليس بضده فإما أن يكون مثلا أو مخالفا. و الأول على ضربين مقابلة المفرد بالمفرد و مقابلة الجملة بملة. مثال مقابلة المفرد بالمفرد قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ و قوله وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً هكذا قال نصر الله بن الأثير. قال و هذا مراعى في القرآن الكريم إذا كان جوابا كما تقدم من الآيتين و كقوله وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها و قوله مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ. قال و قد كان يجوز أن يقول من كفر فعليه ذنبه لكن الأحسن هو إعادة اللفظ فأما إذا كان غير جواب لم تلزم فيه هذه المراعاة اللفظية بل قد تقابل اللفظة بلفظة تفيد معناها و إن لم تكن هي بعينها نحو قوله تعالى وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فقال يفعلون و لم يقل يعملون. و كذلك قوله تعالى فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ و لم يقل قالوا لا تفزع. و كذلك قوله تعالى إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ و لم يقل كنتم تخوضون و تلعبون. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 108قال و نحو ذلك من الأبيات الشعرية قول أبي تمامبسط الرجاء لنا برغم نوائب كثرت بهن مصارع الآمال
فقال الآمال عوض الرجاء قال أبو الطيب
إني لأعلم و اللبيب خبير أن الحياة و إن حرصت غرور

(3/95)


فقال خبير و لم يقل عليم. قال و إنما حسن ذلك لأنه ليس بجواب و إنما هو كلام مبتدأ. قلت الصحيح أن هذه الآيات و هي قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ و ما شابهها ليست من باب المقابلة التي نحن في ذكرها و أنها نوع آخر و لو سميت المماثلة أو المكافأة لكان أولى و الدليل على ذلك أن هذا الرجل حد المقابلة في أول الباب الذي ذكر هذا البحث فيه فقال إنها ضد التجنيس لأن التجنيس أن يكون اللفظ واحدا مختلف المعنى و هذه لا بد أن تتضمن معنيين ضدين و إن كان التضاد مأخوذا في حدها فقد خرجت هذه الآيات من باب المقابلة و كانت نوعا آخر. و أيضا فإن قوله تعالى وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً ليس من سلك الآيات الأخرى لأنه بالواو و الآيات الأخرى بالفاء و الفاء جواب و الواو ليست بجواب. و أيضا فإنا إذا تأملنا القرآن العزيز لم نجد ما ذكره هذا الرجل مطردا قال تعالى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَ هُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى فلم يقل في الثانية و أما من جاءك يسعى و هو فقير. و قال تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَ أَمَّا مَنْ شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 109بَخِلَ وَ اسْتَغْنى وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى فقابل بين أعطى و بخل و لم يقابل بين اتقى و استغنى و مثل هذا في القرآن العزيز كثير و أكثر من الكثير. و قد بان الآأن التقسيم الأول فاسد و أنه لا مقابلة إلا بين الأضداد و ما يجري مجراها. و أما مقابلة الجملة بالجملة في تقابل المتماثلين فإنه إذا كانت إحداهما في معنى الأخرى وقعت المقابلة و الأغلب أن تقابل الجملة الماضية بالماضية و المستقبلة بالمستقبلة. و قد تقابل الجملة الماضية بالمستقبلة فمن ذلك قوله تعالى قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما

(3/96)


أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فإن هذا تقابل من جهة المعنى لأنه لو كان من جهة اللفظ لقال و إن اهتديت فإنما أهتدي لها. و وجه التقابل المعنوي هو أن كل ما على النفس فهو بها أعني كل ما هو عليها وبال و ضرر فهو منها و بسببها لأنها الأمارة بالسوء و كل ما لها مما ينفعها فهو بهداية ربها و توفيقه لها. و من ذلك قوله تعالى أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً فإنه لم يراع التقابل اللفظي و لو راعاه لقال و النهار ليبصروا فيه و إنما المراعاة لجانب المعنى لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه طرق التقلب في الحاجات. و أما مقابلة المخالف فهو على وجهين. أحدهما أن يكون بين المقابل و المقابل نوع مناسبة و تقابل كقول القائل
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة و من إساءة أهل السوء إحسانا
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 110فقابل الظلم بالمغفرة و هي مخالفة له ليست مثله و لا ضده و إنما الظلم ضد العدل إلا أنه لما كانت المغفرة قريبة من العدل حسنت المقابلة بينها و بين الظلم و نحو هذا قوله تعالى أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ فإن احمة ليست ضدا للشدة و إنما ضد الشدة اللين إلا أنه لما كانت الرحمة سببا للين حسنت المقابلة بينها و بين الشدة. و كذلك قوله تعالى إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا فإن المصيبة أخص من السيئة فالتقابل هاهنا من جهة العموم و الخصوص. الوجه الثاني ما كان بين المقابل و المقابل بعد و ذلك مما لا يحسن استعماله كقول امرأة من العرب لابنها و قد تزوج بامرأة غير محمودة
تربص بها الأيام عل صروفها سترمي بها في جاحم متسعرفكم من كريم قد مناه إلهه بمذمومة الأخلاق واسعة الحر

(3/97)


فمذمومة ليست في مقابلة واسعة و لو كانت قالت بضيقة الأخلاق كانت المقابلة صحيحة و الشعر مستقيما و كذلك قول المتنبي
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها سرور محب أو مساءة مجرم
فالمقابلة الصحيحة بين المحب و المبغض لا بين المحب و المجرم. قلت إن لقائل أن يقول هلا قلت في هذا ما قلت في السيئة و المصيبة أ لست القائل إن التقابل حسن بين المصيبة و السيئة لكنه تقابل العموم و الخصوص و هذا الموضع مثله أيضا لأن كل مبغض لك مجرم إليك لأن مجرد البغضة جرم ففيهما عموم و خصوص. بل لقائل أن يقول كل مجرم مبغض و كل مبغض مجرم و هذا صحيح مطرد
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 29111- و من خطبة له عأَيُّهَا النَّاسُ الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ كَلَامُكُمْ يُوهِي الصُّمَّ الصِّلَابَ وَ فِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الْأَعْدَاءَ تَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ كَيْتَ وَ كَيْتَ فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ وَ لَا اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ الْمَطُولِ لَا يَمْنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ وَ لَا يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلَّا بِالْجِدِّ أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ وَ مَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ الْمَغْرُورُ وَ اللَّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ وَ مَنْ فَازَ بِكُمْ فَقَدْ فَازَ وَ اللَّهِ بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ وَ مَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ أَصْبَحْتُ وَ اللَّهِ لَا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ وَ لَا أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ وَ لَا أُوعِدُ الْعَدُوَّ بِكُمْ مَا بَالُكُمْ مَا دَوَاؤُكُمْ مَا طِبُّكُمْ الْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ أَ قَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ غَفْلَةٍ مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ وَ طَمَعاً فِي غَيْرِ حَقٍّ

(3/98)


حيدي حياد كلمة يقولها الهارب الفار و هي نظيرة قولهم فيحي فياح شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 112أي اتسعي و صمي صمام للداهية و أصلها من حاد عن الشي ء أي انحرف و حياد مبنية على الكسر و كذلك ما كان من بابها نحو قولهم بدار أي ليأخذ كل واحد قرنه و قولهم خراج في ل للصبيان أي اخرجوا. و الباء في قوله بأضاليل متعلقة بأعاليل نفسها أي يتعللون بالأضاليل التي لا جدوى لها. و السهم الأفوق المكسور الفوق و هو مدخل الوتر و الناصل الذي لا نصل فيه يخاطبهم فيقول لهم أبدانكم مجتمعة و أهواؤكم مختلفة متكلمون بما هو في الشدة و القوة يوهي الجبال الصم الصلبة و عند الحرب يظهر أن ذلك الكلام لم يكن له ثمرة. تقولون في المجالس كيت و كيت أي سنفعل و سنفعل و كيت و كيت كناية عن الحديث كما كني بفلان عن العلم و لا تستعمل إلا مكررة و هما مخففان من كية و قد استعملت على الأصل و هي مبنية على الفتح و قد روى أئمة العربية فيها الضم و الكسر أيضا. فإذا جاء القتال فررتم و قلتم الفرار الفرار. ثم أخذ في الشكوى فقال من دعاكم لم تعز دعوته و من قاساكم لم يسترح قلبه دأبكم التعلل بالأمور الباطلة و الأماني الكاذبة و سألتموني الإرجاء و تأخر الحرب كمن يمطل بدين لازم له و الضيم لا يدفعه الذليل و لا يدرك الحق إلا بالجد فيه و الاجتهاد و عدم الانكماش. و باقي الفصل ظاهر المعنى. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 113و قوله القوم رجال أمثالكم مثل قول الشاعرقاتلوا القوم يا خزاع و لا يدخلكم من قتالهم فشل القوم أمثالكم لهم شعر في الرأس لا ينشرون إن قتلواو هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع في غارة الضحاك بن قيس و نحن نقصها هنا
غارة الضحاك بن قيس و نتف من أخباره

(3/99)


روى إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات قال كانت غارة الضحاك بن قيس بعد الحكمين و قبل قتال النهروان و ذلك أن معاوية لما بلغه أن عليا ع بعد واقعة الحكمين تحمل إليه مقبلا هاله ذلك فخرج من دمشق معسكرا و بعث إلى كور الشام فصاح بها أن عليا قد سار إليكم و كتب إليهم نسخة واحدة فقرئت على الناس. أما بعد فإنا كنا كتبنا كتابا بيننا و بين علي و شرطنا فيه شروطا و حكمنا رجلين يحكمان علينا و عليه بحكم الكتاب لا يعدوانه و جعلنا عهد الله و ميثاقه على من نكث العهد و لم يمض الحكم و إن حكمي الذي كنت حكمته أثبتني و إن حكمه خلعه و قد أقبل إليكم ظالما فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ تجهزوا للحرب بأحسن الجهاز و أعدوا آلة القتال و أقبلوا خفافا و ثقالا يسرنا الله و إياكم لصالح الأعمال شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 114فاجتمع إليه الناس من كل كورة و أراد المسير إلى صفين فاستشارهم و قال إن عليا قد خرج من الكوفة و عهد العاهد به أنه فارق النخيلة. فقال حبيب بن مسلمة فإني أرى أن نخرج حتى ننزل منزلنا الذي كنا فيه فإنه منزل مبارك و قد متعنا الله به و أعطانا من عدونا فيه النصف. و قال عمرو بن العاص إني أرى لك أن تسير بالجنود حتى توغلها في سلطانهم من أرض الجزيرة فإن ذلك أقوى لجندك و أذل لأهل حربك فقال معاوية و الله إني لأعرف أن الذي تقول كما تقول و لكن الناس لا يطيقون ذلك قال عمرو إنها أرض رفيقة فقال معاوية إن جهد الناس أن يبلغوا منزلهم الذي كانوا به يعني صفين. فمكثوا يجيلون الرأي يومين أو ثلاثة حتى قدمت عليهم عيونهم أن عليا اختلف عليه أصحابه ففارقته منهم فرقة أنكرت أمر الحكومة و أنه قد رجع عنكم إليهم. فكبر الناس سرورا لانصرافه عنهم و ما ألقى الله عز و جل من الخلاف بينهم فلم يزل معاوية معسكرا في مكانه منتظرا لما يكون من علي و أصحابه و هل يقبل بالناس أم لا فما برح حتى جاء الخبر أن

(3/100)


عليا قد قتل أولئك الخوارج و أنه أراد بعد قتلهم أن يقبل بالناس و أنهم استنظروه و دافعوه فسر بذلك هو و من قبله من الناس. قال و روى ابن أبي سيف عن يزيد بن يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري قال جاءنا كتاب عمارة بن عقبة بن أبي معيط و كان بالكوفة مقيما و نحن معسكرون مع معاوية نتخوف أن يفرغ علي من الخوارج ثم يقبل إلينا و نحن نقول إن أقبل إلينا كان أفضل المكان الذي نستقبله به المكان الذي لقيناه فيه العام الماضي فكان في كتاب عمارة بن عقبة أما بعد فإن عليا خرج عليه قراء شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 115أصحابه و نساكهم فخرج إليهم فقتلهم و قد فسد عليه جنده و أهل مصره و وقعت بينهم العداوة و تفرقوا أشد الفرقة و أحببت إعلامك لتحمد الله و السلام. قال عبد الرحمن بن مسعدة فقرأه معاوية على وجه أخيه عتبة ولى الوليد بن عقبة و على أبي الأعور السلمي ثم نظر إلى أخيه عتبة و إلى الوليد بن عقبة و قال للوليد لقد رضي أخوك أن يكون لنا عينا فضحك الوليد و قال إن في ذلك أيضا لنفعا. و روى أبو جعفر الطبري قال كان عمارة مقيما بالكوفة بعد قتل عثمان لم يهجه علي ع و لم يذعره و كان يكتب إلى معاوية بالأخبار سرا. و من شعر الوليد لأخيه عمارة يحرضه
إن يك ظني في عمارة صادقا ينم ثم لا يطلب بذحل و لا وتريبيت و أوتار ابن عفان عنده مخيمة بين الخورنق فالقصرتمشي رخي البال مستشزر القوى كأنك لم تسمع بقتل أبي عمروألا إن خير الناس بعد ثلاثة قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
قال فأجابه الفضل بن العباس بن عتبة
أ تطلب ثأرا لست منه و لا له و ما لابن ذكوان الصفوري و الوتر

(3/101)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 116كما افتخرت بنت الحمار بأمها و تنسى أباها إذ تسامى أولو الفخرألا إن خير الناس بعد نبيهم وصي النبي المصطفى عند ذي الذكرو أول من صلى و صنو نبيه و أول من أردى الغواة لدى بدأما معنى قوله و ما لابن ذكوان الصفوري فإن الوليد هو ابن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو و اسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس و قد ذكر جماعة من النسابين أن ذكوان كان مولى لأمية بن عبد شمس فتبناه و كناه أبا عمرو فبنوه موال و ليسوا من بني أمية لصلبه و الصفوري منسوب إلى صفورية قرية من قرى الروم. قال إبراهيم بن هلال الثقفي فعند ذلك دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري و قال له سر حتى تمر بناحية الكوفة و ترتفع عنها ما استطعت فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي فأغر عليه و إن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليها و إذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى و لا تقيمن لخيل بلغك أنها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف. فأقبل الضحاك فنهب الأموال و قتل من لقي من الأعراب حتى مر بالثعلبية شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 117فأغار على الحاج فأخذ أمتعتهم ثم أقبل فلقي عمرو بعميس بن مسعود الهذلي و هو ابن أخي عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله ص فقتله في طريق الحاج عند القطقطانة و قتل معه ناسا من أصحابه. قال فروى إبراهيم بن مبارك البجلي عن أبيه عن بكر بن عيسى عن أبي روق قال حدثني أبي قال سمعت عليا ع و قد خرج إلى الناس و هو يقول على المنبر يا أهل الكوفة اخرجوا إلى العبد الصالح عمرو بن عميس و إلى جيوش لكم قد أصيب منهم طرف اخرجوا فقاتلوا عدوكم و امنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين. فردوا عليه ردا ضعيفا و رأى منهم عجزا و فشلا فقال و الله لوددت أن لي بكل ثمانية منكم رجلا منهم ويحكم اخرجوا معي ثم فروا عني ما بدا لكم فو الله ما أكره لقاء ربي على نيتي و بصيرتي و في ذلك روح لي عظيم و فرج من مناجاتكم و مقاساتكم ثم

(3/102)


نزل. فخرج يمشي حتى بلغ الغريين ثم دعا حجر بن عدي الكندي فعقد له على أربعة آلاف. و روى محمد بن يعقوب الكليني قال استصرخ أمير المؤمنين ع الناس عقيب غارة الضحاك بن قيس الفهري على أطراف أعماله فتقاعدوا عنه فخطبهم فقال
ما عزت دعوة من دعاكم و لا استراح قلب من قاساكم
الفصل إلى آخره. قال إبراهيم الثقفي فخرج حجر بن عدي حتى مر بالسماوة و هي أرض كلب شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 118فلقي بها إمرأ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم الكلبي و هم أصهار الحسين بن علي بن أبي طالب ع فكانوا أدلاءه في الطريق و على المياه فلم ي مغذا في أثر الضحاك حتى لقيه بناحية تدمر فواقعه فاقتتلوا ساعة فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا و قتل من أصحاب حجر رجلان و حجز الليل بينهم فمضى الضحاك فلما أصبحوا لم يجدوا له و لأصحابه أثرا و كان الضحاك يقول بعد أنا ابن قيس أنا أبو أنيس أنا قاتل عمرو بن عميس. قال و كتب في أثر هذه الوقعة عقيل بن أبي طالب إلى أخيه أمير المؤمنين ع حين بلغه خذلان أهل الكوفة و تقاعدهم به. لعبد الله علي أمير المؤمنين ع من عقيل بن أبي طالب سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الله حارسك من كل سوء و عاصمك من كل مكروه و على كل حال إني قد خرجت إلى مكة معتمرا فلقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء فعرفت المنكر في وجوههم فقلت إلى أين يا أبناء الشانئين أ بمعاوية تلحقون عداوة و الله منكم قديما غير مستنكرة تريدون بها إطفاء نور الله و تبديل أمره فأسمعني القوم و أسمعتهم فلما قدمت مكة سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء ثم انكفأ راجعا سالما فأف لحياة في دهر جرأ عليك الضحاك و ما الضحاك فقع بقرقر و قد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك و أنصارك خذلوك فاكتب إلي يا ابن أمي برأيك فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني

(3/103)


أخيك شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 119و ولد أبيك فعشنا معك ما عشت و متنا معك إذا مت فو الله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواقا. و أقسم بالأعز الأجل أن عيشا نعيشه بعدك في الحياة لغير هني ء و لا مري لا نجيع و السلام عليك و رحمة الله و بركاته
فكتب إليه ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عقيل بن أبي طالب سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد كلأنا الله و إياك كلاءة من يخشاه بالغيب إنه حميد مجيد قد وصل إلي كتابك مع عبد الرحمن بن عبيد الأزدي تذكر فيه أنك لقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح مقبلا من قديد في نحو من أربعين فارسا من أبناء الطلقاء متوجهين إلى جهة الغرب و أن ابن أبي سرح طالما كاد الله و رسوله و كتابه و صد عن سبيله و بغاها عوجا فدع ابن أبي سرح و دع عنك قريشا و خلهم و تركاضهم في الضلال و تجوالهم في الشقاق ألا و إن العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب رسول الله ص قبل اليوم فأصبحوا قد جهلوا حقه و جحدوا فضله و بادروه العداوة و نصبوا له الحرب و جهدوا عليه كل الجهد و جروا إليه جيش الأحزاب اللهم فاجز قريشا عني الجوازي فقد قطعت رحمي و تظاهرت على و دفعتني عن حقي و سلبتني سلطان ابن أمي و سلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول و سابقتي في الإسلام إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه و لا أظن الله يعرفه و الحمد لله على كل حال فأما ما ذكرته من غارة الضحاك على أهل الحيرة فهو أقل و أزل من أن يلم بها شرح نهج البلاغة ج : 2 : 120أو يدنو منها و لكنه قد كان أقبل في جريدة خيل فأخذ على السماوة حتى مر بواقصة و شراف و القطقطانة مما والى ذلك الصقع فوجهت إليه جندا كثيفا من المسلمين فلما بلغه ذلك فر هاربا فاتبعوه فلحقوه ببعض الطريق و قد أمعن و كان ذلك حين طفلت الشمس للإياب فتناوشوا القتال قليلا كلا و لا فلم يصبر لوقع المشرفية و ولى هاربا و قتل من أصحابه بضعة عشر

(3/104)


رجلا و نجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق فلأيا بلأي ما نجا فأما ما سألتني أن أكتب لك برأيي فيما أنا فيه فإن رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله لا يزيدني كثرة الناس معي عزة و لا تفرقهم عني وحشة لأنني محق و الله مع المحق و و الله ما أكره الموت على الحق و ما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا و أما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك و بني أبيك فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشدا محمودا فو الله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت و لا تحسبن ابن أمك و لو أسلمه الناس متخشعا و لا متضرعا إنه لكما قال أخو بني سليم

(3/105)


فإن تسأليني كيف أنت فإنني صبور على ريب الزمان صليب يعز علي أن ترى بي كآبة فيشمت عاد أو يساء حبيب. قال إبراهيم بن هلال الثقفي و ذكر محمد بن مخنف أنه سمع الضحاك بن قيس بعد ذلك بزمان يخطب على منبر الكوفة و قد كان بلغه أن قوما من أهلها يشتمون عثمان شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 121و يبرءون منه قال فسمعته يقول بلغني أن رجالا منكم ضلالا يشتمون أئمة الهدى و يبون أسلافنا الصالحين أما و الذي ليس له ند و لا شريك لئن لم تنتهوا عما يبلغني عنكم لأضعن فيكم سيف زياد ثم لا تجدونني ضعيف السورة و لا كليل الشفرة أما إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم فكنت أول من غزاها في الإسلام و شرب من ماء الثعلبية و من شاطئ الفرات أعاقب من شئت و أعفو عمن شئت لقد ذعرت المخدرات في خدورهن و إن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه و لا تسكته إلا بذكر اسمي فاتقوا الله يا أهل العراق أنا الضحاك بن قيس أنا أبو أنيس أنا قاتل عمرو بن عميس فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد فقال صدق الأمير و أحسن القول ما أعرفنا و الله بما ذكرت و لقد لقيناك بغربي تدمر فوجدناك شجاعا مجربا صبورا ثم جلس و قال أ يفخر علينا بما صنع ببلادنا أول ما قدم و ايم الله لأذكرنه أبغض مواطنه إليه قال فسكت الضحاك قليلا و كأنه خزي و استحيا ثم قال نعم كان ذلك اليوم فأخذه بكلام ثقيل ثم نزل. قال محمد بن مخنف فقلت لعبد الرحمن بن عبيد أو قيل له لقد اجترأت حين تذكره هذا اليوم و تخبره أنك كنت فيمن لقيه فقال لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. قال و سأل الضحاك عبد الرحمن بن عبيد حين قدم الكوفة فقال لقد رأيت منكم بغربي تدمر رجلا ما كنت أرى أن في الناس مثله حمل علينا فما كذب حتى ضرب الكتيبة التي أنا فيها فلما ذهب ليولي حملت عليه فطعنته فوقع ثم قام شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 122فلم يضره شيئا ثم لم يلبث أن حمل علينا في الكتيبة التي أنا فيها فصرع رجلا ثم ذهب لينصرف فحملت عليه فضربته

(3/106)


على رأسه بالسيف فخيل إلي أن سي قد ثبت في عظم رأسه فضربني فو الله ما صنع سيفه شيئا ثم ذهب فظننت أنه لن يعود فو الله ما راعني إلا و قد عصب رأسه بعمامة ثم أقبل نحونا فقلت ثكلتك أمك أ ما نهتك الأوليان عن الإقدام علينا قال إنهما لم تنهياني إنما أحتسب هذا في سبيل الله ثم حمل ليطعنني فطعنته و حمل أصحابه علينا فانفصلنا و حال الليل بيننا فقال له عبد الرحمن هذا يوم شهده هذا يعني ربيعة بن ماجد و هو فارس الحي و ما أظنه يخفى أمر هذا الرجل فقال له أ تعرفه قال نعم قال من هو قال أنا قال فأرني الضربة التي برأسك فأراه فإذا هي ضربة قد برت العظم منكرة فقال له فما رأيك اليوم أ هو كرأيك يومئذ قال رأيي اليوم رأي الجماعة قال فما عليكم من بأس أنتم آمنون ما لم تظهروا خلافا و لكن العجب كيف نجوت من زياد لم يقتلك فيمن قتل أو يسيرك فيمن سير فقال أما التسيير فقد سيرني و أما القتل فقد عافانا الله منه. قال إبراهيم الثقفي و أصاب الضحاك في هربه من حجر عطش شديد و ذلك لأن الجمل الذي كان عليه ماؤه ضل فعطش و خفق برأسه خفقتين لنعاس أصابه فترك الطريق و انتبه و ليس معه إلا نفر يسير من أصحابه و ليس منهم أحد معه ماء فبعث رجالا منهم في جانب يلتمسون الماء و لا أنيس فكان الضحاك بعد ذلك يحكي قال فرأيت جادة فلزمتها فسمعت قائلا يقول

(3/107)


دعاني الهوى فازددت شوقا و ربما دعاني الهوى من ساعة فأجيب و أرقني بعد المنام و ربما أرقت لساري الهم حين يئوب شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 123فإن أك قد أحببتكم و رأيتكم فإني بداري عامر لغريقال و أشرف علي رجل فقلت يا عبد الله اسقني ماء فقال لا و الله حتى تعطيني ثمنه قلت و ما ثمنه قال ديتك قلت أ ما ترى عليك من الحق أن تقري الضيف فتطعمه و تسقيه قال ربما فعلنا و ربما بخلنا قال فقلت و الله ما أراك فعلت خيرا قط اسقني قال ما أطيق قلت فإني أحسن إليك و أكسوك قال لا و الله لا أنقص شربة من مائة دينار فقلت له ويحك اسقني فقال ويحك أعطني قلت لا و الله ما هي معي و لكنك تسقيني ثم تنطلق معي أعطيكها قال لا و الله قلت اسقني و أرهنك فرسي حتى أوفيكها قال نعم ثم خرج بين يدي و اتبعته فأشرفنا على أخبية و ناس على ماء فقال لي مكانك حتى آتيك فقلت بل أجي ء معك قال و ساءه حيث رأيت الناس و الماء فذهب يشتد حتى دخل بيتا ثم جاء بماء في إناء فقال اشرب فقلت لا حاجة لي فيه ثم دنوت من القوم فقلت اسقوني ماء فقال شيخ لابنته اسقيه فقامت ابنته فجاءت بماء و لبن فقال ذلك الرجل نجيتك م العطش و تذهب بحقي و الله لا أفارقك حتى أستوفي منك حقي فقلت اجلس حتى أوفيك فجلس فنزلت فأخذت الماء و اللبن من يد الفتاة فشربت و اجتمع إلي أهل الماء فقلت لهم هذا ألأم الناس فعل بي كذا و كذا و هذا الشيخ خير منه و أسدى استسقيته فلم يكلمني و أمر ابنته فسقتني و هو الآن يلزمني بمائة دينار فشتمه أهل الحي و وقعوا به و لم يكن بأسرع من أن لحقني قوم من أصحابي فسلموا علي بالإمرة فارتاب الرجل و جزع و ذهب يريد أن يقوم فقلت و الله لا تبرح حتى أوفيك المائة فجلس ما يدري ما الذي أريد به فلما كثر جندي عندي سرحت إلى ثقلي فأتيت به ثم أمرت بالرجل فجلد مائة جلدة و دعوت الشيخ و ابنته فأمرت لهما بمائة دينار و كسوتهما و كسوت أهل الماء

(3/108)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 124ثوبا ثوبا و حرمته فقال أهل الماء كان أيها الأمير أهلا لذلك و كنت لما أتيت من خير أهلا. فلما رجعت إلى معاوية و حدثته عجب و قال لقد رأيت في سفرك هذا عجبا. و يذكر أهل النسب أن قيسا أبا الضحاك بن قيس كان يبيع عسب الفحول في الجاهة
و رووا أن عقيلا رحمه الله تعالى قدم على أمير المؤمنين فوجده جالسا في صحن المسجد بالكوفة فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته و كان عقيل قد كف بصره فقال و عليك السلام يا أبا يزيد ثم التفت إلى ابنه الحسن ع فقال قم فأنزل عمك فقام فأنزله ثم عاد فقال اذهب فاشتر لعمك قميصا جديدا و رداء جديدا و إزارا جديدا و نعلا جديدا فذهب فاشترى له فغدا عقيل على علي ع في الثياب فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين قال و عليك السلام يا أبا يزيد قال يا أمير المؤمنين ما أراك أصبت من الدنيا شيئا و إني لا ترضى نفسي من خلافتك بما رضيت به لنفسك فقال يا أبا يزيد يخرج عطائي فأدفعه إليك

(3/109)


فلما ارتحل عن أمير المؤمنين ع أتى معاوية فنصبت له كراسيه و أجلس جلساءه حوله فلما ورد عليه أمر له بمائة ألف فقبضها ثم غدا عليه يوما بعد ذلك و بعد وفاة أمير المؤمنين ع و بيعة الحسن لمعاوية و جلساء معاوية حوله فقال يا أبا يزيد أخبرني عن عسكري و عسكر أخيك فقد وردت عليهما قال أخبرك مررت و الله شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 125بعسكر أخي فإذا ليل كليل رسول الله ص و نهار كنهار رسول الله ص إلا أن رسول الله ص ليس في القوم ما رأيت إلا مصليا و لا سمعت إلا قارئا و مررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله لة العقبة ثم قال من هذا عن يمينك يا معاوية قال هذا عمرو بن العاص قال هذا الذي اختصم فيه ستة نفر فغلب عليه جزار قريش فمن الآخر قال الضحاك بن قيس الفهري قال أما و الله لقد كان أبوه جيد الأخذ لعسب التيوس فمن هذا الآخر قال أبو موسى الأشعري قال هذا ابن السراقة فلما رأى معاوية أنه قد أغضب جلساءه علم أنه إن استخبره عن نفسه قال فيه سوءا فأحب أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السوء فيذهب بذلك غضب جلسائه قال يا أبا يزيد فما تقول في قال دعني من هذا قال لتقولن قال أ تعرف حمامة قال و من حمامة يا أبا يزيد قال قد أخبرتك ثم قام فمضى فأرسل معاوية إلى النسابة فدعاه فقال من حمامة قال و لي الأمان قال نعم قال حمامة جدتك أم أبي سفيان كانت بغيا في الجاهلية صاحبة راية فقال معاوية لجلسائه قد ساويتكم و زدت عليكم فلا تغضبوا

(3/110)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 30126- و من خطبة له ع في معنى قتل عثمانلَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلًا أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِراً غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَ مَنْ خَذَلَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَ أَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الْأَثَرَةَ وَ جَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الْجَزَعَ وَ لِلَّهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَأْثِرِ وَ الْجَازِعِ

(3/111)


هذا الكلام بظاهره يقتضي أنه ما أمر بقتله و لا نهى عنه فيكون دمه عنده في حكم الأمور المباحة التي لا يؤمر بها و لا ينهى عنها غير أنه لا يجوز أن يحمل الكلام على ظاهره لما ثبت من عصمة دم عثمان و أيضا فقد ثبت في السير و الأخبار أنه كان ع ينهى الناس عن قتله فإذن يجب أن يحمل لفظ النهي على المنع كما يقال الأمير ينهى عن نهب أموال الرعية أي يمنع و حينئذ يستقيم الكلام لأنه ع ما أمر بقتله و لا منع عن قتله و إنما كان ينهى عنه باللسان و لا يمنع عنه باليد. فإن قيل فالنهي عن المنكر واجب فهلا منع من قتله باليد. قيل إنما يجب المنع باليد عن المنكر إذا كان حسنا و إنما يكون الإنكار حسنا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 127إذا لم يغلب على ظن الناهي عن المنكر أن نهيه لا يؤثر فإن غلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر قبح إنكار المنكر لأنه إن كان الغرض تعريف فاعل القبيح قبح ما أقدم عليه فذلك حاصل دون الإنكار و إن كان الغرض ألا يقع المنكر فذلك غير حاصل لأنه قد غلب على ظنه أن نهيه و إنكاره لا يؤثر و لذلك لا يحسن من الإنسان الإنكار على أصحاب المآصر ما هم عليه من أخذ المكوس لما غلب على الظن أن الإنكار لا يؤثر و هذا يقتضي أن يكون أمير المؤمنين ع قد غلب على ظنه أن إنكاره لا يؤثر فلذلك لم ينكر. و لأجل اشتباه هذا الكلام على السامعين قال كعب بن جعيل شاعر أهل الشام الأبيات التي منها
أرى الشام تكره أهل العراق و أهل العراق لهم كارهوناو كل لصاحبه مبغض يرى كل ما كان من ذاك ديناإذا ما رمونا رميناهم و دناهم مثل ما يقرضوناو قالوا علي إمام لنا فقلنا رضينا ابن هند رضيناو قالوا نرى أن تدينوا لنا فقلنا ألا لا نرى أن نديناو من دون ذلك خرط القتاد و طعن و ضرب يقر العيونا

(3/112)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 128و كل يسر بما عنده يرى غث ما في يديه سميناو ما في علي لمستعتب مقال سوى ضمه المحدثيناو إيثاره اليوم أهل الذنوب و رفع القصاص عن القاتليناإذا سيل عنه حذا شبهة و عمى الجواب على السائلينافليس براض و لا ساخط و لا في النهاة و لا الآيناو لا هو ساء و لا سره و لا بد من بعض ذا أن يكونا
و هذا شعر خبيث منكر و مقصد عميق و ما قال هذا الشعر إلا بعد أن نقل إلى أهل الشام كلام كثير لأمير المؤمنين ع في عثمان يجري هذا المجرى نحو قوله ما سرني و لا ساءني و قيل له أ رضيت بقتله فقال لم أرض فقيل له أ سخطت قتله فقال لم أسخط و قوله تارة الله قتله و أنا معه و قوله تارة أخرى ما قتلت عثمان و لا مالأت في قتله و قوله تارة أخرى كنت رجلا من المسلمين أوردت إذ أوردوا و أصدرت إذ أصدروا. و لكل شي ء من كلامه إذا صح عنه تأويل يعرفه أولو الألباب. فأما قوله غير أن من نصره فكلام معناه أن خاذليه كانوا خيرا من ناصريه لأن لذين نصروه كان أكثرهم فساقا كمروان بن الحكم و أضرابه و خذله المهاجرون و الأنصار. فأما قوله و أنا جامع لكم أمره إلى آخر الفصل فمعناه أنه فعل ما لا يجوز و فعلتم ما لا يجوز أما هو فاستأثر فأساء الأثرة أي استبد بالأمور فأساء في الاستبداد و أما أنتم فجزعتم مما فعل أي حزنتم فأسأتم الجزع لأنكم قتلتموه و قد كان الواجب عليه أن شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 129يرجع عن استئثاره و كان الواجب عليكم ألا تجعلوا جزاءه عما أذنب القتل بل الخلع و الحبس و ترتيب غيره في الإمامة. ثم قال و لله حكم سيحكم به فيه و فيكماضطراب الأمر على عثمان ثم أخبار مقتله

(3/113)


و يجب أن نذكر في هذا الموضع ابتداء اضطراب الأمر على عثمان إلى أن قتل. و أصح ما ذكر في ذلك ما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ. و خلاصة ذلك أن عثمان أحدث أحداثا مشهورة نقمها الناس عليه من تأمير بني أمية و لا سيما الفساق منهم و أرباب السفه و قلة الدين و إخراج مال الفي ء إليهم و ما جرى في أمر عمار و أبي ذر و عبد الله بن مسعود و غير ذلك من الأمور التي جرت في أواخر خلافته ثم اتفق أن الوليد بن عقبة لما كان عامله على الكوفة و شهد عليه بشرب الخمر صرفه و ولى سعيد بن العاص مكانه فقدم سعيد الكوفة و استخل من أهلها قوما يسمرون عنده فقال سعيد يوما إن السواد بستان للقريش و بني أمية فقال الأشتر النخعي و تزعم أن السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك و لقومك فقال صاحب شرطته أ ترد على الأمير مقالته و أغلظ له فقال الأشتر لمن كان حوله من النخع و غيرهم من أشراف الكوفة أ لا تسمعون فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطئوه وطأ عنيفا و جروا برجله فغلظ ذلك على سعيد و أبعد سماره فلم يأذن بعد لهم فجعلوا يشتمون سعيدا في مجالسهم ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان و اجتمع إليهم ناس كثير حتى غلظ أمرهم فكتب سعيد إلى عثمان في أمرهم فكتب إليه أن يسيرهم إلى الشام لئلا يفسدوا أهل الكوفة و كتب إلى معاوية و هو والي الشام أن نفرا من أهل الكوفة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 130قد هموا بإثارة الفتنة و قد سيرتهم إليك فانههم فإن آنست منهم رشدا فأحسن إليهم و ارددهم إلى بلادهم فلما قدموا على معاويو كانوا الأشتر و مالك بن كعب الأرحبي و الأسود بن يزيد النخعي و علقمة بن قيس النخعي و صعصعة بن صوحان العبدي و غيرهم جمعهم يوما و قال لهم إنكم قوم من العرب ذوو أسنان و ألسنة و قد أدركتم بالإسلام شرفا و غلبتم الأمم و حويتم مواريثهم و قد بلغني أنكم ذممتم قريشا و نقمتم على الولاة فيها و لو لا قريش لكنتم أذلة إن أئمتكم لكم جنة

(3/114)


فلا تفرقوا عن جنتكم إن أئمتكم ليصبرون لكم على الجور و يحتملون منكم العتاب و الله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم الخسف و لا يحمدكم على الصبر ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم و بعد وفاتكم. فقال له صعصعة بن صوحان أما قريش فإنها لم تكن أكثر العرب و لا أمنعها في الجاهلية و إن غيرها من العرب لأكثر منها كان و أمنع. فقال معاوية إنك لخطيب القوم و لا أرى لك عقلا و قد عرفتكم الآن و علمت أن الذي أغراكم قلة العقول أعظم عليكم أمر الإسلام فتذكرني الجاهلية أخزى الله قوما عظموا أمركم فقهوا عني و لا أظنكم تفقهون إن قريشا لم تعز في جاهلية و لا إسلام إلا بالله وحده لم تكن بأكثر العرب و لا أشدها و لكنهم كانوا أكرمهم أحسابا و أمحضهم أنسابا و أكملهم مروءة و لم يمتنعوا في الجاهلية و الناس يأكل بعضهم بعضا إلا بالله فبوأهم حرما آمنا يتخطف الناس من حوله هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا إلا و قد أصابهم الدهر في بلدهم و حرمهم إلا ما كان من قريش فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل حتى أراد الله تعالى أن يستنقذ من أكرمه باتباع دينه من هوان الدنيا و سوء مرد الآخرة فارتضى لذلك خير

(3/115)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 131خلقه ثم ارتضى له أصحابا و كان خيارهم قريشا ثم بنى هذا الملك عليهم و جعل هذه الخلافة فيهم فلا يصلح الأمر إلا بهم و قد كان الله يحوطهم في الجاهلية و هم على كفرهم أ فتراه لا يحوطهم و هم على دينه أف لك و لأصحابك أما أنت يا صعصعةإن قريتك شر القرى أنتنها نبتا و أعمقها واديا و ألأمها جيرانا و أعرفها بالشر لم يسكنها شريف قط و لا وضيع إلا سب بها نزاع الأمم و عبيد فارس و أنت شر قومك أ حين أبرزك الإسلام و خلطك بالناس أقبلت تبغي دين الله عوجا و تنزع إلى الغواية إنه لن يضر ذلك قريشا و لا يضعهم و لا يمنعهم من تأدية ما عليهم إن الشيطان عنكم لغير غافل قد عرفكم بالشر فأغراكم بالناس و هو صارعكم و إنكم لا تدركون بالشر أمرا إلا فتح عليكم شر منه و أخزى قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا أبدا و لا يضره و لستم برجال منفعة و لا مضرة فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم و لا تبطرنكم النعمة فإن البطر لا يجر خيرا اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم. و كتب إلى عثمان أنه قدم علي قوم ليست لهم عقول و لا أديان أضجرهم العدل لا يريدون الله بشي ء و لا يتكلمون بحجة إنما همهم الفتنة و الله متليهم ثم فاضحهم و ليسوا بالذين نخاف نكايتهم و ليسوا بأكثر ممن له شغب و نكير. ثم أخرجهم من الشام. و روى أبو الحسن المدائني أنه كان لهم مع معاوية بالشام مجالس طالت فيها المحاورات و المخاطبات بينهم و أن معاوية قال لهم في جملة ما قاله إن قريشا قد عرفت أن أبا سفيان شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 132كان أكرمها و ابن أكرمها إلا ما جعل الله لنبيه ص فإنه انتجبه و أكرمه و لو أن أبا سفيان ولد الناس كلهم لكانوا حلماء. فقال له صعصعة بن صوحان كذبت قد ولدهم خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده و نفخ فيه من روحه و أمر الملائكة جدوا له فكان فيهم البر و الفاجر و الكيس و الأحمق. قال و من المجالس

(3/116)


التي دارت بينهم أن معاوية قال لهم أيها القوم ردوا خيرا أو اسكتوا و تفكروا و انظروا فيما ينفعكم و المسلمين فاطلبوه و أطيعوني. فقال له صعصعة لست بأهل ذلك و لا كرامة لك أن تطاع في معصية الله. فقال إن أول كلام ابتدأت به أن أمرتكم بتقوى الله و طاعة رسوله و أن تعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا. فقالوا بل أمرت بالفرقة و خلاف ما جاء به النبي ص. فقال إن كنت فعلت فإني الآن أتوب و آمركم بتقوى الله و طاعته و لزوم الجماعة و أن توقروا أئمتكم و تطيعوهم. فقال صعصعة إن كنت تبت فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك ممن كان أبوه أحسن أثرا في الإسلام من أبيك و هو أحسن قدما في الإسلام منك. فقال معاوية إن لي في الإسلام لقدما و إن كان غيري أحسن قدما مني لكنه شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 133ليس زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني و لقد رأى عمر بن الخطاب ذلك فلو كان غيري أقوى مني لم يكن عند عمر هوادة لي و لا لغيري و لم أحدث ما ينبغي له أن أعتزل عملي فلو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي بخط يده فاعتزلت عمله فمهلا فإن في دون ما أنتم فيه ما يأمر فيه الشيطان و ينهى و لعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم و أهوائكم ما استقام الأمر لأهل الإسلام يوما و لا ليلة فعاودوا الخير و قولوه فإن الله ذو سطوات و إني خائف عليكم أن تتتابعوا إلى مطاوعة الشيطان و معصية الرحمن فيحلكم ذلك دار الهون في العاجل و الآجل. فوثبوا على معاوية فأخذوا برأسه و لحيته فقال مه إن هذه ليست بأرض الكوفة و الله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي و أنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم فلعمري إن صنيعكم يشبه بعضه بعضا. ثم قام من عندهم و كتب إلى عثمان في أمرهم فكتب إليه أن ردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة فردهم فأطلقوا ألسنتهم في ذمه و ذم عثمان و عيبهما فكتب إليه عثمان أن يسيرهم إلى حمص إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فسيرهم

(3/117)


إليها.
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 134و روى الواقدي قال لما سير بالنفر الذين طردهم عثمان عن الكوفة إلى حمص و هم الأشتر و ثابت بن قيس الهمداني و كميل بن زياد النخعي و زيد بن صوحان و أخوه صعصعة و جندب بن زهير الغامدي و جندب بن كعب الأزدي و عروة بن الجعد و عمرو بن حمق الخزاعي و ابن الكواء جمعهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بعد أن أنزلهم أياما و فرض لهم طعاما ثم قال لهم يا بني الشيطان لا مرحبا بكم و لا أهلا قد رجع الشيطان محسورا و أنتم بعد في بساط ضلالكم و غيكم جزى الله عبد الرحمن إن لم يؤذكم يا معشر من لا أدري أ عرب هم أم عجم أ تراكم تقولون لي ما قلتم لمعاوية أنا ابن خالد بن الوليد أنا ابن من عجمته العاجمات أنا ابن فاقئ عين الردة و الله يا ابن صوحان لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى إن بلغني أن أحدا ممن معي دق أنفك فأقنعت رأسك. قال فأقاموا عنده شهرا كلما ركب أمشاهم معه و يقول لصعصعة يا ابن الخطيئة إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ما لك لا تقول كما كنت تقول لسعيد و معاوية فيقولون سنتوب إلى الله أقلنا أقالك الله فما زال ذاك دأبه و دأبهم حتى قال تاب الله عليكم فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم و يسأله فيهم فردهم إلى الكوفة. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى ثم إن سعيد بن العاص قدم على عثمان سنة إحدى عشرة من خلافته فلما دخل المدينة اجتمع قوم من الصحابة فذكروا سعيدا و أعماله و ذكروا قرابات عثمان و ما سوغهم من مال المسلمين و عابوا أفعال عثمان فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس و كان متألها و اسم أبيه عبد الله و هو من تميم ثم من بني العنبر فدخل على عثمان فقال له إن ناسا من الصحابة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 135اجتمعوا و نظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما فاتق الله و تب إليه فقال عثمان انظروا إلى هذا تزعم الناس أنه قارئ هو يجي ء إلي فيكلمني فيما لا يعلمه و الله ما تدري أين الله

(3/118)


فقال عامر بلى و الله إني لأدري إن الله لبالمرصاد. فأخرجه عثمان و أرسل إلى عبد الله بن سعد بن سرح و إلى معاوية و سعيد بن العاص و عمرو بن العاص و عبد الله بن عامر و كان قد استقدم الأمراء من أعمالهمفشاورهم و قال إن لكل أمير وزراء و نصحاء و إنكم وزرائي و نصحائي و أهل ثقتي و قد صنع الناس ما قد رأيتم و طلبوا إلي أن أعزل عمالي و أن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم. فقال عبد الله بن عامر أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم عنك بالجهاد حتى يذلوا لك و لا تكون همة أحدهم إلا في نفسه و ما هو فيه من دبر دابته و قمل فروته. و قال سعيد بن العاص احسم عنك الداء و اقطع عنك الذي تخاف إن لكل قوم قادة متى يهلكوا يتفرقوا و لا يجتمع لهم أمر. فقال عثمان إن هذا لهو الرأي لو لا ما فيه و قال معاوية أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله فأنا أكفيك أهل الشام. و قال عبد الله بن سعد إن الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم. فقال عمرو بن العاص يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت الناس ببني أمية فقلت و قالوا و زغت و زاغوا فاعتدل أو اعتزل فإن أبيت فاعزم عزما و امض قدما.

(3/119)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 136فقال له عثمان ما لك قمل فروك أ هذا بجد منك. فسكت عمرو حتى تفرقوا ثم قال و الله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علي من ذلك و لكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيرا و أدفع عنشرا. فرد عثمان عماله إلى أعمالهم و أمرهم بتجهيز الناس في البعوث و عزم على أن يحرمهم أعطياتهم ليطيعوه و رد سعيد بن العاص إلى الكوفة فتلقاه أهلها بالجرعة و كانوا قد كرهوا إمارته و ذموا سيرته فقالوا له ارجع إلى صاحبك فلا حاجة لنا فيك فهم بأن يمضي لوجهه و لا يرجع فكثر الناس عليه فقال له قائل ما هذا أ ترد السيل عن إدراجه و الله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية و يوشك أن تنتضى بعد اليوم ثم يتمنون ما هم اليوم فيه فلا يرد عليهم فارجع إلى المدينة فإن الكوفة ليست لك بدار. فرجع إلى عثمان فأخبره بما فعلوا فأنفذ أبا موسى الأشعري أميرا على الكوفة و كتب إليهم أما بعد فقد أرسلت إليكم أبا موسى الأشعري أميرا و أعفيتكم من سعيد و و الله لأفوضنكم عرضي و لأبذلن لكم صبري و لأستصلحنكم جهدي فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه و لا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه لأكون فيه عند ما أحببتم و كرهتم حتى لا يكون لكم على الله حجة و الله لنصبرن كما أمرنا و سيجزي الله الصابرين. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 137قال أبو جعفر فلما دخلت سنة خمس و ثلاثين تكاتب أعداء عثمان و بني أمية في البلاد و حرض بعضهم بعضا على خلع عثمانن الخلافة و عزل عماله عن الأمصار و اتصل ذلك بعثمان فكتب إلى أهل الأمصار أما بعد فإنه رفع إلي أن أقواما منكم يشتمهم عمالي و يضربونهم فمن أصابه شي ء من ذلك فليواف الموسم بمكة فليأخذ بحقه مني أو من عمالي فإني قد استقدمتهم أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين. ث كاتب عماله و استقدمهم فلما قدموا عليه جمعهم و قال ما شكاية الناس

(3/120)


منكم إني لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم و ما يعصب هذا الأمر إلا بي فقالوا له و الله ما صدق من رفع إليك و لا بر و لا نعلم لهذا الأمر أصلا فقال عثمان فأشيروا علي فقال سعيد بن العاص هذه أمور مصنوعة تلقى في السر فيتحدث بها الناس و دواء ذلك السيف. و قال عبد الله بن سعد خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم. و قال معاوية الرأي حسن الأدب. و قال عمرو بن العاص أرى لك أن تلزم طريق صاحبيك فتلين في موضع اللين و تشتد في موضع الشدة. فقال عثمان قد سمعت ما قلتم إن الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن لا بد منه و إن بابه الذي يغلق عليه ليفتحن فكفكفوهم باللين و المداراة إلا في حدود الله فقد علم الله أني لم آل الناس خيرا و إن رحى الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات و لم يحركها سكنوا الناس و هبوا لهم حقوقهم فإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها.

(3/121)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 138ثم نفر فقدم المدينة فدعا عليا و طلحة و الزبير فحضروا و عنده معاوية فسكت عثمان و لم يتكلم و تكلم معاوية فحمد الله و قال أنتم أصحاب رسول الله ص و خيرته من خلقه و ولاة أمر هذه الأمة لا يطمع فيه أحد غيركم اخترتم صاحبكم عن غير غل و لا طمع و قد كبر و ولى عمره فلو انتظرتم به الهرم كان قريبا مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغه ذلك و قد فشت مقالة خفتها عليكم فما عبتم فيه من شي ء فهذه يدي لكم به رهنا فلا تطمعوا الناس في أمركم فو الله إن أطعتموهم لا رأيتم أبدا منها إلا إدبارا. فال علي ع و ما لك و ذاك لا أم لك فقال دع أمي فإنها ليست بشر أمهاتكم قد أسلمت و بايعت النبي ص و أجبني عما أقول لك. فقال عثمان صدق ابن أخي أنا أخبركم عني و عما وليت إن صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما و من كان منهما بسبيل احتسابا و إن رسول الله ص كان يعطي قرابته و أنا في رهط أهل عيلة و قلة معاش فبسطت يدي في شي ء من ذلك لما أقوم به فيه فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه فأمري لأمركم تبع. قالوا أصبت و أحسنت إنك أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا و أعطيت مروان خمسة عشر ألفا فاستعدها منهما فاستعادها فخرجوا راضين. ال أبو جعفر و قال معاوية لعثمان اخرج معي إلى الشام فإنهم على الطاعة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 139قبل أن يهجم عليك ما لا قبل لك به فقال لا أبيع جوار رسول الله ص بشي ء و إن كان فيه قطع خيط عنقي قال فأبعث إليك جندا من الشام يقيم معك لنائبة إن نابت المدينة إياك فقال لا أضيق على جيران رسول الله ص فقال و الله لتغتالن فقال حسبي الله و نعم الوكيل. قال أبو جعفر و خرج معاوية من عند عثمان فمر على نفر من المهاجرين فيهم علي ع و طلحة و الزبير و على معاوية ثياب سفره و هو خارج إلى الشام فقام عليهم فقال إنكم تعلمون أن هذا الأمر كان الناس يتغالبون عليه حتى بعث الله نبيه فتفاضلوا بالسابقة و

(3/122)


القدمة و الجهاد فإن أخذوا بذلك فالأمر أمرهم و الناس لهم تبع و إن طلبوا الدنيا بالتغالب سلبوا ذلك و رده الله إلى غيرهم و إن الله على البدل لقادر و إني قد خلفت فيكم شيخنا فاستوصوا به خيرا و كانفوه تكونوا أسعد منه بذلك ثم ودعهم و مضى فقال علي ع كنت أرى في هذا خيرا فقال الزبير و الله ما كان أعظم قط في صدرك و صدورنا منه اليوم. قلت من هذا اليوم أنشب معاوية أظفاره في الخلافة لأنه غلب على ظنه قتل عثمان و رأى أن الشام بيده و أن أهلها يطيعونه و أن له حجة يحتج بها عليهم و يجعلها ذريعة إلى غرضه و هي قتل عثمان إذا قتل و أنه ليس في أمراء عثمان أقوى منه و لا أقدر على تدبير الجيوش و استمالة العرب فبنى أمره من هذا اليوم على الطمع في الخلافة أ لا ترى إلى قوله لصعصعة من قبل إنه ليس أحد أقوى مني على الإمارة و إن عمر

(3/123)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 140استعملني و رضي سيرتي أ و لا ترى إلى قوله للمهاجرين الأولين إن شرعتم في أخذها بالتغالب و ملتم على هذا الشيخ أخرجها الله منكم إلى غيركم و هو على الاستبدال قادر و إنما كان يعني نفسه و هو يكني عنها و لهذا تربض بنصرة عثمان لما اسصره و لم يبعث إليه أحدا. و روى محمد بن عمر الواقدي رحمه الله تعالى قال لما أجلب الناس على عثمان و كثرت القالة فيه خرج ناس من مصر منهم عبد الرحمن بن عديس البلوي و كنانة بن بشر الليثي و سودان بن حمران السكوني و قتيرة بن وهب السكسكي و عليهم جميعا أبو حرب الغافقي و كانوا في ألفين و خرج ناس من الكوفة منهم زيد بن صوحان العبدي و مالك الأشتر النخعي و زياد بن النضر الحارثي و عبد الله بن الأصم الغامدي في ألفين و خرج ناس من أهل البصرة منهم حكيم بن جبلة العبدي و جماعة من أمرائهم و عليهم حرقوص بن زهير السعدي و ذلك في شوال من سنة خمس و ثلاثين و أظهروا أنهم يريدون الحج فلما كانوا من المدينة على ثلاث تقدم أهل البصرة فنزلوا ذا خشب و كان هواهم في طلحة و تقدم أهل الكوفة فنزلوا الأعوص و كان هواهم في الزبير و جاء أهل مصر فنزلوا المروة و كان هواهم في علي ع و دخل ناس منهم إلى المدينة يخبرون ما في قلوب الناس لعثمان فلقوا جماعة من المهاجرين و الأنصار و لقوا أزواج النبي ص و قالوا إنما نريد الحج و نستعفي من عمالنا. ثم لقي جماعة من المصريين عليا ع و هو متقلد سيفه عند أحجار الزيت شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 141فسلموا عليه و عرضوا عليه أمم فصاح بهم و طردهم و قال لقد علم الصالحون أن جيش المروة و ذي خشب و الأعوص ملعونون على لسان محمد ص. فانصرفوا عنه. و أتى البصريون طلحة فقال لهم مثل ذلك و أتى الكوفيون الزبير فقال لهم مثل ذلك فتفرقوا و خرجوا عن المدينة إلى أصحابهم. فلما أمن أهل المدينة منهم و اطمأنوا إلى رجوعهم لم يشعروا إلا و التكبير في نواحي المدينة و قد

(3/124)


نزلوها و أحاطوا بعثمان و نادى مناديهم يا أهل المدينة من كف يده عن الحرب فهو آمن فحصروه في منزله إلا أنهم لم يمنعوا الناس من كلامه و لقائه فجاءهم جماعة من رؤساء المهاجرين و سألوهم ما شأنهم فقالوا لا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزلنا لنولي غيره لم يزيدوهم على ذلك. فكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستنجدهم و يأمرهم بتعجيل الشخوص إليه للمنع عنه و يعرفهم ما الناس فيه فخرج أهل الأمصار على الصعب و الذلول فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري و بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح معاوية بن حديج و خرج من الكوفة القعقاع بن عمرو بعثه أبو موسى. و قام بالكوفة نفر يحرضون الناس على نصر عثمان و إعانة أهل المدينة منهم عقبة بن عمر و عبد الله بن أبي أوفى و حنظلة الكاتب و كل هؤلاء من الصحابة و من التابعين مسروق و الأسود و شريح و غيرهم. و قام بالبصرة عمران بن الحصين و أنس بن مالك و غيرهما من الصحابة و من التابعين كعب بن سور و هرم بن حيان و غيرهما.

(3/125)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 142و قام بالشام و مصر جماعة من الصحابة و التابعين. و خرج عثمان يوم الجمعة فصلى بالناس و قام على المنبر فقال يا هؤلاء الله الله فو الله إن أهل المدينة يعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد ص فامحوا الخطأ بالصواب. فقام محمد بن مسلمة أنصاري فقال نعم أنا أعلم ذلك فأقعده حكيم بن جبلة و قام زيد بن ثابت فأقعده قتيرة بن وهب و ثار القوم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد و حصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيا عليه فأدخل داره و استقتل نفر من أهل المدينة مع عثمان منهم سعد بن أبي وقاص و الحسن بن علي ع و زيد بن ثابت و أبو هريرة فأرسل إليهم عثمان عزمت عليكم أن تنصرفوا فانصرفوا. و أقبل علي و طلحة و الزبير فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته و يشكون إليه ما يجدون لأجله و عند عثمان نفر من بني أمية منهم مروان بن الحكم فقالوا لعلي ع أهلكتنا و صنعت هذا الذي صنعت و الله إن بلغت هذا الأمر الذي تريده لنمرن عليك الدنيا فقام مغضبا و خرج الجماعة الذين حضروا معه إلى منازلهم. و روى الواقدي قال صلى عثمان بعد ما وثبوا به في المسجد شهرا كاملا ثم منعوه الصلاة و صلى بالناس أميرهم الغافقي. و روى المدائني قال كان عثمان محصورا محاطا به و هو يصلي بالناس في المسجد و أهل مصر و الكوفة و البصرة الحاضرون له يصلون خلفه و هم أدق في عينه من التراب. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 143قال أبو جعفر في التاريخ ثم إن أهل المدينة تفرقوا عنه و لزموا بيوتهم لا يخرج أحد منهم إلا بسيفه يمتنع به فن حصاره أربعين يوما. و روى الكلبي و الواقدي و المدائني أن محمد بن أبي بكر و محمد بن أبي حذيفة كانا بمصر يحرضان الناس على عثمان فسار محمد بن أبي بكر مع من سار إلى عثمان و أقام محمد بن أبي حذيفة بمصر ثم غلب عليها لما سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح عامل عثمان عنها إلى المدينة في أثر المصريين بإذن عثمان له فلما كان بأيلة بلغه

(3/126)


أن المصريين قد أحاطوا بعثمان و أنه مقتول و أن محمد بن أبي حذيفة قد غلب على مصر فعاد عبد الله إلى مصر فمنع عنها فأتى فلسطين فأقام بها حتى قتل عثمان. و روى الكلبي قال بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح رسولا من مصر إلى عثمان يخبره بنهوض من نهض من مصر إليه و أنهم قد أظهروا العمرة و قصدهم خلعه أو قتله فخطب عثمان الناس و أعلمهم حالهم و قال إنهم قد أسرعوا إلى الفتنة و استطالوا عمري و الله إن فارقتهم ليتمنين كل منهم أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم سنة مما يرون من الدماء المسفوكة و الإحن و الأثرة الظاهرة و الأحكام المغيرة. و روى أبو جعفر قال كان عمرو بن العاص ممن يحرض على عثمان و يغري به و لقد خطب عثمان يوما في أواخر خلافته فصاح به عمرو بن العاص اتق الله يا عثمان فإنك قد ركبت أمورا و ركبناها معك فتب إلى الله نتب فناداه عثمان و إنك هاهنا يا ابن النابغة قملت و الله جبتك منذ نزعتك عن العمل فنودي من ناحية أخرى تب إلى الله و نودي من أخرى مثل ذلك فرفع يديه إلى السماء و قال اللهم إني أول التائبين ثم نزل.

(3/127)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 144و روى أبو جعفر قال كان عمرو بن العاص شديد التحريض و التأليب على عثمان و كان يقول و الله إن كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء و الوجوه فلما سعر الشر بالمدينة خرج إلى منزله بفلسطين فبينا هو بقصره و معه ابناه عبالله و محمد و عندهم سلامة بن روح الجذامي إذ مر بهم راكب من المدينة فسألوه عن عثمان فقال محصور فقال عمرو أنا أبو عبد الله قد يضرط العير و المكواة في النار ثم مر بهم راكب آخر فسألوه فقال قتل عثمان فقال عمرو أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها فقال سلامة بن روح يا معشر قريش إنما كان بينكم و بين العرب باب فكسرتموه فقال نعم أردنا أن يخرج الحق من خاصرة الباطل ليكون الناس في الأمر شرعا سواء. و روى أبو جعفر قال لما نزل القوم ذا خشب يريدون قتل عثمان إن لم ينزع عما يكرهون و علم عثمان ذلك جاء إلى منزل علي ع فدخل و قال يا ابن عم إن قرابتي قريبة و لي عليك حق و قد جاء ما ترى من هؤلاء القوم و هم مصبحي و لك عند الناس قدر و هم يسمعون منك و أحب أن تركب إليهم فتردهم عني فإن في دخولهم علي وهنا لأمري و جرأة علي فقال ع على أي شي ء أردهم قال على أن أصير إلى ما أشرت به و رأيته ي فقال علي ع إني قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك تخرج و تقول و تعد ثم ترجع و هذا من فعل مروان و معاوية و ابن عامر و عبد الله بن سعد فإنك أطعتهم و عصيتني قال عثمان فإني أعصيهم و أطيعك. فأمر علي ع الناس أن يركبوا معه فركب ثلاثون رجلا من المهاجرين شرح نهج البغة ج : 2 ص : 145و الأنصار منهم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل و أبو جهم العدوي و جبير بن مطعم و حكيم بن حزام و مروان بن الحكم و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. و من الأنصار أبو أسيد الساعدي و زيد بن ثابت و حسان بن ثابت و كعب بن مالك و غيرهم فأتوا المصريين فكلموهم فكان الذي يكلمهم علي و محمد بن مسلمة فسمعوا منهما و

(3/128)


رجعوا أصحابهم يطلبون مصر و رجع علي ع حتى دخل على عثمان فأشار عليه أن يتكلم بكلام يسمعه الناس منه ليسكنوا إلى ما يعدهم به من النزوع و قال له إن البلاد قد تمخضت عليك و لا آمن أن يجي ء ركب ن جهة أخرى فتقول لي يا علي اركب إليهم فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك و استخففت بحقك. فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها و أعطى الناس من نفسه التوبة و قال لهم أنا أول من اتعظ و أستغفر الله عما فعلت و أتوب إليه فمثلي نزع و تاب فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروا رأيهم و ليذكر كل واحد ظلامته لأكشفها و حاجته لأقضيها فو الله لئن ردني الحق عبدا لأستن بسنة العبيد و لأذلن ذل العبيد و ما عن الله مذهب إلا إليه و الله لأعطينكم الرضا و لأنحين مروان و ذويه و لا أحتجب عنكم. فرق الناس له و بكوا حتى خضلوا لحاهم و بكى هو أيضا فلما نزل وجد مروان و سعيدا و نفرا من بني أمية في منزله قعودا لم يكونوا شهدوا خطبته و لكنها بلغتهم فلما جلس قال مروان يا أمير المؤمنين أ أتكلم أم أسكت فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان لا بل تسكت فأنتم و الله قاتلوه و مميتو أطفاله إنه قد قال مقالة لا ينبغي له

(3/129)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 146أن ينزع عنها فقال لها مروان و ما أنت و ذاك و الله لقد مات أبوك و ما يحسن أن يتوضأ فقالت مهلا يا مروان عن ذكر أبي إلا بخير و الله لو لا أن أباك عم عثمان و أنه يناله غمه و عيبه لأخبرتك من أمره بما لا أكذب فيه عليه. فأعرض عنه عان ثم عاد فقال يا أمير المؤمنين أ أتكلم أم أسكت فقال تكلم فقال بأبي أنت و أمي و الله لوددت أن مقالتك هذه كانت و أنت ممتنع فكنت أول من رضي بها و أعان عليها و لكنك قلت ما قلت و قد بلغ الحزام الطبيين و جاوز السيل الزبى و حين أعطى الخطة الذليلة الذليل و الله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها ما زدت على أن جرأت عليك الناس. فقال عثمان قد كان من قولي ما كان و إن الفائت لا يرد و لم آل خيرا. فقال مروان إن الناس قد اجتمعوا ببابك أمثال الجبال قال ما شأنهم قال أنت دعوتهم إلى نفسك فهذا يذكر مظلمة و هذا يطلب مالا و هذا يسأل نزع عامل من عمالك عنه و هذا ما جنيت على خلافتك و لو استمسكت و صبرت كان خيرا لك قال فاخرج أنت إلى الناس فكلمهم فإني أستحيي أن أكلمهم و أردهم. فخرج مروان إلى الناس و قد ركب بعضهم بعضا فقال ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم جئتم لنهب شاهت الوجوه أ تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا اعزبوا عنا و الله إن رمتمونا لنمرن عليكم ما حلا و لنحلن بكم ما لا يسركم و لا تحمدوا فيه غب رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فإنا و الله غير مغلوبين على ما في أيدينا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 147فرجع الناس خائبين يشتمون عان و مروان و أتى بعضهم عليا ع فأخبره الخبر فأقبل علي ع على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري فقال أ حضرت خطبة عثمان قال نعم قال أ حضرت مقالة مروان للناس قال نعم فقال أي عباد الله يا لله للمسلمين إني إن قعدت في بيتي قال لي تركتني و خذلتني و إن تكلمت فبلغت له ما يريد جاء مروان فتلعب به حتى قد صار سيقة له يسوقه حيث

(3/130)


يشاء بعد كبر السن و صحبته الرسول ص و قام مغضبا من فوره حتى دخل على عثمان فقال له أ ما يرضى مروان منك إلا أن يحرفك عن دينك و عقلك فأنت معه كجمل الظعينة يقاد حيث يسار به و الله ما مروان بذي رأي في دينه و لا عقله و إني لأراه يوردك ثم لا يصدرك و ما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك أفسدت شرفك و غلبت على رأيك ثم نهض. فدخلت نائلة بنت الفرافصة فقالت قد سمعت قول علي لك و إنه ليس براجع إليك و لا معاود لك و قد أطعت مروان يقودك حيث يشاء قال فما أصنع قالت تتقي الله و تتبع سنة صاحبيك فإنك متى أطعت مروان قتلك و ليس لمروان عند الناس قدر و لا هيبة و لا محبة و إنما تركك الناس لمكانه و إنما رجع عنك أهل مصر لقول علي فأرسل إليه فاستصلحه فإن له عند الناس قدما و إنه لا يعصى. فأرسل إلى علي فلم يأته و قال قد أعلمته أني غير عائد. قال أبو جعفر فجاء عثمان إلى علي بمنزله ليلا فاعتذر إليه و وعد من نفسه الجميل و قال إني فاعل و إني غير فاعل فقال له علي ع أ بعد ما تكلمت على منبر رسول الله ص و أعطيت من نفسك ثم دخلت بيتك و خرج مروان

(3/131)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 148إلى الناس يشتمهم على بابك فخرج عثمان من عنده و هو يقول خذلتني يا أبا الحسن و جرأت الناس علي فقال علي ع و الله إني لأكثر الناس ذبا عنك و لكني كلما جئت بشي ء أظنه لك رضا جاء مروان بغيره فسمعت قوله و تركت قولي. و لم يغد علي إلصر عثمان إلى أن منع الماء لما اشتد الحصار عليه فغضب علي من ذلك غضبا شديدا و قال لطلحة أدخلوا عليه الروايا فكره طلحة ذلك و ساءه فلم يزل علي ع حتى أدخل الماء إليه. و روى أبو جعفر أيضا أن عليا ع كان في ماله بخيبر لما حصر عثمان فقدم المدينة و الناس مجتمعون على طلحة و كان لطلحة في حصار عثمان أثر فلما قدم علي ع أتاه عثمان و قال له أما بعد فإن لي حق الإسلام و حق الإخاء و القرابة و الصهر و لو لم يكن من ذلك شي ء و كنا في جاهلية لكان عارا على بني عبد مناف أن يبتز بنو تيم أمرهم يعني طلحة فقال له علي أنا أكفيك فاذهب أت. ثم خرج إلى المسجد فرأى أسامة بن زيد فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة و هي مملوءة من الناس فقال له يا طلحة ما هذا الأمر الذي صنعت بعثمان فقال يا أبا حسن أ بعد أن مس الحزام الطبيين فانصرف علي ع حتى أتى بيت المال فقال افتحوه فلم يجدوا المفاتيح فكسر الباب و فرق ما فيه على الناس فانصرف الناس من عند طلحة حتى بقي وحده و سر عثمان بذلك و جاء طلحة فدخل على عثمان فقال يا أمير المؤمنين إني أردت أمرا فحال الله بيني و بينه و قد جئتك تائبا فقال و الله ما جئت و لكن جئت مغلوبا الله حسيبك يا طلحة. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص 149قال أبو جعفر كان عثمان مستضعفا طمع فيه الناس و أعان على نفسه بأفعاله و باستيلاء بني أمية عليه و كان ابتداء الجرأة عليه أن إبلا من إبل الصدقة قدم بها عليه فوهبها لبعض ولد الحكم بن أبي العاص فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأخذها و قسمها بين الناس و عثمان في داره فكان ذلك أول وهن دخل على خلافة عثمان. و قيل بل كان أول وهن دخل

(3/132)


عليه أن عثمان مر بجبلة بن عمرو الساعدي و هو في نادي قومه و في يده جامعة فسلم فرد القوم عليه فقال جبلة لم تردون على رجل فعل كذا و فعل كذا ثم قال لعثمان و الله لأطرحن هذا الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه الخبيثة مروان و ابن عامر و ابن أبي سرح فمنهم من نزل القرآن بذمه و منهم من أباح رسول الله ص دمه. و قيل إنه خطب يوما و بيده عصا كان رسول الله ص و أبو بكر و عمر يخطبون عليها فأخذها جهجاه الغفاري من يده و كسرها على ركبته فلما تكاثرت أحداثه و تكاثر طمع الناس فيه كتب جمع من أهل المدينة من الصحابة و غيرهم إلى من بالآفاق إن كنتم تريدون الجهاد فهلموا إلينا فإن دين محمد قد أفسده خليفتكم فاخلعوه فاختلفت عليه القلوب و جاء المصريون و غيرهم إلى المدينة حتى حدث ما حدث. و روى الواقدي و المدائني و ابن الكلبي و غيرهم و ذكره أبو جعفر في التاريخ و ذكره غيره من جميع المورخين أن عليا ع لما رد المصريين رجعوا بعد ثلاثة أيام فأخرجوا صحيفة في أنبوبة رصاص و قالوا وجدنا غلام عثمان بالموضع المعروف

(3/133)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 150بالبويب على بعير من إبل الصدقة ففتشنا متاعه لأنا استربنا أمره فوجدنا فيه هذه الصحيفة مضمونها أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بجلد عبد الرحمن بن عديس و عمرو بن الحمق و حلق رءوسهما و لحاهما و حبسهما و صلب قوم آخرين من أهل مصر. قيل إن الذي أخذت منه الصحيفة أبو الأعور السلمي و إنهم لما رأوه و سألوه عن مسيره و هل معه كتاب فقال لا فسألوه في أي شي ء هو فتغير كلامه فأخذوه و فتشوه و أخذوا الكتاب منه و عادوا إلى المدينة و جاء الناس إلى علي ع و سألوه أن يدخل إلى عثمان فيسأله عن هذه الحا فقام فجاء إليه فسأله فأقسم بالله ما كتبته و لا علمته و لا أمرت به فقال محمد بن مسلمة صدق هذا من عمل مروان فقال لا أدري و كان أهل مصر حضورا فقالوا أ فيجترأ عليك و يبعث غلامك على جمل من إبل الصدقة و ينقش على خاتمك و يبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة و أنت لا تدري قال نعم قالوا إنك إما صادق أو كاذب فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا و عقوبتنا بغير حق و إن كنت صادقا فقد استحققت الخلع لضعفك عن هذا الأمر و غفلتك و خبث بطانتك و لا ينبغي لنا أن نترك هذا الأمر بيد من تقطع الأمور دونه لضعفه و غفلته فاخلع نفسك منه فقال لا أنزع قميصا ألبسنيه الله و لكني أتوب و أنزع قالوا لو كان هذا أول ذنب تبت منه لقبلنا و لكنا رأيناك تتوب ثم تعود و لسنا بمنصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله و إن منعك أصحابك و أهلك قاتلناهم حتى نخلص إليك فقال أما أن أبرأ من خلافة الله فالقتل أحب إلي من ذلك و أما قتالكم من يمنع عني فإني لا آمر أحدا بقتالكم فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل و لو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد فقدموا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 151علي أو لحقت ببعض الأطراف و كثرت الأصوات و اللغط فقام علي فأخرج أهل مصر معه و خرج إلى منزله قال أبو جعفر و كتب عثمان إلى معاوية و ابن

(3/134)


عامر و أمراء الأجناد يستنجدهم و يأمر بالعجل و البدار و إرسال الجنود إليه فتربص به معاوية فق في أهل الشام يزيد بن أسد القسري جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق فتبعه خلق كثير فسار بهم إلى عثمان فلما كانوا بوادي القرى بلغهم قتل عثمان فرجعوا. و قيل بل أشخص معاوية من الشام حبيب بن مسلمة الفهري و سار من البصرة مجاشع بن مسعود السلمي فلما وصلوا الربذة و نزلت مقدمتهم الموضع المسمى صرارا بناحية المدينة أتاهم قتل عثمان فرجعوا و كان عثمان قد استشار نصحاءه في أمره فأشاروا أن يرسل إلى علي ع يطلب إليه أن يرد الناس و يعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى تأتيه الأمداد فقال إنهم لا يقبلون التعليل و قد كان مني في المرة الأولى ما كان فقال مروان أعطهم ما سألوك و طاولهم ما طاولوك فإنهم قوم قد بغوا عليك و لا عهد لهم. فدعا عليا ع و قال له قد ترى ما كان من الناس و لست آمنهم على دمي فارددهم عني فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي و من غيري. فقال علي إن الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك و إنهم لا يرضون إلا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 152بالرضا و قد كنت أعطيتهم من قبل عهدا فلم تف به فلا تغرر في هذه المرة فإني معطيهم عنك الحق قال أعطهم فو الله لأفين لهم. فخرج علي ع إلى الناس فقال إنكم إنما تطلبون الحق و قد أعطيتموه و إنه منصف من نفسه فسأله الناس أن يستوثق لهم و قالوا إنا لا نرضى بقول دون فعل فدخل عليه فأعلمه فقال اضرب بيني و بين الناس أجلا فإني لا أقدر على تبديل ما كرهوا في يوم واحد فقال علي ع أما ما كان بالمدينة فلا أجل فيه و أما ما غاب فأجله وصول أمرك قال نعم فأجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام فأجابه إلى ذلك و كتب بينه و بين الناس كتابا على رد كل مظلمة و عزل كل عامل كرهوه فكف الناس عنه و جعل يتأهب سرا للقتال و يستعد بالسلاح و اتخذ جندا فلما مضت الأيام الثلاثة و لم يغير شيئا ثار به الناس و خرج قوم إلى من

(3/135)


بذي خشب من المصريين فأعلموهم الحال فقدموا المدينة و تكاثر الناس عليه و طلبوا منه عزل عماله و رد مظالمهم فكان جوابه لهم أني إن كنت أستعمل من تريدون لا من أريد فلست إذن في شي ء من الخلافة و الأمر أمركم فقالوا و الله لتفعلن أو لتخلعن أو لنقتلنك فأبى عليهم و قال لا أنزع سربالا سربلني الله فحصروه و ضيقوا الحصار عليه. و روى أبو جعفر لما اشتد على عثمان الحصار أشرف على الناس فقال يا أهل المدينة أستودعكم الله و أسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي ثم قال أنشدكم الله هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم و يجمعكم على خيركم أ فتقولون إن الله لم يستجب لكم و هنتم عليه و أنتم أهل حقه و أنصار نبيه أم تقولون هان على الله

(3/136)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 153دينه فلم يبال من ولى و الدين لم يتفرق أهله بعد أم تقولون لم يكن أخذ عن مشورة إنما كان مكابرة فوكل الله الأمة إذ عصته و لم يتشاوروا في الإمامة إلى أنفسها أم تقولون إن الله لم يعلم عاقبة أمري فمهلا مهلا لا تقتلوني و إنه لا يحللا قتل ثلاثة زان بعد إحصان أو كافر بعد إيمان أو قاتل نفس بغير حق أما إنكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لا يرفعه الله عنكم أبدا فقالوا أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر فإن كل ما يصنعه الله الخيرة و لكن الله جعلك بلية ابتلى بها عباده و لقد كانت لك قدم و سابقة و كنت أهلا للولاية و لكن أحدثت ما تعلمه و لا نترك اليوم إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاما قابلا و أما قولك لا يحل دم إلا بإحدى ثلاث فإنا نجد في كتاب الله إباحة دم غير الثلاثة دم من سعى في الأرض بالفساد و دم من بغى ثم قاتل على بغيه و دم من حال دون شي ء من الحق و منعه و قاتل دونه و قد بغيت و منعت الحق و حلت دونه و كابرت عليه و لم تقد من نفسك من ظلمته و لا من عمالك و قد تمسكت بالإمارة علينا و الذين يقومون دونك و يمنعونك إنما يمنعونك و يقاتلوننا لتسميتك بالإمارة فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال عك. فسكت عثمان و لزم الدار و أمر أهل المدينة بالرجوع و أقسم عليهم فرجعوا إلا الحسن بن علي و محمد بن طلحة و عبد الله بن الزبير و أشباها لهم و كانت مدة الحصار أربعين يوما. قال أبو جعفر ثم إن محاصري عثمان أشفقوا من وصول أجناد من الشام و البصرة تمنعه فحالوا بين عثمان و بين الناس و منعوه كل شي ء حتى الماء فأرسل عثمان سرا إلى علي ع و إلى أزواج النبي ص أنهم قد منعونا الماء فإن قدرتم أن شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 154ترسلوا إلينا ماء فافعلوا فجاء علي ع في الغلس و أم حبيبة بنت أبي سفيان فوقف علي ع على الناس فوعظهم ال أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين و لا أمر الكافرين

(3/137)


إن فارس و الروم لتأسر فتطعم و تسقي فالله الله لا تقطعوا الماء عن الرجل فأغلظوا له و قالوا لا نعم و لا نعمة عين فلما رأى منهم الجد نزع عمامته عن رأسه و رمى بها إلى دار عثمان يعلمه أنه قد نهض و عاد. و أما أم حبيبة و كانت مشتملة على إداوة فضربوا وجه بغلتها فقالت إن وصايا أيتام بني أمية عند هذا الرجل فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال اليتامى فشتموها و قالوا أنت كاذبة و قطعوا حبل البغلة بالسيف فنفرت و كادت تسقط عنها فتلقاها الناس فحملوها إلى منزلها. و روى أبو جعفر قال أشرف عثمان عليهم يوما فقال أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة بمالي أستعذب بها و جعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين قالوا نعم قال فلم تمنعونني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر ثم قال أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا فزدتها في المسجد قالوا نعم قال فهل علمتم أن أحدا منع أن يصلي فيه قبلي.

(3/138)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 155و روى أبو جعفر عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال دخلت على عثمان فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على بابه من الناس فمنهم من يقول ما تنتظرون به و منهم من يقول لا تعجلوا فعساه ينزع و يراجع فبينا نحن إذ مر طلحة فقام إليه ا عديس البلوي فناجاه ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه لا تتركوا أحدا يدخل إلى عثمان و لا يخرج من عنده قال لي عثمان هذا ما أمر به طلحة اللهم اكفني طلحة فإنه حمل هؤلاء القوم و ألبهم علي و الله إني لأرجو أن يكون منها صفرا و أن يسفك دمه قال فأردت أن أخرج فمنعوني حتى أمرهم محمد بن أبي بكر فتركوني أخرج. قال أبو جعفر فلما طال الأمر و علم المصريون قد أجرموا إليه جرما كجرم القتل و أنه لا فرق بين قتله و بين ما أتوا إليه و خافوا على نفوسهم من تركه حيا راموا الدخول عليه من باب داره فأغلقوا الباب و مانعهم الحسن بن علي و عبد الله بن الزبير و محمد بن طلحة و مروان و سعيد بن العاص و جماعة معهم من أبناء الأنصار فزجرهم عثمان و قال أنتم في حل من نصرتي فأبوا و لم يرجعوا. و قام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض و كان من الصحابة فنادى عثمان و أمره أن يخلع نفسه فبينا هو يناشده و يسومه خلع نفسه رماه كثير بن الصلت الكندي و كان من أصحاب عثمان من أهل الدار بسهم فقتله فصاح المصريون و غيرهم عند ذلك ادفعوا إلينا قاتل ابن عياض لنقتله به فقال عثمان لم أكن لأدفع إليكم رجلا نصرني و أنتم تريدون قتلي فثاروا إلى الباب فأغلق دونهم فجاءوا بنار فأحرقوه و أحرقوا السقيفة التي عليه فقال لمن عنده من أنصاره إن رسول الله ص عهد شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 156إلي عهدا فأنا صابر عليه فأخرج على رجل يقاتل دوني ثم قال للحسن إن أباك الآن لفي أمر عظيم من أجلك فاخرج إليه أقسمت عليك لما خرجت إليه فلم يفعل و وقف محاميا عنه خرج مروان بسيفه يجالد الناس فضربه رجل من بني ليث على رقبته فأثبته

(3/139)


و قطع إحدى علباويه فعاش مروان بعد ذلك أوقص و قام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليذفف عليه فقامت دونه فاطمة أم إبراهيم بن عدي و كانت أرضعت مروان و أرضعت له فقالت له إن كنت تريد قتله فقد قتل و إن كنت إنما تريد أن تتلعب بلحمه فأقبح بذلك فتركه فخلصته و أدخلته بيتها فعرف لها بنو ذلك بعد و استعملوا ابنها إبراهيم و كان له منهم خاصة. و قتل المغيرة بن الأخنس بن شريق و هو يحامي عن عثمان بالسيف و اقتحم القوم الدار و دخل كثير منهم الدور المجاورة لها و تسوروا من دار عمرو بن حزم إليها حتى ملئوها و غلب الناس على عثمان و ندبوا رجلا لقتله فدخل إليه البيت فقال له اخلعها و ندعك فقال ويحك و الله ما كشفت عن امرأة في جاهلية و لا إسلام و لا تعينت و لا تمنيت و لا وضعت يميني على عورتي مذ بايعت رسول الله و لست بخالع قميصا كسانيه الله حتى يكرم أهل السعادة و يهين أهل الشقاوة. فخرج عنه فقالوا له ما صنعت قال إني لم أستحل قتله فأدخلوا إليه رجلا من الصحابة فقال له لست بصاحبي إن النبي ص دعا لك أن يحفظك يوم كذا و لن تضيع فرجع عنه.

(3/140)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 157فأدخلوا إليه رجلا من قريش فقال له إن رسول الله ص استغفر لك يوم كذا فلن تقارف دما حراما فرجع عنه. فدخل عليه محمد بن أبي بكر فقال له عثمان ويحك أ على الله تغضب هل لي إليك جرم إلا أني أخذت حق الله منك فأخذ محمد بلحيته و قال أخز الله يا نعثل قال لست بنعثل لكني عثمان و أمير المؤمنين فقال ما أغنى عنك معاوية و فلان و فلان فقال عثمان يا ابن أخي دعها من يدك فما كان أبوك ليقبض عليها فقال لو عملت ما عملت في حياة أبي لقبض عليها و الذي أريد بك أشد من قبضي عليها فقال أستنصر الله عليك و أستعين به فتركه و خرج. و قيل بل طعن جبينه بمشقص كان في يده فثار سودان بن حمران و أبو حرب الغافقي و قتيرة بن وهب السكسكي فضربه الغافقي بعمود كان في يده و ضرب المصحف برجله و كان في حجره فنزل بين يديه و سال عليه الدم و جاء سودان ليضربه بالسيف فأكبت عليه امرأته نائلة بنت الفرافصة الكلبية و اتقت السيف بيدها و هي تصرخ فنفح أصابعها فأطنها فولت فغمز بعضهم أوراكها و قال إنها لكبيرة العجز و ضرب سودان عثمان فقتله. و قيل بل قتله كنانة بن بشر التجيبي و قيل بل قتيرة بن وهب و دخل غلمان عثمان و مواليه فضرب أحدهم عنق سودان فقتله فوثب قتيرة بن وهب على ذلك الغلام شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 158فقتله فوثب غلام آخر على قتيرة فقتله و نهبت دار عثمان و أخذ ما على نسائه و ما كان في بيت المال و كان فيه غرارتان دراهم و وثب عمرو بن الحمق على صدر عثمان و به رمق فطعنه تسع طعنات و قال أما ثل منها فإني طعنتهن لله تعالى و أما ست منها فلما كان في صدري عليه و أرادوا قطع رأسه فوقعت عليه زوجتاه نائلة بنت الفرافصة و أم البنين ابنة عيينة بن حصن الفزاري فصحن و ضربن الوجوه فقال ابن عديس اتركوه و أقبل عمير بن ضابئ البرجمي فوثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه و قال له سجنت أبي حتى مات في السجن و كان قتله يوم الثامن عشر من ذي

(3/141)


الحجة من سنة خمسين و ثلاثين و قيل بل في أيام التشريق و كان عمره ستا و ثمانين سنة. قال أبو جعفر و بقي عثمان ثلاثة أيام لا يدفن ثم إن حكيم بن حزام و جبير بن مطعم كلما عليا ع في أن يأذن في دفنه ففعل فلما سمع الناس بذلك قعد له قوم في الطريق بالحجارة و خرج به ناس يسير من أهله و معهم الحسن بن علي و ابن الزبير و أبو جهم بن حذيفة بين المغرب و العشاء فأتوا به حائطا من حيطان المدينة يعرف بحش كوكب و هو خارج البقيع فصلوا عليه و جاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه فأرسل علي ع فمنع من رجم سريره و كف الذين راموا منع الصلاة عليه و دفن في حش كوكب فلما ظهر معاوية على الأمر أمر بذلك الحائط فهدم و أدخل في البقيع و أمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل بمقابر المسلمين بالبقيع. و قيل إن عثمان لم يغسل و إنه كفن في ثيابه التي قتل فيها.

(3/142)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 159قال أبو جعفر و روي عن عامر الشعبي أنه قال ما قتل عمر بن الخطاب حتى ملته قريش و استطالت خلافته و قد كان يعلم فتنتهم فحصرهم في المدينة و قال لهم إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد و إن كان الرجل ليستأذنه في الغزويقول إن لك في غزوك مع رسول الله ص ما يكفيك و هو خير لك من غزوك اليوم و خير لك من الغزو ألا ترى الدنيا و لا تراك فكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش و لم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة فلما ولي عثمان الخلافة خلى عنهم فانتشروا في البلاد و خالطهم الناس و أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه و كان عثمان أحب إلى الرعية من عمر. قال أبو جعفر و كان أول منكر ظهر بالمدينة في خلافة عثمان حين فاضت الدنيا على العرب و المسلمين طيران الحمام و المسابقة بها و الرمي عن الجلاهقات و هي قسي البندق فاستعمل عثمان عليها رجلا من بني ليث في سنة ثمان من خلافته فقص الطيور و كسر الجلاهقات. و روى أبو جعفر قال سأل رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة ما دعاه إلى الخروج على عثمان فقال كان يتيما في حجر عثمان و كان والى أيتام أهل بيته و محتمل كلهم فسأل عثمان العمل فقال يا بني لو كنت رضا لاستعملتك قال فأذن لي فأخرج فأطلب الرزق قال اذهب حيث شئت و جهزه من عنده و حمله و أعطاه فلما وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه لأنه منعه الإمارة فقيل له فعمار بن ياسر قال شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 160كان بينه و بين العباس بن عتبة بن أبي لهب كلام فضربهما عثمان فأورث ذلك تعاد بين عمار و عثمان و قد كان تقاذفا قبل ذلك. قال أبو جعفر و سئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر ما دعاه إلى ركوب عثمان فقال لزمه حق فأخذ عثمان من ظهره فغضب و غره أقوام فطمع لأنه كان من الإسلام بمكان و كانت له دالة فصار مذمما بعد أن كان محمدا و كان كعب بن ذي الحبكة النهدي يلعب بالنيرنجات بالكوفة فكتب عثمان إلى الوليد أن

(3/143)


يوجعه ضربا فضربه و سيره إلى دنباوند. و كان ممن خرج إليه و سار إليه و حبس ضابئ بن الحارث البرجمي لأنه هجا قوما فنسبهم إلى أن كلبهم يأتي أمهم فقال لهم
فأمكم لا تتركوها و كلبكم فإن عقوق الوالدين كبير
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 161فاستعدوا عليه عثمان فحبسه فمات في السجن فلذلك حقد ابنه عمير عليه و كسر أضلاعه بعد قتله. قال أبو جعفر و كان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون ألفا فقال طلحة له يوما قد تهيأ مالك فاقبضه فقال هو لك معونة على مروءتك فلما حصر عثن قال علي ع لطلحة أنشدك الله إلا كففت عن عثمان فقال لا و الله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها فكان علي ع يقول لحا الله ابن الصعبة أعطاه عثمان ما أعطاه و فعل به ما فعل
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 31162- و من كلام له ع لما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعتهلَا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ الذَّلُولُ وَ لَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا
قال الرضي رحمه الله و هو ع أول من سمعت منه هذه الكلمة أعني فما عدا مما بدا

(3/144)


ليستفيئه إلى طاعته أي يسترجعه فاء أي رجع و منه سمي الفي ء للظل بعد الزوال و جاء في رواية فإنك إن تلقه تلفه أي تجده ألفيته على كذا أي وجدته. و عاقصا قرنه أي قد عطفه تيس أعقص أي قد التوى قرناه على أذنيه و الفعل فيه عقص الثور قرنه بالفتح و قال القطب الراونديعقص بالكسر و ليس بصحيح و إنما يقال عقص الرجل بالكسر إذا شح و ساء خلقه فهو عقص. و قوله يركب الصعب أي يستهين بالمستصعب من الأمور يصفه بشراسة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 163الخلق و البأو و كذلك كان طلحة و قد وصفه عمر بذلك و يقال إن طلحة أحدث يوم أحد عنده كبراديدا لم يكن و ذاك لأنه أغنى في ذلك اليوم و أبلى بلاء حسنا. و العريكة هاهنا الطبيعة يقال فلان لين العريكة إذا كان سلسا. و قال الراوندي العريكة بقية السنام و لقد صدق و لكن ليس هذا موضع ذاك. و قوله ع لابن عباس قل له يقول لك ابن خالك لطيف جدا و هو من باب الاستمالة و الإذكار بالنسب و الرحم أ لا ترى أن له في القلب من الموقع الداعي إلى الانقياد ما ليس لقوله يقول لك أمير المؤمنين و من هذا الباب قوله تعالى في ذكر موسى و هارون وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ لما رأى هارون غضب موسى و احتدامه شرع معه في الاستمالة و الملاطفة فقال له ابْنَ أُمَّ و أذكره حق الأخوة و ذلك أدعى إلى عطفه عليه من أن يقول له يا موسى أو يا أيها النبي. فأما قوله فما عدا مما بدا فعدا بمعنى صرف قال الشاعر
و إني عداني أن أزورك محكم متى ما أحرك فيه ساقي يصخب

(3/145)


و من هاهنا بمعنى عن و قد جاءت في كثير من كلامهم كذلك قال ابن قتيبة في أدب الكاتب قالوا حدثني فلان من فلان أي عن فلان و لهيت من كذا أي عنه و يصير ترتيب الكلام و تقديره فما صرفك عما بدا منك أي شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 164ظهر و المعنى ما الذي صدك عن طاعتي د إظهارك لها و حذف الضمير المفعول المنصوب كثير جدا كقوله تعالى وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أي أرسلناه و لا بد من تقديره كي لا يبقى الموصول بلا عائد. و قال القطب الراوندي قوله فما عدا مما بدا له معنيان أحدهما ما الذي منعك مما كان قد بدا منك من البيعة قبل هذه الحالة و الثاني ما الذي عاقك و يكون المفعول الثاني لعدا محذوفا يدل عليه الكلام أي ما عداك يريد ما شغلك و ما منعك مما كان بدا لك من نصرتي من البدا الذي يبدو للإنسان و لقائل أن يقول ليس في الوجه الثاني زيادة على الوجه الأول إلا زيادة فاسدة أما إنه ليس فيه زيادة فلأنه فسر في الوجه الأول عدا بمعنى منع ثم فسره في الوجه الثاني بمعنى عاق و فسر عاق بمنع و شغل فصار عدا في الوجه الثاني مثل عدا في الوجه الأول. و قوله مما كان بدا منك فسره في الأول و الثاني بتفسير واحد فلم يبق بين الوجهين تفاوت و أما الزيادة الفاسدة فظنه أن عدا يتعدى إلى مفعولين و أنه قد حذف الثاني و هذا غير صحيح لأن عدا ليس من الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين بإجماع النحاة و من العجب تفسيره المفعول الثاني المحذوف على زعمه بقوله أي ما عداك و هذا المفعول المحذوف هاهنا هو مفعول عدا الذي لا مفعول لها غيره فلا يجوز أن يقال إنه أول و لا ثان. ثم حكى القطب الراوندي حكاية معناها أن صفية بنت عبد المطلب أعتقت عبيدا ثم ماتت ثم مات العبيد و لم يخلفوا وارثا إلا مواليهم و طلب علي ع ميراث العبيد بحق التعصيب و طلبه الزبير بحق الإرث من أمه و تحاكما إلى عمر فقضى عمر بالميراث للزبير. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 16

(3/146)


قال القطب الراوندي رحمه الله تعالى حكاية عن أمير المؤمنين ع إنه قال هذا خلاف الشرع لأن ولاء معتق المرأة إذا كانت ميتة يكون لعصبتها و هم العاقلة لا لأولادها
قلت هذه المسألة مختلف فيها بين الإمامية فأبو عبد الله بن النعمان المعروف بالمفيد يقول إن الولاء لولدها و لا يصحح هذا الخبر و يطعن في راويه و غيره من فقهاء الإمامية كأبي جعفر الطوسي و من قال بقوله يذهبون إلى أن الولاء لعصبتها لا لولدها و يصححون الخبر و يزعمون أن أمير المؤمنين ع سكت و لم ينازع على قاعدته في التقية و استعمال المجاملة مع القوم. فأما مذاهب الفقهاء غير الإمامية فإنها متفقة على أن الولاء للولد لا للعصبة كما هو قول المفيد رحمه الله تعالى.
و روى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده ع قال سألت ابن عباس رضي الله عنه عن ذلك فقال إني قد أتيت الزبير فقلت له فقال قل له إني أريد ما تريد كأنه يقول الملك لم يزدني على ذلك فرجعت إلى علي ع فأخبرته
و روى محمد بن إسحاق و الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنه قال قلت الكلمة للزبير فلم يزدني على أن قال قل له
إنا مع الخوف الشديد لنطمع
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 166قال و سئل ابن عباس عما يعني بقوله هذا فقال يقول إنا على الخوف لنطمع أن نلي من الأمر ما وليتم. و قد فسره قوم تفسيرا آخر و قالوا أراد إنا مع الخوف من الله لنطمع أن يغفر لنا هذا الذنب. قلت و على كلا التفسيرين لم يحصل جواب المسأ
من أخبار الزبير و ابنه عبد الله

(3/147)


كان عبد الله بن الزبير هو الذي يصلي بالناس في أيام الجمل لأن طلحة و الزبير تدافعا الصلاة فأمرت عائشة عبد الله أن يصلي قطعا لمنازعتهما فإن ظهروا كان الأمر إلى عائشة تستخلف من شاءت. و كان عبد الله بن الزبير يدعي أنه أحق بالخلافة من أبيه و من طلحة و يزعم أن عثمان يوم الدار أوصى بها إليه. و اختلفت الرواية في كيفية السلام على الزبير و طلحة فروي أنه كان يسلم على الزبير وحده بالإمرة فيقال السلام عليك أيها الأمير لأن عائشة ولته أمر الحرب. و روي أنه كان يسلم على كل واحد منهما بذلك. لما نزل علي ع بالبصرة و وقف جيشه بإزاء جيش عائشة قال الزبير و الله ما كان أمر قط إلا عرفت أين أضع قدمي فيه إلا هذا الأمر فإني لا أدري أ مقبل أنا فيه أم مدبر فقال له ابنه عبد الله كلا و لكنك فرقت سيوف ابن أبي طالب و عرفت أن الموت الناقع تحت راياته فقال الزبير ما لك أخزاك الله من ولد ما أشأمك شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 16 كان أمير المؤمنين ع يقول ما زال الزبير منا أهل البيت حتى شب ابنه عبد الله

(3/148)


برز علي ع بين الصفين حاسرا و قال ليبرز إلي الزبير فبرز إليه مدججا فقيل لعائشة قد برز الزبير إلى علي ع فصاحت وا زبيراه فقيل لها لا بأس عليه منه إنه حاسر و الزبير دارع فقال له ما حملك يا أبا عبد الله على ما صنعت قال أطلب بدم عثمان قال أنت و طلحة وليتماه و إنما نوبتك من ذلك أن تقيد به نفسك و تسلمها إلى ورثته ثم قال نشدتك الله أ تذكر يوم مررت بي و رسول الله ص متكئ على يدك و هو جاء من بني عمرو بن عوف فسلم علي و ضحك في وجهي فضحكت إليه لم أزده على ذلك فقلت لا يترك ابن أبي طالب يا رسول الله زهوه فقال لك مه إنه ليس بذي زهو أما إنك ستقاتله و أنت له ظالم فاسترجع الزبير و قال لقد كان ذلك و لكن الدهر أنسانيه و لأنصرفن عنك فرجع فأعتق عبده سرجس تحللا من يمين لزمته في القتال ثم أتى عائشة فقال لها إني ما وقفت موقفا قط و لا شهدت حربا إلا و لي فيه رأي و بصيرة إلا هذه الحرب و إني لعلى شك من أمري و ما أكاد أبصر موضع قدمي فقالت له يا أبا عبد الله أظنك فرقت سيوف ابن أبي طالب إنها و الله سيوف حداد معدة للجلاد تحملها فئة أنجاد و لئن فرقتها لقد فرقها الرجال قبلك قال كلا و لكنه ما قلت لك ثم انصرف. و روى فروة بن الحارث التميمي قال كنت فيمن اعتزل عن الحرب بوادي السباع مع الأحنف بن قيس و خرج ابن عم لي يقال له الجون مع عسكر البصرة فنهيته شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 168فقال لا أرغب بنفسي عن نصرة أم المؤمنين و حواري رسول الله فخرج معهم و إني لجالس مع الأحنف يستنبئ الأخبار إذا بالجون بن قتادة ن عمي مقبلا فقمت إليه و اعتنقته و سألته عن الخبر فقال أخبرك العجب خرجت و أنا لا أريد أن أبرح الحرب حتى يحكم الله بين الفريقين فبينا أنا واقف مع الزبير إذ جاءه رجل فقال أبشر أيها الأمير فإن عليا لما رأى ما أعد الله له من هذا الجمع نكص على عقبيه و تفرق عنه أصحابه و أتاه آخر فقال له مثل ذلك فقال الزبير ويحكم أبو حسن يرجع و

(3/149)


الله لو لم يجد إلا العرفج لدب إلينا فيه ثم أقبل رجل آخر فقال أيها الأمير إن نفرا من أصحاب علي فارقوه ليدخلوا معنا منهم عمار بن ياسر فقال الزبير كلا و رب الكعبة إن عمارا لا يفارقه أبدا فقال الرجل بلى و الله مرارا فلما رأى الزبير أن الرجل ليس براجع عن قوله بعث معه رجلا آخر و قال اذهبا فانظرا فعادا و قالا إن عمارا قد أتاك رسولا من عند صاحبه قال جون فسمعت و الله الزبير يقول وا انقطاع ظهراه وا جدع أنفاه وا سواد وجهاه و يكرر ذلك مرارا ثم أخذته رعدة شديدة فقلت و الله إن الزبير ليس بجبان و إنه لمن فرسان قريش المذكورين و إن لهذا الكلام لشأنا و لا أريد أن أشهد مشهدا يقول أميره هذه المقالة فرجعت إليكم فلم يكن إلا قليل حتى مر الزبير بنا متاركا للقوم فاتبعه عمير بن جرموز فقتله. أكثر الروايات على أن ابن جرموز قتل مع أصحاب النهر و جاء في بعضها أنه عاش إلى أيام ولاية مصعب بن الزبير العراق و أنه لما قدم مصعب البصرة خافه ابن جرموز فهرب فقال مصعب ليظهر سالما و ليأخذ عطاءه موفورا أ يظن أني أقتله بأبي عبد الله و أجعله فداء له فكان هذا من الكبر المستحسن. شرح نهج الاغة ج : 2 ص : 169كان ابن جرموز يدعو لدنياه فقيل له هلا دعوت لآخرتك فقال أيست من الجنة. الزبير أول من شهر سيفه في سبيل الله قيل له في أول الدعوة قد قتل رسول الله فخرج و هو غلام يسعى بسيفه مشهورا. و روى الزبير بن بكار في الموفقيات قال لما سار علي ع إلى البصرة بعث ابن عباس فقال ائت الزبير فاقرأ عليه السلام و قل له يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة و أنكرتنا بالبصرة فقال ابن عباس أ فلا آتي طلحة قال لا إذا تجده عاقصا قرنه في حزن يقول هذا سهل. قال فأتيت الزبير فوجدته في بيت يتروح في يوم حار و عبد الله ابنه عنده فقال مرحبا بك يا ابن لبابة أ جئت زائرا أم سفيرا قلت كلا إن ابن خالك يقرأ عليك السلام و يقول لك يا أبا عبد الله كيف عرفتنا

(3/150)


بالمدينة و أنكرتنا بالبصرة فقال
علقتهم أني خلقت عصبه قتادة تعلقت بنشبه
لن أدعهم حتى أؤلف بينهم قال فأردت منه جوابا غير ذلك فقال لي ابنه عبد الله قل له بيننا و بينك دم خليفة و وصية خليفة و اجتماع اثنين و انفراد واحد و أم مبرورة و مشاورة العشيرة قال فعلمت أنه ليس وراء هذا الكلام إلا الحرب فرجعت إلى علي ع فأخبرته. شرح نهج البلة ج : 2 ص : 170قال الزبير بن بكار هذا الحديث كان يرويه عمي مصعب ثم تركه و قال إني رأيت جدي أبا عبد الله الزبير بن العوام في المنام و هو يعتذر من يوم الجمل فقلت له كيف تعتذر منه و أنت القائل
علقتهم أني خلقت عصبه قتادة تعلقت بنشبه
لن أدعهم حتى أؤلف بينهم فقال لم أقله
استطراد بلاغي في الكلام على الاستدراج

(3/151)


و اعلم أن في علم البيان بابا يسمى باب الخداع و الاستدراج يناسب ما يذكره فيه علماء البيان قول أمير المؤمنين ع يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز و أنكرتني بالعراق. قالوا و من ذلك قول الله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ فإنه أخذ معهم في الاحتجاج بطريق التقسيم فقال هذا الرجل إما أن يكون كاذبا فكذبه يعود عليه و لا يتعداه و إما أن يكون صادقا فيصيبكم بعض ما يعدكم به و لم يقل كل ما يعدكم به مخادعة لهم و تلطفا و استمالة لقلوبهم كي لا ينفروا منه لو أغلظ في القول و أظهر لهم أنه يهضمه بعض حقه. و كذلك تقديم قسم الكذب على قسم الصدق كأنه رشاهم ذلك و جعله برطيلا لهم ليطمئنوا إلى نصحه. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 171و من ذلك قول إبراهيم على ما حكاه تعالى عنه في قوله إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا فطلب منه في مبدأ الأمر السبب في عبادته الصنم و العلة لذلك و نبهه على أن عبادة ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنه شيئا قبيحة ثم لم يقل له إني قد تبحرت في العلوم بل قال له قد حصل عندي نوع من العلم لم يحصل عندك و هذا من باب الأدب في الخطاب ثم نبهه على أن

(3/152)


الشيطان عاص لله فلا يجوز اتباعه ثم خوفه من عذاب الله إن اتبع الشيطان و خاطبه في جميع ذلك بقوله يا أَبَتِ استعطافا و استدراجا كقول علي ع يقول لك ابن خالك فلم يجبه أبوه إلى ما أراد و لا قال له يا بني بل قال أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ فخاطبه بالاسم و أتاه بهمزة الاستفهام المتضمنة للإنكار ثم توعده فقال لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا. قالوا و من هذا الباب ما روي أن الحسين بن علي ع كلم معاوية في أمر ابنه يزيد و نهاه عن أن يعهد إليه فأبى عليه معاوية حتى أغضب كل واحد منهما صاحبه فقال الحسين ع في غضون كلامه أبي خير من أبيه و أمي خير من أمه فقال معاوية يا ابن أخي أما أمك فخير من أمه و كيف تقاس امرأة من كلب بابنة رسول الله ص و أما أبوه فحاكم أباك إلى الله تعالى فحكم لأبيه على أبيك. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 172قالوا و هذا من باب الاستدراج اللطيف لأن معاوية علم أنه إن أجابه بجواب يتضمن الدعوى لكونه خيرا من علي ع لم يلتفت أحد إليه و لم يكن له كلام يتعلق به لأن آثار علي ع في الإسلام و شرفه و فضيلته تجل أن يقاس بها أ فعدل عن ذكر ذلك إلى التعلق بما تعلق به فكان الفلج له. ذكر هذا الخبر نصر الله بن الأثير في كتابه المسمى بالمثل السائر في باب الاستدراج. و عندي أن هذا خارج عن باب الاستدراج و أنه من باب الجوابات الإقناعية التي تسميها الحكماء الجدليات و الخطابيات و هي أجوبة إذا بحث عنها لم يكن وراءها تحقيق و كانت ببادئ النظر مسكتة للخصم صالحة لمصادمته في مقام المجادلة. و مثل ذلك قول معاوية لأهل الشام حيث التحق به عقيل بن أبي طالب يا أهل الشام ما ظنكم برجل لم يصلح لأخيه. و قوله لأهل الشام إن أبا لهب المذموم في القرآن باسمه عم علي بن أبي طالب فارتاع أهل الشام لذلك و شتموا عليا و لعنوه. و من ذلك قول عمر يوم السقيفة أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين

(3/153)


قدمهما رسول الله ص للصلاة. و من ذلك
قول علي ع مجيبا لمن سأله كم بين السماء و الأرض فقال دعوة مستجابة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 173و جوابه أيضا لمن قال له كم بين المشرق و المغرب فقال مسيرة يوم للشمسو من ذلك قول أبي بكر و قد قال له عمر أقد خالدا بمالك بن نويرة سيف الله فلا أغمده. و كقوله و قد أشير عليه أيضا بأن يقيد من بعض أمرائه أنا أقيد من وزعة الله ذكر ذلك صاحب الصحاح في باب وزع. و الجوابات الإقناعية كثيرة و لعلها جمهور ما يتداوله الناس و يسكت به بعضهم بعضا

(3/154)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 32174- و من خطبة له عأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ وَ زَمَنٍ شَدِيدٍ يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُ مُسِيئاً وَ يَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً لَا نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا وَ لَا نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا وَ لَا نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا وَ النَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَمْنَعُهُ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَهَانَةُ نَفْسِهِ وَ كَلَالَةُ حَدِّهِ وَ نَضِيضُ وَفْرِهِ وَ مِنْهُمْ الْمُصْلِتُ بِسَيْفِهِ وَ الْمُعْلِنُ بَشَرِّهِ وَ الْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ وَ أَوْبَقَ دِينَهُ لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُهُ أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ وَ لَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً وَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ عِوَضاً وَ مِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآْخِرَةِ وَ لَا يَطْلُبُ الآْخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ وَ قَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ وَ شَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ وَ زَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمَانَةِ وَ اتَّخَذَ سِتْرَ اللَّهِ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُئُولَةُ نَفْسِهِ وَ انْقِطَاعُ سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ وَ تَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَ لَا مَغْدًى شرح نه البلاغة ج : 2 ص : 175وَ بَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ وَ أَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ وَ خَائِفٍ مَقْمُوعٍ وَ سَاكِتٍ مَكْعُومٍ وَ دَاعٍ مُخْلِصٍ وَ ثَكْلَانَ مُوجَعٍ قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ التّقِيَّةُ وَ

(3/155)


شَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ فَهُمْ فِي بَحْرٍ أُجَاجٍ أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ قَدْ وَعَظُوا حَتَّى مَلُّوا وَ قُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا وَ قُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ وَ قُرَاضَةِ الْجَلَمِ وَ اتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَ ارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ
قال الرضي رحمه الله و هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية و هي من كلام أمير المؤمنين ع الذي لا يشك فيه و أين الذهب من الرغام و أين العذب من الأجاج و قد دل على ذلك الدليل الخريت و نقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان و التبيين و ذكر من نسبها إلى معاوية ثم تكلم من بعدها بكلام في معناها جملته أنه قال و هذا الكلام بكلام علي ع شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 176أشبه و بمذهبه في تصنيف الناس و في الإخبار عما هم عليه من القهر و الإذلال و من التقية و الخوف أليق قال و متى وجا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد و مذاهب العباد

(3/156)


دهر عنود جائر عند عن الطريق يعند بالضم أي عدل و جار و يمكن أن يكون من عند يعند بالكسر أي خالف و رد الحق و هو يعرفه إلا أن اسم الفاعل المشهور في ذلك عاند و عنيد و أما عنود فهو اسم فاعل من عند يعند بالضم. قوله و زمن شديد أي بخيل و منه قوله تعالى وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي و إنه لبخيل لأجل حب الخير و الخير المال و قد روي و زمن كنود و هو الكفور قال تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. و القارعة الخطب الذي يقرع أي يصيب. قوله و نضيض وفره أي قلة ماله و كان الأصل و نضاضة وفره ليكون المصدر في مقابلة المصدر الأول و هو كلالة حده لكنه أخرجه على باب إضافة الصفة إلى الموصوف كقولهم عليه سحق عمامة و جرد قطيفة و أخلاق ثياب. قوله و المجلب بخيله و رجله المجلب اسم فاعل من أجلب عليهم أي أعان عليهم. و الرجل جمع راجل كالركب جمع راكب و الشرب جمع شارب و هذا من ألفاظ الكتاب العزيز وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 177و أشرط نفسه أي هيأها و أعدها للفساد في الأرض. و أوبق دينه أهلكه و الحطام المال و أصله ما تكسر من اليبيس. ينتهزه يختلسه. و المقنب خيل ما بين الثلاثين إلى الأرين. و يفرعه يعلوه و طامن من شخصه أي خفض و قارب من خطوه لم يسرع و مشى رويدا. و شمر من ثوبه قصره و زخرف من نفسه حسن و نمق و زين و الزخرف الذهب في الأصل. و ضئوله نفسه حقارتها و الناد المنفرد و المكعوم من كعمت البعير إذا شددت فمه و الأجاج الملح. و أفواههم ضامزة بالزاي أي ساكنة قال بشر بن أبي خازم
لقد ضمزت بجرتها سليم مخافتنا كما ضمز الحمار

(3/157)


و القرظ ورق السلم يدبغ به و حثالته ما يسقط منه. و الجلم المقص تجز به أوبار الإبل و قراضته ما يقع من قرضه و قطعه. فإن قيل بينوا لنا تفصيل هذه الأقسام الأربعة قيل القسم الأول من يقعد به عن طلب الإمرة قلة ماله و حقارته في نفسه. و القسم الثاني من يشمر و يطلب الإمارة و يفسد في الأرض و يكاشف. و القسم الثالث من يظهر ناموس الدين و يطلب به الدنيا. و القسم الرابع من لا مال له أصلا و لا يكاشف و يطلب الملك و لا يطلب الدنيا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 178بالرياء و الناموس بل تنقطع أسبابه كلها فيخلد إلى القناعة و يتحلى بية الزهادة في اللذات الدنيوية لا طلبا للدنيا بل عجزا عن الحركة فيها و ليس بزاهد على الحقيقة. فإن قيل فهاهنا قسم خامس قد ذكره ع و هم الأبرار الأتقياء الذين أراق دموعهم خوف الآخرة. قيل إنه ع إنما قال إن الناس على أربعة أصناف و عنى بهم من عدا المتقين و لهذا قال لما انقضى التقسيم و بقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع فأبان بذلك عن أن هؤلاء خارجون عن الأقسام الأربعة
فصل في ذكر الآيات و الأخبار الواردة في ذم الرياء و الشهرة
و اعلم أن هذه الخطبة تتضمن الذم الكثير لمن يدعي الآخرة من أهل زماننا و هم أهل الرياء و النفاق و لابسوا الصوف و الثياب المرقوعة لغير وجه الله. و قد ورد في ذم الرياء شي ء كثير و قد ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم. و من الآيات الواردة في ذلك قوله تعالى يُراؤُنَ النّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. و منها قوله تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 179و منها قوله تعالى إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللِّ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً. و منها قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ

(3/158)


و من الأخبار النبوية قوله ص و قد سأله رجل يا رسول الله فيم النجاة فقال ألا تعمل بطاعة الله و تريد بها الناس
و في الحديث من راءى راءى الله به و من سمع سمع الله به
و في الحديث أن الله تعالى يقول للملائكة إن هذا العمل لم يرد صاحبه به وجهي فاجعلوه في سجين
و قال ص إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا و ما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقول الله تعالى إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا فاطلبوا جزاءكم منهم
و في حديث شداد بن أوس رأيت النبي ص يبكي فقلت يا رسول الله ما يبكيك فقال إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنما و لا شمسا و لا قمرا و لكنهم يراءون بأعمالهم
و رأى عمر رجلا يتخشع و يطأطئ رقبته في مشيته فقال له يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب. و رأى أبو أمامة رجلا في المسجد يبكي في سجوده فقال له أنت أنت لو كان هذا في بيتك. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 18 و قال علي ع للمرائي أربع علامات يكسل إذا كان وحده و ينشط إذا كان في الناس و يزيد في العمل إذا أثني عليه و ينقص منه إذا لم يثن عليه

(3/159)


و قال رجل لعبادة بن الصامت أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجهه و محمدة الناس قال لا شي ء لك فسأله ثلاث مرات كل ذلك يقول لا شي ء لك ثم قال في الثالثة يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك الحديث. و ضرب عمر رجلا بالدرة ثم ظهر له أنه لم يأت جرما فقاله اقتص مني فقال بل أدعها لله و لك قال ما صنعت شيئا إما أن تدعها لي فأعرف ذلك لك أو تدعها لله وحده. و قال الحسن لقد صحبت أقواما إن كان أحدهم لتعرض له الكلمة لو نطق بها لنفعته و نفعت أصحابه ما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة و إن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى على الطريق فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة. و قال الفضيل كانوا يراءون بما يعملون و صاروا اليوم يراءون بما لا يعملون. و قال عكرمة إن الله تعالى يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء فيها. و قال الحسن المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى هو رجل سوء يريد أن يقول الناس هذا صالح و كيف يقولون و قد حل من ربه محل الأردئاء فلا بد لقلوب المؤمنين أن تعرفه. و قال قتادة إذا راءى العبد قال الله تعالى لملائكته انظروا إلى عبدي يستهزئ بي. و قال الفضيل من أراد أن ينظر مرائيا فلينظر إلي شرح نهج البلاغة ج : ص : 181و قال محمد بن المبارك الصوري أظهر السمت بالليل فإنه أشرف من سمتك بالنهار فإن سمت النهار للمخلوقين و سمت الليل لرب العالمين. و قال إبراهيم بن أدهم ما صدق الله من أحب أن يشتهر.
و من الكلام المعزو إلى عيسى ابن مريم ع إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه و لحيته و ليمسح شفتيه لئلا يعلم الناس أنه صائم و إذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله و إذا صلى فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق
و من كلام بعض الصالحين آخر ما يخرج من رءوس الصديقين حب الرئاسة.

(3/160)


و روى أنس بن مالك عن رسول الله ص أنه قال يحسب المرء من الشر إلا من عصمه الله من السوء أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه و دنياه إن الله لا ينظر إلى صوركم و لكن ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم
و قال علي ع تبذل لا تشتهر و لا ترفع شخصك لتذكر بعلم و اسكت و اصمت تسلم تسر الأبرار و تغيظ الفجار
و كان خالد بن معدان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة. و رأى طلحة بن مصرف قوما يمشون معه نحو عشرة فقال فراش نار و ذبان طمع. و قال سليمان بن حنظلة بينا نحن حوالي أبي بن كعب نمشي إذ رآه عمر فعلاه بالدرة و قال له انظر من حولك إن الذي أنت فيه ذلة للتابع فتنة للمتبوع. و خرج عبد الله بن مسعود من منزله فاتبعه قوم فالتفت إليهم و قال علام تتبعونني فو الله لو تعلمون مني ما أغلق عليه بابي لما تبعني منكم اثنان. و قال الحسن خفق النعال حول الرجال مما يثبت عليهم قلوب الحمقى. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 182و روي أن رجلا صحب حسن في طريق فلما فارقه قال أوصني رحمك الله قال إن استطعت أن تعرف و لا تعرف و تمشي و لا يمشى إليك و تسأل و لا تسأل فافعل. و خرج أيوب السختياني في سفر فشيعه قوم فقال لو لا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله. و عوتب أيوب على تطويل قميصه فقال إن الشهرة كانت فيما مضى في طوله و هي اليوم في قصره. و قال بعضهم كنت مع أبي قلابة إذ دخل رجل عليه كساء فقال إياكم و هذا الحمار الناهق يشير به إلى طالب شهرة. و قال رجل لبشر بن الحارث أوصني فقال أخمل ذكرك و طيب مطعمك. و كان حوشب يبكي و يقول بلغ اسمي المسجد الجامع. و قال بشر ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه و افتضح. و قال أيضا لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس. فهذه الآثار قليل مما ورد عن الصالحين رحمهم الله في ذم الرياء و كون الشهرة طريقا إلى الفتنة
فصل في مدح الخمول و الجنوح إلى العزلة

(3/161)


و قد صرح أمير المؤمنين ع في مدح الأبرار و هم القسم الخامس بمدح الخمول فقال قد أخملتهم التقية يعني الخوف. و قد ورد في الأخبار و الآثار شي ء كثير في مدح الخمول. قال رسول الله ص رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 183لو أقسم على الله لأبر قسمه و في رواية ابن مسعود رب ذي طمرين لا يؤبه له و لو سأل الجنة لأعطيها
و في الحديث أيضا عنه ص أ لا أدلكم على أهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره أ لا أدلكم على أهل النار كل متكبر جواظ
و عنه ص أن أهل الجنة الشعث الغبر الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم و إذا خطبوا لم ينكحوا و إذا قالوا لم ينصت لهم حوائج أحدهم تتلجلج في صدره لو قسم نورهم يوم القيامة على الناس لوسعهم
و روي أن عمر دخل المسجد فإذا بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله ص فقال ما يبكيك قال سمعت رسول الله ص يقول إن اليسير من الرياء لشرك و إن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا و إذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة
و قال ابن مسعود كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب خلقان الثياب تعرفون عند أهل السماء و تخفون عند أهل الأرض
و في حديث أبي أمامة يرفعه قال الله تعالى إن أغبط أوليائي لعبد مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة و قد أحسن عبادة ربه و أطاعه في السر و كان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع
و في الحديث السعيد من خمل صيته و قل تراثه و سهلت منيته و قلت بواكيه

(3/162)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 184 و قال الفضيل روي لي أن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده أ لم أنعم عليك أ لم أسترك أ لم أخمل ذكركو كان الخليل بن أحمد يقول في دعائه اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك و اجعلني عند نفسي من أوضع خلقك و اجعلني عند الناس من أوسط خلقك و قال إبراهيم بن أدهم ما قرت عيني ليلة قط في الدنيا إلا مرة بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام و كان بي علة البطن فجرني المؤذن برجلي حتى أخرجني من المسجد. و قال الفضيل إن قدرت على ألا تعرف فافعل و ما عليك ألا تعرف و ما عليك ألا يثنى عليك و ما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله تعالى. فإن قيل فما قولك في شهرة الأنبياء و الأئمة ع و أكابر الفقهاء المجتهدين قيل إن المذموم طلب الشهرة فأما وجودها من الله تعالى من غير تكلف من العبد و لا طلب فليس بمذموم بل لا بد من وجود إنسان يشتهر أمره فإن بطريقه ينصلح العالم و مثال ذلك الغرقى الذين بينهم غريق ضعيف الأولى به ألا يعرفه أحد منهم لئلا يتعلق به فيهلك و يهلكوا معه فإن كان بينهم سابح قوي مشهور بالقوة فالأولى ألا يكون مجهولا بل ينبغي أن يعرف ليتعلقوا به فينجو هو و يتخلصوا من الغرق بطريقه

(3/163)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 33185- و من خطبة له ع عند خروجه لقتال أهل البصرةقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِذِي قَارٍ وَ هُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ فَقُلْتُ لَا قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ وَ اللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ص وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً وَ لَا يَدَّعِي نُبُوَّةً فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ وَ بَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ وَ اطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ أَمَا وَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى وَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا مَا ضَعُفْتُ وَ لَا جَبُنْتُ وَ إِنَّ مَسِيرِي هَذَا لِمِثْلِهَا فَلَأَنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ مَا لِي وَ لِقُرَيْشٍ وَ اللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ وَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ وَ إِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْيَوْمَ وَ اللَّهِ مَا تَنْقِمُ مِنَّا قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ فَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي حَيِّزِنَا فَكَانُوا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ
أَدَمْتَ لَعَمْرِي شُرْبَكَ الْمَحْضَ صَابِحاً وَ أَكْلَكَ بِالزُّبْدِ الْمُقَشَّرَةَ الْبُجْرَاوَ نَحْنُ وَهَبْنَاكَ الْعَلَاءَ وَ لَمْ تَكُنْ عَلِيّاً وَ حُطْنَا حَوْلَكَ الْجُرْدَ وَ السُّمْرَا

(3/164)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 186ذو قار موضع قريب من البصرة و هو المكان الذي كانت فيه الحرب بين العرب و الفرس و نصرت العرب على الفرس قبل الإسلام. و يخصف نعله أي يخرزها. و بوأهم محلتهم أسكنهم منزلهم أي ضرب الناس بسيفه على الإسلام حتى أوصلهم إليه و مثله و بلغ منجاتهم إلا أن في هذه الفاصلة ذكر النجاة مصرحا به. فاستقامت قناتهم استقاموا على الإسلام أي كانت قناتهم معوجة فاستقامت. و اطمأنت صفاتهم كانت متقلقلة متزلزلة فاطمأنت و استقرت. و هذه كلها استعارات. ثم أقسم أنه كان في ساقتها حتى تولت بحذافيرها الأصل في ساقتها أن يكون جمع سائق كحائض و حاضة و حائك و حاكة ثم استعملت لفظة الساقة للأخير لأن السائق إنما يكون في آخر الركب أو الجيش. و شبه ع أمر الجاهلية إما بعجاجة ثائرة أو بكتيبة مقبلة للحرب فقال إني طردتها فولت بين يدي و لم أزل في ساقتها أنا أطردها و هي تنطرد أمامي حتى تولت بأسرها و لم يبق منها شي ء ما عجزت عنها و لا جبنت منها. ثم قال و إن مسيري هذا لمثلها فلأنقبن الباطل كأنه جعل الباطل كشي ء قد اشتمل على الحق و احتوى عليه و صار الحق في طيه كالشي ء الكامن المستتر فيه فأقسم لينقبن ذلك الباطل إلى أن يخرج الحق من جنبههذا من باب الاستعارة أيضا. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 187ثم قال لقد قاتلت قريشا كافرين و لأقاتلنهم مفتونين لأن الباغي على الإمام مفتون فاسق. و هذا الكلام يؤكد قول أصحابنا إن أصحاب صفين و الجمل ليسوا بكفار خلافا للإمامية فإنهم يزعمون أنهم كفارخبر يوم ذي قار
روى أبو مخنف عن الكلبي عن أبي صالح عن زيد بن علي عن ابن عباس قال لما نزلنا مع علي ع ذا قار قلت يا أمير المؤمنين ما أقل من يأتيك من أهل الكوفة فيما أظن فقال و الله ليأتيني منهم ستة آلاف و خمسمائة و ستون رجلا لا يزيدون و لا ينقصون

(3/165)


قال ابن عباس فدخلني و الله من ذلك شك شديد في قوله و قلت في نفسي و الله إن قدموا لأعدنهم. قال أبو مخنف فحدث ابن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار قال نفر إلى علي ع إلى ذي قار من الكوفة في البحر و البر ستة آلاف و خمسمائة و ستون رجلا أقام علي بذي قار خمسة عشر يوما حتى سمع صهيل الخيل و شحيح البغال حوله قال فلما سار بهم منقلة قال ابن عباس و الله لأعدنهم فإن كانوا كما قال و إلا أتممتهم من غيرهم فإن الناس قد كانوا سمعوا قوله قال فعرضتهم فو الله ما وجدتهم يزيدون رجلا و لا ينقصون رجلا فقلت الله أكبر صدق الله و رسوله ثم سرنا. قال أبو مخنف و لما بلغ حذيفة بن اليمان أن عليا قد قدم ذا قار و استنفر الناس دعا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 188أصحابه فوعظهم و ذكرهم الله و زهدهم في الدنيا و رغبهم في الآخرة و قال لهم الحقوا بأمير المؤمنين و وصي سيد المرسلين فإن من الحق أن تنصروه وذا الحسن ابنه و عمار قد قدما الكوفة يستنفران الناس فانفروا. قال فنفر أصحاب حذيفة إلى أمير المؤمنين و مكث حذيفة بعد ذلك خمس عشرة ليلة و توفي رحمه الله تعالى قال أبو مخنف و قال هاشم بن عتبة المرقال يذكر نفورهم إلى علي ع
و سرنا إلى خير البرية كلها على علمنا أنا إلى الله نرجع نوقره في فضله و نجله و في الله ما نرجو و ما نتوقع و نخصف أخفاف المطي على الوجا و في الله ما نزجي و في الله نوضع دلفنا بجمع آثروا الحق و الهدى إلى ذي تقى في نصره نتسرع نكافح عنه و السيوف شهيرة تصافحاق الرجال فتقطع
قال أبو مخنف فلما قدم أهل الكوفة على علي ع سلموا عليه و قالوا الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي اختصنا بموازرتك و أكرمنا بنصرتك قد أجبناك طائعين غير مكرهين فمرنا بأمرك.

(3/166)


قال فقام فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله و قال مرحبا بأهل الكوفة بيوتات العرب و وجوهها و أهل الفضل و فرسانها و أشد العرب مودة لرسول الله ص و لأهل بيته و لذلك بعثت إليكم و استصرختكم عند نقض طلحة و الزبير بيعتي عن غير جور مني و لا حدث و لعمري لو لم تنصروني بأهل الكوفة لرجوت أن يكفيني الله غوغاء الناس و طغام أهل البصرة مع أن عامة من بها و وجوهها و أهل الفضل و الدين قد اعتزلوها و رغبوا عنها
فقام رءوس القبائل فخطبوا و بذلوا له النصر فأمرهم بالرحيل إلى البصرة

(3/167)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 34189- و من خطبة له ع في استنفار الناس إلى أهل الشامأُفٍّ لَكُمْ لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآْخِرَةِ عِوَضاً وَ بِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي غَمْرَةٍ وَ مِنَ الذُّهُولِ فِي سَكْرَةٍ يُرْتَجُ عَلَيْكُمْ حِوَارِي فَتَعْمَهُونَ فَكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ فَأَنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ مَا أَنْتُمْ لِي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اللَّيَالِي وَ مَا أَنْتُمْ بِرُكْنٍ يُمَالُ بِكُمْ وَ لَا زَوَافِرَ عِزٍّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ مَا أَنْتُمْ إِلَّا كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ انْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ لَبِئْسَ لَعَمْرُ اللَّهِ سُعْرُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ تُكَادُونَ وَ لَا تَكِيدُونَ وَ تُنْتَقَصُ أَطْرَافُكُمْ فَلَا تَمْتَعِضُونَ لَا يُنَامُ عَنْكُمْ وَ أَنْتُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ غُلِبَ وَ اللَّهِ الْمُتَخَاذِلُونَ وَ ايْمُ اللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ بِكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى وَ اسْتَحَرَّ الْمَوْتُ قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الرَّأْسِ وَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْرُقُ لَحْمَهُ وَ يَهْشِمُ عَظْمَهُ وَ يَفْرِي جِلْدَهُ لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ ضَعِيفٌ مَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ فَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ وَ تَطِيحُ السَّوَاعِدُ وَ الْأَقْدَامُ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً وَ لَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ

(3/168)


فَالنَّصِيحَةُ شرح نهج البلة ج : 2 ص : 190لَكُمْ وَ تَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ وَ تَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا وَ تَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا وَ أَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ وَ النَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَ الْمَغِيبِ وَ الْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَ الطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ
أف لكم كلمة استقذار و مهانة و فيها لغات و يرتج يغلق و الحوار المحاورة و المخاطبة و تعمهون من العمه و هو التحير و التردد الماضي عمه بالكسر. و قوله دارت أعينكم من قوله تعالى يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ و من قوله تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. و قلوبكم مألوسة من الألس بسكون اللام و هو الجنون و اختلاط العقل. قوله ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي كلمة تقال للأبد تقول لا أفعله سجيس الليالي و سجيس عجيس و سجيس الأوجس معنى ذلك كله الدهر و الزمان و أبدا. قوله ما أنتم بركن يمال بكم أي لستم بركن يستند إليكم و يمال على العدو بعزكم و قوتكم. قوله و لا زوافر عز جمع زافرة و زافرة الرجل أنصاره و عشيرته و يجوز أن يكون زوافر عز أي حوامل عز زفرت الجمل أزفره زفرا أي حملته. قوله سعر نار الحرب جمع ساعر كقولك قوم كظم للغيظ جمع كاظم شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 191و تمتعضون تأنفون و تغضبون و حمس الوغى اشتد و أصل الوغى الصوت و الجلبة ثم سميت الحرب نفسها وغى لما فيها من الأصوات و الجلبة و استحر الموت أي اشتد. و قوله انفرجتم انفراج الرأس أي كما ينفلق الرأس فيذهب نصفه يمنة و فه شامة و المشرفية السيوف المنسوبة إلى مشارف و هي قرى من أرض العرب تدنو من الريف و لا يقال مشارفي كما لا يقال جعافري لمن ينسب إلى جعافر. و فراش الهام العظام الخفيفة تلي القحف. و قال الراوندي في تفسير قوله انفراج الرأس أراد به انفرجتم عني رأسا أي قطعا و

(3/169)


عرفه بالألف و اللام و هذا غير صحيح لأن رأسا لا يعرف قال و له تفسير آخر أن يكون المعنى انفراج رأس من أدنى رأسه إلى غيره ثم حرف رأسه عنه. و هذا أيضا غير صحيح لأنه لا خصوصية للرأس في ذلك فإن اليد و الرجل إذا أدنيتهما من شخص ثم حرفتهما عنه فقد انفرج ما بين ذلك العضو و بينه فأي معنى لتخصيص الرأس بالذكر. فأما قوله أنت فكن ذاك فإنه إنما خاطب من يمكن عدوه من نفسه كائنا من كان غير معين و لا مخصص و لكن الرواية وردت بأنه خاطب بذلك الأشعث بن قيس فإنه روي أنه قال له ع و هو يخطب و يلوم الناس على تثبيطهم و تقاعدهم هلا فعلت فعل ابن عفان فقال له إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له و لا وثيقة معه إن امرأ أمكن عدوه من نفسه يهشم عظمه و يفري جلده لضعيف رأيه مأفون عقله أنت فكن ذاك إن أحببت فأما أنا فدون أن أعطي ذاك ضرب بالمشرفية الفصل.

(3/170)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 192و يمكن أن تكون الرواية صحيحة و الخطاب عام لكل من أمكن من نفسه فلا منافاة بينهما. و قد نظمت أنا هذه الألفاظ في أبيات كتبتها إلى صاحب لي في ضمن مكتوب اقتضاها و هيإن امرأ أمكن من نفسه عدوه يجدع آرابه لا يدفع الضيم و لا ينكر الذل و لا يحصن جلبابه لفائل الرأي ضعيف القوى قد صرم الخذلان أسبابه أنت فكن ذاك فإني امرؤ لا يرهب الخطب إذا نابه إن قال دهر لم يطع أو شحا له فم أدرد أنيابه أو سامه الخسف أبى و انتضى دون مرام قرضابه أخزر غضبان شديد السطا يقدر أن يترك ما رابهخطب أمير المؤمنين ع بهذه الخطبة بعد فراغه من أمر الخوارج و قد كان قام بالنهروان فحمد الله و أثنى عليه و قال أما بعد فإن الله قد أحسن نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم من أهل الشام. فقاموا إليه فقالوا يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا و كلت سيوفنا و انصلتت أسنة رماحنا و عاد أكثرها قصدا ارجع بنا إلى مصرنا نستعد بأحسن عدتنا و لعل أمير المؤمنين يزيد في عددنا مثل من هلك منا فإنه أقوى لنا على عدونا. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 193فكان جوابه ع يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم و لا ترتدوا على أدباركم فتنبوا خاسرين. فتلكئوا عليه و قالوا إن البرد شديد. فقال إنهم يجدون البرد كما تجدون فتلكئوا و أبوا فقال أف لكم إنها سنة جرت ثم تلا قوله تعالى قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ. فقام منهم ناس فقالوا يا أمير المؤمنين الجراح فاشية في الناس و كان أهل النهروان قد أكثروا الجراح في عسكر أمير المؤمنين ع فارجع إلى الكوفة فأقم بها أياما ثم اخرج خار الله لك فرجع إلى الكوفة عن غير رضا
أمر الناس بعد وقعة النهروان

(3/171)


و روى نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد عن نمير بن وعلة عن أبي وداك قال لما كره القوم المسير إلى الشام عقيب واقعة النهروان أقبل بهم أمير المؤمنين فأنزلهم النخيلة و أمر الناس أن يلزموا معسكرهم و يوطنوا على الجهاد أنفسهم و أن يقلوا زيارة النساء و أبنائهم حتى يسير بهم إلى عدوهم و كان ذلك هو الرأي لو فعلوه لكنهم لم يفعلوا و أقبلوا يتسللون و يدخلون الكوفة فتركوه ع و ما معه من الناس إلا رجال من وجوههم قليل و بقي المعسكر خاليا فلا من دخل الكوفة خرج إليه و لا من أقام معه صبر فلما رأى ذلك دخل الكوفة. شرح نهج البلاغة ج : ص : 194
قال نصر بن مزاحم فخطب الناس بالكوفة و هي أول خطبة خطبها بعد قدومه من حرب الخوارج فقال أيها الناس استعدوا لقتال عدو في جهادهم القربة إلى الله عز و جل و درك الوسيلة عنده قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه موزعين بالجور و الظلم لا يعدلون به جفاة عن الكتاب نكب عن الدين يعمهون في الطغيان و يتسكعون في غمرة الضلال ف أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ و توكلوا على الله و كفى بالله وكيلا
قال فلم ينفروا و لم ينشروا فتركهم أياما ثم خطبهم فقال أف لكم لقد سئمت عتابكم أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا الفصل الذي شرحناه آنفا إلى آخره و زاد فيه أنتم أسود الشرى في الدعة و ثعالب رواغة حين البأس إن أخا الحرب اليقظان ألا إن المغلوب مقهور و مسلوب.
و روى الأعمش عن الحكم بن عتيبة عن قيس بن أبي حازم قال سمعت عليا ع على منبر الكوفة و هو يقول يا أبناء المهاجرين انفروا إلى أئمة الكفر و بقية الأحزاب و أولياء الشيطان انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا فو الله الذي فلق الحبة و برأ النسمة إنه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئا

(3/172)


قلت هذا قيس بن أبي حازم و هو الذي روى حديث إنكم لترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا نضامون في رؤيته و قد طعن مشايخنا المتكلمون فيه و قالوا إنه فاسق و لا تقبل روايته لأنه قال إني سمعت عليا يخطب على منبر الكوفة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 195يقول انفروا إلى بقية الأحزاب فأبغضته و دخل بغضه في قلبي و من يبغض عليا ع لا تقبل روايته. فإن قيل فما يقول مشايخكم في قوله ع انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا أ ليس هذا طعنا منه ع في عثمان قيل الأشهر الأكثر في الرواية صدر الحديث و أما عجز الحديث فليس بمشهور تلك الشهرة و إن صح حملناه على أنه أراد به معاوية و سمى ناصريه مقاتلين على دمه لأنهم يحامون عن دمه و من حامى عن دم إنسان فقد قاتل عليه. و روى أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو عاصم الثقفي قال جاءت امرأة من بني عبس إلى علي ع و هو يخطب بهذه الخطبة على منبر الكوفة فقالت يا أمير المؤمنين ثلاث بلبلن القلوب عليك قال و ما هن ويحك قالت رضاك بالقضية و أخذك بالدنية و جزعك عند البلية فقال إنما أنت امرأة فاذهبي فاجلسي على ذيلك فقالت لا و الله ما من جلوس إلا تحت ظلال السيوف.

(3/173)


و روى عمرو بن شمر الجعفي عن جابر عن رفيع بن فرقد البجلي قال سمعت عليا ع يقول يا أهل الكوفة لقد ضربتكم بالدرة التي أعظ بها السفهاء فما أراكم تنتهون و لقد ضربتكم بالسياط التي أقيم بها الحدود فما أراكم ترعوون فلم يبق إلا أن أضربكم بسيفي و إني لأعلم ما يقومكم و لكني لا أحب أن ألي ذلك منكم وا عجبا لكم و لأهل الشام أميرهم يعصي الله و هم يطيعونه و أميركم يطيع الله و أنتم تعصونه و الله لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني و لو سقت الدنيا بحذافيرها إلى الكافر لما أحبني و ذلك أنه قضى ما قضى على لسان النبي الأمي أنه لا يبغضني شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 196مؤمن و لا يحبني كافر و قد خاب من حمل ظلما و الله لتصبرن يا أهل الكوفة على قتال عدوكم أو ليسلطن الله عليكم قوما أنتم أولى بالحق منهم فليعذبنكم أ فمن قتلة بالسيف تحيدون إلى موتة على الفراش و الله لمو على الفراش أشد من ضربة ألف سيف

(3/174)


قلت ما أحسن قول أبي العيناء و قد قال له المتوكل إلى متى تمدح الناس و تهجوهم فقال ما أحسنوا و أساءوا و هذا أمير المؤمنين ع و هو سيد البشر بعد رسول الله ص يمدح الكوفة و أهلها عقيب الانتصار على أصحاب الجمل بما قد ذكرنا بعضه و سنذكر باقيه مدحا ليس باليسير و لا بالمستصغر و يقول للكوفة عند نظره إليها أهلا بك و بأهلك ما أرادك جبار بكيد إلا قصمه الله و يثني عليها و على أهلها حسب ذمه للبصرة و عيبه لها و دعائه عليها و على أهلها فلما خذله أهل الكوفة يوم التحكيم و تقاعدوا عن نصره على أهل الشام و خرج منهم الخوارج و مرق منهم المراق ثم استنفرهم بعد فلم ينفروا و استصرخهم فلم يصرخوا و رأى منهم دلائل الوهن و أمارات الفشل انقلب ذلك المدح ذما و ذلك الثناء استزادة و تقريعا و تهجينا. و هذا أمر مركوز في طبيعة البشر و قد كان رسول الله ص كذلك و القرآن العزيز أيضا كذلك أثنى على الأنصار لما نهضوا و ذمهم لما قعدوا في غزاة تبوك فقال فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآيات إلى أن رضي الله عنهم فقال وَ عَلَى شرح نهج البلاغة ج : 2 ص 197الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا أي عن رسول الله حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ الآية
مناقب علي و ذكر طرف من أخباره في عدله و زهده

(3/175)


روى علي بن محمد بن أبي سيف المدائني عن فضيل بن الجعد قال آكد الأسباب في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين ع أمر المال فإنه لم يكن يفضل شريفا على مشروف و لا عربيا على عجمي و لا يصانع الرؤساء و أمراء القبائل كما يصنع الملوك و لا يستميل أحدا إلى نفسه و كان معاوية بخلاف ذلك فترك الناس عليا و التحقوا بمعاوية فشكا علي ع إلى الأشتر تخاذل أصحابه و فرار بعضهم إلى معاوية فقال الأشتر يا أمير المؤمنين إنا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة و أهل الكوفة و رأي الناس واحد و قد اختلفوا بعد و تعادوا و ضعفت النية و قل العدد و أنت تأخذهم بالعدل و تعمل فيهم بالحق و تنصف الوضيع من الشريف فليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع فضجت طائفة ممن معك من الحق إذ عموا به و اغتموا من العدل إذ صاروا فيه و رأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء و الشرف فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا و قل من ليس للدنيا بصاحب و أكثرهم يجتوي الحق و يشتري الباطل و يؤثر الدنيا فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمل إليك أعناق الرجال و تصف نصيحتهم لك و تستخلص ودهم صنع الله لك يا أمير المؤمنين و كبت أعداءك و فض جمعهم و أوهن كيدهم و شتت أمورهم إنه بما يعملون خبير

(3/176)


فقال علي ع شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 198أما ما ذكرت من عملنا و سيرتنا بالعدل فإن الله عز و جل يقول مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ و أنا من أن أكون مقصرا فيما ذكرت أخوف و أما ما ذكرت من أن حق ثقل عليهم ففارقونا لذلك فقد علم الله أنهم لم يفارقونا من جور و لا لجئوا إذ فارقونا إلى عدل و لم يلتمسوا إلا دنيا زائلة عنهم كأن قد فارقوها و ليسألن يوم القيامة أ للدنيا أرادوا أم لله عملوا و أما ما ذكرت من بذل الأموال و اصطناع الرجال فإنه لا يسعنا أن نؤتي امرأ من الفي ء أكثر من حقه و قد قال الله سبحانه و تعالى و قوله الحق كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ و قد بعث الله محمدا ص وحده فكثره بعد القلة و أعز فئته بعد الذلة و إن يرد الله أن يولنا هذا الأمر يذلل لنا صعبه و يسهل لنا حزنه و أنا قابل من رأيك ما كان لله عز و جل رضا و أنت من آمن الناس عندي و أنصحهم لي و أوثقهم في نفسي إن شاء الله

(3/177)


و ذكر الشعبي قال دخلت الرحبة بالكوفة و أنا غلام في غلمان فإذا أنا بعلي ع قائما على صبرتين من ذهب و فضة و معه مخفقة و هو يطرد الناس بمخفقته ثم يرجع إلى المال فيقسمه بين الناس حتى لم يبق منه شي ء ثم انصرف و لم يحمل إلى بيته قليلا و لا كثيرا فرجعت إلى أبي فقت له لقد رأيت اليوم خير الناس أو أحمق الناس قال من هو يا بني قلت علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رأيته يصنع كذا فقصصت عليه فبكى و قال يا بني بل رأيت خير الناس. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 19 و روى محمد بن فضيل عن هارون بن عنترة عن زاذان قال انطلقت مع قنبر غلام علي ع فإذا هو يقول قم يا أمير المؤمنين فقد خبأت لك خبيئا قال و ما هو ويحك قال قم معي فانطلق به إلى بيته و إذا بغرارة مملوءة من جامات ذهبا و فضة فقال يا أمير المؤمنين رأيتك لا تترك شيئا إلا قسمته فادخرت لك هذا من بيت المال فقال علي ع ويحك يا قنبر لقد أحببت أن تدخل بيتي نارا عظيمة ثم سل سيفه و ضربه ضربات كثيرة فانتثرت من بين إناء مقطوع نصفه و آخر ثلثه و نحو ذلك ثم دعا بالناس فقال اقسموه بالحصص ثم قام إلى بيت المال فقسم ما وجد فيه ثم رأى في البيت إبرا و مسال فقال و لتقسموا هذا فقالوا لا حاجة لنا فيه و قد كان علي ع يأخذ من كل عامل مما يعمل فضحك و قال ليؤخذن شره مع خيره
و روى عبد الرحمن بن عجلان قال كان علي ع يقسم بين الناس الأبزار و الحرف و الكمون و كذا و كذا.
و روى مجمع التيمي قال كان علي ع يكنس بيت المال كل جمعة و يصلي فيه ركعتين و يقول ليشهد لي يوم القيامة

(3/178)


و روى بكر بن عيسى عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه قال شهدت عليا ع و قد جاءه مال من الجبل فقام و قمنا معه و جاء الناس يزدحمون فأخذ حبالا فوصلها بيده و عقد بعضها إلى بعض ثم أدارها حول المال و قال لا أحل لأحد أن يجاوز هذا الحبل قال فقعد الناس كلهم من وراء الحبل و دخل هو فقال أين رءوس الأسباع و كانت الكوفة يومئذ أسباعا فجعلوا يحملون هذه الجوالق إلى هذه الجوالق و هذا إلى هذا حتى استوت القسمة سبعة أجزاء و وجد مع المتاع شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 200رغيف فقال اكسروه سبع كسر و ضعوا على كل جزء كسرة ثم قالهذا جناي و خياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه
. ثم أقرع عليها و دفعها إلى رءوس الأسباع فجعل كل رجل منهم يدعو قومه فيحملون الجواليق
و روى مجمع عن أبي رجاء قال أخرج علي ع سيفا إلى السوق فقال من يشتري مني هذا فو الذي نفس علي بيده لو كان عندي ثمن إزار ما بعته فقلت له أنا أبيعك إزارا و أنسئك ثمنه إلى عطائك فدفعت إليه إزارا إلى عطائه فلما قبض عطاءه دفع إلي ثمن الإزار
و روى هارون بن سعيد قال قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي ع يا أمير المؤمنين لو أمرت لي بمعونة أو نفقة فو الله ما لي نفقة إلا أن أبيع دابتي فقال لا و الله ما أجد لك شيئا إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك
و روى بكر بن عيسى قال كان علي ع يقول يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي و رحلي و غلامي فلان فأنا خائن فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع و كان يطعم الناس منها الخبز و اللحم و يأكل هو الثريد بالزيت
و روى أبو إسحاق الهمداني أن امرأتين أتتا عليا ع إحداهما من العرب و الأخرى من الموالي فسألتاه فدفع إليهما دراهم و طعاما بالسواء فقالت إحداهما شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 201إني امرأة من العرب و هذه من العجم فقال إني و الله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفي ضلا على بني إسحاق

(3/179)


و روى معاوية بن عمار عن جعفر بن محمد ع قال ما اعتلج على علي ع أمران في ذات الله إلا أخذ بأشدهما و لقد علمتم أنه كان يأكل يا أهل الكوفة عندكم من ماله بالمدينة و أن كان ليأخذ السويق فيجعله في جراب و يختم عليه مخافة أن يزاد عليه من غيره و من كان أزهد في الدنيا من علي ع
و روى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال دخلت على علي ع فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته و كسر يابسة فقلت يا أمير المؤمنين أ تأكل مثل هذا فقال لي يا أبا الجنوب كان رسول الله يأكل أيبس من هذا و يلبس أخشن من هذا و أشار إلى ثيابه فإن أنا لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به
و روى عمران بن مسلمة عن سويد بن علقمة قال دخلت على علي ع بالكوفة فإذا بين يديه قعب لبن أجد ريحه من شدة حموضته و في يده رغيف ترى قشار الشعير على وجهه و هو يكسره و يستعين أحيانا بركبته و إذا جاريته فضة قائمة على رأسه فقلت يا فضة أ ما تتقون الله في هذا الشيخ أ لا نخلتم دقيقه فقالت إنا نكره أن نؤجر و يأثم نحن قد أخذ علينا ألا ننخل له دقيقا ما صحبناه قال و علي ع لا يسمع ما تقول فالتفت إليها فقال ما تقولين قالت سله فقال لي ما قلت لها قال فقلت إني قلت لها لو نخلتم دقيقه فبكى ثم قال بأبي و أمي من لم يشبع ثلاثا متوالية من خبز بر حتى فارق الدنيا و لم ينخل دقيقه قال يعني رسول الله ص
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 202 و روى يوسف بن يعقوب عن صالح بياع الأكسية أن جدته لقيت عليا ع بالكوفة و معه تمر يحمله فسلمت عليه و قالت له أعطني يا أمير المؤمنين هذا التمر أحمله عنك إلى بيتك فقال أبو العيال أحق بحمله قالت ثم قال لي أ لا تأكلين منه فقلت لا يد قالت فانطلق به إلى منزله ثم رجع مرتديا بتلك الشملة و فيها قشور التمر فصلى بالناس فيها الجمعة

(3/180)


و روى محمد بن فضيل بن غزوان قال قيل لعلي ع كم تتصدق كم تخرج مالك أ لا تمسك قال إني و الله لو أعلم أن الله تعالى قبل مني فرضا واحدا لأمسكت و لكني و الله ما أدري أ قبل مني سبحانه شيئا أم لا
روى عنبسة العابد عن عبد الله بن الحسين بن الحسن قال أعتق علي ع في حياة رسول الله ص ألف مملوك مما مجلت يداه و عرق جبينه و لقد ولي الخلافة و أتته الأموال فما كان حلواه إلا التمر و لا ثيابه إلا الكرابيس
و روى العوام بن حوشب عن أبي صادق قال تزوج علي ع ليلى بنت مسعود النهشلية فضربت له في داره حجلة فجاء فهتكها و قال حسب أهل علي ما هم فيه
و روى حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد ع قال ابتاع علي ع في خلافته قميصا سملا بأربعة دراهم ثم دعا الخياط فمد كم القميص و أمره بقطع ما جاوز الأصابع
و إنما ذكرنا هذه الأخبار و الروايات و إن كانت خارجة عن مقصد الفصل لأن الحال اقتضى ذكرها من حيث أردنا أن نبين أن أمير المؤمنين ع لم يكن شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 203يذهب في خلافته مذهب الملوك الذين يصانعون بالأموال و يصرفونها في مصالح ملكهم و ملاذ أنفسهم أنه لم يكن من أهل الدنيا و إنما كان رجلا متألها صاحب حق لا يريد بالله و رسوله بدلا. و
روى علي بن محمد بن أبي يوسف المدائني أن طائفة من أصحاب علي ع مشوا إليه فقالوا يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال و فضل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش على الموالي و العجم و استمل من تخاف خلافه من الناس و فراره و إنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال فقال لهم أ تأمرونني أن أطلب النصر بالجور لا و الله لا أفعل ما طلعت شمس و ما لاح في السماء نجم و الله لو كان المال لي لواسيت بينهم فكيف و إنما هي أموالهم ثم سكت طويلا واجما ثم قال الأمر أسرع من ذلك قالها ثلاثا

(3/181)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 35204- و من خطبة له ع بعد التحكيمالْحَمْدُ لِلَّهِ وَ إِنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ وَ الْحَدَثِ الْجَلِيلِ وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ ص أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ وَ تُعْقِبُ النَّدَامَةَ وَ قَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي وَ نَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ وَ الْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ وَ ضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ فَكُنْتُ أَنَا وَ إِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ
أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ
الخطب الفادح الثقيل و نخلت لكم أي أخلصته من نخلت الدقيق بالمنخل. و قوله الحمد لله و إن أتى الدهر أي أحمده على كل حال من السراء و الضراء. و قوله لو كان يطاع لقصير أمر فهو قصير صاحب جذيمة و حديثة مع جذيمة و مع الزباء مشهور فضرب المثل لكل ناصح يعصى بقصير. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 205و قوله حتى ارتاب الناصح بنصحه و ضن الزند بقدحه يشير إلى نفسه يقول خالفتموني حتى ظننت أن النصح الذي نصحتكم به غير نصح و لإطباقكم و إجماعكم على خلافي و هذا حق لأن ذا الرأي الصواب إذا كثر مخالفوه يشك في نفسه. و أما ضن الزند بقدحه عناه أنه لم يقدح لي بعد ذلك رأي صالح لشدة ما لقيت منكم من الإباء و الخلاف و العصيان و هذا أيضا حق لأن المشير الناصح إذا اتهم و استغش عمي قلبه و فسد رأيه. و أخو هوازن صاحب الشعر هو دريد بن الصمة و الأبيات مذكورة في الحماسة و أولها

(3/182)


نصحت لعارض و أصحاب عارض و رهط بني السوداء و القوم شهدي فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسردأمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدفلما عصوني كنت منهم و قد أرى غوايتهم و أنني غير مهتدو ما أنا إلا من غزية إن غوت غويت و إن ترشد زية أرشد
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 206و هذه الألفاظ من خطبة خطب بها ع بعد خديعة ابن العاص لأبي موسى و افتراقهما و قبل وقعة النهروانقصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج

(3/183)


و يجب أن نذكر في هذا الفصل أمر التحكيم كيف كان و ما الذي دعا إليه فنقول إن الذي دعا إليه طلب أهل الشام له و اعتصامهم به من سيوف أهل العراق فقد كانت أمارات القهر و الغلبة لاحت و دلائل النصر و الظفر وضحت فعدل أهل الشام عن القراع إلى الخداع و كان ذلك برأي عمرو بن العاص. و هذه الحال وقعت عقيب ليلة الهرير و هي الليلة العظيمة التي يضرب بها المثل. و نحن نذكر ما أورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين في هذا المعنى فهو ثقة ثبت صحيح النقل غير منسوب إلى هوى و لا إدغال و هو من رجال أصحاب الحديث قال نصر حدثنا عمرو بن شمر قال حدثني أبو ضرار قال حدثني عمار بن ربيعة قال غلس علي ع بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول سنة سبع و ثلاثين و قيل عاشر شهر صفر ثم زحف إلى أهل الشام بعسكر العراق و الناس على راياتهم و أعلامهم و زحف إليهم أهل الشام و قد كانت الحرب أكلت الفريقين و لكنها شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 207في أهل الشام أشد نكاية و أعظم وقعا فقد ملوا الحرب و كرهوا القتال و تضعضعت أركانهم. قال فخرج رجل من أهل العراق على فرس كميت ذنوب عليه السلاح لا يرى منه إلا عيناه و بيده الرمح فجعل يضرب رءوس أهل العراق بالقناة و يقول سو صفوفكم رحمكم الله حتى إذا عدل الصفوف و الرايات استقبلهم بوجهه و ولى أهل الشام ظهره ثم حمد الله و أثنى عليه و قال الحمد لله الذي جعل فينا ابن عم نبيه أقدمهم هجرة و أولهم إسلاما سيف من سيوف الله على أعدائه فانظروا إذا حمي الوطيس و ثار القتام و تكسر المران و جالت الخيل بالأبطال فلا أسمع إلا غمغمة أو همهمة فاتبعوني و كونوا في أثري. ثم حمل على أهل الشام فكسر فيهم رمحه ثم رجع فإذا هو الأشتر.

(3/184)


قال و خرج رجل من أهل الشام فنادى بين الصفين يا أبا الحسن يا علي ابرز إلي فخرج إليه علي ع حتى اختلفت أعناق دابتيهما بين الصفين فقال إن لك يا علي لقدما في الإسلام و الهجرة فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء و تأخر هذه الحروب حتى ترى رأيك قال و ما هو قال ترجع إلى شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 208عراقك فنخلي بينك و بين العراق و نرجع نحن إلى شامنا فتخلي بيننا و بين الشام فقال علي ع قد عرفت ما عرضت إن هذه لنصيحة و شفقة و لقد أهمني هذا الأمر و أسهرني و ضربت أنفه و عينه فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما زل الله على محمد إن الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض و هم سكوت مذعنون لا يأمرون بمعروف و لا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون علي من معالجة في الأغلال في جهنم

(3/185)


قال فرجع الرجل و هو يسترجع و زحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل و الحجارة حتى فنيت ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت و اندقت ثم مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيوف و عمد الحديد فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه على بعض لهو أشد هولا في صدور الرجال من الصواعق و من جبال تهامة يدك بعضها بعضا و انكسفت الشمس بالنقع و ثار القتام و القسطل و ضلت الألوية و الرايات و أخذ الأشتر يسير فيما بين الميمنة و الميسرة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالإقدام على التي تليها فاجتلدوا بالسيوف و عمد الحديد من صلاة الغداة من اليوم المذكور إلى نصف الليل لم يصلوا لله صلاة فلم يزل الأشتر يفعل ذلك حتى أصبح و المعركة خلف ظهره و افترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم و تلك الليلة و هي ليلة الهرير المشهورة و كان الأشتر في ميمنة الناس و ابن عباس في الميسرة و علي ع في القلب و الناس يقتتلون. ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى و الأشتر يقول لأصحابه شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 209و هو يزحف بهم نحو أهل الشام ازحفوا قيد رمحي هذا و يلقي رمحه فإذا فعلوا ذلك قال ازحفوا قاب هذا القوس فإذا فعلوا ذلك سألهم مثل ذلك حتى مل أكثر الناس منلإقدام فلما رأى ذلك قال أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم ثم دعا بفرسه و ركز رايته و كانت مع حيان بن هوذة النخعي و سار بين الكتائب و هو يقول أ لا من يشتري نفسه لله و يقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق بالله فلا يزال الرجل من الناس يخرج إليه فيقاتل معه. قال نصر و حدثني عمرو قال حدثني أبو ضرار قال حدثني عمار بن ربيعة قال مر بي الأشتر فأقبلت معه حتى رجع إلى المكان الذي كان به فقام في أصحابه فقال شدوا فدا لكم عمي و خالي شدة ترضون بها الله و تعرزون بها الدين إذا أنا حملت فاحملوا ثم نزل و ضرب وجه دابته و قال لصاحب رايته أقدم فتقدم بها ثم شد على القوم و شد معه أصحابه فضرب

(3/186)


أهل الشام حتى انتهى بهم إلى معسكرهم فقاتلوا عند المعسكر قتالا شديدا و قتل صاحب رايتهم و أخذ علي ع لما رأى الظفر قد جاء من قبله يمده بالرجال.
و روى نصر عن رجاله قال لما بلغ القوم إلى ما بلغوا إليه قام علي ع خطيبا فحمد الله و أثنى عليه و قال شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 210أيها الناس قد بلغ بكم الأمر و بعدوكم ما قد رأيتم و لم يبق منهم إلا آخر نفس و إن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها و قد صبر م القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا و أنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله
قال فبلغ ذلك معاوية فدعا عمرو بن العاص و قال يا عمرو إنما هي الليلة حتى يغدو علي علينا بالفيصل فما ترى. قال إن رجالك لا يقومون لرجاله و لست مثله هو يقاتلك على أمر و أنت تقاتله على غيره أنت تريد البقاء و هو يريد الفناء و أهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم و أهل الشام لا يخافون عليا إن ظفر بهم و لكن ألق إلى القوم أمرا إن قبلوه اختلفوا و إن ردوه اختلفوا ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك و بينهم فإنك بالغ به حاجتك في القوم و إني لم أزل أؤخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه. فعرف معاوية ذلك و قال له صدقت.

(3/187)


قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر بن عمير الأنصاري قال و الله لكأني أسمع عليا يوم الهرير و ذلك بعد ما طحنت رحى مذحج فيما بينها و بين عك و لخم و جذام و الأشعريين بأمر عظيم تشيب منه النواصي حتى استقلت الشمس و قام قائم الظهر و علي ع يقول لأصحابه حتى متى نخلي بين هذين الحيين قد فنيا و أنتم وقوف تنظرون أ ما تخافون مقت الله ثم انفتل إلى القبلة و رفع شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 211يديه إلى الله عز و جل و نادى يا الله يا رحمان يا رحيم يا واحد يا أحد يا صمد يا الله يا إله محمد اللهم إليك نقلت الأقدام و أفضت القلوو رفعت الأيدي و مدت الأعناق و شخصت الأبصار و طلبت الحوائج اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا و كثرة عدونا و تشتت أهوائنا ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين سيروا على بركة الله ثم نادى لا إله إلا الله و الله أكبر كلمة التقوى
قال فلا و الذي بعث محمدا بالحق نبيا ما سمعنا رئيس قوم منذ خلق الله السموات و الأرض أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب إنه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب يخرج بسيفه منحنيا
فيقول معذرة إلى الله و إليكم من هذا لقد هممت أن أفلقه و لكن يحجزني عنه أني سمعت رسول الله ص يقول لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي و أنا أقاتل به دونه ص

(3/188)


قال فكنا نأخذه فنقومه ثم يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصف فلا و الله ما ليث بأشد نكاية منه في عدوه ع. قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال سمعت تميم بن حذيم يقول لما أصبحنا من ليلة الهرير نظرنا فإذا أشباه الرايات أمام أهل الشام في وسط الفيلق شرح هج البلاغة ج : 2 ص : 212حيال موقف علي و معاوية فلما أسفرنا إذا هي المصاحف قد ربطت في أطراف الرماح و هي عظام مصاحف العسكر و قد شدوا ثلاثة أرماح جميعا و ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم يمسكه عشرة رهط. قال نصر و قال أبو جعفر و أبو الطفيل استقبلوا عليا بمائة محف و وضعوا في كل مجنبة مائتي مصحف فكان جميعها خمسمائة مصحف. قال أبو جعفر ثم قام الطفيل بن أدهم حيال علي ع و قام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة و قام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة ثم نادوا يا معشر العرب الله الله في النساء و البنات و الأبناء من الروم و الأتراك و أهل فارس غدا إذا فنيتم الله الله في دينكم هذا كتاب الله بيننا و بينكم.
فقال علي ع اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون فاحكم بيننا و بينهم إنك أنت الحكم الحق المبين
فاختلف أصحاب علي ع في الرأي فطائفة قالت القتال و طائفة قالت المحاكمة إلى الكتاب و لا يحل لنا الحرب و قد دعينا إلى حكم الكتاب فعند ذلك بطلت الحرب و وضعت أوزارها.

(3/189)


قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال حدثنا أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال لما كان اليوم الأعظم قال أصحاب معاوية و الله لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا و قال أصحاب علي ع لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا فبادروا القتال غدوة في يوم من أيام الشعرى طويل شديد شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 213الحر فتراموا حتى فنيت النبال و تطاعنوا حتى تقصفت الرماح ثم نزل القوم عن خيولهم و مشى بعضهم إلى بعض بالسيوف حتى كسرت جفونها و قام الفرسان في الركب ثم اضطربوا بالسيوف و بعمد الحديد فلم يسمع السامعون إلاغمغم القوم و صليل الحديد في الهام و تكادم الأفواه و كسفت الشمس و ثار القتام و ضلت الألوية و الرايات و مرت مواقيت أربع صلوات ما يسجد فيهن لله إلا تكبيرا و نادت المشيخة في تلك الغمرات يا معشر العرب الله الله في الحرمات من النساء و البنات قال جابر فبكى أبو جعفر و هو يحدثنا بهذا الحديث
قال نصر و أقبل الأشتر على فرس كميت محذوف و قد وضع مغفره على قربوس السرج و هو ينادي اصبروا يا معشر المؤمنين فقد حمي الوطيس و رجعت الشمس من الكسوف و اشتد القتال و أخذت السباع بعضها بعضا فهم كما قال الشاعر
مضت و استأخر القرعاء عنها و خلي بينهم إلا الوريع
قال يقول واحد لصاحبه في تلك الحال أي رجل هذا لو كانت له نية فيقول له صاحبه و أي نية أعظم من هذه ثكلتك أمك و هبلتك إن رجلا كما ترى قد سبح في الدم و ما أضجرته الحرب و قد غلت هام الكماة من الحر و بلغت القلوب الحناجر و هو كما تراه جزعا يقول هذه المقالة اللهم لا تبقنا بعد هذا. قلت لله أم قامت عن الأشتر لو أن إنسانا يقسم أن الله تعالى ما خلق في العرب شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 214و لا في العجم أشجع منه إلا أستاذه ع لما خشيت عليه الإثم و لله در القائل و قد سئل عن الأشتر ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام و هزم مه أهل العراق. و بحق ما

(3/190)


قال فيه أمير المؤمنين ع كان الأشتر لي كما كنت لرسول الله ص
قال نصر و روى الشعبي عن صعصعة قال و قد كان الأشعث بن قيس بدر منه قول ليلة الهرير نقله الناقلون إلى معاوية فاغتنمه و بنى عليه تدبيره و ذلك أن الأشعث خطب أصحابه من كندة تلك الليلة فقال الحمد لله أحمده و أستعينه و أومن به و أتوكل عليه و أستنصره و أستغفره و أستجيره و أستهديه و أستشيره و أستشهد به فإن من هداه الله فلا مضل له و من يضلل الله فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله ص. ثم قال قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي و ما قد فني فيه من العرب فو الله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قط ألا فليبلغ الشاهد الغائب إنا نحن إن تواقفنا غدا إنه لفناء العرب و ضيعة الحرمات أما و الله ما أقول هذه المقالة جزعا من الحرب و لكني رجل مسن أخاف على النساء و الذراري غدا إذا فنينا اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي و لأهل ديني فلم آل و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب و الرأي يخطئ و يصيب شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 215و إذا قضى الله أمرا أمضاه على ما أحب العباد أو كرهوا أقول قولي هذا و أستغفر الله العظيم لي و لكم. قال الشعبي قال صعة فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث فقال أصاب و رب الكعبة لئن نحن التقينا غدا لتميلن على ذراري أهل الشام و نسائهم و لتميلن فارس على ذراري أهل العراق و نسائهم إنما يبصر هذا ذوو الأحلام و النهى ثم قال لأصحابه اربطوا المصاحف على أطراف القنا. فثار أهل الشام في سواد الليل ينادون عن قول معاوية و أمره يا أهل العراق من لذرارينا إن قتلتمونا و من لذراريكم إذا قتلناكم الله الله في البقية و أصبحوا و قد رفعوا المصاحف على رءوس الرماح و قد قلدوها الخيل و الناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه و مصحف دمشق الأعظم يحمله

(3/191)


عشرة رجال على رءوس الرماح و هم ينادون كتاب الله بيننا و بينكم. و أقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض و قد وضع المصحف على رأسه ينادي يا أهل العراق كتاب الله بيننا و بينكم. قال فجاء عدي بن حاتم الطائي فقال يا أمير المؤمنين إنه لم يصب منا عصبة إلا و قد أصيب منهم مثلها و كل مقروح و لكنا أمثل بقية منهم و قد جزع القوم و ليس بعد الجزع إلا ما نحب فناجزهم. و قام الأشتر فقال يا أمير المؤمنين إن معاوية لا خلف له من رجاله و لكن شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 216بحمد الله لك الخلف و لو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صب و لا نصرك فاقرع الحديد بالحديد و استعن بالله الحميد. ثم قام عمرو بن الحمق فقال يا أمير المؤمنين إنا و الله ما أجبناك و لا نصرناك على الباطل و لا أجبنا إلا الله و لا طلبنا إلا الحق و لو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا إليه لاستشرى فيه اللجاج و طالت فيه النجوى و قد بلغ الحق مقطعه و ليس لنا معك رأي. فقام الأشعث بن قيس مغضبا فقال يا أمير المؤمنين إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس و ليس آخر أمرنا كأوله و ما من القوم أحد أحنى على أهل العراق و لا أوتر لأهل الشام مني فأجب القوم إلى كتاب الله عز و جل فإنك أحق به منهم و قد أحب الناس البقاء و كرهوا القتال. فقال علي ع هذا أمر ينظر فيه. فتنادى الناس من كل جانب الموادعة.
فقال علي ع أيها الناس إني أحق من أجاب إلى كتاب الله و لكن معاوية و عمرو بن العاص و ابن أبي معيط و ابن أبي سرح و ابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن إني أعرف بهم منكم صحبتهم صغارا و رجالا فكانوا شر صغار و شر رجال ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها و يعملون بها و لكنها الخديعة و الوهن و المكيدة أعيروني سواعدكم و جماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه و لم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا

(3/192)


فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد شاكي السلاح سيوفهم على شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 217عواتقهم و قد اسودت جباههم من السجود يتقدمهم مسعر بن فدكي و زيد بن حصين و عصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين يا علي أ القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه و إلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان فو الله لنفعلنها إن لم تجبهم فقال لهم ويحكم أنا أول من دعا إلى كتاب الله و أول من أجاب إليه و ليس يحل لي و لا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم و نقضوا عهده و نبذوا كتابه و لكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم و أنهم ليس العمل بالقرآن يريدون قالوا فابعث إلى الأشتر ليأتينك و قد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير أشرف على عسكر معاوية ليدخله. قال نصر فحدثني فضيل بن خديج عن رجل من النخع قال سأل مصعب إبراهيم بن الأشتر عن الحال كيف كانت فقال كنت عند علي ع حين بعث إلى الأشتر ليأتيه و قد كان الأشتر أشرف على معسكر معاوية ليدخله فأرسل إليه علي ع يزيد بن هانئ أن ائتني فأتاه فأبلغه فقال الأشتر ائته فقل له ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 218إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني فرجع يزيد بن هانئ إلى علي ع فأخبره فما هو إلا أن انتهى إلينا حتى ارتفع الرهج و علت الأصوات من قبل الأشتر و ظهرت دلائل الفتح و النصر لأهل العراق و دلائل الخذلان و الإدبار على أهل الش فقال القوم لعلي و الله ما نراك أمرته إلا بالقتال قال أ رأيتموني ساررت رسولي إليه أ ليس إنما كلمته على رءوسكم علانية و أنتم تسمعون قالوا فابعث إليه فليأتك و إلا فو الله اعتزلناك فقال ويحك يا يزيد قل له أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت فأتاه فأخبره فقال الأشتر أ برفع هذه المصاحف قال نعم قال أما و الله لقد ظننت أنها حين رفعت

(3/193)


ستوقع خلافا و فرقة إنها مشورة ابن النابغة ثم قال ليزيد بن هانئ ويحك أ لا ترى إلى الفتح أ لا ترى إلى ما يلقون أ لا ترى الذي يصنع الله لنا أ ينبغي أن ندع هذا و ننصرف عنه فقال له يزيد أ تحب أنك ظفرت هاهنا و أن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه و يسلم إلى عدوه قال سبحان الله لا و الله لا أحب ذلك قال فإنهم قد قالوا له و حلفوا عليه لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان أو لنسلمنك إلى عدوك. فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم فصاح يا أهل الذل و الوهن أ حين علوتم القوم و ظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها و قد و الله تركوا ما أمر الله به فيها و تركوا سنة من أنزلت عليه فلا تجيبوهم أمهلوني فواقا فإني شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 219قد أحسست بالفتح قالوا لا نمهلقال فأمهلوني عدوة الفرس فإني قد طمعت في النصر قالوا إذن ندخل معك في خطيئتك. قال فحدثوني عنكم و قد قتل أماثلكم و بقي أراذلكم متى كنتم محقين أ حين كنتم تقتلون أهل الشام فأنتم الآن حين أمسكتم عن قتالهم مبطلون أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقون فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم و أنهم خير منكم في النار قالوا دعنا منك يا أشتر قاتلناهم في الله و ندع قتالهم في الله إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا فقال خدعتم و الله فانخدعتم و دعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب الجباه السود كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا و شوقا إلى لقاء الله فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ألا فقبحا يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم براءين بعدها عزا أبدا فابعدوا كما بعد القوم الظالمون. فسبوه و سبهم و ضربوا بسياطهم وجه دابته و ضرب بسوطه وجوه دوابهم و صاح بهم علي ع فكفوا و قال الأشتر يا أمير المؤمنين احمل الصف على الصف تصرع القوم فتصايحوا أن أمير المؤمنين قد قبل الحكومة و رضي بحكم القرآن فقال الأشتر إن كان أمير المؤمنين قد قبل

(3/194)


و رضي فقد رضيت بما رضي به أمير المؤمنين فأقبل الناس يقولون قد رضي أمير المؤمنين قد قبل أمير المؤمنين و هو ساكت لا يبض بكلمة مطرق إلى الأرض. ثم قال فسكت الناس كلهم
فقال أيها الناس إن أمري لم يزل معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب و قد و الله أخذت منكم و تركت و أخذت من عدوكم فلم تترك و إنها فيهم أنكى و أنهك ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 220مأمورا و كنت ناهيا فأصبحت منهيا ود أحببتم البقاء و ليس لي أن أحملكم على ما تكرهون ثم قعد

(3/195)


قال نصر ثم تكلم رؤساء القبائل فكل قال ما يراه و يهواه إما من الحرب أو من السلم فقام كردوس بن هانئ البكري فقال أيها الناس إنا و الله ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه و لا تبرأنا من علي منذ توليناه و إن قتلانا لشهداء و إن أحياءنا لأبرار و إن عليا لعلى بينة من ربه و ما أحدث إلا الإنصاف فمن سلم له نجا و من خالفه هلك ثم قام شقيق بن ثور البكري فقال أيها الناس إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله فردوه علينا فقاتلناهم عليه و إنهم قد دعونا اليوم إليه فإن رددناه عليهم حل لهم منا ما حل لنا منهم و لسنا نخاف أن يحيف الله علينا و رسوله ألا إن عليا ليس بالراجع الناكس و لا الشاك الواقف و هو اليوم على ما كان عليه أمس و قد أكلتنا هذه الحرب و لا نرى البقاء إلا في الموادعة. قال نصر ثم إن أهل الشام لما أبطأ عنهم علم حال أهل العراق هل أجابوا إلى الموادعة أم لا جزعوا فقالوا يا معاوية ما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه فأعدها جذعة فإنك قد غمرت بدعائك القوم و أطمعتهم فيك. فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص فأمره أن يكلم أهل العراق و يستعلم له ما عندهم فأقبل حتى إذا كان بين الصفين نادى يا أهل العراق أنا عبد الله بن شرح نهجلبلاغة ج : 2 ص : 221عمرو بن العاص إنه قد كانت بيننا و بينكم أمور للدين أو الدنيا فإن تكن للدين فقد و الله أعذرنا و أعذرتم و إن تكن للدنيا فقد و الله أسرفنا و أسرفتم و قد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا إليه لأجبناكم فإن يجمعنا و إياكم الرضا فذاك من الله فاغتنموا هذه الفرصة عسى أن يعيش فيها المحترف و ينسى فيها القتيل فإن بقاء المهلك بعد الهالك قليل. فأجابه سعد بن قيس الهمداني فقال أما بعد يا أهل الشام إنه قد كانت بيننا و بينكم أمور حامينا فيها على الدين و الدنيا و سميتموها غدرا و سرفا و قد دعوتمونا اليوم إلى ما قاتلناكم عليه أمس و لم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم و أهل

(3/196)


الشام إلى شامهم بأمر أجمل من أن يحكم فيه بما أنزل الله سبحانه فالأمر في أيدينا دونكم و إلا فنحن نحن و أنتم أنتم. فقام الناس إلى علي ع فقالوا له أجب القوم إلى المحاكمة قال و نادى إنسان من أهل الشام في جوف الليل بشعر سمعه الناس و هو
رءوس العراق أجيبوا الدعاء فقد بلغت غاية الشده و قد أودت الحرب بالعالمين و أهل الحفائظ و النجده فلسنا و لستم من المشركين و لا المجمعين على الرده و لكن أناس لقوا مثلهم لنا عدة و لكم ع شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 222فقاتل كل على وجهه يقحمه الجد و الحده فإن تقبلوها ففيها البقاء و أمن الفريقين و البلده و إن تدفعوها ففيها الفناء و كل بلاء إلى مده فحتى متى مخض هذا السقاء و لا بد أن تخرج الزبده ثلاثة رهط هم أهلها و إن يسكتوا تخمد الوقدهن قيس و كبش العراق و ذاك المسود من كنده
قال فأما المسود من كندة و هو الأشعث فإنه لم يرض بالسكوت بل كان من أعظم الناس قولا في إطفاء الحرب و الركون إلى الموادعة و أما كبش العراق و هو الأشتر فلم يكن يرى إلا الحرب و لكنه سكت على مضض و أما سعيد بن قيس فكان تارة هكذا و تارة هكذا. و ذكر ابن ديزيل الهمداني في كتاب صفين قال خرج عبد الرحمن بن خالد بن الوليد و معه لواء معاوية فارتجز فخرج إليه جارية بن قدامة السعدي فارتجز أيضا مجيبا له ثم اطعنا فلم يصنعا شيئا و انصرف كل واحد منهما عن صاحبه فقال عمرو بن العاص لعبد الرحمن اقحم يا ابن سيف الله فتقدم عبد الرحمن بلوائه و تقدم أصحابه فأقبل علي ع على الأشتر فقال له قد بلغ لواء معاوية حيث شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 223ترى فدونك القوم فأخذ الأشتر لواء علي ع و قالإني أنا الأشتر معروف الشتر إني أنا الأفعى العراقي الذكرلست ربيعيا و لست من مضر لكنني من مذحج الشم الغرر

(3/197)


فضارب القوم حتى ردهم فانتدب له همام بن قبيصة الطائي و كان مع معاوية فشد عليه في مذحج فانتصر عدي بن حاتم الطائي للأشتر فحمل عليه في طي ء فاشتد القتال جدا فدعا علي ببغلة رسول الله ص فركبها ثم تعصب بعمامة رسول الله و نادى أيها الناس من يشري نفسه لله إن هذا يوم له ما بعده فانتدب معه ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا فتقدمهم علي ع و قال
دبوا دبيب النمل لا تفوتوا و أصبحوا أمركم أو بيتواحتى تنالوا الثأر أو تموتوا
. و حمل و حمل الناس كلهم حملة واحدة فلم يبق لأهل الشام صف إلا أزالوه حتى أفضوا إلى معاوية فدعا معاوية بفرسه ليفر عليه. و كان معاوية بعد ذلك يحدث فيقول لما وضعت رجلي في الركاب ذكرت قول عمرو بن الإطنابة
أبت لي عفتي و أبى بلائي و أخذي الحمد بالثمن الربيح

(3/198)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 224و إقدامي على المكروه نفسي و ضربي هامة البطل المشيح و قولي كلما جشأت و جاشت مكانك تحمدي أو تستريفأخرجت رجلي من الركاب و أقمت و نظرت إلى عمرو فقلت له اليوم صبر و غدا فخر فقال صدقت. قال إبراهيم بن ديزيل روى عبد الله بن أبي بكر عن عبد الرحمن بن حاطب عن معاوية قال أخذت بمعرفة فرسي و وضعت رجلي في الركاب للهرب حتى ذكرت شعر ابن الإطنابة فعدت إلى مقعدي فأصبت خير الدنيا و إني لراج أن أصيب خير الآخرة. قال إبراهيم بن ديزيل فكان ذلك يوم الهرير ثم رفعت المصاحف بعده. و روى إبراهيم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن ربيعة بن لقيط قال شهدنا صفين فمطرت السماء علينا دما عبيطا. و قال و في حديث الليث بن سعد أن كانوا ليأخذونه بالصحاف و الآنية و في حديث ابن لهيعة حتى إن الصحاف و الآنية لتمتلئ و نهريقها. قال إبراهيم و روى عبد الرحمن بن زياد عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عمن حدثه ممن حضر صفين أنهم مطروا دما عبيطا فتلقاه الناس بالقصاع و الآنية و ذلك في يوم الهرير و فزع أهل الشام و هموا أن يتفرقوا فقام عمرو بن العاص فيهم فقال أيها الناس إنما هذه آية من آيات الله فأصلح امرؤ ما بينه و بين الله ثم لا عليه أن ينتطح هذان الجبلان فأخذوا في القتال شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 225قال إبراهيم و روى أبو عبد الله المكي قال حدثنا سفيان بن عاصم بن كليب الحارثي عن أبيه قال أخبرني ابن عباس قال لقد حدثني معاوية أنه كان يومئذ قد قرب إليه فرسا له أنثى بعيدة البطن من الأرض ليهرب عليها حتى أتاه آت من أهل العراق فل له إني تركت أصحاب علي في مثل ليلة الصدر من منى فأقمت قال فقلنا له فأخبرنا من هو ذلك الرجل فأبى و قال لا أخبركم من هو. قال نصر و إبراهيم أيضا و كتب معاوية إلى علي ع أما بعد فإن هذا الأمر قد طال بيننا و بينك و كل واحد منا يرى أنه على الحق فيما يطلب من صاحبه و لن يعطي واحد منا

(3/199)


الطاعة للآخر و قد قتل فيما بيننا بشر كثير و أنا أتخوف أن يكون ما بقي أشد مما مضى و إنا سوف نسأل عن ذلك الموطن و لا يحاسب به غيري و غيرك و قد دعوتك إلى أمر لنا و لك فيه حياة و عذر و براءة و صلاح للأمة و حقن للدماء و ألفة للدين و ذهاب للضغائن و الفتن أن نحكم بيني و بينكم حكمين مرضيين أحدهما من أصحابي و الآخر من أصحابك فيحكمان بيننا بما أنزل الله فهو خير لي و لك و أقطع لهذه الفتن فاتق الله فيما دعيت إليه و ارض بحكم القرآن إن كنت من أهله و السلام.
فكتب إليه علي ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإن أفضل ما شغل به المرء نفسه اتباع ما حسن به فعله و استوجب فضله و سلم من عيبه شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 226و إن البغي و الزور يزريان بالمرء في دينه و دنياه فاحذر الدنيا فإنه فرح في شي ء وصلت إليه منها و لقد علمت أنك غير مدرك ما قضى فواته و قد رام قوم أمرا بغير الحق و تأولوه على الله جل و عز فأكذبهم و متعهم قليلا ثم اضطرهم إلى عذاب غليظ فاحذر يوما يغتبط فيه من حمد عاقبة عمله و يندم فيه من أمكن الشيطان من قياده و لم يحاده و غره الدنيا و اطمأن إليها ثم إنك قد دعوتني إلى حكم القرآن و لقد علمت أنك لست من أهل القرآن و لا حكمه تريد و الله المستعان فقد أجبنا القرآن إلى حكمه و لسنا إياك أجبنا و من لم يرض بحكم القرآن فقد ضل ضلالا بعيدا
فكتب معاوية إلى علي ع أما بعد عافانا الله و إياك فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا و ألفة بيننا و قد فعلت الذي فعلت و أنا أعرف حقي و لكني اشتريت بالعفو صلاح الأمة و لم أكثر فرحا بشي ء جاء و لا ذهب و إنما أدخلني في هذا الأمر القيام بالحق فيما بين الباغي المبغي عليه و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فدعوت إلى كتاب الله فيما بيننا و بينك فإنه لا يجمعنا و إياك إلا هو نحيي ما أحيا القرآن و نميت ما أمات القرآن و السلام.

(3/200)


قال نصر فكتب علي ع إلى عمرو بن العاص يعظه و يرشده شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 227أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها و لن يصيب صاحبها منها شيئا إلا فتحت له حرصا يزيده فيها رغبة و لن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغ و من وراء ذلك فراق ما جمع و السعيد من وعظغيره فلا تحبط أبا عبد الله أجرك و لا تجار معاوية في باطله و السلام
فكتب إليه عمرو الجواب أما بعد أقول فالذي فيه صلاحنا و ألفتنا الإنابة إلى الحق و قد جعلنا القرآن بيننا حكما و أجبنا إليه فصبر الرجل منا نفسه على ما حكم عليه القرآن و عذره الناس بعد المحاجزة و السلام.
فكتب إليه علي ع أما بعد فإن الذي أعجبك من الدنيا مما نازعتك إليه نفسك و وثقت به منها لمنقلب عنك و مفارق لك فلا تطمئن إلى الدنيا فإنها غرارة و لو اعتبرت بما مضى لحفظت ما بقي و انتفعت منها بما وعظت به و السلام

(3/201)


فأجابه عمرو أما بعد فقد أنصف من جعل القرآن إماما و دعا الناس إلى أحكامه فاصبر أبا حسن فإنا غير منيليك إلا ما أنالك القرآن و السلام. قال نصر و جاء الأشعث إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين ما أرى الناس إلا قد رضوا و سرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 228فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد و نظرت ما الذي يسأل قال فأته إن شئت فأتاه فسأله يا معاوية لأي شي ء رفعتم هذه المصاحف قال لنرجع نحن و أنتم إلى ما أمر الله به فيها فابعثوا رجلا منكم ترضون به و نبعث منا رجلا و نأخذ هما أن يعملا بما في كتاب الله و لا يعدوانه ثم نتبع ما اتفقا عليه فقال الأشعث هذا هو الحق. و انصرف إلى علي ع فأخبره فبعث علي ع قراء من أهل العراق و بعث معاوية قراء من أهل الشام فاجتمعوا بين الصفين و معهم المصحف فنظروا فيه و تدارسوا و اجتمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن و يميتوا ما أمات القرآن و رجع كل فريق إلى صاحبه فقال أهل الشام إنا قد رضينا و اخترنا عمرو بن العاص و قال الأشعث و القراء الذين صاروا خوارج فيما بعد قد رضينا نحن و اخترنا أبا موسى الأشعري فقال لهم علي ع فإني لا أرضى بأبي موسى و لا أرى أن أوليه فقال الأشعث و زيد بن حصين و مسعر بن فدكي في عصابة من القراء إنا لا نرضى إلا به فإنه قد كان حذرنا ما وقعنا فيه فقال علي ع فإنه ليس لي برضا و قد فارقني و خذل الناس عني و هرب مني حتى أمنته بعد أشهر و لكن هذا ابن عباس أوليه ذلك قالوا و الله ما نبالي أ كنت أنت أو ابن عباس و لا نريد إلا رجلا هو منك و من معاوية سواء ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر قال علي ع فإني أجعل الأشتر فقال الأشعث و هل سعر الأرض علينا إلا الأشتر و هل نحن إلا في حكم الأشتر قال علي ع و ما حكمه قال حكمه أن يضرب بعضنا بعضا بالسيف حتى يكون ما أردت و ما أراد. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 22 قال نصر و حدثنا عمرو بن

(3/202)


شمر عن جابر عن أبي جعفر محمد بن علي قال لما أراد الناس عليا أن يضع الحكمين قال لهم إن معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحدا هو أوثق برأيه و نظره من عمرو بن العاص و إنه لا يصلح للقرشي إلا مثله فعليكم بعبد الله بن العباس فارموه به فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حلها عبد الله و لا يحل عقدة إلا عقدها و لا يبرم أمرا إلا نقضه و لا ينقض أمرا إلا أبرمه فقال الأشعث لا و الله لا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة و لكن اجعل رجلا من أهل اليمن إذ جعلوا رجلا من مضر فقال علي ع إني أخاف أن يخدع يمنيكم فإن عمرا ليس من الله في شي ء إذا كان له في أمر هوى فقال الأشعث و الله لأن يحكما ببعض ما نكره و أحدهما من أهل اليمن أحب إلينا من أن يكون بعض ما نحب في حكمهما و هما مضريان قال و ذكر الشعبي أيضا مثل ذلك. قال نصر فقال علي ع قد أبيتم إلا أبا موسى قالوا نعم قال فاصنعوا ما شئتم فبعثوا إلى أبي موسى و هو بأرض من أرض الشام يقال لها عرض قد اعتزل القتال فأتاه مولى له فقال إن الناس قد اصطلحوا فقال الحمد لله رب العالمين قال و قد جعلوك حكما فقال إنا لله و إنا إليه راجعون. فجاء أبو موسى حتى دخل عسكر علي ع و جاء الأشتر عليا فقال يا أمير المؤمنين ألزني بعمرو بن العاص فو الذي لا إله غيره لئن ملأت عيني منه لأقتلنه شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 230و جاء الأحنف بن قيس عليا فقال يا أمير المؤمنين إنقد رميت بحجر الأرض و من حارب الله و رسوله أنف الإسلام و إني قد عجمت هذا الرجل يعني أبا موسى و حلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر و إنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم و يتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم منهم فإن شئت أن تجعلني حكما فاجعلني و إن شئت أن تجعلني ثانيا أو ثالثا فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حللتها و لا يحل عقدة إلا عقدت لك أشد منها. فعرض علي ع ذلك على الناس فأبوه و قالوا لا يكون إلا أبا موسى. قال

(3/203)


نصر مال الأحنف إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إني خيرتك يوم الجمل أن آتيك فيمن أطاعني أو أكف عنك بني سعد فقلت كف قومك فكفى بكفك نصيرا فأقمت بأمرك و إن عبد الله بن قيس رجل قد حلبت أشطره فوجدته قريب القعر كليل المدية و هو رجل يمان و قومه مع معاوية و قد رميت بحجر الأرض و بمن حارب الله و رسوله و إن صاحب القوم من ينأى حتى يكون مع النجم و يدنو حتى يكون في أكفهم فابعثني فو الله لا يحل عنك عقدة إلا عقدت لك أشد منها فإن قلت إني لست من أصحاب رسول الله فابعث رجلا من أصحاب رسول الله و ابعثني معه. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 231فقال علي ع إن القوم أتوني بعبد الله بن قيس مبرنسا فقالوا ابعث هذرضينا به و الله بالغ أمره. قال نصر و روى أن ابن الكواء قام إلى علي ع فقال هذا عبد الله بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول الله ص و صاحب مقاسم أبي بكر و عامل عمر و قد رضي به القوم و عرضنا عليهم ابن عباس فزعموا أنه قريب القرابة منك ظنون في أمرك. فبلغ ذلك أهل الشام فبعث أيمن بن خزيم الأسدي و كان معتزلا لمعاوية بهذه الأبيات و كان هواه أن يكون الأمر لأهل العراق
لو كان للقوم رأي يعصمون به من الضلال رموكم بابن عباس لله در أبيه أيما رجل ما مثله لفصال الخطب في الناس لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن لا يهتدي ضرب أخماس لأسداس إن يخل عمرو به يقذفه في لجج يهوي به النجم تيسا بين أتياس أبلغ لديك عليا غير عاتبه قول امرئ لا يرىحق من باس ما الأشعري بمأمون أبا حسن فاعلم هديت و ليس العجز كالرأس فاصدم بصاحبك الأدنى زعيمهم إن ابن عمك عباس هو الآسفلما بلغ الناس هذا الشعر طارت أهواء قوم من أولياء علي ع و شيعته إلى ابن عباس و أبت القراء إلا أبا موسى. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 232قال نصر و كان أيمن بن خزيم رجلا عابدا مجتهدا و قد كان معاوية جعل له فلسطين على أن يتابعه و يشايعه على قتال علي ع فقال أيمو بعث بها إليه

(3/204)


و لست مقاتلا رجلا يصلي على سلطان آخر من قريش له سلطانه و علي إثمي معاذ الله من سفه و طيش أ أقتل مسلما في غير جرم فليس بنافعي ما عشت عيشقال نصر فلما رضي أهل الشام بعمرو و أهل العراق بأبي موسى أخذوا في سطر كتاب الموادعة و كانت صورته هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين و معاوية بن أبي سفيان فقال معاوية بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته و قال عمرو بل نكتب اسمه و اسم أبيه إنما هو أميركم فأما أميرنا فلا فلما أعيد إليه الكتاب أمر بمحوه فقال الأحنف لا تمح اسم أمير المؤمنين عنك فإني أتخوف إن محوتها ألا ترجع إليك أبدا فلا تمحها
فقال علي ع إن هذا اليوم كيوم الحديبية حين كتب الكتاب عن رسول الله ص هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو فقال سهيل لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك و لم أخالفك إني إذا لظالم لك إن منعتك أن تطوف ببيت الله الحرام و أنت رسوله و لكن اكتب من محمد بن عبد الله فقال لي رسول الله ص يا علي إني لرسول الله و أنا محمد بن عبد الله و لن يمحو عني الرسالة كتابي لهم من محمد بن عبد الله فاكتبها و امح ما أراد محوه أما إن لك مثلها ستعطيها و أنت مضطهد
قال نصر و قد روي أن عمرو بن العاص عاد بالكتاب إلى علي ع فطلب منه أن يمحو اسمه من إمرة المؤمنين فقص عليه و على من حضر قصة صلح الحديبية شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 233قال إن ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا و بين المشركين و اليوم أكتبه إلى أبنائهم كما كان رسول ال ص كتبه إلى آبائهم شبها و مثلا فقال عمرو سبحان الله أ تشبهنا بالكفار و نحن مسلمون فقال علي ع يا ابن النابغة و متى لم تكن للكافرين وليا و للمسلمين عدوا فقام عمرو و قال و الله لا يجمع بيني و بينك مجلس بعد اليوم فقال علي أما و الله إني لأرجو أن يظهر الله عليك و على أصحابك

(3/205)


و جاءت عصابة قد وضعت سيوفها على عواتقها فقالوا يا أمير المؤمنين مرنا بما شئت فقال لهم سهل بن حنيف أيها الناس اتهموا رأيكم فلقد شهدنا صلح رسول الله ص يوم الحديبية و لو نرى قتالا لقاتلنا. و زاد إبراهيم بن ديزيل لقد رأيتني يوم أبي جندل يعني الحديبية و لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله ص لرددته ثم لم نر في ذلك الصلح إلا خيرا. قال نصر و قد روى أبو إسحاق الشيباني قال قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء عليها خاتمان خاتم من أسفلها و خاتم من أعلاها على خاتم علي ع محمد رسول الله و على خاتم معاوية محمد رسول الله و قيل لعلي ع حين أراد أن يكتب الكتاب بينه و بين معاوية و أهل الشام أ تقر أنهم مؤمنون مسلمون فقال علي ع ما أقر لمعاوية و لا لأصحابه أنهم مؤمنون و لا مسلمون و لكن يكتب معاوية ما شاء بما شاء و يقر بما شاء لنفسه و لأصحابه و يسمي نفسه بما شاء و أصحابه فكتبوا هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان قاضى علي بن أبي طالب شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 234على أهل العراق و من كان معه من شيعته من المؤمنين و المسلمين و قاضى معاوية بن أبي سفيان على أهل الشام و من كان معه من شيعته من المؤمنين و المسين إننا ننزل عند حكم الله تعالى و كتابه و لا يجمع بيننا إلا إياه و إن كتاب الله سبحانه و تعالى بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا القرآن و نميت ما أمات القرآن فإن وجد الحكمان ذلك في كتاب الله اتبعاه و إن لم يجداه أخذا بالسنة العادلة غير المفرقة و الحكمان عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص و قد أخذ الحكمان من علي و معاوية و من الجندين أنهما آمنان على أنفسهما و أموالهما و أهلهما و الأمة لهما أنصار و على الذي يقضيان عليه و على المؤمنين و المسلمين من الطائفتين عهد الله أن يعملوا بما يقضيان عليه مما وافق الكتاب و السنة و إن الأمن و الموادعة و وضع السلاح متفق عليه بين

(3/206)


الطائفتين إلى أن يقع الحكم و على كل واحد من الحكمين عهد الله ليحكمن بين الأمة بالحق لا بالهوى و أجل الموادعة سنة كاملة فإن أحب الحكمان أن يعجلا الحكم عجلاه و إن توفي أحدهما فلأمير شيعته أن يختار مكانه رجلا لا يألو الحق و العدل و إن توفي أحد الأميرين كان نصب غيره إلى أصحابه ممن يرضون أمره و يحمدون طريقته اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة و أراد فيها إلحادا و ظلما. قال نصر هذه رواية محمد بن علي بن الحسين و الشعبي و روى جابر عن زيد بن الحسن بن الحسن زيادات على هذه النسخة هذا ما تقاضى عليه ابن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان و شيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله و سنة رسوله قضية علي على أهل العراق و من كان من شيعته من شاهد أو غائب و قضية معاوية على أهل الشام و من كان من شيعته من شاهد أو غائب إننا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم و أن نقف عند أمره فيما أمر فإنه لا يجمع بيننا إلا ذلك و إنا جعلنا كتاب الله سبحانه حكما بيننا فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى

(3/207)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 235خاتمته نحيي ما أحيا القرآن و نميت ما أماته على ذلك تقاضينا و به تراضينا و إن عليا و شيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله بن قيس ناظرا و محاكما و رضي معاوية و شيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا و محاكما على أنهم أخذوا عليهما عهد ال و ميثاقه و أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه ليتخذان الكتاب إماما فيما بعثا إليه لا يعدوانه إلى غيره ما وجداه فيه مسطورا و ما لم يجداه مسمى في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله ص الجامعة لا يتعمدان لها خلافا و لا يتبعان هوى و لا يدخلان في شبهة و قد أخذ عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص على علي و معاوية عهد الله و ميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب الله و سنة نبيه و ليس لهما أن ينقضا ذلك و لا يخالفاه إلى غيره و أنهما آمنان في حكمهما على دمائهما و أموالهما و أهلهما ما لم يعدوا الحق رضي بذلك راض أو أنكره منكر و أن الأمة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته و أصحابه يختارون مكانه رجلا لا يألون عن أهل المعدلة و الإقساط على ما كان عليه صاحبه من العهد و الميثاق و الحكم بكتاب الله و سنة رسوله و له مثل شرط صاحبه و إن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولوا مكانه رجلا يرضون عدله و قد وقعت هذه القضية و معها الأمن و التفاوض و وضع السلاح و السلام و الموادعة و على الحكمين عهد الله و ميثاقه ألا يألوا اجتهادا و لا يتعمدا جورا و لا يدخلا في شبهة و لا يعدوا حكم الكتاب فإن لم يقبلا برئت الأمة من حكمهما و لا عهد لهما و لا ذمة و قد وجبت القضية على ما قد سمي في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الحكمين و الأميرين و الفريقين و الله أقرب شهيدا و أدنى حفيظا و الناس آمنون على أنفسهم و أهلهم و أموالهم إلى انقضاء مدة الأجل و السلاح موضوع و السبل مخلاة و الشاهد و الغائب من الفريقين سواء في الأمن و للحكمين أن

(3/208)


ينزلا منزلا عدلا بين أهل العراق و الشام لا يحضرهما فيه إلا من أحبا عن ملإ منهما و تراض شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 236و إن المسلمين قد أجلوا هذين القاضيين إلى انسلاخ شهر رمضان فإن رأيا تعجيللحكومة فيما وجها له عجلاها و إن أرادا تأخيرها بعد شهر رمضان إلى انقضاء الموسم فذلك إليهما و إن هما لم يحكما بكتاب الله و سنة نبيه إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأول في الحرب و لا شرط بين الفريقين و على الأمة عهد الله و ميثاقه على التمام و الوفاء بما في هذا الكتاب و هم يد على من أراد فيه إلحادا و ظلما أو حاول له نقضا و شهد فيه من أصحاب علي عشرة و من أصحاب معاوية عشرة و تاريخ كتابته لليلة بقيت من صفر سنة سبع و ثلاثين. قال نصر و حدثنا عمرو بن سعيد قال حدثني أبو جناب عن ربيعة الجرمي قال لما كتبت الصحيفة دعي لها الأشتر ليشهد مع الشهود عليه فقال لا صحبتني يميني و لا نفعني بعدها الشمال إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح أو موادعة أ و لست على بينة من أمري و يقين من ضلالة عدوي أ و لستم قد رأيتم الظفر إن لم تجمعوا على الخور فقال له رجل من الناس و الله ما رأيت ظفرا و لا خورا هلم فأشهد على نفسك و أقرر بما كتب في هذه الصحيفة فإنه لا رغبة لك عن الناس فقال بلى و الله إن لي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا و في الآخرة للآخرة و لقد سفك الله بسيفي هذا دماء رجال ما أنت عندي بخير منهم و لا أحرم دما. قال نصر بن مزاحم الرجل هو الأشعث بن قيس قال فكأنما قصع على أنه الحميم ثم قال و لكني قد رضيت بما يرضى به أمير المؤمنين و دخلت فيما دخل فيه و خرجت مما خرج منه فإنه لا يدخل إلا في الهدى و الصواب.

(3/209)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 237قال نصر فحدثنا عمر بن سعد عن أبي جناب الكلبي عن إسماعيل بن شفيع عن سفيان بن سلمة قال فلما تم الكتاب و شهدت فيه الشهود و تراضى الناس خرج الأشعث و معه ناس بنسخة الكتاب يقرؤها على الناس و يعرضها عليهم فمر به على صفوف من أهل الش و هم على راياتهم فأسمعهم إياه فرضوا به ثم مر به على صفوف من أهل العراق و هم على راياتهم فأسمعهم إياه فرضوا به حتى مر برايات عنزة و كان مع علي ع من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف فلما مر بهم الأشعث يقرؤه عليهم قال فتيان منهم لا حكم إلا لله ثم حملا على أهل الشام بسيوفهما فقاتلا حتى قتلا على باب رواق معاوية فهما أول من حكم و اسماهما جعد و معدان ثم مر بهما على مراد فقال صالح بن شقيق و كان من رءوسهم
ما لعلي في الدماء قد حكم لو قاتل الأحزاب يوما ما ظلم

(3/210)


لا حكم إلا لله و لو كره المشركون ثم مر على رايات بني راسب فقرأها عليهم فقال رجل منهم لا حكم إلا لله لا نرضى و لا نحكم الرجال في دين الله ثم مر على رايات تميم فقرأها عليهم فقال رجل منهم لا حكم إلا لله يقضي بالحق و هو خير الفاصلين فقال رجل منهم لآخر أما هذا فقد طعن طعنة نافذة و خرج عروة بن أدية أخو مرداس بن أدية التميمي فقال أ تحكمون الرجال في أمر الله لا حكم إلا لله فأين قتلانا يا أشعث ثم شد بسيفه ليضرب به الأشعث فأخطأه و ضرب عجز دابته ضربة خفيفة فصاح به الناس أن أملك يدك فكف و رجع الأشعث إلى قومه فمشى الأحنف إليه و معقل بن قيس و مسعر بن فدكي و رجال من بني تميم فتنصلوا و اعتذروا فقبل منهم ذلك و انطلق إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إني شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 238عرضت الحكومة على صفوف أهل الشام و أهل العراق فقالوا جميعا رضينا حتى مررت برايات بني راسب و نبذن الناس سواهم فقالوا لا نرضى لا حكم إلا لله فمل بأهل العراق و أهل الشام عليهم حتى نقتلهم فقال علي ع هل هي غير راية أو رايتين و نبذ من الناس قال لا قال فدعهم. قال نصر فظن علي ع أنهم قليلون لا يعبأ بهم فما راعه إلا نداء الناس من كل جهة و من كل ناحية لا حكم إلا لله الحكم لله يا علي لا لك لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله إن الله قد أمضى حكمه في معاوية و أصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا تحت حكمنا عليهم و قد كنا زللنا و أخطأنا حين رضينا بالحكمين و قد بان لنا زللنا و خطؤنا فرجعنا إلى الله و تبنا فارجع أنت يا علي كما رجعنا و تب إلى الله كما تبنا و إلا برئنا منك فقال علي ع ويحكم أ بعد الرضا و الميثاق و العهد نرجع أ ليس الله تعالى قد قال أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و قال وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا فأبى علي أن يرجع و أبت الخوارج

(3/211)


إلا تضليل التحكيم و الطعن فيه فبرئت من علي ع و برئ علي ع منهم.
قال نصر و قام إلى علي ع محمد بن جريش فقال يا أمير المؤمنين أ ما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل فو الله إني لأخاف أن يورث ذلا فقال علي ع شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 239أ بعد أن كتبناه ننقضه إن هذا لا يحل قال نصر و حدثني عمر بن نمير بن وعلة عن أبي الوداك قال لما تداعى الناس إلى المصاحف و كتبت صحيفة الصلح و التحكيم قال علي ع إنما فعلت ما فعلت لما بدا فيكم من الخور و الفشل عن الحرب فجاءت إليه همدان كأنها ركن حصير فيهم سعيد بن قيس و ابنه عبد الرحمن غلام له ذؤابة فقال سعيد ها أنا ذا و قومي لا نرد أمرك فقل ما شئت نعمله فقال أما لو كان هذا قبل سطر الصحيفة لأزلتهم عن عسكرهم أو تنفرد سالفتي قبل ذلك و لكن انصرفوا راشدين فلعمري ما كنت لأعرض قبيلة واحدة للناس

(3/212)


قال نصر و روى الشعبي أن عليا ع قال يوم صفين حين أقر الناس بالصلح إن هؤلاء القوم لم يكونوا لينيبوا إلى الحق و لا ليجيبوا إلى كلمة سواء حتى يرموا بالمناسر تتبعها العساكر و حتى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 240و حتى يجر ببلادهم اميس يتلوه الخميس و حتى يدعوا الخيول في نواحي أرضهم و بأحناء مساربهم و مسارحهم و حتى تشن عليهم الغارات من كل فج و حتى يلقاهم قوم صدق صبر لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم و موتاهم في سبيل الله إلا جدا في طاعة الله و حرصا على لقاء الله و لقد كنا مع رسول الله ص نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أخوالنا و أعمامنا لا يزيدنا ذلك إلا إيمانا و تسليما و مضيا على أمض الألم و جدا على جهاد العدو و الاستقلال بمبارزة الأقران و لقد كان الرجل منا و الآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون فمرة لنا من عدونا و مرة لعدونا منا فلما رآنا الله صدقا صبرا أنزل بعدونا الكبت و أنزل علينا النصر و لعمري لو كنا نأتي مثل الذي أتيتم ما قام الدين و لا عز الإسلام و ايم الله لتحلبنها دما فاحفظوا ما أقول لكم
و روى نصر عن عمرو بن شمر عن فضيل بن خديج قال قيل لعلي ع لما كتبت الصحيفة أن الأشتر لم يرض بما في الصحيفة و لا يرى إلا قتال القوم فقال علي ع بلى إن الأشتر ليرضى إذا رضيت و قد رضيت و رضيتم و لا يصلح الرجوع بعد الرضا و لا التبديل بعد الإقرار إلا أن يعصى الله أو يتعدى ما في كتابه و أما الذي ذكرتم من تركه أمري و ما أنا عليه فليس من أولئك و لا أعرفه على ذلك و ليت فيكم مثله اثنين بل ليت فيكم مثله واحدا يرى في عدوي مثل رأيه إذا لخفت مئونتكم علي و رجوت أن يستقيم لي بعض أودكم

(3/213)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 241قال نصر و روى أبو عبد الله زيد الأودي أن رجلا منهم يقال له عمرو بن أوس قاتل مع علي ع يوم صفين فأسره معاوية في أسرى كثيرة فقال له عمرو بن العاص اقتلهم فقال له عمرو بن أوس لا تقتلني يا معاوية فإنك خالي فقامت إليه بنو أود فاستووه فقال دعوه فلعمري إن كان صادقا فيما ادعاه من خئولتي إياه ليستغنين عن شفاعتكم و إلا فشفاعتكم من ورائه ثم استدناه فقال من أين أنا خالك فو الله ما بين بني عبد شمس و بين أود من مصاهرة قال فإن أخبرتك فعرفت فهو أمان عندك قال نعم قال أ ليست أم حبيبة أختك أم المؤمنين فأنا ابنها و أنت أخوها فأنت إذا خالي فقال معاوية لله أبوه أ ما كان في هؤلاء الأسرى من يفطن إلى هذا غيره ثم خلى سبيله. و روى إبراهيم بن الحسين بن علي الكسائي المعروف بابن ديزيل الهمداني في كتاب صفين قال حدثنا عبد الله بن عمر قال حدثنا عمرو بن محمد قال دعا معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص ليبعثه حكما فجاء و هو متحزم عليه ثيابه و سيفه و حوله أخوه و ناس من قريش فقال له معاوية يا عمرو إن أهل الكوفة أكرهوا عليا على أبي موسى و هو لا يريده و نحن بك راضون و قد ضم إليك رجل طويل اللسان كليل المدية و له بعد حظ من دين فإذا قال فدعه يقل ثم قل فأوجز و اقطع المفصل و لا تلقه بكل رأيك و اعلم أن خب ء الرأي زيادة في العقل فإن خوفك بأهل العراق فخوفه بأهل الشام و إن خوفك بعلي فخوفه بمعاوية و إن شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 242خوفك بمصر فخوفه باليمن و إن أتاك بالتفصيل فأته جمل فقال له عمرو يا معاوية أنت و علي رجلا قريش و لم تنل في حربك ما رجوت و لم تأمن ما خفت ذكرت أن لعبد الله دينا و صاحب الدين منصور و ايم الله لأفنين عليه علله و لأستخرجن خبأه و لكن إذا جاءني بالإيمان و الهجرة و مناقب علي ما عسيت أن أقول قال قل ما ترى فقال عمرو و هل تدعني و ما أرى و خرج مغضبا كأنه كره أن يوصى ثقة بنفسه و

(3/214)


قال لأصحابه حين خرج إنما أراد معاوية أن يصغر أمر أبي موسى لأنه علم أني خادعه غدا فأحب أن يقول إن عمرا لم يخدع أريبا فقد كدته بالخلاف عليه و قال في ذلك
يشجعني معاوية بن حرب كأني للحوادث مستكين و إني عن معاوية غني بحمد الله و الله المعين و هون أمر عبد الله عمدا و قال له على ما كان دين فقلت له و لم أردد عليه مقالته و للشاكي أنين ترى أهل العراق يذب عنهم و عن جيرانهم رجل مهين فلو جهلوه لم يجهل علي و غث ايحمله السمين و لكن خطبه فيهم عظيم و فضل المرء فيهم مستبين فإن أظفر فلم أظفر بوغد و إن يظفر فقد قطع الوتيفلما بلغ معاوية شعره غضب من ذلك و قال لو لا مسيره لكان لي فيه رأي فقال له عبد الرحمن ابن أم الحكم أما و الله إن أمثاله في قريش لكثير و لكنك ألزمت نفسك الحاجة إليه فألزمها الغناء عنه فقال له معاوية فأجبه عن شعره فقال عبد الرحمن يعيره بفراره من علي يوم صفين شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 24ألا يا عمرو عمرو قبيل سهم أ من طب أصابك ذا الجنون دع البغي الذي أصبحت فيه فإن البغي صاحبه لعين أ لم تهرب بنفسك من علي بصفين و أنت بها ضنين حذارا أن تلاقيك المنايا و كل فتى سيدركه المنون و لسنا عائبين عليك إلا لقولك إنني لا أستقال نصر ثم إن الناس أقبلوا على قتلاهم فدفنوهم قال و قد كان عمر بن الخطاب دعا في خلافته حابس بن سعد الطائي فقال له إني أريد أن أوليك قضاء حمص فكيف أنت صانع قال أجتهد رأيي و أستشير جلسائي قال فانطلق إليها فلم يمش إلا يسيرا حتى رجع فقال يا أمير المؤمنين إني رأيت رؤيا أحببت أن أقصها عليك قال هاتها قال رأيت كأن الشمس أقبلت من المشرق و معها جمع عظيم و كأن القمر قد أقبل من المغرب و معه جمع عظيم فقال له عمر مع أيهما كنت قال كنت مع القمر قال كنت مع الآية الممحوة اذهب فلا و الله لا تلي لي عملا و رده فشهد مع معاوية صفين و كانت راية طي ء معه فقتل يومئذ فمر به عدي بن حاتم و معه ابنه زيد

(3/215)


فرآه قتيلا فقال له يا أبت هذا و الله خالي قال نعم لعن الله خالك فبئس و الله المصرع مصرعه فوقف زيد و قال من قتل هذا الرجل مرارا فخرج إليه رجل من بكر بن وائل طوال يخضب فقال أنا قتلته فقال ه كيف صنعت به فجعل يخبره فطعنه زيد بالرمح فقتله و ذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها فحمل عليه عدي أبوه يسبه و يشتم أمه و يقول يا ابن المائقة لست على دين محمد إن لم أدفعك إليهم فضرب شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 244زيد فرسه فلحق بمعاوية فأكرمه و حمله و أدنى مجلسهرفع عدي يديه فدعا عليه و قال اللهم إن زيدا قد فارق المسلمين و لحق بالملحدين اللهم فارمه بسهم من سهامك لا يشوي أو قال لا يخطئ فإن رميتك لا تنمي و الله لا أكلمه من رأسي كلمة أبدا و لا يظلني و إياه سقف أبدا و قال زيد في قتل البكري

(3/216)


من مبلغ أبناء طي بأنني ثأرت بخالي ثم لم أتأثم تركت أخا بكر ينوء بصدره بصفين مخضوب الجبين من الدم و ذكرني ثأري غداة رأيته فأوجرته رمحي فخر على الفم لقد غادرت أرماح بكر بن وائل قتيلا عن الأهوال ليس بمحجم قتيلا يظل الحي يثنون بعده عليه بأيد من نداه و أنع فجعت طي بحلم و نائل و صاحب غارات و نهب مقسم لقد كان خالي ليس خال كمثله دفاعا لضيم و احتمالا لمغرمقال نصر و روى الشعبي عن زياد بن النضر أن عليا ع بعث أربعمائة عليهم شريح بن هانئ الحارثي و معه عبد الله بن عباس يصلي بهم و يلي أمورهم و معهم أبو موسى الأشعري و بعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة ثم إنهم شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 245خلوا بين الحكمين فكانأي عبد الله بن قيس أبو موسى في عبد الله بن عمرو بن الخطاب و كان يقول و الله إن استطعت لأحيين سنة عمر. قال نصر و في حديث محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال لما أراد أبو موسى المسير قام إليه شريح بن هانئ فأخذ بيده و قال يا أبا موسى إنك قد نصبت لأمر عظيم لا يجبر صدعه و لا تستقال فتنته و مهما تقل من شي ء عليك أو لك يثبت حقه و تر صحته و إن كان باطلا و إنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية و لا بأس على أهل الشام إن ملكهم علي و قد كانت منك تثبيطة أيام الكوفة و الجمل فإن تشفعها بمثلها يكن الظن بك يقينا و الرجاء مك يأسا ثم قال له شريح في ذلك

(3/217)


أبا موسى رميت بشر خصم فلا تضع العراق فدتك نفسي و أعط الحق شامهم و خذه فإن اليوم في مهل كأمس و إن غدا يجي ء بما عليه كذاك الدهر من سعد و نحس و لا يخدعك عمرو إن عمرا عدو الله مطلع كل شمس له خدع يحار العقل منها مموهة مزخرفة بلبس فلا تجعل معاوية بن حرب ك الحوادث غير نكس هداه الله للإسلام فردا سوى عرس النبي و أي عرسفقال أبو موسى ما ينبغي لقوم اتهموني أن يرسلوني لأدفع عنهم باطلا أو أجر إليهم حقا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 246و روى المدائني في كتاب صفين قال لما أجمع أهل العراق على طلب أبي موسى و أحضروه للتحكيم على كره من علي ع أتاه عبد الله بن العباس و عنده وجوه الناس أشرافهم فقال له يا أبا موسى إن الناس لم يرضوا بك و لم يجتمعوا عليك لفضل لا تشارك فيه و ما أكثر أشباهك من المهاجرين و الأنصار و المتقدمين قبلك و لكن أهل العراق أبوا إلا أن يكون الحكم يمانيا و رأوا أن معظم أهل الشام يمان و ايم الله إني لأظن ذلك شرا لك و لنا فإنه قد ضم إليك داهية العرب و ليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك منه و إن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك و اعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام و أن أباه رأس الأحزاب و أنه يدعي الخلافة من غير مشورة و لا بيعة فإن زعم لك أن عمر و عثمان استعملاه فلقد صدق استعمله عمر و هو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي و يؤجره ما يكره ثم استعمله عثمان برأي عمر و ما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة و اعلم أن لعمرو مع كل شي ء يسرك خبيئا يسوءك و مهما نسيت فلا تنس أن عليا بايعهالقوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان و أنها بيعة هدى و أنه لم يقاتل إلا العاصين و الناكثين فقال أبو موسى رحمك الله و الله ما لي إمام غير علي و إني لواقف عند ما رأى و إن حق الله أحب إلي من رضا معاوية و أهل الشام و ما أنت و أنا إلا بالله. و روى البلاذري في كتاب

(3/218)


أنساب الأشراف قال قيل لعبد الله بن عباس شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 247ما منع عليا أن يبعثك مع عمرو يوم التحكيم فقال منعه حاجز القدر و محنة الابتلاء و قصر المدة أما و الله لو كنت لقعدت على مدارج أنفاسه ناقضا ما أبرم و مبرما ما نقض أطير إذا أسف و أسإذا طار و لكن قد سبق قدر و بقي أسف و مع اليوم غد و الآخرة خير لأمير المؤمنين. و ذكر البلاذري أيضا قال قام عمرو بن العاص بالموسم فأطرى معاوية و بني أمية و تناول بني هاشم و ذكر مشاهده بصفين و يوم أبي موسى فقام إليه ابن عباس فقال يا عمرو إنك بعت دينك من معاوية فأعطيته ما في يدك و مناك ما في يد غيره فكان الذي أخذه منك فوق الذي أعطاك و كان الذي أخذت منه دون ما أعطيته و كل راض بما أخذ و أعطى فلما صارت مصر في يدك تتبعك بالنقض عليك و التعقب لأمرك ثم بالعزل لك حتى لو أن نفسك في يدك لأرسلتها و ذكرت يومك مع أبي موسى فلا أراك فخرت إلا بالغدر و لا منيت إلا بالفجور و الغش و ذكرت مشاهدك بصفين فو الله ما ثقلت علينا وطأتك و لا نكأت فينا جرأتك و لقد كنت فيها طويل اللسان قصير البنان آخر الحرب إذا أقبلت و أولها إذا أدبرت لك يدان يد لا تقبضها عن شر و يد لا تبسطها إلى خير و وجهان وجه مؤنس و وجه موحش و لعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحري حزنه على ما باع و اشترى أما إن لك بيانا و لكن فيك خطل و إن لك لرأيا و لكن فيك فشل و إن أصغر عيب فيك لأعظم عيب في غيرك. قال نصر و كان النجاشي الشاعر صديقا لأبي موسى فكتب إليه يحذره من عمرو بن العاص
يؤمل أهل الشام عمرا و إنني لآمل عبد الله عند الحقائق

(3/219)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 248و إن أبا موسى سيدرك حقنا إذا ما رمى عمرا بإحدى البوائق فلله ما يرمى العراق و أهله به منه إن لم يرمه بالصوافكتب إليه أبو موسى إني لأرجو أن ينجلي هذا الأمر و أنا فيه على رضا الله سبحانه. قال نصر ثم إن شريح بن هانئ جهز أبا موسى جهازا حسنا و عظم أمره في الناس ليشرف في قومه فقال الأعور الشني في ذلك يخاطب شريحا.
زففت ابن قيس زفاف العروس شريح إلى دومة الجندل و في زفك الأشعري البلاء و ما يقض من حادث ينزل و ما الأشعري بذي إربة و لا صاحب الخطة الفيصل و لا آخذا حظ أهل العراق و لو قيل ها خذه لم يفعل يحاول عمرا و عمرو له خدائع يأتي بها من علي فإن يحكما بالهدى يتبعا يحكما بالهوى الأميل يكونا كتيسين في قفرة أكيلي نقيف من الحنظلفقال شريح و الله لقد تعجلت رجال مساءتنا في أبي موسى و طعنوا عليه بأسوإ الطعن و ظنوا فيه ما الله عصمه منه إن شاء الله شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 249قال و سار مع عمرو بن العاص شرحبيل بن السمط في خيل عظيمة حتى إذا أمن عليه خيل أهل العراق ودعه ثم قال له يا عم إنك رجل قريش و إن معاوية لم يبعثك إلا لعلمه أنك لا تؤتى من عجز و لا مكيدة و قد عرفت أني وطئت هذا الأمر لك و لصاحبك فكن عند ظني بك ثم انصرف و انصرف شريح بن هانئ حين أمن خيل أهل الشام على أبي موسى و ودعه. و كان آخر من ودع أبا موسى الأحنف بن قيس أخذ بيده ثم قال له يا أبا موسى اعرف خطب هذا الأمر و اعلم أن له ما بعده و أنك إن أضعت العراق فلا عراق اتق الله فإنها تجمع لك دنياك و آخرتك و إذا لقيت غدا عمرا فلا تبدأه بالسلام فإنها و إن كانت سنة إلا أنه ليس من أهلها و لا تعطه يدك فإنها أمانة و إياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة و لا تلقه إلا وحده و احذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع تخبأ لك فيه الرجال و الشهود ثم أراد أن يثور ما في نفسه لعلي فقال له فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي فليختر أهل

(3/220)


العراق من قريش الشام من شاءوا أو فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا. فقال أبو موسى قد سمعت ما قلت و لم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن علي. فرجع الأحنف إلى علي ع فقال له أخرج أبو موسى و الله زبدة سقائه في أول مخضه لا أرانا إلا بعثنا رجلا لا ينكر خلعك فقال علي الله غالب على أمره. قال نصر و شاع و فشا أمر الأحنف و أبي موسى في الناس فبعث الصلتان العبدي و هو بالكوفة إلى دومة الجندل بهذه الأبيات شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 25لعمرك لا ألفي مدى الدهر خالعا عليا بقول الأشعري و لا عمروفإن يحكما بالحق نقبله منهما و إلا أثرناها كراغية البكرو لسنا نقول الدهر ذاك إليهما و في ذاك لو قلناه قاصمة الظهرو لكن نقول الأمر و النهي كله إليه و في كفيه عاقبة الأمرو ما اليوم إلا مثل أمس و إننا لفي وشل الضحضاح أو لجة البحر
قال فلما سمع الناس قول الصلتان شحذهم ذلك على أبي موسى و استبطأه القوم و ظنوا به الظنون و مكث الرجلان بدومة الجندل لا يقولان شيئا و كان سعد بن أبي وقاص قد اعتزل عليا و معاوية و نزل على ماء لبني سليم بأرض البادية يتشوف الأخبار و كان رجلا له بأس و رأي و مكان في قريش و لم يكن له هوى في علي و لا في معاوية فأقبل راكب يوضع من بعيد فإذا هو ابنه عمر فقال له أبوه مهيم فقال التقى الناس بصفين فكان بينهم ما قد بلغك حتى تفانوا ثم حكموا عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص و قد حضر ناس من قريش عندهما و أنت من أصحاب رسول الله ص و من أهل الشورى و من قال له النبي ص اتقوا دعوته و لم تدخل في شي ء مما تكره الأمة فاحضر دومة الجندل فإنك صاحبها غدا فقال مهلا يا عمر إني سمعت رسول الله ص يقول تكون بعدي فتنة خير الناس فيها التقي الخفي

(3/221)


و هذا أمر لم أشهد أوله فلا أشهد آخره شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 251و لو كنت غامسا يدي في هذا الأمر لغمستها مع علي بن أبي طالب و قد رأيت أباك كيف وهب حقه من الشورى و كره الدخول في الأمر فارتحل عمر و قد استبان له أمر أبيه. قال نصر و قد كان الأجناد أبطأت على معاوية فبعث إلى رجال من قريش كانوا هوا أن يعينوه في حربه إن الحرب قد وضعت أوزارها و التقى هذان الرجلان في دومة الجندل فاقدموا علي. فأتاه عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمر بن الخطاب و أبو الجهم بن حذيفة العدوي و عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري و عبد الله بن صفوان الجمحي و أتاه المغيرة بن شعبة و كان مقيما بالطائف لم يشهد الحرب فقال له يا مغيرة ما ترى قال يا معاوية لو وسعني أن أنصرك لنصرتك و لكن علي أن آتيك بأمر الرجلين فرحل حتى أتى دومة الجندل فدخل على أبي موسى كالزائر له فقال يا أبا موسى ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر و كره الدماء قال أولئك خير الناس خفت ظهورهم من دمائهم و خمصت بطونهم من أموالهم ثم أتى عمرا فقال يا أبا عبد الله ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر و كره الدماء قال أولئك شرار الناس لم يعرفوا حقا و لم ينكروا باطلا فرجع المغيرة إلى معاوية فقال له قد ذقت الرجلين أما عبد الله شرحنهج البلاغة ج : 2 ص : 252بن قيس فخالع صاحبه و جاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر و هواه في عبد الله بن عمر و أما عمرو بن العاص فهو صاحب الذي تعرف و قد ظن الناس أنه يرومها لنفسه و أنه لا يرى أنك أحق بهذا الأمر منه قال نصر في حديث عمرو بن شمر قال أقبل أبو موسى عى عمرو فقال يا عمرو هل لك في أمر هو للأمة صلاح و لصلحاء الناس رضا نولي هذا الأمر عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي لم يدخل في شي ء من هذه الفتنة و لا هذه الفرقة قال و كان عبد الله بن عمرو بن العاص و عبد الله بن الزبير قريبين يسمعان هذا الكلام فقال عمرو فأين نت يا أبا موسى عن معاوية فأبى

(3/222)


عليه أبو موسى قال و شهدهم عبد الله بن هشام و عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث و أبو الجهم بن حذيفة العدوي و المغيرة بن شعبة فقال عمرو أ لست تعلم أن عثمان قتل مظلوما قال بلى قال اشهدوا ثم قال فما يمنعك من معاوية و هو ولي عثمان و قد قال الله تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ثم إن بيت معاوية من قريش ما قد علمت فإن خشيت أن يقول الناس ولى معاوية و ليست له سابقة فإن لك حجة أن تقول وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم و الطالب بدمه الحسن السياسة الحسن التدبير و هو أخو أم حبيبة أم المؤمنين و زوج النبي ص و قد صحبه و هو أحد الصحابة ثم عرض له بالسلطان فقال له إن هو ولي الأمر أكرمك كرامة لم يكرمك أحد قط مثلها فقال أبو موسى اتق الله يا عمرو أما ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا

(3/223)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 253الأمر ليس على الشرف يولاه أهله لو كان على الشرف كان أحق الناس بهذا الأمر أبرهة بن الصباح إنما هو لأهل الدين و الفضل مع أني لو كنت أعطيه أفضل قريش شرفا لأعطيته علي بن أبي طالب و أما قولك إن معاوية ولي عثمان فوله هذا الأمر فإنلم أكن أوليه إياه لنسبته من عثمان و أدع المهاجرين الأولين و أما تعريضك لي بالإمرة و السلطان فو الله لو خرج لي من سلطانه ما وليته و ما كنت أرتشي في الله و لكنك إن شئت أحيينا سنة عمر بن الخطاب. قال نصر و حدثني عمر بن سعد عن أبي جناب أن أبا موسى قال غير مرة و الله إن استطعت لأحيين اسم عمر بن الخطاب قال فقال عمرو بن العاص إن كنت إنما تريد أن تبايع ابن عمر لدينه فما يمنعك من ابني عبد الله و أنت تعرف فضله و صلاحه فقال إن ابنك لرجل صدق و لكنك قد غمسته في هذه الفتنة. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن محمد بن إسحاق عن نافع قال قال أبو موسى لعمرو يا عمرو إن شئت ولينا هذا الأمر الطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر فقال له عمرو يا أبا موسى إن هذا الأمر لا يصلح له إلا رجل له ضرس يأكل و يطعم و إن عبد الله ليس هناك. قال نصر و قد كان في أبي موسى غفلة فقال ابن الزبير لابن عمر اذهب إلى عمرو بن العاص فارشه فقال ابن عمر لا و الله لا أرشو عليها بشي ء أبدا ما عشت و لكنه قال له إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف و تطاعنت بالرماح فلا تردهم في فتنة و اتق الله. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 254قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن أزهر بسي عن النضر بن صالح قال كنت مع شريح بن هانئ في غزوة سجستان فحدثني أن عليا ع أوصاه بكلمات إلى عمرو بن العاص و قال له قل لعمرو إذا لقيته إن عليا يقول لك إن أفضل الخلق عند الله من كان العمل بالحق أحب إليه و إن نقصه و إن أبعد الخلق من الله من كان العمل بالباطل أحب إليه و إن زاده و الله يا عمرو إنك لتعلم أين موضع الحق فلم

(3/224)


تتجاهل أ بأن أوتيت طمعا يسيرا صرت لله و لأوليائه عدوا فكان و الله ما قد أوتيت قد زال عنك فلا تكن للخائنين خصيما و لا للظالمين ظهيرا أما إني أعلم أن يومك الذي أنت فيه نادم هو يوم وفاتك و سوف تتمنى أنك لم تظهر لي عداوة و لم تأخذ على حكم الله رشوة قال شريح فأبلغته ذلك يوم لقيته فتمعر وجهه و قال متى كنت قابلا مشورة علي أو منيبا إلى رأيه أو معتدا بأمره فقلت و ما يمنعك يا ابن النابغة أن تقبل من مولاك و سيد المسلمين بعد نبيهم مشورته لقد كان من هو خير منك أبو بكر و عمر يستشيرانه و يعملان برأيه فقال إن مثلي لا يكلم مثلك فقلت بأي أبويك ترغب عن كلامي بأبيك الوشيظ أم بأمك النابغة فقام من مكانه و قمت. قال نصر و روى أبو جناب الكلبي أن عمرا و أبا موسى لما التقيا بدومة الجندل أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام و يقول إنك صحبت رسول الله ص قبلي و أنت أكبر مني سنا فتكلم أنت ثم أتكلم أنا فجعل ذلك سنة و عادة بينهما

(3/225)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 255و إنما كان مكرا و خديعة و اغترارا له أن يقدمه فيبدأ بخلع علي ثم يرى رأيه. و قال ابن ديزيل في كتاب صفين أعطاه عمرو صدر المجلس و كان لا يتكلم قبله و أعطاه التقدم في الصلاة و في الطعام لا يأكل حتى يأكل و إذا خاطبه فإنما يخاطبه جل الأسماء و يقول له يا صاحب رسول الله حتى اطمأن إليه و ظن أنه لا يغشه. قال نصر فلما انمخضت الزبدة بينهما قال له عمرو أخبرني ما رأيك يا أبا موسى قال أرى أن أنخلع هذين الرجلين و نجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون من شاءوا فقال عمرو الرأي و الله ما رأيت فأقبلا إلى الناس و هم مجتمعون فتكلم أبو موسى فحمد الله و أثنى عليه ثم قال إن رأيي و رأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به شأن هذه الأمة فقال عمرو صدق ثم قال له تقدم يا أبا موسى فتكلم فقام ليتكلم فدعاه ابن عباس فقال له ويحك و الله إني لأظنه خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه قبلك ليتكلم به ثم تكلم أنت بعده فإنه رجل غدار و لا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك و بينه فإذا قمت قمت به في الناس خالفك و كان أبو موسى رجلا مغفلا فقال إيها عنك إنا قد اتفقنا. فتقدم أبو موسى فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها و لا ألم لشعثها من ألا تتباين أمورها و قد أجمع رأيي و رأي صاحبي على خلع علي و معاوية و أن يستقبل هذا الأمر فيكون شورى بين المسلمين يولون أمورهم من أحبوا و إني قد خلعت عليا و معاوية فاستقبلوا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 256أموركم و ولوا من رأيتموه لهذا الأمر أهلا ثم تنحى. فقام عمرو بن العاص في مقامه فحمد الله و أثنى عليه ثم قال إن هذا قد قال ما سمعتم و خلع صاحبه و أنا أخلع صاحبه كما خلعه و أثبت صاحبي معاوية في الخلافة فإنه ولي عثمان و الطالب به و أحق الناس بمقامه. فقال له أبو موسى ما لك لا وفقك الله قد غدرت و

(3/226)


فجرت إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فقال له عمرو إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا. و حمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه بالسوط و حمل ابن عمرو على شريح فقنعه بالسوط و قام الناس فحجزوا بينهما فكان شريح يقول بعد ذلك ما ندمت على شي ء ندامتي ألا أكون ضربت عمرا بالسيف بدل السوط أتى الدهر بما أتى به. و التمس أصحاب علي ع أبا موسى فركب ناقته و لحق بمكة و كان ابن عباس يقول قبح الله أبا موسى لقد حذرته و هديته إلى الرأي فما عقل و كن أبو موسى يقول لقد حذرني ابن عباس غدرة الفاسق و لكني اطمأننت إليه و ظننت أنه لا يؤثر شيئا على نصيحة الأمة. قال نصر و رجع عمرو إلى منزله من دومة الجندل فكتب إلى معاوية
أتتك الخلافة مزفوفة هنيئا مريئا تقر العيونا
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 257تزف إليك زفاف العروس بأهون من طعنك الدارعيناو ما الأشعري بصلد الزناد و لا خامل الذكر في الأشعريناو لكن أتيحت له حية يظل الشجاع لها مستكينافقالوا و قلت و كنت امرأ أجهجه بالخصم حتى يلينافخذها ابن هند على بعدها فقد دافع الله ماحذروناو قد صرف الله عن شامكم عدوا مبينا و حربا زبونا
قال نصر فقام سعد بن قيس الهمداني و قال و الله لو اجتمعتما على الهدى ما زدتمانا على ما نحن الآن عليه و ما ضلالكما بلازم لنا و ما رجعتما إلا بما بدأتما به و إنا اليوم لعلى ما كنا عليه أمس. و قام كردوس بن هانئ مغضبا فقال
ألا ليت من يرضى من الناس كلهم بعمرو و عبد الله في لجة البحررضينا بحكم الله لا حكم غيره و بالله ربا و النبي و بالذكرو بالأصلع الهادي علي إمامنا رضينا بذاك الشيخ في العسر و اليسررضينا به حيا و ميتا و إنه إمام هدى في الحكم و النهي و الأمرفمن قال لا قلنا بلى إن أمره لأفضل ما نعطاه في ليلة القدرو ما لابن هند بيعة في رقابنا و ما بيننا غير المثقفة السمر

(3/227)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 258و ضرب يزيل الهام عن مستقره و هيهات هيهات الرضا آخر الدهرأبت لي أشياخ الأراقم سبة أسب بها حتى أغيب في القبو تكلم يزيد بن أسد القسري و هو من قواد معاوية فقال يا أهل العراق اتقوا الله فإن أهون ما تردنا و إياكم إليه الحرب ما كنا عليه بالأمس و هو الفناء و قد شخصت الأبصار إلى الصلح و أشرفت الأنفس على الفناء و أصبح كل امرئ يبكي على قتيل ما لكم رضيتم بأول أمر صاحبكم و كرهتم آخره إنه ليس لكم وحدكم الرضا. قال و قال بعض الأشعريين لأبي موسى
أبا موسى خدعت و كنت شيخا قريب القعر مدهوش الجنان رمى عمرو صفاتك يا ابن قيس بأمر لا تنوء به اليدان و قد كنا نجمجم عن ظنون فصرحت الظنون عن العيان فعض الكف من ندم و ما ذا يرد عليك عضك بالبنقال و شمت أهل الشام بأهل العراق و قال كعب بن جعيل شاعر معاوية
كأن أبا موسى عشية أذرح يطوف بلقمان الحكيم يواربه و لما تلاقوا في تراث محمد نمت بابن هند في قريش مناسبه سعى بابن عفان ليدرك ثأره و أولى عباد الله بالثأر طالب شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 259و قد غشيتنا في الزبير غضاضة و طلحة إذ قامت عليه نوادبه فرد ابن هند ملكه في نصابه و من غالب الأقدار فالله غالبه و ما لابن هند من لؤي بن غالب نظير و إن جاشت عليه أقاربه فهذاك ملك الشام واف سنامه و هذاك ملك القوم قد جب غاربل عبد الله عمرا و إنه ليضرب في بحر عريض مذاهبه دحا دحوة في صدره فهوت به إلى أسفل الجب الظنون كواذبهقال نصر و كان علي ع لما خدع عمرو أبا موسى بالكوفة كان قد دخلها منتظرا ما يحكم به الحكمان فلما تم على أبي موسى ما تم من الحيلة غم ذلك عليا و ساءه و وجم له و خطب الناس فقال الحمد لله و إن أتى الدهر بالخطب الفادح و الحدث الجليل... الخطبة التي ذكرها الرضي رحمه الله تعالى و هي التي نحن في شرحها و زاد في آخرها بعد الاستشهاد ببيت دريد

(3/228)


ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما قد نبذا حكم الكتاب و أحييا ما أمات و اتبع كل واحد منهما هواه و حكم بغير حجة و لا بينة و لا سنة ماضية و اختلفا فيما حكما فكلاهما لم يرشد الله فاستعدوا للجهاد و تأهبوا للمسير و أصبحوا في معسكركم يوم كذا
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 260 قال نصر فكان علي ع بعد الحكومة إذا صلى الغداة و المغرب و فرغ من الصلاة و سلم قال اللهم العن معاوية و عمرا و أبا موسى و حبيب بن مسلمة و عبد الرحمن بن خالد و الضحاك بن قيس و الوليد بن عقبةفبلغ ذلك معاوية فكان إذا صلى لعن عليا و حسنا و حسينا و ابن عباس و قيس بن سعد بن عبادة و الأشتر و زاد ابن ديزيل في أصحاب معاوية أبا الأعور السلمي. و روى ابن ديزيل أيضا أن أبا موسى كتب من مكة إلى علي ع أما بعد فإني قد بلغني أنك تلعنني في الصلاة و يؤمن خلفك الجاهلون و إني أقول كما قال موسى ع رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ.
و روى ابن ديزيل عن وكيع عن فضل بن مرزوق عن عطية عن عبد الرحمن بن حبيب عن علي ع أنه قال يؤتى بي و بمعاوية يوم القيامة فنجي ء و نختصم عند ذي العرش فأينا فلج فلج أصحابه و روى أيضا عن عبد الرحمن بن نافع القارئ عن أبيه قال سئل علي ع عن قتلى صفين فقال إنما الحساب علي و على معاوية
و روي أيضا عن الأعمش عن موسى بن طريف عن عباية قال سمعت عليا ع و هو يقول أنا قسيم النار هذا لي و هذا لك
و روي أيضا عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ص لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما واحدة فبينما هم كذلك مرقت منهم مارقة يقتلهم أولى الطائفتين بالحق

(3/229)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 261قال إبراهيم بن ديزيل و حدثنا سعيد بن كثير عن عفير قال حدثنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن حنش الصنعاني قال جئت إلى أبي سعيد الخدري و قد عمي فقلت أخبرني عن هذه الخوارج فقال تأتوننا فنخبركم ثم ترفعون ذلك إلى معاوية فيبعث إلينا بالام الشديد قال قلت أنا حنش فقال مرحبا بك يا حنش المصري
سمعت رسول الله ص يقول يخرج ناس يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر أحدكم في نصله فلا يرى شيئا فينظر في قذذه فلا يرى شيئا سبق الفرث و الدم يصلى بقتالهم أولى الطائفتين بالله

(3/230)


فقال حنش فإن عليا صلي بقتالهم فقال أبو سعيد و ما يمنع عليا أن يكون أولى الطائفتين بالله. و ذكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في أماليه قال قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد حضرت الحكومة فلما كان يوم الفصل جاء عبد الله بن عباس فقعد إلى جانب أبي موسى و قد نشر أذنيه حتى كاد أن ينطق بهما فعلمت أن الأمر لا يتم لنا ما دام هناك و أنه سيفسد على عمرو حيلته فأعملت المكيدة في أمره فجئت حتى قعدت عنده و قد شرع عمرو و أبو موسى في الكلام فكلمت ابن عباس كلمة استطعمته جوابها فلم يجب فكلمته أخرى فلم يجب فكلمته ثالثة فقال إني لفي شغل عن حوارك الآن فجبهته و قلت يا بني هاشم لا تتركون بأوكم و كبركم أبدا أما و الله لو لا مكان النبوة لكان لي و لك شأن قال فحمي و غضب و اضطرب فكره و رأيه و أسمعني كلاما يسوء سماعه فأعرضت عنه و قمت فقعدت إلى جانب عمرو بن العاص فقلت قد كفيتك التقوالة إني قد شغلت باله بما دار بيني و بينه فأحكم أنت أمرك قال شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 262فذهل و الله ابن عباس عن الكلام الدائر بين الرجلين حتى قام أبو موسى فخلع عليا. و روى الزبير بن بكار في الموفقيات و رواه جميع الناس ممن عني بنقل الآثار و السير عن الحسن البص قال أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم و فيهم بقايا الصحابة و ذوو الفضيلة و استخلافه بعده ابنه يزيد سكيرا خميرا يلبس الحرير و يضرب بالطنابير و ادعاؤه زيادا
و قد قال رسول الله ص الولد للفراش و للعاهر الحجر
و قتله حجر بن عدي و أصحابه فيا ويله من حجر و أصحاب حجر. و روى في الموفقيات أيضا الخبر الذي رواه المدائني و قد ذكرناه آنفا من كلام ابن عباس لأبي موسى و قوله إن الناس لم يرتضوك لفضل عندك لم تشارك فيه و ذكر في آخره فقال بعض شعراء قريش

(3/231)


و الله ما كلم الأقوام من بشر بعد الوصي علي كابن عباس أوصى ابن قيس بأمر فيه عصمته لو كان فيها أبو موسى من الناس إني أخاف عليه مكر صاحبه أرجو رجاء مخوف شيب بالياو ذكر الزبير أيضا في الموفقيات أن يزيد بن حجية التيمي شهد الجمل و صفين و نهروان مع علي ع ثم ولاه الري و دستبى فسرق من أموالهما و لحق بمعاوية و هجا عليا و أصحابه و مدح معاوية و أصحابه فدعا عليه علي ع و رفع أصحابه أيديهم فأمنوا و كتب إليه رجل من بني عمه كتابا يقبح إليه شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 263ما صنع و كان الكتاب شعرا فكتب يزيد بن حجية إليه لو كنت أقول شعرا لأجبتك و لكن قد كان منكم خلال ثلاث لا ترون معهن شيئا مما تحبون أما الأولى فإنكم سرتم إلى أهل الشام حتى إذا دخلتم بلادهم و طعنتموهم بالرماح و أذقتموهألم الجراح رفعوا المصاحف فسخروا منكم و ردوكم عنهم فو الله و و الله لا دخلتموها بمثل تلك الشوكة و الشدة أبدا و الثانية أن القوم بعثوا حكما و بعثتم حكما فأما حكمهم فأثبتهم و أما حكمكم فخلعكم و رجع صاحبهم يدعي أمير المؤمنين و رجعتم متضاغنين و الثالثة أن قراءكم و فقهاءكم و فرسانكم خالفوكم فعدوتم عليهم فقتلتموهم ثم كتب في آخر الكتاب بيتين لعفان بن شرحبيل التميمي

(3/232)


أحببت أهل الشام من بين الملا و بكيت من أسف على عثمان أرضا مقدسة و قوما منهم أهل اليقين و تابعو الفرقانو ذكر أبو أحمد العسكري في كتاب الأمالي أن سعد بن أبي وقاص دخل على معاوية عام الجماعة فلم يسلم عليه بإمرة المؤمنين فقال له معاوية لو شئت أن تقول في سلامك غير هذا لقلت فقال سعد نحن المؤمنون و لم نؤمرك كأنك قد بهجت بما أنت فيه يا معاوية و الله ما يسرني ما أنت فيه و أني هرقت المحجمة دم قال و لكني و ابن عمك عليا يا أبا إسحاق قد هرقنا أكثر من محجمة و محجمتين هلم فاجلس معي على السرير فجلس معه فذكر له معاوية اعتزاله الحرب يعاتبه فقال سعد إنما كان مثلي و مثل الناس كقوم أصابتهم ظلمة فقال واحد منهم لبعيره إخ فأناخ حتى أضاء له الطريق شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 264فقال معاوية و الله يا أبا إسحاق ما في كتاب الله إخ و إنما فيه وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّ تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فو الله ما قاتلت الباغية و لا المبغي عليها فأفحمه. و زاد ابن ديزيل في هذا الخبر زيادة ذكرها في كتاب صفين قال فقال سعد أ تأمرني أن أقاتل رجلا قال له رسول الله ص أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
فقال معاوية من سمع هذا معك قال فلان و فلان و أم سلمة فقال معاوية لو كنت سمعت هذا لما قاتلته

(3/233)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 36265- و من خطبة له ع في تخويف أهل النهروانفَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هَذَا النَّهَرِ وَ بِأَهْضَامِ هَذَا الْغَائِطِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَا سُلْطَانٍ مُبِينٍ مَعَكُمْ قَدْ طَوَّحَتْ بِكُمُ الدَّارُ وَ احْتَبَلَكُمُ الْمِقْدَارُ وَ قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هَذِهِ الْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَى هَوَاكُمْ وَ أَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ وَ لَمْ آتِ لَا أَبَا لَكُمْ بُجْراً وَ لَا أَرَدْتُ بِكُمْ ضُرّاً
الأهضام جمع هضم و هو المطمئن من الوادي و الغائط ما سفل من الأرض. و احتبلكم المقدار أوقعكم في الحبالة. و البجر الداهية و الأمر العظيم و يروى هجرا و هو المستقبح من القول و يروى عرا و العر قروح في مشافر الإبل و يستعار للداهية
أخبار الخوارج
قد تظافرت الأخبار حتى بلغت حد التواتر بما وعد الله تعالى قاتلي الخوارج من الثواب على لسان رسوله ص
و في الصحاح المتفق عليها أن شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 266رسول الله ص بينا هو يقسم قسما جاء رجل من بني تميم يدعى ذا الخويصرة فقال اعدل يا محمد فقال ع قد عدلت فقال له ثانية اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال ص ويلك و من يعدل إذا لم أعدل فقام عمر بن الخطاب فقالا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه فقال دعه فسيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر أحدكم إلى نصله فلا يجد شيئا فينظر إلى نضيه فلا يجد شيئا ثم ينظر إلى القذذ فكذلك سبق الفرث و الدم يخرجون على حين فرقة من الناس تحتقر صلاتكم في جنب صلاتهم و صومكم عند صومهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم آيتهم رجل أسود أو قال أدعج مخدج اليد إحدى يديه كأنها ثدي امرأة أو بضعة تدردر

(3/234)


و في بعض الصحاح أن رسول الله ص قال لأبي بكر و قد غاب الرجل شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 267عن عينه قم إلى هذا فاقتله فقام ثم عاد و قال وجدته يصلي فقال لعمر مثل ذلك فعاد و قال وجدته يصلي فقال لعلي ع مثل ذلك فعاد فقال لم أجده فقال رسول الله ص لو قتل هذا لكان ل فتنة و آخرها أما إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم
الحديث. و في بعض الصحاح يقتلهم أولى الفريقين بالحق.
و في مسند أحمد بن حنبل عن مسروق قال قالت لي عائشة إنك من ولدي و من أحبهم إلي فهل عندك علم من المخدج فقلت نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه تامرا و لأسفله النهروان بين لخاقيق و طرفاء قالت ابغني على ذلك بينة فأقمت رجالا شهدوا عندها بذلك قال فقلت لها سألتك بصاحب القبر ما الذي سمعت من رسول الله ص فيهم فقالت نعم سمعته يقول إنهم شر الخلق و الخليقة يقتلهم خير الخلق و الخليقة و أقربهم عند الله وسيلة
و في كتاب صفين للواقدي عن علي ع لو لا أن تبطروا فتدعوا العمل لحدثتكم بما سبق على لسان رسول الله ص لمن قتل هؤلاء
و فيه قال علي ع إذا حدثتكم عن رسول الله ص فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله ص و إذا حدثتكم فيما بيننا عن نفسي فإن الحرب خدعة و إنما أنا رجل محارب سمعت رسول الله ص يقول يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام قولهم من خير شرح نج البلاغة ج : 2 ص : 268أقوال أهل البرية صلاتهم أكثر من صلاتكم و قراءتهم أكثر من قراءتكم لا يجاوز إيمانهم تراقيهم أو قال حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة و في كتاب صفين أيضا للمدائني عن مسروق أن عائشة قالت له لما عرفت أن عليا ع قتل ذا الثدية لعن الله عمرو بن العاص فإنه كتب إلي يخبرني أنه قتله بالإسكندرية ألا إنه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله ص يقول
يقتله خير أمتي من بعدي

(3/235)


و ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ أن عليا ع لما دخل الكوفة دخلها معه كثير من الخوارج و تخلف منهم بالنخيلة و غيرها خلق كثير لم يدخلوها فدخل حرقوص بن زهير السعدي و زرعة بن البرج الطائي و هما من رءوس الخوارج على علي ع فقال له حرقوص تب من خطيئتك و اخرج بنا إلى معاوية نجاهده فقال له علي ع إني كنت نهيتكم عن الحكومة فأبيتم ثم الآن تجعلونها ذنبا أما إنها ليست بمعصية و لكنها عجز من الرأي و ضعف في التدبير و قد نهيتكم عنه فقال زرعة أما و الله لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لأقتلنك أطلب بذلك وجه الله و رضوانه فقال علي ع بؤسا لك ما أشقاك كأني بك قتيلا تسفي عليك الرياح قال زرعة وددت أنه كان ذلك. قال و خرج علي ع يخطب الناس فصاحوا به من جوانب المسجد شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 269لا حكم إلا لله و صاح به رجل منهم واضع إصبعه في أذنيه فقال و لقد أوحي إليك و إلى الذين قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين فقال له علي ع فاصبر إن وعد الله حق و لا يستخفنك الذين لا يوقنون. و روى ابن ديزيل في كتاب صفين قال كانت الخوارج في أول ما انصرفت عن رايات علي ع تهدد الناس قتلا قال فأتت طائفة منهم على النهر إلى جانب قرية فخرج منها رجل مذعورا آخذا بثيابه فأدركوه فقالوا له رعبناك قال أجل فقالوا له قد عرفناك أنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ص قال نعم قالوا فما سمعت من أبيك يحدث عن رسول الله ص.
قال ابن ديزيل فحدثهم أن رسول الله ص قال إن فتنة جائية القاعد فيها خير من القائم
الحديث.و قال غيره بل حدثهم أن طائفة تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقرءون القرآن صلاتهم أكثر من صلاتكم
الحديث فضربوا رأسه فسال دمه في النهر ما امذقر أي ما اختلط بالماء كأنه شراك ثم دعوا بجارية له حبلى فبقروا عما في بطنها.

(3/236)


و روى ابن ديزيل قال عزم علي ع على الخروج من الكوفة إلى الحرورية و كان في أصحابه منجم فقال له يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 270و سر على ثلاث ساعات مضين من النهار فإنك إن سرت في هذه الساعة أصابك و أصحابك أذى و ضر شديد و إنرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت و ظهرت و أصبت ما طلبت فقال له علي ع أ تدري ما في بطن فرسي هذه أ ذكر هو أم أنثى قال إن حسبت علمت فقال علي ع من صدقك بهذا فقد كذب بالقرآن قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ الآية ثم قال ع إن محمدا ص ما كان يدعي علم ما ادعيت علمه أ تزعم أنك تهدي إلى الساعة التي يصيب النفع من سار فيها و تصرف عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها فمن صدقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة بالله جل ذكره في صرف المكروه عنه و ينبغي للموقن بأمرك أن يوليك الحمد دون الله جل جلاله لأنك بزعمك هديته إلى الساعة التي يصيب النفع من سار فيها و صرفته عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها فمن آمن بك في هذا لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ضدا و ندا اللهم لا طير إلا طيرك و لا ضر إلا ضرك و لا إله غيرك ثم قال نخالف و نسير في الساعة التي نهيتنا عنها ثم أقبل على الناس فقال أيها الناس إياكم و التعلم للنجوم إلا ما يهتدى به في ظلمات البر و البحر إنما المنجم كالكاهن و الكاهن كالكافر و الكافر في النار أما و الله لئن بلغني أنك تعمل بالنجوم لأخلدنك السجن أبدا ما بقيت و لأحرمنك العطاء ما كان لي من سلطان ثم سار في الساعة التي نهاه عنها المنجم فظفر بأهل النهر و ظهر عليهم ثم قال لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها المنجم لقال الناس سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر و ظهر أما إنه ما كان لمحمد ص منجم و لا لنا من بعده حتى فتح الله علينا بلاد كسرى و قيصر أيها الناس

(3/237)


توكلوا على الله و ثقوا به فإنه يكفي ممن سواه
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 271قال فروى مسلم الضبي عن حبة العرني قال لما انتهينا إليهم رمونا فقلنا لعلي ع يا أمير المؤمنين قد رمونا فقال لنا كفوا ثم رمونا فقال لنا ع كفوا ثم الثالثة فقال الآن طاب القتال احملوا عليهم. و روى أيضا عن قيس بن سعد بن عبادة أن عا ع لما انتهى إليهم قال لهم أقيدونا بدم عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتله فقال احملوا عليهم و ذكر أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل أن أول من قال لا حكم إلا لله عروة بن حدير قالها بصفين و قيل زيد بن عاصم المحاربي قال و كان أميرهم أول ما اعتزلوا ابن الكواء ثم بايعوا لعبد الله بن وهب الراسبي و كان أحد الخطباء فقال لهم عند بيعتهم إياه إياكم و الرأي الفطير و الكلام الفضيب دعوا لرأي يغب فإن غبوبه يكشف للمرء عن قضته و ازدحام الجواب مضلة للصواب و ليس الرأي بالارتجال و لا الحزم بالاقتضاب فلا تدعونكم السلامة من خطأ موبق و غنيمة نلتموها من غير صواب إلى معاودته و التماس الربح من جهته إن الرأي ليس بنهنهي و لا هو ما أعطتك البديهة و إن خمير الرأي خير من فطيره و رب شي ء غابه خير من طريئه و تأخيره خير من تقديمه. و ذكر المدائني في كتاب الخوارج قال لما خرج علي ع إلى أهل النهرأقبل رجل من أصحابه ممن كان على مقدمته يركض حتى انتهى إلى علي ع شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 272فقال البشرى يا أمير المؤمنين قال ما بشراك قال إن القوم عبروا النهر لما بلغهم وصولك فأبشر فقد منحك الله أكتافهم فقال له آلله أنت رأيتهم قد عبروا قال نعم فأحلفه ثلامرات في كلها يقول نعم فقال علي ع و الله ما عبروه و لن يعبروه و إن مصارعهم لدون النطفة و الذي فلق الحبة و برأ النسمة لن يبلغوا الأثلاث و لا قصر بوازن حتى يقتلهم الله و قد خاب من افترى قال ثم أقبل فارس آخر يركض فقال كقول الأول فلم يكترث علي ع بقوله و جاءت الفرسان تركض كلها تقول

(3/238)


مثل ذلك فقام علي ع فجال في متن فرسه قال فيقول شاب من الناس و الله لأكونن قريبا منه فإن كانوا عبروا النهر لأجعلن سنان هذا الرمح في عينه أ يدعي علم الغيب فلما انتهى ع إلى النهر وجد القوم قد كسروا جفون سيوفهم و عرقبوا خيلهم و جثوا على ركبهم و حكموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له زجل فنزل ذلك الشاب فقال يا أمير المؤمنين إني كنت شككتك فيك آنفا و إني تائب إلى الله و إليك فاغفر لي فقال علي ع إن الله هو الذي يغفر الذنوب فاستغفره. و ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل قال لما واقفهم علي ع بالنهروان قال لا تبدءوهم بقتال حتى يبدءوكم فحمل منهم رجل على صف علي ع فقتل منهم ثلاثة ثم قال
أقتلهم و لا أرى عليا و لو بدا أوجرته الخطيا

(3/239)


فخرج إليه علي ع فضربه فقتله فلما خالطه سيفه قال يا حبذا الروحة إلى الجنة فقال عبد الله بن وهب و الله ما أدري إلى الجنة أم إلى النار فقال رجل منهم شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 273من بني سعد إنما حضرت اغترارا بهذا الرجل يعني عبد الله و أراه قد شك و اعتزل عن ارب بجماعة من الناس و مال ألف منهم إلى جهة أبي أيوب الأنصاري و كان على ميمنة علي ع فقال علي ع لأصحابه احملوا عليهم فو الله لا يقتل منكم عشرة و لا يسلم منهم عشرة فحمل عليهم فطحنهم طحنا قتل من أصحابه ع تسعة و أفلت من الخوارج ثمانية و ذكر أبو العباس و ذكر غيره أيضا أن أمير المؤمنين ع لما وجه إليهم عبد الله بن عباس ليناظرهم قال لهم ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين قالوا له قد كان للمؤمنين أميرا فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان فليتب بعد إقراره بالكفر نعد إليه قال ابن عباس ما ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه بشك أن يقر على نفسه بالكفر قالوا إنه حكم قال إن الله أمر بالتحكيم في قتل صيد فقال يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين فقالوا إنه حكم عليه فلم يرض فقال إن الحكومة كالإمامة و متى فسق الإمام وجبت معصيته و كذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما فقال بعضهم لبعض اجعلوا احتجاج قريش حجة عليهم فإن هذا من الذين قال الله فيهم بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ و قال جل ثناؤه وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا. قال أبو العباس و يقال إن أول من حكم عروة بن أدية و أدية جدة له جاهلية و هو عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة و قال قوم أول من حكم رجل من بني شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 274محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان يقال له سعيد و لم يختلفوا في اجتماعهم على عبد الله بن وهب الراسبي و أنه امتنع عليهم و أومأ إلى غيره فلم يقنعوا إلا به فكان إمام القوم و كان يوصف بر فأما أول سيف سل من سيوف الخوارج فسيف عروة بن أدية و ذاك أنه أقبل

(3/240)


على الأشعث فقال له ما هذه الدنية يا أشعث و ما هذا التحكيم أ شرط أوثق من شرط الله عز و جل ثم شهر عليه السيف و الأشعث مول فضرب به عجز بغلته. قال أبو العباس و عروة بن حدير هذا من النفر الذين نجوا من حرب النهروان فلم يزل باقيا مدة من أيام معاوية ثم أتي به زياد و معه مولى له فسأله عن أبي بكر و عمر فقال خيرا فقال له فما تقول في أمير المؤمنين عثمان و في أبي تراب فتولى عثمان ست سنين من خلافته ثم شهد عليه بالكفر و فعل في أمر علي ع مثل ذلك إلى أن حكم ثم شهد عليه بالكفر ثم سأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا ثم سأله عن نفسه فقال له أولك لزنية و آخرك لدعوة و أنت بعد عاص لربك فأمر به فضربت عنقه ثم دعا مولاه فقال له صف لي أموره قال أ أطنب أم أختصر قال بل اختصر قال ما أتيته بطعام بنهار قط و لا فرشت له فراشا بليل قط. قال أبو العباس و سبب تسميتهم الحرورية أن عليا ع لما ناظرهم بعد مناظرة ابن عباس إياهم كان فيما قال لهم أ لا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم إن هذه مكيدة و وهن و إنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لأتوني و سألوني التحكيم أ فتعلمون أن أحدا كان أكره للتحكيم مني قالوا صدقت قال فهل تعلمون أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما

(3/241)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 275بحكم الله فمتى خالفاه فأنا و أنتم من ذلك برآء و أنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني قالوا اللهم نعم قال و كان معهم في ذلك الوقت ابن الكواء قال و هذا من قبل أن يذبحوا عبد الله بن خباب و إنما ذبحوه في الفرقة الثانية بكسكر فقالواه حكمت في دين الله برأينا و نحن مقرون بأنا كنا كفرنا و لكنا الآن تائبون فأقر بمثل ما أقررنا به و تب ننهض معك إلى الشام فقال أ ما تعلمون أن الله تعالى قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل و امرأته فقال سبحانه فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها و في صيد أصيب كأرنب يساوي نصف درهم فقال يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فقالوا له فإن عمرا لما أبى عليك أن تقول في كتابك هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين محوت اسمك من الخلافة و كتبت علي بن أبي طالب فقد خلعت نفسك فقال لي في رسول الله ص عليه أسوة حين أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب هذا كتاب كتبه محمد رسول الله ص و سهيل بن عمرو و قال له لو أقررت بأنك رسول الله ما خالفتك و لكني أقدمك لفضلك فاكتب محمد بن عبد الله فقال لي يا علي امح رسول الله فقلت يا رسول الله لا تشجعني نفسي على محو اسمك من النبوة قال فقضى عليه فمحاه بيده ثم قال اكتب محمد بن عبد الله ثم تبسم إلي و قال يا علي أما إنك ستسام مثلها فتعطي فرجع معه منهم ألفان من حروراء و قد كانوا تجمعوا بها فقال لهم علي ما نسميكم ثم قال أنتم الحرورية لاجتماعكم بحروراء و روى جميع أهل السير كافة أن عليا ع لما طحن القوم طلب ذا الثدية طلبا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 276شديدا و قلب القتلى ظهرا لبطن فلم يقدر عليه فساءه ذلك و جعل يقول و الله ما كذبت و لا كذبت اطلبوا الرجل و إنه لفي القوم فلم يزل يتطلبه حتى وجده و هو رجل مخدج اليد كأنها ثدي في صدره. و روى إبراهيم بن ديزيل في كتاب صفين عن الأعمعن زيد بن وهب قال لما شجرهم علي ع

(3/242)


بالرماح قال اطلبوا ذا الثدية فطلبوه طلبا شديدا حتى وجدوه في وهدة من الأرض تحت ناس من القتلى فأتي به و إذا رجل على ثديه مثل سبلات السنور فكبر علي ع و كبر الناس معه سرورا بذلك. و روى أيضا عن مسلم الضبي عن حبة العرني قال كان رجلا أسود منتن الريح له ثدي كثدي المرأة إذا مدت كانت بطول اليد الأخرى و إذا تركت اجتمعت و تقلصت و صارت كثدي المرأة عليها شعرات مثل شوارب الهرة فلما وجدوه قطعوا يده و نصبوها على رمح ثم جعل علي ع ينادي صدق الله و بلغ رسوله لم يزل يقول ذلك هو و أصحابه بعد العصر إلى أن غربت الشمس أو كادت. و روى ابن ديزيل أيضا قال لما عيل صبر علي ع في طلب المخدج قال ائتوني ببغلة رسول الله ص فركبها و اتبعه الناس فرأى القتلى و يقول اقلبوا فيقلبون قتيلا عن قتيل حتى استخرجوه فسجد علي ع. و روى كثير من الناس أنه لما دعا بالبغلة ليركبها قال ائتوني بها فإنها هادئة فوقفت به على المخدج فأخرجه من تحت قتلى كثيرين. و روى العوام بن حوشب عن أبيه عن جده يزيد بن رويم قال قال علي ع شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 277يقتل اليوم أربعة آلاف من الخوارج أحدهم ذو الثدية فلما طحن القوم و رام استخراج ذي الثديفأتبعه أمرني أن أقطع له أربعة آلاف قصبة و ركب بغلة رسول الله ص و قال اطرح على كل قتيل منهم قصبة فلم أزل كذلك و أنا بين يديه و هو راكب خلفي و الناس يتبعونه حتى بقيت في يدي واحدة فنظرت إليه و إذا وجهه أربد و إذا هو يقول و الله ما كذبت و لا كذبت فإذا خرير ماء عند موضع دالية فقال فتش هذا ففتشته فإذا قتيل قد صار في الماء و إذا رجله في يدي فجذبتها و قلت هذه رجل إنسان فنزل عن البغلة مسرعا فجذب الرجل الأخرى و جررناه حتى صار على التراب فإذا هو المخدج فكبر علي ع بأعلى صوته ثم سجد فكبر الناس كلهم.

(3/243)


و قد روى كثير من المحدثين أن النبي ص قال لأصحابه يوما إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فقال أبو بكر أنا يا رسول الله فقال لا فقال عمر أنا يا رسول الله فقال لا بل خاصف النعل و أشار إلى علي ع
و قال أبو العباس في الكامل يقال إن أول من لفظ بالحكومة و لم يشد بها رجل من بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر من بني صريم يقال له الحجاج بن عبد الله و يعرف بالبرك و هو الذي ضرب آخرا معاوية على أليته يقال إنه لما سمع بذكر الحكمين قال أ يحكم أمير المؤمنين الرجال في دين الله لا حكم إلا لله فسمعه سامع فقال طعن و الله فأنفذ. قال أبو العباس و أول من حكم بين الصفين رجل من بني يشكر بن بكر شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 278بن وائل كان من أصحاب علي ع فحمل على رجل منهم فقتله غيلة ثم مرق بين الصفين يحكم و حمل على أصحاب معاة فكثروه فرجع إلى ناحية علي ع فخرج إليه رجل من همدان فقتله فقال شاعر همدان
و ما كان أغنى اليشكري عن التي تصلى بها جمرا من النار حامياغداة ينادي و الرماح تنوشه خلعت عليا بادئا و معاويا
قال أبو العباس و قد روى المحدثون أن رجلا تلا بحضرة علي ع قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فقال علي ع أهل حروراء منهم
قال أبو العباس و من شعر أمير المؤمنين ع الذي لا اختلاف فيه أنه قاله و كان يردده أنهم لما ساموه أنه يقر بالكفر و يتوب حتى يسيروا معه إلى الشام فقال أ بعد صحبة رسول الله ص و التفقه في الدين أرجع كافرا ثم قال
يا شاهد الله علي فاشهد أني على دين النبي أحمدمن شك في الله فإني مهتد

(3/244)


و ذكر أبو العباس أيضا في الكامل أن عليا ع في أول خروج القوم عليه دعا صعصعة بن صوحان العبدي و قد كان وجهه إليهم و زياد بن النضر الحارثي مع عبد الله بن عباس فقال لصعصعة بأي القوم رأيتهم أشد إطافة قال بيزيد بن قيس الأرحبي فركب علي ع إلى حروراء فجعل يتخللهم حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس فصلى فيه ركعتين ثم خرج فاتكأ على قوسه و أقبل شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 279على الناس فقال هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة ثم كلمهم و ناشدهم فقالوا إنا أذنبنا ذنبا عظيما بالتحكيم و قد تبنا فتب إلى الله كما تبنا نعد لك فقال ع ع أنا أستغفر الله من كل ذنب فرجعوا معه و هم ستة آلاف فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن عليا ع رجع عن التحكيم و رآه ضلالا و قالوا إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع و تجبى الأموال ثم ينهض بنا إلى الشام فأتى الأشعث عليا ع فقال يا أمير المؤمنين إن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالا و الإقامة عليها كفرا فقام علي ع يخطب فقال من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب و من رآها ضلالا فقد ضل فخرجت حينئذ الخوارج من المسجد فحكمت. قلت كل فساد كان في خلافة علي ع و كل اضطراب حدث فأصله الأشعث و لو لا محاقته أمير المؤمنين ع في معنى الحكومة في هذه المرة لم تكن حرب النهروان و لكان أمير المؤمنين ع ينهض بهم إلى معاوية و يملك الشام فإنه ص حاول أن يسلك معهم مسلك التعريض و المواربة
و في المثل النبوي صلوات الله على قائله الحرب خدعة

(3/245)


و ذاك أنهم قالوا له تب إلى الله شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 280مما فعلت كما تبنا ننهض معك إلى حرب أهل الشام فقال لهم كلمة مجملة مرسلة يقولها الأنبياء و المعصومون و هي قوله أستغفر الله من كل ذنب فرضوا بها و عدوها إجابة لهم إلى سؤلهم وصفت له ع نياتهم و استخلبها ضمائرهم من غير أن تتضمن تلك الكلمة اعترافا بكفر أو ذنب فلم يتركه الأشعث و جاء إليه مستفسرا و كاشفا عن الحال و هاتكا ستر التورية و الكناية و مخرجا لها من ظلمة الإجمال و ستر الحيلة إلى تفسيرها بما يفسد التدبير و يوغر الصدور و يعيد الفتنة و لم يستفسره ع عنها إلا بحضور من لا يمكنه أن يجعلها معه هدنة على دخن و لا ترقيقا عن صبوح و ألجأه بتضييق الخناق عليه إلى أن يكشف ما في نفسه و لا يترك الكلمة على احتمالها و لا يطويها على غرها فخطب بما صدع به عن صورة ما عنده مجاهرة فانتقض ما دبره و عادت الخوارج إلى شبهتها الأولى و راجعوا التحكيم و المروق و هكذا الدول التي تظهر فيها أمارات الانقضاء و الزوال يتاح لها أمثال الأشعث من أولي الفساد في الأرض سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا قال أبو العباس ثم مضى القوم إلى النهروان و قد كانوا أرادوا المضي إلى المدائن فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا في طريقهم مسلما و نصرانيا فقتلوا المسلم لأنه عندهم كافر إذ كان على خلاف معتقدهم و استوصوا بالنصراني و قالوا احفظوا ذمة نبيكم شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 281قال أبو العباس و نحو ذلك أواصل بن عطاء رحمه الله تعالى أقبل في رفقة فأحسوا بالخوارج فقال واصل لأهل الرفقة إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا و دعوني و إياهم و كانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا شأنك فخرج إليهم فقالوا ما أنت و أصحابك فقال قوم مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله و يفهموا حدوده قالوا قد أجرناكم قال فعلمونا فجعلوا يعلمونهم أحكامهم و يقول

(3/246)


واصل قد قبلت أنا و من معي قالوا فامضوا مصاحبين فقد صرتم إخواننا فقال بل تبلغوننا مأمننا لأن الله تعالى يقول وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ قال فينظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا ذاك لكم فساروا معهم بجمعهم حتى أبلغوهم المأمن. قال أبو العباس و لقيهم عبد الله بن خباب في عنقه مصحف على حمار و معه امرأته و هي حامل فقالوا له إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك فقال لهم ما أحياه القرآن فأحيوه و ما أماته فأميتوه فوثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه فصاحوا به فلفظها تورعا و عرض لرجل منهم خنزير فضربه فقتله فقالوا هذا فساد في الأرض و أنكروا قتل الخنزير ثم قالوا لابن خباب حدثنا عن أبيك

(3/247)


فقال إني سمعت أبي يقول سمعت رسول الله ص يقول ستكون بعدي فتنة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 282يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه يمسي مؤمنا و يصبح كافرا فكن عبد الله المقتول و لا تكن القاتلقالوا فما تقول في أبي بكر و عمر فأثنى خيرا قالوا فما تقول في علي قبل التحكيم و في عثمان في السنين الست الأخيرة فأثنى خيرا قالوا فما تقول في علي بعد التحكيم و الحكومة قال إن عليا أعلم بالله و أشد توقيا على دينه و أنفذ بصيرة فقالوا إنك لست تتبع الهدى إنما تتبع الرجال على أسمائهم ثم قربوه إلى شاطئ النهر فأضجعوه فذبحوه. قال أبو العباس و ساوموا رجلا نصرانيا بنخلة له فقال هي لكم فقالوا ما كنا لنأخذها إلا بثمن فقال وا عجباه أ تقتلون مثل عبد الله بن خباب و لا تقبلون جنا نخلة إلا بثمن. و روى أبو عبيدة معمر بن المثنى قال طعن واحد من الخوارج يوم النهروان فمشى في الرمح و هو شاهر سيفه إلى أن وصل إلى طاعنه فضربه فقتله و هو يقرأ وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى. و روى أبو عبيدة أيضا قال استنطقهم علي ع بقتل عبد الله بن خباب فأقروا به فقال انفردوا كتائب لأسمع قولكم كتيبة كتيبة فتكتبوا كتائب و أقرت كل كتيبة بمثل ما أقرت به الأخرى من قتل ابن خباب و قالوا و لنقتلنك كما قتلناه فقال علي و الله لو أقر أهل الدنيا كلهم بقتله هكذا و أنا أقدر على قتلهم به لقتلتهم ثم التفت إلى أصحابه فقال لهم شدوا عليهم فأنا أول من يشد عليهم و حمل شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 283بذي الفقار حملة منكرة ثلاث مرات كل حملة يضرب به حتى يعوج متنه ثم يخرج فيسويه بركبتيه ثم يحمل به حتى أفناهم. و روى محمد بن حبيب قال خطب علي ع الخوارج يوم النهر فقال لهم نحن أهل بيت النبوة و موضع الرسالة و مختلف الملائكة و عنصر الرحمة و معدن العلم و الحكمة نحن أفق الحجاز بنا يلحق البطي ء و إلينا يرجع التائب أيها القوم إني نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأهضام هذا الواد

(3/248)


إلى آخر الفصل شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 2837- و من كلام له ع يجري مجرى الخطبة
فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا وَ تَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا وَ نَطَقْتُ حِينَ تَعْتَعُوا وَ مَضَيْتُ بِنُورِ اللَّهِ حِينَ وَقَفُوا وَ كُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً وَ أَعْلَاهُمْ فَوْتاً فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا وَ اسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا كَالْجَبَلِ لَا تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ وَ لَا تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيَّ مَهْمَزٌ وَ لَا لِقَائِلٍ فِيَّ مَغْمَزٌ الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ وَ الْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ رَضِينَا عَنِ اللَّهِ قَضَاءَهُ وَ سَلَّمْنَاهُ لِلَّهِ أَمْرَهُ أَ تَرَانِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص وَ اللَّهِ لَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ فَلَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَنَظَرْتُ فِي أَمْرِي فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَتِي وَ إِذَا الْمِيثَاقُ فِي عُنُقِي لِغَيْرِي

(3/249)


هذه فصول أربعة لا يمتزج بعضها ببعض و كل كلام منها ينحو به أمير المؤمنين ع نحوا غير ما ينحوه بالآخر و إنما الرضي رحمه الله تعالى التقطها من كلام لأمير المؤمنين ع طويل منتشر قاله بعد وقعة النهروان ذكر فيه حاله منذ توفي رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 2 ص :85و إلى آخر وقت فجعل الرضي رحمه الله تعالى ما التقطه منه سردا و صار عند السامع كأنه يقصد به مقصدا واحدا. فالفصل الأول و هو من أول الكلام إلى قوله و استبددت برهانها يذكر فيه مقاماته في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أيام أحداث عثمان و كون المهاجرين كلهم لم ينكروا و لم يواجهوا عثمان بما كان يواجهه به و ينهاه عنه فهذا هو معنى قوله فقمت بالأمر حين فشلوا أي قمت بإنكار المنكر حين فشل أصحاب محمد ص عنه و الفشل الخور و الجبن. قال و نطقت حين تعتعوا يقال تعتع فلان إذا تردد في كلامه من عي أو حصر قوله و تطلعت حين تقبعوا امرأة طلعة قبعة تطلع ثم تقبع رأسها أي تدخله كما يقبع القنفذ يدخل برأسه في جلده و قد تقبع الرجل أي اختبأ و ضده تطلع. قوله و كنت أخفضهم صوتا و أعلاهم فوتا يقول علوتهم و فتهم و شأوتهم سبقا و أنا مع ذلك خافض الصوت يشير إلى التواضع و نفي التكبر. و قوله فطرت بعنانها و استبددت برهانها يقول سبقتهم و هذا الكلام استعارة من مسابقة خيل الحلبة و استبددت بالرهان أي انفردت بالخطر الذي وقع التراهن عليه. الفصل الثاني فيه ذكر حاله ع في الخلافة بعد عثمان يقول كنت لما وليت الأمر كالجبل لا تحركه القواصف يعني الرياح الشديدة و مثله العواصف. و المهمز موضع الهمز و هو العيب و كذاك المغمز. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 286ثم قال الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له و القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه هذا آخر الفصل الثاني يقول الذليل المظلوم أقوم بإعزازه و نصره و أقوي يده إلى أن آخذ الحق لثم يعود بعد ذلك إلى الحالة التي كان عليها قبل أن أقوم بإعزازه و

(3/250)


نصره و القوي الظالم أستضعفه و أقهره و أذله إلى أن آخذ الحق منه ثم يعود إلى الحالة التي كان عليها قبل أن أهتضمه لاستيفاء الحق. الفصل الثالث من قوله رضينا عن الله قضاءه إلى قوله فلا أكون أول من كذب عليه هذا كلام قاله ع لما تفرس في قوم من عسكره أنهم يتهمونه فيما يخبرهم به عن النبي ص من أخبار الملاحم و الغائبات و قد كان شك منهم جماعة في أقواله و منهم من واجهه بالشك و التهمة
الأخبار الواردة عن معرفة الإمام علي بالأمور الغيبية
روى ابن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن زكريا بن يحيى العطار عن فضيل عن محمد بن علي قال لما قال علي ع سلوني قبل أن تفقدوني فو الله لا تسألونني عن فئة تضل مائة و تهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقتها و سائقتها قام إليه رجل فقال أخبرني بما في رأسي و لحيتي من طاقة شعر فقال له علي ع و الله لقد حدثني خليلي أن على كل طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك و أن على كل طاقة شعر من لحيتك شيطانا يغويك و أن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله ص و كان ابنه قاتل الحسين ع يومئذ طفلا يحبو و هو سنان بن أنس النخعي
و روى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالي عن سويد بن غفلة أن عليا ع خطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال يا أمير المؤمنين إني مررت بوادي شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 287القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له فقال ع و الله ما مات و لا يموت حتى يقود جيش ضلة صاحب لوائه حبيب بن حمار فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن حمار و إني لك شيعة و محب فقال أنت حبيب بن حمار قال نعم فقال له ثانية و الله إنك لحبيب بن حمار فقال إي و الله قال أما و الله إنك لحاملها و لتحملنها و لتدخلن بها من هذا الباب و أشار إلى باب الفيل بمسجد الكوفة

(3/251)


قال ثابت فو الله ما مت حتى رأيت ابن زياد و قد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن علي ع و جعل خالد بن عرفطة على مقدمته و حبيب بن حمار صاحب رايته فدخل بها من باب الفيل.
و روى محمد بن إسماعيل بن عمرو البجلي قال أخبرنا عمرو بن موسى الوجيهي عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث قال قال علي ع على المنبر ما أحد جرت عليه المواسي إلا و قد أنزل الله فيه قرآنا فقام إليه رجل من مبغضيه فقال له فما أنزل الله تعالى فيك فقام الناس إليه يضربونه فقال دعوه أ تقرأ سورة هود قال نعم قال فقرأ ع أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ثم قال الذي كان على بينة من ربه محمد ص و الشاهد الذي يتلوه أنا
و روى عثمان بن سعيد عن عبد الله بن بكير عن حكيم بن جبير قال خطب علي ع فقال في أثناء خطبته أنا عبد الله و أخو رسوله لا يقولها أحد قبلي و لا بعدي إلا كذب ورثت نبي الرحمة و نكحت سيدة نساء هذه الأمة و أنا خاتم الوصيين

(3/252)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 288فقال رجل من عبس و من لا يحسن أن يقول مثل هذا فلم يرجع إلى أهله حتى جن و صرع فسألوهم هل رأيتم به عرضا قبل هذا قالوا ما رأينا به قبل هذا عرضا. و روى محمد بن جبلة الخياط عن عكرمة عن يزيد الأحمسي أن عليا ع كان جالسا في مسجد الكوفة و بين يديه قوم منهم عمرو بن حريث إذ أقبلت امرأة مختمرة لا تعرف فوقفت فقالت لعلي ع يا من قتل الرجال و سفك الدماء و أيتم الصبيان و أرمل النساء فقال ع و إنها لهي هذه السلقلقة الجلعة المجعة و إنها لهي هذه شبيهة الرجال و النساء التي ما رأت دما قط قال فولت هاربة منكسة رأسها فتبعها عمرو بن حريث فلما صارت بالرحبة قال لها و الله لقد سررت بما كان منك اليوم إلى هذا الرجل فادخلي منزلي حتى أهب لك و أكسوك فلما دخلت منزله أمر جواريه بتفتيشها و كشفها و نزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها فبكت و سألته ألا يكشفها و قالت أنا و الله كما قال لي ركب النساء و أنثيان كأنثي الرجال و ما رأيت دما قط فتركها و أخرجها ثم جاء إلى علي ع فأخبره فقال إن خليلي رسول الله ص أخبرني بالمتمردين علي من الرجال و المتمردات من النساء إلى أن تقوم الساعة
قلت السلقلقة السليطة و أصله من السلق و هو الذئب و السلقة الذئبة و الجلعة المجعة البذيئة اللسان و الركب منبت العانة.

(3/253)


و روى عثمان بن سعيد عن شريك بن عبد الله قال لما بلغ عليا ع أن الناس يتهمونه فيما يذكره من تقديم النبي ص و تفضيله إياه على الناس قال أنشد الله من بقي ممن لقي رسول الله ص و سمع مقاله في يوم غدير خم إلا قام شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 289فشهد بما سمع فقام ستممن عن يمينه من أصحاب رسول الله ص و ستة ممن على شماله من الصحابة أيضا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله ص يقول ذلك اليوم و هو رافع بيدي علي ع من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله و أحب من أحبه و أبغض من أبغضه
و روى عثمان بن سعيد عن يحيى التيمي عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء قال قام أعشى همدان و هو غلام يومئذ حدث إلى علي ع و هو يخطب و يذكر الملاحم فقال يا أمير المؤمنين ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة فقال علي ع إن كنت آثما فيما قلت يا غلام فرماك الله بغلام ثقيف ثم سكت فقام رجال فقالوا و من غلام ثقيف يا أمير المؤمنين قال غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك لله حرمة إلا انتهكها يضرب عنق هذا الغلام بسيفه فقالوا كم يملك يا أمير المؤمنين قال عشرين إن بلغها قالوا فيقتل قتلا أم يموت موتا قال بل يموت حتف أنفه بداء البطن يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه
قال إسماعيل بن رجاء فو الله لقد رأيت بعيني أعشى باهلة و قد أحضر في جملة الأسرى الذين أسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجاج فقرعه و وبخه و استنشده شعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس.

(3/254)


و روى محمد بن علي الصواف عن الحسين بن سفيان عن أبيه عن شمير بن سدير الأزدي قال قال علي ع لعمرو بن الحمق الخزاعي أين نزلت يا عمرو قال شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 290في قومي قال لا تنزلن فيهم قال فأنزل في بني كنانة جيراننا قال لا قال فأنزل في ثقيف قال فما تع بالمعرة و المجرة قال و ما هما قال عنقان من نار يخرجان من ظهر الكوفة يأتي أحدهما على تميم و بكر بن وائل فقلما يفلت منه أحد و يأتي العنق الآخر فيأخذ على الجانب الآخر من الكوفة فقل من يصيب منهم إنما يدخل الدار فيحرق البيت و البيتين قال فأين أنزل قال انزل في بني عمرو بن عامر من الأزد قال فقال قوم حضروا هذا الكلام ما نراه إلا كاهنا يتحدث بحديث الكهنة فقال يا عمرو إنك المقتول بعدي و إن رأسك لمنقول و هو أول رأس ينقل في الإسلام و الويل لقاتلك أما إنك لا تنزل بقوم إلا أسلموك برمتك إلا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الأزد فإنهم لن يسلموك و لن يخذلوك
قال فو الله ما مضت إلا أيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب خائفا مذعورا حتى نزل في قومه من بني خزاعة فأسلموه فقتل و حمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام و هو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد.
و روى إبراهيم بن ميمون الأزدي عن حبة العرني قال كان جويرية بن مسهر العبدي صالحا و كان لعلي بن أبي طالب صديقا و كان علي يحبه و نظر يوما إليه و هو يسير فناداه يا جويرية الحق بي فإني إذا رأيتك هويتك

(3/255)


قال إسماعيل بن أبان فحدثني الصباح عن مسلم عن حبة العرني قال سرنا مع علي ع يوما فالتفت فإذا جويرية خلفه بعيدا فناداه يا جويرية الحق بي لا أبا لك أ لا تعلم أني أهواك و أحبك قال فركض نحوه فقال له إني محدثك بأمور فاحفظها ثم اشتركا في الحديث سرا فقال له جويرية يا أمير المؤمنين إني رجل نسي فقال له إني أعيد عليك شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 291الحديث لتحفظه ثم قال له في آخر ما حدثه إياه يا جويرية أحبب حبيبنا ما أحبنا فإذا أبغضنا فأبغضه و أبغض بغيضنا ما أبغضنا فإذا أحبنا فأحبه قال فكان ناس ممن يشك في أمر علي ع يقول أ تراه جعل جويرية وصيه كما يدعي هو من وصية رسول الله ص قال يقولون ذلك لشدة اختصاصه له حتى دخل على علي ع يوما و هو مضطجع و عنده قوم من أصحابه فناداه جويرية أيها النائم استيقظ فلتضربن علي رأسك ضربة تخضب منها لحيتك قال فتبسم أمير المؤمنين ع قال و أحدثك يا جويرية بأمرك أما و الذي نفسي بيده لتعتلن إلى العتل الزنيم فليقطعن يدك و رجلك و ليصلبنك تحت جذع كافر
قال فو الله ما مضت إلا أيام على ذلك حتى أخذ زياد جويرية فقطع يده و رجله و صلبه إلى جانب جذع ابن مكعبر و كان جذعا طويلا فصلبه على جذع قصير إلى جانبه

(3/256)


و روى إبراهيم في كتاب الغارات عن أحمد بن الحسن الميثمي قال كان ميثم التمار مولى علي بن أبي طالب ع عبدا لامرأة من بني أسد فاشتراه علي ع منها و أعتقه و قال له ما اسمك فقال سالم فقال إن رسول الله ص أخبرني أن اسمك الذي سماك به أبوك في العجم ميثم فقال صدق الله و رسوله و صدقت يا أمير المؤمنين فهو و الله اسمي قال فارجع إلى اسمك و دع سالما فنحن نكنيك به فكناه أبا سالم قال و قد كان قد أطلعه علي ع على علم كثير و أسرار خفية من أسرار الوصية فكان ميثم يحدث ببعض ذلك فيشك فيه قوم من أهل الكوفة و ينسبون عليا ع في ذلك إلى المخرقة و الإيهام و التدليس حتى قال له يوما بمحضر من خلق كثير من أصحابه و فيهم الشاك و المخلص يا ميثم شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 292إنك تؤخذ بعدي و تصلب فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك و فمك دما حتى تخضب لحيتك فإذا كان اليوم الثالث طعنت بحربة يقضى عليكانتظر ذلك و الموضع الذي تصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث إنك لعاشر عشرة أنت أقصرهم خشبة و أقربهم من المطهرة يعني الأرض و لأرينك النخلة التي تصلب على جذعها

(3/257)


ثم أراه إياها بعد ذلك بيومين و كان ميثم يأتيها فيصلي عندها و يقول بوركت من نخلة لك خلقت و لي نبت فلم يزل يتعاهدها بعد قتل علي ع حتى قطعت فكان يرصد جذعها و يتعاهده و يتردد إليه و يبصره و كان يلقى عمرو بن حريث فيقول له إني مجاورك فأحسن جواري فلا يعلم عمرو ما يريد فيقول له أ تريد أن تشتري دار ابن مسعود أم دار ابن حكيم. قال و حج في السنة التي قتل فيها فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فقالت له من أنت قال عراقي فاستنسبته فذكر لها أنه مولى علي بن أبي طالب فقالت أنت هيثم قال بل أنا ميثم فقالت سبحان الله و الله لربما سمعت رسول الله ص يوصي بك عليا في جوف الليل فسألها عن الحسين بن علي فقالت هو في حائط له قال أخبريه أني قد أحببت السلام عليه و نحن ملتقون عند رب العالمين إن شاء الله و لا أقدر اليوم على لقائه و أريد الرجوع فدعت بطيب فطيبت لحيته فقال لها أما إنها ستخضب بدم فقالت من أنبأك هذا قال أنبأني سيدي فبكت أم سلمة و قالت له إنه ليس بسيدك وحدك هو سيدي و سيد المسلمين ثم ودعته. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 293فقدم الكوفة فأخذ و أدخل على عبيد الله بن زياد و قيل له هذا كان من آثر الناس عند أبي تراب قال ويحكم هذا الأعجمي قالوا م فقال له عبيد الله أين ربك قال بالمرصاد قال قد بلغني اختصاص أبي تراب لك قال قد كان بعض ذلك فما تريد قال و إنه ليقال إنه قد أخبرك بما سيلقاك قال نعم إنه أخبرني قال ما الذي أخبرك أني صانع بك قال أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة و أنا أقصرهم خشبة و أقربهم من المطهرة قال لأخالفنه قال ويحك كيف تخالفه إنما أخبر عن رسول الله ص و أخبر رسول الله عن جبرائيل و أخبر جبرائيل عن الله فكيف تخالف هؤلاء أما و الله لقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه أين هو من الكوفة و إني لأول خلق الله ألجم في الإسلام بلجام كما يلجم الخيل فحبسه و حبس معه المختار بن أبي عبيدة الثقفي فقال ميثم للمختار و هما في حبس

(3/258)


ابن زياد إنك تفلت و تخرج ثائرا بدم الحسين ع فتقتل هذا الجبار الذي نحن في سجنه و تطأ بقدمك هذه على جبهته و خديه فلما دعا عبيد الله بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد يأمره بتخلية سبيله و ذاك أن أخته كانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد فشفع فأمضى شفاعته و كتب بتخلية سبيل المختار على البريد فوافى البريد و قد أخرج ليضرب عنقه فأطلق و أما ميثم فأخرج بعده ليصلب و قال عبيد الله لأمضين حكم أبي تراب فيه فلقيه رجل فقال له ما كان أغناك عن هذا يا ميثم فتبسم و قال لها خلقت و لي غذيت فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث فقال عمرو لقد كان يقول لي إني مجاورك فكان يأمر جاريته كل عشية أن تكنس تحت خشبته و ترشه و تجمر بالمجمر تحته فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم و مخازي

(3/259)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 294بني أمية و هو مصلوب على الخشبة فقيل لابن زياد قد فضحكم هذا العبد فقال ألجموه فألجم فكان أول خلق الله ألجم في الإسلام فلما كان في اليوم الثاني فاضت منخراه و فمه دما فلما كان في اليوم الثالث طعن بحربة فمات. و كان قتل ميثم قبل وم الحسين ع العراق بعشرة أيام. قال إبراهيم و حدثني إبراهيم بن العباس النهدي حدثني مبارك البجلي عن أبي بكر بن عياش قال حدثني المجالد عن الشعبي عن زياد بن النضر الحارثي قال كنت عند زياد و قد أتي برشيد الهجري و كان من خواص أصحاب علي ع فقال له زياد ما قال خليلك لك إنا فاعلون بك قال تقطعون يدي و رجلي و تصلبونني فقال زياد أما و الله لأكذبن حديثه خلوا سبيله فلما أراد أن يخرج قال ردوه لا نجد شيئا أصلح مما قال لك صاحبك إنك لا تزال تبغي لنا سوءا إن بقيت اقطعوا يديه و رجليه فقطعوا يديه و رجليه و هو يتكلم فقال أصلبوه خنقا في عنقه فقال رشيد قد بقي لي عندكم شي ء ما أراكم فعلتموه فقال زياد اقطعوا لسانه فلما أخرجوا لسانه ليقطع قال نفسوا عني أتكلم كلمة واحدة فنفسوا عنه فقال هذا و الله تصديق خبر أمير المؤمنين أخبرني بقطع لساني فقطعوا لسانه و صلبوه. و روى أبو داود الطيالسي عنسليمان بن رزيق عن عبد العزيز بن صهيب قال حدثني أبو العالية قال حدثني مزرع صاحب علي بن أبي طالب ع أنه قال ليقبلن جيش حتى إذا كان بالبيداء خسف بهم قال أبو العالية فقلت له إنك لتحدثني بالغيب فقال احفظ ما أقوله لك فإنما حدثني به الثقة علي بن أبي طالب و حدثني أيضا شيئا آخر ليؤخذن رجل فليقتلن و ليصلبن بين شرفتين من شرف المسجد فقلت له إنك لتحدثني بالغيب فقال احفظ ما أقول لك قال أبو العالية فو الله ما أتت شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 295علينا جمعة حتى أخذ مزرع فقتل و صلب بين شرفتين من شرف المسجد. قلت حديث الخسف بالج قد خرجه البخاري و مسلم في الصحيحين

(3/260)


عن أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله ص يقول يعوذ قوم بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم فقلت يا رسول الله لعل فيهم المكره أو الكاره فقال يخسف بهم و لكن يحشرون أو قال يبعثون على نياتهم يوم القيامة قال فسئل أبو جعفر محمد بن علي أ هي بيداء من الأرض فقال كلا و الله إنها بيداء المدينة
أخرج البخاري بعضه و أخرج مسلم الباقي. و روى محمد بن موسى العنزي قال كان مالك بن ضمرة الرؤاسي من أصحاب علي ع و ممن استبطن من جهته علما كثيرا و كان أيضا قد صحب أبا ذر فأخذ من علمه و كان يقول في أيام بني أمية اللهم لا تجعلني أشقى الثلاثة فيقال له و ما الثلاثة فيقول رجل يرمى من فوق طمار و رجل تقطع يداه و رجلاه و لسانه و يصلب و رجل يموت على فراشه فكان من الناس من يهزأ به و يقول هذا من أكاذيب أبي تراب. قال و كان الذي رمي به من طمار هانئ بن عروة و الذي قطع و صلب رشيد الهجري و مات مالك على فراشه

(3/261)


الفصل الرابع و هو من قوله فنظرت في أمري إلى آخر الكلام هذه كلمات شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 296مقطوعة من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة رسول الله ص و أنه كان معهودا إليه ألا ينازع في الأمر و لا يثير فتنة بل يطلبه بالرفق فإن حصل له و إلا أمسك. هكذا كان يقول ع قوله الحق و تأويل هذه الكلمات فنظرت فإذا طاعتي لرسول الله ص أي وجوب طاعتي فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه قد سبقت بيعتي للقوم أي وجوب طاعة رسول الله ص علي و وجوب امتثالي أمره سابق على بيعتي للقوم فلا سبيل لي إلى الامتناع من البيعة لأنه ص أمرني بها. و إذا الميثاق في عنقي لغيري أي رسول الله ص أخذ علي الميثاق بترك الشقاق و المنازعة فلم يحل لي أن أتعدى أمره أو أخالف نهيه. فإن قيل فهذا تصريح بمذهب الإمامية قيل ليس الأمر كذلك بل هذا تصريح بمذهب أصحابنا من البغداديين لأنهم يزعمون أنه الأفضل و الأحق بالإمامة و أنه لو لا ما يعلمه الله و رسوله من أن الأصلح للمكلفين من تقديم المفضول عليه لكان من تقدم عليه هالكا فرسول الله ص أخبره أن الإمامة حقه و أنه أولى بها من الناس أجمعين و أعلمه أن في تقديم غيره و صبره على التأخر عنها مصلحة للدين راجعة إلى المكلفين و أنه يجب عليه أن يمسك عن طلبها و يغضي عنها لمن هو دون مرتبته فامتثل ما أمره به رسول الله ص و لم يخرجه تقدم من تقدم عليه من كونه الأفضل و الأولى و الأحق و قد صرح شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى بهذا و صرح به تلامذته و قالوا لو نازع عقيب وفاة رسول الله ص و سل سيفه لحكمنا بهلاك كل شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 297من خالفه و تقدم عليه كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه و لكنه مالك الأمر و صاحب الخلافة إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها و إذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها و حكمهي ذلك حكم رسول الله ص لأنه قد ثبت عنه

(3/262)


في الأخبار الصحيحة أنه قال علي مع الحق و الحق مع علي يدور حيثما دار
و قال له غير مرة حربك حربي و سلمك سلمي
و هذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي و به أقول
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 38298- و من خطبة له عوَ إِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ وَ دَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى وَ أَمَّا أَعْدَاءُ اللَّهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا الضَّلَالُ وَ دَلِيلُهُمُ الْعَمَى فَمَا يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ مَنْ خَافَهُ وَ لَا يُعْطَى الْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّهُ

(3/263)


هذان فصلان أحدهما غير ملتئم مع الآخر بل مبتور عنه و إنما الرضي رحمه الله تعالى كان يلتقط الكلام التقاطا و مراده أن يأتي بفصيح كلامه ع و ما يجري مجرى الخطابة و الكتابة فلهذا يقع في الفصل الواحد الكلام الذي لا يناسب بعضه بعضا و قد قال الرضي ذلك في خطبة الكتاب. أما الفصل الأول فهو الكلام في الشبهة و لما ذا سميت شبهة قال ع لأنها تشبه الحق و هذا هو محض ما يقوله المتكلمون و لهذا يسمون ما يحتج به أهل الحق دليلا و يسمون ما يحتج به أهل الباطل شبهة. قال فأما أولياء الله فضياؤهم في حل الشبهة اليقين و دليلهم سمت الهدى و هذا حق لأن من اعتبر مقدمات الشبهة و راعى الأمور اليقينية و طلب المقدمات المعلومة قطعا انحلت الشبهة و ظهر له فسادها من أين هو ثم قال و أما أعداء الله فدعاؤهم شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 299الضلال و دليلهم العمى و هذا حق لأن المبطل ينظر في الشبهة لا نظر مناعى الأمور اليقينية و يحلل المقدمات إلى القضايا المعلومة بل يغلب عليه حب المذهب و عصبية أسلافه و إيثار نصره من قد ألزم بنصرته فذاك هو العمى و الضلال اللذان أشار أمير المؤمنين إليهما فلا تنحل الشبهة له و تزداد عقيدته فسادا و قد ذكرنا في كتبنا الكلامية الكلام في توليد النظر للعلم و أنه لا يولد الجهل. الفصل الثاني قوله فما ينجو من الموت من خافه و لا يعطى البقاء من أحبه هذا كلام أجنبي عما تقدم و هو مأخوذ من قوله تعالى قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ و قوله أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ و قوله فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ

(3/264)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 39300- و من خطبة له عمُنِيتُ بِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَ لَا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ لَا أَبَا لَكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَ لَا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وَ أُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً فَلَا تَسْمَعُونَ لِي قَوْلًا وَ لَا تُطِيعُونَ لِي أَمْراً حَتَّى تَكْشِفَ الْأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَسَاءَةِ فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَأْرٌ وَ لَا يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الْأَسَرِّ وَ تَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ النِّضْوِ الْأَدْبَرِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ
قال الرضي رحمه الله قوله ع متذائب أي مضطرب من قولهم تذاءبت الريح أي اضطرب هبوبها و منه سمي الذئب ذئبا لاضطراب مشيته
منيت أي بليت و تحمشكم تغضبكم أحمشه أي أغضبه و المستصرخ المستنصر و المتغوث القائل وا غوثاه. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 301و الجرجرة صوت يردده البعير في حنجرته و أكثر ما يكون ذلك عند الإعياء و التعب و الجمل الأسر الذي بكركرته دبرة و النضو البعير المهزول و ادبر الذي به دبر و هو المعقور من القتب و غيره. هذا الكلام خطب به أمير المؤمنين ع في غارة النعمان بن بشير الأنصاري على عين التمر
أمر النعمان بن بشير مع علي و مالك بن كعب الأرحبي

(3/265)


ذكر صاحب الغارات أن النعمان بن بشير قدم هو و أبو هريرة على علي ع من عند معاوية بعد أبي مسلم الخولاني يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقيدهم بعثمان لعل الحرب أن تطفأ و يصطلح الناس و إنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان و أبي هريرة من عند علي ع إلى الناس و هم لمعاوية عاذرون و لعلي لائمون و قد علم معاوية أن عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشام بذلك و أن يظهر عذره فقال لهما ائتيا عليا فانشداه الله و سلاه بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان فإنه قد آواهم و منعهم ثم لا حرب بيننا و بينه فإن أبى فكونوا شهداء الله عليه. و أقبلا على الناس فأعلماهم ذلك فأتيا إلى علي ع فدخلا عليه فقال له أبو هريرة يا أبا حسن إن الله قد جعل لك في الإسلام فضلا و شرفا أنت ابن عم محمد رسول الله ص و قد بعثنا إليك ابن عمك معاوية يسألك أمرا تسكن به هذه شرحنهج البلاغة ج : 2 ص : 302الحرب و يصلح الله تعالى ذات البين أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه فيقتلهم به و يجمع الله تعالى أمرك و أمره و يصلح بينكم و تسلم هذه الأمة من الفتنة و الفرقة ثم تكلم النعمان بنحو من ذلك. فقال لهما دعا الكلام في هذا حدثني عنك يا نعما أنت أهدى قومك سبيلا يعني الأنصار قال لا قال فكل قومك قد اتبعني إلا شذاذا منهم ثلاثة أو أربعة أ فتكون أنت من الشذاذ فقال النعمان أصلحك الله إنما جئت لأكون معك و ألزمك و قد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام و رجوت أن يكون لي موقف اجتمع فيه معك و طمعت أن يجري الله تعالى بينكما صلحا فإذا كان غير ذلك رأيك فأنا ملازمك و كائن معك. فأما أبو هريرة فلحق بالشام و أقام النعمان عند علي ع فأخبر أبو هريرة معاوية بالخبر فأمره أن يعلم الناس ففعل و أقام النعمان بعده شهرا ثم خرج فارا من علي ع حتى إذا مر بعين التمر أخذه مالك بن كعب الأرحبي و كان عامل علي ع عليها فأراد حبسه و قال له ما مر

(3/266)


بك بيننا قال إنما أنا رسول بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت فحبسه و قال كما أنت حتى أكتب إلى علي فيك فناشده و عظم عليه أن يكتب إلى علي فيه فأرسل النعمان إلى قرظة بن كعب الأنصاري و هو كاتب عين التمر يجبي خراجها لعلي ع فجاءه مسرعا فقال لمالك بن كعب خل سبيل ابن عمي يرحمك الله فقال يا قرظة اتق الله و لا تتكلم في هذا فإنه لو كان من عباد الأنصار و نساكهم لم يهرب من أمير المؤمنين إلى أمير المنافقين. فلم يزل به يقسم عليه حتى خلى سبيله و قال له يا هذا لك الأمان اليوم و الليلة
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 303و غدا و الله إن أدركتك بعدها لأضربن عنقك فخرج مسرعا لا يلوي على شي ء و ذهبت به راحلته فلم يدر أين يتسكع من الأرض ثلاثة أيام لا يعلم أين هو فكان النعمان يحدث بعد ذلك يقول و الله ما علمت أين أنا حتى سمعت قول قائلة تقول و هي ت

(3/267)


شربت مع الجوزاء كأسا روية و أخرى مع الشعرى إذا ما استقلت معتقة كانت قريش تصونها فلما استحلوا قتل عثمان حلتفعلمت أني عند حي من أصحاب معاوية و إذا الماء لبني القين فعلمت أني قد انتهيت إلى الماء. ثم قدم على معاوية فخبره بما لقي و لم يزل معه مصاحبا لم يجاهد عليا و يتتبع قتلة عثمان حتى غزا الضحاك بن قيس أرض العراق ثم انصرف إلى معاوية و قد كان معاوية قال قبل ذلك بشهرين أو ثلاثة أ ما من رجل أبعث به بجريدة خيل حتى يغير على شاطئ الفرات فإن الله يرعب بها أهل العراق فقال له النعمان فابعثني فإن لي في قتالهم نية و هوى و كان النعمان عثمانيا قال فانتدب على اسم الله فانتدب و ندب معه ألفي رجل و أوصاه أن يتجنب المدن و الجماعات و ألا يغير إلا على مصلحة و أن يعجل الرجوع. فأقبل النعمان بن بشير حتى دنا من عين التمر و بها مالك بن كعب الأرحبي الذي جرى له معه ما جرى و مع مالك ألف رجل و قد أذن لهم فرجعوا إلى الكوفة فلم يبق معه إلا مائة أو نحوها فكتب مالك إلى علي ع أما بعد فإن النعمان بن بشير قد نزل بي في جمع كثيف فرأيك سددك الله تعالى و ثبتك و السلام.

(3/268)


فوصل الكتاب إلى علي ع فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 304اخرجوا هداكم الله إلى مالك بن كعب أخيكم فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ليس بالكثير فانهضوا إلى إخوانكم لعل الله يقطع بكم من الكافرين طرفاثم نزل. فلم يخرجوا فأرسل إلى وجوههم و كبرائهم فأمرهم أن ينهضوا و يحثوا الناس على المسير فلم يصنعوا شيئا و اجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثمائة فارس أو دونها فقام ع فقال ألا إني منيت بمن لا يطيع الفصل الذي شرحناه إلى آخره ثم نزل. فدخل منزله فقام عدي بن حاتم فقال هذا و الله الخذلان على هذا بايعنا أمير المؤمنين ثم دخل إليه فقال يا أمير المؤمنين إن معي من طيئ ألف رجل لا يعصونني فإن شئت أن أسير بهم سرت قال ما كنت لأعرض قبيلة واحدة من قبائل العرب للناس و لكن اخرج إلى النخيلة فعسكر بهم و فرض علي ع لكل رجل سبعمائة فاجتمع إليه ألف فارس عدا طيئا أصحاب عدي بن حاتم. و ورد على علي ع الخبر بهزيمة النعمان بن بشير و نصرة مالك بن كعب فقرأ الكتاب على أهل الكوفة و حمد الله و أثنى عليه ثم نظر إليهم و قال هذا بحمد الله و ذم أكثركم. فأما خبر مالك بن كعب مع النعمان بن بشير قال عبد الله بن حوزة الأزدي قال كنت مع مالك بن كعب حين نزل بنا النعمان بن بشير و هو في ألفين و ما نحن إلا مائة فقال لنا قاتلوهم في القرية و اجعلوا الجدر في ظهوركم و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة و اعلموا أن الله تعالى ينصر العشرة على المائة و المائة على الألف و القليل على الكثير ثم قال إن أقرب من هاهنا إلينا من شيعة أمير المؤمنين و أنصاره و عماله قرظة بن كعب شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 305و مخنف بن سليم فاركض إليهما فأعلمهما حالنا و قل لهما فلينصرانا ما استطاعا فأقبلت أركض و قد تركته و أصحابه يرمون أصحاب ابن بشير بالنبل فمررت بقرظة فاستصرخته فقال إنما أنا صاحب خراج و ليس عندي من أعينه به

(3/269)


فمضيت إلى مخنف بن سليفأخبرته الخبر فسرح معي عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلا و قاتل مالك بن كعب النعمان و أصحابه إلى العصر فأتيناه و قد كسر هو و أصحابه جفون سيوفهم و استقبلوا الموت فلو أبطأنا عنهم هلكوا فما هو إلا أن رآنا أهل الشام و قد أقبلنا عليهم فأخذوا ينكصون عنهم و يرتفعون و رآنا مالك و أصحابه فشدوا عليهم حتى دفعوهم عن القرية فاستعرضناهم فصرعنا منهم رجالا ثلاثة و ارتفع القوم عنا و ظنوا أن وراءنا مددا و لو ظنوا أنه ليس غيرنا لأقبلوا علينا و لأهلكونا و حال الليل بيننا و بينهم فانصرفوا إلى أرضهم و كتب مالك بن كعب إلى علي ع أما بعد فإنه نزل بنا النعمان بن بشير في جمع من أهل الشام كالظاهر علينا و كان عظم أصحابي متفرقين و كنا للذي كان منهم آمنين فخرجنا إليهم رجالا مصلتين فقاتلناهم حتى المساء و استصرخنا مخنف بن سليم فبعث إلينا رجالا من شيعة أمير المؤمنين و ولده فنعم الفتى و نعم الأنصار كانوا فحملنا على عدونا و شددنا عليهم فأنزل الله علينا نصره و هزم عدوه و أعز جنده و الحمد لله رب العالمين و السلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 30 و روى محمد بن فرات الجرمي عن زيد بن علي ع قال قال علي ع في هذه الخطبة أيها الناس إني دعوتكم إلى الحق فتوليتم عني و ضربتكم بالدرة فأعييتموني أما إنه سيليكم بعدي ولاة لا يرضون عنكم بذلك حتى يعذبوكم بالسياط و بالحديد فأما أنا فلا أعذبكم بهما إنه من عذب الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة و آية ذلك أن يأتيكم صاحب اليمن حتى يحل بين أظهركم فيأخذ العمال و عمال العمال رجل يقال له يوسف بن عمرو و يقوم عند ذلك رجل منا أهل البيت فانصروه فإنه داع إلى الحق
قال و كان الناس يتحدثون أن ذلك الرجل هو زيد ع

(3/270)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 40307- و من كلام له ع للخوارج لما سمع قولهم لا حكم إلا للهقَالَ كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ نَعَمْ إِنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ وَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَا إِمْرَةَ وَ إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ وَ يَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ وَ يُبَلِّغُ اللَّهُ فِيهَا الْأَجَلَ وَ يُجْمَعُ بِهِ الْفَيْ ءُ وَ يُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ وَ تَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ وَ يُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنّهُ ع لَمَّا سَمِعَ تَحْكِيمَهُمْ قَالَ حُكْمَ اللَّهِ أَنْتَظِرُ فِيكُمْ وَ قَالَ أَمَّا الْإِمْرَةُ الْبَرَّةُ فَيَعْمَلُ فِيهَا التَّقِيُّ وَ أَمَّا الْإِمْرَةُ الْفَاجِرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا الشَّقِيُّ إِلَى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ وَ تُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ
اختلاف الرأي في القول بوجوب الإمامة

(3/271)


هذا نص صريح منه ع بأن الإمامة واجبة و قد اختلف الناس في هذه شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 308المسألة فقال المتكلمون كافة الإمامة واجبة إلا ما يحكى عن أبي بكر الأصم من قدماء أصحابنا أنها غير واجبة إذا تناصفت الأمة و لم تتظالم. و قال المتأخرون من أصحابنا إن هذالقول منه غير مخالف لما عليه الأمة لأنه إذا كان لا يجوز في العادة أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس يحكم بينهم فقد قال بوجوب الرئاسة على كل حال اللهم إلا أن يقول إنه يجوز أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس و هذا بعيد أن يقوله فأما طريق وجوب الإمامة ما هي فإن مشايخنا البصريين رحمهم الله يقولون طريق وجوبها الشرع و ليس في العقل ما يدل على وجوبها. و قال البغداديون و أبو عثمان الجاحظ من البصريين و شيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى إن العقل يدل على وجوب الرئاسة و هو قول الإمامية إلا أن الوجه الذي منه يوجب أصحابنا الرئاسة غير الوجه الذي توجب الإمامية منه الرئاسة و ذاك أن أصحابنا يوجبون الرئاسة على المكلفين من حيث كان في الرئاسة مصالح دنيوية و دفع مضار دنيوية و الإمامية يوجبون الرئاسة على الله تعالى من حيث كان في الرئاسة لطف و بعد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية. و الظاهر من كلام أمير المؤمنين ع يطابق ما يقوله أصحابنا أ لا تراه كيف علل قوله لا بد للناس من أمير فقال في تعليله يجمع به الفي ء و يقاتل به العدو و تؤمن به السبل و يؤخذ للضعيف من القوي و هذه كلها من مصالح الدنيا. فإن قيل ذكرتم أن الناس كافة قالوا بوجوب الإما فكيف يقول أمير المؤمنين ع عن الخوارج إنهم يقولون لا إمرة. قيل إنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك و يذهبون إلى أنه لا حاجة إلى الإمام ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 309فإن قيل فسروا لنا ألفاظ أميرلمؤمنين ع قيل إن الألفاظ كلها ترجع إلى إمرة الفاجر. قال يعمل فيها

(3/272)


المؤمن أي ليست بمانعة للمؤمن من العمل لأنه يمكنه أن يصلي و يصوم و يتصدق و إن كان الأمير فاجرا في نفسه
ثم قال و يستمتع فيها الكافر أي يتمتع بمدته كما قال سبحانه للكافرين قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ. و يبلغ الله فيها الأجل لأن إمارة الفاجر كإمارة البر في أن المدة المضروبة فيها تنتهي إلى الأجل المؤقت للإنسان. ثم قال و يجمع به الفي ء ويقاتل به العدو و تأمن به السبل و يؤخذ به للضعيف من القوي و هذا كله يمكن حصوله في إمارة الفاجر القوي في نفسه
و قد قال رسول الله ص إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر
و قد اتفقت المعتزلة على أن أمراء بني أمية كانوا فجارا عدا عثمان و عمر بن عبد العزيز و يزيد بن الوليد و كان الفي ء يجمع بهم و البلاد تفتح في أيامهم و الثغور الإسلامية محصنة محوطة و السبل آمنة و الضعيف منصور على القوي الظالم و ما ضر فجورهم شيئا في هذه الأمو ثم قال ع فتكون هذه الأمور حاصلة إلى أن يستريح بر بموته أو يستراح من فاجر بموته أو عزله. فأما الرواية الثانية فإنه قد جعل التقي يعمل فيها للإمرة البرة خاصة. و باقي الكلام غني عن الشرح شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 31من أخبار الخوارج أيضا
و روى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل المحدث في كتاب صفين عن عبد الرحمن بن زياد عن خالد بن حميد المصري عن عمر مولى غفرة قال لما رجع علي ع من صفين إلى الكوفة أقام الخوارج حتى جموا ثم خرجوا إلى صحراء بالكوفة تسمى حروراء فنادوا لا حكم إلا لله و لو كره المشركون ألا إن عليا و معاوية أشركا في حكم الله.

(3/273)


فأرسل علي ع إليهم عبد الله بن عباس فنظر في أمرهم و كلمهم ثم رجع إلى علي ع فقال له ما رأيت فقال ابن عباس و الله ما أدري ما هم فقال له علي ع رأيتهم منافقين قال و الله ما سيماهم بسيما المنافقين إن بين أعينهم لأثر السجود و هم يتأولون القرآن فقال علي ع دعوهم ما لم يسفكوا دما أو يغصبوا مالا و أرسل إليهم ما هذا الذي أحدثتم و ما تريدون قالوا نريد أن نخرج نحن و أنت و من كان معنا بصفين ثلاث ليال و نتوب إلى الله من أمر الحكمين ثم نسير إلى معاوية فنقاتله حتى يحكم الله بيننا و بينه فقال علي ع فهلا قلتم هذا حين بعثنا الحكمين و أخذنا منهم العهد و أعطيناهموه أ لا قلتم هذا حينئذ قالوا كنا قد طالت الحرب علينا و اشتد البأس و كثر الجراح و خلا الكراع و السلاح فقال لهم أ فحين اشتد البأس عليكم عاهدتم فلما وجدتم الجمام قلتم ننقض العهد إن رسول الله كان يفي للمشركين أ فتأمرونني بنقضه
فمكثوا مكانهم لا يزال الواحد منهم يرجع إلى علي ع و لا يزال الآخر شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 311يخرج من عند علي ع فدخل واحد منهم على علي ع بالمسجد و الناس حوله فصاح لا حكم إلا لله و لو كره المشركون فتلفت الناس فنادى لا حكم إلا لله و لو كره المتلفتون فرفع ع ع رأسه إليه فقال لا حكم إلا لله و لو كره أبو حسن
فقال علي ع إن أبا الحسن لا يكره أن يكون الحكم لله ثم قال حكم الله أنتظر فيكم فقال له الناس هلا ملت يا أمير المؤمنين على هؤلاء فأفنيتهم فقال إنهم لا يفنون إنهم لفي أصلاب الرجال و أرحام النساء إلى يوم القيامة

(3/274)


روى أنس بن عياض المدني قال حدثني جعفر بن محمد الصادق ع عن أبيه عن جده أن عليا ع كان يوما يؤم الناس و هو يجهر بالقراءة فجهر ابن الكواء من خلفه وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فلما جهر ابن الكواء و هو خلفه بها سكت علي فلما أنهاها ابن الكواء عاد علي ع فأتم قراءته فلما شرع علي ع في القراءة أعاد ابن الكواء الجهر بتلك الآية فسكت علي فلم يزالا كذلك يسكت هذا و يقرأ ذاك مرارا حتى قرأ علي ع فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ فسكت ابن الكواء و عاد ع إلى قراءته
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 41312- و من خطبة له عإِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ وَ لَا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ وَ مَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ وَ لَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً وَ نَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلَى حُسْنِ الْحِيلَةِ مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَ دُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَ نَهْيِهِ فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَ يَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ

(3/275)


يقال هذا توأم هذا و هذه توأمته و هما توأمان و إنما جعل الوفاء توأم الصدق لأن الوفاء صدق في الحقيقة أ لا ترى أنه قد عاهد على أمر و صدق فيه و لم يخلف و كأنهما أعم و أخص و كل وفاء صدق و ليس كل صدق وفاء فإن امتنع من حيث الاصطلاح تسمية الوفاء صدقا فلأمر آخر و هو أن الوفاء قد يكون بالفعل دون القول و لا يكون الصدق إلا في القول لأنه نوع من أنواع الخبر و الخبر قول. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 313ثم قال و لا أعلم جنة أي درعا أوقى منه أي أشد وقاية و حفظا لأن الوفي محفوظ من الله مشكور بين الناس. ثم قال و ما يغدر من علميف المرجع أي من علم الآخرة و طوى عليها عقيدته منعه ذلك أن يغدر لأن الغدر يحبط الإيمان. ثم ذكر أن الناس في هذا الزمان ينسبون أصحاب الغدر إلى الكيس و هو الفطنة و الذكاء فيقولون لمن يخدع و يغدر و لأرباب الجريرة و المكر هؤلاء أذكياء أكياس كما كانوا يقولون في عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و ينسبون أرباب ذلك إلى حسن الحيلة و صحة التدبير. ثم قال ما لهم قاتلهم الله دعاء عليهم. ثم قال قد يرى الحول القلب وجه الحيلة و يمنعه عنها نهي الله تعالى عنها و تحريمه بعد أن قدر عليها و أمكنه و الحول القلب الذي قد تحول و تقلب في الأمور و جرب و حنكته الخطوب و الحوادث. ثم قال و ينتهز فرصتها أي يبادر إلى افتراصها و يغتنمها من لا حريجة له في الدين أي ليس بذي حرج و التحرج التأثم و الحريجة التقوى و هذه كانت سجيته ع و شيمته ملك أهل الشام الماء عليه و الشريعة بصفين و أرادوا قتله و قتل أهل العراق عطشا فضاربهم على الشريعة حتى ملكها عليهم و طردهم عنها فقال له أهل العراق اقتلهم بسيوف العطش و امنعهم الماء و خذهم قبضا بالأيدي فقال إن في حد السيف لغنى عن ذلك و إني لا أستحل منعهم الماء فأفرج لهم عن الماء فوردوه ثم قاسمهم الشريعة شطرين بينهم و بينه

(3/276)


و كان الأشتر يستأذنه أن يبيت معاوية فيقول شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 314إن رسول الله ص نهى أن يبيت المشركونو توارث بنوه ع هذا الخلق الأبي. أراد المضاء أن يبيت عيسى بن موسى فمنعه إبراهيم بن عبد الله. و أرسل لما ظهر بالبصرة إلى محمد بن قحطبة مولى باهلة و كان قد ولي لأبي جعفر المنصور بعض أعمال بفارس فقال له هل عندك مال قال لا قال آلله قال آلله قال خلوا سبيله فخرج ابن قحطبة و هو يقول بالفارسة ليس هذا من رجال أبي جعفر و قال لعبد الحميد بن لاحق بلغني أن عندك مالا للظلمة يعني آل أبي أيوب المورياني كاتب المنصور فقال ما لهم عندي مال قال تقسم بالله قال نعم فقال إن ظهر لهم عندك مال لأعدنك كذابا. و أرسل إلى طلحة الغدري و كان للمنصور عنده مال بلغنا أن عندك مالا فأتنا به فقال أجل إن عندي مالا فإن أخذته مني أغرمنيه أبو جعفر فأضرب عنه. و كان لغير إبراهيم ع من آل أبي طالب من هذا النوع أخبار كثيرة و كان القوم أصحاب دين ليسوا من الدنيا بسبيل و إنما يطلبونها ليقيموا عمود الدين بالإمرة فيها فلم يستقم لهم و الدنيا إلى أهلها أميل شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 31الأخبار و الأحاديث و الآيات الواردة في مدح الوفاء و ذم الغدر
و من الأخبار النبوية المرفوعة في ذم الغدر ذمة المسلمين واحدة فإن جارت عليهم أمة منهم فلا تخفروا جوارها فإن لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة
و روى أبو هريرة قال مر رسول الله ص برجل يبيع طعاما فسأله كيف تبيع فأخبره فأمر أبا هريرة أن يدخل فيه يده فأدخلها فإذا هو مبلول فقال رسول الله ص ليس منا من غش

(3/277)


قال بعض الملوك لرسول ورد إليه من ملك آخر أطلعني على سر صاحبك فقال أيها الملك إنا لا نستحسن الغدر و إنه لو حول ثواب الوفاء إليه لما كان فيه عوض من قبحه و لكان سماجة اسمه و بشاعة ذكره ناهيين عنه. مالك بن دينار كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة. وقع جعفر بن يحيى على ظهر كتاب كتبه علي بن عيسى بن ماهان إلى الرشيد يسعى فيه بالبرامكة فدفعه الرشيد إلى جعفر يمن به عليه و قال أجبه عنه فكتب في ظاهره حبب الله إليك الوفاء يا أخي فقد أبغضته و بغض إليك الغدر فقد أحببته إني نظرت إلى الأشياء حتى أجد لك فيها مشبها فلم أجد فرجعت إليك فشبهتك بك و لقد بلغ من حسن ظنك بالأيام أن أملت السلامة مع البغي و ليس هذا من عاداتها و السلام. كان العهد في عيسى بن موسى بن محمد بعد المنصور بكتاب كتبه السفاح فلما طالت أيام المنصور سامه أن يخلع نفسه من العهد و يقدم محمدا المهدي عليه فكتب إليه عيسى
بدت لي أمارات من الغدر شمتها أرى ما بدا منها سيمطركم دما
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 316و ما يعلم العالي متى هبطاته و إن سار في ريح الغرور مسلم أبو هريرة يرفعه اللهم إني أعوذ بك من الجوع فبئس الضجيع و أعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة
و عنه مرفوعا المكر و الخديعة و الخيانة في النار
قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب عند زوال أمره أرى أن تصير إلى هؤلاء فلعلك أن تنفعني في مخلفي فقال و كيف لي بعلم الناس جميعا أن هذا عن رأيك إنهم ليقولون كلهم إني غدرت بك ثم أنشد
و غدري ظاهر لا شك فيه لمبصره و عذري بالمغيب
فلما ظفر به عبد الله بن علي قطع يديه و رجليه ثم ضرب عنقه. كان يقال لا يغدر غادر إلا لصغر همته عن الوفاء و اتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم.
من كلام أمير المؤمنين ع الوفاء لأهل الغدر غدر و الغدر بأهل الغدر وفاء عند الله تعالى

(3/278)


قلت هذا إنما يريد به إذا كان بينهما عهد و مشارطة فغدر أحد الفريقين و خاس بشرطه فإن للآخر أن يغدر بشرطه أيضا و لا يفي به. و من شعر الحماسة و اسم الشاعر العارق الطائي شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 31من مبلغ عمرو بن هند رسالة إذا استحقبتها العيس جاءت من البعدأ يوعدني و الرمل بيني و بينه تبين رويدا ما أمامه من هندو من أجأ حولي رعان كأنها قنابل خيل من كميت و من وردغدرت بأمر كنت أنت اجتررتنا إليه و بئس الشيمة الغدر بالعهد
قال أبو بكر الصديق ثلاث من كن فيه كن عليه البغي و النكث و المكر قال سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ و قال فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ و قال وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 42318- و من خطبة له عأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَ طُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَ أَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الآْخِرَةَ أَلَا وَ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ اصْطَبَّهَا صَابُّهَا أَلَا وَ إِنَّ الآْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآْخِرَةِ وَ لَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأُمِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ إِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَ لَا حِسَابَ وَ غَداً حِسَابٌ وَ لَا عَمَلَ
قال الرضي رحمه الله أقول الحذاء السريعة و من الناس من يرويه جذاء بالجيم و الذال أي انقطع درها و خيرها

(3/279)


الصبابة بقية الماء في الإناء و اصطبها صابها مثل قولك أبقاها مبقيها أو تركها تاركها و نحو ذلك يقول أخوف ما أخافه عليكم اتباع الهوى و طول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق و هذا صحيح لا ريب فيه لأن الهوى يعمي البصيرة و قد قيل شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 319ك الشي ء يعمي و يصم و لهذا قال بعض الصالحين رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي و ذاك لأن الإنسان يحب نفسه و من أحب شيئا عمي عن عيوبه فلا يكاد الإنسان يلمح عيب نفسه و قد قيل أرى كل إنسان يرى عيب غيره و يعمى عن العيب الذي هو فيه
فلهذا استعان الصالحون على معرفة عيوبهم بأقوال غيرهم علما منهم أن هوى النفس لذاتها يعميها عن أن تدرك عيبها و ما زال الهوى مرديا قتالا و لهذا قال سبحانه وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى
و قال ص ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه

(3/280)


و أنت إذا تأملت هلاك من هلك من المتكلمين كالمجبرة و المرجئة مع ذكائهم و فطنتهم و اشتغالهم بالعلوم عرفت أنه لا سبب لهلاكهم إلا هوى الأنفس و حبهم الانتصار للمذهب الذي قد ألفوه و قد رأسوا بطريقه و صارت لهم الأتباع و التلامذة و أقبلت الدنيا عليهم و عدهم السلاطين علماء و رؤساء فيكرهون نقض ذلك كله و إبطاله و يحبون الانتصار لتلك المذاهب و الآراء التي نشئوا عليها و عرفوا بها و وصلوا إلى ما وصلوا إليه بطريقها و يخافون عار الانتقال عن المذهب و أن يشتفي بهم الخصوم و يقرعهم الأعداء و من أنصف علم أن الذي ذكرناه حق و أما طول الأمل فينسي الآخرة و هذا حق لأن الذهن إذا انصرف إلى الأمل و مد الإنسان في مداه فإنه لا يذكر الآخرة بل يصير مستغرق الوقت بأحوال الدنيا و ما يرجو حصوله منها في مستقبل الزمان. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 320و من كلام مسعر بن كدام كم من مستقبل يوما ليس يسمله و منتظر غدا ليس من أجله و لو رأيتم الأجل و مسيره أبغضتم الأمل و غروره. و كان يقال تسويف الأمل غرار و تسويل المحال ضرار.
و من الشعر المنسوب إلى علي ع
غر جهولا أمله يموت من جا أجله و من دنا من حتفه لم تغن عنه حيله و ما بقاء آخر قد غاب عنه أوله و المرء لا يصحبه في القبر إلا عم. و قال أبو العتاهية
لا تأمن الموت في لحظ و لا نفس و لو تمنعت بالحجاب و الحرس و اعلم بأن سهام الموت قاصدة لكل مدرع منا و مترس ما بال دينك ترضى أن تدنسه و ثوب لبسك مغسول من الدنس ترجو النجاة و لم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على الي و من الحديث المرفوع أيها الناس إن الأعمال تطوى و الأعمار تفنى و الأبدان تبلى في الثرى و إن الليل و النهار يتراكضان تراكض الفرقدين يقربان كل بعيد و يخلقان كل جديد و في ذلك ما ألهى عن الأمل و أذكرك بحلول الأجل

(3/281)


و قال بعض الصالحين بقاؤك إلى فناء و فناؤك إلى بقاء فخذ من فنائك الذي لا يبقى لبقائك الذي لا يفنى. و قال بعضهم اغتنم تنفس الأجل و إمكان العمل و اقطع ذكر المعاذير و العلل و دع تسويف الأماني و الأمل فإنك في نفس معدود و عمر محدود ليس بممدود. و قال بعضهم اعمل عمل المرتحل فإن حادي الموت يحدوك ليوم لا يعدوك شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 321ثم قال ع ألا إن الدنيا قد أدبرت حذاء بالحاء و الذال المعجمة و هي السريعة و قطاة حذاء خف ريش ذنبها و رجل أحذ أي خفيف اليد و قد روي قد أدبرت جذاء بالجيم أي قد انقطع خيرها و درها. ثمال إن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة فكونوا من أبناء الآخرة لتلحقوا بها و تفوزوا و لا تكونوا من أبناء الدنيا فتلحقوا بها و تخسروا. ثم قال اليوم عمل و لا حساب و غدا حساب و لا عمل و هذا من باب المقابلة في علم البيان
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 43322- و من كلام له ع و قد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله إلى معاوية بجرير بن عبد الله البجليإِنَّ اسْتِعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَ جَرِيرٌ عِنْدَهُمْ إِغْلَاقٌ لِلشَّامِ وَ صَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ خَيْرٍ إِنْ أَرَادُوهُ وَ لَكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتاً لَا يُقِيمُ بَعْدَهُ إِلَّا مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً وَ الرَّأْيُ مَعَ الْأَنَاةِ فَأَرْوِدُوا وَ لَا أَكْرَهُ لَكُمُ الْإِعْدَادَ وَ لَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذَا الْأَمْرِ وَ عَيْنَهُ وَ قَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَ بَطْنَهُ فَلَمْ أَرَ فِيهِ إِلَّا الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى الْأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثاً وَ أَوْجَدَ النَّاسَ مَقَالًا فَقَالُوا ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّرُوا

(3/282)


أرودوا أي ارفقوا أرود في السير إروادا أي سار برفق و الأناة التثبت و التأني و نهيه لهم عن الاستعداد و قوله بعد و لا أكره لكم الإعداد غير متناقض لأنه كره منهم إظهار الاستعداد و الجهر به و لم يكره الإعداد في السر و على وجه الخفاء شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 3و الكتمان و يمكن أن يقال إنه كره استعداد نفسه و لم يكره إعداد أصحابه و هذان متغايران و هذا الوجه اختاره القطب الراوندي. و لقائل أن يقول التعليل الذي علل به ع يقتضي كراهية الأمرين معا و هو أن يتصل بأهل الشام الاستعداد فيرجعوا عن السلم إلى الحرب بل ينبغي أن تكون كراهته لإعداد جيشه و عسكره خيولهم و آلات حربهم أولى لأن شياع ذلك أعظم من شياع استعداده وحده لأنه وحده يمكن أن يكتم استعداده و أما استعداد العساكر العظيمة فلا يمكن أن يكتم فيكون اتصاله و انتقاله إلى أهل الشام أسرع فيكون إغلاق الشام عن باب خير إن أرادوه أقرب و الوجه في الجمع بين اللفظتين ما قدمناه. و أما قوله ع ضربت أنف هذا الأمر و عينه فمثل تقوله العرب إذا أرادت الاستقصاء في البحث و التأمل و الفكر و إنما خص الأنف و العين لأنهما صورة الوجه و الذي يتأمل من الإنسان إنما هو وجهه. و أما قوله ليس إلا القتال أو الكفر فلأن النهي عن المنكر واجب على الإمام و لا يجوز له الإقرار عليه فإن تركه فسق و وجب عزله عن الإمامة. و قوله أو الكفر من باب المبالغة و إنما هو القتال أو الفسق فسمى الفسق كفرا تغليظا و تشديدا في الزجر عنه. و قوله ع أوجد الناس مقالا أي جعلهم واجدين له. و قال الراوندي أوجد هاهنا بمعنى أغضب و هذا غير صحيح لأنه لا شي ء ينصب به مقالا إذا كان بمعنى أغضب و الوالي المشار إليه عثمان شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 3ذكر ما أورده القاضي عبد الجبار من دفع ما تعلق به الناس على عثمان من الأحداث

(3/283)


يجب أن نذكر هاهنا أحداثه و ما يقوله أصحابنا في تأويلاتها و ما تكلم به المرتضى في كتاب الشافي في هذا المعنى فنقول إن قاضي القضاة رحمه الله تعالى قال في المغني قبل الكلام في تفصيل هذه الأحداث كلاما مجملا معناه أن كل من تثبت عدالته و وجب توليه إما على القطع و إما على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن يقتضي العدول عنها يبين ذلك أن من شاهدناه على ما يوجب الظاهر توليه و تعظيمه يجب أن يبقى فيه على هذه الطريقة و إن غاب عنا و قد عرفنا أنه مع الغيبة يجوز أن يكون مستمرا على حالته و يجوز أن يكون منتقلا و لم يقدح هذا التجويز في وجوب ما ذكرناه. ثم قال فالحدث الذي يوجب الانتقال عن التعظيم و التولي إذا كان من باب محتمل لم يجز الانتقال لأجله و الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات و الأحوال المعروفة فيمن نتولاه أقوى في باب الإمارة من الأمور المتجددة فإن مثل فرقد السبخي و مالك بن دينار لو شوهدا في دار فيها منكر لقوي في الظن حضورهما للتغيير و الإنكار شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 325أو على وجه الإكراه أو الغلط و لو كان الحاضر هناك من علم من حاله الاختلاط بالمنكر لجوز حضوره للفساد بل كان ذلك هو الظاهر من حال ثم قال و اعلم أن الكلام فيما يدعى من الحدث و التغير فيمن ثبت توليه قد يكون من وجهين أحدهما هل علم بذلك أم لا. و الثاني أنه مع يقين حصوله هل هو حدث يؤثر في العدالة أم لا. و لا فرق بين تجويز ألا يكون حدث أصلا و بين أن يعلم حدوثه و يجوز ألا يكون حدثا. ثم قال كل محتمل لو أخبر الفاعل أنه فعله على أحد الوجهين و كان يغلب على الظن صدقه لوجب تصديقه فإذا عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك جرى مجرى الإقرار بل ربما كان أقوى و متى لم نسلك هذه الطريقة في الأمور المشتبهة لم يصح في أكثر من نتولاه و نعظمه أن تسلم حاله عندنا فإنا لو رأينا من يظن به الخير يكلم امرأة حسناء في

(3/284)


الطريق لكان ذلك من باب المحتمل فإذا كان لو أخبر أنها أخته أو امرأته لوجب ألا نحول عن توليه فكذلك إذا كان قد تقدم في النفوس ستره و صلاحه فالواجب أن نحمله على هذا الوجه. ثم قال و قول الإمام له مزية في هذا الباب لأنه آكد من غيره و أما ما ينقل عن رسول الله ص فإنه و إن لم يكن مقطوعا به يؤثر في هذا الباب و يكون أقوى مما تقدم. ثم قال و قد طعن الطاعنون فيه بأمور متنوعة مختلفة و نحن نقدم على تلك المطاعن كلاما مجملا يبين بطلانها على الجملة ثم نتكلم عن تفصيلها.

(3/285)


شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 326قال و ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قد قال لو كانت هذه الأحداث مما توجب طعنا على الحقيقة لوجب من الوقت الذي ظهر ذلك من حاله أن يطلب المسلمون رجلا ينصب للإمامة و أن يكون ظهور ذلك عن عثمان كموته فإنه لا خلاف أنه متى ظهرن الإمام ما يوجب خلعه أن الواجب على المسلمين إقامة إمام سواه فلما علمنا أن طلبهم لإقامة إمام إنما كان بعد قتله و لم يكن من قبل و التمكن قائم علمنا بطلان ما أضيف إليه من الأحداث. قال و ليس لأحد أن يقول إنهم لم يتمكنوا من ذلك لأن المتعالم من حالهم أنهم حصروه و منعوه من التمكن من نفسه و من التصرف في سلطانه خصوصا و الخصوم يدعون أن الجميع كانوا على قول واحد في خلعه و البراءة منه. قال و معلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حوصر فيها و قتل بل كانت تحصل من قبل حالا بعد حال فلو كان ذلك يوجب الخلع و البراءة لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه و لكان كبار الصحابة المقيمون بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد لأن أهل العلم و الفضل بإنكار ذلك أحق من غيرهم. قال فقد كان يجب على طريقتهم أن تحصل البراءة و الخلع من أول الوقت الذي حصل منه ما أوجب ذلك و ألا ينتظر حصول غيره من الأحداث لأنه لو وجب انتظار ذلك لم ينته إلى حد إلا و ينتظر غيره. ثم ذكر أن إمساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الأحداث منه يوجب نسبة الجميع إلى الخطإ و الضلال و لا يمكنهم أن يقولوا إن علمهم بذلك إنما حصل في الوقت الذي حصر و منع لأن من جملة الأحداث التي يذكرونها ما تقدم عن هذه الحال بل كلها أو جلها تقدم هذا الوقت و إنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في هذا الوقت بما يذكرونه من شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 327حديث الكتاب النافذ إلى ابن أبي سرح بالقتل و ما أوجب كون ذلك حدثنا يوجب كون غيره حدثا فكان يجب يفعلوا ذلك من قبل و احتمال المتقدم للتأويل كاحتمال المتأخر. ثم قال

(3/286)


و بعد فليس يخلو من أن يدعوا أن طلب الخلع وقع من كل الأمة أو من بعضهم فإن ادعوا ذلك في بعض الأمة فقد علمنا أن الإمامة إذا ثبتت بالإجماع لم يجز إبطالها بلا خلاف لأن الخطأ جائز على بعض الأمة و إن ادعوا في ذلك الإجماع لم يصح لأن من جملة أهل الإجماع عثمان و من كان ينصره و لا يمكن إخراجه من الإجماع بأن يقال إنه كان على باطل لأن بالإجماع يتوصل إلى ذلك و لم يثبت. ثم قال على أن الظاهر من حال الصحابة أنها كانت بين فريقين أما من نصره فقد روي عن زيد بن ثابت أنه قال لعثمان و من معه من الأنصار ائذن لنا بنصرك و روي مثل ذلك عن ابن عمر و أبي هريرة و المغيرة بن شعبة و الباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض إلا أنه لو ضيق عليهم الأمر في الدفع ما قعدوا بل المتعالم من حالهم ذلك. ثم ذكر ما روي من إنفاذ أمير المؤمنين ع الحسن و الحسين ع إليه و أنه لما قتل لامهما ع على وصول القوم إليه ظنا منه أنهما قصرا.
و ذكر أن أصحاب الحديث يروون عن النبي ص أنه قال ستكون فتنة و اختلاف و أن عثمان و أصحابه يومئذ على الهدى
و ما روي عن عائشة من قولها قتل و الله مظلوما. قال و لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الأحاديث في ذلك لأنه ليس هناك أمر ظاهر يدفعه نحو دعواهم أن جميع الصحابة كانوا عليه لأن ذلك دعوى منهم و إن كان فيه رواية من جهة الآحاد و إذا تعارضت الروايات سقطت و وجب الرجوع إلى ما ثبت من أحواله السليمة و وجوب توليه. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 328قال و لا يجوز أن يعدل عن تعظيمه و صحة إمامته بأمور محتملة فلا شي ء مما ذكروه إلا و يحتمل الوجه الصحيح. ثم ذكر أن للإمام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به و يعمل فيها على غالب ظنه و قد ن مصيبا و إن أفضت إلى عاقبة مذمومة. فهذه جملة ما ذكره قاضي القضاة رحمه الله تعالى في المغني من الكلام إجمالا في دفع ما يتعلق به على عثمان من الأحداث

(3/287)


رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان
و اعترض المرتضى رحمه الله تعالى في الشافي فقال أما قوله من تثبت عدالته و وجب توليه إما قطعا أو على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن فغير مسلم لأن من نتولاه على الظاهر و ثبتت عدالته عندنا من جهة غالب الظن يجب أن نرجع عن ولايته بما يقتضي غالب الظن دون اليقين و لهذا يؤثر في جرح الشهود و سقوط عدالتهم أقوال الجارحين و إن كانت مظنونة غير معلومة و ما يظهر من أنفسهم من الأفعال التي لها ظاهر يظن معه القبيح بهم حتى نرجع عما كنا عليه من القول بعدالتهم و إن لم يكن كل ذلك متيقنا و إنما يصح ما ذكره فيمن ثبتت عدالته على القطع و وجب توليه على الباطن فلا يجوز أن يؤثر في حاله ما يقتضي الظن لأن الظن لا يقابل العلم و الدلالة لا تقابل الأمارة. فإن قال لم أرد بقولي إلا بأمر متيقن أن كونه حدثا متيقن و إنما أردت تيقن وقوع الفعل نفسه. قلنا الأمران سواء في تأثير غلبة الظن فيهما و لهذا يؤثر في عدالة من تقدمت شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 329عدالته عندنا على سبيل الظن أقوال من يخبرنا عنه بارتكاب القبائح إذا كانوا عدولا و إن كانت أقوالهم لا تقتضي اليقين بل يحصل عندها غالب الظن و كيف لا نرجع عن ولاية من توليناه علىلظاهر بوقوع أفعال منه يقتضي ظاهرها خلاف الولاية و نحن إنما قلنا بعدالته في الأصل على سبيل الظاهر و مع التجويز لأن يكون ما وقع منه في الباطن قبيحا لا يستحق به التولي و التعظيم أ لا ترى أن من شاهدناه يلزم مجالس العلم و يكرر تلاوة القرآن و يدمن الصلاة و الصيام و الحج يجب أن نتولاه و نعظمه على الظاهر و إن جوزنا أن يكون جميع ما وقع منه مع خبث باطنه و أن غرضه في فعله القبيح فلم نتوله إلا على الظاهر و مع التجويز فكيف لا نرجع عن ولايته بما يقابل هذه الطريقة فأما من غاب عنا و تقدمت له أحوال تقتضي الولاية فيجب أن نستمر

(3/288)


على ولايته و إن جوزنا على الغيبة أن يكون منتقلا عن الأحوال الجميلة التي عهدناها منه إلا أن هذا تجويز محض لا ظاهر معه يقابل ما تقدم من الظاهر الجميل و هو بخلاف ما ذكرناه من مقابلة الظاهر للظاهر و إن كان في كل واحد من الأمرين تجويز. قال و قد أصاب في قوله إن ما يحتمل لا ينتقل له عن التعظيم و التولي إن أراد بالاحتمال ما لا ظاهر له و أما ما له ظاهر و مع ذلك يجوز أن يكون الأمر فيه بخلاف ظاهره فإنه لا يسمى محتملا و قد يكون مؤثرا فيما ثبت من التولي على الظاهر على ما ذكرناه. قال فأما قوله إن الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات فيمن نتولاه تؤثر ما لا يؤثر غيرها و تقتضي حمل أفعاله على الصحة و التأول له فلا شك أن ما ذكره مؤثر و طريق قوي إلى غلبة الظن إلا أنه ليس يقتضي ما يتقرر في نفوسنا لبعض من نتولاه على الظاهر أن نتأول كل ما يشاهد منه من الأفعال التي لها ظاهر قبيح و نحمل الجميع على شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 330أجمل الوجوه و إن كان بخلاف الظاهر بل ربما تبين الأمر فيما يقع منه من الأفعال التي ظاهرها القبيح إلى أن تؤثر في أحواله المقررة و نرجع بها عن ولايته و لهذا نجد كثيرا من أهل العدالة المتقررة لهم في النفوس ينسلخون منها حتى يلحقوبمن لا تثبت له في وقت من الأوقات عدالة و إنما يكون ذلك بما يتوالى منهم و يتكرر من الأفعال القبيحة الظاهرة. قال فأما ما استشهد به من أن مثل مالك بن دينار لو شاهدناه في دار فيها منكر لقوي في الظن حضوره لأجل التغيير و الإنكار أو على وجه الإكراه و الغلط و أن غيره يخالفه في هذا الباب فصحيح لا يخالف ما ذكرناه لأن مثل مالك بن دينار ممن تناصرت أمارات عدالته و شواهد نزاهته حالا بعد حال لا يجوز أن يقدح فيه فعل له ظاهر قبيح بل يجب لما تقدم من حاله أن نتأول فعله و نخرجه عن ظاهره إلى أجمل وجوهه و إنما وجب ذلك لأن الظنون المتقدمة أقوى و أولى بالترجيح و الغلبة فنجعلها

(3/289)


قاضية على الفعل و الفعلين و لهذا متى توالت منه الأفعال القبيحة الظاهرة و تكررت قدحت في حاله و أثرت في ولايته كيف لا يكون كذلك و طريق ولايته في الأصل هو الظن و الظاهر و لا بد من قدح الظاهر في الظاهر و تأثير الظن في الظن على بعض الوجوه. قال فأما قوله فإن كل محتمل لو أخبرنا عنه و هو مما يغلب على الظن صدقه أنه فعله على أحد الوجهين وجب تصديقه فمتى عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك جرى مجرى الإخبار فأول ما فيه أن المحتمل هو ما لا ظاهر له من الأفعال و الذي يكون جواز كونه قبيحا كجواز كونه حسنا و مثل هذا الفعل لا يقتضي ولاية شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 331و لا عداوة و إنما يقتضي الولاية ما له من الأفعال ظاهر جميل و يقتضي العداوة ما له ظاهر قبيح. فإن قال أردت بالمحتمل ما له ظاهر لكنه يجوز أن يكون الأمر بخلاف ظاه. قيل له ما ذكرته لا يسمى محتملا فإن كنت عنيته فقد وضعت العبارة في غير موضعها و لا شك في أنه إذا كان ممن لو أخبرنا بأنه فعل الفعل على أحد الوجهين لوجب تصديقه و حمل الفعل على خلاف ظاهره فإن الواجب لما تقرر له في النفوس أن يتأول له و يعدل بفعله عن الوجه القبيح إلى الوجه الجميل إلا أنه متى توالت منه الأفعال التي لها ظواهر قبيحة فلا بد أن تكون مؤثرة في تصديقه متى خبرنا بأن غرضه في الفعل خلاف ظاهره كما تكون مانعة من الابتداء بالتأول. و ضربه المثل بأن من نراه يكلم امرأة حسناء في الطريق إذا أخبر أنها أخته أو امرأته في أن تصديقه واجب و لو لم يخبر بذلك لحملنا كلامه لها على أجمل الوجوه لما تقدم له في النفوس صحيح إلا أنه لا بد من مراعاة ما تقدم ذكره من أنه قد يقوى الأمر لقوة الأمارات و الظواهر إلى حد لا يجوز معه تصديقه و لا التأول له و لو لا أن الأمر قد ينتهي إلى ذلك لما صح أن يخرج أحد عندنا من الولاية إلى العداوة و لا من العدالة إلى خلافها لأنه لا شي ء مما يفعله الفساق

(3/290)


المتهتكون إلا و يجوز أن يكون له باطن بخلاف الظاهر و مع ذلك فلا يلتفت إلى هذا التجويز يبين صحة ما ذكرناه أنا لو رأينا من يظن به الخير يكلم امرأة حسناء ي الطريق و يداعبها و يضاحكها لظننا به الجميل مرة و مرات ثم ينتهي الأمر إلى ألا نظنه و كذلك لو شاهدناه و بحضرته المنكر لحملنا حضوره على الغلط أو الإكراه أو غير ذلك من الوجوه الجميلة ثم لا بد من انتهاء الأمر إلى أن نظن به القبيح و لا نصدقه في كلامه.
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 332قال ثم نقول له أخبرنا عمن شاهدناه من بعد و هو مفترش امرأة نعلم أنها ليست له بمحرم و أن لها في الحال زوجا غيره و هو ممن تقررت له في النفوس عدالة متقدمة ما ذا يجب أن نظن به و هل نرجع بهذا الفعل عن ولايته أم نحمله على أنه غالط متوهم أن المرأة زوجته أو على أنه مكره على الفعل أو غير ذلك من الوجوه الجميلة. فإن قال نرجع عن الولاية اعترف بخلاف ما قصده في الكلام و قيل له أي فرق بين هذا الفعل و بين جميع ما عددناه من الأفعال و ادعيت أن الواجب أن نعدل عن ظاهرها و ما جواز الجميل في ذلك إلا كجواز الجميل في هذا الفعل. و إن قال لا أرجع بهذا الفعل عن ولايته بل نؤوله على بعض الوجوه الجميلة. قيل له أ رأيت لو تكرر هذا الفعل و توالى هو و أمثاله حتى نشاهده حاضرا في دور القمار و مجالس اللهو و اللعب و نراه يشرب الخمر بعينها و كل هذا مما يجوز أن يكون عليه مكرها و في أنه القبيح بعينه غالطا أ كان يجب علينا الاستمرار على ولايته أم العدول عنها فإن قال نستمر و نتأول ارتكب ما لا شبهة في فساده و ألزم ما قد قدمنا ذكره من أنه لا طريق إلى الرجوع عن ولاية أحد و لو شاهدنا منه أعظم المناكير و وقف أيضا على أن طريق الولاية المتقدمة إذا كان الظن دون القطع فكيف لا نرجع عنها لمثل هذا الطريق فلا بد إذن من الرجوع إلى ما بيناه و فصلناه في هذا الباب. قال فأما قوله إن قول الإمام له مزية لأنه آكد من

(3/291)


غيره فلا معنى له لأن قول الإمام على مذهبنا يجب أن يكون له مزية من حيث كان معصوما مأمون الباطن و على مذهبه إنما تثبت ولايته بالظاهر كما تثبت ولاية غيره من سائر المؤمنين فأي مزية له في هذا الباب.
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 333و قوله إن ما ينقل عن الرسول و إن لم يكن مقطوعا عليه يؤثر في هذا الباب و يكون أقوى مما تقدم غير صحيح على إطلاقه لأن تأثير ما ينقل إذا كان يقتضي غلبة الظن لا شبهة فيه فأما تقويته على غيره فلا وجه له و قد كان يجب أن يبين من أي وجوه يكون أقوى. فهذه جملة ما اعترض به المرتضى على الفصل الأول من كلام قاضي القضاة رحمه الله تعالى.
تم الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة

(3/292)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 3الجزء الثالث
تتمة الخطب و الأوامر تتمة خطبة 43
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل الكريم و اعلم أن الذي ذكره المرتضى رحمه الله تعالى و أورده على قاضي القضاة جيد و لازم متى ادعى قاضي القضاة أن العدالة إذا ثبتت ظنا أو قطعا لم يجز العدول عنها و التبرؤ إلا بما يوجب القطع و يعلم به علما يقينيا زوالها فأما إذا ادعى أن المعلوم لا يزول إلا بما يوجب العلم فلا يرد عليه ما ذكره المرتضى رحمه الله تعالى. و له أن يقول قد ثبتت بالإجماع إمامة عثمان و الإجماع دليل قطعي عند أصحابنا و كل من ثبتت إمامته ثبتت عدالته بالطريق التي بها ثبتت إمامته لأنه لا يجوز أن تكون إمامته معلومة و شرائطها مظنونة لأن الموقوف على المظنون مظنون فتكون إمامته مظنونة و قد فرضناها معلومة و هذا خلف و محال و إذا كانت عدالته معلومة لم يجز القول بانتفائها و زوالها إلا بأمر معلوم. و الأخبار التي رويت في أحداثه أخبار آحاد لا تفيد العلم فلا يجوز العدول عن المعلوم بها فهذا الكلام إذا رتب هذا الترتيب اندفع به ما اعترض به المرتضى رحمه الله تعالى شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : بقية رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان

(4/1)


فأما كلام المرتضى رحمه الله تعالى على الفصل الثاني من كلام قاضي القضاة و هو الفصل المحكي عن شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى فنحن نورده قال رحمه الله تعالى. أما قوله لو كان ما ذكر من الأحداث قادحا لوجب من الوقت الذي ظهرت الأحداث فيه أن يطلبوا رجلا ينصبونه في الإمامة لأن ظهور الحدث كموته فلما رأيناهم طلبوا إماما بعد قتله دل على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث فليس بشي ء معتمد لأن تلك الأحداث و إن كانت مزيلة عندهم لإمامته و فاسخة لها و مقتضية لأن يعقدوا لغيره الإمامة إلا أنهم لم يكونوا قادرين على أن يتفقوا على صب غيره مع تشبثه بالأمر خوفا من الفتنة و التنازع و التجاذب و أرادوا أن يخلع نفسه حتى تزول الشبهة و ينشط من يصلح للأمر لقبول العقد و التكفل بالأمر و ليس يجري ذلك مجرى موته لأن موته يحسم الطمع في استمرار ولايته و لا تبقى شبهة في خلو الزمان من إمام و ليس كذلك حدثه الذي يسوغ فيه التأويل على بعده و تبقى معه الشبهة في استمرار أمره و ليس نقول إنهم لم يتمكنوا من ذلك كما سأل نفسه بل الوجه في عدولهم ما ذكرناه من إرادتهم حسم المواد و إزالة الشبهة و قطع أسباب الفتنة. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 5قال فأما قوله إنه معلومن حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حصر فيها و قتل بل كانت تقع حالا بعد حال فلو كانت توجب الخلع و البراءة لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه و لكان المقيمون من الصحابة بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد فلا شك أن الأحداث لم تحصل في وقت واحد إلا أنه غير منكر أن يكون نكيرهم إنما تأخر لأنهم تأولوا ما ورد عليهم من أفعاله على أجمل الوجوه حتى زاد الأمر و تفاقم و بعد التأويل و تعذر التخريج و لم يبق للظن الجميل طريق فحينئذ أنكروا و هذا مستمر على ما قدمنا ذكره من أن العدالة و الطريقة الجميلة يتأول لها في الفعل و الأفعال القليلة بحسب ما تقدم من حسن الظن به ثم

(4/2)


ينتهي الأمر بعد ذلك إلى بعد التأويل و العمل على الظاهر القبيح. قال على أن الوجه الصحيح في هذا الباب أن أهل الحق كانوا معتقدين بخلعه من أول حدث بل معتقدين أن إمامته لم تثبت وقتا من الأوقات و إنما منعهم من إظهار ما في نفوسهم ما قدمناه من أسباب الخوف و التقية لأن الاعتذار بالوجل كان عاما فلما تبين أمره حالا بعد حال و أعرضت الوجوه عنه و قل العاذر له قويت الكلمة في خلعه و هذا إنما كان في آخر الأمر دون أوله فليس يقتضي الإمساك عنه إلى الوقت الذي وقع الكلام فيه نسبة الخطأ إلى الجميع على ما ظنه. قال فأما دفعه بأن تكون الأمة أجمعت على خلعه بخروجه نفسه و خروج من كان في حيزه عن القوم فليس بشي ء لأنه إذا ثبت أن من عداه و عدا عبيده و الرهيط من فجار أهله و فساقهم كمروان و من جرى مجراه كانوا مجمعين على خلعه فل شبهة

(4/3)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 6في أن الحق في غير حيزه لأنه لا يجوز أن يكون هو المصيب و جميع الأمة مبطل و إنما يدعى أنه على الحق لمن ينازع في إجماع من عداه فأما مع التسليم لذلك فليس يبقى شبهة و ما نجد مخالفينا يعتبرون في باب الإجماع بإجماع الشذاذ و النفر القل الخارجين من الإجماع أ لا ترى أنهم لا يحفلون بخلاف سعد و أهله و ولده في بيعه أبي بكر لقلتهم و كثرة من بإزائهم و لذلك لا يعتدون بخلاف من امتنع من بيعة أمير المؤمنين ع و يجعلونه شاذا لا تأثير بخلافه فكيف فارقوا هذه الطريقة في خلع عثمان و هل هذا إلا تقلب و تلون. قلت أما إذا احتج أصحابنا على إمامة أبي بكر بالإجماع فاعتراض حجتهم بخلاف سعد و ولده و أهله اعتراض جيد و ليس يقول أصحابنا في جوابه هؤلاء شذاذ فلا نحفل بخلافهم و إنما المعتبر بالكثرة التي بإزائهم و كيف يقولون هذا و حجتهم الإجماع و لا إجماع و لكنهم يجيبون عن ذلك بأن سعدا مات في خلافة عمر فلم يبق من يخالف في خلافة عمر فانعقد الإجماع عليها و بايع ولد سعد و أهله من قبل و إذا صحت خلافة عمر صحت خلافة أبي بكر لأنها فرع عليها و محال أن يصح الفرع و يكون الأصل فاسدا فهكذا يجيب أصحابنا عن الاعتراض بخلاف سعد إذا احتجوا بالإجماع فأما إذا احتجوا بالاختيار فلا يتوجه نحوهم الاعتراض بخلاف سعد و أهله و ولده لأنه ليس من شرط ثبوت الإمامة بالاختيار إجماع الأمة على الاختيار و إنما يكفي فيه بيعة خمسة من أهل الحل و العقد على الترتيب الذي يرتب أصحابنا الدلالة عليه و بهذا الطريق يثبت عندهم إمامة علي ع و لم يحفل بخلاف معاوية و أهل الشام فيها. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 7قال رحمه الله تعالى فأما قوله إن الصحابة كانت بين فريقين من نصره كزيد بن ثابت و ابن عمر و فلان و فلان و الباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض و لأنه ما ضيق عليهم الأمفي الدفع عنه فعجيب لأن الظاهر أن أنصاره هم الذين كانوا معه في الدار

(4/4)


يقاتلون عنه و يدفعون الهاجمين عليه. فأما من كان في منزله ما أغنى عنه فتيلا فلا يعد ناصرا و كيف يجوز ممن أراد نصرته و كان معتقدا لصوابه و خطإ المطالبين له بالخلع أن يتوقف عن النصرة طلبا لزوال العارض و هل تراد النصرة إلا لدفع العارض و بعد زواله لا حاجة إليها و ليس يحتاج في نصرته إلى أن يضيق هو عليهم الأمر فيها بل من كان معتقدا لها لا يحتاج حمله إلى إذنه فيها و لا يحفل بنهيه عنها لأن المنكر مما قد تقدم أمر الله تعالى بالنهي عنه فليس يحتاج في إنكاره إلى أمر غيره. قال فأما زيد بن ثابت فقد روي ميله إلى عثمان و ما يغني ذلك و بإزائه جميع المهاجرين و الأنصار و لميله إليه سبب معروف فإن الواقدي روى في كتاب الدار أن مروان بن الحكم لما حصر عثمان الحصر الأخير أتى زيد بن ثابت فاستصحبه إلى عائشة ليكلمها في هذا الأمر فمضيا إليها و هي عازمة على الحج فكلماها في أن تقيم و تذب عنه فأقبلت على زيد بن ثابت فقالت و ما منعك يا ابن ثابت و لك الأشاريف قد اقتطعكها عثمان و لك كذا و كذا و أعطاك عثمان من بيت المال عشرة آلاف دينار قال زيد فلم أرجع عليها حرفا واحدا و أشارت إلى مروان بالقيام فقام مروان و هو يقول شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : حرق قيس علي البلاد حتى إذا اضطرمت أجذمافنادته عائشة و قد خرج من العتبة يا ابن الحكم أ علي تمثل الأشعار قد و الله سمعت ما قلت أ تراني في شك من صاحبك و الذي نفسي بيده لوددت أنه الآن في غرارة من غرائري مخيط عليه فألقيه في البحر الأخضر قال زيد بن ثابت فخرجنا من عندها على اليأس منها. و روى الواقدي أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصابة من الأنصار و هو يدعوهم إلى نصرة عثمان فوقف عليه جبلة بن عمرو بن حبة المازني فقال له و ما يمنعك يا زيد أن تذب عنه أعطاك عشرة آلاف دينار و حدائق من نخل لم ترث عن أبيك مثل حديقة منها. فأما ابن عمر فإن الواقدي روى أيضا عنه أنه قال و الله ما كان فينا إلا خاذل

(4/5)


أو قاتل و الأمر على هذا أوضح من أن يخفى. فأما ما ذكره من إنفاذ أمير المؤمنين ع الحسن و الحسين ع فإنما أنفذهما إن كان أنفذهما ليمنعا من انتهاك حريمه و تعمد قتله و منع خرمه و نسائه من الطعام و الشراب و لم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع و كيف و هو ع مصرح بأنه يستحق بإحداثه الخلع و القوم الذين سعوا في ذلك إليه كانوا يغدون و يروحون و معلوم منه ضرورة أنه كان مساعدا على خلعه و نقض أمره لا سيما في المرة الأخيرة فأما ادعاؤه أنه ع لعن قتلته فهو يعلم ما في هذا من الروايات المختلفة التي شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 9هي أظهر من هذه الرواية و إن صحت فيجوز أن تكون محمولة على لعن من قتله متعمدا قتله قاصدا إليه فإن ذلك لم يكن لهم. فأما ادعاؤه أن طلحة رجع لما ناشده عثمان يوم الدار فظاهر البطلان و غير معروف في الرواية و الظاهر المعروف أنه لم يكن ى عثمان أشد من طلحة و لا أغلظ منه. قال و لو حكينا من كلامه فيه ما قد روي لأفنينا قطعة كثيرة من هذا الكتاب و قد روي أن عثمان كان يقول يوم الدار اللهم اكفني طلحة و يكرر ذلك علما بأنه أشد القوم عليه و روي أن طلحة كان عليه يوم الدار درع و هو يرامي الناس و لم ينزع عن القتال حتى قتل الرجل. فأما ادعاؤه الرواية
عن رسول الله ص ستكون فتنة و أن عثمان و أصحابه يومئذ على الهدى

(4/6)


فهو يعلم أن هذه الرواية الشاذة لا تكون في مقابلة المعلوم ضرورة من إجماع الأمة على خلعه و خذله و كلام وجوه المهاجرين و الأنصار فيه و بإزاء هذه الرواية ما يملأ الطروس عن النبي ص و غيره مما يتضمن ما تضمنته و لو كانت هذه الرواية معروفة لكان عثمان أولى الناس بالاحتجاج بها يوم الدار و قد احتج عليهم بكل غث و سمين و قبل ذلك لما خوصم و طولب بأن يخلع نفسه و لاحتج بها عنه بعض أصحابه و أنصاره و في علمنا بأن شيئا من ذلك لم يكن دلالة على أنها مصنوعة موضوعة. فأما ما رواه عن عائشة من قولها قتل و الله مظلوما فأقوال عائشة فيه معروفة و معلومة و إخراجها قميص رسول الله ص و هي تقول هذا قميصه لم يبل و قد أبلى عثمان سنته إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 10فأما مدحها له و ثناؤها عليه فإنما كانا عقيب علمها بانتقال الأمر إلى من انتقل إليه و السبب فيه معروف و قوقفت عليه و قوبل بين كلامها فيه متقدما و متأخرا. فأما قوله لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الآحاد في ذلك لأنها في مقابلة ما يدعونه مما طريقه أيضا الآحاد فواضح البطلان لأن إطباق الصحابة و أهل المدينة إلا من كان في الدار معه على خلافه فإنهم كانوا بين مجاهد و مقاتل مبارز و بين متقاعد خاذل معلوم ضرورة لكل من سمع الأخبار و كيف يدعى أنها من جهة الآحاد حتى يعارض بأخبار شاذة نادرة و هل هذا إلا مكابرة ظاهرة. فأما قوله إنا لا نعدل عن ولايته بأمور محتملة فقد مضى الكلام في هذا المعنى و قلنا إن المحتمل هو ما لا ظاهر له و يتجاذبه أمور محتملة فأما ما له ظاهر فلا يسمى محتملا و إن سماه بهذه التسمية فقد بينا أنه مما يعدل من أجله عن الولاية و فصلنا ذلك تفصيلا بينا. و أما قوله إن للإمام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به و يكون مصيبا و إن أفضت إلى عاقبة مذمومة فأول ما فيه أنه ليس للإمام و لا غيره أن يجتهد في الأحكام و لا يجوز أن يعمل فيها إلا على

(4/7)


النص ثم إذا سلمنا الاجتهاد فلا شك أن هاهنا أمورا لا يسوغ فيها الاجتهاد حتى يكون من خبرنا عنه بأنه اجتهد فيها غير مصوب و تفصيل هذه الجملة يبين عند الكلام على ما تعاطاه من الإعذار عن أحداثه على جهة التفصيل. قلت الكلام في هذا الموضع على سبيل الاستقصاء إنما يكون في الكتب الكلامية المبسوطة في مسألة الإمامة و ليس هذا موضع ذاك و لكن يكفي قاضي القضاة أن يقول
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 11قد ثبت بالإجماع صحة إمامة عثمان فلا يجوز الرجوع عن هذا الإجماع إلا بإجماع معلوم على خلعه و إباحة قتله و لم يجمع المسلمون على ذلك لأنه قد كان بالمدينة من ينكر ذلك و إن قلوا و قد كان أهل الأمصار ينكرون ذلك كالشام و البصرة و الحز و اليمن و مكة و خراسان و كثير من أهل الكوفة و هؤلاء مسلمون فيجب أن تعتبر أقوالهم في الإجماع فإذا لم يدخلوا فيمن أجلب عليه لم ينعقد الإجماع على خلعه و لا على إباحة دمه فوجب البقاء على ما اقتضاه الإجماع الأول
ذكر المطاعن التي طعن بها على عثمان و الرد عليها

(4/8)


فأما الكلام في المطاعن المفصلة التي طعن بها فيه فنحن نذكرها و نحكي ما ذكره قاضي القضاة و ما اعترضه به المرتضى رحمه الله تعالى. الطعن الأول قال قاضي القضاة في المغني فمما طعن به عليه قولهم إنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح لذلك و لا يؤتمن عليه و من ظهر منه الفسق و الفساد و من لا علم عنده مراعاة منه لحرمة القرابة و عدولا عن مراعاة حرمة الدين و النظر للمسلمين حتى ظهر ذلك منه و تكرر و قد كان عمر حذره من ذلك حيث وصفه بأنه كلف بأقاربه و قال له إذا وليت هذا الأمر فلا تسلط بني أبي معيط على رقاب الناس فوقع منه ما حذره إياه و عوتب في ذلك فلم ينفع العتب و ذلك نحو استعماله الوليد بن عقبة و تقليده إياه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 12حتى ظهر منه شرب الخمر و استعماله سعيد بن العاص حتى ظهرت منه الأمور التي عندها أخرجه أهل الكوفة و توليته عبد الله بن أبي سرح و عبد الله بن عامرن كريز حتى روي عنه في أمر ابن أبي سرح أنه لما تظلم منه أهل مصر و صرفه عنهم بمحمد بن أبي بكر كاتبه بأن يستمر على ولايته فأبطن خلاف ما أظهر فعل من غرضه خلاف الدين و يقال إنه كاتبه بقتل محمد بن أبي بكر و غيره ممن يرد عليه و ظفر بذلك الكتاب و لذلك عظم التظلم من بعد و كثر الجمع و كان سبب الحصار و القتل حتى كان من أمر مروان و تسلطه عليه و على أموره ما قتل بسببه و ذلك ظاهر لا يمكن دفعه. قال رحمه الله تعالى و جوابنا عن ذلك أن نقول أما ما ذكر من توليته من لا يجوز أن يستعمل فقد علمنا أنه لا يمكن أن يدعى أنه حين استعملهم علم من أحوالهم خلاف الستر و الصلاح لأن الذي ثبت عنهم من الأمور القبيحة حدث من بعد و لا يمتنع كونهم في الأول مستورين في الحقيقة أو مستورين عنده و إنما كان يجب تخطئته لو استعملهم و هم في الحال لا يصلحون لذلك. فإن قيل فلما علم بحالهم كان يجب أن يعزلهم قيل كذلك فعل لأنه إنما استعمل الوليد بن عقبة قبل ظهور شرب الخمر عنه

(4/9)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 13فلما شهد عليه بذلك جلده الحد و صرفه و قد روي مثله عن عمر فإنه ولى قدامة بن مظعون بعض أعماله فشهدوا عليه بشرب الخمر أشخصه و جلده الحد فإذا عد ذلك في فضائل عمر لم ز أن يعد ما ذكروه في الوليد من معايب عثمان و يقال إنه لما أشخصه أقام عليه الحد بمشهد أمير المؤمنين ع. و قد اعتذر من عزله سعد بن أبي وقاص بالوليد بأن سعدا شكاه أهل الكوفة فأداه اجتهاده إلى عزله بالوليد. فأما سعيد بن العاص فإنه عزله عن الكوفة و ولى مكانه أبا موسى و كذلك عبد الله بن أبي سرح عزله و ولى مكانه محمد بن أبي بكر و لم يظهر له من مروان ما يوجب أن يصرفه عما كان مستعملا فيه و لو كان ذلك طعنا لوجب مثله في كل من ولى و قد علمنا أن رسول الله ص ولى الوليد بن عقبة فحدث منه ما حدث و حدث من بعض أمراء أمير المؤمنين ع الخيانة كالقعقاع بن شور لأنه ولاه على ميسان فأخذ مالها و لحق بمعاوية و كذلك فعل الأشعث بن قيس بمال آذربيجان و ولى أبا موسى الحكم فكان منه ما كان و لا يجب أن يعاب أحد بفعل غيره و إذا لم يلحقه عيب في ابتداء ولايته فقد زال العيب فيما بعده. و قولهم إنه قسم أكثر الولايات في أقاربه و زال عن طريقة الاحتياط للمسلمين و قد كان عمر حذره من ذلك فليس بعيب لأن تولية الأقارب كتولية الأباعد في أنه يحسن إذا كانوا على صفات مخصوصة و لو قيل إن تقديمهم أولى لم يمتنع إذا كان المولي لهم أشد تمكنا من عزلهم و الاستبدال بهم و قد ولى أمير المؤمنين ع عبد الله بن العباس البصرة و عبيد الله بن العباس اليمن و قثم بن العباس مكة حتى قال مالك الأشتر عند ذلك

(4/10)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 14على ما ذا قتلنا الشيخ أمس فيما يروى و لم يكن ذلك بعيب إذا أدى ما وجب عليه في اجتهاده. فأما قولهم إنه كتب إلى ابن أبي سرح حيث ولى محمد بن أبي بكر بأنه يقتله و يقتل أصحابه فقد أنكر ذلك أشد إنكار حتى حلف عليه و بين أن الكتاب الذظهر ليس كتابه و لا الغلام غلامه و لا الراحلة راحلته و كان في جملة من خاطبه في ذلك أمير المؤمنين ع فقبل عذره و ذلك بين لأن قول كل أحد مقبول في مثل ذلك و قد علم أن الكتاب يجوز فيه التزوير فهو بمنزلة الخبر الذي يجوز فيه الكذب. فإن قيل فقد علم أن مروان هو الذي زور الكتاب لأنه هو الذي كان يكتب عنه فهلا أقام فيه الحد. قيل ليس يجب بهذا القدر أن يقطع على أن مروان هو الذي فعل ذلك لأنه و إن غلب ذلك في الظن فلا يجوز أن يحكم به و قد كان القوم يسومونه تسليم مروان إليهم و ذلك ظلم لأن الواجب على الإمام أن يقيم الحد على من يستحقه أو التأديب و لا يحل له تسليمه إلى غيره فقد كان الواجب أن يثبتوا عنده ما يوجب في مروان الحد و التأديب ليفعله به و كان إذا لم يفعل و الحال هذه يستحق التعنيف و قد ذكر الفقهاء في كتبهم أن الأمر بالقتل لا يوجب قودا و لا دية و لا حدا فلو ثبت في مروان ما ذكروه لم يستحق القتل و إن استحق التعزير لكنه عدل عن تعزيره لأنه لم يثبت و قد يجوز أن يكون عثمان ظن أن هذا الفعل فعل بعض من يعادي مروان تقبيحا لأمره لأن ذلك يجوز كما يجوز أن يكون من فعله و لا يعلم كيف كان اجتهاده و ظنه و بعد فإن هذا الحدث من أجل ما نقموا عليه فإن كان شي ء من ذلك يوجب خلع عثمان و قتله فليس إلا هذا و قد علمنا أن هذا الأمر لو ثبت ما كان يوجب القتل لأن الأمر بالقتل لا يوجب القتل سيما قبل وقوع القتل المأمور به فنقول لهم لو ثبت ذلك على عثمان أ كان يجب قتله فلا يمكنهم ادعاء شرح نهج البلاغة ج : 3: 15ذلك لأنه بخلاف الدين و لا بد أن يقولوا إن قتله ظلم و كذلك حبسه

(4/11)


في الدار و منعه من الماء فقد كان يجب أن يدفع القوم عن كل ذلك و أن يقال إن من لم يدفعهم و ينكر عليهم يكون مخطئا. و في القول بأن الصحابة اجتمعوا على ذلك كلهم تخطئة لجميع أصحاب رسول الله ص و ذلك غير جائز و قد علم أيضا أن المستحق للقتل و الخلع لا يحل أن يمنع الطعام و الشراب و علم أن أمير المؤمنين ع لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين و قد تمكن من منعهم و كل ذلك يدل على كون عثمان مظلوما و أن ذلك من صنع الجهال و أن أعيان الصحابة كانوا كارهين لذلك و أيضا فإن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس و لا شبهة أن الذين أقدموا على قتله كانوا بهذه الصفة و إذا صح أن قتله لم يكن لهم فمنعهم و النكير عليهم واجب. و أيضا فقد علم أنه لم يكن من عثمان ما يستحق به القتل من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق و أنه لو كان منه ما يوجب القتل لكان الواجب أن يتولاه الإمام فقتله على كل حال منكر و إنكار المنكر واجب. و ليس لأحد أن يقول إنه أباح قتل نفسه من حيث امتنع من دفع الظلم عنهم لأنه لم يمتنع من ذلك بل أنصفهم و نظر في حالهم و لأنه لو لم يفعل ذلك لم يحل لهم قتله لأنه إنما يحل قتل الظالم إذا كان على وجه الدفع و المروي أنهم أحرقوا بابه و هجموا عليه في منزله و بعجوه بالسيف و المشاقص و ضربوا يد زوجته لما وقعت عليه و انتهبوا متاع داره و مثل هذه القتلة لا تحل في الكافر و المرتد فكيف يظن أن الصحابة لم ينكروا ذلك و لم يعدوه ظلما حتى يقال إنه مستحق من حيث لم يدفع القوم عنه و قد تظاهر الخبر بما جرى من تجمع القوم عليه و توسط أمير المؤمنين ع لأمرهم و أنه

(4/12)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 16بذل لهم ما أرادوه و أعتبهم و أشهد على نفسه بذلك و أن الكتاب الموجود بعد ذلك المتضمن لقتل القوم و وقف عليه و ممن أوقفه عليه أمير المؤمنين ع فحلف أنه ما كتبه و لا أمر به فقال له فمن تتهم قال ما أتهم أحدا و إن للناس لحيلا. و الرية ظاهرة أيضا
بقوله إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب و مستغفر
فكيف يجوز و الحال هذه أن تهتك فيه حرمة الإسلام و حرمة البلد الحرام و لا شبهة في أن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه و لو لا أنه كان يمنع من محاربة القوم ظنا منه أن ذلك يؤدي إلى القتل الذريع لكثر أنصاره. و قد جاء في الرواية أن الأنصار بدأت معونته و نصرته و أن أمير المؤمنين ع قد بعث إليه ابنه الحسن ع فقال له قل لأبيك فلتأتني فأراد أمير المؤمنين ع المصير إليه فمنعه من ذلك محمد ابنه و استعان بالنساء عليه حتى جاء الصريخ بقتل عثمان فمد يده إلى القبلة و قال اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان. فإن قالوا إنهم اعتقدوا أنه من المفسدين في الأرض و أنه داخل تحت آية المحاربين. قيل فقد كان يجب أن يتولى الإمام هذا الفعل لأن ذلك يجري مجرى الحد و كيف يدعى ذلك و المشهور عنه أنه كان يمنع من مقاتلتهم حتى روي أنه قال لعبيدة و مواليه و قد هموا بالقتال من أغمد سيفه فهو حر و لقد كان مؤثرا لنكير ذلك الأمر بما لا يؤدي إلى إراقة الدماء و الفتنة و لذلك لم يستعن بأصحاب الرسول ص و إن كان لما اشتد الأمر أعانه من أعان لأن عند ذلك تجب النصرة و المعونة فحيث شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 17كانت الحال متماسكة و كان ينهىن إنجاده و إعانته بالحرب امتنعوا و توقفوا و حيث اشتد الأمر أعانه و نصره من أدركه دون من لم يغلب ذلك في ظنه. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما قوله لم يكن عالما بحال الفسقة الذين ولاهم قبل الولاية فلا تعويل عليه لأنه لم يول هؤلاء النفر إلا و

(4/13)


حالهم مشهورة في الخلاعة و المجانة و التجرم و التهتك و لم يختلف اثنان في أن الوليد بن عقبة لم يستأنف التظاهر بشرب الخمر و الاستخفاف بالدين على استقبال ولايته للكوفة بل هذه كانت سنته و العادة المعروفة منه و كيف يخفى على عثمان و هو قريبه و لصيقه و أخوه لأمه من حاله ما لا يخفى على الأجانب الأباعد و لهذا قال له سعد بن أبي وقاص في رواية الواقدي و قد دخل الكوفة يا أبا وهب أمير أم زائر قال بل أمير فقال سعد ما أدري أ حمقت بعدك أم كست بعدي قال ما حمقت بعدي و لا كست بعدك و لكن القوم ملكوا فاستأثروا فقال سعد ما أراك إلا صادقا. و في رواية أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي أن الوليد لما دخل الكوفة مر على مجلس عمرو بن زرارة النخعي فوقف فقال عمرو يا معشر بني أسد بئسما استقبلنا به أخوكم ابن عفان أ من عدله أن ينزع عنا ابن أبي وقاص الهين اللين السهل القريب و يبعث بدله أخاه الوليد الأحمق الماجن الفاجر قديما و حديثا و استعظم الناس مقدمه و عزل سعد به و قالوا أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد ص و هذا تحقيق ما ذكرناه من أن حاله كانت مشهورة قبل الولاية لا ريب فيها عند أحد فكيف شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 18يقال إنه كان مستورا حتى ظهر م ما ظهر و في الوليد نزل قوله تعالى أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ فالمؤمن هاهنا أمير المؤمنين ع و الفاسق الوليد على ما ذكره أهل التأويل و فيه نزل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ و السبب في ذلك أنه كذب على بني المصطلق عند رسول الله ص و ادعى أنهم منعوه الصدقة و لو قصصنا مخازيه المتقدمة و مساويه لطال بها الشرح. و أما شربه الخمر بالكوفة و سكره حتى دخل عليه ]من دخل[ و أخذ خاتمه من إصبعه و هو لا يعلم فظاهر و قد سارت به

(4/14)


الركبان و كذلك كلامه في الصلاة و التفاته إلى من يقتدي به فيها و هو سكران و قوله لهم أ أزيدكم فقالوا لا قد قضينا صلواتنا حتى قال الحطيئة في ذلك.
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 19نادى و قد نفدت صلاتهم أ أزيدكم ثملا و ما يدري ليزيدهم خيرا و لو قبلوا منه لقادهم على عشرفأبوا أبا وهب و لو فعلوا لقرنت بين الشفع و الوترحبسوا عنانك إذ جريت و لو خلوا عنانك لم تزل تجو قال فيه أيضا

(4/15)


تكلم في الصلاة و زاد فيها علانية و جاهر بالنفاق و مج الخمر في سنن المصلى و نادى و الجميع إلى افتراق أزيدكم على أن تحمدوني فما لكم و ما لي من خلاو أما قوله إنه جلده الحد و عزله فبعد أي شي ء كان ذلك و لم يعزله إلا بعد أن دافع و مانع و احتج عنه و ناضل و لو لم يقهره أمير المؤمنين ع على رأيه لما عزله و لا أمكن من جلده و قد روى الواقدي أن عثمان لما جاءه الشهود يشهدون على الوليد بشرب الخمر أوعدهم و تهددم. قال الواقدي و يقال إنه ضرب بعض الشهود أيضا أسواطا فأتوا أمير المؤمنين ع فشكوا إليه فأتى عثمان فقال عطلت الحدود و ضربت قوما شهدوا على أخيك فقلبت الحكم و قد قال لك عمر لا تحمل بني أمية و آل أبي معيط على رقاب الناس قال فما ترى قال أرى أن تعزله و لا توليه شيئا من أمور المسلمين و أن تسأل عن الشهود فإن لم يكونوا أهل ظنة و لا عداوة أقمت على صاحبك الحد و تكلم في مثل ذلك طلحة و الزبير و عائشة و قالوا أقوالا شديدة و أخذته الألسن من كل جانب فحينئذ عزله و مكن من إقامة الحد عليه. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 20و قد روالواقدي أن الشهود لما شهدوا عليه في وجهه و أراد عثمان أن يحده ألبسه جبة خز و أدخله بيتا فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه قال له الوليد أنشدك الله أن تقطع رحمي و تغضب أمير المؤمنين فلما رأى علي ع ذلك أخذ السوط و دخل عليه فجلده به فأي عذر لعثمان في عزله و جلده بعد هذه الممانعة الطويلة و المدافعة الشديدة. و قصة الوليد مع الساحر الذي كان يلعب بين يديه و يغر الناس بمكره و خديعته و أن جندب بن عبد الله الأزدي امتعض من ذلك و دخل عليه فقتله و قال له أحي نفسك إن كنت صادقا و أن الوليد أراد أن يقتل جندبا بالساحر حتى أنكر الأزد ذلك عليه فحبسه و طال حبسه حتى هرب من السجن معروفة مشهورة. فإن قيل فقد ولى رسول الله ص الوليد بن عقبة هذا صدقة بني المصطلق و ولاه عمر صدقة تغلب فكيف تدعون أن حاله في

(4/16)


أنه لا يصلح للولاية ظاهرة. قلنا لا جرم إنه غر رسول الله ص و كذب على القوم حتى نزلت فيه الآية التي قدمنا ذكرها فعزله و ليس خطب ولاية الصدقة مثل خطب ولاية الكوفة. فأما عمر فإنه لما بلغه قوله
إذا ما شددت الرأس مني بمشوذ فويلك مني تغلب ابنة وائل
عزله. و أما عزل أمير المؤمنين ع بعض أمرائه لما ظهر من الحدث كالقعقاع بن شور و غيره و كذلك عزل عمر قدامة بن مظعون لما شهد عليه بشرب الخمر و جلده له فإنه لا يشبه ما تقدم لأن كل واحد ممن ذكرناه لم يول إلا من هو حسن الظاهر عنده و عند الناس غير معروف باللعب و لا مشهور بالفساد ثم لما ظهر منه ما ظهر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 21لم يحام عنه و لا كذب الشهود عليه و كابرهم بل عزله مختارا غير مضطر و كل هذا لم يجر في أمراء عثمان و قد بينا كيف كان عزل الوليد و إقامة الحد عليه. فأما أبو موسى فإن أمير المؤمنين ع لم يوله اكم مختارا لكنه غلب على رأيه و قهر على أمره و لا رأى لمقهور. فأما قوله إن ولاية الأقارب كولاية الأباعد بل الأقارب أولى من حيث كان التمكن من عزلهم أشد و ذكر تولية أمير المؤمنين ع أولاد العباس رحمه الله تعالى و غيرهم فليس بشي ء لأن عثمان لم ينقم عليه تولية اأقارب من حيث كانوا أقارب بل من حيث كانوا أهل بيت الظنة و التهمة و لهذا حذره عمر و أشعر بأنه يحملهم على رقاب الناس و أمير المؤمنين ع لم يول من أقاربه متهما و لا ظنينا و حين أحس من ابن العباس ببعض الريبة لم يمهله و لا احتمله و كاتبه بما هو شائع ظاهر و لو لم يجب على عثمان أن يعدل عن ولاية أقاربه إلا من حيث جعل عمر ذلك سبب عدوله عن النص عليه و شرط عليه يوم الشورى ألا يحمل أقاربه على رقاب الناس و لا يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم لكان صارفا قويا فضلا عن أن ينضاف إلى ذلك ما انضاف من خصالهم الذميمة و طرائقهم القبيحة. فأما سعيد بن أبي العاص فإنه قال في الكوفة إنما السواد بستان

(4/17)


لقريش تأخذ منه ما شاءت و تترك حتى قالوا له أ تجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك و لقومك و نابذوه و أفضى الأمر إلى تسييره من سير عن الكوفة و القصة مشهورة ثم انتهى الأمر إلى منع أهل الكوفة سعيدا من دخولها و تكلموا فيه و فيه عثمان كلاما ظاهرا حتى شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 22كادوا يخلعون عثمان فاضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبي موسى فلم يصرف سعيدا مختارا بل ما صرفه جملة و إنما صرفه أهل الكوفة عنهم. فأما قوله إنه أنكر الكتاب المتضمن لل محمد بن أبي بكر و أصحابه و حلف على أن الكتاب ليس بكتابه و لا الغلام غلامه و لا الراحلة راحلته و أن أمير المؤمنين ع قبل عذره فأول ما فيه أنه حكى القصة بخلاف ما جرت عليه لأن جميع من يروي هذه القصة ذكر أنه اعترف بالخاتم و الغلام و الراحلة و إنما أنكر أن يكون أمر بالكتابة لأنه روي أن القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا المدينة فجمعوا أمير المؤمنين ع و طلحة و الزبير و سعدا و جماعة الأصحاب ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم و أخبروهم بقصة الغلام فدخلوا على عثمان و الكتاب مع أمير المؤمنين فقال له أ هذا الغلام غلامك قال نعم قال و البعير بعيرك قال نعم قال أ فأنت كتبت هذا الكتاب قال لا و حلف بالله أنه ما كتب الكتاب و لا أمر به فقال له فالخاتم خاتمك قال نعم قال فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك و لا تعلم به. و في رواية أخرى أنه لما واقفه عليه قال عثمان أما الخط فخط كاتبي و أما الخاتم فعلى خاتمي قال فمن تتهم قال أتهمك و أتهم كاتبي فخرج أمير المؤمنين ع مغضبا و هو يقول بل بأمرك و لزم داره و بعد عن توسط أمره حتى جرى عليه ما جرى. و أعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين ع إني أتهمك و تظاهره بذلك و تلقيه إياه في وجهه بهذا القول مع بعده من التهمة و الظنة في كل شي ء و في أمره خاصة فإن القوم في الدفعة الأولى أرادوا أن يعجلوا له ما أخبروه حتى قام أمير المؤمنين ع بأمره و توسطه و

(4/18)


أصلحه و أشار عليه بأن يقاربهم و يعينهم حتى انصرفوا عنه و هذا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 23فعل النصيح المشفق الحدب المتحنن و لو كان ع و حوشي من ذلك متهما عليه لما كان للتهمة عليه مجال في أمر الكتاب خاصة لأن الكتاب بخط عدوه مروان و في يد غلام عثمان و محمول على بعيره و مختوم بخاتمه فأي ظن تعلق بأمير المؤمنين ع في هذالمكان لو لا العداوة و قلة الشكر للنعمة. و لقد قال له المصريون لما جحد أن يكون الكتاب كتابه شيئا لا زيادة عليه في باب الحجة لأنهم قالوا له إذا كنت ما كتبت و لا أمرت به فأنت ضعيف من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك بما تختمه بخاتمك و ينفذه بيد غلامك و على بعيرك بغير أمرك و من تم عليه ذلك لا يصلح أن يكون واليا على أمور المسلمين فاختلع عن الخلافة على كل حال. قال و لقد كان يجب على صاحب المغني أن يستحيي من قوله إن أمير المؤمنين ع قبل عذره و كيف يقبل عذر من يتهمه و يستغشه و هو له ناصح و ما قاله أمير المؤمنين ع بعد سماع هذا القول منه معروف. و قوله إن الكتاب يجوز فيه التزوير ليس بشي ء لأنه لا يجوز التزوير في الكتاب و الغلام و البعير و هذه الأمور إذا انضاف بعضها إلى بعض بعد فيها التزوير و قد كان يجب على كل حال أن يبحث عن القصة و عمن زور الكتاب و أنفذ الرسول و لا ينام عن ذلكحتى يعرف من أين دهي و كيف تمت الحيلة عليه فيحترز من مثلها و لا يغضي عن ذلك إغضاء ساتر له خائف من بحثه و كشفه. فأما قوله إنه و إن غلب على الظن أن مروان كتب الكتاب فإن الحكم بالظن لا يجوز و تسليمه إلى القوم على ما سألوه إياه ظلم لأن الحد و الأدب إذا وجب عليه فالإمام يقيمه دونهم فتعلل بما لا يجدي لأنا لا نعمل إلا على قوله في أنه لم يعلم أن شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 24مروان هو الذي كتب الكتاب و إنما غلب على ظنه أ ما كان يستحق مروان بهذا الظن بعض التعنيف و الزجر و التهديد أ و ما كان يجب مع وقوع التهمة عليه و ق

(4/19)


الأمارات في أنه جالب الفتنة و سبب الفرقة أن يبعده عنه و يطرده من داره و يسلبه ما كان يخصه به من إكرامه و ما في هذه الأمور أظهر من أن ينبه له. فأما قوله إن الأمر بالقتل لا يوجب قودا و لا دية سيما قبل وقوع القتل المأمور به فهب أن ذلك على ما قال أ ما أوجب الله تعالى على الأمر بقتل المسلمين تأديبا و لا تعزيرا و لا طردا و لا إبعادا. و قوله لم يثبت ذلك قد مضى ما فيه و بين أنه لم يستعمل فيه ما يجب استعماله من البحث و الكشف و تهديد المتهم و طرده و إبعاده و التبرؤ من التهمة بما يتبرأ به من مثلها. فأما قوله إن قتله ظلم و كذلك حبسه في الدار و منعه من الماء و إنه لو استحق القتل أو الخلع لا يحل أن يمنع الطعام و الشراب و قوله إن من لم يدفع عن ذلك من الصحابة يجب أن يكون مخطئا و قوله إن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس فباطل لأن الذين قتلوه غير منكر أن يكونوا تعمدوا قتله و إنما طالبوه بأن يخلع نفسه لما ظهر لهم من أحداثه و يعتزل عن الأمر اعتزالا يتمكنون معه من إقامة غيره فلج و صمم على الامتناع و أقام على أمر واحد فقصد القوم بحصره أن يلجئوه إلى خلع نفسه فاعتصم بداره و اجتمع إليه نفر من أوباش بني أمية يدفعون عنه و يرمون من دنا إلى الدار فانتهى الأمر إلى القتال بتدريج ثم إلى القتل و لم يكن القتال و لا القتل مقصودين في الأصل و إنما أفضى الأمر إليهما على ترتيب و جرى ذلك مجرى

(4/20)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 25ظالم غلب إنسانا على رحله أو متاعه فالواجب على المغلوب أن يمانعه و يدافعه ليخلص ماله من يده و لا يقصد إلى إتلافه و لا قتله فإن أفضى الأمر إلى ذلك بلا قصد كان معذورا و إنما خاف القوم في التأني به و الصبر عليه إلى أن يخلع نفسه مكتبه التي طارت في الآفاق يستنصر عليهم و يستقدم الجيوش إليهم و لم يأمنوا أن يرد بعض من يدفع عنه فيؤدي ذلك إلى الفتنة الكبرى و البلية العظمى. و أما منع الماء و الطعام فما فعل ذلك إلا تضييقا عليه ليخرج و يحوج إلى الخلع الواجب عليه و قد يستعمل في الشريعة مثل ذلك فيمن لجأ إلى الحرم من ذوي الجنايات و تعذر إقامة الحد عليه لمكان الحرم على أن أمير المؤمنين ع قد أنكر منع الماء و الطعام و أنفذ من مكن من حمل ذلك لأنه قد كان في الدار من الحرم و النسوان و الصبيان من لا يحل منعه من الطعام و الشراب و لو كان حكم المطالبة بالخلع و التجمع عليه و التضافر فيه حكم منع الطعام و الشراب في القبح و المنكر لأنكره أمير المؤمنين ع و منع منه كما منع من غيره فقد روي عنه ع أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا الدار من الماء قال لا أرى ذلك إن في الدار صبيانا و عيالا لا أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم عثمان فصرح بالمعنى الذي ذكرناه و معلوم أن أمير المؤمنين ع ما أنكر المطالبة بالخلع بل كان مساعدا على ذلك و مشاورا فيه. فأما قوله إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع فقد بينا أنه لا ينكر أن يكون قتله وقع على ذلك الوجه لأنه في تمسكه بالولاية عليهم و هو لا يستحقها في حكم الظالم لهم فمدافعته واجبة شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 26و أما قصة الكتاب الموجود فلم يحكها على الوجه و قد شرحنا نحن الرواية الواردة بها. و أما قوله إنه قال إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب مستغفر فقد أجابه القوم عن هذا و قالوا هكذا قلت في المرة الأولى و خطبت على المنبر بالتوبة و الاغفار ثم وجدنا كتابك بما

(4/21)


يقتضي الإصرار على أقبح ما عتبنا منه فكيف نثق بتوبتك و استغفارك. فأما قوله إن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة و أنه لا يمتنع أن يكون إنما وقع على سبيل المدافعة. فأما ادعاؤه أنه منع من نصرته و أقسم على عبيده بترك القتال فقد كان ذلك لعمري في ابتداء الأمر ظنا منه أن الأمر ينصلح و القوم يرجعون عما هموا به فلما اشتد الأمر و وقع اليأس من الرجوع و النزوع لم يمنع أحدا من نصرته و المحاربة عنه و كيف يمنع من ذلك و قد بعث إلى أمير المؤمنين ع يستنصره و يستصرخه. و الذي يدل على أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم إلا للوجه الذي ذكرناه دون غيره أنه لا خلاف بين أهل الرواية غب عن نصرة الحاضر من يستدعي نصرة الغائب. فأما قوله إن أميفي أن كتبه تفرقت في الآفاق يستنصر و يستدعي الجيوش فكيف يرر المؤمنين ع أراد أن يأتيه حتى منعه ابنه محمد فقول بعيد مما جاءت به الرواية جدا لأنه لا إشكال في أن أمير المؤمنين ع لما واجهه عثمان بأنه يتهمه و يستغشه انصرف مغضبا عامدا على أنه لا يأتيه أبدا قائلا فيه ما يستحقه من الأقوال.

(4/22)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 27فأما قوله في جواب سؤال من قال إنهم اعتقدوا فيه أنه من المفسدين في الأرض و أن آية المحاربة تتناوله و أنه قد كان يجب أن يتولى الإمام ذلك الفعل بنفسه لأن ذلك يجري مجرى الحد فطريف لأن الإمام يتولى ما يجري هذا المجرى إذا كان منصوبثابتا و لم يكن على مذهب القوم هناك إمام يجوز أن يتولى ما يجري مجرى الحدود و متى لم يكن إمام يقوم بالدفع عن الدين و الذب عن الأمة جاز أن تتولى الأمة ذلك بنفوسها. قال و ما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا أن أصحاب الرسول ص كانوا كارهين لما جرى على عثمان و أنهم كانوا يعتقدونه منكرا و ظلما و هذا يجري عند من تأمله مجرى دفع الضرورات قبل النظر في الأخبار و سماع ما ورد من شرح هذه القصة لأنه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة أو أكثرهم في دار عزهم و بحيث ينفذ أمرهم و نهيهم لا يجوز أن يتم و معلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة فيغلبوا جميع المسلمين على آرائهم و يفعلوا بإمامهم ما يكرهونه بمرأى منهم و مسمع و هذا معلوم بطلانه بالبداهة و الضرورات قبل تصفح الأخبار و تأملها و قد روى الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبي جعفر القارئ مولى بني مخزوم قال كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي و كنانة بن بشر الكندي و عمرو بن الحمق الخزاعي و الذين قدموا المدينة من الكوفة مائتين عليهم مالك الأشتر النخعي و الذين قدموا من البصرة مائة رجل رئيسهم حكيم بن جبلة العبدي و كان أصحاب النبي ص الذين خذلوه لا يرون أن الأمر يبلغ به القتل و لعمري لو قام بعضهم فحثا التراب في وجوه أولئك لانصرفوا و هذه الرواية تضمنت من عدد القوم الوافدين في هذا الباب أكثر مما تضمنه غيرها. و روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال قلت له شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : كيف لم يمنع أصحاب رسول الله ص عن عثمان فقال إنما قتله أصحاب رسول

(4/23)


الله ص. و روي عن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله ص فقال نعم شهده ثمانمائة. و كيف يقال إن القوم كانوا كارهين و هؤلاء المصريون كانوا يغدون إلى كل واحد منهم و يروحون و يشاورونه فيما يصنعونه و هذا عبد الرحمن بن عوف و هو عاقد الأمر لعثمان و جالبه إليه و مصيره في يده يقول على ما رواه الواقدي و قد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه فبلغ ذلك عثمان فبعث إلى بئر كان عبد الرحمن يسقي منها نعمه فمنع منها و وصى عبد الرحمن ألا يصلي عليه عثمان فصلى عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص و قد كان حلف لما تتابعت أحداث عثمان ألا يكلمه أبدا. و روى الواقدي قال لما توفي أبو ذر بالربذة تذاكر أمير المؤمنين ع و عبد الرحمن فعل عثمان فقال أمير المؤمنين ع له هذا عملك فقال عبد الرحمن فإذا شئت فخذ سيفك و آخذ سيفي إنه خالف ما أعطاني. فأما محمد بن مسلمة فإنه أرسل إليه عثمان يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة الثانية اردد عني فقال لا و الله لا أكذب الله في سنة مرتين و إنما عنى بذلك أنه كان أحد من كلم المصريين في الدفعة الأولى و ضمن لهم عن عثمان الرضا. و في رواية الواقدي أن محمد بن مسلمة كان يموت و عثمان محصور فيقال له عثمان مقتول فيقول هو قتل نفسه.

(4/24)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 29فأما كلام أمير المؤمنين ع و طلحة و الزبير و عائشة و جميع الصحابة واحدا واحدا فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح و من أراد أن يقف على أقوالهم مفصلة و ما صرحوا به من خلعه و الإجلاب عليه فعليه بكتاب الواقدي فقد ذكر هو و غيره من ذلك لا زيادة عليه. الطعن الثاني كونه رد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة و قد كان رسول الله ص طرده و امتنع أبو بكر من رده فصار بذلك مخالفا للسنة و لسيرة من تقدمه مدعيا على رسول الله ص عاملا بدعواه من غير بينة. قال قاضي القضاة رحمه الله و جوابنا عن ذلك أن المروي في الأخبار أنه لما عوتب في ذلك ذكر أنه استأذن رسول الله ص فيه و إنما لم يقبل أبو بكر و عمر قوله لأنه شاهد واحد و كذلك روي عنهما فكأنهما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تختص فلم يقبلا فيه خبر الواحد و أجرياه مجرى الشهادة فلما صار الأمر إليه حكم بعلمه لأن للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب و في غيره عند شيخينا و لا يفصلان بين حد و حق و لا بين أن يكون العلم قبل الولاية أو حال الولاية و يقولان إنه أقوى من البينة و الإقرار. و قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى إنه لا وجه يقطع به على كذب روايته في إذن شرح نهج البلاغج : 3 ص : 30النبي ص في رده و لا بد من تجويز كونه صادقا و في تجويز ذلك كونه معذورا. فإن قيل الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة و قد كانت التهمة في رد الحكم قوية لقرابته. قيل الواجب على غيره ألا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لأنه قد نصب منصبا يقتضي زوال التهمة عنه و حمل أفعاله على الصحة و متى طرقنا عليه التهمة أدى إلى بطلان كثير من الأحكام و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط رحمه الله تعالى إنه لو لم يكن في رده إذن من رسول الله ص لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد لأن النفي إذا كان صلاحا في الحال لا يمتنع أن يتغير حكمه باختلاف الأوقات و تغير حال المنفي و إذا كان لأبي بكر أن

(4/25)


يسترد عمر من جيش أسامة للحاجة إليه و إن كان قد أمر رسول الله ص بنفوذه من حيث تغيرت الحال فغير ممتنع مثله في الحكم. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى على هذا فقال أما دعواه أن عثمان ادعى أن رسول الله ص أذن في رد الحكم فشي ء لم يسمع إلا من قاضي القضاة و لا يدرى من أين نقله و لا في أي كتاب وجده و الذي رواه الناس كلهم خلاف ذلك روى الواقدي من طرق مختلفة و غيره أن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح أخرجه النبي ص إلى الطائف و قال لا تساكني في بل أبدا فجاءه عثمان فكلمه فأبى ثم كان من أبي بكر مثل ذلك ثم كان من عمر مثل ذلك فلما قام عثمان أدخله و وصله و أكرمه فمشى في ذلك علي و الزبير و طلحة و سعد و عبد الرحمن بن عوف

(4/26)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 31و عمار بن ياسر حتى دخلوا على عثمان فقالوا له إنك قد أدخلت هؤلاء القوم يعنون الحكم و من معه و قد كان النبي ص أخرجهم و إنا نذكرك الله و الإسلام و معادك فإن لك معادا و منقلبا و قد أبت ذلك الولاة قبلك و لم يطمع أحد أن يكلمها فيهم هذا شي ء نخاف الله فيه عليك فقال عثمان إن قرابتهم مني ما تعلمون و قد كان رسول الله ص حيث كلمته أطعمني في أن يأذن لهم و إنما أخرجهم لكلمة بلغته عن الحكم و لم يضركم مكانهم شيئا و في الناس من هو شر منهم فقال علي ع لا أجد شرا منه و لا منهم ثم قال هل تعلم عمريقول و الله ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس و الله إن فعل ليقتلنه فقال عثمان ما كان منكم أحد ليكون بينه و بينه من القرابة ما بيني و بينه و ينال من المقدرة ما نلت إلا قد كان سيدخله و في الناس من هو شر منه قال فغضب علي ع و قال و الله لتأتينا بشر من هذا إن سلمت و سترى يا عثمان غب ما تفعل ثم خرجوا من عنده. و هذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب المغني لأن الرجل لما احتفل ادعى أن رسول الله ص كان أطمعه في رده ثم صرح بأن رعايته فيه القرابة هي الموجبة لرده و مخالفة الرسول ع و قد روي من طرق مختلفة أن عثمان لما كلم أبا بكر و عمر في رد الحكم أغلظا له و زبراه و قال له عمر يخرجه رسول الله ص و تأمرني أن أدخله و الله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل غير عهد رسول الله ص و الله لأن أشق باثنتين كما تشق الأبلمة أحب إلى من أن أخالف لرسول الله أمرا و إياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم و ما رأينا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 32عثمان قال في جواب هذا التعنيف و التوبيخ من أبي بكر و عمر إن عندي عهدا من رسول الله ص فيه لا أستحق معه عتابا و لا تهجينا و كيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله ص معظم له أن يأتي إلى عدو رسول الله ص مصرح بعداوته الوقيعة فيه حتى بلغ به الأمر إلى أن كان يحكى مشيته طرده رسول الله و

(4/27)


أبعده و لعنه حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله ص فيكرمه و يرده إلى حيث أخرج منه و يصله بالمال العظيم إما من مال المسلمين أو من ماله إن هذا لعظيم كبير قبل التصفح و التأمل و التعلل بالتأويل الباطل. فأما قول صاحب المغني إن أبا بكر و عمر لم يقبلا قوله لأنه شاهد واحد و جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص فأول ما فيه أنه لم يشهد عندهما بشي ء واحد في باب الحكم على ما رواه جميع الناس ثم ليس هذا من باب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين بل هو بمنزلة كل ما يقل فيه أخبار الآحاد و كيف يجوز أن يجري أبو بكر و عمر مجرى الحقوق ما ليس منها و قوله لا بد من تجويز كونه صادقا في روايته لأن القطع على كذب روايته لا سبيل إليه ليس بشي ء لأنا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول ص إذنا إنما ادعى أنه أطمعه في ذلك و إذا جوزنا كونه صادا في هذه الرواية بل قطعنا على صدقه لم يكن معذورا. فأما قوله الواجب على غيره ألا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لانتصابه منصبا يزيل التهمة فأول ما فيه أن الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة و التهمة قد تكون لها أمارات و علامات فما وقع منها عن أمارات و أسباب تتهم في العادة كان مؤثرا و ما لم يكن كذلك فلا تأثير له و الحكم هو عم عثمان و قريبه و نسيبه و من

(4/28)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 33قد تكلم في رده مرة بعد أخرى و لوال بعد وال و هذه كلها أسباب التهمة فقد كان يجب أن يتجنب الحكم بعلمه في هذا الباب خاصة لتطرق التهمة إليه. فأما ما حكاه عن أبي الحسين الخياط من أن الرسول ص لو لم يأذن في رده لجاز أن يرده إذا أداهجتهاده إلى ذلك لأن الأحوال قد تتغير فظاهر البطلان لأن الرسول ع إذا حظر شيئا أو أباحه لم يكن لأحد أن يجتهد في إباحة المحظور أو حظر المباح و من يجوز الاجتهاد في الشريعة لا يقدم على مثل هذا لأنه إنما يجوز عندهم فيما لا نص فيه و لو سوغنا الاجتهاد في مخالفة ما تناوله النص لم يؤمن أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر و إسقاط الصلاة بأن تتغير الحال و هذا هدم للشريعة فأما الاستشهاد باسترداد عمر من جيش أسامة فالكلام في الأمرين واحد. الطعن الثالث أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي عدة المسلمين نحو ما روي أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار و أعطى مروان مائة ألف عند فتح إفريقية و يروى خمس إفريقية و غير ذلك و هذا بخلاف سيرة من تقدمه في القسمة على الناس بقدر الاستحقاق و إيثار الأباعد على الأقارب. قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك أن من الظاهر المشهور أن عثمان كان عظيم اليسار كثير المال فلا يمتنع أن يكون إنما أعطى أهل بيته من ماله و إذا احتمل ذلك وجب حمله على الصحة. و قد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى أن الذي روي من دفعه إلى ثلاثة نفر من قريش زوجهم بناته إلى كل واحد منهم مائة ألف دينار إنما هو من ماله و لا رواية شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 34تصح أنه أعطاهم ذلك من بيت المال و لو صح ذلك لكان لا يمتنع أن يكون أعطاهم من بيت المال ليرد عوضه من ماله لأن للإمام عند الحاجة أن يفعل ذلك كما له أن يقرض غيره. و قال شيخنا أبو علي أيضا أن ما روي من عه خمس إفريقية لما فتحت إلى مروان ليس بمحفوظ و لا منقول على وجه يجب

(4/29)


قبوله و إنما يرويه من يقصد التشنيع و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط أن ابن أبي سرح لما غزا البحر و معه مروان في الجيش ففتح الله عليهم و غنموا غنيمة عظيمة اشترى مروان من ابن أبي سرح الخمس بمائة ألف و أعطاه أكثرها ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح و قد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب له ما بقي عليه من المال و للإمام فعل مثل ذلك ترغيبا في مثل هذه الأمور. قال و هذا الصنع كان منه في السنة الأولى من إمامته و لم يبرأ أحد منه فيها فلا وجه للتعلق بذلك. و ذكر أبو الحسين الخياط أيضا فيما أعطاه أقاربه أنه وصلهم لحاجتهم فلا يمتنع مثله في الإمام إذا رآه صلاحا و ذكر في إقطاعه القطائع لبني أمية أن الأئمة قد تحصل في أيديهم الضياع لا مالك لها و يعلمون أنها لا بد فيها ممن يقوم بإصلاحها و عمارتها و يؤدى عنها ما يجب من الحق فله أن يصرف من ذلك إلى من يقوم به و له أيضا أن يهد بعضها على بعض بحسب ما يعلم من الصلاح و التألف و طريق ذلك الاجتهاد. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما قوله يجوز أن يكون إنما أعطاهم من ماله فالرواية بخلاف ذلك و قد صرح الرجل بأنه كان يعطي من بيت المال

(4/30)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 35صلة لرحمه و لما عوتب على ذلك لم يعتذر عنه بهذا الضرب من العذر و لا قال إن هذه العطايا من مالي فلا اعتراض لأحد فيها روى الواقدي بإسناده عن المسور بن عتبة قال سمعت عثمان يقول إن أبا بكر و عمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف أنفسه و ذوي أرحامهما و إني تأولت فيه صلة رحمي. و روي عنه أيضا أنه كان بحضرته زياد بن عبيد مولى الحارث بن كلدة الثقفي و قد بعث إليه أبو موسى بمال عظيم من البصرة فجعل عثمان يقسمه بين ولده و أهله بالصحاف فبكى زياد فقال لا تبك فإن عمر كان يمنع أهله و ذوي قرابته ابتغاء وجه الله و أنا أعطي أهلي و ولدي و قرابتي ابتغاء وجه الله. و قد روي هذا المعنى عنه من عدة طرق بألفاظ مختلفة. و روى الواقدي أيضا بإسناده قال قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص و روى أيضا أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها و روى أبو مخنف و الواقدي أن الناس أنكروا على عثمان إعطاء سعيد بن العاص مائة ألف و كلمه علي و الزبير و طلحة و سعد و عبد الرحمن في ذلك فقال إن له قرابة و رحما قالوا فما كان لأبي بكر و عمر قرابة و ذوو رحم فقال إن أبا بكر و عمر كان يحتسبان في منع قرابتهما و أنا أحتسب في إعطاء قرابتي قالوا فهديهما و الله أحب إلينا من هديك. و روى أبو مخنف أن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية قدم على عثمان من مكة و معه ناس فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف و لكل واحد من القوم بمائة ألف شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 36و صك بذلك على عبد الله بن الأرقم و كان خازن بيت المال فاستكثره و رد الصك به و يقال إنه سأل عثمان أن يكتب عليه بذلك كتابا فأبى و امتنع ابن الأرقم أن يدفع المال إلى القوم فقال له عثمان إنما أنت خازن لنا فما حملك على ماعلت فقال ابن الأرقم كنت أراني خازن المسلمين و إنما خازنك غلامك و

(4/31)


الله لا إلي لك بيت المال أبدا و جاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر و يقال بل ألقاها إلى عثمان فرفعها إلى نائل مولاه. و روى الواقدي أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت مال المسلمين إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل ثلاثمائة ألف درهم فلما دخل بها عليه قال له يا أبا محمد إن أمير المؤمنين أرسل إليك يقول إنا قد شغلناك عن التجارة و لك ذوو رحم أهل حاجة ففرق هذا المال فيهم و استعن به على عيالك فقال عبد الله بن الأرقم ما لي إليه حاجة و ما عملت لأن يثيبني عثمان و الله إن كان هذا من بيت مال المسلمين ما بلغ قدر عملي أن أعطى ثلاثمائة ألف و لئن كان من مال عثمان ما أحب أن أرزأه من ماله شيئا و ما في هذه الأمور أوضح من أن يشار إليه و ينبه عليه. فأما قوله و لو صح أنه أعطاهم من بيت المال لجاز أن يكون ذلك على طريق القرض فليس بشي ء لأن الروايات أولا تخالف ما ذكره و قد كان يجب لما نقم عليه وجوه الصحابة إعطاء أقاربه من بيت المال أن يقول لهم هذا على سبيل القرض و أنا أرد عوضه و لا يقول ما تقدم ذكره من أنني أصل به رحمي على أنه ليس للإمام أن يقترض من بيت مال المسمين إلا ما ينصرف في مصلحة لهم مهمة يعود عليهم نفعها أو في سد خلة و فاقة لا يتمكنون من القيام بالأمر معها فأما أن يقرض المال ليتسع به

(4/32)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 37و يمرح فيه مترفي بني أمية و فساقهم فلا أحد يجيز ذلك. فأما قوله حاكيا عن أبي علي إن دفعه خمس إفريقية إلى مروان ليس بمحفوظ و لا منقول فباطل لأن العلم بذلك يجري مجرى العلم بسائر ما تقدم و من قرأ الأخبار علم ذلك على وجه لا يعترض ه شك كما يعلم نظائره. روى الواقدي عن أسامة بن زيد عن نافع مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير قال أغزانا عثمان سنة سبع و عشرين إفريقية فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فاعطى عثمان مروان بن الحكم تلك الغنائم و هذا كما ترى يتضمن الزيادة على إعطاء الخمس و يتجاوزه إلى إعطاء الأصل. و روى الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن أم بكر بنت المسور قالت لما بنى مروان داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه و كان المسور ممن دعاه فقال مروان و هو يحدثهم و الله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين درهما فما فوقه فقال المسور لو أكلت طعامك و سكت كان خيرا لك لقد غزوت معنا إفريقية و إنك لأقلنا مالا و رقيقا و أعوانا و أخفنا ثقلا فأعطاك ابن عمك خمس إفريقية و عملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين. و روى الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف أن مروان ابتاع خمس إفريقية بمائتي ألف درهم و مائتي ألف دينار و كلم عثمان فوهبها له فأنكر الناس ذلك على عثمان و هذا بعينه هو الذي اعترف به أبو الحسين الخياط و اعتذر عنه بأن قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه من الخمس لما جاءه بشيرا بالفتح على سبيل الترغيب و هذا الاعتذار ليس بشي ء لأن الذي رويناه من الأخبار في هذا الباب خال من البشارة و إنما يقتضي أنه سأله ترك ذلك عليه فتركه و ابتدأ هو بصلته و لو أتى بشيرا بالفتح كما ادعوا لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة العائد نفعه على المسلمين شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 38لأن تلك البش لا تبلغ إلى أن يستحق البشير بها مائتي ألف درهم و لا اجتهاد في مثل

(4/33)


هذا و لا فرق بين من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى مثله و من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها و من ارتكب ذلك ألزم جواز أن يؤدي الاجتهاد إلى إعطاء هذا البشير جميع أموال المسلمين في الشرق و الغرب. فأما قوله إنه وصل بني عمه لحاجتهم و رأى في ذلك صلاحا فقد بينا أن صلاته لهم كانت أكثر مما تقتضيه الخلة و الحاجة و أنه كان يصل فيهم المياسير ثم الصلاح الذي زعم أنه رآه لا يخلو إما أن يكون عائدا على المسلمين أو على أقاربه فإن كان على المسلمين فمعلوم ضرورة أنه لا صلاح لأحد من المسلمين في إعطاء مروان مائتي ألف دينار و الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم و ابن أسيد ثلاثمائة ألف درهم إلى غير ما ذكرنا بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر و إن أراد الصلاح الراجع إلى الأقارب فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين و ينفعهم بما يضر به المسلمين. و أما قوله إن القطائع التي أقطعها بني أمية إنما أقطعهم إياها لمصلحة تعود على المسلمين لأن تلك الضياع كانت خرابا لا عامر لها فسلمها إلى من يعمرها و يؤدي الحق عنه فأول ما فيه أنه لو كان الأمر على ما ذكره و لم تكن هذه القطائع على سبيل الصلة و المعونة لأقاربه لما خفي ذلك على الحاضرين و لكانوا لا يعدون ذلك من مثالبه و لا يواقفونه عليه في جملة ما واقفوه عليه من أحداثه ثم كان يجب لو فعلوا ذلك أن يكون جوابه بخلاف ما روي من جوابه لأنه كان يجب أن يقول لهم و أي منفعة في هذه القطائع عائدة على قرابتي حتى تعدوا ذلك من جملة صلاتي لهم و إيصالي المنافع إليهم و إنما جعلتهم فيها بمنزلة الأكرة الذين ينتفع بهم أكثر من انتفاعهم أنفسهم و ما كان

(4/34)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 39يجب أن يقول ما تقدمت روايته من أني محتسب في إعطاء قرابتي و أن ذلك على سبيل الصلة لرحمي إلى غير ذلك مما هو خال من المعنى الذي ذكره. الطعن الرابع إنه حمى الحمى عن المسلمين مع أن رسول الله ص جعلهم سواء في الماء و الكلأ. قال قاضيلقضاة و جوابنا عن ذلك إنه لم يحم الكلأ لنفسه و لا استأثر به لكنه حماه لإبل الصدقة التي منفعتها تعود على المسلمين و قد روي عنه هذا الكلام بعينه و أنه قال إنما فعلت ذلك لإبل الصدقة و قد أطلقته الآن و أنا أستغفر الله و ليس في الاعتذار ما يزيد عن ذلك. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما أولا فالمروي بخلاف ما ذكر لأن الواقدي روى بإسناده قال كان عثمان يحمي الربذة و الشرف و البقيع فكان لا يدخل الحمى بعير له و لا فرس و لا لبني أمية حتى كان آخر الزمان فكان يحمي الشرف لإبله و كانت ألف بعير و لإبل الحكم بن أبي العاص و يحمي الربذة لإبل الصدقة و يحمي البقيع لخيل المسلمين و خيله و خيل بني أمية. قال على أنه لو كان إنما حماه لإبل الصدقة لم يكن بذلك مصيبا لأن الله تعالى و رسوله أباحا الكلأ و جعلاه مشتركا فليس لأحد أن يغير هذه الإباحة و لو كان شرح نهج البلاغة : 3 ص : 40في هذا الفعل مصيبا و أنه إنما حماه لمصلحة تعود على المسلمين لما جاز أن يستغفر الله منه و يعتذر لأن الاعتذار إنما يكون من الخطإ دون الصواب. الطعن الخامس إنه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة و غيرها و ذلك مما لا يحل في الدين قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك أنه إنما جاز له ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة و استغناء أهل الصدقة ففعل ذلك على سبيل الإفراض و قد فعل رسول الله ص مثله و للإمام في مثل هذه الأمور أن يفعل ما جرى هذا المجرى لأن عند الحاجة ربما يجوز له أن يقترض من الناس فأن يجوز له أن يتناول من مال في يده ليرد عوضه من المال الآخر أولى. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا

(4/35)


الكلام فقال إن المال الذي جعل الله تعالى له جهة مخصوصة لا يجوز أن يعدل به عن جهته بالاجتهاد و لو كانت المصلحة في ذلك موقوفة على الحاجة لشرطها الله تعالى في هذا الحكم لأنه سبحانه أعلم بالمصالح و اختلافها منا و لكان لا يجعل لأهل الصدقة منها القسط مطلقا. و أما قوله إن الرسول ص فعل مثله فهي دعوى مجردة من برهان و قد كان يجب أن يروي ما ذكر في ذلك و أما ما ذكره من الاقتراض فأين كان عثمان عن هذا العذر لما ووقف عليه. الطعن السادس أنه ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه

(4/36)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 41قال قاضي القضاة قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى لم يثبت عندنا و لا صح عندنا ما يقال من طعن عبد الله عليه و إكفاره له و الذي يصح من ذلك أن عبد الله كره منه جمعه الناس على قراءة زيد بن ثابت و إحراقه المصاحف و ثقل ذلك عليه كماثقل على الواحد منا تقديم غيره عليه. و قد قيل إن بعض موالي عثمان ضربه لما سمع منه الوقيعة في عثمان و لو صح أنه أمر بضربة لم يكن بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود لأن للإمام تأديب غيره و ليس لغيره الوقيعة فيه إلا بعد البيان و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عابه لعزله إياه و قد روي أن عثمان اعتذر إليه فلم يقبل عذره و لما أحضر إليه عطاءه في مرضه قال ابن مسعود منعتني إياه إذ كان ينفعني و جئتني به عند الموت لا أقبله و أنه وسط أم حبيبة زوج النبي ص ليزيل ما في نفسه فلم يجب و هذا يوجب ذم ابن مسعود إذ لم يقبل الندم و يوجب براءة عثمان من هذا العيب لو صح ما صح ما رووه من ضربه. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال المعلوم المروي خلاف ما ذكره أبو علي و لا يختلف أهل النقل في طعن ابن مسعود على عثمان و قوله فيه أشد الأقوال و أعظمها و العلم بذلك كالعلم بكل ما يدعى فيه الضرورة و قد روى كل من روى السيرة من أصحاب الحديث على اختلاف طرقهم أن ابن مسعود كان يقول ليتني و عثمان برمل عالج يحثو علي و أحثو عليه حتى يموت الأعجز مني و منه. و رووا أنه كان يطعن عليه فيقال له أ لا خرجت عليه ليخرج معك فيقول لأن أزاول جبلا راسيا أحب إلى من أن أزاول ملكا مؤجلا. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 42و كان يقوم كل يوم جمعة بالكوفة جاهرا معلنا أن أصدق القول كتاب الله و أحسن الهدي هدي محمد و شر الأمور محدثاتها و كل محدث بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في الناو إنما كان يقول ذلك معرضا بعثمان حتى غضب الوليد بن عقبة من استمرار

(4/37)


تعريضه و نهاه عن خطبته هذه فأبى أن ينتهي فكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان يستقدمه عليه. و روي أنه لما خرج عبد الله بن مسعود إلى المدينة مزعجا عن الكوفة خرج الناس معه يشيعونه و قالوا له يا أبا عبد الرحمن ارجع فو الله لا نوصله إليك أبدا فإنا لا نأمنه عليك فقال أمر سيكون و لا أحب أن أكون أول من فتحه. و قد روي عنه أيضا من طرق لا تحصى كثرة أنه كان يقول ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب و تعاطى ما روي عنه في هذا الباب يطول و هو أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه و أنه بلغ من إصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة أن قال لما حضره الموت من يتقبل مني وصية أوصيه بها على ما فيها فسكت القوم و عرفوا الذي يريد فأعادها فقال عمار بن ياسر رحمه الله تعالى أنا أقبلها فقال ابن مسعود ألا يصلي علي عثمان قال ذلك لك فيقال إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك فقال له قائل أن عمارا ولي الأمر فقال لعمار ما حملك على أن لم تؤذني فقال عهد إلي ألا أوذنك فوقف على قبره و أثنى عليه ثم انصرف و هو يقول رفعتم و الله أيديكم عن خير من بقي فتمثل الزبير بقول الشاعر
لا ألفينك بعد الموت تندبني و في حياتي ما زودتني زادي

(4/38)


و لما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائدا فقال ما تشتكي فقال ذنوبي قال فما تشتهي قال رحمة بي قال أ لا أدعو لك طبيبا قال شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 43الطبيب أمرضني قال أ فلا آمر لك بعطائك قال منعتنيه و أنا محتاج إليه و تعطينيه و أنا مستغن عنه ل يكون لولدك قال رزقهم على الله تعالى قال استغفر لي يا أبا عبد الرحمن قال أسأل الله أن يأخذ لي منك حقي. قال و صاحب المغني قد حكى بعض هذا الخبر في آخر الفصل الذي حكاه من كلامه و قال هذا يوجب ذم ابن مسعود من حيث لم يقبل العذر و هذا منه طريف لأن مذهبه لا يقتضي قبول كل عذر ظاهر و إنما يجب قبول العذر الصادق الذي يغلب في الظن أن الباطن فيه كالظاهر فمن أين لصاحب المغني أن اعتذار عثمان إلى ابن مسعود كان مستوفيا للشرائط التي يجب معها القبول و إذا جاز ما ذكرناه لم يكن على ابن مسعود لوم في الامتناع من قبول عذره. فأما قوله إن عثمان لم يضربه و إنما ضربه بعض مواليه لما سمع وقيعته فيه فالأمر بخلاف ذلك و كل من قرأ الأخبار علم أن عثمان أمر بإخراجه عن المسجد على أعنف الوجوه و بأمره جرى ما جرى عليه و لو لم يكن بأمره و رضاه لوجب أن ينكر على مولاه كسر ضلعه و يعتذر إلى من عاتبه على فعله بابن مسعود بأن يقول إني لم آمر بذلك و لا رضيته من فاعله و قد أنكرت عليه فعله. و في علمنا بأن ذلك لم يكن دليل على ما قلنا و قد روى الواقدي بإسناده و غيره أن ابن مسعود لما استقدم المدينة دخلها ليلة جمعة فلما علم عثمان بدخوله قال أيها الناس إنه قد طرقكم الليلة دويبة من تمشي على طعامه يقي ء و يسلح فقال ابن مسعود لست كذلك و لكنني صاحب رسول الله ص يوم بدر و صاحبه يوم أحد و صاحبه يوم بيعة الرضوان و صاحبه يوم الخندق و صاحبه يوم حنين قال و صاحت عائشة يا عثمان أ تقول هذا لصاحب رسول الله ص فقال عثمان اسكتي ثمقال لعبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى بن قصي

(4/39)


أخرجه إخراجا عنيفا فأخذه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 44ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب مسجد فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه فقال ابن مسعود قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان و في رواية أخرى أن ا زمعة الذي فعل به ما فعل كان مولى لعثمان أسود مسدما طوالا و في رواية أخرى أن فاعل ذلك يحموم مولى عثمان و في رواية أنه لما احتمله ليخرجه من المسجد ناداه عبد الله أنشدك الله ألا تخرجني من مسجد خليلي ص. قال الراوي فكأني أنظر إلى حموشة ساقي عبد الله بن مسعود و رجلاه تختلفان على عنق مولى عثمان حتى أخرج من المسجد و هو الذي يقول فيه رسول الله ص لساقا ابن أم عبد أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد. و قد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أن عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه أبا ذر و هذه قصة أخرى و ذلك أن أبا ذر رحمه الله تعالى لما حضرته الوفاة بالربذة و ليس معه إلا امرأته و غلامه عهد إليهما أن غسلاني ثم كفناني ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمرون بكم قولوا لهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله ص فأعينونا على دفنه فلما مات فعلوا ذلك و أقبل ابن مسعود في ركب من العراق معتمرين فلم يرعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق قد كادت الإبل تطؤها فقام إليهم العبد فقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله ص فأعينونا على دفنه فانهل ابن مسعود باكيا و قال صدق رسول الله ص قال له تمشي وحدك و تموت وحدك و تبعث وحدك ثم نزل هو و أصحابه فواروه قال فأما قوله إن ذلك ليس بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود فواضح البطلان و إنما كان طعنا في عثمان دون ابن مسعود لأنه لا خلاف

(4/40)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 45بين الأمة في طهارة ابن مسعود و فضله و إيمانه و مدح رسول الله ص و ثنائه عليه و أنه مات على الجملة المحمودة منه و في جميع هذا خلاف بين المسلمين في عثمان. فأما قوله إن ابن مسعود كره جمع عثمان الناس على قراءة زيد و إحراقه المصاحفلا شك أن عبد الله كره ذلك كما كرهه جماعة من أصحاب رسول الله ص و تكلموا فيه و قد ذكر الرواة كلام كل واحد منهم في ذلك مفصلا و ما كره عبد الله من ذلك إلا مكروها و هو الذي
يقول رسول الله ص في حقه من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد
و روي عن ابن عباس رحمه الله تعالى أنه قال قراءة ابن أم عبد هي القراءة الأخيرة
إن رسول الله ص كان يعرض عليه القرآن في كل سنة من شهر رمضان فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه دفعتين فشهد عبد الله ما نسخ منه و ما صح فهي القراءة الأخيرة.
و روي عن الأعمش قال قال ابن مسعود لقد أخذت القرآن من في رسول الله ص سبعين سورة و إن زيد بن ثابت لغلام في الكتاب له ذؤابة

(4/41)


فأما حكايته عن أبي الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عاب عثمان لعزله إياه فعبد الله عند كل من عرفه بخلاف هذه الصورة و إنه لم يكن ممن يخرج على عثمان و يطعن في إمامته بأمر يعود إلى منفعة الدنيا و إن كان عزله بما لا شبهة فيه في دين و لا أمانة عيبا لا شك فيه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 46الطعن السابع أنه جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت خاصة و أحرق المصاحف و أبطل ما لا شك أنه نزل من القرآن و أنه مأخوذ عن الرسول ص و لو كان ذلك مما يسوغ لسبق إليه رسول الله ص و لفعله أبو بكر و عمر. قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك أن وجه في جمع القرآن على قراءة واحدة تحصين القرآن و ضبطه و قطع المنازعة و الاختلاف فيه و قولهم لو كان ذلك واجبا لفعله الرسول ص غير لازم لأن الإمام إذا فعله صار كأن الرسول ص فعله و لأن الأحوال في ذلك تختلف و قد روي أن عمر كان عزم على ذلك فمات دونه و ليس لأحد أن يقول إن إحراقه المصاحف استخفاف بالدين و ذلك لأنه إذا جاز من الرسول ص أن يخرب المسجد الذي بني ضرارا و كفرا فغير ممتنع إحراق المصاحف. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال إن اختلاف الناس في القراءة ليس بموجب لما صنعه لأنهم يروون
أن النبي ص قال نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف

(4/42)


فهذا الاختلاف عندهم في القرآن مباح مسند عن الرسول ص فكيف يحظر عليهم عثمان من التوسع في الحروف ما هو مباح فلو كان في القراءة الواحدة تحصين القرآن كما ادعى لما أباح النبي ص في الأصل إلا القراءة الواحدة لأنه أعلم بوجوه المصالح من جميع أمته من حيث كان مؤيدا بالوحي موفقا في كل ما يأتي و يذر و ليس له أن يقول حدث من الاختلاف في أيام عثمان ما لم يكن في أيام الرسول ص و لا ما أباحه و ذلك لأن الأمر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 47لو كان على هذا لوجب أن ينهى عن القراءة الحادثة و الأمر المبتدع و لا يحمله ما أحدث من القراءعلى تحريم المتقدم بلا شبهة. و قوله إن الإمام إذا فعل ذلك فكأن الرسول ص فعله تعلل بالباطل و كيف يكون كما ادعى و هذا الاختلاف بعينه قد كان موجودا في أيام الرسول ص فلو كان سبب الانتشار الزيادة في القرآن و في قطعه تحصين له لكان ع بالنهي عن هذا الاختلاف أولى من غيره اللهم إلا أن يقال حدث اختلاف لم يكن فقد قلنا فيه ما كفى. و أما قوله إن عمر قد كان عزم على ذلك فمات دونه فما سمعناه إلا منه و لو فعل ذلك أي فاعل كان لكان منكرا. فأما الاعتذار عن كون إحراق المصاحف لا يكون استخفافا بالدين بحمله إياه على تخريب مسجد الضرار فبين الأمرين بون بعيد لأن البنيان إنما يكون مسجدا و بيتا لله تعالى بنية الباني و قصده و لو لا ذلك لم يكن بعض البنيان بأن يكون مسجدا أولى من بعض و لما كان قصد الباني لذلك الموضع غير القربة و العبادة بل خلافها و ضدها من الفساد و المكيدة لم يكن في الحقيقة مسجدا و إن سمي بذلك مجازا على ظاهر الأمر فهدمه لا حرج فيه و ليس كذلك ما بين الدفتين لأنه كلام الله تعالى الموقر المعظم الذي يجب صيانته عن البذلة و الاستخفاف فأي نسبة بين الأمرين. الطعن الثامن أنه أقدم عمار بن ياسر بالضرب حتى حدث به فتق و لهذا صار أحد من ظاهر المتظلمين من أهل الأمصار على قتله و كان يقول قتلناه كافرا.

(4/43)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 48قال قاضي القضاة و قد أجاب شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى عن ذلك فقال إن ضرب عمار غير ثابت و لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله لم يجب أن يكون طعنا عليه لأن لمام تأديب من يستحق التأديب و مما يبعد صحة ذلك أن عمارا لا يجوز أن يكفره و لما يقع منه ما يستوجب به الكفر لأن الذي يكفر به الكافر معلوم و لأنه لو كان قد وقع ذلك لكان غيره من الصحابة أولى بذلك و لوجب أن يجتمعوا على خلعه و لوجب أن يكون قتله مباحا لهم بل كان يجب أن يقيموا إماما ليقتله على ما قدمناه و ليس لأحد أن يقول إنما كفره عمار من حيث وثب على الخلافة و لم يكن لها أهلا لأنا قد بينا القول في ذلك و لأنه كان منصوبا لأبي بكر و عمر ما تقدم و قد بينا أن صحة إمامتهما تقتضي صحة إمامة عثمان.
و قد روي أن عمارا نازع الحسن بن علي ع في أمر عثمان فقال عمار قتل عثمان كافرا و قال الحسن ع قتل مؤمنا و تعلق بعضهما ببعض فصارا إلى أمير المؤمنين ع فقال ما ذا تريد من ابن أخيك فقال إني قلت كذا و قال كذا فقال له أمير المؤمنين ع أ تكفر برب كان يؤمن به عثمان فسكت عمار

(4/44)


و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط أن عثمان لما نقم عليه ضربه عمارا احتج لنفسه فقال جاءني سعد و عمار فأرسلا إلي أن ائتنا فإنا نريد أن نذاكرك أشياء فعلتها فأرسلت إليهما أني مشغول فانصرفا فموعدكما يوم كذا فانصرف سعد و أبى عمار أن ينصرف فأعدت الرسول إليه فأبى أن ينصرف فتناوله بغير أمري و و الله ما أمرت به و لا رضيت و ها أنا فليقتص مني. قال و هذا من أنصف قول و أعدله. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما الدفع لضرب عمار فهو شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 49كالإنكار لطلوع الشمس ظهورا و انتشارا و كل من قرألأخبار و تصفح السير يعلم من هذا الأمر ما لا تثنيه عنه مكابرة و لا مدافعة و هذا الفعل أعني ضرب عمار لم تختلف الرواة فيه و إنما اختلفوا في سببه فروى عباس بن هشام الكلبي عن أبي مخنف في إسناده أنه كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي و جوهر فأخذ منه عثمان ما حلي به بعض أهله فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك و كلموه فيه بكل كلام شديد حتى أغضبوه فخطب فقال لنأخذن حاجتنا من هذا الفي ء و إن رغمت به أنوف أقوام فقال له علي ع إذن تمنع من ذلك و يحال بينك و بينه فقال عمار أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك فقال عثمان أ علي ا ابن ياسر تجترئ خذوه فأخذ و دخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه ثم أخرج فحمل حتى أتي به منزل أم سلمة رضي الله تعالى عنها فلم يصل الظهر و العصر و المغرب فلما أفاق توضأ و صلى و قال الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا في الله تعالى فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي و كان عمار حليفا لبني مخزوم يا عثمان أما علي فاتقيته و أما نحن فاجترأت علينا و ضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف أما و الله لئن مات لأقتلن به رجلا من بني أمية عظيم الشأن فقال عثمان و إنك لهاهنا يا ابن القسرية قال فإنهما قسريتان و كانت أم هشام و جدته قسريتين من بجيلة فشتمه عثمان و أمر به فأخرج فأتي به أم سلمة

(4/45)


رضي الله تعالى عنها فإذا هي قد غضبت لعمار و بلغ عائشة رضي الله تعالى عنها ما صنع بعمار فغضبت أيضا و أخرجت شعرا من شعر رسول الله ص و نعلا من نعاله و ثوبا من ثيابه و قالت ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم و هذا شعره و ثوبه و نعله لم يبل بعد.
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 50و روى آخرون أن السبب في ذلك أن عثمان مر بقبر جديد فسأل عنه فقيل عبد الله بن مسعود فغضب على عمار لكتمانه إياه موته إذ كان المتولي للصلاة عليه و القيام بشأنه فعندها وطئ عثمان عمارا حتى أصابه الفتق. و روى آخرون أن المقداد و عمارو طلحة و الزبير و عدة من أصحاب رسول الله ص كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان و خوفوه به و أعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع فأخذ عمار الكتاب فأتاه به فقرأ منه صدرا ثم قال له أ علي تقدم من بينهم فقال لأني أنصحهم لك قال كذبت يا ابن سمية فقال أنا و الله ابن سمية و ابن ياسر فأمر عثمان غلمانا له فمدوا بيديه و رجليه ثم ضربه عثمان برجليه و هي في الخفين على مذاكيره فأصابه الفتق و كان ضعيفا كبيرا فغشي عليه. قال فضرب عمار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة و إنما اختلفوا في سببه و الخبر الذي رواه صاحب المغني و حكاه عن أبي الحسين الخياط ما نعرفه و كتب السيرة المعلومة خالية منه و من نظيره و قد كان يجب أن يضيفه إلى الموضع الذي أخذ منه فإن قوله و قول من أسند إليه ليس بحجة و لو كان صحيحا لكان يجب أن يقول بدل قوله ها أنا فليقتص مني إذا كان ما أمر بذلك و لا رضي عنه و إنما ضربه الغلام الجاني فليقتص منه فإنه أولى و أعدل. و بعد فلا تنافي بين الروايتين لو كان ما رواه معروفا لأنه يجوز أن يكون غلامه ضربه في حال و ضربه هو في حال أخرى و الروايات إذا لم تتعارض لم يجز إسقاط شي ء منها. فأما قوله إن عمارا لا يجوز أن يكفره و لم يقع منه ما وجب الكفر فإن تكفير عمار و غير عمار له معروف و قد جاءت به الروايات و قد روي من طرق

(4/46)


مختلفة و بأسانيد كثيرة أن عمارا كان يقول ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر و أنا الرابع و أنا شر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 51الأربعة وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهفَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ و أنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله. و روي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة أنه قيل له بأي شي ء كفرتم عثمان فقال بثلاث جعل المال دولة بين الأغنياء و جعل المهاجرين من أصحاب رسول الله ص بمنزلة من حارب الله و رسوله و عمل بغير كتا الله. و روي عن حذيفة أنه كان يقول ما في عثمان بحمد الله أشك لكني أشك في قاتله لا أدري أ كافر قتل كافرا أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله و هو أفضل المؤمنين إيمانا فأما ما رواه من منازعة الحسن ع عمارا في ذلك و ترافعهما إلى أمير المؤمنين ع فهو أولا غير دافع لكون عمار مكفرا له بل شاهد بذلك من قوله ع ثم إن كان الخبر صحيحا فالوجه فيه أن عمارا كان يعلم من لحن كلام أمير المؤمنين ع و عدوله عن أن يقضي بينهما بصريح من القول أنه متمسك بالتقية فأمسك عمار متابعة لغرضه. فأما قوله لا يجوز أن يكفره من حيث وثب على الخلافة لأنه كان مصوبا لأبي بكر و عمر لما تقدم من كلامه في ذلك فإنا لا نسلم له أن عمارا كان مصوبا لهما و ما تقدم من كلامه قد تقدم كلامنا عليه. فأما قوله عن أبي علي أنه لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله فيه لم يكن طعنا لأن للإمام تأديب من يستحق ذلك فقد كان يجب أن يستوحش صاحب كتاب المغني أو من حكى كلامه من أبي علي و غيره من أن يعتذر من ضرب عمار و وقذه حتى لحقه من الغشي ما ترك له الصلاة و وطئه بالأقدام امتهانا و استخفافا بشي ء من العذر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 52فلا عذر يسمع من إيقاع نهاية المكروه بم روي أن النبي ص قال فيه عمار جلده ما بين العين و الأنف و متى تنكأ الجلدة يدم الأنف
و روي أنه قال ع ما لهم و لعمار يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار

(4/47)


روى العوام بن حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن خالد بن الوليد أن رسول الله ص قال من عادى عمارا عاداه الله و من أبغض عمارا أبغضه الله
و أي كلام غليظ سمعه عثمان من عمار يستحق به ذلك المكروه العظيم الذي يجاوز مقدار ما فرضه الله تعالى في الحدود و إنما كان عمار و غيره أثبتوا عليه أحداثه و معايبه أحيانا على ما يظهر من سيئ أفعاله و قد كان يجب عليه أحد أمرين إما أن ينزع عما يواقف عليه من تلك الأفعال أو يبين من عذره عنها و براءته منها ما يظهر و يشتهر فإن أقام مقيم بعد ذلك على توبيخه و تفسيقه زجره عن ذلك بوعظ أو غيره و لا يقدم على ما يفعله الجبابرة و الأكاسرة من شفاء الغيظ بغير ما أنزل الله تعالى و حكم به الطعن التاسع إقدامه علي أبي ذر مع تقدمه في الإسلام حتى سيره إلى الربذة و نفاه و قيل إنه ضربه. قال قاضي القضاة في الجواب عن ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قال إن الناس اختلفوا في أمر أبي ذر رحمه الله تعالى و روي أنه قيل لأبي ذر عثمان أنزلك الربذة فقال لا بل اخترت لنفسي ذلك. و روي أن معاوية كتب يشكوه و هو بالشام فكتب عثمان إليه أن صر إلى المدينة فلما صار إليها قال ما أخرجك إلى الشام قال

(4/48)


لأني سمعت رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 53يقول إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج عنهافلذلك خرجت فقال فأي البلاد أحب إليك بعد الشام قال الربذة فقال صر إليها. قال و إذا تكافأت الأخبار لم يكن لهم في ذلك حجة و لو ثبت ذلك لكان لا يمتنع أن يخرجه إلى الربذة لصلاح يرجع إلى الدين فلا يكون ظلما لأبي ذر بل يكون إشفاقا عليه و خوفا من أن يناله من بعض أهل المدينة مكروه فقد روي أنه كان يغلظ في القول و يخشن الكلام فيقول لم يبق أصحاب محمد على ما عهد و ينغر بهذا القول فرأى إخراجه أصلح لما يرجع إليه و إليهم و إلى الدين و قد روي أن عمر أخرج عن المدينة نصر بن الحجاج لما خاف ناحيته و قد ندب الله سبحانه إلى خفض الجناح للمؤمنين و إلى القول اللين للكافرين و بين للرسول ص أنه لو استعمل الفظاظة لانفضوا من حوله فلما رأى عثمان من خشونة كلام أبي ذر و ما كان يورده مما يخشى منه التنغير فعل ما فعل. قال و قد روي عن زيد بن وهب قال قلت لأبي ذر رحمه الله تعالى و هو بالربذة ما أنزلك هذا المنزل قال أخبرك أني كنت بالشام في أيام معاوية و قد ذكرت هذه الآية وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فقال معاوية هذه في أهل الكتاب فقلت هي فيهم و فينا فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك فكتب إلي أن أقدم علي فقدمت عليه فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني فشكوت ذلك إلى عثمان فخيرني و قال انزل حيث شئت فنزلت الربذة. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 54و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط قريبا مما تقدم من أن إخراج أبي ذر إلى الربذة كان باختياره و روى في ذلك خبرا قال و أقل ما في ذلك أن تختلف الأخبار فتطرح و يرجع إلى الأمر الأول في صحة إمامة عثمان و سلامة أحواله. اعترض المرتضى ره الله تعالى هذا الكلام فقال أما قول أبي علي إن الأخبار في سبب خروج أبي ذر إلى

(4/49)


الربذة متكافئة فمعاذ الله أن تتكافأ في ذلك بل المعروف و الظاهر أنه نفاه أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية ثم نفاه من المدينة إلى الربذة و قد روى جميع أهل السير على اختلاف طرقهم و أسانيدهم أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه و أعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم و أعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم جعل أبو ذر يقول بشر الكانزين بعذاب أليم و يتلو قول الله تعالى وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فرفع ذلك مروان إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه أن انته عما يبلغني عنك فقال أ ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله و عيب من ترك أمر الله فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي و خير لي من أن أسخط الله برضاه فأغضب عثمان ذلك و أحفظه فتصابر. و قال يوما أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك فقال له أبو ذر يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا فقال عثمان قد كثر أذاك لي و تولعك بأصحابي الحق بالشام فأخرجه إليها فكان أبو ذر ينكر علي معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار فقال أبو ذر إن كانت هذه

(4/50)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 55من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها و ردها عليه. و بنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة و إن كانت من مالك فهو الإسراف. و كان أبو ذر رحمه الله تعى يقول و الله لقد حدثت أعمال ما أعرفها و الله ما هي في كتاب الله و لا سنة نبيه و الله إني لأرى حقا يطفأ و باطلا يحيا و صادقا مكذبا و أثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية أن أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كانت لكم حاجة فيه فكتب معاوية إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية أما بعد فاحمل جندبا إلي على أغلظ مركب و أوعره فوجه به مع من سار به الليل و النهار و حمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة و قد سقط لحم فخذيه من الجهد فلما قدم أبو ذر المدينة بعث إليه عثمان أن الحق بأي أرض شئت فقال بمكة قال لا قال فبيت المقدس قال لا قال فأحد المصرين قال لا و لكني مسيرك إلى الربذة فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات. و في رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل علي عثمان قال له لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب فقال أبو ذر أنا جنيدب و سماني رسول الله ص عبد الله فاخترت اسم رسول الله الذي سماني به على اسمي فقال عثمان أنت الذي تزعم أنا نقول إن يد الله مغلولة و إن الله فقير و نحن أغنياء فقال أبو ذر لو كنتم لا تزعمون لأنفقتم شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 56مال الله على عباده و لكني أشهد لسمعت رسول الله ص يقول إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا و عباد الله خولا و دين الله دخلا

(4/51)


فقال عثمان لمن حضره أ سمعتموها من نبي الله فقالوا ما سمعناه فقال عثمان ويلك يا أبا ذر أ تكذب على رسول الله فقال أبو ذر لمن حضر أ ما تظنون أني صدقت قالوا لا و الله ما ندري فقال عثمان ادعوا لي عليا فدعي فلما جاء قال عثمان لأبي ذر اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص فحدثه فقال عثمان لعلي هل سمعت هذا من رسول الله ص فقال علي ع لا و قد صدق أبو ذر قال عثمان بم عرفت صدقه
قال لأني سمعت رسول الله ص يقول ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر

(4/52)


فقال جميع من حضر من أصحاب النبي ص لقد صدق أبو ذر فقال أبو ذر أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله ص ثم تتهمونني ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد ص. و روى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له أنت الذي فعلت و فعلت فقال له أبو ذر نصحتك فاستغششتني و نصحت صاحبك فاستغشني فقال عثمان كذبت و لكنك تريد الفتنة و تحبها قد انغلت الشام علينا فقال له أبو ذر اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام قال عثمان ما لك و ذلك لا أم لك قال أبو ذر و الله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فغضب عثمان و قال أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله فإنه قد فرق جماعة المسلمين أو أنفيه من أرض الإسلام فتكلم علي ع و كان حاضرا و قال أشير عليك شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 57بما قاله مؤمن فرعون وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ قال فأجابه عثمان بجواب غليظ لا أحب ذكره و أجابه ع بمثله قال ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلموه فمكث كذلك أياما ثم أمر أن يؤتى به فلما أتي به وقف بين يديه قال ويحك يا عثمان أ ما رأيت رسول الله ص و رأيت أبا بكر و عمر هل رأيت هذا هديهم إنك لتبطش بي بطش جبار فقال اخرج عنا من بلادنا فقال أبو ذر ما أبغض إلي جوارك فإلى أين أخرج قال حيث شئت قال فأخرج إلى الشام أرض الجهاد قال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أ فأردك إليها قال أ فأخرج إلى العراق قال لا قال و لم قال تقدم على قوم أهل شبه و طعن في الأئمة قال أ فأخرج إلى مصر قال لا قال فإلى أين أخرج قال حيث شئت قال أبو ذر فهو إذن التعرب بعد الهجرة أ أخرج إلى نجد فقال عثمان الشرف الأبعد أقصى فأقصى امض على وجهك

(4/53)


هذا و لا تعدون الربذة فخرج إليها. و روى الواقدي عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه فنزلت الربذة فقلت له أ لا تخبرني أ خرجت من المدينة طائعا أم أخرجت مكرها فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم فأخرجت إلى مدينة الرسول ع فقلت أصحابي و دار هجرتي فأخرجت منها إلى ما ترى
ثم قال بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مر بي رسول الله ص فضربني برجله و قال لا أراك نائما في المسجد فقلت بأبي أنت شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 58و أمي غلبتني عيني فنمت فيه فقال كيف تصنع إذا أخرجوك منه فقلت إذن ألحق بالشام فإنها أرض مقدسة و أرض بقية الإام و أرض الجهاد فقال فكيف تصنع إذا أخرجت منها فقلت أرجع إلى المسجد قال فكيف تصنع إذا أخرجوك منه قلت آخذ سيفي فأضرب به فقال ص أ لا أدلك على خير من ذلك انسق معهم حيث ساقوك و تسمع و تطيع فسمعت و أطعت و أنا أسمع و أطيع و الله ليلقين الله عثمان و هو آثم في جنبي. و كان يقول بالربذة ما ترك الحق لي صديقا و كان يقول فيها ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا. و الأخبار في هذا الباب أكثر من أن تحصر و أوسع من أن نذكرها و ما يحمل نفسه على ادعاء أن أبا ذر خرج مختارا إلى الربذة إلا مكابر و لسنا ننكر أن يكون ما أورده صاحب كتاب المغني من أنه خرج مختارا قد روي إلا أنه من الشاذ النادر و بإزاء هذه الرواية الفذة كل الروايات التي تتضمن خلافها و من تصفح الأخبار علم أنها غير متكافئة على ما ظن صاحب المغني و كيف يجوز خروجه عن اختيار و إنما أشخص من الشام على الوجه الذي أشخص عليه من خشونة المركب و قبح السير به للموجدة عليه ثم لما قدم منع الناس من كلامه و أغلظ له في القول و كل هذا لا يشبه أن يكون خروجه إلى الربذة باختياره و كيف يظن عاقل أن أبا ذر يختار الربذة منزلا مع جدبها و قحطها و بعدها عن الخيرات و لم تكن بمنزل مثله.

(4/54)


فأما قوله إنه أشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه من حيث كان يغلظ لهم القول فليس بشي ء لأنه لم يكن في أهل المدينة إلا من كان راضيا بقوله عاتبا بمثل عتبة إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه و مخف ما عنده و ما في أهل المدينة إلا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 59من رثى لأبي مما حدث عليه و من استفظعه و من رجع إلى كتب السيرة عرف ما ذكرناه. فأما قوله أن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج فيا بعد ما بين الأمرين و ما كنا نظن أن أحدا يسوي بين أبي ذر و هو وجه الصحابة و عينهم و من أجمع المسلمون على توقيره و تعظيمه و أن رسول الله ص مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحدا و بين نصر بن الحجاج الحدث الذي كان خاف عمر من افتتان النساء بشبابه و لا حظ له في فضل و لا دين على أن عمر قد ذم بإخراجه نصر بن الحجاج من غير ذنب كان منه فإذا كان من أخرج نصر بن حجاج مذموما فكيف من أخرج أبا ذر. فأما قوله إن الله تعالى و الرسول قد ندبا إلى خفض الجناح و لين القول للمؤمن و الكافر فهو كما قال إلا أن هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبي ذر و لا يقابله بالتكذيب و قد قطع رسول الله ص على صدقه و لا يسمعه مكروه الكلام فإنما نصح له و أهدى إليه عيوبه و عاتبه على ما لو نزع عنه لكان خيرا له في الدنيا و الآخرة. الطعن العاشر تعطيله الحد الواجب على عبيد الله بن عمر بن الخطاب فإنه قتل الهرمزان مسلما فلم يقده به و قد كان أمير المؤمنين ع يطلبه لذلك. قال قاضي القضاة في الجواب عن ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قال إنه لم يكن للهرمزان ولى يطلب بدمه و الإمام ولي من لا ولي له و للولي أن يعفو كما له أن يقتل و قد روي أنه سأل المسلمين أن يعفوا عنه فأجابوا عنه إلى ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 60قال و إنما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين لأنه خاف أن يبلغ العدو قت فيقال قتلوا إمامهم و قتلوا ولده و لا يعرفون

(4/55)


الحال في ذلك فيكون فيه شماتة و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط أن عامة المهاجرين أجمعوا على أنه لا يقاد بالهرمزان و قالوا لعثمان هذا دم سفك في غير ولايتك و ليس له ولي يطلب به و أمره إلى الإمام فاقبل منه الدية فذلك صلاح للمسلمين
قال و لم يثبت أن أمير المؤمنين ع كان يطلبه ليقتله بالهرمزان لأنه لا يجوز قتل من عفا عنه ولي المقتول و إنما كان يطلبه ليضع من قدره و يصغر من شأنه. قال و يجوز أن يكون
ما روي عن علي ع من أنه قال لو كنت بدل عثمان لقتلته

(4/56)


يعني أنه كان يرى ذلك أقوى في الاجتهاد و أقرب إلى التشدد في دين الله سبحانه. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام قال أما قوله لم يكن للهرمزان ولي يطلب بدمه فالإمام يكون وليه و له أن يعفو عنه كما له أن يقتص فليس بمعتمد لأن الهرمزان رجل من أهل فارس و لم يكن له ولي حاضر يطالب بدمه و قد كان الواجب أن يبذل الإنصاف لأوليائه و يؤمنوا متى حضروا حتى أنه لو كان له ولي يريد المطالبة حضر و طالب ثم لو لم يكن له ولي لم يكن عثمان ولي دمه لأنه قتل في أيام عمر فصار عمر ولي دمه و قد أوصى عمر على ما جاءت به الروايات الظاهرة بقتل ابنه عبيد الله إن لم تقم البينة العادلة على الهرمزان و جفينة أنهما أمرا أبا لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة بقتله و كانت وصيته بذلك إلى أهل الشورى فقال أيكم ولي هذا الأمر فليفعل كذا و كذا مما ذكرناه فلما مات عمر طلب المسلمون إلى عثمان إمضاء شرح نهج الاغة ج : 3 ص : 61الوصية في عبيد الله بن عمر فدافع عن ذلك و عللهم و لو كان هو ولي الدم على ما ذكروا لم يكن له أن يعفو و أن يبطل حدا من حدود الله تعالى و أي شماتة للعدو في إقامة حد من حدود الله تعالى و إنما الشماتة كلها من أعداء الإسلام في تعطيل الحدود و أي حرج في الجمع بين قتل الإمام و ابنه حتى يقال كره أن ينتشر الخبر بأن الإمام و ابنه قتلا و إنما قتل أحدهما ظلما و الآخر عدلا أو أحدهما بغير أمر الله و الآخر بأمره سبحانه.
و قد روى زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن أمير المؤمنين ع أتى عثمان بعد ما استخلف فكلمه في عبيد الله و لم يكلمه أحد غيره فقال اقتل هذا الفاسق الخبيث الذي قتل أميرا مسلما فقال عثمان قتلوا أباه بالأمس و أقتله اليوم و إنما هو رجل من أهل الأرض فلما أبى عليه مر عبيد الله على علي ع فقال له إيه يا فاسق أما و الله لئن ظفرت بك يوما من الدهر لأضربن عنقك فلذلك خرج مع معاوية عليه

(4/57)


و روى القناد عن الحسن بن عيسى بن زيد عن أبيه أن المسلمين لما قال عثمان إني قد عفوت عن عبيد الله بن عمر قالوا ليس لك أن تعفو عنه قال بلى إنه ليس لجفينة و الهرمزان قرابة من أهل الإسلام و أنا ولي أمر المسلمين و أنا أولى بهما و قد عفوت فقال علي ع إنه ليس كما تقول إنما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين إنه قتلهما في إمرة غيرك و قد حكم الوالي الذي قتلا في إمارته بقتله و لو كان قتلهما في إمارتك لم يكن لك العفو عنه فاتق الله فإن الله سائلك عن هذا
فلما رأى عثمان أن المسلمين قد أبوا إلا قتل عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة و أقطعه بها دارا و أرضا و هي التي يقال لها كويفة بن عمر فعظم ذلك عند المسلمين و أكبروه و كثر كلامهم فيه. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 6 و روي عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع أنه قال ما أمسى عثمان يوم ولي حتى نقموا عليه في أمر عبيد الله بن عمر حيث لم يقتله بالهرمزان

(4/58)


فأما قوله إن أمير المؤمنين ع لم يطلبه ليقتله بل ليضع من قدره فهو بخلاف ما صرح به ع من أنه إن تمكن ليضربن عنقه. و بعد فإن ولي الدم إذا عفا عنه على ما ادعوا لم يكن لأحد أن يستخف به و لا يضع من قدره كما ليس له أن يقتله. و أما قوله إن أمير المؤمنين ع لا يجوز أن يتوعده مع عفو الإمام عنه فإنما يكون صحيحا لو كان ذلك العفو مؤثرا و قد بينا أنه غير مؤثر. و أما قوله يجوز أن يكون ع رأى أن قتله أقوى في الاجتهاد و أقرب إلى التشدد في دين الله فلا شك أنه كذلك و هذا بناء منه على أن كل مجتهد مصيب و قد بينا أن الأمر بخلاف ذلك و إذا كان اجتهاد أمير المؤمنين ع يقتضي قتله فهو الذي لا يسوغ خلافه. الطعن الحادي عشر و هو إجمالي قالوا وجدنا أحوال الصحابة دالة على تصديقهم المطاعن فيه و براءتهم منه و الدليل على ذلك أنهم تركوه بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفنوه و لا أنكروا على من أجلب عليه من أهل الأمصار بل أسلموه و لم يدفعوا عنه و لكنهم أعانوا عليه و لم يمنعوا من حصره و لا من منع الماء عنه و لا من قتله مع تمكنهم من خلاف ذلك و هذا من أقوى الدلائل على ما قلناه و لو لم يدل على أمره عندهم إلا ما روي عن علي ع أنه قال الله قتله و أنا معه و أنه كان في أصحابه ع من يصرح بأنه قتل شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 63عثمان و مع ذلك لا يقيدهم بل و لا ينكر عليهم و كان أهل الشام يصرحون بأن مع أمير المؤمنين قتلة عثمان و يجعلون ذلك من أوكد الشبه و لا ينكر ذلك عليهم مع أنا نعلم أن أمير المؤمنين ع لو أراد أن يتعاضد هو أصحابه على المنع عنه لما وقع في حقه ما وقع فصار كفه و كف غيره عن ذلك من أدل الدلائل على أنهم صدقوا عليه ما نسب إليه من الأحداث و أنهم لم يقبلوا منه ما جعله عذرا. و أجاب قاضي القضاة عن هذا فقال أما تركه بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن فليس بثابت و لو صح لكان طعنا على من لزمه القيام به و قد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى

(4/59)


إنه لا يمتنع أن يشتغلوا بإبرام البيعة لأمير المؤمنين ع خوفا على الإسلام من الفتنة فيؤخروا دفنه. قال و بعيد مع حضور قريش و قبائل العرب و سائر بني أمية و مواليهم أن يترك عثمان و لا يدفن هذه المدة و بعيد أن يكون أمير المؤمنين ع لا يتقدم بدفنه و لو مات في جواره يهودي أو نصراني و لم يكن له من يواريه ما تركه أمير المؤمنين ألا يدفن فكيف يجوز مثل ذلك في عثمان و قد روي أنه دفن في تلك الليلة و هذا هو الأولى. فأما التعلق بأن الصحابة لم تنكر على القوم و لا دفعت عنه فقد سبق القول في ذلك و الصحيح عن أمير المؤمنين ع أنه تبرأ من قتل عثمان و لعن قتلته في البر و البحر و السهل و الجبل و إنما كان يجري من جيشه هذا القول منه على جهة المجاز لأنا نعلم أن جميع من كان يقول نحن قتلناه لم يقتله لأن في الخبر أن العدد الكثير كانوا يصرحون بذلك و الذين دخلوا عليه و قتلوه اثنان أو ثلاثة و إنما كانوا يقصدون بهذا القول أي احسبوا أنا قتلناه فما لكم و ذلك أن الإمام هو الذي يقوم بأمر القود و ليس للخارج عليه أن يطالب بذلك و لم يكن لأمير المؤمنين ع أن يقتل قتلته لو عرفهم ببينة أو إقرار و ميزهم من غيرهم إلا عند مطالبة ولي الدم و الذين كانوا أولياء شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 64الدم لم يكونوا يطالبونه و لا كانت صفتهم صفة من يطالب لأنهم كانوا كلهم أو بعضهم يدعون أن عليا ع ليس بإمام و لا يحل لولي الدم مع هذا الاعتقاد أن يطالب بالقود فلذلكم يقتلهم ع هذا لو صح أنه كان يميزهم فكيف و ذلك غير صحيح.
فأما ما روي عنه من قوله ع قتله الله و أنا معه

(4/60)


فإن صح فمعناه مستقيم يريد أن الله أماته و سيميتني و سائر العباد. ثم قال سائلا نفسه كيف يقول ذلك و عثمان مات مقتولا من جهة المكلفين و أجاب بأنه و إن قتل فالإماتة من قبل الله تعالى و يجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة لا محالة فإذا مات صحت الإماتة على طريق الحقيقة. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما تضعيفه أن يكون عثمان ترك بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن فليس بحجة لأن ذلك قد رواه جماعة الرواة و ليس يخالف في مثله أحد يعرف بالرواية و قد ذكر ذلك الواقدي و غيره و روى أن أهل المدينة منعوا الصلاة عليه حتى حمل بين المغرب و العتمة و لم يشهد جنازته غير مروان و ثلاثة من مواليه و لما أحسوا بذلك رموه بالحجارة و ذكروه بأسوإ الذكر و لم يقع التمكن من دفنه إلا بعد أن أنكر أمير المؤمنين ع المنع من دفنه و أمر أهله بتولي ذلك منه. فأما قوله إن ذلك إن صح كان طعنا على من لزمه القيام بأمره فليس الأمر على ما ظنه بل يكون طعنا على عثمان من حيث لا يجوز أن يمنع أهل المدينة و فيها وجوه الصحابة من دفنه و الصلاة عليه إلا لاعتقاد قبيح أو لأن أكثرهم و جمهورهم يعتقد ذلك و هذا طعن لا شبهة فيه و استبعاد صاحب المغني لذلك مع ظهور الرواية به شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 65لا يلتفت إليه فأما أمير المؤمنين ع و استبعاد صاحب المغني منه ألا يتقدم بدفنه فقد بينا أنه تقدم بذلك بعد مماكسة و مراوضة و أعجب من كل شي ء قول صاحب المغني إنهم أخروا دفنه تشاغلا بالبيعة لأمير المؤمنين عأي شغل في البيعة لأمير المؤمنين يمنع من دفنه و الدفن فرض على الكفاية لو قام به البعض و تشاغل الباقون بالبيعة لجاز و ليس الدفن و لا البيعة أيضا مفتقرة إلى تشاغل جميع أهل المدينة بها. فأما قوله إنه قد روي أن عثمان دفن تلك الليلة فما تعرف هذه الرواية و قد كان يجب أن يسندها و يعزوها إلى راويها أو الكتاب الذي أخذها منه فالذي

(4/61)


ظهر في الرواية هو ما ذكرناه. فأما إحالته على ما تقدم في معنى الإنكار من الصحابة على القوم المجلبين على عثمان فقد سبق القول في ذلك. فأما روايته عن أمير المؤمنين ع تبرؤه من قتل عثمان و لعنه قتلته في البر و البحر و السهل و الجبل فلا شك في أنه ع كان بريئا من قتله
و قد روي عنه ع أنه قال و الله ما قتلت عثمان و لا مالأت في قتله
و الممالأة هي المعاونة و الموازرة و قد صدق ع في أنه ما قتل و لا وازر على القتل. فأما لعنه قتلته فضعيف في الرواية و إن كان قد روي فأظهر منه
ما رواه الواقدي عن الحكم بن الصلت عن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال رأيت عليا ع على منبر رسول الله ص حين قتل و هو يقول ما أحببت قتله و لا كرهته و لا أمرت به و لا نهيت عنه
و قد روى محمد بن سعد عن عفان بن جرير بن بشير عن أبي جلدة أنه سمع عليا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 66ع يقول و هو يخطب فذكر عثمان و قال و الله الذي لا إله إلا هو ما قتلته و لا مالأت على قتله و لا ساءني و روى ابن بشير عن عبيدة السلماني قال سمعت عليا ع يقول من كان سائلي عن دم عثمان فإن الله قتله و أنا معه
و قد روي هذا اللفظ من طرق كثيرة.
و قد روى شعبة عن أبي حمزة الضبعي قال قلت لابن عباس إن أبي أخبرني أنه سمع عليا يقول ألا من كان سائلي على دم عثمان فإن الله قتله و أنا معه فقال صدق أبوك هل تدري ما معنى قوله إنما عنى الله قتله و أنا مع الله

(4/62)


قال فإن قيل كيف يصح الجمع بين معاني هذه الأخبار. قلنا لا تنافي بينها لأنه ع تبرأ من مباشرة قتله و المؤازرة عليه ثم قال ما أمرت بذلك و لا نهيت عنه يريد أن قاتليه لم يرجعوا إلي و لم يكن مني قول في ذلك بأمر و لا نهى فأما قوله الله قتله و أنا معه فيجوز أن يكون المراد به الله حكم بقتله و أوجبه و أنا كذلك لأن من المعلوم أن الله تعالى لم يقتله على الحقيقة فإضافة القتل إليه لا تكون إلا بمعنى الحكم و الرضا و ليس يمتنع أن يكون مما حكم الله تعالى به ما لم يتوله بنفسه و لا آزر عليه و لا شايع فيه. فإن قال قائل هذا ينافي ما روي عنه من قوله ما أحببت قتله و لا كرهته و كيف يكون من حكم الله و حكمه أن يقتل و هو لا يحب قتله. قلنا يجوز أن يريد بقوله ما أحببت قتله و لا كرهته أن ذلك لم يكن مني على سبيل التفصيل و لا خطر لي ببال و إن كان على سبيل الجملة يحب قتل من غلب المسلمين شرح هج البلاغة ج : 3 ص : 67على أمورهم و طالبوه بأن يعتزل لأنه مستول عليهم بغير حق فامتنع من ذلك و يكون فائدة هذا الكلام التبرؤ من مباشرة قتله و الأمر به على سبيل التفصيل أو النهي عنه و يجوز أن يريد أنني ما أحببت قتله إن كانوا تعمدوا القتل و لم يقع على سبيل المانعة و هو غير مقصود و يريد بقوله ما كرهته أني لم أكرهه على كل حال و من كل وجه. فأما لعنه قتلته فقد بينا أنه ليس بظاهر ظهور ما ذكرناه و إن صح فهو مشروط بوقوع القتل على الوجه المحظور من تعمد له و قصد إليه و غير ذلك على أن المتولي للقتل على ما صحت به الرواية كنانة بن بشير التجيبي و سودان بن حمران المرادي و ما منهما من كان غرضه صحيحا في القتل و لا له أن يقدم عليه فهو ملعون به فأما محمد بن أبي بكر فما تولى قتله و إنما روي أنه لما جثا بين يديه قابضا على لحيته قال له يا ابن أخي دع لحيتي فإن أباك لو كان حيا لم يقعد مني هذا المقعد فقال محمد أن أبي لو كان حيا ثم يراك تفعل ما تفعل

(4/63)


لأنكره عليك ثم وجأه بجماعة قداح كانت في يده فحزت في جلده و لم تقطع و بادره من ذكرناه في قتله بما كان فيه قتله. فأما تأويله قول أمير المؤمنين ع قتله الله و أنا معه على أن المراد به الله أماته و سيميتني فبعيد من الصواب لأن لفظة أنا لا تكون كناية عن المفعول و إنما تكون كناية عن الفاعل و لو أراد ما ذكره لكان يقول و إياي معه و ليس له أن يقول إننا نجعل قوله و أنا معه مبتدأ محذوف الخبر و يكون تقدير الكلام و أنا معه مقتول و ذلك لأن هذا ترك للظاهر و إحالة على ما ليس فيه و الكلام إذا أمكن حمله على معنى يستقل ظاهره به من غير تقدير و حذف كان أولى مما يتعلق بمحذوف على أنهم إذا جعلوه مبتدأ و قدروا خبرا لم يكونوا بأن يقدروا ما يوافق مذهبهم بأولى من تقدير خلافه و يجعل بدلا من لفظة المقتول المحذوفة لفظة معين أو ظهير.

(4/64)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 68و إذا تكافأ القولان في التقدير و تعارضا سقطا و وجب الرجوع إلى ظاهر الخبر على أن عثمان مضى مقتولا فكيف يقال إن الله تعالى أماته و القتل كاف في انتفاء الحياة و ليس يحتاج معه إلى ناف للحياة يسمى موتا. و قول صاحب المغني يجوز أن ين ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة ليس بشي ء لأن المروي أنه ضرب على رأسه بعمود عظيم من حديد و أن أحد قتلته قال جلست على صدره فوجأته تسع طعنات علمت أنه مات في ثلاث و وجأته الست الأخر لما كان في نفسي عليه من الحنق. و بعد فإذا كان جائزا فمن أين علمه أير المؤمنين ع حتى يقول إن الله أماته و إن الحياة لم تنتف بما فعله القاتلون و إنما انتفت بشي ء زاد على فعلهم من قبل الله تعالى مما لا يعلمه على سبيل التفصيل إلا علام الغيوب سبحانه. و الجواب عن هذه المطاعن على وجهين إجمالا و تفصيلا أما الوجه الإجمالي فهو أنا لا ننكر أن عثمان أحدث أحداثا أنكرها كثير من المسلمين و لكنا ندعي مع ذلك أنها لم تبلغ درجة الفسق و لا أحبطت ثوابه و أنها من الصغائر التي وقعت مكفرة و ذلك لأنا قد علمنا أنه مغفور له و أنه من أهل الجنة لثلاثة أوجه. أحدها أنه من أهل بدر
و قد قال رسول الله ص إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
و لا يقال إن عثمان لم يشهد بدرا لأنا نقول صدقتم أنه لم يشهدها و لكنه تخلف على رقية ابنة رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 69بالمدينة لمرضها و ضرب له رسول الله ص بسهمه و أجره باتفاق سائر الناس. و ثانيها أنه من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله تعالى فيهلَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ و لا يقال إنه لم يشهد البيعة تحت الشجرة لأنا نقول صدقتم أنه لم يشهدها و لكنه كان رسول الله ص أرسله إلى أهل مكة و لأجله كانت بيعة الرضوان حيث أرجف بأن قريشا قتلت عثمان

(4/65)


فقال رسول الله ص إن كانوا قتلوه لأضرمنها عليهم نارا ثم جلس تحت الشجرة و بايع الناس على الموت ثم قال إن كان عثمان حيا فأنا أبايع عنه فصفح بشماله على يمينه و قال شمالي خير من يمين عثمان
روى ذلك جميع أرباب أهل السيرة متفقا عليه. و ثالثها أنه من جملة العشرة الذين تظاهرت الأخبار بأنهم من أهل الجنة. و إذا كانت الوجوه الثلاثة دالة على أنه مغفور له و أن الله تعالى قد رضي عنه و هو من أهل الجنة بطل أن يكون فاسقا لأن الفاسق يخرج عندنا من الإيمان و يحبط ثوابه و يحكم له بالنار و لا يغفر له و لا يرضى عنه و لا يرى الجنة و لا يدخلها فاقتضت هذه الوجوه الصحيحة الثابتة أن يحكم بأن كل ما وقع منه فهو من باب الصغائر المكفرة توفيقا بين هذه الوجوه و بين روايات الأحداث المذكورة. و أما الوجه التفصيلي فهو مذكور في كتب أصحابنا المطولة في الإمامة فليطلب من مظانه فإنهم قد استقصوا في الجواب عن هذه المطاعن استقصاء لا مزيد عليه
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 70بيعة جرير بن عبد الله البجلي لعليفأما خبر جرير بن عبد الله البجلي و بعث أمير المؤمنين ع إياه إلى معاوية فنحن نذكره نقلا من كتاب صفين لنصر بن مزاحم بن بشار المنقري و نذكر حال أمير المؤمنين ع منذ قدم الكوفة بعد وقعة الجمل و مراسلته معاوية و غيره و مراسلة معاوية له و لغيره و ما كان من ذلك في مبدأ حالتهما إلى أن سار علي ع إلى صفين.

(4/66)


قال نصر حدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال لما قدم علي ع الكوفة بعد انقضاء أمر الجمل كاتب العمال فكتب إلى جرير بن عبد الله البجلي مع زحر بن قيس الجعفي و كان جرير عاملا لعثمان على ثغر همذان أما بعد ف إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ و إني أخبرك عن نبإ من سرنا إليه من جموع طلحة و الزبير عند نكثهم بيعتي و ما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف إني نهضت من المدينة بالمهاجرين و الأنصار حتى إذا كنت بالعذيب بعثت إلى أهل الكوفة الحسن بن علي و عبد الله بن عباس و عمار بن ياسر و قيس بن عبادة فاستنفرتهم فأجابوا فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة فأعذرت في شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 71الدعاء و أقلت العثرة و ناشدتهم عهد بيعتهم فأبوا إلا قتالي فتعنت الله عليهم فقتل من قتل و ولوا مدبرين إلى مصرهم و سألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء فقبلت العافية و رفعت السيف و استعملت عليهم عبد الله بن العباس و سرت إلى الكوفة و قد بعثت إليك زحر بن قيس فاسأله عما بدا لك و السلام
قال فلما قرأ جرير الكتاب قام فقال أيها الناس هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع و هو المأمون على الدين و الدنيا و قد كان من أمره و أمر عدوه ما نحمد الله عليه و قد بايعه الناس الأولون من المهاجرين و الأنصار و التابعين بإحسان و لو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها ألا و إن البقاء في الجماعة و الفناء في الفرقة و إن عليا حاملكم على الحق ما استقمتم فإن ملتم أقام ميلكم فقال الناس سمعا و طاعة رضينا رضينا. فكتب جرير إلى علي ع جواب كتابه بالطاعة. قال نصر و كان مع علي رجل من طيئ ابن أخت لجرير فحمل زحر بن قيس شعرا له إلى خاله جرير و هو

(4/67)


جرير بن عبد الله لا تردد الهدى و بايع عليا إنني لك ناصح فإن عليا خير من وطي ء الحصى سوى أحمد و الموت غاد و رائح و دع عنك قول الناكثين فإنما أولاك أبا عمرو كلاب نوابح و بايع إذا بايعته بنصيحة و لا يك منها من ضميرك قادح فإنك إن تطلب بها الدين تعطه و إن الدنيا فإنك رابح
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 72و إن قلت عثمان بن عفان حقه علي عظيم و الشكور مناصح فحق علي إذ وليك كحقه و شكرك ما أوليت في الناس صالح و إن قلت لا أرضى عليا إمامنا فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح أبى الله إلا أنه خير دهره و أفضل من ضمت عليه الأقال نصر ثم إن جريرا قام في أهل همذان خطيبا فقال الحمد لله الذي اختار لنفسه الحمد و تولاه دون خلقه لا شريك له في الحمد و لا نظير له في المجد و لا إله إلا الله وحده الدائم القائم إله السماء و الأرض و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالنور الواضح و الحق الناطق داعيا إلى الخير و قائدا إلى الهدى ثم قال أيها الناس إن عليا قد كتب إليكم كتابا لا يقال بعده إلا رجيع من القول و لكن لا بد من رد الكلام إن الناس بايعوا عليا بالمدينة عن غير محاباة له ببيعتهم لعلمه بكتاب الله و سنن الحق و إن طلحة و الزبير نقضا بيعته على غير محاباة حدثت و ألبا عليه الناس ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب و أخرجا أم المؤمنين فلقيهما فأعذر في الدعاء و أحسن في البقية و حمل الناس على ما يعرفون فهذا عيان ما غاب عنكم و إن سألتم الزيادة زدناكم و لا قوة إلا بالله ثم قال

(4/68)


أتانا كتاب علي فلم ترد الكتاب بأرض العجم و لم نعص ما فيه لما أتى و لما نذم و لما نلم و نحن ولاة على ثغرنا نضيم العزيز و نحمي الذمم نساقيهم الموت عند اللقاء بكأس المنايا و نشفي الق شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 73فصلى الإله على أحمد رسول المليك تمام النعم رسول المليك و من بعده خليفتنا القائم المدعم عليا عنيت وصي النبي نجالد عنه غواة الأمم له الفضل و السبق و المكرمات و بيت النبوة لا يقال نصر فسر الناس بخطبة جرير و شعره. و قال ابن الأزور القسري في جرير يمدحه بذلك
لعمر أبيك و الأنباء تنمي لقد جلى بخطبته جريرو قال مقالة جدعت رجالا من الحيين خطبهم كبيربدا بك قبل أمته علي و مخك إن رددت الحق ريرأتاك بأمره زحر بن قيس و زحر بالتي حدثت خبيرفكنت لما أتاك به سميعا و كدت إليه من فرح تطيرفأنت بما سعدت به ولي و أنت لما تعد له نصيرو أحرزت الثواب و رب حاد حدا بالركب ليس له بعير
بيعة الأشعث لعلي
قال نصر و كتب علي ع إلى الأشعث و كان عامل عثمان على آذربيجان شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 74يدعوه إلى البيعة و الطاعة و كتب جرير بن عبد الله البجلي إلى الأشعث يحضه على طاعة أمير المؤمنين ع و قبول كتابه أما بعد فإني أتتني بيعة علي فقبلتها و لم أجد إلى دفعها يلا لأني نظرت فيما غاب عني من أمر عثمان فلم أجده يلزمني و قد شهد المهاجرون و الأنصار فكان أوفق أمرهم فيه الوقوف فأقبل بيعته فإنك لا تنقلب إلى خير منه و اعلم أن بيعة علي خير من مصارع أهل البصرة و السلام. قال نصر فقبل الأشعث البيعة و سمع و أطاع و أقبل جرير سائرا من ثغر همذان حتى ورد علي ع الكوفة فبايعه و دخل فيما دخل فيه الناس من طاعته و لزوم أمره
دعوة علي معاوية إلى البيعة و الطاعة و رد معاوية عليه

(4/69)


قال نصر فلما أراد علي ع أن يبعث إلى معاوية رسولا قال له جرير ابعثني يا أمير المؤمنين إليه فإنه لم يزل لي مستخصا و ودا آتيه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر و يجامعك على الحق على أن يكون أميرا من أمرائك و عاملا من عمالك ما عمل بطاعة الله و اتبع ما في كتاب الله و أدعو أهل الشام إلى طاعتك و ولايتك فجلهم قومي و أهل بلادي و قد رجوت ألا يعصوني. فقال له الأشتر لا تبعثه و لا تصدقه فو الله إني لأظن هواه هواهم و نيته نيتهم.
فقال له علي ع دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا فبعثه علي ع و قال له ع حين أراد أن يبعثه إن حولي من أصحاب رسول الله ص من أهل الرأي و الدين من قد رأيت و قد اخترتك عليهم لقول رسول الله فيك شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 75إنك من خير ذي يمن ائت معاوية بكتابي فإن دخليما دخل فيه المسلمون و إلا فانبذ إليه و أعلمه إني لا أرضى به أميرا و أن العامة لا ترضى به خليفة
فانطلق جرير حتى أتى الشام و نزل بمعاوية فلما دخل عليه حمد الله و أثنى عليه و قال أما بعد يا معاوية فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين و أهل المصرين و أهل الحجاز و أهل اليمن و أهل مصر و أهل العروض و العروض عمان و أهل البحرين و اليمامة فلم يبق إلا هذه الحصون التي أنت فيها لو سال عليها سيل من أوديته غرقها و قد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك و يهديك إلى مبايعة هذا الرجل و دفع إليه كتاب علي ع

(4/70)


و فيه أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بويعوا عليه فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد و إنما الشورى للمهاجرين و الأنصار إذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباع سبيل المؤمنين و ولاه الله ما تولى و يصليه جهنم و ساءت مصيرا و إن طلحة و الزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي فكان نقضهما كردتهما فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون فإن أحب الأمور إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء فإن تعرضت له قاتلتك و استعنت بالله عليك. و قد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس ثم حاكم القوم إلي أحملك شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 76و إياهم على كتاب الله فأما تلك التيريدها فخدعة الصبي عن اللبن و لعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان و اعلم أنك من الطلقاء الذين لا يحل لهم الخلافة و لا تعرض فيهم الشورى و قد أرسلت إليك و إلى من قبلك جرير بن عبد الله البجلي و هو من أهل الإيمان و الهجرة فبايع و لا قوة إلا بالله

(4/71)


فلما قرأ الكتاب قام جرير فخطب فقال الحمد لله المحمود بالعوائد و المأمول منه الزوائد المرتجى منه الثواب المستعان على النوائب أحمده و أستعينه في الأمور التي تحير دونها الألباب و تضمحل عندها الأسباب و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كل شي ء هالك إلا جهه له الحكم و إليه ترجعون و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بعد فترة من الرسل الماضية و القرون الخالية و أبدان البالية و الجبلة الطاغية فبلغ الرسالة و نصح للأمة و أدى الحق الذي استودعه الله و أمره بأدائه إلى أمته ص من رسول و مبتعث و منتجب. أيها الناس إن أمر عثمان قد أعيا من شهده فكيف بمن غاب عنه و إن الناس بايعوا عليا غير واتر و لا موتور و كان طلحة و الزبير ممن بايعاه ثم نكثا بيعته على غير حدث ألا و إن هذا الدين لا يحتمل الفتن ألا و إن العرب لا تحتمل الفتن و قد كانت بالبصرة أمس روعة ملحمة إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 77و قد بايعت الأمة عليا و لو ملكنا و الله الأمور لم نختر لها غيره و من خالف هذا استعتب فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس. فإن قلت استعملني عثمان ثم لم يعزلني فإن هذا قول لو جاز لم يقم لله دين و كان لكل امرئ ما في يديه و لكن ال جعل للآخر من الولاة حق الأول و جعل الأمور موطأة ينسخ بعضها بعضا ثم قعد. قال نصر فقال معاوية أنظر و تنظر و أستطلع رأي أهل الشام. فمضت أيام و أمر معاوية مناديا ينادي الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس صعد المنبر ثم قال الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا و الشرائع للإيمان برهانا يتوقد قبسه في الأرض المقدسة جعلها الله محل الأنبياء و الصالحين من عباده فأحلهم أرض الشام و رضيهم لها و رضيها لهم لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم و مناصحتهم خلفاءه و القوام بأمره و الذابين عن دينه و حرماته ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما و في سبيل الخيرات أعلاما يردع الله بهم

(4/72)


الناكثين و يجمع بهم ألفة المؤمنين و الله نستعين على ما تشعب من أمر المسلمين بعد الالتئام و تباعد بعد القرب اللهم انصرنا على أقوام يوقظون نائمنا و يخيفون آمننا و يريدون إراقة دمائنا و إخافة سبلنا و قد علم الله أنا لا نريد لهم عقابا و لا نهتك لهم حجابا و لا نوطئهم زلقا غير أن الله الحميد كسانا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 78من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى و سقط الندى و عرف الهدى حملهم على ذلك البغي و الحسد فنستعين الله عليهم أيها الناس قد علمتم أني خليفة أمير اؤمنين عمر بن الخطاب و خليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم و أني لم أقم رجلا منكم على خزاية قط و أني ولي عثمان و قد قتل مظلوما و الله تعالى يقول وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً و أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان. فقام أهل الشام بأجمعهم فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان و بايعوه على ذلك و أوثقوا له على أن يبذلوا بين يديه أموالهم و أنفسهم حتى يدركوا بثأره أو تلتحق أرواحهم بالله. قال نصر فلما أمسى معاوية اغتم بما هو فيه و جنة الليل و عنده أهل بيته فقال
تطاول ليلي و اعترتني وساوسي لآت أتى بالترهات البسابس أتاني جرير و الحوادث جمة بتلك التي فيها اجتداع المعاطس أكايده و السيف بيني و بينه و لست لأثواب الدني ء بلابس إن الشام أعطت طاعة يمنية تواصفها أشياخها في المجالس فإن يفعلوا أصدم عليا بجبهة تفت عليه ك و يابس و إني لأرجو خير ما نال نائل و ما أنا من ملك العراق بآيسقلت الجبهة هاهنا الخيل و منه قول النبي ص ليس في الجبهة صدقة

(4/73)


أي زكاة. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 79قال نصر فاستحثه جرير بالبيعة فقال يا جرير إنها ليست بخلسة و إنه أمر له ما بعده فأبلعني ريقي حتى أنظر و دعا ثقاته فأشار عليه أخوه بعمرو بن العاص و قال له إنه من قد عرفت و قد اعتزل عثمان في حياته و هو لأمرك أشد اعتزالا ا أن يثمن له دينه. و قد ذكرنا فيما تقدم خبر استدعائه عمرا و ما شرط له من ولاية مصر و استقدامه شرحبيل بن السمط رئيس اليمنية و شيخها و المقدم عليها و تدسيس الرجال إليه يغرونه بعلي ع و يشهدون عنده أنه قتل عثمان حتى ملئوا صدره و قلبه حقدا و ترة و إحنة على علي ع و أصحابه بما لا حاجة إلى إعادته. قال نصر فحدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال جاء شرحبيل إلى حصين بن نمير فقال ابعث إلى جرير فليأتنا فبعث حصين بن نمير إلى جرير أن زرنا فعندنا شرحبيل فاجتمعا عند حصين فتكلم شرحبيل شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 80فقال يا ير أتيتنا بأمر ملفف لتلقينا في لهوات الأسد و أردت أن تخلط الشام بالعراق و أطريت عليا و هو قاتل عثمان و الله سائلك عما قلت يوم القيامة. فأقبل عليه جرير و قال يا شرحبيل أما قولك إني جئت بأمر ملفف فكيف يكون ملففا و قد اجتمع عليه المهاجرون و الأنصار و قوتل على رده طلحة و الزبير. و أما قولك إني ألقيك في لهوات الأسد ففي لهواتها ألقيت نفسك. و أما خلط أهل الشام بأهل العراق فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل. و أما قولك إن عليا قتل عثمان فو الله ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب من مكان بعيد و لكنك ملت إلى الدنيا و شي ء كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقاص. فبلغ ما قالاه إلى معاوية فبعث إلى جرير فزجره قال نصر و كتب إلى شرحبيل كتاب لا يعرف كاتبه فيه. شرحبيل يا ابن السمط لا تتبع الهوى فما لك في الدنيا من الدين من بدل و لا تك كالمجرى إلى شر غاية فقد خرق السربال و استنوق الجمل و قل لابن حرب ما لك اليوم خلة تروم بها ما رمت و اقطع له

(4/74)


الأمل شرحبيل إن الحق قد جد جده فكن فيه مأمون الأديم من النغل و أرود و فرط بشي ء نخافه عليك و لا تعجل فلا خير في العجل شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 81مقال ابن هند في علي عضيهة و لله في صدر بن أبي طالب أجل و ما من علي في ابن عفان سقطة بقول و لا مالا عليه و لا قتل و ما كان إلا لازما قعر بيته إلى أن أتى عثمان في داره الأجل فمن قال قولا غير هذا فحسبه من الزور و البهتان بعض احتمل وصى رسول الله من دون أهله و من باسمه في فضله يضرب المثلقال نصر فلما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر و فكر و قال هذه نصيحة لي في ديني و لا و الله لا أعجل في هذا الأمر بشي ء و في نفسي منه حاجة و كاد يحول عن نصر معاوية و يتوقف فلفق له معاوية الرجال يدخلون إليه و يخرجون و يعظمون عنده قتل عثمان و يرمون به عليا و يقيمون الشهدة الباطلة و الكتب المختلقة حتى أعادوا رأيه و شحذوا عزمه. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 82قال نصر و حدثنا عمر بن سعد بإسناده قال بعث معاوية إلى شرحبيل بن السمط إنه قد كان من إجابتك إلى الحق و ما وقع فيه أجرك على الله و قبله عنك صلحاء الناس ما علمت و إن هذا امر الذي نحن فيه لا يتم إلا برضا العامة فسر في مدائن الشام و ناد فيهم بأن عليا قتل عثمان و أنه يجب علي المسلمين أن يطلبوا بدمه. فسار شرحبيل فبدأ بأهل حمص فقام فيهم خطيبا و كان مأمونا في أهل الشام ناسكا متألها فقال أيها الناس إن عليا قتل عثمان فغضب له قوم من أصحاب رسول الله ص فلقيهم فهزم الجمع و قتل صلحاءهم و غلب على الأرض فلم يبق إلا الشام و هو واضع سيفه على عاتقه ثم خائض غمرات الموت حتى يأتيكم أو يحدث الله أمرا و لا نجد أحدا أقوى على قتاله من معاوية فجدوا و انهضوا. فأجابه الناس كلهم إلا نساكا من أهل حمص فإنهم قالوا له بيوتنا قبورنا و مساجدنا و أنت أعلم بما ترى. قال و جعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها لا يأتي على قوم إلا قبلوا شرح نهج البلاغة ج

(4/75)


: 3 ص : 83ما أتاهم به فبعث إليه النجاشي بن الحارث و كان له صديقا.شرحبيل ما للدين فارقت ديننا و لكن لبغض المالكي جريرو شحناء دبت بين سعد و بينه فأصبحت كالحادي بغير بعيرو ما أنت إذ كانت بجيلة عاتبت قريشا فيا لله بعد نصيرأ تفصل أمرا غبت عنه بشبهة و قد حار فيه عقل كل بصيربقول رجال لم يكونوا أئمة و لا للتي لقوكها بحضورو ما قول قوم غائبين تقاذفوا من الغيب ما دلاهم بغرورو تترك أن الناس أعطوا عهودهم عليا على أنس به و سرورإذا قيل هاتوا واحدا يقتدى به نظيرا له لم يفصحوا بنظيرلعلك أن تشقى الغداة بحربه فليس الذي قد جئته بصغير
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن نمير بن وعلة عن الشعبي أن شرحبيل بن السمط بن الأسود بن جبلة الكندي دخل على معاوية فقال له أنت عامل أمير المؤمنين و ابن عمه و نحن المؤمنون فإن كنت رجلا تجاهد عليا و قتلة عثمان حتى ندرك ثارنا أو تذهب أرواحنا استعملناك علينا و إلا عزلناك و استعملنا غيرك ممن نريد ثم جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك. فقال جرير بن عبد الله و كان حاضرا مهلا يا شرحبيل فإن الله قد حقن الدماء و لم الشعث و جمع أمر الأمة و دنا من هذه الأمة سكون فإياك أن تفسد بين الناس شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 84و أك عن هذا القول قبل أن يشيع و يظهر عنك قول لا تستطيع رده فقال لا و الله لا أسرة أبدا ثم قام فتكلم به فقال الناس صدق صدق القول ما قال و الرأي ما رأى فأيس جرير عند ذلك من معاوية و من عوام أهل الشام. قال نصر و حدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال كان معاوية قد أتى جريرا قبل ذلك في منزله فقال له يا جرير إني قد رأيت رأيا قال هاته قال اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام و مصر جباية فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده في عنقي بيعة و أسلم له هذا الأمر و اكتب إليه بالخلافة فقال جرير اكتب ما أردت أكتب معك. فكتب معاوية بذلك إلى علي

(4/76)


فكتب علي ع إلى جرير أما بعد فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة و أن يختار من أمره ما أحب و أراد أن يريثك و يبطئك حتى يذوق أهل الشام و أن المغيرة بن شعبة قد كان أشار علي أن أستعمل معاوية على الشام و أنا حينئذ بالمدينة فأبيت ذلك عليه و لم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا فإن بايعك الرجل و إلا فأقبل و السلام
قال نصر و فشا كتاب معاوية في العرب فبعث إليه الوليد بن عقبة
معاوي إن الشام شامك فاعتصم بشامك لا تدخل عليك الأفاعياو حام عليها بالصوارم و القنا و لا تك موهون الذراعين وانياو إن عليا ناظر ما تجيبه فأهد له حربا تشيب النواصيا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 85و إلا فسلم إن في السلم راحة لمن لا يريد الحرب فاختر معاوياو إن كتابا يا ابن حرب كتبته على طمع يزجى إليك الدواهياسألت عليا فيه ما لن تناله و لو نلته لم يبق إلا ليالياو سوف ترى منه التي ليس بعدها بقاء فلا تكثر عليك الأمانياأ مثعلي تعتريه بخدعة و قد كان ما جربت من قبل كافيا
قال و كتب الوليد بن عقبة إلى معاوية أيضا يوقظه و يشير عليه بالحرب و ألا يكتب جواب جرير

(4/77)


معاوي إن الملك قد جب غاربه و أنت بما في كفك اليوم صاحبه أتاك كتاب من علي بخطه هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه فلا ترج عند الواترين مودة و لا تأمن اليوم الذي أنت راهبه و حاربه إن حاربت حرب ابن حرة و إلا فسلم لا تدب عقاربه فإن عليا غير ساحب ذيله على خدعة مغ الماء شاربه و لا قابل ما لا يريد و هذه يقوم بها يوما عليه نوادبه فلا تدعن الملك و الأمر مقبل و تطلب ما أعيت عليك مذاهبه فإن كنت تنوي أن تجيب كتابه فقبح ممليه و قبح كاتبه و إن كنت تنوي أن ترد كتابه و أنت بأمر لا محالة راكبه فألق إلى الحي اليمانين كلمل بها الأمر الذي أنت طالبه تقول أمير المؤمنين أصابه عدو و مالأهم عليه أقاربه أفانين منهم قائل و محرض بلا ترة كانت و آخر سالب شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 86و كنت أميرا قبل بالشام فيكم فحسبي و إياكم من الحق واجبه فجيئوا و من أرسى ثبيرا مكانه ندافع بحرا لا ترد غواربه فأقلل و أكثر ما لها اليوم صاحب سواك فصرح لست ممن تواقال نصر و خرج جرير يوما يتجسس الأخبار فإذا هو بغلام يتغنى على قعود له هو يقول

(4/78)


حكيم و عمار الشجا و محمد و أشتر و المكشوح جروا الدواهياو قد كان فيها للزبير عجاجة و صاحبه الأدنى أثاروا الدواهيافأما علي فاستجار ببيته فلا آمر فيها و لم يك ناهيافقل في جميع الناس ما شئت بعده فلو قلت أخطأ الناس لم تك خاطياو إن قلت عم القوم فيه بفتنة فحسبك من ذاك الذي كان كافيافقولا لأصحاب النبي محمد و خصا الرجال الأقربين الأدانياأ يقتل عثمان بن عفان بينكم على غير شي ء ليس إلا تعاميافلا نوم حتى نستبيح حريمكم و نخضب من أهل الشنان العواليافقال جرير يا ابن أخي من أنت فقال غلام من قريش و أصلي من ثقيف أنا ابن المغيرة بن الأخنس بن شريق قتل أبي مع عثمان يوم الدار فعجب جرير شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 87من شعره و قوله و كتب بذلك إلى علي ع فقال علي و الله ما أخطأ الغلام شيئا. قال نصر و في حديث صالبن صدقة قال أبطأ جرير عند معاوية حتى اتهمه الناس و قال علي ع قد وقت لجرير وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا و أبطأ على علي حتى أيس منه.
قال و في حديث محمد و صالح بن صدقة قالا فكتب علي ع إلى جرير بعد ذلك إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل ثم خيره و خذه بالجواب بين حرب مخزية أو سلم محظية فإن اختار الحرب فانبذ إليه و إن اختار السلم فخذه ببيعته و السلام
قال فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية فأقرأه الكتاب و قال له يا معاوية إنه لا يطبع على قلب إلا بذنب و لا يشرح صدر إلا بتوبة و لا أظن قلبك إلا مطبوعا عليه أراك قد وقفت بين الحق و الباطل كأنك تنتظر شيئا في يد غيرك. فقال معاوية ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله. فلما بايع معاوية أهل الشام بعد أن ذاقهم قال يا جرير الحق بصاحبك و كتب إليه بالحرب و كتب في أسفل الكتاب شعر كعب بن جعيل
أرى الشام تكره أهل العراق و أهل العراق لهم كارهونا

(4/79)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 88و قد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم. و قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل إن عليا ع لما أراد أن يبعث جريرا إلى معاوية قال و الله يا أمير المؤمنين ما أدخرك من نصرتي شيئا و ما أطمع لك في معاوية فقال علي ع إنما قصدي حجأقيمها عليه فلما أتى جرير معاوية دافعه بالبيعة فقال له جرير إن المنافق لا يصلي حتى لا يجد من الصلاة بدا فقال معاوية إنها ليست بخدعة الصبي عن اللبن فأبلغني ريقي إنه أمر له ما بعده. قال و كتب مع جرير إلى علي ع جوابا عن كتابه إليه من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك و أنت بري ء من دم عثمان كنت كأبي بكر و عمر و عثمان و لكنك أغريت بعثمان المهاجرين و خذلت عنه الأنصار فأطاعك الجاهل و قوي بك الضعيف و قد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان فإن فعلت كانت شورىبين المسلمين و لعمري ليس حججك علي كحججك على طلحة و الزبير لأنهما بايعاك و لم أبايعك و ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة لأن أهل البصرة أطاعوك و لم يطعك أهل الشام فأما شرفك في الإسلام و قرابتك من النبي ص و موضعك من قريش فلست أدفعه. شرح نهج البلاغج : 3 ص : 89ثم كتب في آخر الكتاب شعر كعب بن جعيل الذي أوله
أرى الشام تكره أهل العراق و أهل العراق لهم كارهونا

(4/80)


قال أبو العباس المبرد رحمه الله تعالى فكتب إليه علي ع جوابا عن كتابه هذا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر بن حرب أما بعد فإنه أتاني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه و لا قائد يرشده دعاه الهوى فأجابه و قاده الضلال فاتبعه زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان و لعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا و أصدرت كما أصدروا و ما كان الله ليجمعهم على الضلال و لا ليضربهم بالعمى و بعد فما أنت و عثمان إنما أنت رجل من بني أمية و بنو عثمان أولى بمطالبة دمه فإن زعمت أنك أقوى على ذلك فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلي و أما تمييزك بينك و بين طلحة و الزبير و بين أهل الشام و أهل البصرة فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواء لأنها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار و لا يستأنف فيها النظر و أما شرفي في الإسلام و قرابتي من رسول الله ص و موضعي من قريش فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته

(4/81)


قال ثم دعا النجاشي أحد بني الحارث بن كعب فقال له إن ابن جعيل شاعر أهل الشام و أنت شاعر أهل العراق فأجب الرجل فقال يا أمير المؤمنين أسمعني قوله قال إذن أسمعك شعر شاعر ثم أسمعه فقال النجاشي يجيبه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 9دعا يا معاوي ما لن يكونا فقد حقق الله ما تحذروناأتاكم علي بأهل العراق و أهل الحجاز فما تصنعوناعلى كل جرداء خيفانة و أشعث نهد يسر العيوناعليها فوارس مخشية كأسد العرين حمين العرينايرون الطعان خلال العجاج و ضرب الفوارس في النقع ديناهم هزموا الجمع جمع الزبير و طلحة و المعشر الناكثيناو آلوا يمينا على حلفة لنهدي إلى الشام حربا زبوناتشيب النواهد قبل المشيب و تلقى الحوامل منها الجنينافإن تكرهوا الملك ملك العراق فقد رضي القوم ما تكرهونافقل للمضلل من وائل و من جعل الغث يوما سميناجعلتم عليا و أشياعه نظير ابن هند أ ما تستحوناإلى أفضل الناس بعد الرسول و صنو الرسول من العالميناو صهر الرسول و من مثله إذا كان يوم يشيب القرونا
قلت أبيات كعب بن جعيل خير من هذه الأبيات و أخبث مقصدا و أدهى و أحسن. و زاد نصر بن مزاحم في هذه الرسالة بعد قوله و لا ليضربهم بالعمى و ما ألبت فتلزمني خطيئة الأمر و لا قتلت فيجب على القصاص و أما قولك إن شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 91أهل الشام هم الحكام على ل الحجاز فهات رجلا من أهل الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون و الأنصار و إلا أتيتك به من قريش الحجاز و أما ولوعك بي في أمر عثمان فما قلت ذلك عن حق العيان و لا يقين الخبر. و هذه الزيادة التي ذكرها نصر بن مزاحم تقتضي أنه كان في كتاب معاوية إليه ع أن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز و ما وجدنا هذا الكلام في كتابه
أخبار متفرقة

(4/82)


و روى نصر بن مزاحم قال لما قتل عثمان ضربت الركبان إلى الشام بقتله فبينا معاوية يوما إذا أقبل رجل متلفف فكشف عن وجهه و قال لمعاوية يا أمير المؤمنين أ تعرفني قال نعم أنت الحجاج بن خزيمة بن الصمة فأين تريد قال إليك القربان نعي ابن عفان ثم قال
إن بني عمك عبد المطلب هم قتلوا شيخكم غير كذب و أنت أولى الناس بالوثب فثب و اغضب معاوي للإله و احتسب و سر بنا سير الجرير المتلئب و انهض بأهل الشام ترشد و تصب ثم اهزز الصعدة للشأس الشقال يعني عليا ع قلت المتلئب المستقيم المطرد يقال هذا قياس متلئب أي مستمر مطرد شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 92و يقال مكان شأس أي غليظ صلب و الشغب الهائج للشر و من رواه للشاسي بالياء فأصله الشاصي بالصاد و هو المرتفع يقال شصا السحاب إذا ارتفع فأبدل الصاد سينا مراده هنا نسبة علي ع إلى التيه و الترفع عن الناس. قال نصر فقال له معاوية أ فيك مهز فقال نعم فقال أخبر الناس فقال الحجاج يا أمير المؤمنين و لم يخاطب معاوية بأمير المؤمنين قبلها إني كنت فيمن خرج مع يزيد بن أسد القسري مغيثا لعثمان فقدمت أنا و زفر بن الحارث فلقينا رجلا زعم أنه ممن قتل عثمان فقتلناه و إني أخبرك يا أمير المؤمنين إنك لتقوى على علي بدون ما يقوى به عليك لأن معك قوما لا يقولون إذا قلت و لا يسألون إذا أمرت و إن مع علي قوما يقولون إذا قال و يسألون إذا أمر فقليل ممن معك خير من كثير ممن معه و اعلم أنه لا يرضى علي إلا بالرضا و إن رضاه سخطك و لست و علي سواء علي لا يرضى بالعراق دون الشام و أنت ترضى بالشام دون العراق. قال نصر فضاق معاوية صدرا بما أتاه و ندم على خذلان عثمان و قال

(4/83)


أتاني أمر فيه للنفس غمة و فيه بكاء للعيون طويل و فيه فناء شامل و خزاية و فيه اجتداع للأنوف أصيل مصاب أمير المؤمنين و هدة تكاد لها صم الجبال تزول فلله عينا من رأى مثل هالك أصيب بلا ذنب و ذاك جليل تداعت عليه بالمدينة عصبة فريقان منهم قاتل و خذول دعاهم فعنه عند دعائه و ذاك على ما في النفوس دليل ندمت على ما كان من تبعي الهوى و قصري فيه حسرة و عوي شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 93سأبغي أبا عمرو بكل مثقف و بيض لها في الدار عين صليل تركتك للقوم الذين هم هم شجاك فما ذا بعد ذاك أقول فلست مقيما ما حييت ببلدة أجر بها ذيلي و أنت قتيل فلا نوم حتى تشجر الخيل بالقنا و يشفي من القوم الغواة غليل و نطحنهم طحن بثفالها و ذاك بما أسدوا إليك قليل فأما التي فيها مودة بيننا فليس إليها ما حييت سبيل سألقحها حربا عوانا ملحة و إني بها من عامنا لكفيقال نصر و افتخر الحجاج على أهل الشام بما كان من تسليمه على معاوية بأمره المؤمنين. قال نصر و حدثنا صالح بن صدقة عن ابن إسحاق عن خالد الخزاعي و غيره ممن لا يتهم أن عثمان لما قتل و أتي معاوية بكتاب علي ع بعزله عن الشام صعد المنبر و نادى في الناس أن يحضروا فحضروا فخطبهم فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال يا أهل الشام قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب و خليفة عثمان و قد قتل و أنا ابن عمه و وليه و الله تعالى يقول وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً و أنا أحب أن تعلموني ما في نفوسكم من قتل خليفتكم. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 94فقام مرة بن كعب و في المسجد يومئذ أربعمائة رجل من أصحاب النبي ص أو نحوها فقال و الله لقد قمت مقامي هذا و إني لأعلم أن فيكم من هو أقدم صحبة لرسول الله ص مني و لكني شهدت رسول الله ص نصف النهاري يوم شديد الحر و هو يقول لتكونن فتنة حاضرة فمر رجل مقنع فقال رسول الله و هذا المقنع يومئذ على الهدى فقمت

(4/84)


فأخذت بمنكبه و حسرت عن رأسه فإذا عثمان فأقبلت بوجهه على رسول الله ص و قلت هذا يا رسول الله فقال نعم فأصفق أهل الشام مع معاوية حينئذ و بايعوه على الطلب بدم عثمان أميرا لا يطمع في الخلافة ثم الأمر شورى. و روى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل في كتاب صفين عن أبي بكر بن عبد الله الهذلي أن الوليد بن عقبة كتب إلى معاوية يستبطئه في الطلب بدم عثمان و يحرضه و ينهاه عن قطع الوقت بالمكاتبة
ألا أبلغ معاوية بن حرب فإنك من أخي ثقة مليم قطعت الدهر كالسدم المعنى تهدر في دمشق و لا تريم شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 95فإنك و الكتاب إلى علي كدابغة و قد حلم الأديم لك الويلات أقحمها عليهم فخير الطالبي الترة الغشقال فكتب معاوية إليه الجواب بيتا من شعر أوس بن حجر
و مستعجب مما يرى من أناتنا و لو زبنته الحرب لم يترمرم

(4/85)


و روى ابن ديزيل قال لما عزم علي ع على المسير إلى الشام دعا رجلا فأمره أن يتجهز و يسير إلى دمشق فإذا دخل أناخ راحلته بباب المسجد و لا يلقي من ثياب سفره شيئا فإن الناس إذا رأوه عليه آثار الغربة سألوه فليقل لهم تركت عليا قد نهد إليكم بأهل العراق فانظر ما يكون من أمرهم ففعل الرجل ذلك فاجتمع الناس و سألوه فقال لهم فكثروا عليه يسألونه فأرسل شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 96إليه معاوية بالأعور السلمي يسأله فأتاه فسأله فقال له فأتى معاوية فأخبره فنادى الصلاة جامعة ثم قام فخطب الناس و قال لهم إن عليا قد نهد إليكم في أهالعراق فما ترون فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم لا يتكلمون فقام ذو الكلاع الحميري فقال عليك ام رأي و علينا ام فعال و هي لغة حمير. فنزل و نادى في الناس بالخروج إلى معسكرهم و عاد إلى علي ع فأخبره فنادى الصلاة جامعة ثم قام فخطب الناس فأخبرهم أنه قدم عليه رسوكان بعثه إلى الشام و أخبره أن معاوية قد نهد إلى العراق في أهل الشام فما الرأي. قال فاضطرب أهل المسجد هذا يقول الرأي كذا و هذا يقول الرأي كذا و كثر اللغط و اللجب فلم يفهم علي ع من كلامهم شيئا و لم يدر المصيب من المخطئ فنزل عن المنبر و هو يقول إنا لله و إنا إليه راجعون ذهب بها ابن آكلة الأكباد يعني معاوية. و روى ابن ديزيل عن عقبة بن مكرم عن يونس بن بكير عن الأعمش قال كان أبو مريم صديقا لعلي ع فسمع بما كان فيه علي ع من اختلاف أصحابه عليه فجاءه فلم يرع عليا ع إلا و هو قائم على رأسه بالعراق فقال له أبا مريم ما جاء بك نحوي قال ما جاء بي غيرك عهدي بك لو وليت أمر الأمة كفيتهم ثم سمعت بما أنت فيه من الاختلاف فقال يا أبا مريم إني منيت بشرار خلق الله أريدهم على الأمر الذي هو الرأي فلا يتبعونني. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 9 و روى ابن ديزيل عن عبد الله بن عمر عن زيد بن الحباب عن علاء بن جرير العنبري عن الحكم بن عمير الثمالي و كانت أمه

(4/86)


بنت أبي سفيان بن حرب قال قال رسول الله ص لأصحابه ذات يوم كيف بك يا أبا بكر إذا وليت قال لا يكون ذلك أبدا قال فكيف بك يا عمر إذا وليت فقال آكل حجرا لقد لقيت إذن شرا قال فكيف بك يا عثمان إذا وليت قال آكل و أطعم و أقسم و لا أظلم قال فكيف بك يا علي إذا وليت قال آكل الفوت و أحمي الجمرة و أقسم التمرة و أخفي الصور قال أي العورة فقال ص أما إنكم كلكم سيلي و سيرى الله أعمالكم ثم قال يا معاوية كيف بك إذا وليت قال الله و رسوله أعلم فقال أنت رأس الحطم و مفتاح الظلم حصبا و حقبا تتخذ الحسن قبيحا و السيئة حسنة يربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير أجلك يسير و ظلمك عظيم
و روى ابن ديزيل أيضا عن عمر بن عون عن هشيم عن أبي فلج عن عمرو بن ميمون قال قال عبد الله بن مسعود كيف أنتم إذا لقيتكم فتنة يهرم فيها الكبير و يربو فيها الصغير تجري بين الناس و يتخذونها سنة فإذا غيرت قيل هذا منكر. و روى ابن ديزيل قال حدثنا الحسن بن الربيع البجلي عن أبي إسحاق الفزاري عن حميد الطويل عن أنس بن مالك في قوله تعالى فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ قال أكرم الله تعالى نبيه ع أن يريه في أمته ما يكره رفعه إليه و بقيت النقمة. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 9 قال ابن ديزيل و حدثنا عبد الله بن عمر قال حدثنا عمرو بن محمد قال أخبرنا أسباط عن السدي عن أبي المنهال عن أبي هريرة قال قال رسول الله ص سألت ربي لأمتي ثلاث خلال فأعطاني اثنتين و منعني واحدة سألته ألا تكفر أمتي صفقة واحدة فأعطانيها و سألته ألا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم فأعطانيها و سألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها

(4/87)


قال ابن ديزيل و حدثنا يحيى بن عبد الله الكرابيسي قال حدثنا أبو كريب قال حدثنا أبو معاوية عن عمار بن زريق عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال إن الله تعالى قد آمننا أن يظلمنا و لم يؤمنا أن يفتننا أ رأيت إذا أنزلت فتنة كيف أصنع فقال عليك كتاب الله تعالى قال أ فرأيت إن جاء قوم كلهم يدعو إلى كتاب الله تعالى
فقال ابن مسعود سمعت رسول الله ص يقول إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق
يعني عمارا. و روى ابن ديزيل قال حدثنا يحيى بن زكريا قال حدثنا علي بن القاسم عن سعيد بن طارق عن عثمان بن القاسم عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله ص أ لا أدلكم على ما إن تساءلتم عليه لم تهلكوا إن وليكم الله و إن إمامكم علي بن أبي طالب فناصحوه و صدقوه فإن جبريل أخبرني بذلك

(4/88)


فإن قلت هذا نص صريح في الإمامة فما الذي تصنع المعتزلة بذلك. قلت يجوز أن يريد أنه إمامهم في الفتاوي و الأحكام الشرعية لا في الخلافة. و أيضا فإنا قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصله إن الإمامة كانت لعلي شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 99ع إن رغب فيها و نا عليها و إن أقرها في غيره و سكت عنها تولينا ذلك الغير و قلنا بصحة خلافته و أمير المؤمنين ع لم ينازع الأئمة الثلاثة و لا جرد السيف و لا استنجد بالناس عليهم فدل ذلك على إقراره لهم على ما كانوا فيه فلذلك توليناهم و قلنا فيهم بالطهارة و الخير و الصلاح و لو حاربهم و جرد السيف عليهم و استصرخ العرب على حربهم لقلنا فيهم ما قلناه فيمن عامله هذه المعاملة من التفسيق و التضليل. قال ابن ديزيل و حدثنا عمرو بن الربيع قال حدثنا السري بن شيبان عن عبد الكريم أن عمر بن الخطاب قال لما طعن يا أصحاب محمد تناصحوا فإنكم إن لم تفعلوا غلبكم عليها عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان. قلت إن محمد بن النعمان المعروف بالمفيد أحد الإمامية قال في بعض كتبه إنما أراد عمر بهذا القول إغراء معاوية و عمرو بن العاص بطلب الخلافة و إطماعهما فيها لأن معاوية كان عامله و أميره على الشام و عمرو بن العاص عامله و أميره على مصر و خاف أن يضعف عثمان عنها و أن تصير إلى علي ع فألقى هذه الكلمة إلى الناس لتنقل إليهما و هما بمصر و الشام فيتغلبا على هذين الإقليمين إن أفضت إلى علي ع. و هذا عندي من باب الاستنباطات التي يوجبها الشنآن و الحنق و عمر كان أتقى لله من أن يخطر له هذا و لكنه من فراسته الصادقة التي كان يعلم بها كثيرا من الأمور المستقبلة كما قال عبد الله بن عباس في وصفه و الله ما كان أوس بن حجر عنى أحدا سواه بقوله
الألمعي الذي يظن بك الظن كان قد رأى و قد سمعا

(4/89)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 100 و روى ابن ديزيل عن عفان بن مسلم عن وهب بن خالد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن مرة بن كعب قال ذكر رسول الله ص فتنة فقربها فمر رجل قد تقنع بثوبه فقال ع هذا و أصحابه يومئذ على الحق فقمت إليه فأخذت بمنكبه فقلت هو هذا فقانعم فإذا هو عثمان بن عفان
قلت هذا الحديث قد رواه كثير من محققي أصحاب الحديث و رواه محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه الكبير بعدة روايات و ليس لقائل أن يقول فهذا الحديث إذا صححتموه كان حجة للسفيانية لأنا نقول الخبر يتضمن أن عثمان و أصحابه على الحق و هذا مذهبنا لأنا نذهب إلى أن عثمان قتل مظلوما و أنه و ناصريه يوم الدار على الحق و أن القوم الذين قتلوه لم يكونوا على الحق فأما معاوية و أهل الشام الذين حاربوا عليا ع بصفين فليسوا بداخلين في الخبر و لا في ألفاظ الخبر لفظ عموم يتعلق به أ لا ترى أنه ليس فيه كل من أظهر الانتصار لعثمان في حياته و بعد وفاته فهو على الحق و إنما خلاصته أنه ستقوم فتنة يكون عثمان فيها و أصحابه على الحق و نحن لا نأبى ذلك بل هو مذهبنا. و روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين قال لما قدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص إن الله قد أحيا لك عمر بن الخطاب بالشام بقدوم عبيد الله بن عمر و قد رأيت أن أقيمه خطيبا يشهد على علي بقتل عثمان و ينال منه فقال الرأي ما رأيت فبعث إليه فأتاه فقال له معاوية يا ابن أخي إن لك شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 101اسم أبيك فانظر بمل ء عينيك و أنطق بمل ء فيك فأنت مون المصدق فاصعد المنبر و اشتم عليا و اشهد عليه أنه قتل عثمان. فقال أيها الأمير أما شتمه فإن أباه أبو طالب و أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم فما عسى أن أقول في حسبه و أما بأسه فهو الشجاع المطرق و أما أيامه فما قد عرفت و لكني ملزمه دم عثمان فقال عمرو بن العاص قد و أبيك إذن نكأت القرحة. فلما خرج عبيد الله

(4/90)


بن عمر قال معاوية أما و الله لو لا قتله الهرمزان و مخافته عليا على نفسه ما أتانا أبدا أ لا ترى إلى تقريظه عليا فقال عمرو يا معاوية إن لم تغلب فاخلب قال و خرج حديثهما إلى عبيد الله فلما قام خطيبا تكلم بحاجته فلما انتهى إلى أمر علي أمسك و لم يقل شيئا فلما نزل بعث إليه معاوية يا ابن أخي إنك بين عي و خيانة فبعث إليه إني كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان و عرفت أن الناس محتملوها عني فتركتها. قال فهجره معاوية و استخف به و فسقه فقال عبيد الله
معاوي لم أحرض بخطبة خاطب و لم أك عيا في لؤي بن غالب و لكنني زاولت نفسا أبية على قذف شيخ بالعراقين غائب و قذفي عليا بابن عفان جهرة كذاب و ما طبي سجايا المكاذب و لكنه قد قرب القوم جهده و دبوا حواليه دبيب العقارب فما قال أحسنتم و لا قد أسأتم و أطرق إطراق اع المواثب
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 102فأما ابن عفان فأشهد أنه أصيب بريئا لابسا ثوب تائب و قد كان فيها للزبير عجاجة و طلحة فيها جاهد غير لاعب و قد أظهرا من بعد ذلك توبة فيا ليت شعري ما هما في العوقال فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه و قال حسبي هذا منك. و روى نصر عن عبيد الله بن موسى قال سمعت سفيان بن سعيد المعروف بسفيان الثوري يقول ما أشك أن طلحة و الزبير بايعا عليا و ما نقما عليه جورا في حكم و لا استئثارا بفي ء و ما قاتل عليا أحد إلا و علي أوى بالحق منه. و روى نصر بن مزاحم أن عليا ع قدم من البصرة في غرة شهر رجب من سنة ست و ثلاثين إلى الكوفة و أقام بها سبعة عشر شهرا تجري الكتب بينه و بين معاوية و عمرو بن العاص حتى سار إلى الشام. قال نصر و قد روي من طريق أبي الكنود و غيره أنه قدم الكوفة بعد وقعة الجمل لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رجب سنة ست و ثلاثين.

(4/91)


قال نصر فدخل الكوفة و معه أشراف الناس من أهل البصرة و غيرهم فاستقبله أهل الكوفة و فيهم قراؤهم و أشرافهم فدعوا له بالبركة و قالوا يا أمير المؤمنين أين تنزل أ تنزل القصر قال لا و لكني أنزل الرحبة فنزلها و أقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين ثم صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 103أما بعد يا أهل الكوفة فإن لكم في الإسلام فضلا ما لم تبدلوا و تغيروا دعوتكم إلى الحق فأجبتم و بدأتم بالمنكر فغيرتم ألا إن فضلكم فيما بينكم و بين الله فأما في الأحكام و القسم فأم أسوة غيركم ممن أجابكم و دخل فيما دخلتم فيه ألا إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى و طول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق و أما طول الأمل فينسي الآخرة ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة و إن الآخرة قد ترحلت مقبلة و لكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة اليوم عمل و لا حساب و غدا حساب و لا عمل الحمد لله الذي نصر وليه و خذل عدوه و أعز الصادق المحق و أذل الناكث المبطل عليكم بتقوى الله و طاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه من المستحلين المدعين المقابلين إلينا يتفضلون بفضلنا و يجاحدوننا أمرنا و ينازعوننا حقنا و يباعدوننا عنه فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيا ألا إنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم و أنا عليهم عاتب زار فاهجروهم و أسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي و كان صاحب شرطته فقال و الله إني لأرى الهجر و سماع المكروه لهم قليلا و الله لو أمرتنا لنقتلنهم فقال علي ع سبحان الله يا مال جزت المدى و عدوت الحد فأغرقت في النزع فقال يا أمير المؤمنين لبعض الغشم أبلغ في أمر ينوبك من مهادنة الأعادي فقال علي ع ليس هكذا قضى الله يا مال قال سبحانه النَّفْسَ بِالنَّفْسِ فما بال ذكر الغشم

(4/92)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 104و قال تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ و الإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك فقد نهى الله عنه و ذاكو الغشم فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي و كان ممن تخلف عنه فقال يا أمير المؤمنين أ رأيت القتلى حول عائشة و طلحة و الزبير علام قتلوا أو قال بم قتلوا فقال علي ع قتلوا بما قتلوا شيعتي و عمالي و قتلوا أخا ربيعة العبدي في عصابة من المسلمين قالوا إنا لا ننكث كما نكثتم و لا نغدر كما غدرتم فوثبوا عليهم فقتلوهم فسألتهم أن يدفعوا إلي قتلة إخواني أقتلهم بهم ثم كتاب الله حكم بيني و بينهم فأبوا علي و قاتلوني و في أعناقهم بيعتي و دماء قريب من ألف رجل من شيعتي فقتلتهم أ في شك أنت من ذلك فقال قد كنت في شك فأما الآن فقد عرفت و استبان لي خطأ القوم و أنك المهتدي المصيب
قال نصر و كان أشياخ الحي يذكرون أنه كان عثمانيا و قد شهد على ذلك صفين مع علي ع و لكنه بعد ما رجع كان يكاتب معاوية فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة و كان عليه كريما. قال ثم إن عليا ع تهيأ لينزل و قام رجال ليتكلموا فلما رأوه نزل جلسوا و سكتوا. قال و نزل علي ع بالكوفة على جعدة بن هبيرة المخزومي. قلت جعدة ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب كانت تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي فأولدها جعدة و كان شريفا. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 105قال نصر و لما قدم علي ع إلى الكوفة نزل على باب المسجد فدخل فصلى ثم تحول فجلس إليه ااس فسأل عن رجل من الصحابة كان نزل الكوفة فقال قائل استأثر الله به
فقال علي ع إن الله تبارك و تعالى لا يستأثر بأحد من خلقه إنما أراد الله جل ذكره بالموت إعزاز نفسه و إذلال خلقه و قرأ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ قال نصر فلما لحقه ع ثقله قالوا أ ننزل القصر فقال قصر الخبال لا تنزلوا فيه

(4/93)


قال نصر و دخل سليمان بن صرد الخزاعي على علي ع مرجعه من البصرة فعاتبه و عذله و قال له ارتبت و تربصت و راوغت و قد كنت من أوثق الناس في نفسي و أسرعهم فيما أظن إلى نصرتي فما قعد بك عن أهل بيت نبيك و ما زهدك في نصرتهم فقال يا أمير المؤمنين لا تردن الأمور على أعقابها و لا تؤنبني بما مضى منها و استبق مودتي تخلص لك نصيحتي فقد بقيت أمور تعرف فيها عدوك من وليك فسكت عنه و جلس سليمان قليلا ثم نهض فخرج إلى الحسن بن علي ع و هو قاعد في باب المسجد فقال أ لا أعجبك من أمير المؤمنين و ما لقيت منه من التوبيخ و التبكيت فقال الحسن إنما يعاتب من ترجى مودته و نصيحته فقال لقد وثبت أمور ستشرع فيها القنا و تنتضى فيها السيوف و يحتاج فيها إلى أشباهي فلا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 106تستغشوا عتبي و لا تتهموا نصحي فقال الحسن رحمك الله ما أنت عندنا بظنين قال نصر و دخل عليه سعيد بن قيس الأزدي فسلم عليه فقال و عليك السلام و إن كنت من المتربصين قال حاش لله يا أمير المؤمنين فإني لست من أولئك فقال لعل الله فعل ذلك
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن مخنف قال دخلت مع أبي على علي ع مقدمه من البصرة و هو عام بلغت الحلم فإذا بين يديه رجال يؤنبهم
و يقول لهم ما أبطأ بكم عني و أنتم أشراف قومكم و الله إن كان من ضعف النية و تقصير البصيرة إنكم لبور و إن كان من شك في فضلي و مظاهرة علي إنكم لعدو
فقالوا حاش لله يا أمير المؤمنين نحن سلمك و حرب عدوك ثم اعتذر القوم فمنهم من ذكر عذرا و منهم من اعتل بمرض و منهم من ذكر غيبة فنظرت إليهم فعرفتهم فإذا عبد الله المعتم العبسي و حنظلة بن الربيع التميمي و كلاهما كانت له صحبة و إذا أبو بردة بن عوف الأزدي و إذا غريب بن شرحبيل الهمداني. قال و نظر علي ع إلى أبي

(4/94)


فقال و لكن مخنف بن مسلم و قومه لم يتخلفوا و لم يكن مثلهم كمثل القوم الذين قال الله تعالى فيهم وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 107أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمَْهِيداً وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
قال نصر ثم إن عليا ع مكث بالكوفة فقال الشني في ذلك ]شن بن عبد القيس[
قل لهذا الإمام قد خبت الحرب و تمت بذلك النعماءو فرغنا من حرب من نقض العهد و بالشام حية صماءتنفث السم ما لمن نهشته فارمها قبل أن تعض شفاءإنه و الذي يحج له الناس و من دون بيته البيداءلضعيف النخاع إن رمي اليوم بخيل كأنها أشلاءتتبارى بكل أصيد كالفحل بكفيه صعدة سمراءإن تذره فما معاوية الدهر بمعطيك ما أراك تشاءو لنيل السماء أقرب من ذاك و نجم العيوق و العواءفأعد بالحد و الحديد إليهم ليس و الله غير ذاك دواء

(4/95)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 108 قال نصر و أتم علي ع صلاته يوم دخل الكوفة فلما كانت الجمعة خطب الناس فقال الحمد لله الذي أحمده و أستعينه و أستهديه و أعوذ بالله من الضلالة من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لو أشهد أن محمدا عبده و رسوله انتجبه لأمره و اختصه بنبوته أكرم خلقه عليه و أحبهم إليه فبلغ رسالة ربه و نصح لأمته و أدى الذي عليه أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله و أقربه إلى رضوان الله و خيره في عواقب الأمور عند الله و بتقوى الله أمرتم و للإحسان و الطاعة خلقتم فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه فإنه حذر بأسا شديدا و اخشوا خشية ليست بتعذير و اعملوا في غير رياء و لا سمعة فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل له و من عمل لله مخلصا تولى الله أجره أشفقوا من عذاب الله فإنه لم يخلقكم عبثا و لم يترك شيئا من أمركم سدى قد سمى آثاركم و علم أعمالكم و كتب آجالكم فلا تغتروا بالدنيا فإنها غرارة لأهلها مغرور من اغتر بها و إلى فناء ما هي و إن الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون أسأل الله منازل الشهداء و مرافقة الأنبياء و معيشة السعداء فإنما نحن به و له

(4/96)


قال نصر ثم استعمل علي ع العمال و فرقهم في البلاد و كتب إلى معاوية مع جرير بن عبد الله البجلي ما تقدم ذكره شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 109قال نصر و قال معاوية لعمرو بن العاص أيام كان جرير عنده ينتظر جوابه إنني قد رأيت أن نلقي إلى أهل مكة و أهل المدينة كتاباذكر فيه أمر عثمان فإما أن ندرك به حاجتنا أو نكف القوم عنا فقال له عمرو إنما تكتب إلى ثلاثة نفر رجل راض بعلي فلا يزيده كتابك إلا بصيرة فيه أو رجل يهوي عثمان فلن يزيده كتابك على ما هو عليه أو رجل معتزل فلست في نفسه بأوثق من علي. قال علي ذاك فكتبا أما بعد فإنه مهما غاب عنا من الأمور فلم يغب عنا أن عليا قتل عثمان و الدليل على ذلك مكان قتلته منه و إنما نطلب قتلته حتى يدفعوا إلينا فنقتلهم بكتاب الله عز و جل فإن دفعهم علي إلينا كففنا عنه و جعلناها شورى بين المسلمين على ما جعلها عليه عمر بن الخطاب فأما الخلافة فلسنا نطلبها فأعينونا على أمرنا هذا و انهضوا من ناحيتكم فإن أيدينا و أيديكم إذا اجتمعت على أمر واحد هاب علي ما هو فيه و السلام. فكتب إليهما عبد الله بن عمر أما بعد فلعمري لقد أخطأتما موضع النصرة و تناولتماها من مكان بعيد و ما زاد الله من شك في هذا الأمر بكتابكما إلا شكا و ما أنتما و المشورة و ما أنتما و الخلافة أما أنت يا معاوية فطليق و أما أنت يا عمرو فظنين ألا فكفا أنفسكما فليس لكم فينا ولي و لا نصير و السلام. قال نصر و كتب رجل من الأنصار إليهما مع كتاب عبد الله بن عمر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 11معاوي إن الحق أبلج واضح و ليس بما ربصت أنت و لا عمرونصبت ابن عفان لنا اليوم خدعة كما نصب الشيخان إذ قضي الأمر
يعني طلحة و الزبير رحمهما الله

(4/97)


فهذا كهذاك البلا حذو نعله سواء كرقراق يغر به السفررميتم عليا بالذي لا يضيره و إن عظمت فيه المكيدة و المكرو ما ذنبه إن نال عثمان معشر أتوه من الأحياء تجمعهم مصرفثار إليه المسلمون ببيعة علانية ما كان فيها لهم قسرو بايعه الشيخان ثم تحملا إلى العمرة العظمى و باطنها الغدرفكان الذي قد كان مما اقتصاصه يطول فيا لله ما أحدث الدهرو ما أنتما و النصر منا و أنتما بعيثا حروب ما يبوخ لها جمرو ما أنتما لله در أبيكما و ذكركما الشورى و قد وضح الفجر

(4/98)


قال نصر و قام عدي بن حاتم الطائي إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إن عندي رجلا لا يوازى به رجل و هو يريد أن يزور ابن عمه حابس بن سعد الطائي بالشام فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره و يكسر أهل الشام فقال علي شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 111ع نعم فأمره ع بذلك و كان اسم الرجل خفاف بن عبد الله. فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام و حابس سيد طي ء بها فحدث خفاف حابسا أنه شهد عثمان بالمدينة و سار مع علي إلى الكوفة و كان لخفاف لسان و هيئة و شعر فغدا حابس بخفاف إلى معاوية فقال إن هذا ابن عم لي قدم الكوفة مع عليو شهد عثمان بالمدينة و هو ثقة فقال له معاوية هات حدثنا عن عثمان فقال نعم حصره المكشوح و حكم فيه حكيم و وليه عمار و تجرد في أمره ثلاثة نفر عدي بن حاتم و الأشتر النخعي و عمرو بن الحمق و جد في أمره رجلان و طلحة و الزبير و أبرأ الناس منه علي قال ثم مه قال ثم تهافت الناس على علي بالبيعة تهافت الفراش حتى ضاعت النعل و سقط الرداء و وطئ الشيخ و لم يذكر عثمان و لم يذكر له ثم تهيأ للمسير و خف معه المهاجرون و الأنصار و كره القتال معه ثلاثة نفر سعد بن مالك و عبد الله بن عمر و محمد بن مسلمة فلم يستكره أحدا و استغنى بمن خف معه عمن ثقل ثم سار حتى أتى جبل طي ء فأتته منا جماعة كان ضاربا بهم الناس حتى إذا كان ببعض الطريق أتاه مسير طلحة و الزبير و عائشة إلى البصرة فسرح رجالا إلى الكوفة يدعونهم فأجابوا دعوته فسار إلى البصرة فإذا هي في كفه ثم قدم الكوفة فحمل إليه الصبي و دبت إلي العجوز و خرجت إليه العروس فرحا به و شوقا إليه و تركته و ليس له همة إلا الشام. فذعر معاوية من قوله و قال حابس أيها الأمير لقد أسمعني شعرا غير به حالي في عثمان و عظم به عليا عندي. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 112فقال معاوية أسمعنيه يا خفاف فأنشده شعرا أولهقلت و الليل ساقط الأكناف و لجنبي عن الفراش تجاف

(4/99)


يذكر فيه حال عثمان و قتله و فيه إطالة عدلنا عن ذكره... و من جملته
قد مضى ما مضى و مر به الدهر كما مر ذاهب الأسلاف إنني و الذي يحج له الناس على لحق البطون عجاف تتبارى مثل القسي من النبع بشعث مثل السهام نحاف أرهب اليوم إن أتاكم علي صيحة مثل صيحة الأحقاف إنه الليث غاديا و شجاع مطرق نافث بسم زعاف واضع السيف فوق عاتقه اليفري به شئون القحاف سوم الخيل ثم قال لقوم بايعوه إلى الطعان خفاف استعدوا لحرب طاغية الشام فلبوه كاليدين اللطاف ثم قالوا أنت الجناح لك الريش القدامى و نحن منه الخوافي فانظر اليوم قبل بادرة القوم بسلم تهم أم بخقال فانكسر معاوية و قال يا حابس إني لأظن هذا عينا لعلي أخرجه عنك لئلا يفسد علينا أهل الشام. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 113قال نصر و حدثنا عطية بن غني عن زياد بن رستم قال كتب معاوية إلى عبد الله بن عمر خاصة و إلى سعد بن أبي وقاص و إلى محمد بن مسلمة دون كتا إلى أهل المدينة فكان كتابه إلى عبد الله بن عمر أما بعد فإنه لم يكن أحد من قريش أحب إلي أن يجتمع عليه الناس بعد قتل عثمان منك ثم ذكرت خذلك إياه و طعنك على أنصاره فتغيرت لك و قد هون ذلك علي خلافك على علي و محا عنك بعض ما كان منك فأعنا رحمك الله على حق هذا الخليفة المظلوم فإني لست أريد الإمارة عليك و لكني أريدها لك فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين. فأجابه عبد الله بن عمر أما بعد فإن الرأي الذي أطمعك في هو الذي صيرك إلى ما صيرك إليه اترك عليا في المهاجرين و الأنصار و طلحة و الزبير و عائشة أم المؤمنين و أتبعك و أما زعمك أني طعنت على علي فلعمري ما أنا كعلي في الإيمان و الهجرة و مكانه من رسول الله ص و نكايته في المشركين و لكني عهد إلي في هذا الأمر عهد ففزعت فيه إلى الوقوف و قلت إن كان هذا هدى ففضل تركته و إن كان ضلالا فشر نجوت منه فأغن عنا نفسك و السلام. شرح نهج بلاغة ج : 3 ص : 114قال و كان كتاب معاوية إلى سعد أما

(4/100)


بعد فإن أحق الناس بنصر عثمان أهل الشورى من قريش الذين أثبتوا حقه و اختاروه على غيره و قد نصره طلحة و الزبير و هما شريكان في الأمر و نظيراك في الإسلام و خفت لذلك أم المؤمنين فلا تكرهن ما رضوا و لا تردن ما قبلوا فإنا نردها شورى بين المسلمين. فأجابه سعد أما بعد فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة من قريش فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه إلا بإجماعنا عليه إلا أن عليا كان فيه ما فينا و لم يكن فينا ما فيه و هذا أمر قد كرهت أوله و كرهت آخره فأما طلحة و الزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما و الله يغفر لأم المؤمنين ما أتت و السلام. قال و كان كتاب معاوية إلى محمد بن مسلمة أما بعد فإني لم أكتب إليك و أنا أرجو مبايعتك و لكني أردت أن أذكرك النعمة التي خرجت منها و الشك الذي صرت إليه إنك فارس الأنصار و عدة المهاجرين و قد ادعيت على رسول الله ص أمرا لم تستطع إلا أن تمضي عليه و هو أنه نهاك عن قتال أهل القبلة أ فلا نهيت أهل القبلة عن قتال بعضهم بعضا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 115فقد كان عليك أن تكره لهم ما كره رسول الله ص أ لم تر عثمان و أهل الدار من أهل القبلة فأما قومك فقد عصوا الله و خذلوا عثمان و الله سائلهم و سائلك عما كان يوم القيامة و السلام. قال فكتب إليه محمد بن مسلمة أما بعد فقد اعتزل هذا أمر من ليس في يده من رسول الله ص مثل الذي في يده قد أخبرني رسول الله ص بالذي هو كائن قبل أن يكون فلما كان كسرت سيفي و جلست في بيتي و اتهمت الرأي على الدين إذ لم يصح لي معروف آمر به و لا منكر أنهي عنه و أما أنت فلعمري ما طلبت إلا الدنيا و لا اتبعت إلا الهوى و إن تنصر عثمان ميتا فقد خذلته حيا و السلام
مفارقة جرير بن عبد الله البجلي لعلي

(4/101)


قد أتينا على ما أردنا ذكره من حال أمير المؤمنين ع مذ قدم من حرب البصرة إلى الكوفة و ما جرى بينه و بين معاوية من المراسلات و ما جرى بين معاوية و بين غيره من الصحابة من الاستنجاد و الاستصراخ و ما أجابوه به و نحن نذكر الآن ما جرى لجرير بن عبد الله عند عوده إلى أمير المؤمنين من تهمة الشيعة له بممالأة معاوية عليهم و مفارقته جنبة أمير المؤمنين. قال نصر بن مزاحم حدثنا صالح بن صدقة بإسناده قال قال لما رجع جرير شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 116إلى علي ع كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية فاجتمع جرير و الأشتر د علي ع فقال الأشتر أما و الله يا أمير المؤمنين أن لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخى خناقه و أقام عنده حتى لم يدع بابا يرجو فتحه إلا فتحه و لا بابا يخاف أمره إلا سده. فقال جرير لو كنت و الله أتيتهم لقتلوك و خوفه بعمرو و ذي الكلاع و حوشب و قال إنهم يزعمون أنك من قتلة عثمان. فقال الأشتر و الله لو أتيتهم يا جرير لم يعيني جوابها و لم يثقل علي محملها و لحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر. قال فائتهم إذا قال الآن و قد أفسدتهم و وقع بينهم الشر. و روى نصر عن نمير بن وعلة عن الشعبي قال اجتمع جرير و الأشتر عند علي ع فقال الأشتر أ ليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا و أخبرتك بعداوته و غشه و أقبل الأشتر يشتمه و يقول يا أخا بجيلة إن عثمان اشترى منك دينك بهمدان و الله ما أنت بأهل أن تترك تمشي فوق الأرض إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يدا بمسيرك إليهم ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم و أنت و الله منهم و لا أرى سعيك إلا لهم لئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنك و أشباهك في حبس لا تخرجون منه حتى تستتم هذه الأمور و يهلك الله الظالمين. قال جرير وددت و الله أن لو كنت مكاني بعثت إذن و الله لم ترجع. شرحنهج البلاغة ج : 3 ص : 117قال فلما سمع جرير مثل ذلك من قوله فارق

(4/102)


عليا ع فلحق بقرقيسياء و لحق به ناس من قسر من قومه فلم يشهد صفين من قسر غير تسعة عشر رجلا و لكن شهدها من أحمس سبعمائة رجل. قال نصر و قال الأشتر فيما كان من تخويف من جرير إياه بعمرو و حوشب و ذيالكلاع
لعمرك يا جرير لقول عمرو و صاحبه معاوي بالشام و ذي كلع و حوشب ذي ظليم أخف علي من ريش النعام إذا اجتمعوا علي فخل عنهم و عن باز مخالبه دوامي و لست بخائف ما خوفوني و كيف أخاف أحلام النيام و همهم الذي حاموا عليه من الدنيا و همي ما أمامي فإن أسلم أعمهم بحرب لهولها رأس الغلام و إن أهلك فقد قدمت أمرا أفوز بفلجه يوم الخصام و قد زادوا علي و أوعدوني و من ذا مات من خوف الكلانسب جرير بن عبد الله البجلي و بعض أخباره
و ذكر ابن قتيبة في المعارف أن جريرا قدم على رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 118سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان فبايعه و أسلمو كان جرير صبيح الوجه جميلا قال رسول الله ص كأن على وجهه مسحة ملك
و كان عمر يقول جرير يوسف هذه الأمة و كان طوالا يفتل في ذروة البعير من طوله و كانت نعله ذراعا و كان يخضب لحيته بالزعفران من الليل و يغسلها إذا أصبح فتخرج مثل لون التبر و اعتزل عليا ع و معاوية و أقام بالجزيرة و نواحيها حتى توفي بالشراة سنة أربع و خمسين في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفة. فأما نسبه فقد ذكره ابن الكلبي في جمهرة الأنساب فقال هو جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك بن نضر بن ثعلب بن جشم بن عويف بن حرب بن علي بن مالك بن سعد بن بدير بن قسر و اسمه ملك بن عبقر بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن زيد بن كهلان. و يذكر أهل السير أن عليا ع هدم دار جرير و دور قوم ممن خرج معه حيث فارق عليا ع منهم أبو أراكة بن مالك بن عامر القسري كان ختنه على ابنته و موضع داره بالكوفة كان يعرف بدار أبي أراكة قديما و لعله اليوم نسي ذلك الاسم

(4/103)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 44119- و من كلام له ع لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاويةو كان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين ع و أعتقه فلما طالبه بالمال خاس به و هرب إلى الشام فقال
قَبَحَ اللَّهُ مَصْقَلَةَ فَعَلَ فِعْلَ السَّادَةِ وَ فَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ وَ لَا صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ وَ لَوْ أَقَامَ لَأَخَذْنَا مَيْسُورَهُ وَ انْتَظَرْنَا بِمَالِهِ وُفُورَهُ
خاس به يخيس و يخوس أي غدر به و خاس فلان بالعهد أي نكث. و قبح الله فلانا أي نحاه عن الخير فهو مقبوح. و التبكيت كالتقريع و التعنيف و الوفور مصدر وفر المال أي تم و يجي ء متعديا و يروى موفوره و الموفور التام و قد أخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال يا من مدحناه فأكذبنا بفعاله و أثابنا خجلابردا قشيبا من مدائحنا سربلت فاردده لنا سملاإن التجارب تهتك المستور من أبنائها و تبهرج الرجلا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 120نسب بني ناجيةفأما القول في نسب بني ناجية فإنهم ينسبون أنفسهم إلى سامة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان و قريش تدفعهم عن هذا النسب و يسمونهم بني ناجية و هي أمهم و هي امرأة سامة بن لؤي بن غالب و يقولون إن سامة خرج إلى ناحية البحرين مغاضبا لأخيه كعب بن لؤي في مماظة كانت بينهما فطأطأت ناقته رأسها لتأخذ العشب فعلق بمشفرها أفعى ثم عطفت على قتبها فحكته به فدب الأفعى على القتب حتى نهش ساق سامة فقتله فقال أخوه كعب بن لؤي يرثيه

(4/104)


عين جودي لسامة بن لؤي علقت ساق سامة العلاقه رب كأس هرقتها ابن لؤي حذر الموت لم تكن مهراقهقالوا و كانت معه امرأته ناجية فلما مات تزوجت رجلا في البحرين فولدت منه الحارث و مات أبوه و هو صغير فلما ترعرع طمعت أمه أن تلحقه بقريش فأخبرته أنه ابن سامة بن لؤي بن غالب فرحل من البحرين إلى مكة و معه أمه فأخبر كعب بن لؤي أنه ابن أخيه سامة فعرف كعب أمه ناجية فظن أنه صادق في دعواه فقبله و مكث عنده مدة حتى قدم مكة ركب من البحرين فرأوا الحارث فسلموا عليه و حادثوه فسألهم كعب بن لؤي من أين يعرفونه فقالوا هذا ابن رجل من بلدنا يعرف بفلان و شرحوا له خبره فنفاه كعب عن مكة و نفى أمه فرجعا إلى البحرين فكانا هناك و تزوج الحارث فأعقب هذا العقب. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 121و قال هؤلاء إنه روي عن رسول الله ص أنه قال عمي سامة لم يعقب

(4/105)


و زعم ابن الكلبي أن سامة بن لؤي ولد غالب بن سامة و الحارث بن سامة و أم غالب بن سامة ناجية ثم هلك سامة فخلف عليها ابنه الحارث بن سامة نكاح مقت ثم هلك ابنا سامة و لم يعقبا و إن قوما من بني ناجية بن جرم بن ربان بن علاف ادعوا أنهم بنو سامة بن لؤي و أن أمهم ناجية هذه و نسبوها هذا النسب و انتموا إلى الحارث بن سامة و هم الذين باعهم علي ع على مصقلة بن هبيرة و هذا هو قول الهيثم بن عدي كل هذا ذكره أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني الكبير. و وجدت أنا في جمهرة النسب لابن الكلبي كلاما قد صرح فيه بأن سامة بن لؤي أعقب فقال ولد سامة بن لؤي الحارث و أمه هند بنت تيم و غالب بن سامة و أمه ناجية بنت جرم بن بابان من قضاعة فهلك غالب بعد أبيه و هو ابن اثنتي عشرة سنة فولد الحارث بن سامة لؤيا و عبيدة و ربيعة و سعدا و أمهم سلمى بنت ثيم بن شيبان بن محارب بن فهر و عبد البيت و أمه ناجية بنت جرم خلف عليها الحارث بعد أبيه بنكاح مقت فهم الذين قتلهم علي ع. قال أبو الفرج الأصفهاني أما الزبير بن بكار فإنه أدخلهم في قريش و هم قريش العازبة قال و إنما سموا العازبة لأنهم عزبوا عن قومهم فنسبوا إلى أمهم ناجية بنت جرم بن ربان بن علاف و هو أول من اتخذ الرحال العلافية فنسبت إليه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 122و اسم ناجية ليلى و إنما سميت ناجية لأنها سارت مع سامة في مفازة فعطشت فاستسقته فقال لها الماء بين يديك و هو يريها السراب حتى أتت إلى الماء فشربت فسميت ناجية. قال أبو الفرج و للزبير بن بكار في إدخال في قريش مذهب و هو مخالفة أمير المؤمنين علي ع و ميله إليهم لإجماعهم على بغضه ع حسب المشهور المأثور من مذهب الزبير في ذلك
نسب علي بن الجهم و ذكر طائفة من أخباره و شعره

(4/106)


و من المنتسبين إلى سامة بن لؤي علي بن الجهم الشاعر و هو علي بن الجهم بن بدر بن جهم بن مسعود بن أسيد بن أذينة بن كراز بن كعب بن جابر بن مالك بن عتبة بن الحارث بن عبد البيت بن سامة بن لؤي بن غالب. هكذا ينسب نفسه و كان مبغضا لعلي ع ينحو نحو مروان بن أبي حفصة في هجاء الطالبيين و ذم الشيعة و هو القائل
و رافضة تقول بشعب رضوى إمام خاب ذلك من إمام إمام من له عشرون ألفا من الأتراك مشرعة السهامو قد هجاه أبو عبادة البحتري فقال فيه
إذا ما حصلت عليا قريش فلا في العير أنت و لا النفيرو لو أعطاك ربك ما تمنى لزاد الخلق في عظم الأيور
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 123و ما الجهم بن بدر حين يعزى من الأقمار ثم و لا البدورعلام هجوت مجتهدا عليا بما لفقت من كذب و زورأ ما لك في استك الوجعاء شغل يكفك عن أذى أهل القبوو سمع أبو العيناء علي بن الجهم يوما يطعن على أمير المؤمنين فقال له أنا أدري لم تطعن على أمير المؤمنين فقال أ تعني قصة بيعة أهلي من مصقلة بن هبيرة قال لا أنت أوضع من ذلك و لكنه ع قتل الفاعل من قوم لوط و المفعول به و أنت أسفلهما و من شعر علي بن الجهم لما حبسه المتوكل
أ لم تر مظهرين علي عتبا و هم بالأمس إخوان الصفاءفلما أن بليت غدوا و راحوا علي أشد أسباب البلاءأبت أخطارهم أن ينصروني بمال أو بجاه أو ثراءو خافوا أن يقال لهم خذلتم صديقا فادعوا قدم الجفاءتظافرت الروافض و النصارى و أهل الاعتزال على هجائي
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 124و عابوني و ما ذنبي إليهم سوى علمي بأولاد الزنايعني بالروافض نجاح بن مسلمة و النصارى بختيشوع و أهل الاعتزال علي بن يحيى بن المنجم. قال أبو الفرج و كان علي بن الجهم من الحشوية شديد النصب عدوا للتوحيد و العدل فلما سخط المتوكل على أحمد بن أبي دواد و كفاه شمت به علي بن الجهم فهجاه و قال فيه

(4/107)


يا أحمد بن أبي دواد دعوة بعثت عليك جنادلا و حديداما هذه البدع التي سميتها بالجهل منك العدل و التوحيداأفسدت أمر الدين حين وليته و رميته بأبي الوليد وليدا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 125أبو الوليد بن أحمد بن أبي دواد و كان رتبه قاضيالا محكما جلدا و لا مستطرفا كهلا و لا مستحدثا محموداشرها إذا ذكر المكارم و العلا ذكر القلايا مبدئا و معيداو يود لو مسخت ربيعة كلها و بنو أياد صحفة و ثريداو إذا تربع في المجالس خلته ضبعا و خلت بني أبيه قروداو إذا تبسم ضاحكا شبهته شرقا تعجل شربه مردودالا أصبحت بالخير عين أبصرت تلك المناخر و الثنايا السودا
و قال يهجوه لما فلج
لم يبق منك سوى خيالك لامعا فوق الفراش ممهدا بوسادفرحت بمصرعك البرية كلها من كان منهم موقنا بمعادكم مجلس لله قد عطلته كي لا يحدث فيه بالإسنادو لكم مصابيح لنا أطفأتها حتى تحيد عن الطريق الهادي و لكم كريمة معشر أرملتها و محدث أوثقت في الأقيادإن الأسارى في الجون تفرجوا لما أتتك مواكب العوادو غدا لمصرعك الطبيب فلم يجد لدواء دائك حيلة المرتادفذق الهوان معجلا و مؤجلا و الله رب العرش بالمرصادلا زال فالجك الذي بك دائما و فجعت قبل الموت بالأولاد
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 126و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني في ترجمة مروان بن أبي حفصة الأصغر أن علي بن الجهم خطب امرأة من قريش فلم يزوجوه و بلغ المتوكل ذلك فسأل عن السبب فحدث بقصة بني سامة بن لؤي و أن أبا بكر و عمر لم يدخلاهم في قريش و أن عثن أدخلهم فيها و أن عليا ع أخرجهم منها فارتدوا و أنه قتل من ارتد منهم و سبى بقيتهم فباعهم من مصقلة بن هبيرة فضحك المتوكل و بعث إلى علي بن الجهم فأحضره و أخبره بما قال القوم و كان فيهم مروان بن أبي حفصة المكنى أبا السمط و هو مروان الأصغر و كان المتوكل يغريه بعلي بن الجهم و يضعه على هجائه و ثلبه فيضحك منهما فقال مروان

(4/108)


إن جهما حين تنسبه ليس من عجم و لا عرب لج في شتمي بلا سبب سارق للشعر و النسب من أناس يدعون أبا ما له في الناس من عقفغضب علي بن الجهم و لم يجبه لأنه كان يستحقره فأومأ إليه المتوكل أن يزيده فقال
أ أنتم يا ابن جهم من قريش و قد باعوكم ممن تريدأ ترجو أن تكاثرنا جهارا بأصلكم و قد بيع الجدود
فلم يجبه ابن الجهم فقال فيه أيضا
علي تعرضت لي ضله لجهلك بالشعر يا مائق تروم قريشا و أنسابها و أنت لأنسابها سارق فإن كان سامة جدا لكم فأمك مني إذا طاق
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 127نسب مصقلة بن هبيرةفأما نسب مصقلة بن هبيرة فإن ابن الكلبي قد ذكره في جمهرة النسب فقال هو مصقلة بن هبيرة بن شبل بن يثربي بن إمرئ القيس بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان
خبر بني ناجية مع علي

(4/109)


و أما خبر بني ناجية مع أمير المؤمنين ع فقد ذكره إبراهيم بن هلال الثقفي في كتاب الغارات قال حدثني محمد بن عبد الله بن عثمان عن نصر بن مزاحم قال حدثني عمر بن سعد عمن حدثه ممن أدرك أمر بني ناجية قال لما بايع أهل البصرة عليا بعد الهزيمة دخلوا في الطاعة غير بني ناجية فإنهم عسكروا فبعث إليهم علي ع رجلا من أصحابه في خيل ليقاتلهم فأتاهم فقال ما بالكم عسكرتم و قد دخل الناس في الطاعة غيركم فافترقوا ثلاث فرق فرقه قالوا كنا نصارى فأسلمنا و دخلنا فيما دخل الناس فيه من الفتنة و نحن نبايع كما بايع الناس فأمرهم فاعتزلوا و فرقة قالوا كنا نصارى فلم نسلم و خرجنا مع القوم الذين كانوا خرجوا قهرونا فاخرجونا كرها فخرجنا معهم فهزموا فنحن ندخل فيما دخل الناس فيه و نعطيكم الجزية كما أعطيناهم فقال اعتزلوا فاعتزلوا و فرقة قالوا كنا نصارى فأسلمنا فلم يعجبنا الإسلام فرجعنا إلى النصرانية فنحن نعطيكم الجزية كما أعطاكم النصارى فقال لهم توبوا و ارجعوا إلى الإسلام فأبوا فقتل مقاتلهم و سبى ذراريهم و قدم بهم على علي ع

(4/110)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 128قصة الخريت بن راشد الناجي و خروجه على علي قال ابن هلال الثقفي و روى محمد بن عبد الله بن عثمان عن أبي سيف عن الحارث بن كعب الأزدي عن عمه عبد الله بن قعين الأزدي قال كان الخريت بن راشد الناجي أحد بني ناجية قد شهد مع علي ع صفين فجاء إلى علي ع بعد انقضاء صفين و بعد تحكيم الحكمين في ثلاثين من أصحابه يمشي بينهم حتى قام بين يديه فقال لا و الله لا أطيع أمرك و لا أصلي خلفك و إني غدا لمفارق لك فقال له ثكلتك أمك إذا تنقض عهدك و تعصي ربك و لا تضر إلا نفسك أخبرني لم تفعل ذلك قال لأنك حكمت في الكتاب و ضعفت عن الحق إذ جد الجد و ركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم فأنا عليك راد و عليهم ناقم و لكم جميعا مباين. فقال له علي ع ويحك هلم إلي أدارسك و أناظرك في السنن و أفاتحك أمورا من الحق أنا أعلم بها منك فلعلك تعرف ما أنت الآن له منكر و تبصر ما أنت الآن عنه عم و به جاهل فقال الخريت فإني غاد عليك غدا فقال علي ع اغد و لا يستهوينك الشيطان و لا يتقحمن بك رأي السوء و لا يستخفنك الجهلاء الذين لا يعلمون فو الله إن استرشدتني و استنصحتني و قبلت مني لأهدينك سبيل الرشاد

(4/111)


فخرج الخريت من عنده منصرفا إلى أهله. قال عبد الله بن قعين فعجلت في أثره مسرعا و كان لي من بني عمه صديق فأردت أن ألقى ابن عمه في ذلك فأعلمه بما كان من قوله لأمير المؤمنين و آمر ابن عمه أن يشتد بلسانه عليه و أن يأمره بطاعة أمير المؤمنين و مناصحته و يخبره أن ذلك خير له في عاجل الدنيا و آجل الآخرة. قال فخرجت حتى انتهيت إلى منزله و قد سبقني فقمت عند باب دار فيها رجال من أصحابه لم يكونوا شهدوا معه دخوله على أمير المؤمنين ع فو الله ما رجع شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 129و لا ندم على ما قال لأمير المؤمنين و ما رد عل و لكنه قال لهم يا هؤلاء إني قد رأيت أن أفارق هذا الرجل و قد فارقته على أن أرجع إليه من غد و لا أرى إلا المفارقة فقال له أكثر أصحابه لا تفعل حتى تأتيه فإن أتاك بأمر تعرفه قبلت منه و إن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه قال لهم نعم ما رأيتم قال فاستأذنت عليهم فأذنوا لي فأقبلت على ابن عمه و هو مدرك بن الريان الناجي و كان من كبراء العرب فقلت له إن لك على حقا لإحسانك و ودك و حق المسلم على المسلم إن ابن عمك كان منه ما قد ذكر لك فأخل به فاردد عليه رأيه و عظم عليه ما أتى و اعلم أني خائف إن فارق أمير المؤمنين أن يقتلك و نفسه و عشيرته فقال جزاك الله خيرا من أخ إن أراد فراق أمير المؤمنين ع ففي ذلك هلاكه و إن اختار مناصحته و الإقامة معه ففي ذلك حظه و رشده. قال فأردت الرجوع إلى علي ع لأعلمه الذي كان ثم اطمأننت إلى قول صاحبي فرجعت إلى منزلي فبت ثم أصبحت فلما ارتفع النهار أتيت أمير المؤمنين ع فجلست عنده ساعة و أنا أريد أن أحدثه بالذي كان على خلوة فأطلت الجلوس و لا يزداد الناس إلا كثرة فدنوت منه فجلست وراءه فأصغى إلي برأسه فأخبرته بما سمعته من الخريت و ما قلت لابن عمه و ما رد علي فقال ع دعه فإن قبل الحق و رجع عرفنا له ذلك و قبلناه منه فقلت يا أمير المؤمنين فلم لا تأخذه الآن فتستوثق منه

(4/112)


فقال إنا لو فعلنا هذا بكل من يتهم من الناس ملأنا السجون منهم و لا أراني يسعني الوثوب بالناس و الحبس لهم و عقوبتهم حتى يظهروا لي الخلاف. قال فسكت عنه و تنحيت فجلست مع أصحابي هنيهة فقال لي ع شرح هج البلاغة ج : 3 ص : 130ادن مني فدنوت فقال لي مسرا اذهب إلى منزل الرجل فاعلم ما فعل فإنه قل يوم لم يكن يأتيني فيه قبل هذه الساعة فأتيت إلى منزله فإذا ليس في منزله منهم ديار فدرت على أبواب دور أخرى كان فيها طائفة من أصحابه فإذا ليس فيها داع و لا مجيب فأقبل إلى أمير المؤمنين ع فقال لي حين رآني أ وطنوا فأقاموا أم جبنوا فظعنوا قلت لا بل ظعنوا فقال أبعدهم الله كما بعدت ثمود أما و الله لو قد أشرعت لهم الأسنة و صبت على هامهم السيوف لقد ندموا إن الشيطان قد استهواهم و أضلهم و هو غدا متبرئ منهم و مخل عنهم فقام إليه زياد بن خصفة فقال يا أمير المؤمنين إنه لو لم يكن من مضرة هؤلاء إلا فراقهم إيانا لم يعظم فقدهم علينا فإنهم قلما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا و قلما ينقصون من عددنا بخروجهم منا و لكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممن يقدمون عليهم من أهل طاعتك فائذن لي في اتباعهم حتى أردهم عليك إن شاء الله. فقال له ع فاخرج في آثارهم راشدا فلما ذهب ليخرج قال له و هل تدري أين توجه القوم قال لا و الله و لكني أخرج فأسأل و أتبع الأثر فقال اخرج رحمك الله حتى تنزل دير أبي موسى ثم لا تبرحه حتى يأتيك أمري فإنهم إن كانوا خرجوا ظاهرين بارزين للناس في جماعة فإن عمالي ستكتب إلي بذلك و إن كانوا متفرقين مستخفين فذلك أخفى لهم و سأكتب إلى من حولي من عمالي فيهم.

(4/113)


فكتب نسخة واحدة و أخرجها إلى العمال من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من العمال أما بعد فإن رجالا لنا عندهم تبعة خرجوا هرابا نظنهم خرجوا نحو بلاد البصرة فاسأل عنهم أهل بلادك و اجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك ثم اكتب إلي بما ينتهي إليك عنهم و السلام
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 131فخرج زياد بن خصفة حتى أتى داره و جمع أصحابه فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا معشر بكر بن وائل إن أمير المؤمنين ندبني لأمر من أموره مهم له و أمرني بالانكماش فيه بالعشيرة حتى آتي أمره و أنتم شيعته و أنصاره و أوثق حي من أحياء الب في نفسه فانتدبوا معي الساعة و عجلوا فو الله ما كان إلا ساعة حتى اجتمع إليه مائة و ثلاثون رجلا فقال اكتفينا لا نريد أكثر من هؤلاء فخرج حتى قطع الجسر ثم أتى دير أبي موسى فنزله فأقام به بقية يومه ذلك ينتظر أمر أمير المؤمنين ع. قال إبراهيم بن هلال فحدثني محمد بن عبد الله عن ابن أبي سيف عن أبي الصلت التيمي عن أبي سعيد عن عبد الله بن وأل التيمي قال إني لعند أمير المؤمنين إذا فيج قد جاءه يسعى بكتاب من قرظة بن كعب بن عمرو الأنصاري و كان أحد عماله فيه لعبد الله علي أمير المؤمنين من قرظة بن كعب سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أن خيلا مرت من قبل الكوفة متوجهة نحو نفر و أن رجلا من دهاقين أسفل الفرات قد أسلم و صلى يقال له زاذان فروخ أقبل من عند أخوال له فلقوه فقالوا له أ مسلم أنت أم كافر قال بل مسلم قالوا فما تقول في علي قال أقول فيه خيرا أقول إنه أمير المؤمنين ع و سيد البشر و وصي رسول الله ص فقالوا كفرت يا عدو الله ثم حملت عليه عصابة منهم فقطعوه بأسيافهم و أخذوا معه رجلا من أهل الذمة يهوديا فقالوا له ما دينك قال يهودي فقالوا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 132خلوا سبيل هذا لسبيل لكم عليه فأقبل إلينا ذلك الذمي فأخبرنا

(4/114)


الخبر و قد سألت عنهم فلم يخبرني أحد عنهم بشي ء فليكتب إلي أمير المؤمنين فيهم برأي أنته إليه إن شاء الله. فكتب إليه أمير المؤمنين ع أما بعد فقد فهمت ما ذكرت من أمر العصابة التي مرت بعملك فقتلت البر المسلم و أمن عندهم المخالف المشرك و أن أولئك قوم استهواهم الشيطان فضلوا كالذين حسبوا ألا تكون فتنة فعموا و صموا فأسمع بهم و أبصر يوم تخبر أعمالهم فالزم عملك و أقبل على خراجك فإنك كما ذكرت في طاعتك و نصيحتك و السلام
قال فكتب علي ع إلى زياد بن خصفة مع عبد الله بن وأل التيمي كتابا نسخته أما بعد فقد كنت أمرتك أن تنزل دير أبي موسى حتى يأتيك أمري و ذلك أني لم أكن علمت أين توجه القوم و قد بلغني أنهم أخذوا نحو قرية من قرى السواد فاتبع آثارهم و سل عنهم فإنهم قد قتلوا رجلا من أهل السواد مسلما مصليا فإذا أنت لحقت بهم فارددهم إلي فإن أبوا فناجزهم و استعن بالله عليهم فإنهم قد فارقوا الحق و سفكوا الدم الحرام و أخافوا السبيل و السلام

(4/115)


قال عبد الله بن وأل فأخذت الكتاب منه ع و أنا يومئذ شاب فمضيت به غير بعيد ثم رجعت إليه فقلت يا أمير المؤمنين أ لا أمضي مع زياد بن خصفة إلى عدوك إذا دفعت إليه كتابك فقال يا ابن أخي افعل فو الله إني لأرجو أن تكون من أعواني على الحق و أنصاري على القوم الظالمين قال فو الله ما أحب أن لي بمقالته شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 133تلك حمر النعم فقلت له يا أمير المؤمنين أنا و الله كذلك من أولئك أنا و الله حيث تحب. ثم مضيت إلى زياد بالكتاب و أنا على فرس رائع كريم و على السلاح فقال لي زياد يا ابن أخي و الله ما لي عنك من غ و إني أحب أن تكون معي في وجهي هذا فقلت إني قد استأذنت أمير المؤمنين في ذلك فأذن لي فسر بذلك ثم خرجنا حتى أتينا الموضع الذي كانوا فيه فسألنا عنهم فقيل أخذوا نحو المدائن فلحقناهم و هم نزول بالمدائن و قد أقاموا بها يوما و ليلة و قد استراحوا و علفوا خيولهم فهم جامون مريحون و أتيناهم و قد تقطعنا و لغبنا و نصنا فلما رأونا وثبوا على خيولهم فاستووا عليها فجئنا حتى انتهينا إليهم فنادى الخريت بن راشد يا عميان القلوب و الأبصار أ مع الله و كتابه أنتم أم مع القوم الظالمين فقال له زياد بن خصفة بل مع الله و كتابه و سنة رسوله و مع من الله و رسوله و كتابه آثر عنده من الدنيا ثوابا و لو أنها منذ يوم خلقت إلى يوم تفنى لآثر الله عليها أيها العمي الأبصار الصم الأسماع. فقال الخريت فأخبرونا ما تريدون فقال له زياد و كان مجربا رفيقا قد ترى ما بنا من النصب و اللغوب و الذي جئنا له لا يصلح فيه الكلام علانية على رءوس أصحابك و لكن تنزلون و ننزل ثم نخلو جميعا فنتذاكر أمرنا و ننظر فيه فإن رأيت فيما جئنا له حظا لنفسك قبلته و إن رأيت فيما أسمع منك أمرا أرجو فيه العافية لنا و لك لم أرده عليك. فقال الخريت انزل فنزل فأقبل إلينا زياد فقال انزلوا على هذا الماء فأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فنزلنا به فما هو إلا

(4/116)


أن نزلنا فتفرقنا فتحلقنا عشرة و تسعة و ثمانية و سبعة تضع كل حلقة طعامها بين أيديها لتأكل ثم تقوم إلى الماء فتشرب. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 134و قال لنا زياد علقوا على خيولكم فعلقنا عليها مليها و وقف زياد في خمسة فوارس أحدهم عبد الله بن وأل بيننا و بين القوم و انطلق القوم فتنحوا فنزلوا و أقبل إلينا زياد فلما رأى تفرقنا و تحلقنا قال سبحان الله أنتم أصحاب حرب و الله لو أن هؤلاء جاءوكم الساعة على هذه الحالة ما أرادوا من غرتكم أفضل من أعمالكم التي أنتم عليها عجلوا قوموا إلى خيولكم فأسرعنا فمنا من يتوضأ و منا من يشرب و منا من يسقي فرسه حتى إذا فرغنا من ذلك أتينا زيادا و إن في يده لعرقا ينهسه فنهس منه نهستين أو ثلاثة ثم أتى بإداوة فيها ماء فشرب ثم ألقى العرق من يده و قال يا هؤلاء إنا قد لقينا العدو و إن القوم لفي عدتكم و لقد حزرتهم فما أظن أحد الفريقين يزيد على الآخر خمسة نفر فإني أرى أمركم و أمرهم سيصير إلى القتال فإن كان ذلك فلا تكونوا أعجز الفريقين. ثم قال ليأخذ كل رجل منكم بعنان فرسه فإذا دنوت منهم و كلمت صاحبهم فإن تابعني على ما أريد و إلا فإذا دعوتكم فاستووا على متون خيلكم ثم أقبلوا معا غير متفرقين ثم استقدم أمامنا و أنا معه فسمعت رجلا من القوم يقول جاءكم القوم و هم كالون معيون و أنتم جامون مريحون فتركتموهم حتى نزلوا فأكلوا و شربوا و أراحوا دوابهم هذا و الله سوء الرأي. قال و دعا زياد صاحبهم الخريت فقال له اعتزل ننظر في أمرنا فأقبل إليه في خمسة نفر فقلت لزياد أدعو لك ثلاثة نفر من أصحابنا حتى نلقاهم في عددهم فقال ادع من أحببت فدعوت له ثلاثة فكنا خمسة و هم خمسة. فقال له زياد ما الذي نقمت على أمير المؤمنين و علينا حتى فارقتنا فقال لم أرض

(4/117)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 135صاحبكم إماما و لم أرض بسيرتكم سيرة فرأيت أن أعتزل و أكون مع من يدعو إلى الشورى بين الناس فإذا اجتمع الناس على رجل هو لجميع الأمة رضا كنت مع الناس. فقال زياد ويحك و هل يجتمع الناس على رجل يداني عليا عالما بالله و بكتابه و سنةسوله مع قرابته و سابقته في الإسلام فقال الخريت هو ما أقول لك فقال ففيم قتلتم الرجل المسلم فقال الخريت ما أنا قتلته قتلته طائفة من أصحابي قال فادفعهم إلينا قال ما إلي ذلك من سبيل قال أو هكذا أنت فاعل قال هو ما تسمع. قال فدعونا أصحابنا و دعا الخريت أصحابه ثم اقتتلنا فو الله ما رأيت قتالا مثله منذ خلقني الله لقد تطاعنا بالرماح حتى لم يبق في أيدينا رمح ثم اضطربنا بالسيوف حتى انحنت و عقرت عامه خيلنا و خيلهم و كثرت الجراح فيما بيننا و بينهم و قتل منا رجلان مولى لزياد كانت معه رأيته يدعى سويدا و رجل من الأبناء يدعى واقد بن بكر و صرع منهم خمسة نفر و حال الليل بيننا و بينهم و قد و الله كرهونا و كرهناهم و هرونا و هررناهم و قد جرح زياد و جرحت ثم إنا بتنا في جانب و تنحوا فمكثوا ساعة من الليل ثم مضوا فذهبوا و أصبحنا فوجدناهم قد ذهبوا فو الله ما كرهنا ذلك فمضينا حتى أتينا البصرة و بلغنا أنهم أتوا الأهواز فنزلوا في جانب منها و تلاحق بهم ناس من أصحابهم نحو مائتين كانوا معهم بالكوفة لم يكن لهم من القوة ما ينهضون به معهم حين نهضوا فاتبعوهم من بعد لحوقهم بالأهواز فأقاموا معهم. قال و كتب زياد بن خصفة إلى علي ع أما بعد فإنا لقينا عدو الله الناجي و أصحابه بالمدائن فدعوناهم إلى الهدى و الحق و كلمة شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 136السواء فتولوا عن الحق و أخذتهم العزة بالإثم و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فقصدونا و صمدنا صمدهم فاقتتلنا قتالا شديدا ما بين قائم الظهر إلى أن دلكالشمس و استشهد منا رجلان صالحان و أصيب منهم خمسة نفر و خلوا لنا

(4/118)


المعركة و قد فشت فينا و فيهم الجراح ثم إن القوم لما أدركوا الليل خرجوا من تحته متنكرين إلى أرض الأهواز و قد بلغني أنهم نزلوا من الأهواز جانبا و نحن بالبصرة نداوي جراحنا و ننتظر أمرك رحمك الله و السلام. فلما أتاه الكتاب قرأه على الناس فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال أصلحك الله يا أمير المؤمنين إنما كان ينبغي أن يكون مكان كل رجل من هؤلاء الذين بعثتهم في طلبهم عشرة من المسلمين فإذا لحقوهم استأصلوا شأفتهم و قطعوا دابرهم فأما أن تلقاهم بأعدادهم فلعمري ليصبرن لهم فإنهم قوم عرب و العدة تصبر للعدة فيقاتلون كل القتال.
قال فقال ع له تجهز يا معقل إليهم و ندب معه ألفين من أهل الكوفة فيهم يزيد بن معقل
و كتب إلى عبد الله بن العباس بالبصرة رحمه الله تعالى أما بعد فابعث رجلا من قبلك صليبا شجاعا معروفا بالصلاح في ألفي رجل من أهل البصرة فليتبع معقل بن قيس فإذا خرج من أرض البصرة فهو أمير أصحابه حتى يلقى معقلا فإذا لقيه فمعقل أمير الفريقين فليسمع منه و ليطعه و لا يخالفه و مر زياد بن خصفة فليقبل إلينا فنعم المرء زياد و نعم القبيل قبيله و السلام

(4/119)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 137 قال و كتب ع إلى زياد بن خصفة أما بعد فقد بلغني كتابك و فهمت ما ذكرت به الناجي و أصحابه الذين طبع الله على قلوبهم و زين لهم الشيطان أعمالهم فهم حيارى عمون يحسبون أنهم يحسنون صنعا و وصفت ما بلغ بك و بهم الأمر فأما أنت و أصحابفلله سعيكم و عليه جزاؤكم و أيسر ثواب الله للمؤمن خير له من الدنيا التي يقبل الجاهلون بأنفسهم عليها فما عندكم ينفد و ما عند الله باق و لنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون و أما عدوكم الذين لقيتم فحسبهم خروجهم من الهدى و ارتكاسهم في الضلالة و ردهم الحق و جماحهم في التيه فذرهم و ما يفترون و دعهم في طغيانهم يعمهون فأسمع بهم و أبصر فكأنك بهم عن قليل بين أسير و قتيل فأقبل إلينا أنت و أصحابك مأجورين فقد أطعتم و سمعتم و أحسنتم البلاء و السلام
قال و نزل الناجي جانبا من الأهواز و اجتمع إليه علوج كثير من أهلها ممن أراد كسر الخراج و من اللصوص و طائفة أخرى من الأعراب ترى رأيه. قال إبراهيم بن هلال فحدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني ابن أبي سيف عن الحارث بن كعب عن عبد الله بن قعين قال كنت أنا و أخي كعب بن قعين في ذلك الجيش مع معقل بن قيس فلما أراد الخروج أتى أمير المؤمنين ع يودعه
فقال يا معقل بن قيس اتق الله ما استطعت فإنه وصية الله للمؤمنين لا تبغ على أهل القبلة و لا تظلم أهل الذمة و لا تتكبر فإن الله لا يحب المتكبرين

(4/120)


فقال معقل الله المستعان فقال خير مستعان. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 138ثم قام فخرج و خرجنا معه حتى نزل الأهواز فأقمنا ننتظر بعث البصرة فأبطأ علينا فقام معقل فقال أيها الناس إنا قد انتظرنا أهل البصرة و قد أبطئوا علينا و ليس بنا بحمد الله قلة و لا وحشة إلى ناس فسيروا بنا إلى هذا العدو القليل الذليل فإني أرجو أن ينصركم الله و يهلكهم فقام إليه أخي كعب بن قعين فقال أصبت إن شاء الله رأينا رأيك و إني لأرجو أن ينصرنا الله عليهم و إن كانت الأخرى فإن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا فقال سيروا على بركة الله فسرنا فو الله ما زال معقل بن قيس لي و لأخي مكرما وادا ما يعدل بنا أحدا من الجند و لا يزال يقول لأخي كيف قلت إن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا صدقت و الله و أحسنت و وفقت وفقك الله قال فو الله ما سرنا يوما و إذا بفيج يشتد بصحيفة في يده. من عبد الله بن عباس إلى معقل بن قيس أما بعد فإن أدركك رسولي بالمكان الذي كنت مقيما به أو أدركك و قد شخصت منه فلا تبرحن من المكان الذي ينتهي إليك رسولي و أنت فيه حتى يقدم عليك بعثنا الذي وجهناه إليك فقد وجهت إليك خالد بن معدان الطائي و هو من أهل الدين و الصلاح و النجدة فاسمع منه و أعرف ذلك له إن شاء الله و السلام. قال فقرأه معقل بن قيس على أصحابه فسروا به و حمدوا الله و قد كان ذلك الوجه هالهم و أقمنا حتى قدم علينا خالد بن معدان الطائي و جاءنا حتى دخل على صاحبنا فسلم عليه بالإمرة و اجتمعنا جميعا في عسكر واحد ثم خرجنا إلى الناجي و أصحابه فأخذوا يرتفعون نحو جبال رامهرمز يريدون قلعة حصينة و جاءنا أهل البلد فأخبرونا بذلك فخرجنا في آثارهم فلحقناهم و قد دنوا من الجبل فصففنا لهم ثم أقبلنا نحوهم فجعل معقل على ميمنته يزيد بن المعقل الأزدي و على ميسرته منجاب بن راشد الضبي و وقف شرح نهج البلة ج : 3 ص : 139الخريت بن راشد الناجي بمن معه من العرب فكانوا ميمنة

(4/121)


و جعل أهل البلد و العلوج و من أراد كسر الخراج و جماعة من الأكراد ميسرة. قال و سار فينا معقل يحرضنا و يقول يا عباد الله لا تبدءوا القوم و غضوا الأبصار و أقلوا الكلام و وطنوا أنفسكم على الطعن و الضرب و أبشروا في قتالهم بالأجر العظيم إنما تقاتلون مارقة مرقت و علوجا منعوا الخراج و لصوصا و أكرادا فما تنتظرون فإذا حملت فشدوا شدة رجل واحد. قال فمر في الصف يكلمهم يقول هذه المقالة حتى إذا مر بالناس كلهم أقبل فوقف وسط الصف في القلب و نظرنا إليه ما يصنع فحرك رأسه تحريكتين ثم حمل في الثالثة و حملنا معه جميعا فو الله ما صبروا لنا ساعة حتى ولوا و انهزموا و قتلنا سبعين عربيا من بني ناجية و من بعض من اتبعه من العرب و نحو ثلاثمائة من العلوج و الأكراد. قال كعب و نظرت فإذا صديقي مدرك بن الريان قتيلا و خرج الخريت منهزما حتى لحق بسيف من أسياف البحر و بها جماعة من قومه كثير فما زال يسير فيهم و يدعوهم إلى خلاف علي ع و يزين لهم فراقه و يخبرهم أن الهدى في حربه و مخالفته حتى اتبعه منهم ناس كثير. و أقام معقل بن قيس بأرض الأهواز و كتب إلى أمير المؤمنين ع بالفتح و كنت أنا الذي قدم بالكتاب عليه و كان في الكتاب لعبد الله علي أمير المؤمنين من معقل بن قيس سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنا لقينا المارقين و قد استظهروا علينا بالمشركين شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 140فقتلنا منهم ناسا كثيرا و لم نعد فيهميرتك فلم نقتل منهم مدبرا و لا أسيرا و لم نذفف منهم على جريح و قد نصرك الله و المسلمين و الحمد لله رب العالمين. قال فلما قدمت بالكتاب على علي ع قرأه على أصحابه و استشارهم في الرأي فاجتمع رأي عامتهم على قول واحد قالوا نرى أن تكتب إلى معقل بن قيس يتبع آثارهم و لا يزال في طلبهم حتى يقتلهم أو ينفيهم من أرض الإسلام فإنا لا نأمن أن يفسدوا عليك الناس.

(4/122)


قال فردني إليه و كتب معي أما بعد فالحمد لله على تأييده أولياءه و خذله أعداءه جزاك الله و المسلمين خيرا فقد أحسنتم البلاء و قضيتم ما عليكم فاسأل عن أخي بني ناجية فإن بلغك أنه استقر في بلد من البلدان فسر إليه حتى تقتله أو تنفيه فإنه لم يزل للمسلمين عدوا و للفاسقين وليا و السلام
قال فسأل معقل عن مسيره و المكان الذي انتهى إليه فنبئ بمكانه بسيف البحر بفارس و أنه قد رد قومه عن طاعة علي ع و أفسد من قبله من عبد القيس و من والاهم من سائر العرب و كان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين و منعوها في ذلك العام أيضا فسار إليهم معقل بن قيس في ذلك الجيش من أهل الكوفة و البصرة فأخذوا على أرض فارس حتى انتهوا إلى أسياف البحر فلما سمع الخريت بن راشد بمسيره أقبل على من كان معه من أصحابه ممن يرى رأي الخوارج فأسر إليهم إني أرى رأيكم و أن عليا ما كان ينبغي له أن يحكم الرجال في دين الله و قال لمن يرى رأي عثمان و أصحابه أنا على رأيكم و إن عثمان قتل مظلوما معقولا و قال لمن منع الصدقة شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 141شدوا أيديكم على صدقاتكم ثم صلوا بها أرحامكم و عودوا إن شئتم على فقرائكم فأرضى كل طائفة بضرب من القول و كان فيهم نصارى كثير و قد كانوا أسلموا فلما رأوالك الاختلاف قالوا و الله لديننا الذي خرجنا منه خير و أهدى من دين هؤلاء الذين لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء و إخافة السبل فرجعوا إلى دينهم. فلقي الخريت أولئك فقال ويحكم إنه لا ينجيكم من القتل إلا الصبر لهؤلاء القوم و لقتالهم أ تدرون ما حكم علي فيمن أسلم من النصارى ثم رجع إلى النصرانية لا و الله لا يسمع له قولا و لا يرى له عذرا و لا يقبل منه توبة و لا يدعوه إليها و إن حكمه فيه أن يضرب عنقه ساعة يستمكن منه فما زال حتى خدعهم و جاءهم من كان من بني ناجية في تلك الناحية و من غيرهم فاجتمع إليه ناس كثير و كان منكرا داهيا. قال فلما رجع معقل قرأ على أصحابه

(4/123)


كتابا من علي ع
فيه من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المسلمين و المؤمنين و المارقين و النصارى و المرتدين سلام على من اتبع الهدى و آمن بالله و رسوله و كتابه و البعث بعد الموت وافيا بعهد الله و لم يكن من الخائنين أما بعد فإني أدعوكم إلى كتاب الله و سنة نبيه و أن أعمل فيكم بالحق و بما أمر الله تعالى في كتابه فمن رجع منكم إلى رحله و كف يده و اعتزل هذا المارق الهالك المحارب الذي حارب الله و رسوله و المسلمين و سعى في الأرض فسادا فله الأمان على ماله و دمه و من تابعه على حربنا و الخروج من طاعتنا استعنا بالله عليه و جعلناه بيننا و بينه و كفى بالله وليا و السلام

(4/124)


قال فأخرج معقل راية أمان فنصبها و قال من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت و أصحابه الذين نابذوا أول مرة فتفرق عن الخريت كل من كان معه من غير قومه و عبأ معقل بن قيس أصحابه ثم زحف بهم نحوه و قد حضر مع الخريت جميع شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 142قومه مسلمهم وصرانيهم و مانعي الصدقة منهم فجعل مسلميهم يمنة و النصارى و مانعي الصدقة يسرة و جعل يقول لقومه امنعوا اليوم حريمكم و قاتلوا عن نسائكم و أولادكم و الله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم و ليسلبنكم. فقال له رجل من قومه هذا و الله ما جرته علينا يدك و لسانك فقال لهم قاتلوا فقد سبق السيف العذل. قال و سار معقل بن قيس يحرض أصحابه فيما بين الميمنة و الميسرة و يقول أيها الناس ما تدرون ما سيق إليكم في هذا الموقف من الأجر العظيم إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة و ارتدوا عن الإسلام و نكثوا البيعة ظلما و عدوانا إني شهيد لمن قتل منكم بالجنة و من عاش بأن الله يقر عينه بالفتح و الغنيمة ففعل ذلك حتى مر بالناس أجمعين ثم وقف في القلب برايته و بعث إلى يزيد بن المعقل الأزدي و هو في الميمنة أن احمل عليهم فحمل فثبتوا له فقاتل طويلا و قاتلوه ثم رجع حتى وقف موقفه الذي كان فيه من الميمنة ثم بعث إلى المنجاب بن راشد الضبي و هو في الميسرة أن احمل عليهم فحمل فثبتوا له فقاتل طويلا و قاتلوه ثم رجع حتى وقف موقفه الذي كان في الميسرة ثم بعث معقل إلى ميمنته و ميسرته إذا حملت فاحملوا جميعا ثم أجرى فرسه و ضربها و حمل أصحابه فصبروا لهم ساعة. ثم إن النعمان بن صهبان الراسبي بصر بالخريت فحمل عليه فصرعه عن فرسه ثم نزل إليه و قد جرحه فاختلفا بينهما ضربتين فقتله النعمان و قتل معه في المعركة سبعون و مائة و ذهب الباقون في الأرض يمينا و شمالا و بعث معقل الخيل إلى رحالهم فسبى من أدرك فيها رجالا و نساء و صبيانا ثم نظر فيهم فمن كان مسلما خلاه و أخذ شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 143بيعته

(4/125)


و خلى سبيل عياله و من كان ارتد عن الإسلام عرض عليه الرجوع إلى الإسلام و إلا القتل فأسلموا فخلى سبيلهم و سبيل عيالاتهم إلا شيخا منهم نصرانيا يقال له الرماحس بن منصور فإنه قال و الله ما زلت يبا مذ عقلت إلا في خروجي من ديني دين الصدق إلى دينكم دين السوء لا و الله لا أدع ديني و لا أقرب دينكم ما حييت. فقدمه معقل فضرب عنقه و جمع الناس فقال أدوا ما عليكم في هذه السنين من الصدقة فأخذ من المسلمين عقالين و عمد إلى النصارى و عيالاتهم فاحتملهم معه و أقبل المسلمون الذين كانوا معهم يشيعونهم فأمر معقل بردهم فلما ذهبوا لينصرفوا تصايحوا و دعا الرجال و النساء بعضهم إلى بعض. قال فلقد رحمتهم رحمة ما رحمتها أحدا قبلهم و لا بعدهم و كتب معقل إلى علي ع أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين عن جنده و عن عدوه إنا دفعنا إلى عدونا بأسياف البحر فوجدنا بها قبائل ذات حد و عدد و قد جمعوا لنا فدعوناهم إلى الجماعة و الطاعة و إلى حكم الكتاب و السنة و قرأنا عليهم كتاب أمير المؤمنين ع و رفعنا لهم راية أمان فمالت إلينا طائفة منهم و ثبتت طائفة أخرى فقبلنا أمر التي أقبلت و صمدنا إلى التي أدبرت فضرب الله وجوههم و نصرنا عليهم فأما من كان مسلما فإنا مننا عليه و أخذنا بيعته لأمير المؤمنين و أخذنا منهم الصدقة التي كانت عليهم و أما من ارتد فعرضنا عليهم الرجوع إلى الإسلام و إلا قتلناهم فرجعوا إلى الإسلام غير رجل واحد فقتلناه و أما النصارى فإنا سبيناهم و أقبلنا بهم ليكونوا نكالا لمن بعدهم من أهل الذمة كي لا يمنعوا الجزية و لا يجترئوا على قتال أهل القبلة و هم للصغار و الذلة

(4/126)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 144أهل رحمك الله يا أمير المؤمنين و عليك الصلاة و السلام و أوجب لك جنات النعيم و السلام. قال ثم أقبل بالأسارى حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني و هو عامل لعلي ع على أردشيرخرة و هم خمسمائة إنسان فبكى إليه النساء و الصبيان و تصا الرجال يا أبا الفضل يا حامل الثقل يا مؤي الضعيف و فكاك العصاة امنن علينا فاشترنا و أعتقنا فقال مصقلة أقسم بالله لأتصدقن عليهم إن الله يجزي المتصدقين فبلغ قوله معقل بن قيس فقال و الله لو أعلمه قالها توجعا لهم و إزراء علي لضربت عنقه و إن كان في ذلك فناء بني تميم و بكر بن وائل. ثم إن مصقلة بعث ذهل بن الحارث الذهلي إلى معقل فقال بعني نصارى ناجية فقال أبيعكهم بألف ألف درهم فأبى عليه فلم يزل يراوده حتى باعه إياهم بخمسمائة ألف درهم و دفعهم إليه و قال عجل بالمال إلى أمير المؤمنين ع فقال مصقلة أنا باعث الآن بصدر منه ثم أتبعك بصدر آخر ثم كذلك حتى لا يبقى منه شي ء و أقبل معقل إلى أمير المؤمنين ع فأخبره بما كان من الأمر فقال له أحسنت و أصبت و وفقت. و انتظر علي ع مصقلة أن يبعث بالمال فأبطأ به و بلغ عليا ع أن مصقلة خلى الأسارى و لم يسألهم أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشي ءقال ما أرى مصقلة إلا قد حمل حمالة و لا أراكم إلا سترونه عن قريب مبلدحا
ثم كتب إليه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 145أما بعد فإن من أعظم الخيانة خيانة الأمة و أعظم الغش على أهل المصر غش الإمام و عندك من حق المسلمين خمسمائة ألف درهم فابعث بها إلى حين يأتيك رسولي و إلا فأقبل إلي حين تنظر في كتابي فإني قد تقدمت إلى رسولي ألا يدعك عة واحدة تقيم بعد قدومه عليك إلا أن تبعث بالمال و السلام

(4/127)


و كان الرسول أبو جرة الحنفي فقال له أبو جرة إن تبعث بهذا المال و إلا فاشخص معي إلى أمير المؤمنين فلما قرأ كتابه أقبل حتى نزل البصرة و كان العمال يحملون المال من كور البصرة إلى ابن عباس فيكون ابن عباس هو الذي يبعث به إلى أمير المؤمنين ع ثم أقبل من البصرة حتى أتى عليا ع بالكوفة فأقره أياما لم يذكر له شيئا ثم سأله المال فأدى إليه مائتي ألف درهم و عجز عن الباقي. قال فروى ابن أبي سيف عن أبي الصلت عن ذهل بن الحارث قال دعاني مصقلة إلى رحله فقدم عشاء فطعمنا منه ثم قال و الله إن أمير المؤمنين ع يسألني هذا المال و و الله ما أقدر عليه فقلت له لو شئت لم يمض عليك جمعة حتى تجمع هذا المال فقال ما كنت لأحملها قومي و لا أطلب فيها إلى أحد. ثم قال و الله لو أن ابن هند مطالبي بها أو ابن عفان لتركها لي أ لم تر إلى عثمان كيف أعطى الأشعث مائة ألف درهم من خراج آذربيجان في كل سنة فقلت إن هذا لا يرى ذلك الرأي و ما هو بتارك لك شيئا فسكت ساعة و سكت عنه فما مكث ليلة واحدة بعد هذا الكلام حتى لحق بمعاوية. فبلغ ذلك عليا ع فقال ما له ترحه الله فعل فعل السيد و فر فرار العبد و خان خيانة الفاجر أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه فإن وجدنا له شيئا أخذناه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 146و إن لم نجد له مالا تركناه ثم سار علي ع إلى داره فهدمها. و كان أخوه نعيم بن هبيرة الشيباني شيعة لعلي ع مناصحا فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب يقال له حلوان أما بعد فإني كلمت معاوية فيك فوعدك الكرامة مناك الإمارة فأقبل ساعة تلقى رسولي و السلام. فأخذه مالك بن كعب الأرحبي فسرح به إلى علي ع فأخذ كتابه فقرأه ثم قدمه فقطع يده فمات و كتب نعيم إلى أخيه مصقلة شعرا لم يرده عليه

(4/128)


لا ترمين هداك الله معترضا بالظن منك فما بالي و حلواناذاك الحريص على ما نال من طمع و هو البعيد فلا يورثك أحزاناما ذا أردت إلى إرساله سفها ترجو سقاط امرئ لم يلف وسناناعرضته لعلي إنه أسد يمشي العرضنة من آساد خفاناقد كنت في خير مصطاف و مرتبع تحمي العراق و تدعى خير شيباناحتى تقحمت أمرا كنت تكرهه للراكبين له سرا و إعلانالو كنت أديت مال الله مصطبرا للحق زكيت أحيانا و موتانالكن لحقت بأهل الشام ملتمسا فضل ابن هند فذاك الرأي أشجانافاليوم تقرع سن العجز من ندم ما ذا تقول و قد كان الذي كاناأصبحت تبغضك الأحياء قاطبة لم يرفع الله بالعصيان إنسانا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 147فلما بلغ الكتاب إليه علم أن النصراني قد هلك و لم يلبث التغلبيون إلا قليلا حتى بلغهم هلاك صاحبهم فأتوا مصقلة فقالوا أنت أهلكت صاحبنا فإما أن تجيئنا به و إما أن تديه فقال أما أن أجي ء به فلست أستطيع ذلك و أما أن أديه فنعم فود قال إبراهيم و حدثني ابن أبي سيف عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال قيل لعلي ع حين هرب مصقلة اردد الذين سبوا و لم تستوف أثمانهم في الرق فقال ليس ذلك في القضاء بحق قد عتقوا إذ أعتقهم الذي اشتراهم و صار مالي دينا على الذي اشتراهم. و روى إبراهيم أيضا عن إبراهيم بن ميمون عن عمرو بن القاسم بن حبيب التمار عن عمار الدهني قال لما هرب مصقلة قال أصحاب علي ع له يا أمير المؤمنين فيئنا قال إنه قد صار على غريم من الغرماء فاطلبوه. و قال ظبيان بن عمارة أحد بني سعد بن زيد مناة في بني ناجية
هلا صبرت للقراع ناجيا و المرهفات تختلي الهوادياو الطعن في نحوركم تواليا و صائبات الأسهم القواضيا
و قال ظبيان أيضا
ألا فاصبروا للطعن و الضرب ناجيا و للمرهفات يختلين الهواديافقد صب رب الناس خزيا عليكم و صيركم من بعد عز مواليا

(4/129)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 148سما لكم بالخيل جردا عواديا أخو ثقة لا يبرح الدهر غازيافصبحكم في رحلكم و خيولكم بضرب يرى منه المدجج هاويافأصبحتم من بعد عز و كثرة عبيد العصا لا تمنعون الذراري قال إبراهيم بن هلال و روى عبد الرحمن بن حبيب عن أبيه أنه لما بلغ عليا ع مصاب بني ناجية و قتل صاحبهم قال هوت أمه ما كان أنقص عقله و أجرأه إنه جاءني مرة فقال إن في أصحابك رجالا قد خشيت أن يفارقوك فما ترى فيهم فقلت إني لا آخذ على التهمة و لا أعاقب على الظن و لا أقاتل إلا من خالفني و ناصبني و أظهر العداوة لي ثم لست مقاتله حتى أدعوه و أعذر إليه فإن تاب و رجع قبلنا منه و إن أبى إلا الاعتزام على حربنا استعنا بالله عليه و ناجزناه فكف عني ما شاء الله ثم جاءني مرة أخرى فقال لي إني قد خشيت أن يفسد عليك عبد الله بن وهب و زيد بن حصين الطائي إني سمعتهما يذكرانك بأشياء لو سمعتهما لم تفارقهما حتى تقتلهما أو توثقهما فلا يزالان بمحبسك أبدا فقلت له إني مستشيرك فيهما فما ذا تأمرني به قال إني آمرك أن تدعو بهما فتضرب رقابهما فعلمت أنه لا ورع له و لا عقل فقلت له و الله ما أظن لك ورعا و لا عقلا لقد كان ينبغي لك أن تعلم أني لا أقتل من لم يقاتلني و لم يظهر لي عداوته للذي كنت أعلمتكه من رأيي حيث جئتني في المرة الأولى و لقد كان ينبغي لك لو أردت قتلهم أن تقول لي اتق الله بم تستحل قتلهم و لم يقتلوا أحدا و لم ينابذوك و لم يخرجوا من طاعتك

(4/130)


فأما ما يقوله الفقهاء في مثل هذا السبي فقبل أن نذكر ذلك نقول إن الرواية قد شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 149اختلفت في المرتدين من بني ناجية فالرواية الأولى التي رواها محمد بن عبد الله بن عثمان عن نصر بن مزاحم تتضمن أن الأمير الذي من قبل علي ع قتل مقاتلة المرين منهم بعد امتناعهم من العود إلى الإسلام و سبى ذراريهم فقدم بها على علي ع فعلى هذه الرواية يكون الذين اشتراهم مصقلة ذراري أهل الردة. و الرواية الثانية التي رواها محمد بن عبد الله عن ابن أبي سيف تتضمن أن معقل بن قيس الأمير من قبل علي ع لم يقتل من المرتدين من بني ناجية إلا رجلا واحدا و أما الباقون فرجعوا إلى الإسلام و الاسترقاق إنما كان للنصارى الذين ساعدوا في الحرب و شهروا السيف على جيش الإمام و ليسوا مرتدين بل نصارى في الأصل و هم الذين اشتراهم مصقلة. فإن كانت الرواية الأولى هي الصحيحة ففيها إشكال لأن المرتدين لا يجوز عند الفقهاء استرقاقهم و لا أعرف خلافا في هذه المسألة و لا أظن الإمامية أيضا تخالف فيها و إنما ذهب أبو حنيفة إلى أن المرأة المرتدة إذا لحقت بدار الحرب جاز استرقاقها و سائر الفقهاء على خلافه و لم يختلفوا في أن الذكور البالغين من المرتدين لا يجوز استرقاقهم فلا أعلم كيف وقع استرقاق المرتدين من بني ناجية على هذه الرواية على أني أرى أن الرواية المذكورة لم يصرح فيها باسترقاقهم و لا بأنهم بيعوا على مصقلة لأن لفظ الراوي فأبوا فقتل مقاتلتهم و سبى ذراريهم فقدم بهم على علي ع و ليس في الرواية ذكر استرقاقهم و لا بيعهم على مصقلة بل فيها ما ينافي بيعهم على مصقلة و هو قوله فقدم بهم على علي ع فإن مصقلة ابتاع السبي من الطريق في أردشيرخرة قبل قدومه على علي ع و لفظ الخبر فقدم بهم على علي ع. و إنما يبقى الأشكال على هذه الرواية أن يقال إذا كان قد قدم بهم على علي ع شرحنهج البلاغة ج : 3 ص : 150فمصقلة من اشترى و لا يمكن دفع كون مصقلة

(4/131)


اشترى قوما في الجملة فإن الخبر بذلك مشهور جدا يكاد يكون متواترا. فإن قيل فما قولكم فيما إذا ارتد البالغون من الرجال و النساء ثم أولدوا ذرية صغارا بعد الردة هل يجوز استرقاق الأولاد فإن كان يجز فهلا حملتم الخبر عليه قيل إذا ارتد الزوجان فحملت منه في حال الردة و أتت بولد كان محكوما بكفره لأنه ولد بين كافرين. و هل يجوز استرقاقه فيه للشافعي قولان و أما أبو حنيفة فقال إن ولد في دار الإسلام لم يجز استرقاقه و إن ولد في دار الحرب جاز استرقاقه فإن كان استرقاق هؤلاء الذرية موافقا لأحد قولي الشافعي فلعله ذاك. و أما الرواية الثانية فإن كانت هي الصحيحة و هو الأولى فالفقه في المسألة أن الذمي إذا حارب المسلمين فقد نقض عهده فصار كالمشركين الذين في دار الحرب فإذا ظفر به الإمام جاز استرقاقه و بيعه و كذلك إذا امتنع من أداء الجزية أو امتنع من التزام أحكام الإسلام. و اختلف الفقهاء في أمور سبعة هل ينتقض بها عهدهم و يجوز استرقاقهم أم لا و هي أن يزني الذمي بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح أو يفتن مسلما عن دينه أو يقطع الطريق على المسلمين أو يؤوي للكفار عينا أو يدل على عورات المسلمين أو يقتل مسلما. فأصحاب الشافعي يقولون إن شرط عليهم في عقد الذمة الكف عن ذلك فهل ينقض عهدهم بفعله فيه وجهان و إن لم يشترط ذلك في عقد الذمة لم ينتقض عهدهم بذلك. و قال الطحاوي من أصحاب أبي حنيفة ينتقض عهدهم بذلك سواء شورطوا عن

(4/132)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 151الكف عنه في عقد الذمة أو لم يشارطوا عليه. فنصارى بني ناجية على هذه الرواية قد انتقض عهدهم بحرب المسلمين فأبيحت دماؤهم و جاز للإمام قتلهم و جاز له استرقاقهم كالمشركين الأصليين في دار الحرب و أما استرقاق أبي بكر بن أبي قحافة لل الردة و سبيه ذراريهم فإن صح كان مخالفا لما يقول الفقهاء من تحريم استرقاق المرتدين إلا أن يقولوا إنه لم يسب المرتدين و إنما سبى من ساعدهم و أعانهم في الحرب من المشركين الأصليين و في هذا الموضع نظر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 45152- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَقْنُوطٍ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لَا مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ وَ لَا مَأْيُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِهِ وَ لَا مُسْتَنْكَفٍ عَنْ عِبَادَتِهِ الَّذِي لَا تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ وَ لَا تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ وَ الدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ وَ لِأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءُ وَ هِيَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَ قَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ وَ الْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ وَ لَا تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ وَ لَا تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلَاغِ
مني لها الفناء أي قدر و الجلاء بفتح الجيم الخروج عن الوطن قال سبحانه وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ. و حلوة خضرة مأخوذ من
قول رسول الله ص إن الدنيا حلوة خضرة و إن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون

(4/133)


و الكفاف من الرزق قدر القوت و هو ما كف عن الناس أي أغنى. و البلاغ و البلغة من العيش ما يتبلغ به. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 153و اعلم أن هذا الفصل يشتمل على فصلين من كلام أمير المؤمنين ع أحدهما حمد الله و الثناء عليه إلى قوله و لا تفقد له نعمة و الفصل الثي ذكر الدنيا إلى آخر الكلام و أحدهما غير مختلط بالآخر و لا منسوق عليه و لكن الرضي رحمة الله تعالى يلتقط كلام أمير المؤمنين ع التقاطا و لا يقف مع الكلام المتوالي لأن غرضه ذكر فصاحته ع لا غير و لو أتى بخطبه كلها على وجهها لكانت أضعاف كتابه الذي جمعه
فصل بلاغي في الموازنة و السجع

(4/134)


فأما الفصل الأول فمشتمل من علم البيان على باب كبير يعرف بالموازنة و ذلك غير مقنوط فإنه وازنه في الفقرة الثانية بقوله و لا مخلو أ لا ترى أن كل واحدة منهما على وزن مفعول ثم قال في الفقرة الثالثة و لا مأيوس فجاء بها على وزن مفعول أيضا و لم يمكنه في الفقرة الرابعة ما أمكنه في الأولى فقال و لا مستنكف فجاء به على وزن مستفعل و هو و إن كان خارجا عن الوزن فإنه غير خارج عن المفعولية لأن مستفعل مفعول في الحقيقة كقولك زيد مستحسن أ لا ترى أن مستحسنا من استحسنه فهو أيضا غير خارج عن المفعولية. ثم وازن ع بين قوله لا تبرح و قوله لا تفقد و بين رحمة و نعمة فأعطت هذه الموازنات الكلام من الطلاوة و الصنعة ما لا تجده عليه لو قال الحمد لله غير مخلو من نعمته و لا مبعد من رحمته لأن مبعد بوزن مفعل و هو غير مطابق و لا مماثل لمفعول بل هو بناء آخر. و كذلك لو قال لا تزول منه رحمة فإن تزول ليست في المماثلة و الموازنة شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 154لتفقد كتبرح أ لا ترى أنها معتلة و تلك صحيحة و كذلك لو قال لا تبرح منه رحمة و لا يفقد له أنعام فإن أنعاما ليس في وزن رحمة و الموازنة مطلوبة في الكلام الذي يقصد فيه الفصاحة لأجل الاعتدال الذي هو مطل الطبع في جميع الأشياء و الموازنة أعم من السجع لأن السجع تماثل أجزاء الفواصل لو أوردها على حرف واحد نحو القريب و الغريب و النسيب و ما أشبه ذلك و أما الموازنة فنحو القريب و الشديد و الجليل و ما كان على هذا الوزن و إن لم يكن الحرف الآخر بعينه واحدا و كل سجع موازنة و ليس كل موازنة سجعا و مثال الموازنة في الكتاب العزيز وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و قوله تعالى لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ثم قال وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ثم قال تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ثم قال نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا فهذه الموازنة. و مما جاء من المثال في الشعر

(4/135)


قوله
بأشدهم بأسا على أعدائهم و أعزهم فقدا على الأصحاب
فقوله و أعزهم بإزاء أشدهم و قوله فقدا بإزاء بأسا. و الموازنة كثيرة في الكلام و هي في كتاب الله تعالى أكثر
نبذ من كلام الحكماء في مدح القناعة و ذم الطمع
فأما الفصل الثاني فيشتمل على التحذير من الدنيا و على الأمر بالقناعة و الرضا بالكفاف فأما التحذير من الدنيا فقد ذكرنا و نذكر منه ما يحضرنا و أما القناعة فقد ورد فيها شي ء كثير. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 1 قال رسول الله ص لأخوين من الأنصار لا تيئسا من روح الله ما تهزهزت رءوسكما فإن أحدكم يولد لا قشر عليه ثم يكسوه الله و يرزقه
و عنه ص و يعزى إلى أمير المؤمنين ع القناعة كنز لا ينفد
و ما يقال إنه من كلام لقمان الحكيم كفى بالقناعة عزا و بطيب النفس نعيما
و من كلام عيسى ع اتخذوا البيوت منازل و المساجد مساكن و كلوا من بقل البرية و اشربوا من الماء القراح و اخرجوا من الدنيا بسلام لعمري لقد انقطعتم إلى غير الله فما ضيعكم أ فتحافون الضيعة إذا انقطعتم إليه
و في بعض الكتب الإلهية القديمة
يقول الله تعالى يا ابن آدم أ تخاف أن أقتلك بطاعتي هزلا و أنت تتفتق بمعصيتي سمنا

(4/136)


قال أبو وائل ذهبت أنا و صاحب لي إلى سلمان الفارسي فجلسنا عنده فقال لو لا أن رسول الله ص نهى عن التكلف لتكلفت لكم ثم جاء بخبز و ملح ساذج لا أبزار عليه فقال صاحبي لو كان لنا في ملحنا هذا سعتر فبعث سلمان بمطهرته فرهنها على سعتر فلما أكلنا قال صاحبي الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا فقال سلمان لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة. عباد بن منصور لقد كان بالبصرة من هو أفقه من عمرو بن عبيد و أفصح و لكنه كان أصبرهم عن الدينار و الدرهم فساد أهل البصرة. قال خالد بن صفوان لعمرو بن عبيد لم لا تأخذ مني فقال لا يأخذ أحد من أحد إلا ذل له و أنا أكره أن أذل لغير الله. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 156كان معاش عمرو بن عبيد من دار ورثها كان يأخذ أجرتها في كل شهر دينارا واحدا فيتبلغ به. الخليل بن أحمد كان الناس يكتسبون الرغائب بعلمه و هو بين أخصاص البصرة لا يلتفت إلى الدنيا و لا يطها. وهب بن منبه أرملت مرة حتى كدت أقنط فأتاني آت في المنام و معه شبه لوزة فقال افضض ففضضتها فإذا حريرة فيها ثلاثة أسطر لا ينبغي لمن عقل عن الله أمره و عرف لله عدله أن يستبطئ الله في رزقه فقنعت و صبرت ثم أعطاني الله فأكثر.
قيل للحسن ع إن أبا ذر كان يقول الفقر أحب إلي من الغنى و السقم أحب إلي من الصحة فقال رحم الله أبا ذر أما أنا فأقول من اتكل إلى حسن الاختيار من الله لم يتمن أنه في غير الحال التي اختارها الله له لعمري يا ابن آدم الطير لا تأكل رغدا و لا تخبأ لغد و أنت تأكل رغدا و تخبأ لغد فالطير أحسن ظنا منك بالله عز و جل

(4/137)


حبس عمر بن عبد العزيز الغذاء عن مسلمة حتى برح به الجوع ثم دعا بسويق فسقاه فلما فرغ منه لم يقدر على الأكل فقال يا مسلمة إذا كفاك من الدنيا ما رأيت فعلام التهافت في النار. عبد الواحد بن زيد ما أحسب شيئا من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا و القناعة و لا أعلم درجة أرفع من الرضا و هو رأس المحبة. قال ابن شبرمة في محمد بن واسع لو أن إنسانا اكتفى بالتراب لاكتفى به.
يقال من جملة ما أوحى الله تعالى إلى موسى ع قل لعبادي المتسخطين لرزقي إياكم أن أغضب فأبسط عليكم الدنيا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 157كان لبعض الملوك نديم فسكر ففاتته الصلاة فجاءت جارية له بجمرة نار فوضعتها على رجله فانتبه مذعورا فقالت إنك لم تصبر على نار الدنيا فكيف تصبر على نار الآخرة فترك الدنيا و انقطع إلى العبادة و قعد يبيع البقل فدخل عليه الفضيل و ابعيينة فإذا تحت رأسه لبنة و ليس تحت جنبه حصير فقالا له إنا روينا أنه لم يدع أحد شيئا لله إلا عوضه خيرا منه فما عوضك قال القناعة و الرضا بما أنا فيه. أصابت داود الطائي ضائقة شديدة فجاء حماد بن أبي حنيفة بأربعمائة درهم من تركة أبيه فقال داود هي لعمري من مال رجل ما أقدم عليه أحدا في زهده و ورعه و طيب كسبه و لو كنت قابلا من أحد شيئا لقبلتها إعظاما للميت و إيجابا للحي و لكني أحب أن أعيش في عز القناعة. سفيان الثوري ما أكلت طعام أحد قط إلا هنت عليه. مسعر بن كدام من صبر على الخل و البقل لم يستعبد. فضيل أصل الزهد الرضا بما رزقك الله أ لا تراه كيف يصنع بعبده ما تصنع الوالدة الشفيقة بولدها تطعمه مرة خبيصا و مرة صبرا تريد بذلك ما هو أصلح له.
المسيح ع أنا الذي كببت الدنيا على وجهها و قدرتها بقدرها ليس لي ولد يموت و لا بيت يخرب وسادي الحجر و فراشي المدر و سراجي القمر
أمير المؤمنين ع أكل تمر دقل ثم شرب عليه ماء و مسح بطنه
و قال من أدخلته بطنه النار فأبعده الله ثم أنشد

(4/138)


فإنك إن أعطيت بطنك سؤله و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 158 في الحديث الصحيح المرفوع إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فأجملوا في الطلبمن كلام الحكماء من ظفر بالقناعة فقد ظفر بالكيمياء الأعظم. الحسن الحريص الراغب و القانع الزاهد كلاهما مستوف أجله مستكمل أكله غير مزداد و لا منتقص مما قدر له فعلام التقحم في النار.
ابن مسعود رفعه إنه ليس أحد بأكيس من أحد قد كتب النصيب و الأجل و قسمت المعيشة و العمل و الناس يجرون منهما إلى منتهى معلوم
المسيح ع انظروا إلى طير السماء تغدو و تروح ليس معها شي ء من أرزاقها لا تحرث و لا تحصد و الله يرزقها فإن زعمتم أنكم أوسع بطونا من الطير فهذه الوحوش من البقر و الحمر لا تحرث و لا تحصد و الله يرزقها سويد بن غفلة كان إذا قيل له قد ولي فلان يقول حسبي كسرتي و ملحي. وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك فشكا إليه خلته فقال له أ لست القائل
لقد علمت و ما الإشراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى له فيعنيني تطلبه و لو قعدت أتاني لا يعنينيفكيف خرجت من الحجاز إلى الشام تطلب الرزق ثم اشتغل عنه فخرج و قعد على ناقته و نصها راجعا إلى الحجاز فذكره هشام في الليل فسأل عنه فقيل إنه رجع إلى الحجاز فتذمر و ندم و قال رجل قال حكمة و وفد علي مستجديا فجبهته شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 159و رددته ثم وجه إل بألفي درهم فجاء الرسول و هو بالمدينة فدفعها إليه فقال له قل لأمير المؤمنين كيف رأيت سعيت فأكديت و قعدت في منزلي فأتاني رزقي. عمر بن الخطاب تعلم أن الطمع فقر و أن اليأس غنى و من يئس من شي ء استغنى عنه أهدي لرسول الله ص طائران فأكل أحدهما عشية فلما أصبح طلب غداء فأتته بعض أزواجه بالطائر الآخر فقال أ لم أنهك أن ترفعي شيئا لغد فإن من خلق الغد خلق رزقه
و في الحديث المرفوع قد أفلح من رزق كفافا و قنعه الله بما آتاه

(4/139)


من حكمة سليمان ع قد جربنا لين العيش و شدته فوجدنا أهنأه أدناه
وهب في قوله تعالى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً قال القناعة. بعض حكماء الشعراء
فلا تجزع إذا أعسرت يوما فقد أيسرت في الدهر الطويل و لا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل و إن العسر يتبعه يسار و قيل الله أصدق كل قيل و لو أن العقول تجر رزقا لكان المال عند ذوي العق عائشة قال لي رسول الله ص إن أردت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا زاد الراكب و لا تخلقي ثوبا حتى ترقعيه و إياك و مجالسة الأغنياء
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 160 يقال إن جبرائيل ع جاء إلى رسول الله ص بمفاتيح خزائن الدنيا فقال لا حاجة لي فيها بل جوعتان و شبعةوجد مكتوبا على صخرة عادية يا ابن آدم لست ببالغ أملك و لا سابق أجلك و لا مغلوب على رزقك و لا مرزوق ما ليس لك فعلام تقتل نفسك. الحسين بن الضحاك
يا روح من عظمت قناعته حسم المطامع من غد و غدمن لم يكن لله متهما لم يمس محتاجا إلى أحد
أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه أ تدري لم رزقت الأحمق قال لا قال ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتمال
قنط يوسف بن يعقوب ع في الجب لجوع اعتراه فأوحي إليه انظر إلى حائط البئر فنظر فانفرج الحائط عن ذرة على صخرة معها طعامها فقيل له أ تراني لا أغفل عن هذه الذرة و أغفل عنك و أنت نبي ابن نبي
دخل علي ع المسجد و قال لرجل أمسك على بغلتي فخلع لجامها و ذهب به فخرج علي ع بعد ما قضى صلاته و بيده درهمان ليدفعهما إليه مكافأة له فوجد البغلة عطلا فدفع إلى أحد غلمانه الدرهمين ليشتري بهما لجاما فصادف الغلام اللجام المسروق في السوق قد باعه الرجل بدرهمين فأخذه بالدرهمين و عاد إلى مولاه فقال علي ع إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 161و لا يزاد على ما قدر لهسليمان بن المهاجر البجلي

(4/140)


كسوت جميل الصبر وجهي فصانه به الله عن غشيان كل بخيل فلم يتبذلني البخيل و لم أقم على بابه يوما مقام ذليل و إن قليلا يستر الوجه أن يرى إلى الناس مبذولا لغير قليوقف بعض الملوك على سقراط و هو في المشرقة فقال له سل حاجتك قال حاجتي أن تزيل عني ظلك فقد منعتني الرفق بالشمس فأحضر له ذهبا و كسوة ديباج فقال إنه لا حاجة بسقراط إلى حجارة الأرض و لعاب الدود إنما حاجته إلى أمر يصحبه حيثما توجه. صلى معروف الكرخي خلف إمام فلما انفتل سأل ذلك الإمام معروفا من أين تأكل قال اصبر علي حتى أعيد ما صليته خلفك قال لما ذا قال لأن من شك في الرزق شك في الرازق قال الشاعر
و لا تهلكن النفس وجدا و حسرة على الشي ء أسداه لغيرك قادرةو لا تيأسن من صالح أن تناله و إن كان نهبا بين أيد تبادره فإنك لا تعطي أمرا حظ نفسه و لا تمنع الشق الذي الغيث ناصرقال عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب قد مللت الناس و أحببت أن ألحق بصاحبي فقال إن سرك اللحوق بهما فقصر أملك و كل دون الشبع و اخصف النعل و كن كميش الإزار مرقوع القميص تلحق بهما
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 162و قال بعض شعراء العجمغلا السعر في بغداد من بعد رخصة و إني في الحالين بالله واثق فلست أخاف الضيق و الله واسع غناه و لا الحرمان و الله رازققيل لعلي ع لو سد على رجل باب بيت و ترك فيه من أين كان يأتيه رزقه قال من حيث كان يأتيه أجله
قال بعض الشعراء
صبرت النفس لا أجز ع من حادثة الدهررأيت الرزق لا يكسب بالعرف و لا النكرو لا بالسلف الأمثل أهل الفضل و الذكرو لا بالسمر اللدن و لا بالخذم البترو لا بالعقل و الدين و لا الجاه و لا القدرو لا يدرك بالطيش و لا الجهل و لا الهذرو لكن قسم تجري بما ندري و لا ندري

(4/141)


جاء فتح بن شخرف إلى منزله بعد العشاء فلم يجد عندهم ما يتعشى به و لا وجد دهنا للسراج و هم في الظلمة فجلس ليلة يبكي من الفرح و يقول بأي يد قد كانت مني بأي طاعة تنعم علي بأن أترك على مثل هذه الحال. لقي هرم بن حيان أويسا القرني فقال السلام عليك يا أويس بن عامر فقال و عليك السلام يا هرم بن حيان فقال هرم أما إني عرفتك بالصفة فكيف عرفتني قال إن أرواح المؤمنين لتشام كما تشام الخيل فيعرف بعضها بعضا قال أوصني شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 163قال عليك بسيف البحر قال فمن أين المعاش قال أف لك خالطت الشك الموعظة أ تفر إلى له بدينك و تتهمه في رزقك. منصور الفقيه
الموت أسهل عندي بين القنا و الأسنه و الخيل تجري سراعا مقطعات الأعنه من أن يكون لنذل على فضل و منأعرابي
أ تيئس أن يقارنك النجاح فأين الله و القدر المتاح
قال رجل لرسول الله ص أوصني قال إياك و الطمع فإنه فقر حاضر و عليك باليأس مما في أيدي الناس
حكيم أحسن الأحوال حال يغبطك بها من دونك و لا يحقرك لها من فوقك. أبو العلاء المعري
فإن كنت تهوى العيش فابغ توسطا فعند التناهي يقصر المتطاول توقي البدور النقص و هي أهلة و يدركها النقصان و هي كواملخالد بن صفوان كن أحسن ما تكون في الظاهر حالا أقل ما تكون في الباطن مالا فإن الكريم من كرمت عند الحاجة خلته و اللئيم من لؤمت عند الفاقة طعمته. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 164شعرو كم ملك جانبته من كراهة لإغلاق باب أو لتشديد حاجب ولي في غنى نفسي مراد و مذهب إذا أبهمت دوني وجوه المذاهببعض الحكماء ينبغي للعاقل أن يكون في دنياه كالمدعو إلى الوليمة إن أتته صحفة تناولها و إن جازته لم يرصدها و لم يطلبها

(4/142)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 46165- و من كلام له ع عند عزمه على المسير إلى الشاماللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَ كَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَ سُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَ الْمَالِ وَ الْوَلَدِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَ أَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَ لَا يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لَا يَكُونُ مُسْتَصْحَباً وَ الْمُسْتَصْحَبُ لَا يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً
قال الرضي رحمه الله و ابتداء هذا الكلام مروي عن رسول الله ص و قد قفاه أمير المؤمنين ع بأبلغ كلام و تممه بأحسن تمام من قوله و لا يجمعهما غيرك إلى آخر الفصل
وعثاء السفر مشقته و أصل الوعث المكان السهل الكثير الدهس تغيب فيه الأقدام و يشق على من يمشي فيه أوعث القوم أي وقعوا في الوعث و الكآبة الحزن و المنقلب مصدر من انقلب منقلبا أي رجع و سوء المنظر قبح المرأى. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 166و صدر الكلام مروي عن رس الله ص في المسانيد الصحيحة و ختمه أمير المؤمنين ع و تممه بقوله و لا يجمعهما غيرك و هو الصحيح لأن من يستصحب لا يكون مستخلفا فإنه مستحيل أن يكون الشي ء الواحد في المكانين مقيما و سائرا و إنما تصح هذه القضية في الأجسام لأن الجسم الواحد لا يكون في جهتين في وت واحد فأما ما ليس بجسم و هو البارئ سبحانه فإنه في كل مكان لا على معنى أن ذاته ليست مكانية و إنما المراد علمه و إحاطته و نفوذ حكمه و قضائه و قدره فقد صدق ع أنه المستخلف و أنه المستصحب و أن الأمرين مجتمعان له جل اسمه. و هذا الدعاء دعا به أمير المؤمنين ع بعد وضع رجله في الركاب من منزله بالكوفة متوجها إلى الشام لحرب معاوية و أصحابه ذكره نصر بن مزاحم في كتاب صفين و ذكره غيره أيضا من رواة السيرة
أدعية علي عند خروجه من الكوفة لحرب معاوية

(4/143)


قال نصر لما وضع علي ع رجله في ركاب دابته يوم خرج من الكوفة إلى صفين قال بسم الله فلما جلس على ظهرها قال سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين و إنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر
إلى آخر الفصل و زاد فيه نصر و من الحيرة بعد اليقين قال ثم خرج أمامه الحر بن سهم بن طريف و هو يرتجز و يقول
يا فرسي سيري و أمي الشاما و قطعي الحزون و الأعلاماو نابذي من خالف الإماما إني لأرجو إن لقينا العاما
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 167جمع بني أمية الطغاما أن نقتل العاصي و الهماماو أن نزيل من رجال هام قال و قال حبيب بن مالك و هو على شرطة علي ع و هو آخذ بعنان دابته يا أمير المؤمنين أ تخرج بالمسلمين فيصيبوا أجر الجهاد بالقتال و تخلفني بالكوفة لحشر الرجال فقال ع إنهم لن يصيبوا من الأجر شيئا إلا كنت شريكهم فيه و أنت هاهنا أعظم غناء عنهم منك لو كنت معهم فخرج علي ع حتى إذا حاذى الكوفة صلى ركعتين
قال و حدثنا عمرو بن خالد عن أبي الحسين زيد بن علي ع عن آبائه أن عليا ع خرج و هو يريد صفين حتى إذا قطع النهر أمر مناديه فنادى بالصلاة فتقدم فصلى ركعتين حتى إذا قضى الصلاة أقبل على الناس بوجهه
فقال أيها الناس ألا من كان مشيعا أو مقيما فليتم الصلاة فإنا قوم سفر ألا و من صحبنا فلا يصومن المفروض و الصلاة المفروضة ركعتان
قال نصر ثم خرج حتى نزل دير أبي موسى و هو من الكوفة على فرسخين فصلى به العصر فلما انصرف من الصلاة
قال سبحان الله ذي الطول و النعم سبحان الله ذي القدرة و الإفضال أسأل الله الرضا بقضائه و العمل بطاعته و الإنابة إلى أمره إنه سميع الدعاء
قال نصر ثم خرج ع حتى نزل على شاطئ نرس بين موضع حمام أبي بردة و حمام عمر فصلى بالناس المغرب فلما انصرف

(4/144)


قال الحمد لله الذي يولج شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 168الليل في النهار و يولج النهار في الليل و الحمد لله كلما وقب ليل و غسق و الحمد لله كلما لاح نجم و خفقثم أقام حتى صلى الغداة ثم شخص حتى بلغ إلى قبة قبين و فيها نخل طوال إلى جانب البيعة من وراء النهر فلما رآها قال و النخل باسقات لها طلع نضيد ثم أقحم دابته النهر فعبر إلى تلك البيعة فنزلها و مكث قدر الغداء. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن محمد بن مخنف بن سليم قال إني لأنظر إلى أبي و هو يساير عليا ع
و علي يقول له إن بابل أرض قد خسف بها
فحرك دابتك لعلنا نصلي العصر خارجا منها فحرك دابته و حرك الناس دوابهم في أثره فلما جاز جسر الفرات نزل فصلى بالناس العصر قال حدثني عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة الثقفي عن أبيه عن عبد خير قال كنت مع علي أسير في أرض بابل قال و حضرت الصلاة صلاة العصر قال فجعلنا لا نأتي مكانا إلا رأيناه أفيح من الآخر قال حتى أتينا على مكان أحسن ما رأينا و قد كادت الشمس أن تغيب قال فنزل علي ع فنزلت معه قال فدعا الله فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر قال فصليت العصر ثم غابت الشمس ثم خرج حتى أتى دير كعب ثم خرج منه فبات بساباط فأتاه دهاقينها يعرضون عليه النزل و الطعام فقال لا ليس ذلك لنا عليكم فلما أصبح و هو بمظلم ساباط شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 169قرأ أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. قال نصر و بلغ عمرو بن العاص مسيره فقاللا تحسبني يا علي غافلا لأوردن الكوفة القنابلابجمعي العام و جمعي قابلا
قال فبلغ ذلك عليا ع
فقال
لأوردن العاصي ابن العاصي سبعين ألفا عاقدي النواصي مستحقبين حلق الدلاص قد جنبوا الخيل مع القلاص أسود غيل حين لا منانزول علي بكربلاء

(4/145)


قال نصر و حدثنا منصور بن سلام التميمي قال حدثنا حيان التيمي عن أبي عبيدة عن هرثمة بن سليم قال غزونا مع علي ع صفين فلما نزل بكربلاء صلى بنا فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها ثم قال واها لك يا تربة ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب
قال فلما رجع هرثمة من غزاته إلى امرأته جرداء بنت سمير و كانت من شيعة علي ع حدثها هرثمة فيما حدث فقال لها ألا أعجبك من صديقك أبي حسن شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 17 قال لما نزلنا كربلاء و قد أخذ حفنة من تربتها فشمها و قال واها لك أيتها التربة ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب
و ما علمه بالغيب فقالت المرأة له دعنا منك أيها الرجل فإن أمير المؤمنين ع لم يقل إلا حقا. قال فلما بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين ع كنت في الخيل التي بعث إليهم فلما انتهيت إلى الحسين ع و أصحابه عرفت المنزل الذي نزلنا فيه مع علي ع و البقعة التي رفع إليه من تربتها و القول الذي قاله فكرهت مسيري فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسين ع فسلمت عليه و حدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل
فقال الحسين أ معنا أم علينا فقلت يا ابن رسول الله لا معك و لا عليك تركت ولدي و عيالي أخاف عليهم من ابن زياد فقال الحسين ع فول هربا حتى لا ترى مقتلنا فو الذي نفس حسين بيده لا يرى اليوم مقتلنا أحد ثم لا يعيننا إلا دخل النار
قال فأقبلت في الأرض أشتد هربا حتى خفي على مقتلهم.

(4/146)


قال نصر و حدثنا مصعب قال حدثنا الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي جحيفة قال جاء عروة البارقي إلى سعد بن وهب فسأله فقال حديث حدثتناه عن علي بن أبي طالب قال نعم بعثني مخنف بن سليم إلى علي عند توجهه إلى صفين فأتيته بكربلاء فوجدته يشير بيده و يقول هاهنا هاهنا فقال له شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 171رجل و ما ذاك يا أمير المؤمنين فقال ثقل لآل محمد ينزل هاهنا فويل لهم منكم و ويل لكم منهم فقال له الرجل ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين قال ويل لهم منكم تقتلونهم و ويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار قال نصر و قد روي هذا الكلام على وجه آخر أنه ع قال فويل لكم منهم و ويل لكم عليهم فقال الرجل أما ويل لنا منهم فقد عرفناه فويل لنا عليهم ما معناه فقال ترونهم يقتلون لا تستطيعون نصرتهم
قال نصر و حدثنا سعيد بن حكيم العبسي عن الحسن بن كثير عن أبيه أن عليا ع أتى كربلاء فوقف بها فقيل له يا أمير المؤمنين هذه كربلاء فقال ذات كرب و بلاء ثم أومأ بيده إلى مكان فقال هاهنا موضع رحالهم و مناخ ركابهم ثم أومأ بيده إلى مكان آخر فقال هاهنا مراق دمائهم ثم مضى إلى ساباط
خروج علي لحرب معاوية و ما دار بينه و بين أصحابه
و ينبغي أن نذكر هاهنا ابتداء عزمه على مفارقة الكوفة و المسير إلى الشام و ما خاطب به أصحابه و ما خاطبوه به و ما كاتب به العمال و كاتبوه جوابا عن كتبه و جميع ذلك منقول من كتاب نصر بن مزاحم.
قال نصر حدثنا عمر بن سعد عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود قال لما أراد علي ع المسير إلى الشام دعا من كان معه من المهاجرين و الأنصار فجمعهم ثم حمد الله و أثنى عليه و قال أما بعد فإنكم ميامين شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 172الرأي مراجيالحلم مباركو الأمر و مقاويل بالحق و قد عزمنا على المسير إلى عدونا و عدوكم فأشيروا علينا برأيكم

(4/147)


فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص فحمد الله و أثنى عليه و قال أما بعد يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير هم لك و لأشياعك أعداء و هم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء و هم مقاتلوك و مجادلوك لا يبقون جهدا مشاحة على الدنيا و ضنا بما في أيديهم منها ليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من طلب دم ابن عفان كذبوا ليس لدمه ينفرون و لكن الدنيا يطلبون انهض بنا إليهم فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال و إن أبوا إلا الشقاق فذاك ظني بهم و الله ما أراهم يبايعون و قد بقي فيهم أحد ممن يطاع إذا نهى و يسمع إذا أمر. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الحارث بن حصيرة عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود أن عمار بن ياسر قام فحمد الله و أثنى عليه و قال يا أمير المؤمنين إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل اشخص بنا قبل استعار نار الفجرة و اجتماع رأيهم على الصدود و الفرقة و ادعهم إلى حظهم و رشدهم فإن قبلوا سعدوا و إن أبوا إلا حربنا فو الله إن سفك دمائهم و الجد في جهادهم لقربة عند الله و كرامة منه ثم قام قيس بن سعد بن عبادة فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا أمير المؤمنين انكمش بنا إلى عدونا و لا تعرج فو الله لجهادهم أحب إلي من جهاد الترك شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 173و الروم لإدهانهم في دين الله و استذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد ص من المهاجرين و الأنصار و التابعين بإحسان إذا غضبوا على رجل حبسوه و ضربوه و حرموه و سيروه و فيئنا لهم في أنفسهم حلال و نحن لهم فيما يزعمون قطين قال يعني رقيق ال أشياخ الأنصار منهم خزيمة بن ثابت و أبو أيوب و غيرهما لم تقدمت أشياخ قومك و بدأتهم بالكلام يا قيس فقال أما إني عارف بفضلكم معظم لشأنكم و لكني وجدت في نفسي الضغن الذي في صدوركم جاش حين ذكرت الأحزاب. فقال بعضهم لبعض ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم فقام سهل بن حنيف فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا أمير

(4/148)


المؤمنين نحن سلم لمن سالمت و حرب لمن حاربت و رأينا رأيك و نحن يمينك و قد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة فتأمرهم بالشخوص و تخبرهم بما صنع لهم في ذلك من الفضل فإنهم أهل البلد و هم الناس فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد و تطلب فأما نحن فليس عليك خلاف منا متى دعوتنا أجبناك و متى أمرتنا أطعناك.
قال نصر فحدثنا عمر بن سعد عن أبي مخنف عن زكريا بن الحارث عن أبي خشيش عن معبد قال قام علي ع خطيبا على منبره فكنت تحت المنبر أسمع تحريضه الناس و أمره لهم بالمسير إلى صفين لقتال أهل الشام فسمعته يقول شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 174سيروا إلى أعداء الله سيروا ى أعداء القرآن و السنن سيروا إلى بقية الأحزاب و قتلة المهاجرين و الأنصار
فقام رجل من بني فزارة فقال له أ تريد أن تسير بنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلتهم كلا ها الله إذا لا نفعل ذلك. فقام الأشتر فقال من هذا المارق. فهرب الفزاري و اشتد الناس على أثره فلحق في مكان من السوق تباع فيه البراذين فوطئوه بأرجلهم و ضربوه بأيديهم و نعال سيوفهم حتى قتل
فأتى علي ع فقيل له يا أمير المؤمنين قتل الرجل قال و من قتله قالوا قتلته همدان و معهم شوب من الناس فقال قتيل عمية لا يدرى من قتله ديته من بيت مال المسلمين
فقال بعض بني تيم اللات بن ثعلبة
أعوذ بربي أن تكون منيتي كما مات في سوق البراذين أربدتعاوره همدان خفق نعالهم إذا رفعت عنه يد وضعت يد

(4/149)


فقام الأشتر فقال يا أمير المؤمنين لا يهدنك ما رأيت و لا يؤيسنك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن إن جميع من ترى من الناس شيعتك لا يرغبون بأنفسهم عن نفسك و لا يحبون البقاء بعدك فإن شئت فسر بنا إلى عدوك فو الله ما ينجو من الموت من خافه و لا يعطي البقاء من أحبه و إنا لعلى بينة من ربنا و إن أنفسنا لن تموت حتى يأتي أجلها و كيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين و قد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين بالأمس و باعوا خلاقهم بعرض من الدنيا يسير. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 17 فقال علي ع الطريق مشترك و الناس في الحق سواء و من اجتهد رأيه في نصيحة العامة فقد قضى ما عليه ثم نزل فدخل منزله
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال حدثني أبو زهير العبسي عن النضر بن صالح أن عبد الله بن المعتم العبسي و حنظلة بن الربيع التميمي لما أمر علي ع الناس بالمسير إلى الشام دخلا عليه في رجال كثير من غطفان و بني تميم فقال له حنظلة يا أمير المؤمنين إنا قد مشينا إليك في نصيحة فاقبلها و رأينا لك رأيا فلا تردنه علينا فإنا نظرنا لك و لمن معك أقم و كاتب هذا الرجل و لا تعجل إلى قتال أهل الشام فإنا و الله ما ندري و لا تدري لمن تكون الغلبة إذا التقيتم و لا على من تكون الدبرة. و قال ابن المعتم مثل قوله و تكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل كلامهما

(4/150)


فحمد علي ع الله و أثنى ثم قال أما بعد فإن الله وارث العباد و البلاد و رب السموات السبع و الأرضين السبع و إليه ترجعون يؤتي الملك من يشاء و ينزع الملك ممن يشاء و يعز من يشاء و يذل من يشاء أما الدبرة فإنها على الضالين العاصين ظفروا أو ظفر بهم و ايم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يعرفون معروفا و لا ينكرون منكرا فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال يا أمير المؤمنين إن هؤلاء و الله ما آثروك بنصح و لا دخلوا عليك إلا بغش فاحذرهم فإنهم أدنى العدو. و قال له مالك بن حبيب إنه بلغني يا أمير المؤمنين أن حنظلة هذا يكاتب معاوية فادفعه إلينا نحبسه حتى تنقضي غزاتك و تنصرف. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 176و قام من بني عبس قائد بن بكير و عياش بن ربيعة العبسيان فقالا يا أمير المؤمنين إن صاحبنا عبد الله بن المعتم قد بلغنا أنه يكاتب معاوية فاحبسه أو مكنا من حبسه حتى تنقضي غزاتك ثم تنصرف. فقالا هذا جزاء لمن نظر لكم و أشار عليكم باأي فيما بينكم و بين عدوكم.
فقال لهما علي ع الله بيني و بينكم و إليه أكلكم و به أستظهر عليكم اذهبوا حيث شئتم
قال نصر و بعث علي ع إلى حنظلة بن الربيع المعروف بحنظلة الكاتب و هو من الصحابة فقال له يا حنظلة أنت علي أم لي فقال لا لك و لا عليك قال فما تريد قال اشخص إلى الرها فإنه فرج من الفروج اصمد له حتى ينقضي هذا الأمر

(4/151)


فغضب من قوله خيار بني عمرو بن تميم و هم رهطه فقال إنكم و الله لا تغروني من ديني دعوني فأنا أعلم منكم فقالوا و الله إن لم تخرج مع هذا الرجل لا ندع فلانة تخرج معك لأم ولده و لا ولدها و لئن أردت ذلك لنقتلنك. فأعانه ناس من قومه و اخترطوا سيوفهم فقال أجلوني حتى أنظر و دخل منزله و أغلق بابه حتى إذا أمسى هرب إلى معاوية و خرج من بعده إليه من قومه رجال كثير و هرب ابن المعتم أيضا حتى أتى معاوية في أحد عشر رجلا من قومه. و أما حنظلة فخرج إلى معاوية في ثلاثة و عشرين رجلا من قومه لكنهما لم يقاتلا مع معاوية و اعتزلا الفريقين جميعا. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 177و قال و أمر علي ع بهدم دار حنظلة فهدمت هدمها عريفهم شبث بن ربعي و بكر بن تميم فقال حنظلة بهجوهماأيا راكبا إما عرضت فبلغن مغلغلة عني سراة بني عمروفأوصيكم بالله و البر و التقى و لا تنظروا في النائبات إلى بكرو لا شبث ذي المنخرين كأنه أزب جمال قد رغا ليلة النفر
و قال أيضا يحرض معاوية بن أبي سفيان
أبلغ معاوية بن حرب خطة و لكل سائلة تسيل قرارلا تقبلن دنية ترضونها في الأمر حتى تقتل الأنصارو كما تبوء دماؤهم بدمائكم و كما تهدم بالديار ديارو ترى نساؤهم يجلن حواسرا و لهن من ثكل الرجال جؤار

(4/152)


قال نصر حدثنا عمر بن سعد عن سعد بن طريف عن أبي المجاهد عن المحل بن خليفة قال قام عدي بن حاتم الطائي بين يدي علي ع فحمد الله و أثنى عليه و قال يا أمير المؤمنين ما قلت إلا بعلم و لا دعوت إلا إلى حق و لا أمرت إلا برشد و لكن إذا رأيت أن تستأني هؤلاء القوم و تستديمهم حتى تأتيهم كتبك و يقدم عليهم رسلك فعلت فإن يقبلوا يصيبوا رشدهم و العافية أوسع لنا و لهم شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 178و إن يتمادوا في الشقاق و لا ينزعوا عن الغي فسر إليهم و قد قدمنا إليهم بالعذر و دعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق فو الله لهم من الحأبعد و على الله أهون من قوم قاتلناهم أمس بناحية البصرة لما دعوناهم إلى الحق فتركوه ناوجناهم براكاء القتال حتى بلغنا منهم ما نحب و بلغ الله منهم رضاه. فقام زيد بن حصين الطائي و كان من أصحاب البرانس المجتهدين فقال الحمد لله حتى يرضى و لا إله إلا الله ربنا أما بعد فو الله إن كنا في شك من قتال من خالفنا و لا تصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم و نستأنيهم ما الأعمال إلا في تباب و لا السعي إلا في ضلال و الله تعالى يقول وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ إننا و الله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يتبعونه فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم القليل من الإسلام حظهم أعوان الظلمة و أصحاب الجور و العدوان ليسوا من المهاجرين و لا الأنصار و لا التابعين بإحسان. فقام رجل من طيئ فقال يا زيد بن حصين أ كلام سيدنا عدي بن حاتم تهجن فقال زيد ما أنتم بأعرف بحق عدي مني و لكني لا أدع القول بالحق و إن سخط الناس. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الحارث بن حصين قال دخل أبو زينب شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 179بن عوف على علي ع فقال يا أمير المؤمنين لئن كنا على الحق لأنت أهدانا سبيلا و أعظمنا في الخير نصيبا و لئن كنا على ضلال إنك لأثقلنا ظهرا و أعظمنا وا قد أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو و قد قطعنا ما بيننا و بينهم من

(4/153)


الولاية و أظهرنا لهم العداوة نريد بذلك ما يعلمه الله تعالى من طاعتك أ ليس الذي نحن عليه هو الحق المبين و الذي عليه عدونا هو الحوب الكبير.
فقال ع بلى شهدت أنك إن مضيت معنا ناصرا لدعوتنا صحيح النية في نصرنا قد قطعت منهم الولاية و أظهرت لهم العداوة كما زعمت فإنك ولي الله تسبح في رضوانه و تركض في طاعته فأبشر أبا زينب
و قال له عمار بن ياسر اثبت أبا زينب و لا تشك في الأحزاب أعداء الله و رسوله. فقال أبو زينب ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة شهدا لي عما سألت من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما. قال و خرج عمار بن ياسر و هو يقول

(4/154)


سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي سيروا فخير الناس أتباع علي هذا أوان طاب سل المشرفي وقودنا الخيل و هز السمهريقال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن أبي روق قال دخل يزيد بن قيس الأرحبي على علي ع فقال يا أمير المؤمنين نحن أولو جهاز و عدة و أكثر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 180الناس أهل قوة و من ليس به ضعف و لا علة فمر مناديك فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة فإن أخا ارب ليس بالسئوم و لا النئوم و لا من إذا أمكنته الفرص أجلها و استشار فيها و لا من يؤخر عمل الحرب في اليوم لغد و بعد غد. فقال زياد بن النضر لقد نصح لك يزيد بن قيس يا أمير المؤمنين و قال ما يعرف فتوكل على الله و ثق به و اشخص بنا إلى هذا العدو راشدا معانا فإن يرد الله بهم خيرا لا يتركوك رغبة عنك إلى من ليس له مثل سابقتك و قدمك و إلا ينيبوا و يقبلوا و يأبوا إلا حربنا نجد حربهم علينا هينا و نرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس. ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال يا أمير المؤمنين إن القوم لو كانوا الله يريدون و لله يعملون ما خالفونا و لكن القوم إنما يقاتلوننا فرارا من الأسوة و حبا للأثرة و ضنا بسلطانهم و كرها لفراق دنياهم التي في أيديهم و على إحن في نفوسهم و عداوة يجدونها في صدورهم لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة قتلت فيها آباءهم و أعوانهم. ثم التفت إلى الناس فقال كيف يبايع معاوية عليا و قد قتل أخاه حنظلة و خاله الوليد و جده عتبة في موقف واحد و الله ما أظنهم يفعلون و لن يستقيموا لكم دون أن تقصف فيهم قنا المران و تقطع على هامهم السيوف و تنثر حواجبهم بعمد الحديد و تكون أمور جمة بين الفريقين. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 18 قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الحارث بن حصين عن عبد الله بن شريك قال خرج حجر بن عدي و عمرو بن الحمق يظهران البراءة من أهل الشام فأرسل علي ع إليهما أن كفا عما يبلغني عنكما فأتياه فقالا يا

(4/155)


أمير المؤمنين أ لسنا محقين قال بلى قالا أ و ليسوا مبطلين قال بلى قالا فلم منعتنا من شتمهم قال كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين تشتمون و تتبرءون و لكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم من سيرتهم كذا و كذا و من أعمالهم كذا و كذا كان أصوب في القول و أبلغ في العذر و قلتم مكان لعنكم إياهم و براءتكم منهم اللهم احقن دماءهم و دماءنا و أصلح ذات بينهم و بيننا و اهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق منهم من جهله و يرعوي عن الغي و العدوان منهم من لهج به لكان أحب إلي و خيرا لكم فقالا يا أمير المؤمنين نقبل عظتك و نتأدب بأدبك
قال نصر و قال له عمرو بن الحمق يومئذ و الله يا أمير المؤمنين إني ما أحببتك و لا بايعتك على قرابة بيني و بينك و لا إرادة مال تؤتينيه و لا التماس سلطان ترفع ذكري به و لكنني أحببتك بخصال خمس إنك ابن عم رسول الله ص و وصيه و أبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله ص و أسبق الناس إلى الإسلام و أعظم المهاجرين سهما في الجهاد فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي و نزح البحور الطوامي حتى يأتي علي يومي في أمر أقوي به وليك و أهين عدوك ما رأيت أني قد أديت فيه كل الذي يحق علي من حقك.
فقال علي ع اللهم نور قلبه بالتقى و اهده إلى صراطك المستقيم شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 182ليت أن في جندي مائة مثلكفقال حجر إذا و الله يا أمير المؤمنين صح جندك و قل فيهم من يغشك. قال نصر و قام حجر بن عدي فقال يا أمير المؤمنين نحن بنو الحرب و أهلها الذين نلقحها و ننتجها قد ضارستنا و ضارسناها و لنا أعوان و عشيرة ذات عدد و رأي مجرب و بأس محمود و أزمتنا منقادة لك بالسمع و الطاعة فإن شرقت شرقنا و إن غربت غربنا و ما أمرتنا به من أمر فعلنا
فقال علي ع أ كل قومك يرى مثل رأيك قال ما رأيت منهم إلا حسنا و هذه يدي عنهم بالسمع و الطاعة و حسن الإجابة فقال له علي ع خيرا
قال نصر حدثنا عمر بن سعد قال كتب ع إلى عماله حينئذ يستفزهم

(4/156)


فكتب إلى مخنف بن سليم سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه و عب في نعاس العمى و الضلال اختيارا له فريضة على العارفين إن الله يرضى عمن أرضاه و يسخط على من عصاه و إنا قد هممنا بالسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله و استأثروا بالفي ء و عطلوا الحدود و أماتوا الحق و أظهروا في الأرض الفساد و اتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين فإذا ولي لله أعظم أحداثهم أبغضوه و أقصوه و حرموه و إذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه و أدنوه و بروه فقد أصوا على الظلم و أجمعوا على الخلاف و قديما ما صدوا عن الحق و تعاونوا على الإثم و كانوا ظالمين فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك و أقبل إلينا لعلك تلقى معنا هذا العدو شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 183المحل فتأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر تجامع الحق و تباين الباطل فإنه لا غناء بنا و لا بك عن أجر الجهاد و حسبنا الله و نعم الوكيل
و كتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة سبع و ثلاثين. قال فاستعمل مخنف على أصبهان الحارث بن أبي الحارث بن الربيع و استعمل على همذان سعيد بن وهب و كلاهما من قومه و أقبل حتى شهد مع علي ع صفين. قال نصر و كتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى علي ع يذكر له اختلاف أهل البصرة
فكتب إليه علي ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس أما بعد فقد قدم علي رسولك و قرأت كتابك تذكر فيه حال أهل البصرة و اختلافهم بعد انصرافي عنهم و سأخبرك عن القوم و هم بين مقيم لرغبة يرجوها أو خائف من عقوبة يخشاها فأرغب راغبهم بالعدل عليه و الإنصاف له و الإحسان إليه و احلل عقدة الخوف عن قلوبهم و انته إلى أمري و لا تعده و أحسن إلى هذا الحي من ربيعة و كل من قبلك فأحسن إليه ما استطعت إن شاء الله

(4/157)


قال نصر و كتب إلى أمراء أعماله كلهم بنحو ما كتب به إلى مخنف بن سليم و أقام ينتظرهم. قال فحدثنا عمر بن سعد عن أبي روق قال قال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله بن بديل إن يومنا اليوم عصبصب ما يصبر عليه إلا كل مشيع القلب الصادق شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 184اية رابط الجأش و ايم الله ما أظن ذلك اليوم يبقي منهم و لا منا إلا الرذال. فقال عبد الله بن بديل أنا و الله أظن ذلك فبلغ كلامهما عليا ع
فقال لهما ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما لا تظهراه و لا يسمعه منكما سامع إن الله كتب القتل على قوم و الموت على آخرين و كل آتيه منيته كما كتب الله له فطوبى للمجاهدين في سبيله و المقتولين في طاعته
قال نصر فلما سمع هاشم بن عتبة ما قالاه أتى عليا ع فقال سر بنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم و عملوا في عباد الله بغير رضا الله فأحلوا حرامه و حرموا حلاله و استوى بهم الشيطان و وعدهم الأباطيل و مناهم الأماني حتى أزاغهم عن الهدى و قصد بهم قصد الردى و حبب إليهم الدنيا فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة و انتجاز موعد ربنا و أنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله ص رحما و أفضل الناس سابقة و قدما و هم يا أمير المؤمنين يعلمون منك مثل الذي نعلم و لكن كتب عليهم الشقاء و مالت بهم الأهواء و كانوا ظالمين فأيدينا مبسوطة لك بالسمع و الطاعة و قلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة و أنفسنا تنصرك على من خالفك و تولى الأمر دونك جذلة و الله ما أحب أن لي ما على الأرض مما أقلت و لا ما تحت السماء مما أظلت و أني واليت عدوا لك أو عاديت وليا لك
فقال ع اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك و المرافقة لنبيك

(4/158)


قال نصر ثم إن عليا ع صعد المنبر فخطب الناس و دعاهم إلى الجهاد فبدأ بحمد الله و الثناء عليه ثم قال شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 185إن الله قد أكرمكم بدينه و خلقكم لعبادته فانصبوا أنفسكم في أداء حقه و تنجزوا موعوده و اعلموا أن الله جعل أمراس الإسلام متينة و اه وثيقة ثم جعل الطاعة حظ الأنفس و رضا الرب و غنيمة الأكياس عند تفريط العجزة و قد حملت أمر أسودها و أحمرها و لا قوة إلا بالله و نحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه و تناول ما ليس له و ما لا يدركه معاوية و جنده الفئة الطاغية الباغية يقودهم إبليس و يبرق لهم ببارق تسويفه و يدليهم بغروره و أنتم أعلم الناس بالحلال و الحرام فاستغنوا بما علمتم و احذروا ما حذركم الله من الشيطان و ارغبوا فيما عنده من الأجر و الكرامة و اعلموا أن المسلوب من سلب دينه و أمانته و المغرور من آثر الضلالة على الهدى فلا أعرفن أحدا منكم تقاعس عني و قال في غيري كفاية فإن الذود إلى الذود إبل و من لا يذد عن حوضه يتهدم ثم إني آمركم بالشدة في الأمر و الجهاد في سبيل الله و ألا تغتابوا مسلما و انتظروا للنصر العاجل من الله إن شاء الله
قال نصر ثم قام ابنه الحسن بن علي ع فقال الحمد لله لا إله غيره و لا شريك له ثم قال إن مما عظم الله عليكم من حقه و أسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره و لا يؤدى شكره و لا يبلغه قول و لا صفة و نحن إنما غضبنا لله و لكم إنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم و استحكمت عقدتهم فاحتشدوا في قتال عدوكم معاوية و جنوده و لا تخاذلوا فإن الخذلان يقطع نياط القلوب و إن الإفدام على الأسنة نخوة و عصمة لم يتمنع قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة و كفاهم جوائح الذلة و هداهم إلى معالم الملة ثم أنشد شرح نهج البلاغة ج : 3 : 186
و الصلح تأخذ منه ما رضيت به و الحرب يكفيك من أنفاسها جرع

(4/159)


ثم قام الحسين بن علي ع فحمد الله و أثنى عليه و قال يا أهل الكوفة أنتم الأحبة الكرماء و الشعار دون الدثار جدوا في إطفاء ما دثر بينكم و تسهيل ما توعر عليكم ألا إن الحرب شرها ذريع و طعمها فظيع فمن أخذ لها أهبتها و استعد لها عدتها و لم يألم كلومها قبل حلولها فذاك صاحبها و من عاجلها قبل أوان فرصتها و استبصار سعيه فيها فذاك قمن ألا ينفع قومه و أن يهلك نفسه نسأل الله بقوته أن يدعمكم بالفيئة ثم نزل
قال نصر فأجاب عليا ع إلى السير جل الناس إلا أن أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه فيهم عبيدة السلماني و أصحابه فقالوا له إنا نخرج معكم و لا نترك عسكركم و نعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم و أمر أهل الشام فمن رأيناه أراد ما لا يحل له أو بدا لنا منه بغي كنا عليه فقال لهم علي ع مرحبا و أهلا هذا هو الفقه في الدين و العلم بالسنة من لم يرض بهذا فهو خائن جبار
و أتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود منهم الربيع بن خثيم و هم يومئذ أربعمائة رجل فقالوا يا أمير المؤمنين إنا قد شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك و لا غناء بنا و لا بك و لا بالمسلمين عمن يقاتل العدو فولنا بعض هذه الثغور نكمن ثم نقاتل عن أهله فوجه علي ع بالربيع بن خثيم على ثغر الري فكان أول لواء عقده ع بالكوفة لواء الربيع بن خثيم. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 187قال نصر و حدثني عمر بن سعد عن يوسف بن يزيد عن عبد الله بن عوف بن الأحمر أن عليا ع لم يبرح النخيلة حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة قال و كان اب علي ع إلى ابن عباس
أما بعد فاشخص إلي بمن قبلك من المسلمين و المؤمنين و ذكرهم بلائي عندهم و عفوي عنهم في الحرب و أعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل و السلام

(4/160)


قال فلما وصل كتابه إلى ابن عباس بالبصرة قام في الناس فقرأ عليهم الكتاب و حمد الله و أثنى عليه و قال أيها الناس استعدوا للشخوص إلى إمامكم و انفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين الذين لا يقرءون القرآن و لا يعرفون حكم الكتاب و لا يدينون دين الحق مع أمير المؤمنين و ابن عم رسول الله الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر و الصادع بالحق و القيم بالهدى و الحاكم بحكم الكتاب الذي لا يرتشي في الحكم و لا يداهن الفجار و لا تأخذه في الله لومة لائم
فقام إليه الأحنف بن قيس فقال نعم و الله لنجيبنك و لنخرجن معك على العسر و اليسر و الرضا و الكره نحتسب في ذلك الأجر و نأمل به من الله العظيم حسن الثواب. و قام خالد بن المعمر السدوسي فقال سمعنا و أطعنا فمتى استنفرتنا نفرتا و متى دعوتنا أجبنا. و قام عمرو بن مرجوم العبدي فقال وفق الله أمير المؤمنين و جمع له أمر المسلمين شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 188و لعن المحلين القاسطين لا يقرءون القرآن نحن و الله عليهم حنقون و لهم في الله مفارقون فمتى أردتنا صحبك خيلنا و رجالنا إن شاء الله. قال و أجاب الناس إلى المسير و نشطوو خفوا فاستعمل ابن عباس على البصرة أبا الأسود الدؤلي و خرج حتى قدم على علي ع بالنخيلة
كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية و جوابه عليه

(4/161)