الكتاب : شرح الرسالة الناصحة بالأدلة الواضحة المؤلف : الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان المتوفى سنة 614هـ |
شرح الرسالة الناصحة بالأدلة الواضحة
تأليف الإمام الأعظم والبحر الخضم والبدر الأتم المنصور بالله رب العالمين والمجدد للدين أبي محمد عبد الله بن حمزة بن سليمان عليه السلام
......
كلمة مركز أهل البيت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً - وبعد:
يسرّ مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية أن يقدم لك أخي المؤمن الكريم كتاب ( شَرْح الرِّسالَةِ النَّاصِحة بالأدلَّة الوَاْضِحَةِ ) تأليف الإمام الأعظم، والبحر الخضم، والبدر الأتم، المنصور بالله ربّ العالمين، والمجدد للدين، أبي محمد عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- وذلك ضمن الدفعة الثالثة الصادرة عن المركز عام 1423هـ، 2002م.
وخلال ذلك نجدد العهد لله تعالى ولرسوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- ولأئمة أهل البيت -صلوات الله عليهم - بمواصلة ما بدأناه، والسير قدماً في نشر عقائد أهل البيت(ع) ومذهبهم من خلال نشر تراثهم الفكري، وما خلّفوه من علوم جليلة أسهمت وتُسْهم في صلاح المجتمعات، والوصول بها إلى السعادة الأبديّة، دون أن نحاول صياغة عقائدهم حسب ما يروق لنا، ونجعلها سَلِسَة بِسَلاسَةِ عَصْرنا، بل نقدّمها كما قدّمها أئمة الآل، قفد كفوْنا المؤونة في ذلك، وما بقي إلا أن نغترف من مائهم الزلال، واهتمامنا بذلك لما سبق وذكرناه من أمثال قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33] وقوله تعالى: {إنما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، وقوله تعالى: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23].
وأمثال قول رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- :((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))، وقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-:((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى))، وقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- :((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء))، وقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- : (( من سرّه أن يحيا حياتي؛ ويموت مماتي؛ ويسكن جنة عدن التي وعدني ربي؛ فليتولّ علياً وذريته من بعدي؛ وليتولّ وليّه؛ وليقتدِ بأهل بيتي؛ فإنهم عترتي ؛ خُلقوا من طينتي ؛ ورُزقوا فهمي وعلمي.....)) الخبر- وقد بيّن -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم -أنهم علي؛ وفاطمة؛ والحسن والحسين وذريّتهما - عَلَيْهم السَّلام - عندما جلَّلهم -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- بكساءٍ وقال: ((اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)).
وغيرها من النصوص الواضحة الجليّة الدالة على أنهم عروة الله الوثقى، وحبله المتين الأقوى.
* * * * * * * * * * * *
وقد صدر عن مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية - بصعدة-:
1- لوامع الأنوار في جوامع العلوم والآثار وتراجم أولي العلم والأنظار، تأليف/ الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
2- مجموع كتب ورسائل الإمام الأعظم أمير المؤمنين زيد بن علي(ع)، تأليف/ الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع).
3- شرح الرسالة الناصحة بالأدلة الواضحة، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة(ع).
4- صفوة الإختيار في أصول الفقه، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة (ع).
5- المختار من الأحاديث والآثار من كتب الأئمة الأطهار وشيعتهم الأخيار، تأليف/ السيد العلامة محمد بن يحيى الحوثي حفظه الله.
6- هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطيبين، تأليف/ السيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير(ع).
7- الإفادة في تاريخ الأئمة السادة، تأليف/ الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني(ع).
8- المنير - على مذهب الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم -عَلَيْهمالسَّلام-، تأليف/ أحمد بن موسى الطبري رضي الله عنه.
9- نهاية التنويه في إزهاق التمويه، تأليف السيد الإمام / الهادي بن إبراهيم الوزير(ع).
10- تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين، تأليف/ الحاكم الجشمي المحسن بن محمد بن كرامة رحمه الله تعالى.
11- عيون المختار من فنون الأشعار والآثار، تأليف الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
12- أخبار فخ وخبر يحيى بن عبدالله (ع) وأخيه إدريس بن عبدالله(ع)، تأليف/ أحمد بن سهل الرازي رحمه الله تعالى.
13- الوافد على العالم، تأليف/ الإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم الرسي(ع).
14- الهجرة والوصية، تأليف/ الإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم الرسي(ع).
15-الجامعة المهمة في أسانيد كتب الأئمة، تأليف/الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
16- المختصر المفيد فيما لا يجوز الإخلال به لكلّ مكلف من العبيد، تأليف/ القاضي العلامة أحمد بن إسماعيل العلفي رضي الله عنه.
17- خمسون خطبة للجمع والأعياد.
18- رسالة الثبات فيما على البنين والبنات، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة(ع).
19-الرسالة الصادعة بالدليل في الرد على صاحب التبديع والتضليل، تأليف/ الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
20- إيضاح الدلالة في تحقيق أحكام العدالة، تأليف/ الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
21- الحجج المنيرة على الأصول الخطيرة، تأليف/الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
22- النور الساطع، تأليف/ الإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي رحمه الله تعالى.
23- سبيل الرشاد إلى معرفة ربّ العباد، تأليف/ السيد العلامة محمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد(ع).
24- الجواب الكاشف للإلتباس عن مسائل الإفريقي إلياس - ويليه/ الجواب الراقي على مسائل العراقي، تأليف/ السيد العلامة الحسين بن يحيى الحوثي حفظه الله تعالى.
25- أصول الدين، تأليف/ الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين(ع).
26- الرسالة البديعة المعلنة بفضائل الشيعة، تأليف/ القاضي العلامة عبدالله بن زيد العنسي رحمه الله تعالى.
كما شارك مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية -بصعدة- بالتعاون مع مؤسسة الإمام زيد بن علي(ع) الثقافية في إخراج:
27- مجموع رسائل الإمام الهادي(ع)، تأليف/ الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم(ع).
28- العقد الثمين في تبيين أحكام الأئمة الهادين، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمز(ع).
29- المصابيح وتتمته، تأليف/ السيد الإمام أبي العباس الحسني(ع)، والتتمة لعلي بن بلال رضي الله عنه.
30- الموعظة الحسنة، تأليف/ الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي(ع).
ومع مكتبة التراث الإسلامي:
31- البدور المضيئة جوابات الأسئلة الضحيانية، تأليف/ الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي(ع).
وهناك الكثير الطيّب في طريقه للخروج إلى النور إنشاء الله تعالى، نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.
* * * * * * * * * * * *
ونتقدّم في هذه العجالة بالشكر الجزيل لكلّ من ساهم في إخراج هذا العمل الجليل إلى النور، ونسأل الله أن يكتب ذلك للجميع في ميزان الحسنات، وأن يجزل لهم الأجر والمثوبة.
وختاماً نتشرّف بإهداء هذا العمل إلى مولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي -أيده الله تعالى وأدام في الداريْن علاه- باعث كنوز أهل البيت(ع) ومفاخرهم، وصاحب الفضل في نشر تراث أهل البيت(ع) وشيعتهم الأبرار رضي الله عنهم.
وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
مدير المركز/
إبراهيم بن مجدالدين بن محمد المؤيدي
27 ربيع الأول/ 1423هـ، 6/6/2002م
قال والدنا ومولانا الإمام الحجة/
مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد :
فهذا الكتاب العظيم من منن الله تعالى واهب المنن، وأنواره المنيرة في جبين الزمن، الساطع ببراهين اليقين، والقاطع بصوارم التبيين، لتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهو تأليف الإمام الذي جدّد الله بسيفه وعلمه الدين، وأحيا بقيامه وعزمه سنن المرسلين.
عليمٌ رَسَتْ للعلمِ في أرض صَدْره .... جبالُ جبالِ الأرض في جَنْبِها قُفّ
وما أصدق قوله -عَلَيْه السَّلام- :
وأنا ابن معتلج البطاح تضمّني .... كالدرّ في أصداف بحر زاخرِ
ينشقّ عنّي ركنها وحطيمها .... كالجفن يُفتح عن سواد الناظرِ
كجبالها شرفي ومثل سهولها .... خلقي ومثل المرهفات خواطري
فهو الإمام الأعظم، والطود الأشم، والبحر الخضم، والبدر الأتمّ، الصوّام القوّام، مقيم حجّة الله على الأنام، ومجدد أعلام ملّة الإسلام، أمير المؤمنين، المجدد للدين، المنصور بالله رب العالمين، أبو محمد عبدالله بن حمزة بن سليمان بن حمزة -عَلَيْهم السَّلام-.
مَنْ نشر الله به العدل والإحسان، وأظهر به الأمن والإيمان، وطهّر الأرض من الفسوق والعصيان.
وكفى بما قاله في شأنه عدوّه - وأقوى الشهادات شهادة الضد لضده - في رسالته التي وجّهها إلى أحمد العباسي الملقب الناصر يحضّه على حرب الإمام، حيث قال:
أما بلغتكم دعوةُ المتهجّد .... وإيعادُه يوماً يروح ويغتدي
وفيها:
وساعده المقدور حتى جرت له .... بما يشتهي أفلاكها ونجومها
ونادى أنا ابن المصطفى وابن عمّه .... علي أنا ترب العلا ونديمها
أما أحمد جدّي وحيدر والدي .... وإني للعلياء حقاً أقيمها
بكلام يستنزل العصم، ويزلزل الشم، أحلى من العسل، وأمضى من البيض والأسل...إلى آخر ما ذكر.
وخصائص هذا الإمام، وشمائله العظام، وفضائله المنيرة الفجاج، وفواضله الوضيئة الديباج، وبلاغته الوهّاجة السراج، وعلومه المتلاطمة الأمواج، عالية المنار، واضحة الأنوار، متجلّية الشموس والأقمار، وفي سيرته الخاصة به، وكتب السير العامة، الكثير الطيّب، والغزير الصيّب، وقد أوضحتُ المهم من أحوال أئمة العترة وأوليائهم في كتاب التحف الفاطمية شرح الزلف الإمامية - نفع الله بها - على سبيل الإختصار.
والله أسأل، وبجلاله أتوسل أن يصلي ويسلم على من أرسله رحمة للعالمين، وعلى آله الهادين إلى يوم الدين، وأن يتقبّل العمل، ويحقق الأمل، ويحسن الختام، ويصلح أمر الإسلام، إنه قريب مجيب، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي
غفر الله لهم وللمؤمنين
كتب بأمره ولده/ إبراهيم بن مجدالدين المؤيدي
وفّقه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
الحمد لله الأول بلا ابتداء، الآخر بلا انتهاء، الدائم بلا فناء، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأبناء، الخالق لما أراد، المعيد لما أفنى وأباد، صادق الوعد والوعيد، المنزّه عن ظلم العبيد، لم يقضِ بالظلم والفساد، وحكم بالعدل والرشاد، أحمده لفضله، وأستدل عليه بفعله، وأصفه بعدله.
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة سبقها الإيقان، ونطق بها اللسان، ثقيلة في الميزان، مرضية للرحمن.
وأشهد أن محمداً عبده الأمين، ورسوله إلى الخلق أجمعين، بعثه على حين فترة من الرسل، واختلاف من الملل، فبلّغ الرسائل، وأوضح الدلائل، وأنذر القبائل، حتى سطع نور الحق والهدى، وانقشع سربال الغي والردى، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأطهار المنتجبين الأخيار.
وبعد:
فإن من النعم التي يجب شكرها، ولا يسع المكلف كفرها، ما مَنَّ الله علينا به، وأوجب علينا حمده بسبه، من وجود أهل البيت -عليهم السلام-، والعثور على علومهم، التي بها يُهدى الأنام، ويشفى السقام، وفي هذه الحقبة الزمنية يسّر الله تعالى طباعة وإخراج الكثير من سلسلة علومهم، وينبوع كتبهم، ومجاميع درر ألفاظهم، وما كتبته أيديهم، التي بها تنشرح الصدور، وتزاد الفرحة والحبور، ويتضح الهدى والنور، لتكون مَدْرَساً للمتعلمين المتبدئين، ومرجعاً للعلماء العاملين، ووسيلة لمعرفة الحق المبين، منها تستخرج أحكام الحلال والحرام، والشرائع والأحكام.
كيف لا؟ وهم قرناء القرآن، وأمناء الرحمن، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما قال جدّهم خاتم النبيين صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطاهرين.
حَفَظة الدين الحنيف، والمجددون للشرع الشريف، والذابون لأهل الزيغ والتحريف. وقد خرج بحمد الله الكثير الطيب من كتبهم والبقية في طريقها للإخراج.
ومن جلائل تلك الكتب، وجواهر تلك الصحف، كتب الإمام الأعظم، والبحر الخضم، والبدر الأتم، مجدد الدين في المائة السادسة الهجرية، والمجاهد في سبيل رب البرية، المنصور بالله رب العزة عبدالله بن حمزة بن سليمان بن حمزة عليه وعلى آبائه السلام. وقد طُبع بحمد الله البعض منها، والبقية تحت الطبع والإخراج.
ومنها: هذا الكتاب الذي بين يديك أيها المطلع الكريم وهو (شَرْحُ الرِّسالَةِ النَّاصِحة بالأدلَّة الوَاْضِحَةِ) الذي يُعدّ من أعظم مؤلفات الإمام -عليه السلام-.
وهو من الكتب التي تُشدّ لطلبها الرحال، ويسهل في سبيل اقتنائها مصاعب الانتقال، كيف لا ؟ ومؤلفها من لا يشقّ له غبار، ولا يجارى في مضمار.
وقبل أن ندخل في التحدث عن مضمون الكتاب، وأهميته، نقدم ترجمة لمؤلفه، لا لأجل التعريف به، فهو أعرف من أن يعرّف، وأجل من يوصف، ولكن كما قال الشاعر:
أسامي لم يزدن معرفة .... وإنما لذة ذكرناها
وكما قال:
مقام أمير المؤمنين ابن حمزة .... أجلّ وأعلى أن يحيط به وصفي
رفعت إليه الطرف فارتد خاسئاً .... ولا غرو أن يرتد من خجل طرفي
وأيقنت أن الصيد ما ضمه الفرا .... فقلت لكَفِّي عن كتابته كُفِّي
كيف تحوي سطور الدفاتر، بحراً من بحور العلم الزاخر ؟ وكيف تعبّر أقلام الكتَّاب عن شمس لا يحجبها حجاب؟
[ترجمة الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة(ع)]
هو الإمام الأعظم الكبير، والبحر الخضم الغزير، والبدر الأتم المنير، ذو الفضائل المأثورة، والكرامات المشهورة، والوقائع المذكورة، البحر الذي لا يوقف له على ساحل، صدر الأماثل، ورب الفضائل، المجدد للدين، والقائم بإحياء شريعة سيد المرسلين، المحيي للشريعة، والمميت للبدع الشنيعة، والرافع راية الشيعة الرفيعة، المثبت قواعد الزيدية، والمفني أعداءهم من الفرق الغويّة، المنصور بالله أمير المؤمنين عبدالله بن حمزة الجواد بن سليمان الرضى بن حمزة النجيب بن علي العالم بن حمزة النفس الزكية بن أبي هاشم الحسن الإمام الرضى بن عبدالرحمن الفاضل بن يحيى نجم آل الرسول بن عبدالله العالم بن الحسين الحافظ بن القاسم ترجمان الدين بن إبراهيم الغمر بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الشبه بن الحسن الرضى بن الحسن السبط بن علي الوصي أمير المؤمنين بن أبي طالب عليهم صلوات رب العالمين.
مولده(ع)
لتسع ليالٍ بقين من شهر ربيع الآخر سنة (561هـ) بقرية (عيشان) من ظاهر همدان.
نشأته(ع)
في حجر والده حمزة بن سليمان من فضلاء أهل البيت في عصره، وممن يؤهل للإمامة، نشأ في بيت العلم والزهد والورع والعبادة والشجاعة فأخذ من ذلك الضياء قَبَساً، ومن تلك المكارم غرساً، مع ما وهب الله له من مواهبه السنية، وعطاياه الهنية، من الفطنة والذكاء، والحفظ والتقى، لم يشتغل في صباه باللعب، ولم يمل إلى اللهو والطرب.
صفته (ع)
كان -عليه السلام- طويل القامة، تام الخلق، دُرِّي اللون، حديد البصر حدة مفرطة، أبلج، كثّ اللحية كأن شيبها قصب الفضة، صادق الحدس، قوي الفراسة، كثير الحفظ، فصيحاً بليغاً، شاعراً مفلقاً، شجاعاً بطلاً، يخوض غمرات الحتوف، ويضرب بسيفه بين الصفوف، وقائعه تشهد بشجاعته، ومواقفه تبين صدق بسالته، يقذف بنفسه في مقدمات الحروب، وترجف لهيبته القلوب، شأنه شأن آبائه المطهرين، وسلفه الأكرمين، في نشر الدين، وإطفاء بدع المبتدعين.
مشائخه(ع)
أخذ الإمام -عليه السلام- العلم والمعرفة عن علماء عصره؛ فمنهم: والده عالم أهل البيت في عصره حمزة بن سليمان (ع) في علوم القرآن وغيرها.
ثم ارتحل للقراءة على علامة اليمن أبي الحسن الحسن بن محمد الرصاص، فقرأ عليه في الأصولين والأدب وغيرها، حتى فاق الأقران، وأربى على أهل الزمان، وكان له من الجد والنشاط والهمة العالية في طلب العلم ما لم يكن لغيره من أبناء عصره، حتى بلغ في العلوم مبلغاً تحتار فيه الأفكار، وتقصر عنه علوم أولي العلم من جميع الأعصار، وسارت بذكره الركبان في جميع الأمصار.
طهارة نشأته(ع)
قال الحسين بن ناصر المهلا في (مطمح الآمال):
قال في سيرته: أما زهده فمعروف في سيرته، مشهور من شيمته، يعرفه من خالطه واتصل به من حال الصغر إلى الكبر، وأنه كان كثير الصبر على مضض العيش، مدمناً على الصوم والقيام، وما لمس حراماً متعمداً، ولا أكله ولا رضي أكله، وكان يغشى مجالس العلم، ويقتات الشيء اليسير الزهيد، ويؤثر على نفسه الوافدين إليه، والضعفاء والمساكين والغرباء، وكتب كتاباً قال فيه: (والله ما رأيت خمراً -يعني في يقظة ولا منام- ولا الملاهي من الطنابير وما شاكلها حتى ظهرتُ على الجبارين من الغز، وأمرت بكسرها وإراقة خمورها، ولا أكلتُ حبّة حراماً أعلمها، ولا قبضت درهماً حراماً أعلمه، ولا تركت واجباً متعمداً، وإني لمعروف النشأة بالطهارة، ما كان لي شغل إلا التعليم والدراسة والعبادة، ثم انتقلتُ بعد ذلك إلى الجهاد في سبيل الله فحاربت الظالمين)..إلى آخر ما قال -عليه السلام-.
ومقاماته في الرأفة والرحمة والعدل والزهد في الدنيا وإيثار الآخرة أشهر من شمس النهار، يتناقله الأخيار، ويرويه الأبرار في محافل الأخبار. انتهى من مطمح الآمال.
بقية مشائخه(ع)
وقد روى الإمام المنصور بالله -عليه السلام- في أسانيده المباركة، التي عليها مدار أسانيد العترة -عليهم السلام-، وهي قطب رحاها، وواسطة عقدها، فروى البعض بالقراءة، والبعض بالإجازة العامة:
عن شيخه الحسن بن محمد الرصاص -رحمة الله عليه-.
وعن الفقيه العلامة محمد بن أحمد بن الوليد القرشي.
وعن الفقيه العلامة علي بن الحسين بن المبارك الأكوع.
وعن الفقيه العلامة حنظلة بن الحسن الشيباني الصنعاني.
وعن بدرالدين الأمير الأجل محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى -عليهم السلام-.
وعن الأمير الكبير شمس الدين الداعي إلى الله يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى -عليهم السلام-.
وعن الفقيه العلامة الزاهد أحمد بن الحسين بن المبارك الأكوع.
فحفظ الإمام المنصور بالله -عليه السلام- علوم آبائه، وعلوم الأمة حتى صار العَلَم المشار إليه، والكهف المرجوع في المشكلات إليه، فذاع صيته في الآفاق، وامتدت إليه الأعناق.
[الحالة الزمنية التي عاشها الإمام(ع) ناشئاً]
وكانت الفترة الزمنية التي يعيش فيها الإمام المنصور بالله (ع) أيام قراءته من أشدّ الفترات الزمنية التي عاشها اليمن، حيث اشتدت فيه الفتن، وتأجّجت نيرانها، وحصلت الاضطرابات في داخل أوساط أهل اليمن، وتفرقوا أحزاباً، حتى خمد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانتشر الفساد حتى كاد يعم جميع اليمن.
ومن المعلوم أن اليمن ذات أهمية بالغة من الناحية التضاريسية، فهي تتمتع بجبالها الحصينة، وأرضها الخصبة، ومياهها العذبة.
ومن الناحية التاريخية: فهي مشهورة بشخصياتها ورجالها الذين خلدوا أسماءهم، ونقشوا سيرهم على صفحات التاريخ القديم والحديث، وأهلها أهل نجدة وشجاعة وبسالة ووفاء.
ومن الناحية الدينية: فهي من أوائل القبائل العربية دخولاً في الإسلام، وتمسكاً بأهل البيت -عليهم السلام-. وغير ذلك من المقومات المعيشية في اليمن.
فكانت تلك الفترة فترة منافسة بين الدول العظمى والدويلات القائمة في اليمن. فالدولة الأيوبية (الغز) كانت قد بسطت نفوذها في اليمن، وانتشر الفساد، فشُربت الخمور، ونُكحت الذكور، وعملت أعمال الفجور، أما بالنسبة لما يدور في داخل الساحة اليمنية فكما قال المؤرخ الشامي في (تاريخ اليمن الفكري (3/22): (كانت حسب أقوال المؤرخين قد تمزقت إلى مشيخات ودويلات، فعدن وتعز إلى آل زريع، وذمار ومخاليفها لسلاطين جنب ومشائخها، وصنعاء وأعمالها إلى حدود الأهنوم يحكمها السلطان علي بن حاتم اليامي، وآل دعام يسيطرون على الجوف، والأشراف من أحفاد الإمام الهادي لهم صعدة وما إليها، وشهارة وما صاقبها لأولاد الإمام العياني، والجريب والشرف لسلاطين حجور، وتهامة اليمن للأشراف، وزبيد إلى بلاد حرض يملكها عبدالنبي بن مهدي، وأصبحت كما قال الشاعر:
وتفرّقوا فرقاً فكلّ قبيلة .... فيها أمير المؤمنين ومنبر)
انتهى.
والذي سنى لهذه الدويلات التكاثر والتفرق هو خمود صوت الإمامة الزيدية في اليمن، فمن سنة (566هـ) العام الذي توفي فيه الإمام أحمد بن سليمان إلى سنة (583هـ) العام الذي فيه كانت دعوة الإمام المنصور بالله للإحتساب، لم يظهر إمام يضبط الأمور، ويقود الجمهور.
[الإرهاصات المبّشرة بالإمام(ع)]
الإمام المنصور بالله (ع) كانت تلوح في جبينه مخائل الإمامة، وتظهر على وجهه ملامح الزعامة، فالأمة بحاجة إلى قائد يقودها، ويطهر بالسيف أوزارها، ولقد كانت الإرهاصات والتفاؤلات تشير إلى أن الفتى الذي فاق أقرانه هو الذي سيصير (إمام الأمة)، ومن تلك الإرهاصات ما يلي:
أولاً: ما حكاه مؤلفوا سيرته من أنه لما ولد -عليه السلام-: (ازداد ضوء المصباح، وعلا علواً جاوز المعتاد، حتى بلغ دوين السقف، واستقام على ذلك)([1]).
_______________
([1])ـ الحدائق الوردية (خ)، التحفة العنبرية (خ)، الترجمان (خ)، اللآلئ المضيئة (خ)، الزحيف (خ)، وغيرها.
ثانياً: ومن ذلك: أن والده حمزة بن سليمان (ع) رأى أنه ظهر منه نورٌ ملأ الأرض كلها فعبره على جدة له شريفة فاضلة، فقالت: اكتمه، فقد قيل إنه لا بد أن يظهر منك أو من أبيك المنصور، أو من يدّل عليه، ثم عبر رؤياه على رجل وهو يتعجّب منها فلما استكملها قال: أبشر يا حمزة بإمام من ذريتك([2]).
ثالثاً: ما روي أنه أتى قوم من بني صريم إلى حمزة بن سليمان يطلبون منه القيام والمدافعة عنهم على حاتم بن أحمد لما ملك أرضهم فقال: لا فرج لكم على يديّ وإنما فرجكم على يدي هذا الصبي([3]).
وغير ذلك من الإرهاصات والإشارات الهادية المبينة لفضل الإمام المنصور بالله -عليه السلام- مع ما روي من الآثار والملاحم التي تبشّر بالإمام -عليه السلام-، وتشرح حال الزمن الذي يعيش فيه، ولنذكر بعضاً منها ليدل على ما سواه:
فمن ذلك: ما روي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال لفاطمة -عليها السلام-: ((يا فاطمة منك الهادي والمهدي والمنصور))([4]).
ومن ذلك: ما روى مصنف سيرته وهو علي بن نشوان عن الأمير الفاضل بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى، قال: وجدت في كتاب قديم قد كاد يتلف من البلاوة مائة وعشرون سنة إلى وقت قيام الإمام -عليه السلام- كلاً في ذكر قيام القائم المنصور بالله في سنة ثلاث وتسعين، قال: ثم يظهر القائم المنصور في سنة (593هـ)([5]).
ومن ذلك: ما رواه مصنف سيرته أيضاً عن الشريف الفاضل سليمان بن زيد بن عبدالله بن جعفر، قال: وجدت في رواية صحيحة عن محمد بن الحنفية في شعره:
ووديعة عندي لآل محمد .... أودعتُها وجُعلت من أمنائها
فإذا رأيت الكوكبين تناوحا .... في الجدي عند صباحها ومسائها
فهناك يبدو عز آل محمد .... وظهورها بالنصر في أعدائها([6])
________________
([2])ـ نفس المصادر المتقدمة.
([3])ـ نفس المصادر.
([4])ـ رواه القاضي عبدالله بن زيد العنسي في الإرشاد، وفي الرسالة البديعة المعلنة بفضائل الشيعة، أنظر التحف شرح الزلف للإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالىفي سيرة الإمام عبدالله بن حمزة عليه السلام.
([5])ـ الحدائق، اللآلئ المضيئة (خ).
([6])ـ الحدائق - اللآلئ المضية - التحف العنبرية، وغيرها.
ومن ذلك: ما روى الفقيه حميد الشهيد في الحدائق وهو من المعاصرين للإمام ومن أنصاره قال: نقل من أبيات قصيدة قديمة ذكر فيها صاحبها الخوارج ثم ذكر صفات الغز التي شوهدت عياناً، ثم ذكر القائم بالحق فقال:
أهل فسق ولواط ظاهر .... أهل تعذيب وضرب بالخشب
كفروا بالدين ثم اشتغلوا .... بفراغ الناس حباً للذهب
يتركون الفرض والسنة لا .... يعرفون الله ليسوا بعرب
فهم كالجن مَنْ أبصرهم .... طار رعباً ثم خوفاً وهرب
ينقلون المال من أرض سبأ .... نحو مصر ودمشق وحلب
فإذا ما الناس ضاقوا منهم .... في بسيط الأرض طراً والحدب
ظهر القائم من أرض سبأ .... يمني السكن شامي النسب
اسمه باسم أبي الطهر النبي .... ذاك عبدالله كشّاف الكرب
يملأ الأقطار عدلاً مثلما .... مُلئت جوراً وهذا قد غلب
تظهر الخيرات في أيامه .... ويُرى الباطل فيه قد هرب
وترى الأشيب في أيامه .... يتمنى كل يوم أن يَشِبّ
قال في الحدائق: (ومن تأمل هذه الصفات تحقق ما قلناه لأن هذه الصفات المذكورة هي الموجودة في الغز بالمشاهدة، ولم يقم الإمام إلا بعد أن أصاب الناس البلاء الشديد في سهول الأرض وحزونها من هؤلاء الأعاجم، وقوله: (ظهر القائم من أرض سبأ) لأن الإمام المنصور بالله -عليه السلام- كان خروجه من ناحية الجوف وهو يمني السكن شامي النسب لأن جده أبا هاشم الحسن بن عبدالرحمن -عليه السلام- وصل من الحجاز إلى اليمن، ثم صرّح بعد ذلك باسمه، وهو عبدالله. ولم يعلم أن أحداً من أئمتنا -عليهم السلام- إلى الآن على هذه الصفات، ثم ذكر ظهور الخيرات في أيامه -عليه السلام- وذلك ظاهر)..إلى آخر كلامه، انتهى.
فهذه مما رواها معاصروه، وهم أهل الثقة والأمانة والعدالة، والصدق في الرواية.
مع ما كان -عليه السلام- يتحلى به من الصفات الكاملة التي تؤهله لمنصب الإمامة، وتحمل أعباء الزعامة، من العلم والورع والشجاعة والكرم والعبادة وحسن التدبير، التي فاق فيها أرباب عصره، وعلماء دهره.
علمه(ع)
إن من أوضح الأدلة والحقائق على علم الإمام -عليه السلام- وبلوغه فيه أقصى الغايات، وخوضه في فنونه في بحار الدرايات، ما خلفه لنا من الثروة العلمية، من المؤلفات العظيمة التي أغنت المكتبة الإسلامية، في شتى فنون العلم في الأصول والفروع والتاريخ والتربية والأشعار وغيرها.
فلسنا بحاجة إلى الاستدلال على هذا الجانب فمؤلفاته -عليه السلام- تنيف على خمسين مؤلفاً كما ستعرف ذلك إن شاء الله تعالى.
منها: الشافي، والرسالة الناصحة، وصفوة الإختيار، والشفافة وغيرها. وشهادة علماء عصره ومن بعدهم له -عليه السلام- بنهاية التقدم في فنون العلم والمعرفة.
وتسليم الأميرين الداعيين بدر الدين وشمس الدين يحيى ومحمد ابني أحمد بن يحيى بن يحيى الإمامة له والبيعة والجهاد معه مع تقدمهما دليل واضح على ذلك.
وأجوبته على المسائل الواردة عليه تبين بلوغه الذروة العليا في العلوم، فلم يبق فن إلا طار في أرجائه، وسبح في أثنائه.
شعره(ع)
أما فصاحة الإمام وبلاغته فذلك ظاهر في مؤلفاته وقصائده الشعرية، فقد كان له في الشعر باع طويل، فقد كان -عليه السلام- كما قيل (أفصح الفاطميين)؛ لما كان له من القدرة على نظم الشعر على جميع أنواعه وأوزانه.
ويعتبر شعره -عليه السلام- دراسة كاملة وشاملة لسيرته ولما وقع فيها من الأحداث والحروب وغيرها، قال المؤرخ الشامي:
(الإمام عبدالله بن حمزة شاعر مفلق، وشعره جزل التراكيب، فخم الألفاظ، مطرز بالغريب، وعلى جلال الواثق بنفسه، المتباهي بحسبه ونسبه، وعلمه وأدبه، ومسحة بدوية تلحقه أحياناً بشعراء ما قبل الإسلام..إلى قوله:
وقد اتخذ الإمام عبدالله بن حمزة من الشعر عصاً يتوكأ عليها في معاركه الحربية السياسية والمذهبية، ويهش بها على ملوك وسلاطين عصره، وليس هناك من حادثة وقعت له ولا من أمر مارسه، أو كارثة نَاْبَتْه، أو وجْدٍ انفعل له ؛إلا وسجّله شعراً، ولذلك فهو يعد من المكثرين لا بين شعراء أئمة اليمن -وجلهم كانوا كذلك- بل بين شعراء اليمن عموماً) انتهى.
وله ديوان شعر اسمه (مطالع الأنوار ومشارق الشموس والأقمار) وهو تحت الطبع، ولم تضمن هذه الترجمة شيئاً من شعره لشهرته ولأجل الاختصار.
الدعوة الأولى: دعوة الاحتساب
تقدم وصف الحال التي يعيشها اليمن قبل قيام الإمام المنصور بالله -عليه السلام- وانتصابه للأمر، وكانت الزيدية تعيش حالة انتظار للرجل المؤهل للقيام بالأمر المهم، وتخليص اليمن وأهله ما هو فيه من الفتن، إذا بصوت الإمامة الحيَّة تبدأ تدب في روح الجسد الزيدي ليعود إلى الدفاع عن دين الله، وتجديد شرائع الله، وإقامة الحدود، ونصر المستضعفين، فإذا بالشاب الذي طال ما امتدت إليه الأعناق، وشاع صيته في الآفاق، الذي لم يزل في الثانية والعشرين من عمره وقد حاز علوم الاجتهاد، وحفظ علوم الآباء والأجداد، يقوم بدعاء الناس إلى طاعة الله تعالى وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الظالمين، وإظهار كلمة الحق ودفع الفساد، وذلك في سنة (583هـ)، فأجابه أهل الجوفين كافة، فبايعهم (للرضى من آل محمد) لأنه كان طامعاً في قيام الأمير الكبير شمس الدين شيخ آل الرسول يحيى بن أحمد بل كل الخلق طامعون فيه، وكان الإمام -عليه السلام- حريصاً مجتهداً على أن يكون من أنصاره، فهذه هي الدعوة الأولى الخاصة التي قام بها -عليه السلام- احتساباً وانتظاراً لقائم الآل.
الإمام والأميرين
ودارت المكاتبات والرسائل بين الإمام -عليه السلام- والأميرين الكبيرين يحيى ومحمد ابني أحمد بن يحيى بن يحيى، ثم نهض الإمام متوجهاً إلى صعدة في مقدار مائة فارس ورجل كثير، فلقيه الأميران في الحقل في جمع كثير من خولان وبني جماعة والأبقور وبني حي وبني مالك وغيرهم، فتحدث معهم الإمام -عليه السلام- ووعظهم، وكان الناس ينتظرون قيام الأمير الكبير يحيى، فدارت مراجعة عرض فيها الأمير الكبير على الإمام البيعة فكره ذلك واستعظمه وقال: (إنما أردت حياة الدين وكرهت إهمال الأمة، وأنت العمدة والقدوة، وكبير أهل البيت الشريف، فإن علمت عذراً يخلصك عند الله سبحانه فأنا بذلك أولى لأنك أكبر أهل البيت -عليهم السلام-) وجرى بذلك خطاب طويل وكان قصد الإمام -عليه السلام- بالحركة في الجوف لينتظم للدين أعوان، وكان يعتقد أنه إذا وصل بأولئك القوم إلى الأمير الكبير ساعده إلى تقلّد الأمر.
ثم رجع الإمام -عليه السلام- إلى الجوف، فأصلح الأمور وساس الجمهور ولكنه لم يتشدد التشدد الأول.
وقام الإمام المنصور بالله -عليه السلام- بكثير من الأعمال والحروب في حال الاحتساب، وللإطلاع على تفاصيل ذلك راجع التحفة العنبرية في المجددين من أبناء خير البرية، والجزء الثاني من الآليء المضيئة للشرفي.
الدعوة الثانية (العامة)، دعوة الإمامة العظمى
كان له -عليه السلام- بيعتين:
الأولى: في ذي القعدة سنة (593هـ) من الجوف، ثم توجه إلى دار معين من أعمال صعدة فأقام بها أربعة أشهر تنقص أياماً، اجتمع إليه فيها العلماء وأورد كل منهم سؤاله وامتحانه، وكانوا نحواً من أربعمائة عالم وفاضل وشريف، فوجدوه بحراً لا ساحل له، واعترفوا له بالفضل والسبق([7]).
والثانية: يوم الجمعة الثالث عشر من ربيع الأول سنة (594هـ) قال الإمام الحسن بن بدر الدين:
_____________
([7])ـ اللآلئ المضيئة للشرفي الجزء الثاني (خ)، الحدائق الوردية (خ).
و(كانت دعوته بعد أن أحرز خصال الكمال، ونال منها أشرف منال، وكان معروفاً بالنشأة الطاهرة، والعلوم الباهرة، والورع المعروف، والكرم الموصوف، والشرف والسخاء والنجدة والوفاء، فاجتمع لاختباره علماء عصره، وسادات وقته، من الأمراء والأشراف، والقضاة والفقهاء وغيرهم من المسلمين، فناظروه في جميع الفنون، وامتحنوه أشد الامتحان حتى أن عالماً واحداً منهم سأله عن خمسة آلاف مسألة في الأصول والفروع وعلوم القرآن والأخبار، وأجابه عنها -عليه السلام- بأحسن جواب.
فلما رأى العلماء وسمعوا عن علمه ما يشهد له العيان، وينطق به الامتحان، ويعجز عنه أرباب البيان سمعوا له وأطاعوا، وأجابوا واتبعوا، وكانت البيعة له -عليه السلام- يوم الجمعة الثالث عشر من ربيع الأول سنة (594هـ)([8]) انتهى.
ثم إن الإمام -عليه السلام- توجه بمن معه من العلماء إلى المسجد الجامع الشريف بصعدة مسجد الهادي إلى الحق -عليه السلام- وقد امتلأ وغص بالعلماء والفضلاء.
فقام الأمير الكبير شمس الدين يحيى بن أحمد(ع) خطيباً في الناس وكان من قوله: ياجميع المسلمين إنا قد أطلنا خبرة هذا الإمام، وشهدنا بفضله، وإنه أحق الناس بهذا المقام، وقد تعينت علينا وعليكم الفريضة، ولزمت الحجة، فهلموا فبايعوا الإمام واستبقوا إلى شرف هذا المقام).
ثم إنه تقدم ومدّ يده فبايعه الإمام، ثم تقدم صنوه الأمير بدر الدين محمد بن أحمد فبايع، ثم تقدم بعدهما كبار الأشراف وأفاضل العلماء والقضاة وسائر المسلمين، فبايعوا كافة([9]).
فلما قضيت صلاة الجمعة خرج الإمام والأميران إلى ضفة المسجد الشامية والمسلمون، فأقبل من جمعه السوق من أهل صعدة وسائر قبائل العرب من خولان وسنحان وهمدان وغيرهم.
______________
([8])ـ أنوار اليقين (خ).
([9])ـ التحفة العنبرية (خ)، اللآلئ المضيئة، نقلاً عن السيرة المنصورية.
فتقدم الأمير شمس الدين فوعظ الناس وأخذهم باللطف وبيّن لهم الحق، وكان من كلامه: (أيها الناس لقد جهدنا في حطّ هذا الأمر عن رقابنا ورقابكم بكل ممكن فما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، وقد علمتم أن ملوك اليمن قد عرضوا علينا أموالهم، وخيولهم وحصونهم وطاعتهم وحضونا على هذا المقام فلم نساعدهم إلى ذلك لوجود العذر بيننا وبين ربنا، ومع وجود هذا الإمام فلم نجد سبيلاً إلى التأخر، وإنما هو الإقدام أو النار) فبايع الناس أفواجاً([10]).
ألفاظ البيعة
وكانت بيعته -عليه السلام- أن يبسط يده الشريفة ثم يقول للرجل: (أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموالاة ولينا، ومعاداة عدوّنا، والجهاد في سبيل الله بين أيدينا) فإذا قال الرجل: (نعم) قال الإمام -عليه السلام-: (عليك بذلك عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذ على نبي من عهد وعقد) فيقول الرجل: (نعم)، فيقول الإمام: (الله على ما نقول وكيل)([11]).
الوفود إلى الإمام (ع) للبيعة
ولما ذاع واشتهر في الناس انعقاد البيعة للإمام المنصور بالله -عليه السلام- ومبايعة العلماء له، وتسليم الأمر إياه، أقبلت إليه الوفود من كل فجّ عميق من أقطار اليمن مسارعة في الفضيلة، ومسابقة للجهاد بين يديه، والانضواء تحت راية القائم من أهل البيت -عليهم السلام- ليدفع عن الناس ما يصيبهم من الفتن والمحن، وبعضهم وفد إليه رهبة وهيبة لما كان قد اشهر، فوفد إليه السلاطين آل حاتم، وجميع المشار إليهم من ميع مناطق اليمن.
ولاة الإمام (ع) وقواده
وبعد أن تمّ الأمر وعقدت البيعة، قام الإمام -عليه السلام- بتولية الولاة، ووضع القضاة في البلدان، وكان له -عليه السلام- من الولاة والأنصار الذين بذلوا أنفسهم ونفيسهم ومجهودهم في سبيل طاعة الله وطاعة الإمام -عليه السلام-، ونذكر بعضهم:
________________
([10])ـ التحفة العنبرية (خ)، اللآلئ المضيئة (خ).
([11])ـ الحدائق (خ)، التحفة (خ)، اللآلئ المضيئة (خ) عن السيرة
فمن خيار أنصاره وولاته: الأمير الكبير الداعي إلى الله شمس الدين يحيى بن أحمد بن يحيى بن بحيى عليهم السلام، فقد كان له من الاجتهاد والعناية ما يليق بمثله، على كبر سنه وضعفه فعمره إذ ذاك في عقد السبعين، فقد بذل نفسه في سبيل الدعاء إلى الله وإلى طاعة الإمام(ع) وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله حتى تورمت قدماه من السير في بعض ناوحي بلاد المغرب.
ومنهم: الأمير بدر الدين الداعي إلى الله محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى -عليهم السلام-، ولاه الإمام –عليه السلام-.
وكان الأميران عضدي الإمام –عليه السلام- وأمينيه، ودارت بينهما مراسلات ومكاتبات نثرية وشعرية، تقضي بأكيد المودة وعظيم الصلة بينهم، وكان الإمام يجلّهما ويعظمهما ويعرف لهما الحق الكبير.
ومن ولاته وقوّاده: الأمير الشهير مجد الدين يحيى بن الأمير بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى -عليهم السلام-.
ومنهم: صنوه الأمير الشهيد إبراهيم بن حمزة بن سليمان -عليهم السلام.
والأمير الشهيد علي بن المحسن بن يحيى بن يحيى -رضي الله عنه-.
والأمير صفي الدين محمد بن إبراهيم بن محمد بن الحسين بن حمزة بن أبي هاشم -رضي الله عنهم-.
والأمير علم الدين سليمان بن موسى بن داود الحمزي.
والأمير تاج الدين أحمد بن الأمير بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى.
وصنوه الأمير أسد الدين الحسن بن حمزة بن سليمان -عليهم السلام-.
ومنهم: القاضي العلامة ركن الدين يحيى بن جعفر بن أحمد بن عبدالسلام بن أبي يحيى البهلولي رضي الله عنه.
و القاضي العلامة سليمان بن ناصر الدين بن سعيد بن عبدالله بن سعيد بن أحمد بن كثير السحامي.
ومن ولاته على القضاء: القاضي العلامة محمد بن عبدالله بن حمزة بن أبي النجم.
وولده القاضي عبدالله بن محمد تولى قضاء صعدة بعد موت أبيه.
ومن ولاته على القضاء: القاضي العلامة عمرو بن علي العنسي –رحمة الله عليه-.
ومنهم: القاضي العلامة عبدالله بن معرف، ولي القضاء على وادعة.
ومنهم: القاضي أحمد بن مسعود الربعاني من أصحاب القاضي جعفر -رحمة الله عليه-.
ومنهم: السيد يوسف بن علي الحسني الشهيد.
ومنهم: القاضي عرفطة بن المبارك.
ولم تكن دعوة الإمام المنصور بالله -عليه السلام- مقتصرة على اليمن فحسب، بل بلغت دعوته الأصقاع، وبلغ صيت دولته في كل بلد وذاع، ولم تكن مقصورة على الوطن العربي أو الجزيرة العربية بل أجابتها غيرهم من دول العجم.
فلما بلغت مولك العالم إذ ذاك دعوته سارعوا في إجابتها، وإجراء الأوامر الإمامية المنصورية بها، واستقبلوا رسل الإمام وعمّاله وأكرموهم.
فمن المناطق التي وصلت إليها دعوته -عليه السلام-:
أولاً: مكة المشرفة، وكان أميرها الأمير الفاضل أبو عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبدالكريم بن عيسى بن الحسن بن سليمان بن علي بن محمد بن موسى بن عبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عليهم السلام-.
ثانياً: الجيل والديلم، وكان داعي الإمام -عليه السلام- إلى الجيل والديلم الفقيه العلامة محمد بن أسعد المرادي المذحجي.
ثالثاً: خوارزم، وكان ملكها علاء الدين شاه شاه [أي ملك الملوك] فكتب له دعوة يدعوه فيها إلى طاعة الله وإلى البيعة، واتصلت به على يد العالم الكبير شيخ الطوائف مجدالدين يحيى بن إسماعيل بن علي بن أحمد الجويني الحسيني رحمه الله تعالى.
رابعاً: دمشق (حلب)، وملكها غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وردت كتبه إلى الإمام -عليه السلام- سنة إحدى وستمائة والوارد بها رجل من ولد النفس الزكية.
وعلى الجملة الأمر كما قال الفقيه حميد الشهيد -رحمة الله عليه-: (وكان -عليه السلام- قد رزقه الله تعالى من حسن الصيت وارتفاع الذكر، وحسن الأحدوثة، والثناء الجميل، ما قلّ مثله لمن مضى من أئمة الزيدية -عليهم السلام-) انتهى([12]).
______________
([12])ـ الحدائق الوردية (خ).
كرامات الإمام(ع)
وقد أكرم الله وليّه وابن نبيه بكرامات كثيرة تبيّن عظيم منزلته عند الله تعالى، حكاه المؤلفون لسيرته -عليه السلام- المعاصرون له، أهل الثقة والعدالة والتثبت في الرواية والدراية، وظهرت كراماته -عليه السلام- للخاص والعام، ولزمت الحجة جميع الأنام مصداقاً لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، وسنذكر بعضاً منها؛ فمن كراماته -عليه السلام- ما يلي:
1-قصة الطيور:
وهي أن الإمام -عليه السلام- لما دخل صنعاء المرة الثاني رؤي فوق الإمام -عليه السلام- وعسكره طيوراً صافة من الثمانية إلى التسعة إلى العشرة بيضاء مخالفة لما عهد من الطيور. روى القصة بهاء الدين أحمد بن الحسن الرصاص([13]).
2-قصة النشاب:
وذلك أنه -عليه السلام- لما دخل صنعاء فتح باب غمدان بشقصة من خشب وكان لا يفتح بمفاتيحه إلا بعد معالجة شديدة([14]).
3-قصة الأكسح:
وهي أن الإمام (ع) لما دخل صنعاء المرة الثانية أُتي إليه برجل يمشي على أرباعه، فمسح عليه الإمام فعافاه الله تعالى. قال الفقيه حميد الشهيد في الحدائق: (وقد شاهده خلق جم لا يحصون من أهل المدينة على حالته الأولى والثانية).
4-قصة النور:
وهي أن الإمام دخل شبام كوكبان آخر يوم من جماد الآخرة سنة (594هـ) فوقع على الدار نور عظيم ساطع بعد صلاة العشاء الآخرة واستطار في الأرض، وكان في المسجد الجامع شيخ كبير يتعثر في طريقه إذا خرج بعد صلاة العشاء لضعف بصره، فخرج وشاهد النور وقال لجماعة معه: إنني أفرق الليلة بين الحصيمة البيضاء والسوداء، وظن الناس أن ذلك ضوء القمر([15]).
__________________
([13])ـ رواها الأمير الحسين في الينابيع ص(268)، الحدائق (خ)، وأنوار اليقين وغيرها.
([14])ـ الأمير الحسين في الينابيع، أنوار اليقين، الحدائق وغيرها.
([15])ـ الحدائق الوردية (خ).
5-قصة فتح ذمار:
وهي أن أهل ذمار رووا أن الإمام لما فتح ذمار شاهدوا عسكراً من خيل ورجال سدت عليهم الآفاق، وريحاً عظيمة، كفت وجوههم وأبصارهم حتى منعتهم التصرف في القتال، وأنهم يريدون الرمي بالنشاب فيتساقط من أيديهم، وربما يتكسر في الهواء([16]).
6-قصة الصبي الذي عمي:
وهي ما روي أن الإمام كتب كتاباً لصبي قد ذهب بصره فلما تعلق الكتاب فيه، أبصر في الحال وعاد إلى عمله([17]).
7-قصة الخيل:
هي أن الإمام لما دخل صنعاء وأحاطت به جنود الغز وهو في المسجد فلما تفرق الجنود مضى إلى دار أحد الشيعة فأتى حصانه وبغلته وعليهما العدة والسلاح بدون سائق ولا قائد إلى الدار التي فيها الإمام -عليه السلام-([18]).
8-قصة السيل:
وهي أن وردسار أخرب داراً للإمام -عليه السلام- في حوث ثم عاد إلى صنعاء فما تم الأسبوع حتى أنزل الله تعالى سيلاً لم يُعهد مثله في ذلك العصر، وكان وردسار قد بنى قصراً شامخاً وتفنن في عمارته فأخذه السيل وأخذ كثيراً من أمواله ونفائسه جزاءً وفاقاً([19]).
9-قصة الجراد:
وهي أن البلدان التي كان أهلها يتعدون على الإمام يسلط الله عليهم الجراد يأكل مزارعهم وأموالهم، والمسلّمة للإمام فيها من البركة والخير ما ليس في غيرها([20]).
فهذه بعض كراماته وفضائله التي شاهدها معاصروه وازداد بها محبوه حباً، وكانت سبباً في توبة البعض الآخر ورجوعهم.
والتحدث عن فضائله لا يسعها مقام،
وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها .... ويجهد أن يأتي لها بضريب
__________________
([16])ـ الحدائق الوردية (خ).
([17])ـ أنوار اليقين (خ)، الحدائق (خ).
([18])ـ أنوار اليقين (خ)، الحدائق (خ).
([19])ـ السيرة المنصورية.
([20])ـ السيرة المنصورية.
وفاة الإمام(ع)
ولم يزل الإمام –عليه السلام- خافضاً بحسامه وجوه المعتدين، رافعاً ببيانه فرائض رب العالمين، حتى قبضه الله عز وجل إليه في شهر محرم الحرام يوم السبت الثاني عشر سنة (614هـ)، وعمره اثنان وخمسون سنة وثمانية أشهر واثنتان وعشرون ليلة، وقُبر في كوكبان، ثم نقل إلى بكر، ثم نقل إلى ظفار، ومشهده بها مشهور مزور. وكانت مدة إمامته –عليه السلام- تسعة عشر عاماً وتسعة أشهر وعشرون يوماً.
أولاده(ع)
وأولاده –عليه السلام-:
محمد، وأمه دنيا بنت قاسم، وكانت عند الإمام بمنزلة وتوفيت سنة (600هـ).
وأحمد وعلي، وأمهما فاطمة بنت يحيى بن محمد الأشل من ولد الهادي إلى الحق –عليه السلام-، وعلي وضعت به أمه سنة (600هـ) في شهر رجب يوم الثلاثاء لإثنتي عشرة ليلة من رجب.
وجعفر، أمه نعم بنت سليمان بن مفرح الضربوه.
وإدريس، أمه منعة بنت السلطان الفضل بن علي بن حاتم ودرج صغيراً.
وحمزة، درج صغيراً، وإبراهيم، وسليمان، والحسن، وموسى، ويحيى، والقاسم، وفضل درج صغيراً، وجعفر وعيسى لا عقب لهما، وداود، وحسين درج صغيراً.
وله –عليه السلام- إلى الكثير من أبنائه قصائد شعرية يحثهم فيها على طلب العلم وعلى الجاهد في سبيل الله والقيام بأمره، وهي مذكورة في ديوانه –عليه السلام- وقد أورد شطراً منها الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في كتابه عيون المختار من فنون الأشعار والآثار.
وحكى الفقيه حميد في الحدائق قال: (أخبرنا السلطان الفاضل الحسن بن إسماعيل، قال: سمعت وأنا في داري في ظفار كلاماً في أول الليل بعد وفاة المنصور –عليه السلام- قبل أن نعلم بموته وكرره قائله حتى حفطته فسمعته يقول: (أبا محمد أنت القمر الزاهر، وأنت الربيع الماطر، وأنت الأسد الخادر، وأنت البحر الزاخر، وأنت من القمر نوره وضياؤه، ومن الشمس حسنه وبهاؤه، ومن الأسد بأسه ومضاؤه) ثم أتى الخبر بعد ذلك بوفاة الإمام –عليه السلام- في كوكبان).
آثاره المعمارية
وقد خلّف الإمام -عليه السلام- آثاراً معمارية عظيمة قام بها خدمة للإسلام والمسلمين، لم يخلف قصوراً كان يسكنها، بل خلف آثاراً تدل على عظمته وعنايته بأمر الإسلام، ابتنى الحصون الحصينة لتأمين ضعفة المسلمين من النساء والصبيان فيها، والمساجد العظيمة لأفعال الطاعات، والمدارس العلمية لدراسة العلوم الدينية،
إن آثارنا تدل علينا .... فانظروا بعدنا إلى الآثار
ومن أعظم تلك الآثار ما يلي:
1-حصن ظفار:
وقد اختطه الإمام -عليه السلام- وقام بعمارته في شهر شوال سنة (600هـ)، وكان قد اختطه قبل ذلك الإمام الناصر أبو الفتح الديلمي -عليه السلام-.
وأشار على الإمام ببنائه جماعة من أصحابه لأن خطر الغز كان قد عظم لكي يلجأوا إليه عند حركة العدو على البلاد، وكان الإمام قد همَّ بعمارته، وطاف إليها من شوابة، وأتاه في وجه العشي ولم يصعد أعلاه ولم يتأمله حق التأمل وكان قد أضرب عنه، ولما أشاروا عليه ببنائه رأى إعادة النظر فيه، فنهضوا إليه وطلع الإمام أعلاه وطاف أقطاره وأنعم النظر في أمره، فشاهد من الحصانة والمنعة ما رغّبه في عمارته. فأعدّ الآلات وبذل الأموال في عمارته، وكان ابتداء العمل فيه في موضعين:
أحدهما: السور، فقطعت له الصخور الكبار. والثاني: حفر الخندق.
فبقي -عليه السلام- في عمارته ثلاثة شهر وستة عشر يوماً، وسماها (ظفار) فكان اسمه مطابقاً لمسماه، فما أسرى منه سرية ولا جهز عسكراً إلا كان الظفر قرينه والنصر خدينه.
وهذا الحصن فيه من الحصانة وتصميم البناء وإحكام الصنعة، ما يدل على حسن تدبير الإمام -عليه السلام- وسياسته.
2-مسجد ظفار: وهو الجامع الذي فيه قبة وقبر الإمام -عليه السلام-، وقد يطلق عليه اسم (المدرسة المنصورية) بظفار، وقد تخرج منها طائفة كبير من العلماء الجهابذة.
3-مسجد حوث: ويقال له الآن (مسجد الصومعة) ويطلق عليه قديماً اسم (المدرسة المنصورية) بحوث...
4-مسجد الزاهر في الجوف، وفيه قبر أخيه الشهيد إبراهيم بن حمزة -عليهما السلام-.
5-جامع الحلة من أوطان بني صريم.
6-جامع أتافث.
وتتميّز آثاره -عَلَيْه السَّلام- بطابعها المعماري الفريد، ورونقها الجميل الملفت للنظر، ومن مساعيه الحميدة خارج اليمن أنه أمر الأمير قتادة بن إدريس ببناء مشاهد قبور الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- كمشهد الإمام الحسين بن علي الفخي -عَلَيْه السَّلام-.
الآثار العلمية
خلّف الإمام المنصور بالله –عليه السلام- ثروة علمية طائلة وكبيرة، ومكتبة إسلامية عظيمة، أغنت التراث الإسلامي في جميع مجالاته، وعلى كافة المستويات، ورغم ما عاناه الإمام المنصور بالله من الصعوبات في مدة خلافته، ألَّف الكثير الطيب من المؤلفات العلمية التي اعتمدها العلماء في عصره وبعده وإلى يوم الناس هذا، وأصبحت من المراجع التي لا يستغني عنها عالم ولا متعلم، وفيها دلالة واضحة على علم الإمام وتبحره وفطنته وألمعيته، وقدرته على الاستنباط والاجتهاد، وقوته على الاستدلال بالأدلة الواضحة الجلية.
ولهذا لما وصلت مؤلفاته إلى الجيل والديلم واطلع عليها علماء وفقهاء الزيدية في تلك النواحي سارعوا إلى بيعته (وتداكوا عليها تداك الإبل العطاش على الحياض) وقالوا: هو أعلم من الناصر.
وهاهي بحمد الله تخرج مؤلفاته إلى حيز الوجود ليعمل الناظر فكره ولبّه فيها وفي ما احتملته من العلوم العقلية والنقلية، في الأصول والفروع. وسنذكر مؤلفاته –عليه السلام- على حسب ما تتعلق به من الفنون.
وأول الكتب وأحقها بالتقديم هو (كتاب الشافي) وهو مشتمل على علوم وفنون كثيرة في أصول الدين والفقه والحديث والتاريخ والسير وغيرها، وهو أربعة مجلدات، طُبع بتحقيق وعناية وإشراف مولانا الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى.
أصول الدين:
1-أرجوزة الرسالة الناصحة للإخوان. (شعر)
2-شرح الرسالة الناصحة للإخوان. [الذي بين يديك]
3-الشفافة رادعة الطوافة. (جواب على الأشعري المصري)
4-العقيدة النبوية في الأصول الدينية.
5-زبد الأدلة في معرفة الله.
أصول الفقه:
صفوة الإختيار في أصول الفقه.
الفقه:
1-المهذب في فتاوى الإمام المنصور بالله (ع).
2-الدر المنثور في فقه المنصور.
3-الرسالة المرتضاة في العهد إلى القضاة.
4-الأجوبة المرضية على المسائل الفقهية.
5-منسك الحج.
6-مصباح المشكاة في تثبيت الولاة.
7-الرسالة المشيرة في ترك الإعتراض على السيرة.
الرد على الفرق:
1-العقد الثمين في أحكام الأئمة الهادين. (في الرد على الإمامية).
2-الكاشفة للإشكال في الفرق بين التشيع والاعتزال.
3-الرسالة الإمامية في الرد على المسائل التهامية.
4-المجموع من آيات القرآن الشريف المبطل لمذهب أهل التطريف.
5-الرد على المطرفية.
أحكام خاصة:
1-الرسالة الهادية بالأدلة البادية في أحكام أهل الردة.
2-الدرة اليتيمة في أحكام السبي والغنيمة.
3-الرسالة العالمة بالأدلة الحاكمة.
في الحديث والفضائل:
1-الرسالة النافعة بالأدلة القاطعة في فضائل أهل البيت (ع).
2-حديقة الحكمة النبوية في شرح الأربعين السيلقية.
في التفسير:
1-تفسير الزهراوين (البقرة وآل عمران) شرع فيه ولم يكمله.
وله الكثير من الأجوبة على المسائل التي وردت عليه حتى أن مؤلفاته تنيف على السبعين ما بين مؤلف وجواب.
وأما مكاتباته: فله الكثير من المكاتبات إلى ملوك عصره وسلاطين وقته، وإلى أهل ولايته وطاعته، وإلى بعض عماله، وإلى بعض البلدان.
وأما قصائده الشعرية: فهي مجموعة في ديوان (مطالع الأنوار ومشارق الشموس والأقمار).
وبحمد الله جميع مؤلفاته تحت الطبع وفي طريقها للخروج إلى النور.
الإمام(ع) والمطرفية
تعد قضية الإمام -عليه السلام- مع المطرفية أهم القضايا التي واجهها الإمام في إبان دعوته وخلافته، ليس لأنه بداية ظهورها أو وجودها فقد كانت قبله بفترة، بل لأنه الإمام الذي صمد وجهاً لوجه معها في جميع مجالات الصمود والمواجهة.
وكثير من الناس لا يعرف حقيقة الخلاف، ولا يجيد البحث عن القضية بإنصاف وطلب للحق، بل كثير من الباحثين أُتوا من قبل الجهل أو قلة الاطلاع أو التعصب المذهبي أو الطائفي أو حب الدنيا،
لهوى النفوس سريرة لا تعلم .... كم حار فيها عالم متكلم
نعرف الحق ثم نعرض عنه .... ونراه ونحن عنه نميل
وقد وضعت في ذلك رسالة اسمها: (القاضب لشبه المنزهين للمطرفية من النواصب) ضمّنتها فصولاً في البحث عن المطرفية:
الأول: في نشأتهم.
الثاني: في عقائدهم وأقوالهم.
الثالث: في الأئمة المعاصرين للمطرفية وموقفهم منهم.
الرابع: في الأئمة المتأخرين وموقفهم من المطرفية.
الخامس: في موقف علماء أهل البيت من المطرفية.
السادس: في موقف علماء الشيعة من المطرفية.
السابع: في موقف الإمام المنصور بالله (ع) مع المطرفية.
ونتكلم هنا باختصار عما يأتي:
أولاً: نشأتهم
ظهرت المطرفية في زمن الإمام القاسم بن علي العياني (ع) ظهوراً أولياً في بعض المسائل التي رد عليهم فيها، ثم تطور الخلاف إلى منتصف القرن الرابع الهجري حيث ظهر الرجل الذي انتسبت إليه المطرفية وهو مطرف بن شهاب، الذي أحدث أقوالاً وبدعاً وعقائد ضالة مخالفة للقرآن والسنة، أخذها عن طريق الملحدة والباطنية.
ثانياً: بعض عقائدهم وأقوالهم
وقد اشتهرت عن المطرفية أقوال ضالة كانت سبب كفرهم وضلالهم فمنها على وجه التنبيه والإشارة لا على وجه التعميم:
1-قولهم بأن الله عز وجل لم يخلق سوى الأربعة الأصول وهي الماء والنار والهواء والتراب، ولا تأثير له أصلاً في غيرها، وبقية الأجسام والمخلوقات إنما وجدت بالإحالة والإستحالة.
2-إن الله لم يخلق الآفات والمضار والأمراض ولا أرادها.
3-قولهم إن النبوة فعل النبي وهي جزاء على الأعمال وليست باختيار من الله.
4-قولهم إن القرآن ليس كلام الله وإنما هو صفة لقلب الملك الأعلى حتى قال مطرف بن شهاب: (ما إلينا نزل، ولا بنا اتصل، ولكنه تُلي شيء وبطل).
5-قولهم إن الله لا يميت أحداً حتى يبلغ مائة وعشرين عاماً، وقبلها ليس الموت فعل الله بل بسبب تغير التغذية والأمزجة.
6-نفيهم لحشر البهائم والسباع يوم القيامة.
7-قولهم لا نعمة لله على كافر ولا فاجر.
8-نفيهم للرزق عن الله للعاصي.
9-وقولهم إن الله سوى بين الخلق في ستة أشياء وهي: الخلق والرزق والتكليف والحياة والموت والعطاء.
10-إنكارهم للفضل ابتداء إلا بالعمل، وبغضهم لأهل البيت -عليهم السلام-.
فهذه بعض أقوالهم وعقائدهم، وهي مصرحة بمخالفة القرآن الكريم. وأقوالهم هذه المحكية عنهم حقيقة وليست إلزاماً فقد حكاها عنهم أئمة أهل البيت -عليهم السلام- وعلماؤهم المعاصرون للمطرفية.
تصدي الأئمة المعاصرين للمطرفية لشبههم
وقد تصدى لرد شبه المطرفية وإبطال أقوالهم والتحذير منهم أئمة أهل البيت المعاصرون لهم فمنهم:
1-الإمام المنصور بالله القاسم بن علي العياني -عليه السلام- ردّ على كثير من أقوالهم في كتاب (التنبيه والدلائل).
..
2-ولده الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي العياني -عليهم السلام، وقد كفّرهم ورد عليهم في كثير من مؤلفاته.
3-الإمام الناصر أبو الفتح بن الحسين الديلمي -عليه السلام- رد عليهم وله رسالة سماها (المبهجة في الرد على الفرقة الضالة المتلجلجة).
4-الإمام النفس الزكية الحسن بن عبدالرحمن -عليه السلام-.
5-الأمير المحتسب حمزة بن أبي هاشم الحسن بن عبدالرحمن -عليهم السلام-.
6-الأمير علي بن القاسم بن علي العياني.
7-الأمير جعفر بن القاسم بن علي العياني.
8-الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان -عليه السلام- كفّرهم وردّ عليهم في كثير من المؤلفات، وحكم بخروجهم عن الإسلام، وحرّم مناكحتهم وذبائحهم، ولا تقبل شهادتهم، ولا يجوز دفع الزكاة إليهم، ولا دفنهم في مقابر المسلمين، ولا الصلاة على موتاهم، ويحكم في بلدانهم بحكم دار أهل الحرب.
ومن مؤلفاته:
أ.الهاشمة لأنف الضلال عن مذاهب المطرفية الجهال.
ب.العمدة في كفر المطرفية المرتدة.
ج.الواضحة في ارتداد المطرفية الزنادقة.
د.الرسالة العامة.
9- الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عليه السلام- وهو أشهر الأئمة، وعلى يديه كان هلاكهم.
10- الإمام الداعي إلى الله يحيى بن المحسن بن محفوظ -عليه السلام-، له أرجوزة في ذكر أقوالهم، وذكر أئمة أهل البيت الذين كفّروهم، وحكم المطرفية عنده، فقد حكم بكفرهم وجواز قتلهم عند قوتهم.
فهؤلاء بعض الأئمة الذين عثرنا على أقوالهم، أو على مصادر موثوقة تدل على ما حكيناه عنهم، ومن أراد الزيادة فليرجع إلى (القاضب لشبه المنزهين للمطرفية من النواصب).
موقف الأئمة المتأخرين عن المطرفية
وقد أقرّ الإمامَ المنصور بالله -عليه السلام- الأئمةُ المتأخرون فمنهم من صرّح وتعرض لذكرهم وتكفيرهم، ومنهم من لم ينقل عنه شيء في أمرهم، لانقراضهم وزوالهم؛ فممن حكم بكفرهم:
1-الإمام الهادي إلى الحق عزالدين بن الحسن -عليه السلام- في المعراج.
2-الإمام المتوكل على الله المحسن بن أحمد، وقد حكى إجماع العدلية على تكفير المطرفية ومن شابههم من ضلال الأمة.
ولا يُلْتَفَتُ إلى ما يثيره بعض المفترين من نسبة الخلاف إلى بعض الأئمة فهي دعوى عاطلة عن البرهان وقد بيّنتُها في (القاضب).
علماء أهل البيت(ع) مع المطرفية
وقد تصدى للمطرفية أيضاً علماء أهل البيت المعاصرين لهم وقاموا وقعدوا، وشمروا عن ساعد الجد، وحذروا منهم بكل طرق التحذير باللسان والقلم شعراً ونثراً، وجدالاً وخطابة وغيرها.
ولا سبيل إلى حصرهم جميعاً لكنا نذكر من تيسر منهم؛ فنقول: من العلماء الذين تصدوا للمطرفية من يلي:
1-الشريف العالم الكبير الحافظ لعلوم آل محمد عبدالله بن المختار بن الناصر بن الهادي -عليهم السلام-.
2-الشريف العالم الفاضل زيد بن علي بن الحسين الحسني.
3-الشريف العلامة عمادالدين الحسن بن محمد المهول.
4-العلامة الكبير محمد بن يوسف الأشل بن القاسم بن الإمام يوسف الداعي.
5-أمير مكة العلامة تاج المعالي شكر بن أبي الفتوح.
6-الأمير الكبير العلامة عُلَيُّ بن عيسى بن حمزة بن وهاس أمير مكة.
7-الأمير الكبير شيخ آل الرسول شمس الدين يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى(ع).
8-صنوه بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى -عليهم السلام-.
9-الأمير الكبير الحافظ الحسين بن بدرالدين محمد بن أحمد(ع).
10-السيد العلامة حميدان بن يحيى بن حميدان القاسمي.
11-السيد العلامة صلاح بن الإمام إبراهيم بن تاج الدين.
وغيرهم كثير لا يسع المقام حصرهم.
علماء الشيعة رضي الله عنهم مع المطرفية
وتصدى لهم أيضاً علماء الشيعة، وناصروا أهل البيت دفاعاً عن الحق والدين؛ فمنهم:
1-العلامة المجاهد علي بن شهر.
2-القاضي العلامة تبع بن المسلم.
3-القاضي العلامة الحسين بن عبيدالله بن شبيرة.
4-القاضي العلامة الحسين بن عمار.
5-وكذلك العلامة سعيد بن بريَّة وله مؤلف موجود لدينا.
6-وكذلك إسماعيل بن علا وله أرجوزة مشهورة.
7-وكذلك يوسف بن أبي العشيرة.
8-وكذلك العلامة عبدالله بن أبي القاسم البشاري.
9-وكذلك العلامة زيد بن علي بن الحسن الخراساني البروقني.
10-القاضي العلامة جعفر بن أحمد بن عبدالسلام بن أبي يحيى رضي الله عنه، وله مقامات ومؤلفات عظيمة.
11-القاضي العلامة إسحاق بن عبدالباعث.
12-العلامة محمد بن حميد الزيدي.
13-القاضي العلامة عبدالله بن زيد العنسي.
14-الفقيه العلامة الشهيد حميد بن أحمد المحلي.
وغيرهم من العلماء المعاصرين للأئمة، ولم نذكر المؤلفات تخفيفاً، وإلا فقد ذكرناها في (القاضب)، والغرض هنا التنبيه.
أهمية الكتاب
شرح الرسالة الناصحة يَبحث في فن علم أصول الدين الذي يتناول معرفة الله عز وجلّ التي هي أوجب المعارف وأجل العلوم، فهو يبحث في التوحيد والعدل وصدق الوعد والوعيد وإثبات النبوة وتوابعها، وإثبات الإمامة وأدلتها وشروطها، ويبحث الكتاب أيضاً في فضل أهل البيت -عليهم السلام- والرد على من جحد أو أنكر فضلهم من الروافض والنواصب.
وهي عبارة عن شرح أرجوزتين:
الأولى: خماسية، وهي في أصول الدين، وشرحها الإمام -عليه السلام- بالجزء الأول.
الثانية: رباعية في فضل أهل البيت (ع) وشرحها الإمام -عليه السلام- بالجزء الثاني.
أرجوزة أصول الدين
فأما الأولى فهي عبارة عن (40) بيتاً مخمسة، في أبواب أصول الدين.
وقد حظيت بعناية فقد كانت مَدْرَساً للزيدية مع مشروحاتها، فقد شرحها الإمام نفسه، وشرحها القاضي أحمد بن عبدالله الجنداري (سمط الجمان شرح الرسالة الناصحة للإخوان)، وقد بيّن فيها الإمام (ع) أصول الزيدية وأسسها، مبيّناً ذلك بالأدلة.
أرجوزة التفضيل
وهذه الأرجوزة عبارة عن (105) أبيات مربعة أي أنها (210) أبيات،ضمّنها الإمام -عليه السلام- من إثبات التفضيل وفضل أهل البيت(ع) والرد على خصومهم ومنكري فضلهم، وذكر شيء من وقائعهم، ما يبهر الألباب، فإنه -عليه السلام- يعد أشعر الفاطميين مع ما منحه الله عز وجل من القدرة على سبك الألفاظ، والبلاغة والفصاحة التي لا تساويها فصاحة من فصاحات الشعراء والبلغاء.
وقد ذكرنا ذلك فيما مضى، فهذه الأرجوزة تعد من فرائد قصائده وأراجيزه، ونوابغ أقواله التي شحنها علماً وأدباً وفصاحة وقوة على الاحتجاج والاستدلال، وقدرة على المناظرة والجدال، وجعل ذلك مضمّناً في أبيات شعرية حسنة التعبير والسبك.
إثبات نسبة الكتاب إلى الإمام(ع)
نسبة الأرجوزة وشرحها إلى الإمام -عليه السلام-، كنسبة نور الشمس إلى الشمس، لا يتطرّق إليها الشك.
وقد عدّها في مؤلفاته مَنْ ألَّف في سيرته أو ترجم له من المعاصرين له -عليه السلام-، فقد ذكرها في تعداد مؤلفاته الإمام الحسن بن بدرالدين في أنوار اليقين، ونقل منها شذوراً في مواضع من كتابه.
وذكرها الفقيه حميد الشهيد في الحدائق الوردية ونقل منها.
وقد أكثر النقل منها والاعتماد عليها العلماء العاملون، منهم السيد حميدان بن يحيى بن حميدان في مجموعِه وهو من العلماء المعاصرين للإمام الحسن بن بدرالدين، والإمام الشهيد أحمد بن الحسين(ع).
ونحن نرويها وجميع مؤلفات الإمام –عليه السلام- بطريق الإجازة عن عدّة من العلماء بطرقهم نذكر أعلاها وأرفعها: عن الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى، عن أبيه السيد العلامة الزاهد محمد بن منصور، عن الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي، عن الإمام محمد بن عبدالله الوزير، عن الحسين بن يوسف زبارة، عن أبيه يوسف بن الحسين زبارة عن أبيه الحسين بن أحمد زبارة، عن عامر بن عبدالله بن عامر الشهيد، عن محمد بن القاسم بن محمد بن علي، عن الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد، عن أمير الدين بن عبدالله بن نهشل، عن أحمد بن عبدالله الوزير، عن الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين، عن الإمام محمد بن علي السراجي، عن الإمام عزالدين بن الحسن، عن الإمام المطهر بن محمد بن سليمان الحمزي، عن الإمام أحمد بن يحيى المرتضى، عن أخيه الهادي بن يحيى، عن الفقيه قاسم بن أحمد المحلي، عن أبيه أحمد، عن أبيه الشهيد حميد بن أحمد المحلي، عن الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة –عليه السلام-.
النسخ المعتمدة
وقد اعتمدتُ في التحقيق على ثلاث نسخ:
الأولى: من مكتبة السيد العلامة يحيى بن عبدالله راوية -رحمه الله تعالى- وهي بخط جيد، بخط أحمد بن حسين سهيل، وهي الأصل، قال في آخرها: كان الفراغ من زبر هذا الكتاب وقت أذان العصر يوم الأربعاء 9/صفر/ 1355هـ.
الثانية: من مكتبة السيد العلامة عبدالرحمن بن حسين شايم، وهي بخط نسخي جيد، رمزت لها بـ(م).
الثالثة: من مكتبة القاضي العلامة يحيى محمد مرغم، وهي بخط جيد، ورمزت لها بـ(ن)، والناسخ هو والده القاضي العلامة محمد مرغم رحمه الله تعالى، قال في آخرها: كان الفراغ من نقل هذه الرسالة الناصحة الناطقة بالبراهين الواضحة، ضحى يوم الاثنين الموافق خامس عشر شهر ذي القعدة الحرام سنة تسعة وستين وثلاثمائة وألف بقلم مالكها محمد يحيى مرغم، وكتب في آخرها أبياتاً شعرية كالتقريض وهي هذه:
هذي رسالة نصح للأخلاء .... قد صاغ عسجدها خيرُ الأدلاء
وخير من قام للإسلام ينصره .... إذْ طهَّر الدين من رجس وإقذاء
مجدد حُلَلِ الإسلام إذ خَلقت .... حتى غدا مرحاً من دون إغماء
مولى البرية عبدالله عمدتنا الـ .... ـمنصور ركن الهدى من شر أعداء
فالزم دراستها في كل آونة .... تجد منار الهدى من غير إطفاء
فإنها روضة غنَّاء باكرها .... صوب الحياء بمنهل من الماء
فيها الفواكه والأشجار مونقة .... فقطفها الحلو أغنى أي إغناء
دلالة من كتاب الله واضحة .... وسنّة سلمت من كل أهواء
فاقطف جناها وجل في روضها فهماً .... تجلو عمى اللب من جهل وأدواء
واشرب فراتاً لذيذاً من مناهلها .... تروي الصدى من حرارات وأضماء
فإن قارئها لا يختشي أبداً .... في دينه الهلك في أولى وأخراءِ
صلى الإله على من صاغ عسجدها .... في قالب واضح من غير إخفاء
ثم الصلاة على طه وعترته .... ما انهلّ وَدْق من الأنواء بالماء
ملاحظة
ألحقنا بشرح الرسالة أسئلةً وردت على الإمام (ع) على بعض فقرات الشرح، فأجاب عنها الإمام -عليه السلام- وموردُها هو الشريف العلامة نورالدين الحسن بن يحيى بن عبدالله بن سليمان، من ولد الهادي إلى الحق -عليه السلام-. وهي ثلاث عشرة مسألة، ألحقنا كل مسألة في موضعها تتميماً للفائدة.
ونكون بهذا قد قضينا غرضنا من المقدمة، وفي الختام نسأل الله عز وجل أن يجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفقنا لطاعته، ويثبتنا على الصراط المستقيم، ويجعلنا من أوليائه المتقين، ويرزقنا حب محمد وآله الطاهرين، إنه على كل شيء قدير. وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.
إبراهيم يحيى عبدالله الدرسي وفقه الله
الخميس/ 28/ محرم/ 1423هـ. 11/ 4/ 2002م
الجزء الأول من شرح الرسالة الناصحة
بسم الله الرحمن الرحيم
[ديباجة الكتاب]
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى([21]).
الحمد لله الذي قهر سلطانَ الملوك سلطانُه، وعلى شأنَ الجبابرة شأنُه، فكل مالك([22]) سواه مملوك، وكل قاهر ما خلاه مقهور، ليس له شبيه في ملكه، ولا نظير في سلطانه، كل غني([23]) سواه فقير إلى ما صار به غنياً، وكل ملك غيره ينقلب عما قليل لا يملك من الأمر شيئاً، تمت كلمتُه، ونفذ أمرُه، وعظم شأنُه، وارتفع ذكرُه، عم الأحياء بنعمتِه، واختص ما شاء برحمتِه، فالكل من بريته كامن([24]) في ظل إحسانه، وراتع في روض إنعامه وامتنانه، فالشكر واجب على الجميع، والناس بين عاص ومطيع.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً مقرونة بالإخلاص، مؤدية بالخلاص.
______________
([21]) ـ في (م) لايوجد.
([22])ـ ملك (نخ).
([23]) ـ في (م، ن): كل شيء.
([24]) ـ في (م، ن): كانس، الكنس المغيب والاستتار، من كنس الوحش إذا دخل كناسه، وكامن مِنْ كمِنَ كموناً: استخفى واستتر. تمت.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ابتعثه من أعز جرثومة([25])، وأطيب أرومة، وأشرف خؤولة وعمومه، إختصه بالنبوة من بين تلك الأعارب، وأوجب تصديقه وطاعته على أهل المشارق والمغارب، والأباعد من خلقه والأقارب، فصدع -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بالرسالة، وأدى ما حمل من الأمانة([26])، والناس يومئذٍ مكبون([27]) على حجارة منحوتة، وعيدان منضودة، يعبدونها ويعكفون عليها، لا يعرفون ربًّا، ولا يدينون ديناً، ولا يطلبون دليلاً، ولا يهتدون سبيلاً، يأكل قويُّهم ضعيفَهم، ويهضم كثيرُهم قليلَهم، فأنقذهم الله سبحانه به -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من الضلالة، وهداهم بنور علمه من ظلم الجهالة، فجزاه الله عنا وعنهم أفضل ما جزى نبياً عن عترته، ورسولاً عن أمته.
وأشهد أن الإمام بعده بلا فصل، أخوه وابنُ عمه، الفارجُ الكربِ عن وجهه، وأولُ من قال لاإله إلا الله معه علي بن أبي طالب -عليه سلام الله وصلواته-([28]).
وأشهد أن الإمامة بعده في ولديه النجيبين الطاهرين، الزكيين، العلمين، العالمين، العاملين، الشهيدين الحسن والحسين ابني رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، و سيدي شباب أهل الجنَّة، إلا ما جعل الله -سبحانه وتعالى- لابني الخالة([29]).
وأشهد أن أمهما الزكية الأمينة، والجوهرة المكنونة، فاطمة بنت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم، وسلام الله عليها وبركاته- سيدة نساء أهل الجنَّة، إلا ما جعل الله -سبحانه- لمريم ابنة عمران -عَلَيْها السَّلام-.
وأشهد أن الإمامة بعدهما، فيمن طاب وزكا من ذريتهما، وسار بسيرتهما، وهدى بهديهما، وسلك منهاجهما، وحذا بحذوهما.
_____________
([25]) ـ الجرثومة هي: الأصل والأرومة بالضم الأصل، تمت قاموس.
جرثمة الشيء بالضم أصله، تمت قاموس.
([26]) ـ في (ن): الإبانة.
([27]) ـ في (ن): منكبون، أي ثابتون.
([28]) ـ نخ: عليه السلام.
([29]) - ومن هنا تبدأ مسائل الشريف العالم الفاضل نور الدين الحسن بن يحيى بن عبدالله بن سليمان بن محمد بن المطهر بن علي بن الإمام الناصر أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام على الرسالة الناصحة، وهي ثلاث عشرة مسألة من مواضع متفرقة، وهذا بداية الأسئلة والجواب عنها : قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام : الحمد لله الذي جعل الحمد تاج عبادته، وأجرى المقادير على مقتضى حكم إرادته، وسد بتصافي نعمه كل خلل وكل فاقة، وكلف عبيده دون الجهد والطاقة، وصلى الله على نبيه المختار، وآله الأخيار وسلم.
سأل أرشده الله تعالى الشريف الأمير نور الدين ولي أمير المؤمنين عن مسائل تضمنها شرح (الرسالة الناصحة).
أولها : عن ابني الخالة من هما، الذين جعلهما أفضل من سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام-.
الجواب : أنهما عيسى -عليه السلام- ويحيى بن زكريا -عَلَيْهما السَّلام.
وأشهد أن الله -تبارك وتعالى- اصطفاهم لذلك من بين البرية، واختصهم بالكون من تلك المغارس الزكية، فعليهم سلام الله ورضوانه من عترة طاهرة مرضية، ورحم أتباعهم وأشياعهم من جميع البرية، هذا موقع شهادتي، وغاية إرادتي، فمن شهد بما شهدت به كان شريكاً في أجر ذلك وفخره، ومن كاع([30]) عن هذه الشهادة كنت عنه نائباً، ولما أعد الله -سبحانه- لمن شهد بها وارثاً وطالباً، وكان مخصوصاً بعار ترك ذلك ووزره.
[ذكر الدافع له -صلوات الله عليه- إلى إنشاء الأرجوزة]
وبعد ذلك: فقد سألني بعض من يعزّ عندي مسألتة، وتلزم إجابته، أن أعمل أرجوزة وجيزة أضمنها أصولاً في الدين، ورداً على من أنكر فضل عترة محمد خاتم النبيئين -صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين أجمعين-، من الرفضة المعاندين، وإخوانهم الناصبين، فأجبته إلى ذلك رجاء لما يحصل له فيه من المنفعة، ويدخر لي من الأجر والمثوبة، وجعلتها تذكرة للمنتهي، ووسيلة للمبتديء، ومِنَ الله -سبحانه- أستمد المعونة، وأسأل التوفيق والهداية، وشرحت تلك الأرجوزة شرحاً وجيزاً إلا فيما لا بد من ذكره، من دليل يحتاج إلى تفصيل، وشرح طويل، فإن ذلك موضع الإقصاء([31])، إلا أني اختصرت الشواهد على غريب لغتها، والإتيان على جميع أدلتها، وقصدت بذلك تخفيف مؤنتها، وتعظيم معونتها، وهي هذه:
[مقدمة الأرجوزة وشرحها]
[1]
الحمدُ للمُهيمِنِ المنَّانِ .... جَمِّ النوالِ باسطِ الإحسانِ
ذي الطولِ والعزةِ والسُّلطانِ .... لكلِ ذي شِدْقٍ وذي لِسَانِ
مِنْ غَيرِ تقريظٍ ولا سُؤالِ
(الحمد): هو التعظيم لمن أضيف إليه هذا اللفظ، ولا يجوز إلا لمن استحق ذلك، و لا أحق به ممن ابتدأنا بأصول النعم([32])، ومن هو مختص بصفات الكمال وليس ذلك إلا الله -سبحانه-.
ومعنى الحمد: قريب من معنى الشكر، إلا أن بينهما فرقاً من حيث أن الشكر: هو التعظيم مع ذكر النعمة التي شكر عليها.
_________________
([30]) - كَعَّ يَكِعُّ ويَكُعُّ بالضم قليل، كُعُوعاً جبن وضعف فهو كَعٌّ وكاعٌّ وكُعْكُع بالضم، تمت قاموس.
([31]) ـ في (ن): الإتساع.
([32]) ـ وهي: خلق الحي، وخلق حياته، وخلق قدرته، وخلق شهوته، وتمكينه من المشتهيات، وإكمال عقله، تمت.
والحمد: لا يفتقر إلى ذلك، فمن عَظَّمَ غيره ولم يذكر منه نعمة عليه كان حامداً ولم يكن شاكراً.
و(المهيمن): هو الشاهد.
و(المنان): هو المعطي، والعطيَّة: هي المنَّة، و(المن): هو العطاء بغير تنغيص ولا تكدير.
(الطول): هو إتساع القدرة وتمكن البسطة.
(العزة): هي المنَعَة، والتعزز: التمنع، والعزيز: هو الممتنع الجانب.
(والسلطان): هو القدرة ها هنا.
(والجم من كل شيءٍ): هو الكثير، (والنوال): هو العطاء، (والبسط): هو التوسيع.
ومعنى الإحسان والإنعام: واحد.
(الشدق): هو شق الفم، قال بعض الصالحين: (إن من شَقَّ الأشداق، تكفل بالأرزاق)، (واللسان): هو العضو المخصوص المعروف.
(والتقريظ): -بالظاء معجمة من أعلى-: هو المدح والتعظيم بالقول،.
(والسؤال): هو الطلب، وهذه صفة الباري -سبحانه- مع الخلق، فما به مخلوق إلا وقد أحسن إليه بغير مدح ولا طلب، فسبحانه من كريم ما أعظم أياديه، ومتفضل ما أسوأ أدب من يعاديه.
[باب إثبات الصانع]
[2]
مُرَكِّبِ الأرواحِ في الأجسامِ .... مُجرِي الرياحِ مُنْشئِ الغمامِ
كالبُركِ مِنْ سائمةِ الأنعامِ .... مِنْ الحنينِ الجمِّ والارزامِ
فَاعتَبِري يا أُمَّةَ الضَّلالِ
(الأرواح) ها هنا: جمع روح، والروح: هو النفس المتردد في مخارق الحي عند أهل العلم واللغة، ومنبعه من القلب، وليس للإتساع في ذكره ها هنا وجه، وقد قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (صلوات الله عليه)([33]): (وعلق في صدره قلباً، وركب فيه لباً، وجعله وعاء للعقل الكامل، وحصناً للروح الجائل).
_________
([33]) - ذكره الإمام الهادي في كتاب المسترشد ص191 من المجموعة الفاخرة - مطبوع بعنوان: مجموع كتب ورسائل الإمام الهادي عليه السلام-...
[ذكر طرف من كلام الناس في الروح والعقل]
وإذا قد ذكرنا الروح والعقل فلنذكر طرفاً من كلام الناس فيهما: إذْ قد وقع بين الناس في أمرهما إختلاف.
[الإختلاف في الروح]
إعلم: أن من الناس من نفى أن يقع العلم لأحد من المكلفين بماهيَّة الروح، وتعلق بظاهر قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(85)} [الإسراء]، مع قولهم: إن الروح أمر واحد.
وفي الناس من يزعم أن في الإنسان نفوساً وأرواحاً، وأن النفوس نامية، وحسية، وشهوانية، وناطقة، وغضبية، وأرواح وقوى، وجواهر بسيطة لا حجم لها ولا كثافة فيها، وكل واحدة لها عمل عندهم، فالنامية تنمي النبات والحيوان، والحسية بها تدرك المدركات، والشهوانية بها تراد المرادات، وبها يطلب الغذاء والمؤانسة والمحافظة، والناطقة بها تحصل العلوم والمعارف، ولا خلاف بين أهل هذه المقالة أن الإنسان إذا مات وذوي الشجر تلاشت هذه النفوس، فلا إعادة فيها أصلاً إلا الناطقة فقد وقع بينهم الخلاف فيها : فمنهم : من قال بتلاشيها، ومنهم من قال تبقى لا في شبح ويستحيل عليها الفناء، وهذا القول ينسب إلى قوم من الأوائل، وربما قال به قوم من الباطنية([34])، وإن كانوا لا يثبتون على قول يستمر حكايته عنهم، إلا أنهم يقولون: إن الذي فينا بعض من كل، فإذا تخلصت الأرواح من الأجساد لحقت العوالم من هذه بعالمها وبقيت بقاء لا انقطاع له وصارت مَلَكاً وصورة روحانية، والجواهر تحير ولا تهتدي المسالك، فتبقى تحت الفلك في حيرة، وهذا قريب من قول بعض الفلاسفة في النفوس وإن لم يحصلوا ذلك التحصيل، والكل عندنا باطل بما يأتي إن شاء الله -تعالى- من الدليل على إثبات صانع موصوف بصفات الكمال، عدل حكيم، بعث فينا رسولاً، لا يجوز عليه الكذب، أخبرنا بالأمور مفصلة، فوجب علينا القول وترك التَكَمُّه([35]) بغير دليل، فحينئذٍ الكلام في هذه المسألة ينحسم([36]) بالكلام في ذات الباريء وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز في ذاته وأفعاله وأحكام أفعاله، وأن ما يدعون من النفس الكلي والعقل الأول لا أصل له، إذ لا طريق من طرق العلم يوصل إليه.
__________
([34]) - الباطنية: فرقة من الفرق التي تنتحل الإسلام وهم في الحقيقة خارجون عن الدين، لإنكارهم الخالق تعالى وإنكارهم المعاد الجسماني وأصول مذهبهم تعود إلى مذاهب الفلاسفة والمجوس وهم من أعظم الفرق ضرراً ومكيدة لأن مذهبهم لايكاد يعرف، لتسترهم وإحداثهم كل وقت مذهباً، وفشا مذهبهم بعد مائتين من الهجرة أحدثه عبدالله بن ميمون القداح وكان مجوسياً تستر بالتشيع ليبطل الإسلام، وسموا الباطنية لدعواهم أن لكل ظاهر باطناً، ويقال لهم الإسماعيلية والقرامطة والمزدكية والتعليمية والملحدة، والباطنية أشهر ألقابهم، ولهم أقوال وخرافات لايسع المقام إحصاؤها وحصرها. الملل والنحل للإمام المرتضى 103، للشهرستاني 1/142، النبذة المشيرة.
وقد رد عليهم الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- في مشكاة الأنوار الهادمة لمذهب الباطنية الأشرار، وكتاب الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام، وكذلك الفقيه العلامة محمد بن الحسن الديلمي في قواعد عقائد آل محمد، وقد طُبِع منه الجزء الذي في الردّ عليهم.
([35]) ـ التكمه: الدخول في الشيء بغير حجة ولا دليل، تمت.
([36]) ـ ينحسم بمعنى ينقطع.
......
فأما النمو فإنما يقع بزيادة الباريء في الأجسام، وإنما اختص الحيوان والنبات لأنه -سبحانه- أجرى بذلك([37]) وجود الحياة وهي المصححة للشهوة والنفرة، والداعي يشمل الأمرين.
وفي الناس من زعم أن الروح في الإنسان الدم وفي كل حيوان، وجعل الروح غير النفس الناطقة، وهذا يروى عن جالينوس، وعمدته: أن الإنسان يموت بنزف الدم وتفريغه منه.
ومنهم من يزعم أن الروح في قلب الإنسان وهو([38]) حي عالم، وهذا يروى عن النظَّام([39]).
ومنهم من يزعم أن الروح جسم لطيف مؤلف تأليف الإنسان إلا أنا لا نراه، وهذا القول يروى عن قوم من الإمامية وأصحاب الحديث.
ومنهم من يقول: إنها خلقت قبل هذه الأجساد وعرض عليها التوحيد لقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، إلى خرافات ينسبونها إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا طريق إلى تصحيحها، ولا مُلجئ إلى الكلام فيها.
فأما هذه الآية في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}[الأعراف:172] فظاهرها يقضي بتقدم الأجساد على الأرواح؛ لأن الظهور لا يكون إلا في الأجساد، فإذا أخرجت منها فهي قبلها، والأصل في تشعب هذه المقالات إهمال العقول، وإطراح الدليل، ومخالفة الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في أمر هذه الأمة بالرجوع إلى أهل بيت نبيها، الذين شهد لهم بملازمة الكتاب، إلى يوم الحساب، وأخبر أن فيهم العلم والصواب؛ لأن أهل هذه المقالة لايجدون إلى ما يدعون منها دليلاً، ولا يهتدون له سبيلا، ولو كان لهم دليل أو شبه([40]) دليل لتكلمنا عليه، فالحمد لله الذي جعلنا لذلك أهلاً، وموضعاً ومحلاً، وكفى بالمذهب فساداً أن لا يقوم عليه دليل.
_____________
([37]) ـ في (ن، م) زيادة: العادة، فلا تفتقر والحال هذه إلا إلى إرادة الحكيم تعالى والإحساس يكفي فيه وجود الحياة.
([38]) ـ الضمير عائد إلى الروح؛ لأن النظام يقول: إن الروح مستطيع بنفسه، حيٌّ بنفسه، وإنما يعجز لآفة تدخل عليه، والعجز عنده جسم كما ذكر ذلك عنه عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفِرَق ص136
([39]) - النظام: هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام البصري المعتزلي يقال: هو مولى، قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى في شرح الملل والنحل، قيل: إنه كان لايكتب ولايقرأ وقد حفظ التوراة والإنجيل والزبور مع تفسيرها، قال الجاحظ: مارأيت أحداً أعلم بالفقه والكلام من النظام، وهو من الطبقة السادسة من المعتزلة، انتهى.
وسمي نظاماً لأنه كان ينظم الكلام، وقيل كان خرازاً ينظم الخرز توفي سنة بضع وعشرين ومائتين.
([40]) ـ (ن، م): شبهة.....
[أقوال العلماء في الروح]
فأما قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، فللعلماء فيه أقوال كلها توافق أدلة العقول.
منها: أنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لما ادعى النبؤة وأنكرت قريش ذلك فزعوا إلى اليهود لأنهم أهل الكتاب، فقالت لهم اليهود([41]): إسألوه عن ثلاث مسائل: عن أصحاب الكهف([42])، وذي القرنين([43])، وعن الروح ما هو؟
_____________
([41]) ـ هذا الخبر: رواه ابن إسحاق في المغازي مطولاً، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن هشام في السيرة مطولاً ج1/ 329، والواحدي في أسباب النزول (590) والزمخشري في الكشاف ج2/ 645 في تفسر سورة الإسراء.
والسؤال عن الروح بمفرده صح من حديث ابن مسعود عند البخاري (125) و(4721) و(7297)، ومسلم (2794)، والترمذي في التفسير (5/304) رقم (3141) وقال: حسن صحيح غريب، وأحمد (1/444) و(445)، وابن حبان (98)، والحاكم في المستدرك (2/531) وصححه ووافقه الذهبي، والنسائي في السنن الكبرى (11314) عن ابن عباس، ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس (6/62) رقم (8002).
([42]) ـ أهل الكهف، هم: الفئة المؤمنة التي قص الله تعالى قصتهم في سورة الكهف، وكانوا في زمن ملك طاغية يقال له دقيانوس يعبد الأصنام، ويذبح لها، ويقتل من دان بغير ذلك، وكان ينزل قرب الروم فلا يترك أحداً ممن يخالف ملته إلا قتله، وكانت قرية أهل الكهف من قرى الروم تسمى أقسوس، وكان دقيانوس منها، وكانوا أولاد جماعة من أشراف قومه خرجوا وناموا، وكانوا قبل عيسى -عَلَيْه السَّلام-وانتبهوا بعده في زمن ملك صالح يقال له بيدوسيس وكان مؤمناً، ولبثوا في الكهف ثلاثمائة سنة وتسع سنين كما حكى الله في القرآن، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم، وكانت أسماؤهم: يمليخا، ومكشليتيا، ومشلينيا، وهؤلاء أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوش، ودبرنوش، وشادنوش، وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره والسابع الراعي الذي وافقهم، وكان إسم الكلب قطمير، ويقال: إن الكهف قريب من الأردن. انظر: سلوة الأولياء للإمام أحمد بن يحيى المرتضى - خ -، الكشاف للزمخشري تفسير سورة الكهف.
([43]) ـ ذي القرنين: عن علي -عَلَيْه السَّلام-: (إن ذا القرنين لم يكن نبياً، ولكن عبداً صالحاً أحب الله وأحبه الله، وناصر الله فنصره الله، فضربوه على قرنه، فمكث ما شاء الله، ثم دعاهم إلى الهدى فضربوه على قرنه الآخر، وإنما سمي ذو القرنين؛ لأنه المضروب على جانب رأسه)، رواه في البرهان في تفسير القرآن للإمام أبي الفتح الديلمي.
قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى عليه السلام في كتابه (سلوة الأولياء في معرفة سيرة الأنبياء) : واختلف في ذي القرنين وأهل الكهف هل كانوا قبل عيسى أم بعده ؟ والصحيح أن ذا القرنين كان قبله قيل : رأى في النوم أنه لازم بقرني الشمس أي جانبيها فسمي ذا القرنين وقيل : لانتمائه إلى قرني الأرض أي طرفيها، وقيل : كان له كقرني الظبية من ذهب، وقيل : من نحاس، قال نشوان : هو من حمير، قال ابن إسحاق : هو رجل من أهل مصر واسمه مَرّزبا بن مَرْزَبه اليوناني من أولاد يونان بن يافث بن نوح، وقيل : بل هو الإسكندروس من الروم ابن العجوز لا ولد لها غيره، وقيل : إنه ملك بدليل أن عمر بن الخطاب حين سمع رجلاً يدعو ولده يا ذا القرنين فقال : ما كفاكم أن تسموا أولادكم بأسماء أولاد الأنبياء حتى تعديتم إلى أسماء الملائكة، والصحيح الأول.
وحكى في كتاب التيجان أنه كان كافراً وأسلم على يدي الخضر عليه السلام وقيل كان نبياً. ومن حكايات الإسكندر أنه مر بقوم صالحين قبورهم على أبوابهم ولا أبواب على بيوتهم، ولا لهم أمير ولا قاضي ولا فيهم غني ولا فقير ولا يتفاضلون ولا يقحطون فتعجب وسألهم عن ذلك ؛ فقالوا : أما القبور فقربناها لئلا ننسى الموت، وأما ترك الأبواب فلأنه لا خائن فينا، وأما الأمير والقاضي فلأن كلامنا يوفي ما عليه ولا يتعدى على غيره، وأما الغنى والفقر فلأنا لا نرى التكاثر بل نحب المساواة، وأما عدم المفاضلة فلأنا متواصلون متراحمون لا يرى أحد لنفسه فضلاً على غيره، وأما عدم القحط فلأنا لا نغفل عن الاستغفار. قال : فهل كان آباؤكم كذلك ؟ قالوا : نعم، قال: لو كنت مقيماً لأقمت معكم. وأما أهل الكهف فالأصح أنهم خرجوا قبل عيسى وانتبهوا بعده. انتهى.
فإن أجاب عن الجميع فهو كاذب، وإن كف([44]) عن الجميع فهو كاذب، وإن أجاب عن أصحاب الكهف وذي القرنين وأجمل الجواب عن الروح فهو نبي صادق، فأتوا إليه فسألوه، فأمره الله بما حكى في كتابه، وأمسك عن الروح، فلزمت الحجة لله -تعالى- ولرسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الفريقين من قريش واليهود، ولا يمتنع في الحكمة أن يصرفه عن الجواب فيما يعلم الله لحصول مثل هذا الغرض العظيم، كما منع زكريا عن الكلام آية له وقد كان مقدوراً له قبل ذلك.
ومنها: أنهم لما سمعوه يقرأ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ:38]، قالوا: ما هذا الروح الذي يقوم صفاً والملائكة صفاً؟!
فأخبرهم أنه خلق من خلق الله عظيم، فاستعظموا ذلك، فأمره الله -تعالى- أن يجيبهم عن إستعظامهم بقوله : هو {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، أي من خلق ربِّي، لأن الأمر قد يعبّر به عن الخلق يقول: هذا أمر عظيم، كما يقول: هذا خلق عظيم، يقول: ربِّي قادر لذاته، فلا يمتنع عليه ما يشاء فلا تستعظموه، فليس على قدرته عظيم.
ومنها: أنهم لما سمعوا قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)} [الشعراء]، قالوا: من هذا الروح؟! وما صفته؟!
فأمره الله أن يجيبهم بقوله: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الإسراء:85].
ومنها: أنه لما سمَّى الله القرآن روحاً بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}[الشورى:52]، سألوه عنه، وأمره الله -تعالى- بإضافته إليه، وأنه لم يأت به من تلقاء نفسه.
___________
([44]) ـ في (ن، م): وإن كف عن الجواب على الجميع.
وقد رأيت لبعض آبائنا صلوات الله عليهم أقوالاً تدل على تبقية الجواب فيه على الإجمال في هذه الآية إتباعاً للظاهر، فإذا سئلوا عن تفصيله أجابوا بما قلناه أولاً كما حكيناه عن الهادي -عَلَيْه السَّلام-.
ولا فرق عند أهل الشريعة بين الروح والنفوس، وطريقهم إلى العلم بذلك السمع من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ}[الأنعام:93]، أجمعوا أن المراد بذلك أرواحهم، وإن كان لفظ النفس يخرج على معان([45]) كثيرة لا يحتمل هذا المختصر الكلام فيها.
____________
([45]) - النفس الروح: يقال خرجت نفسه، والنفس الدم يقال: سالت نفسه، وفي الحديث: ((ماليس له نفس سائلة فإنه لاينجس الماء إذا مات فيه)) والنفس الجسد، ويقولون ثلاثة أنفس فيذكرونه لأنهم يريدون به الإنسان، ونفس الشيء عينه يؤكد به يقال: رأيت فلاناً نفسه وجاءني بنفسه. تمت مختار صحاح.
وزاد في القاموس من معاني النفس: العين يقال: نَفَسْتُهُ بنفس، أي: أصَبْتَهُ بعين، والعظمة، والعزة، والهمة، والأنفة، والإرادة، والعقوبة. تمت.
قال الأمير الحسين بن بدر الدين -عَلَيْه السَّلام- في ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة: أما النفس فإنها تقع على معان منها:
الدم ولذلك سميت المرأة نفساء، ونفست بخروج الدم عنها عقيب الولادة.
وثانيها: بمعنى الروح قال تعالى: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ} [الأنعام:93]، أي أرواحكم.
وثالثها: الأنفة يقال لفلان نفس: أي أنفة.
ورابعها: بمعنى الإرادة والشهوة يقال: نفسه في كذا أي: إرادته وشهوته.
وخامسها: بمعنى العين التي تصيب الإنسان يقال: أصابت فلاناً نفس أي: عين.
وسادسها: مقدار الدبغة يقال: جعلت هذا الأديم نفساً أو نفسين من الدباغ.
وسابعها: نفس الإنسان وغيره الذي تكون به الحياة قال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون}.
وثامنها: أن يكون إخباراً عن ذات الشيء وعينه فيقال: نفس الرأي وعين الرأي أي: ذاته، ويكون ذلك تأكيداً وتحقيقاً للكلام، انتهى كلامه.
والروح في الشريعة ورد أيضاً في المعاني([46]) التي قدمنا ذكرها إلا أنه إذا أضيف إلى الإنسان لم يفد إلا ما ذكرنا.
فأما من طريق العقل: فقد تقرر في العقول أن الحي بحياة لا يكون حياً إلا لمعنى يحلُّه وأن ذلك المعنى لا بد له من شروط ولوازم: منها: ما هو ثابت بمجرى العادة من القديم سبحانه، ومنها: ما يجب حصوله ولا بد منه من جهة العقل، وموضع تفصيل الكلام في هذا كتب الكلام البسيطة فلا وجه لذكره ها هنا.
____________
([46]) - المعاني التي يطلق عليها الروح في الشريعة هي: النفس، والقرآن، وعيسى بن مريم عَلَيْه السَّلام، وجبريل -عَلَيْه السَّلام-، والوحي، والنفخ، وأمر النبوة، وحكم الله تعالى وأمره. تمت من القاموس.
وإذا أضيف إلى الإنسان لم يفد إلا معنى النفس.
---
[الكلام في العقل وماهيته]
فأما الكلام في العقل وماهيته:
فالكلام فيه يقع بيننا وبين قوم من الأوائل([1]) والمنجمين([2]) وأصحاب الطبائع([3]) في ثلاثة وجوه:
في محدثه، هل هو مختار أو موجب؟
وفي ذاته، ما هي؟ وفيه هل يحل أم لا يحل؟، وإن حل فأين محله؟
فأما تسميته، فالأمر فيها فيما يخص الإنسان أهون، ولكن يعظم في مدبر العالم؛ لأن من الأوائل من زعم أن المدبر جوهر بسيط يعلم ذاته ويعلم ما دونه جملة وتفصيلاً، ولا يعلمه مفصلاً إلا هو، فلإحاطته بالأشياء سمي عقلاً، وربما عبروا عن النفس بالعقل الثاني، كما أن العلة في النفس هي العقل الأول، فإذا كان ذلك كذلك لم يمتنع ما قالوا، بل وجب أن نُسمّي ما به يَعلمُ الإنسانُ نفسَه، وما يشاهده، وما ينهيه إليه الدليل، وما يتسق به التدبير عقلاً، ونحن لا نسلّمه ؛ لأن الأسامي المعتمدة شرعية ولغوية، ولا دليل في الشرع على تسمية الباريء -سبحانه- عقلاً، ولا في اللغة على ما يأتي بيانه، وكل ما لا دليل عليه يجب القضاء بفساده، ولا يترجح إثباته على نفيه، فسقط.
وفيهم مَنْ يقول: ما في الإنسان من العقل -مع الإختلاف في حلوله ومحله وما هيته- جزء منه -أعني من العقل-.
ومنهم مَنْ يقول: أثر منه.
__________________
([1]) ـ الأوائل: هم الفلاسفة.
([2]) ـ المنجمون: هم القائلون بالنجوم، وهي في أصل اللغة الظهور يقال: نجم الشيء إذا ظهر، وفي عرفها الكواكب. وهم القائلون بتأثير النجوم، ويجعلونها عللاً وأسباباً تؤثر في الأبدان والأنفس على زعمهم وافترائهم، وهي أحد الفرق الكفرية التي أنكرت الصانع جل وعلا، وقد ذكر المؤلف -عَلَيْه السَّلام- كثيراً من أقوالهم وافتراءاتهم، وذكر الرد عليها في عدة مواضع. انظر الملل والنحل للإمام المرتضى 76.
([3]) - الطبائع: المراد بها: الماء والنار والأرض والريح.وأصحاب الطبائع هم الفلاسفة، ومن قال بقولهم من الباطنية، والمطرفية، وغيرهم وهم كل من أضاف التأثير إلى الطبع.
فأمَّا أهل النجوم: فيضيفون السداد من الأمور، وما نسميه عقلاً، إلى تأثيرات الكواكب، وسعادة الموالد في أصل الخلقة.
وأما أصحاب الطبائع: فأضافوا العقل الحاصل للعاقل أو فيه - على حسب الخلاف في ذلك - إلى إعتدال المزاج على غاية الكمال، فحينئذٍ تتولد هذه القوة المميزة على قدر الإعتدال في الكمال والنقصان، وهي التي سميت عقلاً.
[ذكر قول أهل الحق في بيان العقل]
والذي ذهب إليه أهل الحق من الأئمة الأعلام -عليهم أفضل السلام-، والمحصِّلون من علماء أهل الكلام : أن العقل مجموع علوم يحدثها الله -تعالى- في الإنسان من أول نشوئه إلى لزوم التكليف له شيئاً بعد شيءٍ فإذا كملت كمل عقله، وإن لم تكمل لم يكمل عقله، وإن لم تحصل فلا عقل له، وإن حصل بعضها دون بعض فهو ناقص العقل([4]).
فمنها: أصول لا بد من حصولها لمن أراد الحكيم، سبحانه، تكليفه.
ومنها: زيادات يختص بها من يشاء من عباده كما قال سبحانه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:105]، فلولا ذلك لم يكن للآية معنى، ولا بد من ذكرها بمشيئة الله، سبحانه وتعالى، أولاً، ثم نعقبه بالدليل على صحة ما نذهب إليه فيها.
[بيان علوم العقل الموصلة إلى معرفة الله -تعالى-]
إعلم: أن أول علوم العقل التي يصح بها الوصول إلى معرفة الله -تعالى- علم الإنسان بنفسه وأحوالها؛ من كونه مشتهياً ونافراً، ومتألماً وظاناً، وعالماً بالشيء أو جاهلاً له، أو قاطعاً أو مجوزاً، إلى غير ذلك مما يعلمه كل عاقل من أحوال نفسه، فهذا أول ما يحصل، ثم يترتب عليه ما نذكره.
ثم بعد ذلك العلم بالمشاهدات، لأن العلم بالغير فرع على العلم بالنفس.
ثم بعد ذلك العلم بأن النفع حسن إذا تجرد عن المضار في الحال والمآل، وأن الضرر قبيح إذا تجرد عن المنافع في الحال والمآل، ويتصل بذلك العلم بأن لفعله به إختصاصاً لوقوفه على دواعيه حتى يمكنه الإعتذار من قبيحه، والإزدياد من حسنه، دون فعل غيره.
___________________
([4]) ـ في (ن): ناقص كلمة العقل.
ثم يتبع ذلك العلم بأحكام الأفعال: وهو أن الحسن يستحق عليه المدح، والقبيح يستحق عليه الذم.
ثم يتبع ذلك علم البدايه([5]): وهو أن العشرة أكثر من الخمسة، وأن المعلوم لا يخلو من كونه موجوداً أو معدوماً، وأن الموجود لايخلو من كونه قديماً أو محدثاً، وما شابه ذلك.
ثم يتبع ذلك العلم بمقاصد العقلاء في الأمور التي تنبيء عن التعظيم وعن الاستخفاف بشرط المشاهدة، والعلم بالمواضعة، فهذا مما تختلف أحوال العقلاء فيه، في البطء في معرفته والسرعة، ولا بد من حصوله لكل عاقل، ومن لم يحصل له فهو ناقص.
ويتبع ذلك العلم بمخبر الأخبار المتواترة؛ لأن من أخبرنا عن نفسه، أنه لا يعلم صحة قول الناس إن في الدنيا مكة وخراسان، وغيرهما من البلدان، وإن محمد بن عبدالله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لم يعلم صحة دعواه للنبوءة ومجيئه بالقرآن، ودعواه أنه معجزة له، وحجة على من خالفه، يعلم نقصان عقله، أو كذبه في قوله، ومن ذلك الذكر للأمور القريبة العهد العظيمة، وما تقدم من أفعاله الجلية نحو تنقله في البلدان، وحفظه لما يكثر درسه من العلوم، وهذا تختلف أحوال العقلاء في بعضه في البطء والسرعة، وبه يمتاز([6]) العقل المُوجب للتكليف، عن كل من كمل فيه ما تقدم ذكره، ولهذا إحتج بعض علماء أهل العدل على أهل التناسخ([7]) بأنا لو كنا في هياكل غير هذه الهياكل، وتصرفنا في الدنيا بأنواع التصرف؛ قبل هذه البنية التي نحن فيها، لذكرنا ذلك؛ إذ ذكر مثل ذلك من تمام العقول، فلما لم نذكره والحال هذه قطعنا على بطلان ما قالوه، وبمثل هذا نقطع على أن مالنا وأهلنا هم([8]) الذين نشاهدهم، وإن جاز أن يخلق الله [تعالى] مثلهم ويسترهم عَنَّا ومن شك في ذلك استنقصنا عقله، ومن أهل العلم من جعل هذا من علم العادات، ورأيُنا ما ذكرنا؛ فهذه علوم إلاهية؛ لايمكن العاقل دفعها مع بقاء عقله.
_____________________
([5])- المراد بالبداية هنا: البديهة والجبلة.
([6]) ـ في (ن، م): تمام العقل.
([7]) - أهل التناسخ : قال بالتناسخ بعض الكفار وبعض من ينتحل الإسلام كالروافض، وأول من أحدثه فيهم رجل يقال له: أحمد بن حائط، وله جهالات خرج بها عن الإسلام، زعموا أن الروح تنتقل في الهياكل؛ فالمثاب يتلذذ؛ والمعاقب إلى بهيمة يتألم، وأنكروا البعث، إلى غير ذلك من الجهالات، انتهى من المنية والأمل شرح الملل والنحل. قال في كتاب الحور العين : وقال أصحاب التناسخ -منهم جمهر بن بختكان الفارسي ومن قال بقوله: بدوام الثواب والعقاب، فالثواب انتقال أرواح المحسنين إلى الأبدان الإنسية، والعقاب انتقال أرواح المسيئين إلى أبدان البهائم والسباع والهوام. انتهى.
([8]) ـ في (ن، م): وأهلنا الذين
ثم يتبع ذلك علم التجارب: وهو الزيادات المشروطات، وأحوال الناس فيه تختلف، فمنهم من يبلغ فيه الغاية القصوى، ومنهم من يقف دون ذلك.
[الرَّد على مَنْ يقول إن المدبِّر جوهر بسيط]
[وأمّا مَنْ زعم من الأوائل أن المدبر جوهر بسيط يعلم ذاته، ويعلم ما دونه، ولإحاطته بالأشياء سمي عقلاً،([9])] ففساده من اللغة والشرع:
أما اللغة: فلأنه مأخوذ من العقل وهو المنع كما قدمنا، ولا دليل على خلافه، ولا مانع له تعالى؛ لأن علمه لذاته حاصل في الأصل لا عن مؤثر، لولا ذلك لم يكن عالماً لذاته، وقد قامت الأدلة بصحته، وغناه واجبٌ له، لعلمه واستحالة الحاجة عليه، فلا داعي له سبحانه إلى القبيح، يمنعه سبحانه علمه بقبحه وغناه عنه - عن فعله - فيكون فيه معنى العاقل فيسمى عقلاً للمبالغة كما سميناه تعالى عدلاً فبطل أن يسمى عاقلاً لمثل ذلك أيضاً.
وأما الشرع: فقاعدته الكتاب والسنة، ولا دليل فيهماعلى شيءٍ من ذلك، فهذا ما احتمل هذا المكان من الكلام في معنى العقل وحقيقته، ولم سُميَ؟ وتسميته.
___________________
([9]) - ما بين المعكوفين زيادة من هامش النسخة، قال فيه : لعل هنا سقط وهو..إلخ ما بين المعكوفين.
[الخلاف في محل العقل]
وأما الخلاف في محله: فهو واقع بيننا وبين الفلاسفة، وأصحاب الطبائع، فإنهم يقولون إن محله الدماغ.
وعمدتهم في ذلك: أنه إذا فسد الدماغ ذهب العقل، وهذا باطل؛ لأنا قد أجمعنا نحن وإياهم، بل الكافة، أن الكبد والطحال لا يتوهم حلول العقل فيهما، وإن كان بفسادهما يفسد العقل.
فإن قيل: إنا نريد الفساد مع بقاء الحياة.
قلنا: ونحن لا نسلم بقاء الحياة مع فساد الدماغ في مجرى العادة، ومذهبنا أن محله القلب، كما تقدم ذكره عن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين -عَلَيْه السَّلام- من قوله: (وعلق في صدره قلباً، وركب فيه لباً)، وهو مذهب الكافة من الأئمة الأعلام، وعلماء الإسلام، وقد احتج لذلك بعض علماء أهل العدل بأن الإنسان يجد العلم، والظن، والإعتقاد، والإرادة، والكراهة، والفكر، كأنها تتولد من ناحية صدره، وقد وقع الإجماع من العقلاء على نفيه عن جميع الأعضاء الباطنة مثل الطحال والكبد والرية، فلم يبقَ لحلوله جهة يتوجَّه الكلام فيها إلا القلب، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه، فلذلك قضينا بحلوله في القلب، وهذا القول يمكن أن يعارض بأن البخار إذا صعد إلى الدماغ فغطى عليه زال العقل، ومن قولهم: إن أهل العلة يعلمون ذلك عند البروء.
ويمكن أن يتخلص منه بأنه لا مانع من أن يكون الحكيم -سبحانه- جعل للقلب مواداً من الدماغ، فإذا صعد البخار بقدرة الحكيم -تعالى- إنقطعت المادة فأزال العقل سبحانه بمجرى العادة، كما يعلم أنه تعالى أجرى العادة بأن من قطعت أنثياه لم يخلق له لحية بمجرى العادة، بل يزيلها وإن كان ذلك لمواد جعلها فيهما للحية لا نعلمها، ولا يعلم وجه الحكمة في جعلها كذلك مفصلاً إلا هو، وكما يمكن ذلك يمكن أن يعارض قولهم بأن المُزاز([10]) إذا غطى على القلب زال العقل بمجرى العادة من الحكيم -سبحانه- وأهل العلة يعلمون ذلك كما قالوا فيما ذهبوا إليه، ولا يمكنهم معارضتنا في ذلك بأن الفؤاد باقٍ في النائم والعقل زائل بالإجماع، لأنا لا نقول: إن العقل هو القلب، وإنما قلنا: هو محله، ولا يمتنع زوال الحال مع بقاء المحل، وإنما يمتنع عدم الشيء مع بقاء ذاته عند كل عاقل متأمّل، وإنما يلزم قولهم فرقة تنسب إلى الزيدية [- نقل من نسخة أخرى بخطه أيضاً: (وهم كفار على الحقيقة يرجعون إلى مقالة المجوس والثنوية والطبيعيّة، ولهم من كل ضلالة أرداها)، إنتهى ـ([11])] يقال لها المطرفية، فإنهم يقولون إن العقل هو القلب نفسه، ولا أعلم لهم في ذلك عمدة من دلالة العقل، ولا من كلام آبائنا -عَلَيْهم السَّلام-، ولا أتباعهم من علماء الإسلام، وما ذكروه لازم لهم ومن قال بقولهم، وأما على قولنا فلا يلزم.
____________________
([10])- المزاز: بالضم: الخمر فيها حموضة، والمزَّة الخمر اللذيذة الطعم. تمت قاموس.
([11])- هكذا في جميع النسخ بهذه الزيادة الموجودة.
[الأدلة من القرآن على أن القلب محل العقل]
يؤيد ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا}[الأعراف:179] والفقه: هو العلم.بدليل أنك لا تقول: فقهت هذا الأمر وما علمته، ولا علمته وما فقهته، بل يعد من قال ذلك مناقضاً وذلك بدلالة([12]) تطابق اللفظين على معنى واحد كالجلوس والقعود، وقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(46)}[الحج]، وقوله سبحانه: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ([13])}[المؤمنون:60]، وقال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28)} [الرعد] وقوله تعالى: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}[الحج:54]، وقوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ [إِلَى ذِكْرِ اللَّه]}[الزمر:23] إلى غير ذلك من آيات القرآن الكريم التي تدل كل آية بلفظها ومعناها؛ على أن القلب محل العقل وآلته، كما جعل الله -سبحانه- اللسان آلة الكلام، والعين آلة النظر، فلا يوجد شيء من تلك المنافع إلا في آلته بمجرى العادة منه سبحانه، وإن كان في المقدور أن يجعل تعالى خاصة كل آلة في أختها، فإنما جعل العادة منه تعالى جارية بذلك لما لا يعلمه مفصلاً إلا هو.
[الأدلة من السنة على أن القلب محل العقل]
ومما يؤيد ذلك من السنة ما روي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إن في الجسد بضعة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب، قالها ثلاثاً))([14]).
وماروي عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((القلوب أوعية وخيرها أوعاها)).
____________________
([12]) ـ في (ن): وذلك دلالة تطابق.
([13])ـ منكرة (نخ).
([14]) - رواه الإمام أبو طالب عليه السلام في شرح البالغ المدرك بلفظ وروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال : قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- : ((إن في جسد ابن آدم بضعة إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب)) وروى نحوه الإمام المرشد بالله عليه السلام في الأمالي الخميسية ضمن حديث طويل (2/150)، وروى نحوه أيضاً في مسند الحميدي (2/409) رقم (919)، ومسند أحمد (4/274) رقم (18436).
وشفع ذلك قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -صلوات الله عليه-: (المرء بأصغريه، بقلبه ولسانه)، وقد أكثر الأنبياء -صلوات الله عليهم- والأئمة -عَلَيْهم السَّلام-، وسائر العلماء والحكماء، وصف القلوب بالعقل، واللب، والحجا، والنهى، والبصيرة، والحَجْر، فعلم بذلك أن محله - أعني العقل - القلب، وأنه ما قدمنا من العلوم بما قدمنا من الدلالة، وأنها علوم أوليَّة، من فعل القديم -سبحانه- تلزم الحجة بحصولها، وتزول بزوالها، ويقف حصولها وزوالها على اختيار الحكيم -سبحانه- وإرادته خلافاً لما ذهبت إليه الفلاسفة([15]) وأهل الطبائع والنجوم، لأن الفلاسفة أثبتوا علَّة ونفوا الفاعل المختار، ولا يلزمنا - مع إثبات الفاعل المختار -سبحانه- الذي قام الدليل بصحة دعوانا فيه - ما يلزم الفلاسفة وأصحاب النجوم والطبع.
لأنا نقول: إنه تعالى إذا أراد زوال العقل زال مع بقاء الحياة والقلب والدماغ، وإذا أراد وجوده وجد، ويزيله عنه حدوث النوم في مجرى العادة، ويعيده كما أبداه عند اليقظة لمن شاء، وهو ما قدمنا ذكره من العلوم، لأنه لا يمكن دعوى حصول العقل لمن عدمها وإن وجد قلبه ودماغه بالإضطرار عقلاً، ولا كمال العقل لمن عدم بعضها، ويعلم باضطرار العقلاء حصول العقل لمن وجدت فيه وإن لم يحضر سواها بالبال، وذلك معلوم لكل منصف.
[الكلام على الفلاسفة وأهل النجوم]
وكلامنا على الفلاسفة ظاهر لأن معولهم على العلل الموجبة، وقد علمنا أن اختصاص العلل بالإنسان في حال يقظته ومنامه على حد واحد، والعلل لا تفتقر في إثباتها إلى سوى الإختصاص، وذلك معلوم لهم ولنا بالدليل، ومعلوم زوال العقل عن النائم فبطل أن يكون عقله لعلة موجبة.
_____________________
([15]) - الفلاسفة: قال الإمام يحيى بن حمزة -عَلَيْه السَّلام-: هم أشد على الإسلام ضرراً، وأخفاهم مكيدة، وأعظمهم عداوة، فلا بدعة في الدين إلا وهم أصلها وأساس عمادها، ولافتنة في الدين إلا وهم رأسها وقاعدة مهادها.وتعتبر الفلاسفة من إحدى الفرق الطبائعية التي تزعم أن الأشياء الوجودية إنما كانت بطبائع اختصت بها وقوى موجوده فيها وينكرون الصانع، ويضيفون أصل الوجود إلى الماء والهواء والأرض والنار، وأنها امتزجت وتشاكلت وتفاعلت فيما بينها فحصلت عنها هذه الموجودات ولهم أقوال كاذبه تدل على جهلهم.
ولا يصح التعويل على اعتدال المزاج أيضاً لمثل ذلك، لأن اعتدال المزاج ثابت للنائم ثبوته لليقظان، وعقل النائم زائل لولاه لاحتاج عند كل يقظة إلى العلاج، ومعلوم خلافه، وبمثل ذلك أيضاً يبطل قول أصحاب النجوم لأن الطالع واحد، والأسباب والمقابلة واحدة، وجميع ما يتوهم تأثيره في حال اليقظة والمنام على سواء، لم يختلف الحال فيزول في حال النوم ويعود في حال اليقظة، فلا بد من مزيل ومعيد، وليس ذلك إلا الله -تعالى- لخروج العقل عن مقدور كل قادر سواه.
[ذكر ثمرة العقل]
وهو مما يجب أن يشكر تعالى عليه، بل هو من أَجَلِّ نعمه على عباده، لأن به تنال الأغراض الشريفة، ويرقى إلى الدُرُج العالية، وتفتح الأمور المستصعبة، وتسد الثغور، ويساس الجمهور، ويستظهر به على الفيل مع عظمه، وعلى الأسد مع شجاعته وقوته، وعلى المغير مع جلده، وبه يعبد الرحمن، ويشكر المنان، وتورث الجنان، ولا تنقضي ذكر ثمرته وإن كثر الكلام وطال الشرح، والحمد لله تعالى عليه خاصة، وعلى نعمهِ عامة، ولا سبيل بحمد الله لأحد إلى رد ما ذكرنا.
[الكلام على من نفى الصانع من الفلاسفة]
وإنما حمل من قدّمنا ذكر خلافه على الخلاف فيه كلامهم في نفي الصانع المختار، فطلبوا لذلك العلل؛ لأن الأوائل زعموا أن الباريء -تعالى- بلسان الشريعة علة موجبة للعقل الأول، وأن العقل الأول أوجب النفس، وأن النفس أوجبت الهيولى والصورة، والهيولى والصورة أوجبت الأجسام كلها الفلك بما فيه وما تحته، فلما اختلفت الأجسام والموجب غير مختلف الإختلاف اللغوي، وهم لا يرجعون إلى فاعل مختار، فنظروا النبات ينمو ولا فاعل عندهم يختار نموه على الوجه الذي يريد من المصلحة، أثبتوا قوة وطبيعة، ونفساً وإحالة؛ على حسب إختلافهم في العبارة التي ترجع عند التحقيق والمطالبة إلى معنى واحد، فلما اختلف عليهم النامي إلى حيوان وجماد، وكان في الحيوان حس ودركة([16]) أثبتوا في الحي معنى حسَّاساً سَمَّوه القوة الحساسة، وسموه النفس الحسيَّة، وطلبوا لاختصاصه من بين الأجسام بهذه الحالة ونفي الحكيم المختار -سبحانه- على الحد الذي أثبتناه عليه، من أن الفرع والأصل في ثبوت الحاجة إليه على سواء، فقالوا: لا بد من اعتدال المزاج وهو المؤثر في ذلك.
_________________
([16]) - الدَرَكة: هي الإدراك، وفي (ن): حس ودرك.
[الكلام على أصحاب الكواكب في نفي الصانع]
وقال أصحاب الكواكب([17]) منهم: المؤثر في ذلك الكواكب، وإعتدال المزاج شرط.
ومنهم من قال: المؤثر([18]) في ذلك النفس الكلي أو جزء منه، على حسب اختلافهم في فروعهم.
والكلام على الجميع على وجه الإختصار أنا نقول لهم: إذا كان الموجب الأول وهو لا يختص في الإيجاب إلا بأمر واحد، فما العلّة في حصول أكثر من واحد في الثاني والثالث والرابع؟ وما العلة في إيجابه مختلف الإيجاب والموجب والأول غير مختلف، بل متضاد الموجب والإيجاب؟ والعلل الأولى عندهم غير متضادة، ولأن الضد لا يولد ضده بالدلالة والبديهة لأنه إلى نفيه أقرب منه إلى إيجابه، ولأن الموجب لا يختص بوقت دون وقت؛ لأن الأوقات معه على سواء ونحن نرى هذا الصنع المتقن يحصل شيئاً بعد شيءٍ وحالاً بعد حال، والإستقصَّات([19]) موجودة، والعلل الأولى موجودة، وهي لا تفتقر في تأثيرها إلى أمر سوى الوجود، لأنها لو وجدت ولا أثر لها لم ينفصل وجودها عن عدمها وذلك محال، فما أدى إليه يجب أن يكون محالاً، والفاعل المختار بخلاف ذلك، لأنه قد يوجد وهو غير مختار للفعل لضرب من الصلاح فلا يفعل مع صحة وقوع الفعل منه، ويفعل المختلف والمتماثل والمتضاد لما يعلم من المصلحة.
______________
([17]) ـ أصحاب الكواكب: وهم فرقتان توجهتا إلى الشمس والقمر.
أولاً: عبدة الشمس: زعموا أن الشمس ملك من الملائكة لها نفس وعقل وهذه النفس هي النفس الكلية.
ثانياً: عبدة القمر: زعموا أن القمر ملك من الملائكة، وإليه تدبير العالم وأنه يستحق الخضوع والسجود والعبادة إلى غير ذلك من الأكاذيب والأباطيل، وهي من الفرق الكفرية التي توجد بالهند قديماً وحديثاً.
([18]) ـ في نسخة: بل المؤثر في ذلك.
([19])- في (ن، م): الإستقصاءات.
[الكلام على أصحاب النجوم في نفي الصانع]
وأما قول أهل النجوم فظاهر السقوط، لأن الصانع([20]) واحد، والمؤثر واحد، والماء واحتراق الأسباب المتوهمة عندهم واحدة، ويختلف حال الحيوان والجماد من أكثر الوجوه، لأنا نعلم أن البعير أكبر من البقرة والشاة، ولا يأتي البعير في مجرى العادة بأكثر من ولد واحد، وقد يأتيان في بعض الحالات بإثنين مختلفين في الألوان والذكورة والأنوثة، والكلبة أصغر من الجميع فتأتي بسبعة وفوق ذلك ودونه فيهم الذكور والإناث، والأحياء والأموات، والبيض والسود، إلى غير ذلك من الإختلاف، والموجب واحد، والطالع واحد، وقد نبه الله -تعالى- على ذلك بقوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ(8)} [الرعد]، تغيض: تنقص، والزيادة معلومة، فسبحان مَنْ لا يشغله شأن عن شأن، ومَنْ علمه بما يكون كعلمه بما كان.
________________
([20]) ـ في نسخة: الطالع.
ثم نبّه تعالى في أمر إختلاف النبات من الجمادات بقوله: {فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25)ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا(26)فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28)وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا(29)وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30)وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} [عبس]، فعم بالذكر سبحانه متاعنا ومتاع أنعامنا في هذه الألفاظ([21]) القليلة، الحلوة الجليلة، لأنه عم بقوله: {حَبًّا} جميع أنواع الحبوب، وبقوله: {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} جميع أنواع الأشجار المثمرة، وبقوله:{ وَفَاكِهَةً} جميع الفواكه، لأنه نكر([22]) واحد الجنس فاقتضى العموم، وكذلك (الأب) عمّ جميع متاع البهائم من الكلا والخلا، وخص (الزيتون والنخل والعنب) مما يختص بالآدميين لجلالة قدره، كما أعاد ذكرجبريل وميكائيل عقيب ذكر الملائكة؛ وإن كانا منهم لجلالة قدرهما، وذلك ظاهر في قوله سبحانه: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}[البقرة:98]، وكذلك إعادته لذكر (القضب) مع أنه يعود في أصل اللغة إلى الأب لعظم حاله في نفع البهائم، وعجائب الكتاب الكريم وغرائبه لا تنقضي، فالحمد لله الذي جعلنا من ذرية نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وورثة كتابه، وهدانا إلى معرفة علل الحكم وأسبابه، حمداً كثيراً.
_____________
([21]) ـ في (ن): ناقص :الألفاظ.
([22]) ـ في (ن): ذكر.
قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)}[عبس]، معناه نظر القلب الذي هو الفكر، والنظر في عجائب الصنع؛ لأن النظر بالأعيان قد وقع من الكافة، وهو لحكمته لا يأمر بالواقع، ولعمري إن من أنعم النظر فيما ذكر سبحانه حصل له العلم به تعالى على أبلغ الوجوه، لأن الماء واحد، والأرض واحدة، والهواء واحد، والحبَّة واحدة، والتأثير في الحبَّة الواحدة مختلف، إذ بعضها يهبط إلى أسفل، وبعضها يصعد إلى أعلى، وبعضها قشر، وبعضها لُب، وبعضها ورق، وبعضها عمود، وبعضها غصن، وهي واحدة فيأتي منها أعداد أكثر منها يعسر حصرها لكثرتها، وربما اختلفت ألوانها، بل قد شاهد الكافة ذلك، ثم جميع ذلك يحصل في وقت بعد وقت، شيئاً بعد شيءٍ، والعلل موجودة عند من قال بها، والمعلول لا يجوز تراخيه عن علّته([23]) وإلا انتقض كونها علّة فيه، فحينئذٍ يضطر الناظر العاقل إلى إثبات الصانع، المختار، ونفي العلل.
[سبب البسط في تفسير هذا البيت]
واعلم أن العلّة في بسط الكلام في معنى هذا البيت الذي فيه ذكر الأرواح إعتراض رجلين من الإخوان : أحدهما من العترة -عَلَيْهم السَّلام-، والثاني من شيعتهم -تولى الله توفيقهم- في أمر الأرواح وذكرها، فقاد الكلام بعضه بعضاً، والفائدة واقعة في الجميع.
ثم لنرجع إلى ذكر معاني ألفاظ البيت:
(الأرواح): جمع الريح والروح لما بينهما من الأخوة - أعني الياء والواو ـ، ولأنهما جمعا للقلة، ولأن الروح من قبيل الريح وجنسها، فالروح ما قدمنا ذكره.
[ذكر أنواع الرياح]
والرياح أربع: قبول ودبور وشمال وجنوب، فالقبول ما أقبل من مطلع الشمس وهي الصبا، والدبور ما أتى من جهة الغرب، سمي دبوراً لاستدباره البيت الحرام، والجنوب من ناحية اليمن، والشمال من جهة الشام، ولها أسماء كثيرة ولا وجه لتطويل الكلام بها.
وكل ريح اعترضت بين ريحين فهي نكباء.
________________
([23]) - عودة إلى مسائل الشريف نور الدين. ثانيها : عن العلة، قال في موضع : لا يجوز تراخي معلولها عنها، وفي موضع أوجب تقدمها عليه وإلا لم تكن علة ؟
الجواب عن ذلك : أن نقول مستقيم ؛ أما أنه لا يجوز تراخي معلولها عنها فلأنه لو جاز خرجت عن كونها علة فيه وذلك لا يجوز، وكان لا ينفصل وجودها عن عدمها ؛ لأن دليل وجودها ظهور معلولها، وما أدى إلى أن لا ينفصل وجود الشيء عن عدمه قُضِيَ ببطلانه.
وأما وجوب تقدّمها عليه وإلا لم تكن علّة فيه فمستقيم، والمراد تقدم الذات لتكون مؤثرة في الحكم لا تقدم الزمان ؛ فيجوز التراخي، فيتناقض القول كما ذكرت في حركة الأصبع وحركة الخاتم ؛ فإن حركة الأصبع متقدمة على حركة الخاتم تقدم الذات لا الزمان.
[بيان دلالة الرياح على الله تعالى]
وفي الرياح دلالة على الله -تعالى- لوجوه:
منها: أنها حركات متداركة([24]) توجد وتعدم في أجسام الهواء فلا بد لها من موجد وذلك لا يكون سوى الله تعالى.
ومنها: أن الهواء إنتقل لأجلها من جهة إلى أخرى، والإنتقال على القديم محال، فإذا صح إنتقاله وجب حدثه؛ لأن الموجود إذا استحال كونه قديماً؛ وجب كونه محدثاً، وإذا وجب حدثه كان لا بد له من محدث وهو جسم، ولا يصح حصوله من جسم لاستحالة وجود الأجسام من الأجسام لأن الأجسام قادرة بقدرة، والقادر بالقدرة لا يصح منه فعل الأجسام، لولا ذلك لصح من أحدنا أن يفعل لنفسه ما يشاء من الأموال والأولاد، ومعلوم خلاف ذلك، فلا فاعل له إلا الله -تعالى- لاستحالة وجود الفعل من غير فاعل كما نعلمه في أفعالنا، وعلة حاجة أفعالنا إلينا في([25]) حدوثها وقد شاركها في ذلك كل محدث وذلك مبسوط في كتب الكلام.
ومنها: أنها مختلفة، كما قدمنا، في جهاتها، وخواصها، وصفاتها، ولو كانت قديمة لما جاز عليها الإختلاف، وإذا لم تكن قديمة فهي محدثة لأن الموجودلا بد له من ذلك، ومحدثها هو محركها في الجهات.
و(الإنشاء): هو الإحداث.
و(الغمام): هو السحاب، وذلك ظاهر.
و(البرك) : جماعة الإبل في العطن والمأوى، ومن رآها في هاتين الحالتين علم أنها أشبه شيءٍ بالسحاب.
و(السائمة): هي التي ترتعي بروؤسها من القفار ولا يحش لها العلف، والرعي: هو السوم.
و(الأنعام): هي الإبل وما خالطها من المواشي سمي بإسمها، والإبل الأصل في ذلك، وسميت أنعاماً للين وطئها، ورطوبة أخفافها، مأخوذ من الناعم وهو اللين المس([26]).
و(الحنين): أصلها في الإبل، وهو معروف.
و(الأرزام): أصوات متقطعة متداركة أصلها الحنين، والحنين والأرزام أصلهما في الإبل تحن الناقة لولدها وترزم، والأرزام لولدها خاصة، والحنين يكون للولد والألف، وقد نقل الحنين والأرزام إلى الرعد فصار بالنقل حقيقة في الجميع مشتركة.
قوله: (فاعتبري يا أمة الضلال):
_______________
([24]) - السؤال الثالث من مسائل الشريف نور الدين : وثالثها: سأل أيده الله عن الرياح حركات متداركة، فعلى هذا هي عرض لا جسم.
الجواب عن ذلك : أنها حركات في أجسام الهواء وما كان كذلك سمي رياحاً، والحركة وحدها لا تكون رياحاً، والأسماء لا ينكر تعلقها بالأمور على وجوه، ألا ترى أن الإنسان مجموع أجزاء كل جزء منه على الإنفراد لا يسمى إنسان، فإذا اجتمع أطلق عليه اسم الإنسان، ألا ترى أنك لو وجدت أعضاء متفرقة لأضفتها إلى الإنسان، تقول : هذا رأس إنسان، ويد إنسان حتى تأتي على جميع الأعضاء؛ فما الإنسان والحال هذه إلا مجموع هذه الأعضاء، كذلك الرياح اجتماع الحركات في الهواء فإن سَكَنَّ رجع إلى الاسم الأول، وقيل : هواء.
([25]) ـ في (ن): ناقص : في.
([26]) ـ في (ن، م): المسن، وما أثبتناه هو الموافق للمعنى والله أعلم.
(الإعتبار): هو قياس بعض الأمور ببعض.
و(الأمة): هم طبقة الخلق في كل وقت، والجماعة العظيمة أمة من الناس لا يكون ذلك إلا بقرينة، ومجموعهم أمم، والأمَّة: القامة، والأمَّة: الدَّهر من الدهور والحين، وأمة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- هم الذين بعث إليهم عرفاً وشرعاً، والأصل هم الذين بعث فيهم.
[بيان دلالة الغمام على قدرة الله عز وجل]
ودلالة الغمام على الله -تعالى- من وجوه:
أحدُها: خلقه له بعد أن لم يكن، فلا بد له من محدث لمشاركته أفعالنا في الحدوث، وعلمنا بحاجتها إلى المحدث، فلا بد له لأجل ذلك من محدث وليس إلا الله -سبحانه- لأنه جسم ولا يصح وجود الأجسام من القادرين بقدرة.
وثانيها : تصعيده له في الهواء مع ثقله - أعني الغمام ـ، ونحن نعلم أن الثقيل يجب هويه أو استقراره إن لم يمنعه مانع، ولا يصعد إلا أن يرفعه فاعل مختار.
ومنها: بسطه له في السماء واستقراره في الهواء، ولو كان صعوده مع إستحالة ذلك لعلة في التقدير لوجب صعوده أبداً لأن العلة لا توجب أمرين مختلفين، كما يعلم أن الثقل يوجب الهوي أبداً، ولا يوجب الصعود أصلاً.
ومنها: حركته ومسيره من جهة إلى أخرى، فلا بد له من مسير.
ومنها: إمساك الماء فيه مع رقته وضعفه، وثقل الماء وقوته.
ومنها: ما يحدث فيه من الأصوات العظيمة التي ربما أهلكت، فلا بد لذلك من فاعل.
ومنها: إجتماع البرق الذي هو نار، مع الماء الذي هو محل ضدها، ولا يجتمعان في مجرى العادة إلا للقادر لذاته وهو الله -سبحانه- لأن الجمع بين محليهما وبقائهما على حالتهما يستحيل من القادرين بقدرة.
[ذكر الغمام وعظيم قدرة الله فيه]
ثم أعاد ذكر الغمام وعظيم قدرة الله فيه.
[3]
عجيبة يُعذرُ فيها مَنْ عَجِبْ .... في حملِهِ الماءَ فِلِمْ لا يَنْسَكِبْ
قَبْلَ بُلوغِ أرضهِ حيثُ نُدِبْ .... لو خالفَ اللهَ عصاهُ فَغَضِبْ
وصَارَ في دائِرةِ النَّكَالِ
(العجيبة): واحدة العجائب، والعجائب: هي الأحوال التي يجدها الإنسان من نفسه عند حدوث الأمر الجاري بخلاف العادة.
وقوله: (يعذر فيها من عجب): يريد؛ ترتفع اللائمة عند تكونها مما يُعجِبُ العقلاءُ مثلَها، لأن من عجب من الأمر المعتاد لامه العقلاء ورموه بأنه عجب من غير عجب، هذا إذا كان العاجب عاقلاً، ولا أعجب لكل عاقل متأمل من حمل السحاب الضعيف -الذي لا يمسك حبَّة الخردل فما فوقها- لما يملأ رحاب الأرض، وتضيق به فجاج الأودية من الماء الثقيل، القوي المحمول على الهواء، فسبحان من جعل الرقيق الضعيف، راحلةً للثقيل الكثيف، هذا ما لم تجر العادة بمثله في مقدور العباد، لولا اقتدار ذي الطول والأياد.
(الحمل): هو الإقلال للشيء، (والماء) إذا أطلق أفاد ما خلق الله -سبحانه- خالصاً من كل شائب مثل العيون الهامية، وهي التي أراد في القافية، والأنهار الجارية، والبحار الساجية، فإذا قيد أفاد غير ذلك بالقرينة نحو ماء الورد، وماء الكبريت وما شابهه فهو حقيقة، فيما قدمنا، مجاز في ما عداه.
قوله: (لاينسكب): يريد؛ لا ينصب الإنسكاب: هو الإنصباب.
(قبل بلوغ أرضه): أضافها إليه لمصيره إليها.
(حيث ندب): يريد حيث أمر، تقول العرب: ندب فلان لكذا وكذا إذا أمر به، سمعت من العرب ممن يوثق بعربيته من يقول ندبنا إليهم مندوباً: يريد؛ أرسلنا إليهم رسولاً.
و(الخلاف): هو ترك ما أمر به أو فعل نقيضه، (والله) سبحانه، هو الربّ الذي تأله إليه القلوب، أي تميل وتصغي إلى محبته.
و(المعصية): نقيض الطاعة وهي ترك ما أمر بفعله، أو فعل ما أمر بتركه. و(الغضب): نقيض الرضاء، (والمصير) هو الرجوع، (والدائرة) هي المحيطة بالشيء، و(النكال): هو العذاب، والإستخفاف لا يكون نكالاً حتى يكون كذلك، والله -تعالى- لا يقوم لغضبه مخلوق لا حيوان ولا جماد وقد ظهر ذلك لبني إسرائيل لما سألوه سبحانه المستحيل على ذاته وهو الرؤية بقولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}[النساء:153]، فسأل نبيئهم -صلوات الله عليه-([27]) لقطع شغبهم فتجلى سبحانه للجبل فجعله دكاً، فنعوذ بالله من غضبه، ونساله أن يصل سببنا بسببه.
[الكلام في مسألة الأرزاق]
[4]
كَمْ معشرٍ ساقَ إليهمْ رزقَهُ .... قد خَلَعُوا من الرِقَابِ رِقَّهُ
وقد عَصَوْا وجَحَدوهُ خَلْقَهُ .... جُلَّ الذي صوَّرَهُ ودِقَّهُ
لِمُبْلِغِ الحُجَّةِ لا الإجلالِ
(كم): معناه التكثير، وهو من كنايات العدد، وهو نقيض رُبَّ، لأن معنى رب التقليل.
و(المعشر): هم الخلق الذين يجمعهم أمر من الأمور، لأنه إذا جمعهم أوجب العشرة، والعشرة هي المجاورة والصحبة.
و(السوق): معروف، وأصله في الحيوان ويستعار لغيره.
و(الرزق) : هو الذي لمالكه تناوله والإنتفاع به وليس لأحد منعه على بعض الوجوه، وقولنا على بعض الوجوه: إحتراز من اليتيم فإن لوليه منعه من تناول رزقه إذا رأى ذلك صلاحاً، وكذلك المحجور عليه، والصائم إذا أراد أكل شيءٍ من ماله في نهار شهر رمضان لغير عذر كان لنا منعه من تناول رزقه على ذلك الوجه إذا تكاملت لنا شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرعلى ما يأتي بيانه إنشاء الله -تعالى- وما شابه ذلك.
[ذكر الإختلاف في مسألة الرزق]
والخلاف في مسألة الرزق مع بعض المطرفية، وقوم من الفلاسفة وهم الإسلاميون منهم، ومع أهل الطبع، وكفرة أصحاب النجوم، والكافة يتشعبون إلى فرق كثيرة لا وجه لذكرها ها هنا.
________________
([27]) ـ في (ن): صلى الله عليه وعلى آله.
وسائر الخلق من الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-، والأمة مجمعون على أن لا رازق إلا الله تعالى.
[خلاف الفلاسفة والرد عليهم]
واعلم: أن خلاف من ذكرنا من الفلاسفة واقع في المعنى دون اللفظ، لأنهم يطلقون القول بأن الله -تعالى- رازق لجميع الخلق، على معنى أن الرزق فاضَ منه سبحانه على الكافة؛ كما يفيض النور من قرص الشمس من غير قصد منه في وصوله إلى من وصل إليه خصوصاً دون غيره، قالوا: وهذا أبلغ في الجود وأعم في الإنعام.
والكلام عليهم أنا نقول لهم: أخبرونا بحقيقة المنعم ما هي؟، وحقيقة الإنعام ما هو؟، فإن بمعرفة الحقائق تُحَلُّ الدقائق؛ لأنا وإياهم بل جميع العقلاء نعلم أن المنعم لا يكون منعماً حتى يقصد وصول المنفعة الحسنة للإحسان إلى من أنعم بها عليه، فحينئذٍ يتعين شكر المنعِم على المنعَم عليه، ولا يكفي في ذلك مجرد وصول المنفعة إذا تعرى من القصد - إلى الإحسان إلى من وصلت إليه - والإرادة.
ألا ترى أن إنساناً لو أتى بكوز ماءٍ بارد فأهرقه على إنسان مجدور يريد بذلك الإضرار به، فإنه لا يجب عليه -والحال هذه- شكره، وإن كان النفع قد وصل إليه من قبله، ولكنه لما تعرى من القصد سقط وجوب شكره، وكذا لو أعد طعاماً مسموماً لجائع يريد هلاكه به فلما أراد مناولته إياه غلط بغيره فأعطاه طعاماً شهياً لذيذاً خالصاً من السُّم سد به فاقته، وأمسك رمقه، وقضى وطره، فإنه لا يجب عليه عند جميع العقلاء شكره لما لم يقصد بإيصال الطعام إليه نفعه وإنما قصد مضرته، فلما حصل النفع معرىً من القصد خرج عن باب الإحسان، ألا ترى أن شكر الشمس لا يوجبه أحد من العقلاء، بل لا يستحسنه وإن كان النفع بها واصلاً إلينا، لمَّا كان القصد مستحيلاً عليها لكونها غير حية ولا قادرة، والقصد لا يكون إلا من حي قادر، فلو كان الإحسان الواصل إلينا من قبل الله تعالى فيضاً كما زعموا، لما وجب علينا شكره، كما قدمنا بيانه.
فحقيقة المنعم على ذلك: هو الموصل للنفع أو لسببه مع القصد للإحسان إلى من وصل إليه.
وحقيقة الإنعام: هو النفع الحسن الذي يقصد به موصله وجه الإحسان إلى من وصل إليه.
[الكلام على أهل الطبع]
وأما الكلام على أهل الطبع: فهو يتعين في إبطال ما يذهبون إليه من الطبع وإثبات الصانع المختار -سبحانه- وأنه لا فاعل للأجسام سواه، فبذلك يبطل ما ذهبوا إليه، وسنذكر في إبطال ما ذهبوا إليه طرفاً من الكلام فيما بعد إن شاء الله تعالى.
[الكلام على مذهب أهل النجوم في الأرزاق]
وأما أصحاب النجوم: فمذهبهم مبني على أن الأرزاق والأرفاق الواصلة إلى العباد تحصل بتأثير الكواكب وسعادة المولد.
والكلام عليهم: أن هذه الأرزاق الواصلة إلى العباد أفعال فلا بد لها من فاعل، والفاعل لا يكون إلا حيًّا قادراً، والكوكب غير حي ولا قادر.
ودليل آخر: وهو أن الكوكب جسم بالإضطرار والمشاهدة، تلزمه الحركة والسكون وسائر الأكوان، وذلك أمارة الحدوث، فلو قدّر على إستحالة ذلك كون الكوكب قادراً لم يخرج عن كونه قادراً بقدرة، فالقادر بالقدرة لا يصح منه فعل الأجسام، ولأن القادر بالقدرة لا يعدي فعله إلا بالإعتماد، والأرزاق أجسام بالإضطرار، والإعتماد لا يولد الأجسام، ولا تأثير له في إنشاء الغمام، وفتق الأكمام([28])، إلى غير ذلك من أنواع الإنعام.
ومما يبطل به قول أهل النجوم على وجه الجدل من المشاهدة: أنا ننظر إلى التوأمين والأسباب واحدة، والطالع واحد، مختلفي الأحوال في السعة والضيق، والرفاهية والنَّصَب، وذلك ما لاينكره أحد؛ لأن منكره تفضحه المشاهدة، فلو كان لما ذكروه وجه لما اختلف الأمر فيمن ذكرنا.
واعلم: أن بإثبات الصانع، المختار، يبطل ما قالوه، فهذا هو الكلام على أهل النجوم على سبيل الجملة.
_________________
([28]) - الأكمام جمع كم بالكسر : وعاء الطلع وغطاء النَّوْر. تمت ق.
[ذكر قولي المطرفية في الرزق والرد عليهم]
فأما المطرفية: وهم فرقتان - أعني أهل نفي الرزق، على ما قدمنا ذكره، لأنا وجدنا منهم من لا ينفيه عن الله -تعالى- لا لفظاً ولا معنى.
ففرقة منهم: تزعم أن ما وصل إلى الكافة من أهل الطاعة والمعصية فإنما يحصل بغير قصد من الحكيم -سبحانه- وإنما يحصل بالحركات وإحالات العالم، قالوا: وهذا أبلغ في الإنعام؛ لأن الله -تعالى- جعل العالم ينقاد لمن قاده، ويستحيل إلى المنفعة على حسب إحسان العباد في أنواع التصرف، وهذا كما ترى شبيه بما حكينا عن الفلاسفة؛ فإذن الكلام على هذا القول قد تقدم.
ومما يؤيد ما تقدم: أنا نقول لهم: ما دليلكم على أن الله -سبحانه- جواد؟ وقد علمنا نحن وأنتم أن من نفى عنه -تعالى- صفة الجود كفر بالإجماع ولا تثبت هذه الصفة التي يجب إثباتها له إلا بدليل فلا يجدون دليلاً؛ إلاَّ أنه أوصل النفع الحسن إلى عباده إبتداءً، وهو يريد الإحسان إلى من وصل إليه، لولا ذلك لما وجب شكره تعالى على الكافة من خلقه الكافرين والمؤمنين، لأنا قد قدمنا البرهان على أن من أوصل إلى غيره نعمةً خالصةً ولم يقصد الإحسان إليه، لا يعد جوداً عليه ولا محسناً إليه، وذلك ظاهر عند جميع العقلاء؛ لا ينكره إلا من أعمى التعصب عين بصيرته.
وأما الفرقة الثانية من المطرفية: فيزعمون أن الله -تعالى- لا يرزق العصاة من عبيده، ودليلهم قالوا على ذلك: إنه تعالى، لحكمته لا يعينهم على المعصية، وهذه غفلة عظيمة لأنا نعلم جميعاً أن خلقهم وإحيائهم أبلغ من أرزاقهم في باب التمكين من المعصية، فلو ساغ نفي رزقهم عن الله -تعالى- لهذا الدليل؛ لساغ نفي خلقهم عن الله -تعالى- ومعلوم أن ذلك خروج من الدين وانسلاخ عن الملة.
[الأدلة من كتاب الله على أن الرزق من الله تعالى]
فإن قيل: إن الله تعالى خلقهم للطاعة.
قيل: وكذلك إنه تعالى رزقهم ليشكروه؛ فمن لم يشكره كفر، سيما وقد قال تعالى مخاطباً للمشركين خاصة، ولا معصية أعظم من الشرك بالله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(40)}[الروم]، وقال تعالى في الكفار خاصة: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ إِنْ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ(20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ(21)} [الملك]، فنعوذ بالله من الغرور والثبور، والعتو والنفور، وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ(56)}[النحل]، فصرح بأنه رزقهم ما يجعلون فيه لغيره نصيباً، وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(22)}[البقرة:22]، فهذه في الكفار خاصة، وقال تعالى في الكفار خاصة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(28)}[البقرة]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(29)}[البقرة]، فهذا تصريح بأنه خلق لهم جميع ما في الأرض، فهو حينئذٍ يأتي على الخلاف من أصله، ويهدمه من قواعده، وقال تعالى للناس كافة:
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(3)} [فاطر]، وقال سبحانه آمراً لنبيئه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمجادلة للمشركين والإحتجاج عليهم بما لا يجدون إلى دفعه سبيلاً، فقال عز من قائل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(31)فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ (32) }[يونس]، وإنما أقروا إضطراراً لا إختياراً لأنهم يعلمون أنهم لا يقدرون على إنزال المطر، وفلق الحب والنوى، وإخراج الثمار، وإحداث الأشجار، وقلب أحجار المعادن مالاً، وإيجاد العين([29]) إبتداءً، وأنه لا يقدر على ذلك إلا الله -سبحانه- فحينئذٍ لزمتهم الحجة وتعين عليهم الشكر، وقال سبحانه مخاطباً للمشركين أيضاً: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}[الإسراء:31]، فصرح تعالى بأنه رازق للمشركين وأولادهم، وحكى سبحانه قول إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }[البقرة:126]، قال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}[البقرة]، والحجج من كتاب الله - تعالى - وكلام نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وأقوال الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- لا تنحصر لنا كثرة، وقد ذكرنا بحمد الله ما فيه كفاية لمن أنصف نفسه، وطلب رشده.
__________________
([29]) ـ المراد به هنا الذهب، وإلا فهو لفظة مشتركة بين معان كثيرة، ويمكن أيضاً أن يحمل عليها؛ فمنها: العين الباصرة، وذات الشيء، والماء النابع،وغيرها.
[الدليل العقلي والشرعي على أن الرزق من الله تعالى]
ومن دلالة العقل وأحكام الشرع: أن هذه الأرزاق أجسام ولا فاعل للأجسام إلا الله -تعالى- كما قدمنا.
ولأنهم يأخذونها بحكم الله -تعالى- ولهذا يحكم لهم بها كما أمر الله -سبحانه-.
ولأن الظاهر من دين الكافة من المسلمين، أن من أخذ من أموال العصاة شيئاً بغير رضاهم وجبت عليه الغرامة إذا كان الآخذ مسلماً ملتزماً لأحكام الشريعة، فلو كانت أموالهم للمطيعين كما قالوا لما وجب ذلك، أو لوجب الإستحلال من المسلمين ومعلوم خلافه، فهذا هو الكلام على فرقتي المطرفية على وجه الإختصار.
[إحالة الطبائعية لآثار الصانع والحكمة إلى علل موجبة والدلالة على بطلان ما قالوه]
وأما الطبائعية: فاعلم أنهم بنوا مذهبهم على نفي الصانع -تعالى- وإحالة آثار الصنع والحكمة إلى علل موجبة، ومن كانت هذه حاله نقل الكلام معهم إلى الدلالة على حدوث الأجسام، وأنه لا بد لها من محدث، وأن محدثها لا يكون إلا الله -تعالى- فحينئذٍ ينقطع شغبهم وعللهم، وينكشف خطأهم وزللهم، وقد رأيت لهم كتباً كثيرة فكان أدقّها معنى، وألطفها شبهة، وأدقها مدخلاً، تصنيفاً لرجل منهم ذكر فيه علل الحوادث من الغيث، والبرد، والثلج، والزلزلة، والرعد، والبرق، والنبات، والحيوانات، وما يطول الكتاب بشرحه، وجعل لكل شيءٍ من ذلك علة ونفى الجميع عن الله -تعالى- فكان من كلامه في الغيث: أنه يتولد من بخارين بخار دخاني وبخار رطب، وأن الدخاني يصعد بالرطب لأن من طبعه الصعود، وأنه يتكثف في الهواء، وأنه يستحيل الرطب إلى الماء فيتقوى وينحدر، وأن الريح الشمالية ربما اعترضته فإن اعترضته بعدما يكون قطراً نزل برداً، وإن اعترضته قبل ذلك نزل جليداً([30]) وثلجاً.
________________
([30]) ـ الجليد: الضريب والسقيط، وهو ندى يسقط من السماء فيجمد على الأرض. تمت مختار الصحاح. والبرد والثلج معروفان.
وذلك باطل بما نذكره من الأدلة العقلية التي أكدها سبحانه بقوله، وهو أصدق القائلين: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ(44)}[النور].
وأما الدلالة على بطلان ما قالوه من جهة العقل: أنه لا برهان لهم فيما ادعوه، وكفى بالمذهب فساداً أن لا يقوم عليه دليل، وإنما زخرفوا هذه الأقوال ونمقوها وبنوها على شروط إعتيادية، أجرى الحكيم -سبحانه- العادة بأنه يفعل تلك الأفعال عند حصولها فسموها عللاً، وأضافوا الصنع إليها بغير نظر في حقائق الأمور؛ لأنا نعلم في الشاهد أن الكتابة لاتحصل منا؛ إلا بحصول أمور من دواة وقلم إلى غير ذلك من آلات الكتابة، ثم نعلم أن الكتابة فعلنا، لوقوفها على دواعينا، وذلك معلوم لكل عاقل، مع أنا نعلم أن الآلة شرط في وقوع الفعل منا، والباريء -سبحانه- غني عن ذلك؛ لأنه متمكن من الفعل بدون الشروط الإعتيادية، وإنما أجراها لمصلحة يعلمها، والأمر في إضافة الأفعال إليه أجلى وأظهر من إضافة الأفعال إلينا، فكما أنه لا إشكال في إضافة أفعالنا إلينا -وإن وقف حصولها على شروط لا يستغنى عن حصولها- فكذلك يرتفع الإشكال عن إضافة أفعاله إليه، وإنما أجرى العادة لمصلحة هي حراسة أعلام النبوءة على ماذلك مقرر في مواضعه من كتب علم الكلام.
[السبب في نفي الطبائعية للصانع]
فكان السبب في إعتقادهم هذا الفاسد -والله أعلم- أنهم رأوا الولد لا يحصل إلا باجتماع الذكر والأنثى، وأن النبات لا ينمو إلا باجتماع الطين والماء، إلى غير ذلك، وقولهم هذا : لا يخرج الفاعل عن كونه فاعلاً، كما قدمنا مثاله في الواحد منا، ألا ننظر([31]) إلى هذه الأعاجيب المتقنة، والصور البديعة، والألوان المختلفة، والبُنا([32]) المركبة، التي يعجز العباد مع قدرتهم وعلمهم عن وصل المنفصل منها فضلاً عن إيجاده منظوماً مرتباً في غاية الإحكام، ومعلوم أن العلة عند من أثبتها غير حية ولا قادرة، ولا حكيمة ولا عالمة، وكيف يخفى ما ذكرنا على عاقل متأمل؟ أنظر إلى بنية الجنين في القرار المكين وما فيه من التفصيل والتوصيل، والمخارق لمداخل الأغذية، ومخارج الفضلات المؤذية، وحصول ذلك شيئاً بعد شيءٍ كما نبه على ذلك سبحانه بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12)ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)}[المؤمنون]، ثم علم ضعفه عند خروجه، فسوى له في صدر أمه غذاءً يلائمه، لا يؤذيه تناوله، وألهمه له عند خروجه أبتداءً منه برحمته، وأغناه به حتى يقدر على تناول ما سواه من أنواع رحمته، هل عقل سليم يضيف هذا إلى علة موجبة وينفيه عن صانع، مختار، عالم، حكيم لا يمتنع عن قدرته مراده سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً؟ وأنبأ أنهم أثبتوه لغير برهان وإنما عوَّلوا فيه على مجرد الوجدان، وكفى بالمذهب فساداً أن لا يقوم على صحته دليل.
____________________
([31]) ـ في (ن): ألا تنظر.
([32]) ـ البنا - بالضم والكسر -: جمع بُنْية. تمت.
[مناقشة حسنة في إبطال قول أهل الطبع في أن العالم يحيل بعضه بعضاً]
لأنا نقول لهم: مامعنى قولكم في العالم إنه يحيل بعضه بعضاً؟ تريدون أنه يفعل بعضه بعضاً، فقد صح أن الفعل لا يصح إلا من حي قادر، وما أضفتم إليه الفعل من الطبائع غير حية ولا قادرة.
وقولكم في الحاصل منها: إنه يحصل بالطبع، لا يرجع إلى أمر معقول، ونفي ما لا يعقل أولى من إثباته؛ لأنا نقول: أعلمونا بالطبع ما هو؟ والإحالة إن رجعتم إليها هل شيء أم غير شيءٍ؟.
فإن قلتم: غير شيءٍ.
فإضافة الأفعال المتقنة إلى غير شيءٍ تأباها العقول السليمة.
وإن قلتم: هي شيءٍ.
قلنا: فما ذلك الشيء موجود أو معدوم؟.
فإن قلتم: معدوم.
قلنا: ذلك محال؛ لأنا نعلم تعذر الفعل من العادم للقدرة مع وجود ذاته وحياته؛ كالمريض المدنف، فكيف بصحة الفعل مع عدم الذات؟!، هذا أبعد في العقول.
وإن قلتم: إنه موجود.
قلنا: لا يخلو ذلك الموجود، إما أن يكون لوجوده أول أو لا أول لوجوده، لأن الموجود لا بد له من أحد هذين الأمرين، فإن كان لا أول لوجوده وجب قدمه، لأنا لانريد بقولنا في الباريء -تعالى-: إنه قديم إلا أنه موجود لا أول لوجوده.
فإن قلتم: إنه غير الباريء
وجب أن يكون ثانياً معه فستأتي الدلالة على نفي الثاني فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وإن قلتم: إنه الباريء.
قلنا لكم: فهذه عبارة فاسدة لأن الباريء -سبحانه-، لا يسمى في اللغة والشرع والعرف طبعاً ولا إحالة، وكان الخلاف بيننا وبينكم في عبارة فارغة.
وإن كان محدثاً فلا يخلو، إما أن يشغل الحيز عند حدوثه أو لا يشغله، فإن شغله فهو من قبيل الأجسام، وإن لم يشغله فهو من قبيل الأعراض، ولا يجوز أن يكون ما ذهبوا إليه من الطبع والإحالة جسماً، لأن الأجسام تنقسم إلى حيوان وجماد، والجماد لا يصح الفعل منه؛ لأنه ليس بحي ولا قادر، والفعل لا يصح إلا من حي قادر، ولا يجوز إضافة هذه الأرزاق من الناميات والمائعات والجامدات إلى جسم حي؛ لأنه لا يكون حياً إلا بحياة، ولا قادراً إلا بقدرة؛ لاستحالة أن يكون حياً وقادراً لذاته لأن ذلك من صفات القديم، سبحانه، التي يستحيل حصولها في غيره لما يأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى، والقادر بالقدرة لا يصح منه فعل الأجسام.
ولا يجوز أن يكون الطبع والإحالة من قبيل الأعراض، لاستحالة صحة الفعل من الأعراض؛ لأن الفعل لا يصح إلا من حي قادر، ويستحيل أن يكون العرض حياً قادراً؛ لأنه لو كان حياً قادراً لم يحل في غيره، ولوجب أن تكون حياته لذاته، فيكون مثل الله -تعالى- ولا مثل له على ما يأتي بيانه، والحيوة والقدرة لا يوجبان إلا بشرط الاختصاص، والاختصاص لا يكون إلا بالحلول، وحلول العرض في العرض محال، لأن أحدهما لا يكون حالاً والآخر محلاً أولى من العكس، وذلك يؤدي إلى أن لا ينفصل الحال من المحل، وذلك محال إذ يعلم كل عاقل متأمل أن صفة أحدهما غير صفة الآخر، فبطل أن يكون العرض قادراً ولا حياً، وإذا لم يكن حياً ولا قادراً إستحال وجود الأفعال من قبله، وهذه جمل تحتاج إلى شرح طويل أضربنا عنه ميلاً إلى الإختصار كما وعدنا في أول الكتاب، فقد رأيت تهدم مذهب هؤلاء القوم فنعوذ بالله من التكمه في الضلالة، والخبط في ميدان الجهالة.
ومما يؤيد ما قلناه أن في هذه الأرزاق أثر الصنع والتدبير، وذلك لا يكون إلا من عليم قدير، وذلك ظاهر في الحيوانات والزرائع، وسائر الأرزاق التي تدل على وجود الصَّانع.
عدنا إلى شرح ألفاظ القافية:
(الخلع): أصله في الدابة تَخلعُ رَسَنَها([33])، ثم استعير ذلك لمن أخرج نفسه عن شيءٍ بعد دخوله فيه.
و (الرقاب): هي الأعناق، والهوادي([34])، معنى الجميع من ذلك واحد، وشهرته تغني عن الشاهد.
و (الرِّق): هو الملك، والمرقوق: هو المملوك، والرقيق: إسم المرقوق.
و (عصوا): خالفوا مقتضى الأمر.
و (الجحد): نقيض الإقرار، ومعنى الجحد والإنكار واحد.
و (الخلق): هو التصوير والتقدير، وهو إذا أطلق أفاد المخلوق، والمخلوق: هو المصور المقدر، هذا في الأصل.
و (الجل): هو جمهور الشيء ومعظمه.
و (الدق): هو الجزء القليل منه
(لمبلغ الحجة): يريد؛ لإبلاغ الحجَّة عليهم.
و (الحجَّة): هي الدلالة.
و (الإجلال): هو التعظيم.
[لماذا رزق الله تعالى العصاة؟]
ومعنى ذلك:هو أن الله -تعالى- رزق العصاة الذين تقدّت صفتهم ليحتجّ عليهم يوم القيامة الحجة البالغة فيقول: (أكلتم رزقي، و عبدتم غيري، وضيعتم شكري، وخالفتم أمري) فنعوذ بالله أن نكون من أولئك، وأن نخاطب بذلك.
ولا شك أن ذلك أبلغ في الإحتجاج عليهم من الإحتجاج لو لم يرزقهم ولم ينعم عليهم، ولم يرد بذلك سبحانه تعظيمهم، لأن عطايا الدنيا حجة لا تكشف عن التعظيم، ومنعها لا يكشف عن الإستخفاف، كما روي عن أمير المؤمنين([35]) علي بن أبي طالب أنه قال : (لا تعتبروا الرضاء والسخط بالمال والولد جهلاً بمواضع الحكمة ومواقع التدبير، قال الله تعالى : {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ(55)نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ(56)}) [المؤمنون].
ويُصدِّقُ هذا: ما روي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن الله يعطي الدنيا من يحب ويبغض، ولا يعطي الآخرة إلا لمن يحب))([36]) فنبه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أن حال الآخرة على العكس من حال الدنيا.
_________________
([33]) ـ الرًّسَن - محركة -: الحبل الذي يقاد به البعير، وما كان من زمام على أنف، جمعها: أرسان وأرسُن. تمت قاموس مع زيادة.
([34]) ـ الهوادي والهَوَد بالتحريك، جمع هَوْدة: الأسنمة. تمت.
([35]) - نهج البلاغة في الخطبة التي تسمى القاصعة رقم (190) ص(400).
([36]) - رواه الإمام المرشد بالله في الأمالي الخميسية (2/161)، ولم يذكر آخر الحديث.
وقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر))([37]) فالدنيا عنده سبحانه هينة لزوالها وانتقالها كما روي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء))([38])، فنسأل الله -تعالى- أن يجعل أرزاقنا عوناً لنا على طاعته، وسبباً موجباً للازدياد من رحمته، وثمناً للدرج الرفيعة في دار كرامته، وأن لا يجعلها علينا حجَّة، ولا يصيرها يوم القيامة حسرة، بحقه العظيم، والصلاة والسلام على محمد وآله وسلم.
[الاستدلال على الله تعالى بما صنع]
هذا نوع من الإستدلال على الله:
[5]
دلَّ على ذَاتِ القديمِ ما صَنَعْ .... وما ابْتَدا من خَلْقهِ وما اَخْتَرَعْ
مِنْ ظَاهِرِ الجسمِ ومَكْنُونِ البضَعْ .... عَجَائباً يعجزُ عَنْها مَنْ صُنِعْ
مِنْ غَيرِ تَعليمٍ ولا مثالِ
معنى (دَلَّ) هذا لا فرق بين الدلالة والهداية وذلك ظاهر عند أهل اللغة.
و(ذات) الشيء: هو الشيء.
و(القَدِيم): هو الموجود الذي لا أول له.
معنى (صَنَعَ): قدر وفطر.
و(الإبتِدَا): نقيض الإحتذا، وهو الفعل على غير مثال.
و(خلقه) ها هنا: هو الأجسام التي نشاهدها([39]) من الحيوانات والجمادات والأعراض.
و(الإختراع): هو إحداث الشيء إبتداء بغير سبب ولا شرط، وأكثر فعله -عز وجل- يقع على هذا الوجه.
و (ظاهر الجسم): المراد ظواهر الأجسام، فالألف واللام للجنس، وذلك يعم الحيوانات والجمادات.
_______________________
([37]) - رواه الشريف السيلقي في الأربعين السيلقية (خ) والطبراني في المعجم الكبير (7/288) رقم (7158)، وأخرجه في مسند الشافعي (67) وسنن البيهقي الكبرى (3/216) رقم (5598).
([38]) - رواه الأمام المرشد بالله في الخميسية بعدة أسانيد عن علي عليه السلام بلفظ : ((تسوى)) (2/161) وسهل بن سعد (2/165)، وأبي هريرة (2/160) بلفظ (تزن) والموفق بالله في الاعتبار وسلوة العارفين ص(67)، وابن ماجه من حديث طويل (2/1377) رقم (4110)، وابن المبارك في الزهد ص(178)، والطبراني في المعجم الكبير (6/178) رقم (5921)، والترمذي في السنن (4/560) رقم (2320)، وفي مسند الشهاب (2/316) رقم (1439).
([39]) ـ في (م): تشاهدها.
[الطرق الدالة على حدوث الأجسام]
[الطريقة الأولى: طريقة التأليف]
ودلالة الجسم علىالله ظاهرة، وذلك أنا نراه مركباً مؤلفاً، وذلك معلوم لكل عاقل متأمل، فلا بد له من مركب ومؤلف على ما نعلمه في الشاهد من البناء والكتابة، والعلة في حاجة البناء والكتابة في الشاهد إلى الباني والكاتب هي الحدوث، بدلالة أنهما - أعني البناء والكتابة - لا يحتاجان إلى الباني والكاتب في البقاء بعد الحدوث، لأنهما يبقيان بعد زوال قدرته وموته وتفرق أجزائه، بل فناه وعدمه، لو قدر أن المضادة ألاَّ يكون على مجرد الوجدان.
وكشف ذلك أنَّا لو رفعنا عن نفوسنا إعتقاد حدوثها إرتفع العلم لا محالة بحاجتها إلى المحدث، ولا يحتاج إليه في عدمها الأصلي، لأنها معدومة قبل وجوده، فلم يبق لحاجة البناء والكتابة إلى المحدث وجه إلاَّ لإخراجهما من العدم إلى الوجود، وقد شاركت الأجسام البناء والكتابة في الحدوث فوجب أن تشاركها([40]) في الحاجة إلى المحدث، وذلك المحدث لايكون إلا الله -تعالى- وهذا إستدلال بالشاهد على الغائب لإشتراكهما في علَّة الحكم، فخرج عن كونه إستدلالاً بمجرد الوجدان، ولحق بإستدلال أهل الحقائق.
[الإستدلال على حدوث تأليف الأجسام]
فإن قيل: إنكم بنيتم استدلالكم على أن تأليف الأجسام محدث، وأن ذلك موجبٌ([41]) حدوثها، فإذا كان ذلك كذلك كان لا بد لها من محدث، وهذا لا نسلمه لكم، بل نقول: إن تأليفها قديم فلا يحتاج إلى محدث.
__________________
([40]) ـ في (م): يشاركها.
([41]) ـ في (ن،م): يوجب.
قلنا: الدليل على حدوث التأليف: أنَّا نعلم جواز الإفتراق على كل مجتمع علماً ضرورياً، ويُعْلَم([42]) أنه إذا افترق عدم إجتماعه بالدلالة، فلو كان قديماً لما جاز عليه العدم؛ لأن القديم واجب الوجود فلا يفتقر إلى مؤثر من فاعل ولا علة، وإذا لم يفتقر إلى المؤثر كانت صفاته ثابتة لذاته، وذاته مع الأوقات على سواء، فإذا وجبت له صفة في حال، وجبت في جميع الأحوال، وبذلك يصح لنا العلم بحدوث الجسم عند صحة حدوث تأليفه، لأن القديم لا يخرج عن صفته، فإذا اجتمع في الأزل لو قدر ذلك إستحال افتراقه، وإذا افترق استحال اجتماعه، والتأليف تابع للإجتماع.
فإن قيل: إذا قد صح لكم إجتماع الجسم؛ فلا يخلو من أن يكون هو الجسم أو غيره، باطل أن يكون هو الجسم لأنَّا نعلم، بما يأتي بيانه، أن الإجتماع يعدم والجسم باق موجود، فلا بد من أحد أمرين : إما أن لا يجوز عدم الإجتماع مع وجود الجسم، وإما أن لا يوجد الجسم مع عدم الإجتماع، وكلا الأمرين باطل، فثبت بذلك أن الإجتماع والتأليف غير الجسم.
وأما أن الجسم إذا افترق عدم الإجتماع، فلأنه كان لا يخلو عند حصول الإفتراق للجسم: إما أن يكون موجوداً، أو معدوماً، باطل أن يكون موجوداً لأنه كان لا يخلو: إما أن يكون موجوداً فيه أو في غيره، أو معدوماً، باطل أن يكون موجوداً فيه لأنه كان يؤدي إلى أحد أمرين مستحيلين: إما أن يوجد ولا يظهر حكمه فلا يكون فرقاً بين وجوده وعدمه وذلك محال، وإما أن يظهر حكمه فيكون الجسم مجتمعاً مفترقاً في حالة واحدة وذلك محال، وإن كان موجوداً في غيره بعد أن كان حالاً فيه فذلك لا يعقل إلا بالإنتقال، والإنتقال على الأعراض محال، لأن المعقول منه تفريغ جهة وشغل أخرى، وذلك من خصائص الأجسام فلم يبق إلا أن يكون معدوماً، وغير الجسم من المحدثات ليس إلا العرض.
___________________
([42]) ـ في (ن،م): ونعلم أنه.
[الدليل على أن كل ما جاز عليه العدم وجب حدوثه]
وأما الدليل على أن كل ما جاز عليه العدم وجب([43]) حدوثه فلأن جواز العدم عليه يكشف عن كونه موجوداً لمؤثر على سبيل الصحة وهو الفاعل، أو لمؤثر على سبيل الإيجاب وهو العلة، لأنه لو كان موجوداً لذاته وذاته مع الأزمنة على سواء، كانت هذه الصفة واجبة له في جميع الأوقات؛ وإلا انتقض كونه موجوداً لذاته وقد ثبت ذلك، وخروج الموصوف عن الصفة الذاتية لا يجوز، فإذا جاز عليه العدم علمنا أنه قد تقدم حالة وجوده حالة كان وجوده فيها جائزاً، ثم وجب لمؤثر من فاعل أو علة وذلك معنى المحدث، فثبت بذلك أن كل ما جاز عليه العدم وجب حدوثه؛ لأن وجوده يكون بغيره لا بذاته.
وكذلك الإستدلال بظاهر الجسم فلأن علمنا بما ركب الله -سبحانه- في الأجسام من الأعراض تابع لعلمنا بالأجسام، وإذا ثبت ذلك وثبت أن الجسم لا يجوز وجوده إلا كذلك، ثبت أن الجسم محدَث؛ لأن الجسم إذا لم يجز وجوده إلا مع وجود المحدث ثبت أنه لم يتقدم المحدِث، وإذا لم يتقدم المحدِث فهو معه أو بعده، وما بعد المحدِث محدَثٌ بالضرورة، وما كان وجوده مع وجود المحدِث إستحال كونه قديماً لما بينا في حقيقة القديم.
[بيان أن كل محدَث لا بدّ له من محدِث مخالف له]
وإذا قد ثبت حدوثها فلا بد لها من محدِث مخالف لها، لإستحالة إحداثها لأنفسها، لأنها لو أحدثت أنفسها كانت لا تخلو: إما أن تكون أحدثت أنفسها وهي موجودة أو معدومة.
باطل أن تكون أوجدت أنفسها وهي موجودة، لأن إيجاد الموجود محال لإستحالة وجود غناه وحاجته، من وجه واحد، لوجه واحد، في حالة واحدة، وذلك ظاهر.
وباطل أن تكون أوجدت أنفسها وهي معدومة، لأنا قد علمنا أن إيجاد الفعل يستحيل من عادم القدرة مع وجود ذاته وحياته فبأن يكون عدم الذات أبلغ في إستحالة وجود منه أولى وأحرى.
______________
([43]) - نخ: وجد.
وإن كان المؤثر في وجودها غيرها فالغير إما فاعل أو علة، باطل أن تكون هذه الأجسام الحوادث حدثت لعلة؛ لأنا نراها مختلفة التراكيب والصور والألوان، ونراها تحدث شيئاً بعد شيءٍ، فلو كان المؤثر فيها علة لما جاز ذلك لأن معلول العلة لا يختلف أصلاً.
فإن قيل: إنما إختلفت لأنها تأثير علل كثيرة مختلفة فلذلك اختلف معلولها؟
قلنا: فلم اختلفت تلك العلل؟ ألعللٍ أخرى؟ أدى ذلك إلى التسلسل وذلك محال.
وإن كان الإختلاف لفاعل مختار، وذلك الذي نقوله، وجب الإقتصار هاهنا.
فإن قيل: ولم خالف بينهما([44])؟.
قلنا: لما يعلم من الحكمة والمصلحة في ذلك،ونحن نعلم جواز المخالفة في الغائب بما يعلم به وقوعها مع الحكمة في الشاهد، ولا ينكر ذلك إلا معاند.
[الطريقة الثانية في الدليل على حدوث الأجسام: طريقة الإنتقال]
ومما يدل على حدوث الأجسام بعد الطريقة الأولى:
أنا نقول: قد ثبت جواز الإنتقال على الأجسام بالمشاهدة، والإنتقال [على القديم محال، وإذا بطل قِدَمُها ثبت حدُثها، وكان لا بد لها من محدِث كما تقدم([45])] فجواز الإنتقال عليها يُعْلَم ضرورة.
وأما قولنا: الإنتقال على القديم محال، فلأن حقيقة القديم، الموجود الذي لا أول لوجوده، ولا يعقل وجوده - أعني الجسم - إلا في جهة، والعلم بذلك يلحق بالضرورة، وإذا وجد في جهة كان وجوده فيها لذاته لإستحالة وجود القديم لمؤثر من فاعل أو علّة، لأنه كان لا بد من تقدمهما عليه ليصح كون الفاعل فاعلاً له والعلة علة فيه، وإذا كان فيها لذاته إستحال إنتقاله عنها؛ لأن ذاته علة كونها فيها، وبقاء المعلول واجب لبقاء العلة؛ لإستحالة وجود العلة بدون المعلول، وأمَّا أنه إذا بطل قدمه وجب حدوثه فذلك ظاهر.
عدنا إلى تفسير القافية:
(بضع([46])) الشيء: هو جزء منه، وقد صارت البضع في الحيوان تفيد بالنقل قطع اللحم.
_________________
([44])ـ أي بين المحدِث ومحدَثه. تمت.
([45]) ـ ما بين القوسين ناقص من الأصل، وهو في (ن، م).
([46]) ـ بضع بالكسر أو الفتح
و(مكنونها) بواطن الحيوان من النواظر، يقول في واحدتها بَضْعَة كما نقول لحمه، ويريد بمكنونها الكبد والطحال وما شاكلهما.
[بيان دلالة البضع على الله تعالى]
ودلالتها على الله -سبحانه وتعالى- من وجوه:
أحدها: إختلافها في صورها، فلا بد من مخالف خالف بينها.
ومنها: إختلاف منافعها، فلا بد لذلك من مدبر جعل كلَّ واحد لغير ما جعل له صاحبَه، لأنها لو كانت كذلك لذواتها وجبت المماثلة، أو لعلل متماثلة، أو لعلل مختلفة لزم، ما قدمنا أولاً.
ومن ذلك إختلاف أماكنها؛ لأنها كانت تكون في تلك الأماكن لذاوتها لو قيل بنفي الصَّانع، وذواتها مع الأماكن على سواء فكان يجب كونها في جهة واحدة لفقد المخصص، فلما رأيناها كذلك علمنا أن لها صانعاً مختاراً مدبراً جعل كل شيءٍ منها في جهة منفصلة لما علم في ذلك من المصلحة، ففي كل شيءٍ عليه سبحانه دليل واضح لمن نظر بعين البصيرة، فنسأل الله الهداية في البداية والنهاية.
(العجائب): قد قدمنا تفسيرها، ولا أعجب من حصول هذه الأمور المختلفة في الصورة، والمنافع، والأماكن، من نطفة رقيقة مهينة لو تَتَبَّعتَ أجزاءها لم ترَ فيها من ذلك شيئاً، ولا تميز لك بعضها من بعض، بل لو اجتمع الجن والإنس على أن يخرجوا بلطف تدبيرهم من تلك النطفة شعرة أو ينشئوا بشرة ما قدروا على ذلك، بل لو اجتمعوا على وصل شعرة مقطوعة أو الزيادة في عرضها وطولها ما استطاعوا {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)} [الإسراء]، فكيف بتلك البُنا الفائقة، والصور الحسنة الرائقة، والحواس النافعة، والمنافع الكاملة؟!، فسبحان من لا شريك له في ملكه، ولا نظير له في سلطانه، وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
(العجز): نقيض القدرة، ولا شك في عجز كل صانع عن إيجاد مثل فعل الله -سبحانه- الذي ذكرنا في ذاته وصفاته.
(التعليم): هو الأخذ عن الغير.
و(المثال): هو ما يقتدى به، ويعمل على حذوه، من الخطوط وغيرها، والله -تعالى- لم يتعلم عن غيره خلق ما خلق، ولو قيل بذلك نقل الكلام إلى ذلك الغير وكان الكلام فيه يؤدي إلى التسلسل إلى ما لا نهاية له وذلك محال، أو الوقوف على فاعل لا يحتاج إلى ذلك وهو الله -تعالى- فذلك الذي نريد.
[العلة في نفي المثل عنه تعالى]
وأما نفي المثَل عنه تعالى فذلك لأنه كان لا بد للمثال من فاعل، فإن كان الله تعالى فاعله إستغنى بعلمه الذي أوجد به المثال [عن المثال([47])]؛ لأن عمل المثال مع العلم لا يجوز إلا على من يجوز عليه السهو والغفلة، فيستعين بالمثال على أمره والله يتعالى عن ذلك لوجوب العلم له فلا يجوز خروجه عنه بحال، وإن كان الفاعل لذلك غيره فلا بد أن يكون الله تعالى فاعل ذلك الغير لإستحالة الثاني، على ما يأتي بيانه، وإذا كان الله الفاعل له إستغنى عن مثاله لأن الخالق أعلم من المخلوق، والرازق أكرم من المرزوق، فصح أنه تعالى فعل ما فعل من غير تعليم ولا مثال.
[الحض على النظر والمنع من التقليد]
[6]
يا ذا الذي أَصْغَى إلينَا مَسْمَعَهْ .... يَطْلُبُ عِلمَاً بَاهِراً ومَنْفَعَهْ
إنْ كُنْتَ لا تهوى طَرِيقَ الإمَّعَهْ .... فانظُر إلى أربعةٍ في أرْبَعَهْ
فذلكَ الجِسْمُ مَعَ الأَحْوَالِ
(السمع): آلة السمع، وهو الحاسة التي جعلها الله -تعالى- لإدراك الأصوات خاصة، كما خص سبحانه الخيشوم بإدراك الروائح، واللهوات بإدراك الطعوم، وفي ذلك معتبر لمن اعتبر، وأمعن النظر.
و (العلم): نقيض الجهل، وهو المعنى الذي يقتضي سُكون النفس، والإنسان يجد من نفسه الفرق بين علمه بالشيء وجهله به، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه.
و (الباهر): هو الواضح الظاهر الذي لا يكاد عظمه يحتمل للعقول، ولذلك قيل للقمر باهر.
_________________
([47]) - زيادة من نخ (م، ن).
و (المنفعة): هي اللذة والسرور وما أدى إليهما أو إلى أحدهما، والعلم بالله -سبحانه- يؤدي إلى كل سرور، ويحدث كل لذة وحبور.
والمنفعة: نقيض المضرة، فإن المضرة هي الغم والألم وما أدى إليهما أو إلى أحدهما.
(والإمعة) هو الذي لا ثبات له في الأمور ولا بصيرة، ولا له إلى الخير داع من نفسه، بل من دَعَاهُ قال أنا معك بغير تأمل لمنير ولا تدبير، ولا نظر ولا تفكير، ومن كانت هذه حاله فهو مذموم على قلة صبره، في إعمال فكره، وطلب العلم المؤدي إلى سكون نفسه، وانشراح صدره.
(والجسم) هو واحد الأجسام: وهو الجواهر المؤتلفة طولاً وعرضاً وعمقاً.
والطول: ما كان قُبَالةَ الناظر.
والعرض: ما كان عن يمينه وشماله.
والعمق: ما كان في مسامتته من قرنه إلى قدمه، وأقل ما يجتمع له هذه الصورة من ثمانية أجزاء فذلك معنى قوله: (فانظر إلى أربعةٍ في أربعه)، يريد: انظر إلى الجسم، وهو أربعة في أربعة، أي مع أربعة، هذا عند أهل اللغة ولا يسلكون بذلك مسلك أهل الضرب والحساب، قال شاعرهم:
أراني الخوفُ عَدَّتَهم ألوفاً .... وكان القومُ خمساً في ثمانِ
يريد مع ثمان لأنه لو سلك منهاج أهل الحساب والضرب لكان ألوفاً وخرج عن المعنى، وقد أوضح ذلك بقوله: (الجسم مع الأحوال): يريد؛ أن من أراد حصول العلم والخروج إلى سعة اليقين بالله -تعالى- من حيرة الجهل نظر في الأجسام لأنها أجلى المشاهدات.
[ما ذهب إليه الفلاسفة في الجسم والدليل على بطلانه]
والخلاف في الجسم مع الفلاسفة لأنهم يذهبون إلى أن أجزاءه غير منحصرة، وأنه يتجزأ إلى ما لا نهاية له، وغرضهم بذلك التوصل إلى قِدمه.
والذي يدل على بطلان ما ذهبوا إليه: أن الجسم قد أتى عليه الوجود،و إيجاد ما لا نهاية له محال؛ لأنه لا يخلو: إما أن يمكن عليه الزيادة أولا يمكن، فإن أمكنت الزيادة عليه فله نهاية بالإضطرار، وإن لم يمكن عليه الزيادة أدى إلى عجز الباريء -تعالى- وخروجه عن صفة ذاته وذلك باطل، وربما قال بهذه المقالة بعض المطرفية وهم لايعلمون ما يلزم عليها، وقد تقدم الكلام على القولين، وسبق أيضاً الإستدلال بالجسم وأحواله على الصَّانع تعالى.
[الأدلة على إبطال التقليد ووجوب النظر وكون الكثرة على الباطل]
فإن قيل: ولم أوجبتم النظر ومنعتم من التقليد الذي هو أهون على النفوس، وعليه عامة الناس، وهو أقطع للحاج([48]) حتى يكون إذا سألك الغير عن الدليل قلت: أنا على مذهب فلان وهو على الحق لا محالة قطعاً، ولم تُلْزِمْ نَفسَك مشقةَ الإتيان بالبرهان الذي ربما شغب فيه([49])، أو كسر بعض أركانه، واحتجت إلى فكر بعيد، ونظر سديد؟
__________________
([48]) - المراد بالحاج هنا هو: المحاجج والمجادل.
([49]) ـ الشِغْبُ ـ ويحرك ـ: تهيج الشر، وشغب، كمَنَع وفَرِحَ: هيَّج الشر عليهم، وهو شَغِبٌ ومِشْغَبٌ. تمت قاموس.
قلنا؛ ولا قوة إلا بالله: كون أكثر الناس عليه دلالة على بطلانه لأن الله -سبحانه وتعالى- أخبرنا في كتابه الكريم بأن الأكثر من الناس على ضلالة بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(70)}[المؤمنون]، وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}[الأعراف:102]، وقوله تعالى : {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103)} [يوسف] { وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ(102)}[الاعراف]، وقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لأصحابه: ((ألا أنبئكم بأهل الجنة في أهل النار يوم القيامة؟، قالوا: بلى؛ يا رسول الله، قال: كشعرة سوداء في جلد ثور أبيض - أو شعرة بيضاء في جلد ثور أسود - وإن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ما معه إلا رجل واحد))([50])، وهذا كما ترى أكبر دليل على ضلالة الأكثر، ولو جعلتَ القلةَ دلالةَ الحقِّ لكنتَ أسعدَ حالاً؛ لأن الله -تعالى- قد مدح الأقلين في كتابه الكريم بقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ(13)}[سبأ]، وقوله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ(40)}[هود:40]، وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ}[النساء:66].
وأما كونه أقطع للحاج: فالحاج ([51]) في إلتماس الحق أحمد عاقبة من المداهنة في الإقرار على الباطل.
فأما الرجوع إلى قول: إنَّ فلاناً على الحق لكثرة عبادته؛ فذلك باطل، لأن في كل فرقة فلاناً عابداً، وذلك يؤدي إلى أحد باطلين:
إما تصويب أهل الأقوال المختلفات، واعتقاد المتناقضات، وما أدى إلى الباطل فهو باطل.
___________________
([50]) - رواه الإمام أبو طالب ص(442) بلفظ : ((أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟)) قالوا : بلى يا رسول الله، قال : ((والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وسأحدثكم بقلة المسلمين من الكفار يوم القيامة مثلهم مثل شعرة سوداء في جلد ثور أبيض، أو شعرة بيضاء في جلد ثور أسود، ولن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة)).
([51]) - أي المحاجج، تمت.
وإما الترفيه على النفس؛ فهذا الدين القويم مبنى الصحة فيه على المشقة من أوله إلى آخره، قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)}[العصر]، الحق ها هنا: هو العلم والعمل بمقتضاه، والصبر لا يكون إلا على المشاق فبطلت فائدة الترفيه على النفس.
وأما التخويف بمشقة النظر: فقد ورد في الأثر ((أن من دق في الدين نظره، جل يوم القيامة خطره)).
[دليل عقلي على قبح التقليد]
ولأن المقلد لا يأمن من خطأ من قلده، والإقدام على ما لا يأمن الإنسانُ فيه الخطأ قبيحٌ، ولا يجوز للعاقل الإقدامُ على القبيح.
أمَّا أنَّ المقلدَ لا يأمن خطأ من قَلَّدهُ: فذلك ظاهر، لأنه يأخذ منه بغير برهان، وما أخذ كذلك لم يؤمن فيه الخطأ؛ لأن في مقالة المقلَّد -من أهل العفة والصلاح في ظاهر الحال- من يقضي بتخطئته وضلاله، فلا يأمن الغافل لهذه الأمارة صحةَ ما قيل؛ سيما إذا كان القائل ممن يزيد عليه في سلامة الظاهر أو يساويه.
وأمّا أنَّ الإقدام على ما هذا حاله قبيح؛ فلأنا نعلم أنه يقبح من أحدنا القطعُ على مخبر خبر لا يأمن كونه كذباً، وليس إلا أنه قطع بغير برهان ولا يقين، ولأنه لو ساغ التقليد لواحد لساغ لكل واحد لأنه لامخصص، فكان ذلك يؤدي إلى تصويب كل فرقة، وذلك ما لم يقل به مسلم ولا كافر، لأن كل فرقة من فرق الإسلام تدعو إلى سبيلها، وتخطيء من خالفها.
[بيان قُبْح تقليد الأكابر]
فإن قيل بتقليد الأكابر.
فلا شك أن لكل فرقة أكابراً وأسلافاً، فكان ذلك يُسَوِّغُ لليهود والنصارى تقليدَ أسلافهم؛ لأن إعتقادهم في أسلافهم كاعتقادنا في أسلافنا، بل أعظم، وقد بين الله -تعالى- ذلك ونعاه عليهم فقال: {لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:163]، في التعظيم، وما به فرقة إلا ولها من تعظمه وتزكيه، وتفزع إليه، كما قدمنا، فلا وجه من وجوه الصلاح، ولا طريق من طرق السلامة أسعد مقدماً، وأحمد عاقبة، من اتباع الدليل؛ سيما وقد ذمّ الله - تعالى - المقلدين، وعنفهم بالتقليد في كتابه المبين، فقال، وهو أصدق القائلين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ(170)}[البقرة].
وقال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله، وعن التدبر لكتاب الله، والتفهم لسنتي، زالت الرواسي ولم يزُل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال، وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال)) ([52])، فهذه وجوه كثيرة بعضها كافٍ في الإحتجاج على قبح التقليد؛ فكيف بمجموعها؟!، مع أنَّا تركنا وجوهاً أُخر مما يدل على قبحه ميلاً إلى الإختصار، وتماماً بما وعدنا في أول الكتاب من الميل إلى الإيجاز والتخفيف، فبطل التقليد ووجب إتباع الدليل، ونسأل الله -تعالى- بلوغ الغاية القصوى من رضوانه، والمصير إلى رفيع جنانه.
_____________________
([52]) - رواه الإمام أبو طالب في الأمالي ص(148) عن علي عليه السلام مرفوعاً، وروى الرصاص في مصباح العلوم والأمير الحسين في الينابيع (30).
[الجواب على من قال بأن أهل البيت (ع) يأمرون الناس باتباعهم تقليداً]
فإن قيل: هذا ما كنا نبغي حيث كفيتمونا مؤنة أنفسكم، وأبطلتم قولكم بقولكم، وكفاك على الخصم ناصراً أن يحتج على نفسه بأن ينقض قوله بقوله، وذلك لأنكم تلزمون كل فرقة الرجوع إليكم، والتعويل في المهمات عليكم، وتُسَفِّهونَ أحلامَهم، وتَذمُّونَ شُيوخَهم وأكابرَهم، وتُنَفِّرُونَ الناسَ عنهم، بل من ولي الأمرَ منكم حمل الناس على إتباع طريقته بالسيف حملاً ليس فيه هَوَادَةً ولا رِقَّةً، علم المسلمون ذلك ممن عاصرهم منكم مشاهدة، وممن تقدم من آبائكم نقلاً ورواية، وهذا كما ترون أمر بالتقليد على أبلغ الوجوه، فإذا قد احتججتم بما تقدم نشطتم العقال، وكفيتمونا مؤنةَ الجدالِ، وطلب كل منا بمبلغ حسنه، واستغنى عن غيره بنفسه، ولقد بلغ المسلمين عنكم أنكم تَعْجَبُونَ وتُعَجِّبُون، من رواية بلغتكم عن بعض أكابرهم الغابرين، وأهل الإجتهاد في نشر ذلك الدين، أنه يضيف إلى بعض علمائكم أنه خالف في الدين، ونفَّر المسترشدين، وتقولون لمن حضركم هذا عكس الواجب، فنعوذ بالله من حيرة العَمِين، وجهل المتكلِّفين، لأن الخلاف والوفاق لا يكون إلا لعترة الصادق الأمين، -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وعليهم أجمعين-، وذلك لا يقع ولا يجوز إطلاقه في غيرهم من العالمين.
قلنا: معاذ الله؛ ما أمرنا الناس باتباعنا تقليداً، ولا عَجِبْنا من قول ذلك الشيخ تبخيتاً، وإنما قلنا ذلك لنصِّ محكمِ الكتابِ العزيز والسنةِ الشريفة الماضية، ومن عَمِلَ بمقتضى الكتابِ والسنةِ خرجَ عن دائرة التقليد، وعمل بأقوى الأدلة، وكيف نرخص في التقليد ونحن أشد الناس ذمًّا للمقلدين؟!، فما أمرنا العباد في الرجوع إلينا، واتباع آثارنا، إلا بما أمرهم به أحكم الحاكمين، وذلك ظاهر في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)}[النحل]، والذكر هو الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بدلالة قوله تعالى : {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [الطلاق:11]، فكان مما تلاه على الكافة من الآيات، وبينه لهم من الدلالات، وأخرجهم من الضلال([53]).
وهو صادق مصدوق، وذلك ثابت فيما رويناه بالإسناد الموثوق به من قوله -عليه وعلى آله السلام-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض([54])))، وهذا كما ترون أمر منه سبحانه للكافة بالإتباع، ورد على من ادعا من الرفضة والنواصب بمفارقة العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- للكتاب، ولأنه -عليه أفضل الصلاة والسلام- جعل غاية ذلك ورود الحوض فأوجب عند كل عاقل متأمل اتباعهم إلى انقطاع التكليف؛ لأن ورود الحوض لا يكون قبل يوم الحساب، وأمرنا الناس باتباعنا والإقتداء بنا لأقوى الأدلة من السنة والكتاب، فتأملوا -رحمكم الله- كلامنا بأعيان البصائر تجدوه ظاهراً جلياً.
____________________
([53]) ـ في نسخة: من الظلمات.
([54])- سيأتي عن قريب تخريج هذا الحديث إنشاء الله تعالى.
وكذلك الكلام في عجبنا من قول بعض شيوخ المسلمين -أنا ومن كان على مثل حالنا من المخالفين- ما كان إلا لما روينا عن آبائنا الطاهرين -سلام الله عليهم- عن جدّهم خاتم النبيين الشفيع المشفع يوم الدين، -صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين-، أنه قال:
((قدموهم ولا تقدموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا([55]))) فهذا تصريح منه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بما قلنا، وفوق ما قلنا من وجوب اتباعهم والإقتداء بهم، وأخذ العلم عنهم، وقلة المخالفة لهم، وتحريم الطعن عليهم، فكيف يسوغ لمسلم التخلف عنهم؛ فضلاً عن نسبته نفسه إلى الصواب والوفاق، ونسبتهم بزعمه إلى الخلاف والشقاق؟!. لولا اتباع الهوى، وتغليب جنبة الضلال على جنبة الهدى.
[الدلالة على حدوث الجسم والجوهر]
[7]
دلَّ على حُدُوثِ قَرْنِ الأحوالْ.... خُرُوجُهُ مِنْ حَالةٍ إلى حَالْ
لو كُنَّ لِلذَّاتِ عَدِ مْنَ التِّرحَالْ.... ولم يُسَلِّمْنَ لِحُكْمِ الإِبْطَالْ
فانْظُر بِعَينِ الفِكْرِ غيرَ آلِ
(دلّ): معناه أرشد وهدى.
و (الحدوث): هو الكون بعد العدم.
و (قَرْنُ الأحوال([56])) : هو الجسم والجوهر، سمي قرناً لها، لمقارنة وجوده لوجودها، ولا توجد أبداً إلا فيه.
و (الخروج): نقيض الدخول، والجسم إذا كان مجتمعاً ثم افترق خرج من الإجتماع إلى الإفتراق لغة وعرفاً.
والمعنى على التحقيق: إذا عدم عنه الإجتماع لحصول ضدّه الذي هو الإفتراق، ولا شكّ أن الجسم لا يخلو عن هذه الأحوال التي هي إما الإجتماع أو الإفتراق، أو الحركة أو السكون، ولو رفعنا وجوده لا على أحدهما ارتفع وجوده عن الذهن جملة وهي متضادّة، فالحركة ضد السكون، والإجتماع ضد الإفتراق.
(وكونهنّ للذات) هو حصولهنّ لغير مؤثر من فاعل ولا علّة، على نحو ما تقدم، فيقول:
_____________
([55]) ـ رواه الإمام المرشد بالله (ع) في الخميسية (1/156) عن أبي سعيد بلفظ : ((لا تعلموا أهل بيتي فهم أعلم منكم، ولا تشتموهم فتضلوا))، وروى نحوه أيضاً محمد بن سليمان الكوفي في المناقب (2/108) رقم (597) من حديث أبي بن كعب، قال : ((أوصيكم بأهل بيتي خيراً فقدموهم ولا تتقدموهم وأمِّروهم ولا تأمروا عليهم))، وروى نحوه في الكامل المنير عن زيد بن أرقم بلفظ : ((لا تعلموا أهل بيتي فهم أعلم منكم، ولا تسبقوهم فتمرقوا، ولا تَقْصُروا عنهم فتهلكوا، ولا تولوا غيرهم فتضلوا)).
([56]) - ورابعها: سأل أيده الله عن القول في شرح الرسالة الناصحة : دل على حدوث قرن الأحوال.
قال أيده الله : والأحوال هاهنا عبارة عن الصفات فكيف اقترنت بها الأجسام وليست الصفات أشياء فيصح فيها حدوث أو قدم ؟
الجواب عن ذلك : أن المقارنة بين المعاني والأجسام والأحوال مقتضيات عن المعاني، وسمى المعاني أحوالاً توسعاً لما كانت دالة عليها، ومثل ذلك شائع، ولهذا فإنه جوز في الشرح ذكر المعاني، وجعلها الدليل، ويبني القول عنها ؛ وإنما الصفات كالمعبرة عنها بلسان الحال، فاعلم ذلك موفقاً.
(لو كنّ للذات): لم يخرج الجسم عن أحدهنّ مع بقاء ذاته، وكان يلزم أيضاً من كونهنّ للذات أمر مستحيل وهو وجوب إجتماعهنّ للجسم في حالة واحدة مع المضادة وذلك محال، فما أدى إليه يجب أن يكون محالاً، وإنما يستحيل خروج الموصوف عن صفة الذات، لأن صفة الذات يجب بقاء الذات عليها ما دامت ذاتاً، وهي لا تخرج عن كونها ذاتاً لأنه يستحيل عدم الموجَب مع الموجِب وذلك ظاهر، يؤيده: أنها مع الأوقات والجهات على سواء.
وقوله: (ولم يسلمن لحكم الإبطال): يريد؛ ولم يبطلن، وقوله: يسلمن: نقيض يمتنعن، والجميع مجاز، وهو شائع لا مانع منه لغة ولا شرعاً.
(والإبطال): هو الإذهاب لها.
(وعدم الذات): إرتفاع وجودها عن الدهر.
(فانظر بعين الفكر): معناه بفكر، وعين الفكر هي: القلب، والنظر هاهنا نظر القلب.
والنظر هو الذي يوصل إلى المعرفة قبل تجلي الأمور باضطراره([57]) سبحانه للعباد إلى ذلك عند انقطاع التكليف.
وقوله: (غير آل): يريد؛ غير مقصر في النظر، وقد تقدم الكلام على معنى هذا التكليف فيما تقدم من ذكر الأعراض وأنها غير الأجسام، وأنها محدثة، وأنه لايعقل وجود الجسم إلا عليها على سبيل البدل، وفي ذلك كفاية عن الإطالة، وراحة عن الملالة.
[بيان أن الجسم لا ينفك عن الأحوال]
[8]
مَا انفَكَ عَنْها الجِسمُ أَينَ مَا كَانْ.... في دَاني الأرضِ وَقَاصِي البُلدانْ
وغَابِرِ الدهرِ وباقي الأزمانْ.... كلا ولا يَدْخُلُ تَحْتَ الإمْكَانْ
خروجُهُ عَنْها مِنَ المَحَالِ
هذا زيادة إيضاح وإلا ففيما تقدم كفاية.
قوله: (ما انفك): معناه ما انفصل عنها.
و (الجسم): المراد به الأجسام([58]).
(أينما كان): ظاهر، زاده كشفاً بقوله: (في داني الأرض وقاصي البلدان) يقول: في قريب الأرض وبعيدها.
و (الداني): نقيض القاصي.
______________
([57]) ـ لأن معرفة الله سبحانه وتعالى في دار الدنيا لا تحصل إلا بالنظر والإستدلال، أما بعد انقطاع التكليف فإنها تحصل ضرورة بالإضطرار لكل مكلف على ما ذلك مقرر في مواضعه.
([58]) ـ لأن الألف واللام في قوله: (الجسم) للجنس.
و (غابر الدهر): ماضي الدهر، وهو ها هنا نقيض الباقي، وقد يكون الغابر هو المستقبل الداخل، فهذا الحرف من الأضداد.
(كلا): حرف يتضمن معنى القسم، وقد يقع للردع والتهديد إذا تعقبه حرف النفي نحو قوله تعالى: {كَلَّا لَا وَزَرَ(11)}[القيامة].
قوله: (ولا يدخل تحت الإمكان): إستعارة، لأنه من ظروف المكان، فمعناه لا يمكن -ذلك- خروجه عن هذه الأحوال بحال، ومعنى ذلك أن الجسم لم يخل من هذه الحوادث التي تقدم ذكرها وهي الإجتماع والإفتراق، والحركة والسكون، وقد تقدمت الدلالة على أنها حوادث.
[الدليل على أن الجسم لا يخلو من الأحوال]
والدليل على أن الجسم لا يخلو منها: أنا لا نعقلها موجودة([59]) إلا وهي إما مجتمعة، أو مفترقة، أو متحركة، أو ساكنة، وما حضر منها أو غاب فلا فرق في ذلك، بدلالة أن مخبراً لو أخبرنا أنه شاهد في بعض البلدان القاصية، أجساماً غير متحركة ولا ساكنة، ولا مجتمعة ولا متفرقة، لبادر العقلاء إلى تكذيبه، من غير توقف في أمره، إذ لا يعقل وجودها إلا في جهة، ولا يوجد في الجهة معقولاً إلا على أحد هذه الأحوال، وما لا ينافيه كحركة وإجتماع، أو سكون وافتراق.
[الأدلة العقلية والنقلية على صحة ماتقدم وما يأتي]
[9]
دَلَّ عَلَى صِحْةِ مَا أَقُولُ.... الفِكْرُ والتَدْبِيرُ والعقُولُ
والسَمْعُ إذ جَاءَ بهِ التَنْزِيلُ.... ومَا أَتى بِشَرْحِهِ الرسولُ
مُنَبّهاً عَْن وَسْنَةِ الإغْفَالِ
قد تقدم تفسير الدلالة.
و (الصحة): نقيض الإستحالة، تقول: هذا الأمر يصح، وهذا يستحيل، والمراد بالصحة هاهنا: الصدق، مأخوذ من صحة الخبر.
و (الفكر): معروف يعلمه الإنسان من نفسه، وهو نظر القلب.
و (التدبير): هو التمييز وقياس بعض الأمور ببعض.
___________________
([59]) ـ أي الأجسام.
و (العقول): هي علوم يخلقها الله -تعالى- في القلوب؛ والقلوب محالها وأوعيتها، وليست القلوب التي هي البضع عقولاً لأنها ثابتة للنائم والعقل زائل، وتقدم الكلام فيها بما فيه كفاية لكل منصف.
قوله: (والسمع إذ جاء به التنزيل): يريد بالسمع: دلالة السمع، وهو القرآن الكريم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت].
[ذكر مسائل أصول الدين وما يتبعها]
ولا شك أن القرآن الكريم شاهد لكل مسألة مما ذهبنا إليه من التوحيد والعدل، ومسائل الوعد والوعيد، وما يتبعهما، وما يتعلق بهما وينبني عليهما من النبوءة، والإمامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء، والبراء، ونحن نذكر في كل مسألة على وجه الإختصار شاهداً من السمع، ونحذف التطويل ليتم غرضنا بالكتاب، ونفيء بشرطنا، ويصدق وعدنا في الإيجاز، لأن المسائل التي تقدم ذكرها تنقسم إلى ما يصح الإستدلال عليها بالسمع ابتداءً، وإلى ما لا يصح إلا بعد الدلالة العقلية، فلنبدأ من ذلك بالشاهد على وجوب النظر، ثم على إثبات الصَّانع، ثم نتبع ذلك ما يليق به من المسائل على ما رتبه آباؤنا الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-، والصالحون من علماء الأمة -رضي الله عنهم-:
[الدليل على وجوب النظر من الكتاب]
قال الله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17)}[الغاشية]... إلى آخر الآيات، ثم عقبه بالإستخفاف بهم، والوعيد لهم.
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله عقب الأمر لهم بالنظر على أبلغ الوجوه، بذكر اطْرَاحِهم، والإستخفاف بهم، والوعيد بعد ذلك لمن تولى منهم، وهو سبحانه لحكمته لا يأمر نبيئه بإطراح أحد إلا أن يترك واجباً، وكذلك لا يتهدد أحداً بالعقاب على ترك شيءٍ من أنواع الأفعال إلا الواجب.
والدليل على أن ذلك أمر: أن قول القائل: أفلا يفعل فلان؟!، ثم يعقبه بإطراحه إن لم يفعل، ثم يتهدده بالعذاب عند التولي، أبلغ من قوله: إفعل، أو لتفعل، وذلك ظاهر لكل عاقل متأمل.
[ذكر شواهد على مسائل التوحيد جملة من الكتاب]
والدليل على إثبات الصَّانع -تعالى- أكثر من أن تحصى في آيات القرآن الكريم، فمن ذلك قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)} [يس]، فأثبت سبحانه ذاته بالإستدلال على وجود ذاته بتنبيهه بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، وأن ذلك لا يصح إلا من فاعل، مختار، موجود، واجب الوجود.
وقال في مسألة قادر: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، وقال: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ(54)}[الروم].
وفي مسألة عالم: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(282)}[البقرة].
وفي مسألة حي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255].
وفي مسألة سميع بصير: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46)} [طه].
وفي مسألة قديم: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد:3]، وذلك يفيد معنى القديم.
وفي مسألة نفي التشبيه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وإذا لم يكن مثلَه شيءٌ فليس بمشبه للأشياء.
وفي مسألة غني: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ}[محمد:38]، وقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]، وفي ذلك معنى الغنى وزيادة.
وفي مسألة نفي الرؤية: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(103)} [الأنعام].
وفي مسألة نفي الثاني: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}[المائدة:73]، فهذه جل مسائل التوحيد.
[ذكر شواهد على مسائل العدل جملة من الكتاب]
ثم يتبع ذلك مسائل العدل على الترتيب:
قال الله تعالى، في مسألة نفي الظلم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(44)} [يونس:44]، وما تقدم([60]) من الكلام في مسألة غني، وما تقدم من الكلام في مسألة عالم.
وقوله تعالى {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(2)}[التحريم]، وإذا كان عليماً حكيماً فُقد داعيه إلى القبح، وقام الصَّارف عن القبيح على أبلغ الوجوه فلا يقع أصلاً؛ سيما مع تأكيده بقوله تعالى: {لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا}[يونس:44]... الآية.
وفي أنه لا يقضي بالمعاصي قوله: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}[غافر:20]، والمعاصي باطل، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}[ص:27]، معناه للباطل، والله أعلم.
وفي مسألة أنه تعالى لا يكلف ما لا يطاق قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}[الطلاق:7]، و {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
وفي مسألة أنه تعالى لا يريد الظلم،ولا يرضى الكفر، ولا يحب الفساد قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ(31)}[غافر:31]، والرضى والمحبَّة راجعان إلى الإرادة([61]).
وفي مسألة الإمتحان بالأمراض قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}[الأنبياء:35]، وقوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ(126)}[التوبة]، معناه يمتحنون بالأمراض وسائر الإمتحان، فسره الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-
____________________
([60]) ـ لأن الله عز وجل عالم بجميع المعلومات ومن جملتها الظلم، وغني عن كل شيء ومن جملة ما هو غني عنه الظلم ؛ لأنه لا يقدم على فعل القبيح أو الظلم إلا من كان جاهلاً محتاجاً، والله عالم غني؛ فهو لا يفعل الظلم، وسيأتي ذلك في باب مسائل العدل إن شاء الله تعالى.
([61]) - وخامسها: سأل أيده الله عن معنى رضا الله وسخطه، والإرادة منه لا تتقدم فعله، وقد ثبت أنه قد رضي وغضب؟.
وفي مسألة أن القرآن منزل من عنده على رسوله وعبده -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قوله تعالى فيه: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80)} [الواقعة]، وقوله تعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)} [فصلت]، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23]، معنى متشابهاً: يشبه بعضه بعضاً في جزالة الألفاظ وجودة المعاني، وصحة المباني، لا ما يتوهمه المبطلون، ويظنه الجاهلون، والله بعد ذلك أعلم.
وفي مسألة أن محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- نبي مرسل قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29].
وفي دلالة صدقه، وظهور المعجز عليه، قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ(34)}[الطور]، فلما لم يقدروا على الإتيان بمثله علم أنه من عند الله -تعالى- فهذا هو الذكر في مسائل العدل.
---
الجواب عن ذلك : أن معنى رضاه للشيء إرادته، ومعنى غضبه منه كراهته له ؛ والرضا والغضب لا يتعلقان بشيء من أفعاله سبحانه، فيلزم ما سأل عنه أيده الله، وإنما يتعلقان بأفعالنا، وإرادته لأفعالنا متقدمة لها، وكذلك كراهته لأفعالنا ؛ لأن كراهته للواجب من أفعالنا ألطاف التكليف.
وكذلك كراهته لقبيح أفعالنا حد الألطاف الصوارف لأن من حق اللطف أن يتقدم على ما هو لطف فيه، فهذا ما يحتمله هذا المكان ومن الله نستمد التوفيق.
[ذكر شواهد على مسائل الوعد والوعيد جملة من الكتاب]
ثم يتبع ذلك الذكر في مسائل الوعد والوعيد:
قال تعالى في أن من توعده بالنار صائراً إليها لا محالة، ومن وعده بالجنَّة صائراً إليها لا محالة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(9)}[آل عمران] ، وقوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ}[الأنعام:73] ، وإخلاف الوعيد كذب، والكذب قبيح، والقبيح لا يكون حقاً.
وفي مسألة نفي الشفاعة لمن يستحق النار من الفساق والكفار قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ(18)}[غافر] ، فلو شفع -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لم يخل الحال من أحد أمرين: إما أن يطاع فيبطل معنى الآية، وإما أن لا يطاع فتسقط منزلته، وكلا الأمرين باطل.
وفي أن الفاسق لا يسمى مؤمناً قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ(18)} [السجدة] ، ففرق بينهما، ولا يجمع بين ما فرق الله بينه؛ لأن ذلك لا يجوز، وبقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)} [الأنفال] ، والفاسق بخلاف هذا كله.
والدليل على أنه لا يسمى كافراً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(9)} [التحريم] ، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات:6] ، فدل على خروجه من القسمين الأولين لأنه لا يأتيهم مع إقامتهم للحرب عليه.
فإن قيل: فلم نعلم منه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- جهاداً للمنافقين.
قلنا: بعد نزول هذه الآية لم يدع أحداً من أهل النفاق على نفاقه، بل يجاهده ويغلظ عليه لأنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أتبعُ الخلق لأمر ربِّه، وأطوعُهم لخالقه.
فإن قيل: إنهم تستروا عنه حتى لم يظهر على شيءٍ من أمرهم.
فذلك جائز، فأكثر ما كان يعمل مع الفساق يقيم عليهم الحدود فيما يوجب الحدود؛ لأنه لم يكن لهم شوكة تجيز قتالهم كما كانوا في وقت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- ومن ثم إلى يومنا هذا تقوت شوكتهم، فالله المستعان.
وإقامة الحد لا تكون مجاهدة، لأن المجاهدة مفاعلة فلا تكون إلا بين اثنين وفيها مشقة تلحق كل واحد منهما؛ هذا في أصل اللغة.
فأما العرف: فلأنّا نعلم أن الإمام إذا أقام الحد على إنسان لم يقل: إن فلاناً جاهد الإمام، وإنما يقال: أقام الحد عليه، والفاسق على وجهين: فاسق من جهة التأويل، ومن جهة التصريح، ولا وجه لتفصيل ذكره ها هنا.
[ذكر شاهد -على مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- من الكتاب]
وفي مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104)}[آل عمران] ، وهذا الأمر يقتضي الوجوب.
[ذكر شاهد -على أن الإمام بعد رسول الله (ص) بلا فصل أمير المؤمنين(ع) من الكتاب]
وفي مسألة الدلالة على أن الإمام بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بلا فصل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام-، قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)} [المائدة] فهذه الآية، توجب الولاية في جميع الأوقات، إلا ما خصَّه الدليل، وهي أوقات رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فثبت أنه الإمام بعده دون جميع البشر.
[الأدلة على إمامة الحسنين بعد والدهما(ع)]
وفي مسألة أن الإمام بعده ولداه الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام-:
[الدليل الأول: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ....}]
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ(21)}[الطور] .
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله -تعالى- قد أخبرنا فيها أن الذرية إذا اتبعت الآباء ألحقهم بهم وهو سبحانه لغناه وعلمه لا يخبر إلا بالحق.
وتحرير ذلك بطريقة التقسيم: أنَّا نقول([1]): لا يخلو إما أن يلحقهم تعالى بهم كما قال أو لايلحقهم.
وإن ألحقهم بهم فلا يخلو: إما أن يلحقهم بهم في أحكام الدنيا دون أحكام الآخرة، أو في حكم الآخرة دون أحكام الدنيا، أو في مجموع أحكام الدارين، وهذه القسمة كما ترى، دائرة بين النفي والإثبات، وذلك دلالة الصحة بالإضطرار.
باطل أن لا يلحقهم بهم في شيءٍ من ذلك لأنه قد أخبر بإلحاقه لهم بهم وخبره حق، لما يأتي بيانه في أبواب العدل، فثبت أنه تعالى يلحقهم بهم.
ثم لا يخلو: إما أن يُلحقهم بهم في أحكام الآخرة، أو في أحكام الدنيا، ولا واسطة بين الحكمين؛ فلزم أن لا بد من أحدهما.
_____________________
([1])ـ وفي نسخة: لا يخلو إما أن يلحقهم بهم في أيام الدنيا دون أحكام الآخرة أو في حكم الآخرة دون أحكام الدنيا أو في مجموع أحكام الدارين. انتهى.
قلنا: ولا يجوز أن يريد سبحانه بذكر إلحاقهم بهم في أحكام الآخرة لأمرين:
أحدهما: القرينة اللفظية في آخر الآية وهو قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ(21)}[الطور] ، فثبت بذلك أن أحداً لا يلحقه حكم أبيه في الآخرة، وقد خالفتنا([2]) في ذلك المجبرة، ولا وجه لذكر خلافهم ها هنا.
والثاني: القرينة المعنوية في وسط الآية وهي قوله تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}[الطور:21] ، فنبَّه سبحانه بذلك على أنه يريد الإلحاق في أحكام الدنيا؛ لأن الألت في أصل اللغة هو النقص ، والنقص من عمل العامل لا يجوز عليه سبحانه، فلزم من ذلك أن أولادهم لا يشركون في أحكامهم الأخروية، لأن التبعيض يوجب النقص بالإتفاق؛ ولأن ثواب العمل لا يستحقه إلا عَامِله، خلافاً للمجبرة على ما ذلك مقرر في مواضعه من كتب العدل.
ولا يجوز أن يلحقهم بهم سبحانه في مجموع الأمرين من أحكام الدنيا والآخرة، لما بينا من الموانع أن يراد بذلك أحكام الآخرة، فلم يبق إلا أن المراد بذلك إلحاقه لهم بهم في أحكام الدنيا، وإلا تعرت الآية الشريفة من الفائدة رأساً، وذلك لا يجوز، فلم يبق إلا أن المراد بذلك إلحاقه سبحانه لهم بأبائهم في أحكام الدنيا فيما عليهم ولهم، فبذلك قضى الله تعالى على أولاد الأرقاء بالرق في هذه الدنيا وهو حكم آبائهم ليصبروا، وقضى لأولاد الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- بالإمامة والزعامة إلحاقاً لهم بحكم آبائهم ليشكروا، فمن شكر من هؤلاء أُجر، ومن صبر من أولئك أُجر، ومن كفر من هؤلاء ثبر([3]) ، ومن جزع من أولئك دحر([4]) ، فلا وجه لمتأمل ينكر به ما ذكرنا من وجوه الإستدلال، والحمد لله.
_______________________
([2]) ـ في (ن): خالفنا.
([3]) ـ التثبير هو: المنع، والصرف عن الأمر، والتخييب، واللعن، والطرد.
([4])- الدحر: الطرد والإبعاد، والدفع.
فإذا كان ذلك كذلك وقد ثبت للأب الذي هو أمير المؤمنين -صلوات الله عليه وآله وسلم- تصرف عام على الكافة في أمور مخصوصة يتبعها أحكام مخصوصة؛ ثبت مثل ذلك لولديه الحسن والحسين -صلوات الله عليهما- ولأولادهما من بعدهما -عَلَيْهم السَّلام-، على ما يأتي بيانه إنشاء الله تعالى.
[الدليل الثاني: قوله تعالى : ((قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ))]
ومما يؤيد ما قلنا: قول الله -تعالى- في خليله إبراهيم -صلوات الله عليه-: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124)}[البقرة] .
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أنَّا نعلم وكل عاقل متأمل أن الله -تعالى- إستجاب دعوة خليله إبراهيم، لأن الإمامة بإجماع كافة أهل الشرائع؛ لم تخرج عن ذرية إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- من يوم دعوته -صلى الله عليه- إلى يومنا وإلى يوم الدين، وإنما كانت في إسماعيل وإسحاق، والكل بالإتفاق ذرية إبراهيم، وذلك ثابت لمن خصَّه الله به من ولد إسماعيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وبهذا([5]) بطل قول الإمامية والباطنية بأن الإمامة مستقرة في ولد الحسين ولا يجوز رجوعها بعد ذلك إلى الحسن، لأن رجوعها إلى ولد إسماعيل ثابت بإجماع كافة المسلمين ، وكان يلزمهم على هذا الوجه أن تستقر في ولد الحسن ولا ترجع إلى ولد الحسين -عَلَيْه السَّلام-، وإن كنا لا نقول بذلك وإنما ألزمناهم على قولهم كما ثبت مثل ذلك في ولد إسماعيل ، ولا سبيل لهم إلى نقض هذا الأصل إلا بالإنسلاخ ظاهراً عن الدين ، وإنما نبَّه تعالى بقوله : {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124)}[البقرة] ، على أنه لا حق للظالمين فيها، لأنهم بظلمهم لأنفسهم يمنعون من أقل ما يستحقه آحاد المسلمين من سهام المجاهدين، وخمس غنيمة الغانمين، فكيف يطلق لهم ما فوق ذلك من التصرف العام في جميع العالم؟! ، ذلك مما تأباه العقول، ويمنع منه الدليل، وهذا بحمد الله ظاهر للمتوسمين، فوجب ثبوتها للمؤمنين، وإلحاقه سبحانه لأبنائهم بهم في أحكام الدنيا، إلا ما خصَّه الدليل، إلى يوم الدين.
______________________
([5]) ـ في (ن): ولهذا يبطل قول الإمامية والباطنية.
[الدلالة من العقل على وجوب استجابة دعوة الأنبياء على رب العالمين]
وما يدل على وجوب إستجابة دعوة الأنبياء على ربِّ العالمين بدلالة العقل: أن مراده تعالى في بعثتهم أن يَتَّبِعَهم العالَمُون، ولا ينكر ذلك أحد من المسلمين، فلو لم يستجب دعوتهم لنفر ذلك عنهم الراغبين، والمصغين إليهم من المسترشدين، وذلك يعود على مراده في بعثهم بالنقض والإبطال؛ وذلك لا يجوز ، لأنه يكون عبثاً، والعبث قبيح، والله -تعالى- لا يفعل القبيح على ما ذلك مقرر في كتب علم الكلام.
ومثاله في الشاهد: أن رجلاً لو أتى إلينا وادعا أنه خاصَّة الملك وأتى على ذلك بالشهود، ثم رأيناه يسأل الملك أمراً هو عليه هين ولا مانع له منه، ثم لم يعطه إياه ولا يقبل عليه فيه، فإنه يسقط من أعيننا، ومنزلته لدينا، وإن كان الملك قد صدقه في دعواه الأولة بحضرتنا علمنا أنه قد بدى له منه ما يوجب الإستخفاف به، فيكون ذلك أقوى للصرف عن الإتباع له؛ والإصغاء إليه، ومثل ذلك لا يجوز عليه تعالى.
[شبهة في دعاء إبراهيم لآزر والجواب عليها]
فإن قيل: أفليس قد دعا إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- لأبيه فلم تستجب دعوته؟!.
قلنا: إنما دعا لأبيه مشروطاً بسلامة الحال، والإستمرار على الإنابة إلى ذي الجلال، وذلك ظاهر؛ لأنه سبحانه أخبر أن دعاه كان لوعده له أنه إن دعى([6]) له تاب إلى الله -تعالى- فلما علم خليله أن وعده مدخول، وعزمه منقوض، وأنه لا خير فيه، فتبرأ عنه عند ذلك وأبدى له البغضاء، وأوصل إليه -عَلَيْه السَّلام- ما أمكنه من منافع الدنيا، والدعاء المشروط لا يجاب إلا بعد الإتيان بالشرط، فافهم ما سألت عنه موفقاً.
[شبهة؛ هل تقف أفعاله تعالى على شروط تحصل من قبلنا؟ والجواب عليها]
فإن قيل: كيف يقف ما ذكرتم من إلحاق الله -سبحانه وتعالى- للأبناء بالآباء كما ذكرتم في أحكام الدنيا على شرط؟، وهل تقف أفعاله تعالى على شروط تحصل من قبلنا؟.
_________________________
([6])- لقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ(114)} [التوبة].
قلنا: نعم؛ وذلك ظاهر لأن الأمر فيه أعم، لأن أكثر أحكامه سبحانه فينا وعلينا في الآخرة والدنيا، موقوف على أفعالنا، ألا تسمع إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد:17] ؟!، فشرط سبحانه شرطاً معنوياً لزيادة الهدى الذي هو من فعله بوقوع الإهتداء الذي هو من فعلنا ، ولأن حكمه علينا بالإيمان تابع للإيمان الذي هو فعلنا وهذا ظاهر، فلا وجه للإطالة فيه.
[شبهة في أن الاستدلال بآية :{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ..إلخ يوجب ثبوت الأمر لجميع أولاد علي(ع) والجواب عليها]
فإن قيل: فإن سلم لكم إستدلالكم فيما تقدم بما قدمتم من البراهين فها هنا أمر نأتي به يهدم قاعدة بنيانكم، وهو: أن إستدلالكم في هذه الآية يوجب ثبوت الأمر لجميع أولاد علي -عليه وعليهم السلام-، فإما أن تثبتوا الإمامة للجميع، وإما أن تنقضوا ما قدمتم.
[الجواب في تخصيص أولاد الحسن والحسين(ع) بالإمامة]
قلنا: عن هذا السؤال جوابان، جدلي، وعلمي:
أما الجدلي([7]): فهو أن أحداً من أولاد علي -عَلَيْه السَّلام- سوى ولد الحسن و الحسين -عَلَيْهم السَّلام- لم يدعها لنفسه من لدن علي -عَلَيْه السَّلام- إلى يومنا هذا، مع سلامة الأحوال وتراخي الأعصار، وقد كان فيهم -رضي الله عنهم- من بلغ الغاية القصوى في الفضل والعلم وجميع الخصال، فلولا علمهم بأنَّ الإمامَّة في غيرهم لادعوها كما ادعاها غيرهم بجهله، فأبطل آباؤنا عليكم ومن تابعهم بالأدلة دعواه، ودعوى من يدعي لهم لا تقبل لو كان في عرض يساوي ربع درهم، فكيف ألا تقبل في الإستحقاق ووراثة النبوءة، لأن الدعوى للغير في الشرع لا تسمع إذا كانت عن غير ولاية ولا وكالة له، فكيف بطالب تصحيحها؟!.
فإن قيل: فإن ادعاها مُدعٍ منهم الآن؟.
_______________________
([7]) - وسادسها: سأل عن الجدلي ما هو ، وما معناه؟
الجواب : أن الجدلي هو ما تقطع به خصمك بما سلمه وإن كان لا يوصلك إلى العلم ، كما أن المطرفي يخص فعل العبد في حركة وسكون ، ونحن نقول فعل العبد سواهما ؛ فإن قال : لا ، قلنا : أخبرنا الألم بحركة أو سكون ، أو كل الفعل أو بعضه ؛ فإن كان سكوناً بطل بضده ، وكذلك إن كان حركة .
ونقول : هل العلم حركة أو سكون ؟ وهل الجمع ، وهل التأليف ، وهل الظن ، وهل الإرادة ، وكل شيء من هذا، نقطعه ولكنه لا يوصل إلى العلم ، وإنما يوصل إليه الدليل العلمي .
قلنا: تبطل دعوا ه بإجماع السلف السابق من الفريقين -عَلَيْهم السَّلام- على أن الإمامة مقصورة على ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- بعد بطلان قول أصحاب النص، وسنذكر بطلانه فيما بعد إنشاء الله -تعالى- والإجماع آكد الدلالة.
فإن قال: وما الطريق إلى الإجماع على ذلك؟.
قلنا: تراخي الأعصار مع سلامة الحال، وكون ذلك مما على الجميع فيه التكليف، ولم يظهر دعوى الجواز فضلاً عن الوقوع وبهذه الطريقة يعلم الإجماع في سائر الأمور؛ بل هي أقوى طرق الإجماع على ما ذلك مقرر في كتابنا الموسوم -بصفوة الإختيار- في أصول الفقه وغيره، فمن ادعى ذلك الآن منهم لم يتبع سلفه الصالح -رضي الله عنهم- بإيمان، وقد بينا أن الإلحاق مشروط بالإيمان.
وأما بالطريقة العلميَّة، فنقول: إن الإستدلال بالآية عام، كما ذكرتم، وكان يقتضي دخول الكافة فيه، ولكن ها هنا دليل أوجب تخصيص العموم، وتخصيص العموم بأدلة جائز.
فإن قيل: وما ذلك الدليل؟.
قلنا: إجماع العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- على أن الإمامة مقصورة عليهم؛ دون غيرهم من سائر الناس، وإجماعهم حجَّة، لما يأتي بيانه، والإجماع آكد الدلالة.
فإن قيل: إن إجماعهم حجَّة فيما يرجع إلى غيرهم.
قلنا: هذا تخصيص بغير دليل وذلك لا يجوز، ولأن الشاهد لهم، الذي قضى بصحَّة دعواهم لأنفسهم، غيرهم وهو النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ألا ترى أنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لو قال فلان صادق في جميع القول لصدقناه، وإن إدعى لنفسه على غيره بقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - لصدق المدعي لنفسه ما قال، وهو -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - أصدق الشاهدين، وصدِّيق الصَّادقين، لا ينكر ذلك أحد من المؤمنين؛ لأن دلالة([8]) إجماعهم عمت ولم تخص، فهذا القول يؤدي إلى نقضها وذلك لا يجوز؛ لأن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أمر باتباعهم عموماً في الأقوال والأفعال، ولم يخص حالاً من حال ، وأمَّن في إتباعهم من مواقعة الضلال، ولأن هذا يفتح باب الجهالات، ويسد طريقة الإجماع وذلك باطل ، لأن أكثر ما أجمعت عليه الأمَّة إنما وقع في أمور ترجع إليها، فكما لا يجوز الإعتراض بذلك على الأمَّة لا يجوز على العترة -عَلَيْهم السَّلام-، وفيما تقدم كفاية لمن تأمّله.
[الأدلة على أن الإمامة محصورة في أولاد الحسن والحسين(ع)]
[الدليل الأول آية الإجتباء]
وفي مسألة أن الإمامة محصورة في أولادهما، قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[الحج:78] .
______________
([8]) ـ في (ن): لأن أدلة.
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله -تعالى- أمر أولاد إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- أمراً ظاهراً بالجهاد في الله -تعالى- حق الجهاد، ولا يكون ذلك كذلك إلا بتجييش الجيوش، وعقد المراكب ، وشن الغارات، وحمل من عصى الله -تعالى- على طاعته حتى يتمحض الجهاد فيه عز وجل، ويتعرى عن غرض آخر بجميع وجوه الإمكان، من شدة ولين، وإقامة الحدود، وحفظ البيضة ، وسد الثغور، وسياسة الجمهور، وقتل المحاربين، وسَوق الهاربين، وأخذ أموال الله -تعالى- ممن وجبت عليه طوعاً وكرهاً، وصرفها في مستحقها، إلى غير ذلك من سائر أنواع أعمال الإمامة، وإنما قلنا ذلك لأنه لا يعقل من إطلاق الجهاد في الله - تعالى - حق الجهاد إلا ما قدمنا، بدليل أنه لايجوز أن يقول القائل إن فلاناً حارب أعداء الله -تعالى- فشن عليهم الغارات، وقاد إليهم المقانب([9])، ونصب لهم المكائد، وأدار في حربهم أنواع الحِيَل ، وهجر له النوم، وجمع العدة ، ورتب الأمر فيه على مقتضى حكم السياسة ولم يجاهدهم مع ذلك حق الجهاد؛ بل ينفي ما قدمنا، ويقول القائل: إنه جاهدهم حق الجهاد ، فثبت أن المجاهدة في الله -تعالى- حق جهاده الواجب فيه لا يكون إلا بما قدمنا ذكره وبمثل([10]) ذلك تعرف الحقائق في كل أمر.
_______________
([9]) - المقانب: جمع مقنب وهو طائفة من الخيل مابين الثلاثين إلى الأربعين.
([10])ـ في (ن) : ومثل.
وكما أن هذا يدل على ما ذكرنا هو أيضاً يدل على بطلان دعوى من يدعي الإمامة لمغلق الباب مِرخي الستر، لأن أقل أحوال من يستحق الإمامة أن يشهر نفسه، ويظهر للخاص والعام أمره، حتى تسقط الحجة عنه، ويتعلق الفرض بغيره، فإذا كان ما ذكرنا وكان سبحانه وتعالى قد أمر بذلك والأمر يقتضي الوجوب، لأن ترك مقتضى الأمر معصية، ومعصية الحكيم -تعالى- لا تجوز، فلا يخلو: إما أن يريد سبحانه ذلك من كل ولد إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- أو من بعضهم، وباطل أن يريد سبحانه ذلك من كلهم؛ لأن اليهود والنصارى والكفار والفساق منهم، يجب أن يُجَاهدوا بدليل آيات الكتاب الكريم وإجماع الأمة والعترة - عليهم السلام- على ذلك ؛ فكيف يُجَاهِدُ في الله من يجب جِهَادُه لله؟!، ولا يخفى هذا على عاقل، فبقي أن المراد بمقتضى الآية بعضهم دون كلهم، ولأن الآية مخصوصة.
قلنا: وباطل أن يراد بذلك سائر القبائل من مسلمي ولد إبراهيم -عَلَيْه السَّلام-؛ لأن جميع ما ذكرنا من الجهاد في الله -سبحانه-حق الجهاد؛ لا يكون إلا للأئمة بالإجماع من العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- والأمة؛ لأن الأمة وإن خالف بعضُها العترةَ الطاهرة في نصب الإمامة ؛ فالكل مجمع على أن إقامة الحدود، وتجييش الجيوش إلى سائر ما ذكرنا لا يجوز إلا للأئمة دون غيرهم ، فثبت أن مقتضى الآية يفيد معنى الإمامة.
[الكلام في خبر : ((الأئمة من قريش))]
ولا يجوز ثبوت الإمامة لسائر القبائل من ولد إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- لقول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الأئمة من قريش))، فخصهم بالذكر دون قبائل ولد إبراهيم -عَلَيْه السَّلام-.
والكلام في هذا الخبر يقع في موضعين:
أحدهما في صحته.
والثاني في وجه الإستدلال به.
أما الكلام في صحته: فلا خلاف بين أهل العلم من الأئمة([11]) والأمة أنه احتجّ به أبوبكر يوم السقيفة، وأنه ظهر بين كافة الصحابة فلم ينكره أحد؛ مع تضمنه لأمر مهم من أمر الدين، فجرى مجرى الأخبار التي ___________________
([11])- قد استكمل البحث في حديث ((الأئمة من قريش)): الإمام الحافظ الحجة الولي مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله وأبقاه في كتاب مجمع الفوائد، وذكر تخريجه من كتب أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، ومن كتب العامة، وأسهب وأطال في تخريجه وفي الكلام على صحته، وتخريج ألفاظه بروايات اتفق عليها الموالف والمخالف، وسنذكر بعض من رواه على جهة الإختصار:
فممن رواه إمام الأئمة الإمام زيد بن علي عليه السلام في مجموعه، ورواه في الجامع الكافي عن محمد بن منصور المرادي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- أنه قال : ((الأئمة من قريش ما إذا حكموا فعدلوا ، وإذا اقتسموا أقسطوا ، وإذا استُرحموا رحموا ، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) .
ورواه الطبراني في الأوسط (5/71) رقم (6610) عن أنس بلفظ : ((الأئمة من قريش ولي عليكم حق عظيم ، ولهم ذلك ما فعلوا ثلاثاً : إذا استُرحموا رحموا ، وإذا حكموا عدلوا ، وإذا عاهدوا وفوا ، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) وفي الأوسط أيضاً من طريق أخرى بلفظ آخر (2/353) رقم (3521) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/195) وعزاه إلى الصغير، ورواه في نهج البلاغة.
ورواه في البخاري عن ابن عمر بلفظ ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)) وقد ترجم بلفظ باب الأمراء من قريش.
ورواه الطبراني بلفظ ((الأئمة من قريش)) ورواه أيضاً في فتح الباري لابن حجر العسقلاني من حديث قال في آخره ((الأمراء من قريش)).
وأخرجه الطبراني والطيالسي والبزار والمصنف في التاريخ، عن أنس بلفظ ((الأئمة من قريش ما إذا حكموا فعدلوا))، وأخرجه النسائي والبخاري في التاريخ وأبو يعلى من طريق بكير الجزري عن أنس.
ومن أراد إكمال البحث في هذا الخبر وصحته، فليرجع إلى ص277 من مجمع الفوائد.
يقع الإجتماع على مقتضاها كخبر عبدالرحمن بن عوف في قصة المجوس([12]) وغيره.
وأما وجه الإستدلال به: فظاهر لأنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خص قريشاً بأن الأئمة منهم دون سائر القبائل من مسلمي ولد إبراهيم -عَلَيْه السَّلام-؛ فخرج من سواهم عن ذلك بدلالة الخبر.
[بيان بطلان استدلال المعتزلة بخبر((الأئمة من قريش)) على صحة الإمامة في جميع قريش]
فإن قيل: فهذا الخبر كما يدل على ما ذكرتم هو دليل على ما ذهبت إليه المعتزلة في صحة الإمامة في جميع قريش دون غيرهم، بل هو عمدتهم في الإستدلال.
قلنا: بل هو بعينه دليل على نفي ما ذهبت إليه المعتزلة؛ لأن قوله عليه وآله السلام: ((الأئمة من قريش))، يدل على أنهم بعض قريش، وذلك قولنا؛ لأن أولاد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- أشرف أبعاض قريش، لأن أكثر ما يقولون فيه إن (مِنْ) هاهنا لبيان الجنس، ونحن لا نأبى ذلك؛ لأن ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- من صميم جنس قريش، فسقط من أيديهم ظاهر الخبر.
ثم نقول مع ذلك: كما أنها تدل على الجنس هي تدل على البعض، ولا تنافي بين المعنيين فوجب حملها على مجموعهما؛ لأن إطراح أحد المعنيين يكون إطراحاً لمعنى كلام النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بغير مانع، وذلك لا يجوز، فبطل ما قالوه؛ ألا ترى أن سائر القبائل من ولد إبراهيم - عليه السلام- وغيرهم من الأنصار وسائر العرب؛ لما انحَسَم([13]) طمعهم في الإمامة لدلالة الخبر بقي أهل الأمر من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وأتباعهم على دعواهم، في أن الأمر لهم دون سواهم، من سائر أبيات قريش حتى وقع القهر الذي لايدل على صحة صحيح، ولا بطلان باطل.
_______________________
([12]) - وهو أن عمر قال : ما أدري ما أصنع في أمر المجوس وكثرت مساءلته عن ذلك حتى روى عبدالرحمن بن عوف عنه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- أنه قال : ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم)) . انتهى .
([13]) - انحسم : أي انقطع .
وقولنا لا يدفعه عاقل متأمل، لأن ولد الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- من قريش فثبتت الجنسية، وهم بعض قريش فوجب التخصيص، ألا ترى أن قول القائل: هذا الخاتم من فضة كما يدل على أن جنس الخاتم العين المخصوصة المسماة فضة، يدل بنفسه على أنه بعض الفضة؛ بل يستحيل خلافه ، ومثل ذلك يلزم فيما قدمنا، لاستحالة صحة الإمامة في جميع قريش؛ لأن أكثرهم لا تجوز إمامته بإجماع الأمة؛ كالمجاهرين وفساق المتأولين ؛ فصحّ أن المراد بمقتضى الآية على الترتيب الذي ذكرناه ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- دون غيرهم.
[بيان بطلان قول من أثبت الإمامة لبعض قريش دون ولد الحسن والحسين(ع)]
فإن قيل: فما تنكرون على من يحتجّ بحجتكم هذه فيثبت الإمامة لبعض قريش دون ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- ويقصرها عليهم ويأتي بإستدلالكم على نسقه؟.
قلنا: ذلك باطل لوجهين:
أحدهما: أنه لا قائل بهذا القول من الأمة؛ فإحداثه يكون إتباعاً لغير سبيلهم وذلك لا يجوز.
والثاني: إجماع الأمة على صحتها فيهم، واختلافهم فيمن سواهم، والإجماع آكد الدلالة؛ فثبت أن الإمامة مقصورة -بما قدمنا من الآية- على ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام-، فتأمّل -رحمك الله تعالى - هذه الآية من كتاب الله ما أدقها، وأخطارها ما أجلها، وبراهينها ما أظهرها، ولو استقصينا ما نعلم من معاني هذه الآية، وما تشتمل عليه من الأدلة ، ويتعلق بها من الأغراض الشريفة، لما أتينا على جميع ذلك إلا في مدة طائلة، لأنها - أعني الآية الشريفة - كما تدل على صحة الإمامة في آل البيت -عَلَيْهم السَّلام-؛ هي بعينها تدل على أن إجماعهم حجة ؛ لأن الله - تعالى- أخبر في الآية أنه اجتباهم؛ والإجتباء هو الإختيار، وجعلهم له شهداء على الناس، وهو سبحانه لحكمته لا يجعل له شهداء على عباده إلا العدول، والعدول لا يقولون إلا الحق، والحق لا يجوز خلافه، ونحن لا نريد الحجة إلا ما يجب إتباعه، ويحرم خلافه؛ فثبت بذلك أن إجماعهم حجة، وسنبسط الكلام فيه فيما بعد إنشاء الله، تعالى.
فهذا كما ترى إشارة إلى ما ذكرنا من سعة معاني كتاب الله -تعالى- فالحمد لله الذي جعلنا من ورثة كتابه وقرنه بنا، وقرننا به؛ حمداً كثيراً.
[ذكر شاهد -على وجوب الولاء والبراء- من الكتاب]
وفي وجوب الولاء والبراء: قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المجادلة:22] .
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله -تعالى- نفى الإيمان عمَّن ودَّ مَنْ حادَّ الله -سبحانه- ورسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من قريب وبعيد على سبيل العموم؛ بل قد زاد سبحانه ذلك بياناً بذكر الآباء ولا أخص منهم،والأبناء ولا أقرب منهم، والإخوان ولا أولى منهم، والعشيرة ولا أدنى منهم، فكيف بمن سواهم؟!.
فصل: [في ذكر طرف من معنى الولاء والبراء]
وإذ قد ذكرنا الولاء والبراء فلنذكر طرفاً من معناهما؛ لأن أكثر الناس إنما أُتي من الجهل بمعاني كتاب الله -سبحانه-، وقلّة الفزع إلى عترة نبيه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الذين هم تراجمة الكتاب، وأولى الناس بالهدى والصواب، واستغنائهِ بعلم نفسه بزعمه عن علم أهل ذلك النصاب، الذين جعلهم الله -سبحانه- لبَّ اللباب، وقرنهم بالكتاب.
[بيان أن الموالاة والمعاداة لا تكونان إلا بالقلب]
إعلم؛ وفقنا الله وإياك: أن الولاء والبراء يعودان في التحقيق إلى المحبَّة بالقلب والقصد والإرادة والرضى، ومعنى ذلك أن تحب للولي ما تحب لنفسك من أنواع الخير في الدنيا والآخرة، وتكره له ما تكره لنفسك من شرور الدنيا والآخرة لمجرد إيمانه، وإن لم يصل إليك نفع من قبله، والعاصي بالعكس من ذلك إلا في أمر الدنيا؛ فلا تكره ما وصل إليه من نعم الله -تعالى- لأنك لو كرهتها كرهت ما أراد الله - تعالى-، ولا يجوز لأحد أن يكره مراد الحكيم؛ لأنه سبحانه يكمل عليهم النعمة في الدنيا ليلزمهم الحجة في الآخرة، كما قدمنا في مسألة الأرزاق، ويكره له جميع خيرات الآخرة بشرط موته على معصية ربِّه؛ لأن الله -تعالى- يكره أن يوصل إليه خير الآخرة، فتكون إذ ذاك في الحالين مطابقاً لمراد مولاك الحكيم - سبحانه - وتحب له التوبة والرجوع إلى الله -تعالى- وهي من أجل خير الدنيا؛ بل يبذل الجهد، ويستفرغ الوسع في حصولها لكل أحد؛ لأن الله - تعالى- أمر بذلك، وهو لا يأمر إلا بما يريد ويحب؛ فبذلك يتضح لك أن الإحسان إلى العاصي لا يكون موالاة عند أهل العلم من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وأتباعهم من العلماء -رضي الله عنهم-؛ لأن الله -تعالى- محسن إلى الكفار والفساق بالأنواع الجلية الواجبة الشكر في الدنيا نحو الحيوة والصحة اللتين ترجُحان بالدنيا وما فيها لو قُوِّما، والأموال، والأولاد، والإمهال بعد الإستحقاق للنقمة ، الذي يتمكن معه من أراد الرجوع من الرجعة والتوبة؛ ولهذا يجب عليهم شكره تعالى في جميع الأوقات.
ولا يجوز إطلاق القول بأنه تعالى مُوَالٍ لهم؛ بل ربما يقرب هذا القول من الكفر ممن قال به؛ لأنه رد لظواهر الكتاب والسنة التي لا تحتمل التأويل؛ فصح الفرق بين الأمرين بأجلى برهان؛ ولأن المعلوم من حال النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه كان يحسن إلى الكافة ممن أمكنه الإحسان إليه من مؤمن وكافر، وبر وفاجر؛ بل كان ذلك خلقه وسجيته يذكره أولياؤه، فلا ينكره أعداؤه.
ولا يجوز إطلاق القول بأن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان موالياً لهم، وقد قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(8)إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)}[الإنسان:8-9] ، روي أن هذه الآيات، نزلت في السبَّاق إلى الخيرات ، علي بن أبي طالب - عليه السلام-، ولا شك أن الأسير في تلك الحال لا يكون إلا مشركاً، وعلي -عليه السلام- غير موال للمشركين؛ بل هو أشدّ الناس لهم عداوة بعد الرسول الأمين -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فصح أن الموالاة والمعاداة يرجعان إلى البغضة والمحبَّة لا سيما وقد أيد الله -تعالى - ذلك بقوله: {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)}[الممتحنة]،
وهذا([14]) كما ترى تصريح منه سبحانه بأن برهم: وهو الإحسان إليهم، والإقساط: وهو العدل فيهم، مما يحب اللهُ فاعلَه، وهم لا شك في ذلك عند أهل العلم في تلك الحال كافرون؛ ولأن الله -تعالى- ورسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - كان قبل المهاجرة غير محارب لهم، وإنما كان داعيا كما أمر الله - تعالى - إلى سبيله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن؛ ولا يجوز وصفه -صلوات الله عليه- بأنه والى أحداً من المشركين طرفة عين، وقد صح بمجموع هذه الأدلة التي في بعضها كفاية لمن اكتفى أن الموالاة والمعاداة -التي هي المباراة- لا يكونان إلا بالقلب، ولا شك أن التعبد به أشق؛ لأنه مما يختص الله -سبحانه- بالإطلاع عليه؛ فيجب على العاقل أن يجتهد في أن قلبه لا يخلو من حب المؤمنين لمجرد إيمانهم، وإن لم يصل إليه منهم نفع، وفي بغض العاصين لمجرد معصيتهم، وإن لم يصل منهم ضرر؛ بل وإن وصل إليه منهم نفع ؛ لأن نفع الله له أجل، وحقه عليه أوجب، وإن لم يظهر شيئاً من ذلك؛ لأغراض صحيحة دينية إما رجاء توبتهم إلى الله تعالى وإقبالهم، وإما استكفى مضرتهم، إلى غير ذلك، هذا كله في غير وقت الإمام.
فأما في وقت الإمام ففرضُ كلِّ مؤمنٍ الإئتمارُ والتسليمُ له في المحبوب والمكروه، فقد رأيت كيف دلَّ السَّمعُ على جميع مسائل أصول الدين وفروعه وكان كما قال الله -سبحانه وتعالى- فيه:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] ، وكل مسألة مما قدمنا؛ عليها أدلة كثيرة، موجودة ظاهرة، من الكتاب الكريم، والسنة الشريفة الماضية، ولم نذكر معاني ما قدمنا الإحتجاج به من الآي؛ لأن أكثر مواضعها متأخرة في الترتيب، وأكثرها لا يصح الإحتجاج به ابتداءً إلا بعد الدلالة العقلية، وكان مقصودنا بما ذكرنا من الآيات التنبيه والإشارة إلا أثنى الإستدلال على إمامة الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- وأن الإمامة مقصورة على أولادهما، فقد ذكرنا في معانيهما وجوهاً كافية لمن طلب الهداية.
____________________
([14]) ـ في (ن): فهذا.
[ذكر حجج الله على خلقه]
فإن قال قائل: وكم حجج الله -تعالى- على خلقه التي جعلتم بعضها أصلاً وبعضها فرعاً وجعلتم جملتها مع ذلك في وجوب الإتباع واحدة؟.
قلنا: حجج الله -تعالى- على خلقه أربع:
أولها: العقل، وثانيها: الكتاب، وثالثها: السنة، ورابعها: الإجماع.
[بيان ما هو الإجماع وذكر أقسامه]
فإن قيل: وما الإجماع؟، وإلى كم ينقسم؟.
قلنا: الإجماع: هو الإتفاق على قول، أو فعل ، أو ترك، أو تقرير، ومعناه ظاهر في اللغة والشرع، وهو ينقسم إلى: إجماع الأمة، وإجماع العترة، وإجماع الأمة ينبني على إجماع العترة، ولا يصح بدونه، وإجماع العترة -عَلَيْهم السَّلام- لا يفتقر إلى إجماع الأمة؛ بل يصح بدونه؛ فإذا هم -عَلَيْهم السَّلام- أصل كل حق، وقرار([15]) كل صدق، ولا شك عند أهل البصائر الذين وفقهم الله -تعالى- للإقرار بفضلهم أنهم أصل الدين وقِوَامُه، وعمدَتُه ونظامُه، وشرفُه وتمامه، وولاتُه وحكامُه، ولكل واحد من الإجماعين حكم يخصه، وليس هذا موضع تفصيل الكلام فيه والتطويل بذكره؛ لأن موضع ذلك أصول الفقه، وقد أودعنا الكتاب الذي وسمناه بـ (صفوة الإختيار في أصول الفقه) ما يقنع كل طالب، ويشفي كل راغب ، فلا حاجة بنا ها هنا إلا إلى ذكر إجماع العترة -عَلَيْهم السَّلام-؛ لأنَّا قد قدمنا الوعد بذلك، وبعض ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب وتأخر مبنية عليه، فوجب لذلك ذكره ها هنا.
___________________
([15]) ـ في (ن): وقرارة كل صدق.
فمذهبنا أن إجماع العترة -عَلَيْهم السَّلام- حجة، وهو مذهب أتباعنا الزيدية، ومذهب الشيخين أبي علي([16]) وأبي عبدالله([17]) وأتباعهما من المعتزلة.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه من أن إجماعهم -عَلَيْهم السَّلام- حجَّة: الكتاب والسنة.
[الأدلة من الكتاب على حجيَّة إجماع أهل البيت(ع) ]
أما دلالة الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) }[الأحزاب] ، ولا بد من تقديم الدلالة على أنهم المرادون بقوله تعالى: {أَهْلَ الْبَيْتِ}[الأحزاب:33]، دون غيرهم لنبني الإستدلال على أصل مسَلَّم.
_________________
([16]) ـ أبو علي : محمد بن عبد الوهاب الجبائي ترجم له في الطبقة الثامنة من طبقات المعتزلة ، قال أبو بكر أحمد بن علي : وهو الذي سهل علم الكلام ويسره وذلَّله ..إلى قوله : ولم يتفق لأحد من إذعان سائر طبقات المعتزلة له بالتقدم والرياسة بعد أبي الهذيل مثله بل ما اتفق له هو أشهر أمراً وأظهر أثراً ، وكان شيخه أبا يعقوب الشحّام ولقي غيره من متكلمي زمانه .
وكان إذا روى عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- أنه قال لعلي والحسن والحسين : ((أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم)) يقول : العجب من هؤلاء النوابت يروون هذا الحديث ثم يقولون بمعاوية. وروى عن علي عليه السلام أن رجلين أتياه فقالا ائذن لنا نصير إلى معاوية فنستحله من دماء من قتلنا من أصحابه ، فقال -عَلَيْه السَّلام- : أما إن الله قد أحبط أعمالكما بندمكما على ما فعلتما.
قال أبو الحسن : وقد نقض كتاب عباد في تفضيل أبي بكر ولم ينقض كتاب الإسكافي المسمى المعيار والموازنة في تفضيل علي على أبي بكر . قال في كتاب شرح نهج البلاعة : وقال -أي قاضي القضاة-: إن أبا علي -رضي الله عنه- يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه وقد كان ضعف عن رفع الصوت فألقى إليه أشياء من جملتها القول بتفضيل علي -عَلَيْه السَّلام- .
توفي أبو علي سنة (303هـ) . انظر كتاب المنية والأمل شرح الملل والنحل ، ولوامع الأنوار للإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى وحفظه (1/586).
([17]) ـ أبو عبدالله: الحسين بن علي البصري ، أخذ عن أبي علي بن خلاد أولاً ثم أخذ عن أبي هاشم وكان شديد التقزز في الطهارة ، وكان من تلامذته من أهل البيت عليهم السلام أبو عبدالله الداعي وكان يميل إلى علي -عَلَيْه السَّلام- ميلاً عظيماً وصنف كتاب التفضيل وأحسن فيه غاية الإحسان . ترجم له في الطبقة العاشرة من طبقات المعتزلة . توفي سنة (367هـ) . انظر كتاب المنية والأمل شرح الملل والنحل.
فالذي يدل على صحة ما نذهب إليه من أن المراد بقوله تعالى: {أَهْلَ الْبَيْتِ}[الأحزاب:33] الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- وأولادهما دون غيرهم وجهان:
أحدهما: ما نعلم من هذه اللفظة إذا أطلقت فقيل: قال أهل البيت، وفعل أهل البيت، لم يسبق إلى أفهام السَّامعين إلا من ذكرنا من أولاد الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- دون غيرهم، وكل لفظة تسبق إلى فهم السامعين معنىً فهي حقيقة فيه سواء كانت شرعية أو لغوية أو عرفيِّة ، ألا ترى إذا قيل: فلان يصلي، سبق إلى فهم السَّامعين من أهل الشرع أنه يفعل الأفعال المخصوصة، ويذكر الأذكار المخصوصة، فيعلم أن لفظ الصلاة الآن حقيقة في ذلك دون غيره([18])؛ وهذا حكم سائر الحقائق وبذلك يقع الفرق بين الحقيقة والمجاز، لأن المجاز لا يسبق معناه إلى الفهم، ولا يعلم إلا بقرينة، فثبت أن هذا اللفظ حقيقة فيهم -عَلَيْهم السَّلام- مجاز في غيرهم من نسائه وسائر أقاربه، وخطاب الحكيم يجب حمله على الحقيقة دون المجاز قولاً واحداً.
وثانيهما: إجماع([19]) أهل النقل على اختلاف مذاهبهم وأهوائهم من العلماء أنهم المرادون بهذه الآية دون غيرهم، ممن ذكرنا، حتى رووا أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أقام مدة يقف على باب علي -عَلَيْه السَّلام- فيقول: ((السلام عليكم أهل البيت{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] )) فهذا تصريح كما ترى بأنهم المرادون بذلك دون غيرهم فصح ما قلناه.
[بيان إدخال سائر ذرية الحسنين في آية التطهير]
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المراد بذلك علي وولداه -عَلَيْهم السَّلام- دون أولاد ولديه -عَلَيْه السَّلام- إلى تقضي الأعصار؟.
قلنا: أنكرنا ذلك لوجهين:
أحدهما: ما قدمنا من الدلالة أن هذا اللفظ حقيقة فيهم في جميع الأعصار لسبقه إلى الأفهام عند الإطلاق، فكلام الحكيم يجب حمله على الحقائق؛ لأن القول بغير ذلك يؤدي إلى اطراحه وذلك لا يجوز.
___________________
([18]) ـ في (ن): دون غيرهم.
([19])- وسيأتي تخريج ذلك في الجزء الثاني إنشاء الله تعالى عند قول الإمام عليه السلام:
هل في البرايا كبني النبي .... أهل الكسا والحسب المهذب
والضرب في عرض العجاج الأشهب .... عن دينهم كل رديء المنصب
وثانيهما: أن هذا القول خارج عن أقوال الأمة، فلا يجوز إحداثه لأنه يكون بدعة، وكل بدعة ضلالة، ألا ترى أن الناس في هذه الآية بين قائلين: قائل يقول: هم المرادون بذلك، ويشرك معهم أزواجه وأقاربه، وقائل يقول: المراد بذلك علي وولداه وأولادهما إلى انقطاع التكليف، فقد أدخلهم الفريقان كما ترى، فمن أخرج أولادهما من ذلك فإنَّا نقول: إنه قول خارج من أقوال الأمَّة، وذلك لا يجوز بالإتفاق.
[الكلام في وجه الاستدلال بآية التطهير]
وأما الكلام في وجه الإستدلال بهذه الآية: فإن الله -تعالى- أخبرنا أنه يريد أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً؛ فلا يخلو: إما أن يريد تطهيرهم من النجاسات الظاهرة كالبول والغائط والميتة والدم، أو تطهيرهم من رجس المعاصي ونجاسات الذنوب، أو لا يريد تطهيرهم من واحد من الأمرين.
باطل أن لا يريد تطهيرهم من واحد من الرجسين؛ لأنه تعالى قد أخبرنا بأنه قد أراد ذلك، ومراده من فعله واقع لا محالة، فالقول بخلافه لا يجوز.
وباطل أن يريد التطهير من النجاسات الظاهرة، والأرجاس المباشرة، لأنهم وغيرهم في ذلك سواء، وحكمهم وحكم الأمة فيه واحد بالإتفاق، فبقي أن المراد بالآية التطهير من الإقدام على المقبَّحات، وترك الواجبات، وذلك لا يكون إلا بالعصمة من فعله تعالى عند الإتفاق؛ فثبت بذلك أن إجماعهم حجة.
[الأدلة من السنة على حجية إجماع أهل البيت (ع)]
وأما دلالة السنة: فقوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
والكلام في هذا الخبر يقع في موضعين: أحدهما: في صحته، والثاني: في وجه الإستدلال به:
أما في صحته: فلأنه مما ظهر بين الأمة ظهوراً عاماً بحيث لم ينكره أحد، فصاروا بين عامل به ومتأول له، فيجري مجرى أخبار الأصول من حجِّ النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وصيامه إلى غير ذلك.
وأما وجه الإستدلال به: فلأنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- صرح بأن التمسك بعترته أهل بيته بمنزلة التمسك بالكتاب، ولا شك في وجوب التمسك بالكتاب، وأنه حجَّة؛ فكذلك يجب التمسك بإجماع العترة والقول بأنه حجَّة، لأنَّا لا نريد بقولنا حجَّة إلا ما يجب الرجوع إليه، ويلزم التمسك به، وقد زاد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ذلك تأكيداً بإخبَاره أنهما لا يفترقان حتى ورود الحوض؛ والتكليف عنده منقطع، ولا واجب يومئذٍ ونحن نعلم ذلك، كما أنه -عليه وآله السلام- لو قال: تمسكوا بزيد وعمرو تسلموا من الضلال، واعلموا أنهما لن يفترقا، علمنا بدلالة هذا الظاهر أن وجوب الرجوع إلى أحدهما كوجوب الرجوع إلى الآخر، وأنَّا بالرجوع إلى كل واحد منهما ننجوا من الضلال؛ فثبت بذلك أن إجماعهم -عَلَيْهم السَّلام- حجَّة؛ والحمد لله ربِّ العالمين.
عدنا إلى تفسير القافية:
قوله: (منبهاً عن وسنة الإغفال): يريد؛ متيقظاً، ولا فرق بين اليقظة والإنتباه.
و (الوسنة): مبتدأ النوم، ومعناها ومعنى السِّنَةِ واحد.
وقوله: (الإغفال): يريد؛ إغفال العقل عن تمييز صحيح الأقوال عن سقيمها، ومؤنسها عن صميمها، فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا ممن يفزع إلى الأدلة، ويسلم الأمر كله لله، ولا يجعلنا من الإستعداد غافلين، ولما يجب علينا من المعرفة به سبحانه جاهلين، بحقّه العظيم، واسمه الكريم، والصلاة على محمد وآله.
[باب القول في التوحيد]
[الكلام في مسألة إثبات الصانع]
[10]
وَهْيَ إلى صَانِعِهْا مُحْتَاجهْ .... في مُقْتَضَى العقلِ أشدَّ حاجهْ
إذْ صَارَ مِن حاجتِها إِخراجَهْ .... قَلبُ سليمِ القلبِ كالزجاجهْ
مضيئةٌ مِن قَبَسِ الذَّبالِ
قوله: (وهي إلى صانعها محتاجة): يريد؛ الأجسام، والأعراض التي هي من فعله سبحانه -وتعالى- في الأجسام.
و (صانعها): فاعلها، لا فرق بين الصَّانع والفاعِّل في أصل اللغة.
ومعنى الحاجة والإفتقار واحد، وتسميتها (محتاجة) شائع في اللغة؛ لأنهم إذا ذكروا فعلاً قالوا: هو يحتاج إلى فاعل، وللحاجة معان كثيرة لا وجه لتطويل الكلام ها هنا.
وقوله: (في مقتضى العقل): يريد؛ في قضية العقل وحكمه.
وقوله: (أشد حاجة): وذلك ظاهر؛ لأن حاجتك إلى من يوجد ذاتك وحياتك، وعافيتك وقدرتك، أشد من حاجتك إلى من ينفعك في أمر من سائر الأمور.
وقوله: (إذ صار من حاجتها إخراجه): يريد إذ كانت حاجتها إليه ليخرجها من العدم إلى الوجود.
و(من) زائدة لتحسين الكلام وصلته، كما قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}[النور:30] ، وهو يريد سبحانه يغضوا أبصارهم.
وقال: (إخراجه) ولم يقل من العدم إلى الوجود واكتفى بدلالة اللفظ؛ وذلك شائع في اللغة، قال الشاعر:
فإن المنيّة من يلقها .... فسوف تصادفه أينما
يريد؛ أينما توجه، أو أينما كان، فحذفه لدلالة اللفظ عليه وتعلق المعنى به.
(والحاجة) وإن كانت خاصة في عرف المتكلمين في الدواعي الداعية إلى جلب نفع أو دفع ضرر ، فهي عامة في أصل اللغة في كل أمر يفتقر في ثبوته إلى أمرٍ آخر، يقول قائلهم: هذا الثوب يحتاج إلى كذا وكذا من القطن ، وهذا البيت يحتاج إلى كذا وكذا من الخشب.
وقوله:
(قلب سليم القلب كالزجاجة .... مضيئة من قبس الذبال)
يريد بسليم القلب: صحيح القلب من أدواء الحيرة وعاهات الضلالة.
وقوله: (كالزجاجة): يريد؛ من صفائه ونوره.
وقوله: (مضيئة): يريد به الزجاجة أضاءت.
(من قبس الذبال): يريد؛ من نار الذبال؛ وهو في أصل اللغة القبس، فشفع نور الزجاجة بنور القبس الذي في الذبالة، وذلك للمبالغة في تعظيم صفة النور أن يكون في الزجاجة ناراً ؛ والجميع من ذلك صفة لقلب المؤمن وتشبيه له ؛ لأن قلب المؤمن سليم من آفات الجهل، كما قدمنا، فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من أهل القلوب السَّليمة، كما جعلنا من أهل الأصول الكريمة، والمغارس الشريفة الصَّميمة.
ومعنى ما ذكره في القافية يريد إيضاح أن الأفعال محتاجة إلى فاعلها لأجل حدوثها، وتلك العلّة قائمة في الأجسام والأعراض ، فيجب أن تحتاج إلى فاعلها القديم تعالى ، وإلا انتقض التعليل وذلك لا يجوز ، وحدوثه على ما نشاهده من الترتيب والتراخي يقضي بأن فاعله مختار، ويبطل القول بالعلة الموجبة كما تقوله الفلاسفة ومن طابقهم على ذلك.
[إبطال تأثير العلة الموجبة في الحدوث]
وتحرير الدلالة في ذلك: أنَّا نقول: قد تقدمت الدلالة على حدوث الأجسام؛ والمحدث موجود على سبيل الجواز؛ إذ لو كان موجوداً على سبيل الوجوب لم يكن لوجوب الوجود في حال أولى مما تقدمها من الأحوال ، وذلك يوجب وجوده أزلاً وأبداً وقد ثبت حدوثه، وإذا كان موجوداً على سبيل الجواز لم يكن بد من مؤثر أوجب خروجه إلى الوجوب من الجواز؛ لأنه كان جائزاً في الأصل ثم وجب؛ فلا بد من مؤثر أوجب خروجه من الجواز إلى الوجوب، إذْ لو لم يكن ثم مؤثر لبقي على الجواز والعدم الأصلي، فلما وجد علمنا المؤثر لا محالة، وذلك المؤثر لا يكون إلا فاعلاً مختاراً، كما قدمنا.
يزيد ذلك ظهوراً أن خروجه من العدم إلى الوجود لو كان لعلة لكانت تلك العلة لا تخلو: إما أن تكون موجودة أو معدومة.
باطل أن تكون هذه الحوادث حدثت لعلة معدومة؛ لأن العدم لا أول له فكان يجب قدمها وقد ثبت حدوثها.
وباطل أن تكون لعلة موجودة؛ لأنها كانت لا تخلو: إما أن تكون قديمة أو محدثة.
فإن كانت العلة قديمة وجب قدم الحوادث لقدم علتها، واستحالة تراخي المعلول عن العلة، وقد ثبت حدوثها.
وباطل أن تكون هذه الحوادث لعلة محدثة، لأن الكلام كان ينتقل إليها فيقال: لماذا حدثت؟، فإن كان لعلّة قديمة لزم ما قدمنا أولاً وقد ثبت بطلانه، وإن كان لعلة محدثة أيضاً أدَّى إلى التسلسل، ووقوف حدوث الحوادث التي قد صح حدوثها على حدوث ما لا نهاية له وذلك محال ؛ فلم يبقَ إلا القول بحاجتها إلى مؤثر هو فاعل مختار يوجدها قدراً بعد قدر، حالاً بعد حال، على مقدار ما يعلم من المصلحة، وليس إلا الله -سبحانه وتعالى-.
[الكلام في مسألة قادر]
[11]
وهوَ تعالى ذو الجلالِ قادِرُ .... إذ فعلهُ عَنِ الجوازِ صَادِرُ
أَعراضُ ما رَكَّبَ والجواهرُ .... وذاكَ في أهلِ اللِّسانِ ظاهرُ
عِنْد ذوي الفِطْنَةِ والجُهَّالِ
لما فرغ من الكلام على إثبات الصَّانع تعالى بما تقدم من دلالة حدوث الأجسام؛ وأنه لا بد لها من محدث فاعل مختار، عقبه بالكلام على أنه تعالى قادر، لاستحالة صحة الكلام فيه هل هو قادر أو ليس بقادر ، ولمَّا يصح العلم بثبوت ذاته وذلك ظاهر.
فقال: (وهو تعالى ذو الجلال قادر): يريد بذي الجلال: الله سبحانه، و(الجلال) هو: عظم الشأن، وارتفاع الحال؛ ولا أعظم منه سبحانه شأناً، وأظهر سلطاناً.
و(القادر): نقيض العاجز.
لأن القادر: هو المختص بصفة لاختصاصه بها يصح منه الفعل إذا لم يكن ثم مانع([20]) ولا ما يجري مجرى المنع([21])، ويجوز([22]) أن لا يوجد.
ومن أصحابنا من زاد في الحقيقة إذا كان معه مقدوراً له؛ ونحن لا نوجب هذه الزيادة؛ لأن العاجز كان يدخل في هذه الحقيقة؛ لأن الفعل يصح منه إذا كان مقدوراً له؛ إذ يستحيل كونه مقدوراً له، وليس بقادر عليه، وذلك ظاهر.
والعاجز: هو المختص بصفة لاختصاصه بها يتعذر منه الفعل، وإن لم يقع ثم منع، ولا ما يجري مجراه، وصفته بالعكس من صفة القادر.
______________________
([20]) - المانع: مثل القيد والحبس وإحداث ضد الفعل، أو منع من هو أقدر منه، أو تعذر فعل سببه، أو كونه غير عالم بكيفية الفعل. تمت.
([21]) - الذي يجري مجرى المنع مثل فقد الآلة كآلة الكتابة وغيرها، ولايجوز ذلك إلا في حقنا أما الباري جل وعلا فلا يجوز ذلك في حقه لأنه على كل شيء قدير، وهو قادر على جميع المقدورات، ولا يحتاج إلى آلة في ثبوت الفعل من قبله، ولأن ذلك من صفات النقص؛ لأنه يدخل بالعجز على الله جل وعلا، وهو يتعالى عن ذلك. تمت.
([22])- والمعنى في ذلك: أن القادر الذي يصح منه الفعل، يجوز منه إيجاد الفعل وعدم إيجاده، لأن عدم إيجاد الفعل مع القدرة عليه لا يمنع من كونه مقدوراً للقادر وذلك معلوم للمتأمل.
وفعله تعالى الصادر عن الجواز؛ هو ما تقدم ذكره من الأجسام والأعراض.
ومعنى قوله: ويجوز أن لا يوجد: بأن لا يختار تعالى إيجاده؛ وهذا حكم أفعال الفاعلين.
قوله: (وذاك في أهل اللسان ظاهر): يريد؛ أهل اللغة العربية؛ فإنهم يسمون من وجد منه الفعل على هذا الوجه قادراً، وقد يغفلون تأثير العلل جملة فلا يسمونها قادرة، ألا ترى أنهم يسمون من وجد منه الفعل على هذا الوجه قادراً؛ ومن لا يوجد منه عاجزاً، فيفرقون بينهما لمعنى عقلوه جملة لولا علمهم به لما فرقوا بينهما.
قوله: (عند ذوي الفطنة والجهَّال): يريد عند أهل التدقيق والتحقيق، وغيرهم من أهل الظواهر من أهل اللغة يسمون من صح منه الفعل قادراً، وذلك معلوم بينهم، وقد صحت الأفعال منه سبحانه -وتعالى- مع الجواز فوجب وصفه بأنه قادر، وتسميته لأجل ذلك قادراً.
[بيان كيفية اعتقاد العجم في الصفات إذا ثبتت باللغة]
فإن قيل: فما يجب على العجم مع اختلاف لغاتهم إذ قد رجعتم في الإحتجاج على أنه يسمى قادراً ووصفه بذلك بما عليه أهل اللسان العربي؟.
قلنا: يجب عليهم إعتقاد معنى هذا الإسم وثبوت الصفة المقتضية لذلك، وهو أنه تعالى يفارق من لا تصح منه هذه الأفعال بمفارقة لولاها لما صح منه ما تعذر على غيره، وأن تلك المفارقة تضمن معنى كونه قادراً ، ويجوز لهم التعبير عن هذا المعنى بما يدل عليه من الألفاظ ؛ وكذلك الكلام في سائر صفاته تعالى تعبدهم فيها أن يضيفوا إليه تعالى ما يجب إضافته إليه، وينفوا عنه ما يجب نفيه عنه من الصفات والأفعال بأي عبارة تكون عندهم مفيدة لتلك المعاني، فإذا أردت جمع معاني جملة هذه الألفاظ للتحقيق قلت: الباريء قد صحّ منه الفعل بما تقدّم ، ومن صح منه الفعل فهو قادر [أما أن الفعل قد صحّ منه تعالى فقد تقدّم بيانه ، وأما أن من صح منه الفعل فهو قادر فذلك ظاهر([23])]؛ فوجب أن يسمى قادراً وأن توصف به الجملة.
___________________
([23]) ـ ما بين القوسين زيادة في (ن) وغير موجود في الأصل.
[الكلام في مسألة عالم]
[12]
وكلُّ ما بانَ مِن الترتيبِ .... في ظاهرِ البُنْيَةِ والتَرْكِيبِ
من كلِّ فَنٍّ مُتْقَنٍ عجيبِ .... دَلَّ على العلمِ بِلا تَكذيبِ
في مَعْرَضِ الجوابِ والسؤالِ
لما فرغ من الكلام في أنه تعالى قادر عقبه بالكلام في أنه سبحانه عالم؛ لأن ما استدللنا به على أنه تعالى قادر، وهو وجود الأفعال من قِبَلِهِ، دليل على أنه تعالى عالم؛ لأنه وقع على وجه يكشف عن أنه تعالى عالم على أبلغ الوجوه ؛ لأنك إذا نظرت إلى الأجسام - التي دَلَلْنَا على أنه تعالى أوجدها من دون غيره - وما فيها من التقادير العجيبة، والتراتيب الفائقة ، والمنافع الجليلة الكاملة ، التي لا يشك كل عاقل في كونها أبلغ في باب الإحكام من الكتابة الحسنة، والصنعة البديعة الرائقة، وقد صحت مفارقة العالم بالكتابة والصنعة لمن ليس بعالم، وأن من لا يحسن الأفعال المحكمة لايسمى عالماً، ومن يحسنها يسمى عالماً، وقد صح من الله -تعالى- من الأفعال المحكمة ابتداءً ما يعجز عنه كل عالم؛ فوجب تسميته لذلك عالماً؛ أو بما يكشف عن معنى العالم عند من لا يحسن اللغة العربية.
وقوله: (كلما بان): يريد؛ كلما ظهر (من التركيب) يريد تركيب الحيوانات أعضاءً، وأجزاءَ الجماداتِ بعضها فوق بعض على مقدار ما يعلمه الله -سبحانه- من المصلحة، فقد ظهر لنا بحمد الله؛ ولكل عاقل متأمل؛ ما يبهر العقول، ويشهد لصحته علم الأصول.
(من كل فنٍ متقنٍ عجيب): يريد؛ أجناس الحيوانات والجمادات؛ لأنك إذا تفكرت في نوع منها؛ وهو خلق ابن آدم وما فيه من التوصيل والتفصيل والمخارق لمخارج الأغذية ومداخلها، وللإحساس للمحسوسات؛ من المطعومات والمسموعات والملموسات، وكذلك سائر أنواع الحيوان ؛ وكذلك إذا تفكرت في هذه النباتات وما فيها من التركيب والأرزاق والأعمدة التي تقوم عليها ، والعروق التي تجذب إليها الأغذية من الماء والطين، وما يخرج منها من الثمار الحسنة، والأزهار البديعة، التي لو اجتمع الخلق أن يخرجوا بلطف إحتيالهم ثمرة، أو يركبوا على ذلك الوجه الفائق حبَّة ، أو ينشروا زهرة، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً؛ علمت أن ذلك أبلغ في العقل من كتابة الكاتب، وبناء الباني، ولولا علمهما بوجود الكتابة على ذلك الوجه مفيدة، والبناء حسناً لما صح منهما ذلك؛ وكذلك لولا علم الله- سبحانه- بحاجة العباد إلى ما خلق لهم من الآلات والحواس والمنافع قبل خلقهم لما تأتى منه تعالى ذلك ؛ فلما فعل ذلك قبل الحاجة مطابقاً لها في أمور كثيرة لا يصح حصولها بالإتفاق ، علمنا أنه سبحانه أعلم العلماء، وأحكم الحكماء، وذلك يوجب علمه بجميع المعلومات؛ لأن علمه ببعض المعلومات، ولا مخصص لكون هذه الصفة واجبة له تعالى للذات، توجب علمه بجميع المعلومات، وفي جميع الأوقات ، واستحالة خروجه عنها في جميع الحالات ، وسيأتي ما يؤيد هذا فيما بعد إنشاء الله تعالى.
[الكلام في مسألة حي]
[13]
وكلُّ مَنْ كان عَلِيمَاً قادراً .... لِذَاتهِ وناهياً وآمراً
وباطناً لخَلْقِهِ وظاهِراً .... وقابلاً لتَوْبِهِم وَغَافِراً
فَذَاكَ حَيٌّ غَير ذِي اعْتِلالِ
لما فرغ من الكلام على أنه تعالى عالم، قادر؛ عقبه بالكلام في أنه تعالى حي، وإنما وجب تأخير هذه المسألة عن كونه تعالى قادراً وعالماً؛ لأن الذي علمنا به ذات الباريء -تعالى- هو وقوع الفعل من جهته؛ ووقوع الفعل من جهته دلالة على قدرته، وترتيبه دلالة على علمه، وذلك واقع لنا بالمشاهدة والإعتبار، قبل خطور هذه المسألة رأساً بالبال؛ فلذلك أخرنا مسألة حي عن مسألة قادر وعالم، وإن كانتا يترتبان في الصحة عليها؛ لاستحالة كون من ليس بحي عالماً وقادراً.
قوله: (وكل من كان عليماً قادراً): يريد كل من كان عالماً ومعنى عليم وعالم واحد؛ إلا أن في عليم معنى المبالغة، ومعنى (قادر) قد قدمناه في مسألة قادر.
قوله: (لذاته): يريد أن ذاته كافيةٌ في حصول هذه الصفة له تعالى من دون مؤثر من فاعل ولا علة؛ لأن الفاعل والعلة لا يؤثران إلا بشرط التقدم على المفعول والمعلول، وقد تقدم في دلالة حدوث الأجسام وأنه تعالى محدثها ما يدل على أنه تعالى قديم لاستحالة وجود الأجسام من المحدث ؛ فوجب ثبوت صفاته تعالى([24]) للذات، وإذا ثبت أنه عالم قادر وجب كونه حياً، لاستحالة صحة معنى العلم والقدرة لمن رفعنا عن أذهاننا كونه حياً كالميت والجماد وسيأتي ما يزيده بياناً بمشيئة الله تعالى.
وقوله: (وناهياً لخلقه وآمراً) النهي([25]): قول القائل لغيره لا تفعل على وجه الإستعلاء بشرط الكراهة، وهو نقيض الأمر.
إذ الأمر قول القائل لغيره: إفعل أو لتفعل على وجه الإستعلاء بشرط الإرادة.
وذكرُ الأمرِ والنهي، وقبولِ التوب والمغفرةِ له وجه صحيح في الإستدلال على أنه تعالى حي، وإن كان إثبات الإرادة والكراهة تترتب على العلم بالحياة من حيث أن دليلنا على إرادته تعالى وكراهته؛ لا يوجد إلا من وقوع أفعاله، على وجوه مختلفة ، فذلك ملازم لدلالة كونه تعالى عالماً قادراً ؛ وإذا كان الأمر كذلك فهو تعالى لا يأمر إلا بما يريد، ولا ينهى إلا عما يكره.
_____________________
([24]) ـ في (ن): ناقص (تعالى).
([25]) ـ في (ن): النهي هو...إلخ.
ويستحيل كونه مريداً وكارهاً لذاته؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن لا تقع أكثر أفعاله([26])، وقد وقعت؛ فثبت أنه مريد بإرادة؛ وكذلك كاره بكراهة، والإرادة والكراهة يستحيل إيجابهما لغير الحي على ما ذلك مقرر في مواضعه من كتب الأصول.
قوله: (وباطناً لخلقه): يريد من خلقه، فتستحيل رؤيته عليهم في الدنيا والآخرة فصار كأنه باطن.
(وظاهراً) يقول: لما أظهر من الدلالة على ثبوت ذاته وصفاته سبحانه الجليَّة الواضحة؛ صار كأن العالم بها يشاهده - تعالى عن ذلك - لظهور الحال فيه وفيما أظهرسبحانه من الأدلة عليه دلالة على علمه وقدرته، وذلك دليل على أنه حي؛ فلذلك ذكرهما في هذه المسألة - أعني الباطن والظاهر -.
قوله: (فذاك حي غير ذي اعتلال): يرجع إلى معنى قوله: (قادراً لذاته)؛ لأن القادر للذات لا يكون سوى الله -تعالى-.
(والعلل) هاهنا: هي ما تحدث من الآفات، في الجوارح الآلات، والله -تعالى- تستحيل عليه الجوارح لأنه ليس بجسم، وذلك لا يكون إلا للأجسام على ما يأتي بيانه، فلهذا قال: (من كان عليماً([27]) قادراً لذاته) إستحالة العلل في حقه، ووجب كونه حياً لمجرد صحة العلم والقدرة له، وإن جهلنا ما جهلنا ، ألا ترى أنَّا إذا شاهدنا ذاتين أحدهما يصح أن يعلم ويقدر، والثاني يستحيل أن يعلم ويقدر؛ علمنا أن بينهما فرقاً ومزية، وإلا وجب إشتراكهما في استحالة صحة الفعل([28]) والقدرة منهما جميعاً أو صحة العلم والقدرة لهما جميعاً وذلك ظاهر ؛ فإذا قد صح العلم لله -تعالى- والقدرة؛ بل وقع ذلك، بما تقدم من الدلالة، وجب كونه تعالى حياً، وثبوت هذه الصفة له في جميع الأحوال.
ودليل إطلاق هذه اللفظة من اللغة بعد ثبوت معناها بالأدلة العقلية المتقدمة أن أهل اللغة يعبرون عمن صح فيه معنى العلم والقدرة بأنه حي، وإن لم يعلموا حقيقتهما بأنه حي، ويعبرون عمن لا يعلمون صحة معناهما فيه([29]) بأنه ميت أو جماد.
____________________
([26]) ـ لأن الله عز وجل يريد الإيمان من جميع عباده، ويكره الكفر، ويريد فعل الطاعات، ويكره المعاصي، والمعلوم أن من العباد المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي؛ فلو كانت إرادته لذاته لوجب أن تقع إرادته وأن يكون جميع العباد مؤمنين مطيعين، ومعلوم خلاف ذلك. والله أعلم.
([27]) - في الأصل: عالماً، والأظهر عليماً لأنه سياق البيت.
([28]) ـ في (ن): صحة العلم والقدرة.
([29])ـ ما بين القوسين زيادة في : (ن، م) .
(الكلام في مسألة الإدراك)
[14]يَسْمَعُ ما دَقَّ مِن الأصوَاتِ .... ويَعْلَمُ المقصُودَ باللُّغَاتِ
ليس بِذِي دَاءٍ ولا آفَاتِ .... ويَنْظُرُ الذَرَّةَ في الصّفاتِ
سودَاءَ في سودا مِنَ الليالي
الكلام في هذه المسألة يتعلق بالإحتجاج على أنه تعالى مدرك لجميع المدركات، من المسموعات والمشمومات والمذوقات، والملموسات والمبصرات، وقد وقع الإجماع على أنه تعالى موصوف بذلك، وإنما وقع الخلاف بين أهل العلم في كيفيَّة وصفه تعالى بذلك؛ فمنهم من أثبت له سبحانه بكونه مدركاً حالاً زائدة على كونه عالماً ، ومنهم من منع من ذلك ورجع بالإدارك إلى العلم، ولنا في هذه المسألة نظر، نسأل الله فيه التوفيق.
(يسمع ما دق من الأصوات): على قول من يجعل الإدراك بمعنى العلم، يقول: يعلم سبحانه لطيف الأصوات وغامضها؛ لأن ذاته تعالى مع اللَّطيف من الأصوات والعظيم على سواء ، فلا فرق عنده سبحانه لهذا بين لطيفها وعظيمها إذ([30]) كان عالماً لذاته ، وذاته مع المعلومات على سواء، واللطيف معلوم كالعظيم.
ومن قال كونه مدركاً زائد على كونه عالماً، فقوله إنه يدرك الصوت كما يدركه الواحد منَّا؛ إلا أنه يدركه بغير جارحة ولا حاسة لاستحالة الحواس في حقه تعالى.
ويقول إن الإدراك زائد على العلم؛ لأن الواحد منَّا قد يعلم ما لا يدركه، كأن يخبره نبي صادق أن زيداً في المسجد، وكمخبر الأخبار المتواترة، فإنَّا نعلم ذلك ولا ندركه، كالبلدان القاصية نعلمها بالأخبار ولا ندركها، وكالباريء -تعالى- فإنَّا نعلمه ولا ندركه، وندرك ما لا نعلم، كالنائم يدرك الأمر الذي ربما أيقظه ولا يعلم، وربما يسأل من كان بحضرته يقظاناً بما دهاه وذلك ظاهر؛ فثبت أن بين الأمرين فرقاً.
_________________
([30]) - نخ (ن): إذا.
قالوا: ويزيد ذلك أن الإنسان منَّا قد يعلم بالأخبار المتواترة أمراً؛ ثم يشاهده بعد ذلك بالحاسة فيجد مزية وحالاً غير ما تقدم، وهذا كما ترى يوجب كونه تعالى عالماً بالمدركات من المسموعات والمشمومات والمذوقات غير مدرك لها فيما لم يزل، وأنه مدرك لها بشرط البقاء بعد وجودها فيما لا يزال.
[معنى كون الله سميعاً بصيراً]
وترتيب الإستدلال في هذه المسألة: أن يعلم أنه تعالى حي بما تقدم، ثم يعلم أنه لا آفة به لا ستحالة الجوارح والآلات -التي لا تكون إلا في الأجسام- عليه تعالى؛ لأن المعقول من الآفات فساد الجوارح والآلات ، فإذا تقرر عِلْمُ ذلك ثبت العلم بأنه تعالى سميع بصير مدرك للمدركات.
دليله في الشاهد أن من كان حياً لا آفة به تمنعه من السمع والبصر يجب أن يدرك المدركات، ولو لم يكن حياً أو كان حياً إلا أن به بعض الآفات في السمع والبصر أو محل الحياة لم نعلمه مدركاً.
فقد صح بهذه الأدلة المتقدمة أن الله، سبحانه، سميع بصير مدرك للمدركات.
و (الذَّرة): دويبة لطيفة، وربما كانت سوداء.
و (الصَّفَات): هي الصخرة الملساء.
قال الحطيئة يخاطب الزبرقان وقومه:
ماذا علي إذا فلَّت مَعَاوِلَكُمْ .... من آل لاي صفاتٌ أصلها راسي
وقوله: (سوداء في سودا من الليالي): فعلى قول من يقول الإدراك بمعنى العلم، يقول إنه سبحانه يعلم النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصفات السوداء؛ إلا أنه سبحانه عالم لذاته، وذاته مع المعلومات على سواء، فيجب أن يعلم الجميع من دقيق المعلومات وجليلها لفقد الإختصاص ، والنملة ودبيبها في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء من جملة المعلومات.
وعند من يقول إن الإدراك زائد على العلم يقول إنه سبحانه يرى شخصها في هذه الحال ويسمع همسها، وكلا القولين دال على عظيم حاله سبحانه وتعالى.
(الكلام في مسألة قديم)
[15]
وَرَبُنا سُبْحانَهُ قَدِيمُ .... لَمْ تَخْتَلِجْنَا دُونَهُ الوُهُومُ
وهوَ بأوصَافِ العُلى مَعْلُومُ .... حَيٌّ على عِبادهِ قَيُّومُ
مُمْتَنعٌ من حَالَةِ الزَّوَالِ
هذا الكلام على أنه تعالى قديم، (ومعنى القديم): هو الموجود الذي لا أول لوجوده.
وللسائل ها هنا مطلبان، أحدهما: في أنه سبحانه موجود.
والثاني في أنه لا أول لوجوده:
أمَّا أنه موجود: فقد تقدم الدليل عليه في إحتجاجنا على أن العالمَ محتاج في وجوده إلى مؤثر، وأن المؤثر لا يجوز أن يكون معدوماً، ولأنهما يشتركان([31]) في العدم، فلا يكون أحدهما في أن([32]) يؤثر في صاحبه أولى من العكس.
وكل قول أدى إلى أن لا يفرق بين الفعل والفاعل فهو باطل.
ولأنا أيضاً نعلم تعذر الفعل من الفاعل لعدم حياته وقدرته، فبأن يكون عدم ذاته في تعذر الفعل من قِبَلِه أولى وأحرى، فوجب لذلك كونه تعالى موجوداً.
وأما الذي يدل على أنه لا أول لوجوده: فلأنه لو كان لوجوده أول لكان محدثاً، ولو كان محدثاً لاحتاج إلى محدث حتى يتصل بما لا يتناهى وذلك محال ، فيجب الإقتصار على موجود لا أول لوجوده ، وذلك هو المراد بقولنا إنه تعالى قديم ؛ لأنَّا لا نريد بالقديم إلا الموجود الذي لا أول لوجوده.
فإذا ثبت لله -تعالى- أنه موجود بما تقدم، وثبت أنه لا أول لوجوده لمثل ما ذكرنا وعللنا من إستحالة حدوثه؛ فثبت أنه تعالى قديم.
وقوله: (لم تختلجنا دونه الوهوم): يقول أوصلنا نظرنا إلى معرفة حقيقة ذاته سبحانه، ولم تصرفنا الوهوم: وهي الظنون، عن ذلك مثل غيرنا من الفرق؛ بل أخذنا معرفته سبحانه، ومعرفة صفاته، وما يجوز عليه ومالا يجوز عليه، بالأدلة الموصلة إلى العلم.
وقوله: (قيوم): يريد؛ قائم على عباده لحفظهم والإنعام عليهم، وهذه حاله مع كل مكلف، فمن هنالك وجبت طاعته على الجميع.
___________________
([31]) ـ في (ن): مشتركان.
([32]) ـ في (ن): بأن.
وقوله: (وهو بأوصاف العلى معلوم): يقول إنه تعالى يُعلم على هذه الصفات العلى، التي لا تكون إلا له تبارك -وتعالى-، من علمه بجميع المعلومات، وقدرته على جميع أجناس المقدورات، وإدراكه لجميع المدركات، ووجوده قبل كل الموجودات، فهذه الصفات لا تثبت على هذه الوجوه إلا في حقه تعالى.
[الكلام في] (مسألة نفي التشبيه)
[16]
وهو تعالى غير ذِي تَنقُّلِ .... قُدِّس عن مَقَالَةِ ابنِ حَنْبَلِ
والأَشْعَريِّ وضِرَارِ الأحْوَلِ .... فَخَالِف الشَّكَ إلى النَّصِ الجَلِي
ليس بِذِي نِدٍّ([33]) ولا مِثَالِ
هذا في أنه سبحانه لا يشبه الأشياء من الأجسام والأعراض؛ لأن الشيء لا يخلو: إما أن يكون موجوداً أو معدوماً، والموجود لا يخلو: إما أن يكون محدثاً أو قديماً، والمحدث لا يخلو: إما أن يكون متحيزاً أو غير متحيز، فالمتحيز هو الجسم، وغير المتحيز هو العرض.
باطل أن يشبه المعدوم لما بينا من وجوب وجوده تعالى، والمشبه للشيء: هو المماثل...([34])، من الحنبلية([35]) والكرامية([36])؛ لأنه لو كان جسماً لكان محدثاً لما قدمنا من الدلالة على حدوث الأجسام، وقد ثبت قدمه لما تقدم في مسألة قديم، ولو كان مشبهاً لما ليس بمتحيز كان لا يخلو: إما أن يشبه البعض أو الكل، باطل أن يشبه البعض لفقد المخصص.
_____________________
([33])ـ في (ن): ولا بذي يد ولا مثال.
([34]) - هنا سقط في الأصل المنقول عليه، وفي جميع النسخ، ويتم الكلام بقولنا: والله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات؛ لأن المشابهة تستلزم الجسمية والله تعالى ليس بجسم؛ خلافاً لما تذهب إليه بعض الفرق من أنه تعالى جسم، وهم قوم من الحنبلية...إلخ، والله أعلم. تمت من حاشية على الأصل.
([35]) ـ الحنبلية، هم: أتباع أحمد بن حنبل، وستأتي ترجمته إن شاء الله.
([36]) ـ الكرامية: قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى في شرح الملل والنحل ص117، 118: أصحاب أبي عبدالله محمد بن كرام، وهم فرق جمعوا بين الجبر والتشبيه، ومنعوا تكليف ما لايطاق، ومقارنة القدرة وكان هذا محمد بن كرام قدم نيسابور أيام الطاهرية فحبس بإشارة من العلماء وبقي في السجن بضع عشرة سنة، انتهى.
والكرامية من أشد الناس بغضاً لأمير المؤمنين علي عليه السلام، ولا شك أن بغضه نفاق.
وباطل أن يشبه الجميع من الأعراض؛ لأنه واحد غير متضاد ولا مختلف، وهي متضادة مختلفة، ولأنَّا لانعقل وجودها إلا حالَّةً، والحلول عليه سبحانه يستحيل([37])، ولو أشبهها جاز عليه ما جاز عليها من الإنتفاء بالأضداد ، وقد ثبت بما تقدم وجوب إستمرار وجوده في جميع الأوقات لثبوته للذات وما به عرض منها إلا ولنا ما ينافيه، فسبحان من لا ضد له ينافيه، ولا مثل يكافيه.
قوله: (قدِّس): يريد؛ تنزه، والتقديس: هو الطهارة والتنزيه.
و(ابن حنبل)([38]) يقول إنه جسم.
و(الأشعري)([39]) يقول إنه يرى يوم القيامة رؤية غير معقولة.
_____________________
([37]) ـ في (ن): مستحيل.
([38]) ـ هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي أبو عبدالله، ولد سنة أربع وستين ومائة وروي عنه التشيع كما ذكر ذلك في الطبقات، قال: وعده ابن حميد من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال إنه ممن والاه وشايعه، وقال ابن حابس: كان أحمد ينوه برواية فضائل أهل البيت، وهجم بيته مرتين لطلب بعض الطالبيين...إلى قوله: قال الإمام شرف الدين: وقد روي أنه كان يُنَوِّه بفضائل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، ونطق بأن أسانيدهم بأنها الشفاء.
توفي في ربيع سنة إحدى وأربعين ومائتين، وله سبع وسبعون سنة، وكان موته ببغداد ودفن بمقبرة باب حرب، إنتهى ما ذكره في الطبقات.
وقد روى عنه التجسيم أيضاً: الحاكم الجشمي رحمه الله تعالى، وعده الإمام المنصور بالله - عليه السلام - في الشافي من المجسمة، ومنهم من نفى عنه التجسيم، والله أعلم.
([39]) ـ قال الشرفي في شرح الأساس الصغير: الأشعرية منسوبون إلى مذهب أبي الحسن الأشعري وهو علي بن أبي بشر بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبدالله بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، كذا ذكره ابن خلكان.
قال الإمام المنصور بالله في الشافي: والأشعري بصري وليس له سلف يرجع إليهم لامن أهل العدل، ولا من أهل الجبر؛ لأنه درس على أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة وخالفه إلى مقالة المجبرة، ولم يرجع إلى أحد من شيوخ المجبرة بل أحيا مذاهب لجهم بن صفوان كانت داثرة فحرفها وصحفها ليبقى له أدنى مسكة من الإسلام، وقد حيل بينه وبين ذلك بالدليل...إلخ.
وكذلك (ضرار) بن عمرو([40]) يقول بالإدراك؛ إلا أنه يقول: إنها تقع بحاسّة سادسة، وسيأتي ذكر خلافهم في باب الرؤية.
ولا شك أنه يلزم من أثبت رؤيته سبحانه وإن كره ذلك أنه تعالى يشبه المحدثات([41]).
وقوله: (ضرار الأحول): يريد به المايل عن الحق؛ لأن الحول في أصل اللغة: هو الميل، ومن ذلك سميت العين المائلة حولاء، فأما عينه فلم يُعلم أي حالة كانت.
[الكلام في] (مسألة غني)
[17]
وهو غَنِيٌّ ليس بِالمُحْتَاجِ .... إلى سَدَادِ البَطَن والأزواجِ
إذْ هوَ عَنْ نَيْلِ المَلاذِّ نَاجِي .... ومُقْتَضَى المِحْنَةِ والإحْرَاجِ
قَدْ عَمَّ كُلَّ الخَلقِ بالإفضَالِ
قوله: (وهو غني): يريد بذلك الله سبحانه.
وقوله: (ليس بالمحتاج): كشف لمعنى قوله فيه سبحانه إنه غني؛ لأن (الغني): هو الحي الذي ليس بمحتاج.
وقوله: (إلى سداد البطن): لأن الحاجة كما تعلق بغير المأكول والمشروب فتعلقها بهما آكد.
وقوله: (والأزواج): لأن النكاح نوع من أنواع اللذة التي توجبها الحاجة المستحيلة في حقه تعالى.
قوله: (ومقتضى المحنة والإحراج): يريد أن يخاف المحنة التي هي الألم والغم وما أدى إليهما أو إلى أحدهما.
و(الإحراج) الذي هو الضيق المبتني عليهما لا يجوز عليه تعالى كما لا تجوز عليه المنفعة.
قوله: (قد عمَّ كل الخلق بالإفضال): يقول: مع أنه غني سبحانه، وهذه من صفات الكمال كلٌّ من الخلق محتاج إليه، وهذا كمال ثان، ثم لحق ذلك تمام لايبارى وهو عمومه كل الخلق بإفضاله وتغطيتهم بنواله سبحانه وتعالى.
والدلالة على هذه المسألة بجمعك معاني ما قدمنا من الألفاظ أن تقول: الله سبحانه غني؛ لأنه حي ليس بمحتاج، وكل حي ليس بمحتاج يجب كونه غنياً.
فإن قيل: ما الدليل على أنه حي؟، وما الدليل على أنه ليس بمحتاج؟، وما الدليل على أن من كان حياً غير محتاج وجب كونه غنياً؟.
قلنا: الدليل على أنه تعالى حي: قد تقدم في مسألة حي.
_______________________
([40]) ـ ضرار بن عمرو الغطفاني رئيس الفرقة الضرارية من فرق المجبرة، وليس هذا معدوداً من المعتزلة؛ لأنها لم تورده في طبقاتها، وله أقوال بعضها يوافق المعتزلة، وبعضها توافق المجبرة.
([41]) ـ لأن الرؤية لا تقع إلا على الجسم أو العرض، باطل ومحال أن تقع على غير جسم أو عرض، فمن أثبت الرؤية فقد أثبت الجسمية أو العرضية، ومن أثبت الجسمية أو العرضية فقد أثبت المشابهة، ومن أثبت أن الله يشبه الأشياء فقد رد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
وأيضاً من أثبت أن الله جسماً أثبت احتياجه إلى محدث، وقد تقدم أنه تعالى قديم.
والدليل على أنه ليس بمحتاج: أنَّا لا نعقل الحاجة -ولا يجوز إثبات ما لا يعقل في حق الحي- إلا الدواعي الداعية إلى جلب النفع أو دفع الضرر.
والنفع: هو اللذة والسرور وما أدى إليهما أو إلى أحدهما.
والضرر: هو الألم والغم، وما أدى إليهما أو إلى أحدهما، لا يعقل النفع والضرر إلا ذلك، واللذة والسرور والألم والغم لا تجوز على الله -سبحانه- لأن ذلك لا يجوز إلا على المحدث، وهو تعالى قديم بما تقدم.
وأما الذي يدل على أن من كان حياً غير محتاج فهو غني: فلأن الغني لا يُعْقَل إلا على هذه الصفة ، فمن عُلِمَ عليها عُلِمَ غناه، فثبت بذلك أن معنى الغني: الحي الذي ليس بمحتاج، وهذا الغنى ثابت لله -سبحانه وتعالى- فثبت أنه غني.
(الكلام في نفي الرؤية له سبحانه)
[18]
وعنه نَنْفِي رُؤيةَ الأبْصَارِ .... في هذه الدَّارِ وتِلْكَ الدَّارِ
إذ هو لا يُعْلَمُ بالمِقْدَارِ .... ولا بِإقْبَالٍ ولا إدْبَارِ
في أيِّما حَالٍ من الأحْوَالِ
هذه مسألة نفي الرؤية؛ والخلاف فيها مع المجبرة([42])، من المجسمة الحنبلية والكرامية، وسائر المجبرة على طبقاتهم، غير أن الخلاف لا يتحقق بيننا وبين المجسمة في هذه المسألة؛ لأنهم يسلمون لنا أن الله -تعالى- إذا استحال كونه جسماً استحالت رؤيته، ونحن نسلم لهم أنه إذا ثبت كونه -تعالى عن ذلك- جسماً صحت رؤيته، وقد ثبت بما تقدم من الأدلة أنه تعالى ليس بجسم فانقطع خلاف المجسمة، وبقي الخلاف بيننا وبين سائر طبقات المجبرة.
فمذهبنا أن رؤيته تعالى لا تصح في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا معنى قوله: (في هذه الدار وتلك الدار)، فهو يريد بهذه الدار الدنيا لكوننا فيها، وبتلك الدار الآخرة لمصيرنا إليها.
قوله: (إذ هو لا يعلم بالمقدار): يقول: لا يقاس بغيره من الأجسام.
وقوله: (ولا بإقبالٍ ولا إدبار): الإقبال: نقيض الإدبار، نفى عنه المجيء والذهاب كما يقول بعض المجبرة.
__________________
([42]) ـ المجبرة: لأنهم يقولون إن العبد مجبر على ما هو فيه من طاعة أو معصية أو إيمان أو كفر، وتسمّى مجورة لإضافتها الجور والظلم إلى الله ، وقدرية لقولهم: إن كل حادث هو بقضاء وقدر من الله الحسن والقبيح والخير والشر والطاعة والمعصية.
وهم فرق كثيرة ذكرها الإمام المنصور بالله عليه السلام وأفاد بأنها:
الضرارية: أصحاب ضرار بن عمرو الغطفاني.
الجهمية: أصحاب جهم بن صفوان.
والنجارية: أصحاب حسين النجار.
والكلابية: أصحاب ابن كلاب عبدالله بن سعيد.
والأشعرية: أصحاب أبي الحسن بن أبي بشر الأشعري.
والبكرية: ينسبون إلى أبي بكر، ومنهم عبدالله بن سعيد البكري.
والكرامية: ينسبون إلى أبي عبدالله محمد بن كرام.
وللكرامية والنجارية فرق كثيرة متشعبة ومختلفة فيما بينها، تكفر بعضها بعضاً.
انظر: الملل والنحل للشهرستاني، الفرق بين الفرق للبغدادي، الملل والنحل للإمام أحمد بن يحيى المرتضى.
(في أيما حال من الأحوال): يريد؛ في كل حال من الأحوال، و(ما) ها هنا زائدة، و (أي): من ألفاظ العموم، وكل من أسماء تأكيد العموم، فلذلك أبدلها منها.
ووجه الإستدلال بما تقدم من تفصيل هذه الجملة المتقدمة([43]): أن الله تعالى لو جازت عليه الرؤية لكانت لا تخلو: إما أن تكون معقولة أو غير معقولة:
فإن كانت معقولة: كانت لا تصح إلا مقابلة أو ما في حكمها.
ونريد بما في حكمها: الألوان التي هي في حكم المقابل، وما يرى بالأشعة المنعكسة عند مقابلة الأجسام الصقيلة.
باطل أن يكون تعالى في جهة المقابلة؛ لأن ذلك من خصائص الأجسام، وقد دللنا فيما تقدم على أنه تعالى ليس بجسم.
وباطل أن يكون حالَّاً فيما هو في جهة المقابلة؛ لأن الحلول من خصائص الأعراض، وقد بينّا فيما تقدم أنه ليس بعرض.
وإن كانت رؤيته غير معقولة: أدى إلى فتح باب الجهالات فيقال إنه تعالى يشم شماً غير معقول، ويلمس لمساً غير معقول، ويذاق ذوقاً غير معقول إلى غير ذلك من أنواع الجهالات؛ وكل قول أدى إلى ذلك فهو باطل، وقد أدى إليه القول بجواز رؤيته تعالى، فيجب نفي ذلك القول والقضاء بأنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة.
(دليل آخر) [في نفي الرؤية عن الله تعالى]
[19]
لو كَانَ ربِّي مُدْرَكاً في حَالهْ .... أَدْرَكْتُهُ الآنَ بِلا مَحَالَهْ
يا إخوتا فَاطَّرِحوا الجَهَالهْ .... وَالشَّكَ والحَيرَةَ والضَلَالهْ
واغْتَرِفُوا من زَاخِرٍ سَلْسَالِ
وهذا دليل ثانٍ في نفي الرؤية عن الله تعالى.
ووجهه: أن الله -تعالى- لو رؤي في الآخرة؛ لوجب أن نراه الآن، فلما استحالت رؤيته الآن إستحالت رؤيتنا له في الآخرة.
وهذا الدليل مبني على أصلين:
أحدهما: أنه لو جاز أن يرى في الآخرة لرأيناه الآن.
والثاني: أنَّا لا نراه الآن.
_____________________
([43]) - نخ (ن) : المقدمة.
أما أنه لو رؤي في الآخرة لرأيناه الآن؛ فلأن الواحد منا حاصل على الحال التي لو رؤي لما رؤي إلا لكونه عليها؛ من سلامة الحاسة، وإرتفاع الموانع؛ والباريء -تعالى- موجود على الحال التي لو رؤي لما رؤي إلا لكونه عليها من وجوده تعالى، ولا مانع يعقل بيننا وبينه من بُعد مُفرط، أو قُرب مُفرط، ولا رقة، ولا لطافة، ولا هو في خلاف جهة الرائي، ولا هو في ظلمة -تعالى عن ذلك-؛ لأن هذه الأمور لا تثبت إلا في حق الأجسام ، وهو تعالى ليس بجسم، ولا هو بعرض، فيكون حالَّاً في بعض هذه الموصوفات، فلما لم نره الآن مع حصول شرائط الرؤية فينا وفيه لو كان مرئياً -تعالى عن ذلك-؛ علمنا أنه لا تجوز رؤيته في دنيا ولا في آخرة.
وأما الدليل على أنَّا لا نراه الآن: فذلك معلوم ضرورة.
(مسألة في نفي الثاني)
[20]
وهو يَجِلُّ عن قَرِينٍ ثَانِي .... يَمْنَعُ مِنْهُ العقلُ والمَثَانِي
لَوْ كَانَ ثانٍ وهُما ضِدَّانِ .... وَظَهَرَ المُنْكَرُ في البُلدانِ
ولم يُسَلِّمْ أوَّلٌ لِتَالي
هذا هو الكلام في مسألة الوحدانية، والخلاف فيه مع الثنوية([44]) من الديصانية([45]) والمانوية([46]) والمجوس([47]) على طبقاتهم، ومع المثلثة من النصارى([48]) والمرقيونية([49]).
قوله: (يجل عن قرين ثانٍ): يريد؛ يتعالى ويعظم ويستحيل ثبوته في حقه [تعالى([50])].
قوله: (يمنع منه العقل): يريد؛ دلالة العقل.
و (المثاني): يريد؛ دلالة السمع؛ لأن المثاني القرآن في إحدى آيتي ([51]) ذكر المثاني، ودلالة القرآن هي الدلالة السمعية.
______________
([44]) ـ الثنوية: فرقة من الفرق الكفرية القائلة بإلاهية النور والظلمة، وتأثيرهما في العالم ولذلك سموا ثنوية؛ لأنهم يقولون بإلهية اثنان وهما النور والظلمة وأنهما أزليان قديمان، وهم فرق كثيرة يطول ذكرها، ولكن نذكرها على سبيل الجملة، وهم: المانوية، والمزدكية، والديصانية، والمرقيونية، والمهانية، والكيسانية، والصامية، والمهراكية.
وبينهم اختلاف كثير في النور والظلمة وتأثيرهما. الملل والنحل للشهرستاني 1/186، الملل والنحل للإمام أحمد بن يحيى المرتضى 68.
([45]) ـ الديصانية: فرقة من الثانوية الكفرية القائلة بإلهية النور والظلمة، وتأثيرهما وأن النور يفعل الخير قصداً واختياراً والظلمة تفعل الشر طبعاً واضطراراً، وهم أصحاب ديصان. الملل والنحل للشهرستاني 1/191، وللإمام أحمد بن يحيى 71.
([46]) - المانوية: أصحاب مانئ بن فاتك الحكيم الذي هرب في زمان سابور بن أردشير، وقتله بهرام بن هرمز، وكان يقول بنبوة عيسى ولايقول بنبوة موسى، وله أقوال تشبه الديصانية وغيرها من فرق الثانوية. الملل والنحل للإمام أحمد بن يحيى المرتضى 68، الملل والنحل للشهرستاني 1/186.
([47]) ـ المجوس: هم الذين يقولون بصانعين يزدان وهو: فاعل الخير بزعمهم، وهو عندهم الله، تعالى عن قولهم، واهرمن وهو: الشيطان فاعل الشر ويقولون إن أهرمن حدث من فكرة يزدان الردية، ولهم أقوال ظاهرة الفساد سريعة البطلان.
وطبقات المجوس، ثلاث: الكيومرثية، والزروانية، والزردشتية، وفكرة يزدان الردية هي: أن يزدان لما تم له الأمر قال في نفسه لو كان لي منازع كيف حالي فحدث أهرمن. الملل والنحل للإمام المرتضى 72، الملل والنحل للشهرستاني 1/171.
([48]) ـ النصارى: هم أمة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وهم من أهل الكتاب وسموا بهذا الإسم نسبة إلى قرية تسمى ناصرة، وقيل لقولهم: نحن أنصار الله، وافترقوا بعد رفع عيسى عليه السلام إلى اثنين وسبعين فرقة كما جاء في الحديث أشهرها الملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، والأرميوسية، واتفق هؤلاء على أن الله اتحد بالمسيح، واختلفوا في كيفية الإتحاد، واتفقوا على أن الله جوهر واحد مكون من ثلاثة أقانيم: إقنوم الأب، وإقنوم الإبن، وإقنوم روح القدس، واتفقوا على أن الإبن هو الكلمة، والأب هوالحي القديم، والروح هو الحياة، ولهم أقوال واختلافات واسعة وكثيرة لايسع المقام ذكرها. الملل والنحل للإمام المرتضى 81، الملل والنحل للشهرستاني 1/166.
([49]) ـ المرقيونية: وهم أصحاب يعقوب بن مرقون، وهم من فرق الثنوية القائلة بإلهية النور والظلمة إلا أنهم زادوا على إخوانهم بأن جعلوا شيئاً ثالثاً ليس بنور ولا ظلمة، قالوا: دون الله في النور، ودون الشيطان في الطبع، ولهذا جُعلوا من المثلّثة. الملل والنحل للإمام المرتضى 71، للشهرستاني 1/193.
([50]) - زيادة من نسخة (ن).
([51]) - الآيتان في ذكر المثاني هما :
1- قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ(87)} [الحجر].
2- قوله تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ..إلخ الآية [الزمر:23]، وهي المرادة في هذا الموضع .____
وقد نبَّه على الدلالة العقلية بقوله: (لو كان ثان): يريد؛ لو صحت التثنية ظهرا و(هما ضدان) المضادة اللغوية، يريد: متعاديان متنافران كل منهما يريد أن يكون الملك له.
قوله: (وظهر المنكر في البلدان): يريد بالمنكر الفساد؛ وهو إهلاك كل واحد منهما لما خلق صاحبه، وإفساده لما أصلح.
قوله: (ولم يسلم أول للتالي): يقول: لم يسلم واحد منهما [لصاحبه([52])]؛ لأن التسليم دلالة العجز.
ولا يجوز صرف التسليم إلى الحكمة؛ لأن ذلك مبني على الوقوع الذي يقتضي تقدير الجائز باستحالته.
ومعنى ذلك أنه لو كان ثانياً مفروضاً -تعالى عن ذلك- وقدرنا أمراً ممكنا وهو أن أحدهما أراد تحريك جسم في حال وأراد الآخر تسكينه كانت الحال لا تخلو من ثلاثة وجوه:
إما أن يحصل مرادهما معاً فيكون الجسم متحركاً ساكناً دفعة واحدة، وذلك محال.
وإما أن لايحصل مراد أحدهما فيخلو الجسم من الحركة والسكون معاً، وذلك محال.
وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر، وذلك أيضاً محال لكونهما قادرين لذاتيهما لو كان ذلك تقديراً فلا يتحصل مقدوراهما؛ ولا يكون أحدهما أولى من صاحبه بصحة الفعل ولا تعذره، وقد أدى إلى هذه المحالات القول بالثاني فيجب أن يكون محالاً.
وأما الدلالة السمعية: فقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)}[الصمد] ، وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}[المائدة:73] ، وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22] .
ولا وجه لإفراد الكلام في التثليث؛ لأنه فرع على التثنية، فإذا بطلت بطل.
[الكلام في أن الله -تعالى- عدل حكيم ليس في أفعاله ظلم ولا عبث ولا سفه ولا شيء من القبيح]
[21]
وهو حَكِيمٌ ذُو الجَلالِ عَدْلُ .... إذ كُلُّ جَورٍ حَاجَةٌ وجَهلُ
وَمِنْهُ للكُلِّ العَطَاءُ الجَزْلُ .... وليس يَثْنِي نِعْمَتَيْه العَذْلُ
يُجْزِي عَلى الحبَّةِ بالمِثْقَالِ
هذا هو الكلام في أن الباريء -تعالى سبحانه- عدل حكيم، ليس في أفعاله ظلم، ولا عبث، ولا سفه، ولا شيءٌ من القبيح.
وهذه المسألة أهم مسألة من مسائل الخلاف بين أهل الجبر والعدل، وهي من أركان الدين القوية.________________
([52]) - زيادة من نسخة : (ن) .
ولجهل أكثر الفرق بمعنى العدل والحكمة خبطوا خبط العشواء، وركبوا الأهواء، وسموا العدل جوراً، والجور عدلاً، لفقد معرفتهم بالحقائق، فنسأل الله التوفيق.
قوله: (وهو حكيمٌ ذو الجلال عدل): أراد بيان مذهبه في هذه المسألة.
فمذهنبا أن الله -تعالى- عدل، حكيم، ليس في أفعاله ظلم، ولا عبث، ولا سفه، ولا شيءٌ من القبيح.
وخالفت المجبرة في ذلك على طبقاتها.
ودلالة هذا المذهب تنبني على أصلين، أحدهما: أن الظلم قبيح، والثاني: أن الله -تعالى- لا يفعل القبيح.
[الدليل على أن الظلم قبيح]
أما كون الظلم قبيحاً فذلك معلوم لكل عاقل ضرورة؛ ولهذا يشترك في العلم بقبحه المختلفون.
والمجبرة لا تخالفنا في قبحه، لكنهم يقولون إذا وقع من الباريء وقع على وجه يخرجه عن كونه ظلماً، وذلك باطل؛ لأن العلة الموجبة لكونه ظلماً من الواحد مِنّا هي قائمة في الباريء -تعالى- على أبلغ الوجوه.
ألا ترى أن الظلم عند جميع العقلاء: هو الضرر العاري عن نفع يوفي عليه، أو دفع ضرر أعظم منه، أو استحقاق لجنسه؛ لأن الظلم، وإن كان عند غيرنا من المجبرة، وضع الشيء في غير موضعه كما يقوله بعضهم ، والتصرف في ملك الغير بغير إذنه ، كما يقوله بعض آخر، إلى نحو ذلك، فلا ينكرون أن كل فعلٍ وقع على الوجه الذي ذكرنا فإنه يكون ظلماً لا محالة له، ولا سبيل لهم إلى دفعه، لأنه من علوم العقل الأوَّلة.
يزيد ذلك إيضاحاً أن رجلاً لو مر برجل يقطع يد غيره ففتش عن حاله هل ذلك القطع لدفع ضرر أعظم؟ كأن يكون في يده آفة أجرى الله -تعالى- العادة بأنها إن لم تقطع سرت إلى سائر الجسد، أو كان ذلك الإنسان سارقاً فأمر الإمام بقطعه بعد معرفة ذلك الرجل بصحة الإمامة، أو قطعت يده قصاصاً، أو رأى رجلاً يضرب صبياً ضرباً مبرحاً لا لنفع يعود عليه، ثم أخبرنا بعد ذلك، مع تعري هذا الضرر عن واحد من هذه الوجوه، أنه لا يقطع على قبح ذلك الفعل لَعَلِمَ كل عاقل بطلان قوله بما يجري مجرى الضرورة ، فثبت أن الظلم لا يقبح إلا لوقوعه على هذا الوجه من أي فاعل كان ، بدلالة أنّا إذا أحضرنا بعقولنا الفعل على هذا الوجه، ولم نحصر الفاعل علمناه قبيحاً؛ بل وقوعه على ذلك الوجه من الباري -تعالى عن ذلك- أدخل في باب القبح؛ لأنه أعلم العلماء، وأحكم الحكماء، وأغنى الأغنياء، وله الصفات العُلا، فإذا وقع منه -تعالى عن ذلك- كان قبيحاً على أبلغ الوجوه.
[الدليل على أن الله لا يفعل القبيح]
وأما دلالة الأصل الثاني؛ وهو أن الله لا يفعل القبيح: فلأنه عالم بقبحه، وغني عن فعله، وعالم بأنه غني عنه، ومن كان بهذه الأوصاف فهو لا يفعل القبيح.
أما علمه بقبحه: فلما تقدم من أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، وقبح القبائح من جملة المعلومات لولا ذلك لما صح علمنا به.
وأما أنه غني عن فعله: فلما تقدم من الدلالة على أنه غني، وذلك يقتضي الغنى عن الحسن والقبيح.
وأما أنه عالم باستغنائه عنه: فلأنَّ أجَلَّ المعلومات ذاته، وما هو عليه سبحانه من الصفات فيجب أن يعلم هذه الحال بنفسه التي هي أجل المعلومات لما تقدم من أنه عالم بجميع المعلومات.
وأما أن من كان بهذه الأوصاف فهو لا يفعل القبيح: فذلك ظاهر؛ لأنه لا يحمل فاعل القبيح على فعله - عند كل عاقل- إلا جهله بقبحه، أو حاجته إلى فعله، أو جهله بأنه غني عنه، وقد ثبت أن هذه الوجوه مستحيلة على الباريء -تعالى- فثبت أنه تعالى لا يفعل القبيح.
ويدخل تحت جملة هذا اللفظ الظلم والسفه والعبث والكذب، وجميع أنواع القبائح المعلومة بالعقل والسمع، فلا وجه لإفراد كل واحد منها بالذكر، فإذا ثبت أنه تعالى لا يفعل شيئاً من القبائح، وقامت الدلالة بأن شيئاً من المحدثات لا فاعل له سواه، كأن يكون جسماً أو عرضاً ضرورياً، إذ لا فاعل للأجسام والأعراض الضرورية إلا الله -تعالى- لخروجهما عن مقدور العباد؛ قضينا بأن ذلك الفعل حسن إذ لا واسطة بين الحسن والقبيح وإن كانت النفوس تكرهه؛ لأن الحسن أكثر ما يكون في المكاره، والقبيح أكثر ما يكون في الملاذ والمشتهيات؛ وهذا تنبيه لكل عاقل متأمل لم يعم التعصب عين بصيرته، وتملك يدُ التقليد مقودَه.
[التذكير ببعض نعم الله]
(عدنا إلى التفسير)
قوله: (ومنه للكل العطاء الجزل): فكذلك حاله سبحانه؛ لأنَّا نعلم أنه منعم على كل أحد من عباده نعمة جليلة ترجح بالدنيا وما فيها، فأول نِعَمِه على عباده - ومجموعها لا تحصى - إخراجه لهم من العدم إلى الوجود، وإحياؤه لهم بعد الإخراج، وتركيب هذه الجوارح الجليلة القدر فيهم من الأيدي والأرجل والألسنة والأنوف والأعيان والآذان، التي لو أعطي كل واحد منَّا في جارحة منها ما في الدنيا من عين وجوهر وطيب وفلس ؛ بل جميع حيوانها وجمادها، لما أنصف العاقل وسد له مسد الإستمتاع بها فضلاً عن مجموعها، فالحمد لمن جمعها، وجعلنا نشتهي، ومكننا من المشتهى، وأغنانا بحلال المشتهى عن حرامه، لنحترز عن مواقعة القبيح وآثامه.
بل إنظر أيها العاقل - عَطفاً لا إضراباً - إلى هذه الحياة ما أجل قدرها وهي فِعْلُه لا محالة، فإنه لا يوازيها شيءٌ من ملك الدنيا؛ بل لا يوازيها ملك الدنيا؛ لأنَّا نعلم علماً ضرورياً أن الموت لو اندفع بملك الدنيا ويخرج عن ملكه لفعل، يوضح ذلك أنَّا نعلم أن الملوك ينهزمون عن الممالك الخطيرة إذا خافوا فوت الحيوة، أو ذهاب بعض الجوارح ، أو الحبس الذي يهون أمره، إن فكر في أمر حبس الآخرة وعذابها نعوذ بالله منه؛ فإذا فكر الإنسان في عطايا الله -سبحانه- وعظمها - وأن الحكيم سبحانه قصد بها الإحسان إلينا لاستحالة النفع الذي هو فرع الحاجة عليه تعالى، وإكماله سبحانه لما تقدم من النعم بالعقل الذي هو تمام كل حي، وأشرف كل شيءٍ من عطايا الحكيم بالإتفاق - علم تقصير نفسه مع الإجتهاد عن تأدية الشكر الواجب عليه، فالله المستعان.
وليس لجاهل أن يعترض ما قدمناه بأنَّا نرى بعض الملوك يستسهل الموت ويؤثره على الإنهزام.
قلنا: يعلم ذلك كل عاقل أن لا فوت للموت، وأنه حوض لا بد من وروده، ونحن قدرنا لو حصل له وقع الموت [إرغاماً]([53]) وهذا لا يمكن إعتراضه بشيءٍ.
______________
([53]) ـ في جميع النسخ كلمة غير ظاهرة، ولعلها: (إرغاماً).
قوله: (وليس يثني نعمتيه العذل): يريد؛ نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، ويحمل على النعمة الباطنة والنعمة الظاهرة، ويحمل أيضاً على نعمة الدنيا ونعمة الدين، فهو تعالى منعم في جميع هذه الوجوه، فحمل اللفظ على الجميع أولى، ولا يثنيه([54]) العذل؛ بل السَّبُّ الذي هو في هذا الباب أبلغ، وهو في حقه تعالى أشنع وجوه القبح؛ لأن اليهود قالت: يده مغلولة ، وقالت : هو فقير وهم أغنياء، فلم يمنعه ذلك من الإنعام عليهم، وقد نطق بذلك القرآن فقال تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}[البقرة:40ـ47] ، فهذا كما ترى تصريح بما ذكرنا، فسبحان من لا يثني نعمه عذل العاذلين، ولا يقدح في حكمته تأويل الجاهلين؛ إذ المعلوم من كل معط سواه - ومن ذا الذي يعطي على الوجه الحسن إلا من أعطاه وأغناه سبحانه ، وأقناه ـ، يؤثر فيه عذل العاذلين، وإن لم يستمر ذلك فلا بد من وقوعه في حين، فكيف بما يُعلم من متمرّدي هذه الأمة بالمشاهدة، ومن الأمم الضالة المتقدمة بما في كتاب الله -سبحانه- وسنة رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بالأخبار المتواترة، أنهم سألوا الله -تعالى- إنزال النقمة وتعجلوها قبل وقتها في الحكمة جهلاً منهم بالله -سبحانه-، واستخفافاً بعظيم ما أعد لمن عصاه، فأنزل الله -سبحانه- عليهم النعمة عوضاً عما سألوا لسعة جوده، وعظم كرمه، فسبحان من لا يحصي أياديه العادون، ولا يأتي على كنه وصفه الواصفون، فالحمد لله ربِّ العالمين.
قوله: (يجزي على الحبَّة بالمثقال): ظاهر الدليل؛ لأنه أخبر أنه يعطي على الحبَّة المعطاة منه ضعف وذلك دليل على ما قلنا وزيادة، وذلك لا يُعلم من غيره سبحانه؛ لأن الحبَّة المعطاة منه وليس كذلك غيره، فلا نجد في أنواع الشكر أبلغ من الإعتراف بالتقصير والثناء، ونسأل الله العون.
____________________
([54]) ـ من الثني، وهو الضد الذي هو المنع، تمت.
(وفي مسألة القضاء)
[22]
قَضَاؤُهُ بالحقِّ دُونَ الباطِلِ .... كما أَتَى في السُّورِ النَّوَازِلِ
وإذْ بِهِ يَفْرَحُ كُلُّ عاقِلِ .... والظُّلمُ يُشجي قَلبَ كلِّ فَاضِلِ
فَانْظُرْ إلى مَخَارِجِ الأقَوَالِ
بيَّن في هذا القول بالدلالة أن الله -سبحانه- لا يقضي إلا بالحق، وقد أشار إلى ذلك بقوله: (إذ به يفرح): يريد؛ بقضاء الله -سبحانه- وهو يريد بالفرح هاهنا: الرضى، فلما كان الرضى بقضاء الله، وإن كان كريهاً، يؤدي إلى الفرح، سماه بإسم ما يؤدي إليه، وأمثاله في اللغة كثير جداً.
وكذلك قوله في الظلم: إنه (يشجي قلب كل فاضل): يريد؛ يسخطه كلّ فاضل مرضي، فلو كان قضاء الله لم يسخطه ساخط من الفضلاء.
ومعنى الشجا: الإعتراض والسعل، وأكثر ما يستعمل الشجي في القلب، واستعماله في غيره شائع في اللغة.
فمذهبنا أن الله -تعالى- لا يقضي إلا بالحق، وأن الظلم والمعاصي باطل، والخلاف فيه مع المجبرة.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: ما ثبت من إجماع الأمة أن الرضى بقضاء الله -تعالى- واجب، وأن الرضى بالمعاصي لا يجوز، فلو كانت المعاصي من قضاء الله -سبحانه- لوجب الرضى بها لما تقدم من إجماع الأمة؛ على ما ذكرنا من الوجهين جميعاً، فلما كان الأمر بالضد من ذلك؛ علمنا أنها ليست من قضائه، وقد قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}[غافر:20] ، والمعاصي لا تكون حقاً، وهذه الدلالة هي التي نبَّه عليها بقوله: (فانظر إلى مخارج الأقوال): يريد؛ النظر في وجوب الرضى بقضاء الله، ووجب السخط للمعاصي، ولا يجب الرضى بشيءٍ والسخط له في حالة واحدة، وذلك أظهر دليل على أنها ليست بقضائه سبحانه.
---
(القول في تكليف ما لا يطاق)
[23]
وَكَلَّفَ العَبدَ دُوَيْنَ الطَّاقَهْ .... وحَلَّ إذ كلَّفَهُ وِثَاقَهْ
إذْ صار لا تَجْرِيْ عليهِ الفَاقَهْ .... ولَم يُرِدْ سُبْحَانَهُ إرهَاقَهْ
جَلَّ فما أَرْحَمَهُ من وَالِي
هذا هو الكلام في أنه تعالى لا يكلّف أحداً من عباده ما لا يطيق، والخلاف فيه مع المجبرة.
ومذهبنا في هذه المسألة: أن الله -تعالى- لا يكلف أحداً من عباده ما لا يطيق؛ بل لا يكلفه كل ما يطيق؛ لأنه قد كلف دون ما نستطيع لجوده وكرمه.
قوله: (وكلّف العبد دوين الطاقة): لأنَّا نعلم أنَّا تعبدنا من جميع أنواع التعبد بما في وسعنا أضعافه، والطاقة والإستطاعة معناهما واحد.
قوله: (وحل إذ كلفه وثاقه): يقول إنه تعالى مكنه من فعل ما تعبده به، ليكون مختاراً في فعله، فيستحق الثواب والمدح بفعله، والعقاب والذم بتركه، ولولا تقديمه للقدرة عليه لم يستحق شيئاً من ذلك؛ خلافاً لما تذهب إليه المجبرة؛ لأنهم يقولون إن الله تعالى تعبده بأمر لا يدخل تحت مقدوره، ولا يجد إلى فعله سبيلاً؛ وقد أبطل الله -تعالى- قولهم بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286]، و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}[الطلاق:7]، وبقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16].
قوله: (إذ صار لا تجري عليه الفاقة): تنبيه على أن الظلم، وفعل القبيح لا يجوز إلا ممن تجوز عليه الحاجة، ومعنى الفاقة والحاجة واحد، وقد ثبت بما تقدم أن الله -تعالى- غني عن كل حسن وقبيح، وأن الحاجة مستحيلة في حقه، ولا يحمل على فعل القبيح إلا الحاجة، وقبح تكليف ما لا يطاق معلوم ضرورة لكل عاقل.
فتحرير الدلالة في هذه المسألة أن نقول: تكليف ما لا يطاق قبيح والله -تعالى- لا يفعل القبيح.
[بيان أن تكليف ما لا يطاق قبيح]
أما الأول: وهو أن تكليف ما لايطاق قبيح: فذلك معلوم ضرورة.
ألا ترى أن كل عاقل يستقبح من أحدنا أن يقيد عبده ويصله ويهبطه إلى البير، ثم يكلفه الصعود منها بغير آلة ولا فك، ومن أخبرنا من نفسه، أنه لا يعلم قبح ذلك من نفسه، قضى جميع العقلاء بكذبه أو جهله، وما قبح ذلك من أحدنا لوجه من الوجوه سوى أنه تكليف لما لا يطاق، بدليل أنه لو كلفه الصعود، وأهبط إليه الرشاء، وحلّ وثاقه وقَيْدَهُ، وعلم أنه ممن يمكنه مع ذلك الصعود، لما قبح ذلك عند أحد من العقلاء؛ بل يعلم الجميع إستحقاق العبد للذم إذا لم يفعل ما أمره به مولاه.
وأما الأصل الثاني: وهو أن الله -تعالى- لا يفعل القبيح: فقد تقدم بيانه.
قوله: (ولم يرد سبحانه إرهاقه): يقول: لم يرد سبحانه تكليفه ما لا يمكنه، و(الإرهاق): هو إلحاق الغير المشقة، والرَّهاق في أصل اللغة: هو اللحاق، يقول قائلهم: رَهقك الفارس إذا غشيك.
قوله: (جلَّ فما أرحمه من والي): معنى جلَّ وعلى وعظم عن أن يشبهه شيء.
(ما أرحمه): تعجب من سعة رحمته، ورحمته سبحانه لا تنحصر بالعد، ولا يُنْتَهى فيها إلى حد، يكون منها أنه لم يكلف عبيده ما لا يطيقون، فكلفهم دون ما يطيقون، وعذرهم عندما فعل بهم من الآفات التي أصابهم بها، ووضع عنهم الفرض فيها فقال سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}[النور:61].
ومن رحمته أنه أمهل من عصاه بعد استحقاقه للعقوبة؛ لأنه يستحقها([1]) من يأتي المعصية، وأمر إليه الرسل ونبهه بالخواطر، ونصب له الأدلة، و جعل باب التوبة مفتوحاً لمن تاب
______________
([1])ـ أي العقوبة، تمت.
(الكلام في أنه تعالى لا يريد الظلم)
[24]
ولم يُرِدْ ظُلماً ولا فَسَادا .... لو شَاءَهُ ما عَذَّبَ العِبادا
ولأَرَدْنا كُلَّ ما أرادا .... ثَمَّتَ وَالَيْنَا الذي قَدْ عَادَا
وكان لا يَنْهى عن الإضْلالِ
هذا هو الكلام في أنه تعالى لا يريد الظلم، ولا يرضى الكفر، ولا يحب الفساد، والخلاف في هذه المسألة مع المجبرة.
معاني ألفاظ القافية:
(الإرادة): ما يجب به كون الحي مريداً، وهي ضد الكراهة.
و (الظلم): هو الضرر العاري عن جلب نفع للمضرور أعظم منه، أو دفع ضرر يوفي عليه، أو استحقاق لذلك.
و (الفساد): هو كل فعل قبيح يتغير له الظاهر المعتاد.
قوله: (لو شاءه ما عذَّب العبادا): المشيئة والإرادة معناهما واحد؛ لأنك لاتقول: شئت هذا الأمر ولم أرده، ولا أردته ولم أشه؛ بل يعد من قال ذلك مناقضاً جارياً مجرى قوله: أردت وما أردت.
ومعنى قوله: (ما عذَّب العبادا): ظاهر؛ لأنه لو أراد الظلم ما عذبهم على فعله، لأنهم قد فعلوا مراده فكان إسم الطاعة ألزمَ لهم من إسم المعصية.
قوله: (ولأردنا كلما أرادا): لأن ذلك الواجب علينا له ليلزمنا حكم المطيع أن نريد جميع ما أراد سبحانه من المحبوب والمكروه، ونكره ما كره من جميع ما أحببنا واشتهينا.
قوله: (ثمت والينا الذي قد عادا): لأنه فعل ما أراد الحكيم -سبحانه- كما قال مخالفنا، وجبت علينا موالاته؛ لأنه لم يحاده سبحانه ولم يعصه إذ لم يخالف مراده.
قوله: (وكان لا ينهى عن الإضلال): إلزام لمن خالفنا في ذلك من المجبرة؛ لأن شياطين الجن والإنس الذين يضلون الناس لم يأمروهم على مذهب من يقول إنه سبحانه يريد الظلم وقبيح أفعال العباد؛ إلا بما أراد سبحانه فكان يجب أن لا ينهاهم عن ذلك؛ لأنه لم يأمرهم إلا بما أراد منهم على قول المخالف، ومثل هذا لا يغبى على عاقل منصف.
وتحرير هذه الدلالة: أنا نقول: إرادة القبيح قبيحه، والله -تعالى- لا يفعل القبيح.
[بيان أن إرادة القبيح قبيحة]
أما الذي يدل على الأول وهو أن إرادة القبيح قبيحة؛ فلأنا نعلم أن الواحد منا لو أخبرنا عن نفسه أن جميع ما يجري من القبائح والمنكرات واقع بإرادته لذمه العقلاء، وعلى قدر شرفه وعظم شأنه يكون ذمهم له أكثر، والعقلاء لا يذمون على فعل إلا وهم يعلمون قبحه بالعقول، ودلالة العقول واجبة الإتباع لأنها أقوى الأدلة؛ بل هي أصلها.
وما ذموه إلا لمجرد إرادته القبيح وإن كان الفاعل غيره، فكيف الحال إذا أراد وفعل على ما يقول المخالف!؟، فإذا أراد سبحانه، وتعالى عن ذلك - على قول المخالف - القبائح كانت علة إستحقاق الذم فيه سبحانه، وإثمه على أبلغ الوجوه؛ لأنا قد قدمنا ما لا ينكره عاقل منصف أن القبيح يعظم لعظم فاعله وشرفه، وإرادة القبيح قبيحة وهي فعل، ولا أعظم من الله -سبحانه- ولا أشرف منه ولا أعلى، فثبت أن القبائح لا تجوز عليه إرادتها؛ لأن ذلك يؤدي إلى باطلين:
إما أن لا يُذَمَّ مع وقوع القبيح من قبله -تعالى عنه- ومعلوم خلافه.
وإما أن يُذَمَّ -تعالى عن ذلك- وذلك باطل؛ لأنه يجب حمده، ويستحيل ذمه، فلا مخلِّص من ذلك إلا القول بأنه تعالى لا يريد شيئاً من القبائح.
وأما الأصل الثاني وهو أنه تعالى لا يفعل القبيح فقد تقدم بيانه فلا وجه لإعادته.
(مسألة الإمتحان)
[25]
يَمْتَحِنُ العالمَ بالأمْرَاضِ .... والموتِ والشدَّةِ والأعرَاضِ
لِلإعْتِبَارِ المَحْضِ والأعْوَاضِ .... وهو عَنِ المُمْتَحَنِيْنَ راضِي
يُحِلُّهُم فَوْقَ المَحَلِّ العَالِي
الخلاف في هذه المسألة واقع بيننا وبين فرق الكفر من الثنوية والطبائعية.
فالثنوية فرقتان: المجوس وأصحاب النور والظلمة.
فأهل النور والظلمة فرقتان: الديصانية والمانوية، ويلحق بهما فرقة يقال لهم المرقيونية.
والطبائعية أهل أصل المقالة بالطبع، ثلاث فرق، وهم يتشعبون إلى فرق كثيرة لاختلافهم في فروع لهم، لا وجه لتطويل الكلام بذكرهم ها هنا؛ لأنا إذا قطعنا مقالة أهل الأصول إنحسم خلاف أهل الفروع.
ولا خلاف نعلمه بين أهل الإسلام في أن الآلام والمحن الخارجة عن مقدور العباد لا فاعل لها إلا الله -سبحانه- إلا ما يذهب إليه طائفة من المطرفية، وقد طابقهم على ذلك -من ينتسب إلى الإسلام- الباطنية؛ إلا أن آبائنا - عَلَيْهم السَّلام-، لا يذكرون خلافهم في خلاف فرق الإسلام، لإلحادهم في أسماء الله -تعالى-، وتأويلهم للشريعة تأويلاً يؤول إلى الكفر، ورد ما علم من دين النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ضرورة، ولولا خشية التطويل لذكرنا طرفاً مما يحكي عنهم الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- وعلماء الأمة.
[بيان مذهب المطرفية ومذهب المجوس في الإمتحانات وإبطالهما]
فإذاً الخلاف لا يعلم من أحد من أهل الإسلام في مسألة الإمتحان إلا عن المطرفية، وهم لا يرجعون في نفيهم الآلام عن الله -تعالى- إلى أصل معين فيتعين الكلام عليه؛ لأنهم ربما رجعوا بالآلام، إلى إحالات الأجسام، وتأثيرات الطبائع، وهذا كما ترى يدخل الكلام عليه تحت الكلام على الطبائعية.
وربما أضافوا الآلام إلى الشيطان وتعلقوا بظاهر قوله -تعالى- حا كياً عن صفة([2]) أيوب -عَلَيْه السَّلام-: {أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ(41)}[ص]، وجهلوا تأويل هذه الآية، ولم يرجعوا إلى ورثة الكتاب في تفسيرها، وهذا القول يدخل في مقالة المجوس.
لأن المجوس ذهبوا إلى أن العالم حدث عن صانعين عبروا عن أحدهما بيزدان، وعن الثاني باهرمن، ويزدان -تعالى عن قول الظالمين- عندهم الله، واهرمن الشيطان، فأضافوا كل نفعٍ، ولذةٍ، وخيرٍ، وصورةٍ حسنةٍ، وراحةٍ، وسعةٍ، وسرورٍ، إلى يزدان الذي هو عندهم الله تعالى.
وكل ألمٍ، وغم، وضيقٍ، وشدةٍ، وصورةٍ وحيشةٍ، إلى اهرمن، وهم مجمعون على صفة يزدان، ومختلفون في صفة اهرمن، خلاف طويل لا يحتمل الكتاب ذكره.
______________
([2]) ـ في (ن، م): صفيه...
وحملهم على هذه المقالة القبيحة أنهم اعتقدوا أن الملاذّ كلها حسنة، والمكاره كلها قبيحة، فهذا غفلة عظيمة؛ لأن أكثر المكاره حسن، وأكثر الملاذ قبيح، فحملتهم هذه المقالة الردية على جواز نكاح الأمهات والأخوات؛ لاعتقادهم أن كل لذة حسنة، وجهلوا أن الفعل لا يحسن لصورته وإنما يحسن لوقوعه على وجه دون وجه.
ألا ترى أن السجدة قد تكون كفراً، كأن تقع لغير الله -تعالى-، وقد تكون طاعة كأن تقع لله -تعالى-، والصورة في الحالتين واحدة؟!.
وكذلك ضرب الإنسان لرقبة الغير قد يكون قبيحاً بأن يقع عدواناً، وقد يكون حسناً بأن يقع قصاصاً أو بأمر إمام الحق، فهذا فعل واحد ضرر في جميع الحالات، حَسُن لوقوعه على وجه، وقَبُح لوقوعه على وجه آخر.
وقد يكون ضرب العنق لمن لا يستحق العقاب، ويكون حسناً يجب أن يعوضه الله عليه، وذلك في رجل يقتل مسلماً متعمداً ثم يندم على فعله ويتوب إلى ربِّه فيُقِيدُ نفسه إلى أولياء القتيل فإنهم بالخيار إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا عفوا، وإن شاؤوا اتدَّوا([3])، فإذا ضربوا عنقه كان ذلك الضرب حسناً، لولا حسنه لوجب إنكاره، ومنعهم عند القدرة منه، ومعلوم عن جميع الأمة خلافه؛ بل يجب الرضى به، فإن أنكره منكر كان من الجاهلين.
وكذلك الألم قد يكون من ضرب الظلمة فيكون قبيحاً، وقد يكون من الله -تعالى- للإعتبار والعوض فيكون حسناً، وهو ألم في الحالين، فقد رأيت دخول الخلاف لمن ذكرنا تحت ما تقدم ذكره، فالكلام عليهم يأتي على القولين جميعاً
_______________
([3])- أي أخذوا الدية.
[إبطال مذهب الثنوية في مسألة الإمتحانات]
فأما أهل النور والظلمة من الديصانية والمانوية فقد أطبقوا مع إختلافهم في فروع لهم في صفة الظلمة خاصة، على أن النور يفعل الخير بطبعه ولا يصح منه الشر أبداً، وأن الظلمة تفعل الشرّ بطبعها ولا يصح منها الخير أصلاً، وهذا غفلة؛ لأن فاعل الخير لا يمتنع عليه فعل الشر شاهداً ولا غائباً، ولسنا نحتج عليهم بالقرآن لأنهم ينكرونه، وإلا فقد صرح تعالى بذلك في قوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}[الأنبياء:35]، وبقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}[الأنعام:17]، إلى غير ذلك.
وقد أجمع أهل هذه المقالات على اختلافهم أن ما يحصل في العالم من الأمراض والأسقام لا تضاف إلى الله -تعالى- بل يجب نفيها عنه، ولم يحملهم على هذه المذاهب الفاسدة الخارجة عن الإسلام إلا جهلهم بالله -سبحانه-، وإنكارهم للآخرة وما أعد فيها سبحانه للمطيعين والممتحَنين، وأن ما نقص في الدنيا وزاد في الآخرة خير مما زاد في الدنيا ونقص في الآخرة، فلما جهلوا ذلك طلبوا لهذه الحوادث عللاً، ونفوها عن الحكيم -تعالى-.
والذي يدل على بطلان قول أهل هذه المقالات جميعاً: أن هذه الإمتحانات حوادث، والثاني: أنه لا بد للمُحدَث من مُحدِث.
فالذي يدل على أنها حوادث: [أن([4])] لوجودها أولاً، وذلك معنى المحدَث بلا خلاف، أما أن لوجودها أول فذلك معلوم لنا بالمشاهدة في غيرنا، وبما نعلمه من نفوسنا؛ لأنَّا نعلم عند حصول الألم فينا وفي غيرنا حدوث أمر لم يكن، وهذا عام لجميع الإمتحانات.
والذي يدل على أن المحدَث لا بدَّ له من مُحدِث: قد تقدم في إثبات الصانع -سبحانه- بما لا سبيل إلى دفعه فلا وجه لإعادته.
_______________
([4]) - زيادة من نخ (ن، م).
[بيان عَجْزِ القادرين بقُدْرة عن حصول الإمتحانات من جهتهم]
فإن قيل: ما أنكرتم من حصول هذه الإمتحانات من جهة القادرين بقدرة؟.
قلنا: أنكرنا ذلك؛ لأنها لا تدخل تحت إمكانهم، ولا تحصل بسبب إرادتهم، ولا تنتفي بحسب كراهتهم، وتلك خواص أفعالهم؛ ولأنهم لو قدروا عليها، لقدروا على أضدادها، خلافاً لما ذهبت إليه المجبرة، ومعلوم أنهم لايقدرون على أضدادها.
أما أنهم لو قدروا عليها لقدروا على أضدادها؛ فلأن القدرة على الشيء هي القدرة على ضده، بدليل أن القدرة على الحركة قدرة على السكون، ولهذا يصح من أحدنا أن يفعل أحدهما بدلاً من الآخر.
وأما أنهم لا يقدرون على أضدادها فلأنا نعلم من العليل أنه يجتهد في برء نفسه، فلو كان البرء مقدوراً له لما أخره ساعة واحدة؛ خاصة منا لقلة صبرنا.
وأما الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- فقد كانوا يختارون الصبر على الألم، واحتمال المشاق، رغبةً في عوض الآخرة، وإلا فكان يدخل تحت مقدورهم الدعاء إلى الله -تعالى- برفع الآلام عنهم.
ألا ترى إلى أيوب -عَلَيْه السَّلام- وتأخيره للدعاء حتى بلغ به الجهد كل مبلغ!؟.
فأما أن أحداً من القادرين بقدرة يمكنه دفع الألم عن نفسه بحوله فلا سبيل لأحد إلى تصحيحه.
[إبطال حصول الآلام بتأثيرات الطبائع]
فإن قيل: فما أنكرتم أن هذه الآلام حصلت بتأثيرات الطبائع، وإحالات الأجسام، وانحراف الأمزجة كما ذهبت إليه الطبائعية ومن طابقها؟.
قلنا: أنكرنا حصول هذه الآلام من الطبائع؛ لأنها غير حية ولا قادرة، والفعل لا يصح إلا من حي قادر على ما أجمع عليه أهل الإسلام وأيدناه بالبرهان في مسألة قادر.
[إبطال حصول الآلام من الإحالات]
وأنكرنا حصول هذه الآلام من الإحالات؛ لأن الإحالات لا تخلو: إما أن تكون معقولة حتى يصح إضافة الفعل إليها، أو غير معقولة.
فإن كانت غير معقولة، إستوى نفيها وإثباتها في باب الجواز؛ لأن إثبات ما لا يعقل لا يكون أولى من نفيه؛ فوجب القضاء بفساده كما لزم ذلك الأشعرية في إثباتهم رؤية للباريء غير معقولة فراراً مما ألزمنا المجسمة.
فإن رجع بالإحالة إلى شيءٍ معقول؛ فذلك الشيء لا يخلو: إما أن يكون محدثاً، أو قديماً، ولم نذكر المعدوم؛ لأن إضافة الأفعال إليه مستحيلة؛ لأنا نعلم تعذر الفعل على الموجود إذا عدمت قدرته وحياته، فكيف يضاف إلى المعدوم مع عدم ذاته وقدرته!؟، واستحالة ذلك في العقول أبعد {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ(269)} [البقرة].
فإن كان يريد بقوله: حصل بالإحالة حصل بالقديم سبحانه.
قلنا: هذا وإن صح من جهة المعنى، من حيث أنه لا يقدر على تقليب العباد بين الخير والشر، ليشكروا على أحدهما ويصبروا على الآخر، فيعطيهم على الشكر أجر الشاكرين، وعلى الصبر أجر الصابرين، ويُرغِّب بالخير في خير الآخرة، ويخوفهم بالشر من شر الآخرة، وغير هذه وجوه لا تمنع منها الحكمة؛ فذلك قبيح من جهة العبارة قبحاً لا يؤمن إنتهاؤه إلى الكفر؛ لأن إطلاق الأسماء عليه لا يجوز إلا بشرع أو لغة، ولا دليل في واحد منهما على تسمية الباريء -سبحانه- إحالة؛ بل الفاعل عموماً، وإن رجع بالإحالة إلى أمر محدث، فالمحدث ينقسم إلى متحيز في الوجود، وغير متحيز؛ فالمتحيز الأجسام والجواهر، وغير المتحيز الأعراض.
[بيان عجز الأجسام عن إيجاد الإمتحانات]
ولا يجوز حصول الآلام وسائر المحن من الأجسام، لأنها تنقسم إلى جماد وحيوان.
باطل حصولها من الجماد؛ لأنه غير حي ولا قادر، والفعل لا يصح إلا من حي قادر.
وباطل أن تحصل هذه الآلام وسائر الإمتحانات من الحيوان؛ لأنه قادر بقدرة، والقادر بقدرة لا يعدي الفعل إلى غيره إلا بأن يعتمد في جسم يوصله إليه؛ لأن الإختراع عليه في غير جسم مستحيل، ونحن نعلم ضرورة أن هذه الآلام وقعت علينا بغير اعتماد من غيرنا عدَّاها في جسم إلينا، يعلم ذلك كل عاقل؛ بل ربما يفزع إلى إعتماد الغير عليه لدفع بعض الألم؛ وبهذا يبطل قول المجوس أن الألم من الشيطان - أعني الفرقة التي زعمت أن الشيطان حدث من فكرة يزدان الردية ـ.
[فكرة يزدان الردية التي أثبتها المجوس]
وهي عندهم أصل قوله لما خلق العالم خالصاً من الآلام والشوائب، لو كان لي منازع في هذا الملك أُصِح ويُسقم، ويبتلي وأُنعم، وأُشِبُّ ويُهْرِم، وكيف كان حالي معه، فتولد من فكرته بزعمهم الشيطان، فقال ها أنا منازعك فكادا أن يقتتلان إلى أن اصطلحا على إخلاص العالم العلوي ليزدان، ومشاركتهما في العالم السفلي، وكان السفير بينهما بعض النيرات، منهم من قال: إنه القمر، خرافات تقضي ببطلانها أدلة العقول؛ بل بدايهها.
والفرقة التي زعمت أنه استحال من عفونة العالم؛ لأنا نقول لهاتين الفرقتين: هو محدث بالضرورة فيلزم من ذلك كونه قادراً بقدرة، والقادر بالقدرة يستحيل منه تعدية الفعل إلى غيره، إلا بآلة من الأجسام يعتمد فيها ثم يصل إلى ذلك الغير، ونحن لانعلم عند الألم وصول جسم إلينا، ولا تأثيره فينا، وكذلك جميع العقلاء.
فأما من ذهب من المجوس إلى قدم اهرمن، فقوله يبطل بنفي الثاني، وقد تقدم في مسألة واحد، فلا وجه لذكره.
وقد دخل قول من قال من المُطَرفيَّة إن الألم حاصل من جهة الشيطان تحت هذا القول، فيبطل بما بطل به، فلا وجه لإفراد ذكره.
[معنى قوله تعالى:{أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ} على مذهب أهل البيت(ع)]
فإن قيل: فما معنى الآية عندكم؟.
قلنا: هذا لا يلزمنا، لمن جعل نفسه خصماً لنا، أن نبين له ما لم يفهم، وإنما يلزمنا لمن سأل منا الفائدة؛ لأن الواجب علينا إفساد مقالة الخصم، وقد تقدم ذلك.
ومما يزيده إيضاحاً: أن الخصم يقصر فعل العبد على الحركة والسكون، وسواء في ذلك الشيطان وغيره، ولا يصح من القادر بالقدرة فعلهما دفعة واحدة في نفسه ولا في غيره، وإنما يفعل أحدهما بدلاً من الآخر، والألم خارج عنهما؛ لأنهما ضدان عند كل عاقل، فلو كان الألم سكوناً بطل بالحركة، أو حركة بطلت بالسكون، ومعلوم خلافه.
ولأنا نعلم ضرورة بقاء الألم في حالة حركة الواحد منا وسكونه؛ فثبت خروجه عن مقدور القادرين بقدرة من الشياطين وغيرهم.
فإن قيل: فما معنى قول أيُّوب على وجه الإستفادة؟
قلنا: المراد بالنُصْبِ والعذابِ هاهنا: الوسوسة، ففزع إلى الله -تعالى- ليعرف حكم الحادثة؛ لأنه لما أقسم ليجلدن إمرأته مائة جلدة، كان إذا أجمع([5]) -صلوات الله عليه- على ذلك وسوسه بأن نبياً من أنبياء الله يجلد إمرأة مؤمنة مائة جلدة في غير حق الله -سبحانه- هذا لا يجوز، فإذا أضرب عن جلدها - ولم يكن من شرعه -صلوات الله عليه- الكفارة، لولا ذلك كَفَّرَ، ولم ينصب إليه شيء من الله - [وسوسه بأن نبياً من أنبياء الله([6])] يحلف بالله على إمضاء أمر يقدر على إمضائه ولا يمضيه، فبقي في غاية النصب والعذاب، ففزع إلى خير مفزع وهو الله -سبحانه- فأمره بأمر أبرَّ فيه قسمه، وتحلل من إليته، ولم يؤذ المؤمنة وقوعه، فهذا أكبر ما يبلغ إليه كيد الشيطان، ويدخل تحت مقدوره.
فأما تلك الآلام والأجسام، التي حدثت فيه -عَلَيْه السَّلام-، فلا قادر عليها إلا الله -سبحانه- بالآثار والدلالة.
_______________
([5]) ـ أجمع الأمر إذا عزم عليه. تمت مختار.
([6])- هكذا في جميع النسخ، والمعنى لا يستقيم، ولعل هنا سقط وهو: وسوسه بأن نبياً من أنبياء الله يحلف بالله...إلخ.
وقد روينا للإمام الناصر لدين الله أبي الفتح بن الحسين الديلمي([7])-صلوات الله عليه- في كتاب
__________________
([7]) - هو الإمام الناصر لدين الله أبو الفتح بن الحسين بن محمد بن عيسى بن محمد بن عبدالله بن أحمد بن عبدالله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، من أئمة أهل البيت علماً وفضلاً وشجاعة، دعا إلى الله في الديلم سنة 430هـ ثم خرج إلى اليمن فاستولى على أكثر بلاد مذحج وهمدان وخولان وانقادت له العرب وحارب الجنود الظالمة المتمردة والقرامطة.
قال الإمام المنصور بالله في الشافي: وكان له من الفضل والمعرفة ما لم يكن لأحد من أهل عصره، ولم يزل قائماً بأمر سبحانه وتعالى حتى أتاه اليقين، وقد فاز بفضل الأئمة السابقين. انتهى. استشهد عليه السلام في الوقعة المشهورة التي بينه وبين علي بن محمد الصليحي قائد الباطنية وداعيتهم، بموضع يقال له (نجد الجاح) من بلد رداع بعنس، وقتل معه نيف وسبعون سلام الله ورضوانه عليه وعليهم أجمعين، سنة (نيف وأربعين أو خمسين وأربعمائة)، وقبر بمنطقة يقال لها (الميفعة) على خط رداع تبعد عن ذمار بحوالي (17كم)، أنظر سيرته في التحف شرح الزلف للإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى..
(البرهان في علوم القرآن) أنه -عَلَيْه السَّلام- لما نزلت به الحادثة في النفس والمال والولد قال صلوات الله عليه([8]): ((اللَّهُمَّ الآن مَا([9]) أنعمت عليَّ الإنعام كله، كنت بالنهار يشغلني حبّ الدنيا، وبالليل يشغلني حبّ العيال، والآن أفرغ لك بسمعي وبصري))، فوفى صلوات الله عليه لربِّه من إفراغ السمع والبصر بما قال، ولو انتهينا إلى غاية معنى هذه الآية لخرجنا إلى الإسهاب.
ويشهد بصدق رواية الناصر -عَلَيْه السَّلام- عن أيوب -عَلَيْه السَّلام- ما روينا بالإسناد الموثوق به إلى أبينا علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- أنه قال في بعض مفرداته في حمد ربِّه:
________________
([8]) ـ قال الإمام الناصر أبو الفتح الديلمي - عليه السلام- في (البرهان في تفسير القرآن) في تفسير سورة الأنبياء في الجزء الأول، في تفسير قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83)} قال -عَلَيْه السَّلام-:
(روينا أن أيوب آتاه المال والولد، فتلف ماله وهلك ولده، فقال: ((يا رب قد أحسنت إليَّ الإحسان كله، كنت قبل اليوم يشغلني حب المال بالنهار، وحب الولد بالليل، والآن فرغ لك سمعي وبصري، وليلي ونهاري)) ثم ابتلاه الله بما ابتلاه من الدود واشتدت به الحال، وكان له أخوان فأتياه يوماً ووجدا ريحه، فلم يستطيعا أن يدنوا منه؛ فقالا: (لو كان لأيوب عند الله خير ما بلغ به هذا البلاء) فجزع من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء؛ فقال: ((اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدِّقني، قال: فصُدِّق وهما يسمعان، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصين وأنا أعلم مكان عارٍ فصدقني، قال: فصدق وهما يسمعان، ثم قال: اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي))، قيل: فما رفع رأسه حتى كشف الله عز وجل ما به). انتهى من البرهان ج1/ ص246 مخطوط، وروى نحو هذا الإمام الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- في مجموع رسائل الإمام الهادي(ع) في كتاب خطايا الأنبياء (ع) (447).
([9]) زائدة أو مدية، تمت من هامش (نخ)....
عطيّته إذا أعطى سروراً .... فإن سلب الذي أعطى أثابا
فأيّ النعمتين أجلّ قدْراً .... وأعظم في عواقبها إياباً؟
أنعمته التي أهدت سروراً .... أم الأخرى التي دخرت([10]) ثواباً!؟
واعلم؛ وفقك الله -تعالى- أن من جهل نعمة الله في المكاره، ولم يعرفها إلا في اللذات والمشتهيات؛ فقد جهل شطر الحكمة.
[بيان أن الآلام الخارجة عن مقدور العباد من الله تعالى]
فإن قيل: وإنا لا نرجع بالإحالة إلى أمر يعقل إضافة الفعل من حيوان ولا جماد إليه ولكنا لما رأينا هذه الأفعال يقف حصولها على أمور غيرها، نحو وقوف السَّدم على وصول بعض البلدان، وما شاكل ذلك مما يطول شرحه، وواحده يدل على جِنْسِه، فلما رأينا ذلك هِبْنَا أن نضيف ذلك إلى الله -تعالى- لوجهين:
أحدهما: تنزيهه عما تكره النفوس.
والثاني: أنه لو كان فعله تعالى لحصل بدون وصول البلد المخصوصة.
قلنا: هذان وجهان باطلان.
أما وجه التنزيه لله -سبحانه- فهو يقبح إذا تعلق بأفعاله؛ لأنا إذا نزهناه عن أفعاله، لم نجد بدًّا من إضافتها إلى غيره، فيلزمنا التثنية وذلك كفر بالإتفاق، وهذه منزلة الثنوية نعوذ بالله منها؛ لأنهم لما نزهوه من فعل المكروه وأضافوه إلى غيره، فإن اعتللنا بكراهة النفوس لها؛ فأكثر أفعاله فينا، تنفر عنها نفوسنا، كالموت مما وقع الإتفاق عليه، وكإنباته للشعر فينا في مواضع مخصوصة، وأمره لنا بإزالته لأنه جعل الدنيا دار بلوى.
____________
([10])ـ ذخرت (شافي)
وأما وجه البلدة المختصة بحصول السَّدم فيها أو ما يجانسه من الآلام التي تختص بعض البلدان في مجرى العادة، فلا يمتنع ذلك، لأنا نعلم وقوف كثير من أفعاله التي يجمع الكل عليها على شروط اعتيادية كالولد الذي لا يخلقه تعالى، إلا أن يضع الماء المخصوص في المكان المخصوص، وكان يقدر على خلقه في غيره أو الإبتداء بخلقه، وأمثال ذلك كثير، فلا وجه لقول القائل: لم لا أسدم في موضع غير ذلك الموضع؟ لأن الجواب له، أن الله بحكمته أجرى العادة أن لا يحصل هذا النوع من المرض إلا في هذا المكان دون غيره، وفعل الحكيم لا يعلل بعد صحة حكمته، وقد صحت والحمد لله؛ بل فعل الفاعل على سبيل الجملة لا يعلل في مجرد وقوعه([11])، فلم يبقَ للخلاف وجه معقول كما ترى؛ يوجب نفيها عن الله -تعالى- وإضافتها إلى غيره، فوجب التسليم والقضاء بأن تلك البلدان والأسباب التي تقع عقيبها الآلام شروط اعتيادية موقوف، مشروطها على اختياره تعالى إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، فثبت أن الآلام الخارجة عن مقدور العباد من الله تعالى.
وأما الذي يدل على أنها حسنة: فلأنها أفعال الحكيم الغني على الإطلاق، والحكيم الغني على الإطلاق لا يفعل إلا الحسن.
______________
([11]) - وسابعها: سأل عن فعل الفاعل على سبيل الجملة إن كان لا يعلل في مجرد وقوعه؛ قال أيده الله: ما الفرق بينه وبين الغرض وداعي الحكمة؟
الجواب عن ذلك: أن فعل الفاعل يحصل عن اختياره، إما لداعي حكمة وهو علمه أو ظنه واعتقاده حسن الفعل وأن لغيره فيه نفعاً أو دفع ضرر.
وداعي الحاجة علمه أو ظنه واعتقاده في أن له في هذا الفعل نفعاً أو دفع ضرر، وهو لا يحصل لعلة سوى الإختيار؛ فلهذا إنا لو رأينا رجلاً خرج من داره ولها بابان يخرج من أحدهما فأجهدنا نفوسنا في طلب العلة في خروجه من أحدهما دون الآخر لوَّمَنا العقلاء، إذ ذلك موقوف على اختياره، وكذلك إذا قضى الدين من أحد الكيسين وما شاكل ذلك.
[بيان وجه الحكمة في الآلام]
فإن قيل: فما وجه الحكمة فيه مع أنه ألم ومضره؟.
قلنا: لا يلزمنا تبيين ذلك كما قال جدنا العالم القاسم بن إبراهيم -صلوات الله عليه- للملحد([12])، وقد سأله عن مثل ذلك؛ لأن مذهب الملحدة كما بينا، أولاً على اختلاف طبقاتهم التي ذكرناها لا يختلفون في نفي الآلام والإمتحانات عن الله -تعالى-.
ولذلك قال الملحد في مسألته لجدنا ترجمان الدين -عَلَيْه السَّلام- (أخبرني كيف يكون حكيماً من خلق خلقاً ثم آلمه بأنواع الآلام، وامتحنه بضروب من الإمتحان، أخبرني عن وجه الحكمة في ذلك من الشاهد نريد واضرب مثلاً فيما أشاهد أن الألم يكون حسناً؟
______________
([12])- جواب الإمام القاسم بن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- على الملحد، فيه ما يبهر الألباب، وتخر مذعنة له الرقاب، ويشهد بصحته مقتضى العقل وواضح السنة والكتاب، وفيه ما يدل على غزارة علم الإمام القاسم صلوات الله عليه.
وقد قيل: إن ذلك الملحد كان في مصر، وكان يحضر مجالس فقهائها ومتكلميها ويسألهم عن مسائل الملحدين، وكان بعضهم يجيب عنها جواباً ركيكاً، وبعضهم يزجره ويشتمه. فبلغ خبره القاسم بن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام-، وكان بمصر مستخفياً في بعض البيوت، فبعث صاحب منزله ليحضره عنده، فلما دخل عليه قال له القاسم رضي الله عنه: إنه بلغني أنك تعرضت لنا، وسألت أهل نحلتنا عن مسائلك، ترجو أن تصد أغمارهم بحبائلك، حين رأيت ضعف علمائهم عن القيام بحجج الله، والذب عن دينه، ونطقت على لسان شيطان رجيم لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً.
قال الملحد: أما إذا عبت أولئك فإني سائلك وممتحنك، فإن أجبت عنهم فأنت زعيمهم، وإلا فأنت إذاً مثلهم.
فقال الإمام القاسم: سل عما بدا لك وأحسِن الإستماع، وعليك بالنصفة، وإياك والظلم ومكابرة العيان، ودفع الضروريات والمعقولات، أجبك عنه، وبالله أستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعم الوكيل:
ثم دار بينهم ذلك الحوار، وأورد عليه الملحد من الأسئلة ما يدل على شدة تزندقه وإلحاده، ويجيب عليه الإمام القاسم بما يشهد بغزارة علمه وشدة فهمه ومعرفته بالله معرفة صادقة حتى أن الملحد سأله عما يقرب عن إثنان وأربعين مسألة في شتى مجالات الأصول في خلق العلم وحدوثه، وإثبات حكمة صانعه، وعدم تأثير العلة ونحوها في إيجاد شيء من العالم، وفي توحيده وعدله وصدق وعده ووعيده، وإثبات النبوة، وحسن الإبتلاء من الحكيم وغير ذلك من المسائل العويصة، التي يعجز عن الجواب عنها العلماء.
ولذلك فإن الملحد لما سمع جوابات القاسم -عَلَيْه السَّلام- وحسن محاوراته، وإبطال شبه ذلك الملحد بالأدلة العقلية، الواضحة الجلية، التي لا يمكن ردها أو إنكارها. قال عند ذلك - ذلك الملحد - (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن كل ما جاء به حق، وتَعستْ أمّة ضلّت عن مثلك)، وأسلم وحسن إسلامه.
قال القاسم -عَلَيْه السَّلام-: وجه الحكمة في ذلك من الشاهد: أنا رأينا من الآلام في الشاهد ما هو إحسان أو داعي إلى الإحسان، من ذلك ضرب المؤدبين للصبيان، ومنه الفصد والحجامة، وشرب الأدوية الكريهة، كل ذلك إحسان وداعي إلى إحسان، وكل ما هو كريه من قبل الله -تعالى- مثل الموت والمرض والعذاب وغيره؛ فحسن في الصنع، وصواب في التدبير([13])) فصرح -عَلَيْه السَّلام- بما ذهبنا إليه من حسن الآلام، وأنها من قبل الله.
ونبّه بالمثال أنها تحسن للنفع كما يحسن شرب الدواء الكريه لنفع العافية ودفع ضرر الألم كما يدفع بالإعتبار ضرر ألم عقاب الآخرة، فلما صرح -عَلَيْه السَّلام- للملحدة بذلك، قال له: فما الحكمة فيه كما ذكرنا في الإعتراض قبل ذكر قوله - عليه السلام- فأجابه -عَلَيْه السَّلام- بأن تبيين وجه الحكمة في ذلك لا يلزم بقوله، ولو لم يعلم علل ذلك وأسبابه لكان جائزاً؛ لأنك إذا علمت في الأصل أنه حكيم، فالحكيم لا يفعل فعلاً إلا لحكمة.
فإن قيل: أنبؤونا بذلك على وجه الإفادة، إذ منكم البداية وإليكم الإعادة؟
قلنا: وجه الحكمة في ذلك؛ أن العبد مع الألم يكون أقرب إلى طاعة الله -تعالى- والتضرع إليه، وقد قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}[يونس:12]، وما قرَّب إلى ذكر الله -تعالى- أو طاعته؛ فلا خلاف بين أهل الإسلام في حُسْنِه.
فإن قيل: هذا مُسَلَّم؛ ولكنَّا نرى الألم يباعد من الطاعة، فكأنكم أردتم الإحتجاج بأمرٍ أناخ عليكم بَكَلْكَلِه([14])، يوضح ذلك أن المريض ربما عجز عن الصلاة قائماً وعن الطهارة والصيام.
______________
([13])- ثم قال الملحد بعد ذلك: ما الدليل على أن ذلك داعيه إلى الإحسان؟
قال الإمام القاسم -عَلَيْه السَّلام-: لأنه فعل الحكيم، والحكيم إنما يفعل هذه الأشياء التي هي ترغيب في السلامة والصحة والخير، والترهيب من الغم والشر والسقم، ومن رغَّب في الخير فحكيم فيما نعرفه.
([14]) ـ الكَلْكَل: الصدر أو ما بين التروقتين، ومن الفرس: ما بين محزمه إلى ما مس الأرض منه إذا ربض. تمت قاموس. ولعل المراد بهذا المثل هو أنكم احتججتم بحجة هي عليكم لا لكم.
قلنا: الطاعة هي فعل ما أُمِر به المطاع، وسيأتي فيما بعد ذلك دون غيره مما لم يؤمر به، ألا ترى أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لم يوصف، ولا يجوز وصفه، بالبعد عن طاعة الله -تعالى- طرفة عين، وقد أقام لا يصوم ولا يصلي قبل الأمر بذلك دهراً طويلاً، فلما أمر -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- تبتل([15]) إلى خالقه تبتيلاً، والله -تعالى- لم يأمر المريض العاجز عن القيام بالتطهر والصلوة قائماً متوضيًّا.
ويؤيد ذلك: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]، وقوله سبحانه: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}[النور:61]، فالمريض في حال مرضه يتمكن من كل ما أمره الله -تعالى- به في حال مرضه من الصلاة قاعداً، أو على جنبه متوضياً أو متيمماً كما أمره ربُّه، إذ لم يكلفه سبحانه إلا ومعه تمكن الصحيح من طاعة ربِّه التي أمر بها بمبلغ طاقته، وللمريض زيادة الخشوع والإنقطاع الذي يعلمه كل عاقل منصف من نفسه، فالأمر بالضد مما توهمه السائل وعكسه.
[بيان وجه الحكمة في ألم الأطفال]
فإن قيل: إذا ثبت هذا في حق المكلفين فما وجه الحكمة في ألم الأطفال؟.
قلنا: ليعتبر بهم المكلفون، ويعوضهم على ذلك ربُّ العالمين، فإن الله -تعالى- قد ذخر لهم على آلامهم ما يصغر عندهم الآلام ويهون المشاق، فلذلك حسن أَلَمُهُمْ فظهر وجه الحكمة فيه.
__________________
([15]) ـ تبتل إلى الله: انقطع وأخلص. تمت قاموس.
يزيد ذلك ظهوراً: أن كل عاقل منصف يعلم أنه يحسُن من الآباء إيلام أبنائهم؛ لتأديبهم وتعريفهم في وجوه مكاسبهم، وربما كان نفعاً يعود على الآباء، فإن عاد عليهم فهو مظنون الحصول، فقليل البقاء بعد التحصيل، فإذا حسن ذلك من الآباء بالإتفاق لهذا الغرض، وقد ثبت أن الله -تعالى- غني ولا يريد إلا مجرد نفعنا مع أنه أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، وأحسن نظراً لنا، ويعلم الغيب فلا يعرضنا إلا لنفع يصل إلينا لا محالة، حَسُن في عقل كل عاقل بطريقة الأولى إيلامه لنا في حال الطفولية لما يحصل لنا على ذلك من الأعواض الباقية الدائمة، ويدخر لنا من المنافع الخالصة من الشوائب في الآخرة، وقد قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((نحن معاشر الأنبياء أشد بلاءً والمؤمنون الأمثل فالأمثل([16])))، فأخبر -عليه وآله السلام- أن البلوى تنزل بمن لا يستحق العقوبة من الأنبياء -عليهم السلام- والمؤمنين على قدر منازلهم؛ لأن الله لا يعرّض كل التعريض للخير العظيم إلا أحباءه وأولياءه.
______________
([16]) ـ أخرج نحوه الإمام المرشد بالله في الأمالي عن علي -عَلَيْه السَّلام- بلفظ: ((يا علي، إن أشد الناس بلاء في الدنيا النبيون، ثم المؤمنون، ثم الذين يلونهم)) ورواه الإمام أبو طالب أيضاً في الأمالي 428 باختلاف في اللفظ، والطبراني في الأوسط (6/355) رقم (9047)، والكبير (24/245) رقم (628)، وأخرجه بألفاظ متقاربة في مسند أحمد (1/185) رقم (1607)، سنن الترمذي (4/601) رقم (2398)، سنن ابن ماجه (2/1334) رقم (4023)، سنن الدارمي (2/412) رقم (2783)، صحيح ابن حبان (7/160) رقم (2900)، المستدرك (1/99) رقم (120)، السنن الكبرى (4/352) رقم (7481)، مسند أبي يعلى (2/143) رقم (830).
وقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر([17])))، ولا شك أن السجن جامع المحن التي أحدها الألم.
وقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((ألا وإن الله جعل الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وجعل ثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي))([18]).
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى في هذا المكان، وهي مطابقة لكتاب الله -تعالى- فوجب قبولها.
________________
([17]) ـ أخرجه الإمام الموفق بالله في الإعتبار وسلوة العارفين والإمام أبو طالب في شرح البالغ المدرك والإمام المرشد بالله في الأمالي عن علي -عَلَيْه السَّلام- (2/161)، وعن ابن عمر (2/163)، وأخرجه مسلم في كتاب الزهد (4/2272)، رقم (2956)، والترمذي في كتاب الزهد أيضاً (4/562) حديث (2324)، وابن ماجه في باب الزهد أيضاً (2/1378)، رقم(4113) وأحمد في المسند (2/389) رقم (9043)، والطبراني في الأوسط (2/136) رقم (2782) عن أبي هريرة، وكذلك (6/381) رقم (9136) عن ابن عمر، وكذلك (6/456) رقم (9385) عن أنس، والكبير (6/236) رقم (6087)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/192) وقال: رواه البزار، وروي في مسند الشهاب (1/118) رقم (145)، والمستدرك للحاكم (3/699) رقم (6545)، ومسند أبي يعلى (11/351) رقم (6465)، وصحيح ابن حبان (2/464) رقم (688).
([18]) - رواه الشريف زيد بن عبدالله الهاشمي في الأربعين السيلقية من حديث طويل عن ابن عمر، وهو الحديث الخامس والثلاثين...
ألا تسمع إلى قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}[الأنبياء:35]، وقوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ(126)}[التوبة]، وفسره الهادي -عَلَيْه السَّلام- فقال: (يمتحنون بمرض الأجساد، وفراق الأحبة والأوداد، ومثل ذلك من جميع المحن النازلة من الله -سبحانه- على جميع العباد، بنزول الإمتحان عليه إما في نفسه أو في غيره) وبذلك قال جميع الأئمة -عليهم السلام - ولولا ضيق الوقت، والعلم بأن في بعض ما ذكرنا كفاية لمن كان له عقل رشيد، أو ألقى السمع وهو شهيد، لذكرنا من قول كل واحد من آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- من لدن علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- إلى المتوكل على الله أحمد بن سليمان، والهادي إلى الحق يحيى بن الحسين -عليهم جميعاً أفضل السلام-؛ فعندنا بحمد الله -تعالى- لكل واحد منهم في ذلك ما يشهد بصدق دعوانا لمن بحثنا عن ذلك.
[الدلالة على ثبوت العوض من قبل الله تعالى]
فإن قيل: إذا قد صححتم أن الآلام من قبل الله -تعالى-؛ فما الذي يدل على أن لا بد من العوض من الله -سبحانه وتعالى- على الآلام؟، وهلا كفى مجرد الإعتبار كما روي عن بعض شيوخ أهل العدل!؟.
قلنا: إنما أوجبنا العوض لما ثبت من أنه تعالى عدل، وأن الألم [ضرر، وأن الظلم هو الضرر العاري عن جلب نفع إلى المضرور به يوفى على الإضرار أو دفع([19])] ضرر عنه أعظم منه، كمن يقطع يد غيره - والقطع ضرر - خيفة من سري الآفة إلى سائر الجسد، فإنه لا يكون لذلك ظالماً، أو للإستحقاق لذلك كمن يقطع يد الغير قصاصاً أو حداً، فإن تعرى الضرر عن واحد من هذه الوجوه كان ظلماً، وقد ثبت أن الآلام تنزل بغير المستحق، كما قدمنا في الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- والصالحين والأطفال، فلولا العوض لكانت ظلماً لوجود حقيقة الظلم فيها لو تعرت، ولولا الإعتبار لكانت عبثاً لعلمنا أنه سبحانه يقدر على إيصال مثل عوض الألم إلينا إبتداءً، فكانت والحال هذه إيلامه لنا يكون عبثاً، والعبث قبيح، وهو تعالى لا يفعل القبيح.
[بيان أن الألم لا يحسن إذا تعرى عن العوض]
فإن قيل: فلم لا يحسن هذا الألم وإن تعرى عن العوض لوقوعه من الحكيم -سبحانه- لرفع ضرر عنا أعظم منه لولاه لرفع([20])؟.
قلنا: ذلك لا يجوز؛ لأن ما به ضرر إلا والله -تعالى- يقدر على صرفه عنا - بدون الألم - فلو لم يكن في مقابلة ذلك نفع يوفى إليه، واعتبار منا أو من غيرنا بحسنه لكان ظلماً قبيحاً، وقد ثبت أن الله -تعالى- لا يفعل القبيح بما تقدم من الأدلة في باب العدل، ولا يحسن لمجرد الإعتبار لأنه تعالى لا يفعل الفعل إلا على أبلغ الوجوه كما فعل في الجبل في شأن بني إسرائيل فصعقوا عن آخرهم حتى استقال موسى، فلا يحسن الألم كما ثبت لك إلا لمجموع الأمرين.
_______________
([19])ـ ما بين القوسين زيادة غير موجودة في جميع النسخ، ولكن البحث يتطلب معناها ليتم.
([20]) ـ هكذا في جميع النسخ، والظاهر أنها: لولاه لما رفع.
[بيان أن الأجر على قدر المشقة لا على قدر القلة والكثرة]
فإن قيل: أكثر ما يعتمد المخالفون في نفي الألم عن الله -تعالى- أن الألم يقطع بالعبد عن الطاعات، والأعمال الصالحات، فزيدونا فيه تبياناً على ما تقدم.
قلنا: إن الطاعة -في اللغة والشرع الشريف- فعل ما أمر المطاع بفعله، وترك ما أمر بتركه؛ لأجل أمره بفعله أو تركه، لا يعلم عند أهل العلم لها حقيقة غير ذلك؛ بل لا يوجد على غيره برهان، ولا شك في أن المريض متمكن من فعل ما أمره الله - سبحانه- به؛ لأنه لم يكلفه في حال مرضه ولا صحته؛ ما لا يدخل تحت مقدوره، وذلك لغناه سبحانه وحكمته، ورأفته ورحمته، والأجر على قدر المشقة، لا على قدر القلة والكثرة، فإذا أدى ما أوجبه الله عليه كان له الأجر كاملاً وإن نقص في الصورة؛ لأنا نعلم أن صلاة المسافر ناقصة عن صلاة المقيم، وأجرهما سواء بل يكون أجر المسافر أعظم لمكان المشقة، ولأنا نعلم أنه لو صلى صلاة تامة كصلاة المقيم لم يكن له أجر؛ بل كان على رأينا مخطئاً، فبان بذلك أنه لا ينظر إلى كثرة الفعل وطوله، بل ينظر إلى وقوعه على الوجه الذي أمر به سبحانه المكلف، وهو سبحانه بحكمته وعدله جعل التعبد على عباده مختلفاً على حسب إختلاف القوى والآلات، فلم يكلف نفساً في ذلك إلا ما آتاها؛ لأنه لو كلفهم تكليفاً واحداً في جميع الحالات كان ذلك قبيحاً - تعالى الله عنه- لأنه يكون تكليفاً لما لا يطاق وذلك قبيح.
[إبطال قول المجبرة إن الله -تعالى- ساوى في التكليف ولم يساو في التمكين]
وقد خالفتنا المجبرة في ذلك، فقالت: إن الله -تعالى- ساوى في التكليف ولم يساو في التمكين، فأبطلنا قولهم بما تقدم من الدليل أن تكليف ما لا يطاق قبيح والله -تعالى- لا يفعل القبيح.
ألا ترى أنه يقبح أمر المقعد بالصلاة قائماً، وأمر الأعمى بنقط المصحف على جهة الصواب، فظهر بذلك أن الله -تعالى- خالف بين عباده في التكليف، على حسب مخالفته بينهم في التمكين بالقدرة والآلة، كما قال جدنا العالم ترجمان الدين القاسم بن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- في رده على المجبرة (فلم يكلف الكريم الرحيم، أحداً من عباده ما لا يطيق، كلفه دون ما يستطيع، وعذرهم عندما فعل بهم من الآفات التي أصابهم بها، ووضع عنهم الفرض فيها، فقال لا شريك له: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}[النور:61]، لما فعل ذلك بهم وأراده، ولم يقل: ليس على السارق حرج، ولا على الزاني حرج، ولا على الكافر حرج لما لم يفعل ذلك ولم يرده) هذا كلامه -عَلَيْه السَّلام-، وبه قال كل إمام من آبائه وأولاده -عَلَيْهم السَّلام-.
وكذلك صاحب الألم غير مضيع من الثواب الجزيل في حال ألمه مع ما ذخر له الله -سبحانه- من العوض، فقد روينا عن أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن الله -سبحانه- إذا أنزل على عبده ألماً أوحى إلى حافظيه أن اكتبا لعبدي أفضل ما كان يعمل في حال صحته ما دام في وثاقي، فإذا أَبَلَّ([21]) من علته خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه([22]))).
__________________
([21]) ـ بَلَّ الرجل وأَبَلَّ إذا برء، تمت مختار صحاح.
([22]) ـ أخرج نحوه الإمام المرشد بالله في الأمالي ج2/ 287 بلفظ: ((ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله عز وجل الحفظة الذين يحفظونه يقول: اكتبوا لعبدي ما كان يعمله من الخير ما كان محبوساً في وثاقي)).
ووجه هذا الخبر - عندنا إيضاحاً لفرسان الكلام، فأما غيرهم فلا ينتهي وهمه إلى الإلزام - أنا نقول: الله تعالى أعلم بمقادير الثواب من خلقه الملائكة وغيرهم فلا يمتنع على ذلك أن يعلم أن ثواب صبر المؤمن يزيد على ثواب طاعاته([23])، من صلواته وصومه وحجِّه وجهاده وسائر أعمال الصحة، يؤيد ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)}[الزمر]، وهذا دليل على كثرته وعظمه.
وصدق الكتاب والسنة للمتوسمين، وما يعقلها إلا العالمون.
__________________
([23]) - وثامنها: سأل أيده الله عن قولنا في الإمتحان لا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن ثواب الصبر على البلوى أعظم من ثواب سائر العبادة.
قال أيده الله: ونحن نعلم أنا لنستمع أن محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أفضل من أيوب، وبلوى أيوب ومحنته أعظم، وعظم الله صبره وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)} [الزمر].
وقال نبيه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((ليس من نبي إلا ويحاسب يوم القيامة بذنبٍ غيري))، وقال في الممتحنين: ((يساقون إلى الجنة بغير حساب)).
قال أيده الله: فكيف الجواب عن ذلك جميعه؟
الجواب عن ذلك: أن الأمر مستقيم؛ لأنه أخذ من نص الكتاب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)} [الزمر]، والآثار النبوية كثيرة جداً في تعظيم عظم البلوى وتكاثر ثواب الصبر، ولا وجه لإنكاره.
وأما ما ذكر أيده الله من عظم بلوى أيوب -عليه السلام- وأن لنبينا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم وعلى جميع الأنبياء- مزية وهو أن كل نبي يحاسب بذنبٍ غيره.
فالجواب عن ذلك: أن نبينا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أضاف الحكيم له إلى محنة التعبد بأنواع العبادة، التعبد بالجهاد الذي هو سنام الدين ورأس الإيمان، ووقفة الرجل في الصف في سبيل الله تعدل عبادة ستين سنة في بعض الآثار يصوم نهاره فلا يفطر، ويقوم ليله فلا يفتر، ومع ذلك فإن الأجر لا يقدر بكثرة العمل؛ لأنه غيوب لا يعلمه إلا الله.
وقد قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في حديث طويل: ((إنما مثلكم ومثل الذين كانوا من قبلكم -يريد اليهود والنصارى- كمثل رجل قال لآخر: اعمل من أول النهار إلى الظهر ولك كذا، وقال لآخر: اعمل من الظهر إلى العصر ولك كذا، ثم قال لثالث: اعمل من العصر إلى المغرب بكذا وكذا؛ فغضب الأولان، وقالا: عملنا أضعاف ما عمل وضوعف له الأجر، قال -عليه السلام-: وكذلك اليهود والنصارى غضبوا لما خص الله به هذه الأمة من مضاعفة الأجر)).
وعلى سبيل الجملة نحن نعلم أن الآصار والتكاليف على الذين كانوا قبلنا أشق وأكثر، وأعمارهم كانت أطول، ونحن نعلم أن أمة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أفضل الأمم وأكثرها ثواباً، وأحسنها منقلباً ومئآباً؛ وإنما تنكر هذه الفرقة العمياء الضالة عن منهاج الهدى التي عادت أدلتها وهداتها، وفارقت حماتها ورعاتها، فتاهت في أودية الضلال، وباعت الماء بالآل، فلم تباشر يدي اليقين، ولا كتبت في ديوان المتقين؛ فنعوذ بالله من الزيغ والزلل، ونسأله الثبات في القول والعمل.
وأنت تعلم أيدك الله أن نوافل نوح -عليه السلام- أكثر من نوافل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وفرائضه أضعافاً مضاعفة؛ فأعطاه الباري سبحانه بقليل العمل في جنب ما قدمنا كثير الأجر، كما صحّ عندنا ولا اعتراض على الحكيم بعد ورود النص؛ لأن طالب العلة يبني على أصل فاسد، وهو أن الفضل ليس إلا بعمل، وقد بيّنا بطلانه في الشرح في مواضع كثيرة...
[بيان الحكمة في عدم دوام الآلام]
فإن قيل: فلم لا تدوم الآلام على الصالحين وتعمهم إن كان فيها ما ذكرتم من المنافع -التي نفيناها عن الله -تعالى- استبعاداً وتنزيها له تعالى- من ثواب الصابرين وعوض الممتحنين؟.
قلنا: الإستبعاد لا يعترض به على الأدلة القاطعة، من الكتاب العزيز والسنة الماضية الشريفة، وبراهين الأئمة السابقين، وإجماع المؤمنين، وكذلك تنزيهه عما يجب في الحكمة عليه، يوجب الإنسلاخ عن الدين، فنعوذ بالله من تنزيه يوجب التوبة على المستيقظين، والراجعين إلى البررة [الصالحين([24])] الصادقين، من عترة خاتم النبيين (سلام الله عليه وعليهم أجمعين).
فأما الجواب عن قول السائل: لم لا تدوم المحن على الصالحين؛ وتعمهم؟.
فإنا نقول: إنه لا يؤلمهم ويمتحنهم لأمر يرجع إليه؛ وإنما ذلك لمصلحة تعود عليهم، وهو بمصالح العباد أعلم، فينزل ذلك عليهم على مقدار ما يعلم من مصلحتهم، فمن علم أن صلاحه في دوام الألم عليه أدامه، ومن علم أن صلاحه في نقله عنه نقله، ومن علم أن صلاحه في دوام الصحة له أدامها، ومن علم مصلحته في تقليبه بين حالي الصحة والسقم قلَّبه، ولا يعلم أحوال العباد وما يصلحهم في الصحة والسقم مفصلاً إلا الله -تعالى-.
يؤيد ذلك ما روينا بالإسناد الموثوق به إلى أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يرفعه إلى الله -تعالى- أنه قال: ((إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي لعلمي بقلوبهم))([25])، فسبحانه من جواد ما أرحمه، وقادر ما أحكمه.
فهذا هو الكلام في الإمتحان بالموت والأمراض، وسائر المحن والأعراض.
________________
([24]) - زيادة من (نخ).
([25]) - رواه الإمام المرشد بالله عليه السلام في الأمالي الخميسية من طرف حديث طويل (2/204).
وكان في القافية ذكر (الشدة): وهي عند العرب: القحط وارتفاع المطر، فينبغي أن نتكلم في ذلك بكلام وجيز نافع إن شاء الله، فنقول:
[دلالة الجدب على حصول الإمتحان من جهة الله -تعالى]
أما الامتحان بالجدب فكونه من الله تعالى ظاهر؛ لأنه يرتفع بنزول المطر، ولا يقدر على إنزال الغيث، ونشر الرحمة بعد قنوط القانطين إلا الله -تعالى- فإذا لم ينزل المطر على المؤمنين علمنا أنه يريد امتحانهم بذلك؛ لأنه لا يمنعه عن إنزاله البخل؛ لأن ذلك من صفة المحتاجين، ولا العجز؛ لأن العجز من صفة المحدثين، وهو قادر لذاته، كما بينا أولاً، ولا الجهل بحاجتهم؛ لأنه عالم بجميع المعلومات مفصلة، وحاجة العباد من جملتها، فإذا لم ينزل المطر، مع ما قدمنا، علمنا أنه يريد محنتهم في الدنيا ليعوضهم في الآخرة ما يوفي على ذلك أضعافاً كثيرة، ويكون أنفع لهم من عاجل الدنيا ومنافعها الفانية اليسيرة، فيكون ذلك الخصب من نعمه العاجلة، والجدب من نعمه الآجلة، فيجب حمده تعالى في حال الشدة والرخاء، والسراء والضراء، وذلك واضح عند من لا يستبعد ما وعد الله به من الأجر، ويؤثر عليها زهرة الحياة الدنيا، فيجب على كل مسلمٍ مُسَلِّمٌ لربِّه غير مُسْتَغِشٍّ به، ولا ظاناً به ظناً مردياً، أن يتبع فعله سبحانه وتعالى بالحمد والرضاء، سواء كان ذلك محبوباً أو مكروهاً، ويصبر ويحتسب.
والحق لا يتبع الأهواء كما قال تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } [المؤمنون:71]، فنعوذ بالله من طلب الجمع بين الحق والهوى، الذي أخبر أنه لا يجتمع ربُّ الأرض والسماء سبحانه وتعالى، ولا نقضي فيما لا نعلم وجه حكمة الله -تعالى- فيه بأنه خطأ؛ لأن الله -تعالى- أعلم بالمصالح من خلقه.
وجهل الجاهل لحكمة الحكيم لا يخرج فعله عن الحكمة في شيءٍ من الأشياء، عند جميع العقلاء، وقد روينا في ذلك عن أبينا خاتم الأنبياء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، أنه قال: ((لا يُكْمِل عبدٌ الإيمانَ بالله حتى يكون فيه خمس خصال: التوكل على الله -تعالى- والتفويض إلى الله، والصبر على بلاء الله، والتسليم لأمر الله، والرضاء بقضاء الله))([26])، فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا متوكلين عليه، مفوضين لأمورنا عليه([27])، صابرين على بلائه، مستسلمين لأمره، راضين بقضائه فيما مر وحلا، وكافة المسلمين - آمين - وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
[بيان المراد بالبلوى في الكتاب والسنة]
فإن قيل: إن بعض الناس حمل البلوى على التكليف والتعبد وتأول جميع ما في الكتاب والسنة -زادهما الله -تعالى- على مرور الأيام جِدَّة وشرفاً- من ذكر البلوى على ذلك وجعل حمله عليه أولى.
قلنا: العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- أرجح من ذلك البعض، وهي إلى الصواب أهدى، كيف لا؟! وبراهينهم على خلاف ما ذهب إليه السائل لا تخفى.
ألا ترى أن قائلاً لو قال: هذا رجل مبتلى، لم يسبق إلى أفهام السامعين أن المراد به التعبد أصلاً؛ بل يسبق إلى أفهامهم أنه قد أصيب بشيءٍ من محن الدنيا، التي قدمنا إليه الكلام فيها أولاً، وحمل كلام الباريء -سبحانه- وكلام رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على الحقائق أولى.
______________
([26]) - رواه الشريف الهاشمي في الأربعين حديث السيلقية عن ابن عمر (خ) وهو الحديث السادس.
([27]) ـ في (ن، م): إليه.
والحقيقة في كل لفظ: ما يسبق عند الإطلاق إلى إفهام الملأ؛ لا ينكر ذلك أحدٌ من العلماء، فهذا بحمد الله أظهر من أن يخفى، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل:80]، فهذا هو الكلام في هذه المسألة على وجه الإختصار؛ لأنَّا لو بَلغنا إلى حدّ الإستقصاء وذكرنا جميع ما يتعلق بهذه المسألة من أدلة العقل، وحجج الكتاب، وبراهين السنة، وأقوال الأئمة والعترة -عَلَيْهم السَّلام- لاحتجنا إلى إفراد كتاب، وخرجنا إلى الإسهاب، ومن اتصل بنا بحمد الله من عتاة المتعنتين، أو بررة المسترشدين، علم حقيقة ما قلنا شفاهاً، فالحمد لله الذي ألزم عباده لنا الحقوق، وجعلنا من ذرية الصادق المصدوق؛ حمداً كثيراً طيباً.
(فصل): (في أن القرآن: كلام الله تعالى)
[26]
ومِنْهُ قَدْ جَاء الكتابُ المُنْزَلُ ....شَاهِدُهُ البَرُّ النَبيُّ المرسلُ
مُوَصَّلٌ مَتْلُوّهُ مُفَصَّلُ .... فيه الهُدى مُبَيَّنٌ ومُجْمَلُ
كالدُّرِ والياقُوتِ واللآلي
هذا هو الكلام في أن القرآن كلام الله -سبحانه-، والخلاف في هذه المسألة من جهة المعنى مع المجبرة والباطنية ومن قال بقولهم.
ومن جهة اللفظ مع طبقات الملحدة.
فأما الملحدة: فلاوجه للكلام معهم في هذه المسألة؛ لأن الكلام في أن هذا القرآن؛ -الذي بين أظهرنا حجة لنا وعلينا- هو كلام الله فرع على الإقرار بالله -سبحانه- فيجب أن ينقل الكلام معهم إلى إثبات الصانع - تعالى- وصفاته، وما يجوز عليه، وما لا يجوز، وأفعاله، وأحكام أفعاله، حتى يصل إلى هذه المسألة، وقد استقرت قواعدها.
وأما الكلام على من خالف في هذه المسألة ممن قدمنا ذكره:
فمذهبنا أن هذا القرآن الموجود بيننا -حجة لنا على من خالفنا، وحجة لأنفسنا على أنفسنا- هو كلام الله -تعالى- ووحيه وتنزيله، وأن محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- جاء به من عند ربِّه ولم يقله من تلقاء نفسه، وسيأتي الدليل على هذا المذهب بعد تبيين معاني ألفاظ القافية إنشاء الله تعالى.
قوله: (جاء به): يريد؛ وصل إلينا، والمجيء نقيض الذهاب.
و (الكتاب المنزل): هو القرآن، والله -سبحانه- أنزله ليهدينا به كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:185].
قوله: (شاهده البر النبي المرسلُ): يريد دليله؛ لا فرق بين الشاهد والدليل، والحجة والبرهان، والآية في أصل اللغة معناها واحد، فهو يريد أن الدليل على أن هذا القرآن كلام الله -تعالى- أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أخبر بذلك، وهو لا يخبر إلا بالصدق على ما يأتي بيانه.
قوله: (موصل متلوّه مفصلُ): يقول: إن من الذكر الحكيم زاده الله شرفاً ما يجب توصيله في الحكم والتلاوة كقرآن الصلاة مثلاً، ومنه ما يجوز تفصيله فيهما جميعاً أو في أحدهما، ولا وجه لإنهاء القول فيه.
قوله: (فيه الهدى مبين ومجملُ): (فالمبين): هو ما فهم من ظاهر لفظه مراد الله -سبحانه وتعالى- فيه، من دون اعتبار غيره من قول أو فعل وما يقوم مقامهما.
(والمجمل): هو مالا يعلم المراد به إلا باعتبار غيره من قول أو فعل أو ما يقوم مقامهما، وموضع تفصيل ذلك أصول الفقه ذكر الواجب عليه فيه، وقد ذكرنا في (كتاب صفوة الإختيار([28])) ما يغني كل طالب، ويشفي كل راغب بحمد الله -تعالى-.
_______________
([28]) ـ كتاب للإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- من أجلّ الكتب التي أُلفت في أصول الفقه، طُبع عن مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية.
قوله: (كالدر والياقوت واللآلي): يقول: إن القرآن الكريم في فصاحة لفظه، وجودَةِ معناه، ورشاقة تلاوته، وحسن تلائمه، وطلاوة ظاهره، وحلاوة باطنه، وحراسة نظمه، وعذوبة علمه، بمنزلة هذه الجواهر التي هي الدر والياقوت واللؤلؤ، فكما أنها أفضل جواهر الدنيا، كذلك القرآن الكريم أفضل كلام الأحياء.
[فائدة في أسماء الدُّرِّ وأنواعه]
(والدر واللؤلؤ) جنس واحد، وإنما الدر إسم لما كبُر منه، فأكبر الدر يقال له الوَنِيَّة، وهي أعظم الدر، ثم التُّومةُ وهي التي تليها وجمعها تُوم، ثم النُّطَفَة([29]) وجمعها نطاف، وما دون النُّطَفَة يقال لها الرعيث وهو كبار اللؤلؤ إذ هو لا يخرج عنه اسم اللؤلؤ، وما بعده لؤلؤ على الإطلاق، وما صغر منه فهو المرجان، فما جمع منه في العنق سمي قلادة وتقصاراً، وسِمْطاً([30]) وكَرْماً وجبلات، وقلادة الملك تسمى الحَاجَّة، وما لم يجمع منه ولم يثقب فهو حصَان([31])، لا أدر أخذ من المرأة أم أخذت المرأة منه، فإن بدد وسمط بغيره فهو فريد، الواحدة فريدة.
فأما الياقوت: فهو جنس منفرد، وله أنواع متقاربة، وهو أعني جميع ما تقدم، أحسن ما يشبه به الكلام، ولا وجه لذكر الشواهد عليه، لظهور الحال فيه، وكون ذلك مخرجاً لنا عما نحن بصدده، وربما وسعنا الكلام في بعض الأحوال لتعلق الفائدة به.
[ذكر الدليل على أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله]
وتحرير الإستدلال على ما قدمنا من أن هذا القرآن كلام الله و وحيه وتنزيله: أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان يدين بذلك ويخبر به، وهو -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا يدين إلا بالحق، ولا يخبر إلا بالصدق.
وتحقيق ذلك التحرير ينبني على أصلين: أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان يدين بذلك ويخبر به. والثاني: أنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا يدين إلا بالحق، ولا يخبر إلا بالصدق.
__________________
([29]) ـ النُّطفة - كهمزة - اللؤلؤة الصافية أو الصغيرة جمعها: نُطَف. تمت قاموس.
([30]) ـ السِّمط - بالكسر - جمعها: سُموط، قلادة. تمت قاموس.
([31]) ـ مأخوذة من الحِصن بالكسر: كل موضع حصين لا يوصل إلى جوفه. تمت قاموس.
أما الذي يدل على الأول: وهو أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان يدين بأن القرآن كلام الله ويخبر به: فذلك معلوم من حاله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ضرورة لكل من علم أنه (عليه أفضل الصلاة والسلام) كان في الدنيا.
وأما الذي يدل على الأصل الثاني: وهو أنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا يدين إلاَّ بالحق، ولا يخبر إلاَّ بالصدق: فلأن الله -سبحانه- أظهر المعجز على يديه على ما يأتي بيانه، فلو كان كاذباً مُبطلاً -حاشاه عن ذلك- قبح إظهاره عليه؛ لأنه كان يكون بمنزلة التصديق على أبلغ الوجوه، وتصديق الكاذب قبيح، وقد تقدم الكلام في أن الله -تعالى- لا يفعل القبيح.
[بيان معنى المُعْجز وعلى مَنْ يَظْهَر]
فإن قيل: ومن أين لكم أن المعجز ظهر على يديه؟، وما معنى المعجز؟.
قلنا: أما ظهور المعجز على يديه فحصل لنا العلم منه من طريقين: جملية، وتفصيلية.
أما الجملية: فقد علمنا ضرورة أن جميع من ادعى النبوءة من المحقين أتى بالمعجز، وقد ادعى -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ذلك، فكان لا بد من معجز، وقد رويت له معجزات يكثر تعدادها في هذا المكان كإجابة الشجر وكلام الحجر إلى غير ذلك، علمنا جملة أن لا بد من صحة بعضها أو كلها كما علمنا شجاعة عنتر وسخاء حاتم، وإن كانت مقامات عنتر وعطايا حاتم لا تعلم كل واحدة منها على التفصيل، فصح بذلك ظهور المعجز على يديه -عليه وآله أفضل الصلاة والسلام-.
وأما التفصيلية: فإنا نعلم من أنفسنا حال كثير من معجزاته -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كإطعام العدد الكثير من الطعام اليسير، وكثير مما يشاكل ذلك ضرورة، وطريقها البحث والتفتيش، أو الإصغاء والإستماع.
وأما المعجز: فهو ما يعجز الخلق عن الإتيان بمثله سواء كان من فعل الله -سبحانه- كإخراج الناقة من حجر، وقلب العصا حية، أو جارياً مجرى فعله كأن يُقْدِر سبحانه نبياً من أنبيائه على المشي على الماء أو في الهواء.
وأما أن إظهاره على الكاذب قبيح: فلنزوله منزلة تصديقه كما قدمنا.
وأما أن تصديق الكاذب قبيح: فهو معلوم لكل عاقل.
وأما أن الله -تعالى- لا يفعل القبيح: فقد تقدم بيانه، فثبت أن القرآن كلام الله -سبحانه-، وأنه الموجود بين أظهرنا دون غيره، لا كما ذهبت إليه الباطنية من أنه نور لا ينقسم، والمجبرة من أنه صفة للباريء قديمة.
(الكلام في أن محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- نبي مرسل)
[27]
وعندنا محمدٌ نبيُّ .... مهذَّبٌ مطهَّرٌ زكيُّ
إختصَّهُ بذلكَ العليُّ .... وجاءَ منهُ مُعْجِزٌ جَلِيُّ
يَعْجَزُ عنهُ كلُّ ذِيْ مَقَالِ
قوله: (عندنا محمد) -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: لأن اليهود([32])، والنصارى([33])، والبراهمة([34])، والصابئين([35]) وهم فرقة تقرب من النصارى، وجميع فرق الكفر خالفونا في نبوءة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وأضافوا النبوءة إلى تدبيره و حيلته، دون أن يكون ذلك إختصاصاً له من خالقه، وذِكْرُ خلاف من قدمنا مفصلاً، يخرجنا عما نحن نرومه من الإقتصاد في هذا المختصر، وما نذكره من الدلالة بحمد الله تأتي على قول الكافة ممن خالف في ذلك.
___________________
([32])- اليهود هم: أمة موسى -عَلَيْه السَّلام-، وكتابهم التوراة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن موسى نبي الله، ولا يقولون بنبوة عيسى -عَلَيْه السَّلام-، ومحمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد حكى الله تعالى عنهم وعن أقوالهم وعقائدهم واختلافهم الكثير في القرآن الكريم، وهم يقولون بالتشبيه، وجواز الرؤية، والخروج من النار وغير ذلك من أقوالهم التي رد الله عليهم فيها، وأكذبهم في القرآن الكريم. ولهم فرق كثيرة يجري فيما بينهم اختلاف، فمنهم:
العنانية: نسبوا إلى رجل يقال له عنان بن داود.
والعيسوية: نسبوا إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الإصفهاني، وكان في زمن أبي الدوانيق وابتدأ في دعوته في آخر دولة بني أمية فتبعه بشر كثير من اليهود.
واليوذعانية: نسبوا إلى يوذعان من همدان.
والموشكانية: أصحاب موشكان.
والسامرة يقولون بنبوة موسى وهارون ويوشع بن نون، وينكرون نبوة من بعدهم إلا نبياً واحد يأتي مصدقاً لما بين يدي التوراة ولا يخالفها البتة.
الملل والنحل للشهرستاني مختصراً ملخصاً من ص158 إلى ص165، والملل والنحل للإمام المرتضى 84.
([33])- تقدّمت.
([34])- البراهمة: نسبة إلى رجل يقال له براهم، وهم فرقة ينفون النبؤات أصلاً. فيدخل في ذلك إنكار نبوة نبينا محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خصوصاً، وسائر الأنبياء عموماً.
([35])- الصابئون: اشتق اسمهم من الصبؤ وهو الميل، قيل فرقة من النصارى، وقيل هم فرقة مستقلة، يقرون بالصانع وقدمه، وافترقوا في الجسم وأوصافه، ويدعون لهم أنبياء، وينكرون نبوة جميع أنبياء الله صلوات الله عليهم.
ومحمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- هو أشهر من أن يُعرَّفَ بنسب أو لقب، وإنما نذكر ذلك تبركاً بذكره.
هو النبي الأمي الموجود ذكره في التوارة والإنجيل بصفته، وحليته، وأصحابه، وزمانه.
محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف من زهرة، ملأ المشارق والمغارب ذكره، وانتهى إلى جميع الآفاق أمره.
وقوله: (نبي): يريد؛ رفيع المنزلة أنبأه ربُّه بمصالح عباده، فأداهم -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بلا خيانة ما أدى، وهداهم كما هدى.
[بيان معنى: النبي]
إعلم أن لفظ النبوءة قد يُهمز وقد لا يُهمز، فإن همز كان من الإنباء وهو الإعلام والإخبار، قال الله -تعالى-: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا}[التحريم:3]، أي من أخبرك به، والله أعلم.
وقد يأتي فعيل بمعنى مُفْعِل كما قال الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميع .... يورقني وأصحابي هجوع
فقال في هذا (سميع) وهو يريد مُسْمِع، فعلى هذا يكون نبيء بمعنى منبيء.
وقد يأتي فعيل بمعنى مُفْعَل كما قال آخر:
وقصيدةٍ تأتي الملوك حكيمة .... قد قلتها ليقال من ذا قالها
فقال حكيمة:
وهو يريد محكمَه، فكان حكيم قد يكون بمعنى محكَم، فعلى هذا هو نبيء بمعنى منبَأ، وهو -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- جامع للوجهين، من حيث أنه أُنبئ، وأَنبأ، وأَنبَأهُ ربُّه، وأَنبَأ هو -عليه وآله السلام- عترته وأمته.
..
فإن لم يهمز كان من النباوة؛ وهي الرفعة، قال الشاعر:
فأصبح رتماً دقاق الحصى .... مكان النبي من الكاثب ([36])
وأحسب أن معنى هذا البيت صفة شدة الإلحاق، وأنه يريد بالنبي ها هنا الراكب على ظهر الفرس أو الراحلة، فأدمى خفها أو حافرها ذلك النبي.
وقوله: (مكان): يريد؛ لمكان، فحذف اللام لظهور ذلك وأمثاله في شعرهم كثير، وقد فسره أبو عبيد بغير هذا مع اتفاق الكافة ممن فسَّر هذا البيت من أهل العلم أن النبي هو المرتفع ها هنا.
فأما الكاثب: فهو منسج الفرس، ويجوز أن يستعار لكاهل البعير وغيره، وقد حَصَلَتْ هذه المعاني كلها للنبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من كونه مُنْبَأ ومُنبِياً، ورفيع المنزلة عند الله -تعالى- وعند خلقه في الدنيا والآخرة، وقد ورد التعبد بذلك في القراءة بالهمز وبغير الهمز، وذكر مواضعه يطول الشرح، وظهوره لأهل العلم بالقراءة كافٍ.
________________
([36]) - والكاثبة من الفرس المنسج والجمع أكثاب، والكاثب موضع أو جبل. تمت ق.
قال في شرح رسالة الحور العين: قال أوس بن حجر يرثي فضالة بن كلدة الأسدي:
على السيد الصعب لو أنه .... يقوم على ذروة الصاقب
لأصبح رتماً دقاق الحصى .... مكان النبي من الكاثب
الكاثب هنا اسم جبل فيه رمل وحوله رواب يقال لها النبي، الواحد: ناب، مثل غار وغرى، يقول: لو قام فضالة على الصاقب وهو جبل يذلِّله لسهل له حتى يصير كالرمل الذي في الكاثب، ونصب مكان على الظرف ويقوم بمعنى يقام، والرتم: الكسر والدق. انتهى.
وقوله: (مهذب): يريد؛ مجرد عن كل مكروه في نسب وأدب، وخلق وسبب؛ لأن التهذيب في أصل اللغة: التجريد من المكاره، وقد علمه الله وفهمه مصالح نفسه ومصالح غيره، علمه الله -سبحانه- ذلك وهداه.
و(المطهَّر): هو المنزه من القبائح والزنايا([37])، وقد نزهه الله عن ذلك بالعصمة.
وقوله: (زكي): يريد؛ كثير النماء والبركة في قوله وعقبه، وذلك ظاهر؛ لأنه لا أشرف من ذريته (عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام) في الذراري، ولا أنفع من قوله -عليه وآله السلام- في الأقوال.
قوله: (اختصه بذلك العلي): يريد بالعلي: الله -سبحانه وتعالى- والإختصاص هو التمييز على الكافة.
وقد خالفنا في ذلك جميع فرق الكفر على طبقاتهم لأنهم قالوا: كلما كان فيه من الآيات، وظهر على يديه من الدلالات الباهرات، هو من صبره وتعلمه، وذكائه وحيلته، حتى استتبت له الأمور، وانقاد له الجمهور، وكان أشدهم في ذلك عناية اليهود (لعنهم الله تعالى) فقال الله -تعالى- رداً عليهم: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(29)}[الحديد]، وقال سبحانه في آية أخرى بعد ذكر نبوته -عليه وآله السلام- رداً على اليهود أيضاً: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(21)}[الحديد]، ثم شبههم سبحانه بالحمر حاملة الأسفار وهي الكتب، واحدها سفر، لقلة التأمل لما فيها والإعتبار، والتيقظ والإزدجار.
وسمّى سبحانه في آية أخرى النبوءة فضلاً بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [النساء:54]، وهو لا يريد بالناس في هذه الآية إلا النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وأمثال هذا كثيرة جداً نبهنا عليها، وهي ظاهرة ظهور الشمس في الكتاب العزيز -زاده الله شرفاً-
___________________
([37]) - جمع زاني وزانية، فلا يوجد في آبائه وأمهاته سفاح الجاهلية.
قوله: (وجاء منه): الهاء في منه عائدة إلى العلي سبحانه.
(معجز): والمعجز هو الذي يعجز الخلق عن الإتيان بمثله، وقد تقدم الكلام فيه، وهو يريد به ها هنا القرآن الكريم، وهو أجلى معجزات الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام-، وإن كان فيها ما هو أبهر كخروج الناقة من حجر، وقلب العصا حيَّة، وفلق البحر، ونتق الجبل، إلى غير ذلك.
وإنما قلنا هو أجلى: لأن معجزات الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- لم تدم، وكانت تحدث في الحين بعد الحين، ثم لا تعود لهم للزوم الفرض لهم بالتقدم، وهذا القرآن الكريم باقٍ ما بقي الدهر لا يزداد على كثرة الترداد إلا جِدَةً، ملازم لأوقات التكليف، وتراجمته من العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام-، قد عرض للمسرفين([38]) والهذرة المتمردين، وفتاك المدققين من طبقات الملحدين، فكل من يعرض به لزمه فرضه وعلم خروجه عن مقدور المحدثين، وكان في مرامه له بمنزلة من رام مسح وجه الهلال بيمينه والبعد حائل من دونه([39]).
وقد ظهر عجز الجميع عن المعارضة، لأنهم لو قدروا لوجدت وظهرت ظهور سائر المعارضات، ونحن لا نريد بالمعجز غير ذلك كما قدمنا.
وإعجازه للخلق موجب لكونه من فعل القادر لذاته، وظهوره على يديه دليل على صدقه فيما قال وادعى، وادعاؤه للنبوءة يعلم ضرورة على حد العلم بأنه -عَلَيْه السَّلام- كان في الدنيا وصحت نبوءته لذلك؛ لأن الله -تعالى- لعدله وحكمته لا يصدق الكاذب في دعواه؛ لأنَّ تصديقه قبيح، وهو متعالي عن فعل القبيح.
قوله: (يعجز عنه كل ذي مقال): أكد به ما تقدم، وإلا فقوله: (معجز) يتضمن معنى ذلك.
___________________
([38]) ـ في (ن، م): للمسترقين.
([39]) ـ هذا المثل يضرب لمن يريد شيئاً محالاً غير ممكن بل من المستحيل حصوله...
(والمقال) هو اللفظ والكلام، من النثر والنظام، يقول كل متكلم يعجز عن الإتيان بمثله وذلك ظاهر؛ لأنه لو كان ممكناً لكان قد وقع كما نعلمه في الأشعار والخطب، فما أحد ادعى البينونة والتميز على أحد من أهل عصره إلا وعارضوه، ولم يسعهم([40]) الإنقياد لأمره، والإرتداع لزجره، وهذا كما ترى أبلغ، فلم يعارض بشعر أو غيره، إلا وقد عُورض بأضعاف ما جاء به، كإمرء القيس ومن دونه، فقد عارض إمرؤ القيس علقمة في أكثر قصائده معارضة اختلف فيها أهل المعرفة إلى يومنا هذا وإلى آخر الدهر، إلا أن القرآن الكريم -كرم الله ذكره- فما علم في أمره بشيءٍ يرفع رأس عالم بذكره.
فإن قيل: جوزوا أنه قد عُورض، وأن المعارضة كتمت؟.
قلنا: هذا التجويز يفتح باب الجهالات فيجب القضاء بفساده؛ لأن لقائل أن يقول على هذا القول: جوزوا أن يكون بعد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنبياء جاءوا بالمعجزات، ونسخوا شرع النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - وأوجبوا الحج إلى بيت آخر، وصيام شهر غير رمضان، أو أكثر، ومن انتهى إلى هذا التجويز فتعاميه مناظرة؛ إلا أن يكون مسلوب اللُّب فالله عاذره، فصح بما تقدم نبوءة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبها يصح لنا العلم بنبوءة جميع الأنبياء (-عَلَيْهم السَّلام-) وكتبهم والملائكة والجن لأنه أخبر بجميع ذلك.
زيادة إيضاح في أمره -عليه وآله السلام-:
[28]
أيَّدهُ ربي بإِظْهَارِ العَلَمْ .... فصَارَ في هَامَةِ بَحْبُوح الكَرَمْ
أفَضَلُ مَنْ يمشي على بَطنِ قَدَمْ .... وكلِ ذي لحمٍ من الخلقِ ودمْ
مَنّاً مِنَ الواحدِ ذِي الجَلالِ
هذا زيادة إيضاح في أمره -عليه وآله السلام-.
قوله: (أيَّده ربي بإظهار العلَم): يقول إن الله -سبحانه- أعانه، ونصره على أعدائه؛ بإظهار معجزاته.
والمعجزات قد تقدم الكلام في معناها، وهي أعلام النبوءة وأدلتها.
__________________
([40]) ـ في (ن، م): وإن لم يُسِمْهم.
و (العلَم): هو القرآن الكريم وسائر معجزاته -عليه وآله السلام- كإخباره بالغيوب في مثل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ(44)}[القمر]، يريد بذلك قريشاً، فقال سبحانه: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(45)}[القمر]، وأحدٌ في تلك الحال لا يطمع بأن قريشاً تُغْلَب، فكان كما قال، فهزم جمعهم، وولوا الدبر، ووعده إحدى الطائفتين إما عير قريش، وكان فيها جلتهم ومشائخهم، وإما بعيرهم فيها صناديدهم وشجعانهم، فأعطاهم الطائفة التي لم يكونوا يطمعوا بمثالها، ولو علموا لقاءها ما لقوها في تلك العدَّة لحدة شوكتها، وشدة بأسها، وعظم عدتها، ووعدهم المغانم الكثيرة، فأخذوها حتى انتهت إلى أمر عظيم، مع تأييده له بغير ذلك من معجزات المشاهدة كإتيان الشجر بدعائه([41])، وحنين الجذع لفراقه([42])،
_________________
([41]) - قال السيد الإمام أبو العباس الحسني في المصابيح: أخبرنا علي بن الحسين البجلي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن أبيه الحسين بن علي (ع) أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه خطب الناس وقال: أنا وضعت كلكل العرب وكسرت قرن ربيعة ومضر ووطأت جبابرة قريش..إلى قوله صلوات الله عليه: وأتاه الملأ من قريش أبو جهل بن هشام وهشام بن المغيرة وأبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو وشيبة وعتبة وصناديد قريش فقالوا: يا محمد قد ادعيت أمراً عظيماً لم يدّعه آباؤك ونحن نسألك أن تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف أمامك؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن ربي على كل شيء قدير وإني أريكم ما تطلبون وإني أعلم أنكم لا تجيبوني وإن منكم من يذبح على القليب ومن يحزب الأحزاب ولكن ربي رحيم؛ ثم قال للشجرة: انقلعي بعروقك بإذن الله، فانقطعت وجاءت ولها دويٌّ شديد حتى وقعت بين يدي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم، فقالوا استكباراً وعتواً: ساحر كذاب، هل صدقك إلا مثل هذا يعنوني؛ فقال -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-: حسبي به ولياً وصاحباً ووزيراً، قد أنبأتكم أنكم لا تؤمنون والذي نفس محمد بيده لقد علمتم أني لست بساحر)). انتهى المراد.
([42]) - قال الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين عليه السلام في الأمالي: وبه قال: أخبرنا أبي رحمه الله، قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: أخبرنا محمد بن الحسن الصفار، قال: أخبرنا أحمد بن أبي عبدالله البرقي، عن علي بن الحكم، عن أبان بن تغلب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: كان رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- إذا خطب جمع له كثيب فقام عليه وأسند ظهره إلى جذع فلما وضع المنبر في موضعه وقام عليه النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- خار الجذع فنزل إليه رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- فالتزمه ثم كلمه فسكته فلولا كلامه لخار إلى يوم القيامة. انتهى المراد.
وأكل الخلق الكثير وكفايتهم([43]).
(فصار في هامة بحبوح الكرم) يقول إنه -عليه وآله السلام-: أقام على هامة وسط الكرم، وبحبوح كل شيءٍ: وسطه، ووسط كل شيءٍ خياره.
والكرم ها هنا هو الشرف والرفعة، وتلك إستعارات جائزة، وكل ذلك لما أظهر الله -سبحانه- على يديه من المعجزات، وأيده به من الدلالات.
قوله: (أفضل من يمشي): يريد؛ أنه أفضل الخلق من الأنبياء -عليهم السلام- فمن دونهم وذلك معلوم من دينه -عليه وآله السلام-، وقد ثبت صدقه -عليه وآله السلام- كما تقدم من ظهور المعجز على يديه.
قوله: (وكل ذي لحمٍ من الخلق ودم): زيادة تأكيد لما تقدم، يقول إنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أفضل البشر؛ لأنهم مختصون باللحم والدم دون غيرهم من المتعبدين من الجن والملائكة، لا يفتقرون إلى أزيد من الرطوبة، واليبوسة، والتخلخل في البنية.
قوله: (منًّا من الواحد): المراد بالواحد ها هنا الله -سبحانه-
________________
([43]) - قال الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين في الأمالي: وبه قال: أخبرنا محمد بن بندار، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثني محمد بن إسحاق، عن سعيد بن مينا، عن جابر، قال: عملنا مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- في الخندق وكانت عندي شويهة سمينة، فقلنا: والله لوضعناها لرسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- فأمرت امرأتي فطبخت شيئاً من شعير فصنعت لنا منه خبزاً وذبحت تلك الشاة فشويتها لرسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- فلما أمسينا وأراد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- الانصراف عن الخندق وكنا نعمل فيه نهاراً فإذا أمسينا رجعنا، قال: فقلت يا رسول الله إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا وعضنا شيئاً من خبز هذا الشعير وأحب أن تنصرف معي إلى منزلي وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- وحده؛ فلما قلت له ذلك، قال: نعم؛ ثم أمر صارخاً فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- إلى بيت جابر، قال: فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون فأقبل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- وأقبل الناس معه فجلس وأخرجنا إليه قال: فبرك وسمى وأكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها وهم ثلاثة آلاف. انتهى المراد...
وقوله: (منًّا): يريد؛ تفضلاً؛ لأن المَّن إذا أطلق أفاد التفضل؛ لأنه لا يمن على الأجير بأجرته، ولا على البائع بثمن مبيعه، إلى ما شاكل ذلك لغة ولا عرفاً.
[بيان أن النبوة مَنٌّ من الله تعالى وتفضل وليست بجزاء على العمل]
وهذا ينفي أن يكون اختصه بذلك لشيءٍ من فعله كما قالت اليهود وغيرها من فرق الكفر بأن الله -تعالى- لم ينزل عليه القرآن، حتى قالوا: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:91]، فأكذبهم سبحانه بقوله: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ}[الأنعام:91]، إلى غير ذلك من أدلة نزوله وأنه من عنده.
وكان من قولهم: إن الله -سبحانه- لم يمن عليه بذلك ولم يفضله به ابتداء على جميع خلقه، فقال سبحانه منبهاً لكل عاقل متأمل منهم ومن غيرهم بأنه المتولي لتفضيل بعض خلقه على بعض حتى الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- فقال، لا شريك له، مصرحاً بما قلنا تصريحاً: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا(55)}[الإسراء]، إلى غير ذلك من آيات الكتاب الكريم.
قالوا: وإنما كان ذلك له -عليه وآله السلام- بحيلته وحسن تدبيره حتى صار رئيساً مُطَاعاً.
والكلام عليهم من طريق العقل: أن الحيلة لا تأثير لها في ظهور المعجزات، وخرق العادات، سيما وقد أكد ذلك سبحانه وأكد بهم بقوله له -عليه وآله السلام- مذكراً له نعمته عليه وآمراً له بذكرها ونشرها: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى(6)وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى(7)}[الضحى]، وضلاله -عليه وآله السلام- ها هنا قلة علمه بالشرائع والتكاليف الشرعية فهداه إليها ودله عليها، لا ما يقوله المبطلون ويتأوله الجاهلون، {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى(8)}[الضحى] المراد بذلك الزهد في الدنيا، والقنوع بالطفيف من الأشياء، وقد قيل أغناه بمال خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها).
وقولنا: أحب إلينا، فلم تكن عينه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- تمتد إلى شيءٍ من متاع الدنيا، ولا ينافس إلا أهل التقوى، حتى روي عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه ما ذكر الله عنده ذاكرٌ إلا ذاكره -عليه وآله السلام- حتى يكون آخرهما بالله عهداً.
وعَيْلَتِه: الأولى أنه لم يكن قد أنزل إليه آيات التزهيد في أمر الدنيا، وتشبيهها بالهشيم مرة، وباللعب أخرى، وكلا الأمرين زائل لا يبقى، فصار -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بذلك أغنى الأغنياء؛ كما روي عن روح الله عيسى (صلوات الله عليه وعلى جميع إخوانه من الأنبياء) أنه قال:(أبيت وليس لي شيءٌ، وليس على وجه الأرض أغنى مني).
ثم قطع سبحانه أباهر الشاكين في تفضيله لنبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- واعتراضهم عليه في تفضيله بقوله سبحانه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:105]، وفي هذا كفاية لمن اكتفى، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[القصص:56].
(باب القول في الوعد والوعيد)
[29]
وقولُنَا في الوعدِ والوَعِيدِ .... للمؤمنِ الطائعِ والعنيدِ
وللشقيِّ العرضِ والسعيدِ .... بالمَكْثِ في الدارينِ والتَخْلِيْدِ
وذاكَ قُولُ اللهِ ذي المَحَالِ
هذا الكلام في الوعد والوعيد، ولا بد من ذكر حقيقتهما، ليكون ذلك أساساً لما نذهب إليه فيهما.
(فالوعد): هو الإخبار بوصول النفع أو سببه إلى الغير في المستقبل.
(والوعيد): نقيضه؛ وهو الإخبار بوصول الضرر الخالص أو سببه إلى الغير في المستقبل.
وإنما قلنا الضرر الخالص إحترازاً من مضار المحن وتمحيص المؤمنين، فقد أخبر سبحانه بذلك ولم يكن وعيداً؛ لأن الوعيد لا يكون إلا للعاصين، كما أن الوعد لا يكون إلا للمؤمنين.
[الكلام في الخلود في الجنة والنار]
فمذهبنا في هذه المسألة: أن مَنْ وعده الله -سبحانه- بدخول الجنَّة أنه صائر إليها وخالد فيها، والخلود: هو الدوام أبداً لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ(34) }[الأنبياء]، فلولا أن الخلود هو الدوام أبداً لكانت الآية لاحقة بالكذب الذي لا يجوز عليه لقبحه -جل عن ذلك وعلا- لأن الكل ممن قبله -عليه وآله السلام- قد بقي بقاءً منقطعاً، وأن من توعده الله -تعالى- من العاصين بدخول النار فإنه صائر إليها، وخالد فيها.
وخالفت المجبرة في ذلك على طبقاتها، ويلحق بهذا الخلاف قول السوفسطائيه لنفيهم لحقائق الأشياء وتجويزهم أن يكون الذي عوقب غير الذي عصى، فمن قطع على ذلك قطعاً كانت يده في الخلاف أقوى، وظهور الأمر في تخطئته أجلى.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الله -تعالى- قد وعد وأوعد، وإخلاف الوعد والوعيد كذب، والكذب قبيح، والله -تعالى- لا يفعل القبيح.
أما أنه تعالى وعد وأوعد: فذلك ظاهر في آيات القرآن الكريم والسنة الشريفة الماضية، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7)جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}[البينة]، فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا تحت الرضى، وأن يجعلنا ممن آثر خشيته على منافع الدنيا.
وقال -سبحانه- في العاصين: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا(23)}[الجن].
وإسم المعصية واقع بالإتفاق على كل من فعل قبيحاً أو ترك واجباً، والتائب مستثنى بدلالة قوله سبحانه في مثل ذلك: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}[الفرقان:70].
وأما أن إخلاف الوعد والوعيد كذب: فلو جود حقيقة الكذب فيه لو وقع -تعالى عن وقوعه ربنا- لأن حقيقة الكذب: هو الخبر عن الشيء لا على ما هو به، كقول القائل: أقام زيد في الدار سنين كثيرة، وهو لم يقم فيها إلا يوماً واحداً فإن ذلك كذب عند جميع العقلاء، فلو أخرج سبحانه أهل النار أو بعضهم منها، مع إخباره لنا ولهم بخلودهم فيها، كما قدمنا، لكان هذا خبراً عن الشيء لا على ما هو به وذلك كما قدمنا.
وأما أن الكذب قبيح: فقبحه معلوم لكل عاقل.
وأما أن الله -تعالى- لا يفعل القبيح: فقد تقدم بيانه في مسألة العدل، فلا وجه لذكره هاهنا.
قوله: (وذلك([44]) قول الله ذي المحال): فـ (المحال): هو القدرة، وقد تقدم الكلام عليه في مسألة قادر.
وأما أنَّا لم نقل في هذه المسألة إلا بقول الله -تعالى- فلأنه سبحانه يقول في كتابه الكريم {قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام:73]، والكذب باطل بالإجماع، ويقول سبحانه: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}[يونس:64]، وقال: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(115)} [الأنعام]، والكذب تبديل على أقبح الوجوه، فمن هنا كان قولنا مطابقاً لقوله تعالى.
(مسألة الشفاعة)
[30]
وما لأهلِ الفِسْقِ مِنْ شَفَاعهْ .... لَمَّا تَنحَّوا عن طريقِ الطاعهْ
وخَالَفُوا السنةَ والجَمَاعهْ .... وارتَكَبُوا المُنْكَرَ والبشاعهْ
فَخُلِّدُوا في حِلَقِ الأنكالِ
[الكلام في أمر الشفاعة لمن تكون يوم القيامة]
هذا هو الكلام في أمر شفاعة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لمن تكون يوم القيامة.
فذهب أهل الجبر إلى أنها تكون لأهل الكبائر من هذه الأمة، ورووا في ذلك أخباراً عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا تنتهي إلى ثقات، وصريح الكتاب الكريم معترض لها جميعاً، وهي بالإطراح أو التأويل أولى، وفي مقابلتها أخبار تنقضها، رواتها من سادات العلماء؛ فهي لذلك أقوى.
________________
([44]) ـ في (ن): وذاك، وهو الظاهر من قافية البيت.
وذهب أهل العدل على طبقاتهم إلى أنها - أعني شفاعة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - لا تكون لمن يستحق النار من الفساق والكفار، ولم ينكر أحد من جميع الأمة والأئمة -عَلَيْهم السَّلام- الشفاعة، وكيف وقد ظهر قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((من كذب بالشفاعة لم ينلها))([45])، وإن حدث قول بغير ذلك كان خارقاً للإجماع وذلك لا يجوز.
فإن قيل: فلمن تكون الشفاعة على هذا إن قلتم تكون للعصاة هدمتم قاعدة كلامكم أولاً، وإن قلتم للمؤمنين فلا نجد لها معنى؛ لأنهم بما استحقوا من الثواب أغنياء؟.
قلنا: الأمر فيما ذهبنا إليه [واضح([46])] جداً، لأنَّا نعلم أن الله -تعالى- قد وعد نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أن يبعثه مقاماً محموداً يتميز به على سائر الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- وذلك لا يكون إلا بأن يبعثه شافعاً مشفعاً، والشفاعة كما تحسن في حق الفقراء تحسن في حق الأغنياء، ألا ترى أنه كما يقال: يشفع فلان إلى الملك في إغناء فقيرٍ، أو فك أسيرٍ، قد يحسن أن يقال: شفع ولده إليه في الزيادة في راتب الوزير، وإجلاسه معه على السرير، فكما أن الشفاعة تحسن وتنفع في دفع المحذور، قد تحسن وتنفع في جلب السرور.
[الدليل على أن الشفاعة ليست للفساق]
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله -تعالى- وهو لا يقول إلا الحق: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ(18)}[غافر].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله -تعالى- نفى على العموم أن يكون لأحد من الظالمين، يوم القيامة حميم من المؤمنين، ولا شفيع مطاع من المقربين، والفاسق ظالم كالكافر، وإثبات ما نفى الله -تعالى- لا يجوز.
أما أنه تعالى نفى أن يكون لأحد من الظالمين حميم ولا شفيع يطاع: فذلك ظاهر؛ لأنه أدخل حرف النفي على شفيع، وهو نكرة شائعة، فاقتضى العموم بدلالة جواز الإستثناء.
___________________
([45]) - أخرجه في مسند الشهاب (1/248) رقم (399).
([46]) - غير موجود في النسخ.
وأما أن الفاسق ظالم كالكافر: فذلك معلوم مِنْ عُرْفِ العلماء، وأكثر الفساق ظلمة شرعاً ولغةً وعرفاً، ولم يفرق بينهما أحد من أهل الخلاف في الشفاعة فيما سبق، فإحداث الفرق في وقتنا لا يجوز؛ لأنه يكون خارجاً عن سبيل الأمة وذلك لا يجوز.
وقد ورد في الشرع أن العاصي ظالم لنفسه، فلا يخرج أحد من الفساق عن اسم الظلم كما قدمنا.
وأما أن إثبات ما نفى الله لا يجوز: فظاهر؛ لأن إثباته يكون تعقباً لحكمه، وتبديلاً لكلماته، ورداً عليه في قوله، وتحكماً عليه في سلطانه؛ وذلك لا يجوز بإجماع الأمة، فلو شفع النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- للفساق؛ والحال هذه، كان الأمر لا يخلو من أحد أمرين باطلين.
أن يُشَفَّع -عليه وآله السلام- فيهم بعد نفي الله -سبحانه- لقبول الشفاعة من كل شفيع بوقوع النفي عاماً، كما قدمنا، فيكون ذلك تكذيباً لكتابه، وتعقباً لحكمه، وتبديلاً لكلماته؛ وذلك لا يجوز.
وكيف لا يتعذر جوازه، وقد وعده الله -سبحانه وتعالى- ووعده الحق الذي لا مرية فيه، أنه يبعثه مقاماً محموداً شريفاً، يتميز به على سائر الأنبياء -عليهم السلام-، وقد أدى إلى هذين الباطلين القول بأن شفاعة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- تكون للفساق، فيجب القضاء بفساده، وأن شفاعته -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- تكون للمؤمنين ليزيدهم الله سروراً إلى سرورهم، ونعيماً إلى نعيمهم، وللتائبين الذين ماتوا وهم من الطاعة غير مستكبرين، ليجعل كتابهم في عليين، وعليه يحمل ما روى المخالف عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((ذخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي([47])))، فلا يستقيم لهذا الخبر معنى في الحكمة حتى يحمل على التائبين، مع أنه قد عورض بحديث أصحّ منه وأقوى سنداً يطابق محكم الكتاب وهو قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))، فسقط قول المخالف وثبت ما قلنا.
_________________
([47]) ـ تأويل الحديث من المجاراة للخصم، والواقع أن هذا الخبر من الأخبار الآحادية المعارضة لصرائح القرآن، وقد روي بطرق كلها في بعض رجالها جرح وتضعيف من قبل أهل السنة أنفسهم؛ فأكثر مدار رواياتهم، ومعول طرقهم على أنس بن مالك، وابن عباس، وقد أسندت إليهم بطرق مجروحة تشهد بتضعيفها فمنها: عند الطبراني في الأوسط (2/369) رقم (3566) بسنده عن أنس بن مالك وفيه عروة بن مروان، قال الطبراني: تفرد به عروة بن مروان. انتهى.
قلت: قال فيه الدارقطني: كان أمياً ليس بالقوي في الحديث، ميزان الاعتدال 5/82.
ومنها: عند الطبراني في الصغير، والبزار من طريق أبي داود، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/381) بسند عن أنس بن مالك، وفيه الخزرج بن عثمان، قال الدارقطني: يترك، وقال الأزدي: فيه نظر، ونقل عنه ابن الجوزي أنه قال: ضعيف، ميزان الاعتدال 2/440، تهذيب التهذيب 2/87.
ومنها: عند الطبراني في الكبير (6/205) رقم (8518) وأبو داود السنة (4، 236) رقم (4739) والترمذي في صفة القيامة (4/625) رقم (2435) وأحمد في المسند (3/261) رقم (13227) بإسنادهم عن ثابت بن قيس عن أنس بن مالك، وفيه ثابت بن قيس، قال ابن معين: ضعيف، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن حبان: قليل الحديث كثير الوهم لا يحتج بخبره، وقال الحاكم: ليس بحافظ ولا ضابط، ميزان الاعتدال 6/ 86، تهذيب التهذيب 1/ 391.
ومنها: عند الطبراني في الكبير (3/319) رقم (4713) والبخاري في الإيمان (1/67) رقم (9) ومسلم في الإيمان (1/63) رقم (58/ 35) بسند عن ابن عباس، وفيه موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، قال الذهبي: ليس بثقة، قال ابن حبان: دجال، قال ابن عدي منكر الحديث، ميزان الاعتدال 6/549.
وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن ابن جريج إلا موسى بن عبد الرحمن.
فهذا جُلُّ ما يعتمدونه في هذا الخبر؛ فقد رأيت تهدم قواعدهم، واضطراب أساسهم.
عدنا إلى تفسير القافية:
(الأنكال): هي القيود، وأحسب أنها ذات العُمد، واحدها نكل، ومنه أخذ التنكيل.
(والسنة) ما كان عليه محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
(والجماعة) أهل الحق وإن قلوا؛ وهم أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ومن تابعهم.
(الكلام في المنزلة بين المنزلتين)
[31]
ولا يُسمَّى ذُو([48]) الفُسُوقِ كافِراً .... مُغَالِبَاً بِكُفْرِهِ مُجَاهِراً
ولا تَقيَّاً ذا وقَارٍ ظاهِراً .... بَلْ فاسقاً رِجْسَاً لَعِيناً فَاجِراً
يَجُولُ في جَوَامِعِ الأَغْلالِ
________________
([48]) - نخ (أ): ذا...
هذا هو الكلام في المنزلة بين المنزلتين، والخلاف مع الحسن بن أبي الحسن البصري([49])؛ فإنه قال: " الفاسق منافق "، ومع الخوارج([50])؛ فإنهم قالوا إن (الفاسق كافر) ومع المرجئة([51])؛ فإنهم قالوا إن الفاسق مؤمن.
ومذهبنا: أنه لا يجوز إطلاق شيءٍ من الألفاظ المتقدمة على المرتكب للكبائر من هذه الأمة مع اعترافه بصحة النبوءة ووجوب أحكام الشريعة على الكافة؛ بل نسميه فاسقاً ونقره على ذلك الإسم، ونجري عليه حكماً مفرداً عن أحكام من ذكر أولاً([52]) من المنافقين والكفار والمؤمنين.
والذي يدل على صحة ما قلنا: أن لكل إسم مما علقوا بالفاسق معنى في الشريعة مخصوصاً يتبعه حكم مخصوص غير ما عليه الفاسق بالإتفاق.
_____________________
([49]) ـ الحسن البصري، هو: الحسن بن أبي الحسن، واسم أبي الحسن يسار البصري أبو سعيد مولى أم سلمة، وقيل: مولى زيد بن ثابت، وقيل غير ذلك، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر في المدينة، قدم البصرة بعد مقتل عثمان ولقي علياً -عَلَيْه السَّلام-، وروى عنه على الإختلاف في لقياه هل في البصرة أم في المدينة، توفي سنة عشر ومائة، وله ثمان وثمانون سنة، خرج له الجماعة، وأئمتنا الخمسة، والهادي -عَلَيْه السَّلام- في الأحكام، وقد توسع صاحب الطبقات في ترجمته، انتهى من الطبقات.
([50]) ـ الخوارج: سموا بذلك لخروجهم على أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-، ويسمون الشراة لقولهم: إنهم باعوا الدنيا بالآخرة، ويسمون الحرورية لنزولهم بحروراء في أول أمرهم وهي بلدة بناحية الكوفة سماهم بذلك أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-، ويسمون المحكمة؛ لقولهم: لاحكم إلا الله، ويسمون المارقة؛ للخبر المروي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لعلي -عَلَيْه السَّلام-: ((تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين))، وقوله أيضاً في ذي الخويصرة: ((سيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية))، وأصول فرقهم خمس:
الأزارقة: منسوبون إلى أبي راشد نافع بن الأزرق.
والإباضية: إلى عبدالله بن يحيى بن أباض.
والصِفرية بكسر الصاد إلى زياد الأصفر.
والبهيسية إلى أبي بهيس.
والنجدات إلى نجدة بن عامر، الملل والنحل لابن المرتضى 111، الملل والنحل للشهرستاني الجزء الأول 114 إلى 138.
([51]) ـ المرجئة: سميت بذلك لتركهم القطع بوعيد الفساق، والإرجاء في اللغة: التأخير، وهم الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل، ويقولون لاتضر مع الإيمان معصية، وقد قال فيهم الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((صنفان من أمتي لاتنالهما شفاعتي لعنوا على لسان سبعين نبياً: القدرية، والمرجئة)) قالوا: فما القدرية؟ قال: ((الذين يقولون أن المعاصي بقضاء من الله وقدر، والمرجئة الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل))، وهم فرق كثيرة، ولهم أقوال مختلفة.
([52]) ـ في (ن، م): ذكروا أولاً.
أما النفاق: فهو إسم لمن أظهر الإسلام بلسانه وأبطن الكفر في قلبه، فلو وجد سبيلاً إلى إظهار الكفر لأظهره، ومعلوم أن الفاسق بخلاف ذلك، ويلحق به من أحكام الشريعة أن نفاقه إن ظهر أستتيب فإن تاب وإلا قتل، والفاسق تقام عليه الحدود، ويجبر على الواجبات في وقت الإمام، وهذا فرق ظاهر.
وأما الكفر: فهو إسم لأفعال مخصوصة كالجحود لله -سبحانه وتعالى- وتكذيب رسله أو بعضهم، والإستهزاء بآياته، وإنكار نزول كتبه بصائر إلى عباده إلى غير ذلك، وتعطيل الشرائع.
ويتبعها أحكام مخصوصة وهي حرمة المناكحة، والموارثة، والدفن في مقابر المسلمين، والقتل حتى يدخلوا في الدين أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، إلا كفار العرب فليس لهم إلا السيف أو الإسلام لحكم ربِّ العالمين.
وأما الإيمان: فهو إسم لفعل الطاعة وترك المعصية في الشريعة، وهو إسم مدح وتعظيم؛ ألا تسمع إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)}[الأنفال] !؟، وليس هذه حال الفاسقين بالإجماع.
والإيمان، كما ذكرنا، إسم مدح وتعظيم، والفاسق لا يستحق المدح والتعظيم؛ بل يستحق الإستخفاف، واللعن، والبراءة، والسَّب، فقد تبين لك بما قدمنا أن الفاسق خارج عن هذه الأسماء وهذه الأحكام، وتسميتنا له فاسقاً أخذ بموضع الإجماع الذي هو آكد الأدلة؛ لأن الحسن لا يخالفنا في أنه فاسق مع تسميته له منافقاً، وكذلك الخوارج لا يخالفونا في تسميته فاسقاً مع تسميتهم له كافراً، والمرجئة لا يخالفونا في تسميته فاسقاً مع قولهم إنه مؤمن، فقولنا؛ كما ترى، أخذ بموضع الإجماع، فنسأل الله التوفيق.
رجع التفسير:
قوله: (يجول في جوامع الأغلال): يقول إنه عندنا يستحق العقاب خلافاً للمرجئة في الوقوع؛ لأن عندنا أن المستحق واقع، كما قدمنا، وعندهم أن المستحق لا يقع، كما حكينا عنهم.
و (الجامعة): هي ما يجمع بين يدي الإنسان وعنقه من السلاسل، وربما جمع بها بين الإنسان وغيره.
و (الغَل): يختص بما يجمع يد الإنسان وعنقه، وهذا تنبيه منه إلى أن مصير الفساق في الآخرة، نعوذ بالله -تعالى- من حالهم إلى هذه الحال.
(الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
[32]
والنَّهيُ عَنْ فِعْلِ القبيح واجبُ .... والأَمْرُ بالمعروفِ فرضٌ لازِبُ
وهو على فاعِلِهِ مَرَاتِبُ .... وَعظٌ وَزجرٌ وَحُسَامٌ قَاضِبُ
مِْن غِيرِ تَفْرِيطٍ ولا استعجالِ
هذا هو الكلام في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بد من البداية بذكر حقيقة الأمر والنهي ليتضح الكلام فيها.
أما الأمر: فهو قول القائل لغيره إفعل أو لتفعل، على جهة الإستعلاء بشرط الإرادة لمقتضى الأمر.
والنهي: قول القائل لغيره لا تفعل أو لا يفعل، على جهة الإستعلاء دون الخضوع بشرط الكراهة لما تعلق به النهي، فهما؛ كما ترى نقيضان.
ومذهبنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على الكافة وجوب الكفاية عند قيام البعض، ووجوب الأعيان عند إهمال الجميع.
---
..........
[شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
ولا بد للوجوب من شرائط؛ إن وجدت لزم، وإن عدمت أو شيءٌ منها سقط:
أولها: أن يكون الآمر الناهي عارفاً بالمعروف والمنكر مفصلاً، وبمراتب الأمر ليقع أمره ونهيه مطابقاً لمراد الحكيم سبحانه إذ بجهله بذلك أو ببعضه لا يأمن أن يأمر بمنكر أو ينهى عن معروف أو يقدم ما يجب تأخره ويؤخر ما يجب تقديمه فينتقض الغرض.
وثانيها: أن يعلم أو يغلب في ظنه أن لأمره ونهيه تأثيراً في وقوع المعروف وارتفاع المنكر؛ لأن أمره ونهيه، والحال هذه، يكون عبثاً - أعني إذا لم يعلم أو يغلب في ظنه تأثير أمره ونهيه - إلا أن يكون نبيئاً أو إماماً فيجب حينئذٍ لإبلاغ الحجة، وأما في آحاد الناس فلا.
وثالثها: أن يعلم أو يغلب في ظنه أن أمره ونهيه لا يؤدي إلى ترك معروف أكثر مما أمر به، أو ارتكاب منكر أكثر مما نهى عنه.
ورابعها: أن يعلم أو يغلب في ظنه أن ذلك لا يؤدي إلى تلف نفسه، ولا ذهاب عضو من أعضائه، أو اجتياح ماله، إلا أن يكون إماماً فإن ذلك سائغ له أن يحمل نفسه على ذلك وإن علم الهلاك لإعزاز الدين كما فعل الحسين بن علي -عَلَيْهما السَّلام- ولذلك تباهى به سائر الأمم فيقول لم يبق من الرسول إلا سبط فحمل نفسه على الموت لإزالة المنكر عن دين ربِّه.
ولا يعذر عن التخلف عنه، والحال هذه، أحد إلا من عَذَرَه، ومن عَذَرَهُ وسعه التخلف، واللحاق أفضل بكثير، وقد فعل فعله كثير من أهل بيت النبوءة -عَلَيْهم السَّلام- ذكرهم يخرجنا عما نحن بصدده.
وخامسها: أن يعلم أو يغلب في ظنه أن ذلك الفاعل للمنكر، التارك للمعروف، ممن لم يعاهد على الإقرار على منكره وتركِ ما هو معروف عند غيره كاليهود وسائر أهل الذمَّة؛ فإنهم عوهدوا على أنهم يودعون([1]) وفعلِ ما يستحلون في شريعتهم، وإن كان عندنا منكراً كشرب الخمر وما شاكله، وتركِ ما لا يعتقدون وجوبه في شريعتهم كصلاتنا وصيامنا وما شاكل ذلك، وأن ذلك الفعل منكر من ذلك الفاعل إذ لا يقبح منه من الأمور المختلف فيها إلا ما يعلم قبحه أو يغلب في ظنه لفتوى من يرجع إليه من المفتين؛ إلا الإمام فله الإعتراض في مثل ذلك، فمتى حصلت هذه الشرائط وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومتى عدمت أو عدم بعضها سقط ذلك.
_______________
([1]) ـ يودعون بمعنى: يخلى بينهم وبين فعل ما يستحلون.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104)}[آل عمران] .
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن هذا أمر من الله -سبحانه- والأمر يقتضي الوجوب، وهذه الدلالة مبنية على أصلين:
أحدهما: أن هذا أمر من الله -سبحانه- والثاني: أن الأمر يقتضي الوجوب.
أما الأول، وهو أن هذا أمر: فلأنه أحد صيغتي الأمر التي قدمنا وفيه شرطه؛ لأنه صيغة لتفعل على جهة الإستعلاء، والدليل على مقارنة الإرادة لهذا اللفظ تعقيبه بالمدح لفاعل مقتضاه، فلولا إرادته له لما مدح فاعله، وذلك دلالة الإرادة عند كل متأمل من العقلاء، ولأنَّا قد علمنا أن المعروف حسن، والمنكر قبيح، والإرادة فعل من أفعاله سبحانه، وهي من جملة اللطف في التكليف؛ لأنَّا إذا علمناه يريد منا الفعل كان ذلك تقريباً لنا ، وتقريب المكلف واجب ، وهو تعالى لا يخل به، فثبت أن الإرادة مقارنة لصيغة الأمر.
وأما الذي يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب، وهو الأصل الثاني: فما نعلمه من أن الواحد منا إذا أمر عبده بفعل من الأفعال فلم يفعله، مع التمكن، إستحق الذَّم عند الكافة، وليس ذلك إلا أنه ترك الواجب ، وحالنا مع الله -سبحانه- دون حال العبد مع مالكه من العباد ؛ لأن نعمه علينا لا تحصى ، وهو مالكنا وسيدنا، وقد لا يكون للسيِّد من العباد على عبده نعمة أصلاً؛ لأنه إذا أطعمه، و أسقاه، وجمله، وكساه، لغرض يعود عليه لم يكن منعماً في الحقيقة، فإذا قبح عصيانه لسيده عند جميع العقلاء لمجرد ملكه له فعصياننا لسيدنا ومالكنا المنعم علينا بأنواع النعم أقبح، وذلك ظاهر لمن ترك العناد.
تفسير لفظ البيت:
(لازب): لازم، وكذلك لاسب، ولاصب، متقاربة معناهما في اللغة واحد.
قوله: (وهو على فاعله مراتب): المراتب: هي الأمور التي يبنى بعضها على بعض وكان أصلها في الأجسام ثم نقلت بعد ذلك إلى الكلام فصارت حقيقة مشتركة.
قوله: (وعظٌ): يريد؛ التذكير بأمر الله -تعالى- والتخويف من عقابه، والترغيب فيما عنده من جزيل ثوابه، فهذا أول ما يجب على الآمر الناهي أن يأتي به، فإن نجح وإلا انتقل إلى مرتبة أخرى وهي القول الخشن، والتهديد والوعيد، فإن نجع وإلا ضرب بالسوط والعصا، والزجر يقتضي التهديد والضرب بالسوط والعصا، وإلا فالسيف.
(والحسم): هو القطع بلا حسم.
و(القضب): هو القطع مع الحسم([2])، ولذلك يسمى السيف حساماً وقاضباً، والمعنى فيهما متقارب، وإنما قلنا ذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يردان لأنفسهما وإنما يردان لما يؤديان إليه من وقوع المعروف وارتفاع المنكر، فإذا حصل ذلك بالأمر الهين لم يجز العدول إلى الأمر الصَّعب.
وقوله: (من غير تفريطٍ ولا استعجالِ): التفريط والتقصير والتواني معناها واحد، والتأني يقرب منها؛ إلا أنه محمود، والتواني مذموم مثل العجلة والسرعة، معناهما متقارب، والعجلة مذمومة والسرعة محمودة، ولا وجه للإتساع فيما يتعلق باللغة وإنما نذكر طرفاً تتعلق به الفائدة.
ومراده بذلك أن لا يتوانا الآمر الناهي فيفوته الأمر لوقوع منكره وترك واجبه، ولا يستعجل فيأمر وينهى على وجه الوجوب قبل وجوب ذلك الأمر عليه فيكون ذلك قبيحاً.
وقلنا بوجوبه على الكفاية: لأن الأمر لم يتعين، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به البعض وجب على الكافة لتوجه الذم إلى الجميع، وذلك معنى واجب الكفاية، فاعلم ذلك موفقاً.
________________
([2]) ـ في (ن، م): الحس.
(الكلام في إمامة أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-)
[33]
ثُمَّ الإمامُ مُذْ مضى النبيُّ .... صلَّى عَليِهِ الواحدُ العليُّ
بغيرِ فَصلٍ فَاعْلَمَنْ عليُّ .... والنَّصُ فِيهِ ظاهِرٌ جَلِيُّ
يومَ الغَدِيرِ ساعةَ الإحْفَالِ
مذهبنا في هذه المسألة: أن الإمام بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، بلا فصل، علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، وبه قالت الإماميَّة([3]).
_______________
([3]) ـ الإمامية: فرقة من فرق الشيعة القائلين بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وأنه منصوص عليه، وأنه أفضل الصحابة، ويسمون الرافضة لرفضهم الجهاد مع الإمام زيد بن علي عليه السلام، وإنكار إمامته.
قال الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني عليه السلام: ((إن جميع فرق الأمة أجمعت على إمامة زيد بن علي عليه السلام إلا هذه الفرقة))، ويسمون الإثني عشرية لقولهم بإمامة إثني عشر إماماً منصوص عليهم أولهم أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وآخرهم المهدي المنتظر عجل الله فرجه ، وترتيب الأئمة لديهم كالتالي:
الإمام علي عليه السلام استشهد بالجامع بالكوفة في محرابه، ضربه أشقى الأولين والآخرين عبد الرحمن بن ملجم سنة 40هـ، وبعده الإمام الحسن بن علي عليه السلام استشهد بالسم سنة 50هـ، وبعده الإمام الحسين بن علي عليه السلام استشهد بكربلاء سنة 61هـ العاشر من محرم، وبعده الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام قتل بالسم سنة 94هـ، وبعده الإمام محمد بن علي بن الحسين الباقر عليه السلام قتل مسموماً سنة 114هـ، وبعده ولده الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين قتل مسموماً سنة 148هـ، وبعده ولده الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق توفي سنة 183هـ، وبعده ولده علي الرضا بن موسى الكاظم قتل مسموماً سنة 203هـ سمه المأمون، وبعده ولده محمد الجواد بن علي الرضى قتل عام 220هـ، وبعده ولده علي الهادي بن محمد الجواد قتل سنة 253هـ، وبعده ولده الحسن العسكري بن علي الهادي قتل سنة 260هـ، وبعده الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه، وقد اختلفوا اختلافاً كثيراً واسعاً في تعيين من هو المهدي المنتظر.
وقد افترقت الإمامية فرقاً كثيرة، منها: الجعفرية والباقرية، والقطعية، والإسماعيلية، والكيسانية، والناووسية، والمباركية، والشمطية، والعمارية، والمفضلية، والمغيرية، وغيرهم، منها ما هو باق إلى اليوم، ومنها ما قد انقرض ، ولمزيد من التعرف على هذه الفرقة انظر كتاب العقد الثمين للإمام المنصور بالله عليه السلام.
وذهبت المعتزلة([4])، والزيدية([5]) الصالحية، وأصحاب الحديث، والخوارج على طبقاتها إلى أن الإمام بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، بلا فصل، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي بعدهم -أبعدهم الله-.
_________________
([4]) ـ المعتزلة: فرقة من فرق العدلية، وهم أتباع أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال كان نادرة زمانه في فصاحته وبلاغته، وكان يحضر مجلس الحسن البصري ثم ناظره في المنزلة بين المنزلتين، وهي أن صاحب الكبيرة لايسمى مؤمناً ولايسمى كافراً بل له منزلة بين الإيمان والكفر، وكان الحسن ينكرها فاعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري، وتبعه عمرو بن عبيد، وكان الحسن يقول: ما فعلت المعتزلة فسموا معتزلة، وافترقت المعتزلة إلى: بصرية، وبغدادية، والبصرية شيخهم محمد بن الهذيل العلاف صاحب المناظرات، والبغدادية شيخهم أبو الحسين الخياط وتلميذه أبو القاسم البلخي، ويجمع مذهبهم القول بالعدل والتوحيد، وإمامة أبي بكر وتقديمه، واختلفوا في الأفضلية، فمنهم من قال بأفضلية أبو بكر، وهم غالب البصرية.
وتتميز البغدادية عن البصرية بميلهم إلى التشيع.
([5]) ـ الزيدية الصالحية: يقال إنها فرقة من فرق الزيدية، وهم أتباع الحسن بن صالح بن حي رحمه الله يقولون بتقديم أبي بكر وصحة إمامته مع أولوية الإمام علي عليه السلام، وفي الحقيقة لاوقوع لهذه الفرق التي أُثبتت للزيدية؛ لأن الزيدي فرع على الشيعي، ولا تشيّع لمن يقول بتقديم غير الإمام علي عليه السلام عليه، فكيف يُقال إنه زيدي مع انتفاء تشيّعه، ولو صُلح إطلاق لفظ الزيدي عليهم، لصلح إطلاقه على المعتزلة؛ لأنها تقول بأقوال الزيدية في مسائل كثيرة في العدل والتوحيد وغيرها، وتخالفهم في تفاصيل بعض مسائل التوحيد لا في الجملة، وتخالفهم في مسألة الإمامة؛ لأنهم يقولون بإمامة المشائخ الثلاثة، والزيدية تقول بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله بلا فصل، وبعده الحسن، وبعده الحسين، ولا تقول بإمامة الثلاثة المشائخ؛ وأيضاً المعتزلة لا تقول بحصر الإمامة في أولاد البطنين وتقول بأن موضعها قريش، وتوافقهم في ذلك الصالحية، مع أن الزيدية تقول بحصرها في أولاد البطنين دون غيرهم؛ فإذاً لا فرق بين أن نقول الصالحية فرقة من فرق الزيدية، أو المعتزلة من فرق الزيدية، فبما أن المعتزلة فرقة مستقلّة توافقها الصالحية في بعض المسائل وبالأخصّ مسألة الإمامة، إذاً نقول: إن الصالحية فرقة مستقلة حالها كحال أي فرقة تنتسب إلى رجل من رجال الإسلام وتجعل لها أقوالاً وعقائد على حيالها، أو نقول إن الصالحية فرقة من فرق المعتزلة، كما قال الشهرستاني في الملل والنحل 1/ 117: "أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذوا القذّة بالقذّة، ويعظّمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيم أئمة أهل البيت(ع)؛ لأن الإدعاء ليس دليلاً على الثبوت".
وأما إطلاق لفظ الإمام عليه السلام على الصالحية بأنها زيدية، فليس فيه دليل على أنهم زيدية؛ بل إن ذكره لهم في عداد القائلين بعدم إمامة أمير المؤمنين بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ينفي أنهم زيدية، وقد يكون -عَلَيْه السَّلام- ذكرهم بالعَلَم الذي تسمّوا به، وقوله -عَلَيْه السَّلام- : "أبعدهم الله" يكشف ذلك، ثم إنه لم يُؤْثر عن أحد من أئمة الزيدية القول بأقوالهم، فبطلت نسبتهم إلى الزيدية بخروجهم عن أقوال أئمّتها، ثم تراه وهو إمام الزيدية -عَلَيْه السَّلام- يردّ عليها ويفنِّد أقاويلها ويبيّن ضلالها، ومن اطلع على كلامه عليه السلام في الشافي في تبيين من هو الزيدي وحقيقته وعقيدته، وعلى كتاب الكاشف للإشكال في الفرق بين التشيع والاعتزال ضمن مجموع السيد حميدان، علم صحة ما قلنا، وسيأتي في هذه الرسالة ما يدلّ على صحة ذلك إن شاء الله تعالى، وقد انقرضت هذه الفرقة وغيرها من الفرق المنتسبة إلى الزيدية وهي على غير مذهبها ولم يعد لها وجود إنْ كانت وُجِدت أصلاً، وللتوسّع في الكلام مجال آخر، وموضع غير هذا.....
وبالدلالة على صحة ما ذهبنا إليه يبطل ما قالوه:
إعلم أن الذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه الكتاب، والسنة، والإجماع، وسيأتي ذكر دلالة الكتاب والإجماع فيما بعد،ونذكر ها هنا دلالة السنة؛ لأن أكثر ما يروم المخالف ثبوت دعواه بالسنة من حديث أو إجماع، فنبدأ بالإحتجاج بجنس ما يأتي به؛ ولأن الكل أدلة شرعية يجب الرجوع إليها بالاتفاق.
[دليل السنة على إمامة أمير المؤمنين - عليه السلام-]
فالذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وقد قام للناس يوم غدير خم على مكان عالٍ في يوم قائظ -شديد الحر-، فرفع بيد علي حتى رأى الناس بياض آباطهما وقال للناس كافة: ((ألست أولى بكم من أنفسكم !؟، قالوا: بلى، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه؛ اللَّهُمَّ والِ من والاه، وعاد من عاداه)) ، والكلام في هذا الخبر يقع في موضعين؛ أحدهما: في صحته، والثاني: في وجه الإستدلال به.
أما الدليل على صحته: فظاهر؛ لأن الأمة نقلته نقلاً متواتراً على وجه واحد لا اختلاف فيه، وهم بين محتج به، ومتأول له، فصار العلم به ضرورياً لجميع أهل العلم فجرى مجرى الأخبار الواردة في أصول الشريعة المهمَّة كحج النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وطوافه بالبيت، ووقوفه بعرفة إلى ما يعلم ضرورة من أفعاله وأقواله -عليه وآله السلام- بطريق الأخبار، وكما لا يسوغ إنكار شيءٍ من ذلك لا يسوغ إنكار هذا..
وأما الكلام في وجه الإستدلال به على إمامة أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-: فذلك لأن الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال: ((ألست أولى بكم من أنفسكم !؟)) ، للمسلمين كافة، فقالوا: بلى، وقد أوجب الله عليهم ذلك بقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب:6] ، وأولى في اللغة بمعنى أحق وأملك، لا يختلف أهل اللغة في ذلك، ولا يعقل له معنى سواه إذا أطلقت اللفظة، فإن كانت ممن يصح ذلك منه فذلك أبلغ وأكشف، فلما تقرر ذلك قال -عليه وآله السلام-: ((فمن كنت مولاه فعلي مولاه)) ، فكان معنى هذا اللفظ عند كل عاقل متأمل أن من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به،ولا شك أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أولى بكل مؤمن من نفسه.
وقد حقق الله -سبحانه- ذلك بقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب:6] ، وقد جعل الله هذه المرتبة لعلي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، وذلك يفيد معنى الإمامة.
أما أنه جعل ذلك لعلي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- فظاهر اللفظ يشهد بذلك؛ لأنه قال: ((ألست أولى بكم من أنفسكم !؟)) قالوا: بلى، قال: ((فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه)) ولفظة مولى؛ وإن كانت في الأصل مشتركة بين معان كثيرة، فقد صارت بالقرينة المتقدمة، وهي قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ((ألست أولى بكم من أنفسكم؟)) وهي مع ذلك إحدى حقائقها ، فصار ذلك بمنزلة قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لو قال: (ألست أملك التصرف فيكم ؟ فإن قالوا: بلى، قال: فمن كنت أملك التصرف عليه فهذا مالك) ثم يمسك فإن لفظة مالك وإن كانت مشتركة بين ملك اليمين والإسم العَلَم وملك التصرف ، لا يفهم منها والحال هذه إلا ملك التصرف، وهذا معلوم لكل منصف؛ بل قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أولى مما مثلنا به وأجلى.
ألا ترى أن المثل كان يطابق الممثول في ذلك لو قال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بعد ذلك ((فمن كنت مولاه فعلي مولاه)) ، ثم يمسك، وإنما صرح -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بقوله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) فكان ذلك أبلغ.
وأما أن ذلك يفيد معنى الإمامة: فلأنَّا لا نريد بقولنا فلان إمام إلا أنه يملك التصرف في المسلمين في أمور مخصوصة، لها أحكام مخصوصة، وأن له الولاية عليهم، وأنه أولى بهم من أنفسهم، بمعنى أنه يجب عليهم إيثار مراده على مراد أنفسهم، وقد دل على هذا ما قدمناه من كلام النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فثبت أن الإمام بعده بلا فصل علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-.
ونريد بقولنا: بلا فصل؛ أنه -عَلَيْه السَّلام- الإمام بعده -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من دون أبي بكر ، وعمر، وعثمان ؛ لأن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أوجب له ذلك عاماً من دون تخصيص وقت دون وقت.
فإن قيل: فإن ذلك يقتضي إمامته في وقت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وحال حياته.
قلنا: أما الإستحقاق فهو ثابت في جميع الأوقات، وأما التصرف على الكافة فهو مخصوص بدلالة شرعية هي الإجماع من كافة المؤمنين أن التصرف في الأمة لا يجوز لأحد في حال حياة النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلا من تحت أمره، وما عدا وقت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- داخل تحت العموم فلا يجوز نفيه لغير ذلك.
[إبطال دعوى الإجماع على إمامة الثلاثة]
فإن قيل: لنا هنا - أيضاً - دلالة شرعية أخرجت زمان أبي بكر، وعمر، وعثمان؛ وهي الإجماع على إمامتهم بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فيكون قول النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يفيد إمامته عليكم بعدهم فلا يتعرى كلامه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من الفائدة، وذلك الذي نقوله.
قلنا: يكفي في الجواب عن هذا إبطال دعوى الإجماع في إمامة أبي بكر، ولأن أحداً لم يفرق في ذلك.
أما الذي يدل على بطلان دعوى الإجماع في ذلك فلأنا نقول قول من يدعي الإجماع في ذلك قول من كان عن أمر الناس بمعزل؛ لأن أحداً لم يختلف من أهل العلم القائلين بإمامة أبي بكر ولا غيرهم أن النزاع وقع بين الناس في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والأنصار كل يريد أن يكون الأمر له حتى قال قائل من الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير)، وطمع في إستقامة الأمر بالإمارة من دون الإمامة، إذ غلبهم المهاجرون بقول النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الأئمة من قريش)) ، وبأن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يوصي فيهم المهاجرين، فلو كان للأنصار في الأمر شركة لما توصَّاهم([6]) فيهم.
حتى رُوي عن أبي بكر أنه قال : (جزاكم الله يا معشر الأنصار عن نبيكم خيراً، فأنتم أهل الدار والهجرة، والإيواء والنصرة، ولكم السوابق والفضائل، إلا أنكم تعلمون أنّا شجرة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ومنهم من قال إنه قال عترته، والعرب لا تجتمع إلا على هذا الحي من قريش، وقد قال النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الأئمة من قريش)).
_____________
([6]) - هذا مقتبس من كلام أمير المؤمنين عليه السلام المروي في نهج البلاغة رقم (66) ص(141) في الاحتجاج على الأنصار فإنه لما بلغه أنباء السقيفة قال عليه السلام : ما قالت الأنصار؟ قالوا : قالت (منّا أمير ومنكم أمير) قال عليه السلام : فهلاّ احتججتم عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصَّى بأن يُحسَن إلى محسنهم ويُتجَاوز عن مسيئهم، قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم ؟ فقال عليه السلام : (لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم) .
ووقع بينهم أمر ليس بالهزل حتى خرج سعد بن عبادة([7]) وهو سيد الخزرج، بل جمع بعد موت سعد بن معاذ([8]) -رحمه الله- سيادة الحيين الأوس والخزرج مغاضباً لهم، زارياً عليهم حتى رُوي من قوله أنه قال: (لما رأيناهم عدلوا بالأمر عن أهله طمعنا فيه)، إلى أن قتل غيلة في حال غضبه.
_____________
([7]) ـ سعد بن عبادة بن دُليم الخزرجي سيد الخزرج صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها، وشهد بدراً، وقيل لم يشهدها بل تهيأ للخروج فنهش فأقام، وهو من نقباء الأنصار ليلة العقبة، وكان يسمى الكامل لكماله في أشياء كثيرة كالرمي وغيره، وكان كثير الصدقات والجود، وتخلف عن بيعة أبي بكر، وخرج من المدينة، ولم يرجع إليها حتى قتل سنة إحدى عشرة في خلافة أبي بكر، وفي قتله ما يقول حسان بن ثابت:
يقولون سعداً شقّت الجنّ بطنَه .... ألا ربما حققت أمرك بالعذرِ
وما ذنب سعد أنه بال قائماً .... ولكن سعداً لم يبايع أبا بكرِ
لأن سَلِمَتْ من فتنة المال أنفسٌ .... لما سلمت من فتنة النهي والأمرِ
فيا عجبا للجن تقتل مسلماً .... على غير ذنب ثم ترثيه بالشعرِ
وروي في قتله: أن والي الشام جعل له كميناً؛ فلما خرج إلى الصحراء قتله ذلك الكمين، بسبب تخلّفه عن البيعة ، وروي أنه قُتل بحوارين من أعمال دمشق سنة (15هـ) تقريباً في خلافة عمر بن الخطاب ، والصحيح الأول. انظر : شرح نهج البلاغة ج1 ص292، لوامع الأنوار ج3 ص85، الطبقات - خ -، حاشية شرح الأزهار ج1.
([8]) - سعد بن معاذ بن النعمان الأوسي ، سيد قومه شهد بدراً وأحداً واستشهد يوم الخندق وفيه قال النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- : ((اهتز العرش لموت سعد)) . انظر لوامع الأنوار (3/95) .......
ولما عقد الأمر لأبي بكر، وكان ميل أكثر الناس من المهاجرين والأنصار إليه، أخذ الناس بالدخول في الأمر طوعاً وكرهاً، حتى أن الزبير([9]) وهو من كبار المهاجرين؛ بل من أشد الناس عناء بين يدي رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بعد علي بن أبي طالب، خرج شاهراً لسيفه وقال : (لا نبايع إلا علي بن أبي طالب) فرض([10]) له عمر بن الخطاب في جماعة، فكسر عمر سيفه، وظهر من عمَّار بن ياسر([11])-رضي الله عنه- بعض الإنكار فضُرِبَ، وكذلك سلمان الفارسي([12]) تكلّم بمثل ذلك حتى استخف به وزجر.
_______________
([9]) ـ الزبير بن العوام الأسدي: أمّه صفية بنت عبد المطلب عمّة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أسلم بعد أبي بكر، ثم هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلّها، امتنع عن البيعة لأبي بكر ودخل بيت فاطمة عليها السلام مع علي عليه السلام وجماعة بني هاشم، وكان محباً شديد الولاء لعلي عليه السلام، لم يبايع إلا بعد ستة أشهر من البيعة.
قال ابن أبي الحديد: لم يكن إلا علوي الرأي شديد الولاء، إلى أن نشأ ابنه المشؤم عبدالله.
بايع علياً عليه السلام طائعاً، وكان أول من بايعه مع طلحة ثم خرج عليه ونكث بيعته وحاربه في معركة الجمل، ولما ذكره علي عليه السلام قول الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إنك ستقاتله وأنت له ظالم)) انصرف فلحقه ابن جرموز فقتله، وكان حرب الجمل سنة ست وثلاثين، وللزبير سبع وستون سنة، انتهى من الطبقات، ولوامع الأنوار 3/82.
([10]) ـ الرض: الدَّق والجرش، ورضرضه كسره. تمت قاموس.
([11]) ـ عمار بن ياسر بن عامر بن مالك أبو اليقظان العنسي المذحجي: كان من السابقين الأولين المعذبين في الله أشد العذاب، شهد مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- المشاهد كلها، وكان مخصوصاً منه بالبشارة والترحيب، وقال له: ((مرحباً بالطيب المطيب))، وقال: ((عمار جلدة ما بين عيني وأنفي))، وقال: ((تقتلك الفئة الباغية))، وقال: ((ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)).
وحديث الفئة الباغية أقرت به جميع الطوائف حتى معاوية اعترف بصحته، وكم له من الفضائل والشمائل من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- شهد من مشاهد الوصي عليه السلام الجمل وصفين واستشهد في صفين بعد أن قاتل قتالاً عظيماً سنة سبع وثلاثين رحمة الله عليه.
([12]) ـ سلمان الخير أبو عبدالله الفارسي: مولى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قصة إسلامه طويلة عظيمة تحكي عن جلال قدره وعظيم منزلته وشدة صبره وتجلده في ذات الله وفي سبيل البحث عن الحق، كان من فضلاء الصحابة وأحد النجباء، وشهد من الخندق فما بعدها جميع مشاهد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وقيل إنه شهد بدراً وأحداً وهو عبد، والصحيح الأول.
سكن العراق وعمر طويلاً يقال إنه عاش ثلاثمائة سنة، ومات في خلافة عثمان بالمدينة سنة خمس وثلاثين وكان من أولياء الوصي عليه السلام ومحبيه، والقائلين بأفضليته وإمامته وخلافته، وتخلف عن البيعة مع علي عليه السلام في بيت فاطمة رحمة الله عليه ورضوانه.
فأما علي -عَلَيْه السَّلام- وأهل بيته -عَلَيْهم السَّلام- فأمر إنكارهم لذلك أظهر؛ لأنه رُوي أن العباس([13]) قال لعمر: (بما احتججتم على الأنصار؟
قال: بأنا شجرة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
فقال له العباس: فهذه لنا دونكم؛ فإن جعلتم الأمر في أهله وإلا فالأنصار على دعواهم، وأنشد:
ما كنتُ أحسب أن الأمر منتقلٌ .... من هاشم ثم منها عن أبي الحسن
أليس أول من صلَّى بقبلتكم .... وأعرف الناس بالآثار والسنن
ما تنقمون عليه لا أبى لكم .... ها إن بيعتكم من أوَّل الفتن)
__________________
([13]) ـ العباس بن عبد المطلب بن هاشم: عم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان أسن من رسول الله بسنتين أو ثلاث، وفي رواية الإمام أبي طالب لما سئل أيما أكبر أنت أو رسول الله؟ فقال: (هو أكبر مني وأنا ولدت قبله) ولم يزل معظماً في الجاهلية والإسلام، وخرج إلى بدر مع المشركين فأسره المسلمون ففادى نفسه وابني أخيه أبي طالب عقيلاً ونوفلاً، وأسلم عقيب ذلك، وعذره الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في الإقامة بمكة من أجل سقايته ولقي النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في سفر الفتح، وخرج معه إلى حنين، فكان يعظمه ويعطيه العطاء الجزل، وكذلك الخلفاء بعده، ونصبه عمر للإستسقاء فسقوا، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين كرم الله وجهه:
بعمّي سقى الله البلاد وأهلها عشية يستسقي بشيبته عمر
توفي في المدينة في رجب سنة إثنتين أو أربع وثلاثين عن ثمان وثمانين في زمن عثمان، وقبره بالبقيع رحمة الله عليه ورضوانه.
وقال لعلي لعلمه بأن النص عليه يفيد معنى إمامته: (أبسط يدك لأبايعك، فيقول الناس عمّ رسول الله بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان)، وامتنع -عَلَيْه السَّلام- من ذلك لما رأى من تشدد القوم، وشحة نفوسهم بهذا الأمر مع كثرة أعوانهم في تلك الحال، وعلم بقلة ثبات الأعراب وأهل الأطراف في الدين، وقرب عهدهم بالجاهلية مع بقاء كثير ممن أظهر الإسلام على النفاق خيفة من السيف، وعند الفرقة يرتفع الخوف، هذا مع أن مسيلمة([14]) -لعنه الله- في جند قوي من بني حنيفة قد غلب على اليمامة وما والاها، وادعى النبوءة، وانضافت إليه سجاح([15]) -لعنها الله تعالى- في أتباعها من تميم، إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
____________________
([14]) ـ مسيلمة بن ثمامة بن كبير الحنفي الوائلي أبو ثمامة، ولد ونشأ باليمامة، وتلقب في الجاهلية بالرحمن، وعرف برحمان اليمامة، ولما ظهر الإسلام في غربي الجزيرة وافتتح النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- مكة ودانت له العرب، جاءه وفد من بني حنيفة قيل: كان مسيلمة منهم، فأسلم الوفد؛ فلما رجعوا كتب مسيلمة إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: (من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون).
فأجابه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين )) وذلك في أواخر سنة 10هـ، وتوفي النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قبل القضاء على فتنته، فلما كان خلافة أبي بكر أرسل إليه جيشاً قوياً بقيادة خالد بن الوليد، فهاجم ديار بني حنيفة، ودارت معركة حاسمة تسمى معركة (اليمامة) قتل فيها مسيلمة الكذاب سنة 12هـ، في حروب الردة. الأعلام (7/226).
([15]) ـ سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية، من بني يربوع، ظهرت في أيام الردة، وادعت النبوة بعد وفاة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وكانت في بني تغلب في الجزيرة، وكان لها علم بالكتاب أخذته عن نصارى تغلب فتبعها جمع من عشيرتها؛ فأقبلت بهم من الجزيرة تريد غزو المسلمين، فنزلت باليمامة، فبلغ خبرها مسيلمة فخافها؛ فأقبل إليها في جماعة من قومه وتزوج بها، ثم أدركت صعوبة الإقدام على قتال المسلمين فرجعت إلى الجزيرة، فلما بلغها مقتل مسيلمة أسلمت وهاجرت إلى البصرة وتوفيت بها. تاريخ الطبري 3/ 121، الأعلام (3/78)...
وكان ممن أنكر إمامة أبي بكر خالد بن سعيد([16]) وعبدالله بن بياضه حي من الأنصار من بني بياضة، وقالا: (لا بيعة إلا لعلي ابن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-)، حتى رُوي أن الأنصاري([17]) قال شعراً، منه:
ويلكم إنه الدليل على اللـ .... ـه وداعيه للهدى وأمينهْ
ووصي النبي قد علم النا .... س أخوه وصنوه وخدينهْ
ويل أم الذي يلاقيه في الحر .... ب إذا ضمت الحسام يمينهْ
ثم نادى أنا أبو الحسن القر .... م فلا بد أن يطيح قرينهْ
_______________
([16]) ـ خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي أبو سعيد: أمه أم خالد بنت حباب الثقفية من السابقين الأولين في الإسلام، قيل: كان رابعاً، وقيل: خامساً، وكان سبب إسلامه رؤيا رآها أنه على شعب نار فأراد أبوه أن يرميه فإذا النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قد أخذ بحجزته فأصبح فذهب إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فعاقبه أبوه ومنعه القوت، ومنع أخوته من كلامه فتغيب حتى خرج بعد ذلك إلى الحبشة فكان ممن هاجر إلى الحبشة هو وامرأته مع جعفر بن أبي طالب، وقدم هو وأخوه عمرو من الحبشة مع جعفر، وشهد عمرة القضاء وما بعدها، واستعمله النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على صدقات مذحج، وكان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر مع أمير المؤمنين علي عليه السلام، قتل يوم أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاثة عشر قبل وفاة أبي بكر بأربع وعشرين ليلة، وقيل سنة أربع عشر في صدر خلافة عمر.
([17]) ـ قائل هذه الأبيات هو خزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي أبو عمارة ذو الشهادتين شهد بدراً وما بعدها، وكانت راية بني خطمة في يده يوم الفتح، وكان سيداً فيهم وشهد مع أمير المؤمنين عليه السلام الجمل معركة الناكثين واستشهد بين يديه بصفين، وانتظر حتى قتل عمار بن ياسر، فلما قتل، قال: سمعت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول: ((تقتل عماراً الفئة الباغية)) ثم سل سيفه وقاتل حتى قتل رحمة الله عليه سنة سبع وثلاثين رضي الله عنه، وهو القائل لما بويع أمير المؤمنين عليه السلام:
إذا نحن بايعنا علياً فحسبنا .... أبو الحسن مما نخاف من الفتنْ
وجدناه أولى الناس بالناس إنه .... أطب قريش بالفرائض والسننْ
وإن قريشاً ما تشق غباره .... إذا ما جرى يوماً على الضمّر البدُنْ
وفيه الذي فيهم من الخير كله
.... وما فيهم كل الذي فيه من حسنْ
وهو القائل يوم معركة الجمل:
ليس بين الأنصار في جمحة الحر .... ب وبين العداة إلا الطعان
إلى قوله:
فادعها تستجب فليس في الخز .... رج والأوس ياعلي جبان
يا وصي النبي قد أجلت الحر .... ب الأعادي وسارت الأظعان
واستقامت لك الأمور سوى الشا .... م وفي الشام يظهر الإذعان
انتهى، الطبقات - لوامع الأنوار ج1/ 219، شرح النهج ج1/ ص115...
[بيان المانع لعلي (ع) من حضور السقيفة وسبب دخوله في الأمر بعد ذلك]
فإن قيل: فلم لم يحضرهم علي في السقيفة، ويحتج عليهم في وقت الإحتجاج كما احتجوا على الأنصار؟
قلنا: إشتغل بأهم الأمور في تلك الحال وهو تجهيز رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الذي لم يكن ينبغي لأحد أن يشتغل في تلك الحال بغيره، وظن أن القوم لا يقطعون أمراً دونه سيما بعد سماعهم من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في أمره -عَلَيْه السَّلام- ما في بعضه كفاية لمن نظر وتدبر.
فإن قيل: فلم دخل في الأمر بعد ذلك؟.
قلنا: قد أنكر -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إنكاراً يلزم بأقله الحجة؛ بل انقاد بعد ذلك حراسةً للإسلام، ونظراً للدين، خيفة من وهن الإسلام وضعفه؛ لقرب عهد الناس بالجاهلية، وهذا لعمر الله أحد فضائله عليه السلام.
ألا ترى أن عمر لما أتى إليه فقال له: (قم بايع أبا بكر، قال: فإن لم أفعل؟، قال: ضربنا عنقك، فقال -عَلَيْه السَّلام-: وكيف لو كان عمي حمزة وأخي جعفر حيَّين)، ثم بايع بعد ذلك، وهذا غاية الإنكار عند كل عاقل، فكيف يستقيم لمنصفٍ دعوى الإجماع فضلاً عن تصحيحه !!؟، وهل هذه إلا كدعوى من يدعي صحة الإمامة لمعاوية لدخول الناس فيها بعد الإستظهار عليهم وغفلتهم عن إظهار الإنكار.....
فإذا لم يصح الإجماع في الأول، لما بينا من الأمور التي بعضها كافٍ في وقوع الخلاف، ولا في الثاني؛ لأن للإمساك وجهاً يصرف إليه وهو الخوف مما وقع أولاً؛ لأن أمر أبي بكر ما ازداد إلا قوة حتى مات، فمتى وقع الإجماع بعد بطلانه أولاً وآخراً، وهذا واضح، فبطل دعوى الإمامة لأبي بكر بذلك.
[بيان بطلان أخبار البكرية]
فإن قيل: إنا ندعي الإمامة لأخبار روتها البكرية([18]) عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
قلنا: الإمامة من أصول الدين الكبار، والتعبد بها عام للكافة، فالأدلة عليها يجب أن تكون معلومة ليحسن التكليف بها، كما قلنا في الأدلة على إمامة أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-، ونحن أهل البحث فلم نعلم ما روت البكرية، ولايمكنهم دعوى ظهوره للكافة، فبطل ما قالوا.
______________
([18]) ـ البكرية: فرقة من فرق المجبرة أتباع بكر بن عبد الواحد، واختصوا بالقول بأن الطفل لايألم، وأن إمامة أبي بكر منصوصة نصاً جلياً، ويختلقون على ذلك أحاديث موضوعة مكذوبة، ولا توبة لقاتل عمد، الملل والنحل لابن المرتضى ص117.
[بيان أن التقديم للصلاة ليس من الإمامة بسبيل]
فإن قيل: إن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قدم أبا بكر للصلاة وذلك يفيد الإمامة.
قلنا: لم يصح ذلك،وإن صح فليس التقدم للصلاة من الإمامة بسبيل؛ لأنه قد قدم ابن أم مكتوم للصلاة وكان -رحمه الله- أعمى، كذلك عمر استخلف صهيباً([19]) على الصلاة وهو مولى، ولو لزم ذلك للزمت الإمامة أسامة بن زيد([20]) بطريقة الأولى؛ لأن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قُبِضَ وقد أمره على أبي بكر وعمر في جلة المهاجرين والأنصار بلا خلاف في ذلك ، والأمارة تتضمّن معنى الإمامة، وليس كذلك الصلاة ؛ لأن المأموم يجوز أن يصلي بالإمام بلا خلاف بين الأئمة والعلماء في ذلك، وعند أكثر المخالفين تجوز صلاة البر خلف الفاجر، فأي دلالة في الصلاة تفيد ما ذكروه !!؟
______________
([19]) ـ صهيب بن سنان الرومي، وقيل كان اسمه عبد الملك: كان أحد مؤذنة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وهو أبو يحيى النمري صحابي مشهور شهد بدراً وغيرها.
قال أبو عمر في الإستيعاب بهامش الإصابة ج2 ص181: كان صهيب مع فضله وورعه حسن الخلق مداعباً...إلى قوله: وأوصى عمر إليه بالصلاة بجماعة المسلمين حتى يتفق أهل الشورى استخلفه على ذلك ثلاثاً، وهذا مما أجمع عليه أهل السير والعلم بالخبر...إلى قوله: وفضائل صهيب وسلمان وبلال وعمار وخباب والمقداد وأبي ذر لايحيط بها كتاب، ولقد عاتب الله نبيه فيهم في آيات من الكتاب.
وقال في الإصابة ج2 ص195: ولما مات عمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وأن يصلي بالناس إلى أن يجتمع المسلمون على إمام. رواه البخاري في تاريخه. انتهى.
ومات صهيب بالمدينة سنة ثمان، وقيل تسع وثلاثين ودفن بالبقيع.
([20]) ـ أسامة بن زيد بن حارثة القضاعي الكلبي نسباً والهاشمي ولاءً، أبو زيد المدني، كان أبوه مولى لخديجة بنت خويلد فوهبته للنبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - وهو ابن ثمان، وكان يُدعى زيد بن محمد، فنزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5]، وكان أسامه محبباً إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أمَّره رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على الجيش الذي أنفذه قبل وفاته وجعله أميراً عليه، وكان في جملة الجيش أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وغيرهم من جملة الصحابة من المهاجرين والأنصار غير الإمام علي وأهل البيت فلم يكونوا مع الجيش، وتخلف المذكورون عن جيش أسامة، توفي سنة أربع وخمسين وهو ابن خمس وسبعين بالمدينة.....
[بيان بطلان السبب الذي يدعيه المخالفون في حديث الغدير]
فإن قيل: فقد رُوي في سبب الحديث الذي استدللتم به على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- تنازع بينه وبين زيد بن حارثة([21]) -رضي الله عنه- قال له زيد: (لست مولاي)، فقال الخبر الذي ذكرتم.
قلنا: هذا باطل بوجوه:
منها: ما ذكره آباؤنا -عَلَيْهم السَّلام- وعلماء شيعتنا -رضي الله عنهم-.
ومنها: ما نذكره الآن؛ أولها: أن الرواية في تاريخ الخبر متأخرة عن شهادة زيد -رضي الله عنه- وذلك أن الخبر في منصرف النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من حجة الوداع وزيد -رضي الله عنه- قتل شهيداً يوم موته وبينهما زمان([22]).
ومنها: أن أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- أورده يوم الشورى([23]) مورد الإحتجاج ولم ينكره أحد منهم، ولا قيل له في شأن زيد؛ لأنهم كانوا أعلم بذلك ممن رواه عنهم لو كان له صحة.
________________
([21]) ـ زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي اليماني أبو أسامة بن زيد، وكان زيد حِب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- منَّ عليه فأعتقه وامرأته أم أيمن مولاة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وصلى بعد علي عليه السلام وشهد بدراً وقتل شهيداً بمؤتة سنة ثمان وهو ابن خمس وخسمين.
([22]) ـ استشهد زيد بن حارثة يوم مؤتة سنة ثمان هجرية، والخبر كان في الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشر للهجرة، تمت.
([23])- خبر الشورى هو: أن عمر لما حضرته الوفاة جعل الأمر شورى بين ستة من الصحابة؛ فلما اجتمع الصحابة ناشدهم أمير المؤمنين عليه السلام بالله، وذكر في مناشدته لهم كثيراً من الأخبار النبوية، وكثيراً من فضائله التي أقرها ولم ينكرها أحد من الصحابة في ذلك الوقت، وقد اشتمل على نحو سبعين منقبة لأمير المؤمنين علي عليه السلام.
وقد روى خبر الشورى الجم الغفير من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وغيرهم من علماء الإسلام؛ فممن رواه: الإمام المؤيد بالله في الأمالي الصغرى، بسنده عن عامر بن واثلة ص114، وأخرجه علي بن الحسين الزيدي في المحيط بالإمامة - تحت الطبع- بسنده عن أبي رافع، والإمام الحسن بن بدر الدين في أنوار اليقين - خ -، والشهيد حميد في الحدائق والمحاسن -تحت الطبع-، ورواه أيضاً أحمد بن موسى الطبري في المنير - طُبع عن مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية-.
وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة أمير المؤمنين علي عليه السلام ج3/13 بتحقيق محمد باقر المحمودي، وأحمد في مسنده ج4/ص370، ج1/ص118، مع اختلاف في عدد الفقرات وفي بعض الألفاظ، وذكره ابن عبد البر في الإستيعاب المطبوع بهامش الإصابة عن أبي الطفيل عامر بن واثلة في ترجمة علي بن أبي طالب عليه السلام، وذكر منه حديث المؤاخاة ج3/ص35، والسيوطي في اللآليء باب فضائل علي عليه السلام 1/178، والخوارزمي في فصوله في مناقب أمير المؤمنين - خ - في فصل 19، وابن حجر في صواعقه المحرقة ص15، وعزاه إلى الدارقطني، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب ص224، وقال: هكذا رواه الحاكم.
وأخرجه الصدوق في أماليه 12/212، ومحمد بن بابويه القمي في الخصال ص533، والطوسي في أماليه 1/342، والذهبي في ميزان الإعتدال في ترجمة الحارث بن محمد1/441، وابن حجر في لسان الميزان 2/156- 157.
ومنها: أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال ذلك للمسلمين كافة، فلو كان في شأن زيد لخص بالخطاب في مثل ذلك زيداً، فلما خاطب الكل علمنا أنه يريد بذلك الولاية على الكل.
يؤيّد ذلك: أنه رُوي عن عمر أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لما انحدر هو وعلي -عَلَيْه السَّلام- من مقامهما ضرب عمر بين كتفي علي -عَلَيْه السَّلام- وقال: (بخٍ بخٍ يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة([24]))، ولولا علمهم أنه في غير شأن زيد لما قال ذلك.
________________
([24]) ـ خبر التهنئة من عمر لعلي عليه السلام أخرجه الكنجي عن سعد بن أبي وقاص، وأخرجه محمد
بن سليمان الكوفي، وأخرجه الإمام المرشد بالله وابن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل في المسند، ومحمد بن سليمان من طريقين، ويحيى بن الحسن البطريق عن البراء.
وأخرجه الإمام المنصور بالله في الشافي عن أنس في خبر طويل في المؤاخاة، وأخرجه الإمام المرشد بالله والحاكم من طريقين عن أبي هريرة، ورواه فرات بن إبراهيم الكوفي بسنده إلى أبي ذر، وذكره الحاكم الحسكاني وأخرجه الحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين، انتهى من لوامع الأنوار الجزء الثاني ص474.
ومنها: أن زيداً -رضي الله عنه- صادق فيما قال، لو قال ذلك؛ لأن عليَّا -عَلَيْه السَّلام- لا يصح كونه معتقاً لمن أعتقه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، لقول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الولاء لمن أعتق([25])))، وفي رواية أخرى ((لمن أعطى الورق)) ، وظاهر روايتهم تنبيء أن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قاله في ذلك المقام للإنكار على زيد وذلك لا يجوز عليه -صلوات الله عليه- لأنه لا ينكر حكمه، وكيف يجوز إضافة إنكاره إليه وهو لم يأت به من تلقاء نفسه وإنما هو واقع من عند ربِّه؛ لقوله سبحانه فيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)}[النجم] .
ومنها: أنه لو سُلِّمَ على بعد ذلك أن سببه زيد فأحكام الحوادث لا يجوز قصرها على أسبابها؛ لأن القول بذلك يؤدي إلى تعطيل الشريعة وذلك لا يجوز، فيجب أن تكون الولاية لأمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- عامة في جميع المؤمنين؛ لأن الولاية إذا صحت له -عَلَيْه السَّلام- على زيد صحّت على الكافة؛ لأن الأمر في الجميع واحد، وقد بينّا استحالة رجوع ذلك إلى العتق، ويكون زيد -رضي الله عنه - أصل هذه البركة، وهو بها حقيق حيث أوجب الله - سبحانه وتعالى - على لسان نبيئه ببركة منازعته إمامه وأوجب ولاءه على الكافة، فقد رأيت قوة هذا الخبر على أن لأهل([26]) مقالتنا -رحم الله ماضيهم وتولى توفيق باقيهم- في هذا الخبر وجوهاً ومسالك إستغنينا عن ذكرها لكونها موجودة في كتبهم وميلاً إلى التخفيف في هذا المختصر، فقد رأيت قوة هذا الخبر وصحة الإستدلال وتهافت الأسئلة الواردة عليه بما لا سبيل إلى دفعه إلا بالمكابرة الخارجة عن مسلك العلم، وببطلان إمامة أبي بكر تبطل إمامة من بعده بالإتفاق.
____________________
([25]) ـ رواه الإمام المؤيد بالله -عَلَيْه السَّلام- في شرح التجريد (خ) والإمام المتوكل على الله -عَلَيْه السَّلام- في أصول الأحكام (خ) ، وأخرجه البخاري في كتاب الصلاة (1/655) رقم (456) ومسلم في كتاب العتق (2/1141) رقم (5/ 1504) والطبراني في الأوسط (5/195) رقم (7046) عن عائشة.
وأخرجه أحمد في المسند (1/366) رقم (2546) والطبراني في الأوسط (1/184) رقم (607) وأيضاً في (6/225) رقم (8590) الهيثمي في مجمع الزوائد (4/234).
([26]) - في نخ (ن) : على أن لأهل من أهل مقالتنا ...إلخ .
[تفصيل خبر الموالاة والغدير]
[34]
قالَ فمنْ كُنتُ لهُ وليَّا .... فليتولَ مُعلناً عليَّا
إنْ كان يَرْضَانِيْ([27]) له نَبِيَّا .... شافِعاً وصَاحِباً حَفِيَّا
فَصَارَ أهلُ الزَيغِ في بَلْبَالِ
ذكر تفصيل ألفاظ النص على أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-،وهو قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((ألست أولى بكم من أنفسكم؟، قالوا: بلى؛ قال: من كنت مولاه فعلي مولاه)) .
وقوله: (إن كان يرضاني له نبيئاً): فهو رواية لحديث النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من طريق المعنى وذلك جائز؛ لأن شرائط جواز رواية الحديث بالمعنى قد اجتمعت لنا في هذا الخبر؛ والحمد لله، وموضع تفصيل ذلك أصول الفقه.
______________
([27])ـ يرضاني: يرضى بي (نخ).
وقوله: (شافعاً وصاحباً حفيَّا): لما روينا عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((ذخرت شفاعتي لثلاثة من أمتي؛ رجل أحب أهل بيتي بقلبه ولسانه، ورجل قضى حوائجهم لما احتاجوا إليه، ورجل ضارب بين أيديهم بسيفه([28]))) وعلي أكبر أهل بيته لخبر أهل الكساء الذي اتفق الكل على صحته، فهذا الخبر - أيضاً - كماترى يفيد معنى الإمامة؛ لأن المضاربة بين أيديهم على الإطلاق لا تكون إلا بعد ثبوت الإمامة، وإذا ثبت ذلك لبني علي -عَلَيْه السَّلام- فثبوته لعلي أولى.
وإنما ذكرنا معاني هذه الألفاظ ليعلم العاقل المتأمل أنا لم نوردها من أوجه معراة عن المعاني الشريفة، وقد تقدم الكلام في معنى الخبر بما فيه كفاية.
و (الشافع): هو سائل جلب النفع أو دفع الضر ممن يملكهما لغيره على وجه الخضوع، هذا حد الشفاعة.
و (الصاحب): معروف، و (الحفي): هو المحب الشديد المحبة، لذلك يُكْثِرُ السؤالَ عمن أحبه حتى يقال: أحفى في السؤال، وأصله ما ذكرنا.
و (أهل الزيغ): هم أهل الميل لا فرق بين قولهم، زاغ ومال ولهما نظائر، والمراد بأهل الزيغ ها هنا: المنافقون؛ لأنهم كانوا أشد الناس بغضة لأمير المؤمنين.
______________
([28]) ـ رواه الإمام أبوطالب في الأمالي 443، والإمام علي بن موسى الرضا في الصحيفة 463 بلفظ: أربعة أنا شفيع لهم، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين بلفظ : ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة ..إلخ (139).
قال بعض أصحاب النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: "ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلا ببغض علي ابن أبي طالب([29])"، يريد بذلك ما روينا عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((يا علي بحبك يعرف المؤمنون وببغضك يعرف المنافقون([30]))) .
و (البَلْبال): هو تلجلج اللسان من شدة الحزن، وقد كان فيهم ذلك في تلك الحال وما هو أعظم منه من السَّب والمكيدة.
_____________________
([29])- خبر : ما كنا نعرف المنافقين إلا ببعضهم علي بن أبي طالب:
أخرجه الإمام الناصر الأطروش في البساط عن جابر بن عبدالله الأنصاري وأبي سعيد الخدري.
وأخرجه الإمام أبو طالب في الأمالي عن أبي سعيد الخدري 49.
ورواه الطبراني في الأوسط عن جابر (1/578) رقم (2125) والبزار (3/199) والهيثمي في مجمع الزوائد (9/135ـ 136).
ورواه الترمذي عن أبي سعيد (2/299)، وأبو نعيم في الحلية (6/294)، وأخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي ذر (3/129) بلفظ: ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله، والتخلف عن الصلوات، والبغض لعلي بن أبي طالب، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم.
ورواه المتقي في كنز العمال (6/39)، وقال: أخرجه الخطيب في المتفق، ورواه المحب الطبري في الرياض النضرة (2/214)، وقال: أخرجه ابن شاذان، ورواه الخطيب البغدادي عن ابن عباس في تاريخ بغداد (3/153)، ورواه ابن عبد البر في الإستيعاب (2/262) عن جابر، ورواه الهيثمي في مجمعه (9/132)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط والبزار بنحوه. راجع فضائل الخمسة (2/232).
([30])- هذا الحديث مشهور بلغ حد التواتر في المعنى، وله ألفاظ وسياقات في بعضها زيادة، وفي بعضها نقصان، وقد رواه الموالف والمخالف، وله ألفاظ.
فمن ألفاظه: قول علي عليه السلام: (والذي فلق الحبة برأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إليَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق) أخرجه في نهج البلاغة.
رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، ورواه الترمذي في صحيحه (2/301)، والنسائي في خصائصه (27)، من ثلاث طرق عن زر بن حبيش، ورواه أيضاً في صحيحه (2/271) من طريقين، ورواه ابن ماجه في صحيحه (12)، ورواه أحمد بن حنبل (1/84-95ـ 128) في المسند، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه (2/255)، و(8/417) و(14/426)، ورواه أبو نعيم في الحلية (4/185) بثلاث طرق عن عدي بن ثابت عن زر بن حبيش، ورواه في كنز العمال (6/394)، وقال: أخرجه الحميدي، وابن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، والعدني، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، وأبو نعيم، وابن أبي عاصم، ورواه المحب الطبري في الرياض النضرة (2/214)، وقال: أخرجه أبو حاتم. انظر فضائل الخمسة (2/230).
ومن ألفاظه أيضاً: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق):
أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/133)، قال: رواه الطبراني في الأوسط، وأخرجه المحب الطبري في الرياض النضرة (2/213) بزيادة في أوله وآخره، قال: أخرجه أحمد في المناقب.
ولإستكمال البحث في ذلك، انظر: لوامع الأنوار لمولانا الإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى الجزء الثاني ط2 ص 291، 720 وما بعدها، وكذلك فضائل الخمسة (2/530).
(دليل آخر) [دليل الكتاب في إثبات إمامة أمير المؤمنين (ع)]
[الإستدلال بآية الولاية]
[35]
وقالَ ربِّي وهوَ نِعمَ القائلُ .... وهَدْيُهُ إلى العبادِ واصِلُ
مَولاكمُ فِيهِ لكُم دلائلُ .... مَنْ أَخَذَ الخَاتَمَ عنهُ السائلُ
وهو لِمَفْرُوضِ الصَلاةِ صَالِي
أراد قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)}[المائدة] .
[الكلام في آية الولاية]
والكلام في هذه الآية يقع في موضعين؛ أحدهما: أن أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- المراد بها دون غيره، والثاني: أن ذلك يفيد معنى الإمامة.
أما أنه -عَلَيْه السَّلام- المراد بها دون غيره؛ فلوجهين:
أحدهما: إجماع أهل([31]) النقل على أنها نزلت في أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- وأنه المتصدق بخاتمه في حال ركوعه دون غيره.
_________________
([31])- قال الإمام الحافظ الحجة الولي مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في التحف شرح الزلف في سياق كلامه على الآية:
أجمع آل الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم على نزولها في الوصي عليه السلام، قال الإمام الأعظم الهادي إلى الحق الأقوم عليه السلام في الأحكام[1/37] في سياق الآية: فكان ذلك أمير المؤمنين دون جميع المسلمين. وقال الإمام أبو طالب عليه السلام في زيادات شرح الأصول: ومنها النقل المتواتر القاطع للعذر أن الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام.
وقال الإمام أحمد بن سليمان عليهما السلام: ولم يختلف الصحابة والتابعون أنه المراد بهذه الآية. وحكى الإمام المنصور بالله عليه السلام إجماع أهل النقل على أن المراد بها الوصي.
وحكى إجماع أهل البيت على ذلك الإمام الحسن بن بدر الدين، والأمير الحسين، والأمير صلاح بن الإمام إبراهيم بن تاج الدين، والإمام القاسم بن محمد عليهم السلام وغيرهم كثير.
وروى ذلك الإمام المرشد بالله عليه السلام عن ابن عباس من أربع طرق، وأتى الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بطرق كثيرة في ذلك، منها: عن أمير المؤمنين عليه السلام، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وأبي ذر، وجابر بن عبدالله، والمقداد بن الأسود، وأنس بن مالك...إلخ كلامه أيده الله تعالى.
وروى نزولها في أمير المؤمنين عليه السلام:
الفخر الرازي في مفاتيح الغيب عن أبي ذر، وساق القصة بطولها، ورواه الشبلنجي في نور الأبصار ص170، وقال: نقله أبو إسحاق أحمد الثعلبي في تفسيره.
ورواه الزمخشري في كشافه (1/682) من تفسير سورة المائدة، ورواه أيضاً السيوطي في الدر المنثور في تفسير سورة المائدة، وقال فيه: وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه، عن ابن عباس أنها نزلت في علي عليه السلام.
قال: وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، وساق القصة مع شيء من الاختصار، قال: وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وساق القصة.
وأخرجه الواحدي في أسباب النزول (397) عن ابن عباس مرفوعاً، وأخرجه عبد الرزاق كما في تفسير ابن كثير (ج2/ 92ـ 93) عن ابن عباس، وأخرجه الطبري عن مجاهد مرسلاً (12219)، وكرره (12216) عن أبي جعفر، وأخرجه ابن مردويه عن علي عليه السلام كما في تفسير ابن كثير (2/ 93)، وأخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (10978).
والثاني: أنه لا يجوز أن يكون المراد بها غير أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- لوجوه أحدها: أنه سبحانه وصف الولي في هذه الآية بصفة لم تعلم في غيره -عَلَيْه السَّلام- وهي الصَّدقة بخاتمه في حال الركوع.
[الجواب على من قال: ما أنكرتم أن يكون المراد بآية الولاية أن الركوع من شأنهم وإن لم يتصدقوا في حاله؟]
فإن قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون المراد بذلك أن الركوع من شأنهم وإن لم يتصدقوا في حاله؟
قلنا: لا يجوز ذلك؛ ألا ترى أن مخبراً لو أخبرنا أن زيداً يلقط الرمح من الأرض وهو راكب، لعلمنا أنه يلقطه في حال ركوبه، ولو أخبرنا بعد ذلك هو أو غيره أن زيداً يلقطه بعد هبوطه؛ وأن قوله وهو راكب أن الركوب من شأنه أو من عادته لكان في خبره الأول عندنا من الكاذبين، وفي تأويله من الجاهلين.
وكذلك لو قيل فلان يؤثر على نفسه وهو فقير؛ أفاد ذلك الإيثار في حال فقره دون غيره، وأمثال ذلك كثير.
ومنها: أن المعطوف في اللغة يقتضي كونه غير المعطوف عليه بالإتفاق من أهل اللغة العربية، أو بعضه للتفخيم عندنا، على خلاف في هذا الآخر مع الإطباق على الأول على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الفقه، فإذا لم يجز عطف قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا}[المائدة:55] على جميع من أريد بالضم في قوله: {وَلِيُّكُمْ}[المائدة:55] وحمل على الغير المتفق عليه أو البعض المختلف، فالغير أو البعض بإجماع الكافة لا يكون إلا أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- لأنه لا ثالث للقولين؛ لأن من صرفه عن أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- قال: المراد به كافة المؤمنين.
فإذا ثبت بما بينا أنه لا يجوز عطف لفظ الجمع عليهم لاستحالة عطف الشيء على نفسه وكان المراد بعضهم أو غيرهم كان المراد بذلك أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- بلا خلاف.
يزيد ذلك وضوحاً: أن الآية أفادت مخاطِباً هو الله -سبحانه- ومخاطَباً هم المؤمنون، ووليًّا هو الله ورسوله وأمير المؤمنين.
ألا ترى أن قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}[المائدة:55] ، يعلم بظاهره أن المخاطبين بذلك هم المؤمنون، وقد صرح بذكر رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- مع ذكره تعالى...وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)}[المائدة] ، فالواو للعطف والجمع؛ إذ هي موضوعة لهما ولا تنافي بينهما فالمراد الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- باللفظ الصريح وأمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- بالذي بينَّا أولاً، وسنزيد إنشاء الله.
ثانياً: أن المراد به أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- في ولاية أمير المؤمنين، فلو حمل على قول المخالف إن المراد بالمؤمنين آخراً ما أريد بالضمير في قوله: {وَلِيُّكُمْ}[المائدة:55]، لكان في التقدير كأنه تعالى قال إنما وليكم الله ورسوله وأنتم، ومثل ذلك لا يقع في كلامنا فضلاً عن كلامه تعالى؛ لأنه في أعلى طبقات الفصاحة، وغاية مراتب البلاغة.
[الجواب على من قال: إن ألفاظ آية الولاية جمع بالاتفاق، فحملها على أكثر من واحد حَمْل لها على الحقيقة، ولا يجوز صرف الخطاب إلى المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة إلا بمانع]
فإن قيل: إن ألفاظ هذه الآية جمع بالإتفاق فحملها على أكثر من واحد حمل لها على الحقيقة، ومن حملها على أكثر من واحد قال المراد بذلك جماعة المؤمنين، ولا يجوز صرف الخطاب إلى المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة إلا لمانع، ولا مانع.
قلنا: إن المانع قائم في ذلك على أبلغ الوجوه، فهذا السؤال ورد عن غير تأمل لما قدمناه من إجماع أهل النقل أن المراد بها أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-، وأن الصَّدقة بالخاتم في حال الركوع لم تعلم من غيره، وأن حمل الآية على المؤمنين المقدم ذكرهم، يُذْهب جلالتها، ويخرجها عن بابها وذلك لا يجوز، وأن العطف يفيد غير المعطوف أو يفيد بعضه على الخلاف إذا اختص بتفخيم أو تعظيم.
يوضح ذلك: أنك إذا قلت: لقيت زيداً وابن عمرو، أفاد بظاهره أن ابن عمرو غير زيد، فإن ظهر أنك تريد زيداً نفسه كان ذلك خُلْفاً من القول.
فإن قيل: أفليس قد قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ؟.
قلنا: الواو ها هنا للإستئناف ومعناها التأكيد، فكأنه قال تعالى هو رسول الله، وهو خاتم النبيئين، كما قال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}[الأنعام:96] ، كان تقديره وهو جاعل الليل سكناً بخلاف الآية المتقدمة؛ لأن فيها مخاطب ومتول وآمر هو الله -تعالى- ولا مانع من حملها على واحد هو أمير المؤمنين -عليه السلام- لكونها ألفاظ جمع؛ لأنه عز وجل قد حكى خطابه بلفظ الجمع في قوله : {رَبِّ ارْجِعُونِ(99)}[المؤمنون] ، وبقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)} [الحجر] ، فهذه ألفاظ جمع والمراد بها الحكيم وحده، فلا يمتنع مثل ذلك لأمير المؤمنين لأن لفظ الجمع([32]) يذكر ويراد به الواحد للتعظيم كما يقول السلطان: فعلنا وأمرنا ، وهو لا يريد إلا نفسه للتفخيم، فلا يمتنع ذكره له سبحانه في هذه الآية بلفظ الجمع للتفخيم لأنه تعالى أراد من الكافة انقيادهم لأمره تعالى وأمر نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ومن أريد لمثل هذا الشأن فتعظيمه غير بديع، وقد أكده تعالى بالقرينة التي ميزته بذلك عن غيره بإتيانه خاتمه في حال الركوع، ولم ينقل ذلك عن غيره كما قدمنا الكلام فيه أولاً.
________________
([32]) - نخ: الجميع.
[الجواب على من قال كيف تصدق بخاتمه في حال الركوع والفعل الواقع من غير الصلاة فيها يفسدها؟]
فإن قيل: كيف تصدق بخاتمه في حال الركوع والفعل الواقع من غير الصلاة فيها يفسدها وخصوصاً عندكم؟.
قلنا عن هذا أجوبة قاطعة:
منها: أن النهي عن الأفعال في الصلاة ورد بعد التعبد بالصلاة بمدة، فلا يمتنع أن يكون هذا الفعل وقع منه -عَلَيْه السَّلام- قبل النهي؛ لأنه كان بلا اختلاف أعلم الناس بما نزل على الرسول، ونحن نعلم ذلك بالتواتر، فلو كان قد نزل النهي لما فعل، ولأن الله -تعالى- مدحه بذلك؛ وهو لا يمدح لحكمته بفعله لأمر قد نهاه عنه.
ومنها: أن مناولته للمسكين الخاتم فعل([33]) قليل، والفعل القليل قد رُخص فيه؛ وهو لا يفسد الصلاة بالإجماع.
ألا ترى أن المصلي يدرأ المار عن مصلاه ونفسه، ويسوي ثيابه، ويحك ما يؤذيه تركه، ويبصق النخامة عن فيه ، حتى اختلف أهل العلم في موضع البصق ، فكان قولنا عند قدمه الأيسر بسرعته، وينجذب إذا جذبه اللاحق ولم يجد في الصف الأول مقاماً، وإن حدث بالإمام حدث وقدم رجلاً من المؤتمين لإتمام الصلاة تقدم معه، والصلاة تامة بالإتفاق.
_________________
([33])- قال الزمخشري في كشافه في سياق تفسير هذه الآية (1/682): كأنه كان مُرْجَاً - قلت: أي مؤخراً - في خنصره، فلم يتكلف لخلعه كثيراً عما تفسد بمثله صلاته، انتهى.
وإشارته -عَلَيْه السَّلام- بالخاتم دون أكثر هذه الأفعال، ولما قلنا من هذه الأفعال التي جوزناها للمصلي أصول في الشريعة يمنعها المستحيطون لم يمنعنا من ذكرها إلا كراهة التطويل وكونها موجودة عند العالمين.
ومنها: أنه لا يمتنع كون هذا الفعل خاصة لأمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-؛ لأن عندنا وعند كافة المسلمين أن التعبد يجوز اختلافه باختلاف حال المتعبدين، وعلمه سبحانه بمصالح المكلفين، وبهذا الدليل جوزنا نسخ شرائع الأنبياء الأولين -عَلَيْهم السَّلام-، ويكون اختصاصه سبحانه له -عَلَيْه السَّلام- بذلك فضيلة تميز بها على كافة المؤمنين فجعل ما يكون نقصاً في حق غيره زيادة في حقه وعلامة لشرفه، ولهذا أقره صاحب الشرع -صلى الله عليه وعلى آله- على فعله، ونهى غيره عن مثله، فهذه كما ترى وجوه ظاهرة جلية.
فإن قيل: إن الله -تعالى- نهى عن موالاة اليهود والنصارى بين يدي هذه الآية ثم عقب ذلك بتولي المؤمنين.
قلنا: هذا يزيد قولنا تأكيداً؛ لأن الله -تعالى- نهى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى وهم بعض من الخلق مخصوص، وأخبرهم بأن بعضاً مخصوصاً وليهم على معنى أنه ولي محبتهم وأولى بملك التصرف فيهم، قرن ذكره بذكره سبحانه وذكر نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على الترتيب، وهو أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- والمُخاطِب الله -سبحانه وتعالى- والمُخاطَب المؤمنون والمتولي المذكور بلفظ الجمع بعد الله -سبحانه- ورسوله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-، بدلالة أنه لو أظهره لاستمر كأن يقول تعالى: ولي أمركم الله ورسوله وعلي ابن أبي طالب، فتأمل ما ذكرت لك موفقاً إنشاء الله -تعالى- فهذا هو الكلام في الموضع الأول.
وأما الموضع الثاني؛ وهو أن ذلك يفيد معنى الإمامة: فلأن لفظ الولي إذا أطلق في اللغة والشرع أفاد المالك للتصرف الأبدي، إذا قيل هذا ولي اليتيم إنه يفيد المالك للتصرف عليه ، وكذلك ولي المرأة ، وقول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((السلطان ولي من لا ولي له)) ، معناه المالك للتصرف فيه.
ولأنك تزيل التوهم عند الإلتباس بقولك: هذا أولى بهذا الأمر من هذا، أي أحق به، وأملك للتصرف فيه، وولي القتيل المالك للقصاص والإبراء، وهذا ظاهر وأمثاله كثير، ونحن لا نريد بقولنا فلان إمام مطلقاً ، إلا أنه المالك للتصرف على الكافة ، وأنه أولى بهم في الأمور الموكلة إليهم من أنفسهم، فثبت بذلك أن أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- أولى الناس بالناس بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وذلك يفيد معنى الإمامة، كما قدمنا، فثبت أنه الإمام بعده بلا فصل.
[بيان دلالة الإجماع على إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام]
فإن قيل: إنكم قد ذكرتم في أول كلامكم بيان إمامته -عَلَيْه السَّلام- بالإجماع فاخرجوا من عهدة ذلك
قلنا: أردنا بذلك الإجماع من جهة المعنى أولاً وآخراً، ومن جهة اللفظ والمعنى آخراً.
كَشْفُ ذلك أنهم أجمعوا معنا في صحة إمامته -عَلَيْه السَّلام- بعد عثمان، وخالفناهم في صحة إمامة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، في جميع الأزمان ؛ لأن مذهبنا -كما قدمنا- أن الإمام بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بلا فصل علي بن أبي طالب، وأن إمامة الثلاثة الذين تقدموه -عَلَيْه السَّلام- غير صحيحة في جميع الأحوال فقد وقع الإتفاق عليه والإختلاف في غيره فكان أولى.
وأما الإجماع من جهة المعنى: فقد أجمع الصحابة ومن بعدهم قرناً بعد قرن إلى يومنا هذا أن الإمام يجب كونه أفضل الأمَّة أو كأفضلهم، وذلك ظاهر؛ لأن عمر لما بسط يده إلى أبي عبيدة([34]) نهره لإعتقاده أن أبا بكر أفضل منه، وكان في إحتجاج أبي بكر ما يدل على أنه يحتج بالفضل لأنه قال: (نحن شجرة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-)، وفي رواية أخرى: (عترته)([35])، كل ذلك يريد التفضيل لنفسه، وذكر قريشاً لاعتقاد العرب تعظيمهم، ولذلك كانوا في الجاهلية لا يذعرون لهم سرياً، ولا يرومون لهم حقاً، وكانوا يقولون هم آل الله، إلى غير ذلك، وجعلها عمر شورى في ستة لطلب الأفضل، ولهذا قال أمير المؤمنين -عليه السلام-: (متى اعترض الشك في مع الأولين حتى صرت الآن أقرن بهذه القرائن([36]))) وذَكَرَ فضائله يوم البيعة لعثمان تنبيهاً للكافة على أنه أولى بالأمر.
______________
([34]) ـ أبو عبيدة بن الجراح، هو: عامر بن عبيدالله، وقيل: عبدالله بن الجراح القرشي الفهري أسلم قديماً، وشهد بدراً وما بعدها وكان ممن صبر يوم أحد، وكان ثالث أقطاب السقيفة، ورضي أبو بكر به أو بعمر، ولاه عمر قيادة الجيش في الفتوح بعد عزله لخالد بن الوليد، فتح الديار الشامية، وبلغ الفرات شرقاً، وآسية الصغرى شمالاً، وتوفي بطاعون عمواس بفتح المهملة وسكون الميم فواو فألف مهملة قرية بالأردن سنة ثمان عشرة عن ثمان وخمسون سنة.
([35]) - كلام أبي بكر ذكره الطبري في تاريخه (2/70، 71) (منشورات مؤسسة الأعلمي).
([36]) ـ نهج البلاغة في خطبة الشقشقية 55.
[مراتب الفضل]
وإذا كان ذلك كذلك وقد علمنا أن الفضل بمجموع أشياء:
منها: الثبات في الأمر، والصبر على مضض الحرب، والتقدم في المواطن الكريهة، والنكاية في العدو.
ومنها: السخاء بما حوت اليد، والإيثار على النفس والأهل والولد.
ومنها: الزهد في الدنيا والإعراض عنها، والرغبة في الآخرة والإقبال إليها.
ومنها: الورع الحاجز عن الإقدام على المحرمات وترك الواجبات.
ومنها: العلم البارع بحيث يكون أهلاً لتبيان القضايا وفك المشكلات.
ومنها: وساطة الحسب وشرف الأبوة.
ومنها: السبق إلى الخيرات، والمبادرة إلى الطاعات.
ومنها: التمكن من جودة الرأي وحسن التدبير ليكون متقدماً في السياسات.
فهذه الأمور من اجتمعت فيه كان بالإضطرار أفضل الناس؛ بل من حاز أكثرها.
وأما الإحاطة بها: فما يلحق العلم بأن من حازها يكون أفضل الخلق بالضرورة بالأوليَّات، وهو -عَلَيْه السَّلام- قد حازها وزيادة بلا خلاف بين أهل العلم.
...
[بيان فضيلة الشجاعة]
لأن شجاعته -عَلَيْه السَّلام- ضربت بها الأمثال،ونظمت فيها الأشعار، وأجمع على العلم بها المؤمنون والكفار، حتى تكلم أهل النفاق بأن القتال قد يكون لأنفة، وحميَّة، وقساوة، وصلابة، يريدون بذلك إطفاء نور الله {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8)}[الصف] .
وقد أكذبهم الله -تعالى- بما أظهر على لسان نبيه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من حمده وتعظيمه، فلو كان لغير الله من الأغراض لم يستحق عليه مدحاً؛ لأن الله علام الغيوب، والسرائر منها
ثم قال تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95)}[النساء] ، ولو لم يكن له من الجهاد إلا يوم خيبر لكان كافياً ؛ لأن أهل النقل لم يختلفوا ، وإجماعهم في النقل حجَّة في أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- دفع الراية إلى أبي بكر فرجع مهزوماً يلوم أصحابه ويلومونه، ثم دفعها إلى عمر فعاد كذلك فقال: ((لأعطين الراية غداً رجلاً كرار غير فرار، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح الله على يديه([37]))) ،
_______________
([37]) ـ خبر الراية رواه محمد بن سليمان الكوفي بأسانيده عن عدة من الصحابة عن أبي سعيد، وفيه ذكر انهزام عمر وتجبينه لأصحابه وتجبينهم إياه، وعن سلمة بن كهيل من طريقين، وعن أبي ليلى، وعن سعد بن أبي وقاص وعن عمران بن الحصين، وعن سهل وعن بريدة، وعن ابن عباس، وعن أبي هريرة، وعن عمرو بن سعيد بن المسيب، وعن ابن عمر.
ورواه ابن المغازلي الشافعي بأسانيده عن إياس بن سلمة عن أبيه من طريقين، وعن عمران بن الحصين من طريقين، وعن أبي هريرة من طريقين، وعن سعد بن أبي وقاص.
ورواه في خصائص النسائي عن سعد، وعن علي، وعن بريدة، وعن سهل بن سعد فروايته عن سعد بثلاث طرق، ورواه أيضاً عن أبي هريرة من أربع طرق، وعن عمران بن حصين، وعن الحسن بن علي، وعن ابن عباس من حديث طويل.
ورواه البخاري ومسلم، وسائر المحدثين بألفاظ مختلفة في بعضها زيادة وفي بعضها نقصان، فهي متواترة تواتراً معنوياً، أخرجه أحمد عن أبي هريرة، وأحمد والبخاري عن سعد، وأخرجه الدارقطني، والبخاري، وابن عساكر عن عمر بن الخطاب ، وأخرجه البخاري رفعه إلى سلمة بن الأكوع، وسهل في الجزء الثالث والخامس والرابع عن سهل ، ورواه الترمذي بإسناده إلى سلمة، وأخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن ماجه، والبزار، وابن جرير، والطبراني في الأوسط، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الدلائل، وسعيد بن منصور، انتهى من التخريج للمولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله تعالى مختصراً، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (101)، وثم روايات أخرى ترجع إلى هذه وتؤيدها.
فدفعها إلى علي بن أبي طالب، فتقدم وقتل مرحباً وما تتام آخر الناس حتى فتح لأوّلهم ، وقلع الباب، وسانده للناس إلى جهة من الحائط فطلع بعض الناس عليه وكان في هذا الخبر من الزيادات القطع على مغيبه -عَلَيْه السَّلام-، وذلك لم يعلم من غيره لاستواء باطنه وظاهره.
وإخبار الله -سبحانه- على لسان نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بأنه يحبه فوجبت لذلك موالاته على الكافة في السر والعلانية، وكان في هذا الخبر معجزة للنبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من حيث أخبر أن الفتح يقع على يديه، وكان كما قال؛ لأن شوكة اليهود كانت عظيمة، وكانت معهم الآلات القويَّة والعدة الكاملة، وهم مظاهرون لخصمهم وفي أوطانهم، وهم على شبهة دين، وقتال أهل التدين شديد كما يُعلم في الخوارج، فلو كان يقول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من تلقاء نفسه لم يتجاسر على القطع بأنه يفتح على يديه؛ لأن أكثر ما يقطع العاقل عليه من أمر الغير الثبات، وأنه لا ينهزم، وهو يجوز عليه أن يقتل، كما قد قتل -عَلَيْه السَّلام- فيما بعد، أو يشغل بجراحة مثخنة، فلما قطع على أنه يرجع، وأن يفتح على يديه علمنا أن ذلك من جهة علام الغيوب، ومع ذلك فأهل التقدم في باب الشجاعة ولكل حظ،
وإنما خصصنا من وقع الإتفاق عليه وارتفع الخلاف فيه خمسة نفر؛ علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، والزبير ابن العوام، وسماك بن خرشة المكنى بأبي دجانة([38])، ومحمد بن مسلمة([39])، وخالد بن الوليد([40])، ولا يمكن عاقل يدعي لأحد من هؤلاء النفر مقارنة علي بن أبي طالب - عليه السلام- في باب الشجاعة فضلاً عن مساواته، وقد صرح الله بتفضيل أهل الجهاد بقوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95)}[النساء] .
____________________
([38]) ـ سماك بن خرشة أبو دجانة الأنصاري الساعدي، ويقال: سماك بن أوس بن خرشه، شهد بدراً مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وكان بهمة من البهم الأبطال دافع عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يوم أحد فكثرت فيه الجراحة، وروي أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أخذ سيفاً يوم أحد، فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه، فأخذه أبو دجانة، ففلق به هام المشركين، وفي رواية أنه قال: وما حقه يارسول الله قال: أن لايقتل مسلماً ولا يفر به من كافر، وشارك في قتل مسيلمة الكذاب، وقتل يوم اليمامة.
([39]) ـ محمد بن مسلمة بن سلمة أبو عبدالله الأنصاري الأوسي المدني شهد بدراً وما بعدها، ولما ظهرت الحروب بين أمير المؤمنين عليه السلام وأعدائه اعتزلها مع ترجيحه جانب علي عليه السلام، وقيل: إنه أتخذ سيفاً من خشب، وكان ممن انتدب لقتل كعب بن الأشرف فقتله، توفي بالمدينة سنة ثلاث وأربعين وهو في عشر الثمانين.
([40]) ـ خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، أبو سلمان، وقيل: أبو الوليد، كان قائداً من قواد المشركين، وشهد معهم حروب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلى غزوة الحديبية، أسلم سنة سبع للهجرة على الصحيح، وكان شجاعاً بطلاً قائداً، سياسياً محنكاً، أمَّره أبو بكر على الجيوش وعلى قتال بعض أهل الردة، ثم عزله عمر عن قيادة الجيش. توفي بالمدينة سنة إحدى وعشرين، وقيل: بل توفي بحمص سنة إحدى - أو اثنتان - وعشرين. الإستيعاب ج1 ص409 بهامش الإصابة.
[بيان فضيلة العلم]
ومن ذلك العلم: وأمره فيه -عَلَيْه السَّلام- أظهر من أن يستشهد عليه، وآثاره تنطق بذلك، وقد كان عمر بن الخطاب معدوداً في أكابر العلماء، وأطبق الناس على الرواية عنه: (لولا علي لهلك عمر)، حتى جرت لشهرتها مثلاً، وذلك في قصة المرأة التي أمر عمر برجمها فردَّها علي -عَلَيْه السَّلام- إليه، وسأله عن شأنها، فذكر له أنها اعترفت على يديه بالفجور، فقال -عَلَيْه السَّلام-: (هل استبرأت رحمها؟، فقال : لا)، فأمر نسوة يبصرونها فوجدنها حُبلى، فقال -عليه السلام-: (هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟) فأنطق هذه القضيَّة العجماء -صلوات الله عليه- بلطف نظره إلى قيام الساعة، ثم قال -عَلَيْه السَّلام-: (لعلك أخفتها أو تهددتها؟، فقال: قد كان ذلك، فقال: ويحك؛ أما علمت أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال: لا حد على مُعترف بعد بلاء؟) فأمر عمر بتخلية سبيلها وقال ما حكينا عنه إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
ولو أفردنا له كتاباً ما أتينا على آخره؛ ولأن أهل العلم المتقدّمين فيه بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وإن كان لكل من أصحابه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بسطة في العلم وقدم -فجزاهم الله عن الدين والإسلام خيراً- هم على اختيارنا ثلاثة: علي -عَليه السَّلام-، وابن مسعود([41])، وأبو الدرداء([42])، وقد قيل معاذ([43])،
_______________________
([41]) ـ ابن مسعود، هو: عبدالله بن مسعود بن غافل بمعجمتين بينهما ألف أبو عبد الرحمن الهذلي نسباً الزهري حلفاً الكوفي كان من أهل السوابق، وهاجر قديماً، وشهد المشاهد كلها، وكان من الجبال في العلم، وعلى قامة القاعد في الجسم، وهو القائل كنا نتحدث أن أفضل أهل المدينة علي بن أبي طالب، وكان من الجبال الراسخة في العلم، وهو القائل: قرأت القرآن على رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وأتممته على خير الناس بعده علي بن أبي طالب، وكان من محبي أمير المؤمنين وشيعته توفي سنة اثنتين أو ثلاث وثلاثين وعمره ستون سنة، ودفن بالبقيع.
([42]) ـ أبو الدرداء، هو: عويمر بن مالك، وقيل عامر، وقيل ابن ثعلبة الأنصاري الخزرجي أسلم عقيب بدر، وكان من عباد الصحابة ومتألهيهم، وهو أحد الذين جمعوا القرآن حفظاً على عهد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بلا خلاف، وهو القائل: العلماء ثلاثة عالم بالشام وعالم بالكوفة وعالم بالمدينة، فالذي في الشام يسأل الذي في الكوفة، والذي في الكوفة يسأل الذي في المدينة، والذي في المدينة لايسأل أحداً، ومراده الذي بالشام نفسه، وبالكوفة ابن مسعود، وبالمدينة أمير المؤمنين عليه السلام، ولاه عثمان دمشق وكان فقيهاً، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين في آخر خلافة عثمان، وكانت أول مشاهده أحد وما بعدها.
([43]) ـ معاذ بن جبل بن عمر الأنصاري الخزرجي السلمي أبو عبد الرحمن المدني كان من أعيان الصحابة وأقرأهم في العلم والفتوى وحفظ القرآن، أسلم وهو فتى وعمره ثمان عشرة سنة، وشهد العقبة الأخيرة مع الأنصار السبعين وشهد بدراً وأحداً، والخندق وجميع مشاهد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كلها وبعثه النبي إلى اليمن يعلم القرآن والأحكام، وكان يزوره في الأسفار، وأخذ بيده، فقال: يا معاذ والله إني لأحبك، وتوفي في طاعون عمواس بالأردن وعمره ثمان وثلاثين سنة سنة ثمان عشرة.
وقد قيل عمر، وقيل ابن عبَّاس([44])، وقيل سلمان([45])، واختيارنا ما قدّمنا؛ وعلي بالإجماع أعلم النفر، وكيف لا يكون كذلك والنبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول لما أنزل عليه قوله تعالى: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ(12)}[الحاقة] ، قال: ((سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي([46]))) ، وقال: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها([47]))) إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
_____________
([44]) ـ تقدمت ترجمته.
([45]) ـ تقدمت ترجمته.
([46]) ـ أخرجه الكنجي الشافعي في كفاية الطالب الباب (16) ص(108) الغري، وابن المغازلي (1/142) رقم (79) و(1/158) رقم (94) ورقم (121، 122)، وعبد الوهاب الكلابي عن بريدة، ورواه أبو القاسم الحسكاني عن علي من أربع طرق، وعن ابن عباس، وعن جابر، وعن أنس، وعن بريدة ومكحول . انظر : شواهد التنزيل (2/271، 285) نم رقم (1007إلى 1029).
ورواه فرات بن إبراهيم الكوفي عن أنس، ورواه الحاكم عن بريدة، ومكحول من ثلاث طرق، ورواه الثعلبي في تفسيره عن بريدة، ورواه محمد بن سليمان الكوفي عن خديجة بنت علي بن الحسين، وعن مكحول من ثلاث طرق، وذكره في الكشاف، ورواه سعيد بن منصور والطبري عن مكحول، ورواه الطبراني، ورواه السيوطي في الدر المنثور ، وقال : أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن مكحول.
([47]) - حديث : ((أنا مدينة العلم ..إلخ)) : رواه الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام ، والإمام محمد بن القاسم عليه السلام في الأصول الثمانية (66) ، ورواه الإمام المنصور بالله عليه السلام في الشافي من عشر طرق ، عن علي عليه السلام من ثلاث طرق ، وعن جابر بن عبدالله من طريقين ، وعن ابن عباس من خمس طرق ، الشافي (2/232).
ورواه صاحب المحيط بالإمامة من عدة طرق ، عن الإمام المرشد بالله عليه السلام ، ورواه الشريف الرضي في مجازات السنة النبوية (203، 204) .
ورواه الحاكم في المستدرك (3/126) وقال : حديث صحيح الإسناد ، ورواه من طريق أخرى (3/127) ، ورواه ابن المغازلي الشافعي من عدة طرق ، فعن جابر من طريقين ص(71) وص(72) رقم (125) ، وعن علي عليه السلام من طريقين ص(72) رقم (122) وص(73) رقم (126) ، وعن ابن عباس من ثلاث طرق ص(71) رقم (121) وص(72) رقم (123، 124) .
ورواه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب (2/558) رقم (1071) ، ورواه ابن عساكر في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام (2/464) رقم (991) عن علي عليه السلام ، وعن ابن عباس (992) ، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (4/348) و(7/172) و(11/48، 49) عن ابن عباس ، ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (4/22) عن ابن عباس ، ورواه المتقي في كنز العمال (11/614) رقم (32979) و(13/148) رقم (36463) عن ابن عباس .
ورواه الطبراني في الكبير (11/65، 66) رقم (11061) عن ابن عباس ، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/114) عن ابن عباس ، وقال : أخرجه الطبراني . ورواه ابن عدي في الكامل (1/195) عن جابر .
ورواه السيوطي في الجامع الصغير (1/161) رقم (2705) عن ابن عباس ، ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (1/334) رقم (459) و(2/272) رقم (1009) عن علي عليه السلام .
[فضيلة الورع]
وأمَّا الورع: فمما ظهر الحال فيه للعدوّ والولي ما صُرفت له سقطة في نائبة، ولا زلّ حتى لقي الله -تعالى-، ولا قوَّى أمر معاوية -لعنه لله- إلا قسمة السَّويَّة، والعدل في الرعية، وإيثار الدار الباقية على الفانية الدنية، ولو فصلنا ذكره لطال الشرح؛ ولكن من ذلك أنه -عَلَيْه السَّلام- ملك العراقين وخراسان ومصر والحجاز واليمامة والبحرين وما والاهما إلى عمان واليمن بأسره، ثم ولى إلى جوار ربه (وما خلف بيضاء ولا صفراء إلا أربع ما ئة درهم فضلت من عطائه أراد أن يشتري بها خادماً لأهله([48]))، ظننا أن ذلك لولا كان في حاجة أهله ما ادخر دانقاً لنفسه، ومثل هذا لم يعلم من غيره.
[بيان فضيلتي الزهد والسخاء]
وأمَّا الزهد: فإجماع الناس بعد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على ثلاثة علي -عَلَيْه السَّلام-، وأبو ذر، وعمر بن الخطاب، ولم يعلم مثل حال علي -عَلَيْه السَّلام- في واحد منهما في مطعمه ومشربه وملبسه، ولكل من ذلك نصيب ولكن لا سواء.
______________
([48]) - ما بين القوسين اقتبسه الإمام عليه السلام من خطبة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام قال فيها : (قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون ، ولا يدركه الآخرون بعمل ..إلى قوله : ولقد توفّي في الليلة التي رفع فيها عيسى بن مريم ، والتي توفّي فيها يوشع بن نون ، وما خلف صفراء ولا بيضاء [أي ذهباً ولا فضة] إلا سبعمائة درهم من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله) إلى آخر الخطبة .
والخطبة رواها الإمام المرشد بالله في الأمالي الخميسية (1/142) ، والموفق بالله في الاعتبار ص(660) ، والإمام أبو طالب في الأمالي ص(179) ، ولم يذكر ما نحن بصدده ، والإمام أبو العباس الحسني في المصابيح ص(340) ، ورواها أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين ص(62) ، والطبري في تاريخه (4/404) (ط/ مؤسسة الأعلمي)، وابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة (16/224) ، وابن المغازلي الشافعي في المناقب ص(25) رقم (16) .
ورواها الطبراني في الأوسط (1/585) رقم (2155) ، والكبير رقم (7913) ، والحاكم في مستدركه (3/172) ، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/199) ، والبزار في كشف الأستار (3/205) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (9/149) وقال : إسناد أحمد وبعض طرق البزار والطبراني حسان .
ورواها محمد بن سليمان الكوفي في المناقب (2/574) رقم (1084) ، وابن عساكر في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق (3/398، 404) من رقم (1496، 1504) ، والنسائي في خصائصه ص(12) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/65) ، وأبو يعلى الموصلي وغيرهم .
وأمَّا السخاء: فغايته الإيثار على النفس والأهل والولد، وكانت هذه حالة علي -عَلَيْه السَّلام- حتى ذكر الله ذلك في محكم كتابه في قوله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)}[الإنسان] ، وصرح بإخلاص نيته -عَلَيْه السَّلام- وأهل بيته تصريحاً بقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)} [الإنسان] ، وأخبر بخوفهم له في قوله: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا(10)} [الإنسان] ، ودل على عصمتهم -عَلَيْهم السَّلام-، وأنهم يلقونه على عهده، ولا يقع منهم تفريط ولا تبديل لحكمه، بقوله: {فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا(11)وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا(12)}[الإنسان] ، إلى آخر الآيات المقدسات، فَذِكْرُ حب الطعام في أول القصة، وذكر الصبر في آخرها أكبر برهان لأهل الأذهان على أن الضر قد كان بلغ فيهم نهايته، فآثر -عَلَيْه السَّلام- على نفسه، إيثاراً لم يُعلم من غيره، وهذا غاية السخاء؛ لأنه -عليه السلام-، وإن لم يكن من أهل السعة، فقد كان يجود بموجوده، وأبو بكر وإن عد في أهل الإنفاق، فإنما كان إنفاقه من ظهر غنى، وإنفاق علي جهد المقل، والفرق في ذلك لأهل البصائر ظاهر، وإن كان الجميع مأجور، ولا نعلم خلافاً بين أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وأعيان أهل العلم([49]) أن المراد بالآيات علي بن أبي طالب عليه السلام، وأنها نزلت في شأنه وقد دلت على الكرم، وزادت العصمة، والقطع على المغيب وذلك لم يقع لغيره ، فلو لم ينظر بعد ذلك في شيءٍ من أمره لكان ذلك كافياً في وجوب إمامته، وتقديم زعامته.
____________________
([49]) - قوله تعالى : {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا(5)}[الإنسان]، إلى آخر الآيات : نزلت في الخمسة أهل الكساء : أمير المؤمنين عليه السلام ، والزهراء، والحسنين صلوات الله عليهم ، وقد روى ذلك الجم الغفير من المفسرين والمحدثين عن عدة وافرة من الصحابة والتابعين بطرق كثيرة ؛ فممن روى ذلك :
أمير المؤمنين عليه السلام روى ذلك عنه : الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (2/300) رقم (1042) بعدة طرق عن جعفر بن محمد ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليه السلام ، ورواه فرات بن إبراهيم الكوفي ص(196) ، والشيخ الصدوق في الأمالي ص(212) المجلس (44) رقم (11) .
وعن زيد بن أرقم روى ذلك عنه : الحاكم الحسكاني في الشواهد (2/309) رقم (1061) ، وفرات بن إبراهيم الكوفي ص(199) ، ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب (1/58) رقم (23) .
وعن ابن عباس روى ذلك عنه : الحاكم الحسكاني في الشواهد عن مجاهد عن ابن عباس رقم (1047) و(1048) و(1051) ، وعن الضحاك عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير عن ابن عباس ، وأبي صالح عن ابن عباس ، وعطاء عن ابن عباس ، من عدة طرق .
ورواه أيضاً محمد بن سليمان الكوفي عن ابن عباس (1/178) رقم (103) ، والحسين بن الحكم الحبري في تفسيره (326) رقم (69) والزمخشري في كشافه مرسلاً عن ابن عباس (4/670) ، والثعلبي في تفسيره ، والواحدي في أسباب النزول ص(331) ، وابن جرير الطبري في تفسيره أيضاً.
وعن طاووس روى ذلك ابن المغازلي الشافعي في المناقب ص(176) رقم (320) وعن الأصبغ بن نباتة روى ذلك الكنجي في كفاية الطالب ص(342) وغيرهم .
[بيان فضيلة التدبير للأمور]
وأمَّا تدبير الأمر: فكان -عَلَيْه السَّلام- أعرف الناس بِفُرص الأعداء، وعورات الثغور، ووجوه المكائد، وأوقات الغارات، وطرق السرايا، وترتيب الأمراء، وحفظ الأطراف، ونظم العساكر، وكيف لا يكون كذلك وهو أبو هذا الشأن([50])، وأمه، وخاله،
وعمّه ، وهو عموده من لدن شبابه إلى لقاء ربِّه، وقد كان أبو بكر وعمر معروفين بجودة السياسة وحسن التدبير؛ وكان فزعهما في مهمَّات هذا الشأن إليه، وتعويلهما عليه.
وإنما وصل معاوية -لعنه الله- إلى ما وصل إليه لإقدامه على المحظورات، ولزومه لأمر الدنيا، وإعراضه عن الآخرة، فكل ما أعمل من مكيدة بينه وبينها حد من حدود الله تعداه، أو محظور من أمر الله ارتكبه ، وهو -عليه السلام - بالضد من ذلك؛ يرى الفرصة التي تأتي بأمر ابن هند من قواعده وبينه وبينها حائل من أمر الله فيدعها لله حتى يسدها عدوّ الله على مهل، فلذلك وصل عدو الله من أمر الدنيا الفانية إلى ما وصل.
________________
([50]) ـ يضرب هذا المثل للمبالغة في من وصف بأمر وكان لايفوقه أحد في ذلك الأمر فيقال: هو أبوه وأمه وخاله وعمه، وقد يقتصر على لفظة أبوه والبقية تأكيد في تعظيم الأمر وصاحبه، تمت من حاشية في الأصل.
[بيان فضيلة التقدم في الإسلام]
وأمَّا التقدم إلى الإسلام([51]): فقد ذكر أهل العلم أن المتقدّم إلى الإسلام من الرجال ثلاثة، علي بن أبي طالب، وأبو بكر، وزيد بن حارثة، ولم يتمكن أحد من دعوى تقدمهما عليه بالسبق في القبول والإنقياد، وأكثر ما قالوا إنه -عَلَيْه السَّلام- كان صغيراً، أو كان إسلامه إسلام إلف ومحبَّة، ولم يكن إسلام إنقياد لأمر الله عن نظر واستدلال، وقولهم هذا عندنا باطل لوجهين:
________________
([51]) ـ الأخبار الدالة على أن علياً ـ عليه السلام ـ أول من آمن كثيرة شهيرة؛ فمنها:
ما رواه ابن المغازلي الشافعي ص(27) رقم (20) بسنده عن سلمة بن كهيل عن حبة العرني عن علي ـ عليه السلام ـ أنه قال: أنا أول من أسلم. ورواه أيضاً رقم (21) من طريق أخرى عن سلمة بن كهيل.
ورواه أيضاً محمد بن سليمان الكوفي في المناقب (1/275) رقم (188) عن شعبة عن سلمة بن كهيل، ورواه أيضاً النسائي في الخصائص ص5 بلقظ: (أنا أول من صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها: ما رواه محمد بن سلميان الكوفي (1/259) رقم (171) بسنده عن أنس بن مالك، ورواه أيضاً الحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين عن فضائل العترة الطيبين ص132 -طبع عن مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية - عن أنس قال: بعث النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق من سبع طرق عن أنس (1/50ـ 51ـ 52)، بعضها بلفظ: (بعث)، وبعضها بلفظ: (استنبئ)، ورواه عن أنس ابن أبي الحديد في شرح النهج (13/ 158) بلفظ: (استنبئ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم...إلخ).
ومنها: ما رواه أيضاً محمد بن سليمان الكوفي (1/278) رقم (192) عن علي ـ عليه السلام ـ قال: (بعث النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء)، ورواه أيضاً أبو يعلى الموصلي في مسند علي - عليه السلام - من كتاب المسند (1/348) الطبعة الأولى رقم (186) عن علي ـ عليه السلام، ورواه أيضاً ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة علي ـ عليه السلام ـ (1/52) عن علي ـ عليه السلام.
ومنها: ما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب بهامش الإصابة (3/32) قال: (استنبئ النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء)، ورواه ابن أبي الحديد (4/324).
ومنها: ما رواه الحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين عن أبي رافع ص132 قال: (صلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يوم الاثنين وصلى عليٌّ يوم الثلاثاء)، وروى نحوه عن أبي رافع، محمد بن سليمان الكوفي في المناقب (1/262) رقم (174)، ورواه ابن عساكر من طريقين (1/48) رقم (70ـ 71).
ومنها: ما رواه محمد بن سليمان الكوفي أيضاً من ثلاث طرق (1/263) رقم (175) و (1/294) رقم (216) (217) عن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ قال: (أول هذه الأمة وروداً على نبيها أولها إسلاماً علي بن أبي طالب). ورواه أيضاً الحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين رواية عن الناصر ص132، ورواه أيضاً ابن المغازلي الشافعي ص27 رقم(22) عن سلمان، ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب بهامش الإصابة (3/27ـ 28) من طريقين أحدهما موقوفة والأخرى مرفوعة، وقال: رفعه أولى لأن مثله لا يدرك بالرأي، ثم أسند رواية المرفوع، وأرسل الموقوف، ثم قال بعد كلام له: ولا شك أن علياً عندنا أوّلهم إسلاماً، وذكره عنه أيضاً ورجّحه ابن أبي الحديد في شرح النهج (4/320)، ورواه عن سلمان أيضاً ابن عساكر من ثلاث طرق (1/84ـ 86) رقم (115ـ 116ـ 118).
وروى محمد بن سليمان الكوفي (1/280) رقم (195) الحديث المتقدم عن أبي ذر مرفوعاً، ورواه أيضاً مرفوعاً عن سلمان (1/285) رقم (201).
ومنها: ما رواه محمد بن سليمان الكوفي (1/282) رقم (197) عن زيد بن أرقم قال: (أول من أسلم علي)، ورواه ابن المغازلي الشافعي ص21 رقم (18) عن زيد بن أرقم بلفظ: (أول من صلى مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- علي بن أبي طالب)، ورواه أيضاً ابن عبد البر في الاستيعاب بهامش الإصابة (3/32)، ورواه الطبري في تاريخه من طريقين عن زيد بن أرقم (2/227) منشورات مؤسسة الأعلمي أحدهما بلفظ: أسلم، والأخرى بلفظ: صلى.
ورواه أيضاً النسائي في خصائص أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ من ثلاث طرق عن زيد بن أرقم (ص605)، والأحاديث والأخبار الواردة في أن علياً ـ عليه السلام ـ أول من أسلم وآمن وصلى مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- كثيرة لا يسع المقام حصرها وإيرادها، وقد رواها جمع غفير من الصحابة والتابعين، وقد تقدّم بعض من روايات الصحابة، ومنهم أيضاً: أبو أيوب الأنصاري، وعفيف بن عبدالله الكندي، وداود بن بلال أبو ليلى، وعبد الرحمن بن عوف، ويعلى بن مرة، وأبي بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وبريدة الأسلمي، ونعمان بن جبلة التنوخي، وسلمة بن الأكوع، وجابر بن عبدالله الأنصاري، وخباب بن الأرت، وسعد بن أبي وقاص، والبراء بن عازب، وعبدالله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وطارق بن شهاب، وأسماء بنت عميس، وليلى الغفارية، ومعاذة العدوية، وأبو رجاء العطاردي عمران بن ملحان، وأبي مجلز، وغيرهم.
وقد روى ابن عساكر أحاديث إيمان علي ـ عليه السلام ـ من سبعين طريقاً من رقم (70 إلى 140) (ج1/ 48ـ 105) بعضها موقوفة وبعضها مرفوعة؛ فالأحاديث قد زادت على حد التواتر.
ومن غير الصحابة: الحسن بن أبي الحسن البصري، وعامر الشعبي، وجابر بن زيد أبو الشعثاء، ومحمد بن المنكدر، ومحمد بن كعب القرظي، وربيعة الرأي، ومجاهد بن جبر المكي، وابن إسحاق وغيرهم، وقد نظمت فيه الأشعار، من كثير من الشعار، من المهاجرين والأنصار، والتابعين وتابعيهم من الأخيار، لا يسع المقام ولا يسمح بإيرادها.
وقد أورد أكثرها الأميني في كتاب الغدير في الجزء الثالث.
أحدهما: قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لفاطمة -عَلَيْها السَّلام-: ((زوجتك أقدمهم سلماً وأكثرهم علماً([52]))) ، والضمير في هم عائد إلى رجال أصحابه بالإتفاق، وقد صرح بذكر زوجها، فلو كان غير بالغ لما مدحه بذلك؛ لأن الناس عنده -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في الحق سواء، ولم يكن ينطق عن الهوى.
والوجه الثاني: أنه دعاه إلى الإسلام أولاً، ونحن نعلم من حالنا أنه يقبح من أحدنا أن يبتديء في الدعاء إلى الدين بالأطفال؛ قبل دعاء ذوي الألباب من الرجال؛ لأن ذلك يكون عدولاً عن الواجب إلى المندوب ومثل ذلك لا يجوز منا فكيف يجوز من النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- !!؟.
فإن قيل: فأبو بكرأكبر منه سِّناً.
قلنا: ذلك مُسَلم ولكن لا حجَّة لكم فيه؛ لأن الكل إذا كان بالغاً عاقلاً كانت فضيلة السبق لعلي، و قد وقع الإتفاق على إيمانه ثاني البعثة يوم الثلاثاء وكانت البعثة بالإثنين، وقد أَذْكَرنا إعتلالُكم بكبر السِّن بكثير من أهل عصرنا هذا إذا دعوا إلى أهل العلم وورثة الكتاب من عترة نبيهم -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قالوا: وكيف نصنع بمشائخ لنا قد نفذت أعمارهم على هذا الشأن، ومن تدعوننا إليه من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- لم يقاربوهم في السِّن؛ فلذلك يقطع على أن أحداً من أهل البيت لا يساويهم في فضيلة العلم وحسن التأدية، وظهور فساد هذا القول يغني عن إقامة الدليل عليه.
____________________
([52])- خبر قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لفاطمة عليها السلام: ((زوجتك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً)): رواه الإمام أبو طالب في الأمالي ص(88) بلفظ : ((أقدمهم إسلاماً ، وأحسنهم خلقاً ، وأعلمهم بالله علماً)) ، وابن أبي الحديد في شرح النهج (7/150) و(9/18) ، ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب من عدة طرق عن أنس رقم (170) ، وعن أبي أيوب الأنصاري رقم (177) ، وعن بكر بن عبدالله رقم (693) ورقم (189) ، وابن المغازلي الشافعي من حديث طويل ص(84) رقم (147) ، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (150) بلفظ : ((زوجتك أقدم الناس سلماً وأفضلهم حلماً وأكثرهم علماً)) ، وفي ص(33) بلفظ : ((زوجتك أعلمهم علماً وأقدمهم سلماً)).
رواه أحمد بن حنبل في مسنده (5/27) بسنده عن معقل بن يسار، والمتقي في كنز العمال (6/153)، والهيثمي في مجمع الزوائد (9/101ـ 114)، وقال: أخرجه الطبراني برجال وثقوا.
ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (5/520) بسنده عن علي عليه السلام، والمحب الطبري في الرياض النضرة (2/182). انظر فضائل الخمسة (2/219).
[بيان فضيلة وساطة المنصب]
وأمَّا وساطة المنصب: فليس فيه منازع، وله في ذلك مزيَّة ولادة هاشم بن عبدمناف لأبيه وأمه؛ لأن أُمَّه -عَلَيْه السَّلام- فاطمة بنت أسد، أول هاشمية ولدت لهاشمي، وعبدالله أبو النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وأبو طالب أمهما واحدة، فكان له هذه الزيادات مع مشاركة بني هاشم في وساطة النسب حتى قال بعض شعراء الشيعة:
إن علي بن أبي طالب .... جدّا رسول الله جدّاهُ
أبو علي وأبو المصطفى .... من طينة طهَّرها اللهُ.
وقد ثبت لك أن الصحابة أجمعت على طلب الأفضل، وإن اختلفوا في عينه، فمن قائل يقول هو أبو بكر، ومن قائل يقول هو علي، وقد ظهرت الأدلة أن الفضل لا يكون إلا بما قدمنا ذكره من الخصال وأن عليًّا حازها بأسرها جملة وزاد فيها على القدر الذي يحتاج إليه؛ لأن في بعضها الدلالة على أنه يجاوز الحد الذي يصح في عصمته، والقطع على مغيبه، وفي بعضها الدلالة على الإمامة بدونه في جميع تلك الأنواع السابقة، إذ لم يقل أحد من أهل العلم إن الإمام يجب أن يبلغ في شيءٍ منها إلى درجته -عليه السلام- لاستحالة ذلك في غيره، وكيف وهو بعض آيات ربِّه وفضائل نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-! فقد وضح لك أن الإجماع واقع من جهة اللفظ والمعنى على إمامته ؛ لإجماعهم على طلب الأفضل، وكونه لما قدّمنا من الخصال الثابتة بالبراهين أفضل بالإضطرار، إذ يستحيل من كل عاقل منصف العلم بإجتماع تلك الخصال الشريفة لواحد، ودعوى عدم العلم بكون ذلك الواحد أفضل ممن لم يساوه فيها ولا في بعضها؛ بل لم يقاربه، والحمد لله، فثبتت إمامته -عَلَيْه السَّلام- بالكتاب والسنة من كل وجه وبالإجماع من الوجهين المتقدمين، والحمد لله أولاً وآخراً.
(مسألة في إمامة الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام-)
[36]
وبَعدَهُ الأمْرُ إلى السِّبْطَيْنِ .... الحسنِ الطَاهِرِ والحسينِ
قَتِيلِ أَربَابِ الشَقَى والمَيِنِ .... شَهْمِ الجَنَانِ طَاهِرِ الثَوْبَيْنِ
مُردِي كُمَاةَ الظُّلمِ في النِّزَالِ
تفسير لفظ البيت ظاهر، والمعنى فيه: أنه لما فرغ من الكلام في أن الإمام بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، بلا فصل، علي بن أبي طالب، عقبه بالكلام في أن الإمام بعده ولداه الحسن والحسين (-عَلَيْهما السَّلام-).
فمذهبنا في هذه المسألة أن الإمام بعد علي ولداه الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- على الترتيب الظاهر بينهما، وهو قول الإمامية والمعتزلة وبعض الخوراج، فالقول في إمامتهما -عَلَيْهما السَّلام- أظهر، فلذلك لم نطل فيه الشرح؛ لأن أحداً من أهل العلم لم يخالف في ثبوت الإمامة لهما على الترتيب، كما قدمنا، فقد كانت إمامتهما تصح بالإجماع؛ وهو حجَّة على ما يأتي بيانه، ولأنَّا قدبينا في أول كتابنا هذا بيان إمامتهما بالكتاب الكريم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}... الآية [الطور:21] ، وعللناه فيما هنالك تعليلاً شافياً.
[الكلام في حديث : ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما))]
ومن الدليل - أيضاً - على إمامتهما -عَلَيْهما السَّلام- من السنة: قول النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خيرٌ منهما([53]))) ، وهذا كما ترى بين صريح على إمامتهما.
_________________
([53]) ـ هذا الخبر مشهور عند الأمة، ومتلقى بالقبول من جميع الطوائف إذ الأمة بين عامل به ومتأوّل له، ولم يصدر عن أحد من الأمة إنكاره أو ردّه أو تضعيفه، وما أحسن قول حافظ اليمن السيد صارم الدين الوزير (ع) : وإن التلقي بالقبول على الذي وما أمّة المختار من آل هاشم به يستدل المرء خير دليل تلقّى حديثاً كاذباً بقبول
قال الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم صلوات رب العالمين في كتاب أصول الدين (104) : وأجمعت الأمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما)) ، وقال هما : ((إمامان قاما أو قعدا)) ، ورواه الإمام محمد بن القاسم في كتاب الأصول الثمانية، ورواه الإمام أبو طالب في كتاب شرح البالغ المدرك، وأخرجه الأمير الحسين في شفاء الأوام (3/497) ، وأورده (ع) في العقد الثمين وقال : وهذا نصّ جلي على إمامتهما وفيه إشارة إلى إمامة أبيهما ، ورواه أحمد بن الحسن الرصاص في مصباح العلوم ، وأورده الإمام الحافظ الحجة الولي مجدالدين بن محمد المؤيدي في لوامع الأنوار (ط/2) (3/35) وقال : وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما)) فهو كذلك مجمع عليه بين الأئمة.
قال الإمام الحسن بن بدر الدين عليه السلام: والعترة مجمعة على صحته، وقال: إنه مما ظهر واشتهر بين الأمة، وتلقّته بالقبول، ولا يجحده أحد ممن يعوّل عليه من علماء الإسلام، بل هم بين عامل به، ومتأوّل له.
وقال النجري: ويدل على إمامتهما الحديث المشهور المتلقى بالقبول - يعني هذا الحديث -.
وقال القاضي أحمد بن يحيى حابس: وصحته إما لأنه متواتر على رأي أو متلقى بالقبول، ولأن العترة أجمعت على صحته.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام: إنه مجمع على صحته، قال الشرفي: لأنه متلقى بالقبول من الناس جميعاً.
وقال الإمام عز الدين بن الحسن في المعراج: حكى الفقيه حميد إجماع العترة على صحته، قال: وقد ظهر بين الأمة، ولم يعلم من أحد إنكاره، انتهى.
وقال الفقيه عبدالله بن زيد العنسي في المحجة: إنه مما ظهر واشتهر بين الأمة، وتلقته بالقبول، ولم ينكره أحد من المخالفين.
وقال الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم عليه السلام في الموعظة الحسنة (98) : وهذا الخبر مما أجمعت عليه العترة وهو نص صريح في إمامتهما عليهما السلام ، ورواه الإمام المتوكل على الله إسماعيل في كتاب العقيدة الصحيحة.
أنظر لوامع الأنوار لمولانا الإمام الحجة مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى ج2-584-ط2.
والكلام فيه يتعلق بموضعين، أحدهما: تصحيحه، والثاني: في وجه الإحتجاج به.
أمَّا الكلام في صحته: فهو مما علمته الأمة، وأطبقت على نقله لشهرته، ولم يعلم من أحد منها دفعه؛ فجرى مجرى الأخبار المتعلقة بأصول الدين كالصوم والصلاة كما قدمنا.
وأمَّا الكلام في وجه الإستدلال به: فذلك أظهر؛ لأن قوله -عليه السلام- ((إمامان)) تصريح لهما بالإمامة، وتنبيه بطريقة الأولى لأهل الإستدلال على إمامة أبيهما -عليهم السلام- بقوله: ((خيرٌ منهما))، ثم أكد ذلك بقوله: ((قاما أو قعدا))؛ لأنا نعلم ضرورة أنه -عَلَيْه السَّلام- لا يريد قيام البنية المنافي لقعودهما، وإنما يريد قيام التصرف في الأمة بإنفاذ الأحكام، وقعود المانع من ذلك كما فعلا -عَلَيْهما السَّلام- لما غلب معاوية - لعنه الله- على الأمر؛ لأن لفظ الإمام قد صار بعرف الشريعة إذا أطلق لم يفهم منه إلا ملك التصرف على الكافّة ، وذلك قصدنا بالإمامة، فثبت بذلك إمامتهما-عَلَيْهما السَّلام-.
فإن قيل: إن ظاهر الخبر يوجب إمامتهما -عَلَيْهما السَّلام- في وقت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ووقت أبيهما، واشتراكهما في وقت الحسن -عَلَيْه السَّلام-، وأنتم لا تجيزون إمامين في وقت واحد.
قلنا: الأمر كما حكيتم عنَّا، وظاهر الخبر كما قلتم، ولكنَّا خصصنا وقت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ووقت أبيهما -عَلَيْه السَّلام- ووقت الحسن -عَلَيْه السَّلام- بإجماع الأمة ، والإجماع دليل يجوز تخصيص الكتاب والسنة، وإجماعهم -عَلَيْهم السَّلام- وهو حجَّة - أيضاً -، كما قدمنا، على أن التصرف في الأمة لا يجوز لأحد في زمن النبيء إلا بإذنه -عليه وآله السلام- وكذلك زمن علي -كرم الله وجهه- وزمن الحسن -سلام الله على روحه- ودخولهم -عليهم السلام- تحت أمر النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في حياته ، ودخولهما تحت أمر أبيهما -عليه السلام- في حياته أيضاً، ودخول الحسين تحت أمر أخيه الحسن حتى لقي ربَّه مما يعلم ضرورة لكل من عرفهم، فلا وجه للتطويل في شرحه، فهذا هو الكلام في إمامتهما (-عَلَيْهما السَّلام-).
(يتلوه الكلام في أن الإمامة في أولادهما وأنها مقصورة عليهم)
[37]
والحُجَّةُ الظاهرةُ المُعِمَّهْ بالأمر في آلِهِما الأئمهْ شَاهِدُهَا إجمَاعُ هَذِي الأمهْ سَفِينةِ الحقِّ بُدُورِ الظُّلْمَهْ
إذا ألَمَّتْ ظُلَمُ الأَهْوَالِ
إعلم أن الكلام في هذه المسألة يتعين الخلاف فيه بيننا وبين الخوارج والمعتزلة والإمامية.
[ذكر خلاف الخوارج والمعتزلة والإمامية في الإمامة]
فمذهب الخوارج مبني على أن الإمامة جائزة في جميع الناس ما صلحوا بأنفسهم، ولا يعتبرون للإمامة منصباً مخصوصاً، وعمدتهم في ذلك ظاهر الأوامر من الكتاب والسنة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمبادرة إلى الطاعات، وبرواية يضيفونها إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((أطيعوا السلطان ولو كان عبداً حبشياً)) .
وأما المعتزلة: فيعتبرون المنصب على غير الوجه الذي اعتبرناه؛ لأنهم يقولون بجواز الإمامة في جميع قريش، وإن كانت عندهم لا تجوز في غيرهم من سائر الناس، وعمدتهم في ذلك الخبر الذي قدمنا ذكره من رواية أبي بكر: ((الأئمة من قريش)) .
ومذهب الإمامية: أن الإمامة لا يُعتبر فيها منصب مخصوص، وإنما الإعتبار في ذلك بالنص الوارد عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على تعيين الأئمة بالتصريح أو بالإشارة بعد تعيين العدد ؛ لأن فرقة منهم ادعت على النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه ذكر كل واحد منهم باسمه وأبيه وأمه ونعته ولقبه.
وفرقة منهم قالت: إنه ذكرهم جملة وقال: ((الأئمة من ولد هذا - يعني الحسين -عَلَيْه السَّلام- - بعدد نقباء بني إسرائيل)) قالوا: وقد ورد النص على إثني عشر نقيباً من ولد الحسين -عَلَيْه السَّلام- بمجموع القولين، هذا أصل خلافهم، ولهم فروع واختلاف لا حاجة إلى شيءٍ من ذكره؛ لأن إبطال الأصل يأتي عليه بأسره.
قالوا: وآخر هؤلاء الإثني عشر الحسن بن علي العسكري، وكانت وفاته -عَلَيْه السَّلام- سنة ستين وما ئتين، وعندهم أنه باقٍ إلى الآن، وأنه سوف يظهر ويملأ الأرض عدلاً، وينشر أمره في جميع الأقطار، وأنه لم يكن بعده من أولاد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلى يومنا هذا من يصلح للإمامة، وأن الإمام يجوز؛ بل يجب ظهور المعجز على يديه، وأن العلم يكون فيه طبعاً، وأنه يجب كونه أعلم الناس بجميع المعلومات، من الغيوب والمكتسبات، وأن المعجز يظهر على يديه، وأن إمامته ثابتة وإن أغلق الباب وأرخى الستر واحتجب عن الأمة حجاباً طويلاً، وأن حاجة الأمة إليه في مصالح الدنيا والآخرة شديدة بحيث لايسد غيره مسده، وأن الدين لا يستقيم إلا به، ويجوزوا مرور الأعصار المتوالية، وانقطاع تكليف كثير من الناس ولا يرونه -عَلَيْه السَّلام-، وهذه مناقضة ظاهرة كما ترى؛ لأن الله -تعالى- من عدله لا يعلق مصلحتنا في الدين بأمر لا نجد إليه سبيلاً.
وقد أغفلنا ذكر خلاف الباطنية؛ لأنهم يظهرون أنهم يعتقدون قصر الإمامة على قوم ينسبون إلى الحسين -عَلَيْه السَّلام- ولم يثبت إليه نسبهم؛ لأنهم لو كانوا من ذريته -عَلَيْه السَّلام-، كما ادعي لهم، لما كانت هجرتهم دار الفساد، وأشياعهم وأتباعهم على الصفة التي علمها جميع العباد؛ لأن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول في أهل بيته حاكياً عن ربِّه: ((وخلقت شيعتكم منكم)) ، فالشيعي، كما ترى، من إمامه بنصّ الصادق المصدوق.
ومما نقول لهم على وجه الجدل: أخبرونا؛ هل أنتم أولياء لأئمتكم أم أعداء؟
فإن قالوا: أولياء؛ ظهرت الردة وانكشف الغطاء.
وإن كانوا أعداء؛ فكيف يصح إنتسابهم إليهم وإختصاصهم بهم دون سائر الملأ؟
وإنما أغفلنا ذكرهم وذكر ما يزعمون أنه شبهة لهم؛ لأن خلافهم لا يعد في خلاف فرق الإسلام لانسلاخهم عن الدين، واتخاذهم آيات الله هزواً، وإجماعهم قولاً واحداً على تسمية الشرائع الشريفة نواميس، وطعنهم على الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- بالنسيان.
قالوا: والمناقضة عموماً، وعلى نبينا -عليه وآله السلام- خصوصاً، وكل عاقل متأمل لأحوالهم وأقوالهم يعلم ذلك منهم، لأنه لولا طعنهم عليه لما استخفوا بشريعته -عليه وآله السَّلام-، ولقاموا بلوازمها من الصلاة، والصوم، والحَّج، والزكاة، إلى غير ذلك من شرائع الإسلام، ووقفوا عن مناهيها التي علم نهيه -عليه وآله السلام- عن فعلها ضرورة كشرب الخمر، وإتيان الفاحشة، والنظر إلى غير المحرم، أو الزوجات من النساء، إلى غير ذلك، وربما ينكرون إرتكاب ذلك بألسنتهم وهو يعلم وقوعه منهم ضرورة.
..
ومن ملك نفسه عن ارتكابه ظاهراً منهم؛ فموالاته لمن فعَله تدل على أنه يستجيز فعله؛ لأنه لو كان يعتقد أن فعله محادة لله ورسوله لما والى من فعَله، وإن كان يعتقد أنه من المؤمنين بالله واليوم الآخر؛ لأنه عز من قائل يقول: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجادلة:22] ، فأوجب سبحانه عداوتهم لمحادتهم له، وإن كانت أرحامهم واشجة([1])، وأنسابهم واصلة ، غير أن هذه الآية وغيرها من آيات القرآن لا بدَّ لها عندهم من باطن لا يوافق ظاهرها بحقيقته ولا بمجازه، وأن هذه المحرمات عند أهل الإسلام؛ لنهي النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فيها من الحِكَمِ والمنافع ما جهله أهل التحصيل من الأئمة الأعلام، وأتباعهم من علماء الإسلام، وأنه لم يحظ بمعرفتها إلا أهل الكتب المخزونة، والأسرار المحجوبة؛ التي لا يُطْلِعُونَ عليها إلا من أخذوا عليه العهود المغلظة، والأيمان المؤكدة، على كتمانها، وإنكار ما ظهر منها.
ولهم كتاب يسمونه (البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم)، ومنهم من يسميه بـ (البلاغ السابع)، و لولا خشية التطويل لذكرنا مما ذكروا فيه طرفاً يكشف عن بلوغهم الغاية القصوى في الإلحاد، والإنسلاخ عن الدين، والخروج عن دائرة المسلمين، فلذلك لم نعد خلافهم في شيءٍ من خلاف أهل الإسلام.
وبإسقاطنا لقول الإمامية يسقط ما أثبتنا عليه من الأقوال، فهذا مذهب المخالفين في هذه المسألة، ولا بد بمشيئة الله -تعالى- من إبطال كل قول من أقوالهم بأدلة قاطعة لا يمكن دفعها إلا بالمكابرة.
_____________
([1]) ـ واشجة: بمعنى مرتبطة ومختلطة، تمت.
[بيان مذهب الزيدية في مسألة الإمامة]
ومذهبنا في هذه المسألة أن الإمامة بعد علي وولديه الحسن والحسين -صلوات الله عليهم- فيمن قام ودعا من أولادهما -عَلَيْهما السَّلام-، وأن الإمامة مقصورة فيهم، وأن القول بالنص باطل.
[شروط الإمامة وما يجوز على الإمام ومالا يجوز]
وأن الإمام من أولادهما لا تصح إمامته بعد الدعوى إلا باجتماع شرائطها:
أولها: أن يكون ذكراً، حراً، بالغاً، فاضلاً، عالماً، ورعاً، زاهداً، شجاعاً، سخياً، قوياً على تدبير الأمروالسياسة، سليماً من الآفات المنفرة المانعة من القيام بالأمر، وسد الثغر.
وأنه يجوز عليه السهو، والغفلة، والنسيان، والمعصية، كما يجوز ذلك على غيره من الناس، وأن المعصية إذا وقعت منه كبيرة سقطت إمامته، وأنه لا يجب القول بعصمته والقطع على مغيبه، وأنَّا إنما تعبدنا بالنظر في سلامة ظاهره دون باطنه؛ لأن الله -تعالى- لعدله لا يكلفنا أمراً إلا ويجعل لنا طريقاً إلى معرفته.
وأنه لا يجوز له كتمان نسبه، مع الدعاء إلى نفسه وإيجاب طاعته، ولا يجوز له الحجاب الغليظ عن رعيته؛ بل يعلمهم رشدهم بلطفه، ويشاركهم في مهمات الحروب بنفسه، كما فعل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ووصيه، والطيبون من ذريته،ولا يجوز أن يكون متكبراً ولا متجبراً؛ بل يكون كما حكى الله -تعالى- عن ذم المشركين لجده في قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}[الفرقان:7] .
والنبوءة أعلى درجة من الإمامة،وذم المشركين لا يكون إلا بما يتضمن المدح للمؤمنين كما حكى الله عن قوم لوط في ذمهم له ولأهل بيته بأنهم أناس يتطهرون، ولا يشغله عن إصلاح أمر الأمة لذّاتُ الدنيا.
وأن يكون أدنى الناس وأقصاهم عنده في الحق سواء، على منهاج السلف الصالح من علي، وولديه، وزيد بن علي -عَلَيْهم السَّلام-.
فهذا مذهبنا في هذا الفصل من الإمامة مجرداً، وسيأتي من الأدلة القاطعة على صحته بمشيئة الله وعونه ماوعدنا؛ ونحن نتكلم في بطلان هذه المذاهب التي قدمنا ذكرها مذهباً مذهباً، فنبدأ من ذلك بالكلام على الخوارج؛ لأن قولهم أعم، والإبتداء بذكره أهم، ثم نتبعه بالكلام على المعتزلة لمثل ذلك، ثم نتكلم بعد ذلك على الإمامية.
[الكلام على قول الخوارج في مسألة الإمامة]
أمَّا الكلام على الخوارج: فلنا فيه طريقان؛ جملية، وتفصيلية.
أمَّا الجملية؛ فنقول: إن قولكم بتجويز الإمامة في جميع الناس قول لا دليل عليه، وكل قول لا دليل عليه فهو باطل.
أمَّا أنه لا دليل عليه: فلأن الأدلة عقلية وسمعية، ولا دليل في العقل على وجوب الإمامة على الوجه الذي يصيرها شرعية رأساً؛ لأن الإمامة على مقتضى الشرع جاءت على وجه لولا الشرع لما حسُنت كإهلاك النفوس، وأخذ مال الغير، وقتله إن امتنع من ذلك، وهدم المنازل ، وقطع يد السارق، وتأديب الخائن، وجرمهما سواء بل جرم الخائن أدهى، إلى غير ذلك مما يعلمه العلماء، فهذا كما ترى يوجب في العقل نفي الإمامة فضلاً عن كون العقل عليها دليلاً.
وأمَّا السمع: فهو الكتاب الشريف، والسنة الماضية المقدسة، ولا يمكن إدعاء الدلالة على ذلك منهما -زادهما الله شرفاً-.
وأما الإجماع فبطلان دعوى الدلالة فيه أظهر من أن يخفى.
وأمَّا التفصيلية: فأن نتتبع أهم ما يمكنهم التعلق به من آيات الكتاب الكريم فنذكر منه طرفاً يكون على غيره دليلاً، وكذلك السنة الشريفة نذكر منها على مثل ذلك شاهداً.
أمَّا الكتاب الكريم: فالذي يمكنهم توهم الإحتجاج به آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأشفها قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104)}[آل عمران:104] .
قالوا: فأمَرَ الله -سبحانه- بذلك أمراً واحداً عاماً، والإمام لا يراد إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الجواب عن ذلك؛ أنَّا نقول: إن هذا الكلام بأن يكون عليكم أولى من أن يكون لكم؛ لأن قوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ}[آل عمران:104] تدل على التخصيص للبعض منَّا، وذلك البعض المخصوص هم العترة النجباء، على ما يأتي بيانه بعون الله -تعالى- فسقط تعلقهم بالظاهر، فإن رجعوا إلى التأويل فنحن به أولى.
وأمَّا من معنى الآية: فلأنه قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ}[آل عمران:104] ، فدل على أن المأمور جماعة، والإمامة لا تصح بالإجماع إلا لواحد، فبطل - أيضاً - تعلقهم بالآية من جهة المعنى.
وأمَّا الذي يدل على بطلان تعلقهم بهذه الآية من جهة الحكم: فلأنَّا نقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كانت الإمامة تأتي عليهما لدخولهما في أعمالها، وهما مما يصح قيام الأمة بهما مع فقد الأئمة كما قدمنا.
والإمامة تنفرد بأحكام أخر نحو: قطع السارق على وجه دون وجه، وقتل الزاني على وجه دون وجه، إلى غير ذلك مما لا يجوز لغير أئمة الهدى بما نبينه بمشيئة الله آخراً.
ومما يلحق بذلك مما يتعلقون به قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11)}[الواقعة] ، فحض على المسابقة بالترغيب فيها، وتفخيم حال فاعلها.
وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)}[آل عمران] .
قالوا: وهذا أمر؛ والأمر يقتضي الوجوب على الكافة، والوجوب أعلى رتبة من الجواز في هذا المعنى، والخطاب عام للكافة من الملأ، وهذا يقتضي جواز الإمامة في جميع الناس كما حكيتم عنا.
والمسابقة إلى المغفرة لا تكون إلا بأعلى الطاعات وأكثرها مشقة وليس ذلك إلا للإمامة، قالوا: فثبت ما قلنا.
الجواب عن ذلك؛ أنَّا نقول: هذا خطاب عام كما ذكرتم لكافة المكلفين، ومن جملتهم المماليك والنساء وأهل العاهة، والزمناء؛ لأن الطاعة إسم لما يريده المطاع مما يدخل تحت إمكان المطيع عند جميع العلماء، فلو كان ذلك يفيد بظاهره الإمامة لدخل من أطبقت الأمة على خروجه عنه من المماليك، والنساء، وأهل العاهة، والزمانة من الورى، فسقط التعلق بالظاهر.
فإن قالوا: نحن نخرج من ذكرتم على هذا الظاهر بأدلة.
قلنا: فلستم بالتأويل أولى منَّا، وكذلك نحن نخرج من سوى ولد الحسن والحسين بأدلة تأتي فيما بعد إنشاء الله تعالى.
[الكلام على حديث ((أطيعوا السلطان.....إلخ))]
فإن قيل: فقد قال النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((أطيعوا السلطان ولو كان عبداً حبشياً)) .
قلنا: هذا لم يصح عنه -عليه وآله السلام-، فإن صحّ فلا تعلّق لهم به لوجهين.
أحدهما: أن لفظ السلطان إذا أُطلق لم يسبق إلى الفهم منه الإمام، وكلام النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يجب حمله على السابق إلى الأفهام، فإذا أريد به الإمام كان لابد من قرينة كقولهم: سلطان الحق، وما أشبه ذلك.
وثانيهما: أن ظاهر الخبر إن حمل على الحقيقة دلّ على بطلان ما قالوه، فكيف يجعلونه عليه دليلاً !!؟؛ لأن لفظ العبد في الشريعة إذا أطلق ناقض لفظ الحُر فكان يفيد بظاهره جواز إمامة المملوك وهم لا يقولونه، ولأنهم لو قالوه بطل؛ لأن المملوك لا يلي أمر نفسه ولا تصرفه، فكيف يلي أمر الكافة والتصرف في الأمة عموماً !!؟، فسقط التعلق بظاهره، فإن عدلوا إلى التأويل فنحن عليه أقوى، وبه أدرى.
وقولنا: إن المراد بهذا الخبر، إن صح، الحض على طاعة الأمراء كما أمَّر -عليه وآله السلام- زيداً([2]) وكان فيما تقدم عبداً فبيَّن بذلك -عليه وآله السلام- أن العبودية في باب الإمارة لا تجيز المخالفة وأن الطاعة لسلطان البلدة أو الجيش من الله -سبحانه- فرض وإن كان حبشياً؛ لأن التحري في ذلك إلى الإمام، وقد يكون فيهم من يصلح لذلك بخلاف الإمامة فلا تكون إلا شرعية، كما نذكره في موضعه، فعلى هذا يحمل هذا الخبر، إن صح، وقس على ما قدمنا جميع ما يأتي من هذا الباب موفقاً إنشاء الله تعالى.
_____________
([2]) ـ يريد الإمام عليه السلام بزيد زيد بن حارثة الذي أمَّره رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على الجيش في غزوة مؤتة بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب عليه السلام؛ لأنه قال: ((إن قُتل جعفر فزيد بن حارثة، وإن قتل زيد فعبدالله بن رواحة)) رحمهم الله جميعاً، ومراد الإمام أن زيد بن حارثة كان عبداً لرسول الله فمنَّ عليه فأعتقه، تمت.
[الكلام على مذهب المعتزلة في الإمامة]
وأمَّا الكلام على المعتزلة: فعمدتهم فيما ذهبوا إليه من جواز الإمامة في جميع قريش وجهان؛ وهما يرجعان عند التحقيق وجهاً.
أحدهما: إجماع الأمة، قالوا على اختيار أبي بكر والعقد له، فلولا جوازها في قريش لما أجمعوا على ذلك؛ لأنهم لا يجمعون على الخطأ.
والثاني: حديث أبي بكر الذي روى أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال: ((الأئمة من قريش)) .
ونحن نتكلم على الوجهين بما يبطل ما ذهبوا إليه ونثبت ما قلنا.
أمَّا الإجماع: فقد بينا -بما تقدم- أن الإجماع لم يقع على إمامة أبي بكر وقتاً واحداً من ثم إلى يومنا هذا؛ لأن النزاع وقع - كما بينا- على أبلغ الوجوه في الإبتداء، وبعد ذلك كان للسكوت وجه يصرف إليه غير الرضاء، وهو استظهار صاحب الأمر والخوف من انشقاق العصا.
وأما إحتجاجهم بالخبر فقد بينا، بما تقدم، أن الإحتجاج به لنا أولى؛ لأن (مِنْ) للتبعيض، ونحن بعض قريش؛ بل أشرف أبعاضها.
ولبيان الجنس، ولا شك في أن جنسنا قرشيٌّ محضٌ...
[إبطال كون العقد والإختيار طريقاً إلى الإمامة]
وقد ذكرنا العقد والإختيار فلا بد من الإستدلال على أنهما لا يكونان طريقاً إلى الإمامة أصلاً، فنقول: ذلك باطل لوجهين.
أحدهما: أنه لا دليل في العقل ولا في الشرع يدل على كون العقد والإختيار طريقاً إلى الإمامة.
أما العقل: فقد ثبت أن الإمامة من أمور الدين المهمة، وأركانه القويَّة، فلا يجوز أن يثبت بطريق لا توصل إلى العلم.
ومن قال بالإختيار لم يوجب أكثر من خمسة يعقدون لواحد بأن يختاروه باجتهاد أنفسهم، ولم يشرط أحد من أهل هذه المقالة عصمتهم، وإذا كان الأمر كذلك فالعقل كما يجوز نصيحتهم يجوز خيانتهم أو محاباتهم، كما نعلم من حال أَنْفُسِ من اختار أبا بكر، ولأنَّا لو قطعنا على نصيحتهم؛ لم نأمن من خطأهم في إختيارهم، فيختارون من يكون إختياره سبباً لإشتعال نار الفتنة، وتنكباً لاحِبَ المحجة كما قد كان...
والإمامة إنما وجبت لكونها مصلحة في الدين، ولايعلم المصالح إلا الله -تعالى- فطريقها يجب أن تكون معلومة بأدلة معلومة من قبله تعالى، ولا يمكنهم إدعاء الإجماع في معنى العقد وإن إختلف في عين الإمام ومنصبه؛ لأنَّا نعلم أن عليًّا ومن قال بقوله، لم يفزعوا إلى العقد أصلاً، فلهذا قال العبَّاس -رضي الله عنه-: (أبسط يدك لأبايعك)، ولم يقل: اجتمع مع أربعة ونعقد الأمر لك.
ولأن عليًّا -عَلَيْه السَّلام- كان يلزمهم الإتباع له في مقامات المجادلة إلزاماً يكشف عن إسقاط العقد جملة؛ لأن صاحب العقد لا يلزمهم بيعته ولا طاعته إذ الأمر في ذلك إليهم دونه.
فإن إختاروه وعقدوا له؛ لم يكن له إعتراضهم،وعلي -عليه السلام- دعاهم إلى بيعته تصريحاً، وتعريضاً، وإشارة، وبكتهم، وذكرهم، وكذلك الأئمة من أولاده -عليه السلام- إلى يومنا هذا، إذا علم أحدهم تَوَجُّهَ الفرض عليه دعا الناس إلى بيعته، وألزمهم الدخول فيها، ولم يكل ذلك إليهم ولا يفوضهم في إختياره، وذلك ظاهر.
[الكلام على مذهب الإمامية في الإمامة]
[أولاً: إبطال النص]
وأمَّا الكلام على الإمامية: فاعلم أن كلامهم مبني على النص الذي ادعوه، ومنذ بيان بطلانه يبطل ما قالوه فيه وما ابتنى عليه من قول الباطنية
والذي يدل على بطلانه؛ أنَّا نقول:إن التعبد بالنص لا يخلو إمَّا أن يكون عاماً للكافة لازماً فرضه للجميع، أو لا يكون كذلك، ولا قائل بأنه لا يلزم أحداً، فإن كان كذلك لم يكن بد إمَّا أن يكلف به البعض، أو الكل، وترددت القسمة بينهما.
فإن قيل: تكليف العلم بالنص والمنصوص عليه فرض على الجميع.
قلنا: قد ثبت أن الله -تعالى- عدل، حكيم، لا عبث في حكمته، ولا ظلم في شيءٍ من أفعاله، فكان لا يخلو إما أن يجعل لنا إلى العلم بما تعبدنا به طريقاً، أو لايجعل.
باطل أن لا يجعل لنا إلى العلم بما كلفه طريقاً؛ لأن إزاحة العلَّة عليه واجبة...
وحصول العلم لنا بغير طريق مستحيل فكان تكليفه لنا بذلك يكون تكليفاً بما لا يُعلمَ، وتكليف ما لا يُعلمَ قبيح، والله -تعالى- لا يفعل القبيح لما تقدم بيانه.
وإن جعل لنا إليه طريقاً فهي لا تخلو إمَّا أن تكون سمعية أو عقلية، ولا طريق في العقل يوصل إلى ذلك.
والسمع هو الكتاب، والسنة، والإجماع، وهم لا يدعون ذلك من الكتاب، ولا إلى تصحيحه سبيل، ومن جهالهم من يقول: قد كان في الكتاب فسقط، وسيأتي الكلام على أن القرآن لا يجوز أن يسقط منه شيءٌ.
ويؤكد ذلك أن هذا التجويز يفتح باب الجهالات؛ لأن لمدعٍ أن يدعي أن صيام شهر مع شهر رمضان قد كان فرض علينا بالكتاب ثم سقط لفظه ونسخ، وكذلك الحج إلى بيت آخر، إلى غير ذلك، فإذا كان ذلك باطلاً قضي ببطلان ما أدى إليه.
وإن ادعوا طريقه من السنة؛ قلنا: العلم بذلك لا يخلو إمَّا أن يكون ضرورياً أو مكتسباً.
فإن كان ضرورياً: إشترك في العلم به الكافة ممن احتج به، ومن احتُجَّ به عليه، كما ثبت في النص على أمير المؤمنين وولديه -عَلَيْهم السَّلام- ووقع الكلام في كيفية الإستدلال به لا غير.....
وإن كان العلم به إستدلالياً: فلا يثبت إلا بالتواتر والنقل المطرد([3])، ولا يمكنهم تصحيح إضافة هذا القول إلى آحاد المتقدمين من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ولا الصالحين في الصدر الأول، فكيف يقال بأنهم نقلوه نقلاً متواتراً !؟، ولأنهم في أنفسهم([4]) يأتون لأمرهم على الوَهَم؛ لأنهم لو كانوا من النص على يقين لم يختلفوا فيه كما لم نختلف في النص على أمير المؤمنين وولديه -عَلَيْهم السَّلام- لفظاً ولا حكماً، فلما اختلفوا في ذلك، كما حكينا عنهم، وهم لا ينكرون ما حكينا، علمنا؛ بل علم كل عاقل منصف أنهم على وهوم لا حقيقة لها عندهم فضلاً عن غيرهم، ولا قائل بأن التعبد بالعلم بالنص المنصوص عليه يخص بعضاً دون بعض.فإن قيل بذلك؛ بطل؛ لأن الإجماع منعقد بأن فرض الإمامة من الفروض التي عم الحكيم -سبحانه- بالتعبد بها جميع العقلاء، فالقول بغير ذلك لا يجوز، فقد تبين لك بطلان قولهم بالنص من كل وجه بالبرهان الواضح.
__________________
([3]) ـ النقل المطرد: هو الذي إذا ثبت صح الإستدلال به، وإذا انتفى بطل الإستدلال به، ويلزم من الإستدلال به على الوجه الصحيح ثبوت صحته، ومن ثبوت صحته صحة الاستدلال به. تمت.
([4]) ـ الضمير عائد إلى الإمامية، تمت.
[ثانياً: إبطال قصر الإمامة في ولد الحسين(ع) دون ولد الحسن(ع)]
فإن قيل: فما تقولون لقائل إن قال: إن قصر الإمامة على ولد الحسين -عَلَيْه السَّلام- دون ولد الحسن ثابت بإجماعكم مع الإمامية بجوازها فيهم على الوجه الذي أوجبتم به قصر الإمامة على أولادهما جميعاً، والإجماع آكد الدلالة؟.
قلنا: هذا باطل بوجهين:
أحدهما: أن الإجماع سابق من الأئمة الكافة من العترة الطَّاهرة من ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- ومن الأمة على خلافه ؛ لأنه لم يعلم في الصدر الأول منهم -عَلَيْهم السَّلام- ولا من غيرهم القول بأن الإمامة لا تجوز في أولاد الحسن؛ بل كان القائم متى قام تابعه الفريقان من العترة -عَلَيْهم السَّلام-، والعلم بذلك ضروري لمن علم قصصهم وأخبارهم وتتبع آثارهم.
هذا محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، النفس الزكية([5]) -عَلَيْه السَّلام- إجتمع عليه جميع العترة الطَّاهرة من ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- فبايعوه وآثروا الجهاد بين يديه على الحياة في الدنيا حتى كان أول قتيل من المسودة الفجرة قتل بين يديه -عَلَيْه السَّلام-، إشترك في قتله موسى وعبدالله ابنا جعفر بن محمد -عَلَيْه السَّلام-، وكان من أكابر من حضر في حروبه - أيضاً - من أولاد الحسين -عليه السلام- عيسى والحسين ابنا زيد بن علي.
_____________
([5]) ـ ستأتي ترجمته وذكر من بايعه في الجزء الثاني إنشاء الله تعالى.
والثاني من الوجهين؛ أنَّا نقول: هذه الدعوى لاحقة بدعوى اليهود -لعنهم الله تعالى-؛ لأنهم قالوا لنا: ألستم قد أجمعتم معنا على نبوءة موسى -عَلَيْه السَّلام- وخالفناكم في نبوءة محمد -عليه وآله السلام- فنحن بالحق أولى؟.
فإنَّا نقول: قد أجمعنا على نبوءة موسى الذي بشر بنبوة محمد وعيسى -عَلَيْهما السَّلام-، فإن كان موسى الذي ذكرتم جحدهما؛ فنحن له جاحدون، وبنبوته كافرون.
وجوابنا لأهل هذا القول بجوابنا لليهود؛ فإنَّا نقول بجواز الإمامة من ولد الحسين -عَلَيْه السَّلام- لمن لم ينكر جواز الإمامة لأولاد الحسن -عَلَيْهم السَّلام-، فمن أنكر جواز الإمامة في ولد الحسن من ولد الحسين لم تجز عندنا إمامته، وسقطت بذلك عدالته، فضلاً عن إمامته، فقد رأيت كيف لحق التفريق بين الأئمة الهادين بالتفريق بين النبيئين؛ لا نفرق بين أحد منهم {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285)}[البقرة] .
ومع ذلك فإن معولهم على النص وعند بطلانه يرتفع الخلاف بيننا وبينهم، وقد بينا بطلانه بما تقدم، وإذ قد فرغنا من الكلام فيه وفي توابعه، فلنتكلم على أقوالهم التي بنوها عليه قولاً قولاً بأدلة مختصرة كافية لكل مستبصر متدبر.
[إبطال قول الإمامية بالغيبة على الإمام مع صحة إمامته]
فأولها: دعواهم للغيبة على الإمام مع صحة إمامته، وحاجة الأمة إليه، ولزوم طاعته.
فنقول ولا قوة إلا بالله: الذي يدل على بطلان دعوى الإنكتام والغيبة مع شدة الحاجة إلى الإمام قول الله -سبحانه وتعالى- فيه خصوصاً، وفي العلماء عموماً: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28] ، وقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا}[البقرة] ، وهذا غاية التهديد والذم، كما ترى، والأئمة من أخشى الناس لله -تعالى- والمعصية عند المخالف لا تجوز عليهم.
وعندنا فيما تعلق به الوعيد تسقط إمامتهم، والبيان لا يكون مع الإنكتام عند جميع العقلاء.
وعندنا أنه أريد لأمور شرعية لا يقوم بها سواه، وعندهم أنه منوط به مصالح الدين والدنيا، حتى لا يُستغنى عنه في شيءٍ من الأشياء، فالحاجة كما ترى إلى ظهوره واشتهاره على قولهم أقوى، ويؤدي إلى أن لا يجوز عليه الإنكتام طرفة عين، إذ ما به وقت إلا والحاجة إليه داعية لاستغراق الحوائج في الدين والدنيا بجميع الأوقات.
والحكيم - سبحانه - لا يخرجنا إلى أمر في ديننا إلا ويجعل لنا إليه سبيلاً؛ ولأن الإقتداء بالنبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- واجب على الأئمة من ولده -عليه وآله السلام- خصوصاً، ولم لا وقد قال تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}[النور:63] !؟، والأمر يشمل القول والفعل، وذلك معنى الإقتداء.
وعلم وجوب اتباع منهاجه من دينه ضرورة، ولم يزل -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- شاهراً لنفسه، داعياً إلى ربِّه، بأحسن الموعظة، والدعاء من الإبتداء إلى الإنتهاء من لقاء ربِّه تعالى.
وكذلك عليٌّ وولداه -عَلَيْهم السَّلام- شهروا نفوسهم لإيجاب الحجَّة على الأمة حتى لقوا الله -تعالى- وكيف يكتمون أنفسهم وهم المفزع في الغوامض والمشكلات لطلاب الدين !؟، فلو كِيْدَ الدينُ لم يُكَدْ بأكثر من مغيب أربابه، وورثة كتابه، وكيف يضاف ذلك إلى اختيارهم أو اختيار الله فيهم !؟.
[مجادلة حسنة للإمامية في إبطال الغيبة]
ومما نجادلهم به؛ أنَّا نقول لهم: إمامكم يا معشر الإمامية في حال هذه الغيبة مجاهدٌ أم قاعدٌ؟.
فإن قالوا: مجاهدٌ، عُلِمَ بطلان قولهم ضرورة، وإن قالوا: قاعدٌ، قلنا: فالقائمون من أهل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في عصرنا هذا وفيما بيننا وبينه من الأعصار أفضل منه بشهادة الصادق الذي لايكذب؛ وذلك ظاهر في قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95)}[النساء:95] ، وفي قوله سبحانه: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}[الحديد:10] .
ومعلوم أن من قام بعده قد اختصوا بالإنفاق قبل فتحه، الذي تدعون له، وقاتلوا فكانوا أعظم منه درجة بنص الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا مخلص لهم من الإلزام إلا الرجوع إلى الحق، وأن فرضه -عَلَيْه السَّلام- قد سقط بالموت الذي يزيل التعبد، ولا بد لكل حي، سوى الحي لذاته، من ورود حوضه.
ومما يقال لهم: أخبرونا؛ هل تقضون بإمامة إمام يخالف عليًّا -عَلَيْه السَّلام- في منهاجه ويتبع غير سبيله؟.
فإن قالوا: نعم، أبطلوا بإجماع الأمة القائلين بتقديم علي وتأخره، وإجماع العترة الطاهرة -عليهم السلام- أن كل إمام لا يسلك منهاج علي لا يجوز القول بصحة إمامته؛ ولهذا قال إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن -صلوات الله عليهم- بعد قيامه في البصرة ومتابعة الناس له، وقد حضَّه بعض أصحابه على ترك الرفق الذي كان من شيمته وشيمة آبائه -عَلَيْهم السَّلام- مخاطباً لذلك الحاض له: "هل هي إلا سيرة علي أو النار"، فتركوا نزاعه، وعلموا أنه -عَلَيْه السَّلام- على منهاج لا يجوز تنكبه.
وإن قالوا: لا بد من اتباعه، ولا بد من سلوك منهاج علي -عَلَيْه السَّلام- وإلا بطلت إمامته.
قلنا: فمنهاج علي المعلوم لأهل الآثار ضرورة عَرْضُهُ لنفسه على الكافة وذِكْرُ فضائله التي يمر بها عليهم في المجامع الحافلة، إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
فمن قام من أولاده -عَلَيْه السَّلام- من بعده حتى استجنت قلوب أعاديه، واشرأبت قلوب أوليائه، وثقلت على الظالمين وطأته، فمن كتم نفسه وضيع رعيته بعد ذلك، علمنا أنه قد سلك غير منهاجه ، وسقطت بذلك إمامته، ولم تلزم بعد ذلك طاعته؛ لأنَّا لا نأمن إن رجع إلينا ونهضنا معه أن يقودنا ثانياً كما فعل أولاً، ومثل هذا لا يجوز على الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- مع بقاء الإمامة، فيجب القضاء بفساده.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون فعل ذلك لأمر بلغه عن علي -عَلَيْه السَّلام- !؟، فالعلوم عندهم محفوظة، وهم خزائنها؟.
قلنا: لأن عليًّا -عَلَيْه السَّلام- إن أمره به فلا يخلو إمَّا أن يكون بِرّاً أو فُجُورَاً، ولا يجوز أن يأمر -عَلَيْه السَّلام- بالفجور لما بينا في الدلالة على إمامته من ثبوت عصمته.
وإن كان بِرَّاً لم يجز أن يأمر به أحداً من عترته إلا بعد فعله، لقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}[البقرة:44] ، وأمثال هذا كثير لو استقصيناه؛ ولكنا نميل إلى الإختصار، فإن رغب في الإزدياد من ذلك راغب وجد عندنا منه بحمد الله شفاءَه وحاجته.
وأمَّا قولهم: إن أحداً من أولاد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بعد الحسن بن علي العسكري([6]) -عَلَيْه السَّلام- لم يصلح للإمامة إلى يومنا، فذلك باطل؛لأنَّا قد علمنا قيامهم، وجهاد العلماء وأهل البصائر بين أيديهم، والقيام فرع على الصلاح، فبطل قولهم.
[الكلام على قول الإمامية بأن الإمام يعلم الغيب ويظهر على يديه المعجز]
فإن قالوا: إنَّا نريد بأن أحداً ممن قام بعده -عَلَيْه السَّلام- لم يعلم الغيب، ولم يظهر على يديه المعجز.
قلنا: وذلك قولنا فيه -عَلَيْه السَّلام- وفيمن قبله من آبائه الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-، ولا من جميع الخلق لم يعلم الغيب، ولا يصح أن يعلمه، ولا ظهر المعجز على يد أحد سوى الأنبياء.
فإن قيل: وما أنكرتم من ظهور المعجز على يديه -عَلَيْه السَّلام- !؟.
قلنا: لأنه لو ظهر على يديه لعلمناه كما علمنا معجزات الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام-.
أمَّا أنه كان يجب أن يحصل لنا العلم به؛ فلأن المعجزَ أشهرُ الحوادث؛ لأنه يخرق العادة المستمرة فكان يجب ظهوره لذلك.
وأما أنَّا لا نعلمه؛ فليس يُعبِّر عن أنفسنا سوانا، وإن ادعوا فيهم الضرورة كذبهم العقلاء، وإن ادعوا الإكتساب فطرقه معدومة فيهم وفينا.
_______________
([6]) - هو الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين.
من عظماء أهل البيت علماً وفضلاً وزهداً وورعاً وعبادةً ، وهو الإمام الحادي عشر عند الإمامية حبسه المعتمد بن المتوكل الخليفة العباسي بسر من رأى ، ثم أخرجه ، وله معه مواقف تدل على فضل الحسن العسكري ، وتوفي بسر من رأى ، مرض في أول شهر ربيع الأول سنة (260هـ) ، وتوفي لثمان خلون منه في نفس السنة ، وعمره (29) سنة ، أو (28) سنة ...
ومن ذلك أنَّا نعلم أن المعجز هو الذي صار به النبيء نبيئًا؛ لأنه لا دليل على نبوءة الأنبياء -عليهم السلام- إلا ظهور المعجز على أيديهم، ومدلول الأدلة لا يختلف شاهداً ولا غائباً، وهذا يوجب كون الأئمة أنبياء، ومن قال به إنسلخ من الدين بلا امتراء، ولأن ذلك كان ينفرنا عن النظر في معجزات الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام-؛ لأنَّا إذا علمنا مشاركة غيرهم لهم في أعظم ما خصُّوا به ، وهو المعجز الذي تميزوا به على سائر البشر، نفرنا عن النظر في معجزاتهم؛ لأنها حينئذٍ تكون بمنزلة الحوادث الواقعة من قِبَله تعالى، وما أدى إلى ذلك لم يجز حصوله من قبله عز وعلا، ولأن الإمام لا يراد إلا لإمضاء أحكام شرعية من جهة الظاهر، قد استقر العلم بصحتها بظهور المعجز على يدي من شرعها؛ فكان ظهور المعجز لتصحيحه ثانياً يكون عبثاً.
فإن قيل: إن المعجزة دلالة الصدق ولا يكون الإمام إلا صادقاً؟
قلنا: لو كان ذلك كذلك لو جب ظهوره على كل صادق ولو لم يصدق إلا مرة واحدة أو يوماً، لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً و(لا([7])) غائباً.
فإن قيل: إنما وجب ظهور المعجز على يديه لتعلق الأحكام به وتعرف المصالح من قبله؟
قلنا: أمَّا المصالح فقد عرفت من جهة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ولا يجوز إعتراض الشك لأحد من المكلفين -قولاً واحداً- في شيءٍ منها.
وأمَّا تعلق الأحكام وفزع المسترشدين إليه؛ فلو وجب ظهور المعجز عليه لو جب ظهور المعجز على أيدي القضاة والأمراء.
فإن قيل: إنما قلنا بوجوب ظهور المعجز على يديه لنصدقه فيما ادعى من زيادات في القرآن قد كانت نسخت؛ فيها الدلالة على صحة قولنا.
_______________
([7]) - زيادة من نخ (ن) .
قلنا: هذا لا يجوز؛ لأنه يفتح باب الجهالات، كما قدمنا، فما أدى إليه وجب كونه باطلاً ؛ ولأن الله -تعالى قد أخبرنا- وهو لا يخبر إلا بالحق، كما قدمنا، وذلك ظاهر في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)}[الحجر] ، وقال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17)}[القيامة] ، وما جَمَعه وحفظه لم يحتج إلى جمع غيره وحفظه له.
فإن قيل: إنما نريد المعجز لنعلم استواء ظاهره وباطنه؟
قلنا: لا تعبد علينا في باطنه، ولا يتعلق بباطنه شيء من تعبدنا؛ لأن الشرع قد استقر على وجه لا يمكن الزيادة عليه في الأصول، ولا النقص([8]) منه، فإن سَلَّمَ ظاهر الشرع المعلوم واستقامت أموره فيه لزمتنا طاعته، وإن غير شيئاً من الشرع المستقر سقطت إمامته، فلا وجه لاعتبار المعجز في شيءٍ من أمره.
[الدليل على بطلان كون العلم في الإمام طبعاً]
وأما الذي يدل على بطلان كون العلم فيه طبعاً؛ فإنَّا نقول: ما معنى قولكم بحصول العلم له بالطبع؟، أتريدون أنه عالم لذاته؟ فتلك من صفات الباريء -تعالى- التي لا يشاركه فيها مشارك، وكيف يجوز ذلك في أحد سواه وقد أمر نبيئه أن يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ، فنفى بذلك علم الغيب عن غيره، وأمر نبيئه بالإعتراف بالقصور عن نيل ذلك، وهو -عليه وآله السلام- أعلى من الأئمة؛ فقال عز من قائل: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ}[الأعراف:188] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(34)}[لقمان] .
___________
([8])ـ النقصان (نخ).
والإمام نفس منفوسة بالإجماع وغيره من الأدلة، فلو علم الغيب لعلم ذلك؛ ولأنه لو علم لذاته وهو جسم؛ وجب في كل جسم أن يعلم جميع المعلومات؛ فكان يجب ذلك لنا، ومعلوم خلافه.
فإن قيل: إنا نريد بذلك أن الله -تعالى- خلقه عالماً بجميع المعلومات؟
قلنا: ذلك مستحيل؛ لأنه إذا استحال علمه لذاته؛ كان لا بد من أمر لأجله علم وإلا بطل كونه عالماً، وليس ذلك إلا العلم من قبل الباريء -تعالى- الذي يحله منه أين شاء، ولا يصح علمه بجميع المعلومات حتى يُوجِدَ سبحانه وتعالى فيه من العلوم ما لا يتناهى، لاستحالة تعلق العلم الواحد في الوقت الواحد على جهة التفصيل بأكثر من معلوم واحد([9])، فلو وجب مثل ذلك له وجب لنا.
وإيجاد ما لا نهاية له محال يعلم ذلك جميع العلماء؛ بل عند الكشف جميع العقلاء، وكان يلزم أن لا يخرج عن العلم ما دام موجوداً، فيكون عالماً في حال منامه وموته، وعالماً من جميع جوانبه، وقد علمنا أن بعض أعضائه يقطع كاليد والرجل، وعلمه في الحالات على سواء، وقد علمنا أن من جوز كون الميتِ في حال موته، والنائمِ في حال منامه عالماً ؛فقد أحال فيما ادعى، وقد أدى إلى هذه المحالات القول بوجوب علم الإمام بجميع المعلومات فيجب أن يكون محالاً؛ لأن ما أدى إلى المحال فهو محال.
____________
([9]) - فلا يتعلّق العلم بالجسم في كونه ساكناً متحركاً في حالة واحدة فهو محال ، فلا يتعلق به العلم إلا على صفة واحدة في وقت واحد إما متحركاً أو ساكناً ، فلا يقال : علم محمد الجسم متحركاً ساكناً في حالة واحدة . والله أعلم.
[الدليل على بطلان ما ادعته الإمامية لأئمة الهدى من علم الغيب]
ومما يدل على بطلان ما ادعوه لأئمة الهدى من علم الغيب؛ أنَّا نقول لهم: إن كثيراً من الأئمة -عليهم السلام- قد قتلوا بالسُّم منهم الحسن بن علي([10]) -عليه السلام-، و علي بن موسى الرضا([11]) -عَلَيْه السَّلام-، فلا بد لكم من أحد وجهين:
_______________
([10]) ـ ستأتي ترجمة الإمام الحسن عليه السلام، وجميع الأئمة الذين لم يترجم لهم في هذا الجزء في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى، تمت.
([11]) - الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أبو الحسن، وأمه أم ولد يقال سكربونيه، وقيل: الخيزران ولد سنة ثلاث وخمسين ومائة، قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام في كتاب الشافي : كان نسيج وحده وحيد عصره علماً وكمالاً وفضلاً، واستدعاه المأمون في أيامه فلما وصل لم يعذره من عقد البيعة له، وكان المأمون وأولاده وأهل بيته أول من بايعه ثم الناس على مراتبهم والأمراء والقواد، وجميع الأجناد وأعطى الناس المأمون عطاءاً واسعاً للبيعة، وضرب اسمه في السكة والطراز وجعل له موضعاً في الخطبة...إلى قوله: ولم يزل علي بن موسى الرضا مع المأمون يعرف حقه ويدين ظاهراً بفضله وتعظيمه حال إقباله من خراسان إلى أن صار بطوس، ثم دس عليه السم فقتله ولم يختلف في قتله بالسم، وإنما اختلف في الكيفية، فقيل: ناوله إياه في عنب، وقيل: إن الرضا اعتل علة خفيفة وكان يأمرهم بشرب الدواء فقيل أمرهم بتأخر إطعامه وأتى فسأل: هل أكل شيئاً؟ قالوا: لا، فأظهر غضباً وغيظاً، وقال: هاتوا عصير الرمان، وكان قد أمر رجلاً من خواصه طول أظافيره فجعل المأمون يكسر الرمانة من بعضها ويعطي الذي طول أظافيره بعضها فيقول إعصر لأخي فيعصر إلى إناء قد أعده حتى حصل منه ما أراد وناوله إياه فشربه فكان فيه حتفه، ولما مات أظهر عليه جزعاً عظيماً...إلى قوله: وكان بيعة المأمون لعلي الرضا لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين...إلى قوله: وكانت وفاته عليه السلام في آخر صفر من سنة ثلاث ومائتين، انتهى.
وكان عمره خمس وخمسون سنة، ومشهده بطوس، قال فيه جده رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((ستقتل بضعة مني بخراسان ما يزورها مكروب إلا نفس الله كربته، ولا مذنب إلا غفر الله ذنبه))، وكان له أخبار عظيمة وكرامات ومقامات حميدة، وكان من كبراء أهل البيت وفضلائهم وأئمتهم عندهم وعند الإمامية، وزوجه المأمون بابنته أم حبيب، انتهى.
إمَّا الرجوع إلى الحق ونفي الدعوى لهم عِلْمُ جميع المعلومات.
وإما القول بما لايحسن من أحد من سائر المسلمين، فكيف بالأئمة النجباء من القول بأنهم تعمدوا قتل أنفسهم، وكان ذلك - أيضاً - يخرجهم من الإيمان ويوجب دخول النار، وتسقط الإمامة !!؟ لأنَّا روينا بالإسناد إلى النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((من تحسّى سُّماً فسمه في يده يتحساه في النار خالداً مخلداً، ومن وجى نفسه بحديدة فحديدته في يده يجا بها بطنه في النار خالداً مخلداً([12]))) .
فأردتم إثبات الإمامة بأمر أسقطها على أشنع الوجوه وهذا لا يخفى على عاقل.
______________________
([12]) ـ أخرجه البخاري في كتاب الطب (10/258) رقم (5778) ومسلم في الإيمان (1/103- 104) رقم (175/ 109) والطبراني في الأوسط (1/469) رقم (1730) عن أبي هريرة، ورواه الإمام المرشد بالله في الأمالي (2/308) عن أبي هريرة.
..
[نفي الإمامة عمن أغلق بابه وأرخى ستره]
وأما نفي الإمامة عمن أغلق بابه، وأرخى ستره: فلأنَّا لا نريد الإمام إلا لسد الثغور، ورأب الثلم، وسياسة الرَّعية وتفقد أحوالها، وأخذ الحقوق، وإقامة الحدود، وتجييش الجيوش، وحفظ بيضة الإسلام، ومعلوم أنه مع التغيب والإنكتام وإرخاء الستر وطول الحجاب لا يتمكن من أكثر ما ذكرنا فينتقض الغرض بإمامته؛ لأن وجود الإمام على الحد الذي ذكروه لا يزيد على وجود جبريل وميكائيل؛ لأن كل واحد منهم محق قد توارى عنا؛ ولأن العترة الطاهرة قبل حدوث هذه الأقوال الجائرة قد أجمعوا على أن الإمام إذا احتجب عن رعيته ولم ينفذ أمورهم، ويُقَوِّم أوَدَهم([13])، ويغني سائلهم، ويقسم بينهم فيئهم، خرج عن كونه إماماً؛ لأنه لا يراد لغير ذلك من الراحة والدَّعَة، وكيف يكون إماماً من نام الضحوات، وسكن إلى اللذات !!؟، كلا؛ حتى ينعقد نقع الخميس([14]) على جبينه، ويذُب عن المسلمين كما يذُب الليث عن عرينه([15])، فيصدع ببسالته قلوب المعاندين، ويرأب بشهامته صدع الدين، على منهاج أبي السبطين وولديه -صلى الله وملائكته عليهم وعلى من سار بسيرهم من أولادهم البررة ؛ كأبي الحسين زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- ومن حذا حذوه من العترة الطاهرة عليهم جميعاً أفضل السلام-.
____________
([13])ـ أوِدَ الشيءُ اعْوَجّ وبابه طرب. تمت (م.ص).
([14]) ـ الخميس: هو الجيش لأنه خمس فرق: المقدمة، والقلب، والميمنة، والميسرة، والساقة. تمت قاموس.
والنقع: هو الغبار.
([15]) ـ العرين: مأوى الأسد الذي يألفه. تمت قاموس، ومختار صحاح.
[الكلام في أن الإمام لا يجب كونه معصوماً]
وأما الكلام في أن الإمام لا يجب كونه معصوماً: فقد دخل بعض الكلام فيه تحت الكلام في نفي ظهور المعجز على يديه.
ومما يحرر ذلك أنا نقول: لم قلتم بعصمته؟.
فإن قالوا: لنعرف المصالح.
قلنا: المصالح لا تعرف إلا من جهة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، كما قدمنا، ولا يجوز أن يعرفنا الإمام مصالح أخر لعلمنا ضرورة من دين النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أن شرعه لا ينسخ كما علمنا أنه خاتم الأنبياء.
فإن قيل: إنَّا نوجب عصمته؛ لأنَّا لو لم نقل بها جوزنا خيانته للمسلمين.
قلنا: فهذا يوجب العصمة في القضاة وأمراء الإمام، وأحد لم يقل بذلك.
فإن قيل: إن الإمَام مُغن عن عصمتهم؛ لأنه يثبتهم إذا زاغوا، وليس كذلك هو؛ لأن يده فوق أيدي الكافة فلا تثبت له إلا العصمة.
قلنا: ما قلتموه لا يوجبها؛ لأن خيانته للأمة لا تخلو إمَّا أن يكون فيما يخصه وأمور الشريعة منه سالمة، أو يكون في أمور الشريعة الطاهرة.
فإن كانت في الوجه الأول، وكانت بينه وبين ربِّه لم يضرنا ذلك ولم يظلم إلا نفسه كما حكى الله -سبحانه- في مثله من العترة بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)}[فاطر] .
وإن كانت خيانته في الأمر الثاني؛ وهو تغيير شيء من الشريعة المعلومة: فيد الله وأيدي الأمة فوق يده، وأبطلوا إمامته، وخرجوا من بيعته، ولم يلزمهم الإنقياد لأمره.
فإن غلب على شيءٍ من أمور المسلمين، كان حكمه في ذلك حكم غيره من المتغلبين، وخرج عن دائرة الأئمة الهادين المهتدين، فلا وجه للقول بعصمته كما ترى، فنسأل الله التوفيق والهدى من الله.
وإذ قد فرغنا من الكلام في بطلان مذهب المخالفين من الخوارج والمعتزلة والإمامية ومن انضاف إليهم من شذاذ الأمة والمنتسبين إليها من الناصبين للإسلام المكائد بالدخول فيه إيهاماً من غير حقيقة لإظهار الله -سبحانه وتعالى- كما وعد على يد نبيئه دينه على الدين كله، والله -تعالى- متم نوره ولو كره الكافرون، وكيف يتم مرام الكائدين، وقد جعل الله في كل وقت من الأوقات من أهل نبيئه الصادقين وأتباعهم من المستبصرين - صلى الله عليه وعليهم أجمعين- من يَفُلَّ شباهم ويخبر الناس أنباءهم، وذلك ثابت فيما روينا عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي موكلاً يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله([16]))) والحمد لله الذي جعلنا رجوماً لشياطين هذا الدين، ورد بنا عنه كيد الكائدين، حمداً كثيراً.
[الكلام في وجوب قصر الإمامة على أولاد البطنين واشتراط المنصب]
فلنتكلم على صحة مذهبنا كما وعدنا معتمدين على الإستعانة بالله -تعالى- والإستهداء له لما يقرب منه ويوجب الزلفة لديه إنه قريب مجيب: وقد تقدم ذكر مذهبنا بكماله في أن الإمامة بعد علي وولديه الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام-، مقصورة على من قام ودعا من أولادهما المنتسبين بآبائهم إليهما، وهو جامع لخصال يجب إعتبارها بعد هذا المنصب الشريف هي: العلم، والورع، والشجاعة، والسخاء، والفضل، والقوة على تدبير الأمر بالعقل والرأي، والسلامة من الآفات المانعة من ذلك كزيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- ومن حذا حذوه من العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام-.
________________
([16]) ـ رواه الإمام أبو طالب في الأمالي بسنده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي -عَلَيْهم السَّلام- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ..الحديث (92).
ولنا في اعتبار هذا المنصب الشريف مسلكان:
أحدهما: أن نقول: قد بينا فساد أقوال المخالفين بالنص وجواز الإمامة في جميع الناس، وقول من قال إنها مقصورة في قريش، ولم يبق من أقوال الأمة سليماً من الفساد إلا هذا القول، فلو قيل ببطلانه لخرج الحق عن أيدي الأمة وذلك لا يجوز؛ لأنهم الأمة المختارة الوسطى، والله -سبحانه- لحكمته لا يختار من يخرج الحق من يده.
وإن شئت الإحتجاج على هذا الوجه، قلت: قد فسد القول بجوازها في جميع الناس؛ وهو قول الخوارج، وفسد القول بثبوت النص؛ وهو قول الإمامية ومن تبعها، فوجب إعتبار المنصب.
وأهل المنصب فرقتان:
فرقة هم القائلون بأن منصبها جميع قريش؛ وهم المعتزلة ومن طابقهم، وقد تبين فساد قولهم.
وفرقة قالوا بأنها مقصورة في ولد الحسن والحسين؛ وهم الزيدية الجارودية، فلو بطل قولهم - أيضاً - لخرج الحق عن أيدي جميع الأمة وذلك لا يجوز لمثل ما قدمنا.
والمسلك الثاني؛ أن نقول: قد أجمعت الأمة، بعد بطلان قول أصحاب النص وقد بطل، بما قدمنا، على جوازها في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام-، واختلفوا فيما سواهم، والإجماع آكد الدلالة.
أما أنهم أجمعوا على جوازها فيهم، واختلفوا فيمن سواهم؛ فذلك ظاهر؛ لأن من قال بجوازها في الناس كلهم؛ وهم الخوارج، قال بجوازها في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- على أبلغ الوجوه، إذ هم من الناس؛ بل هم من خيرهم.
ومن قال بقصرها في قريش فقد قال بجوازها في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- إذ هم من قريش؛ بل هم من خيرهم، فمن قصرها في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- كان، كما ترى، قد أخذ بموضع الإجماع، وتنكب طريق الخلاف؛ إذ الإمامة شرعية فلا يؤخذ دليلها إلا من الشرع، وقد اجتمعت أدلة الشرع من الكتاب الكريم والحجَّة منه، قد قدمناها في أول الكتاب في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ(21)}[الطور] ، وأنهينا التعليق في ذلك إلى غايته التي تعلقت بها الحاجة هنالك.
وفي قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[الحج:78] ، وبينا القول كذلك فيه بياناً شافياً.
[ذكر خبر الثقلين ودلالته على الإمامة]
ومن السنة الشريفة، والأدلة منها كثيرة، على ما ذهبنا إليه، متظاهرة؛ ونحن نذكر منها دليلاً واحداً كافياً كالشاهد لقولنا، والممهد لما يطابقه، وذلك قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)) ، وهذا الخبر مما أطبقت الأمة على نقله واعترفت بصحته([17]) فجرى مجرى الأخبار في أصول الشريعة كالصلاة والصوم وما شاكل ذلك.
وأما الكلام في كيفية الإستدلال به على قصر الإمامة في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام-؛ فوجوه: _______________
([17]) - سيأتي تخريجه...
أحدها: ما تضمن الخبر من وجوب التمسك بهم للتخويف من الضلال، فوجبت متابعتهم، والمتابعة لا تعقل إلا في القول والعمل، وذلك يتضمن معنى الإئتمام، والإئتمام فرع على الإمامة، فثبت بذلك أن الإمامة مقصورة فيهم، فوجب التمسك بمن تمت له الشروط منهم على سبيل البدل، فكانت بذلك مقصورة فيهم.
ومنها: أنه قرنهم بالكتاب، والكتاب يجب الرجوع إليه في إتباع أوامره والإنزجار عن نواهيه، وفيه محكم ومتشابه ومنسوخ، وفيهم -عَلَيْهم السَّلام- ظالم لنفسه، ومخطيء في التأويل، وسابق بالخيرات.
والظالم لنفسه بمنزلة المنسوخ؛ وهو المصرح بالمعصية، والمخطيء في التأويل هو الداخل في المذاهب الخارجة عن الحق؛ وهو بمنزلة المتشابه، والسابق بالخيرات هو الإمام ومن اقتدى به وهو بمنزلة المحكم يجب الرجوع إلى أوامره والإنزجار لنواهيه، وذلك معنى الإمامة، فوجب بذلك قصر الإمامة فيهم كما وجب قصر الأحكام الشرعية على الكتاب؛ لأنها الأدلة على إتباع السُّنة والإجماع وسائر الشرعيات على الترتيب.
ومنها: أن المتبع لهم في باب الإمامة مع كمال الشروط آمِنٌ من مواقعة الضلال؛ لإخبار من يوثق به فيما قال؛ وهو النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-؛ لأن (لن) لنفي الأبد، وقد نفى الضلال عن الكافة بمتابعتهم أبداً، ولايجوز للعاقل العدول عن الظن الأقوى إلى الظن الأضعف، فكيف بحال العدول عن العلم إلى الظن !!؟، فيجب بذلك قصر الإمامة عليهم -عَلَيْهم السَّلام-؛ لأن مثل ذلك لم يوجد في غيرهم، وكونهم عترة النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- مجمع عليه، وضم غيرهم إليهم مختلف فيه، والمجمع عليه يجب اتباعه، والمختلف فيه ينتظر فيه الدليل.
..
[معنى العترة، ومَنْ هم العترة؟]
ولأن أهل الكتب الكبار في اللغة قد ذكروا أن العترة مأخوذة من العتيرة؛ وهو نبت تشعبت عن أصل واحد شبه به أولاد الرجل وأولاد أولاده لتشعبهم عنه([18])؛ ولأن اللفظ إذا أطلق سبق إليهم دون غيرهم، وذلك دليل على أنهم عترة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- دون غيرهم، فإن عنى بذلك غيرهم كان مجازاً.
____________________
([18]) ـ قال في تخريج الشافي للمولى العلامة نجم العترة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله:
قال ابن الأثير عترة الرجل: أخصّ أقاربه، قال: والعامة تظن أنها ولد الرجل خاصة، وأن عترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ولد فاطمة هذا قول ابن سيده.
قلت: الولد هو الأخص فظن العامة أصاب الواقع فلا يجوز لك إيهام خطئهم، قال ابن الأعرابي: عترة الرجل ولده وذريته وعقبه من صلبه، قال: فعترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ولد فاطمة البتول.
وقال المنصور بالله الحسن بن محمد كقول الإمام عبدالله بن حمزة هنا أن العترة مأخوذه من العتيرة وذكره في المجمل لابن فارس، وفي الغريب لابن قتيبة وقد قال في كتاب العين حاكياً عن العرب: عترة الرجل هم ولده وولد ولده.
وقال الناصر الأطروش عليه السلام: إنما سماهم عترة؛ لأن الولد عند والده أطيب ريحانة من عترة المسك، ولهذا تقول العرب للولد ريحانة أبيه، ولا شك أن عترة المسك أطيب من الريحانة، فسمى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أولاده بأطيب الطيب، وجعل ذلك لهم صفة غير مشتركة، والناصر غير متهم في العربية، وقد قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في الحسن والحسين: هما ريحانتاي من الدنيا، من رواية علي عليه السلام، وأبي أيوب، وأبي بكرة، وابن عمر...إلى قوله: وقد مضى ذكر قول علي عليه السلام، وقد سئل عن العترة في قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وعترتي، فقال: (أنا والحسن والحسين والأئمة إلى المهدي لايفارقون كتاب الله ولا يفارقهم حتى يردوا على رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- حوضه) أخرجه أبو جعفر القمي عن جعفر بن محمد، عن آبائه -عَلَيْهم السَّلام-، وهذا تفسير باب العلم والحكمة، ومن للأمة فيما اختلفت فيه من بعد نبيئها فافهم ، ثم إنه لاخلاف بين الأمة أن ولد الرجل وولد ولده عترة له، ومن عدا ذلك مختلف فيه، فلا بد من دليل على كونه حقيقة فيه والأصل عدم الإشتراك والحمل على المجاز أولى من الإشتراك، قال ابن أبي الحديد: وعترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- رهطه الأدنون ولا يصح قول من قال: وإن بعدوا...إلخ ما ذكره في التخريج، انتهى.
ولأن إجماعهم منعقد على أنهم عترة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- دون غيرهم، وأن الإمامة مقصورة فيهم -بعد بطلان قول أهل النص- وإجماعهم حجَّة كما قدمنا، يجب الرجوع إليها وهم أولاد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بعرف الشريعة وبوضع اللغة - أيضاً - الأصلي لاستواء البنين والبنات في أصل اللغة في النسبة إلى الأب، وهم أولاد ابنته المعصومة، المطهرة، المفضلة على سائر نساء العالمين، وهم ذووا أرحام النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
ولأن إجماعَهم، وهو حجَّة كما قدمنا، ثابتٌ على أنهم أولاد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
[وأيضاً فقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا إبني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما([19]))) .
___________________
([19]) ـ أخرجه الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام، ورواه جمال الدين علي بن الحسين بن عز الدين في نهج الرشاد بسنده إلى المؤيد بالله، وأخيه أبي طالب وأبي العباس الحسني بسندهم إلى الإمام يحيى بن محمد المرتضى عن عمه الناصر أحمد بن يحيى بن الحسين عن أبيه الهادي إلى الحق عليه السلام عن أبيه الحسين عن القاسم عن أبيه إبراهيم عن أبيه إسماعيل عن أبيه إبراهيم عن أبيه الحسن عن أبيه الحسن عن أبيه علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما))، وأخرج نحوه ابن عساكر والحاكم عن جابر، وأخرج نحوه أيضاً عثمان بن محمد بن أبي شيبة عن فاطمة الزهراء عليها السلام وعن جابر ويشهد له حديث عمر بن الخطاب عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((كل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأنا أبوهم وعصبتهم)) أخرجه أحمد بن حنبل، والدارقطني، والطبراني، والكنجي، وأبو نعيم، والطبري، وأبو صالح المؤذن والحافظ عبد العزيز الأخضر، وابن السمان، وأخرجه الطبراني والخطيب، وأبو يعلى عن فاطمة الزهراء عليها السلام ومثله أخرجه أحمد والترمذي، وابن ماجه، والحاكم عن أنس، انتهى من التخريج بدون ترتيب.
وقوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إن الله -تعالى- جعل ذرية كل نبي من صلبه وجعل ذريتي في صلب علي([20]))) .
وقد دل على صحة نسبتهم إليه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قولُ الله جل جلاله في عيسى -عَلَيْه السَّلام- حين نسبه إلى إبراهيم في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ}([21])...إلى آخر الآية [الأنعام:84]، وليس إلا من بنته، وهذا دليل واضح على صحة بنوتهما له صلى الله عليه وعلى آله وسلم ]([22]).
فهم عترته بهذه الوجوه جميعها التي يوصل النظر في بعضها إلى العلم، فكيف بمجموعها !!؟، فقد صار اتباعهم واجباً.
_________________
([20]) ـ أخرجه الطبراني، وابن عدي، والكنجي، وابن المغازلي عن جابر، وأخرجه الخطيب، والحاكم أبو الخير القزويني، والكنجي عن ابن عباس، وأخرجه صاحب كنوز الطالب عن العباس، ورواه في كتاب الأخبار لأبي الحسن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن صالح بن علي بن عطية الأصم بسنده إلى العباس، ورواه بهاء الدين علي بن أحمد الأكوع بسنده عن جابر، وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن عبدالله بن يزيد الأنصاري، انتهى من التخريج باختصار يسير.
([21])- وهي قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(84)وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ(85)وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ(86)وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(87)} [الأنعام]، ومحل الشاهد في هذه الآية في قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} حيث ذكر عيسى ونسبه إلى إبراهيم عليه السلام وأثبت أنه من ذريته، مع أن عيسى عليه السلام لا أب له؛ فنسبه إلى إبراهيم عليه السلام بواسطة أمه، وأثبت له البنوة كما أثبتها لسائر الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- المنتسبين إليه من قبل الأب، وهذا ظاهر بصريح الكتاب.
([22]) ـ ما بين القوسين من قوله: وأيضاً فقد قال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-...إلى قوله: دليل واضح على صحة بنوتهما له، غير موجود في (م، ن)، تمت.
وقصر الإمامة فيهم أحد اصول أقوالهم المهمَّة، وغيرهم من الأمة وقريش لم يرد في بابهم ما يوصل إلى الظن فضلاً عن العلم؛ ولأنه قد قيد الخبر في بابهم بقوله: ((أهل بيتي)) وخصهم بما ظهر بلا اختلاف من حديث الكساء حتى أن أم سَلمة -رحمة الله عليها- جاءت لتدخل معهم فدفعها وقال: ((مكانك وإنك على خير، ثم قال: اللَّهُمَّ إن هؤلاء عترتي أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) ومن احتج بهذا الخبر على وجه من الوجوه لم يفرق بينهم وبين أولاد الحسن والحسين -عليهم السلام- إلى سائر الأعصار، ولم يدخل معهم أحد من أولاد علي -عليه السلام- ولا غيرهم([23]) من بني هاشم، ولولا هذا الخبر وكون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب معهم تحت الكساء وإشراك النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- معهم لما قضينا بأن عليًّا -عَلَيْه السَّلام- من العترة.
فإستعمال لفظ العترة في أولاد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- حقيقة، لما قدمنا، مجاز في أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- بدلالة هذا الخبر، وقد صار في علي -عَلَيْه السَّلام- لكثرة الإستعمال حقيقة، وخطاب الحكيم بالمجاز جائز في الحكمة جواز الخطاب بالحقيقة على ما ذلك مذكور في مواضعه من أصول الفقه.
[ذكر الدليل على حجيَّة إجماع الأمة]
وأما أن إجماع الأمة حجَّة: فلقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(115)}[النساء].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله -تعالى- توعد على مخالفة سبيل المؤمنين كما توعد على مشاقة الرسول، وهو سبحانه بحكمته لا يتوعد على الإخلال بفعل إلا وذلك الفعل واجب، وذلك يقضي بأن إجماعهم حجَّة؛ لأنَّا لا نريد بالحجَّة إلا ما يجب الرجوع إليه ولا يجوز العدول عنه.
_____________
([23])ـ أي أهل الكساء.
وقول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((لن تجتمع أمتي على ضلالة))([24]) ، وهذا الخبر مما نقل عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- نقلاً متواتراً يوصل إلى العلم الضروري، وهو دليل على أن إجماعهم حجَّة يجب إتباعها، كما قدمنا في الإستدلال بالآية، وقد أجمعوا، كما بينا، على جواز الإمامة في ولد الحسن والحسين -عليهم السلام-، واختلفوا فيمن سواهم، فوجب القضاء بأن الإمامة مقصورة فيهم؛ لتظاهر الأدلة على ذلك ونفي جوازها في سائر الناس من قريش وغيرهم؛ لفقد الدلالة على جوازها؛ بل قيام الدلالة على خروجهم عنها.
ومما يؤيد ذلك: أن من قال بقول في الأصول التي يجب المصير فيها إلى العلم بغير دليل كان مُقْدِماً على أمر لا يأمن من مواقعة القبيح،و الإقدام على مثل ذلك قبيح، والقبيح لا يكون ديناً، فهذا هو الكلام على أن الإمامة مقصورة عليهم .
_______________
([24]) - رواه الحاكم الجشمي في كتاب تحكيم العقول بلفظ : ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) والحاكم في المستدرك (1/200) رقم (394) ، والترمذي في السنن (4/466) رقم (2167) .
[ذكر الشروط التي معها تثبت الإمامة لمن قام من العترة الطاهرة]
فلنذكر الشرائط التي معها تثبت الإمامة لمن قام من العترة الطاهرة وهو جامع لها ودعا إلى طاعته والدخول في بيعته.
قلنا: فيجب أن يكون الإمام ذكراً، حراً، بالغاً، وهذه الجملة معلومة بالإجماع، و على كل واحدة منها أدلة سواه - أيضاً -.
أمَّا إعتبار الذكورة: فلأن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال: ((لا يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة))([25]) .
ولا شك في أن الإمام قائد المؤمنين، و قد قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)}[المؤمنون] ، ولأن شهادتها ترد في (كثير من([26])) الأحكام، وأقل أحوال الإمام أن يكون على حال يوجب قبول شهادته.
وأما إشتراط الحريَّة([27]): فلأن الإمام يملك التصرف العام في الكافة، فكيف يجعل الله -سبحانه وتعالى- ذلك في([28]) من لا يملك التصرف الخاص في أمر نفسه.
وإعتبار البلوغ: لأن الطفل لا تقبل شهادته عند الجميع؛ ولا الصلاة خلفه عندنا.
_________________
([25]) - أخرجه في مسند أحمد (5/38) رقم (120418) ، والجامع الصحيح المختصر (6/2600) رقم (6686)، والمجتبى من السنن (8/227) رقم (5388) ، والمستدرك (3/128) رقم (4608) ، وصحيح ابن حبان (10/375) رقم (4516) ، والسنن الكبرى (3/465) رقم (5937) ، ومسند الشهاب (2/51) رقم (864) .
([26]) - نخ (ن) : في أكثر الأحكام.
([27]) - وتاسعها: سأل أيّده الله عن شرطنا الحرية في الإمام .
قال أيده الله : ولا يصح ملك أحد من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ؟
الجواب عن ذلك : أن هذا العلم مضبوط الأصول ، محقق الأركان والفصول ، وتقدير الرق يصح على أهل البيت -عليهم السلام- على أن رجلاً منهم لو خشي العنت ولم يجد طولاً لنكاح الحرة وتزوج مملوكة لغيره لكان الولد له وهو من أهل البيت -عليهم السلام- بحكم الله وهو مملوك لمالك الأَمة .
فلو صحّ وجمع خصال الإمامة لم تصح إمامته لعدم الحرية فتفهم ذلك موفقاً تجده كما قلنا إن شاء الله تعالى .
([28])ـ في (ن) : إلى.
والعدالة معتبرة في الشاهد والقاضي، فالإمام بذلك أولى.
ولا بد من كونه عالماً، لما يأتي بيانه، ولم تجر العادة بحصول العلم لأحد دون البلوغ، ولأن العقل لا يحصل في عرف الشريعة، وإجراء العادة من الحكيم -سبحانه- بأن العقل لا يكمل لأحد دون البلوغ.
وبالعقل تحصل السياسة وتدبير الأمور التي يجب أن تكون حاصلة للإمام على ما يأتي فيما بعد.
قلنا: ويجب أن يكون عالماً؛ لأنه مراد لحل المشكلات، وفصل الخصومات، وتنفيذ الأحكام الشرعية التي تتعرى عن الأمور الملتبسة، ولا يحصل له العلم ولا الظن بجواز الإقدام على أكثرها فضلاً عن وجوب مظانها إلا بالعلم.
ومن ذلك الفضل، وإنما اعتبرنا كونه فاضلاً؛ لأن الصحابة أجمعوا على طلب الأفضل للإمامة، مع إختلافهم في عينه حتى أن أبا عبيدة نهر عمر لما طلب مبايعته وقال: (تطلب هذا مني بحضرة أبي بكر)؛ لإعتقاده أن أبا بكر أفضل منه، بمحضر الكافة، فلم ينكر عليه أحد توجيه فرض الإمامة إلى الأفضل.
وكان أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- يذكر فضائله في مقامات المجادلة منبهاً لهم على أنه أولى بالإمامة لمكان الفضل، فثبت أنه مما يجب اعتباره.
واعتبرنا الورع: لأن معناه الكف عن المحرمات، والقيام بالواجبات، والإمام مراد لجمع الأموال، وإقامة الحدود، وإنفاذ أحكام الله -تعالى- في عباده وبلاده.
فإن لم يكن فيه ورع يحجزه عن ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات، لم يأمن أن يرتكب المحظورات، ويخل بالواجبات، لغرض من الأغراض فيعود على المراد منه بالنقض.
واعتبرنا السخاء: لأنه ما لم يكن سخياً لم يأمن من أن يمنعه البخل من صرف أموال الله -سبحانه وتعالى- في مستحقها.
ومنع الحقوق محظور، والإقدام على ذلك ينقض الورعَ، الذي قضينا بوجوب إعتباره، والفضلَ الذي حكينا الإجماع على مراعاته.
واعتبرنا الشجاعة: لأن مدار الإمامة مبني عليها، فاعتبارها أولى، إذ الحقوق لا تستوفى، والحدود لا تقام، والواجبات لا تفعل، والمحظورات لا تترك في الأغلب من الأوقات من الأكثر من الناس إلا بالجد والشدة والقتل والقتال ، فما([29]) لم يكن شجاعاً لم يأمن أن يمنعه الجبن؛ الذي هو الخوف، من القيام بأكثر ذلك، ويحمله - أيضاً - على إقرار أكثر الناس عليه ولايثبت في المقامات التي تحفظ بها بيضة الإسلام فينتقض الغرض كما قدمنا.
وأما القوة على تدبير الأمر: فإنما اعتبرنا لأن الإمامة رئاسة عامة على أجناس مختلفة وأهل طبائع متنافرة، فما([30]) لم يكن معه من جودة الرأي، وحسن التدبير ما يتمكن به من رم([31]) أمورهم، ومعاشرة جمهورهم، وترتيبهم في ثغورهم، وإقامة حروبهم على وجه الصواب في الأغلب، وحسن التصرف في الحروب، انتقض الغرض في نصبه.
قلنا: ولا بد أن يكون سليماً من الآفات والعلل؛ لأنها تنقسم إلى قسمين:
قسم تنفر عنه النفوس: والإمام نظام الأمة، فكيف يكون الإمام على حال لكونه عليها تنفر الأمة من([32]) قربه، ويعافون عشرته.
_______________
([29]) ـ (ما): إسم موصول بمعنى الذي، تمت.
([30]) ـ (ما): إسم موصول بمعنى الذي.
([31])ـ رم الشيء يرمه -بضم الراء وكسرها-: أصلحه.
([32]) - نخ (ن) : عن.
وقسم يمنع الإمام من التصرف في الأمة وتفقد أحوالها كالعمى والزمانة وما شاكل ذلك، وهو مراد لذلك دون غيره !!؟، فإذا حصل على حال يمنعه من ذلك انتقض الغرض بقيامه ومتابعته.
وقد ذكر أباؤنا -عليهم السلام- وعلماء شيعتنا -رضي الله عنهم- الفضل، وجعلوه شرطاً مفرداً، ونحن نرى أن من اجتمع له ما ذكرنا من العلم، والورع، والسخاء، والشجاعة، والقوة على تدبير الأمر لا بد من أن يكون فاضلاً بدليل أنك لا تقول: فلان عالم ورع سخي شجاع قوي على تدبير الأمور، وسياسة الكافة، وليس بفاضل بل يعد من قال ذلك مناقضاً، فذكرناه تبركاً بهم، واستسعاداً باقتفاء آثارهم.
ولأنهم قد ذكروا أن المراد أن يكون له من السبق إلى الخيرات، والمواظبة على الطاعات، ما يعد لأجله سابقاً أو داخلاً في جملة السابقين، معدوداً من أهل الحظوظ منهم، والورع عندنا يأتي على ذلك كله ؛ لأن الوَرِع يخاف مواقعة المحظور ، والإخلال بالواجب، فيكون منه من المبادرة ما تقدم ذكره.
فهذا هو الكلام في وجوب إعتبار هذه الشرائط.
[الكلام في القدر الذي يحتاج إليه الإمام من العلم]
ولا بد من الكلام في القدر الذي يحتاج إليه في هذا الباب منها؛ لأن ما به قدر في شيءٍ، مما قدمنا ذكره، إلا وفوقه أعلى منه، وللزيادة فيه مدخل، فلنبدأ بذكر ما يحتاج إليه من العلم: فالواجب فيه أن يكون الإمام عارفاً بأصول الدين من علم الكلام المشتمل على المعرفة بالله -تعالى- وصفاته، وما يجوز عليه من ذلك، وما لا يجوز، والمعرفة بأفعاله وأحكام أفعاله، وما يجوز عليه في ذلك، وما لا يجوز، وهذا يَعُم جميع أبواب العدل، والكلام في المكلفين وأفعالهم وأحكام أفعالهم ، وهذا مشتمل على أبواب الوعد والوعيد، وما يتعلق بها من النبوءة، والإمامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء، والبراء.
ولا بد من كونه عارفاً بأصول الفقه المشتملة على خطاب الله -تعالى- وخطاب رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وما يجوز من ذلك، وما لا يجوز، وخطاب الأمة مجتمعة، والعترة مجتمعة، وأحكام أفعال النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وتقريراته، وكذلك الأمة والعترة، عارفاً بحقيقة الإجتهاد وحدِّه، وحقيقة القياس وحدِّه، ووجوه الإجتهادات والمقاييس، عارفاً بما يجب الرجوع إليه في هذا الباب، ومن يجب الرجوع إليه، وحكم ما لم يدخل تحت الجملة المتقدمة المشتملة على معرفة الحقائق والمجاز في خطاب الله -سبحانه- وخطاب الرسول([33]) -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، والأوامر والنواهي، والخصوص والعموم، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، والأخبار التي يحصل العلم بها، والأخبار التي يجب الرجوع إليها، والأخبار التي يجب القطع على نفيها عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، والأخبار التي لا يجب الرجوع إليها وإن لم يقطع على نفيها.
وكذلك تفصيل أحكام ما يبلغنا من الأفعال، مع معرفة المحكم والمتشابه بالحقيقة والحكم والصورة والعين من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله المعلومة.
وأن يكون عارفاً من اللغة بطرف يتمكن معه من فهم غريب الكتاب العزيز والسنة الشريفة ليعرف معانيهما؛ لأن معرفة المعنى فرع على معرفة اللفظ.
_________________
([33]) - نخ (ن) : رسول الله.
..
وأن يكون عارفاً بالإعراب؛ لأن الحركات إذا تغيرت أخرجت الألفاظ عن معانيها، وما لم يعرف طرفاً من الإعراب لم يتمكن من معرفة أكثر المعاني من الخطاب الوارد من الله -سبحانه- ورسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وهو مراد لذلك، إلا أن يكون مطبوعاً على الإعراب، ناشئاً على استقامة اللسان، لم يخالط أهل اللغات المختلفة، متمكناً من معرفة الخطأ من الصواب في الحركات بعادته العربية لم يحتج إلى معرفة ترجمة علماء العربية ولا مقدماتهم([34])؛ لأنهم ما طولبوا بذلك([35]) التطويل إلا لتحصيل المعرفة بذلك، فإذا حصلت بدونه فلا وجه لإيجاب المعرفة له، إذ كل علم من العلوم لا يراد لنفسه وإنما يراد لما يؤدي إليه ، لولا ذلك لحسن من أحدنا أن يتخذ ميزاناً ثم يتتبع الأحجار يزنها به ليعرف كم وزن كل واحدة منها، فإنه وإن حصل له العلم بذلك، ففعله هذا عند جميع العقلاء قبيح لما تعرى ذلك عن التأدية إلى غرض مفيد، ولهذا لم نوجب النظر في معرفة الله -تعالى- على أهل الآخرة لما كانت المعرفة تحصل لهم بدون النظر؛ فافهم ذلك.
_______________
([34]) ـ كالإمام الهادي إلى الحق عليه السلام، والناصر الأطروش عليه السلام، ومن قبلهما من الأئمة صلوات الله عليهم كما قال الهادي إلى الحق عليه السلام:
وما أنا إلا قاسمي ممجدٌ .... أتطهر بالماء الزلال وأشرب
ولست بنَحْوي يلوك لسانه .... ولكن سليقي أقول فأعرب
([35])ـ في (ن) : ما طولوا ذلك.
ومما يجب أن يلحق بما قدمنا أن يكون عالماً بمواضع الإجماع من فروع الشريعة؛ لأن الإجماع قد أخرجها عن باب القياس والإجتهاد وألحقها بالأصول التي يجب الرجوع إليها، وقد تقدم وجوب معرفته بالأصول، فما لم يعرف ذلك لم يأمن من أن ينزل به حادثة قد وقع الإجماع على الحكم فيها فيجتهد في أمرها فيخالف أمراً لا يجوز له خلافه ويجتهد في أمر قد سقط عنه فرض الإجتهاد فيه، وذلك لا يتأتى إلا بأن يعرف جملة من الفروع.
ونريد بقولنا عالماً بمواضع الإجماع: العلم في عرف الشرع دون الكلام كما نقول: القاضي عالم بحكم الحادثة ولا يقضي إلا بما يعلم، وأكثرها لا دليل عليه يوصل النظر فيه إلى العلم وإنما عليه أمارات شرعية؛ فكذلك علمه الذي قلنا بالإجماع، فهو يلحق هذا الباب فيعرف ما يوجب عليه الرجوع إلى الإجماع وترك النظر في الحادثة من خبر آحاد أو تواتر على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الفقه.
ويلحق بذلك أن يعلم جملة من أخبار النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد تقدم الكلام في معرفته بأحكامها في أصول الفقه ؛ لأنا أوجبنا أن يكون عارفاً بها ، فمتى صار عالماً بما ذكرنا، أو بمهمه كان معه من العلم القدر الذي تثبت به إمامته، ويجب على الكافة طاعته، إذا انضمت إليه الشرائط الأخرى التي قدمنا ذكرها.
وإن لم يكن عالماً بالطب، والهندسة، والنجوم، والفلسفة، فلا يقدح ذلك في شيءٍ من أمره لوجهين، أحدهما: أن أكثر ذلك لا يجوز الإعتماد عليه.
الثاني: أن ذلك لا يتعلق بباب الآخرة، وأكثر من يعتمد عليه من أنكر الصانع والمعاد، وحرص على الحياة التي لا سبيل في بقائها في دار الزوال والنفاد.
[لا يجب أن يكون الإمام أعلم الناس]
ولا يجب مع ذلك كونه أعلم الناس لوجوه:
منها: أن المعرفة بذلك لا تتأتى مع كثرة البلدان وانتشار هذا الدين الشريف في أكثر أقطار الدنيا، فلو كان من فرضنا وفرض الإمام اعتبار كونه أعلم الناس، وقد علمنا استحالة التمكن من ذلك، وكل قول أدَّى إلى أن الباري تعبَّد عباده بالمستحيل يجب القضاء بفساده، وقد أدى إليه القول بأن الإمام يجب أن يكون أعلم الناس، فوجب أن يكون باطلاً.
ومنها: أن الله -تعالى- يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(76)}[يوسف] ، ولا بد أن يكون الإمام عالماًً بعلم لاستحالة كونه عالماً لذاته، والله -تعالى- لا يخبر إلا بالحق، كما قدمنا في باب الوعد الوعيد، وذلك يتضمن أنه يجوز أن يكون في الأرض من هو أعلم منه وإن لم نقطع على ذلك، فلو اعتبرنا ذلك لاستد باب الإمامة، وكل قول أدى إلى ذلك يجب القضاء بفساده.
ومنها: أن يعلم أن النبوءة أعلى طبقة من الإمامة، وقد علمنا تفاضل الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- في العلم وإن كانت أعصارهم واحدة كداود، وسليمان([36])، وإبراهيم، ولوط([37])، وموسى، وهارون([38])، فكما لا تبطل نبوءة من كان في عصره من هو أعلم منه لما كان معه من العلم جل ما يحتاج إليه، كذلك لا تبطل إمامة الإمام وإن كان في عصره من يجوز (أن يكون([39])) أعلم منه، وهذا ثابت بطريقة الأولى.
ولأن الله -تعالى- حكى قصة موسى مع الخضر فتأملها فإن فيها عجباً، مع أن الله -تعالى- قد آتى موسى -عَلَيْه السَّلام- التوراة فيها تبيان كل شيءٍ يحتاج إليه، ثم أمره باتباع عبد من عباده وهو الخضر -عَلَيْه السَّلام- عِلْمُ موسى في جنب علمه كالمجَّة في جنب البحر اللُّجي، فما قَصُرَ ذلك بموسى عن درجة النبوءة، وبلوغ ختم الغاية، والنبوءة أعلى درجة من الإمامة، وإنما وقع هذا إلى جهال الشيعة من دسيس الملحدة -لعنهم الله- ومكائدهم لدين الله يريدون إطفاء نور الله وتغيير حكمه والله متم نوره ولو كره الكافرون.
ولعمري لقد نفذ سحرهم في أولياء الشيطان، ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى، ولولا خشية التطويل لبسطنا القول في هذا الباب، ولكنا خشينا أن يخرجنا ذلك من غرضنا بهذا المختصر.
واعلم أن الكلام في باقي الشرائط على نحو الكلام في العلم فلا وجه لإعادة التعليل بذلك في كل واحدة منها.
__________________
([36])- كما قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ(78)فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء]، وهذه الآية تدل على اتحاد عصر داود وسليمان -عَلَيْهما السَّلام- دليلاً واضحاً.
([37])- كما قال تعالى: قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ(74)} [هود]، وقوله تعالى : {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26].
([38])- كما قال تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ(34)} [القصص].
([39]) - نخ (ن): كونه.
[الكلام في القدر الذي يحتاج إليه من الورع وبقية الشروط]
قلنا: ويُعتبر في ورعه أن يكون قائماً بالواجبات تاركاً للمحرمات؛ وإن شاركه في ذلك كثير، وجاز أن يوجد من يترك المباحات ويعزف نفسه عن الدنيا جملة، ويتخلى إلى الباري بالكلية فذلك لا يقدح في شيءٍ من أمره، ولا يجهل ذلك إلا من أعمى الجهل عين بصيرته، ولبس عليه الشيطان أمره، وأعطى التقليد مقوده ؛ لأن المعلوم أن الحسن بن علي -صلوات الله عليه- ثابت الإمامة، ومن أنكر ذلك فهو من الفاسقين المستحقين للعنة ربِّ العالمين.
وكان غير ممتنع من تناول ما أحل الله له من منكح، ومأكل، ومشرب، وملبس، وهو مع ذلك أفضل الخلق بعد أبيه ممن أعلمنا الله -تعالى- بتفصيل أمره، فكما لم يقدح ذلك في إمامته -عَلَيْه السَّلام- لا يقدح مثله في إمامة غيره من أولاده وأولاد أخيه -عَلَيْه السَّلام-.
وأما السخاء: فيعتبر من ذلك ألا يكون معه من البخل ما يمنعه من إنفاق الأموال التي لله في المستحقين لها من عباده، وإن كان في طبقته من الناس من يؤثر بما حوت يده ولا يقتني شيئاً مما ملكه لنفسه، فذلك غير قادح في إمامته، إذ الإجماع منعقد من أهل العلم أن مثل ذلك لا يجب إعتباره.
وكذلك الشجاعة يجب أن يكون معه منهم من يثبت معه في الحروب ويهتدي لأجله في وقت([40]) زلزال الخوف إلى السياسات، وإن جاز أن يكون في طبقته من هو أقتل منه للأقران ، وأطول منازلة للأبطال ؛ كما يعلم من حال الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- وحال أخيهما محمد بن الحنفية([41]) -عَلَيْه السَّلام-، وأن حالته التي كان عليها لا تقدح في شيءٍ من أمرهما، وكذلك الأشتر النخعي([42])، وعدي بن حاتم([43])، والمرقال([44])، وغيرهم.
_______________
([40]) ـ في (م، ن): أوقات.
([41]) ـ محمد بن الحنفية: هو محمد بن علي بن أبي طالب أبو القاسم المشهور بابن الحنفية، وأمه خولة بنت جعفر بن قيس من بني حنيفة بن نجيم من سبي بني حنيفة في أيام الردة، استولدها محمداً كما ذكر ذلك الإمام المنصور بالله عليه السلام في الرسالة الهادية وغيرها ، ولد عليه السلام لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب أنحله رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إسمه وكنيته كما روى ذلك الإمام الحسين بن إسماعيل الجرجاني: حدثني مشائخي عن يحيى بن الحسين، حدثني العباس بن عبد العزيز الخطاب، حدثني قيس بن الربيع، عن الليث، عن محمد بن بشر الهمداني، عن محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لعلي: ((ياعلي يولد لك غلام نحلته إسمي وكنيته بكنيتي)) فولد له محمد، وكان محمد بن الحنفية كثير العلم والورع، وكان شديد القوة شجاعاً بطلاً،حضر معركة صفين مع أبيه عليه السلام، وقاتل فيها، وكذلك حضر الجمل، وكان حامل راية أبيه، وقاتل قتال الأبطال، وكان معترفاً بفضل أخويه الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- مقدماً لهما محباً لهما، وهما كانا كذلك يحبانه ويكرمانه لمنزلته عند علي بن أبي طالب عليه السلام وشرفه وقدره، وله أخبار كثيرة، وقد غلت فيه طائفة من الإمامية، وقالوا بأنه المهدي المنتظر وأنه لم يمت ، وأنه حي يرزق حتى يملأ الأرض عدلاً، والصحيح أنه توفي سنة ثمانين للهجرة، وقيل إحدى وثمانين، وقيل غير ذلك، والأول أصحّ، وقبره بالطائف رحمة الله عليه ورضوانه. ولمزيد انظر خبر خولة الحنفية -مجموع السيد حميدان.
([42]) ـ الأشتر النخعي، هو: مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن الربيع النخعي كان فارساً شجاعاً رئيساً من أكابر الشيعة وعظمائهم شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين عليه السلام ونصرته محباً له متبعاً، وكان ساعد أمير المؤمنين الأيمن في حروبه وجهاده، شهد مشاهد الوصي جميعها، وكان له في الجهاد فيها الحظ الأكبر والنصيب الأوفر، فكان يلقي بنفسه في مهالك الحروب، وكان شديد البأس معظماً في الناس رئيساً حليماً فصيحاً شاعراً، وتوفي رحمة الله عليه شهيداً مسموماً سنة تسع وثلاثين متوجهاً إلى مصر والياً عليها من قبل أمير المؤمنين عليه السلام، فلما علم به معاوية أرسل إليه من سقاه سماً، فمات منه قبل أن يصل إلى مصر في القلزم، ولما بلغ أمير المؤمنين وفاته حزن حزناً عظيماً وغم غماً كبيراً لامزيد عليه، وقال فيه: رحم الله مالكاً، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
([43]) ـ عدي بن حاتم بن عبدالله الطائي أبو طريف الجواد بن الجواد قدم على رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- سنة تسع وأسلم فأكرمه وفرح بإسلامه، وشهد فتوح العراق وكسرى، وفتوح الشام، وشهد مع علي عليه السلام حروبه، وفقئت عينه يوم الجمل وقتل ابنه، وكان من خلص أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ومحبيه ثم نزل الكوفة ومات بها سنة ثمان وستين عن مائة وعشرين سنة في زمن المختار العبيدي.
([44]) ـ المرقال، هو: هاشم بن عتبة بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري عمه سعد بن أبي وقاص، وأبوه عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعية رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يوم أحد وكلم شفتيه وشج وجهه وكان المرقال من شيعة علي عليه السلام ومحبيه والمجاهدين معه، والمستشهدين بين يديه ولاءاً ونصراً شهد مشاهد الوصي عليه السلام وسقط شهيداً في صفين بعد أن جاهد جهاد الأبطال وصرع حوله فرسان الرجال فعليه رحمة الله ورضوانه، وسمي المرقال لأنه كان يأخذ الراية ويرقل بها إرقالاً أي يسرع بها.
وأما القوة على تدبير الأمر: فأن يكون معه من جودة الرأي وحسن التدبير ما يصلح معه للإمارة ويفزع إليه الأكثر للمشورة،وإن كان في طبقته من يختص من الدهاء بأكثر من ذلك القدر؛ كما يعلم الله([45]) من حال الحسن بن علي -عَلَيْه السَّلام- وقيس بن سعد بن عبادة([46])، وحال الحسين -عَلَيْه السَّلام- وابن عباس -رضي الله عنه-.
وأما صحة البدن: فأن يكون سليماً من الآفات المنفرة، والعاهات المزمنة، وإن كان في الأمة من هو أقوى منه بُنْيَة، وأشد بطشاً؛ كما يعلم من حال الحسن والحسين -عليهما السلام- وأخيهما محمد ابن الحنفية -قدس الله روحه- وأنهما لم يلحقانه في هذا الباب ولم يقرباه، وهذا معلوم لأهل البحث ضرورة، ولم يقدح ذلك في شيءٍ من أمرهما -عَلَيْهما السَّلام-.
فهذا حين إنتهينا إلى ما تمس الحاجة إلى ذكره من الإمامة في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- دون غيرهم، وشرائطها التي يجب إعتبارها، قِبَلَنا على منهاج زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- ومن حذا حذوه من العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام-.
___________________
([45]) ـ في (م، ن): ليست موجودة وهو الصحيح.
([46]) ـ قيس بن سعد بن عبادة بن دُليم أبو عبدالله الخزرجي صاحب شرطة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان من ذوي الرأي والدهاء والتقدم صاحب المقامات المشهورة مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ومع وصيه أمير المؤمنين، ومع ابن رسول الله الحسن بن علي عليه السلام، وكان من أعيان فضلاء الصحابة، وشهد مع أمير المؤمنين جميع مشاهده، وكان صاحب الجهاد المشهور والشجاعة المتناهية، وتوفي سنة ستين للهجرة رحمة الله عليه، وله في صفين والجمل والنهروان الوقائع العظيمة، والمقامات الحميدة.
[ذكر طرف من أخبار الإمام زيد بن علي عليه السلام]
وإذ قد ذكرنا زيداً -عَلَيْه السَّلام- فلنذكر طرفاً من أمره إذ نحن منتسبون في الإعتقاد إليه، تابعون لمنهاجه -عَلَيْه السَّلام-: إذ كان أول من نهج السبيل، وأوضح الدليل، وسبق كافة أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- في عصره إلى منابذة الظالمين، ومباينة الفاسقين، فدخل تحت قوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11)}[الواقعة] ، ففاز بكونه من المقربين، على جميع العترة الطاهرين.
واختص بجهاد المُخلِّين؛ ففاز بدرجة المجاهدين، إذ الحكيم -سبحانه وتعالى- يقول؛ وقوله الحق: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95)}[النساء] .
وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}[الحديد:10] ، وقد أنفق -عَلَيْه السَّلام- قبل الفتح وقاتل، أشد قتال، وعبدَ الله حتى أتاه اليقين، ولم يعلم ذلك من غيره.
والحديث مشهور عن أخيه محمد بن علي -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: (هذا سيد بني هاشم)، وسيد القوم أفضلهم وأولاهم بالتصرف فيهم.
وكذلك روينا عن ولده جعفر بن محمد -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: (والله ما يرى مثله إلى أن تقوم الساعة، كان والله سيدنا ما ترك فينا لدين ولا دنيا مثله).
وقد روينا بالإسناد الموثوق به إلى أبينا علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: (الشهيد من ذريتي، والقائم بالحق من ولدي، المصلوب بكناسة كوفان، إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين، يأتي يوم القيامة هو وأصحابه تتلقاهم الملائكة المقربون ينادونهم: أُدخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون([47])).
ولو روينا ما بلغنا عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وعلي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- وأولاده، وقول من عاصره من أهل بيته فيه لطال الشرح وتباعدت الأطراف.
هذا جدنا عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، أشهر أهل بيت النبي في زمانه من أولاد الحسن والحسين،وأشدهم إنحرافاً عن الظالمين، وأثقلهم وطأة عليهم، وأوسط أهل البيت نسباً، لجمعه شرف الأمهات إلى شرف الآباء؛ لأنه جمع الفواطم في نسبه؛ أمه فاطمة ابنت الحسين بن علي -عَلَيْه السَّلام-، وجدته فاطمة بنت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وجدته أم علي -عَلَيْه السَّلام- فاطمة ابنت أسد أول هاشمية ولدت لهاشمي وكانت مكينة عند النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ولم يكن هذا لأحد ممن عاصره من أهل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- مع العلم البارع، والورع المانع، إلى سائر خصال الكمال.
___________________
([47]) ـ أمالي الإمام أبي طالب 105، بسنده عن زاذان عن علي ـ عليه السلام ـ.
كان يناظر زيداً -عَلَيْهما السَّلام- في أوقاف علي وفي كثير من المسائل التي تحسن فيها المناظرة، فإذا قام زيد -عَلَيْه السَّلام- إلى دابته بادره عبدالله بن الحسن -عَلَيْهما السَّلام- إليها، وأمسك ركابه، وسوَّى ثيابه، فيعلم الناس بذلك أنه يفضله على نفسه.
وقد روينا عن أخيه محمد بن علي (-عَلَيْهما السَّلام-)، باقر علم الأنبياء، ما قدمنا ذكره، وعن ولده جعفر الصادق -عَلَيْه السَّلام-، فكيف يجوز لأحد يدعي متابعتهم ويخالفهم في إعتقادهم !؟؛ لأن هؤلاء الثلاثة أعيان العترة في عصره -عَلَيْه السَّلام-.
وقد صح تفضيل الجميع له، بما ذكرنا من الجزء اليسير مما علمنا من أقوالهم فيه -عَلَيْه السَّلام-، فقد إتضح لك بهذا القيد أنه أفضل أهل زمانه بشهادة العدول منهم مطابقة للنص الوارد من الله ومن رسوله على تفضيل المجاهدين مرة، وتخصيصه بالذكر أخرى، فهذا هو الكلام المتعلق، بما تقدم، من وجوب قصر الإمامة في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- دون غيرهم.
[تأكيد لما تقدم من أمر الإمامة]
[38]
فيهمْ([48]) نِصَابُ الأمرِ والإمامهْ .... ليس إلى غيرِهِمُ الزَّعَامهْ
فلا تَخَطَّوا طُرَقَ السلامَهْ .... واستَمِعُوْا مِنْ ربِّكم أَحْكَامَهْ
لا تُخْطِروا الحِسْدَ لكمْ ببَالِ
هذا البيت تأكيد لما تقدم.
و (نصاب الأمر) أصله لأن النصاب في صريح اللغة أصل الشيء، والأمر ها هنا أمر الله، وقد قدمنا الكلام في معنى الإمامة وأنها التصرف العام في الكافة في أمور قد تقدم ذكرها.
قوله: (ليس إلى غيرهم الزعامه): كشف وتوكيد.
قوله: (فلا تخطوا طرق السلامة): يقول: لا تنكبوا طرق الحق إلى غيرها من الطرق التي هي طرق الضلال بالإضطرار؛ لأن الله -تعالى- يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}[يونس:32] .
__________________
([48]) - نخ (ن) : فهم...
قوله: (واستمعوا من ربِّكم أحكامه): يقول: إن الله -تعالى- حكم لهم بذلك دون غيرهم من الناس، وظاهر البراهين على أن الإمامة مقصورة عليهم -عَلَيْهم السَّلام-، وقد قدمنا ذكرها.
قوله: (لا تخطروا الحِسْد لكم ببالِ): يريد بالحِسْد الحَسَد، فأسكن، ومثل ذلك في أشعارهم كثير، قال الطرماح:
وجريت يوم الأسد والدين قد دجى .... عليهم فلم تمنعهم حصلة الصَمْد
وهو لايريد إلا الصمد.
و (البال): هو الفكر، وهو ظاهر في اللغة، فنهى عن حسدهم على ما اختصهم الله -سبحانه وتعالى- من الفضل ووراثة النبوة، ولا ينكر ما خصهم الله -سبحانه وتعالى- من الفضل إلا من حسدهم وأنكر فضلهم، وقد قال في مثل ذلك: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا(54)}[النساء] ، فكانت المضرة على حاسدهم ولم ينقصهم ذلك.
كذلك لا يضر أهل هذا البيت حسد من حسدهم، فجحد حقهم وأنكر فضلهم،؛ بل ضرر ذلك عائد إلى الحاسد.
ثم أكّد ذلك بهذا البيت فقال:
[التحذير من الحسد]
[39]
أتحسُدُونَ الناسَ فَضَلَ الباري .... في الرزقِ والخِلْقةِ والمِقدارِ
وَوَاقِعِ الإقتَارِ والإيسَارِ .... ومَنُّهُ على الجميعِ جاري
بالعدلِ في الإكثارِ والإقلالِ
هذا كالمؤكد لما قبله مما يجري مجراه، ومعناه النهي عن الحسد لمن اختصه الله -تعالى- بشيءٍ من رحمته في خلق، أو رزق، أو شرف، ثم نبَّه على أن الإقتار والإقلال من قبل الله -تعالى- وأن ذلك عدل منه؛ لأنه متفضل في الحالات كلها، والمتفضِّل لا يُتَحَكَّمُ عليه ولا يُعْتَرضُ شاهداً ولا غائباً، ولا ينبغي لأحد ممن ينتسب إلى الإسلام إنكار شيءٍ من ذلك، وهو عز من قائل يقول رداً على المشركين: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(52)}[الزمر] .
ويقول عز من قائل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(32)}[الزخرف].
وقال في آية أخرى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(12)}[الشورى].
فتأمّلوا -رحمكم الله -كيف رتب سبحانه الإحتجاج في هذه الآيات على المشركين؛ فتارة بالتقديم لهم مما لا يمكنهم إنكاره؛ وذلك ظاهر في قوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا}، وتارة لتقريعهم بالعجز عن قسمة رحمته؛ لأنه لا يقدر على قسمتها إلا هو، ثم أخبر بعد ذلك أنه رفع بعضهم فوق بعض درجات؛ وهذا تصريح بما ذهبنا إليه، ثم أخبر أن رحمته في الآخرة خير من جمع مال الدنيا، فحرَّضَ من طريق المعنى على الإنفاق في سبيله.
وقوله: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}([49])[الزخرف:32] ، تنبيه على الإقبال على طاعته وطلب الخير من عنده؛
____________
([49]) - وعاشرها: سأل -أيده الله- عن قوله سبحانه : {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32]، وعن الغرض وما السخري ؟
الجواب عن ذلك : أن السخري هو : التذلل ؛ سخره الله إذا ذلَّله ، ولما كان من استهزأ بغيره فكأنه استذله قيل تسخره فما تصرف من هذه اللفظة فهو يرجع إلى هذا المعنى .
وذلك أن الحكيم سبحانه أراد ظهور الحاجة في الخلق ليقع الإعتراف بالعبودية ؛ لأن المحتاج لا يكون إلهاً فالغني قد اتخذ الفقير سخرياً لحاجته إليه ، والفقير سخرياً للغني مثل ذلك ، والبعض يحتاج إلى البعض ، الأعلى إلى الأسفل ، والأسفل إلى الأعلى ؛ فإذاً الذي تحق عبادته هو الغني لذاته عن كل ذات، كامل النعوت والصفات سبحانه وتعالى.......
..
لأن المعلوم من حال أهل الدنيا أنهم إذا رأوا عبداً من عبيده -سبحانه- قد وسع عليه من متاع الدنيا وأرغد عيشه فيها؛ إجتهدوا في إنصافه، وانقطع بعضهم في خدمته، لمكان اليسير الذي معه، ولعله لا يوصله إليهم لبخل أو حسد أو خيفة فقر، فلم ينصفوا من بيده كما قال -وهو صادق فيما قال-: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}[الشورى:12] ، فبيديه على ذلك العطاء والمنع لم لا ينقطعون في خدمته، فعطاؤه نعمة، ومنعه حكمة، إن أعطى فقد عرض لثواب الشاكرين، وإن منع فقد عرض لأجر الصابرين، ومن عرض للثواب والأجرة فحكيم فيما نعرفه؛ {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ(43)} [العنكبوت] ، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)} [يوسف] ، وفيما أوردنا كفاية وإلا فأكثر الكتاب دلالة على ما ذهبنا إليه لفظاً أو معنى؛ وهو ظاهر لمن طلبه، وفزع في معناه إلى ورثته من عترة نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فهمهم غرائبَه ، وعرفهم عجائبَه.
واعلم أن أكثر الناس ما أتي إلا من جهله بحق كتاب الله -سبحانه وتعالى- وعترة نبيئه -صلى الله وسلم عليه وعليهم- حتى لقد بلغنا عن قوم يُنْسَبون إلى متابعتهم - وهم مع ذلك يعتقدون أن الله ساوى بينهم وبينهم ولم يميزهم عليهم - أنهم ينفون نعم الله على أهل الكفر والفسوق من عباد الله -تعالى- وقد ذكرنا ما يدل على بطلان هذا القول في مسألة الرزق في أول الكتاب مما في بعضه كفاية.
..
[زيادة بيان في الرزق]
ولمَّا عَرَضَ ذِكْرُ الرزق ها هنا زدنا ما لا يتعرى بتوفيق الله من الفائدة، ولولا أنه منعم عليهم لما وجب عليهم شكره؛ لأن شكر غير المنعم لا يجب، وربما احتجوا بقول يضيفونه إلى بعض آبائنا -عليهم السلام- جهلاً بأحكام الإضافة وهو لم يصح، وإن صح وجب تأويله على موافقة كتاب الله - تعالى- وسنة رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وحجج العقول؛ وهو قولهم إنه قال: (للطاعة والمطيعين خلقها ربُّ العالمين)، فنقول: إن صح ذلك عنه فلعلَّه أراد أن الله جعل الأرض بحكمه وأمره داراً للأئمة والأنبياء -صلوات الله عليهم- لا يجوز لأحد خلافهم، ولا تعدي أمرهم.
ومن أمرِهم أن إقرار أموال أهل الفرقة في أيديهم بعد أخذ ما فرض الله عليهم واجب لا يجوز خلافه للذمييِّن.
وكذلك من حكمهم أن المشرك إذا أخذ مال المسلم الذي ورثه المسلم من أبيه نفذ فيه تصرفه من بيع وهبة بحكم الله وحكمهم، وعجائب حكمته إليه لا تنفد، وأراد أن الله -تعالى- أراد من جميع المكلفين من المشركين والمسلمين الطاعة له، فهذا الذي يجب عليه حمل كلام الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- لئلا تتناقض حجج الله -تعالى- وبيناته، ولئلا ينسب إلى أئمة الهدى -عَلَيْهم السَّلام- مخالفة نصوص الكتاب، وأدلة العقول، ولأنا نعلم ومخالفنا ضرورة أن كثيراً من الأرزاق التي خلقها الله تعالى في بلاد المشركين لاتصل إلى أحد من المسلمين بوجه من الوجوه كبلاد الهند والصين وما شاكلهما من البلاد النائية،
وإن شئت فاضرب الممثول في بلاد يأجوج ومأجوج وما خلف السد ، هل يكون ما يخلق الله لهم من الأرزاق والأرفاق يريد به سواهم مما نعلم نحن ضرورة أنه لا يصل إلى أحد من المسلمين بوجه من الوجوه؟ فلو خلقه لهم، مع علمه بأنه لا يصل إليهم لكان ذلك عبثاً -تعالى عنه- لأنه يجري في المثال بمثابة من يعد طعاماً شهياً لذيذاً، أو ينصب مائدة حسنة؛ في أقصى المشرق لصديق له في أقصى المغرب، وهو يعلم ضرورة أن صديقه لا يتمكن من وصولها ويحرمها على جميع من حضره إلا على صديقه الذي سمَّاه، وقد علم تعذر الوصول إلى تلك المائدة عليه، فإنه يكون -والحال هذه- عابثاً فاعلاً للعبث على أقبح الوجوه متى علمنا سلامة عقله، فكيف يجوز إضافة مثل ذلك إلى الله -تعالى- وقد بَيَّنَّا في مسائل العدل أنه لا يفعل شيئاً من القبيح، وهذا لا يخفى على من له أدنى مسكة من التمييز.
فإن كان المراد أن الله -تعالى- مريد منهم الطاعة، وأن المعصية لا تحسن منهم مع تظاهر نعم الله عليهم، فذلك صحيح،وهو الذي صرح به الذكر الحكيم؛ كما قال تعالى مخاطباً للكافرين: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ(21)}[الملك] .
وصدق الله العظيم، ونحن على صدقه من الشاهدين، وله من الحامدين العابدين، أن من أضاف الرزق إلى غيره لأحد من المخلوقين فقد لج في العتو والنفور، وتمادى في الضلال والفجور، وكيف يسوغ ذلك، وهو عز من قائل يقول: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ(32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(33)وَءَاتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(34)}[ابراهيم:] .
فهذه، كما ترى، نصوص تنتهي بمن ردها وأنكرها إلى الإلحاد، وبهذه العلة قضينا بردة الباطنية؛ لأنهم أنكروا ظواهر الكتاب، و حملوها على ما لا يجوز حملها عليه، وينبغي للعاقل أن يتجنب مزالق الشيطان؛ لأن الله -تعالى- ذكر في هذه الآية نعمه على الكافرين الظالمين مجملة ومفصلة، فأجملها في موضعين:
أحدهما: قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[ابراهيم:34] .
والثاني: في قوله تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}[ابراهيم:34] .
وفصلها في قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}[ابراهيم:32] ، فصرح بأنه لهم، تصريحاً لا مساغ للتأويل فيه؛ لأنه قد قيَّده بقرينة ذكره في أول الاية: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}[ابراهيم:32] ، فكما لا يجوز تأويل ذلك لأحد ممن يريد البقاء على الإسلام على أن الله -تعالى- لم يخلق السماء والأرض، كذلك هذا.
ثم ذكر منته بخلق الفلك وسيرها بالريح، التي لا يقدر على إنشاءها غيره، وقد صرح بذكر ذلك في قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ}[الشورى:33] ، يريد؛ ظهر البحر.
ثم أعقب ذلك بذكر نعمته بالشمس وما حصل فيها من المصالح للعباد، والبلاد، والشجر، والدواب.
وأردفه بذكر القمر وما فيه من النور الذي يدفع به مضرة الظلمات، ويُقَدَّر به أدلة الأوقات، وما فيه من الدلائل الباهرات.
ثم ذكر منّته بالليل وما فيه من السكون عن الحركات، ونزول البركات، وراحة الأجسام، مما يورث السآمة والملال، وجعله نفعاً لكثير مما خلق من البهائم والهوام، تطلب فيه أقواتها المعلومات، وتجول لأرزاقها المقسومات.
ثم ذكر النهار لما يتعلق به من نفع العباد، وشؤونهم في البلاد، لما أمدهم به من المعاش، ورزقهم من الرياش، وهذه؛ بحمد الله، أنوار لا تطفأ، وبراهين لا تخفى، ولولا خيفة التطويل لذكرنا من آيات الكتاب الظاهرة، وحججه الباهرة، ما يكثر عن التعداد، ويضطر منكره إلى الرجوع إلى الحق أو الإعتراف بالإلحاد.
وإذ قد انتهينا إلى هذا فلنذكر ما كنا بصدده من تفسير البيت، وقد ذكر فيه النهي عن الحسد، ولا شك في قبحه، فيجب الإنتهاء عنه.
[ذكر بعض الأمور التي يقع فيها الحسد]
وقد ذكر الأمور التي يقع فيها الحسد:
فمنها الرزق: ومعنى ذلك أن الله -تعالى- إذا وسَّع على عبد من عبيده لوجه من وجوه الحكمة التي لا يجوز لأحد عليها تَحَكُّمٌ ولا إختيار، لم يحسن من أحد حسده، ولا تمني زواله؛ لأن الله لا يفعل إلا الحكمة؛ ولأن الدنيا عنده دار بلوى لكافة المتعبدين بالخير والشر، والله بوجوه المصالح أعلم، فإن علم لأحدنا صلاحاً في توسعة الرزق وسَّعه، وإن علم الصلاح في التضييق فهو غير متهم...
وإن رأينا أحداً يواظب على معاصي الله -تعالى- ونعمه عليه تترى، علمنا أن ذلك لإبلاغ الحجة عليه، ولله الحجة البالغة، ولا يكون إلا بذلك، وما شاكله، ولا نفزع إلى أحد جهلين؛ أحدهما: أن يعتقد أن الله -تعالى- لم يقصده بتلك الأرزاق؛ لأنه لو لم يقصده بها لم تكن نعمة، ومن نفى نعم الله على الكافرين أسقط عنهم فريضة الشكر، ومن أسقط فريضة الشكر عن أحد من المتعبدين كفر؛ لأنه خالف صريح القرآن في قوله: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)}[الإنسان] ، وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ(53)}[الأنعام] ، وخالف ما علم من دين النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ضرورة، وهذا جهل.
والجهل الثاني: أن يعتقد أن وصول الخيرات إليه دلالة الرضى عليه،و أن أمره لو كان عند الله مثل ما هو عندنا لما أوصل إليه ما وصل، وهذا كما ترى جهل.
وقد نبَّه على ذلك أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- فيما يروى عنه في (نهج البلاغة([50])) من قوله: (فلا تعتبروا الرضى والسخط بالمال والولد جهلاً بمواضع الحكمة، ومواقع التدبير، قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ(55)نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ(56)}[المؤمنون] ).
فأخبر أن المال والبنين الواصلين إليهم من الله -سبحانه وتعالى- وأن ذلك لا لمنزلة لهم عند الله، ولا مسارعة في الخيرات الخالصة، وإنما ذلك لإكمال حججه، وإظهار نعمه، إن شكروها أعطُوا أجر الشاكرين، وإن كفروها لحقهم عقوبة الكافرين.
وقد نبَّه - أيضاً - أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- على مثل قولنا مما روي عنه من قوله: (وتأمل عند إعراضك عنه إقباله عليك، يتغمدك بإحسانه وأنت مصر على عصيانه، فو أيم الله لو أن هذا في متماثلين في القوة، متساويين في القدرة، لكنت أول حاكم على نفسك بقبح العشرة).
___________________
([50]) ـ نهج البلاغة في الخطبة القاصعة 400...
ثم ذكر أمر (الخلقة)، وهي الصورة لا فرق في ذلك ولا شك في أن الله -تعالى- يخلق ما يشاء، ويصور عباده في الأرحام كيف يشاء، وقد صرح بهذا اللفظ في كتابه العزيز، فإذا أعطى عبداً من عباده جَمالاً، وكمالاً، وصورة فائقة؛ كما فعل ذلك لكثير من خلقه، لم يحسن لأحد حسده ، ولا الإعتراض عليه بقوله: لم لم يخلقه كذلك؟ ولا يحسن منه الخروج إلى دائرة الكفر بنفي ذلك الفعل الذي لا يقدر عليه غيره عنه تعالى؛ بل يجب أن يحمد الله -تعالى- على أي صورة ركّبه عليها واختارها له من حسن أوشواهة؛ لأن الله لا يمتنع عليه مراده، ولا يضاف إليه السهو أو الغفلة عن شيءٍ من خلقه، فلو شاء جعله على أبلغ الوجوه في الكمال؛ وإنما([51]) جَعْلُهُ على الصورة المكروهة ليصبروا، وعلى الصورة المحبوبة ليشكروا وإن كرهت النفوس أحد أمرين، أو اشتهت الآخر، فالحق لا يتبع الأهواء، ولو اتبعها لفسدت السموات والأرض.
وقد ذكر في البيت (المقدار): وهو يريد به الشرف والرفعة، فقد علمنا أن الله -تعالى- قد فضَّل بعض خلقه في ذلك على بعض، وجعل له في الشريعة حكماً ذكره النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- والأئمة من أولاده -عَلَيْهم السَّلام-، وبينوه في الكفاءة، وسيأتي تفصيله.
_______________
([51]) - الواو استئناف وليست عاطفة ، والجَعْل بمعنى الخلق . والله أعلم...
ومما يوضّح ذلك: أن رجلاً من العجم صادق الإيمان لو خطب إلى رجل من العرب حرمته، ورضيت الحرمة به، فامتنع من ذلك، ما كان لها بحكم الله ظالماً، ولا في الإمتناع من تزويجه آثماً، ولا في حكم الشريعة المطهرة عاضلاً، وهذا صريح مذهب القاسم ويحيى -عَلَيْهما السَّلام- إلى يومنا هذا.
وكذلك بيوت العرب بعضها أرفع من بعض، فكيف يغبى هذا على عاقل منصف.
أو الإنتساب([52]) إلى إمام لا يقفو أثره، ويتصفح معاني كلامه !!؟، فإذا رأى أحداً من أهل بيت الرفعة سلم ورضي بحكم الله واختياره، وعلم أن لا بدَّ له على ذلك من عوض، ولم يرتكب أحد باطلين:
_____________
([52]) ـ الإنتساب: معطوف على قوله عليه السلام: الشرف والرفعة فيكون حينئذ معنى المقدار في القافية الشرف والرفعة أو الإنتساب إلى إمام لايقفو أثره ويتصفح معاني كلامه...إلخ، فيكون من عطف الخاص الذي هو شرف الإنتساب إلى الأئمة على العام الذي هو الشرف والرفعة فيكون المعنى أو الحاسد يحسد ذا الشرف على شرفه ورفعته أو على انتسابه إلى إمام لايقفو ذلك الحاسد أثره ويتصفح معاني كلامه، تمت من حاشية على الأصل؛ فتأمّل كلام الإمام فإنّ غوره بعيد وفهمه يحتاج إلى تأمّل شديد...
إمَّا اعتقاد المساواة بينه وبين ذلك البيت الرفيع، وكيف تقع بينه مساواة وبين من إذا خطبت كريمته وامتنع، لم يظلم ولم يأثم وإن رضيت، وإذا خطبها إليه من هو في درجته في الرفعة فامتنع ظلم وأثم وكان عاضلاً، وزوجها إمام المسلمين، أو قاضيهم، بغير مراضاته إن تمالى سائر أوليائها على ذلك !!؟، والأمر في هذه أظهر من أن يخفى، فهذا باطل.
والثاني: الإعتقاد بأن كونه من بيت الدُّون، وغيره من بيت الشرف، لم يقع بإرادة الله -تعالى- واختياره، وإضافة ذلك إلى غفلة أو سهو، أو أن الله فَوَّض التصرف في خلقه إلى غيره، فوقع من ذلك الغير ما لا يريده؛ وهذا باطل لا يجوز إعتقاده.
أمَّا السهو والغفلة؛ فلا يجوزان علىالعالم لذاته.
وأما التفويض؛ فهو من صفات المحدثين الذين تلحقهم السآمة فيستريحون إلى التفويض ؛ وإنما الواجب عليه مع ذلك الرضى والتسليم والنظر إلى من دونه لتعظيم نعمة الله في عينه ، وبذلك ورد الأثر الظاهر، ونعلم أنه إن سخط ذلك لم يجد إلى تغيير مراد الله سبحانه سبيلاً وحبط أجره ، وقد قال سبحانه في مثل ذلك: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}[النساء:32] وذلك يفيد ما ذكرنا، فتأمل موفقاً ما ذكرت لك فإنه محض الإنصاف.
---
[الكلام في فائدة الإبتلاء بالقليل والكثير]
[40]
أراد من أهلِ القليلِ الصَبْرَا .... ومِنْ ذَوي المالِ الكثِيرِ الشُكْرَا
وادَّخَرَ الأَجْرَ لدَارِ الأُخرَى .... ومَنُّهُ على الجميعِ يَتْرَا
لِلفائزينَ بالمحَلِ العالي
أعاد في هذا البيت الكلام في معنى التقليل والتكثير وفائدته، وأن ذلك لغرض يعود على المكلفين لا عليه تعالى، وهو التعريض لهم للثواب، فقد عرض سبحانه الجميع، عرض أهل القليل للصَّبر ليعطيهم أجر الصابرين، وأهل الكثير للشكر ليوصل إليهم ثواب الشاكرين.....
وأجر الصبر أعظم من أجر الشكر، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)}[الزمر] ، ولا بد فيه - أيضاً - من العوض مع هذا الأجر العظيم، فالعوض يكون في مقابلة فعل الله، وهو الإبتلاء بالفقر، والثواب في مقابلة فعل العبد، وهو الصبر عليه ، فإذاً نفع الفقر أعظم من نفع الغنى، ولهذا إختار أكثر الأنبياء الفقر على الغنى؛ كما نعلمه من كثير منهم -صلوات الله عليهم- عامة، ومن نبيئنا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خاصة،
فقد روينا عنه في قصة ثعلبة بن حاطب، لما سأله أن يسأل الله -تعالى- له الغنى، فقال -عليه وآله السلام-: ((يا ثعلبة إتق الله، فإني لو سألت الله أن يسيل لي الجبال ذهباً وفضَّة لفعل)) والقصة طويلة([1]).
وكذلك روينا عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أن ملكاً من الملائكة سأل ربَّه زيارة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فقال الله -تعالى- لذلك الملك: ((خَيِّر محمداً (بين([2])) أن أجعله عبداً نبياً أو ملكاً نبياً، فأتى إليه ذلك الملك ومعه جبريل -عَلَيْه السَّلام- فقال ما أمره به ربّه -عز وجل- فالتفت إلى جبريل كالمستشير له، فأوما إليه بالتواضع، فقال: بل أكون عبداً نبياً، فقال ذلك الملك: والله يا رسول الله لقد أخبرني بجوابك هذا ميكائيل تحت العرش([3]))) ، والأخبار في مثل هذا كثيرة جداً.
___________________
([1]) ـ تمام القصة برواية الإمام المنصور بالله عليه السلام: فقال: والله يارسول الله لئن رزقني الله مالاً لأصلنّ الرحم، ولأوتينّ المسكين، ولأعطينّ السائل، ولآتينّ حق الله، فقال صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((اللهم ارزق ثعلبة، اللهم ارزق ثعلبة، اللهم ارزق ثعلبة مالاً )) فاتخذ غنماً فنمت كما تنمو الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً بها، فجعل يصلي الظهر ويترك ما سواها، ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلاة إلا الجمعة ، ثم ترك الجمعة ، وطفق يتلقى الركبان يسأل عن الأخبار، وسأل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فأخبر بخبره، فقال: يا ويل ثعلبة ونزل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فبعث إليه رجلين، فقال: مرا عليه فخذا صدقاته، فعند ذلك قال لهما: ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية، فلم ندفع الصدقة، فأنزل الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة:75]، فقيل له: قد أنزل الله فيك كذا وكذا، وسأله أن يقبل صدقته، فقال: إن الله منعني من قبول ذلك، فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني)) فرجع إلى منزله وقبض رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم ثم أتى أبا بكر بصدقته فلم يقبلها اقتداء برسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم ثم لم يقبلها عمر ثم لم يقبلها عثمان، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان، انتهى من تفسير المصابيح لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- في تفسير سورة التوبة، في تفسير قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ...إلخ} عن المنصور بالله عليه السلام.
([2]) - نخ (ن) : أيحب.
([3]) ـ أمالي أبي طالب 43، عن علي بن عبدالله بن العباس عن أبيه. وروى نحوه الطبراني في الأوسط (5/166) رقم (6937) والهيثمي في مجمع الزوائد (10/318)...
وقد روينا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((أبشروا صعاليك المؤمنين بالفوز على الأغنياء يوم القيامة بمقدار خمسمائة عام، والأغنياء موقوفون يحاسبون على فضلات أموالهم، من أين اكتسبوها وفيم أنفقوها([4]))) .
ولا شك أنما نقص في الدنيا وزاد في الآخرة خير مما زاد في الدنيا، ونقص في الآخرة.
وقال النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً أصبر نفسي في القعود معهم)) فأنزل الله -تعالى- في ذلك قرآنا: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}[الكهف:28] ، وهذا المغفل قلبه عُيينة بن حصن؛ لأنه نهى رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- عن مجالستهم لسوء حالهم، وقال له: (هذا مما ينفر عنك رؤساء العرب)، فنهاه الله تعالى عن مساعدته، وأخبره بأنه قد استحق الخذلان وسلب التوفيق لما تقدم من معصيته، فلذلك أغفل قلبه عقوبة له؛ لأن الله -تعالى- لا يغفل قلبه عن ذكره إبتداءً؛ لأنه مريد للطاعة من جميع عباده كافرهم ومؤمنهم خلافاً لما ذهبت إليه المجبرة.
[بيان الحكمة في تضييق وبسط الأرزاق]
وكان في مقدوره التوسيع عليهم، وبسط أرزاقهم، ولكن ضيق عليهم تعريضاً لمنازل عالية، ودرج رفيعة، لم يكن يوصل إليها إلا بتلك المشاق من الفقر وغيره، فرضوا بها وصبروا عليها، وهذا باب كبير من أبواب الدين، فمن جهل حكمة الله في المخالفة فيه بين عباده في البسط والقبض فقد جهل أصلاً كبيراً لا يسع أحداً جهلُه، ولا يتمحض الإيمان إلا بمعرفته، وكيف يسوغ إنكاره وآيات الكتاب الكريم مشحونة بذكره، وكذلك السنة الشريفة، وأقوال الأئمة مع إجماع الأمة وحجج العقول.
__________________
([4]) ـ أخرجه ابن ماجه في كتاب العلم (3/322) رقم (3666)، وأحمد في مسنده (3/78) رقم (11610) والطبراني من حديث طويل (6/307) رقم (8866).
أمَّا الكتاب: فقد تقدم منه شطر كافٍ، وكذلك السنة الشريفة.
وأما الإجماع: فلا يعلم قائلاً به من الأمة قبل حدوث هذا القول.
وأما كلام الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-: فموجود في كتبهم وهي ظاهرة بحمد الله للكافة، ولو لم يكن من ذلك إلا ما روي عن أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- في كتاب (نهج البلاغة) حيث قال: (وقسم الأرزاق فقللها وكثرها، وقسمها على الضيق والسعة، فعدل فيها لبلى([5]) من أراد في ذلك بميسورها ومعسورها، وأراد بذلك الصبر والشكر من غنيها وفقيرها، وقرن بسعتها عقابيل([6]) فاقتها، وبفرح أفراحها غصص أتراحها)، ولولا خشية التطويل لذكرنا من قول كل إمام من آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- ما يشهد بصدق ما قلناه، وفي قول علي -عَلَيْه السَّلام- مقنع في هذا المكان وغيره؛ إذ الكل راجع إليه وفرع عنه، ولا تصح الإمامة والسلامة إلا بمتابعته، فقد رأيت أن كلامنا تفصيل لهذه الجملة التي أجملها علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-.
وأما دلالة العقول: فهي ظاهرة من وجوه:
أحدها: أن الباري -تعالى- متفضل بالأرزاق، وللمتفضل المفاضلة بالإجماع.
وثانيها: أن الدنيا دار بلوى، والبلوى لا تكون إلا بالسعة والضيق، وقد صرح سبحانه بذلك في قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}[الأنبياء:35] .
والعقول تقضي بحسن البلوى، والبلوى لا تكون إلا بما تنفر عنه النفوس، ولهذا لما كان الخير يجب عليه الشكر، والشكر لا يقع في حق الله -تعالى- إلا بالقيام بالواجبات، وترك المقبحات، وأداء الواجبات وترك المقبحات يشق على النفوس.
__________________
([5]) ـ في النهج: ليبتلي.
([6]) ـ في (م، ن): عقابيل وهي الشدائد، تمت.
سمي بلوى بإسم ما يؤدي إليه وذلك سائغ([7]) في اللغة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}[النساء:10] ، وذلك غير واقع في الحال، وإنما أكلوه شهياً لذيذاً، فلما كان مقدمة لأكلهم النار في دار العذاب -نعوذ بالله منها- ومؤدياً إلى ذلك سمَّاه بإسم ما يؤدي إليه، ولهذا قضينا بأن المشاق التي تنزل بالعباد من الله -تعالى- كالفقر، والمرض، والجدب، وذهاب الأموال، وموت الأولاد، حسنة وأنها منفعة على الحقيقة إلا أن نفعها متأخر عنها خلافاً لما ذهبت إليه المجوس والبترية([8])، كما حكينا عنهم في فصل الإمتحان في أبواب العدل، فإنهم ذهبوا إلى أن جميع ما تكرهه النفوس قبح، وأن جميع ما تشتهيه حَسَن، فغلطوا غلطاً عظيماً؛ لأن أكثر ما تشتهيه النفوس قبيح، وأكثر ما تنفر عنه حَسَن، فالأمر بالضدّ مما قالوا.
____________________
([7]) ـ في (م): شائع.
([8]) ـ البترية: يقال إنها فرقة من فرق الزيدية، أصحاب كثير النوى الأبتر، وهم متفقون مع الصالحية في المذهب ويرون رأي السليمانية في الإمامة من أنها شورى بين الخلق، ويقولون بإمامة المفضول مع وجود الأفضل إلى غير ذلك من التخاليط والأقوال التي تخالف مذهب الزيدية، قال الشهرستاني في الملل والنحل ص162: أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة ويعظمون أئمة الإعتزال أعظم من تعظيمهم أئمة أهل البيت، انتهى.
ومن نظر بعين الإنصاف والبصيرة في حقيقة الزيدي ما هي؟ وما هي عقيدته؟ وقارن بين أقوال الفرق التي تنسب إلى الزيدية وبين الزيدية على الحقيقة، علم الفرق الشاسع، فكيف يضاف إلى الزيدية من يخالف الزيدية في أهم أصولها وعقائدها، وادعاؤهم أنهم زيدية دعوى تحتاج إلى برهان، وإذا لم يوجد البرهان بطلت الدعوى وفسدت،
والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء
وكفى بالمذهب فساداً أن لا يقوم عليه دليل، ثم إنه لم يؤثر عن أحد من أئمة الزيدية القول بأقوالهم، فبطلت نسبتهم إلى الزيدية بخروجهم عن أقوال أئمّتها، ثم تراه وهو إمام الزيدية -عَلَيْه السَّلام- يردّ عليها ويفنِّد أقاويلها ويبيّن ضلالها، وقد انقرضت هذه الفرقة وغيرها من الفرق المنتسبة إلى الزيدية وهي على غير مذهبها ولم يعد لها وجود إنْ كانت وُجِدت أصلاً.
ومنها: أنَّا نعلم في الشاهد أنه يحسن من أحدنا أن يمنع ولده من تناول نوع من أنواع الطعام، وإن علم قوة داعية إليه إذا كان يعلم أن بين يديه على خطى([9]) يسيرة من الطعام ما هو ألذ منه، وأعلى قدراً، وأعظم نفعاً، ولا أحد من العقلاء المنصفين لنفوسهم ينكر ما قلناه، وحال الباري معنا أبلغ من حال الوالد مع ولده؛ لأن الوالد ربما يجتهد في نفعنا ليستر بذلك، أو لينفعه في المستقبل، أو خيفة من لائمة الغير، أو ليدفع عن نفسه رحمة التضييع، أو ليشايعه على عدوه، أو ليباهي أبناء نظراه من أوليائه وأضداده، وهذه الوجوه كلها مستحيلة على الباري -تعالى- فهو لا ينتفع بنا سواء كان لخير معجل كاللذة، والسرور، والتوسعة في المال، وتكثير الولد، أو لخير مؤجل كالألم في الأجساد، والغم على فراق الأحبة والأوداد، والضيق في الرزق، والعدم للأولاد، إلا لغرض يعود علينا نفعه خالصاً ، ولا يجوز أن يكون ذلك لغرض يعود عليه لاستحالة كل غرض -سوى نفعنا- في حقه.
وورد في (غريب الحديث) عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((ما تعدون الرقوب عندكم؟)) قالوا: الذي لم يولد له ولد يا رسول الله، فقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الرقوب من لم يمت له ولد)) ، فصرح -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بما ذكرنا.
__________
([9]) ـ الخطى: جمع خطوة بالضم ما بين القدمين، تمت مختار الصحاح.
وكذلك روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- أنه كتب إلى سلمان يعزيه بإمرأته: (أمَّا بعد فقد بلغني مصيبتك أبا عبدالله، فبلغت مني بحيث نحب لك، واعلم يا أخي أن مصيبة يبقى لك أجرها، خير من نعمة يبقى عليك شكرها).
وكذلك روينا عن جعفر بن محمد -عَلَيْهم السَّلام- قال: (مات لعمي زيد بن علي ابن، فكتب إليه بعض إخوانه يعزيه، فلما قرأ الكتاب قلبه وكتب على ظهره: أمَّا بعد؛ فإنَّا أموات أبناء أموات آباء أموات، فيا عجباً من ميت يعزي ميتاً عن ميت، والسلام)، فهذا، كما ترى، آثار آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- ناطقة بما نحن عليه.
[في قصر الأمل وذكر الآجال]
واعلم أن الواجب على كل مسلم: قصر الأمل، وحسن العمل، وأن إعتقاد وجوب المساواة في الأرزاق يؤدي إلى سوء الظن بالله.
بيان ذلك: أنَّا إذا اعتقدنا وجوب المساواة عليه وذكر لنا في أكثر آيات الكتاب الكريم التي فيها ذكر الرزق أنه فاضل، وأنه قدر على البعض، وبسط للبعض، اعتقدنا فيه لا محالة أنه ظلَم المقدور عليه، وهذا أقبح الظنون بالله، فما ظنك بمذهب أدى إلى هذا !؟
وكذلك الآجال؛ إذا اعتقدنا أنه يجب عليه تبليغها مائة وعشرين سنة([10]) أدى ذلك إلى قساوة القلوب، والتساهل في طاعة علام الغيوب، ولم نرض بقضائه في موت أحبتنا وأولادنا، فحبط الأجر، وعظم الوزر.
وسأخرج مما قلت:
__________________
([10]) ـ كما تقوله المطرفية.
أمَّا قساوة القلب: فقد روينا عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((أذكروا الموت، وكونوا من الله -تعالى- على حذر، فمن كان يأمل أن يعيش غداً فإنه يأمل أن يعيش أبداً، ومن كان يأمل أن يعيش أبداً يقسو قلبه)) ([11]) وصدق -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وبلّغ، ونحن على صدقه من الشاهدين، فما ظنك بمن يأمل أن يعيش مائة وعشرين سنة !!؟، وإنما أطلق جدنا القاسم -صلوات الله عليه- هذه اللفظة في شأن الغائب وميراثه، والقدر الذي ينتظر فيه أمره، ورأى -عَلَيْه السَّلام- أن العادة جرت من الله -تعالى- بأن أحداً من هذه الأمة لم يعمر أكثر من ذلك، ولم يقل بأن من مات قبل ذلك فلم يمته الله -تعالى- ولا يوجد هذا القول لأحد من الأمةقبل حدوث هذا القول فضلاً عن الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-، فما ظنك باعتقاد أدى إلى قساوة القلب !!؟، فنسأل الله -تعالى- الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد.
وأما ما ذكرنا من إحباط الأجر وعظم الوزر: فذلك لما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- في كتاب (نهج البلاغة) وقد مات للأشعث بن قيس ولد، فعزاه -عَلَيْه السَّلام- عنه فقال: ((يا أشعث؛ إن صبرت جرى عليه القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور، يا أشعث سرك وهو بلاء وفتنة، وغمك وهو ثواب ورحمة)) .
فقد رأيت خروجنا عن عهدة ما تكلمنا به بقول من لا إيمان إلا باتباع قوله، وهو محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ووصيه علي بن أبي طالب -سلام الله عليه، ورضوانه- وهذا القدر كافٍ لمن نظر بعين بصيرته، وطلب نجاة نفسه، وفزع إلى من أمره الله بالفزع إليه من عترة نبيئه -صلى الله عليه وسلم، وعليهم-.
_____________________
([11]) - رواه الإمام أبو طالب في الأمالي ص(431) عن ابن مسعود.
قوله: (وادخر الأجر لدار أخرى): بنيتها على أن هذه الأرزاق لا تجري مجرى المستحقات، ولا ترمى من موضع الإستحقاق؛بل تقع مطابقة لإرادة الحكيم في باب الإمتحان بوجودها وعدمها، وتقليلها وتكثيرها، وقد قدمنا ما روي عن أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- في ذلك، فلا معنى لإعادة ذكره، ودار الأجر والمكافأة على الأعمال هي دار الآخرة على ما يأتي بيانه.
قوله: (لِلفائزين بالمحل العالي): هم آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من هذه الأمة وأتباعهم -رضي الله عنهم-.
وهذا حين انتهينا إلى آخر الشرح للجزء الأول من جزء (الرسالة الناصحة)، ويتلوه الجزء الثاني في فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، والرد على من أنكره من الملحدة والروافض وطبقات النواصب، أوله حمداً لمن أيدنا بعصمته، والحمد لله أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً؛ حمداً كثيراً، بكرة وأصيلاً، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله - آمين - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم - آمين-.
ـــــــــــــــــــــــ
* * * * * * * * * * *
الجزء الثاني من شرح الرسالة الناصحة
بسم الله الرحمن الرحيم
[الكلام في فضل أهل البيت(ع) وذكر المخالف في ذلك]
[1]
حَمْدَاً لِمَنْ أيَّدَنَا بِعِصْمَتِهْ .... وَاخْتَصَّنَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهْ
وَصَيَّرَ الأَمْرَ لَنَا بِرُمَّتِهْ .... فِيْ كُلِّ مَنْ أَظْهَرَ مِنْ بَرِيَّتِهْ
هذا هو الكلام في فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، والخلاف فيه مع طائفة من المطرفية، ومع الملحدة، وخلاف الملحدة فرع عن أصل؛ لأن الكلام بيننا وبينهم في إثبات الصَّانع تعالى، وصفاته، وما يجوز عليه، وما لا يجوز، وأفعاله وأحكام أفعاله، وما يجوز عليه، وما لا يجوز ، والكلام في النبوءات وتوابعها من فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وغير ذلك من الفروع، وعند الإستقراء([12]) للأصول ينقطع خلافهم،
_______________
([12]) - في (م، ن): الإستقرار.
ومع الروافض([13]) وهم سبع فرق، ومن يُنْسب إليهم وهم الباطنية،
______________
([13]) - الروافض: لقب سمي به الذين رفضوا الجهاد مع الإمام زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام-، فقال -عَلَيْه السَّلام-: رفضتموني فسمّوا رافضة، وقد أجمع على ذلك المحدثون وغيرهم، وذكره النووي في شرح مسلم، وذكره صاحب القاموس، وذكره ابن تيمية في منهاجه في الجزء الأول منه ص21، وذكره أيضاً صاحب تهذيب الكمال في علم الرجال، وعلى ذلك جرى إجماع أهل البيت صلوات الله عليهم في كتبهم ومؤلفاتهم كما رواه الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه، وأبو العباس الحسني، والمنصور بالله عبدالله بن حمزة -عَلَيْهم السَّلام-، وصاحب المحيط بالإمامة وغيرهم -رضي الله عنهم-.
وقد روي عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((سيكون من بعدي قوم يرفضون الجهاد مع الأخيار من ذريتي ويقولون ليس عليهم أمر بمعروف ولا نهي عن منكر يقلدون دينهم ويتبعون أهواءهم)).
وأما الفرق السبع التي ذكر الإمام -عَلَيْه السَّلام- أنها فرق الروافض فهم فرق الإمامية، وهم:
1- الباقرية والجعفرية الواقفة: يزعمون أنهم أتباع محمد الباقر وابنه جعفر الصادق، ويقولون بإمامتهما وإمامة أبيهما زين العابدين علي بن الحسين، ثم افترقوا فمنهم من توقّف على الباقر وقال برجعته ومنهم من توقف على جعفر الصادق، ومنهم من ساق الإمامة في أولادهما.
2- الناووسية: أتباع رجل يقال له ناووس، قالت إن الصادق حي ولن يموت حتى يظهر فيهم أمره وهو القائم المهدي.
3- الأفطحية: قالوا بإنتقال الإمامة من الصادق إلى ابنه عبدالله الأفطح وهو أكبر أولاد جعفر الصادق.
4- الشُّميطية: أتباع يحيى بن أبي شميط قالوا: إن الإمام بعد جعفر ابنه محمد.
5- الإسماعيلية الواقفة: قالوا إن الإمام بعد جعفر إسماعيل ثم اختلفوا فمنهم من قطع بموته، ومنهم من قال لم يمت.
6- الموسوية والمفضلية: هم فرقة واحدة قالوا بإمامة موسى بن جعفر الكاظم نصاً عليه بالإسم.
7- الإثنا عشرية: وهم الذين قالوا بإمامة اثني عشر إماماً بالنص أولهم علي -عَلَيْه السَّلام- وآخرهم المهدي -عَلَيْه السَّلام- وكلهم من ولد الحسين بعد الحسن بن علي وأخيه الحسين بن علي وبينهم اختلافات كثيرة ومنازعات، انظر الملل والنحل للشهرستاني الجزء الأول ص162 إلى ص173، وقد تكلم الإمام المنصور بالله عليه السلام في كتابه العقد الثمين في فرق الإمامية من ص(118) إلى ص(125) فليرجع إليه.
ومع النواصب([14]) على طبقاتهم، وأهل الجبر([15]) منهم ثمان فرق، والخوارج([16]) خمس فرق، ويجمعهم اسم النصب، ولا وجه لإفراد كل فرقة ممن قدمنا بالذكر ؛ لأن الكل قد أطبق على إنكار فضل آل محمد، ولهذا أخذوا الدين عن غيرهم، وفزعوا في المشكلات منه إلى سواهم.
[بيان الوجه في الابتداء بذكر من خالف في فضل أهل البيت من المطرفية]
وبدأنا بذكر من خالف في ذلك من المطرفية لوجهين:
أحدهما: أنهم يظهرون التشدد في متابعة أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، ويخطّون من خالفهم، وهذا دين الله إن لم ينقض.
والثاني: أنهم ينكرون على من لم يسمهم بإسم الزيدية، وقد صح لأهل المعرفة بالدين ضرورة أن الزيدية متميزة على سائر الفرق لاعترافها بتفضيل آل محمد -عليه وعليهم أفضل السلام- وأن الله -تعالى- فاضل بين عباده، ولذلك اعتبروا المنصب في الكفاءه.
ومن قال به من الفقهاء فإنما هو لهم تبع، وإنما نسبنا الخلاف إلى طائفة منهم لوجهين:
أحدهما: أنَّا لا نقله قولاً لجميعهم وقد قال [تعالى]: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] .
والثاني: أنَّا استبعدنا أن يكون من له أدنى مسكة([17]) من علم يوجب متابعة أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ويخطيء من خالفهم وهو منكر لفضلهم.
_______________
([14]) - النواصب: هو لقب يسمى ويوصف به كل من أبغض علياً -عَلَيْه السَّلام- أو أهل بيته أو عاداهم أو خالفهم أو فضّل غيرهم عليهم، وهم كثير.
([15]) - تقدم ذكر فرقهم وتعريفهم في الجزء الأول من هذه الرسالة .
([16]) - تقدم ذكر فرقهم وتعريفهم في الجزء الأول من هذه الرسالة .
([17]) - المسكة بالضم ما يتمسك به...
واعلم أن الإستدلال على تفضيل([18]) أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- بجميع الأقوال، فلا وجه لإفراد كل فرقة منها بالذكر، وقد بدأنا بتحميد الله الذي يجب الإبتداء به، والإنتهاء إليه، ومدار خير الدنيا والآخرة عليه.
(حمداً): هو مصدر حمدنا الله حمداً، وقد تقدم تفسيره في أول الرسالة، فلا معنى لتطويل الكلام به.
ومعنى (أيَّدنا): أعاننا، لا فرق بين التأييد والإعانة.
و (العصمة): هي ما يختار المكلف معه فعل الطاعة وتوجب تكثير دواعيه إليها، وعند كافة الزيدية ومن قال بقولهم من المعتزلة كأبي علي وأبي عبدالله أن العترة معصومة، ولذلك قضوا بأن إجماعهم حجَّة، فلذلك قال: (أيَّدنا بعصمته).
قوله: (واختصَّنا بفضله ورحمته): الإختصاص في أصل اللغة هو التمييز والإيثار، وقد آثرهم على الأسود والأحمر بما لا يمكن دفعه إلا بالمكابرة.
[ذكر أن العترة شرط في صحة إجماع الأمة]
ألا ترى أن العترة إذا أجمعت([19]) على حكم من الأحكام وخالفهم جميع الخلق لم يسع لهم خلافهم عند أهل البصائر، وردتهم الأدلة إليهم صاغرين.
ومتى أجمعت الأمة أسودها وأحمرها، وخالفهم واحد من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- على قول ساغ له خلافهم، ولم يصح إدعاء الإجماع في تلك المسألة على قول الكافة !!؟، وهذا غاية الإختصاص بالشرف الكبير، والتمييز بالفضل العظيم، وهذا لا ينكره أحد من أهل العلم ولا يجد سبيلاً إلى إنكاره.
[بيان أن المعصية تعظم بعظم النعمة وجلالة المنعم]
ولما علمنا إختصاصه لهم بفضله في ذلك ورحمته؛ إذ حيلتهم وقوتهم لا تؤدي إلى شيءٍ من ذلك؛ إذ الأمر للحكيم دون عباده، أوجبنا عليهم من الشكر ما لم نوجب على غيرهم لإيجاب الحكيم لذلك عليهم بقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ}[الحج:78] ، والإجتباء هو الإختيار، وقد تقدم الكلام في هذه الآية مستوفىً فلا وجه لإعادة ذكره.
______________
([18]) - نخ (ن) : على فضل تفضيل.
([19])- في (ن) : اجتمعت.
وكانت المعصية منهم لذلك التفضيل والإختصاص أقبح وأشنع، والعقوبة على عاصيهم أشد؛ لأن المعصية تعظم بعظم النعمة، وجلالة المنعم، ولا أعظم منها نعمة، ولا أجل منَّةً، فله الحمد منعماً.
ألا ترى أن معصية الوالد أقبح من معصية غيره، وإن كان ذلك الغير منعماً لما كانت نعمة الوالد أكبر، وذلك ظاهر.
ولمّا نزل قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(30)وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا(31)}[الأحزاب] ، أطبق الكافة من آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنهم مرادون بهذه الآية وإن أفردت النساء فيها بالذكر؛ لتعظيم المحنة بالتكليف فيعظم الأجر، كما وردت النصوص على أمير المؤمنين -عليه السلام - بغير لفظ الإمامة ، وكان في المقدور إيراد أجلى منها، كأن يقول سبحانه: إمامكم دون كل أحد بعد نبيكم علي ابن أبي طالب -عليه السلام-، ويقول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: لا تبايعوا أحداً بعدي، ولا تعقدوا الإمامة إلا لعلي ابن أبي طالب -عليه السلام-، فلما ورد ذلك بأمر([20]) يفتقر إلى الإستدلال لما في ذلك من مصالح المكلفين كذلك هذا؛ لأنا إذا علمنا أن هذا الإختصاص صار لنسائه لمجرد النكاح والمباشرة، وعلمنا أن ذريته من لحمه ودمه ، علمنا أنهم بذلك أولى، ومثل ذلك لا يخفى على من له أدنى تأمل.
______________
([20])- في (ن) : بأمور.
وقد علمنا أن المعصية تعظم بشرف المكان والزمان، ولهذا يعلم أن العاصي في شهر رمضان أكثر جرماً وأعظم إثماً ممن عصى في سائر الأزمان، وبذلك ورد الأثر عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- أنه جلد النجاشي الحارثي([21]) لما شرب الخمر في رمضان، جلداً كاملاً، وزاده عشرين جلدةً، وحبسه فقال: (الحد لشرب الخمر، والزيادة والحبس لحرمة الشهر).
ومن ذلك أنَّا نعلم أن من أتى الفاحشة في المسجد يكون أعظم جرماً ممن أتاها في خانة الحمار، وبيت النار، ومعلوم أن بيت النبوة - شرف الله ذكره ما بقي الدهر - أعظم حرمة من المكان الذي هو المسجد والزمان الذي هو الشهر، وبمثل ذلك يضاعف لهم الأجر ؛ لأن ثواب الطاعة في ذلك الشهر الشريف الذي هو رمضان - مثلاً - وذلك المكان الشريف الذي هو المسجد يكون أعظم بالإجماع، ولا ينكر ذلك من يعرف جمل الشرائع فضلاً عن مفرداتها، وبيت النبوة لا شك أولى بالشرف، فلذلك يضاعف لعاملهم الأجر.
_____________
([21]) - النجاشي: هو شاعر علي -عَلَيْه السَّلام- وهو من بني الحارث بن كعب، وكان شاعر أهل العراق بصفين فلما ضربه علي -عَلَيْه السَّلام- الحد لحق معاوية وانحرف عن علي -عَلَيْه السَّلام-، وقد روى قصته في أمالي الإمام أحمد بن عيسى، والشفاء للأمير الحسين، قال في الأمالي: حدثنا محمد، قال: حدثنا عمرو بن عبدالله، عن وكيع، عن سفيان، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن علي علي -عَلَيْه السَّلام- أنه أتي بالنجاشي سكران من الخمر في رمضان فتركه حتى أضحى ثم ضربه ثمانين، ثم أمر به إلى السجن، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، قال: ثمانين للخمر وعشرين لجرأتك على الله في رمضان، رأب الصدع (3/1398)، ورواه أيضاً في الشفاء (3/333)، وقد روى قصته ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (4/299)...
[بيان أن فسق الفاسق لايسقط وجوب الرجوع إلى المهتدي]
فإن قيل: قد أكثرتم في أمرهم، ونحن نعاين من أكثرهم المعاصي، ومنهم عندكم من هو ضال في الدين، فكيف يسوغ لكم تضيفون إليه أسباب الهدى ووراثة الكتاب !!؟.
قلنا: هذا سؤال من استوضح سلسال فرات الدين من مد بصره ثم قام هنالك، ولم يزاحم على شرائعه بمنكبيه، لأن ما ذكر لا يخرجهم من ذلك، وكيف يخرجهم والله عز من قائل، يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(26)}[الحديد] ، ففسق الفاسق - كما ترى - لم يسقط وجوب الرجوع إلى المهتدي.
وقال عز من قائل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}[فاطر:32] ، فصرح عز وجل باصطفائه لهم مع أن فيهم الظالم لنفسه؛ لأنه علام الغيوب، وقد ذكره للبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فقد رأيت تهدُّم هذا السؤال من كل جانب بكلام الصادق الذي لا يجوز عليه الكذب ولا شيءٌ من القبيح كما قدمنا.
ومن حيث فضلوا وجب عليهم من الإجتهاد في الطاعة أكثر مما وجب على غيرهم، وضوعف لهم الأجر، كما قدمنا، على الطاعة، وضوعف العقاب على المعصية، ولا يعلم بين أحد من علماء آل الرسول -عَلَيْهم السَّلام-، فيما قلنا، من مضاعفة الثواب لمطيعهم، والعقاب لعاصيهم إختلافاً.
..
وفي ذلك ما روينا عن الناصر([22]) للحق الحسن بن علي الملقب بالأطروش -صلوات الله عليه- في بعض مواعظه، في كلام فيه بعض الطول إنتهى فيه إلى أن قال: (وإن طريق الجنَّة خشن، وبالإجتهاد يبلغ إليها، إني لا أُمَنِّي([23]) نفسي ولا أخدعها بالأماني، ولا أطمع أن أنال الجنَّة بغير عمل، ولا أشك في أن من أساء وظلم منَّا ضوعف له العذاب، وأنا ولد الرجل الذي دل على الهدى، وأشار إلى أبواب الخير، وشرع هذه الشرائع، وسن هذه السنن([24])، فنحن أولى الناس باتباعه، واقتفاء أثره، واحتذاء مثاله، والإقتداء به) هذا كلامه -صلوات الله عليه- فصرح بما ذكرنا من مضاعفة العقاب، وليس إلا لما ذكرنا من الإختصاص الذي يجب شكره ، ولا يسع كفره، ولهذا قلنا إن واحدهم -عَلَيْهم السَّلام- متَعَبَّدٌ بما لم يتعبَّد به واحد غيرهم من منابذة الظالمين، ومقاتلة الفاسقين، وتجييش الجيوش، وأخذ الأموال ممن وجبت عليه طوعاً وكرهاً، وتعليم الناس معالم الدين، إلى غير ذلك من أعمال الإمامة التي قدمنا ذكرها، وواحد غيرهم إذا انتهى في الفضل تعبد بتعليم ما بينهم دون غيره.
قوله: (وصيَّر الأمر لنا برّمته): معناه ظاهر؛ لأن مراده بالأمر: هو التصرف على الكافة المقتضي لمعنى الإمامة، وقد تقدم الكلام في أن الله -تعالى- خصهم بذلك دون غيرهم في مسألة قصر الإمامة عليهم، بما فيه كفاية لمن اكتفى، ومقنع لمن أنصف.
______________
([22]) - ستأتي ترجمته قريباً إن شاء الله تعالى، وقد روى هذا الكلام عنه الإمام أبوطالب في الأمالي ص(201) .
([23]) - في الأمالي : إني لا أغُرُّ نفسي.
([24]) - في الأمالي زيادة : الأحكام.
[2]
صِرْنَا بِحُكْمِ الواحِدِ المنَّانِ .... نَمْلِكُ أَعْنَاقَ ذَوِي الإيِمَانِ
وَمَنْ عَصَانَا كَانَ في النِّيْرَانِ .... بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ أَوْ هَامَانِ
المعنى في هذا البيت أن الله -تعالى- حكم للأئمة الذين هم أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- دون غيرهم، -كما قدمنا الإستدلال عليه في باب الإمامة- بملك التصرف على المؤمنين وغيرهم من جميع العالمين، وإنما خصَّ المؤمنين بالذكر أنهم أعلى الناس بعد عترة خاتم المرسلين -سلام الله عليه، وعليهم أجمعين- ذلك لهم يكشف عن ملكهم لمن دونهم بطريقة الأولى.
وأهل الإيمان الحقيقي ينجحون بالتعبد لآل محمد -عليه وعليهم السلام- وأن يكونوا منهم بمنزلة المملوك لما في عاقبة ذلك من الملك العظيم، والخير الجسيم، فجزاهم الله عن عترة نبيهم خير الجزاء.
[بيان حال من يدعي الإيمان وينكر فضل العترة]
ومن كان يدعي الإيمان وينكر فضلهم لم يكن بد له من أحد أمرين:
إمَّا أن يرجع إلى الحق في إعتقاد تفضيل الله -تعالى- لهم، ووجوب طاعتهم، والإنقياد لأمرهم، ولا شك في أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وإمَّا الخروج من هذه الدعوى الشريفة التي هي الإيمان؛ لأن من خالفهم خرج من زمرة المؤمنين، ولحق بأعداء الله الفاسقين؛ لأن المعلوم من إجماعهم أنهم أفضل الخلق.
وذكر تفضيل الله لهم مما يلزم علماءهم إظهاره، ولا يلحق كتمان ما اختصهم الله به من الفضل بالتواضع؛ لأن محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان أشد الخلق تواضعاً، ومن أنكر ذلك كفر، فلم يكن يذكر شيئاً ينبي عن اتضاع منزلته، ولا يكتم شيئاً مما اختصه الله به؛ بل قال: ((أنا أفضل ولد آدم ولا فخر([25]))) فحدث بنعمة ربِّه، ونفى فَخْر الجاهلية بالمعاصي، فهذا قول نبيئنا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد حكى الله عن عمينا داود وسليمان -عَلَيْهما السَّلام- مثل ذلك، وهو ظاهر في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ(15)}[النمل] ، فحمدا الله على تفضيله لهما على المؤمنين، واستثنى بدلالة اللفظ لأهل المعرفة من هو أعلى درجة منهما من النبيئين -سلام الله عليهم أجمعين- ولأن إظهار نعم الله -تعالى- واجب ، وكتمانها كفر([26])؛ لأن الشكر لا يكون إلا التعظيم للمشكور مع ذكر النعمة، فإذا تعرى من ذكر النعمة كان حمداً ولم يكن شكراً، ومثاله أنك إذا قلت فلان رفيع المكان، عظيم الشأن، كنت حامداً له ولم تكن شاكراً عند أهل المعرفة، وإذا قلت فعل لي فلان كذا وكذا من الإحسان، وهو رفيع المكان، عظيم الشأن قيل فلان شكر فلاناً وكان عند أهل العلم شاكراً، فلذلك ذكرنا ما خصّنا الله به من التفضيل على كافة عباده؛ إلا من خصه الدليل من النبيئين -عَلَيْهم السَّلام- وأثنينا عليه بما هو أهله.
قوله: (ومن عصانا كان في النيران): المعصية: هي المخالفة لأمر من تجب طاعته ها هنا، وهم أهل بيت النبوءة -عَلَيْهم السَّلام- ومِنْ أمرهم للكافة إعتقاد فضلهم، والرجوع إلى طاعتهم.
_________________
([25]) - أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث طويل (4/25) رقم (5082) والهيثمي في مجمع الزوائد (10/378)، والإمام المرشد بالله في الأمالي (1/151) .
([26])- كفرها (نخ).
(وفرعون وهامان) مذكوران في كتاب الله -تعالى- بالذَّم، وهما منكران فضل موسى -صلوات الله عليه- ولا شك أن محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أفضل من موسى ، ومن أنكر فضل آله فقد ظلم محمداً أجره؛ لأن الله -تعالى- أمره فقال: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] ، ومن أنكر فضل آله فقد أنكر فضله ، وجحد حقه، وساءت له -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- مكافاته، فيا لها من فتنة ما أطمها، ومصيبة ما أعمها؛ إلا لمن نفذت بصيرته ، واستوت في اعتقاد فضل آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- علانيته وسريرته، وحسنت في إتباعهم سيرته، فلذلك قلنا يكون منكر فضلهم (بين يدي فرعون أو هامان) وأو ها هنا بمعنى الواو كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ(147)}[الصافات] ، معناه: ويزيدون؛ لأن الشك لا يجوز على الله -تعالى- وجاز إبدال أو من الواو لأنهما جميعاً من حروف النسق، ولولا ادعاء فرعون الربوبية ومظاهرة هامان -لعنهما الله- له على ذلك لكان لقولنا إن منكر فضل آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أشد منهما ومن أتباعهما عذاباً مساغ في الإستدلال، فكيف يجوز لمسلم الإقدام على مثل هؤلاء الأهوال.
ثم أيّد ماتقدم بقوله:
[3]
لَوْ أَنَّهُ صَامَ وَصَلَّى وَاجْتَهَدْ ....وَوَحَّدَ اللهَ تَعَالَى، وَعَبَدْ
وَصَيَّرَ الثَّوْبَ نَظِيْفاً والجَسَدْ .... وَقَامَ لِلطَّاعَةِ بِالعَزْمِ الأَشَدْ
أراد بهذا البيت تأكيد ما قبله وإلزام ما بعده بما لا سبيل إلى رفعه، وذلك قوله:
[بيان حكم المنكر لفضل أهل البيت(ع)]
[4]
ثُمَّ عَصَى قَائِمَنَا المَشْهُوْرَا .... وَقَالَ لَسْتُ تَابِعَاً مَأمُوْرَاً
مُحْتَسِبَاً لأمْرِكُمْ مَقْهُوْرَا .... لَكَانَ مَلْعُوْنَاً بِهَا مَثْبُورَاً
معنى هذا البيت أن المخالف لأهل البيت في إنكار فضلهم، على الصفة التي ذكر في البيت الأول من الصيام، والصلاة، والتقزز([27]) في الطهارة الذي جعله كثير من الناس ديناً.
(ثم عصى) قائم أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- لكان بذلك ملعوناً لعيناً ولم تغن عنه عبادته من الله شيئاً.
ومعنى(الملعون): المبعد عن رحمة الله تعالى.
(مثبورا): خاسراً.
و (القائم المشهور): هو الإمام، ومن قوله الإعتراف بفضل نفسه وأهله من عترة النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، لولا ذلك لما وجب قصر الإمامة عليهم وادعاء إرث النبوءة لهم.
و (التابع المأمور): هو المتصرف لمالكه فيما أراد، قال النابغة:
ليهن بني ذبيان أن بلادهم .... خلت لهم من كل مولى وتابع
وأهل الحقائق من أهل الإيمان يفتخرون بأهل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- مواليهم وسادتهم، ويتميزون بذلك على جميع الفرق؛ وذلك ظاهر في شعر الشعراء منهم، وتصنيف العلماء فيهم، ولولا ظهور ذلك ومحبة التخفيف لذكرنا منه طرفاً.
وقد أتبع ما تقدم بحكم من أحكام منكر فضلهم وهو قوله:
_____________
([27]) - التقزز: التنطس والتباعد من الدنس، تمت مختار الصحاح.....
[يبان مصير منكر فضل أهل البيت(ع)]
[5]
وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الجَحِيْمِ الحَامِيَهْ .... وأمُّهُ فيها يَقِيْناً هَاوِيَهْ
وَمَا الذي يُدْرِيْ الجَهُولُ مَا هِيَهْ .... نَارٌ تُصَلِّيهِ بِهَا الزَّبَانِيَهْ
(الجحيم): هي النار العظيمة، وكذلك الجحام، والجحمة، وشواهدها في اللغة ظاهرة من النظم والنثر، ولا معنى لذكرها، ولا أعظم من نار الله -تعالى- التي خلقها من غضبه، نعوذ بالله منها ومن قول يؤدي إليها.
و (الحامية): صفة النار، و(أمُّه) ها هنا: رأسه، وهذه صفة منكر فضل آل محمد -عليه وآله السلام-، العادل عن منهاجهم، الراجع في طلب الرشاد إلى سواهم ، لفتنة عبادة أو محبة أو تعمد معصيته لغرض من الأغراض، ولكن أعداء الله في النار، قد صرح به الكتاب العزيز بقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ(94)}[الشعراء] ، والكبكبة مضاعفة الكب، والكب في أصل اللغة: إلقاء الشيء على رأسه.
قوله: (وما الذي يدري الجهول ما هيه): لتعظيم الخطب كما جرت بذلك عادة العرب في خطابهم، ولا شك في عظم ما هنالك، نعوذ بالله من شره، ونسأله المصير إلى خيره.
ثم جلي ذلك بقولنا: (نارٌ تصليه بها الزبانية): معنى تصليه: تقلبه، مأخوذة من تصلية الشواء بالسَّفُّود وما شاكله، فمرة على وجهه، ومرة على ظهره، وذلك بما قدمت يداه، وما ربُّك بظلام للعبيد.
و (الزبانية): هم الملائكة -عَلَيْهم السَّلام- الموكلون بعذاب أهل النار، وسموا زبانية لزبيهم أهل النار في النار، والزبي: هو الدفع الشديد، وأصله في الناقة: تزبي ولدها وحالبها؛ أي تدفعهما، وقد نقل إلى الحرب والأصل في ذلك ما ذكرنا.
ومما يدل على ما قلنا من مصير المتخلف على أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- إلى النار لإنكار فضلهم قول النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم)) ، فقد ظهر لك أنَّا لم نقطع على منكر فضلهم إلا بدليل واضح، وبرهان لائح...
[بيان فضل أولاد النبي(ص) على سائر العرب والعجم]
[6]
إنَّ بَنِيْ أَحْمَدَ سَادَاتُ الأُمَمْ .... بِذَا لَهُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ حَكَمْ
مَنْ أَنْكَرَ الفَضْلَ لِأُذْنَيْهِ الصَمَمْ .... مَنْ عِنْدَهُ الدُّرُ سَواءٌ والحِمَمْ
قوله: (بني أحمد): يريد؛ أولاد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وأحمد من أسماء النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبذلك سمي([28]) في بشارة عيسى بقيامه وظهوره.
وقوله: (سادات الأُمم): يريد؛ مقدمات الخلق وأولي الأمر في العر ب والعجم وذلك الفضل المبين، وقد دللنا على ذلك في إثبات الإمامة لهم -عَلَيْهم السَّلام- دون غيرهم.
ومما يؤيد ذلك ما روينا بالإسناد الموثوق به إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((قال لي جبريل: يا محمد طُفت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر أهل بيت أفضل من بني هاشم([29]))) ولا شك أن آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أفضل بني هاشم، فما ظنك بمذهب أدى إلى رد شهادة جبريل، ثقة الملك الجليل، سبحانه وتعالى، وأنكر به فضل أفضل الخلق !!؟، فنعوذ بالله من الزيغ بعد الهداية ومواقعة أسباب الردى.
______________
([28]) - وذلك في قوله تعالى حاكياً عن عيسى -عَلَيْه السَّلام-: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(6)} [الصف].
([29]) - أخرجه أحمد بن حنبل في المناقب، والمحاملي، والذهبي عن عائشة، وابن عساكر، وأخرجه أبو العباس الحسني في المصابيح - خ -، وأخرج نحوه أيضاً باختلاف يسير، والمرشد بالله في الأمالي (1/156)، والبيهقي في الدلائل، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد (8/220)، وعزاه إلى الطبراني في الأوسط (4/373) رقم (6285).......
ولأن أهل البيت مجمعون بحيث لا يعلم خلافه أنهم أفضل الناس، لولا ذلك لما أوجبوا على الأمة الرجوع إلى أقوالهم ، والإقتداء بأفعالهم.
وإجماعهم حجَّة، كما قدمنا، وهذا - أعني إعتقاد فضل أهل البيت -عليهم السلام- - مذهب الزيدية خصوصاً، وطبقات الشيعة عموماً، ولم يعرفوا من بين أهل الفرق إلا بذلك، وبما يؤدي إليه مما ينبني عليه، وذلك أنهم اعتقدوا فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وأخذوا الدين عنهم بالأدلة، وأوجبوا على سائر الخلق مشايعتهم على ذلك، فسموا شيعة؛ وذلك ظاهر؛ ولأنهم لو لم يعتقدوا فضلهم لم يصغوا إلى كلامهم كما فعل غيرهم من الناس،و لا يعلم خلاف في عموم ذلك فيهم -عَلَيْهم السَّلام- إلا مع الروافض الظالمين، والنواصب الكافرين، نعوذ بالله من حالهم أجمعين.
وقد قال الله -تعالى- رداً عليهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}[فاطر:32] ، وأهل البيت مجمعون أنهم المرادون بهذه الآية،وإجماعهم حجَّة، كما قدمنا، فأخبر أنهم صفوته من خلقه، وصفوة كل شيءٍ أفضله، فلذلك قضينا بأنهم أفضل الخلق ، ومن هناك قلنا في القافية : (بذا لهم ربُّ السموات حكم): لأن خبره تعالى حكم يعلم ذلك جميع أهل الأصول، ولذلك أوجبوا الحج بقوله: [على الناس: {حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}[آل عمران:97] ، وهذا، كما ترى.
قوله: (من أنكر الفضل لأذنيه الصّمَم)، دعاء عليه بذلك، وهو واقع لامحالة؛ لأن الله -تعالى- قد أخبر أنه يحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً، وهو تعالى لا يخبر إلا بالحق...
..
والدعاء بالواقع جائز كما حكى([30]) الله -تعالى- عن الملائكة -عَلَيْهم السَّلام- أنهم يدعون إليه بالمغفرة للذين تابوا واتبعوا سبيله التي نهج لعباده ، ولا شك في أن ذلك واقع من قبله لعدله وحكمته، ولا شك أن من أنكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وجحد حقهم، ولم يعط بمودتهم أجر جدهم -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان الصمم أهون ما يستحق من العقوبة؛ لأن الله -تعالى- توعده بنار جهنم على لسان نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
[الوعيد لأعداء أهل البيت(ع)]
وقد روينا عن أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((من كان في قلبه مثقال حبَّة من خردل عداوة لي ولأهل بيتي لم يرح رائحة الجنَّة([31]))) ولا يعلم أشد لهم عداوة، ولا أعظم مكيدة لدين الله ونبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ممن أنكر فضل عترته وساوى بينهم وبين غيرهم.
___________
([30]) - كما حكى ذلك في سورة غافر في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(8)وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(9)}.
([31]) - هذا الحديث له شواهد كثيرة تدل على معنى الخبر دون لفظه، وقد روى نحوه بلفظ يقرب من هذا اللفظ مع اختلاف يسير الإمام المؤيد بالله في الأمالي عن أنس بلفظ: ((من كان في قلبه مثقال حبة من خردل عداوة لي ولأهل بيتي فليس من الله ولا من رسوله في شيء))، ولنذكر بعض الشواهد التي تدل على هذا الحديث باختصار:
فمنها: قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم والمعين عليهم ومن سبهم أولئك لاخلاق لهم في الآخرة ولايكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) أخرجه الإمام علي بن موسى الرضا عن علي -عَلَيْه السَّلام-، وأخرجه أيضاً الإمام أبو طالب في الأمالي بزيادة: ((ولا ينظر إليهم)) وبدون: ((ومن سبهم))، وأخرجه بلفظ الإمام أبي طالب صاحب شمس الأخبار، وأخرجه ابن النجار أيضاً بلفظ الصحيفة.
ومنها: قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إشتد غضب الله وغضب رسوله على من أهرق دم ذريتي، أو آذاني في عترتي))، أخرجه الإمام علي بن موسى الرضا، وأخرجه ابن النجار عن أبي سعيد بلفظ: ((والله اشتد غضبه على من أراق دمي أو آذاني في عترتي))، وأخرجه ابن المغازلي والديلمي عن أبي سعيد والبزار عن ابن عمر، وثَمَّ شواهد كثيرة لايسع المقام حصرها...
هذه أمية على مجاهدة جاهليتها لرسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بالحرب والمنابذة وقود العساكر إليه([32]) حتى أظهر الله دينه وهم كارهون، فتستروا بالدين وصدورهم قد باض فيها النفاق وفَرَّخَ ودَرَجَ وعَشَّشَ، ثم كان منهم ما كان من قتل عترته -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وحمل بناته، كالسبي المجلوب إلى الشام قد أنكر ذلك بعضهم واعترف بفضلهم حتى قال:
سمية أضحى نسلها عدد الحصى .... وبنت رسول الله ليس لها نسل
واستقصاء أخبارهم يشط بنا عن الغرض.
_______________
([32])- في (ن) : عليه...
[بيان حال العارف بفضل أهل البيت(ع)]
وكان من يتحقق منهم يبطن ويشارك أهل العلم في الطلب لا ينكر فضلهم إمَّا خوفاً من الله، وإمَّا إحتساباً على نفسه من إنكار شيءٍ يعلم ضلاله في إنكاره.
فمن ذلك: ما روينا بالإسناد([33]) الموثوق به عن عبدالله بن الحسن([34]) -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: (دخلت على عمر بن عبدالعزيز([35]) فخلى بي فقال: يا أبا محمد إن رأيت أن ترفع ما فوق الإزار، قلت: ما تريد إلى هذا رحمك الله؟، قال: فإني أسالك، قال: فرفعت، فجاء ببطنه حتى ألزق ببطني، ثم قال: إني أرجو أن لا تمس النار بضعة مسَّت بضعة من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
_____________
([33]) - ذكره الإمام أبو طالب في الأمالي (ص125)، وروى نحوها أبو الفرج الأصفهاني في المقاتل (169).
([34]) - ستأتي ترجمته قريباً إن شاء الله تعالى.
([35]) - عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص أبو حفص الخليفة العادل من بين تلك الشجرة الخبيثة كان رجلاً صالحاً وخليفة عادلاً عاصره فضلاء أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- كعلي بن الحسين زين العابدين، وعبدالله بن الحسن الكامل وغيرهم من الفضلاء، وأثنوا عليه خيراً، ولم يكن في بني أمية كلها من يقول بالعدل والتوحيد غيره وغير يزيد بن الوليد الملقب الناقص، وكان له مآثر حسنة، وأعمال طيبة.
فمنها: أنه قطع السب لأمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- في جميع الآفاق ووضع بدلاً منها: إن الله يأمر بالعدل والإحسان...إلخ، ورد فدك على أولاد فاطمة عليها السلام، وأيضاً أدنى أهل الدين والصلاح، وباعد أهل الفسق والعصيان وله آثار جميلة تدل على فضله وعلو منزلته.
ومن آثاره أيضاً وأفعاله الحميدة وصله لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ومواساتهم وتأمينهم، فقد روي أنه كان يصل جعفر بن محمد بالذهب في جراب السمن والعسل وهذا دليل التقية. ولد سنة إحدى وستين في العام الذي قتل فيه الحسين بن علي -عَلَيْه السَّلام-، وبويع بالخلافة سنة تسع وتسعين، وتوفي بخناصرة لستٍ بقين من رجب سنة إحدى ومائة وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وأوصى أن يدفن في قطعة أرض ورثها من أمه في دير سمعان، وقبره هناك مشهور.
[بيان حال مُنْكر فضل أهل البيت(ع)]
فقد رأيت أن منكر فضلهم يكون أسوأ حالاً من بني أمية، وكيف يجوز لك والنبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول: ((أيها الناس أوصيكم بعترتي أهل بيتي خيراً فإنهم لحمي وفصيلتي فاحفظوا منهم ما تحفظون مني([36]))) ، ومما يجب أن يحفظ منه توقيره، وتعظيمه، وتفضيله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على جميع الخلق، وكذلك يجب توقيرهم، وتعظيمهم، وتفضيلهم على سائر الخلق، وهذا ظاهر لا يسع خلافه.
ثم قال بعد ذلك مؤكداً: (من عنده الدر سواء والحمم) يقول: " من ساوى بين أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وغيرهم من أجناس العرب والعجم فالدر عنده والحمم في منزلة واحدة ".
والدرة: جوهرة عزيزة نفيسة معروفة، وقد قدمنا ذكرها في باب النبوءة.
(والحمم): سود النار بعد خمودها، وبينهما بون بعيد، قال الشاعر:
أشجاك الربع أم قِدَمُه .... أم رماد دارس حممه
ومن انتهى إلى التسوية بين الدر والحمم فقد انتهى في الجهل، وأجهل منه من ساوى بين عترة محمد (صلى الله عليه وسلم وعليهم) وبين غيرهم من الناس؛ لأنهم لم يرد على المساواة بين الدُّر والحمم وعيد، وقد ورد على المساواة بينهم وبين غيرهم وإنكار فضلهم من الله ومن رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الوعيد.
____________
([36]) - رواه الإمام أبو طالب في الأمالي عن ابن عباس (130) .....
[بيان أن الله تعالى فاضل بين خلقه]
والعلم بأن الله فاضل بين خلقه ظاهر لكل منصف لم يكابر عقله ويؤثر هواه على هداه؛ لأنا نعلم تفضيل الله -تعالى- للحيوان بالحياة علىالجماد، وفضل الحيوان الناطق على البهائم بالنطق، وفضل العاقل من الناطق بالعقل على غير العاقل، وفضل بعض البهائم على بعض؛ فضل الفرس على الحمار، وجعل الله -سبحانه- لذلك حكماً في الشريعة الشريفة، فروينا عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: ((ما خصَّنا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من دون الناس إلا بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي الحمير على الخيل))([37]) ، وإنما قال ذلك -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وخصّ به أهل بيته لما في إرتباط الخيل من الفضل، لأمره سبحانه بذلك في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل ِ}[الأنفال:60] ، وقد بينا أن التعبد على أهل البيت أشد، وقد علم منهم ومن شيعتهم في الوضوء ما لم يعلم من أحد من الفرق.
______________
([37]) - رواه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني -عَلَيْه السَّلام- في شرح التجريد والإمام المتوكل على الرحمن أحمد بن سليمان -عَلَيْه السَّلام- في أصول الأحكام ، والأمير الناصر للحق الحسين بن محمد -عَلَيْه السَّلام- في الشفاء كلهم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ، ورواه الإمام علي بن موسى الرضا في صحيفته بسنده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة وأمرنا بإسباغ الوضوء وأن لا ننزي حماراً على عتيقة)).......
وأما أكل الصدقة والإمتناع من إنزاء الحمير على الخيل فخاص لهم دون غيرهم لما علم الله في ذلك من المصلحة، ولعل من لا بسطة له في العلم منهم لا يعلم كراهة إنزاء الحمير على الخيل لهم، هذا وجه هذا الخبر الشريف.
وكذلك فضَّل الناقة على الشاة، وجعل لذلك حكماً في الشريعة في الهدي والدِّية، فأقامها مقام عدد كثير.
وكذلك في مقاسم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبَسْطُنا الكلام في ذلك يخرجنا عن الغرض، وكل هذا التفضيل إبتداءً.
وكذلك فضَّل بعض الحيوان العاقل الناطق على بعض؛ فضَّل العرب على العجم، والحر على العبد، وأهل البيت الرفيعة على من دونهم وإن استووا في الأعمال، وجعل لذلك حكماً في الشريعة، وقد أوضحه أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- في الكفاءة.
وكذلك فضل الذكور على الإناث، وينطق بذلك كتابه في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[النساء:34] ، وهذا واضح.
وفضَّل بعض الإنسان على بعض؛ فضَّل الرأس على سائر الجسد، وفضَّل الوجه على سائر الرأس، وجعل لذلك أحكاماً في الشريعة، وهذه الأمور ظاهرة لا ينكرها إلا من غلب الران على قلبه، وألبَّ العناد والخذلان بلبِّه ، فنعوذ بالله من عمى القلوب ، ومعصية علام الغيوب.
[القول بإنكار فضل أهل البيت (ع) يغضب منه الجبار]
[7]
قَد قَالَ مَنْ أَنْكَرَ فَضْلَ الأَخْيَارْ .... أَعنِي بَنِيْ بِنْتِ النبي المُخْتَارْ
مَقَالَةً يَغْضَبُ مِنْهَا الجَبَّارْ .... ليس لِحُكْمِ اللهِ فيها إِنْكَارْ
يريد بالمقالة التي ذكر في هذا البيت ما بيَّن في البيت الثاني، وهو ما يأتي إنشاء الله تعالى...
[إنكار المطرفية لفضل أهل البيت(ع)]
ومنكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- هم فرقة من جهَّال([38]) الشيعة زعموا أن الله -تعالى- لم يفضّل عترة نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على غيرهم من الناس في الإبتداء؛ بل هم وغيرهم في ذلك سواء، وحملهم على هذا الإعتقاد الذي شهد بفساده كتاب الله -تعالى- عند من إعترف أنه موجود بين أظهرنا حجَّة لنا وعلينا، لا يفترق هو وعترة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم وعليهم- إلى إنقطاع التكليف، ومن لم يعترف أنه موجود بيننا؛ بل لم يصح نزوله إلينا؛ فكل خطيئة في جنب هذه جلل؛ لأنه رد المعلوم من دين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ضرورة، وإجماع عترته خاصة، والمسلمين عامة، وشهد بصحته - أيضاً - سنة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وأدلة العقول، وقد قدمنا من كل شيء دليلاً كافياً ، ولا بد في أثناء القوافي من تأكيد ما تقدم على قدر ما تمس إليه الحاجة، ولا نستمد التوفيق إلا من الله تعالى.
_______________
([38]) - هم فرقة المطرفية ، وهم المعنيون أينما أطلق الإمام هذا اللقب في هذا الكتاب...
[بيان الدليل العقلي على إثبات التفضيل]
إعلم؛ أن دلالة العقل قد قضت بأن الله -تعالى- متفضل على عباده بخلقهم، ورزقهم، وموتهم، وحياتهم، وأن ذلك غير واجب عليه، ولا يعلم بين المسلمين خلاف في ذلك، ويثبت بدلالة العقل أن المتفضل له الإختيار في الزيادة والنقصان، والمحو والإثبات.
ومثاله في الشاهد مانعلمه من أن رجلاً لو أعطى جماعة منَّا شيئاً من المال تفضلاً من غير أن يجب عليه لواحد منهم حق، فأعطى واحداً منهم خمسة، وأعطى آخرين أقل من ذلك وأكثر لوجب شكره على الجميع عند كل كافة الناس، وإن كان قد فضّل بعضهم على بعض، وكان من يذمُّه وينقد عليه مذموماً عند العقلاء.
وأما دلالة الكتاب والسنة: فأكثر من أن نأتي عليها في مثل هذا الكتاب، وقد تقدم من ذلك طرف، ولا بد إنشاء الله -تعالى- من ذكر زبد كافية، وأدلة وافية، في إثبات ما يكون تذكرة للمنتهين، ووسيلة للمبتدئين، وموقظاً للغافلين، وحجَّة على المتجاهلين والمعاندين من الجاهلين.
[بيان سبب قول المطرفية لا فضل إلا بعمل]
ولا أعلم لإنكار هذه الفرقة المنتسبة إلى أهل هذا البيت الشريف عند الله في الدنيا والآخرة وجهاً يصرف إليه إنكارهم لفضلهم - سيما مع إيهامهم للناس أنهم خواصهم وأتباعهم دون غيرهم ، حتى إذا نسب إليهم خلافهم لهم ضجُّوا من ذلك وأنكروه - إلا عجبهم بنفوسهم وإستكثارهم لأعمالهم، وقولهم من أطول منَّا عبادة، وأكثر منَّا علماً؟ أولم يعلموا أن العترة المطهرة - التي ملكها الله -تعالى- أزمّتهم ، وافترض عليهم الرجوع إليها في جميع الأوقات إلى آخر التعبد - أزكى منهم عبادة ، وأغزر علماً، وأرجح حلماً، وأرصن فهماً، وكيف لا يكونون كذلك وأهل ذلك؟ وهم عترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وورثة علمه، وصفوته من خلقه، فنتج العجب الذي ذكرنا أنه لا فضل إلا بعمل، وهذا، كما ترى ، جهل، وقد قدمنَّا بيانه وانضاف إليه إعتقاد فاسد؛ وهو أنهم أعمل الناس فازدوجا وأنتجا أنهم أفضل الناس ، ففرحوا بهذه النتيجة وأعجبوا بها ، ولم يبلغ فهمهم إلى أن النتائج لا تصح إلا أن تكون مقدماتها صادقة ، وأن العجب يحمل صَّاحبه على دعوى مالم يجعل الله له، فمن هناك يجب على العاقل التثبت في أمره، وإعمال الفكر في طلب نجاته، وحفظ قوانين دينه، وحراسة أقواله من المناقضة في إعتقاده...
ألا ترى أنه من أوجب على نفسه وعلى الناس الرجوع إلى قوم مخصوصين، وأظهر أنهم عنده ولاة الأمر في الكافة، ثم قال بعد ذلك: إلا أنهم لا فضل لهم إلا بعمل، وفي العاملين كثرة كما علم الكافة ، كان لقائل أن يقول له : إنك ناقضت في كلامك؛ لأنك أوجبت علينا الرجوع إلى قوم لا لأمر يوجبه ولا برهان يدل عليه؛ لأن في كل فرقة عاملاً مجتهداً، وربما يكون أهل البدع أكثر إجتهاداً كما روي عن الخوارج ومن شابههم، فإنهم تعمقوا فمرقوا، وتحكموا فندموا، فلو كان بعض نظرهم فيما أوبقهم، واجتهادهم فيما لم يخلصهم كان في طرق الأدلة التي أوجبت عليهم الرجوع إلى هداتهم وسفن نجاتهم من عترة نبيئهم -صلى الله عليه وسلم وعليهم- نالوا بأقل عنايتهم دار الكرامة !!؟، فنعوذ بالله من إجتهاد يؤدي إلى الندامة.
[بيان أن المنكر لفضل أهل البيت (ع) رادٌّ لكثير من الآي والآثار]
قوله: (مقالة يغضب منها الجبار): لأن من لم يعرف أن أهل البيت -عليهم السلام- أفضل الخلق فقد أغضب الله -سبحانه- لأنه يكون راداً لقوله تعالى في كثير من الآي، ولقول رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في كثير من الآثار، فمن الآي الآية التي استشهدهم فيها على عباده، وأمرهم بالجهاد فيه حق جهاده، وهي قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[الحج:78] ، والإجتباء هو الإختيار، والإصطفاء وذلك الفضل المبين.
ألا ترى في الشاهد أن السلطان إذا قرب رجلاً، واصطفاه، واستشهده على الكافة وارتضاه ، فإن كل عاقل يفهم أنه قد فضله على من سواه، ومن أنكر ذلك أو أخبر بأنَّه لا يعلمه قضى العلماء بجهله أو تجاهله !!؟.
وأما الآثار المروية عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: فلا يتسع لها هذا الكتاب لو أفردناه لشأنها، ولكنَّا نذكر من ذلك ما يكتفي به في الإستدلال كل عاقل، فلو لم يكن من ذلك إلا ما روينا بالإسناد([39]) الموثوق به إلى الحسين بن زيد([40]) - قدس الله روحه - يرفعه عن آبائه إلى أمير المؤمنين -عليه السلام- قال : قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((من زار قبراً من قبور أهل البيت ثم مات من عامه الذي زار فيه وكل الله بقبره سبعين ملكاً يسبحون له إلى يوم القيامة)) ، وكفى بهذا دليلاً لمن كان له عقل وتوفيق؛ لأن ذلك إذا كان في زيارة قبور موتاهم فكيف يكون الثواب في زيارة ديار علمائهم !!؟، فكيف يكون الحال في إجابة دعائهم !!؟، إن هذا لهو الفضل المبين، والحظ الثمين، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103)} [يوسف] .
_____________
([39]) - أمالي الإمام أبو طالب -عَلَيْه السَّلام- (ص111).
([40]) - الإمام الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- ولد -عَلَيْه السَّلام- في حوالي سنة (110هـ) تقريباً ، يكنى أبا عبدالله ، ويلقب بذي الدمعة لكثرة بكائه .
قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين : حدثني علي بن العباس ، قال : حدثنا عباد بن يعقوب ، قال : كان الحسين بن زيد يلقب ذا الدمعة لكثرة بكائه.
حدثني علي بن أحمد بن حاتم ، قال : حدثنا الحسن بن عبدالواحد ، قال : حدثنا يحيى بن الحسين بن زيد ، قال : قالت أمي لأبي : ما أكثر بكاءك! فقال : وهل تلك السهمان والنار سروراً يمنعني من البكاء -يعني السهمين الذين قتل بهما أبوه زيد وأخوه يحيى-.
قتل أبوه الإمام زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- وهو صغير، فرباه الإمام جعفر الصادق -عَلَيْه السَّلام- وأخذ عنه علماً كثيراً ، وشهد وقعة الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية ، قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين : حدثني علي بن العباس ، قال : أنبأنا بكار بن أحمد ، قال : حدثنا الحسن بن الحسين ، عن الحسين بن زيد ، قال : شهد مع محمد بن عبدالله بن الحسن من ولد الحسين أربعة أنا وأخي عيسى وموسى وعبدالله ابنا جعفر بن محمد (ع)، وأخيه الإمام إبراهيم بن عبدالله -عَلَيْهم السَّلام- ثم استخفى دهراً طويلاً ، وكانت دعوته بعد قتل الإمام المهدي محمد بن عبدالله النفس الزكية ، وكان الحسين بن زيد عالماً محدثاً ناسكاً ، رجل بني هاشم لساناً وبياناً ونفساً وجمالاً ، توفي -عَلَيْه السَّلام- في حدود مائة وتسعين وله من العمر ست وسبعون سنة.
[حكاية من قول رفضة أهل بيت النبوة (ع) ومنكري فضلهم]
[8]
أَنْكَرَ فَضْلَ الفَاضِلِيْنَ بِالنَّسَبْ .... وَهْوَ إلى نَيْلِ العُلَى أقوى سَبَبْ
نَقُولُ هَذَا إِنْ شَكى وإن عَتَبْ .... لا يَسْتَوِيْ الرَأسُ لَدِيْنَا والذَّنَبْ
هذه حكاية من قول رفضة أهل بيت النبوة -عَلَيْهم السَّلام-، ومنكري فضلهم، وما ظنهم ببيت عمره التنزيل ، وخدمه جبريل، لولا تراكم الذنوب على الذنوب ، حتى اسودت القلوب ، فصارت لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً، تؤخر مقدماً، وتقدم مؤخراً، وذلك أنهم نفوا أن يكون لأقارب النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فضل بقرابتهم إليه، وتباعدوا عن الإقرار بفضلهم، ونفروا وأصروا على عنادهم، واستكبروا.
قلنا: ويحكم؛ قد تظاهرت الأدلة بأنهم أفضل العرب، والعرب أفضل الخلق بمحمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فأولاده أولى بهذا الشأن.
[بيان أن الفضل واقع بالنسب]
قالوا: لا تأثير للنسب، ولا فضل به على حال من الأحوال...
قلنا: فقد روينا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((العرب بعضها أكْفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، وحي بحي، ورجل برجل، والموالي بعضها أكْفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، وحي بحي، ورجل برجل([41]))) .
_______________
([41]) - روى هذا الخبر الإمام أحمد بن سليمان -عَلَيْه السَّلام- في أصول الأحكام - خ - عن عمر وعائشة.
وكذلك روينا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم([42]))) ، وهذه آثار رويناها بالأسانيد عن آبائنا -عَلَيْهم السَّلام-، يرفعوها [ بالإسناد([43]) ] إلى أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وإتباعه واجب، وخلافه قبيح، وهي دلالة على أن الفضل واقع بالنسب، ولم يختلف أحد من العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- في ذلك ؛ بل قد وقع الإجماع عليه من الأمَّة، وذلك ثابت فيما رويناه بالإسناد الموثوق أن عمر قال بمحضر الصحابة: (لأمنعن ذوات الأحساب، لا يتزوجن إلا من الأكْفَاء)، فلم ينكر عليه أحد، فكان ذلك إجماعاً، فلولا أن الفضل واقع بالنسب لما تعلقت به هذه الأحكام الشرعية، ووردت به الآثار النبوية.
___________
([42]) - هذا الحديث أخرجه أبو العباس الحسني في المصابيح عن واثلة ص(91)، والإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام عن واثلة أيضاً ، وصلاح بن إبراهيم في تتمة الشفاء بزيادة في آخره (فأنا صفوة الصفوة وخيرة الخيرة)، ورواه أيضاً القاضي عياض في الشفاء بتعريف حقوق المصطفى عن واثلة، وأخرجه مسلم في أول كتاب الفضائل باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم (15/ 36) بشرح النووي، وأبو يعلى 13/ رقم (7485)، والترمذي (5/583) رقم (3612) وقال : هذا حديث حسن صحيح، وأحمد 4/ 107، والبيهقي في الدلائل 1/ 166، والخطيب في التاريخ 13/64، والسيوطي في الجامع الصغير برقم (1682- 1683) بلفظ: ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم))، انظر التحف شرح الزلف ص30.
([43])ـ غير موجود في النسخة.....
فإن قيل: إن إنكار الفضل بالنسب هو قول الشيخ([44])، وهو عابدٌ كما تعلمون.
قلنا: نوم النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خير من عبادته، وقوله -عليه وآله السلام- أولى بالإتباع من قوله، وقد قال تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}[النور:63] ، وخَوَّفنا من مخالفة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ومخالفة عترته، ولم يُخَوِّفنا من مخالفة الشيخ ولا غيره ممن تنكب منهاجهم، ولأن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان لا يقول شيئاً من تلقاء نفسه، وإنما يقول ما أوحى إليه ربُّه، وقد قال تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)}[النجم] ، والشيخ قال ما قال من تلقاء نفسه، ولم يجز لنا ترك ما جاء به رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لشيءٍ من كلام بشر غيره ، فنعوذ بالله من الزيغ بعد الهدى، والزلل بعد الثبات، وإطراح العلوم للوهوم، وتنكب طرائق العترة الطاهرة المرضيَّة، والرجوع إلى غيرهم من البريَّة.
_____________
([44]) - الشيخ : لقب تطلقه المطرفية على كبارهم لأنهم يجعلون لهم في كل هجرة من هجرهم رجل يطلقون عليه اسم (الشيخ) ويعظمونه أشد من تعظيم أهل البيت ويشترطون فيه أن لا يكون من ذرية رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ؛ لأنهم يزعمون أنه إذا كان من أهل البيت فستفسد الهجرة ، ولن تصلح أبداً بوجوده ، ويجعلون كلام ذلك الشيخ حجة واجبة الإتباع، كما حكى ذلك عنهم القاضي العلامة عبدالله بن زيد العنسي في كتابه (التمييز بين الإسلام ومذهب المطرفية الطغام).
[حكاية إجماع أهل البيت (ع) على فضلهم بالنسب النبوي]
وقد حكينا أن إجماع العترة المهديَّة منعقد على أنهم برجوع نسبتهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم وعليهم- أفضل البشر، وذلك معلوم في مجادلاتهم، ومقاماتهم الشريفة، وكتبهم النفيسة، لا ينكر ذلك من له أدنى مسكة من المعرفة، ولو لم يكن من ذلك إلا ما روينا بالإسناد إلى أبي الجارود التميمي([45]) -رحمه الله تعالى- أنه قال: (دخلت المدينة فإذا أنا بعلي بن الحسين في جماعة أهل بيتة وهم جلوس في حلقة ، فأتيتهم فقلت: السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، كيف أصبحتم رحمكم الله؟ فرفع رأسه إليَّ فقال: وما تدري كيف نمسي ونصبح، أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون الأبناء ويستحيون النساء، وأصبح خير الأمة يشتم على المنابر، وأصبح من يبغضنا يُعطَى الأموال على بغضنا، وأصبح من يحبنا منقوصاً حقه، أو قال حظه، أصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قرشي، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان عربياً، فهم يطلبون بحقنا ولا يعرفون لنا حقاً، إجلس يا أبا عمران؛ فهذا صباحنا من مسائنا([46])) وهذا كما ترى ، تصريح من علي بن الحسين - عليه السلام- في محضر جماعة أهل بيته -قدس الله أرواحهم- بأنهم أفضل الخلق بنسبتهم إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وذلك طريق معرفة الإجماع،
_______________
([45]) - أبو الجارود، هو: الحارث بن الجارود أبو عمران التميمي.
([46]) - رواه الإمام أبو طالب في الأمالي (ص136)، والإمام الموفق بالله الجرجاني في الاعتبار ص(637) عن المنهال بن عمرو، ورواه محمد بن سليمان الكوفي في مناقب أمير المؤمنين (2/108) رقم (598) ، ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (5/219) ، وابن عساكر في تاريخه في ترجمة زين العابدين عليه السلام عن المنهال بن عمرو ، ورواه المزني، وروى نحوه الحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (ط1/157) عن المنهال بن عمرو...
ولأن علي بن الحسين -عليه السلام- قدوة وإن انفرد وحده، ولأنه -عليه السلام- قد أكد ذلك بإجماع الكافة من العرب وقريش بادعاء الشرف والفخر بالقرب إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وأهل بيته أقرب من الكافة إليه -صلى الله وملائكته عليه وعليهم السلام- فكانوا أولى بشرف ذلك وفخره من غيرهم، فلا معنى لإنكار من أنكر فضل النسب وإن كبر سنه، وكثرة عبادته؛ لأن ذلك أبلغ في الحجَّة عليه؛ لأن الله، عز من قائل، يقول: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ } [فاطر:37] ،والنذير عندنا ها هنا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد قيل في بعض أقوال أهل العلم: هو الشيب، وقد جاء الشيخ الذي ذكرتم الإعتماد على قوله: {النَّذِيرُ}[فاطر:37]، الذي هو النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، والشيب على قول من قال ذلك فلا عذر له، والعبادة مع مخالفة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- لا تغني عن صاحبها شيئاً من عذاب الله -تعالى- وقد سمعت كلام أبي الجارود فيهم ونعته لهم، وكذلك تكون الشيعة...
[بيان أن التفضيل علامة التشيع]
فأمَّا من يدعي التشيع وهو منكر لفضلهم ، فإنه من دعواه هذه على مثل ليلة الصَّدَرِ([47]) رحلته أوشك من حلوله، ومع إدعاء من ينكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- أنه زيدي؛ بل أنه أحق بهذا الإسم يكون أبلغ العجب ؛ لأن الزيدية معروفة بين الفرق ؛ بتفضيل آل محمد على جميع الخلق، لا يناكرون في ذلك، ولا ينكر منهم، وكيف ينكرون فضل مهبط الوحي، ومختلف الملائكة، وبيت الرحمة، وسفينة نجاة الأمة ، كما روينا بالإسناد الموثوق به عن أبي ذر([48]) -رحمه الله- أنه قال وهو آخذ بباب الكعبة:
_______________
([47]) - الصَّدَر محركة : اليوم الرابع من أيام النحر . تمت قاموس.
([48]) - أبو ذر الغفاري: اختلف في إسمه والصحيح عند أصحابنا ومحققي المحدثين: جندب بن جنادة، وسماه رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- عبدالله، من السابقين الأولين في الإسلام ، لازم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى توفي ثم سكن المدينة، كان من كبار الصحابة وفضلائهم ونجبائهم، وكان من أوعية العلم المبرزين في الزهد والورع والقول بالحق، وسئل عنه علي -عَلَيْه السَّلام-، فقال: (ذلك رجل وعى علماً عجز عنه الناس، ثم أوكأ عليه فلم يخرج منه شيئاً) شهد له رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بقوله: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر)) وكان صريحاً يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم، وكان كثير الرواية لمناقب أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وفضائل علي -عَلَيْه السَّلام-، وكان يذم معاوية ولا يخاف منه، ونفاه عثمان من المدينة إلى الربذة لأجل شكوى معاوية منه، وتوفي أبو ذر رحمه الله سنة إثنتين وثلاثين ولم يعقب، انظر الإستيعاب لابن عبد البر 4/، الطبقات - خ - لوامع الأنوار للإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى(3/ 198)ط2، رأب الصدع (3/ 1783)...
(أيها الناس من عرفني فأنا من قد عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذر؛ سمعت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول : ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها هلك)) ([49]) ولم تختلف الأمة في هذا الخبر ، ولا في صدق لهجة أبي ذر ، لإخبار النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - بذلك ، فكان خبر النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فيه دليل على عصمة أبي ذر فيما يتعلق بباب القول ، فإذا كان ذلك كذلك فأي وجه لإنكار فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- إلا الشقاوة والعداوة التي لا تقدح في شيءٍ من أمر الله -تعالى- وفضل أهل هذا البيت لا تحصى شواهده، ولا تخفى على محصنات كرائم النساء، ومؤمنات عفائف الإماء، فكيف تخفى على شيوخ العلماء!!؟.
____________
([49]) - أخرجه الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام (1/40)، والإمام علي بن موسى الرضا في الصحيفة (464)، والإمام محمد المرتضى في كتاب الأصول، والإمام أبو طالب في شرح البالغ المدرك، والإمام المرشد بالله (1/151)، والإمام أبو عبدالله الموفق بالله.
ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 343)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ورواه أيضاً في (3/ 150) من طريق عن حنش الكناني ، ورواه في كنز العمال (6/ 216) ، وقال: أخرجه ابن جرير عن أبي ذر، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/2168)، وقال: رواه البزار والطبراني في الثلاثة - أي الكبير والصغير والأوسط (5/112) رقم (3590) -، ورواه علي بن سلطان في مرقاته (5/61)، وقال: رواه أحمد - يعني ابن حنبل - وأبو نعيم في الحلية (4/306) ، والخطيب في تاريخه (12/19) ، والمناوي في كنوز الحقائق (132)، انظر فضائل الخمسة (2/ 64)، وقال الإمام الحجة الحافظ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار (1 / 95)ط1: وقد أخرجه - أي حديث السفينة - من المحدثين الحاكم في مستدركه، وابن الأثير في نهايته، والخطيب إبن المغازلي في مناقبه، والكنجي في مناقبه، وأبو يعلى المحدث في مسنده والطبراني في الثلاثة، والسمهودي في جواهر العقدين، وأخرجه الإسيوطي في جامعيه، وأخرجه الملا، وأخرجه ابن أبي شيبة، ومسدد، وهو في كتاب الجواهر للقاسم بن محمد اليمني المعروف بالشقيفي، وهو في ذخائر المحب الطبري الشافعي، وأخرجه غيرهم ممن يكثر تعدادهم، انتهى.
وقد روينا بالإسناد الصحيح عن عمّنا علي بن الحسين زين العابدين -صلوات الله عليه- أنه كان إذا ترعرع أولاده اشترى لهم الجواري، فاشترى أمّ زيد بن علي([50]) -عَلَيْه السَّلام- لبعض أولاده ثم أمر بها تعْرض عليه، فامتنعت من ذلك فسُئلت عن سبب الإمتناع، فقالت: أريد الشيخ - تعني علي بن الحسين -عليه السَّلام- فقيل: وما تريدين منه [فإنه صوّام نهاره، قوّام ليله، متى يتفرغ إليك، فقالت : قد رضيتُ، لأني سمعتُ عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال([51])]: ((كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي)) ([52]) فأحبّ ذلك من مثله؟ فكره أخذها -عَلْيه السَّلام- ، فقالت : سألتُك بحقّ رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلا أخذتني ، فأخذها -رحمة الله عليها- فجاءت بزيد بن علي -عَلَيْه السَّلام-.
فقد صح لك أن هذه الأَمَة (رحمة الله عليها) أعلم بأقوال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وآثاره، وأعرف بحق العترة الطاهرة من الشيخ الذي أسندت إليه إنكار فضلهم -عَلَيْهم السَّلام- بنسبة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، والحجج في ذلك أكثر من أن تحصى في هذا الكتاب.
___________
([50]) - وحادي عشرها: سأل أيّده الله عن الخبر عن أم زيد -رحمها الله- في اختيارها لأبيه -عليه السلام- دون الأولاد لأجل النسب وهم فيه سواء.
الجواب عن ذلك : لأنها إنما أرادت لمجموع الأمرين ، ونسب علي -عليه السلام- كان أحب إليها من سبب أولاده لما كان قد ظهر من صلاحه -عليه السلام- والحديث في كل سبب ونسب ، وفي حديث آخر زيادة وهو : ((كل سبب ونسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي -وفي الزيادة- وصهري)).
ومن ذلك؛ علي بن الحسين -عليه السلام- أقعد إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- معنى القعود : أن يكون أقرب بأب أو أبوين إلى الجد الأول ، وهذا مما يناقش فيه العارفون من أهل هذا البيت .
قال أحدهم : والله لو أعطيت بقعودي من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الدنيا بما فيها ما قبلت . يريد بقربي إليه بجد أو جدين .
ولكم يا أولاد المطهر في هذا الباب النصيب الأوفر ؛ لأنكم اليوم أقربنا إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إنما أنساكم وسواكم هذا الحال مذهب أهل الضلال ، ، الذين نفوا الشرف بالفضل، وأنكروا حرمة قرابة الأهل ؛ فنعوذ بالله من حالهم ، ونسأله أن يعجل عليهم نزول حكم أفعالهم ، ونصلي على النبي وآله فليس نسب علي بن الحسين -عليه السلام- من رسول الله مثل نسب أولاده لأن القرب كلما التصق كان أفضل ، ولكل فضل ، وبعضه فوق بعض ؛ فاعلم ذلك موفقاً .
([51])ـ ما بين القوسين ساقط في جميع النسخ لدينا، وهو زيادة من أمالي الإمام أبي طالب عليه السلام ص(102) ؛ لأن القصة مروية فيها.
([52]) - حديث: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة...إلخ، روي بألفاظ مختلفة فممن رواه: الحاكم في المستدرك 3/ 158، وأبو نعيم في الحلية 7/ 314، والهيثمي في الزوائد 8/ 216، وابن حجر في صواعقه 138، وقال: رواه البزار، ورواه المحب الطبري في ذخائره ص6، ورواه في فيض القدير للمنياوي 5/ 20، وقال: أخرجه الطبراني، والحاكم، والبيهقي عن عمر، وأخرجه الطبراني أيضاً عن ابن عباس، وعن المسور في الكبير (3/45) رقم (2635)، والأوسط (5/70) رقم (6609)، والهيثمي في مجمع الزوائد (9/176)، ورواه في كنز العمال 1/ 98، وقال : أخرجه ابن النجار، ورواه أيضاً 7/ ص42، وقال: أخرجه أبو داود الطيالسي، وأحمد بن حنبل، وعبد بن حميد، وأبو يعلى، والحاكم، وابن أبي شيبة عن أبي سعيد، انظر فضائل الخمسة 2/ ص69.
قوله: (يقول هذا إن شكى وإن عتب) يقول لأنه يجب علينا قول الحق، وقد تقدم الدليل على أنه حق من الله -سبحانه- ورسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- والعترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام-، وإن شكى الرافض إلى إخوانه، وفزع الناصب إلى أعوانه ، فقد تعبدنا الله بالبيان عند كل بدعة ، وذلك ثابت فيما رويناه بالإسناد الموثوق به إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام، وليًّا من أهل بيتي موكلاً يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين ؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على الله)) ، ولا شك أنه يجب على الوكيل المبالغة فيما وكل فيه، والإجتهاد بمبلغ وسعه ، وكلنا نسأل الله -تعالى- التوفيق بإعلان الحق وتنويره، وإعلانه: إظهاره، وتنويره: بيانه وإن لامَنا كل لائم، واعترضنا كل آثم.
ثم سأل المخالف سؤالاً إن أنصف في جوابه قضى بالحق على نفسه، وآخر القافية معناه ظاهر ؛ لأن الكل يعلم أن الله -تعالى- فضل الرأس على الذَّنَب، وجعل لذلك حكماً في الشريعة، وخص الرأس بما لم يخص به الذنب من خصال الشرف، فلا معنى لإنكار تخصيص أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- بالفضل فقال:
[9]
هَلْ عِنْدَهُ إِذَا أتاهُ المُنْتَسِبْ .... بِنَسَبٍ غَثِّ الجُدُودِ مُحتَجِبْ
مُلَفْلَفٍ([53]) مِنْ كُل أوبٍ مُضْطَرِبْ .... مِثْلُ صَمِيْمِ آلِ عَبْدِ المُطَّلِبْ؟
ألزم المخالف المنكر فضل أهل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بإنتسابهم إلى البيت الرفيع الذي عمّ بيوتات العرب نوراً ، وطالها مجداً وشرفاً، هل إذا انتسب عنده منتسب (بجدود غثة) -يريد مهينة ساقطة لا تعرف إلا من لسان ذاكرها لغموضها ودناءتها.
___________
([53]) - في (م، ن): ملفف...
قوله (ملفلف([54]) من كل أوبٍ): يقول مجموع من كل جهة، الأب من جانب وضيع، والأم من جانب مثل ذلك، هذا موضع الإلزام، يقول مَنْ هذا حاله وصفته يماثل من هو من صميم آل عبدالمطلب -عَلَيْهم السَّلام- {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(29) } [الزمر] ، لا؛ ما يستويان إلا عند من ركب متن العناد، وأظهر في أرض الله الفساد.
[بيان أن الفاضل يكون من جنس المفضل عليهم]
[10]
وهَل لَدِيْهِ قِطعةُ الرصَّاصِ .... كَالذَّهَبِ المُسَبَّك الخُلاصِ؟
وَكُلُّهُ جِسمٌ بِلا اختِرَاصِ .... مَالَكَ إنْ أنصفتَ مِنْ مَنَاصِ
هذا إلزام على قولٍ سمعناه من أهل هذه المقالة المنكرة فضل آل محمد -صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين- وذلك أنّا سمعنا منهم من يقول في إحتجاجه على إنكار فضلهم: نحن ناس وهم ناس، وربما خصص فقال: أنا إنسان وهو إنسان فمن أين هو أفضل مني؟، وربما قال: لي يدان وله يدان، ولي عينان وله عينان.
وهذا، كما ترى، إحتجاج من لا معرفة له بالعلم ؛ لأنَّا نعلم أن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - إنسان وله يدان ورجلان ، ومن اعتقد أنه في الفضل مثله فقد كفر، ولذلك قلنا: هذا إستدلال خارج عن طريق أهل العلم ؛ لأن تصحيحه يؤدي إلى الكفر ، وما هذا حاله لا يعتمد عليه بل يجب التباعد عنه ، وكما هو مؤد إلى الكفر في حق النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- هو مؤدٍ إلى الفسق في حق أهل بيته ؛ لأن من اعتقد بذلك أنه مثلهم، ولا فضل لهم عليه، ولا يتبعهم، ولا يسلك منهاجهم فسق بلا اختلاف بينهم -عَلَيْهم السَّلام- في ذلك، فقد تبين لك أن بين أهل الأيدي، والأرجل، والأعيان، فرقاً كثيراً.
______________
([54]) - في (م، ن): ملفف...
وربما احتج بحجة تقرب من الأولى في الفساد وذلك أنَّا سمعنا منهم من يقول: نحن مُتَعَبَّدُون، وهم مُتَعَبَّدُون، فمن أين لهم فضل علينا؟، ونسي أنهم مُتَعَبَّدُون بأمره، وهو مُتَعَبَّد بالإئتمار، وهم متعبدون بزجره، وهو متعبد بالإزدجار، وهم -عليهم السلام- رعاته، وهو رعيتهم، إن تعدى الموضع الذي أساموا فيه تعدى وعصى.
ولا شك أن الراعي أفضل من المرعي بلا اختلاف، وما أحسن قول أبي قيس في مثل ذلك بيت:
ليس قطاً مثلُ قطي .... ولا المرعي في الأقوام كالراعي
فبين التعبدين بون بعيد، وقد ألجأت الضرورة إلى ذكر مثل هذه الأقوال المكشوفة العورات.
[بيان أن المماثلة في وجه مخصوص لا توجب المماثلة في كل وجه]
فإن قيل: إنَّا نريد أنهم تُعبِّدوا بالصلوات الخمس، والحج، والصيام، كما تُعُبِّدنا.
قلنا: ذلك وإن كان كذلك فقد خصوا من التعبد بما لم تخصُّوا به، وهو ما ذكرنا من تقويم الأمة، وسد ثغورها، وسياسة جمهورها، وإقامة الحدود فيها، وأنتم من ذلك بمعزل، وإن لم تعينوهم على ذلك فالنار ، وإن علمتموه بين أيديكم وأرجلكم فالعار والشنار، وغضب الجبَّار.
وحرمت عليهم الزكوة حتى تعبدوا بأن يأكلوا الميتة دونها، وأُحلت لمن اتبعهم منكم في الإعتقاد، فأين المقاربة في التعبد فضلاً عن المساواة...
فأما الإتفاق في وجوه مَّا فذلك لا يلحق المفضول بالفاضل، ألا ترى أن هذا المخالف قد استوى، ولله المثل الأعلى، هو والحمار في أن كل واحد منهما لا تستقيم حياته في مجرى العادة إلا بالمأكل والمشرب، ولم يجب عندنا بذلك أن يكون مثلاً للحمار، لما خصه الله من جنس الإنسانية والعقل إلى غير ذلك من نعمه العامة على الكافرين والشاكرين كما قال، وهو أصدق القائلين: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ(83)}[النحل] ، وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54)}[النحل] ، فهذا المنكر لفضلنا خالفنا، فنحن نعلم أن عليه من نعم الله ما لا يسعه كفره من تفضيله له على الحمار وعلى غيره من الحيوان، ولهذا يجب عليه الشكر كما يجب علينا الشكر لتفضيل الله لنا على كافة البشر بولادة النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وفرضه لمودتنا على كافة عباده، واستخلافه لنا في بلاده، وبيَّن ذلك في القافية بأن المماثلة في وجه مخصوص لا توجب المماثلة في كل وجه.
ألا ترى أن الذهب والرصاص قد اشتركا في الجسمانية، وهو أن كل واحد منهما طويل عريض عميق، يشغل الحيز عند الوجود، واختص الذهب بخواص من فعال الله -تعالى- منها: أن النار لا تنقصه، وأن التراب لا يبليه، وأن الله حببه إلى عباده، وجعله مفتاحاً لكثير من حاجاتهم، وأحل به الفروج، وأسقط به الدماء، إلى غير ذلك، والرصاص لا يبلغ تلك الرتبة وإن كان له نصيب من النفع، كذلك أنت أيها المخالف، الطالب، مماثلة العترة الطاهرة بزعمك بما ذكرت من الوجوه الفاتحة باب الجهالات وإن أنعم الله عليك بشيءٍ من نعمه، فإن من شُكْرِها أن لا تنكر تفضيله لما فضل من خلقه إبتداءً ، ولمن فضل.
[بيان أن التفضيل مهواة دحضت فيها قدم إبليس لعنه الله]
واعلم ؛ أن هذه مهواة، دحضت فيها قدم إبليس -عليه لعنة الله ولعنة اللاعنين من الملائكة والناس أجمعين- وذلك أنه أنكر تفضيل الله -تعالى- لآدم -صلوات الله عليه- إبتداءً، وهذا كفر، إعتقد أنه أفضل منه ؛ لأنه خلق من النار وآدم -عَلَيْه السَّلام- خلق من الأرض، وهذا جهل.
أمَّا أن إنكاره كفر: فلأنه أوجب على الله أن لا يفضل بعض خلقه على بعض، فكفر لأجل ذلك، ثم أضاف إلى هذا الكفر جهلاً آخر وهو أن النار أفضل من الأرض، والنار وإن اختصت بنوع من الخواص ، أو نوعين أو ما يزيد على ذلك قليلاً من النفع ، فليس فيها ما في الأرض من الخواص، والمنافع الجليلة الأخطار، والدلائل على الواحد الجبَّار ؛ لأن الأرض مسجد أنبياء الله، ومتجر عباده، ومهبط وحيه، وميدان السباق إلى رحمته.
ومنها: الأنهار، والثمار، والأزهار الرائقة، والحدائق المبهجة الفائقة.
ومنها: أحلى المأكولات وهو العسل، وأعذب المشروبات وهو الماء، وأطيب المشمومات وهو المسك، وأشرف الملبوسات وهو الحرير.
ومنها: الأمثال المرغبة في النعيم الدائم، مما ذكرنا ومما لم نذكر، من اللؤلؤ والمرجان، والدر والياقوت والعقيان، والفضة والكافور.
وما لو تتبعناه لأخرجنا من الإختصار، فمن أين تكون النار كما ذكر عدو الله -عليه لعنة الله- مثلاً للأرض، فضلاً عن أن تكون خيراً منها كما اعتقد عدو الله الجاهل؟ فقد رأيت الإعتراض على الحكيم في حكمته إلى ما يؤدي ، فتدبر موفقاً ما ذكرنا، فإنه يفضي بك إلى برد اليقين ولذّة العلم، ويخرجك عن دائرة المقلدين ، وأهل الحيرة المتلذذين الذين نبذوا هداتهم.
[بيان أن من لم يرض بحكم الله راكب مركب إبليس لعنه الله]
ولم يرضوا بهذه المصيبة حتى أضافوا إليها ما هو أعظم منها، وهو أنهم مثلهم، وربما يتعدى ذلك منهم من يختص بضرب من الصفاقة والوقاحة فيركب مركب إبليس -لعنه الله- في أنهم أفضل من أهل عصرهم من عترة نبيئهم [صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم] ويحتج لذلك بكثرة عبادتهم كما فعل الملعون ، وقد قيل إن من إحتجاجه -لعنه الله- في إنكاره لابتداء الله لآدم بالتفضيل أنه عبَدَ الله من قبله بستة آلاف سنة، ونسي عدوّ الله أن العبادة لله لا تتم إلا بالتسليم لأمره، والرضاء بقضائه وحكمه، فقد رأيت كيف قاد هذا الخلاف إلى كل جهالة ، وأنه أصل لكل ضلالة، فنسأل الله -تعالى- العصمة والرحمة.
[11]
قَدْ نَصَّ ربِّي في الكتابِ المُنْزلِ .... نصاً جليَاً لأخِ العَقْلِ الجَلِي
يُعْرَفُ مِنْ مُبَيَّنٍ ومُجْمَلِ .... ولم يُقَيِّدْهُ بِشَرْطِ العَمَلِ
هذا نوع من الإحتجاج في تفضيل بعض خلق الله على بعض بشيءٍ من نصوص كتاب الله -تعالى عز وجل- لا يدفعها منصف لنفسه.
وقد نصّ الله -تعالى- على تفضيل بعض خلقه على بعض في كتابه العزيز (نصاً جلياً) لمن كان له (عقل) سوي، وذلك موجود في (مبين) كتاب الله -تعالى- (ومجمله)، وهذا الكتاب لا يتسع لإيراد جميع ذلك وتبيين المجمل بحده وحقيقته، وكذلك المبين بحقيقته وحده، فإن مكن الله -تعالى- من تفسير كتابه أفردنا للمحكم، والمتشابه، والمنسوخ، والعام، جزءاً وشرحنا فيه شرحاً بليغاً شافياً حقائقه ودلائله، وفصوله ومسائله، وعَيَّنَّا الآي في ذلك بألفاظه ومواضعه، وذكرنا أحكامه ووجه حكمة الله -تعالى- في الخطاب به، ولا نستثني في ذلك إلا بمشيئة الله -تعالى- وعونه، وتوفيقه، ولطفه، ونحن نذكر ها هنا من حجج الكتاب العزيز ما يشهد بصدق دعوانا، ويوقظ العاقل، ويرشد الجاهل ممن كانت علة عناده لهذه العترة الطاهرة لم تستحكم...
فأما من قد تمحضت لهم -عَلَيْهم السَّلام- عداوته، فقد غلبت عليه شقاوته، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(132)}[الأنعام] {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)}[النمل] .
قال الله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:105] ، وقال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}[البقرة:253] ، وقال سبحانه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)}[الأنعام] ، وقال سبحانه: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا(21)}[الإسراء] ، فهذا تصريح من الله -تعالى- كما ترى، بتفضيله لبعض النبيئين على بعض، ولم يذكر في ذلك عملاً، فإثبات العمل يكون زيادة في الكتاب العزيز، والزيادة فيه كفر بالإتفاق.
وصرح بالتفضيل بلفظ آخر، وهو رفع الدرجات ؛ لأنه يعود في المعنى إلى ما تقدم، لأن من رفع الله درجته فقد فضله بلا بد([55])، ولا نعلم بين أحد من علماء آل محمد -صلوات الله عليهم- في عصرنا ولا قبلنا ولا بين أحد من علماء شيعتهم إختلافاً في أن من ردّ نصاً من ظواهر كتاب الله -تعالى- كفر، ولهذا قضوا جميعاً بكفر الباطنية وردتهم، لردهم لظواهر النصوص، وتعسفهم في تأويلها، فما الملجيء إلى الدخول في بابهم، لولا عمى البصائر.
______________
([55]) - بلا بُدّ: لا محالة . تمت قاموس.
هذا الحكيم، سبحانه، يقول مصرحاً: إنه فضل بعض خلقه على بعض، فما الموجب لأن يركب هذا المركب، حراسة للمذهب الذي لم يؤخذ عن عترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، الذين هم الوصلة إلى الله، وأحد هاديي الأمة، ولا يوجد عليه شاهد من كتاب الله -تعالى- الذي هو الشاهد الآخر وبأيدي العترة الطاهرة زمامه، وهم تراجمته وحكامه، هذا لا يسع عاقلاً لمثل ذلك الغرض ركوبُه، وليس إذا كره المفضول أن يجعل الله -تعالى- فوقه من خلقه أحداً بفعل الله -سبحانه- له ذلك، ولا تكون كراهته قادحة في حكمة الحكيم، ولا حاملة لأهل العقول على إرتكاب أحد باطلين عظيمين .
إمَّا أن الله -تعالى- ظالم في ذلك، وهذا باطل ؛ لأن حد الظلم، قد قدمنا ذكره في باب العدل، وهو مفقود في فعله تعالى ؛ بل كل أفعاله حسنة جميلة، محبوبها ومكروهها.
والباطل الثاني: إنكاره أن يكون التفضيل من فعله، وقد صرح بفعله في كتابه العزيز، فيكون هذا رداً لكتابه، ومخالفة لأمره، وهذا باطل عظيم ينتهي بصاحبه إلى الكفر بإجماع العترة الطاهرة، كما قدمنا، وقد أدى إلى هذين الباطلين، كما ترى، إنكار تفضيل الله لمن يشاء من عباده بما شاء من أنواع رحمته، فيجب القضاء بفساده ؛ لأن ما أدى إلى الباطل فهو باطل، ويكون فرض المفضولين الرضاء والتسليم ليعطيهم الله -تعالى- أجر الراضين، المُسَلِّمِين، الصابرين، ويجب على الفاضلين الشكر والإنصاف ليؤتيهم أجر المنصفين الشاكرين، هذا الذي يجب أن تلقى به أفعال الحكيم، وهو مغن عن التقحم في حفر المهالك، والتورط في حبائل الضلال.
وقد صرح بقولنا هذا جدُّنا القاسم بن إبراهيم -صلوات الله عليه- وسيأتي قوله عند ذكره -عَلَيْه السَّلام-.
وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}[المؤمنون:71] ، والحجج على هذه المقالة كثيرة في كتاب الله -تعالى- وأحكام الشريعة، وحجج العقول، وقد جعلنا من كل شيءٍ من ذلك في كتابنا هذا شطراً كافياً لمن أنصف نفسه ولم يكابر عقله، ولم يعم العجب بصيرته.
[الإحتجاج على من جعل الفضل جزاء على العمل]
[12]
لو كَانَ أَجْرَاً كانَ بَعدَ الإكمالْ .... إذْ ذاك من شَرْطِ حُقُوقِ العُمَّالْ
ولم يَزَلْ مِنْ حَالَةٍ إلى حَالْ .... ولم تَشُبْهُ رَائِعَاتُ الزِلزَالْ
وهذا نوع ثانٍ في الإحتجاج على الفضل ؛ لأن قوماً من منكري فضل العترة الطاهرة يقولون إنَّ الفضل يكون جزاءً على العملِ، فأبطل ذلك بما لا ينكره أحد من أهل المعرفة بالأحكام الشرعية، وهو أن هذا الفضل لو كان جزاء على عملهم ما استحقوه إلا بعد فراغهم من الطاعة، وذلك لا يكون إلا عند الموت؛ فكانوا لا يكونون فضلاء إلا في تلك الحال، ومعلوم خلاف ذلك ؛ لأن من أنكر فضل الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- في حالٍ كَفَرَ، ومن أنكر فضل العترة الطاهرة - عليهم السلام - ومفاضلة الله -تعالى- بين عباده فَسَقَ بالإتفاق، ولم يبعد تكفيره لرده نصوص الكتاب العزيز التي لا يصح تأويلها على ذلك إلا بالتعسف، وكذلك تفضيل الله تعالى، - أيضاً - لبعض خلقه على بعض من المتعبدين وغير المتعبدين كما قدمنا ذكره.
قوله: (إذ ذاك من شرط حقوق العمَّال): يقول: كل أجير لا يستحق الأجرة إلا بعد الفراغ من عمله، وذلك ظاهر في الشريعة، فلذلك ألزمناهم إياه، ثم عقب ذلك بأنه لو كان أجراً من قِبَلِ الله -تعالى- لما زال ؛ لأن الأجر من قبله سبحانه -وتعالى- هو الثواب، والثواب يستحيل زواله لملازمته إستحقاق التعظيم وذلك لا يجوز...
قوله: (ولم تشبه رائعات الزلزال): يقول: لم تختلط به المنغصات الرائعات من الخوف، والمحن، وتجدد التكليف بالشكر على المحبوب، والصبر على المكروه؛ لأن من حق الثواب أن يكون خالصاً من كل شائب كما وصفه الله -تعالى- في كتابه العزيز بقوله: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ(48)}[الحجر] ، ومعلوم وجوب الشكر والتعبد على أهل الفضل في الدنيا، وخروجهم عن حق ما فضلهم به فيها.
ولأنه لو فضلهم مكافأة على أعمالهم لم يخل ذلك من أحد أمرين:
إمَّا أن يسقط عنهم شكره -تعالى- وذلك كفر بالإتفاق ؛ لأن من أسقط الشكر عن أحد من الفاضلين مع بقاء التكليف فقد خالف ما علم من دين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ضرورة.
وإما أن يوجب عليهم الشكر على الثواب والأجر، وذلك باطل ؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الأجر من جملة البلوى، وذلك خارج عن قول أهل العلم، ولأن العبد الصَّالح سليمان -صلوات الله عليه- قد صرح بأن الذي خصه به ربُّه من الفضائل من جملة البلوى، ألا تسمع إلى ما حكى الله -تعالى- عنه من قوله: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ(40)}[النمل] .
ولأن ذلك كان يؤدي إلى وجوب الشكر على أهل الجنَّة ؛ لأن أكثر ما هم فيه ثواب بلا خلاف فكان يؤدي إلى أن التعبد لم ينقطع عنهم مشقةً بالموت، وخلاف ذلك معلوم من دين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ضرورة.
ولأنهم لو تعبدوا لم يخل الحال من أحد أمرين باطلين:
إمَّا أن يقوموا بما كلفوا من ذلك فتلحقهم المشقة في دار الآخرة، وقد نفى الله -تعالى- ذلك عنهم بقوله: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35)}[فاطر] .
أو لا يقومون بذلك فيكونون قد أخلوا بواجب فيستحقون الخروج من الجنَّة والمصير إلى النار، وخلاف ذلك معلوم من دين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ضرورة، والله -عز من قائل- يقول: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ(48)}[الحجر] ، فقد رأيت ما أدت إليه هذه المقالة الفاسدة من الجهالات العظيمة، وتبين أن هذه الدار دار البلوى ؛ لا دار الجزاء وأن دار الجزاء أمامنا، وأن الجزاء لا يلزم عليه تكليف آخر دون تفضيل الله -تعالى- لمن فضل في هذه الدنيا يتعلق به تكليف الشكر على الفاضلين، وتكليف الصبر على المفضولين، ولم يقل أحد من المسلمين إن هذه الدار دار مكافأة وجزاء ؛ وإنما قال ذلك أهل التناسخ، وهم لا حقون بفرق الكفر، من حيث أثبتوا ما علم من دين النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خلافه.
[بيان أن دار الجزاء هي دار الآخرة]
[13]
دَارُ الجزا يا قومِ دارُ الآخرهْ .... إنَّا أخذنا عَنْ بحارٍ زاخرهْ
أولَ ما دِنَّا بِهِ وآخرَهْ .... فَلَمْ تكن صَفْقَتُنَا بِخَاسِرهْ
هذا تأكيد لما بيناه أولاً من أن دار الجزاء هي دار الآخرة، وهذا مذهب أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وأتباعهم خاصة، وسائر المسلمين عامة، أن دار المكافأة والثواب على الطاعات هي دار الآخرة لا دار الدنيا ، وإنما خالف في ذلك أهل التناسخ، والأمر فيهم ما قدّمنا ، وهذا المذهب علمناه من دين آبائنا بالنقل المتواتر فكان العلم به ضرورياً، وعلمناه بأدلة العقول، ولأن المعلوم من دين النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أن هذه الدار دار بلوى لا دار جزاء، ومنزل ترح لا منزل فرح، وهو - أيضاً - معلوم من دين آبائنا -عليهم السلام- مشحون به تصانيفهم وآثارهم.
وشبههم -عليهم السلام- (بالبحار) لكثرة علمهم وسعة فهمهم، وهم كذلك وفوق ذلك -قدس الله أرواحهم-...
وتمثيل العَالِم بالبحر جائز في اللغة، وقد كان ابن عباس -رحمه الله تعالى- يسمى البحر لكثرة علمه، وقيل مثل ذلك في عبدالله([56]) بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب.
ويريد بقوله: (أول ما دِنَّا به): أصول الدين من علوم التوحيد، والعدل، والوعد، والوعيد، ومعرفة النبوءة والإمامة وتوابعهما، (وآخره): يريد ؛ ما تعبدنا به بعد تلك الأصول التي قدمنا ذكرها من معرفة خطاب الله -تعالى- وخطاب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وحقائقهما، ومجازهما، ومعانيهما، وأقسامهما، وأحكامهما، وكيفية استعمال ذلك، والواجب علينا في كل نوع من أنواعه، وما يجب علينا في أقوال عترته -عَلَيْهم السَّلام- وأفعالهم، وأحكام ذلك.
وكذلك الكلام في أقوال مجموع أمته وأفعالهم، وكيف حمل الحوادث على ما قدمنا ذكره، وما الواجب علينا فيما لم نجد له أصلاً معيناً مما تقدم نحمله عليه، ومَن يجب الرجوع إليه معيناً في معرفة ذلك؟ ومَن يجب عليه الرجوع؟ وما القول، والحكم فيما لم يدخل تحت الجملة المتقدمة؟ وقد أفردنا لذلك كتاباً برهناه بأدلة شافية، وبسطنا القول فيه إلى حدّ الحاجة، ورسمنا ذلك الكتاب بـ (صفوة الإختيار)، وكان اسمه، بحمد الله، مطابقاً لمعناه، فمن أراد معرفة شيءٍ من ذلك طلبه فيه.
وكان أخذنا، ما قدمنا ذكره، من أصول التعبد وفروعه من آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- نقلاً ومشافهةً، وعرضنا ذلك على الأدلة الواضحة فكان أخذنا عن أفضل العدول، بأوضح الدليل.
___________
([56]) - عبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-.
كان عبدالله وحيد عصره ونسيج دهره من أعيان العترة، وفضلائها، وعلمائها، وممن إجتمعت فيه شروط الإمامة وتوفرت لديه خصال الزعامة ، وهو أحد الذين اجتمعوا في دار محمد بن منصور المرادي وبايعوا الإمام القاسم بن إبراهيم بعد أن طلبوا من عبدالله بن موسى القيام فأبى، وهم: أحمد بن عيسى بن زيد، والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد، والقاسم بن إبراهيم، ومحمد بن منصور المرادي، وعبدالله بن موسى وقصتهم مذكورة في لوامع الأنوار الجزء الثاني 6.
كان متخفّياً في أيام المأمون إلى أن سُمّ علي بن موسى الرضا، ثم كاتبه المأمون لأن يظهر نفسه ليجعله مكان علي بن موسى ويبايعه، فأجابه برسالة طويلة منها:
فبأي شيء تعتذر فيما فعلته بأبي الحسن صلوات الله عليه يعني - علي بن موسى الرضا - أبالعنب الذي أطعمته حتى قتلته به، والله ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت ولا كراهة له ولكن لا أجد لي فسحة في تسليطك على نفسي ولولا ذلك لأتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة ..إلى أن قال : فعلمت أن كتاب الله أجمع كل شيء فقرأته فإذا فيه : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، فلم أدر من يلينا منهم فأعدت النظر فوجدته يقول : {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، فعلمت أن علي أن أبدأ من قرب مني فتدبرت فإذا أنت أضر على الإسلام والمسلمين من كل عدو لي لأن الكفار خرجوا منه وخالفوه فحذرهم الناس وقاتلوهم وأنت دخلت فيه ظاهراً فأمسك الناس وطفقت تنقض عراه عروة عروة فأنت أشد على الإسلام ضرراً ...إلى آخرها وهي مذكورة في مقاتل الطالبيين 498، ولم يزل -رضي الله عنه- متوارياً إلى أن مات في أيام المتوكل العباسي رحمة الله عليه، نعي إلى المتوكل وفاة عبدالله بن موسى صبح أربع عشرة ليلة من وفاته ونعي إليه أحمد بن عيسى فاغتبط بوفاتهما وسر سروراً عظيماً؛ لأنه كان يخافهما خوفاً شديداً ويهابهما مهابة عظيمة لما يعلمه من فضلهما وانتصار الشيعة الزيدية بهما، فما لبث بعدهما إلا أسبوعاً ثم قتل.
فعلى هذا تكون وفاة عبدالله بن موسى في ليلة سابع شهر شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، أنظر: التحف شرح الزلف للإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى154، المقاتل 498، طبقات الزيدية، الشافي، رأب الصدع (3/ 1742).
---
[بيان اتصال علوم أهل البيت(ع) بآبائهم]
(فلم تكن صفقتنا بخاسرة): والصفقة هي البيعة.
وقد أخبرني والدي([1]) -قدس الله روحه- وكبار إخوتي -رحم الله الماضي منهم، وتولى رعاية الباقي- ونحن يومئذٍ أغيلمة صغار نحفظ ما نسمع - بمذهبه ودينه، وأنه الذي عليه آباؤه إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ثم نهانا -رضي الله عنه وأرضاه- عن المعصية لله -تعالى- وأمرنا بتوقيره ، وحفظ ما يجب من حقه تعالى، ثم قال: (يا بني اعرفوا ما أنتم فيه ومَنْ وَلَدَكُمْ، فما أعلم بينكم وبين أبيكم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلا إماماً سابقاً، أو عبداً صالحاً مقتصداً)، ثم أرجى الأمر في نفسه، وكانت حاله -رضي الله عنه- أشهر من أن تخفى فما زال كلامه -قدس الله روحه- ووجهه نصب عيني إلى يومنا هذا ولن يزال بمشيئة الله -تعالى-.
__________________
([1]) - والد الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- هو حمزة الجواد بن سليمان البر التقي بن حمزة المنتجب بن علي المجاهد بن حمزة الأمير القائم بأمر الله بن الإمام النفس الزكية أبي هاشم الحسن بن الشريف الفاضل عبد الرحمن بن يحيى نجم آل الرسول بن عبدالله العالم بن الحسين الحافظ بن الإمام ترجمان الدين القاسم بن إبراهيم الغمر بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الشبه بن الحسن الرضا بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم، أمه فاطمة بنت محمد بن عبدالله بن أحمد بن بركات بن أحمد بن القاسم بن محمد، كان جامعاً لخصال الخير من العفة والطهارة والسخاء والعلم وشرف النفس وحسن الخلق، له حفظ في أصول الفقه وبراعة في الشعر والفرائض وعلم الكلام والنحو ويعرف علومها، وكان ممن يشار إليه لنصرة الدين، وجهاد الظالمين، وكان كثير البركة أينما توجه، قال فيه القاضي العلامة جعفر بن أحمد بن عبد السلام: هو رجل فاضل عالم كامل لو دعا إلى القيام بالحق أو إلى الجهاد في سبيل الله لأجبنا دعوته، واعتقدنا إمامته.
وكان أهله وبنو عمومته مجمعين على فضله وورعه، وروي أن حمزة بن سليمان كتب إلى الأمير الكبير شمس الدين يحيى بن أحمد يعرض عليه الدعوة فرجع إليه جوابه: إنا في هذا الأمر على سواء فإن قمت أجبناك، وكان يلقب بالجواد لكرمه، ويحكى أنه لقيه ضيف ولم يكن معه شيء فعمد إلى رداءه فشقه واشترى به للضيف طعاماً، وفيه يقول الإمام المنصور بالله عليه السلام في كلمة له لما لامته امرأته في سماحته فقال :
فإن أبي أوصى بنيه بخطه .... ولست بناسٍ للوصية من أبي
وباع تراثاً من أبيه لضيفه .... وشق فصول البرد غير مكذب
قال في الحدائق الوردية : ومن ورعه ما أخبرنا به بعض الأخوان كثرهم الله عن الأمام المنصور بالله أنه ضرب في رجله يوم الشرزة فبقي عقيراً فمرت به دواب ما استجاز الركوب على أحدها وفي تلك الحال الرخصة جائزة، قال في المستطاب : مات حمزة بن سليمان في جهة حجة بمَبْيَن وقبره خارج مَبْيَن حجة مشهور مزور .
وكذلك رأينا كتاب أبيه سليمان بن حمزة([2]) -قدس الله روحه- إليه بمثل ما أوصى ([3]) إلينا وحكى لنا، وسليمان هذا هو المبرز على من عاصره من أهل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في جميع خصال الفضل من الشجاعة، والكرم، والزهد، والعبادة، والمختص بزيادة في كمال الجسم والعلم حتى جرى ما خصه الله -تعالى- به من الجمال والكمال مثلاً؛ يخبرنا بذلك أكابر أهلنا، ومن خالطهم من ثقات شيعتنا، وشخصت العيون إليه، وحيت حياة الدين على يديه، فحالت المقادير بينه وبين ذلك، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا(38)} [الأحزاب]،
_________________
([2]) - هو الأمير سليمان التقي بن حمزة المنتجب بن علي المجاهد بن حمزة الأمير القائم بأمر الله بن الإمام النفس الزكية أبي هاشم الحسن بن عبد الرحمن الفاضل بن يحيى بن عبدالله العالم بن الحسين الحافظ بن القاسم ترجمان الدين، كان من فضلاء آل محمد ونبلائهم، وكان من أهل الصلاح والمعرفة والديانة الكاملة، وكان ممن يؤهل للإمامة والزعامة، ولما توفي رحمة الله عليه قال يعقوب وإسحاق ابنا محمد بن جعفر لما بلغهما وفاته: الآن يئسنا من القائم من أهل بيت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في عصرنا، فقيل لهما: هل كان يصلح لهذا الأمر؟ فقالا: نعم، وكان له أهلاً، ولما توفي اجتمع قدر ثمانين من رؤساء الشرف وعلماء المسلمين على قبره فتذاكروا فيمن يصلح للإمامة فقالوا: ما كان لها إلا سليمان بن حمزة.
([3]) - نخ (ن) : أوصل.
واستقصاء([4]) هذا الباب في آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- يخرجنا إلى الإسهاب، وإنما نذكر الطرف من ذلك لننبه أهل البصائر على طرق الرشاد، وأدلة الهدى، وما علمت من سامعي كلام والدنا -رحمه الله- من الإخوة -رحم الله ما ضيهم وعصم باقيهم- إلا الإنقطاع في طاعة الله والإيثار لمرضاته، فأخذنا منه -قدس الله روحه- ما حكى لنا من مذهب آبائه -عَلَيْهم السَّلام- تلقيناً، فلما بلغنا حد التكليف فزعنا إلى النظر في الأدلة والبراهين فوجدنا الحق ما أمرنا به ودلنا عليه -رضي الله عنه وأرضاه- وعرفنا آثار آبائنا إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم وعليهم- وأحوالهم، وأقوالهم، ومهاجراتهم، والأهم من صفة خلوقهم، وأسماء أمهاتهم، ومواضع قبورهم، وما ظهر على الناس من بركاتهم، وأمهاتنا المطهرات التي هي أمهاتهم، وما كان فيهم من الخيرات، وهم مع ذلك لحم النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ودمه، وذريته، ولولا خشية التطويل لذكرنا كل والد منهم -سلام الله عليهم- بما يختص به من الكمال مفصلاً، فمن أين يكون غيرنا أولى بالحق منَّا !؟، أم كيف يجتريء عاقل يروي لنا عنا !؟.
______________
([4]) - وقد ذكر الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في كتاب الشافي في معرض جوابه على فقيه الخارقة إسناد مذهبه إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وذكر آباءه أباً فأباً، وقد رأينا إتماماً للفائدة وإكمالاً لهذا البحث العظيم ذكر ذلك الكلام مع شيء من الإختصار، فنقول وبالله نصول:
قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- بعد ذكر أبيه حمزة بن سليمان، وجده سليمان بن حمزة، وتفصيل أحوالهما على نحو ما ذكر في هذه الرسالة، فقال:
ثم أبوه حمزة، ولم تطل أيامه بل مات في حياة أبيه علي، قال في الحدائق الوردية: وأما حمزة بن علي فإنه مات غلاماً صغيراً قد بلغ العشرين، انتهى. فكان علي الكافل لسليمان تربية وتهذيباً وتعليماً، وتأديباً ونشر العلم له ولغيره، وكان من العلم والفضل بمحل عظيم، وجاهد في الله عز وجل إحتساباً لا سبقاً ولو ادعى السبق لكان غير بعيد منه، ومدت إليه الأعناق وشاع ذكره في الآفاق، وجاءت إليه رسالة الإمام أبي طالب الأخير (ع) من الديلمان يحضه على القيام في أرض اليمن، وفي رسالته إليه:
(فليطحن الخيل بالخيل، في عسكر كالليل، له ردع كردع السيل) ومن الأشعار التي حرض بها على القيام شعراً لمسلم اللحجي من حِلالهِ من شظب، والقصيدة قال فيها:
مرت على القارة في سحرة وسامت الشمس ببشر وثيق
...إلى قوله:
وقائلة ذيبين مسرورة لم يشرب الخمر ولا هاجه ولا دعا ساقيه في سحرة قم فانصر الحق وأجل الهدى لما التقت بالهاشمي العتيق صوت حمامات بوادي العقيق قم هات صرفاً من عصير المقيق فأنت بالمرجو منها خليق
وكان أوحد أهل عصره علماً وزهداً وورعاً وعبادة مع السعة العظيمة في الأرزاق التي أنفقها في طاعة الله، ونشر مذهب العدل والتوحيد في أهل عصره وفي أيامه تقوى مذهب الزيدية في حياته ورد على المخالفين للحق من الفرق الضالة.
قلت : المراد بها الفرقة الطبيعية المطرفية الغوية المرتدة.
قال في الحدائق الوردية : وأما علي بن حمزة رضوان الله عليه ، فكان من عيون أهل عصره وأفاضل أبناء دهره ، يؤمّل للإمامة ويصلح للزعامة ، وهو أحد الخمسة الذين جمعهم عصر واحد يصلحون للإمامة ذكر ذلك مصنف سيرة الإمام المتوكل على الله عليه السلام ..إلى قوله : وكان عالي الصيت نبيه الذكر يُقْصَد بالمديح ويثيب عليه بالجوائز السنية فمما روي فيه قول شاعر وفد إليه من صنعاء يقال له علي بن زكري:
دع الشعر وامدح خير هاشم عنصراً فتى فاضل يسمو على الناس كلهم غياث اليتامى مشبع الضيف باذل الـ نرى الناس أفواجاً لدى سوح داره انتهى. علياً حمام الضد عند التكافح بعلم وعقل في البرية راجح عطايا لغاد في الأنام ورائح كحجاج بيت الله حول الأباطح
وأمه أم ولد من مولدات المغرب كانت تعد من الفاضلات وجاءت بالطاهرين والطاهرات، فهذا علي وحاله ما ذكرنا.=
تابع الحاشية رقم ([4])
______________
= قلت: وتوفي علي بن حمزة في شوال سنة سبع وسبعين وأربعمائة وقبره بذيبين مشهور مزور، وهو في الجهة الغربية من جامع الإمام المهدي أحمد بن الحسين الشهيد.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام-: وأخوه يحيى وكان من أهل الكمال والشرف، وأختهما زينة الشريفة الفاضلة التي انتشر فضلها في مخاليف اليمن، وضربت بها الأمثال وظهرت آثار بركتها في الآفاق ورأيت كتاب وصيتها فعددت ولاتها من خدامها والمتخدمين لله عز وجل لها من فضلاء المسلمين فعددت أربعين والياً على أربعين مخلافاً، ومخاليف اليمن ثمانون مخلافاً كما تعلم إن كنت تعلم، وقامت في أمور الدين بكثير من مدارس ومصالح وجبر عائل وبسط نائل، وكانت من أهل العلم والمعرفة رضوان الله عليها.
وأبوه حمزة بن أبي هاشم النفس الزكية والسلالة المرضية الذي أقر بفضله الموالف اختياراً، والمخالف اضطراراً، وعندنا علومه وتصانيفه -عَلَيْه السَّلام-، وعلى مقاله في أصول الدين حذونا، وبهديه اقتدينا ورده على الفرقة الضالة من المجبرة القدرية والمبتدعة الطبيعية .
قلت: هي المطرفية الغوية.
قال -عَلَيْه السَّلام-: وغيرهم من ضلال البرية، وكان في أيام الصليحي وجرت بينهما مكاتبات ومراسلات ومحاربات إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: فدافع عن الإسلام بيده ولسانه وسيفه وسنانه إلى أن ذاق الحمام في رهج القتام صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر.
قال في الحدائق الوردية : وقتل في المعركة عليه السلام في المنوى آخر سنة تسع وخمسين وأربعمائة في أيام علي بن محمد الصليحي وكان عليه السلام يقاتل يوم قتله وهو يقول :
أطعن طعناً ثائراً غباره طعن غلام بَعُدت أنصاره
وانتزحت عن قومه دياره
إلى قوله : وعجل الله تعالى انتقام قاتله علي بن محمد الصليحي فلم يحل عليه الحول حتى قتله سعيد بن نجاح في شهر ذي القعدة لسبعة أيام خالية منه سنة ستين وأربعمائة وقتل معه بنو عمه وسبيت حرمه، انتهى.
قلت: وقبره -عَلَيْه السَّلام- في بيت الجالد من أعمال أرحب.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام-: وعلومه سلام الله عليه مشهورة وتصانيفه معلومة ورده على الفرقة الضالة ظاهر، وقد احتج بذلك الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان بن الهادي -عَلَيْه السَّلام- على من خالف.
وأخذ العلم عليه بنوه السادة الفضلاء جدنا علي بن حمزة، وكان أشبههم به علماً وهدياً، وولده الحسين بن حمزة، وهو فقيه آل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في عصره لاينازع عند من يعتني بأمر أهل هذا البيت الشريف فيما ذكرنا من أمره وأمر الفضلاء من إخوته فقد كانوا جميعاً فضلاء مشهوري الشرف ديناً وشجاعة وعلماً وكرماً.=
تابع الحاشية رقم ([4])
______________
= وأخذ العلم عن أبيه السابق الداعي إلى الله الملقب بالنفس الزكية، والقائم بأمره أبي هاشم [هو الحسن بن عبد الرحمن]، وكانت أمه زينة بنت عبدالله بن الحسن بن عبدالله بن عمر بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم -عَلَيْهم السَّلام-، وملك صنعاء واستقرت أعماله في المخاليف وخرج من صنعاء بمكيدة ابن مروان وابن الضحاك وابن المنتاب، ودخلها مرة أخرى وله تصانيف في العلم معروفة فيها علومه ودينه المأخوذ عن آبائه عليه و-عَلَيْهم السَّلام-، ولم تطل أيامه -عَلَيْه السَّلام- بل مات لسنة ونصف من قيامه ومشهده بناعط مشهور مزور.
قلت: وكان قيامه ودعاؤه إلى نفسه سنة ست وعشرين وأربعمائة، ولعل وفاته على ما ذكره الإمام الحجة مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أبقاه الله سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام-: ودخل اليمن في أيام بني الضحاك فتزلزلت منه أقدام الظالمين فما نفس عنهم الخناق إلا وفاته، فأخذ العلم عن أبيه عبد الرحمن، وكان نسيج وحده شرفاً ومجداً، وهو المعروف بالشريف الفاضل، وأمه مُرِّيَّة من مرة غطفان، وأخذ العلم عن أبيه يحيى بن عبدالله، وأمه أم ولد رومية، وأبوه يحيى نجم آل الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وشرفه لايجهله أولوا الشرف، وأخذ العلم عن أبيه عبدالله بن الحسين.
قلت: وأمه فاطمة بنت الحسن بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام-: ولا يعرف في جميع أنساب الطالبيين وفي مشجراتها وشعرها وكتبها وجرائدها إلا بالعالم، ولا يوجد ذلك لغيره وكفى بذلك شاهداً بفضله، وكذلك رأيناه في الكتب الخارجة من خزانة صاحب بغداد وفيما كان من مصر وغيرهما من الأقطار.
وله كتاب الناسخ والمنسوخ لايوجد في الكتب الموضوعة في الناسخ والمنسوخ مثله، وأصوله في العدل والتوحيد معلومة في تصانيفه، ومما استدلت به الزيدية المهدية على إمامة يحيى بن الحسين الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- تسليم أخيه عبدالله بن الحسين العالم الأمر له واعتقاده إمامته وجهاده بين يديه.
قلت: وهو المعروف بصاحب الزعفرانة لرؤيا رآها بعض الصالحين، وذلك أنه كان يترك زيارة عبدالله بن الحسين فرآه وهو يقول له: لم لاتزورني ولا يوجد في هذه التربة أطهر مني، ولا نبت في قبره الزعفران غيري، ذكر ذلك في مطلع البدور وكانت وفاته بعد الثلاثمائة وقبره بصعدة في المشهد اليحيوي المقدس مشهور مزور.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام-: وهو أخذ العلم عن أبيه الحسين بن القاسم الحافظ وروايته عنه ورواية الهادي في الأحكام يقول: أخبرني أبي عن أبيه عن جده حتى يرفعه إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وهو أخذ العلم عن أبيه القاسم ترجمان الدين وفضله أشهر من أن يخفى.
قلت: وسيأتي للإمام -عَلَيْه السَّلام- في هذه الرسالة تفصيل بعض أحواله -عَلَيْه السَّلام-.
...إلى قول الإمام: والقاسم بن إبراهيم أخذ العلم عن أبيه إبراهيم الغمر وهو الملقب طباطبا ويضرب به الأمثال في الكمال في رواية أنساب الطالبيين وهو بعض شعرائهم:
أمدح قَرْمَاً طالبياً أغلبا بحراً فراتياً وسيلاً وعوبا
كأنه القاسم أو طباطبا
وله قصص في الفضل طويلة.=
تابع الحاشية رقم ([4])
______________
= قلت: ذكر في مطلع البدور، وطبقات الزيدية رواية عن القاسم بن علي العياني أنه حبس في سجن الخليفة العباسي الملقب الهادي ما يقرب من ثماني عشرة سنة لما خافه لما ظهر فيه من إستحقاق الإمامة واشتهر أمره في الناس، وعلا صيته فقبض عليه وهو في غفلة وكان من المبايعين للإمام الحسين بن علي الفخي وخرج معه وجاهد معه، وذكر في الطبقات نقلاً عن المقاتل أنه توفي بالحجاز بعد التسعين ومائة.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام-: وأخذ العلم عن أبيه إسماعيل الديباج، وهو الذي ذكره في حبس بني حسن في الهاشمية عن بعضهم قال فيه: غلام كأنه سبيكة الذهب كلما اشتدت عليها النار بالوقيد ازداد حسناً إسماعيل بن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام-.
وأخذ العلم والدين عن أبيه إبراهيم الشِّبه لما فيه من شبه رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وكان إذا أتى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام خرجت العواتق من البيوت لتنظره لما فيه من شبه رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وأمه فاطمة بنت الحسين -عَلَيْهم السَّلام-.
قال في مقاتل الطالبيين: وتوفي إبراهيم بن الحسن بن الحسن في الحبس بالهاشمية في شهر ربيع الأول سنة خمس وأربعين ومائة وهو أول من توفي منهم في الحبس وهو ابن سبع وستين سنة، انتهى. وقبره بالكوفة.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام-: وأخذ العلم عن أبيه الحسن الرضا -عَلَيْه السَّلام- وهو المتولي لأوقاف علي -عَلَيْه السَّلام- وفضله أشهر من أن يطنب في شرفه.
قلت: وكان قيامه في عهد عبد الملك بن مروان وجرى بينه وبين الحجاج حروب كثيرة وسمه الوليد بن عبد الملك وله من العمر ثمان وثلاثون أو سبع وثلاثون سنة، ودفن -عَلَيْه السَّلام- بالبقيع إلى جنب أبيه وجدته فاطمة بنت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام- : وأخذ العلم عن أبيه الحسن السبط سيد شباب أهل الجنة، وخامس أهل الكساء، وريحانة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من الدنيا، وولد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، عليهم الصلاة والسلام، وأخذ أساس العلم من النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وأساسه من الوصي صلوات الله عليهم]، انتهى ما ذكره الإمام -عَلَيْه السَّلام- في الشافي مع اختصار في بعض المواضع والله ولي التوفيق.=
ومن أراد بحثنا مما ذكرنا وجد ؛ بحمد الله، عندنا من ذلك علماً جماً، وقد أنصف من نفسه من عرضها للإختبار، وأجراها في المضمار([5])، على أعين النظار،
قوله: (فلم تكن صفقتنا بخاسرة): أي بيعتنا التي تاجرنا بها ربَّنا وهي طاعته، واتبعنا فيها آباءنا الذين هم سلفنا الصالح، وقد أوجب الله -تعالى- علينا متابعتهم كما أوجب على أهل عصرنا متباعتنا وعلى أهل عصرهم - عليهم السلام - متابعتهم، وإن كره ذلك أهل العناد ، وراموا منه بداهية تآد([6])، فلم نتعبد بإرضاء أحد من الناصبين ، ولا إيناس أحد من الظالمين ؛ إلا أن نكون له إلى الحق المبين مُقَرِّبين ، ونراه في ذلك من الراغبين ، فقد ورد بذلك الأثر عن جدنا خاتم النبيئين ، وهو قدوتنا وقدوة الخلق أجمعين -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-،وقد قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في وجوب الرجوع إلينا والتمسك بنا ما رويناه بالإسناد الموثوق به إليه -عليه وآله السلام- أنه قال:
__________________
([5])ـ في الأصل : الضمار . انتهى.
([6]) - بمعنى تعظم وتفظع.
((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض([7]))) فأخبر -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وهو الصادق الذي لا يكذب أنَّا لا نفارق الكتاب إلى إنقطاع التكليف ؛ لأن ورود الحوض لا يكون إلا في القيامة.
______________
([7]) - حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة الصحيحة التي أجمع الموالف والمخالف على صحتها، ورواه المحدثون وغيرهم في كتبهم، وصحاحهم، فرواه من أئمة أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- الجم الغفير.
قال الإمام الحافظ الحجة الولي مجد الدين بن محمد المؤيدي - أيده الله تعالى- في لوامع الأنوار (ط2) (1/83)
وقد أخرج أخبار الثقلين والتمسك أعلام الأئمة وحفاظ الأمة فمن أئمة آل محمد صلوات الله عليهم: الإمام الأعظم زيد بن علي، والإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم، وحفيده إمام اليمن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، والإمام الرضا علي بن موسى الكاظم، والإمام الناصر الأطروش الحسن بن علي، والإمام المؤيد بالله، والإمام أبو طالب، والسيد الإمام أبو العباس، والإمام الموفق بالله، وولده الإمام المرشد بالله، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان، والإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة، والسيد الإمام أبو عبدالله العلوي صاحب الجامع الكافي، والإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين، وأخوه الناصر للحق حافظ العترة الحسين بن محمد، والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد، وولده إمام التحقيق الحسين بن القاسم وغيرهم من سلفهم وخلفهم.
ومن أوليائهم: إمام الشيعة الأعلام قاضي إمام اليمن الهادي إلى الحق محمد بن سليمان -رضي الله عنه- رواه بإسناده عن أبي سعيد من ست طرق، وعن زيد بن أرقم من ثلاث، وعن حذيفة.
وصاحب المحيط بالإمامة الشيخ العالم الحافظ أبو الحسن علي بن الحسين، والحاكم الجشمي، والحاكم الحسكاني، والحافظ أبو العباس بن عقدة، وأبو علي الصفار، وصاحب شمس الأخبار -رضي الله عنهم-، وعلى الجملة كل من ألف من آل محمد -عَلَيْهم السَّلام- وأتباعهم -رضي الله عنهم- في هذا الشأن يرويه ويحتج به على مرور الزمان، انتهى من لوامع الأنوار للإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى.
ورواه أحمد بن حنبل في مسنده (4/ 366)، ورواه البيهقي أيضاً في سنده (2/ 148)، و(7 / 30) باختلاف يسير في اللفظ، ورواه الدارمي أيضاً في سننه مختصراً (2/ 431)، والمتقي في كنز العمال (1/ 45) مختصراً وفي الجزء (7/ 102)، وقال: أخرجه ابن جرير، ورواه الطحاوي أيضاً في مشكل الآثار (4/ 368)، انظر فضائل الخمسة (2/ 52).
ورواه أيضاً الدولابي في الذرية الطاهرة (166) رقم (228)، والبزار (3/ 89) رقم (864) عن علي -عَلَيْه السَّلام-، وأخرجه مسلم (15/ 179)، والترمذي (5/ 622) رقم (3788)، وابن خزيمة (4/ 62) رقم (2357)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 418)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (5/ 369)، والطبري في ذخائر العقبى (16)، والطبراني في الكبير (5/ 166) رقم (4969)، والنسائي في الخصائص رقم (276) ، وابن المغازلي الشافعي في المناقب (234 - 236) ، وابن الأثير في أسد الغابة (2/ 12)، والحاكم في المستدرك (3/ 148)، وصححه وأقره الذهبي عن زيد بن أرقم وأخرجه عبد بن حميد (107 - 108)، وأحمد (5/ 182)، وأورده السيوطي في الجامع الصغير (175) رقم (2631)، وهو في كنز العمال (1/ 186) رقم (945)، وأيضاً (ص185) رقم (943)، وأخرجه أبو يعلى في مسنده (2/ 197) رقم (376)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 177)، والطبراني في الصغير (1/ 131، 135، 226)، وأحمد في المسند (3/ 17)، (6/ 26)، وللإستكمال انظر التحف (ص429) حاشية.
وقد سمعنا من رفضة أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- مراراً، وفهمنا من لحن قولهم أسفاراً، من يقول إنَّا نتبع من تقدم منهم دون من تأخر، وجعل ذلك ذريعة إلى ستر ما هو عليه من رفض المتقدم وعناد المتأخر ، ولو ساغ ذلك له لساغ لأهل العصر المتقدم مثله ؛ فكان لهم أن يقولوا إنَّا نتبع من تقدمك ولا نتبعك ؛ لأن الطريقة في ذلك واحدة، فحينئذٍ يحصل العلم -إن لم يكابر عقله- أن الحق واجب علينا للمتأخرين من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وجوب الحق على من يتقدم من أمثاله وأسلافه للمتقدم، وأن المسألة في ذلك واحدة، وأن أمرهم مبني على موافقة الكتاب العزيز بشهادة النبي الصَّادق -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فكيف يجوز قصر ذلك على وقت دون وقت، هذا إتباع الهوى، ومجانبة الهدى، وسلوك منهاج الردى.
[ذكر أنه لا يمر عصر من الأعصار إلا وفي أهل البيت(ع) من يصلح للإمامة]
واعلم أن ممَّا يجب أن يعلمه كل مسلم: أنه لا يمرّ عصر من الأعصار، ولا وقت من الأوقات إلا وفيهم من يصلح للإمامة، ويؤهل للزعامة، وأن الأمة إنما أتيت من قبل أنفسها لا من قبل عترة نبيئها -عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام- وكيف لا يكونون كذلك، وأهل ذلك، وهم أمناء الله في بلاده، وشهوده على عباده، وهم حفظة هذا الدين ورعاته ، وأمناؤه وثقاته ، وبهم يحرس الله هذه الأمة من عاجل النقمات، وينزل عليهم نافع البركات، فما يكون حال من إسودّت جبهته من السجود، وتقطعت مساجده من القيام والقعود، وأكثر إشتغاله بعد الفراغ من وظائف عبادته بتلقين المسترشدين، نفي فضل عترة خاتم النبيئين -سلام الله عليهم أجمعين- وأنه لا فرق بينهم وبين غيرهم من العالمين، ولا حق لهم على أحد من المؤمنين ؛ إلا كما يجب لغيرهم من العاملين !!، ذلك هو الخسران المبين، والضلال بيقين.
[ذكر أقوال الأئمة(ع) في التفضيل]
[كلام الإمام القاسم بن إبراهيم(ع) في التفضيل]
[14]
قَد قال جَدِي القاسِمُ العلاَّمَهْ .... في أوَّلِ التَّثْبِيتِ للإمامهْ
قولاً نَفَى عَنْ دِينِنَا ظِلَامهْ .... وَحَلَّ عن مذهبنا لِثَامَهْ
[ذكر طرف من أمر الإمام القاسم بن إبراهيم(ع)]
(القاسم) بن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- هو أشهر من أن يعرف بلقب، أو يشهر بنسب، ولكنَّا نذكر طرفاً من أمره لنتبرك بذكره، هو أبو محمد القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، وأمُّه هند بنت عبدالملك بن سهل بن مسلم بن عبد الرحمن بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن عمر بن فاتك بن حسل بن عامر بن لؤي، فهو المتقدم في آل النبي -عَلَيْهم السَّلام-، والسابق المبرز في عصره، وأطبقت أعيانهم -عَلَيْهم السَّلام- على تفضيله، واعترف المخالف والموالف بغزارة علمه، وعموم معرفته لأصناف العلوم، والرد على جميع الفرق، والمعرفة بمذاهبهم، ونقضها وإبطالها، وكان يطلق عليه إسم القائم، ويلقب بترجمان الدين ، وله في علم الكلام نسق لم يعرف من غيره من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- البلوغ إليه، يعرف ذلك في تصانيفه، وأجوبته عن المسائل الوارادة عليه، مثل مسائل الملحد، ومسائل ابن المقفع، وكتاب (الدليل) الذي حكى فيه مذهب الفلاسفة وتكلم عليها إلى غير ذلك.
فأمَّا الزهد والخشونة: فمما ارتفع فيه الخلاف من أهل العداوة له ولأهله، وقد بقيت بركات ذلك في أولاده، وشملت في أسباطه بمن الله -تعالى- وحمده، فما مر عصر من الأعصار إلا وفي أولاده -عَلَيْهم السَّلام- عدة يشار إليهم بالكمال، أو يرجى منهم التمام؛ بل يقع ذلك، وقد أشار السيد أبو طالب([8]) -عَلَيْه السَّلام- إلى قريب من ذلك([9]).
______________
([8]) - الإمام أبو طالب هو : يحيى بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- ولد سنة (340) وهو أخو الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني -عَلَيْه السَّلام- .
دعا إلى الله عز وجل بعدوفاة أخيه المؤيد بالله سنة (411) وبايعه العلماء والفضلاء في جهات الجيل والديلم، ولم يتخلف عنه أحد لمعرفتهم بكماله ، ولم يزل مشتغلاً بنشر العلم وتجديد رسوم الإسلام ، وإصلاح أمر الأمة ، وإنفاذ أحكام الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجهاد الظالمين ، ومنابذة الفاسقين ، وعبادة الله حتى أتاه اليقين، بلغ -عَلَيْه السَّلام- في العلم مرتبة عالية كما قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- : لم يبق فن من فنون العلم إلا طار في أرجائه ، وسبح في أثنائه . انتهى .
وله الكثير من المؤلفات في الأصول والفروع وغيرها مثل المجزي في أصول الفقه ، وكتاب جامع الأدلة، وكتاب التحرير في الفقه وشرحه اثنا عشر مجلداً ، وكتاب الدعامة في الإمامة ، وكتاب الإفادة في تاريخ الأئمة السادة ، والأمالي المشهورة . وتوفي -عَلَيْه السَّلام- سنة (424) عن نيف وثمانين سنة.
([9]) - حيث قال في الإفادة في تاريخ الأئمة السادة ص(90): وأما زهده -عَلَيْه السَّلام- فمما اتفق عليه الموافق والمخالف، ومن أحب أن يعرف طريقته فيه فلينظر في كتابه سياسة النفس وكان الناصر رضي الله عنه إذا ذكره يقول : زاهد خشن.
وكانت وطأته -عَلَيْه السَّلام- على بني العباس بقلبه، وكان قد أعيى هارون الرشيد([10]) -لعنه الله- إلى أن مات، وقد بذل الأموال الجليلة الأخطار في قتله أو سمه؛ فصرف الله عنه كيده، وسلمه من شره.
____________
([10]) - هارون بن محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس الملقب بالرشيد وهو من الغاوين المعتدين يكنى أبا محمد وقيل أبا جعفر، وأمه الخيزران كان عالياً من المفسدين وطاغياً من المتكبرين، وظالماً من الغاشمين، ولاهياً من الفاسقين، وكان شديد العداء لله ولرسوله ولأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، قتل العترة وطردهم وشردهم في عصره فمنهم يحيى بن عبدالله بن الحسن قتله بالسم بعد أن أعطى له العهود والمواثيق والأيمان المغلظة، وكذلك سم أخاه إدريس بن عبدالله دس إليه وبعث إليه من سمه وهو بناحية المغرب، وقتل أيضاً عبدالله بن الحسن الأفطس وغيرهم من فضلاء العترة.
ولمزيد إطلاع على من قتل هارون من العترة راجع مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، وتوفي هارون الغوي ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، انظر الشافي 1/ 220 مقاتل الطالبيين وغيرها.
وكذلك المأمون([11]) بعده، طلبه بالجد والهزل، وتصنع أنواع التصنع إمَّا بالظفر بموادعته، والركون إلى جانبه، وإمَّا سمه أو قتله، فلم يقع له واحد من الأمرين، أمر إليه بوقر سبعة أبغل مالاً على أن يصالحه ويكاتبه فامتنع -عَلَيْه السَّلام- من ذلك.
ثم قام المعتصم([12]) بعد المأمون فكان أشد البليَّة منه خوفاً، وأعظمهم في أمره -عَلَيْه السَّلام- تشدداً، حتى أنه جرد لطلبه -عَلَيْه السَّلام- جيشاً، وأنفذ عليهم أميراً.
_____________
([11]) - المأمون، هو: عبدالله بن هارون الرشيد أمه زباد عبسية تدعى مراجل كان على وتيرة آبائه وإخوانه في الظلم والفساد مؤثراً للذات متبعاً للشهوات، مائلاً إلى المنكرات، وكان على منهاج سلفه من سفك دماء أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- قتل في عصره الكثير منهم علي بن موسى الرضا سمه بعد أن عقد له البيعة، وأعطاه الأمان وغيره منهم -عَلَيْهم السَّلام-، وتوفي لثمان خلون من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، الشافي 1/ 242، المقاتل.
([12]) - المعتصم، هو: محمد بن هارون الرشيد كان على منهاج سلفه في الظلم والفساد والتجبر والعناد والفسوق والعصيان والعداوة لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وظهر في أيامه محمد بن القاسم صاحب الطالقان فقتله بالسم وقيل: توارى أيام المعتصم والواثق، وآخر أيام المتوكل فمات في الحبس، وقيل بالسم، وغيره من أهل البيت. وتوفي المعتصم ليلة الأربعاء لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين ومائتين.
[دعوته(ع)]
وكان قد دعا إلى نفسه بعد إستشهاد أخيه محمد بن إبراهيم([13]) -عَلَيْهما السَّلام-، وبايعه خلق كثير، وجاءته البيعة من مكة، والمدينة، والكوفة، وبايعه أهل الري، وقزوين، وطبرستان، والديلم، وكاتبه أهل العدل من البصرة، والأهواز، وحضوه على القيام، وكذلك بايعه أكثر أهل مصر.
وكانت دعوته من مصر، فلم تنتظم الأمور على ما أراد، ولم يتمكن من الجهاد، ومات([14]) وقد أعطي حظ المجاهدين ، لإخافته الظالمين وخوفه منهم، وكان الحرج لاحقاً لمن خذله من الأمَّة ولم يكثر سواده، ويصل إلى حرب الظالمين جناحه.
ومن المنكرين لفضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- من ينتسب إليه، ويتعازى في إظهار محبته، تألفاً لمن يصغي إلى جانبه، ويعتقد وجوب متابعته -عَلَيْه السَّلام-، وتلبيساً على العوام بأني سالك منهاجه، غير متنكب لسبيله.
_____________
([13]) - محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- أبو القاسم، وقيل أبو عبدالله أمه أم الزبير بنت عبدالله كان -عَلَيْه السَّلام- على طريقة سلفه في العلم والفضل والزهد والدين والورع والسخاء وكان أشجع من ركب فيه الروح، ظهر في الكوفة يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة تسع وتسعين ومائة، فبايعه الفضلاء من أهل البيت وغيرهم، وبعث دعاته في الآفاق وله وقعات كثيرة مع الجنود العباسية في الكوفة، وأصابه سهم في أحد المعارك في حروبه وطعن فاعتل، وكان أبو السرايا يقوم بقتال القوم حال علته، وتوفي رحمة الله عليه شهيداً يوم السبت لليلة خلت من رجب سنة (199هـ) . عمره : ست وعشرون سنة، ودفن بالكوفة عليه الرحمة والرضوان، انظر الشافي ص247، التحف شرح الزلف ص(144) (ط3)، الإفادة ص(83)، المقاتل ص528، وغيرها.
([14]) - توفي القاسم بن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- سنة ست وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة، ودفن في الرس أرض إشتراها وهي وراء جبل أسود بالقرب من ذي الحليفة وقبره بها -عَلَيْه السَّلام-، مع جماعة من أهل بيته وبعض أولاده انظر الإفادة (100).
[بيان سبب الإحتجاج بقول الإمام القاسم(ع) في التفضيل]
فاحتُجَّ بقوله -عَلَيْه السَّلام- لقطع شغب المخالف ؛ لأنه -عليه السلام- صرح تصريحاً لا مساغ فيه للتأويل بأن الله -تعالى- فاضل بين عباده إبتداءً بغير عمل،وأن المفاضلة بينهم من أسباب التكليف، ولسنا نشك في أن ذلك مذهبه -عليه السلام-، ومذهب الأئمة من آبائه -عليه وعليهم السلام- والأئمة من أولاده -عليهم السلام- إلى يومنا هذا ؛ لأن الأدلة العقلية والسمعية قاضية بذلك، فإيرادنا لكلامه -عَلَيْه السَّلام- لنكشف([15]) لكل مسترشد أن من أنكر مفاضلة الله - تعالى - بين عباده وأنكر فضل العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- مخالف له -عَلَيْه السَّلام -، وأن انتسابه إليه لا حقيقة له، وأنه إنما انتسب إليه ليتغطى حاله، وينفذ في الأغمار كيده، وقد كان ذلك، فنسأل الله -تعالى- العون على تطهير دينه من كل شائبة.
فأمَّا من خالف في فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- من اليهود وغيرهم من فرق الكفر فلسنا نحتج عليهم بكلام الأئمة لأنهم ينكرون الصَّانع والنبوءة فضلاً عن الإمامة، فالكلام ينقل مع نفاة الصَّانع إلى إثباته تعالى، وتوحيده، وما يجوز عليه، وما لا يجوز، والمعترفون بالصَّانع كاليهود ومن شاكلهم ينقل معهم الكلام إلى إثبات نبؤة نبيئنا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ثم نحتج بعد ذلك على الفريقين بقول الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- ؛ لأنه لا يتعرى من الأدلة العقلية، ولأن المخالف لنا في إثبات فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- والمفاضلة بين العباد يوهم الناس أن متابعتهم -عَلَيْهم السَّلام- واجبة، وذلك حق إن إستمر ولم ينقض.
_____________
([15]) - نخ (ن) : لينكشف.
[نص كلام الإمام القاسم (ع) في التفضيل]
وقد صرح بالقافية بموضع الحجَّة من كلامه وهو قوله -عَلَيْه السَّلام- في أول كتاب (تثبيت الإمامة) من تصنيفه -عَلَيْه السَّلام- فقال فيه بعد التسمية: (الحمد لله فاطر السموات والأرض، مفضل بعض مفطورات خلقه على بعض ؛ بلوى منه للفاضلين بشكره، واختباراً للمفضولين بما أراد في ذلك من أمره، ليزيد الشاكرين في الآخرة بشكرهم من تفضيله، وليذيق المفضولين بسخط إن كان منهم في ذلك من تنكيله، ابتداء في ذلك للفاضلين بفضله، وفعلاً فعله بالمفضولين عن عدله؛ لقوله جل ثناؤه، وتباركت بقدسه أسماؤه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23)}[الأنبياء] ) فهذا تصريح منه -عَلَيْه السَّلام- بالمفاضلة بين خلقه، وبأنه ابتدأهم بذلك، وبأنه أوجب على الفاضلين الشكر وعلى المفضولين الصبر، وأن المفضولين إن سخطوا حكمه وقسمه في ذلك نكلهم، وأن الفاضلين إن شكروا زادهم في الآخرة وأعطاهم ثواب الشاكرين، وهذا مذهبنا بغير زيادة ولا نقصان قد أجمله -صلوات الله عليه- في هذا الفصل، فالحمد لله الذي جعلنا من ذريته، وهدانا لسلوك منهاجه، فالواجب على العاقل إنصاف نفسه، وتصفّح قول هداته وأئمته، وإمعان النظر في كتاب ربِّه، والإقتداء بالمستحفظين من عترة نبيئه -صلى الله عليه وعليهم أجمعين-.
وكلام القاسم -عَلَيْه السَّلام- في الفضل والمفاضلة كثير ولكنا ملنا إلى الاختصار ، وفيما ذكرنا كفاية لأهل العقول والأبصار، ومن احتججنا بقوله من الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- فإنما ذكرنا من كلامه فصلاً أو فصلين لمبدأ بغرض الذي قدمناه، ومن لم ينتفع باليسير لم ينتفع بالكثي،ر وضوء البارق يشير بالنوء المطير.
[كلام الإمام محمد بن القاسم(ع) في التفضيل]
[15]
ثُمَّ ابنُهُ ذو الشَّرفِ الأصِيلِ .... محمدٌ ذو الفهمِ والتحصيلِ
حَقَقَ في الثَالِثْ مَنَ الأُصُولِ .... قولاً يُزيلُ مذهبَ الجَهُولِ
عقب كلام القاسم -عَلَيْه السَّلام- في أن الله -تبارك وتعالى- يفضل من يشاء من عباده بما شاء من أنواع التفضيل، ويمتحن من يشاء من عباده بما شاء من أنواع الإمتحان، وأن ذلك كله حكمة، وأن الإعتراض عليه -سبحانه- في ذلك لا يجوز بقول ابنه محمد بن القاسم -عَلَيْه السَّلام-.
[ذكر طرف من أمر الإمام محمد بن القاسم (ع)]
وقد كان لمحمد بن القاسم([16]) -عَلَيْه السَّلام- من العلم والفضل ما برز به على أهل زمانه من العترة الطاهرة وغيرها، وهو أشهر من أن يحتاج إلى كشف شيءٍ من أمره،
_____________
([16]) - محمد العابد بن القاسم ترجمان الدين بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغَمر بن الحسن الشبه بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، كان من أورع أهل زمانه، وكان إذا تكلم لم يتكلم أحد من أولاد علي بن أبي طالب إلا بعد كلامه، وكان يتنزه عن أكل أموال السلطان، وعن كثير مما يأتي من القوم، ويتورع عن ذلك كله.
وعن الحسين بن القاسم، قال: سمعت أبي القاسم بن إبراهيم يقول: صحبت الصوفية أربعين سنة، ودرت الشرق والغرب، ولم أر رجلاً أبين ورعاً من ابني محمد، وكان قد باع لله نفسه، فخرج إلى الحيرة هو وأخوه سليمان فنزل على أشهب بن ربيعة صاحب العدن فبايعه وأخذ له بيعة كثيرة، وكان له بيعة باليمن، وأخذ له بن الجروي بيعة بمصر وكتب إليه وهو في الحجاز يخبره بمن بايع له وبكثرة أنصاره، فلم ير التخلف بعد ذلك فخرج إلى مصر، ثم ورد عليه كتاب ابن الحروي وهو في الطريق يعلمه أن جيوش بني العباس قد ضبطت البلاد، وأن كل من بايعه قد ذهب ونكث بيعته ولم يكن صحبه من الحجاز إلا شرذمة تقل عن مكافحة العساكر فرجع غير مختار للرجوع، وكانت له بيعة بطبرستان وبيعة بكرمان، وكان حريصاً على القيام مجتهداً غير متوان، ولكنه علم من أهل دهره كثرة الغدر والإخلاف في كل أمر حتى كبرت سنه ولزمه المرض في ركبتيه فزال عنه فرض القيام عند ذلك وهو في ذلك الوقت كان عمره نيفاً وثمانين سنة، وكانت وفاته -عَلَيْه السَّلام- سنة إحدى وثمانين ومائتين ويكون مولده قبل المئتين بقليل أو رأسها وقبره بجوار والده بالرس. انتهى من طبقات الزيدية الكبرى ج2 ، وكتاب التنيبه والدلائل للإمام القاسم بن علي العياني عليه السلام (خ).
هؤلاء إخوته الفضلاء النجباء الحسن([17])، والحسين([18])، وسليمان([19])، أولاد القاسم بن إبراهيم -عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام- لم يعرف لأحد منهم في أنواع العلم ما عرف له -عَلَيْه السَّلام-، وهو الذي روى عن أبيه القاسم -عَلَيْه السَّلام- كتاب -الفرائض والسنن- وفقهاً كثيراً،
____________
([17]) - الحسن بن القاسم بن إبراهيم: كان من خيار أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- قال الإمام القاسم العياني في التنبيه والدلائل : وكان فقيه أهل زمانه مع ما كان يذكر عنه من بصره بالأمور وحسن جواره للجيران ورحمته للأيتام، كان بالمدينة سيداً رئيساً، ثم خرج إلى اليمن مع ابن أخيه الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين -عَلَيْهم السَّلام- وتوفي هناك وقبره في قبة الإمام الهادي جنب قبر الإمام الهادي وولده المرتضى في تابوت واحد.
([18]) - الحسين بن القاسم بن إبراهيم: كان يلقب بالعالم والحافظ، وهو والد الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، وكان عالماً فاضلاً معدوداً في قدماء أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وكان وحيدا في أهل بيته وتوفي رحمة الله عليه في أواخر الثلاثمائة، وقبره في الرس مع والده القاسم -عَلَيْه السَّلام- في مشهد واحد.
([19]) - سليمان بن القاسم بن إبراهيم الرسي سكن المدينة، وكان من خيار أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وعلمائهم وفضلائهم.
وكان ممَّا زاد في يقين محمد بن عبيدالله العلوي العباسي([20]) -رضي الله عنه- ومن كان معه من أهل العلم لما وصلوا لإستنهاض الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- إلى أرض اليمن أن عمَّه محمد بن القاسم -عَلَيْه السَّلام- أمره بالتقدم في الصلوة بهم وامتنع يحيى بن الحسين -عَلَيْه السَّلام- من ذلك فتقدم محمد -عَلَيْه السَّلام- فصلى بهم ثم استحل بعد ذلك من يحيى بن الحسين وقال: (ما كان لي أن أتقدمك)، ولما توجه إلى أرض اليمن سأله خرقة من الغنائم يصلي عليها، فارتفع لذلك الشك في أمره -عَلَيْه السَّلام-، وازدادوا بصيرة ويقيناً لما يعرفون من علم محمد بن القاسم -عَلَيْه السَّلام- وفضله ، وتأسف على فوت الجهاد بين يديه لسنه وضعفه، وأكثر ما حكيناه([21]) عن محمد بن القاسم -عَلَيْه السَّلام- مذكور في سيرة الهادي -عَلَيْه السَّلام-،
______________
([20]) - محمد بن عبيدالله بن عبيدالله بن الحسن بن عبيدالله بن أبي الفضل العباس بن علي بن أبي طالب عليهم السلام العلوي العباسي ، أبو جعفر ، كان عالماً فاضلاً شجاعاً ورعاً ، من خيار أصحاب الإمام الهادي عليه السلام ، كان والياً له على نجران ، وقتله بنو الحارث بنجران في وقعة تشبه وقعة الطّف وقتل معه جماعة من أهل بيته ، رحمة الله عليه ورضوانه. وقد بلغ الحقد والانتقام والجرأة الغاية ويكفي في ذلك قول الشاعر القرمطي حيث ارتجز وهو يحز رأس أبي جعفر محمد بن عبيدالله العلوي :
شفيتُ نفسي وبلغتُ مأربي .... ولا أبالي بعد ذا ما حلَّ بي
من سخط الله ومن لعن النبي
انظر التحف شرح الزلف (180).
([21]) - نخ (ن) : حكينا.
وقد كان في قول القاسم -عَلَيْه السَّلام- كفاية، ولكنَّا أردنا مظاهرة أقوال آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- ليعلم المستبصر اللبيب أنَّا على منهاجهم نلقطه لقطاً، وأن من إنتسب إلى آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- ورفضنا جعل ذلك تدليساً لأمره، وتلبيساً على العوام بمكره، وأنه كما خالفنا - أيضاً -مخالف لآبائنا -عَلَيْهم السَّلام-، وإنما انتسب إليهم إلحاداً في الدين، وتمويهاً على ضعفة المسلمين.
[نصُّ كلام الإمام محمد بن القاسم(ع) في التفضيل]
وقد صرّح في القافية بموضع كلامه -عَلَيْه السَّلام-، وهو الأصل الثالث من الأصول السبعة([22])، وأنه -عَلَيْه السَّلام- قال في معنى قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15)}[الفجر] ، وقال -عَلَيْه السَّلام-: (يا هذا أكرمك لتظلم عباده، وتفسد في بلاده، ما هذا جزاء من أكرم) هذا كلامه -عَلَيْه السَّلام- فنبه على أن حقَ المكرِم الشكرُ فطابق قوله قول أبيه -عَلَيْهما السَّلام-.
______________
([22]) - الأصول السبعة ويسمى الأصول الثمانية من أعظم مؤلفات الإمام محمد بن القاسم (ع) في الأصول ، وقد طبع باسم (الأصول الثمانية) ولدينا منه نسخة مخطوطة . ونص كلامه هذا في ص(45) من المطبوع وفيه زيادة وهذا نصه :
[يا هذا أكرمك لتعصيه وتفسد في أرضه وتظلم عبيده ، ما هذا يستحق من أكرم ؛ ثم ساق الآية وقال بعدها : أهانك يا هذا لينتفع أو يدفع عن نفسه بإهانتك ضرراً ، جل وعلا ، أليس هو الغني الحكيم العزيز الذي لا يحتاج ولا يذل ، والحكيم لا يفعل القبيح ، وأي قبيح أقبح من إدخال الإهانة على غير مستحقها ، لا ولكن جهلوا الله سبحانه فجهلوا أفعاله ، وإنما يبتلي العباد بهذين الوجهين لأن ذلك مصلحة لهم وإن كانوا لا يعلمون ، كالجدب والخصب، والصحة والمرض ، والقوة والضعف ، والسواد والبياض ، والشرف والدون ، فمن صبر على ما لا يحبه أُجِر ، ومن شكر على ما يريد أُجِر ، لأن الدار دار بلوى ، وليست دار البقاء ، ولا دار الجزاء ، فلا يكون فيها محن ولا ابتلى].
ثم قال -عَلَيْه السَّلام-: ({وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16)}[الفجر] ، يا هذا أهانك لتجلب إلى نفسه نفعاً، أم تدفع عنها ضرراً، أليس هو الغني، والغني لا يحتاج!؟ أليس هو الحكيم، والحكيم لا يفعل القبيح !؟، لا والله ولكن جهلوا الله -تعالى- فجهلوا أفعاله، وإنما يبتلي عباده بهذين الفعلين من الغنى والفقر، والصحَّة والسقم، والجدب والخصب، والبياض والسواد، والحسن والسماجة، والشرف والدون؛ لمصلحتهم وإن كانوا لا يعلمون) وهذا الفصل وإن صرّح فيه - عليه السلام- بأنه ابتلى عباده بالشرف والدون، وهو الذي يزيد في المفاضلة والفضل، فقد صرح فيه بأقوال أخرى مما يخالفنا فيها منكروا الفضل وهي المفاضلة في الرزق، والخلق، والإمتحان بالصحة والسَّقم ؛ لأنه -عَلَيْه السَّلام- صرح بأن الغنى والخصب، والبياض، والصحة، والحسن، والشرف من فعله تعالى، وأن نقائضها من الفقر، والسقم، والجدب، والسواد، والسماجة، التي هي الشواهة، والدون من فعله - أيضاً - تعالى، وأن الجميع مصلحة في الدين، فإن من جهل ذلك فهو جاهل بالله -سبحانه وتعالى- لأنه إذا عَلِمَ اللهَ -سبحانه وتعالى- وعلم أن له داراً يعيض فيها الممتحنين، ويثيب الشاكرين، علم أن المحنة من قِبله، وأن النعمة التي أوجبت الشكر من عنده تعالى، وأن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة تقضي العقول بحسنه، ولا تمنع الحكمة من فعله ؛ لأن الحكمة لا يجب قصرها عند من يعرفها على المحبوب دون المكروه؛ بل ربما تقع في المكروه أكثر.
ألا ترى أن أكثر المشتهيات قبيح، وأكثر المكروهات حسن، ولا يجهل ذلك إلا من جهل الله -تعالى- كالثنوية ومن طابقها، فأمَّا المعترفون بالوحدانية فما علم بينهم خلاف قبل حدوث هذا القول، فيجب على العاقل التيقظ، وتعرف أقوال الأئمة، وطرائق الصالحين، واختلاف العلماء، والنظر في أدلة العقول، وإطراح التقليد، ليعلم أين تقع قدمه؛ لأن الزلة في الدين عظيمة، ومن دحضت قدمه فيه فلا قرار له دون النار، نعوذ بالله منها، وقد طابق كلام محمد بن القاسم، فيما ذهبنا إليه، كلام أبيه -صلى الله وسلم عليهما-.
[كلام الإمام الهادي إلى الحق (ع) في التفضيل]
[16]
ثُمَّ الإمامُ الأسَدُ الهَصُورُ .... أبو الحسينِ العالمُ المشهورُ
قد قال قولاً يَعْتَليهِ النورُ .... وهو بما يَقُولُهُ خَبِيرُ
[ذكر طرف من أمر الإمام الهادي إلى الحق (ع)]
أراد بمن ذكر في هذه القافية: الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم([23]) -عَلَيْهم السَّلام-، وهو مشهور الحال، محمود الفعال، مجموع الطرفين والحُسْنُ -عَلَيْه السَّلام- ؛ لأن أمَّه أم الحسن بنت الحسين بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب -عليهم السلام- وولد في المدينة، وحمل حين ولد إلى جده القاسم بن إبراهيم - صلوات الله عليه - فوضعه في حجره المبارك، وعوذه، وبرك عليه، ودعا له، وقال لأبيه: (بم سميته؟، قال: بيحيى، قال: هو والله يحيى صاحب اليمن)، وإنما قال بذلك لأخبار رويت في أمره وصفته قد ذكرت في سيرته، وفضائله كثيرة أضربنا عن ذكرها لشهرة الحال فيه -عَلَيْه السَّلام-.
وقوله في الفضل والمفاضلة كثير جداً، وكتبه وتصانيفه مشهورة، وأقواله على صحة ما ذهبنا إليه موجودة، ولكنا نذكر من ذلك طرفاً ينبه من كان له بصيرة، على تتبع أقواله -عَلَيْه السَّلام-، والنظر فيها.
______________
([23]) - الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، ولد بالمدينة المطهرة سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد ذكر الإمام قصة حمله إلى جده القاسم، وكان -عَلَيْه السَّلام- أسدياً ، أنجل العينين ، غليظ الساعدين ، بعيد ما بين المنكبين والصدر ، خفيف الساقين والعجز وكان قيامه -عَلَيْه السَّلام- سنة ثمانين ومائتين وكانت له خرجتان إلى اليمن، الخرجة الأولى في عام قيامه، والخرجة الثانية في عام أربعة وثمانين ومائتين؛ لأنه عاد في الخرجة الأولى؛ لأنه شاهد من بعض الجند أخذ شيء يسير من أموال الناس، فلما عاد نزل بأهل اليمن الفتن والشدائد، ثم عاودوا في الطلب وتضرعوا إليه فساعدهم إلى ذلك، وكان له مع القرامطة نيف وسبعون وقعة كانت له اليد فيها كلها وخطب له بمكة سبع سنين، ووردت فيه آثار نبوية وأخبار علوية تدل على فضله:
منها: قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وقد أشار بيده إلى اليمن: ((سيخرج رجل من ولدي في هذه الجهة اسمه يحيى الهادي يحيي الله به الدين))، وقد شهد الموالف والمخالف بفضله، وأجمع جميع العترة على إمامته ونهايته في الفضل والعلم، كيف لا وقد يسر الله له علم الجفر، وكان له من الشجاعة وقوة القلب ما يقهر به الأبطال ويصد به الشجعان، وقد كان معه سيف أمير المؤمنين ذو الفقار، وظهرت بركته باليمن، وأحيا الفرائض والسنن، وأقام عمود الدين وزلزل عروش الظالمين، وأباد الطغاة والمشركين، وفتح صعدة ونجران وخيوان وصنعاء وذمار وحيسان وبعث عماله إلى عدن ودوخ ملوك اليمن، وطرد الجنود العباسية من صنعاء ومخاليف اليمن، ونزل إلى تهامة، وكان عابداً زاهداً يحيي الليل بالصلاة والعبادة، وتوفي -عَلَيْه السَّلام- شهيداً وهو في ثلاث وخمسين سنة ليلة الأحد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ثمان وتسعين ومائتين، ودفن يوم الإثنين في قبره الشريف المقابل لمحراب جامعه الذي أسسه بصعدة.
انظر الشافي 1/ 303، التحف شرح الزلف للإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى167، الحدائق الوردية - خ -، اللآلي المضيئة - خ -، الزحيف - خ -، تتمة المصابيح لعلي بن بلال.
[نصُّ كلام الإمام الهادي(ع) في التفضيل]
فمن ذلك ما ذكره -عَلَيْه السَّلام- من كتاب (الفوائد) وقد سأله ابنه المرتضى -عليهما جميعاً أفضل السلام- عن التفاضل في الأجسام فقال: (وأمَّا ما ذكرت من التفاضل في الأجسام، فكل ذلك حكمة من ذي الجلال والإكرام، ولو لم يخلق الله الناقصَ، والأقطعَ، والأعورَ، والزَّمِنَ، لما عرف الكامل قدر ما أولاه الله من كماله، والله -تعالى- لم يكلف الناقص من العبادة إلا بقدر ما أعطاه من جوارحه، فنقصه ليعتبر به غيره، وأثابه في الآخرة بقدر ما نقص من جسمه.
أو لا ترى أن الحكيم في فعله لا يُسأل عن شيءٍ من إثبات حكمه، فإذا شهد لله -تعالى- أنه حكيم فالحكيم لا يفعل فعلاً إلا بحكمة).
فهذا تصريح منه -عَلَيْه السَّلام- لا يغبى على عاقل منصف بإثبات الإمتحان، والعوض، والإعتبار، كما بينَّا في الآلام في باب العدل، وأن المحبوب والمكروه من ذلك حكمة ، فانكشف لكل عاقل أنصف لنفسه أنَّا على منهاج آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- وأن من انتسب إليهم إنما انتسب للأغراض التي قدمنا من تلبيس الحال ، وخديعة الجهال؛ لأنه -عليه السلام- بين أن الله -تعالى- المتولي للمفاضلة بين عباده، وأنه لا ينبغي لأحد الإعتراض على الله -سبحانه- في شيءٍ من فعله مكروهه ومحبوبه، لثبوت حكمته، ولا يسأله لم فعل؟ لأنه قد ثبت كونه حكيماً، والحكيم لا يفعل إلا الحكمة، فالذي يقول كان يفعل كذا، ولم يفعل كذا، ولم يقل كذا، يطلب أن يكون إلهاً ثانياً، وذلك لا يجوز.
وقد بينَّا أن الإله واحد في مسألة واحد، وقد قال سبحانه وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22] ، لأن كثرة الآلهة توجب أن ينقم البعض على البعض، وذلك يوجب المغالبة واختلاف الأغراض، والعقول السويَّة لا تمنع من مخالفة الحكيم بين عباده، ولا يحسن الإعتراض عليه.
ألا ترى في الشاهد أنَّا لو عرفنا رجلاً بين أظهرنا بالحكمة، ورأيناه يترك أهل العلل عنده في جهات مختلفة؛ فمنهم من يتركه مكاناً عالياً، ومنهم من ينزله مكاناً هابطاً، ومنهم من يوسع عليه في القوت، ويأمره بالإنتهاء إلى مبلغ شهوته، ومنهم من يُطعمه حلواً، ومنهم من يُطعمه مراً، ومنهم من يُحرمه الماء، ومنهم من يبيح له شربه، إلى غير ذلك، لما حسن منا الإعتراض عليه في شيء من ذلك ولا حسن - أيضاً - لمن أتاه بالحنظل أن يقول لم لاتسقني العسل عوضاً من هذا؟ ولم أمرتني بالإمتناع من أكثر المعايش وقربتها إلى غيري؟ والله -تعالى- أولى أن تسلم له الحكمة([24])، وأن لا يعترض عليه في شيءٍ من فعله، وكل من أنكر ذلك لم يمكنه الإنفصال عن (شبهة([25])) اليهود -لعنهم الله تعالى- لأنهم قالوا إن الله -تعالى- سوى بين عباده في التعبد، وإن المخالفة فيه توجب البَدا عليه، وهو لا يجوز.
قلنا: أمَّا البدا فلا يجوز عليه لعلمه بجميع المعلومات، وأما المساواة في التعبد فلا تجب ؛ لأن التكليف إنما وقع لمصالح العباد، ولا يمتنع في علمه إختلاف المصالح بالأشخاص والأوقات، وكذلك مخالفته -تعالى- بين عباده في الأرزاق، والأحوال من الصحة والسقَم، والشباب والهرَم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، لمصالح يختص بعلمها مفصلة، ونحن نعلم على سبيل الجملة أنها حكمة لوقوعها من جهة الحكيم تعالى، وقد صرح بذلك الهادي -عَلَيْه السَّلام- فيما رويناه عنه في الفصل المتقدم.
_______________
([24])ـ في (ن) : حكمته.
([25])ـ في (ن، م) : شبه.
[17]
ثُمَ أَبَانَ بعدُ في الكفاءهْ .... ما قَدْ رَأيْنَا والورى سَنَاءهْ
فَلَم نُفَارِقْ أَبَدَاً ضِيَاءَهْ .... إذ نَحْنُ لا نَبْغِي الهُدَى وَرَاءهْ
عقب كلامه -عَلَيْه السَّلام- في الفصل الأول بدلالة قوله -عَلَيْه السَّلام- في مسألة الكفاءة وهي مودعة كتبه في الشريعة، والعلماء بعده مطبقون على روايتها عنه، ومن أعجب العجائب أن المخالفين لنا في الفضل والمفاضلة يظهرون للعوامّ أنهم قافون لأثره -عَلَيْه السَّلام-، متبّعون لقوله، ولقد جاز ذلك على كثير من الناس، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى.
ولقد جرى بيني مرّة وبين رجل ممن غرّوه من الشرف([26]) مراجعة في أمر الفضل، فأنكره، فاحتججت بقول الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- وغيره في ذلك، ومن ذلك مسألة الكفاءة، فقال: أمَّا من قبل الإصل -وكسر الهمزة والصاد- فصدقت، فقلت في التفضيل بالإصل هو الذي أردت وكسرت الصاد مثله كما يحاكي لقوله، ومن قِبَلِ الجهل بأوزان الكلام ، تركت منهاج آبائك -عَلَيْهم السَّلام-، وقلّدت العوام، ولم يكن ذِكْر ذلك من غرضنا وإنما عرض في الخاطر، والكلام ذو شجون.
____________
([26]) - الشرف عزلة من بلاد حجور تشتمل على : الشرف الأعلى واسفل ، وحجور : بلد واسع من بلاد همدان في الشمال الغربي من صنعاء على مسافة خمس مراحل. مجموع بلدان اليمن وقبائلها (1/240).
واعلم أن من تأمل أدنى تأمل في أحد الأدلة، فضلاً عن مجموعها، إمَّا في دلالة العقل، أو في كتاب الله -سبحانه وتعالى- أو في سنة الرسول، أو في إجماع الأمة، أو العترة، أو تتبع أقوال الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- علم صدق ما قلناه، ولكن وأين من يترك يصل إلى ذلك يمنعه من ذلك إيجاب الرجوع إلى قول الشيخ؛ لأن الشيخ يسند مذهبه إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- عن جبريل عن الله -تعالى- وربما يلحق في الإسناد إسرافيل وميخائيل عن الله، وهذا المسكين المنقطع لا يعلم أن المذهب لا يُقْبَلُ إسناده جملةً إلى النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ؛ لأن كل فرقة معترفة بنبوءته من جبري وعدلي تُسْنِدُ مذهبها جملة إليه، ولهذا تسمت المجبرة بالسُّنة والجماعة، وكذلك كل فرقة وإن أسندت مسائل كل مذهب مفصلة إذا روت ذلك لم يقبل منها في أصول الدين إلا ما يشترك في العلم به الكافة، لأن التعبد عام فيجب عموم أدلته؛ لأن التكليف بما لا يعلم جار في القبح مجرى (التكليف بما([27])) لا يطاق، وتكليف ما لا يطاق قبيح، والله -تعالى- لا يفعل القبيح، قد بينا ذلك في باب العدل في الرد على المجبرة، وبهذا رددنا قول الإمامية، وهم قد أسندوا قولهم في النص على إثني عشر من ولد الحسين -عَلَيْه السَّلام- إلى النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - ولأن للأخبار أحكاماً وأقساماً، وللأسانيد شروطاً فيما يوجب العلم والعمل، وما يوجب غالب الظن، وما يوجب حصول العلم الضروري، وما يعمل به في الأصول، وما لا يجوز العمل به في الأصول، وما يعمل به في الفروع، وما لايجوز العمل به في الفروع، وقد أودعنا ذلك كتاب (صفوة الإختيار)، ولأن تركه في ذلك الموضع أليق.
______________
([27]) - نخ (ن) : تكليف ما لا يطاق.
ثم لنرجع إلى ذكر كلام الهادي -عَلَيْه السَّلام- في الكفؤ، فإنه -عَلَيْه السَّلام- إعتبر الكفاءة في النسب([28]) ، وأنه يجب إعتبار كونه شريفاً إن كانت شريفة، أو مماثل لها إن كانت دنيَّة ، وأن الولي لا يكون عاضلاً لها إذا لم يزوجها من غير كفؤها في النسب، وإن كان كفؤاً في الدين، وذلك مذهبه -عَلَيْه السَّلام-، ومذهب الأئمة من أولاده -عَلَيْهم السَّلام- إلى يومنا هذا ، وفيه دلالة واضحة لمن أنصف عقله؛ لأن الناس لو كانوا عنده -عليه السلام- على سواء لم يعتبر إلاَّ كفاءة الدين، وظهور فساد قول من يزعم أن الناس لا تفاضل بينهم، وأن الله تعالى لم يفاضل بين خلقه معلوم لكل من لم يتخذ إلهه هواه، وعرف الفرق بين بطون الأقدام والجباه.
[كلام الإمام القاسم بن علي العياني(ع)، وابنه الحسين(ع) في التفضيل]
[18]
وقالَ في ذاكَ الإمامُ القاسِمُ .... وَسِبْطُهُ الفَذُّ الحسينُ العالمُ
قَولاً كَدُرٍّ قَدْ جَلاهُ الناظمُ .... يَعْرِفُهُ الحبرُ اللبيبُ الفَاهِمُ
_______________
([28]) - قال الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام في الأحكام (1/366) : والكفؤ فهو الكفؤ في الدين والمنصب فقط ، والأولياء فهم الناظرون في أمورهم ، المتخيرون لحرماتهم ، وإن كرهوا أحداً لم يلزموا ما كرهوا ..إلى قوله عليه السلام : وحدثني أبي عن أبيه أنه سئل عن الكفؤ ما هو ؟ فقال : (الكفؤ في الدين والنسب فيهما جميعاً).
[ذكر طرف من أمر الإمام القاسم بن علي العياني (ع)]
المراد بالقاسم ها هنا هو الإمام القاسم([29]) بن علي بن عبدالله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم -صلوات الله عليهم- وذكره مشهورٌ، ومجده موفور، فزع إليه الكافة لفضله وعلمه، وكان حبراً مفزعاً -صلوات الله عليه- قام ودعا العباد إلى طاعته وعقدت له البيعة في أكثر النواحي، واستقر أمره في اليمن، ومَلِكَ أكثرها، وساس أحسن سياسة، وجرت له الأمور على أحسن سنن الإستقامة، وسلك منهاج الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- في العدل في الرعيَّة، والقسم بالسويَّة، وبرز في خصال الكمال، ولم يتمار أحد في علمه وشدة وطأته، وله تصانيف كثيرة في الفروع والأصول، لا يتعرى شيءٌ منها من ذكر فضل آل محمد -عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام-.
_____________
([29]) - الإمام المنصور بالله القاسم بن علي بن عبدالله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليهم، نشأ -عَلَيْه السَّلام- على العلم والعمل وعلى طريقة آبائه الصالحين، وكان مشهوراً بالبركة إستدعاه أهل اليمن من أرض الشام لما أكلت الجراد ثمارهم وزروعهم، فعند وصوله صرفها الله تعالى عنهم ببركته، وقام ببلاد خثعم، ثم أنفذ رسله إلى اليمن سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، فأجابوه ثم أقام بصعدة، واستقرّت أوامره النبوية في كثير من الأقطار اليمنية ودخل صنعاء ثم نهض إلى نجران في عسكر ضخم بلغ عدد الخيل فيه ألف فارس سوى نيف وثلاثين فارساً، وعدد الرجالة ثلاثة آلاف راجل ومائتين وأربعين راجلاً، فلما استقر بها أسلسوا قياده وخضعوا له -عَلَيْه السَّلام-، وكانت وفاته -عَلَيْه السَّلام- يوم الأحد لسبع خلون من شهر رمضان من سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ومشهده -عَلَيْه السَّلام- بعيان من بلاد سفيان مشهور مزور، انظر التحف 202، الحدائق الوردية - خ -، الزحيف - خ -، اللآلي المضيئة - خ -، الترجمان (خ).
[بيان حكمة الله في الآلام والأسقام]
وفي بعضها التصريح بأن الآلام والأسقام من جهة الله -تعالى- حكمة وإن كرهتها النفوس، فقال -عَلَيْه السَّلام- في (كتاب التوحيد ونفي التحديد) في باب الوعد والوعيد من هذا الكتاب الذي ذكرناه.
(مسألة: فإن قيل: فلم آلمهم وأمرضهم؟.
قيل له: ليزهدهم في الدنيا الفانية، ويشوقهم إلى الدار الباقية، ولو أهملهم عن حوادث المصائب، لكان ذلك أدعى لهم إلى المعاطب ، والطبيب يؤلم بالفصاد، والقطع من العقاقير، لما يرجو للعليل من الحياة والخير فلا يعنف في فعله ؛ بل يشكر على عمله).
هذا كلامه -صلوات الله عليه- مطابق، كما ترى، لما حكيناه من كلام آبائه -عَلَيْهم السَّلام-، وذلك لأن جميع علومهم خرجت من مشكاة واحدة، ومن نظر في هذه المسألة وفيما قبلها، مما حكينا من كلام آبائنا -عَلَيْهم السَّلام-، وفيما رتبنا من إعتقادنا في الآلام، علم أن وجه ذلك واحد ؛ لأنَّا بينَّا أن الآلام من قبل الله -تعالى- تحسن لوجهين: الإعتبار، والعوض.
وكذلك كلامهم يدل على ما قلنا، منه ما صرحوا به، ومنه ما يفهم بأدنى تأمل.
ألا ترى إلى كلام القاسم بن علي -عَلَيْه السَّلام- في هذا الفصل كيف جعل الألم بمنزلة الفصاد؛ لأنَّا قد علمنا أن الفصاد وشرب الدواء لا يكون عقوبة وإنما يكون لمصلحة، والإعتبار الذي ذكرنا هو المصلحة في الدين فكان بمنزلة الحياة؛ لأن حياة الدين أعلى من حياة الدنيا ، وقوله -عَلَيْه السَّلام-، (والخير) دلالة العوض ؛ لأن الخير هو النفع الحسن، وذلك حال العوض، ونحن نعلم بعقولنا حسن إيلام أولادنا لنفع يسير، وكذلك نعلم حسن إيلام ربّنا -تعالى- لنا، لنفع كثير ، وثواب كثير، ولا يجهل ذلك إلاَّ أعمى القلب، ذاهل اللب، أشبه خلق الله بالبهيمة التي تميل إلى شهوتها، وإن كان فيها هلاكها، وتنفر عن مكروهها وإن كان فيه نجاتها، وهذا فصل أوردناه في الإمتحان ، وكان الأليق به غير هذا المكان ، ولكن عرض في الخاطر، فأوردناه لنوضح أن كل واحد من آبائنا الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- قد قال بمثل قولنا في الآلام، وأن خلاف من نفى الآلام عن الله -تعالى- خارج عن قول أهل الإسلام.
[ذكر رسالة الإمام القاسم بن علي (ع) إلى الطبريين في التفضيل]
ثم لنرجع إلى كلامه -عَلَيْه السَّلام- في الفضل، وهو أكثر من أن نأتي عليه ؛ إلاَّ أنَّا نذكر منه طرفاً كالدليل على ما عداه، قال -عليه السلام- في رسالته إلى أهل طبرستان فقال -عليه السلام- في عنوانها: (من الإمام القاسم بن علي إلى جماعة الشيعة الطبريين، العارفين لفضل آل محمد خاتم النبيئين)؛ فتأمل -رحمك الله تعالى- كيف يكون كتابنا إلى أهل هذا المذهب الحادث من شيعتنا ؛ كيف يكون على هذا الوجه من فلان بن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلى جماعة المسلمين المنكرين لفضل آل محمد خاتم النبيئين، فهذا العنوان قد هتك لمن كان له عقل ستر هذه المقالة فضلاً عن الرسالة.
ثم قال -عَلَيْه السَّلام- بعد ذلك في الرسالة، وإنما نذكر منها زبداً كافية بحمد الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربَِّ العالمين، وصلواته على محمد خاتم النبيئين، وعلى آله الطاهرين ([30]) ، إلى جماعة من آمن واتقى، وصدق بالحسنى، ونهى النفس عن الهوى، وآثر الآخرة على الدنيا.
أمَّا بعد:- يا شيعتنا الأخيار، وخلف الأبرار، فإنكم تريدون محَلَّة، دونها مَهلكة مضلة، لا تجاز بغير دليل، ولا تعبر من الزاد بقليل، من سلكها بنفسه ضل، ومن ترك الزاد لها خذل ، آل نبيكم أدلاؤكم عليها ، وأعمالكم الصالحة زادكم إليها، فلا تفرطوا -رحمكم الله تعالى- في الزاد والدليل قبل سلوكها، فكم سلكها قبلكم من المفرطين فهلك، وكم رام الرجعة منها فمنع ذلك ، والتسويف والرجاء يوردان ولا يصدران، والخوف والعمل ينقذان ولا يبطلان).
ثم ذكر -صلوات الله عليه- شطراً من المواعظ والحكم النبوية، ثم قال: (أصل التأويل أول الخبال، والإختلاف في الأئمة أول الضلال، والإعتماد على غير الذرية أول الوبال، أصل العلم مع السؤال، وأصل الجهل مع الجدال، العالم في غير علمنا، كالجاهل لحقنا، الراغب في عدونا، كالزاهد فينا، المحسن إلى عدونا كالمسيء بنا، الشاكر لعدونا كالذام لنا، المتعرض لنحلتنا كالغازي علينا، معارضنا في التأويل كمعارض جدنا في التنزيل، الراعي لما لم يسترع كالمضيع لما استرعي، القائم بما لم يستأمن عليه كالمتعدي فيما استحفظ، الخاذل لنا كالمعين علينا، المتخلف عن داعينا كالمجيب لعدونا، معارضنا في الحكم كالحاكم بغير الحق علينا، المفرق بين الأئمة الهادين([31]) كالمفرق بين النبيئين، هنا أصل الفتنة يا جماعة الشيعة).
_______________
([30]) - نخ (ن) : الطيبين.
([31]) - نخ (ن) : العترة.
وأقول: صدق -صلوات الله عليه- إن أصل الفتنة التفريق بين العترة -عَلَيْهم السَّلام- كما حكيت لك عن بعض منكري فضل العترة، أنه قال: إنَّا نتبع من تقدم دون من تأخر فتاه في بحر الضلال، وسلك في مسالك الجهال، وكان بمنزلة المؤمنين ببعض الكتاب الكافرين ببعض، فلم يغن عنهم إيمانهم بالبعض شيئاً ولم يخرجهم من زمرة الكافرين، كذلك الكلام فيمن رفض بعض العترة وأنكر حقها، فما قولك فيمن أنكر حقها، ورفض فضلها !!؟، صفة هذا قد حاز الكفر بحذافيره، واحتمله من جميع جوانبه.
ثم ذكر -عَلَيْه السَّلام- صدراً في المواعظ والحكم، ثم قال: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينتظمان بغير زمام، ولا يُؤدَّى فرضُهما بغير إمام، الإقرار بالنبوءة لا يصلح إلاَّ مع الإقرار بالذريَّة، الإقرار بالكتاب لا يصح بغير نصاب، مقلد الناس كالباني على غير أساس، طالب العلم من أهله كمشتري الدر بعد خبره، المؤتم بغير العترة كالأعمى يتبع الأعمى).
ثم ذكر -صلوات الله عليه- شطراً من الكلام والحكم والمواعظ، ثم قال: (أمَّا تعلمون -رحمكم الله وهداكم- أن أصل الهلكة منذ بعث الله -سبحانه وتعالى- آدم -عَلَيْه السَّلام- إلى هذه الغاية، لم تكن إلاَّ بالإحتقار بالأنبياء -صلوات الله عليهم- في أيامهم، وبالذريَّة من بعدهم إلى أن تقوم الساعة، أيها الشيعة إنكم أتيتم من أنفسكم، ولم تؤتوا من ذرية نبيئكم).
والرسالة أكبر من هذا، ولكنا اقتصرنا على هذا القدر ؛ لأن فيه كفاية لمن أنصف نفسه، ولم يركب في هوة الضُّلال ردعة، ولم ينكر فضل هداته، وسفن نجاته.
وذكر -عَلَيْه السَّلام- الكفاءة في كتابه في فروع الفقه الذي سماه (التفريع) وفيها دلالة ظاهرة لأهل العقول على إثبات الفضل، لا يعمى عنها إلاَّ أعمى البصيرة ،مدخول السريرة.
[ذكر طرف من أمر الإمام الحسين بن القاسم العياني(ع)]
قوله: (وسبطه الفذُّ الحسين العالمُ): يريد بذلك ولده الحسين بن القاسم([32]) -عَلَيْهما السَّلام- المهدي لدين الله -صلوات الله عليه- وكان -عَلَيْه السَّلام- طبقة زمانه علماً، وكرماً، وهدىً([33])، وخشونةً، وعبادةً، وشجاعةً، قام ودعا إلى نفسه فبايعه المُستبصرون من أهل زمانه، فسار في الرعيَّة أحسن سيرة، وأجاب كل سائل، وبسط العلوم،
____________
([32]) - الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي بن عبدالله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم -عَلَيْهم السَّلام- ، مولده -عَلَيْه السَّلام- سنة 376 ست وسبعين وثلاثمائة ، دعا إلى الله تعالى بعد وفاة أبيه سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ، قال الإمام الحافظ الحجة مجد الدين المؤيدي أبقاه الله في التحف شرح الزلف ص202:
كان من كبار علماء الآل ، وله آثار جمة ، وانتفع بعلومه الأئمة ، بلغ في العلوم مبلغاً تحتار منه الأفكار، وتبتهر فيه الأبصار على صغر سنه ، فلم يكن عمره يوم قيامه -عَلَيْه السَّلام- إلا سبع عشرة سنة ، ثم ساق حفظه الله وأبقاه كلاماً عظيماً وافياً في تنزيه الإمام الحسين بن القاسم عما نسب إليه من الأقوال ، وقد غلت فيه طائفة من الناس ، وقالوا: إنه لم يمت وإنه المهدي المنتظر ، وقد انقرضت هذه الفرقة المغالية - والحمد لله - وكان الحسين بن القاسم -عَلَيْه السَّلام- كثير الأعداء في حياته وبعد وفاته ، فقد جدت المطرفية المرتدة في الثلم لجانبه ولكن لا بد لكل ذي شأن من أعداء . فهم كما قال الشاعر :
حسدوا إذ لم ينالوا سعيه .... فالكل أعداء له وخصوم
وقتل -عَلَيْه السَّلام- بمنطقة يقال لها عَرار في نواحي ريدة سنة أربع وأربعمائة وله نيف وعشرون سنة، وقبره في خارج ريده مشهور مزور.
وقد أثنى عليه الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- منهم : الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان -عَلَيْه السَّلام- في حقائق المعرفة، والإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في هذه الرسالة ، والسيد حميدان بن يحيى بن حميدان القاسمي ألف رسالة في تبرئة الحسين بن القاسم سماها (بيان الإشكال فيما حكي عن المهدي من الأقوال ) وأثنى عليه الهادي بن إبراهيم الوزير رحمه الله في هداية الراغبين، وكذلك الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي في التحف شرح الزلف ، والإمام إبراهيم بن محمد المؤيدي الملقب بابن حورية، وغيرهم كثير.
([33])ـ في (ن) : زهداً.
وصنّف كتباً([34]) كثيرة في التوحيد والعدل، شهرتها تغني عن تعيينها بالذكر، وفسر القرآن تفسيراً جامعاً([35])، ونشر الكلام في فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- في أكثر هذه الكتب، وهو موجود فيها، وفي جواباته على مسائل من سأله فإنه يظهر في جميع ذلك تفضيل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- على غيرهم من الخلق، ويوجب الفزع إليهم وسؤالهم، وإعتقاد موالاتهم، وإنما نذكر من ذلك طرفاً يكون كالمنبه لمن أراد الرشاد على طلب هداه، ومعيناً للمستبصر عمَّا سواه.
_______________
([34])- ذكر الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى أن عدد مؤلفاته -عَلَيْه السَّلام- ثلاثة وسبعين مؤلفاً ، وذكر منها : كتاب مُهَج الحكمة ، وكتاب تفسير غرائب القرآن ، وكتاب مختصر الأحكام ، وكتاب الإمامة ، وكتاب الرد على أهل التقليد والنفاق ، وكتاب الرد على الدعي ، وكتاب الرحمة، وكتاب التوفيق والتسديد ، وكتاب شواهد الصنع ، وكتاب الدامغ ، وكتاب الأسرار، وكتاب الرد على الملحدين ، وكتاب نبأ الحكمة . وغيرها كثير وما زال أغلب هذه الكتب ولله الحمد موجودة بين أيدينا تدل على صحة عقيدة الحسين بن القاسم ، وتنزيهه عما نسب إليه .
([35]) - اسم كتاب التفسير (تفسير الغريب من كتاب الله) من أعظم كتب الإمام عليه السلام نقل عنه في (المصابيح الساطعة الأنوار) شيئاً كثيراً ، وعلماً غزيراً.
[ذكر كلام الإمام الحسين بن القاسم (ع) في الإمامة]
فمن ذلك قوله -عَلَيْه السَّلام- في أن الإمامة مقصورة في أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- دون غيرهم، في كلام طويل قال فيه بعد أن فرغ بالإستدلال على أنها مقصورة عليهم من جهة العقل: (فمن ها هنا وجب أن تكون الإمامة في أهل بيت معروفين، وبالفضل والشرف مخصوصين، وأمَّا في الكتاب: فقوله فيه سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)}[الأحزاب] ، وقوله سبحانه لنبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] ، فافترض سبحانه مودة ذي القربى من رسوله -صلى الله عليه وعلى آله- فيا أيها الأمة الضالة عن سبيل رشدها، الجاهدة في هلاك أنفسها، أمرتم بمودة آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، أم فرض عليكم مودة تيم وعدي؟!، ومن الذين أذهب الله عنهم الرجس -أهل البيت- وطهرهم تطهيراً إلاَّ الذين أمرتم بمودتهم من ذوي القربى من آل نبيئكم، فهذه ؛ بحمد الله، حجج واضحة منيرة لا تطفأ، وشواهد مشهورة لا تخفى، إلاَّ على مكابرٍ عمٍ، أو شيطان غوي، قد كابر عقله، ورفض لبَّه.
وأمَّا السنة، فهي: ما أجمع عليه من إمامتهم، والباطل ما اختلف فيه من إمامة غيرهم).
هذا كلامه -عَلَيْه السَّلام-، وقد تقدم ما ذكرنا في ذلك من كلام الله -سبحانه وتعالى- وكلام رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وأقوال أولاده الأئمة السابقين -عَلَيْهم السَّلام- وتركنا من ذلك الأكثر لعلمنا أن في دون ما أردناه كفاية لمن نظر بعين البصيرة، وإنقاد لحكم الضرورة.
[الهوى يعمي ويصم]
[19]
وَكَمْ أعُدُّ مِنْ كلامِ الجبَّارْ .... آياً وَمِنْ قولِ النبي المُختارْ
وشَرْحِ أجدادي الحُمَاةِ الأبرَارْ .... مِنْ حُجَّةٍ لائحةٍ للأبصارْ
(كم) إسم غير متمكن، وقد يكون إستفهاماً، وقد يكون خبراً، ولهما أحكام ليس هذا موضع ذكرها، وهي تدل على التكثير في الخبر، والإستفهام جملة لا تفصيلاً، ولها شبه برُبَّ في بعض أحكامها، ولذلك تعمل في بعض الحالات عملها، ورُبَّ تقصر عنها ؛ لأنها حرف ولا يصلح إلاَّ للخبر، وهي نقيضتها في الدلالة ؛ لأنها تكشف عن التقليل، فقوله (كم): يريد ؛ كثيراً ما أعد من كلام الجبَّار.
(والجبَّار) هاهنا: هو الله -سبحانه- والجبَّار في أصل اللغة: هي النخلة التي لا تنالها الأيدي طولاً، فلما كان تعالى لا تناله الأيدي عظمة، ولإجلاله سمي جبَّاراً، وسمي بذلك لذلك.
و (آياً): جمع آية، والآية: هي الدلالة والعلامة، يقول قائل أهل اللغة: ما آية ذلك؟ أي ما دلالته، فلما كان كل فصل من كتاب الله -تعالى- دلالة باهرة سُمي كل فصل من كلامه تعالى آية.
و(أجداده): هم الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-، وسماهم (حماة) لدفاعهم عن الدين، وجهادهم في سبيل ربِّ العالمين.
و (الأبرار): هم المطهَّرون من دنس الأوزار، المنقطعون في طاعة العزيز القهار، وكذلك حالهم -عَلَيْهم السَّلام- وشرحهم علومهم، وقد ذكر منه ما تقدم مما في بعضه كفاية لمن أبصر، وعبرة لمن إعتبر، وما يتذكر إلاَّ أولوا الألباب، ولا يمْنَحُ التوفيقُ إلاَّ من أناب.
[صفة المنكر للتفضيل بعد معرفته بما سبق من الأدلة]
[20]
لم يَعَمَ عَمَّا قُلْتُهُ إلاَّ عَمِي .... ذو منطقٍ حُلوٍ وقلبٍ مُظْلِمِ
يَحسِبُ أنَّ الدِّينَ بالتَّوهُمِ .... فصَارَ للشّقْوَةِ في جهنَّمِ
هذا إشارة إلى أن ما تقدم من الأدلة على تفضيل الله -سبحانه وتعالى- لعترة نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خاصَّة، ولمن شاء بعده ذلك من خلقه عامَّة، لا يعمى عنه ويجهله إلاَّ من أعمى الله -سبحانه وتعالى- قلبه، وأذهل لبَّه، لتظاهر عصيانه، ومتابعته لشيطانه، فلسانه حلو للسامعين، وفعله واعتقاده ينفر عنهما جميع المسلمين، فقد أخذ حطام الدنيا بالدين، ولبس للناس جلود الضأن من اللِّين، قد كور العمامة على الهامة، وأرصد الكف للنخامة، ولطف كلامه، وأظهر إعتمامه ، وأنشأ يطعن في فضل من أورثهم الله الإمامة ، وملكهم الزعامة ، إلى يوم القيامة، فهو فتنة لمن أبصره([36]) دون من خبره، قد أعمى العجب بعبادته بصره، وعفا من زمرة الصالحين أثره، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فهل تعلمون أيها الإخوان أبخس تجارة، أو أبين خسارة ممن أورثته أفعاله وأقواله الندامة في موقف القيامة، فنسأل الله التوفيق لنا ولكم، والصلاة [والسلام] على النبيء -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
_________________
([36]) - نخ (ن) : أبصر.
[بيان أن منكر فضل أهل البيت(ع) يكون مشاركاً في دمائهم ودماء أشياعهم]
[21]
وكلُّ مَنْ أنكرَ فضلَ الصفوهْ .... شَارَكَ أربابَ الرَدَى والشّقْوَهْ
فيما أَتَوْهُ عَامِدِينَ ضحوهْ .... في أرضِ باخَمرى وصَحرَا أتْوَهْ
هذا إلزام لمن أنكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ؛ لأنهم صفوة الله من خلقه كما ذكر سبحانه -وتعالى- في كتابه، فمن أنكر فضلهم كان مشاركاً في دمائهم ودماء أشياعهم الذين استشهدوا في محبتهم -رحمهم الله سبحانه وتعالى- وذلك واضح.
وكشفه ؛ أنَّا نقول: إن الأصل في خلاف من خالفهم إنكار فضلهم، بدلالة أنهم لو التزموا فضلهم واعترفوا بحقهم لما حاربوهم.
[بيان أن حال من اعتقد أنه لا فضل لأهل البيت (ع) يكون أسوأ من حال بعض من حاربهم]
بل من إعتقد أنه لا فضل لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- يكون حاله أسوأ من حال بعض من حاربهم ؛ لأن أكثر من حاربهم كان يعتقد فضلهم، وإن لم يظهره إلاَّ لخاصته أو بطانته، ويُظْهِرُ أنه ما حاربهم إلاَّ على الدنيا خيفة أن يمنعوه من حطامها، وبين عوائده من أيامها.
(وقد روي أن بعض أولاد هارون، الملقب بالرشيد، غاب عنه يوماً فسأله هارون عن غيبته، فقال: كنت عند فلان، وسمَّى له عالماً، أسمع عليه شيئاً من فضائل أبي بكر وعمر، فقال: يا بني وأين أنت عن فضائل علي بن أبي طالب أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- !؟
فقال له ولده: يا أبة وهل له من الفضائل شيءٌ؟
قال: يا بني وهل الفضائل إلا له ولأولاده.
قال: يا أبة، فلم حاربتهم؟
فقال: يابني حاربتهم وقتلتهم على البريد الأعقر وعلى هذا الخاتم - يعني الملك الذي من صار في يده توسع في حياته، وخلّف لعقبه بعد وفاته) ونسي عدوّ الله أن هذه الدنيا كما قال الله -تعالى- في كتابه الكريم: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) }[الحديد] ، وصدق الله، العظيم، وبلغ رسوله النبي الكريم، ونحن على ذلك من الشاهدين، وله من الحامدين العابدين، أن الدنيا لا تَعْدُو بجميع محاسن زينتها وأنواع زخرفها ما وصفها الله -سبحانه وتعالى- به في هذه الآية، وأن نضارتها وزخرفها وخضرتها تنقلب إلى الإصفرار، وطراوتها وبهجتها تؤول إلى الدبار، وأن طالبها وكاسبها يساق غداً إلى النار ، فيخلد في العذاب الشديد الطويل، ويهتف بالويل والعويل، ويقول كما قال الله تعالى: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ(44)}[الشورى] ، فما خير دنيا هذا آخرها، فأعداء أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، الذين كانوا ربما اعترفوا بفضلهم في بعض الحالات يكونون أهون جرماً ممن ظاهره الدين، وباطنه الإنتقاص لعترة محمد خاتم النبيئين -صلى الله عليه وعلى آله وسلم أجمعين-.
ألا ترى أن من ناصبهم من بني أميَّة وبني العبَّاس لم يمكنهم صرف بواطن الناس عن هذه العترة الطاهرة، ولا أنس الناس بهم في ذلك، وظاهرهم الحرب لهم والعداوة؛ فكلامهم فيهم غير مستمع ، ومنكر فضلهم ممن ظاهره التعفف والإسلام والعبادة قد غر الناس بعبادته ، وصرفهم عن عترة نبيئهم -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بإعتقاده، فهو فتنة لمن اغترّ به، ضال عن رشده، فكيده حينئذٍ يكون أعظم من كيدهم، وجرمه عند الله تعالى أكبر من جرمهم.
وقد روي عن أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- أنه قال: ((قطع ظهري اثنان عالم فاسق يصد الناس عن علمه بفسقه، وذو بدعة ناسك يدعو الناس إلى بدعته بنسكه)) .
[جزاء المبغض لأهل البيت(ع)]
وقد روينا عن أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((حرمت الجنَّة على من أبغض أهل بيتي، وعلى من حاربهم، وعلى المعين عليهم ، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم([37]))) ، ولا معونة عليهم، ولا بغضاً لهم، ولا تخذيل عنهم، أعظم من الإعتقاد الفاسد الذي قدَّمنا ذكره، ولا شك في أن إنكار فضلهم، وجحدان شرفهم، يكون إنسلاخاً عن الدين جملة ؛ لأن المعلوم من إجماعهم -صلوات الله عليهم- أنهم أفضل البشر بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ورسول الله عندهم أفضل النبيئين، وهم أفضل الناس بعده، وهذا معلوم لكل مسلم عرفهم من إجماعهم وإعتقادهم، وإجماعهم حجَّة، كما قدمنا، يحرم خلافها، ويجب إتباعها.
______________
([37]) - رواه الإمام علي بن موسى الرضا في صحيفته ص(463)، والإمام أبو طالب في الأمالي (121) بسنده عن علي بن موسى الرضا عن آبائه عن علي عليهم السلام ، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (157) ، والإمام يحيى بن حمزة في الانتصار . قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي -أيده الله تعالى- في لوامع الأنوار (ط2) (2/676) : وأخرجه ابن عساكر ، وابن النجار عن علي عليه السلام .
وقد قال النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فيما روينا عنه بالإسناد الموثوق به، مخاطباً لأهل بيته وقد شكوا عليه خيفة ما قد كان من جفوة أمته، فقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((لن يبلغوا الخير حتى يحبوكم لله ولقرابتي، أترجوا سهلب شفاعتي ويحرمها بنو عبدالمطلب([38])؟)) ، فقال: ترجوا سهلب على بعدها مني داراً ونسباً شفاعتي - وسهلب هؤلاء هم حي من أحياء مراد - ويحرمها أهلي ولحمي، فنفى بلوغ الخير عمن لم يحبهم لقرابته -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
ثم انظر -أيدك الله بفكر ثاقب- كيف يسوغ لمسلم إنكار فضلهم، قوم تبتدأ بذكرهم الخطب، وتختم بذكرهم الصلاة، حتى لا تتم صلوة مسلم إلا بذكرهم، وذكرهم مقرون بذكر الله -سبحانه- وذكر رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، أين العقول السليمة، والأفكار الصافية من هذا؟.
______________
([38]) - هذا الحديث رواه الإمام المرشد بالله -عَلَيْه السَّلام- بهذا اللفظ عن ابن عباس (1/154) ، قال : جاء العباس إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فقال : إنك تركت فينا ضغائن قد صنعت الذي صنعت ، ثم ساق الخبر بلفظه ، وروي بألفاظ متقاربة وفي بعضها زيادة فهو مما اختلف لفظه واتحد معناه إذ معناها يدل على وجوب محبة أهل البيت - عليهم السلام - واتباعهم ، وفي بعضها دعاء من النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لأهل البيت خصوصاً وبني عبد المطلب عموماً فمنها: ما رواه الطبراني في الأوسط (5/405) رقم (7761) عن عبدالله بن جعفر، قال: سمعت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول: ((يا بني هاشم إني قد سألت الله لكم أن يجعلكم نجداء رحماء، وسألته أن يهدي ضالكم ويؤمن خائفكم ويشبع جائعكم والذي نفسي بيده لايؤمن أحد حتى يحبكم بحبي أترجون أن تدخلوا الجنة بشفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب))، أخرجه السيوطي في إحياء الميت في فضائل أهل البيت ، والهيثمي في مجمع الزوائد (2/55- 56).
وروى نحوه الطبراني أيضاً والحاكم والذهبي عن ابن عباس بلفظ: ((يا بني عبد المطلب إني سألت الله لكم ثلاثاً: أن يثبت قائمكم وأن يهدي ضالكم، وأن يعلم جاهلكم، وسألت الله أن يجعلكم جوداً نجباء رحماء، فلو أن رجلاً صفن بين الركن والمقام فصلى وصام ثم لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- دخل النار))، وأخرجه السيوطي أيضاً.
وروى المرشد بالله -عَلَيْه السَّلام- بإسناده إلى عبد المطلب بن ربيعة ، قال : قال العباس : يا رسول الله، إن قريشاً يلقى بعضهم بعضاً بِبِشْرٍ، ويلقونا بوجوه ننكرها ، فغضب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ، وقال : ((والذي نفسي بيده لا يدخل قلب عبد الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله))، ورواه الثعلبي بلفظ : ((والذي بعثني بالحق نبياً لا يؤمنوا حتى يحبوكم لي)).
قال في تخريج الشافي : أخرجه ابن ماجه والطبراني وأحمد والبيهقي والترمذي وابن أبي عاصم وابن منده وعمر الملا والموصلي والحاكم وأبو نعيم والبغوي والروياني ومحمد بن نصر وغيرهم.
[بيان أنه لا يمر وقت من الأوقات إلا وفي أهل البيت (ع) من يجب اتباعه]
وقد بلغنا عن بعض من ينفي فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- أن الحجَّة إذا لزمته في ذلك ذهب إلى القسم الثالث منهم: وهو الظالم لنفسه، وذكره وأراه العوام([39])، وقال: كيف يجب إتباع هذا؛ بل كيف يجوز؟ يُسقِط الحجَّة عنه وذلك بعيد ؛ لأنه لا يجوز مرور وقت من الأوقات، ولا عصر من الأعصار إلاَّ وفيهم -صلوات الله عليهم-([40]) من يجب إتباعه، ويحرم خلافه، من الصالحين الذين هم أعلام الدين، وقدوة المؤمنين، والقادة إلى علّيين، والذادة عن سرح الإسلام والمسلمين ، وبهم أقام الحجَّة على الفاسقين، ورد كيد أعداء الدين، وهم القائمون دون هذا الدين القويم حتى تقوم الساعة، ينفون عنه شبه الجاحدين، وإلحاد الملحدين.
وفي ذلك ما روينا عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم([41]))) .
______________
([39])ـ في (ن) : العوالم .
([40]) - نخ (ن) : سلام الله عليهم.
([41]) - هذا الحديث رواه الإمام المنصور بالله في الشافي، وهو في نهج البلاغة، ورواه في أمالي أبي طالب، ورواه المرشد بالله (1/153)، عن علي -عَلَيْه السَّلام- ، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (195)، وغيرهم من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وشيعتهم ، وغيرهم من علماء الإسلام.
فكما أنَّا نعلم أنه لا يجوز أفول نجم إلاَّ بطلوع آخر حتى تقوم الساعة ، نعلم أنه لا يمضي منهم -عَلَيْهم السَّلام- سلف صالح إلاَّ وعقبه خلف صالح.
وقال الله -سبحانه وتعالى- لنبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)}[الرعد] ، فمعنى هذه الآية، والله أعلم، أن الله -جل ذكره- جعل في كل وقت من أهل بيته هادياً لقوم ذلك الوقت.
فإن قيل: وكيف ذلك والناس لم يهتدوا بهم، ولم يفزعوا إليهم؟.
قلنا: ليس ذلك يخرجهم عن كونهم هداة، كما لم يخرج النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بكفر الكافرين، وعناد الجاحدين عن كونه منذراً.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت:17] ، فلم يخرجه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- تعاميهم وكفرهم عن كونه هادياً لهم.
فإن قيل: من أين يجوز لكم إطلاق القول بأنه يجب اتباع أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وفيهم الظالم لنفسه، إمَّا بمعصية ظاهرة، وإمَّا بضلال في الدين كما تقولون فيمن خالفكم؟.
قلنا: كما جاز إطلاقكم القول بوجوب اتباع القرآن مع أنه فيه المنسوخ والمتشابه، فهذا ما احتمله هذا المكان من الكلام في هذه المسألة.
[ذكر وقعة با خمرى التي قُتل فيها إبراهيم بن عبدالله(ع)]
عدنا إلى تفسير البيت:
قوله: (باخمرا): يريد ؛ الموضع الذي كانت فيه الوقعة بين إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن -صلوات الله عليهم-، [وبين أبي جعفر الخليفة العباسي الثاني([42])] وذلك أنه كان داعياً لأخيه محمد بن عبدالله النفس الزكية -صلوات الله عليهما- في البصرة وما والاها، وقبض له البيعة هنالك، فلما قتل -صلوات الله عليه- في المدينة - أعني النفس الزكية-وإبراهيم -عَلَيْهما السَّلام- على الجملة التي حكيناها عنه داعياً وقد غلب على البصرة والأهواز وما والاهما، وطرد عمال أبي جعفر منهما بلغه -عَلَيْه السَّلام- نعي أخيه أول يوم من شوال سنة خمس وأربعين ومائة، وهو يريد أن يصلي بالناس صلاة العيد، فصلى بالناس، ثم رقى المنبر وخطب وذكر قتله، ونعاه إلى الناس، وتمثل بهذه الأبيات:
أبا المنازل يا عبر([43]) الفوارس من .... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أني لو خشيتهم .... أو أوجس القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوه ولم أسلم أخي لهم .... حتى نموت جميعاً أو نعيش معا
________________
([42]) - ما بين القوسين زيادة لتتميم الكلام.
([43]) - المنازل على صيغة اسم الفاعل بضم الميم من تنازل الأقران في الحرب وعبر مثله بضم العين: القوي الذي يشق ما يمر به يقال: ناقة عبر أسفار، أي قوية، انتهى من حاشية في الشافي، قال في آخرها: انتهى عن خط شيخنا مجد الدين المؤيدي أدام الله آثاره ونفع بعلمه.
ثم بكى -عَلَيْه السَّلام-، ثم قال: (اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أن محمداً إنما خرج غضباً لك ونفياً لهذه النكتة السوداء، وإيثاراً لحقك فارحمه، واغفر له، واجعل الآخرة خيراً مرداً ومنقلباً من الدنيا).
ثم بَكَى وبَكى الناسُ، فلما نزل بايعه بالإمامة علماء البصرة، وفقهاؤها، وزهادها، وبايعه المعتزلة مع الزيدية، ولم يتأخر عن بيعته من فضلاء البصرة أحد، إلا أن المعتزلة إختصوا به مع الزيدية، ولزموا مجلسه، وتولوا أعماله، واستولى على واسط وأعمالها، والأهواز وكورها، وعلى أعمال فارس، وكان أبو حنيفة من دعاته سراً ولم يقطع مكاتبته، وشرح أمره -عَلَيْه السَّلام- يطول، واعتذر إليه أبو حنيفة([44]) بودائع كانت للناس عنده في الجهاد بين يديه -عَلَيْه السَّلام- فعذره، وكانت مدة إمامته -صلوات الله عليه- عن هذه الجملة شهرين، ثم توجه إليه أبو جعفر([45]) في أول ذي الحَجَّة الحرام،
______________
([44]) - أبو حنيفة: النعمان بن ثابت التميمي فقيه العراق وصاحب المذهب المشهور بالحنفي، ولد سنة ثمانين وكان عالماً فقيهاً ورعاً زاهداً عابداً ذا شأن عظيم وخطر جسيم، وكان من أهل المحبة والولاء لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وأخذ علمه عن الإمام الأعظم زيد بن علي بلا واسطة، وأخذ عن الباقر محمد بن علي، وجعفر الصادق وعبدالله بن علي بن الحسين والحسن بن الحسن المثنى وعبدالله بن الحسن الكامل، وتواتر بأن أبا حنيفة كان يفتي بالخروج مع محمد وإبراهيم ابني عبدالله بن الحسن الكامل وبايع لهما، وقام أيضاً بنصرة الإمام زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام-، وكان ذلك هو سبب موته سمه أبو جعفر المنصور في شهر رجب سنة خمسين ومائة رحمة الله عليه.
([45]) - أبو جعفر المنصور، هو: عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس الهاشمي الدوانيقي ولد بالشراة في ذي الحجة سنة (95هـ) وهو الخليفة الثاني من خلفاء بني العباس بويع له في ذي الحجة أيضاً سنة (136هـ)، كان عالياً من المسرفين والطغاة المتجبرين سفاكاً لدماء العترة الزكية كم قتل من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- في عصره، وتوفي في ذي الحجة سنة (158هـ) عن ثلاث وستين سنة وشهور، وكانت مدة ولايته (22سنة).
فلقيه -عَلَيْه السَّلام- وعلى ميمنته عيسى([46]) بن زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- وعلى ميسرته برد بن لبيد اليشكري، وأنفد أبو جعفر على مقدمته عيسى بن موسى([47])،, وعسكر عظيم، فالتقوا ببا خمرا بين البصرة والكوفة فوقع بينهم قتال، شرحه يطول، إنتهى الأمر فيه إلى هزيمة الميمنة من أصحاب عيسى بن زيد -عَلَيْه السَّلام-،و ثبت إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- في القلب والميسرة، فبينا هم في القتل جاءه سهم فأصاب جبينه فاعتنق -عَلَيْه السَّلام- فرسه واحتوشته الزيدية وأنزلوه عن فرسه وأخذه بشير الرحال([48]) فأسنده إلى صدره حتى قضي -عليه السلام- وبشير يردد: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا(38)}[الأحزاب] ، وأدارت الزيدية عليه دائرة فكانوا مثل سور الحديد إلى أن نفد عامتهم ورق جمهورهم، فلما انقضت بقيتهم وُجِدَ -عليه السلام- ميتاً في أوساطهم، وقتل بشير الرحال على رأسه -صلوات الله عليه، ورحمة الله على بشير-.
فقد رأيت كيف أدى الإعتراف بفضلهم إلى الموت بين أيديهم، وأن منكر فضلهم يكون غامساً ليده في دمائهم ودماء أشياعهم؛ لأن علة الإنحراف عنهم والحرب لهم هو إنكار فضلهم وجحدان حقهم.
______________
([46]) - عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، كان مولده سنة تسع ومائة، وأمه أم ولد كان يلقب بمؤتم الأشبال لأنه لما انصرف من وقعة باخمرى عرضت للناس لبوة معها أشبالها فمنعت الناس الطريق فأخذ سيفه ودرقته وبرز لها وقتلها فقال بعض خدمه : يا سيدي أيتمت أشبالها ، فقال : نعم ؛ أنا مؤتم الأشبال، كان من عيون العترة وفضلائها في عصره، ومن المشار إليهم في وقته، وكان صاحب علم كثير وورع ودين ويقين وبصيرة، شهد معركة باخمرى مع إبراهيم بن عبدالله وكان صاحب رايته، ولما قتل إبراهيم بن عبدالله توارى في أيام أبي جعفر المنصور، وتوفي أيام المهدي متوارياً وكانوا يخافون منه الخوف الشديد، وكان عيسى -عَلَيْه السَّلام- يقول: والله لأن يبيتن ليلة واحدة خائفاً مني أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس، وبذل له أبو جعفر الأمان فأبى ولم يقبل وتوفي بالكوفة وله ستون سنة عام تسع وستين ومائة.
([47]) - عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس الهاشمي أبو موسى ، ابن أخي السفاح ولد في الحميمة سنة (102هـ) ونشأ بها، كان من القواد العباسيين السافكين لدماء عترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، كم جيش من جيوش الضلالة قد قادها إلى محاربة أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، ولاه السفاح الكوفة سنة (132هـ) ، وجعله ولي عهد المنصور أبي جعفر ، ثم استنزله أبو جعفر سنة (147هـ) وجعله ولي عهد ابنه المهدي، ثم خلعه المهدي سنة (160هـ) بعد تهديد ووعيد {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام:129]، توفي بالكوفة سنة (167هـ). [الأعلام للزركلي (5/109)].
([48]) - بشير الرحال: كان من أتباع الأئمة الأعلام، ومن خلصان الشيعة الكرام، كان أحد علماء وفقهاء المعتزلة عالماً زاهداً يضرب به المثل، وسمي رحالاً لكثرة ترحاله إلى الحج، استشهد مع الإمام إبراهيم بن عبدالله بباخمرا سنة خمس وأربعين ومائة رحمة الله عليه.
[ذكر وقعة أتوه التي أسر فيها المرتضى محمد بن الهادي يحيى(ع)]
و (صحرا أتوه): هي تربتها، (وأتوه([49])) هذه هي موضع معروف في مشرف بلد همدان قريباً من مكان مشهور يقال له مدر([50])، وكانت الحروب بين الهادي -عَلَيْه السَّلام- وبين إبراهيم بن خلف ([51]) -لعنه الله- فيها، وكانت اليد في ذلك اليوم للظالمين ومتعهم الله -سبحانه- إلى حين، وأملاهم إن كيده متين، وهو يوم عظمت فيه البلوى على المؤمنين، وهو اليوم الذي أُسر فيه المرتضى لدين الله محمد بن يحيى([52]) عليه السلام، وقتل عامة الطبريين،
____________
([49]) - أتْوَه: بلدة حميرية من بلاد أرحب عيال أبو الخير . مجموع بلدان اليمن وقبائلها (1/56).
([50]) - مدر: بلدة مشهورة في بلاد أرحب شمال صنعاء على مسيرة يوم . مجموع بلدان اليمن (2/698).
([51]) - إبراهيم بن خلف بن طريف بن ثابت الكباري الحاشدي ، كان يلقب الوقاف ، من فرسان اليمن وأهل الشوكة ، ناصب الإمام الهادي وعارضه وحاربه في وقعات عديدة ، وله مع آل يعفر ملوك اليمن وقعات وملاحم ، قتل في جبل (جرابي) من مغارب صنعاء ، وحز رأسه وأرسل إلى آل يعفر ، وذلك في محرم سنة (292هـ) .
([52]) - المرتضى لدين الله جبريل أهل الأرض محمد بن يحيى الهادي إلى الحق بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، ولد -عَلَيْه السَّلام - سنة ثمان وسبعين ومائتين ، وأمه فاطمة بنت الحسن بن القاسم كان عالماً أصولياً متبحراً وفقيهاً بارعاً، دعا إلى الله تعالى بعد وفاة أبيه الهادي إلى الحق سنة ثمان وتسعين ومائتين، وقام بحروب مع علي بن الفضل القرمطي ، ولما شاهد من أحوال الناس وتغير طرائقهم بعد موت الهادي عن طريق السداد والصلاح ومجاهرة كثير منهم بالمناكير وإظهار الفساد تخلى عن الأمر بعد قدوم أخيه الناصر أحمد بن يحيى من الحجاز، فسلم له الأمر وتوفي -عَلَيْه السَّلام- سنة عشر وثلاثمائة، وله إثنتان وثلاثون سنة، ودفن إلى جنب أبيه -عَلَيْهما السَّلام-، التحف الفاطمية شرح الزلف الإمامية للإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى190، الإفادة في تاريخ الأئمة السادة169، الشافي، الحدائق الوردية - خ - اللآلي المضيئة - خ -.
وقد كان الهادي -عَلَيْه السَّلام- عزم على الترجل للموت فكره عليه ذلك الطبريون وقالوا: (أيها الإنسان لا تفعل فإنَّا طلبنا أمراً فوجدناه وهو الشهادة، وإن في المسلمين منَّا العوض، وإن قتلت فلا عوض للإسلام عنك)، وقال له ولده محمد بن يحيى -عَلَيْهم السَّلام-: (أيها الإنسان لا تفعل فإنك اليوم إن قتلت إنهد ركن الإسلام، وإن قتلنا فإن الله يعيضك بنا) فلم يزالوا به حتى تأخر عنهم -عَلَيْه السَّلام- وقال: (أفارقكم فراق، والله غير ساخ بفراقكم)، فتأخر إلى ورور فقتلوا عن آخرهم -رحمة الله تعالى عليهم- وأسر محمد بن يحيى في نفر يسير([53]).
_____________
([53]) - وثاني عشرها: سأل أيّده الله عما روينا في الشرح من تأخر الهادي -عليه السلام- عن ولده المرتضى لدين الله -عليه السلام- يوم أسره ، وعن أصحابه -رضي الله عنهم- وذكر أيده الله أن للهادي -عليه السلام - في ذلك شعراً موجوداً في كتاب سيرته ينكر ذلك معناه أنه لو حضرهم لدافع حتى يموت ؛ فكيف ذلك ؟
الجواب عن ذلك : أن الخبر الذي رويناه صحيح ولا إشكال فيه ولا روي عن شك ؛ لأن أسر المرتضى -عليه السلام- كان في (أتوه) والهادي -عليه السلام- لم يتخلف من نهوضه من ورور فأقام فيه أياماً ، ثم أتى علم بخروج القوم وكثرة من جمعوا من أحزاب الضلال فنهض إلى (أتوه) لكونها أحصن ؛ فما راعه إلا وصول القوم -لعنهم الله- في جنود لا يحصى عديدها ، ولا ينادى وليدها ، قائدهم إبراهيم بن خلف ، فنشبت الحرب بين الفريقين ، وكان دعام بن إبراهيم الأرحبي في خيل عظيمة ؛ فأمر إليه الهادي -عليه السلام- يسأله المعونة ببعض خيله فكره.
ودل العدو رجل من أهل خيوان -لعنه الله- على مكان طلعت منه جنودهم حتى صاروا من خلف الهادي -عليه السلام- فلما رأى ذلك ثنى رحله للنزول ؛ فقال الطبريون -رحمهم الله- :ما تريد؟ قال: أقاتل معكم حتى نموت جميعاً. قالوا: هذا أمر طلبناه فوجدناه، ولك بنا من المسلمين عوض، وليس للإسلام عنك عوض.
وقال له المرتضى -عليه السلام- : أيها الإنسان إنك اليوم إن قتلت انهد ركن الإسلام ، وإن قتلنا فإن الله يعيضك بنا مثلنا أو من هو خير منا .
فقال -عليه السلام- : أفارقكم والله فراق غير ساخ بفراقكم ؛ وتأخر نظراً للإسلام وتحرياً لمصلحة الدين ، لا جبناً ولا فشلاً ، والقوم يطعنونه برماحهم وينحيها بسوطه ؛ لأن رمحه كان قد فات ، وكان عمر الرمح في يده -صلوات الله عليه- قصيراً ، فقال له بعض أصحابه : يا سيدي سل سيفك ، فقال : ما كنت لأسله إلا أن أضرب به .
وفرقت الهزيمة الناس ، وكان المرتضى -عليه السلام- في خيل فوثب فهوى ، فقصر مهره لضعف كان فيه ، فصعق به المكان وصاحبه كانت فيه غشي منها ، وأسر معه محمد بن سعيد -رحمه الله- في جماعة.
وشعر الهادي -عليه السلام- على أنه لم يعلم به ولو كان في جهته فكذلك كانت الحال ، ولو كان في جهته لم يسلمه ، وكان يفعل ما قال ؛ لأنه لا يتهم في قوله -عليه السلام- ؛ فعذره -عليه السلام- حق .
فأما أنه أسر في يوم آخر فهذا ما لم يقل به أحد من أهل المعرفة ، وإنما عند جهال الشيعة الذين عزلوا نفوسهم عن مراس الحرب ، وتفرغوا للطعن على أئمة الهدى ، أن الإمام لا ينهزم ولا يتأخر عن مقامه ولا يجوز له ذلك ، وهم لا يعرفون الآثار ، ولا باشروا الحال ، فيعلموا أحكام المحال ، وتصرف النزال في انحياز النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلى شعب أحمد :
فلولا صعود الشعب عاود أحمد ولكن نجا والسمهري شروع
وعلي -عليه السلام- يوم طغيان جنود أهل الشام في بعض أيام صفين انحاز إلى جانب ربيعة وأرجف الناس أنه -عليه السلام- قتل إلى أن علموا بمكانه فجاءه الرؤساء يهنئونه ويهنئون ربيعة بانحيازه إليهم ثقة بهم ، ولو شرحنا ما يتعلق بهذا الباب لطال.
والقوم فتح لهم الباب ، وقيل : ادخلوا، فجعلوا يطلبون من أي مكان يتسورون ليروا أن هناك طريق أخرى ، وما سوى الباب طريق لمن يريد الصواب .
وإقامته -عليه السلام- في ورور سنة وزيادة ، والقوم يكاتبونه على تخليص ولده، ويرجع إلى صعدة، فكره وطمع بالنصر من قبائل همدان فلم ينصروه ، فراح إلى صعدة وولده -عليه السلام- في صنعاء ، ثم نقل إلى بيت بوس ببيت اليافعي على يدي ابني يعفر ، ثم نقل إلى شبام، ثم أطلق منها ، وليس الغرض الإقتصاص وإنما أردنا زيادة بيان ، وقاد بعض الحديث بعضاً ، والسيرة عندنا مضبوطة ولعلها النسخة الثانية من الأولى ، أو الثالثة بالرواية الصحيحة ، وإقرار آبائنا -رضي الله عنهم- بها ؛ فنعوذ بالله من الشك بعد اليقين ، ونسأله سلوك سبيل المتقين .
فانظر إلى معرفة أشياعهم بحقوقهم الإلهية كيف حملتهم على الإستهانة بالموت وإستصغار خطره، فلو كان ذلك لعملٍ لكان في العاملين كثرة؛ لكنها حقوق سماويَّة إلاهية، لشخوص معينة مرضيَّة، هادية، مهدية، وكيف لا يكونون أهل ذلك وهم دعوة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وذريته ونسل إسماعيل وزرع إبراهيم -عليه السلام-، فتأمل -رحمك الله- بعين بصيرتك في أي الصفوف يكون منكر فضلهم، أفي صف أوليائهم، أم في صف أعدائهم؟،لأن أعداءهم ما حاربوهم إلاَّ بجهلهم بحقهم، وإنكار فضلهم، وإن وقع لغرض آخر في بعض الحالات فالجهل بفضلهم أصل لذلك كله.
[22]
ثم بِيَحْيَى في بلادِ البَهْلَوَانْ .... إذْ أنْزلُوهُ مِنْ شَمَاريخِ القِنانْ
وَفِعْلِ نَصْرٍ نَجْلِ سَيَّارِ الهُدَانْ .... بسِبط زيدِ الخيرِ يومَ الجوزجانْ
قوله: (يحيى): يقول: يكون - أيضاً - منكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- مشاركاً للظالمين فيما فعلوه بيحيى ؛ لأن علة إساءتهم إليه وتخلف من تخلف عنه إنكار فضله، وجحدان حقه، وحق أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-.
[ذكر طرف من أمر الإمام يحيى بن عبدالله(ع)]
ويحيى المذكور ها هنا، هو يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب، وأمه قريبه بنت عبدالله ويعرف بذبيح ابن أبي عبيد بن عبدالله بن زَمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى بن قصي، وكان -عَلَيْه السَّلام- متقدماً في أيامه جماعة أهل بيته في العلم والفضل، قد روى حديثاً كثيراً عن أخيه محمد، وعن جعفر بن محمد -عَلَيْهم السَّلام- وعن أبان بن تغلب([54])، وروى عنه جماعة من أهل العلم، منهم مخول بن إبراهيم([55])،
____________
([54]) - أبان بن تغلب بمثناة فوقية، ثم غين معجمة ساكنة ولام مكسورة فموحدة: أبو سعيد الكوفي القاري، من ثقات محدثي الشيعة الأثبات له رواية واسعة، روى عن أعلام العترة كالإمام زيد بن علي، وأخيه الباقر، والصادق وغيرهم من أعلام الشيعة.
وروى عنه أيضاً الإمام يحيى بن عبدالله، وعباد بن العوام الواسطي وغيرهم، وتوفي سنة أربعين ومائة، وروى عنه أئمتنا الخمسة إلا الجرجاني، وأخرج له البخاري ومسلم والأربعة، قال فيه الإمام الحافظ الحجة مجد الدين بن محمد المؤيدي - أيده الله تعالى-: هو من الأعلام الثقات، انظر لوامع الأنوار ج2 / 343، وج3 / 226.
([55]) - مخول بن إبراهيم بن مخول بن راشد النهدي الكوفي عده السيد صارم الدين من ثقات محدثي الشيعة، وكان من أصحاب يحيى بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام-، حبسه هارون الرشيد مع جماعة من أصحاب يحيى بن عبدالله في المطبق بضع عشرة سنة حتى ضعفت ساقاه، قال في الطبقات: والظاهر أنه بقي إلى سنة ثلاث وتسعين ومائة، انتهى - الفلك الدوار، رأب الصدع 3/ 1840، مقاتل الطالبيين 405، الطبقات / خ -.
وبكار بن زياد([56])، ويحيى بن مُساور([57])، وعمرو بن حَمَّاد([58])، وكان جعفر بن محمد -عَلَيْه السَّلام- أوصى إليه، وإلى ابنه موسى، وإلى أم ولد له، وكانت وصيته -عَلَيْه السَّلام- مشتركة بينهم، وكان -عَلَيْه السَّلام- يلي أمر تركاته وأصاغر أولاده مع موسى، وكان -عَلَيْه السَّلام- حسن الوجه، فارساً، شجاعاً، وكانت له مقامات مشهورة في مبارزة الأعداء وقتل الأبطال مع الإمام الحسين بن علي صاحب فخ، وسيأتي حديثه فيما بعد إنشاء الله -تعالى-، جال -عَلَيْه السَّلام- في البلدان يطلب مراغماً ينشر منه أمر الله، ويدعو فيه إلى دينه، حتى ذكر أنه بلغ بلاد الترك وغيرها فأعجزه ذلك، ثم صار تأخره إلى بلاد الديلم وطلع جبلاً من جبالها ودعا إلى دين ربِّه، وكان في سبعين من أهل بيته وأشياعهم، وكان هارون فزعاً من أمره، مذعور القلب من هيبته لما يعلم من شهامته وفضله، وإجماعه على إظهار كلمة ربِّه.
______________
([56]) - ذكره الإمام أبو طالب في الإفادة في تاريخ الأئمة السادة (75) .
([57]) - يحيى بن مساور التميمي ، عن أبيه والصادق والإمام الحسين الفخي وغيرهم ، وعنه حرب بن الحسن وعبدالعزيز بن إسحاق وحسن بن حسين العرني ، كان يحيى بن مساور من رجال الزيدية بايع يحيى بن عبدالله ، وكان قد أعطاه يحيى ثلاث بدر ثم إن يحيى احتاج فقال لابن مساور : احتل لي في ألف دينار فقال : ابعث برسول ومعه بغل فوجه إليه ابن مساور بالثلاث البدر فقال له يحيى : ما هذا؟ قال: هذا الذي أعطيتني علمت أنك ستحتاج فقال : خذ بعضه . فقال ابن مساور : لا والله ما كان الله ليراني آخذ على حبكم درهماً واحداً . انظر الجداول (خ) .
([58]) - عمرو بن حماد بن طلحة الكوفي أبو محمد النقاد عده السيد صارم الدين، وابن حميد، وابن حابس من ثقات محدثي الشيعة، وثقه غير واحد، توفي سنة إثنتين وعشرين ومائتين في شهر صفر.
[بيان السبب في أخذ يحيى بن عبدالله (ع) وقتله]
فكان قد بذل الأموال للتجسس عن أخباره في وقت إستتاره؛ حتى ظهر في الديلم في سبعين رجلاً فوجه إليه الفضل بن يحيى([59]) في خمسين ألف مقاتل نخبة، من وجوه الأجناد، وشياطين أهل الفساد، فتغرب -عَلَيْه السَّلام- في مكانه ، وأعمل الفضل أنواع الحيل في إخراجه من هناك إزالة للتهمة عن نفسه، فقد كان سعي به إلى هارون في حال إستتاره أن الفضل يعرف مكانه، ويحب كتمانه، فكاتب ملك الديلم وأخذه بالترغيب والترهيب، وكانت إمرأة ملك الديلم غالبة عليه فأشارت عليه بخذلان يحيى -عَلَيْه السَّلام-؛ بل القيام عليه إن امتنع من النزول إليهم،
______________
([59]) - الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد وأخوه من الرضاعة، وأحد مستشاريه توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة (193هـ).
فلما رأى ذلك -عَلَيْه السَّلام- علم أنه لا طاقة له بحربهم جميعاً، فراسل الفضل في الوثاق له من هارون، وانعقاد الصلح، وغمد السيف، فأمر له هارون بكتاب بخط يده فيه من العهود([60]) والمواثيق والأيمان المغلظة والشهود ما لا مزيد عليه، فنزل -عَلَيْه السَّلام- عند ذلك وجرت أمور شرحها يطول،
____________
([60]) - كتاب الأمان الذي وجه به هارون الرشيد إلى يحيى بن عبدالله ذكره أحمد بن سهل الرازي في أخبار فخ-منشورات مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية- وذكره الإمام المنصور بالله في الشافي، ونسخة الأمان هي:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب أمان من أمير المؤمنين هارون بن محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبد المطلب ليحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ولسبعين رجلاً من أصحابه، أني أمنتك يايحيى بن عبدالله والسبعين رجلاً من أصحابك بأمان الله الذي لا إله إلا هو الذي يعلم من سرائر العباد ما يعلم من علانيتهم، أماناً صحيحاً جائزاً صادقاً ، ظاهره كباطنه ، وباطنه كظاهره، لايشوبه غل ولا يخالطه غش يتعلله بوجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب، فأنت يايحيى بن عبدالله والسبعون رجلاً من أصحابك آمنون بأمان الله على ما أصبت أنت وهم من مال أو دم أو حدث على أمير المؤمنين أو على أصحابه وقواده وجنوده وشيعته وأهل مملكته وأتباعه ومواليه وأهل بيته ، وأن كل من طالبه أو طالب أصحابه بحدث كان منه أو منهم من الدماء والأموال وجميع الحقوق كلها وما استحق الطالب على يحيى بن عبدالله وأصحابه السبعين فعلى أمير المؤمنين هارون بن محمد ضمان جميع ذلك وخلاصه حتى يوفيهم حقوقهم أو يرضيهم بما شاؤا بالغاً ما بلغت تلك المطالبة من دم أو مال أو حد أو قصاص، وأنه لايؤاخذه بشيء كان منه أو منهم مما وضعنا في صدر كتابنا هذا، ولا يأخذه وإياهم بضغن ولا ترة ولا حقد ولا وَغَر بشيء مما كان منه من كلام أو حرب أو عداوة ظاهرة أو باطنة مما كان منه من المبايعة والدعاء إلى نفسه، وإلى خلع أمير المؤمنين هارون، وإلى حربه.
وأن أمير المؤمنين هارون بن محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبد المطلب أعطى يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب والسبعين رجلاً من أصحابه عهداً خالصاً مؤكداً وميثاقاً غليظاً واجباً وذمة الله وذمة رسوله وذمة أنبيائه المرسلين وملائكته المقربين ، وأنه جعل له هذه المواثيق والذمم له ولأصحابه في عقدة مؤكدة صحيحة لابراءة له عند الله في دنياه وآخرته إلا بالوفاء بها وأني قد أنفذت ذلك لك ولهم ورضيته وسلمته وأشهدت الله وملائكته على ذلك، وكفى بالله شهيداً، وأنك وإياهم آمنون بأمان الله ليس عليك ولا عليهم عتب ولا توبيخ ولا تبكيت ولا تعريض ولا أذى فيما كان منك ومنهم إذ كنت في مناواتي ومحاربتي من قتل كان أو قتال أو زلة أو جرم أو سفك دم أو جنايةٍ في عمدٍ أو خطأ أو أمرٍ من الأمور سلف منك أو منهم في صغير من الأمور ولا كبير في سرٍ أو علانيةٍ، ولا سبيل إلى ما جعلت لك من أماني ولا إلى نكثه بوجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب وأني قد أذنت لك بالمقام أنت وأصحابك أين شئت من بلاد المسلمين لاتخاف أنت ولا هم غدراً ولا ختراً ولا إخفاراً حيث أحببت من أرض الله، فأنت وهم آمنون بأمان الله الذي لا إله إلا هو لا ينالك أمر تحاذره من ساعات الليل والنهار، ولا أدخل عليك في أماني غشاً ولا خديعة ولا مكراً، ولا يكون ذلك مني إليك بدسيس ولا جاسوس، ولا إشارة ولا معاريض ولا كناية ولا تصريح، ولا شيء مما تخافه على نفسك من حديد ولا مطعم ولا مشرب ولا ملبس ولا أضمره لك، وجعلت لك ألا ترى مني انقباضاً ولا مجانبة ولا ازدراء، فإنْ أمير المؤمنين هارون بن محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبد المطلب نقض ما جعل لك ولأصحابك من أمانهم هذا أو نكث عنه أو خالفه إلى أمر تكرهه أو أضمر لك في نفسه غير ما أظهر أو أدخل عليك فيما ذكر من أمانه لك ولأصحابك إلتماس الخديعة أو المكر بك أو نوى غير ما جعل لك الوفاء به، فلا قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، وزبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر طالق منه ثلاثاً بتة، وأن كل مملوك له من عبد أو أمة أو سرية وأمهات أولاد أحرار وكل امرأة يتزوجها فيما يستقبل فهي طالق، وكل مملوك يملكه فيما يستقبل من ذكر أو أنثى فهم أحرار وكل مال يملكه أو يستفيده فهو صدقة على الفقراء والمساكين، وإلا فعليه المشي إلى بيت الله الحرام حافياً راجلاً، وعليه المحرجات من الأيمان كلها، وأمير المؤمنين هارون بن محمد بن عبدالله خليع من إمرة المؤمنين والأمة من ولايته براء ولا طاعة له في أعناقهم والله عليه بما أكد وجعل على نفسه في هذا الأمان كفيل وكفى بالله شهيداً، انتهى.
وعظم حال الفضل عند هارون، وارتفعت عنه التهمة في باب يحيى -عَلَيْه السَّلام-، ومدح الفضل على ذلك بمدائح كثيرة منها شعر:
سعى الناس في إصلاح ما بين هاشم .... وأعياهم الفتقُ الذي رتق الفضلُ
كأن بني العباس في ذات بينهم .... وآل علي لم يكن بينهم ذحل([61])
ومنها:
ظَفِرْتَ فلا شُلتْ يدٌ برمكيةٌ .... رتقت بها الفتق الذي بين هاشم
على حين أعيا الراتقين إلتئآمه .... فضجوا وقالوا ليس بالمتلائم
وشرح هذا الباب يطول ومحبتنا الإختصار.
فلما وصل إلى هارون تلقاه بالبشاشة والبشر، وأعطاه مالاً خطيراً، فأخذه -عَلَيْه السَّلام- وراح إلى المدينة فقضى منه ديون الحسين بن علي الفخي -صلوات الله عليه-، ووصل أرحامه ، وفرق على أهل بيت النبوءة - عليهم السلام- من ولد الحسن والحسين خصوصاً، وعلى المسلمين عموماً باقيه، ثم نُكِسَ هارون بعد ذلك على رأسه، فأمر من أزعجه -عَلَيْه السَّلام- من المدينة، وحبسه إلى أن مات،
________________
([61]) - الذَّحْل: الثأر ، أو طلب مكافأة بجناية جنيت عليك، أو عداوة أُتيت إليك ، أو هو العداوة والحقد ، جمعه : أذحال وذحول . تمت قاموس.
واختلف في موته فمنهم، من قال: قتله، ومنهم من قال: ضيق عليه في الطعام والشراب حتى مات، بعد أن رأى في الزبيري([62]) من أمر الله ما يكون حجَّة عليه يوم القيامة.
_____________
([62]) - الزبيري، في كتاب أخبار فخ وخبر يحيى بن عبدالله هو: بكار بن مصعب الزبيري ، وفي الإفادة وغيرها هو عبدالله بن مصعب الزبيري صاحب الوشاية بيحيى بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام-، وذلك أن الزبيري إدعى على يحيى بن عبدالله أنه دعاه إلى بيعته وقد ذكر هذه القصة أحمد بن سهل الرازي في كتابه أخبار فخ، ويحيى بن عبدالله، وذكرها أيضاً أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين برواية تقرب من رواية الرازي، وسنورد القصة بتصرف وإختصار من كتاب أحمد بن سهل الرازي(99):
وذلك أن هارون الرشيد دعى يحيى بن عبدالله فجيء به مكبلاً في الحديد وعنده بكار بن مصعب، وكان هارون يميل إليه لسعايته إليه بآل أبي طالب، فلما دخل يحيى بن عبدالله قال هارون: هاها، وهذا يزعم أيضاً أنا سممناه، فقال يحيى: ما معنى يزعم هذا؟ وأخرج لسانه مثل السليق فتربد وجه هارون واشتدّ غضبه، فقال له يحيى عند ذلك يا أمير المؤمنين إن لنا منك قرابة ورحماً ولسنا بترك ولا ديلم فإنا وأنتم أهل بيت واحد فأذكرك الله بقرابتنا من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- علام تعذبني وتحبسني؟ فرَّق له هارون وهم بتخليته، قال: فأقبل الزبيري على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين لاتسمع كلام هذا فإنه شاق عاص، ودار بينهما خطاب وحوار، ثم قال يحيى بن عبدالله لهارون: والله ما سعى هذا بنا إليك نصيحة منه لك، ولكن عداوة منه لنا جميعاً إذ قصرت يده سعى بنا عندك كما سعى بك عندنا من غير نصيحة منه لنا يريد أن يباعد بيننا ويشتفي من بعضنا بعضاً؛ لأنا أهل بيت رسول الله دونه، لقد جاءني هذا حين قتل أخي محمد بن عبدالله، فقال: فعل الله بقاتله وأنشدني فيه مرثية عشرين بيتاً وقال لي: إن خرجت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك، فتغير وجه الزبيري وأسود وأقبل عليه هارون، فقال: ما يقول هذا يا بكار؟ قال: كاذب يا أمير المؤمنين، ما كان مما قاله حرف واحد، فأقبل الرشيد على يحيى، فقال: تحفظ من أبيات القصيدة، قال: نعم، وأحفظ القصيدة التي حث فيها أخي على القيام، فأنشده يحيى -عَلَيْه السَّلام-:
إن الحمامة يوم الشعب من دثن .... هاجت فؤاد محب دائم الحزن
إني لآمل أن ترتد إلفتنا .... بعد التدابر والشحناء والإحن
وتنقضي دولة أحكام قادتها .... فينا كأحكام قوم عابدي وثن
قد طال ما قد بروا بالجور أعظمنا .... بري الصناع قداح النبل بالسفن
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتكم .... إن الإمامة فيكم يابني حسن
إلى آخر القصيدة.
وأنشده قوله:
قل للمشنئ والمقصي داره .... تربت يداك أطلها مهديها
فلتدهمنك غارة جرارة .... شعواء يحفز أمرها علويها
بكتيبة وكتيبة وكتائب .... حسنية يحتثها حسنيها
وأنشده:
يا صاحبي دعا الملامة واعلما .... أن لست في هذا بألوم منكما
وقفا بقبر ابن النبي وسلما .... لابأس أن تقفا به وتسلما
قبر تضمن خير أهل زمانه .... حسباً وطيب سجية وتكرما
رجل نفى بالعدل جور بلادنا .... وعفا عظيمات الأمور وأنعما
ضحوا بإبراهيم خير ضحية .... فتصرمت أيامه وتصرما
وهي قصيدة طويلة، وأنشده أيضاً قصيدة أخرى.
فقال الزبيري: والله الذي لا إله إلا هو - وأمَرَّها غموساً - ما قلت من هذا شيئاً، فقال يحيى: أتأذن لي استحلفه، قال الرشيد: شأنك فاستحلفه على ما تريد، فأقبل يحيى على الزبيري، فقال:
قل: برأك الله من حوله وقوته، ووكلك إلى حولك وقوتك إن كنت قلت هاتين المرثيتين والمديح الأول، وفي رواية أبو الفرج الأصفهاني، فقال: قل: برئت من حول الله وقوته، واعتصمتُ بحولي وقوتي وتقلّدت الحول والقوة من دون الله استكباراً على الله واستغناء عنه واستعلاء عليه إن كنتُ قلت هذا الشعر، فامتنع عبدالله من الحلف بذلك، فغضب الرشيد وقال للفضل بن الربيع: يا عباسي ماله لايحلف إن كان صادقاً هذا طيلساني علي وهذه ثيابي لو حلفني أنها لي لحلفت، فرفس الفضل بن الربيع بكار بن مصعب برجله وصاح به: احلف ويحك - وكان له فيه هوى - فحلف باليمين ووجهه متغير وهو يرتعد، فضرب يحيى بين كتفيه، ثم قال: يا مصعب قطعت والله عمرك والله لاتفلح بعدها أبداً، فما برح من موضعه حتى أصابه الجذام فتقطع ومات في اليوم الثالث، فحضر الفضل بن الربيع جنازته ومشى معها، ومشى الناس معه، فلما جاءوا به إلى القبر ووضعوه في لحده وجعل اللِّبن فوقه انخسف القبر فهوى به حتى غاب عن أعين الناس، فلم يروا قرار القبر، وخرجت منه غبرة عظيمة، فصاح الفضل التراب التراب، فجعل يطرح التراب وهو يهوي ، ودعا بأحمال الشوك وطرحها فهوت، فأمر حينئذ بالقبر فسقف بخشب وأصلحه وانصرف منكسراً، فكان الرشيد يقول للفضل بعد ذلك: رأيت يا عباسي ما أسرع ما أديل ليحيى بن عبدالله من ابن مصعب، انظر مقاتل الطالبيين ص398، وأخبار فخ ص238، والشافي ص235، وغيرها.
فمن أنكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- كان شريكاً للديلم في الخذلان، ولهارون -لعنه الله- في الطغيان والعدوان، وإنما ينجو بالتحذير من حذِر، وينتفع بالترغيب من رغب.
(وبلاد البهلوان) هي بلاد الديلم.
قوله: (وفعل نصرٍ): يريد بذلك نصر بن سيار([63])، وهو العامل على خراسان من قبل مروان الأخير، الملقب بالحمار([64]).
_______________
([63]) - نصر بن سيار بن رافع بن ربيعة الكناني ، كان شيخ مضر بخراسان ، وأحد ولاة الأمويين على تلك النواحي، ولي إمارة خراسان سنة (120هـ) وولي بلخ ، وما وراء النهر، وكان متجبراً سفاكاً للدماء توفي سنة (131هـ).
([64]) - مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الأموي ، أبو عبدالملك ، يعرف بالجعدي وبالحمال ، آخر ملوك بني أمية في الشام ، ولد بالجزيرة ، لقب بالحمار لجلادته ، وبالجعدي لأنه أخذ الزندقة عن (الجعد بن درهم) وكان زنديقاً، بويع له في صفر (127هـ) وكان لا يراعي من أمر الدين شيئاً ، على منهاج سلفه في انتهاك حرمة الإسلام ، وهو الذي خرج ملك بني أمية من يديه إلى بني العباس ، ولم يزل مضطرباً مدة ولايته ، قتله صالح بن علي ، وعامر بن إسماعيل المرادي سنة (132هـ) وحمل رأسه إلى أبي العباس السفاح . الشافي (1/191) .
---
[ذكر طرف من أمر الإمام يحيى بن زيد (ع)]
و (سبط زيد): يريد؛ ولد زيد الخير، وأحسب أن السِّبط أعجمي مُعَرب، (وزيد الخير)، هو: زيد بن علي -عليه السلام-، وسبطه ولده يحيى بن زيد -عليه السلام- ويكنى أبا عبدالله، وقيل أبو طالب يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه ريطة بنت عبدالله بن محمد بن علي بن أبي طالب -عليهم السلام-، مثل أبيه -عليهما السلام- في الشجاعة، وقوة القلب في مبارزة الأبطال، وله مقامات مشهورة أيام ظهوره بخراسان في حروبه، من قتل الشجعان الذين قاتلوه، والنكاية في طلاعة الذين قابلوه، كان أبوه -عليهما السلام- لما أصيب أوصاه بجهاد أعداء الدين، ومنابذة الظالمين، فلما توفي أبوه -عليهما السلام- وكان من أمره، ما سيأتي ذكر الأهم منه مفصلاً عند ذكره -عليه السلام-، خرج من الكوفة في عشرة من خواص أبيه -صلوات الله عليه- متنكراً، فتنكبوا القرى، وتزيوا بزي الصوفية، وكان الحال إذا اشتدّ عليهم في أمر الطعام عدل بعضهم إلى القرى فاستطعم له، وتوجهوا إلى خراسان، فدخل خراسان وانتهى إلى بلخ فنزل على الحريش بن عبدالرحمن الشيباني، وكان الحريش من خلصان الشيعة ، فآواه وكتمه، وهو -عليه السلام- مجمع على الدعاء إلى سبيل ربِّه، والجهاد في سبله([1]) ، وقد حاز خصال الكمال التي تصح بها الإمامة على حداثة سنه، فإنه قام لثمان وعشرين سنة من مولده، واشتغلت بنو أميه بأمره، واشتد عليهم خطبه؛ لما علموا من فضله، وشهامته، ورفاعة بيته، وميل قلوب الصَّالحين إليه، فكتبوا بطلبه إلى الآفاق، وبذلوا الأموال في تقصص آثاره، فظفروا بعلم القصة في طريقه ومنازله، فأمر يوسف بن عمر([2]) إلى نصر بن سَيَّار يخبره بأمره وصفته وحليته، وقال: هو قطط الشعر حين إستوت لحيته.
_______________
([1]) - في (ن): سبيله.
([2]) - يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم الثقفي، أبو يعقوب ، أمير من جبابرة الولاة في العهد الأموي، ولاه هشام بن عبد الملك اليمن ، ثم نقله إلى ولاية العراق وخراسان ، كان يضرب به المثل في التيه والحمق ، فيقال : أتيه من أحمق ثقيف.
قال الذهبي : كان مهيباً جباراً ظلوماً ، قتل شر قتلة سنة (127هـ) . الأعلام (8/243).
[ذكر موقف الحريش الشيباني]
فكتب نصر بن سَيار إلى عامله على بلخ عقيل بن معقل الليثي فذكر له أنه في دار الحريش الشيباني، فطالبه عقيل بتسليمه منه، فأنكر أن يكون عارفاً بمكانه، فضربه ستمائه سوط فلم يعترف، فقال: (والله لا أرفع السوط عنك إلاَّ أن تعترف أو تموت)، فقال حريش -رحمه الله-: (والله لو كان تحت قدمي هاتين ما رفعتهما عنه، فاصنع ما بدا لك) فلما خشي ابن لحريش يقال له: قريش على أبيه القتل دس إلى عقيل بأنه يدله على يحيى -عَلَيْه السَّلام- إن أفرج عن أبيه، فدلهم عليه فأخذوه من عنده وحملوه إلى نصر بن سَيَّار فقيده وحبسه وكتب بخبره إلى يوسف بن عمر، فكتب يوسف بخبره إلى الوليد بن يزيد، فكتب إليه الوليد يأمره بالإفراج عنه وترك التعرض له ولأصحابه، فكتب يوسف إلى نصر بما أمره به، فدعاه نصر وحل قيده وقال: لا تثر الفتنة، فقال له -عَلَيْه السَّلام-، ولم يمنعه ما هو فيه من قول الحق: وهل فتنة في أمَّة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أعظم من فتنتكم التي أنتم فيها من سفك الدماء والشروع فيما لستم له بأهل؟، فسكت عنه نصر وخلى سبيله.
[دعوته(ع) وجهاده]
فخرج من عنده وتوجه إلى بيهق وأظهر الدعوة هناك، فبايعه من أهلها سبعون رجلاً وانضم إليهم من غيرها نفر، فكانت عدة من انضم إليه يسيرة، فكتب نصر إلى عمرو بن زرارة بقتاله، وكتب إلى قيس بن عبَّاد عامل سرخس، و إلى الحسن بن زيد عامل طوس في الإنضمام إلى عمرو لحرب يحيى -عَلَيْه السَّلام-، فاجتمعوا، وبلغت عدتهم زهاء عشرة الآف، فخرج -عَلَيْه السَّلام- إليهم في جماعة من أطاعه وهم يسير فقاتلهم فلم يثبتوا له وانهزموا وأذرع فيهم القتل، وقتل عمرو بن زرارة، واستباح عسكرهم، وأصاب دواب كثيرة، وخرج من بيهق إلى جوزجان ونزل قرية من قراها يقال لها: أرغوية، ولحق به جماعة من عساكر خراسان، وبقي على أمره مُدَيْدَةً يسيرة مظهراً للعدل، طامساً لرسوم الجور، مجتهداً في إظهار أمر الله، فكان من قوله هناك قوله:
يا ابن زيد أليس قد قال زيد .... من أراد([3]) الحياة عاش ذليلاً
كن كزيد فأنت مهجة زيد .... واتخذ في الجنان ظلاً ظليلاً
ومن قوله - أيضاً -:
خليلي عني بالمدينة بلغا .... بني هاشم أهل النهي والتجاربُ
رفع المصرع والشعر قافيته مرفوعة، وله وجه في العربية؛ لأن الواو تكون ها هنا للإستئناف لا للعطف فيكون التقدير في ذلك، معروفة لهم أو فيهم؛ لأنه قال بعده:
فحتى متى مروان يقتل منكم .... سراتكمُ والدهرُ فيه العجائبُ
لكل قتيلٍ معشرٌ يطلبونه .... وليس لزيدٍ بالعراقينِ طالبُ
_________________
([3]) - في (ن): من أحب.
[خبر مقتله وصلبه(ع)]
وتقصّي أخباره يطول شرحها، فنهاية الأمر في ذلك: أنهم وجَّهوا إليه ثانياً جيوشاً جمة كثيرة العدد والعدة، فظهر إليهم -عَلَيْه السَّلام- وقاتلهم قتالاً شديداً ثلاثة أيام بلياليها، ونكى فيهم نكاية عظيمة بيده، وانقرض في هذه المدة أكثر أصحابه، وما تمكنوا من الوصول إلى جانبه إلى أن أتته نشابه وقعت في جبينه رماه بها رجل يقال له عيسى من موالي عنزة فطلب في القتلى فوجده سورة بن محمد الكندي قتيلاً فحز رأسه وحمل إلى مروان الحمار، وكان قتله في شهر رمضان عشيَّة الجمعة سنة ست وعشرين ومائة، وصلب بدنه على باب مدينة الجوزجان، ولم يزل مصلوباً إلى أن ظهر أبو مسلم([4]) بخراسان فأنزله وغسله وكفنه ودفنه بأنبير، ومشهده هناك معروف مزور، وتتبع أبو مسلم قتلته فقتل أكثرهم وأخذ الرَّجلين الذين رماه أحدهما وحز رأسه الآخر فقطع أيديهما وأرجلهما وقتلهما وصلبهما، وأمر بتسويد الثياب، وأمر أن يناح عليه ثلاثة أيام، وروي أن في تلك السنة التي أصيب فيها -عليه السلام- ما ولد غلام ذكر في خراسان إلا سُمِّي بيحيى إعظاماً له -عليه السلام-، وفضائلة لا تحصى.
ووجه ذكره -عليه السلام- وقصته التنبيه على أن منكر فضل أهل البيت -عليهم السلام- يشارك نصر بن سَيَّار وأعوانه فيما ركبوا من الجرم العظيم، والخطب الجسيم، بقتله -عَلَيْه السَّلام- وقتاله؛ لأنهم لو اعترفوا بفضلهم، وأقرُّوا بحقهم، ما حاربوهم ولا بسطوا أيديهم بالسوء لهم، فانظر إلى ما يؤدي إنكار فضلهم من المصائب في الدين التي لا تنجبر.
_______________
([4]) - أبو مسلم، هو: عبد الرحمن بن مسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية، وقائد الحركة ضد الدولة الأموية رافعاً شعار الأخذ بثأر أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وكان من القواد المشهورين قتله أبو جعفر المنصور سنة 137هـ.
[23]
وَشَارَكَ الأشرارَ في الكُناسَهْ .... لما نَفَوْا عَنْ جِسْمِ زيدٍ رأسَهْ
ونَزَعُوا لا قُدِّسُوْا لِبَاسَهْ .... ثم أطَافُوا حَوْلَهُ الحِرَاسَهْ
[ذكر طرف من أمر الإمام زيد بن علي(ع)]
زيد هذا هو أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، وأمه أم ولد إسمها جيدا، وكانت من أفاضل النساء -رحمة الله عليها- وقيل ثمنها ثلاثون ألف درهم، ولد سنة خمس وسبعين من الهجرة الطيبة، وكان -عَلَيْه السَّلام- أبيض اللون، أعين، مقرون الحاجبين، تام الخَلق، طويل القامة، أقنى الأنف، كث اللحية، أسود الشعر؛ إلاَّ أن الشيب قد كان خالط عارضيه، وكان يشبه بأمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- في الفصاحة والبلاغة والبراعة، ويعرف في المدينة بحليف القرآن، وقد روي عن خالد بن صفوان([5]) أنه قال: (إنتهت الفصاحة والخطابة والزهادة والعبادة من بني هاشم إلى زيد بن علي، لقد شهدته عند هشام بن عبدالملك وهو يخاطبه وقد تضايق بهشام مجلسه)، وفضائله -عَلَيْه السَّلام- لا تنحصر بالتعداد، ولا تمل بالترداد([6])، وسيأتي من ذكرها طرف فيما بعد إنشاء الله تعالى.
_________________
([5]) ـ خالد بن صفوان بن عبدالله بن الأهثم، واسمه سنان الأهثم؛ لأنه ضُرب بقوس فهثم فمه، المنقري الأهثمي تابعي جليل القدر أدرك زمن عثمان، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة كان خطيباً مصقعاً وبليغاً مفوهاً، مشهور بالبلاغة والأدب، روى عن الإمام زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- كتاب مدح القلة والكثرة وغيره ولما بلغ عمر بن عبد العزيز وفاته، قال: ثلمة في الإسلام، توفي سنة تسع وتسعين وقيل سنة مائة.
([6]) - نخ (ن): على الترداد.
[دعوته وجهاده]
قام -عَلَيْه السَّلام- من الكوفة بعد أن بث الدعاة في الآفاق واستجاب له خلق كثير من الناس، فأحوج إلى الخروج قبل انتظام أمره لوقوف يوسف بن عمر الثقفي -لعنه الله تعالى- على مكانه، وكان ظهوره ليلة الأربعاء لسبع بقين من المحرم، وكان موعده لأصحابه بالظهور في أول ليلة من صفر سنة اثنين وعشرين ومائة، واتفق خروجه من دار معاوية بن إسحاق الأنصاري([7])، وانضَّمت إليه طائفة عظيمة وتخلف قوم وانسل آخرون من الزحف فقال -عَلَيْه السَّلام-: (أظنهم فعلوها حسينيَّة) فعاد إلى القتال وراوحه ثلاثة أيام، وصارح بشعار رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، واستنصف في كل يوم من عدوه ؛ بل ظهر له الفضل عليهم ، وشهر مكانه -صلوات الله عليه-، فكان كأنَّه اللَّيث المغضب ما صد كتيبة إلاَّ كسرها.
[ذكر مقتله -ونبشه- وصلبه- وبعض كراماته(ع)]
إلى أن كان آخر يوم الجمعة، وقد اشتد عليه وعلى أصحابه الأمر، وملكت عليه الكوفة، ودخلتها الأجناد العظيمة، وفي الحيرة مع يوسف بن عمرو -لعنه الله تعالى-، أجناد متكاثفة، وقد قسم أصحابه -عَلَيْه السَّلام- فرقتين؛ فرقة بإزاء أهل الكوفة، وفرقة بإزاء أهل الحيرة، جاءه سهم فأصاب جبينه رماه به داود بن سليمان بن كيسان من أصحاب يوسف بن عمر، وغشي العسكرين الليل فراح كل إلى مكانه، فحُمل -عَلَيْه السَّلام- إلى دار في سكة البريد جريحاً وقد كان قال لأصحابه: (إدخلوا في دار معاوية بن إسحاق، فقالوا: إنك قد شهرت فيها ونخشى الطلب)، فأدخلوه الدار التي ذكرنا وجاؤه بطبيب فذكر له أنه يخشى عليه الموت إن نزع النَّصل، فأوصى -عَلَيْه السَّلام- ولده يحيى -قدس الله روحه- بجهاد أعداء الدين، والدعاء إلى سبيل ربِّ العالمين، وأمر بما يأمر به مثله، ثم قال للطبيب: (إنزع النَّصل، فنزعه وفاضت نفسه -صلوات الله عليه وسلامه-.
___________________
([7]) ـ معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري السلمي من خلص أصحاب الإمام زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام-، واستخفى في داره وقتل معه في المعركة وصلب أيضاً.
وتراجع أصحابه في أمره، فمنهم من أمر بإلقائه في الفرات، فكره ذلك عليهم ولده يحيى -عَلَيْه السَّلام-، ومنهم من أشار بقطع رأسه والإحتفاظ به وطرح جسده في القتلى فكره ذلك ـ أيضاً ـ، فأجمع رأيهم بعد ذلك على قبره في ساقية نَحَّوْا عنها الماء، فلما فرغوا من الصَّلاة عليه ودفنه أجروا الماء فيها ليخفى قبره -صلوات الله عليه- ولم يقدروا أن أحداً إطلع عليهم في شيءٍ من أمرهم، وكان ذلك بعين غلام لرجل قصَّار سندي، فلما كان من الغد صاح يوسف بن عمر -لعنه الله- من دل على زيد بن علي فله من المال كذا وكذا، فدل عليه ذلك الغلام فنبشوه وقطعوا رأسه وأمروا به إلى هشام بن عبدالملك([8]) ، وصلبوا بدنه بالكناسَة([9])، ووكلوا به حرساً([10])، وجردوه من ثيابه، فكانت العنكبوت تنسج على عورته فيهتكون نسجها بالرماح، ومَرَّت إمرأة مؤمنة وهو على تلك الحال فألقت عليه خمارها فجاء تنين فوزره بالخمار، ومرت إمرأة أخرى ممن أنكر([11]) فضله وفضل أهل بيته فحقرته بإصبعها فغابت إصبعها في كفها.
_______________
([8]) ـ هشام بن عبدالملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص المرواني الأموي ، من خلفاء الدولة الأموية الجبابرة طاغوت هذه الأمة الأحول الذميم، والكافر اللئيم بنص الرسول الكريم -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان جباراً عنيداً ظالماً طاغياً غشوماً تولى الخلافة سنة (105هـ)، وتوفي بالرصافة رصفت عليه النار كما قال إمام الأبرار -صلوات الله عليه- سنة (125هـ)، وكانت الرصافة على أربعة فراسخ من الرقة غرباً يسكنها في الصيف. الشافي (1/187) ، الأعلام (8/86).
([9]) ـ الكناسة موضع سوق من أسواق الكوفة، ويقال: إن فيها اليوم مسجداً وتابوتاً في موضع صلب الإمام زيد بن علي ويعرف بموضع صلب الإمام زيد.
([10]) - وروى السيد الإمام أبو العباس الحسني عليه السلام في المصابيح ص(399) بسنده عن إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي قال : قال جرير بن عبدالحميد : كانت خشبة زيد بن علي يحرسها أربعون رجلاً.
([11])ـ في (ن) : ينكر .
وفضائله كثيرة، وسيأتي ذكر بعضها فيما بعد، إذ هذا الكتاب لو جرد لذلك لم يحط بالجميع، فأما أمر الإصبع والخمار فمن الجائز أن يكون النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قد أخبر بذلك قبل وقوعه فأتى وقوعه معجزة له -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أظهرها الله في ولده الصالح تكرمة له -عَلَيْه السَّلام-.
وذكر أمر زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- لأن منكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- يشارك قتلة زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- وأصحابه -رضي الله عنهم- في سفك دمائهم، ووزر قتالهم؛ لأن علَّة قتالهم لزيد إنكار فضله وفضل أهل بيته -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وما أوجب على الكافة من توقيرهم والرجوع إليهم، وأخذ العلم عنهم، والجهاد بين أيديهم، وكل مذهب أدَّى إلى هذا فبطلانه ظاهر، ومعتقده خاسر.
[24]
وكَمْ لأجدادِيَ مِنْ يَوْمٍ أغَرْ .... فيهِ النِّطاحُ بالجِبَاهِ والغُرَرْ
لا يَرْفَعُ الصوتَ بِهِ إلاَّ الذَّكَرْ .... يَضَلُّ يَرْمِيْ بِالرُؤسِ والقِصَرْ
أجداده هم الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-، فقال: " إن ذكر أيامهم -صلوات الله عليهم- ووقائعهم يطول شرحها "، فأورد لفظ الإستفهام وهو يريد التقرير والإلزام.
ولآبائنا -عَلَيْهم السَّلام- أيام غر محجَّلة بحميد أفعالهم، وجميل صبرهم، وحسن بلائهم في قتالهم ونزالهم، ووعظهم، وجدالهم، عرف منهم في ذلك ما لم يعرف من غيرهم، فكم لهم من يوم خلص فيه صبرهم، ووجب أجرهم، تصادمت فيه الخيل (بالغرر) - كما قال في القافية -: والفرسان (بالجباه) خرست فيه الألسن، ونطقت السيوف.
وحديد السيوف يسمى (ذكراً)، وذلك ظاهر في اللغة.
و (الرؤس) معروفة، و (القِصَر): بفتح الصَّاد: الأعناق، وما كان أصل تلك الأيام إلاَّ إنكار فضلهم على ما يأتي ذكره في البيت الذي يلي هذا.
[25]
وأصلُهُ الإنكارُ لِلتفضِيلِ .... والقَوْلُ بالتّرجيم والتعليلِ
ونَفي حُكْمِ الوَاحِدِ الجَلِيْلِ .... في كلِّ ما حيٍّ وكلِّ جيلِ
يقول : إن أصل ما تقدم ذكره أو تأخر مما لحق أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وأشياعهم -رحمهم الله تعالى- ما هو إلاَّ إنكار تفضيل الله -سبحانه وتعالى- لهم إبتداءً؛ لأن أعدائهم يقولون على هذا المذهب الفاسد: (نحن نصلي وهم يصلون، ونصوم وهم يصومون، ونفعل من أجناس الطاعة ما يفعلون ونزيد في التعمق ما لا يفعلون)، كترك النكاح الذي حض على فعله النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الأمي بقوله: ((تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة([12]))) ، وبقوله: ((رهبانيَّة أمتي الجهاد([13]))) .
وروينا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من طريق أحمد بن عيسى -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: ((من كان له ما يتزوج به فلم يتزوج فليس منَّا([14]))) .
____________________
([12]) ـ رواه في كتاب بدائع الأنوار في محاسن الآثار أمالي الإمام أحمد بن عيسى بن زيد بن علي -عَلَيْهم السَّلام- ، ورواه الإمام أبو طالب في الأمالي (363) عن أبي أمامة الباهلي ، ورواه في الاعتصام وقال عقبة : أخرجه البيهقي في السنن عن أبي أمامة ..إلى قوله: وفيه -أي في شرح الأحكام- وأخبرنا السيد أبو العباس الحسني رحمه الله ، قال : أخبرنا عبدالعزيز بن إسحاق ، قال : حدثنا علي بن محمد النخعي ، قال : حدثنا سليمان بن إبراهيم المحاربي ، قال : حدثنا نصر بن مزاحم ، قال : حدثنا إبراهيم بن الزبرقان ، قال : حدثني أبو خالد ، قال : قال زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم))، والطبراني في الأوسط (4/210) رقم (5746)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/13).
([13]) ـ أخرجه بألفاظ متقاربة في مسند أحمد (3/266) رقم (13834) ، مسند أبي يعلى (7/210) رقم (4204) ، وفي كتاب الجهاد لعبدالله بن المبارك (35) رقم (16).
([14]) ـ رواه في رأب الصدع (أمالي أحمد بن عيسى - عليه السلام -) (2/859) رقم (1398) بسنده عن أبي نجيح السلمي، ورواه في الشفاء.
وبإسناده -عَلَيْه السَّلام- عن شداد بن أويس أنه قال لأهله: ((زوجوني فإن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أوصاني أن لا ألقى الله أعزب([15]))) .
ولم يعهده أحد من الأئمة الراشدين ـ أعني ترك النكاح ـ ولا أحد من النبيئين -صلوات الله عليهم- إلاَّ من حصره عنه ربُّ العالمين لمصلحة يعلمها له دون غيره في الدين.
ويختص بالنسك والتعمق ومخالفة العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- الخوارج ومن طابقهم، فإذا كان ذلك كذلك قالوا لا فضل لهم علينا؛ بل نحن أفضل منهم؛ لأنَّا قد اختصصنا من التعمق وترك المباحات والمندوبات بما لم يختصوا به.
وقد رأينا وسمعنا ممن أنكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- قريباً ممَّا صوَّرنا وزيادة، فمن هناك خرج الخارجون على العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- واجتروا على قتالهم، وسفك دمائهم، ومنابذتهم، فانظروا -رحمكم الله تعالى- كيف ساق إنكار فضلهم إلى هذه الأمور الشنيعة العظيمة المهلكة، وأين يكون موقع صاحب هذه المقالة من عذاب الله؟ وإن شاب رأسه ، وتعاظمت عند ذكر المواعظ أنفاسه، لأن للدين قواعد لا يستقيم إلاَّ عليها، وغايات لا ينتهي إلاَّ إليها ، تفضيل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- قواعده، والإقتداء بهم غاياته، فمن بنى على [غير([16])] قاعدة إنهار بنيانه، وتهافتت أركانه، ومن جاوز الغاية ضل سعيه ، وكانت النار سيقته([17]) وخصله([18])، فنعوذ بالله من عمى الأفكار ، وزيغ القلوب والأنظار.
________________________
([15]) ـ رواه في رأب الصدع (أمالي أحمد بن عيسى - عليه السلام -) (2/860) رقم (1399) بسنده عن شداد بن أويس، ورواه في الشفاء.
([16]) - في النسخ الموجودة بدون (غير) ولعل الصحيح ما أثبتناه ويمكن أن تكون سقطت على الناسخ ، والله أعلم.
([17]) ـ في نخ (م): سبقته.
([18]) - الخصلة : الخلة والفضيلة والرذيلة . تمت ق.
وقد وجدنا لبعض آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- وهو الناصر للحق الإمام أبو الفتح([19]) بن الحسين الديلمي -صلوات الله عليهم - أنه قال في تفسير قوله تعالى : {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ }[الرعد:25] ، قال: (هم الذين لا يوجبون محبَّة آل محمد -صلوات الله عليهم- وينكرون فضلهم([20]))، وهذا معنى قوي عندنا وبه نقول، والله أعلم.
______________________
([19]) ـ الإمام أبو الفتح الديلمي الناصر بن الحسين بن محمد بن عيسى بن محمد بن عبدالله بن أحمد بن عبدالله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- كان من أعلام الأئمة وقادة الأمة، وكان من أهل الفضل والمعرفة التي لم تكن لأحد من أهل عصره دعا إلى الله تعالى في الديلم سنة ثلاثين وأربعمائة ثم خرج إلى اليمن فاستولى على أكثر بلاد مذحج وهمدان وخولان، وانقادت له العرب وحارب الجنود الظالمة من المتمردة والقرامطة، وله التصانيف الواسعة والعلوم الرائعة منها: كتاب البرهان في تفسير القرآن، وله الرسالة المبهجة في الرد على الفرقة الضالة المتلجلجة، في الرد على المطرفية، ولم يزل -عَلَيْه السَّلام- قائماً بأمر الله سبحانه وتعالى حتى أتاه اليقين، وقد فاز بفضل الأئمة السابقين توفي شهيداً في الوقعة التي بينه وبين علي بن محمد الصليحي في نجد الجاح من بلد رداع بعنس مذحج، وقد عجل الله انتقام الصليحي آخر تلك السنة، وكان استشهاده سنة نيف وأربعين أو خمسين وأربعمائة وقبره في رداع مشهور مزور، في منطقة تسمى (الميفعة) تبعد من مدينة ذمار حوالي 17كم.
([20]) ـ قال الإمام الناصر ، أبو الفتح بن الحسين الديلمي - عليه السلام - في البرهان في تفسير القرآن ـ مخطوط ـ في تفسير سورة الرعد الجزء الأول ص200، في تفسير قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ(21)} ، قال - عليه السلام - : الذي أمر الله بوصله النبي صلى الله عليه ، والأئمة من ولده ؛ لأن قطيعتهم كفر وضلال، انتهى.
[بيان أن المساواة في التفضل لا تجب عقلاً وإنما تجب في المستَحَق]
قوله: (والقول بالتَّرجيم والتعليل)، الترجيم: هو قول القائل: (ما أظن لهم فضلاً على غيرهم، ومن أين يجوز من الله -تعالى- تفضيلهم على غيرهم والمساواة عليه واجبة؟) وهذا كما ترى، بناء الفساد على الفساد؛ لأن أدلة العقل قد دلّت على أن الله -تعالى- متفضل وأنه منعم، وأن للمتفضِّل أن يفاضل بين من تفضَّل عليهم إذْ المساواة لا تجب عقلاً إلاَّ في المسْتَحَق فمن قال بعد ذلك يجب عليه نقض كونه متفضلاً ؛ لأن حد المتفضل عند جميع أهل العلم : هو الذي له أن يفعل ولم يكن له أن لا يفعل. وهذا قول جميع أهل العدل العارفين بالحقائق ، ولأن الدلالة العقلية قد دلت على أنه تعالى لا يخل بواجب، فلو وجب عليه المساواة لفعل ذلك، وقد علمت المخالفة منه تعالى بين خلقه عِند من أقر بأن للعالم صانعاً وذلك ظاهر في أمور كثيرة.
منها: تفضيله سبحانه للرجال على النساء، وقد نطق بذلك كتابه العزيز في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[النساء:34] .
وفضل الأحرار على المماليك، وقد نطق بذلك كتابه في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(75)} [النحل] ، وصدق الله العظيم، ونحن على صدقه من الشاهدين ، وله من الحامدين العابدين ، إذ المملوك لا يساوي الحر في شيءٍ ولا يتمكن من الإنفاق في السر والعلانية على الوجه المحمود مما حوت يده إلا بإذن سيده، والحر محمود على الإنفاق في جميع أحواله، ومثل ذلك لا يغبى إلاَّ على من عميت بصيرته.
وتفضيل الله للمالك على المملوك ظاهر لا يفتقر إلى برهان ، ولا ينكره قبل حدوث هذه المقالة من أهل الملك إنسان، وقد ألجأت الضرورة إلى تبيان البيِّن، وإيضاح الواضح، وترداد الأدلة، وتكرار أكثر الحجج، فنسأل الله التوفيق.
فلو كانت المساواة على الله -تعالى- واجبة لما أخل بها؛ لأنه لا يخل بالواجب ولا يفعل القبيح، ولا يجوز السهو والغفلة عليه، ولا يغلب على مراده من فعله على كل حال، ولا من فعل غيره إذا أراد الإجبار ورفع التخيير، ومثل هذا لا يغبى على المميزين من العقلاء، فضلاً عن المستبصرين من العلماء، فقد وقع صاحب هذه المقالة في ورطة عظيمة؛ لأنه إن حرس مذهبه بالمكابرة وقال إن الله ساوى بين الذكر والأنثى إرتكب الرد لقوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}[آل عمران:36] ، ومن رد قوله تعالى كفر، فلا مخلص له إلاَّ بالرجوع إلى الحق وترك التمادي في الباطل.
[ذكر أن فعل الفاعل لا يعلل]
قوله: (والتعليلِ): مثل أن يقول: ما العلَّة في جعل الله -تعالى- لهم أفضل من غيرهم ؟ وقد ثبت بين أهل العدل والحقائق من علم الكلام أن فعل الفاعل لا يعلل، وبذلك سقط كثير من شبه الفلاسفة والملحدة، فنسلك في إنكار حقهم مسلك التعليل الذي لا يجوز سلوكه في أفعاله تعالى، أو نسلك مسلك القياس الفاسد لغير علة رابطة ولا رجوع إلى أصل معين ".
فنقول: هم ناس ونحن ناس، أو هم متعبدون ونحن متعبدون، وقد تقدم الكلام على مثل هذا التهوس([21]) الذي لا يغبى عواره.
فالجواب في ذلك جملة أن يقال: لأن الله -تعالى- جعلهم للمسلمين سادة، وجعل محبتهم عنوان السعادة ، فمن أحبهم حُشر إلى الرحمن وفداً ، ومن أبغضهم سيق إلى جهنمَ وِرْداً، ولا إعتراض عليه في ذلك لأنه حكيم،و الإعتراض على الحكيم قبيح شاهداً وغائباً، وقد قال تعالى : {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23)}[الأنبياء] ، فورد ذلك لما سبق مؤكداً.
_____________________
([21]) ـ الهَوَس بالتحريك : طرف من الجنون. تمت قاموس.
[بيان أن المماثلة في الجسمية لاتقتضي المماثلة في التفضيل]
[26]
يا قومِ لَيسَ الدُّرُ قَدْرَاً كَالبَعَرْ .... ولا النِّظَارُ الأبْرَزِيُّ كالحَجَرْ
كلا ولا الجوهَرُ مِثْلاً للمَدَرْ .... فحاذِرُوا في قولكمْ مَسَّ سَقَرْ
علَّة هذا وذكره: أنَّا سمعنا من منكري فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- من يعلل نفي فضل الواحد من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- بأن يقول: لي يدان وللشريف يدان، ولي رجلان وله رجلان، فأيَّ فضل له عليَّ.، وهذا وإن كان كلاماً سخيفاً لا يلتفت أهل المعرفة إلى مثله، فقد ألجأت الضرورة إلى ذكره لتظاهر القائلين به وكثرتهم في بلداننا هذه ونوافح أوامر من عنده.
فينبغي أن ينبَّه صاحب هذه المقالة بأن يقال له: إن المرأة لها يدان ورجلان، وقد ثبت تفضيل الله -تعالى- للرجل عليها؛ وكذلك المملوك، وجعل للمرأة مثل نصف نصيب الرجل وهما تؤمان من طريق الأبُّوة والأمومة بوجه واحد؛ وكذا المملوك متصرف فيه متعبد بطاعة مولاه وخدمته حتى إذا فرط فيه عصى ربَّه، وإن كان مولاه فاسقاً وهو مؤمن بلا اختلاف بين الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- والعلماء في ذلك، ولأن الذي يقرون أنه أفضل منهم بعلمه له ـ أيضاً ـ آلة مثل آلتهم مع فضله عليهم في تلك الحال، وقد لا تستوي الآلة بأن يجعل الله تعالى بعضها أقوى من بعض وأجمل من بعض، وأصح وأحد إلى غير ذلك ، والحال فيه ظاهر وإن إتفقت التسمية، ولأن المتَعبَّد أفضل ممن ليس بمتعبَّد، والآلة مستوية كما يعلم في الطفل والمجنون وربما كانت أيديهم وأرجلهم أقوى من آلة المتعبدين، فهذه فروق ظاهرة.
ثم نبه على بطلان تلك المقالة: بأن المشابهة في بعض الوجوه لا توجب المماثلة على الإطلاق بقوله: (يا قوم ليس الدر قدراً كالبعَرْ)؛ لأن البَعرَ وإن ماثل الدر في الجسمانية والحدوث، فهو مخالف له في الشرف وتعظيم الله -سبحانه وتعالى- لأحدهما في قلوب العباد دون الآخر.
(والدر) جوهر معروف.
(والبعر) رجيع معروف، ـ أيضاً ـ، والتفاضل بينهما معلوم لكل عاقل؛ وكذلك سائر ما ذكر في البيت إلى آخره.
و (النظار): هو الذهب.
و (الأبرزي): هو الخالص.
(والجوهر) في عرف اللغة: آنية مخصوصة نفيسة، وأصله نوعان: مبدوع، ومطبوع.
و (المدر): أراد به الفخار، وهي آلة مسترذلة دنيَّة، والله -تعالى- يفعل ما يشاء ويختار وليس إلى العباد من الأمر شيءٌ، فلا وجه إلا الرضاء الواجب والتسليم.
[الإشارة إلى فضل أهل البيت(ع)]
[27]
هَلْ في البرايا كَبَنِي بنت النبيِّ .... أهلِ الكِسَا والحَسَبِ المهذَّبِ
والضَّربِ في عَرْضِ العَجَاجِ الأشهَبِ .... عَنْ دِينِهمْ كلَّ رَدِيِّ المنْصِبِ؟
هذا سؤال يلزم عليه ما لا يجهل عاقل فساده ، ويوجب الرجوع إلى الحق لمن أراده؛ لأن المخالف لا بدَّ له على هذا السؤال من لا أو نعم، فإن قال: نعم؛ في الناس مثلهم، أكذبه قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فيهم ولم تختلف الأمة في صحته حتى صرحّت به الأشعار ، وشحنت به الرسائل ، وفاض فيض الصباح، وهو تجليله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لهم بالكساء، وقد روي من طرق شتى بألفاظ لاتختلف في المعنى.
[بحث في خبر الكساء]
وقد روينا بالإسناد الموثوق به إلى أبي سعيد الخدري -رحمة الله عليه- عن أم سلمة رحمة الله عليها قال: حدثتني أم سلمة أن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال لفاطمة -عَلَيْها السَّلام- ((ائتيني بزوجك وابنيك، قال: فجاءت بهم فألقى عليهم كساءً فدكياً ثم قال: اللَّهُمَّ إن هؤلاء آل محمد فاجعل شرائف صلواتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل فدفعني وقال: إنك على خير)) ، فهذه صيغة هذا الخبر، و قد روي من طرق مختلفة([22]) بصيغ متقاربة تؤول إلى معنى واحد.
___________________
([22]) ـ قال الإمام الحافظ الحجة مجد الدين المؤيدي أبقاه الله وحفظه في التحف شرح الزلف ص242/ط3:
وأما طريق روايتها فنذكر طرفاً نافعاً من الرواة المرجوع إليهم عند الأمة، منهم: الإمام الناصر للحق الحسن بن علي، والإمام أبو طالب، والإمام المرشد بالله، ومحمد بن منصور المرادي، ومحمد بن سليمان الكوفي، وصاحب المحيط بالإمامة علي بن الحسين، والحاكم الجشمي، والحاكم الحسكاني، وابن أبي شيبة، وابن عقدة، وابن المغازلي، وغيرهم بأسانيدهم، ومالك بن أنس، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، والثعلبي، والواحدي والحاكم، والطحاوي، وأبو يعلى، وأبو الشيخ، والطبراني، والبيهقي، وعبد بن حميد، ومطين، وابن أبي داود، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن خزيمة، وابن عساكر، وابن مردويه، وابن المنذر، وابن منيع، وابن النجار، والشيخ محب الدين الطبري الشافعي صاحب ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، والبغوي وغيرهم.
والمروي عنهم من الصحابة: أمير المؤمنين، والحسن السبط، وفاطمة الزهراء -عَلَيْهم السَّلام-، وعبدالله بن العباس، وعبدالله بن جعفر، وجابر بن عبدالله، وأم المؤمنين أم سلمة، وابنها عمر بن أبي سلمة، وعائشة، والبراء بن عازب، وواثلة بن الأسقع، وأبو الحمراء مولى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، بطرق تضيق عنها الأسفار، ولا تستوعبها إلا المؤلفات الكبار، وهي متطابقة على معنى واحد من جمع الأربعة: علي والزهراء والحسنين مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وتجليلهم بالكساء قائلاً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي)) وفي بعضها وعترتي، وفيه: وأهل بيتي، وفيه: أهل بيتي وخاصتي، ونحوها مما لايخرج عن هذا المعنى، انتهى.
[دخول الذرية الطاهرة في مسمى أهل البيت(ع)]
وأولاد الحسن والحسين داخلون([23]) تحت هذا الحكم لثلاثة أوجه:
أحدها: أن أحداً من الأمة لم يفرق بينهم، فلا يجوز إحداث الفرق لأنه يكون إتباعاً لغير سبيلهم، وقد تقدم الكلام في مسألة الإجماع عليه بما فيه كفاية.
________________
([23]) ـ قال الإمام الشهيد الناصر لدين الله عبدالله بن الحسن بن أحمد بن العباس القائم سنة إثنتين وخمسين ومائتين وألف والمتوفي شهيداً في وادي ضهر من همدان سنة ست وخمسين ومائتين وألف المقبور بقرية القابل من همدان صنعاء، وله من العمر ثلاثون عاماً: في الأنموذج الخطير فيما يرد من الإشكال على آية التطهير:
فإن قلت: يعلم مما ذكرت أن أهل البيت هم الأربعة فقط فلا يكون ذريتهم من أهل البيت كما ذكرت أنه يقتضيه البيان.
قلت وبالله التوفيق: إنما أراد بقصر الحكم على الأربعة، وإخراج من عداهم من الموجودين في زمنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من الزوجات والأقارب ولو وجد في ذلك الوقت أحد من ذريتهم لأدخلهم، لكن لم يوجد إلا الأربعة، وأيضاً أهل البيت يتناول الآتين من بعده -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كما يتناول الموجودين في زمنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- مثل ما أن لفظ الأمة يتناول الآتين من بعده -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كما يتناول الموجودين في زمنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ولنا على إدخال ذريتهم في جملة أهل البيت إيضاحاً لما تقدم أدلة:
الدليل الأول: قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة)) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد، وابن ماجه عن علي، وأخرجه أبو داود، وأيضاً عن علي، وقد نظر إلى الحسن ابنه، وقال: (إن ابني هذا سيد كما سماه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخُلق ولا يشبهه في الخَلق يملأ الأرض عدلاً).
وأخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي))، وأخرج أبو داود، والحاكم، وابن ماجه، والطبراني عن أم سلمة قالت: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((المهدي من عترتي من ولد فاطمة))، فدلت هذه الأخبار على أن اللاحقين يكونون من أهل البيت كالسابقين، والأحاديث في المهدي وكونه من أهل البيت متواترة.
قلت: وقد استكمل تخريج أحاديث المهدي ومن رواها الإمام الحجة مجد الدين بن محمد المؤيدي حفظه الله في لوامع الأنوار الجزء الأول (ط2) من(91) إلى(100) فارجع إليه لطول البحث وفائدته.
قال الإمام الناصر: الدليل الثاني: قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض ذهب أهل الأرض))، أخرجه أحمد بن حنبل عن علي -عَلَيْه السَّلام-، وعمار، وأخرج معناه الطبراني والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
فلو كان أهل البيت هم الأربعة فقط لكان قد ذهب أهل الأرض.
قلت: وقد خرجه الإمام الحافظ مجد الدين المؤيدي في اللوامع الجزء الأول (ط2) من(100) إلى(101).
قال الإمام الناصر: الدليل الثالث: قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إني تارك فيكم...الحديث...إلى قوله: لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض))، وهذا الحديث متواتر كما سيأتي فلو كانوا هم الأربعة فقط لكانوا بموتهم قد فارقوا الكتاب قطعاً يعني في الدنيا وقد أخبرنا بأن مدة اجتماع الكتاب وأهل بيته في دار التكليف إلى آخر الدهر.
الدليل الرابع: قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((كل ولد أم فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم))، أخرجه الطبراني والدارقطني، وأبو نعيم في معرفة الصحابة، وابن السمان، وأبو صالح المؤذن في أربعينيته كلهم عن عمر بن الخطاب من طرق إليه، وأخرجه أيضاً الطبراني، وأبو يعلى، والخطيب عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
قال السمهودي في بعض طرقه: ورجاله موثوقون إلا شريك، وشريك استشهد به البخاري، وروى له مسلم في المتابعات.
وأخرجه ابن عساكر عن جابر أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال: ((إن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وعصبتهم وهم عترتي)).
قلت: فبين فيه عترته بقوله: ((وهم عترتي))، وإذا كانوا أولاده وهو أبوهم وعصبتهم فهم عترته وأهل بيته ، انتهى ما أردنا نقله من الأنموذج الخطير، والبحث فيه طويل لعظم خطره، وقد طبع هذا الكتاب أخيراً والحمد لله في كتيب صغير الحجم عظيم النفع، فانظر بقية البحث فيه، فقد جمع فيه الإمام وحلّ إشكالات عظيمة الموقع جليلة الخطر، وقد جعله الإمام على صيغة سؤال وجواب ليكون أقرب للتناول، وأسهل في القراءة والفهم.
والثاني: إجماع العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- على أنهم داخلون تحته.
والثالث: أن إخراجهم من هذا الظاهر يودي القائل به إلى الكفر والإلحاد ولا يبعد الله إلاَّ من كفر. بيان ذلك: أنَّا نقول: لأي معنى أخرجتهم؟.
فإن قال: لأن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خصَّ أولئك بالذكر فلا أدخل معهم من لم يذكره -عليه وآله السلام-.
قلنا له: ما ترى في رجل يتزوج بنت بنته، أو بنت أخته، أو بنت أخيه، ما يكون حكمه؟.
فإن قال كافرٌ؛ صَدَق؛ لأن الحكم الوارد من الله -تعالى- ومن رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يجب طرده([24])، ولا يجوز قصره على سببه على الإطلاق، وإن قال مؤمناً مصيباً في فعله لأن الله -تعالى- خصَّ البنت والأخت بالذكر وطرد القول في ذلك حراسة لمذهبه الفاسد، كفر بإجماع الأمة ونقل معه الحديث إلى إثبات الصَّانع إن رغب وإلا أجري عليه الحكم الإلهي، فلا تأس على القوم الكافرين، وإن قال لا مثل لهم في الناس سلم من هذه الأخطار، وتنكب مسالك الأشرار، وسلك مناهج الأخيار، وأرضى الواحد الجبَّار، والنبي المختار -صلى الله عليه وعلى آله الأبرار-.
ويؤكد هذا الخبر([25]) الخبر الذي روينا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- رفعه إلى جبريل -عَلَيْه السَّلام- أنه أخبره أن بني هاشم أفضل أهل المشارق والمغارب ، والأرض على التحقيق مشرق ومغرب، وقد نطق بذلك القرآن، وأولاد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- أفضل بني هاشم، فهم أفضل الأفضل، وخيار الخيار، وسادات السَّادة، وشرف الأشراف، ومفزع أهل الإختلاف.
و (الحسب) في أصل اللغة: هو الشرف في الأصل وغيره.
و (المهذب): المنزه.
_____________________
([24])ـ أي إطراده ، أي كل ما وجد ما يشابه تلك القضية أُلحق حكمه بها. تمت.
([25])- يشير إلى الخبر الذي أخرجه أبو العباس الحسني في المصابيح والمرشد بالله وابن عساكر والذهبي وأحمد بن حنبل، والطبراني في الأوسط وغيرهم ، وهو قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- : عن جبريل أنه قال : ((يا محمد قلبت مشارق الأرض ومغاربها ؛ فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم)).
و (الضرب): معروف لهم في المواطن التي تشخص فيها الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، ويعتكر الغبار.
وقوله: (الأشهب): لأن الشهبة تجمع لونين من سواد وبياض، وكذلك عجاج الخيل عند هياجها وتلاطم أمواجها، وقد شاهدناه على تلك الصفة فشبهنا عن معرفة.
[ذكر صفة المبغض لأهل البيت(ع)]
وقوله: (عن دينهم كل ردي المنصبِ): يريد؛ خبيث الأصل، ولاينكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ويتعلق ببغضهم إلا من خبث أصله، وقبح فعله، وقولنا لا يقع في موقع السَّب لأنَّا قلناه لآثار نبوية، فخرج عن نتائج العصبيَّة، وعادة الألسن البذيَّة، لأنَّا روينا بالإسناد إلى الإمام المرشد بالله بإسناد له رفعه إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((لا ينكر حق العرب وحق أهل بيتي إلاَّ من كان لغير رشده([26]))) ، وفي الخبر زيادة سقطت عن حفظي وغابت عني في هذه الحال نسخة سماعي.
___________________
([26])- أخرج الإمام المرشد بالله -عَلَيْه السَّلام- في الأمالي الخميسية (1/157) بسنده عن أبي رافع، عن علي -عَلَيْه السَّلام- ، قال : سمعت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول : ((من لم يعرف حقّ عترتي والأنصار والعرب فهو لإحدى ثلاث : إما منافق ، وإما لزنية ، وإما امرؤ حملت به أمه في غير طهر)).
وأخرج ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان عن علي -عَلَيْه السَّلام- ، قال : قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- : ((من لم يعرف حق عترتي والأنصار ، فهو لأحد ثلاث : إما منافق ، وإما لزانية ، وإما لغير طهر ـ يعني حملته أمه على غير طهر ـ))، أخرجه السيوطي في إحياء الميت .
ومن هذا النوع من الحديث قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- : ((لا يبغض أهل بيتي من الناس إلا ثلاثة : رجل وضع على فراش لغير أبيه ، ورجل جاءت به أمه وهي حائض ، ورجل منافق))، رواه محمد بن سليمان الكوفي بإسناده عن الباقر ، عن آبائه.
وقد روينا عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ما هو أبعد من هذا تناولاً، وأقرب في حال الإحتجاج في فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- مأخذاً، وهو ما رويناه بالإسناد عن سلمان أن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال له ذات يوم: ((يا سلمان لا تبغضني فتكفر)) ، فقال سلمان: يا رسول الله؛ وكيف أبغضك وبك هدانا الله من الضَّلال!؟، فقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((تبغض العرب فتبغضني)) ، فكيف ترى يكون الحال في أهل بيته؟.
وروينا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال لعلي: ((يا علي من أحبنا فهو العربي، ومن أبغضنا فهو العِلْج([27]))) ، والعلج في عرف العرب: هو المختص بالإحمرار والبياض من العجم كالترك، والروم، ومن شابههم وقاربهم من الأجناس.
وأقول في معنى هذا الخبر: إن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أراد بالعلج: الخلط؛ لأن ذلك معناه في أصل اللغة لا فرق بين العلج والخلط والغث، ولها أشباه لا وجه لذكرها ها هنا، فكأنه -عَلَيْه السَّلام- قال: من أبغضنا فهو مختلف الأصل نسبته إلى واحد، وماؤه الذي خلق منه من واحد آخر، وهذا هو العلج الظاهر، وقلنا ذلك لأن المعلوم أن من العرب من يبغضهم، وقد أخبر -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خبراً مطلقاً أنه علج، وهو -عَلَيْه السَّلام- لا يخبر إلاَّ بالحق.
وقوله: ((من أحبنا فهو العربي)) ، يريد؛ في الشرف؛ لأن من العجم مَنْ محبته للنبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- شديدة.
_________________
([27]) ـ أمالي الإمام أبي طالب (74)، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (140) عن الأمالي.
وقد جاء الأثر بأن "من أحب قوماً فهو منهم([28])" لقول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((سلمان منَّا))، ((ومولى القوم منهم)) ، إلى غير ذلك، فلا وجه للخبر عندنا إلاَّ هذا وذلك يؤدي إلى الجمع بين الأخبار ما أمكن، فقد رأيت أنَّا لم نقل (ردي المنصبِ) إلاَّ إتباعاً للنبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الذي يجب إتباعه ويحرم خلافه، وقد صح لك أن من أنكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- هذا النصاب الشريف أن أصله يكون من نسب غير خالص.
[ذكر وقعة نورود للإمام الحسن بن علي الأطروش(ع)]
[28]
لا أنسَ في نَورُودَ فِعْلَ النَّاصرِ .... الحسنِ الفذِّ الإمامِ الطّاهرِ
بكلِّ رِجْسٍ ذي عِنَادٍ فاجرِ .... خَبٍّ لئيمٍ داعرٍ مُكابرِ
[ذكر طرف من أمر الإمام الناصر الأطروش (ع)]
الناصر المذكور ها هنا هو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، وأمه -عَلَيْها السَّلام- أم ولد، وسُمي بالأطروش لطرش كان في أذنيه، وأمره أشهر من أن يخفى، ونور مجده لا يطفئ، جمع الخصال التي يجب إعتبارها في الأئمة وزيادة، وتصانيفه مشهورة، وكتبه موجودة؛ وأخباره ظاهرة.
______________________
([28]) ـ رويت الأخبار المحبة بألفاظ مختلفة في اللفظ متحدة في المعنى ؛ فمن ألفاظه :
قوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - : ((المرء مع من أحب)) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة (7/51) رقم (3688) ومسلم في كتاب البر والصلة (4/232) حديث (2639) والطبراني في الأوسط (6/216) رقم (8556) عن أنس بن مالك .
وأخرجه أيضاً البخاري في صحيحه في كتاب الأدب (10/573) رقم (6171) والطبراني في الأوسط (6/460) رقم (9403) عن أنس أيضاً ، وأخرجه البخاري في كتاب الأدب أيضاً (10/573) رقم (6170) والطبراني في الأوسط (4/252) رقم (5893) ومسلم في البر والصلة (4/234) رقم (2641) عن أبي موسى الأشعري، وأخرجه أحمد في مسنده (4/293) رقم (18115) والترمذي في الزهد (4/596) رقم 2387) وقال: حديث حسن صحيح ، والطبراني (2/368) رقم (3563) عن صفوان بن عسال ، وأخرجه أيضاً في الكبير رقم (8518) والصغير رقم (5111) عن صفوان بن قدامة .
وأخرجه أيضاً : مالك ، وابن أبي شيبة ، وأبو نعيم ، والضياء عن أبي ذر ، وعبد بن حميد ، وأبو عوانة عن جابر، وابن عساكر ، والشيرازي عن عروة بن مضرس ، والطيالسي ، وابن حبان .
ومن ألفاظه : قوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - : ((من أحب قوماً كان معهم)) رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج (16/215) عن أبي الحسن المدائني .
وقوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - : ((أنت مع من أحببت)) رواه في الأمالي (284) عن عروة بن مضرس، وأخرجه البخاري في الأدب (10/573) رقم (6171) ومسلم في البر والصلة (4/232) رقم (162/2639) وأحمد في المسند (3/128) رقم (12019) والترمذي في الزهد (4/595) رقم (2385) والطبراني في الأوسط (1/43ـ 129ـ 417) رقم (107ـ 410ـ 1527) ورواه أيضاً (6/387) رقم (9154) جميعهم عن أنس بن مالك .
ورواه أيضاً البيهقي في شعب الإيمان (6/489) رقم (9011) والطبراني في الأوسط (2/194) رقم (2994) بزيادة : (ولك ما احتسبت)) .
[بعض خواص وفضائل الإمام الناصر الأطروش]
ويكفيك في معرفة كماله جملةً متابعة الداعي إلى الحق الحسن بن القاسم([29]) -صلوات الله عليه- له وانتظامه في سلك متابعته وجهاده بين يديه.
كان يِرِدُ بين الصفين متقلداً مصحفه وسيفه ويقول: قال أبي رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- : ((إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) ، فهذا كتاب الله وأنا عترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فمن أجاب إلى هذا وإلاَّ فهذا.
ومن خواصه: إيمانُ كثيرٍ من أهل الشرك على يديه وترشيحه لهم حتى صار بعضهم من علماء الإسلام وجميعهم من أهل المعرفة بالله -تعالى-، فإن فيما روينا بالإسناد الموثوق به أن المؤمن على يديه من عَبدَة الشجر والحجر زهاء مائتي ألف([30]) مكلف.
________________
([29]) ـ الإمام الداعي إلى الله أبو محمد الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن الشجري ابن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، كان من أركان الناصر للحق -عَلَيْه السَّلام- وصاحب جيشه والمستولي على الأمر عالماً فاضلاً ورعاَ شهماً ذا دين وطريقة سديدة بويع بالإمامة بعد وفاة الناصر -عَلَيْه السَّلام- في اليوم الثاني من وفاته يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر رمضان سنة أربع وثلاثمائة فأظهر من حسن السيرة في الأمور كلها من بسط العدل والإحسان إلى الناس عموماً ولخاصته من الأشراف وأهل العلم على طبقاتهم، والتشدد على أهل العبث والفساد حتى ضرب المثل بعدله فكان يقال عدل الداعي، وكانت له حروب مشهورة ووقائعه معروفة مع الجنود العباسية الخراسانية، وخطب له في نيسابور ونواحيها والري ونواحيها، وفي الجيل والديلم واستشهد -عَلَيْه السَّلام- سنة ست عشرة وثلاثمائة وله إثنان وخمسون سنة.
([30]) ـ ذكر الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في الشافي 1/ 309 حاكياً لكلام الناصر -عَلَيْه السَّلام-: فآمن على يدي منهم زهاء مائتي ألف مقاتل سوى النساء والصبيان، وذكر مصنف سيرته أن الذين أسلموا على يديه بلغوا ألف ألف نسمة، وقال إبراهيم بن محمد الوزير في بسامته:
وكان إسلام جستان على يده .... في ألف ألف من العباد للشجر
وقال الزحيف في شرح البسامة: وروي أنه أسلم على يديه في يوم واحد أربعة عشر ألف نسمة.
وقال المسعودي في مروج الذهب (4/327): وقد كان أقام في الديلم سنين ، وهم كفار على دين المجوسية ومنهم جاهلية ، وكذلك الجيل ، فدعاهم إلى الله عز وجل فاستجابوا وأسلموا.
[ذكر بعض شعره(ع)]
ومن ذلك جمعه مع علوم القرآن، والفقه، والحديث، علمَ الأدب وبلوغ الغاية فيه، والأخبار،و اللغة، والفصاحة في الأشعار، والخطب، ومقامات الوعظ، وإستقصاء ذلك يطول شرحه، فمن جيد شعره -عَلَيْه السَّلام- قصيدة قال فيها:
لَهَفانُ جَم وساوس الفكرِ .... بين الغياض فساحلُ البحرِ
يدعو العباد لرشدهم وكأنْ .... ضُربوا على الآذان بالوقرِ
مترادف الأحزان ذو جَزَعٍ .... مُرٌّ مذاقتهن كالصَّبِرِ
متنفس كالكير ألهَبَهُ .... نَفْخُ القُيونِ([31]) وواقد الجَمْرِ
أضحى العدو عليه مجتهداً .... ووليُّه متخاذلَ النصر
متبرم بحياته قلق .... قد ملَّ صحبةَ أهلِ ذا الدَهر
وممَّا قال فيما يتعلق بمقامات القتال قوله -عَلَيْه السَّلام-:
شيخ شرى مهجته بالجنَّهْ .... واستن ما كان أبوه سنّهْ
ولم يزل علم الكتاب فنّهْ .... يجاهد الكفار والأظنّهْ
بالمشرفيات وبالأسنّهْ
__________________
([31]) ـ القيون : جمع قين وهو الحداد . تمت قاموس.
ومما قال فيما يتعلق بالوعظ قوله:
واها لنفسي من حيارى واهاً .... كلفتها الصبر على بلواها
وسوغ مر الحق مذ صباها .... ولا أرى إعطاءها هواها
أريد تبليغاً بها علياها .... في هذه الدنيا وفي أخراها
بكل ما أعلم يرضي الله
وكذلك حاله -صلوات الله عليه- فإنه نشأ على العلم، والورع، والزهد، والعبادة.
ومن خواصه: إحاطته بكثير من علم المخالفين، من شيوخ العراقيين وغيرهم، واتساع بسطته في ذلك، إلى غير ذلك ممَّا يخرجنا عمَّا نحن بصدده من الإختصار، فلنرجع إلى معنى القافية:
[ذكر يوم نورود]
ذكر النَّاصر -عَلَيْه السَّلام- وهو من ذكرنا، وذكر (نورود): وهو يوم أدال الله فيه الحق على الباطل، وانتصف للإيمان من الفسق والضلال، وهو يوم للناصر -عَلَيْه السَّلام- على أحمد بن إسماعيل([32]) صاحب خراسان من قبل بني العباس وكان المتولي لقتاله -عَلَيْه السَّلام- في ذلك المكان من قبل أحمد بن إسماعيل هذا محمدَ بن علي المعروف بصعلوك في شياطين الخراسانية وقواد الدولة هناك، فلقيهم -عَلَيْه السَّلام- في عدة صابرة غير وافرة([33])، فقاتلهم قتالاً شديداً،منحه الله بآخِرِهِ([34]) أكتافهم، وشتت شملهم، فبلغ عدة القتلى في ذلك اليوم خمسة وعشرين ألفاً.
_____________
([32]) ـ أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن نصر الساماني ، أبو نصر ، من أمراء بني سامان ، وكانوا حكام ما وراء النهر وعاصمتهم بخارى ، يتوارثون الإمارة بعهد من خلفاء بني العباس ، تولى سنة (295هـ) بعد وفاة أبيه وجاءه عهد المكتفي العباسي بالإمارة ، ثم تولى الإمارة في عهد المقتدر العباسي .
ذبحه بعض غلمانه وهو على سريره غيلة ، في شعبان سنة (301هـ) الطبري (9/109)، الأعلام (1/96).
([33]) ـ ذكر الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في الشافي 1/ 310 هذه الوقعة، فقال:
ولما انتظم أمر الجيل والديلم، وانقطع النزاع وجبيت له الأموال، وأظهر فيها معالم الدين، وعلمهم شرائعه واحتفل -عَلَيْه السَّلام- لفتح (آمل)، واتصل بأحمد بن إسماعيل خبره في قوته وظهوره واجتماع الجيل والديلم على طاعته، وأنه يريد قصد طبرستان وجه إلى (آمل) عساكر، وكتب إلى محمد بن علي المعروف بصعلوك بورود (آمل) و(الري) ومحاربته فوردوا، وبلغ عدد الجماعة أكثر من ثلاثين ألفاً وانضم إليهم من أهل آمل وحشوهم وطغامهم عدد كثير، وكل يوم يركبون في المراكب على طريقة الغزاة ويستفزون الناس إلى حربه (ع) وقضاتهم يفتونهم بذلك، وخرجوا بأجمعهم إلى (شالوس) وأقبل الناصر (ع) بعساكره من الجيل والديلم، ولم يكن لهم من آلات الحرب ما كان للخراسانية، فالتقوا في موضع بين (وارق) و(شالوس) يعرف بـ(نورود) على ساحل البحر، ووقع القتل هنالك فأوقع رضي الله عنه في الخراسانية، ومنحه الله أكتافهم ونصره الله عليهم، فانهزموا أقبح هزيمة ، وقتلوا شر قتلة ، فبلغ عدد المقتولين في المعركة عشرين ألفاً بين مقتول بالسلاح وغريق في البحر كانوا إذا ثبتوا أخذهم السلاح، فإذا انهزموا غرقوا في البحر، وتحصن منهم نحو خمسة آلاف رجل في قلعة شالوس مع أميرهم يعرف بأبي الوفاء وسألوا الناصر -عَلَيْه السَّلام- فأمنهم فمضى لوجهه بعسكره لاحقاً للمنهزمين متوجهاً إلى (آمل) وكان الداعي إلى الله الحسن بن القاسم -عَلَيْه السَّلام- غاب في تلك الحال متتبعاً لفلول المنهزمين من القلعة فسألهم عن شأنهم، فقال بعض الناس آمنهم الناصر، فقال: لم أسمع ولا صح عندي ثم وضع الرايات فيهم فقتلهم من عند آخرهم لم يفلت منهم نافخ ضرمة، ولما دنا من آمل ـ أي الناصر -عَلَيْه السَّلام- ـ تلقاه فقهاؤها وقراؤها وصلحاء أهلها على وجل فاعتذروا إليه فقبل عذرهم، وتوفر عليهم وحفظهم ولما دخل البلد امتد إلى جامعها فصعد المنبر وخطب خطبة بليغة، انتهى.
([34]) ـ يعني بآخر ذلك اليوم الذي هو يوم نورود. تمت.
وجِده -عَلَيْه السَّلام- وإجتهاده في إقامة الحق ودمغ الباطل لم ينقطع إلا بموته -عَلَيْه السَّلام-، ذكر أنه -عَلَيْه السَّلام- قال في بعض خطبه بعد يوم نورود وفتح آمل: (آه آه في الصدر حرارات لم يشفها قتلى نورود، فقيل: يا ابن رسول الله فما تبغي؟ وعلى مَنْ تبكي؟ فقال : أبكي لقوم هلكوا في الحبُوس ، ولقوم فرق بين أجسادهم والرؤوس، ولقوم مزقوا تحت أديم السماء ـ) يوميء -عَلَيْه السَّلام- إلى أنه لا يشفي قلبه إلاَّ ما يصيب بني العباس في أنفسهم خاصة دون أجنادهم، وأعوانهم على فسادهم.
وإنما ذكر هذا اليوم وما يجانسه مما يتعلق بذكر أدلة المحقين على المبطلين مثل المتوقع لمثل ذلك من الله -سبحانه وتعالى- في أهل عصرنا، الجاحدين لحقنا، المنكرين لفضلنا، وكيف لا يقع ذلك والله- عز من قائل- يقول وهو أصدق القائلين: {وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(22)سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا(23) }[الفتح] ، وسنة الله لا تبديل لها، وحكمه لا معقب له، فلا بدّ أن يديل الله الحق على الباطل في مدتنا هذه([35]) فقد طال ما تغطمطت([36]) أمواجه، واشتد لجاجه، وسلكت فجاجه، وتكاثرت أفواجه، فنسأل الله -تعالى- الفرج وقرب المخرج.
___________________
([35])ـ هكذا في الأصل : (فقال)، وأظنه فقد والله أعلم.
([36]) - الغطمطة : اضطراب موج البحر . تمت ق.
و (الرجس): هو الخبيث النجس من كل شيءٍ، وأصله في اللغة: ما تنفر النفوس عن قربه.
و (الداعر): مختلط الأصل بأعراق رديَّة، وهو ظاهر كثير في النظم والنثر.
و (الخب): الذي لا لبَّ له ولا معرفة.
و (المكابرة): نتيجة من جميع ما تقدم.
وقد صح لك أن منكر حقهم خبيث الأصل، ولا يقتلون إلا من كان كذلك، ولا يقاتلهم ـ أيضاً ـ ويقتلهم إلاَّ من أنكر فضلهم، فقد رأيت إنكار فضلهم إلى ما يؤدي، فيجبُ على كل عاقل الإحتراز من مثل ذلك.
[29]
ولا فِعالَ([37]) النَّاصرِ بن الهادِي .... يومَ نُغْاشٍ في ذوي الفسادِ
إذْ صيَّرَ القومَ كَصَرعَى عادِ .... بالسُّمْرِ والمُرْهَفَةِ الحدادِ
[ذكر طرف من أمر الإمام الناصر أحمد بن يحيى (ع)]
(الناصر) ها هنا: هو أبو الحسن أحمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، وأمه وأم أخيه المرتضى لدين الله فاطمة بنت الحسن بن القاسم بن إبراهيم، كان -عَلَيْه السَّلام- جامعاً لخصال الإمامة، متقدماً في الفقه والسياسة، بطلاً شجاعاً، وتصانيفه ورسائله وكتبه ومسائله موجودة مشهورة، ولم يبلغنا لأحد من آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- مثل سياسته وصبره على تقويم الرَّعية باللين والشدة فاستقامت قوانين أمره حتى لحق -عَلَيْه السَّلام- بربِّه ظاهراً على أعدائه.
_____________________
([37]) - فعال : معطوف على قوله عليه السلام : لا أنسَ في نورود فعلَ الناصر، معطوف على مفعول أنسى .
[ذكر يوم نغاش]
و (يوم نغاشٍ([38])): هذا بينه وبين عبدالحميد القرمطي، وأولاد النجار الكوفي؛ الذي جلب مذهب الباطنية إلى اليمن ونشره من مَسْوَر([39]) فإنها كانت دار هجرته، وكان عبدالحميد هذا طلع من ناحية مَسْوَر في عساكر لا يحصى عديدها من تهَامة([40]) والمغارِب([41])، وكانت مقالة القرامطة قد ظهرت وطمت وكان منطوياً على إزالة رسوم الدين ، وأركان الشرع التي شادها الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين -عَلَيْه السَّلام-، فحرمه الله أمنيته في ذلك وأماته بغصته.
______________
([38]) ـ نُغاش ـ بضم النون ـ: موضع في جبل عيال يزيد شمالي عمران . مجموع بلدان اليمن (2/742).
([39]) ـ مَسْوَر : ناحية من أعمال حجة . مجموع بلدان اليمن (2/708).
([40]) ـ تهامة : موضع معروف ، وهو القسم الواقع بين جبال اليمن والبحر من جهة الغرب والجنوب، ويقال له غور اليمن ، وتهامة واسعة من جنوب اليمن ما بين الشرق والغرب ، ومن غربي اليمن ما بين الجنوب والشمال على مسافة شهر أو يزيد .
فيدخل في اسم تهامة نواحي عدن وأبين ولحج وما إلى ذلك من البلاد الواقعة جنوب اليمن . انظر مجموع بلدان اليمن وقبائلها (1/156) للحجري اليماني.
([41]) ـ المغارب : بلد من ناحية صَعْفَان من بلاد حراز وأعمالها . الحجري (2/715).
[تفصيل الوقعة]
لأنه لما صار إلى ظاهر البَوْن في تلك الأجناد الطويلة العريضة تلقته جنود النَّاصِر -عليه السلام- من أنصار الحق وأكثرهم هَمْدَان، وقائدهم إبراهيم بن المحسن العلوي العباسي([42])، وسائر الأمراء راجعون إلى أمره، فالتقوا في موضع يعرف بنغاش في ظاهِر لغابَه، وكان عدة المحقين تقرب من أربعة آلاف، فأمَّا الظالمون فلم ينحصر عددهم، فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً لم ير قبله مثله، وقال رجل من قواد هَمْدَان([43]) لأصحابه: (يا معشر هَمْدَان أنتم أنصار الحق، وأجناد الأئمة، وعلى أيديكم تقع فتوح المحقين، فوالله لإن لم أنظر إلى هذه المضارب ـ وكانت مضارب الظالمين قبالهم ـ خرقاً في أيديكم من آخر نهاري هذا ما العيش بعيش، ولا الحياة بحياة، فكونوا عند ظني)، فأعادوا عليه قولاً جميلاً وأثنى عليهم وقال: (فإني لا أزال أتقدم فلا تأخروا عني وأنا ألزمكم عهد الله من رآني صريعاً لا وقف عليَّ، ولا أعلم أحداً من المؤمنين بمصرعي حتى تكون أيديكم العليا)، فوفى -رحمة الله عليه- بما قال وصرع، ووفوا بما ألزمهم من التقدم، ووفى الله -سبحانه وتعالى- بما وعدهم به من النصر في قوله: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ(173)}[الصافات] ، فقتلوهم بإذن الله، وقتل منهم خلق كثير لم ينحصر عددهم ؛ إلاَّ أن بعض من حضر تلك الوقعة من كبار المؤمنين لا أدري أحمد بن محمد السَّوداني الصَّايدي أو غيره، إلتبس عليَّ إسمه، قال: (وقَّفْتُ فرسي في بعض تلك الأماكن في حال تلك الحُطَمة فشهدت على شعاب تجري دماً، ورأيت ظبياً مقتولاً، قال: وأخبرني بعض أصحابنا أنه رأى ظبياً مقتولاً أو ظبيين في مكان آخر).
_________________
([42]) ـ إبراهيم بن المحسن بن الحسين بن علي بن عبدالله بن الحسن بن عبدالله بن العباس بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، كان شجاعاً مقداماً له أخبار وملاحم مع القرامطة مع الناصر أحمد بن الهادي -عَلَيْه السَّلام-، وكان صاحب رايته، ولاه الإمام الناصر كثيراً من المناطق مثل المشرق والجوف الأعلى وغيرها، ثم ولي له أيضاً ريدة والبون وكان من خيار أنصار الإمام الناصر، وممن يثق به ومن خواصه.
وكان من أمراء الناصر -عَلَيْه السَّلام- أيضاً:
أحمد بن محمد بن الضحاك بن العباس الهمداني، قال في مطلع البدور: العلامة الخطير، الأمير الشهير، زعيم الجنود الناصرية، حتف الطائفة القرمطية، ثقة أمير المؤمنين...إلى قوله: كان من فصحاء الناصر وأهل الثقة عنده والزعامة، وجودة الرأي وصدق المودة، ومن عظماء الأقدار، انتهى، ولم يذكر وفاته.
وكان منهم أيضاً: عبدالله بن عمر الهمداني رحمه الله رئيس العصابة، وسهم الإصابة ، ليث العرين، وحتف القرين، صاحب المناقب والمقانب، الأسد الباسل مؤلف سيرة الناصر للحق أحمد بن الهادي، كان عالماً عاملاً مقداماً في كل فضيلة مجرباً، يقود العساكر، له الوقائع الغر التي تشهد بوفائه وشجاعته وإقدامه ونصره لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وكان عبد الحميد القرمطي يتجرم منه كثيراً.
وكان منهم أيضاً: عبدالله بن محمد السعدي كان من أفاضل أصحاب الإمام الهادي -عَلَيْه السَّلام- وأخيارهم وذوي السابقة والمساعدة، وأهل البصائر، وهو من بني سعد بن بكر، وكان له المنزلة الرفيعة عند المرتضى محمد بن الهادي ، وكان أحد قواد العساكر الناصرية يوم نغاش ، وأبلى بلاء حسناً، وكان من أهل السن العالية، وجرح في ذلك اليوم جراحة مثخنة، وكان يقول لأصحابه اثبتوا وإذا مت فهذا محل قبري.
([43]) ـ في الحدائق الوردية : هو شعيب بن محمد السبيعي الأرحبي.
ونجى عبدالحميد هائماً وأولاد النجار كذلك على أفراسهم، وأتى الناصِر -عَلَيْه السَّلام- فاستولى على المغَارِب جملة سهولها وجبالها، ورحضها من دنس شركهم، واستخفافهم بالشريعة إلى يومنا هذا، وظهر أمر الله وهم كارهون، وكان السبب الموجب لتعطيل الشرائع، وجحدهم بالصَّانع؛ إنكارهم لفضل العترة الطاهرة، واستغناءهم بأنفسهم عنهم، وبعلومهم بزعمهم عن علومهم، فلحقهم من أمر الله ما لحقهم من خسارة الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، والحظ الغبين.
وذكر ذلك يقول: لا يمتنع في حكمة الله -تعالى- أن يؤيد من عترة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في هذا الوقت رجلاً يطفيء نار الكفر ويخمد جمرة الأشرار، ويرحض بالجهاد بين يديه درن الأوزار، فينقلب المُنكر لفضلهم عارفاً، والنافر عنهم آلفا، فما ذلك عليه بعزيز، وكيف لا يكون والنبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول، وهو الصادق فيما قال : ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)) ، فنسأل الله بلوغ أسباب الخير، وحسم مواد الشر، والصلاة والسلام على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
[بيان كثرة وقائع الإمام الهادي إلى الحق(ع)]
[30]
وَكَمْ ليحيى ذي الأيادِي السابِقهْ .... مِنْ حَمْلَةٍ نحوَ الأعادي صَادِقهْ
كأنها فَوقَ الطغاةِ صَاعقهْ .... مَشْفُوعَةٍ برجفةٍ وبارقهْ
يحيى ها هنا هو يحيى بن الحسين أمير المؤمنين الهادي إلى الحق المبين، وقد تقدم الكلام في شيءٍ من أمره في مسألة الإحتجاج بقوله في مفاضلة الله بين عباده وتفضيله لمن شاء من خلقه، وإن كانت فضائله -عَلَيْه السَّلام- مشهورة ، وأيامه مذكورة .
(والحملة الصادقة) هي التي لا يرجع صاحبها من دون العدو بل تَصِلُهُ وتنكى([44]) فيه وكانت تلك عادته -عَلَيْه السَّلام-، وقد كان يُعَدُّ لألف إنسان.
__________________
([44]) ـ نكى في العدو: قتل فيهم وجرح، تمت صحاح.
لأن في الحديث أن القرامطة -لعنهم الله- لما اشتدت شوكتهم، ووفرت جماعتهم، وكثرت عدتهم، وتجهز -عَلَيْه السَّلام- لقتالهم رأى من أصحابه ميل الإنكسار لقلة عددهم وكثرت عدوهم، وكانت عدة أصحابه في ذلك الوقت ألف مقاتل بين فارس وراجل، فقال: أتجبنون عن لقاء عدوكم وأنتم ألفا رجل !؟
فقالوا: إنما نحن ألف واحد.
فقال: أنتم ألف وأنا أقوم مقام ألف وأكفي كفايتهم، فعلموا صدق مقاله، لما علموا من حميد فعاله، وصدق قتاله، واشتدت قلوبهم، وانبسطت وجوههم، وأنسوا من وحشتهم، لما نبههم على أمر كانوا في حكم الغافلين عنه، فقال له أبو العشائر عند ذلك: يا ابن رسول الله ما في الفرسان أشجع منك، ولا في الرجالة أشجع مني، فانتخب ثلاثمائة من الرُّجَّلِ والفرسان وبيت بنا القوم، فاستصوب رأيه وفعل ذلك فقتلهم قتلة هائلة، وهزمهم هزيمة مجلية.
وكذلك فإن العساكر لما توالت عليه بريدة وهو في قلة من أصحابه، فلما جاؤهم من كل جانب وظنوا أنهم قد أحيط بهم، إنهزمت رجالته -عَلَيْه السَّلام- الجبل، وخيله القاع نحو النقيل، فبقي وحدهُ في عدة يسيرة من خاصة أصحابه، فحملوا من ناحية، وحمل من ناحية غير مستوحش ولا منكسر ؛ بل تلقى تلك الجموع بنفسه، وعمدتُه يقينُه، فما قام له فارس إلاَّ صرعه، ولا صمد بكتيبة إلاَّ كشفها وبددها، وأركب آخر ذلك الجمع أوله، وكان قتاله في ذلك اليوم بسيف جده علي بن أبي طالب، فلما رأى أصحابه هزيمة تلك الجنود وكانوا قد أيسوا منه -عَلَيْه السَّلام- تعاطفوا فأتوا وهو على أحسن حال فأكبوا عليه تقبيلاً وإستحلالاً ، فحللهم ولحق بهم القوم، فما زال السيف فيهم إلى قرية الغَيل([45]) وكان فيها عسكرهم فتحصن فيها باقيهم ورجع -عَلَيْه السَّلام- موفوراً، فمما روي من قوله في ذلك اليوم قوله -عَلَيْه السَّلام-:
_____________
([45]) ـ الغيل : قرية في حاشد تعرف بغيل مغدِف. مجموع بلدان اليمن (2/627) .
الله يشهد لي وكل مثقّفٍ .... بالصبر والإبلاء والإقدامِ
حقاً ويشهد ذو الفقار بأنني .... أرويت حديه نجيع طغامِ([46])
علاًّ ونهلاَّ في المواقف كلها .... طلباً بثأر الدين والإسلامِ([47])
حتى تذكر ذو الفقار مواقفاً .... من ذي الأيادي السيد القمقامِ([48])
جدّي علي ذي الفضائل والنهى .... سيف الإله وكاسر الأصنامِ
والأمر فيه -عَلَيْه السَّلام- ظاهر جداً، وكان معظم حروبه مع آل يَعْفُر وآل طَريف، ومع بني الحارث بن كعب.
عدنا إلى تفسير الألفاظ:
(الصاعقة): صوت عظيم يخلقه الله -سبحانه وتعالى- وربما أهلك به من شاء من خلقه كما قال سبحانه: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ}[الرعد:13] .
و (الرجفة): هي حركة الأرض.
و (البارقة) معروفة: وهي نار يوجدها الله -تعالى- في السحاب للتخويف والإعتبار كما قال تعالى: {يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا}[الرعد:12] ، معناه: لتخافوا عقابه، وتطمعوا في رحمته وثوابه، فهذه أمور هائلة من أمر الله -تعالى- فإذا اجتمعت كان الأمر فيها أعظم، والرَّوع منها أشد، فمثل حمله -عَلَيْه السَّلام- على أعداء الله بمجموع هؤلاء لعظم موقعها في القلوب ، وشدة نكايتها عند الوقوع، وكذلك كان الأمر في شدته -عَلَيْه السَّلام-.
_______________
([46]) ـ الطغام: أوغاد الناس الجمع فيه والواحد سواء، تمت مختار.
([47]) ـ العل: الشربة الثانية ونهلاً الشربة الأولى، والمراد الضربة الثانية بعد الأولى.
([48]) - القَمْقام ويضم : السيد والآمر العظيم . تمت ق.
[بحث يتطلب التدبر والإستماع في من يدَّعي ماليس له]
[31]
أَقُولُ قَوْلاً فافهَمُوا تَأوِيلَهْ .... واستَمِعُوا هُدِيتُمُ دليلهْ
واتبِعُوا لترشَدُوا سَبِيلهْ .... فما طَريقُ الحقِّ بالمجهُولهْ
هذا قول أراد به الإصغاء لما بعده، والنظر في دليله، وإتباعه بعد صحة الدليل وظهوره.
و (السبيل): هي الطريق، وفيه تقديم وتأخير وهو جائز، ومثله في القرآن موجود، معناه: إتبعوا سبيله لترشدوا.
و(الطريق المجهول): هو الذي لا أعلام عليه، وهي طريق الباطل ؛ لأن طريق الحق قد نصب الله -سبحانه- ورسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- والعترة الطاهرة -سلام الله عليهم- عليها الأعلام من الأدلة والبراهين.
[32]
ما قولكمْ في مُؤمِنٍ قوّامِ .... مُوحِدٍ مُجتهدٍ صوَّامِ
حِبرٍ بكلِّ غامضٍ علاَّمِ .... وذكرُهُ قد شاعَ في الإسلامِ
هذا إلزام لازم لمن قال لا فضل إلاَّ بعمل، قال: فما تقول في عامل أكمل كل عمل، وفهم كل علم، وشاع ذكره لأحواله هذه في الإسلام، يريد في بلاد الإسلام.
[33]
لم يبقَ فنٌّ مِنْ فُنُونِ العلمِ .... إلاَّ وقد أضحى لهُ ذا فَهْمِ
وهو إلى الدِيْنِ الحنيفِ ينْمِي .... مُحَكَّمُ الرأي صَحِيحُ الجسمِ
معنى هذا البيت قريب من معنى الأول ؛ لأنه فصَّل تلك الجملة المتقدمة، وهو يريد بالجميع: أنه قد أحرز خصال الكمال التي تعتبر في الأئمة -عليهم السلام- في باب العلم، والعمل، وجودة الرأي، وصحة الجسم، ولم يبق إلاَّ أمر واحد وهو المنصب، فإن أوجبوا إعتباره أقرٌّوا بالفضل ضرورة، وإن لم يوجبوا إعتباره لحقوا بالخوارج وكان الكلام على الجميع واحداً، وظهر أن نسبتهم إلى أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- غير مستقيمة، وأنها إنما وضعت للتستر من الناس وتلبيس الحال، وهذا لا يغبى على عاقل منصف.
[34]
ومالهُ أصْلٌ إلى آلِ الحسنْ .... ولا إلى آلِ الحسينِ المؤتمنْ
بَلْ هُو مِنْ أرفع بيتٍ في اليمنْ .... قَدِ استوى السرُّ لديهِ والعلنْ
يقول: هو من أفضل بيت من قَحطَان ؛ لأن لفظ اليمن إذا أطلق أفاد أبناء قحطان في العُرف وسموا بإسم بلادهم ؛ لأن إسمها اليمن، يقول مع ذلك تأكيداً للبيان لهم: إن هذا العامل العالم الذي تقدم ذكره من أرفع بيت في أبناء قَحطَان، وقَحطَان أحد قبيلتي العرب المعظمين على سائر أجناس الناس عند من كان له معرفة بالعلوم وتحصيل في الآثار ، والقبيل الثاني نِزَار ، وهذان القبيلان كنفا الدنيا شرفاً ، وعدلاها رجاحة ، فلم يبق على هذا القول، لمن قدمنا ذكره، شيءٌ من خصال الكمال إلاَّ ولادة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ثم قال ظاهره وباطنه سواء في إخلاص الطاعة لله سبحانه وتعالى.
[35]
ثم انبرى يَدعو إلى الإمامهْ .... لنفسهِ الوَاجِبَةِ القوَّامَهْ
ثَمَّتَ أجرى بالقضا أقْلاَمَهْ .... وأنفذت أسيافهُ أحكامَهْ
يقول: لما كملت فيه هذه الخصال، التي تقدم ذكرها، إدعى الإمامة لنفسه، وشهر سيفه، وأنفذ به أحكامه، وفعل ما يفعله الأئمة من أهل بيت النبوءة -عَلَيْهم السَّلام-.
[36]
وقَطَعَ السارقَ والمحُاربا .... وسلَّ للعاصينَ سيفاً قاضِبَا
وقادَ نحو ضِدِّهِ المقانِبَا .... وبثَّ في أرضِ العِدَا الكتائبَا
هذا تأكيد لما تقدم من السؤال والإلزام، وتفصيل مجمله لينكشف الأمر فيه، فمعناه يقول: إن هذا، المقدم الذكر، أقام الحدود، وقطع (السارق والمحارب)، وشهر على عصاته (السيف القاضب) ـ أي القاطع ـ، (وقاد المقانب): وهي العساكر الكبار التي تقرب من الدوسر، ولا وجه لبسط الكلام في اللغة ها هنا، وبث السرايا في أرض أعاديه، وألزم جنده غزو معاديه، هذا موضع السؤال الذي يلحق المنصف فيه بصنف أهل الهدى، والمكابر بصنف أهل الضَّلال.
[37]
ما حُكْمُهُ عِندَ نُفَاةِ الفضْلِ .... لما تناءا أصْلُهُ عن([49]) أصلِي
ولم يكنْ مِنْ مَعشرِي وأهلِي .... أهلِ الكِسَا مَوضِعِ عِلْمِ الرُّسْلِ؟
هذا موضع السؤال والإلزام.
________________
([49])ـ في (ن): من .
فإن قالوا: هو مصيب فيما فعل، مطيع لله -عز وجل-، وأعماله كلها صحيحة، لحقوا بالخوارج عند من كان أمرُهُمْ عنده ملتبساً، وإلاَّ فلسنا نشك أن من أنكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- خارجي، وخرجوا ظاهراً من المذهب الذي انتسبوا إليه، وادعوا أنهم عليه، وكنا نحتج عليهم بالحجة على أولئك.
وإن قالوا: هو مخط فيما فعل، عاصٍ لله -عز وجل-؛ فقد أصابوا فيما قالوا وخرجوا من المذهب الفاسد في أنه لا فضل إلاَّ بعمل، وعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وأن الحكمة بيده يؤتيها من يشاء، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] .
فهذان أمران لا بد من القول بأحدهما، أهونهما ترك المذهب الذي لا دليل عليه، والرجوع إلى الحق الذي لا شك فيه، وترك الكبر الذي هو أصل المعاصي، والإعجاب بالعمل الذي هو رأس الفتنة، والرضى بحكم من لا يسع سخط شيء من حكمه محبوباً كان أو مكروهاً، ومعنى البيت ظاهر.
(نفاة الفضل): هم الذين يعرفون بالعداوة للعترة الطاهرة.
(ومعشره وأهله) آل محمد -صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين- وهم آل الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام-، وقد تقدم الكلام في أمر الكساء وما خصَّهم الله -تعالى- في أمره به من الفضل العظيم والبركة الشريفة.
وقوله: (موضع علمِ الرسلِ): لما روينا عن والدنا علي ابن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: ((إعلموا أن العلم الذي أنزله الله -تعالى- على الأنبياء من قبلكم في عترة نبيئكم فأين يتاه بكم عن علم تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة هؤلاء مثلها فيكم)) ، في خبر يطول يأتي فيما بعد إنشاء الله تعالى.
ونذكر([50]) هذا ليعلم السامع أنَّا ما ذكرنا فيهم -سلام الله عليهم- لفظة إلاَّ لأثر من سنة أو كتاب، أو دليل عقلي، أو إجماع جلي، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] ، {وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(112)} [الأنبياء] ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)} [الشعراء].
ثم بين ما عند جدوده -عَلَيْه السَّلام- الذين لا يجوز خلافهم لأحد يريد البقاء على الإسلام، فعقب ذلك بحكمه عندهم -عَلَيْهم السَّلام-.
[ذكر الذي عند جدوده الأئمة (ع) في هذا المدعي ما ليس له]
[38]
أمَّا الذي عِنْدَ جُدُودِي فِيْهِ .... فيَنْزَعُونَ لِسْنَهُ مِنْ فِيهِ
ويُؤْتِمُونَ جَهْرَةً بَنِيْهِ .... إذْ صارَ حقَّ الغيرِ تَدَّعِيهِ([51])
لما فرغ من الإلزام المتقدم المعرض بجواب المخالف، إمَّا بالرجوع إلى الحق، أو التمادي في الباطل، ذكر الذي عند أجداده -عَلَيْه السَّلام- ؛ لأنهم قدوة أهل الإسلام، وسادة الأنام، وصفوة الله -تعالى- من الخاص والعام، وسفينة النجا، وأقمار الدجى، وغاية الأمل بعد الله -تعالى- والرجا، وهم الذابون عن الدين، والمجاهدون للمعادين والمعاندين، فمن إدعى الإمامة لنفسه من غيرهم فقد إعتدى، وفارق أهل الهدى، وحل لقائم آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قتاله وقتله،
____________________
([50]) - نخ (ن): وذكرنا.
([51]) ـ في (م، ن): يدعيه.
ومن حل قتله جازت المثلة به إذا رأى الإمام ذلك صلاحاً، كما فعل الهادي -عليه السلام- ذلك في قتلى بني الحارث بن كعب إذ قتلهم في مدينة الهِجَر من نَجرَان، وعلقهم بعراقيبهم في الأشجار، وفعل ذلك إقتداءً بالنبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ؛ لأنه لما ظفر بالعُرَنِيين([52]) الذين أخذوا إبل الصدقة وقتلوا رعاتها ، سمل أعيانهم وتركهم في الحَرة حتى ماتوا،والمثلة التي نهى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- عنها هي التمرد الذي لا يحل، فأمَّا ما فعل لأمر يعود على الدين بالتقوية فهو جائز فيما يرى، وقد عفا النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- عن قريش وعن المثلة بهم إستعطافاً لقلوبهم، وهو أعلم بالمصالح في الدين.
و (اللسن) واللسان واحد كما يعلم في الدهن والدهان.
وقوله: (إذ صار حق الغير): يعني به الإمامة ؛ لأن الله -تعالى- جعلها لورثة الكتاب من عترة نبيئه -صلوات الله عليهم-، بما قدمنا من الأدلة في مسألة الإمامة من الجزء الأول من كتابنا هذا في مسألة أن الإمامة مقصورة عليهم.
__________________
([52]) ـ أخرج الأمير الحسين بن بدر الدين في الشفاء 3/ 361، قال: خبر وروي أن أناساً من عُكلٍ وعرينة قدموا المدينة على النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وتكلموا بالإسلام فقالوا: يانبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف فاستوخمنا المدينة، فأمر لهم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا في ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- واستاقوا الذود، فبلغ النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسملوا أعينهم وقطعوا أيديهم فتركهم في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم، انتهى.
والعرنيين منسوبون إلى حي من العرب يقال له عرينة بضم العين غير معجمة، وفتح الراء واشتق لهم هذا الإسم من العرنة بالعين المكسورة وسكون الراء وفتح النون وهو الرجل الخبيث الذي لا يطاق.
وأخرجه أيضاً البخاري في الحدود (12/111) رقم (6802) ، ومسلم في القسامة (3/1296) رقم (9/1617)، والطبراني في الأوسط (4/120) رقم (5418).
[حكم أعماله الصالحة التي تقدمت]
[39]
وأحبَطَ الأعمالَ تلكَ الصالحهْ .... بهذهِ الدَّعوى الشَّنَاعِ الفاضحهْ
وهي لأَرْبَابِ العقولِ واضحهْ .... بالحججِ الغُرِّ الكبارِ اللآئحهْ
يقول: من تقدمت صفته بأفعال الخير من العلم والعمل وسائر الخصال التي ذكرنا ولم يكن من أهل بيت النبوءة - عليهم السلام- ثم ادعا الإمامة لنفسه، حبطت أعماله لكونه من غير نصاب الإمامة بدعواه هذه الفاضحة، وخروجه على أئمة الحق ، من هداة الخلق، ولا أفضح فيما نعلمه من دعوى الإنسان ما ليس له، وذلك واضح لأهل العقول إذا نظروا في الدليل.
[إشارة إلى أن الصادّ عن العترة الطاهرة لا يضر إلا نفسه]
[40]
إن لم يكونوا في الهدى حُيَارَى .... واستَعْمَلوا العقولَ والأفكارا
ولم يلوُّوا رؤسهُمْ فِرَارَا .... ويَقْرِنُوا الياقوتَ والأحجارا
هذا قولٌ عماده النصفة، ومن تدبره علم إختصاصه بهذه الصفة ؛ لأن من لم يتحير في الهدى، واستعمل فكره في الإحتراز من أسباب الردى، ولم يلو رأسه حين يدعى إلى هداته، وسفن نجاته، كما روي في عبدالله بن أُبي بن سلول -لعنه الله-، وكان من كبار الأوس وأهل الرئاسة فيهم، وكان رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إذا فرغ من الخطبة يوم الجمعة قام عبدالله بن أُبي بن سلول فقال: (يا معشر الأوس والخزرج قد خصصتم بما لم يخص به أحد من هجرة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إليكم، ونزوله بين أظهركم ، فتابعوه وامنعوه وقاتلوا بين يديه من قاتله من الناس،
فلما كان من يوم أحد خرج النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في لقاء المشركين، فلما صار عدو الله في شق النخيل رد قريباً من ثلث الناس وكانوا ألفاً، فنهاهم عبدالله بن عمرو، وأبو جابر([53]) بن عبدالله صاحب حديث الشاة فلم ينتهوا ، فقال: يغني الله عنكم، فلما رجع النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وخطب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قام مقامه الذي كان يقومه، فقام إليه جماعة من الأنصار وأقعدوه وأزعجوه [وقالوا له([54])]، وما تحريضك في نصر رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وقد خذلته وخذَّلت عنه الناس فخرج غاضباً من المسجد، فلقيه جماعة من قومه فسألوه فقص عليهم القصص، وقال: لما قمت لتأييد أمر صاحبهم، أقعدوني كأني قلت بجراً -هذه الرواية، ولم يقل هجراً- قال أصحابه: فارجع ليستغفر لك رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - وتتوب إلى الله فلوى رأسه مستكبراً ، وصد عن الهدى متجبراً، فما ضر إلاَّ نفسه) فأشار إلى أن الصادَّ عن العترة الطاهرة لا يضر إلاَّ نفسه، وإن لوى رأسه متكبراً مستغنياً بنفسه، كما فعل المخذول، عبدالله بن أُبي بن سلول، خسر سعيه وأغناه الله عنه.
______________
([53]) - في الأصل أبو خالد وهو غير موافق ، ولعله غلط من النساخ وأن الصحيح ما أثبتناه ؛ لأن المشهور أن صاحب حديث الشاة هو جابر بن عبدالله الأنصاري ، والقصة في أمالي الإمام أبي طالب ص(33) ، وأبوه : هو عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري ، وذكر الطبري في تاريخه (3/12) أنه هو الذي نهى عبدالله بن أُبيّ عن الرجوع. استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد . فليتأمل.
([54])- ما بين القوسين زيادة ساقطة في الأصل.
ثم عقب ذلك ببرهان واضح وهو أن من قرن الياقوت بالأحجار ، وساوى بينهما في جميع الأحوال ، لم يتمكن من الفرق الجلي بين العترة الطاهرة وغيرها من الناس، وهذا يتمكن منه من لم يعم العجب وعبادته بصره ، واستخدم عقله وفكره، وأدام في الأدلة نظره، ولم يلو رأسه عن هداته، الذين أمره الله -تعالى- بسؤالهم، ونهاه عن منابذتهم وجدالهم، فقال لا شريك له: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83] ، وهذه الآية في رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وفي أهل بيته من بعده لا يعلم لها وجهاً غير ذلك يكشف عنه الدليل([55]).
ويريد في قوله: (ويقرنوا الياقوت والأحجار): يقول: من لم يبلغ به الجهل إلى أن الياقوت والحجر في منزلة واحدة، وأن الله -تعالى- لم يفضل أحدهما على الآخر، فهو متمكن من الإستدلال والرجوع إلى الحق، والإعتراف بفضل آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ومن بلغ به عمى الجهل أو تعامي الفتنة إلى أنهما سواء ، فذلك لا يرجع إلى حق أصلاً، ولا يكون لهداية الله -تعالى- وتوفيقه أهلاً.
_________________
([55]) ـ ذكر الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل لقواعد التفضيل (1/148ـ 149) في الآيات النازلة في أهل البيت - عليهم السلام - في بيان معنى قوله تعالى : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، عن علي - عليه السلام - قال : قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- : ((شركائي الذين قرنهم الله بنفسه وبي أنزل فيهم : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59]، فإن خفتم تنازعاً في أمرنا ؛ فأرجعوه إلى الله والرسول وأولي الأمر، قلت : يا نبي الله ، من هم ؟ قال : أنت أولهم)) .
ورواه أيضاً عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام - أنه سئل عنها ؛ فأجاب أنها نزلت في علي بن أبي طالب - عليه السلام - وأهل بيته .
وذكره الإمام الناصر أبو الفتح الديلمي - عليه السلام - في البرهان في تفسير القرآن في الجزء الأول (ص89) في تفسير هذه الآية في معنى أولي الأمر ، قال : يعني الأئمة من ولده القائمين مقامه ، الحاملين ما حمله من أعباء الأمور، وسد الثغور ...إلخ.
[41]
وتَجْعَلُوا العَبْدَ شَبِيهاً بالنبي .... في عَقْلِهِ وجِسْمِهِ والمنْصِبِ
ما الليْثُ عِنْدِيْ فاعْلَمُوا كالثَعْلَبِ .... وإنْ غَدَا كِلاهُمَا ذا مخْلَبِ
هذا شبيه بالأول يقول: من لم تبلغ به العماية عن طرق الهداية إلى أن لا فرق بين العبد المملوك الذي لا يقدر على شيءٍ وبين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- المالك الذي ملكه الحكيم سبحانه كل شيءٍ، ولم يفرق بينه وبين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في جسمه المعتدل المخصوص بالكمال، وعقله الزائد على عقول الرجال، كما روى لي من أثق به عن والدي -رحمه الله- بإسناده رفعه إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((أوتيت من العقل تسعة وتسعين جزءاً، وأوتي الناس جزءاً واحداً، فأمرني الله بمشاركتهم فيه، فقال عز من قائل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] ))، ومنصبه الذي طال المناصب، واستحقر لؤي بن غالب ، وكان من هامات العرب بمنزلة السَّنَام من الغارِب، فمن ساوى بينه وبين العبد الزنجي الذي جعله الشرع الشريف أرذل أجناس العبيد ، كما يعلم فيمن تزوج إمرأةً على عبدٍ من أرذل طبقات العبيد أوجبنا عليه عبداً زنجياً، ولو تزوج على عبد من أعلى أجناس العبيد أوجبنا رومياً، وهذا ظاهر، فالمساوي بين من ذكرنا وبين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا يتمكن من الرجوع إلى الحق، واتباع ما عليه أشرف الخلق ؛ لأن أكثر ما لزمه صيرورته بين أمرين أهونهما ترك وجوب المساواة على من بيده الإنشاء ، وله فعل ما يشاء ، وذلك هو الواجب فلا وجه للإمتناع منه.
ثم عقب ذلك بقوله: (ما الليث عندي فاعلموا كالثعلب): وتحسب أن يكون كذلك عند جميع العقلاء إلى آخر القافية ؛ لأن من هذه الفرق الجاحدة فضل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وفضل عترته من بعده وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، من سمعناه يقول بلا حشمة لوهن الإسلام ولا حياء ، إن العبد والنبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- عند ولادتهما في الفضل سواء، ونسي عدو الله أن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لما ولد خرَّ ساجداً([56])، واحتفت به الملائكة -عليهم السلام-، وأشرقت الآفاق، وكثرت النجوم، ورجمت الشياطين، ومنعوا من الإستماع، وغسّلته الملائكة -عليهم السلام- بماء من ماء الجنَّة، وظهرت فيه دلائل الإرهاص للنبوة، ولا أحداً من الأحرار في العرب والعجم فُعِل له مثل ذلك بل في جميع العباد، وأكثر ظنّي أن هذه الأمور التي خصّ بها -عليه السلام- عند ولادته عند منكري فضله -عليه السلام- وفضل عترته -قدس الله أرواحهم- من اليهود وسائر الفرق، منكرةٌ مجهولةٌ ومن جهل شيئاً عابه، وهذا نوع من أنواع الجهالة بحق النبيء -صلى الله عليه وآله-.
______________
([56]) - وثالث عشرها: سأل أيده الله عما روينا من سجود نبينا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يوم مولده، ثم عقله أولاً عبادة وغيرها ، وما الفائدة إن كان غير مكلف ، وأحد لا يقول بتكليف في تلك الحال؟
الجواب عن ذلك : أن خواص الفضل لنبينا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كثيرة ، لو شرحناها لطال الشرح ، وهذا من أول خواصه -عليه وعلى آله السلام- ولا مانع من كمال عقله في تلك الحال، لتكون من خواصه ويكون سجوده بإلهام ؛ لأن التعبد بالشرع لا يكون إلا عن وحي ، فيكون زوال العقل عقيب السجود لانتظام الحكمة .
وهذا لا يستبعده من يعلم أن الله يحكم ما يشاء ، ويختار ما يريد ، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، ويكون ذلك القدر عبادة وشكراً ، وحمداً لله سبحانه وذكراً ، فنحمد من وفّقنا بمعرفة حمده وشكره ، واختصنا بجليل إحسانه ، وغمرنا بصافي بره ، وجعل أفضل ذلك لهداية الإيمان ، والتوفيق لاعتماد الدليل والبرهان ، وجعلنا من الذرية المرضية ، والعترة الطاهرة الزكية ، حمداً كثيراً .
فهذا ما اتفق في هذه المسائل على قدر الإمكان وترادف الأشغال ، وضيق المجال، ومن الله نستمد الهداية في البداية والنهاية . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
والنوع الثاني أني سمعت من يقول: لي خمس أصابع وللنبي خمس أصابع، فبم فضله الله -تعالى- علينا؟ وبنى على هذا القول ما جانسه، ولذلك نبَّه كل عاقل متأمل بأن (الثعلب) لا يساوي (الليث) في قوة قلبه، وشدة بنيته، وما خصه الله -تعالى- به من الهيبة والجرأة ، لا يساوي حالك ـ أيضاً ـ حال النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وإن كان لك ما ذكرت من الأصابع فبين الأمرين بَون بعيد، يعرفه كل ذي عقل رشيد، وهذا وما شاكله وإن كان ممَّا لا يشتغل العلماء بذكره، والتنبيه على إنتهاك سر قائله وستره ، فقد ألجت الضرورة إلى إيراده ؛ لأن جواب مثل هذا الهتير([57]) التبسم والإستخفاف ، وإعمال السياط في الأطراف ، فإن نجع([58]) وإلاَّ رجع إلى قواطع الأسياف.
____________
([57])- الهتير ، هو : الجاهل الأحمق المجادل بالباطل .
([58]) ـ نجع كمنع ، نجع الوعظ والخطاب فيه : دخل فأثر . تمت قاموس.
ثم تأسف على أنصار العترة عليهم السلام ، ورضي الله عن أنصارهم من جميع الأنام، الذين عرفوا فضلهم ، ولم يطلبوا العلل للتخلف عنهم ، بل إستهانوا الموت الأحمر ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فقال:
[ذكر وقعة الطف للحسين بن علي بن أبي طالب(ع)]
[42]
يا لهفَ نَفْسِي إنْ شَفَانيْ لهفُ .... على حُمَاةٍ قَدْ حَواهَا الطَّفُ
ما هَالهمْ عِنْدَ القِتَالِ الزَّحْفُ .... بَلْ شَهَروا أسيافهم([59]) واصْطَفُّوا
(اللَّهف): ما يقع في القلب من حرارة الوجد ، فتأسف على موت أهل البصائر من أنصار هذه العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- الذين أحبوهم لحب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبذلوا مهجهم دونهم لله سبحانه، وذلك فرع أصله الإعتراف بفضلهم ، والمعرفة بحقهم ، فكيف يُطمَع في ثمر فرع قد قُطِعَ أصله؟، وكيف تُرجَى نُصرةُ قوم جحدوا الفضل والنصاب، ووراثة الكتاب ، وقطعوا بين العترة الطاهرة وبين أبيهم محمد -عليه وآله السلام- الأسباب والأنساب ، الذي أخبر وهو الصادق الذي لا يكذب أنها لا تنقطع في موقف العرض والحساب، فيا لها مصيبة في الدين ما أطمها، وحادثة في الإسلام ما أهمها.
________________
([59]) - نخ : سيوفهم.
[ذكر طرف من أمر الإمام الحسين بن علي (ع)]
و(الطفُّ) الذي ذكره: هو المكان الذي قتل فيه أبو عبدالله الحسين بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- وأشياعه وأهل بيته -عَلَيْهم السَّلام-، وهو قريب من فرات الكوفة في بقعة حمراء يقال لها كربلاء، وهو مشهور لعظم الحادثة فيه إلى الآن.
[ذكر تاريخ ولادته وصفته]
وأمه فاطمة بنت رسول الله (-صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وعليها)، ولدته -عَلَيْها السَّلام- بعد ولادة الحسن عليهما السلام في شعبان لخمس خلون منه، من سنة أربع من الهجرة الطاهرة، وعلقت به -عَلَيْها السَّلام- بعد ولادة أخيه الحسن -عَلَيْهما السَّلام- بخمسين يوماً، وكان بين ولادة أخيه وبين العلوق به -عَلَيْه السَّلام- طُهر واحد، وأمر النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بحلق شعره في اليوم السابع، وتصدق بوزنه فضة، وعق عنه كبشاً.
وكان يُشْبه رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من سُرته إلى قدميه، وكان أبيض اللَّون جداً حتى روي أنه كان -عَلَيْه السَّلام- إذا قعد في موضع فيه ظلمة أهتدي إليه لبياض جبينه ونحره، وكان إماماً بالنص من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد تقدّم ذكره في باب الإمامة.
[حاله(ع) بعد وفاة معاوية]
وكان منطوياً على القيام بعد أخيه فلم يتمكن من ذلك في أيام معاوية لعظم سلطانه -لعنه الله- وكثرة أعوانه ، فلمَّا توفي معاوية أمر يزيد بن معاوية([60]) إلى الوليد بن عتبة([61]) ـ وهو والي المدينة من قِبَلِ معاوية، ومروان([62]) كالمظاهر له على الأمر ـ (أن خذ الحسين بن علي بالبيعة أخذاً ليس فيه هوادة) وكذلك العَبَادلَة([63]) في قصص شرحها يطول، فلم يتمكن الحسين بن علي -عَلَيْه السَّلام- من المقام في الدنيا بعد الإمتناع من البيعة، وكانت مطالبتهم له -عَلَيْه السَّلام- بالبيعة ليزيد يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، فخرج إلى مكة ودخلها يوم الجمعة لثلاث خلون من شعبان،
__________________
([60]) ـ يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الرجس الخبيث بايع له الناس بعد موت أبيه معاوية في شهر رجب سنة (60هـ)، وكان قد أخذ معاوية الناس على البيعة طوعاً وكرهاً، وكان يزيد سكيراً خميراً فاسقاً ظالماً يلعب بالقردة، وكانت أيامه تسمى الشؤم؛ لأنه قتل فيها ابن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الحسين بن علي وكفى به شؤماً وشناعة، وكذلك قتل من أولاد المهاجرين والأنصار ستة آلاف منهم ثمانين بدرياً في قتلى الحرة التي أباحها ثلاثة أيام قتل فيها الرجال والولدان واغتصبت النساء ونهبت الأموال، وكم له ـ عليه لعنة الله ـ من أعمال سوء يسود لها وجه التاريخ العربي والإسلامي وتوفي إلى لعنة الله وغضبه ونكاله في صفر سنة (64هـ) بموضع يقال له حوارين ودفن بدمشق.
([61]) ـ الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب الأموي ، أمير من رجالات بني أمية ، ولي المدينة سنة (57هـ) في أيام معاوية ، فلما مات معاوية كتب يزيد إلى الوليد بأن يأخذ له البيعة على الحسين بن علي ، وعبدالله بن الزبير، ثم عزله يزيد عن ولاية المدينة سنة (60هـ) وجعله أحد رجال مشورته، ثم أعاده سنة (61هـ) وظل والياً عليها إلى أن مات بالطاعون سنة (64هـ) . الأعلام (8/121).
([62]) - مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية الوزغ بن الوزغ الملعون بن الملعون بنص رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من أخبث الناس سيرة، وألأمهم وأفسدهم سريرة، قام بالأمر بعد معاوية بن يزيد بن معاوية سنة أربع وستين توفي بالطاعون وقيل قتلته امرأته سنة خمس وستين.
([63]) ـ العبادلة هم: عبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
ووردت عليه كتب أهل الكوفة يتلو بعضها بعضاً، حتى بلغت عُدة كثيرة وقُبضت له فيها البيعة، فلما كثر ذلك ورأى تعين الفرض عليه خرج من مكة سائراً إلى الكوفة لثمان خلون من ذي الحجَّة الحرام، وكان قد أنفذ على مقدمته من مكة مسلم بن عقيل([64])، فظهر مسلم بالكوفة داعياً إلى الحسين -عَلَيْه السَّلام- في هذا اليوم ، فتفرق الناس عنه بعد إجتماعهم عليه وأسلموه لعدوّه فقتل -رضي الله عنه- بعد قتال شديد وبلاء عظيم، وبعد أن أعطي الأمان، وقتل -عَلَيْه السَّلام- يوم الجمعة عاشر المحرم من سنة إحدى وستين، وقيل قتل يوم الإثنين وذلك عندنا غير سديد ، والقاتل له عمر بن سعد -لعنه الله - عن أمر عبيدالله بن زياد -لعنه الله-، فوصلوا إليه في أجناد كثيرة من أعداء عترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد كان الحسين -عَلَيْه السَّلام- قاطعاً على حدوث ما كان، مستهوناً للموت في إظهار كلمة الحق.
_________________
([64]) ـ مسلم بن عقيل بن أبي طالب: من التابعين من ذوي الرأي والعلم والشجاعة والفضل، بعثه الحسين -عَلَيْه السَّلام- إلى الكوفة لما وردت عليه كتبهم ليأخذ له البيعة فبايعه خلق كثير ثم تخلفوا عنه وغدروا به فأمسك به عبيدالله بن زياد وقتله ثم رمى بجثته من على القصر سنة (60هـ).
[ذكر خروجه(ع) إلى العراق]
لأن في الحديث أنه -صلوات الله عليه- لما أراد الخروج إلى العراق خطب أصحابه فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-. ثم قال: (إن هذه الدنيا قد تنكرت([65])، وأدبر معروفها، فلم يبق إلاَّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى، ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا ينهى عنه ، ليرغب المرء في لقاء ربِّه، فإني لا أرى الموت إلاَّ سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا شقاوة) فقام إليه زهير بن القين العجلي([66]) -رحمه الله تعالى- فقال: (قد سمعت مقالتك هديت، ولو كانت الدنيا باقية وكنّا فيها مخلدين، وكان في الخروج مواساتك ونصرتك لاخترنا الخروج منها معك على الإقامة فيها)، فجزاه الحسين بن علي عليهما السلام خيراً. ثم قال:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى .... إذا ما نوى حقاً وجاهد مُسْلما
وواسى الرجالَ الصالحين بنفسه .... وفارقَ مثبوراً وحارب مُجْرما
فإن عشتُ لم أندمْ وإن متُّ لم أُلَمْ .... كفى بك داءً أن تعيشَ وتُرْغما
فهذا، كما ترى، دلالة على أن الموت كان أحب الأمرين إليه في ذات الله -تعالى- وإن لم يخرج معه -عَلَيْه السَّلام- إلاَّ من كانت نيته صادقة في نصرة آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فلذلك قال:
ما هَالَهُم عِنْدَ القتالِ الزحفُ .... بل شهروا أسيافَهُمْ واصطفُّوا
__________________
([65]) - نخ (ن) : مكرت.
([66]) - زهير بن القين العجلي: كان من أصحاب الإمام الحسين بن علي -عَلَيْه السَّلام-، ومن الشهداء الذين سقطوا شهداء بين يديه رعاية لحرمة الله وحرمة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الذين ضحوا بأنفسهم رخيصة في سبيل الله رحمة الله عليه وعلى إخوانه الذين قتلوا معه.
[بداية المعركة وخطبة الحسين (ع)]
وذلك أن عمر بن سعد([67]) لما وافقهم في تلك العساكر الظالمة الكثيفة، ورتب عساكره مراتبها، وأقام الرايات في مواضعها، وعبَّأ أصحاب الميمنة والميسرة، وقال لأهل القلب إثبتوا، وأحاطوا بالحسين -عَلَيْه السَّلام- من كل جانب حتى جعلوهم في مثل الحلقة ، فعبى -عَلَيْه السَّلام- فئته الصابرة -رحمة الله عليهم- وتقدم أمامها حتى قرب من أصحاب عمر بن سعد فاستنصتهم فلم ينصتوا حتى قال: (ويلكم ما عليكم أن تنصتوا لي ، فاسمعوا قولي ، فإني إنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المؤمنين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلكم عاصٍ لأمري غير مستمع لقولي، فقد انجزلت عطاياكم من الحرام، وملئت بطونكم من الحرام ، فطبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون، ألا تسمعون)، فتلاوم أصحاب عمر بن سعد ؛ فقالوا: (انصتوا له، فأنصتوا). فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-. ثم قال:
_________________
([67]) ـ عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري المدني ، تولى قيادة الجيوش الظالمة في قتل الحسين بن علي ، ولاه يزيد بن معاوية ، وجعل له ملك الري إن قتل الحسين فباع آخرته بدنيا غيره ؛ فلما قتل الحسين لم يف له يزيد ، وانتقم الله منه قبل أن يصل إلى ما تمناه من مُلك الري ، قتله المختار بن عبيد الثقفي حين خرج يتتبع قَتَلَة الحسين ، سنة (66هـ) بالكوفة . الأعلام (5/47) .
(تباً([68]) لكم أيتها الجماعة وترحاً([69])، أحين إستصرختمونا ولهين([70]) متحيرين ، فأصرخناكم موجزين([71]) مستعدين، سللتم علينا سيفاً في رقابنا، وحششتم([72]) علينا نار الفتن جناها عدوكم وعدونا ، فأصبحتم إلباً([73]) على أوليائكم، ويداً عليهم لأعدائكم، لغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، إلاَّ الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طمعتم فيه، من غير حدث كان منا، ولا رأي ثقيل، فهلا لكم الويلات([74]) تجهمتمونا([75]) والسيف لم يشهر، والجأش([76]) طامن، والرأي لم يستخف، ولكن أسرعتم إلينا كطيرة الذباب، وتداعيتم كتداعي الفراش، فقبحاً لكم وترحاً ؛ فإنما أنتم من طواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرفي الكتاب، ومطفي السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيدي عترة الأولياء، وملحقي العهَّار بالنسب، ومؤذي المؤمنين ، وصراخ أئمه المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين، وأنتم ابن حرب وأشياعه
________________
([68]) ـ التبُّ والتَّبَبُ والتباب والتبيب والتتبيب : النقص والخسار ، وتباً له مبالغة . تمت قاموس.
([69]) ـ التَّرَح محركة : الهم ، وككتف : القليل الخير ، وبالفتح : الفقر ، والمترَّح من العيش : الشديد، والمترح كمحسن من لا يزال يسمع ويرى ما لا يعجبه . تمت قاموس.
([70]) ـ الوله محركة : الحزن ، أو ذهاب العقل حزناً ، والحيرة والخوف . تمت قاموس.
([71]) ـ الوَجْزُ: السريع الحركة ، والسريع العطاء ، والخفيف في الكلام والأمر . تمت قاموس.
([72]) ـ حَشَّ النار : أوقدها . تمت قاموس.
([73]) ـ ألب القوم إليه: أتوه من كل جانب، والتألب كثعلب: الغليظ المجتمع من الناس. تمت قاموس.
([74]) ـ الويل : حلول الشر . تمت قاموس.
([75]) ـ تجهمه : استقبله بوجه كريه. تمت قاموس.
([76]) ـ الجأش : رواع القلب إذا اضطرب عند الفزع ، والطامن : الساكن . تمت قاموس.
تعتمدون، وإيانا تخاذلون، أجل والله خَذْلٌ فيكم معروف، سنخت([77]) عليه عروقكم، وتوارثته أصولكم وفروعكم، وثبتت قلوبكم، وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث شيءٍ، سنخاً للناصب، وأكلة للغاصب، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ، وأنتم والله هم ، ألا إن الدعي ابن الدعي([78]) قد ركز بن اثنتين بين القتلة والذلة، وهيهات منَّا أخذ الدنيَّة ؛ أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمَّية، ونفوس أبيَّة، لا توثر مصارع اللئام على مصارع الكرام، ألا قد أعذرت وأنذرت، ألا إني زاحف بهذه الأسرة على قلة العتاد ، وخذلة الأصحاب، ثم أنشأ يقول: "
فإن نَهْزِم فهزامون قُدْمَاً .... وإن نُهْزَم فغير مهزمينا
ألا ثم لا تثبتون بعدها إلاَّ كريث ما يُرْكب الفرس ، حتى تدور بكم الرحى عهداً عهده إليَّ أبي، {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس:71]، {ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ(195)} [الأعراف] ، {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)} [هود] .
اللَّهُمَّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث لهم سنين كسني يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف([79]) يسقيهم كأساً مراً([80])، ولا يدع منهم أحداً إلاَّ قتله بَقَتْلِهِ، وضربه بضربهِ، ينتقم لي ولأوليائي ولأهل بيتي وأشياعي منهم، فإنهم غرونا وكذبونا وخذلونا، وأنت ربُّنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير).
_______________
([77]) - السِّنْخ بالكسر : الأصل ومن السن : منبته . تمت ق.
([78]) ـ هو: عبيدالله بن زياد بن أبيه ، من ولاة الأمويين ، من الجبابرة السفاكين، ولد بالبصرة ، ولاه معاوية خراسان سنة (53هـ) ثم نقله إلى البصرة سنة (55هـ) ثم لما مات معاوية أقره يزيد على إمارته سنة (60هـ) تولى توجيه وتعبئة الجنود الظالمة لقتل الحسين - عليه السلام - ، قتله إبراهيم بن الأشتر في خارز من أرض الموصل لما خرج ابن الأشتر طالباً بثأر الحسين سنة (67هـ) وكان يقال لابن زياد (ابن مرجانة) . الأعلام (4/193).
([79]) ـ هو: الحجاج بن يوسف الثقفي، ولد سنة (40هـ) بالطائف ، ولاه عبد الملك بن مروان مكة والمدينة والطائف والعراق ، وكان سفاكاً سفاحاً ظالماً غشوماً ، له أخبار كثيرة تحكي عن ظلمه وغشمه وقساوته ، توفي بواسط سنة (95هـ) وأجري على قبره الماء فاندرس . الأعلام (2/168).
([80])ـ في (ن) مُرَّة .
ثم قال: (أين عمر بن سعد ؛ ادعوا لي عمر، فدعي له وكان كارهاً لا يحب أن يأتيه، فقال: يا عمر وأنت تقتلني تزعم أن يوليك الدعي ابن الدعي بلاد الري وجرجان، والله لا تتهنأ بذلك أبداً عهداً معهوداً ، فاصنع ما أنت صانع ، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، ولكأني برأسك على قصبة قد نُصب بالكوفة يتراماه الصبيان ويتخذونه عرضاً بينهم)، فاغتاظ عمر بن سعد من كلامه. ثم صرف لوجهه عنه، ونادى بأجناده: (ما تنتظرون به؟ إحملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة)، فزحف عمر بن سعد، وكان تحت الحسين بن علي -عليه السلام- فرس رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- المرتجز، فنادى عمر بن سعد غلامه دريداً قدم رايتك. ثم وضع سهمه في كبد قوسه، ثم رمى وقال: (إشهدوا لي عند الأمير ـ أي عبيدالله بن زياد ـ أني أول من رماه)، -لعن الله المشهد والشاهد والمشهود له من أولئك- ما أجرأهم على الله وأجهلهم بفضل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فرمى أصحابه كلهم بأجمعهم من كل جهة رشقة واحدة فما بقي أحد من أصحاب الحسين -عَلَيْه السَّلام- إلاَّ أصابه من رميهم سهم لكثرتهم وقلّة أصحاب الحسين -عَلَيْه السَّلام- ؛ لأنهم -رحمة الله عليهم- كانوا دون المائة، كما يأتي في البيت الذي يلي هذا، وشرح قتالهم مفصلاً يطول، ولكن جملة الأمر أن أصحابه -صلوات الله عليه- ورحمة الله عليهم وأهل بيته رضي الله عنهم تسابقوا إلى الموت دونه إلى أن بقي فرداً وحده، فلم يخضع ولم يتضعضع ؛ بل صار يقاتل قتال اللَّيث عن عرينه ، من عن شماله ويمينه ، يغتنم الفرصة، ويطيل الحملة، ويقصر الحركة ، فيكافؤهم تارة، ويزحزحوه أخرى ، حتى عجب الناس من أمره. ثم نفق الفرس تحته فكان -عليه السَّلام- أنهد راجل([81])، وأصدق حامل، إلى أن أثخن بجراحةٍ قاتلةٍ من سنان ابن أبي أنس النخعي،
_________________
([81]) ـ نهد كمنع ونصر : لعدوه صمد لهم . تمت قاموس.
وتولى الإجهاز عليه خولي ابن يزيد الأصبحي من حِمْير، وهو الذي حز رأسه، وكان شمر بن ذي الجوشن الضبائي ممن تولى ـ أيضاً ـ قتله، وقتل وله ثمان وخمسون سنة، ودفن بدنه في الموضع الذي يزار فيه قبره من أرض نينوى([82])، ووجد في بدنه ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وأربعون ضربة، ووجد في جبَّةٍ دكناء كانت عليه -عَلَيْه السَّلام- مائة وبضعة عشر خرقاً ما([83]) بين طعنة وضربة ورمية، -صلوات الله عليه- ، ولعن قاتليه وخاذليه ومنكري فضله وجاحدي حقه، وليس إستقصاء أخبارهم - عليهم السلام- لأن ذلك يطول ويخرجنا إلى الإسهاب الذي شرطنا إختصاره في ترجمة الكتاب ، ولكنا نذكر ما تدعو الحاجة إليه في أثنائه من التنبيه على فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وذكر أتباعهم وصفة أشياعهم المخلصين الذين فضلوهم على جميع العالمين ؛ ورأوا أن فوات الأرواح بين أيديهم من جملة أصول الدين -رحمة الله عليهم أجمعين-.
_______________
([82])ـ نينوى -بكسر النون-: موضع بالكوفة. انتهى من هامش الشافي.
([83])ـ في (ن) : من .
---
[حكاية عدد أصحاب الحسين(ع)]
[43]
وَهُمْ على ما جاءنا دونَ المائهْ .... كُهُولُهُم في الملتقى والأصبيهْ
فَجَعْلُوا البِيْضَ الرقاقَ أعْصيهْ .... وصَادَمُوا أهلَ الردى والمعصيهْ
كانت عُدَّتهم -رحمة الله عليهم- من الثمانين إلى التسعين فيهم من أهل بيت النبؤة بضعة عشر من أولاد علي وأولاد عقيل وأولاد جعفر -رضوان الله عنهم أجمعين-.
[44]
لو أنكروا فضلَ أبي عبداللهْ .... ما وَهَبُوا تلكَ النفوسَ للهْ
وطَلَبُوا لكلِّ أمرٍ عِلَّهْ .... واتَّخَذُوا للشُّبَهِ المُضِلهْ
[تألم الإمام عليه السلام من أهل عصره]
هذا ظاهر لكل عاقل منصف ؛ لأنهم لو سلكوا مسلك طريقة الناجمة من أهل عصرنا هذا الذي أنكروا فضل العترة الطاهرة، واظهروا للناس أنهم شيعتهم وعلى مذهبهم بزعمهم ، كأنهم لم يعلموا أن إجماعهم -عليهم السلام- منعقد على أنهم أفضل الخلق، وأن الواجب على جميع أهل الملل الرجوع إليهم، والإنقياد لأمرهم، وقد صرح بذلك المرتضى لدين الله محمد بن يحيى في رسائله -صلوات الله عليه- ولا إشكال فيه فيحتاج إلى ذكر مواضعه، فلو كان أصحاب الحسين بن علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- وكان يلقب بأبي عبدالله، على مثل رأي من أنكر فضل أهل البيت -عليهم السَّلام- في زماننا هذا ما صبروا معه -عليه السلام- للقتلة الكريهة، والمثلة الشنيعة، وبهذا بلغنا عن قوم منهم أنهم متوجعون لقوم من المؤمنين أصيبوا معنا في عجيب([1]) -رحمة الله عليهم- ويتألمون لهم من الشهادة، ويتأسفون على الحياة التي هي جل همتهم، ولها يعملون أنواع الحيل في المآكل والمشارب ، وما حكى الله - تعالى- الحرص على الحياة إلاَّ عن اليهود كما حكى الله عنهم أنهم أحرص الناس على الحياة، وأن أحدهم يود لو يعمر ألف سنةٍ، وأمَّا المؤمنون فالموت عندهم غير كريه وبذلك وصفهم خالد بن الوليد في كتابه إلى الفرس، وهو طويل، قال في آخره: (فإن لم تقبلوا شيئاً من ذلك فوالله لآتينكم بقوم يحبُّون الموت، كما تحبون الحياة والسلم)، وقد علم من حضر ذلك المقام أن الموت كان إلى أولئك الصَّالحين -رحمهم الله- أحبُّ من الحياة، وأنهم سألونا أن نسأل الله لهم أن يرزقهم الشهادة، واستخرنا الله لنا ولهم، فكان ما كان، وكذلك من حضرنا من جميع الشرق والغرب يعلم علماً يقيناً من حالنا، أن الموت هناك كان من إرادتنا وأنا ما تأخرنا وبيننا وبين أعداء الله -عز وجل- عربي ينطق بالشهادة فوقع تأخرنا لَمّا انتهى الأمر إلى هذه الحال، رعاية للإسلام ، وحدباً على الدين، ورجاء من الله أن يسد بنا ما انثلم، ويجبر
________________
([1]) - وقعة للإمام المنصور بالله عليه السلام مع الغز (الأيوبيين) من أشهر وقائعه وأعظمها.
بنا([2]) ما انهاض، ويجعلنا من النقم الكبار على أعدائه، والمنن الجسام على أوليائه، واقتدينا في ذلك بجدنا الهادي -عَلَيْه السَّلام- في يوم أتوه وما يشاكله من الأيام، فنسأل الله -تعالى- التوفيق.
فهذه حال أتباع العترة وأحبائهم([3])، ولقد تأسف كثير من إخواننا -نسأل الله توفيقهم على فوت مثل ما لحق إخوانهم- وتمنوا أنهم رزقوه، ونعم الرزق على الحقيقة ؛ لأن الشهادة ثمن الجنَّة.
قوله: (وطلبوا لكل أمرٍ علَّهْ) كما فعل كثير من أهل عصرنا هذا الذين أنكروا فضل العترة الطاهرة، وزعموا أنهم أولى بالحق منها حتى أن القائم إذا قام قالوا لا نتبعه لأنه لايرى برأينا، وعكسوا في ذلك الواجب، إذ الواجب عليهم الرجوع إلى رأيه، والإنقياد لأمره، وهذا كما ترى رأي الخوارج ؛ لأنهم قاموا على أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- ؛ لأنه لم يرجع إلى رأيهم، فعلة الخلاف في هذا قديمة، فالواجب على العاقل التيقظُ وتركُ التقليدِ، والمناقشةُ والتفتيشُ عن أصول البدع لتنجو بترك ما هلك به سواك، وتسعد بما شقي به غيرك، فهذه التجارة المفيدة.
فأمَّا الناجمون في عصرنا هذا الذين لا يوجبون طاعة قائم، ولا يعدم فيهم له على إظهار كلمة الحق لائم، فهم فتنة كما حكى الله -تعالى- عن أمثالهم بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(4)}[المنافقون] ، لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر ، إلاَّ إذا درت معايشهم، وسلموا في أمور دنياهم، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ونعوذ بالله من سوء الإختيار، وعمل يوجب الخلود في النار.
_____________________
([2]) - نخ (ن) : لنا.
([3])ـ في (ن): أحبابهم.
[تسليم أصحاب الحسين الفضل لأهل البيت(ع)]
[45]
بَل سَلَّمُوا الفضلَ لأهلِ الفضلِ .... واستَهْدَفُوا من دُونِهم للقتلِ
واعتَمَدُوا الضربَ بِكُلِّ نَصْلِ .... مُقَدَّمِ الصُّنْعِ حديثِ الصَّقْلِ
هذا صدر من ذكر من قد تقدم ذكره من أشياع العترة وأتباعهم المعترفين بحقهم، المقرين بفضلهم على جميع البشر بعد أبيهم وجدهم، فسلموا الفضل لهم، وهم بحمد الله أهل الفضل الباهر ، والشرف الظاهر، وإن أنكر الملحدون ، وعَنَدَ الجاحدون، وكيف ينكر فضل قوم لا تتم الصلاة إلاَّ بذكرهم ، ولا تنال النجاة إلاَّ بإتباع أمرهم؟
فقال في صفة أتباع أمرهم -رحمة الله عليهم-: (إنهم استهدفوا من دونهم للقتل)، يريد أنهم تقدموا فصاروا بمثابة الهدف المنصوب للسهام والرماح والسيوف، وذلك أن الأمر لَمّا اشتد عليهم -رحمهم الله تعالى- جعلوا يتنافسون في التقدم إلى الله -تعالى- خيفة أن يروا في عترة نبيهم - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ما يسؤهم من الجراح والقتل؛ يريدون بذلك إيجاب حقهم، وإظهار فضلهم، وصلة جدهم، وأمرهم بذلك أكابرهم ، ونعم الأكابر كزهير بن القين، ومسلم بن العوسجة، وحبيب بن مظاهر، وأبي ثمامة، وأمثالهم -رحمة الله عليهم- فإنهم ما سفك لأحد من أهل بيت نبيهم -صلوات الله عليهم- دم ومنهم عين تطرف، ولا نفس تعرف.
قوله: (واعتمدوا الضرب بكل نصلِ) لأنهم -رحمة الله عليهم- إستسلموا للموت، فحكموا ظباة السيوف، واستهونوا الأمر المخوف.
والنصول من أسماء السيوف في أصل اللغة، وهذا الإسم يعم في أصل اللغة كل حديدة مطبوعة رقاً مستطيلاً أو إلى الطول. (ومتقدماتها) خيارها ؛ لأنه لا يبقى منها إلا ما أشتهر قطعه، وعظم نفعه.
وقوله: (حديث الصّقلِ): يقول: إنها لا تعب من الفتاق والصقال فذلك أعظم بحالها، وفي الحديث أن الحسين بن علي -عَلَيْهما السَّلام- سَنَّ سيفه في الليلة التي قتل في صبيحتها وهو يقول:
يا دهر أفٍّ لك من خليل .... كم لك بالإشراق والأصيلِ
من ميت وصاحب قتيل .... والدهر لا يقنع بالبديلِ
وكلّ حيّ سالك السبيلِ
فقالت له أخته زينب -رحمة الله عليها-: (أراك تخبرنا أنك تغصب نفسك، فقال -عَلَيْه السَّلام-: لو ترك القطا ليلاً لنام)، يريد أن بني أميَّة لو تركوا المناكير وسفك الدماء وأخذ الأموال من غير حلها لوسعه التخلف عن جهادهم وبذل مهجته في حربهم.
[ذكر وقعة الإمام الشيهد زيد بن علي(ع)]
[46]
وَصَحْبِ زَيدٍ عند بابِ الحِيرَهْ .... إذ أخلصُوا للخالِقِ السَّرِيْرَهْ
وكافَحُوا الضِّدَّ على بَصِيرَهْ .... فَوَرِثُوا مَمَالِكاً خَطِيرَهْ
(زيد المذكور) ها هنا هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، وقد تقدم طرف من ذكره -صلوات الله عليه-، وهو أول من نهج السبيل في جهاد الظالمين بعد الحسين بن علي -عَلَيْهما السَّلام-، وكان خروجه -عَلَيْه السَّلام- لسبع بقين من المحرم سنة اثنتين وعشرين ومائة، وكان شعاره شعار رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: "يا منصور أَمِتْ"، واشتمل ديوانه -عَلَيْه السَّلام- على أسماء خمسة عشر ألفاً من أهل الكوفة، سوى من بايع دعاته في جميع البلدان فوفى من الخمسة عشر من أهل الكوفة خمسة آلاف([4])، ونكث الباقون، ووقع خروجه في أيام هشام بن عبدالملك -لعنه الله-.
___________________
([4]) - ثم لم يف من هؤلاء الخمسة الآلاف إلا مائتين واثني عشر كما ذكر ذلك أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين عن سعيد بن خثيم الهلالي أحد أصحاب الإمام زيد عليه السلام.
[السبب في خروج الإمام زيد(ع)]
وكان سبب خروجه عليهم ما أظهروا من المناكير، وارتكبوا من الفواحش والآثام، وعطلوا من شرائع الإسلام، وارتكبوا من إنتقاص محمد -عَلَيْه السَّلام- وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، وذلك لما روينا أن زيداً -صلوات الله عليه- دخل على هشام -لعنه الله تعالى- وفي مجلسه يهودي من أعداء الله يسبّ رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فنهر زيدٌ -عَلَيْه السَّلام- اليهودي، وقال: (أولى لك يا كافر أما والله لو تمكنت منك لأختطفنّ روحك) ، فقال هشام -لعنه الله -: (مهٍ يا زيد لا تؤذ جليسنا)، فخرج زيد -عَلَيْه السَّلام- وهو يقول: (والله لو لم أكن إلاَّ أنا ويحيى ابني لأجاهدنَّهُ حتى أفنى)، فلما بلغ الكوفة يريد المدينة منطوياً على الخروج عليهم لزموه أهل الكوفة ؛ بل ردوه من القادسية وبايعوه، وكان من الأمر ما كان.
[صفة مخرجه(ع)، ومخرج أصحابه]
فخرج -عَلَيْه السَّلام- على بغلة شهباء، وعليه عمامة سوداء ، وبين يدي قربوس سرجهِ مصحف، والقراء والفقهاء محيطون به، والرايات والألوية تخفق على رأسه وأصحابه -عَلَيْه السَّلام- في أهبة جميلة وشارة حسنة ، وعدة كاملة، لم تر العيون أحسن منها، وهو يقول -عَلَيْه السَّلام-: (أيها الناس أعينوني على أنباط أهل الشام فوالله لا يعينني أحد عليهم إلا رجوت أن يأتي يوم القيامة آمنا حتى يجوز على الصراط ويدخل الجنَّة، والله ما وقفت هذا الموقف حتى علمت التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه والحلال والحرام بين الدفتين)، ثم سار حتى انتهى إلى الكناسة فحمل على جماعة من أهل الشام كانوا بها. ثم سار إلى الجبانة ويوسف بن عمر -لعنه الله- مع أصحابه على التل، فحمل عليهم -صلوات الله عليه- كأنه اللَّيث المغضب، فقتل منهم أكثر من ألفي قتيل بين الحيرة والكوفة، وقسم أصحابه فرقتين: فرقة بإزاء أهل الكوفة، وفرقة بإزاء أهل الحيرة، بعد أن لزمت عليه الكوفة، وبلزوم الكوفة تواهن أمره -عليه السلام-، وكان خروجه يوم الأربعاء للتاريخ المتقدم، وهو كاره للخروج في ذلك الوقت، ولكنه عجل بالخروج لَمّا اشتد عليه الطلب وخاف أن يوقف على مكانه وهو منفرد عن أصحابه فقاتل الأربعاء والخميس والجمعة نال منهم يوم الأربعاء والخميس أكثر ممَّا نالوا منه -عَلَيْه السَّلام- لأنه قتل يوم الأربعاء من ذكرنا، وقتل يوم الخميس من فرسانهم أكثر من مائتين.
[مقتله(ع)]
فلما كان يوم الجمعة كثر في أصحابه الجراح واستبان الفشل ودخل من ضعفت بصيرته المصر بعد أن عقد لمن تأخر عنه -عَلَيْه السَّلام- الأمان، فثبت معه -عَلَيْه السَّلام- أهل البصائر -رحمة الله عليهم- فما زالوا يساقون الأعداء كوؤس الموت دون إمامهم إلى غسق الظلام، فرجعت الجنود الظالمة إلى مراكزها وانجلت الحرب عن الإمام -عَلَيْه السَّلام- جريحاً، وأهم ما كان فيه -عَلَيْه السَّلام- سهم وقع على([5]) جبينه وهو الذي كانت فيه وفاته -صلوات الله عليه- من قتيل ما أكرمه على الله، ورحم أصحابه الصابرين من عصابة ما أحبها لله وأنصحها وأعرفها بفضل عترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
ومن طرائف كلامه -عَلَيْه السَّلام- في حال القتال: أنه لَمّا رأى المتسللين من أصحابه الذين لا بصيرة لهم قال: (أحسبهم فعلوها حسينيَّة).
وفضله -عَلَيْه السَّلام- وفضل أتباعه -رحمة الله تعالى عليهم- ظاهر، ولو لم يكن فيه إلاَّ ما رويناه بالإسناد الموثوق به إلى الحسين بن علي : أن أباه علياً -عَلَيْه السَّلام- أخبره "أنه يخرج في ذريته رجل إسمه زيد، فيُقتل فلا يبقى في السماء ملك مُقرب ، ولا نبي مرسل ، إلاَّ تلقى روحه يرفعه أهل كل سماء إلى سماء وقد بلغت، يبعث هو وأصحابه يتخلّلون رقاب الناس يقال: هؤلاء خلف الخلف، ودعاة الحق([6])" فلو لم يكن غير هذا الخبر لكان فيه كفاية لكل ذي بصيرة.
_________________
([5])ـ في (ن): في.
([6]) ـ رواه الإمام أبو طالب في الأمالي (106)، والإمام الهادي في كتاب معرفة الله عز وجل بلفظ مقارب (60).
[بيان وجه ذكر الإمام (ع) لآبائه (ع)]
ووجه ذكرنا لآبائنا -عَلَيْهم السَّلام- وأتباعهم -رحمة الله عليهم- وذكر طرف من أيامهم وقتالهم تبيين فضلهم -عَلَيْهم السَّلام- وفضل أتباعهم بإتِّباعهم؛ لأنهم لولا اعترافهم بفضلهم وتفضيلهم على نفوسهم ؛ بل على جميع الخلق، ما بذلوا بين أيديهم مهجهم، ولا عرضوا للسفك دماءهم، فهم عندنا اليوم وغداً عند الله -تعالى- صلحاء الأُمَّة لإخلاص مودتهم أهل هذا البيت الشريف المخصوص من الله -تعالى- بالتشريف.
والأخبار في زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- أكثر من أن نأتي عليها في مثل هذا الكتاب وميلنا إلى الإختصار، وقد أوضحت لك أن إنكار فضلهم أصل للتخلف عن الجهاد بين أيديهم ؛ بل أصل للإنكار عليهم أفعالهم وتخطئة من تابعهم، فنعوذ بالله من الضَّلالة بعد الهدى، وسلوك مسلك الردى.
[ذكر وقعة أحجار الزيت للإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية(ع)]
[47]
ولستُ أَنْسَى صَاحِبَ المدِيْنَهْ .... ونَفْسَهُ الزاكيةَ الأمينَهْ
لَمّا حَمَى عَنِ الطغاةِ دِيْنَهْ .... ونصَّ للبيضِ الظبا جبينَهْ
[ذكر طرف من أمر الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله (ع)]
(صاحب المدينة) ها هنا: هو أمير المؤمنين محمد بن عبدالله النفس الزكيَّة، وأبوه عبدالله ؛ يعرف بالديباج([7]) بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب -عليهم السلام-، يكنى أبا القاسم، وقيل أبو عبدالله، وأمه هند بنت أبي عُبيدة بن عبدالله بن زمعة بن الأسود بن عبدالمطلب بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن لؤي بن غالب، حملت به -عليه السلام- أربع سنين، وكانت أمه -عليها السلام- هذه من كوامل النساء، وكان جدها زمعة بن الأسود([8]) أحد أزواد الركب من قريش وهم ثلاثة: أحدهم زمعة، والثاني: مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس([9])، والثالث: أبو أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم، فهؤلاء الثلاثة من قريش يسمون أزواد الركب، ما كان أحدٌ يأخذ منهم زاداً في طريق ولا يدعونه طالت السفرة أم قصرت، قَلَّ الناس أم كثروا، فسموا لذلك أزواد الركب. ففي الحديث: أن أبا هند، وهو عبدالله أبو عبيدة بن عبدالله لما مات جزعت عليه جزعاً شديداً، وكان ـ أيضاً ـ من أجود العرب،
__________________
([7]) - الظاهر أن لعبدالله بن الحسن (ع) لقبين أحدهما الكامل والثاني الديباج ويدل عليه قول الشاعر :
هلا كففتم عن الديباج ألسنتكم ...إلخ.
كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والله أعلم.
([8]) - زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، يكنى أبا حكيمة ، كان من أشراف قريش ، كان يدعى زاد الركب ، ولما بعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان من الكافرين المؤذين للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وقتل يوم بدر كافراً قتله أمير المؤمنين علي عليه السلام شرح نهج البلاغة (13/10).
([9]) - مسافر بن أبي عمرو (اسمه ذكوان) بن أمية بن عبد شمس ، شاعر من أشراف بني أمية وساداتهم وأجوادهم في الجاهلية ، نشأ بمكة ، ووفد على النعمان بن المنذر فأكرمه وجعله من خاصة ندمائه ، وكان صديقاً لأبي طالب في الجاهلية . الأعلام (7/213).
وكان ممن تفضل عليه من الشعراء محمد بن بشر، فلما كان ذلك قال عبدالله بن الحسن -عَلَيْه السَّلام- لمحمد بن بشر هذا: إن هنداً قد جزعت على أبيها فقل أبياتاً تسليها بهنَّ عنه وتعزيها، فقال: قد فعلت، فقال: قم وأسمعها إياها، فدخل عبدالله -عَلَيْه السَّلام- وهو معه فاستنصتهم له فأنصتوا ولا يدري -عَلَيْه السَّلام- ما قد قال، فقال:
إذا ما ابن زاد الركب لم يمس نائياً .... قفا صفر لم يقرب الفرس وابرُ
فقومي اضربي يا هند عينيك أن تري .... أباً مثله تُنمى إليه المفاخرُ
وكنت إذا ما شئت سُميت والداً .... يزين كما زان اليدين الأساورُ
وقد علم الأقوام أن بناته .... صوادق إذ يندبنه وقواصرُ
فضجَّت بالبكاء وجواريها، وجعل محمداً الشاعر يصيح - أيضاً -، فقال له عبدالله -عليه السلام-: (يا عدو الله دعوتك تعزيها فهيجتها على البكاء، فقال: وبما كنت عسى أن أعزي بنت زاد الركب من يعزيني أنا عنه، لا والله لا أُعَزِّي عنه، ولكن آمر بالحزن عليه، وأحض على ذلك) ، ولم يكن ذكر هذا من غرضنا ولكن الكلام ذو شجون، وهذا تنبيه لأهل العقول أن المخالفين لنا لا يعلمون من علم آبائنا إلاَّ ما فاض عنا، فكيف ينصبون نفوسهم لمخالفتنا لولا صلابة الوجوه وارتفاع الحشمة من أكثر أهل الزمان؟، والله تعالى المستعان.
[صفته(ع) وتسميته]
وكان -عَلَيْه السَّلام- آدم شديد الأدمة، له شامة بين كتفيه تشبه شامة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
ويسمى: صريح قريش لجمعه بين شرف الأمهات إلى شرف الآباء، هذه أمُّه التي قدمنا ذكرها، وجدته أم أبيه فاطمة بنت الحسين بن علي ابن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيدالله، وجدته فاطمة بنت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- سيدة نساء أهل الجنَّة، وفاطمة بنت أسد جدته أم أبيه علي ابن أبي طالب -عَلَيْهما السَّلام-، كانت من خيرات النساء، وقد قدمنا ذكرها، ولم يجتمع لأحد من آل النبي غيره -عَلَيْه السَّلام- هذه الأمهات، وهو أول قائم من آل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على بني العباس،
وكان قيامه في دولة عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس([10]) الملقب بالمنصور، المكنى بأبي جعفر، وكان -عَلَيْه السَّلام- جامعاً لخصال الإمامة من العلم، والورع، والسخاء، والشجاعة، والفضل، والزهد، والقوة على تدبير الأمر ؛ بل كان فيه -عليه السلام- من كل واحدة من هذه الخصال فوق ما يجب إعتباره في الإمامة ؛ لأنه لم يعلم من أحد من فرسان العرب أنه نكى نكايته، ولا قاتل قتاله بعد جده علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، وكان خطيباً مصقعاً ، إستتر أكثر دهره في آخر أيام بني أميَّة وأول أيام بني العباس، وكان أهل البيت مجمعين على إمامته قد بايعوه مراراً ، ولم يتمكن من الخروج لظهور أمر الظالمين، حتى كان أبو جعفر هذا فيما يروى ممن بايعه قبل مصير الأمر إلى بني العباس، وبنوا العباس يومئذٍ لا يطمعون بشيءٍ من الأمر إلاَّ من تحت أيدي العترة، فاعجب في المقادير، ولعمري إن مصير الأمر إليهم كان مثل الإختلاس ؛ لأن ظهورهم، بزعمهم، كان للطلب بثأر زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- حتى انتظم لهم الأمر واجتمعت إليهم الشيعة، فلما تمكنوا أضافوا الأمر إلى أنفسهم ورفضوا العترة ؛ بل قتلوا الأئمة والأعيان، وأعانهم على ذلك جنود الشيطان، ممن أجزلوا له العطايا من الحرام، وملأوا يديه من الحطام.
_______________
([10]) ـ تقدمت ترجمته.
[قيامه(ع)]
عدنا إلى محمد بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام-، فلما كان في زمان أبي جعفر وانتهى في أمر آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلى ما انتهى من أسر جميع بني الحسن وهم مصابيح الدجى، وأرباب الحجى، فرقاً([11]) من محمد بن عبدالله وأخيه إبراهيم لما كان يعلم من إرتفاع أمرهما وعظم قدرهما، فدعا محمد بن عبدالله عند ذلك إلى نفسه بعد إستتاره الدهر الأطول، كما قدمنا، وأنفذ الدعاة إلى الآفاق وظهرت دعوته بخراسان، وبايع له جمهور أهل خراسان، وتقوى الحال، وكان قيامه - عليه السلام - وشهر رايته وسيفه في غرة رجب سنة خمس وأربعين ومائه ، وعليه قلنسوة صفراء وعمامة فوقها متوشحاً سيفاً وهو يقول لأصحابه: (لا تقتلوا لا تقتلوا) ودخل المسجد قبل الفجر فخطب الناس، ولما حضرت الصلاة نزل فصلى وبايعه الناس طوعاً ؛ إلاَّ من خطر([12]) له، وكان رياح بن عثمان المري عاملاً لأبي جعفر على المدينة، فلما ظهر أمر محمد بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام- إنهزم إلى دار مروان وتحصَّن فيها وأمر بهدم الدَّرجة فغلب وجيء به إلى محمد بن عبدالله أسيراً فسأله عن أخيه موسى([13])، فقال: (أنفذته إلى أبي جعفر)، فبعث -عَلَيْه السَّلام- جماعة من الفرسان لحقوه وردوه إليه.
____________________
([11]) - فَرَقاً: أي خوفاً، تمت.
([12]) - هكذا في الأصل وأظنه إلا من لا خطر له أي إلا من لا شرف له وقد تكون من الخاطر والهواجس والعبارة صحيحة ، والله أعلم.
([13]) - الإمام موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، من دعاة أخيه النفس الزكية ، وهو الإمام الرابع من أولاد عبدالله بن الحسن الكامل حبسه المنصور ثم أطلقه ثم تخفى إلى أن مات عليه السلام ، في حدود سنة (180هـ) وقبر في سويقة.
[خروجه وبيعته(ع)]
وخرج إلى مكَّة فبويع هناك وعاد إلى المدينة، وكان شعاره: أحدٌ أحد. ووجه أخاه إبراهيم على ولاية البصرة وقبض البيعة فيها ، فبايع إبراهيم من أهلها عشرون ألفاً ، منهم عمرو بن عبيد([14]) ، وأعيان أهل علم الكلام، واجتمعت الزيدية والمعتزلة على هذه الدعوة الشريفة.
[ذكر من بايعه، وموقف أنس بن مالك]
وبايعه جميع أهل بيت النبوءة من ولد الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام-؛ بل كان أولاد الحسين أولى به في تلك الحال لكون الأكثر من أولاد الحسن في حبس أبي جعفر، وكان جعفر بن محمد([15]) -عليهما السلام- فيمن بايعه واعتذره من الجهاد بين يديه لسنه، فعذره وحللَّه، وجاهد بين يديه ولداه موسى وعبدالله([16]) ابنا جعفر بن محمد -عليهم السلام-، وكذلك حسين وعيسى ابنا زيد بن علي -عليه السلام-، ___________________
([14]) ـ عمرو بن عبيد بن باب التيمي بالولاء ، أبو عثمان البصري ، شيخ المعتزلة في عصره ومفتيها ، وأحد الزهاد المشهورين ، مولده سنة (80هـ) وكان مشهوراً بعلمه وزهده ، وهو من الطبقة الرابعة من طبقات المعتزلة ، ومن المعتزلة البصرية ، وتوفي سنة (144هـ) بمران ـ بقرب مكة ـ. الأعلام (5/81) الملل والنحل لابن المرتضى (151).
([15]) ـ جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد السبط بن علي أمير المؤمنين ابن أبي طالب، من الأئمة الأعلام، ومن فضلاء أهل البيت وعلمائهم وعبادهم وخيارهم ولد سنة ثمانين للهجرة أمه أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وهو أحد الأئمة الاثني عشر عند الإمامية، وتوفي -عَلَيْه السَّلام- سنة ثمان وأربعين ومائة (148هـ) وعمره ثمان وستين سنة، ودفن بالبقيع في قبر أبيه الباقر وجده زين العابدين.
([16]) ـ عبدالله بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بايع الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية وشهد معه الوقعة وبايع أيضاً الحسين بن علي الفخي وشهد معه الوقعة.
وبايعه المنذر([17]) بن محمد بن عبدالله بن الزبير، وابن أبي ذيب([18])، وابن عجلان([19])، ومصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير([20]) وابنه عبدالله بن مصعب([21])،
______________________
([17]) - المنذر بن محمد بن المنذر بن الزبير هكذا ذكره في مقاتل الطالبيين وقال : خرج مع محمد بن عبدالله ، وكان رجلاً صالحاً فقيهاً ، قد حمل عنه أهل البيت الحديث ، وكان فارساً شجاعاً ، وذكر في المقاتل أن المنذر مر بالحسن بن زيد فعانقه ، فقال الحسن : ما كان مع محمد بن عبدالله فارس أشد من هذا (مقاتل الطالبيين ص250).
([18]) ـ محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب ـ بلفظ السبع ـ من بني عامر بن لؤي، أبو الحارث، تابعي من رواة الحديث من أهل المدينة ، ولد سنة (80هـ) وكان من أورع الناس وأفضلهم ، وكان من رجال العدل والتوحيد ، توفي سنة (158هـ) . الأعلام (6/189) .
([19]) ـ محمد بن عجلان القرشي أبو عبدالله المدني الفقيه الصالح العالم الرباني روى عنه خلق كثير ووثقه أحمد وابن معين وابن عيينة، وأبو حاتم، قال الحاكم: خرج له مسلم في كتابه ثلاث عشر حديثاً كلها شواهد، وكان جيد الذكاء دعاؤه مستجاب، ذكره صارم الدين وعده من ثقات محدثي الشيعة، وكذا ابن حميد، وابن حابس، وكان من رجال العدل والتوحيد كما ذكر ذلك في الشافي.
قال الواقدي : كان ثقة كثير الحديث ، مات بالمدينة سنة (8أو 149هـ) في خلافة أبي جعفر.
([20]) ـ مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير الأسدي وثقه ابن حبان، وقال النسائي لين ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: صدوق كثير الغلط وضعفه أحمد وابن معين، وكان مصعب من أعبد أهل زمانه عاش إحدى وسبعين سنة وتوفي سنة 157هـ.
([21]) ـ عبدالله بن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير ، أبو بكر القرشي الأسدي ، أمير من أهل العدل والورع والشعر والفصاحة ، ولد بالمدينة سنة (111هـ) كان محموداً في ولايته ، جميل السيرة ، مع جلالة قدره ، وعظم شرفه توفي بالرقة سنة (184هـ) . الأعلام (4/138) .
واستفتي مالك بن أنس([22]) في بيعته فأفتى الناس بوجوب البيعة له وقال: (لا حكم لبيعتكم أبا جعفر لأنكم بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين)، فبادر الناس إلى بيعته، واستعمل على السلاح عبدالعزيز بن محمد الدراوردي([23])، وكانت رايته بيد الأفطس الحسن بن علي ابن الحسين -عَلَيْه السَّلام-، وولى قضاء المدينة عبدالعزيز بن المطَّلب المخزومي([24])، وديوان العطاء عبدالله بن جعفر بن عبدالرحمن بن المسور بن مخرمة([25])، وجعل على الشرطة عبدالحميد بن جعفر([26])، ثم بعثه إلى بعض الجهات فولاها عمرو بن محمد بن خالد بن الزبير،
________________________
([22]) ـ مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمر بن الحارث الأصبحي أبو عبدالله المدني صاحب الموطأ وأحد الأعلام، وهو صاحب المذهب المشهور بالمالكي أحد الحفاظ إشتهر بولائه لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- كان يفتي الناس بالخروج مع محمد بن عبدالله، وضربه جعفر بن سليمان سبعين سوطاً بسبب الفتوى بذلك، ولد في صفر سنة (93هـ)، وتوفي في ربيع الأول سنة (179هـ).
([23]) - عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي ، الجهني بالولاء ، المدني ، أبو محمد ، محدث نسبته إلى دراورد قرية من قرى خراسان ، روى عنه خلق كثير منهم سفيان الثوري ، وشعبة ، ووكيع وغيرهم ، وروى عن النفس الزكية والصادق وعطاء ومحمد بن كعب وغيرهم .
مولده بالمدينة وبها نشأ وسمع العلم والأحاديث ، وكان ثقة كثير الحديث ، وثقه يحيى بن سعيد القطان، وابن معين ، وأبو حاتم ، قال : صدوق في الحديث ، توفي بالمدينة ، قيل : سنة (186هـ) وقيل : (187هـ) . تهذيب التهذيب (3/447) ، الآعلام (4/25) الطبقات ـ خ ـ، ميزان الاعتدال (4/371) .
([24]) ـ عبد العزيز بن المطلب بن عبدالله بن حنطب المخزومي المدني القاضي ، ولي قضاء المدينة ومكة في زمن المنصور ثم المهدي ، توفي سنة (187هـ) .
ميزان الاعتدال (4/372) تهذيب التهذيب (3/450) .
([25]) ـ عبدالله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري المَخْرَمي ـ براء مهملة ـ، أبو محمد المدني ، من رجال المدينة ، عالماً بالمغازي والفتوح ، كان يؤمل فيه أن يلي القضاء فلم يله حتى مات .
قال في تهذيب التهذيب : قال محمد بن عمر : قال ابن أبي الزناد : لا أحسبه أقعده عن ذلك إلا خروجه مع محمد بن عبدالله بن حسن ، وثقه أحمد وابن معين والحاكم وغيرهم ، توفي سنة (170هـ) بالمدينة . تهذيب التهذيب (3/108) .
([26]) ـ عبد الحميد بن جعفر بن عبدالله بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري المدني ، أبو الفضل ، روى عنه خلق، وثقه أحمد ، وابن معين ، وابن القطان ، وذكره ابن حبان في الثقات .
قال ابن سعد : كان ثقة كثير الحديث ، وقال الفضل بن موسى : كان ممن خرج مع محمد بن عبدالله بن حسن، توفي بالمدينة سنة (153هـ) وعمره (70) سنة . ميزان الاعتدال (4/246) ، تهذيب التهذيب (3/304).
فظهر أمره -عَلَيْه السَّلام- ظهوراً شافياً، وغلب أخوه إبراهيم -عَلَيْهما السَّلام- على البصرة وما والاها، وعلى واسط، والأهواز، وأعمال فارس، وهزمت بعوث أبي جعفر مرة بعد أخرى، وتسمى بالإسم الذي سمَّاه به رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- النفس الزكيَّة، والمهدي لدين الله، وخوطب بأمير المؤمنين، وهو أول ([27]) من خوطب به من العترة بعد علي -عَلَيْه السَّلام- وبعده محمد بن جعفر بن محمد([28])، واضطرب منه أمر بني العباس اضطراباً شديداً، وجرت بينه -عليه السلام - وبين أبي جعفر مراسلات ومكاتبات، شرحها يطول([29]) ، كل واحد من محمد -عَلَيْه السَّلام-
________________________
([27]) - قال للإمام أبو طالب (ع) في الإفادة في تاريخ الأئمة السادة (56) في ذكر الإمام محمد بن عبدالله(ع) : وهو أول من ظهر من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخوطب بأمير المؤمنين وبعده محمد بن جعفر بن محمد (ع) انتهى.
([28])- الإمام الصوام أبو علي محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي أمير المؤمنين بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، كان فاضلاً عابداً شجاعاً سخياً عالماً ، جمع خصال الكمال ، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، ودعا إلى الله سبحانه وتعالى بمكة المشرفة سنة مائتين كما حكاه صاحب الطبقات عن الذهبي ، وكان يخرج للصلاة في مكة في ثلاثمائة رجل من الزيدية عليهم ثياب الصوف ، وكان له وقعات كثيرة مع الجنود العباسية ، كان اليد فيها له -عَلَيْه السَّلام- ، ثم أسر في أحد المعارك ووجه إلى المأمون العباسي فتلقاه بالإنصاف ، ثم دس له السم ، وتوفي سنة نيف ومائتين، وقبره بجرجان.
التحف شرح الزلف ص152، الشافي ج1 ص258، الطبقات ـ خ ـ.
([29]) - ذكر ما دار بينهما من المكاتبات والمراسلات السيد أبو العباس الحسني عليه السلام في المصابيح ص(437) والطبري في أحداث سنة (145هـ) (6/496) ، والشهيد حميد في الحدائق الوردية.
وأبي جعفر يعرض على الآخر الدخول في بيعته ويعطيه الأمان على نفسه وأهله وأحبابه وشيعته وأتباعه؛ إلاَّ أن عقود أبي جعفر مطلقة وعقود محمد -عليه السلام- مقيَّدة بالطاعة لله - تعالى- والإنقياد لأمره، والإنصاف من النفس، فانتهى الأمر إلى المحاربة، فوجَّه أبو جعفر إلى محمد -عليه السلام- جنداً كثيفاً عليهم عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس وفيهم وجوه الأجناد، وكبار([30]) القواد، وفيهم حميد بن قحطبة الطائي([31]) -لعنه الله-، فلما صاروا إلى المدينة وحطوا بناحيتها وقد كان -عليه السلام- خندقها أمر إليهم -عليه السلام- رجلاً من الإنصار صليباً ورعاً فصيحاً عالماً، وكان ذلك الرجل كالكاره لقيامه -عليه السلام- والجهاد بين يديه يدعوهم إلى الله -تعالى- وإلى طاعته والدخول في بيعة الإمام المهدي من ذرية نبيئه -صلى الله عليه وسلم وعلى أهله- الهادي بهديه السائر بسيرته، فكان جوابهم لذلك الرجل أن قالوا: (قل لصاحبك والله لو خرج صاحب القبر ـ يعنون النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ـ ينازعنا أمرنا هذا لضربناه بأسيافنا)، فاستبصر ذلك الرجل في دينه وبدأ بدخول بيته فتدَّرع وتسلح وتأهب للجهاد وأتى إلى الإمام - عليه السلام - فأخبر بجوابهم، فلما صحَّ له -عليه السلام- بذلك كفرهم وعنادهم نهض لمحاربتهم ، وعبّأ أصحابه -رحمة الله تعالى عليهم - ففي الحديث أنه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خرج على أصحابه وعليه قميص أبيض وعمامة بيضاء، ورداء أبيض، وجفن سيفه أبيض، ونجاده أبيض، وفرسه أبيض، وغاشية سرجه بيضاء، فقال: (قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم)، فوقع بينهم قتال حمل -عَلَيْه السَّلام- أكثره، ثم خرج مرة أخرى على أصحابه وعليه قبا طاق وهو يقول:
قاتلْ فما بك إنْ جلستَ بدومة .... في ظلّ غرفتها إذا لم تخلّدِ
إنّ امرءاً يرضى بأهون عيشة .... قصُرت مروته إذا لم تزددِ
___________________
([30]) - نخ (ن) : وكفار القواد.
([31]) ـ حميد بن قحطبة بن شبيب الطائي ، أمير من القادة الطغاة ، ولي إمرة مصر سنة (143هـ) ثم إمرة الجزيرة، ووجه لغزو أرمينية سنة (148هـ) ولغزو كابل سنة (152هـ) ثم جُعل أميراً على خراسان فأقام إلى أن مات فيها سنة (159هـ) . الأعلام (2/283) .
وممَّا حفظ عنه -عَلَيْه السَّلام- قوله:
متى أرى لِلْحَقِ نوراً .... وقد أسلمني ظلم إلى ظلمِ
أمنية طال عذابي بها .... كأنني فيها أخو حلمِ
[مقتله وموضع قبره -صلوات الله عليه-]
فقاتلهم -صلوات الله عليه- قتالاً شديداً، ونكى فيهم نكاية عظيمة، وتولى القتال بنفسه، واشتهر مكانه ما قام له بطل إلاَّ أرداه، ولا واجهه فارس إلاَّ صرعه، وكان ربما رد أول ذلك الجند آخره، وأركب هدادته أعجازه وحده -عَلَيْه السَّلام-، وكان حميد بن قحطبة يراوغه ويغري به الأشرار ولا يثبت له إذا قصده -عَلَيْه السَّلام-، وفَعَلَ فعلاً لم يُعلم إلاَّ من جده علي بن أبي طالب -عَلَيْهما السَّلام-، فأشاح إليه جميع العسكر ونضحوه بالسهام من كل جانب فصرع به الفرس في أوساط القوم فاعتوروه بالرماح، وقد قيل إن حميداً في بعض أوقات القتال طعنه طعنة عظيمة في صدره ثم ضربه لما صرع على جبينه، وقيل ضرب على ذقنه وهو راكب فصرع، ووقع الإتفاق على أن حميد بن قحطبة -لعنه الله- حز رأسه، وكان القتال في شهر رمضان للتاريخ المتقدم، فأنفذ رأسه إلى أبي جعفر، واستوهبت أخته زينب جثته من عيسى بن موسى فوهبها إياها فدفن في البقيع، وقبره -عَلَيْه السَّلام- مشهور مزور.
وقد قيل إنه ظهر في قبره آية للناظرين، وذلك أنهم حفروه في أرض صلبة، فلما حفروا قدر ذراع وجدوا القبر ملحوداً مهيئاً على أبلغ ما يكون والمسك يتضوع منه، وهذا غير ممتنع، وقتلت طائفة عظيمة من أهل بيته -عَلَيْهم السَّلام- وأشياعهم -رحمة الله عليهم-.
فلما فرغوا من أمرهم دخل الجند الظالم المسجد للسلام على النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وزيارته، ووقف حميد بن قحطبة على الباب ولم يدخل ولم يزر، فقال له عيسى بن موسى أو بعض بني العباس: (ما رأيت أعجب من أمرك يا حميد يضرب الناس آباط الإبل من كل فجّ عميق لزيارة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وتصل أنت إلى باب مسجده فلا تدخل للسلام عليه !!؟، فقال له حميد -لعنه الله- إني لأستحي منه الآن فرغت من قتل ولده ثم أدخل إليه، فقال له: اسكت لا يسمعك الناس)، وقد أصاب عدو الله في خطابه، فانظر إلى إعتراف عدو الله بحرمته مع جرأته على قتله فنقول يا لله من شقوة الفتنة، وتظاهر المحنة، ونسأله شمول الرحمة، وتمام النعمة.
[حكاية صفة أصحاب الإمام النفس الزكية (ع) وصفة أعدائه]
[48]
وَصَحْبهُ مِثْلُ الليُوثِ العاديهْ .... حولَ صريحِ الجَدِّ عالي الناصيهْ
والظَالِمُونَ كالكلابِ العاويهْ .... قَدْ أقبلتْ تسعى بكلِّ ناحيهْ
الهاء في (صحبه) عائدة على محمد بن عبدالله -صلوات الله عليه-؛ ورحمته عليهم، فإنهم كانوا ليوثاً عادية كما ذكر في القافية، أبلوا لله بلاءً حسناً، وقاتلوا قتالاً صادقاً عظيماً، ولكن وكم يكون قتالهم؟ جاءتهم جنود مثل الجبال السُّود، كلما قتلت كتيبة بعثت أخرى، وقاتل معه جميع أهل بيت النبوءة من ولد الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- كما قدمنا، وخرج معه جعفر بن محمد -عَلَيْهما السَّلام- بعد أن بايعه فاستأذنه في الرجوع إلى منزله لضعفه وسّنه، فأذن له ووسع له في ذلك بعد أن ودعه وقبَّل رأسه، وقاتل معه ولداه موسى وعبدالله ابنا جعفر بن محمد -عَلَيْهم السَّلام- في جميع حروبه وأعطيا بيعتهما طائعين متقربين بذلك إلى الله -سبحانه وتعالى- فكان أول قتيل من المسودة الفجرة، قتل بين يدي محمد بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام- إشتركا في قتله، وكان جميع أهل البيت ؛ بل جميع بني هاشم يعظمونه من حال صغره إلى وقت ظهوره ويعترفون بحقه، ويقرون بفضله، ويعتقدون إمامته، ويرجون الفرج على يديه.
وروي بالإسناد([32]) إلى عمرو بن الفضل الخثعمي أنه كان قائماً مع أبي جعفر الدوانيقي في زمان بني أميَّة، وغلام أسود، لازم فرساً على باب عبدالله بن الحسن، فخرج محمد بن عبدالله -عَلَيْهم السَّلام- والخثعمي لا يعرفه فلزم فرسه للركوب، فوثب أبو جعفر فلزم ركابه، وسوى عليه ثيابه، فقال عمرو بن الفضل راوي الحديث ـ وكان يعرف أبا جعفر ولا يعرف محمداً ـ من هذا الذي أعظمته كل هذا الإعظام؟ فقال: (أو لست تعرفه !؟، فقال: لا، فقال: هذا محمد بن عبدالله، هذا مهدينا أهل البيت)، فلما صار الأمر إلى بني العباس سخت نفوسهم بفراقه والخروج منه، وسلكوا مسلك بني أميَّة؛ بل زادوا عليهم في قتل هذه العترة الطاهرة، على إظهار كلمة الحق، وطلب إخماد نار الباطل.
_______________________
([32]) ـ روى هذا الخبر أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين (212) عن عمير بن الفضل الخثعمي، ورواه أيضاً الإمام أبو طالب في الأمالي (ص134) عن عمير بن الفضل أيضاً ، ولعله الصحيح من اسمه كما ذكره أيضاً في طبقات الزيدية بأن اسمه عمير بن الفضل ، وقال : يروي عن أبي جعفر المنصور ، ومحمد بن عبدالله النفس الزكية .
[بيان سبب تسمية النفس الزكية (ع) بصريح قريش]
وكان -عَلَيْه السَّلام- يسمى صريح قريش لأنه لم يكن في آبائه إلى علي بن أبي طالب -عَلَيْهما السَّلام- من أمه أم ولد ، وجمع الفواطم الكرائم في نسبه، كما قدمنا، آخرهن فاطمة ابنت أسد أم جده علي ابن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- أول هاشمية ولدت لهاشمي، وهي كافلة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وكان يدعوها أمًّا، وكانت -رحمة الله عليها- تؤثره -عليه وآله السلام- على أولادها، وقد روينا ذلك عنه، وهاجرت عن أمره هجرة الحبشة، وهاجرت معه إلى المدينة، فلما توفيت بكى عليها بكاءً عظيماً وكفنها في قميصه، واضطجع في لحدها وقال: ((أما تكفينها في قميصي فبرآة لها من النار، وأما اضطجاعي في لحدها فليوسعه الله عليها)) وكبر في الصلاة عليها أربعين تكبيرة، فسُئِل عن ذلك، فقال: ((لأربعين صفاً من الملائكة -عَلَيْهم السَّلام-))([33]).
___________________
([33]) - روى هذا الخبر بكامله السيد الإمام أبو العباس الحسني في المصابيح (119) والإمام أبو طالب في الأمالي في الباب الثاني في فضائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحسن شمائله (28).
وفاطمة بنت الحسين أم أبيه عبدالله بن الحسن، كانت أشبه النساء بفاطمة بنت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ولم يكن لأحد من أهل بيت النبوءة -عَلَيْهم السَّلام- شرف عبدالله بن الحسن، ولا كان أحد من أكابر أهل زمانه يعدل به من آل النبي أحداً، ولقد أراد أبو جعفر إدهاشه لما وصل به إليه من المدينة أسيراً وبكافة من قدروا عليه من بني حسن النجباء الطاهرين كعلي ابن الحسن([34]) تالي القرآن، صريح الإيمان ؛ لأن في الرواية أنه ما نام -عليه السلام- من وقت دخوله السجن إلى أن ماتوا رضوان الله عليهم لأنهم حبسوا في محبس مظلم لا يعرفون ليلاً من نهار، ولا وقت صلاة إلاَّ بقراءته -عليه السلام-، وسليمان([35]) بن داود بن الحسن وجعفر بن الحسن وأشباههم -رضوان الله عليهم- فقال أبو جعفر لما دخلوا إليه لعبدالله بن الحسن: (أدن إليَّ يا ابن اللخناء ، فأقبل إليه عبدالله بوجهه غير مكترث من قوله وقال: أي الفواطم تعني؟)، فصار المُخَجِّل خجلاً، والمنْتَقِص ناقصاً، وعجب الحاضرون من سرعة جواب عبدالله وعلموا صدقه،
________________________
([34]) ـ علي العابد بن الحسن المثنى بن الحسن الرضا بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، والد الإمام الحسين بن علي الفخي كان من عيون العترة وفضلائها وعبادها، كان يقال له علي الخير وعلي الأغر وعلي العابد وكان يقال له ولزوجته زينب بنت عبدالله بن الحسن الزوج الصالح لكثرة عبادتهما حبسه أبو جعفر المنصور الدوانيقي في محبس الهاشمية، وكانوا لايعرفون أوقات الصلاة إلا بتلاوته لأجزاء القرآن الكريم، وتوفي -عَلَيْه السَّلام- وهو ساجد في الحبس وهو ابن خمس وأربعين سنة لسبع بقين من المحرم سنة ست وأربعين ومائة.
([35]) ـ في جميع النسخ: سليمان بن داود بن الحسن بن جعفر بن الحسن، والصحيح ما أثبتناه ولعل المذكور غلط من النساخ الذين لا عناية لهم بالتاريخ، فإنه لم يذكر في من حبسه أبو جعفر المنصور من هو بهذا الإسم من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، بل الصحيح أنهما إسمان الأول هو سليمان بن داود بن الحسن، قال في الجداول : سليمان بن داود بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، حبسه الدوانيقي مع عمه عبدالله ، انتهى. والثاني جعفر بن الحسن بن الحسن أطلقهما أبو جعفر المنصور بعد مقتل محمد وإبراهيم ابنا عبدالله بن الحسن مع جماعة من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ذكر ذلك في مقاتل الطالبيين (ص174).
وكانت قصة خطابهم([36]) طويلة، وعجائب جلستهم([37])، وقد ذكر ذلك أبو فراس([38]) -نفعه الله بصالح عمله- في شعره، وذلك ظاهر في قوله في قصيدته المشهورة الميميَّة:
هلا كففتم عن الديباج ألسنكم .... وعن بنات رسول الله شتمكم
يعرض بأبي جعفر:
هلا صفحتم عن الأسرى بلا سبب .... للصافحين ببدر عن أسيركم
بئس الجزاء جزيتم في بني حسن .... أباهم العلم الهادي وأمهم
والقصيدة طولية مشهورة، فمن هناك قال فيه -عَلَيْه السَّلام- (صريح الجد).
__________________________
([36]) ـ القصة رواها الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- في كتاب الشافي ج1 ص195، وأيضاً رواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص191، وأيضاً رواه اليعقوبي في تاريخه ج2 ص307.
قال المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام-: فلما وصل بهم إلى أبي جعفر كان بينهم وبينه ما يطول شرحه من جملته قوله لعبدالله بن الحسن ادن إلى هنا يا ابن اللخناء، فقال له عبدالله -عَلَيْه السَّلام- أي الفواطم تعني، وفي بعض الأيام كلمه، فأعضه، فقال عبدالله بن الحسن: بأيتهن أعض أبفاطمة بنت الحسين أم بفاطمة بنت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أم بفاطمة بنت أسد، فقال: لابأيتهن ولكن بالجرباء، والجرباء هذه امرأة من طيء جدة لبعض جداته فمال إليها لشناعة إسمها تلبيساً على السامعين والأصل في ذلك أنها سميت الجرباء لجمال رائع كان فيها فما جلست إلى جنب امرأة إلا قامت عنها فراراً من جمالها، فما وجد شيئاً يميل إليه إلا هذا، انتهى.
([37])ـ في (ن) : حبسهم.
([38]) ـ أبو فراس، هو: الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني كان فريد دهره وشمس عصره أدباً وفضلاً وكرماً ونبلاً ومجداً وبلاغة وبراعة وفروسية وشجاعة، شعره مشهور بالحسن والجودة وجزالة الألفاظ وسهولة المعاني، من شعراء الشيعة بل أمير شعراء الشيعة، وله القصائد البديعة في مدح أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- والتظلم لهم من أعدائهم التي تدل على صدق ولائه لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وقتل في وقعة سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، وله ديوان شعر مطبوع.
(والصريح) الخالص من كل شائب، وأصله في اللبن إذا لم يخلط به غيره سُمي صريحاً، فاستعير بعد ذلك لكل خالص، قال الشاعر:
ما سجسج الشوق مثل جاحمة([39]) .... ولا صريح الهوى كموتشبه([40])
قوله: (والظالمون كالكلاب العاوية): مثلهم بالكلاب لنجاستها وخساستها. ولعمري إن الكلاب أمثل حالاً من قتلة أولاد الأنبياء، ومهلكي عترة الأوصياء.
وفي الحديث المروي أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ذكر محمد بن عبدالله -صلوات الله عليه- بإسمه وصفته، وقال: ((اسمه كإسمي، واسم أبيه كإسم أبي، يقتل فيسيل دمه إلى أحجار الزيت، لقاتله ثلث عذاب أهل جهنم))([41]) . ووصله أعداؤه في خلق عظيم، فلذلك وصفهم بالإقبال من كل ناحية.
_________________________
([39])- السجسج : يقال : يوم سجسج : لا حر ولا قر .
الجاحم : الجمر الشديد الإشتعال . تمت قاموس.
([40])- الموتشب ، هو : المختلط .
([41]) - رواه الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام في كتاب معرفة الله.
[ذكر صفة أصحاب الإمام النفس الزكية(ع) وحسن ثباتهم]
[49]
فلم تَرُعْهُم كثرةُ الأعادي .... بل ثَبَتُوا للطعنِ والجلادِ
يؤملونَ الفوز في المعادي .... في جنَّةٍ عاليةِ العمادِ
تضمن هذا البيت صفة حال أصحاب محمد -عَلَيْه السَّلام- وحسن ثباتهم -رحمة الله عليهم- وكانت حالهم -رحمة الله عليهم- مشهورة بذلك فإنهم قتلوا مقبلين غير مدبرين، وفي الطاعة لله -عز وجل- غير مقصرين.
[50]
ومَنْ كأصحابِ الإمامِ المُحْرمِ .... ذي الفضلِ والعفَّةِ والتكرمِ
إذْ هو كالبدرِ وهُمْ كالأنجمِ .... قد عَمَرُوا بعارضٍ مُحْرْجمِ
[ذكر طرف من أمر الإمام الحسين بن علي الفخي(ع)]
المذكور ها هنا هو أبو عبدالله الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، وأمه زينب بنت عبدالله بن الحسن أخت محمد بن عبدالله النفس الزكيَّة لأبيه وأمه ؛ لأن أمهما معاً هند بنت أبي عبيدة، وكان أبوه وأمه يعرفان بالزوج الصالح لإتفاقهماعلى الصلاح والإنقطاع في طاعة الله -تعالى-.
[ظهور أمره وبيعته(ع) وخروجه]
ظهر -عَلَيْه السَّلام- ليلة السَّبت لأحد عشرة بقيت من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائة، وبايعه جماعة أهل بيته وكثير من الشيعة من أهل المدينة، وممن ورد للحج من سائر البلدان، وممن بايعه من فضلاء أهله يحيى وسليمان([42]) وإدريس([43]) بنو عبدالله بن الحسن، وكانوا نجوماً يهتدى بها، وعبدالله وعمير ابنا الحسين بن علي بن الحسين، وتأخر عنه بإذنه الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن([44])، وموسى بن جعفر([45]) جاءه فانكب عليه وقال: "إجعلني في حلّ من تخلّفي عنك"، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إليه فقال: "أنت في سعة([46])".
_________________________
([42]) ـ سليمان بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- كان من وجوه العترة وفضلائهم جليلاً نبيلاً فاضلاً كاملاً بايع الحسين بن علي الفخي -عَلَيْه السَّلام- وجاهد معه حتى استشهد معه في الوقعة سنة تسع وستين ومائة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
([43]) ـ الإمام إدريس بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب - عليهم السلام - ، أحد أئمة أهل البيت - عليهم السلام - وهو مؤسس الدولة الزيدية في المغرب ، خرج مع الحسين بن علي الفخي على موسى الملقب بالهادي ، ونجى من القتل ، ثم توجه بعد معركة فخ وقتل الحسين بن علي إلى مصر ، ثم إلى المغرب سنة (172هـ) فاستجابت له البربر ، واجتمعوا على بيعته وطاعته ، وتمت له البيعة ؛ فخرج غازياً حتى شارف مدينة فاس ، ففتح معاقلها، واستولى على طنجة واستجاب له أهلها ، ثم توجه إلى تلمسان وغزاها واستولى عليها وبايع له ملكها ، وامتدت نفوذه ، وتوسعت بسطته ، وعظم أمره ، وكان ذلك في أيام هارون الرشيد ، فخافه خوفاً شديداً ، ثم أرسل إليه رجلاً فسمه سنة (177هـ) في طُلَيْطُلة من بلاد الأندلس.
([44]) - الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي ، أبو عبدالله ، قال في المقاتل : إنه حبس مع عبدالله بن الحسن وأخوته . انظر الجداول.
([45]) ـ موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط ابن علي أمير المؤمنين - عليهم السلام - ، من فضلاء أهل البيت وعلمائهم وعبادهم .
ولد - عليه السلام - سنة ثمان وعشرين ومائة (128هـ) بالأبواء ، ويكنى أبا الحسن وأبا إبراهيم، أقدمه المهدي العباسي بغداد ثم رده ، ثم قبض عليه موسى الهادي العباسي فحبسه ثم أطلقه ، ولما تولى هارون الرشيد أكرمه وعظمه ثم قبض عليه وحبسه عند الفضل بن يحيى البرمكي ، ثم أخرجه من عنده فسلمه إلى السندي بن شاهك ، ومضى الرشيد إلى الشام فأمر السندي بن شاهك بقتله ، فقيل : إنه سمه ، وقيل : إنه لف في بساط حتى مات.
وكان - عليه السلام - أسود اللون ، عظيم الفضل ، رابط الجأش، واسع العطاء ، ولقب بالكاظم لكظمه الغيظ وحلمه ، وكانت وفاته سنة ثلاث وثمانين ومائة وعمره خمس وخمسون سنة.
([46]) ـ انظر مقاتل الطالبيين (ص375، 376) .
[ذكر بداية ظهور مذهب الإمامية]
ولم يعلم بين هذه العترة الطاهرة إختلاف في ثبوت الإمامة لمن قام من أحد السبطين الطاهرين الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام-، وهو جامع لخصال الإمامة، إلى أيَّام المأمون وتصنع في عمل مذهب الإمامية، يريد بذلك فرق الشيعة والعترة، وأطلق الأموال الخطيرة لمن يعلم منه الإلحاد ، وشدة كيد الإسلام ، فصنفوا في ذلك كتباً ظاهرة السقوط والبطلان، وصفوا فيها الإمام بصفات لا توجد ولا تصح إلاَّ للباري- تعالى- من علم الغيوب وقلة الإحساس، إلى غير ذلك من الجهالات كظهور المعجزات على يديه، وجواز التقية والإنكتام، إلى غير ذلك، فنفذ سحره، وتم كيده، إلاَّ على من عصم الله -تعالى-.
[عودة إلى ذكر ظهور الإمام الفخي(ع) وخطبته]
فظهر في الليلة التي ذكرنا، ودخل المسجد عند أذان الصبح ومعه أصحابه، وصعد المنبر وجلس إلى أن أُذن للصبح فصاح يحيى بن عبدالله بالمؤذن وقال : "أذّن بحي على خير العمل"، فلما لاح للمؤذن السيف أذن به، وكان والي المدينة يقال له عبدالعزيز بن عبدالله العمري من أولاد عمر بن الخطاب، وكان فيه قسىً وأساء معاملة الأشراف من آل النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وكان يُلزمُهم الحضور إليه في كل يوم، فإذا غاب واحد منهم لحاجة طالب به قرباءه، وكان الحسن بن محمد بن عبدالله بن الحسن غاب ، فطالب الحسين بن علي ويحيى بن عبدالله -عَلَيْهما السَّلام-، وجرى بينهما وبينه خطب طويل، فلمَّا قام الحسين بن علي -عَلَيْهما السَّلام- وقد حضر العمري المسجد للصلاة فعاين أمرهم وأحس بما كان يخشى، دهش وتلجلج لسانه من الفزع ولم يدرِ بأي شيءٍ يتكلم ، فصاح أغلقوا البغلة، وهو يريد الباب، وأطعموني جبتي، وخرج هارباً إلى دار عمر بن الخطاب، فلم يرتبط هناك، فخرج طائراً على وجهه في الزقاق المعروف بزقاق عاصم فلم يحتفل به أحد ونجى هائماً على رأسه بشر حال، والحمد لله تعالى.
وعُرِف بنوه وبنوهم ببني جبتي، وصارت تلك الكلمة نادرة عليهم إلى الآن، وصعد -عَلَيْه السَّلام- المنبر ثانياً بعد الصلاة، وخطب الناس خطبة بليغة قال فيها بعد حمد الله -تعالى- والثناء عليه والصلاة على النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: (أنا ابن رسول الله، على منبر رسول الله، في حرم رسول الله، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله ، وإلى أن أستنقذكم مما تعلمون)، فبادر الناس إلى بيعته -عَلَيْه السَّلام-، وكان يقول عند المبايعة: (أبايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، والعدل في الرعيَّة، والقسم بالسويَّة، وعلى أن تقيموا معنا، وتجاهدوا عدونا، فإن نحن وفينا لكم وفيتم لنا، وإن نحن لم نفِ لكم فلا بيعة لنا عليكم)، فلما استحكم أمر الدنيا تقدم -صلوات الله عليه- إلى مكَّة للحج، ونشر الدعوة منها، واستخلف على المدينة رياش الخزاعي، وكان صاحب بني العباس يوم ذاك موسى الملقب بالهادي([47]) بن محمد الملقب بالمهدي بن أبي جعفر الملقب بالمنصور بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، فوجَّه هذا العباسي الجيوش الكثيفة لحربه -عَلَيْه السَّلام-.
___________________
([47]) ـ موسى الملقب بالهادي ولد بالري سنة 144هـ ولي بعد وفاة أبيه المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور، وكان غائباً بجرجان فأخذ له البيعة أخوه هارون الملقب الرشيد سنة 169هـ في شهر المحرم وكان جباراً عنيداً فظاً غليظاً عنوداً حسوداً قل من يسلم من سطوته من جلسائه وكانت أمه الخيزران هي المستبدة بالأمر فأراد خلع أخيه هارون وتولية ابنه جعفر فلم تر أمه ذلك فأمرت جواريها فخنقنه سنة 170هـ.
[ذكر عدد أصحابه (ع) وعدد أعدائه]
أخبرني جدي سليمان بن القاسم -قدس الله روحه- أن عدتهم بلغت أربعين ألفاً، وكان عليهم من بني العباس العباس بن محمد([48])، وعيسى بن موسى، وجعفر ومحمد([49]) ابنا سليمان، ومن الجند مبارك التركي، وابن يقطين، فهؤلاء أمراء الأجناد، ولهم ـ أيضاً ـ من دونهم أمراء، وكان عدة أصحابه -عَلَيْه السَّلام- ثلاثمائة، وقيل يزيدون قليلاً هو بضعة عشر ونحو ذلك، على قول من قال عدتهم كانت عدة أهل بدر، فالتقوا نهار التروية، وقد رتّب كلٌ أصحابه ميمنة وميسرة وقلباً، فلقيهم -عَلَيْه السَّلام- على تعبئته غير ضيق بهم ذرعاً، ولا مستدخل من كثرتهم جزعاً، وهو -عَلَيْه السَّلام- يقول:
وإني لأنوي الخير سراً وجهرةً .... وأعرف معروفاً وأنكر منكرا
ويعجبني المرء الكريم نجاره .... ومن حين أدعوه إلى الخير شمرا
يعين على الأمر الجليل فإن يرى .... فواحش لا يصبر عليها وغيرا
________________________
([48]) ـ العباس بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس ، أبو الفضل الهاشمي : هو أخو السفاح وأبو جعفر المنصور، ولاه المنصور دمشق وبلاد الشام كلها ، وولي الجزيرة في أيام الرشيد ، أرسله أبو جعفر المنصور لغزو الروم في ستين ألفاً ، وكان مولده سنة (121هـ) وتوفي ببغداد سنة (186هـ) . الأعلام (3/264) .
([49]) ـ محمد بن سليمان بن علي بن عبدالله بن العباس العباسي ، أبو عبدالله أمير البصرة ، وليها في أيام المهدي سنة (160هـ) وعزل سنة (164هـ) وأعاده الرشيد ، وكان مولده (122هـ) وتوفي (173هـ) بالبصرة ، كانت نفسه تطمح إلى الخلافة ؛ فلم يتمكن من ذلك . الأعلام (6/148).
[بداية المعركة ومقتله ومبلغ عمره وموضع قبره(ع)]
ثم دعا رجلاً من أصحابه صليباً فأمره بالتقدم بين يديه داعياً لذلك الجند الظالم إلى طاعة الله تعالى، لإبلاغ الحُجَّة عليهم، فقاربهم ذلك الرجل وصاح بهم: (يا معشر المسودة، هذا حسين بن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، يدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فهل أنتم سامعون؟)، فرموه بالنبل فلحق بالإمام - عليه السلام- وكانت وقعتهم في فخ، وهو مكان معروف، وفيه مشهده -عليه السلام - يحرم للعمرة من شقه، فاشتهر مكانه -عَلَيْه السَّلام- وأعلم للقتال، فلما عرفوه جعلوا يصيحون به: (يا حسين لك الأمان) وهو -عَلَيْه السَّلام- مصمم فيهم تصميم اللَّيث الغضبان على سائمة الأنعام، وهو يقول مجيباً لهم: (الأمان أريد، الأمان أريد ـ يعني -عَلَيْه السَّلام- من عذاب الله تعالى ـ) يفعل ما أمر به هو وأمثاله من الجهاد والصبر واشترى النفس لله -سبحانه وتعالى- فرماه حماد التركي بسهم فصرعه ، وقد كان طعنه رجل من بني الحارث بن كعب طعنة هائلة لم يرق دمها ، فقال له بعض أهله([50]): لو تركتنا نقاتل ووقفت بحال هذه الطعنة، فقال: إني سمعت عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن الله -تعالى- يبغض العبد يستأسر إلاَّ من جراحة مثخنة )) ، فلم يرها -عَلَيْه السَّلام- مثخنة لشدة اليقين ما لم تكن قاتلةً من حينها، فقيل إن الحارثي([51]) لما حضرته الوفاة لقنه أهله الشهادة فلم يسمح بها لسانه وقال:
ألا لَيْتَ أمي لم تلدني ولم أكن .... لقيتُ حسيناً يوم فخّ ولا حسن
_______________________
([50]) ـ رواه الإمام أبو طالب في الأمالي (ص92)، عن القاسم بن إبراهيم - عليه السلام - عن أبيه إبرهيم بن إسماعيل .
([51]) ـ الذي رواه الإمام المنصور بالله في الشافي ج1 ص219، وصاحب مقاتل الطالبيين ص383 أن قائل هذا البيت هو محمد بن سليمان العباسي لارحمه الله.
ومات لوقته -لا رحمه الله تعالى- فلقد ارتكب جسيماً ، وأتى عظيماً، وحَسَنٌ هذا الذي ذكره هو أخو الإمام الحسين بن علي هذا وقتل في ذلك اليوم فأبلوا بلاءً عظيماً، وأعذروا في القتال عن نفوسهم وأديانهم حتى إستشهدوا جميعاً ما انحرف منهم واحد، ولا ولى العدو ظهره إلاَّ متحرفاً لقتال كما أمر الله - تعالى- وما بقي منهم إلاَّ من كانت جراحته خفيفة فعبر بين القتلى إلى الليل ثم لحق بجهته وهو الأقل ، فلما قتل قطعوا رأسه وأمروا به إلى هاديهم إلى النار موسى بن محمد، ودفن بدنه هنالك، وله قيل: إحدى وأربعون سنة، ولم يخالطه الشيب.
[كرمه وفضله(ع)]
وكان كاملاً في جميع الخصال، واختص من الكرم بما لم يعرف في أحد من العرب والعجم مثله، فعُوتب على كثرة الإنفاق وتفريق الأموال، فقال: (والله ما أحسب لي عليه أجراً ؛ لأن الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران:92] ، والله ما هو عندي وهذه الحصاة إلاَّ في منزلة واحدة ـ يعني المال ـ).
وجاء فيه([52]) من الحديث أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بلغ ذلك المكان الذي قتل فيه -عَلَيْه السَّلام- فصلى بالناس ركعتين، فلما صلى ركعة بكى فبكى المسلمون من حوله مكانه ، فقيل : ممَّ بكيت يا رسول الله؟، قال: ((أخبرني جبريل -عَلَيْه السَّلام- أن رجلاً من ذريتي يقتل هاهنا، يكون لكل شهيد معه أجر شهيدين))([53]).
________________________
([52]) ـ رواه أبو الفرج الأصصفهاني في المقاتل (ص366) بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر.
([53]) - رواه في مقاتل الطالبيين (366، 367) بسنده إلى أبي جعفر محمد بن علي.
[51]
جاء إليهِ أربعونَ ألفاً .... مثل الجبالِ يزحفونَ زحْفَاً
وَهُمْ ثلاثمائةٍ لا خلفاً .... فَحَكَّمُوا البِيْضَ وصفوا صفاً
[ذكر العقوبة العاجلة لمن شهد قتل الإمام الفخي(ع)]
وجه ذكر عدتهم ما أخبرني به جدي سليمان بن القاسم من لفظه وأنا أسمع، ومن تمام حديثه رحمه الله تعالى: (أن جميع ذلك الجند الظالم الذين شهدوا قتل الحسين بن علي -عَلَيْه السَّلام- إسودت وجوههم حتى صارت مثل طحاحيل الإبل فكانوا يعرفون بذلك بين الناس، ومن الجائز أن يكون النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أخبر بذلك فكان من جملة معجزاته).
وقد شبه أؤلئك الأعداء (بالجبال) لعظم كراديسهم([54]) .
(بالعارض([55])) وهو السحاب المتراكم الدابي، والتشبيه للعسكر به جائز، وهو موجود ـ أيضاً ـ في كلامهم وأشعارهم بحيث لا يفتقر إلى ذكرها هنا، وشبهه -عَلَيْه السَّلام- في القافية الأولى (بالبدر)، والبدر دونه في الشرف والإضاءة بنور الهدى، وأصحابه (بالنجوم) وكذلك كانوا، فجزاهم الله عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- والإسلام خير الجزاء، وجعل الآخرة خيراً لهم مرداً ومنقلباً.
________________________
([54]) ـ الكردوسة بالضم قطعة عظيمة من الخيل، وكل عظمين التقيا في مفصل، وكل عظم عظمت نحضته، انتهى من القاموس.
([55]) ـ شرح لقوله -عَلَيْه السَّلام- في البيتين المتقدمين وهو قوله:
إذ هو كالبدر وهم كالأنجم قد عمروا بعارض محرجم..
وسمَّاه (بالإمام المحرم) ؛ لأنه -صلوات الله عليه- قتل محرماً في اليوم الذي ذكرنا أولاً، وليس في القافية غريب إلاَّ قوله: (لا خلفاً): والخَلْف في أصل اللغة: ردي الكلام وكذبه - بإسكان اللام وفتح الخاء - والخُلف - بضم الخاء - نقيض الوفاء في الوعد، والخَلَف - بفتح الخاء وتحريك اللام بالفتح - نقيض السَّلَف وهم الأولاد، والسَّلَف الآباء، وأكثر ما يستعمل بالتحريك والفتح في الأعقاب الصالحة، وربما إستعمل شاذاً في الأعقاب الرديَّة كما قال الراجز:
إنَّا وجدنا خَلَفاً بئس الخَلَف .... أغلق عنَّا بابه ثم حلفْ
لا يدخل البواب إلاَّ من عرف
ولكن لا يقاس على مثل هذا لقلته وقد يجعل الخَلْف بالإسكان لردي الأعقاب والذراري، وأصله ما ذكرنا فافهم ذلك موفقاً.
قوله: (فحكَّموا البيض وصفوا صفاً): حكاية لصفة حالهم التي لقوا العدو عليها رضوان الله عليهم.
[حكاية صفة بسالة أصحاب الإمام الحسين الفخي(ع)]
[52]
وأَعمَلُوا في الروعِ أطرافَ الأسلْ .... ولم يَشُبْهُم جَزَعٌ ولا فشَلْ
بلْ صارَ صابُ الموتِ فيهمْ كالعسلْ .... فجاوروا خالقَهم عزّ وجلْ
هذا عائد إلى أصحاب الإمام المقدم ذكره -عَلَيْه السَّلام-، فجزاهم الله عن محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خيراً وعن عترته الطاهرين خير الجزاء. ولعمري إنهم صاروا في الرفيق الأعلى مع محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين -على محمد وعليهم أفضل الصلاة والسلام-.
وقد روينا في قطعنا على ذلك عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((ذخرت شفاعتي لثلاثة من أمتي: لرجل أحب أهل بيتي بقلبه ولسانه، ورجل قضى حوائجهم لما احتاجوا إليه، ورجل ضارب بين أيديهم بسيفه)) ، وقد جمعوا هذه الموجبات كلها للشفاعة -رحمة الله عليهم- فلذلك قطعنا على مصيرهم في جوار الحكيم -سبحانه- في جنَّة لا يظعن مقيمها، ولا ينفد نعيمها، ولا يهرم شبابها، ولا ييأس أربابها، ولا يكدر شرابها، ولا تهجم قبابها، فهم فيها ناعمون ، ومن جميع المنغصات سالمون، فَأَهْوِن بصبر ساعة أورث ما هذا حاله، فنسأل الله -تعالى- الخلود في جنانه، والمصير إلى رضوانه.
(الروع): هو القتال والصياح، وسمي روعاً لإرتياع القلوب فيه وهو ميلانها، أخذ من راع يريع إذا مال.
و(الأسل) والأسلات: الرماح.
و(الفشل): نقيض الثبات، وهو الإختلاط عن الحرب.
و(الجزع): هو شدة الحزن، وهو نقيض السرور، ومنه يتولد الغم، وهو ثمرة الجبن المناقض للشجاعة -نعوذ بالله منه- فهو من المناقص الكبار ـ أعني الجبن ـ...
و(صاب الموت): يريد مرارته، والعرب تستعير المُرَّ لما تكره، والحلو لما تحب، وإن لم يقع فيه حقيقة المرارة والحلاوة، ورأيت في كتب اللغة (الصاب) الحنظل، ووجدتهم في أشعارهم فرقوا بينهم ؛ بل رأيت ما يدل على أنهم جعلوه إسماً للصبر أو الصوب([56])، فهو على الجملة شجرة من كريهة المطعم، شَبَّه الموت بها لمرارته إلاَّ عند من علم بما في مقابلته من الثواب الجسيم، والنفع العظيم؛ فإنه يستحليه ويستعذبه ويهون عليه مشربه.
و(العسل) معروف وهو نوعان.
_______________________
([56]) ـ وفي نسخة (ن): الصبر أو الصاب، وفي (نخ) : للصبر أو الضرب...
[إيضاح أن أحباب العترة الطاهرة شيعة أمير المؤمنين (ع) لا ينقطعون في عصر من الأعصار]
[53]
وكمْ لنا مِنْ ناصرٍ في الشيعهْ .... قد جَعَلَ الحُبَّ لنا ذريعهْ
إلى منالِ الدُّرُجِ الرفيعهْ .... يرى الفنا في حُبِّنا صنيعهْ
أراد في هذا البيت إيضاح أن أحباب العترة الطاهرة من شيعة أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- لا ينقطعون في عصر من الأعصار ؛ لأن الناس لو تمالوا على عداوتهم -عَلَيْهم السَّلام- وإنكار فضلهم لعاجلهم الله -تعالى- بالعقاب وصبَّ عليه سوط عذاب، ولكن الله -سبحانه- من كرمه يرحم بالرجل الصالح أمَّة من الأمم، ويرفع عنهم واجبات النقم، وذلك لما روينا عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن العبد المؤمن ليبكي من خشية الله -سبحانه وتعالى- في أمَّة من الأمم فيرحم الله تلك الأمَّة لبكاء ذلك الباكي فيها([57]))) ، وقد شهد بذلك قول الله -سبحانه وتعالى-: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(25)}[الفتح] ، وبقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}[الأنفال:33] ، فدل ذلك على أن الطالح تترك معاجلته بالعقوبة لأجل الصالح.
و(الذريعة): هي ما يتوصل به إلى إدراك الغرض.
و(الدرج): هو المنازل عند الله -تعالى- في عرف الشريعة.
قوله: (يرى الفنا في حبِّنا صنيعة): يريد بالفناء الموت هاهنا، وهو عند أهل اللغة يسمى فناءً دون أهل الكلام فإن لهم فيه قولاً آخر.
و(الصنيعة) والمنَّة: معناهما متقارب، فيقول: يرى الموت بين أيدي العترة نعمة من النعم، وقسمة جزيلة من القسم.
_____________________
([57]) ـ رواه الإمام أبو طالب في الأمالي (ص422) ...
[بيان صفة ومرجع ومصير محب آل محمد (ع) المعترف بفضلهم]
[54]
فذاكَ مِنَّا كائناً مَنْ كانَا .... غداً ينالُ الفوزَ والجنانا
ويردُ الحوضَ بما وَالَانَا .... حوضاً يُوافي عندهُ أبانَا
معنى هذا البيت عائد إلى معنى البيت الأول، وهو في صفة محب آل محمد -عَلَيْهم السَّلام-، والمعترف بفضلهم المقر بحقهم، ومصيره ومرجعه، وأن محبهم منهم (كائناً من كان)، ونصب كائناً لوقوعه موقع المصدر وأجرى عليه حكمه.
والدليل على أن محب أهل البيت من جملتهم: ما روينا([58]) عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: أن الله - تعالى- قال له ليلة الإسراء: ((من خلفت على أمتك؟، قال: أنت يا ربّ أعلم، قال: خلفت عليهم الصديق الأكبر، الطاهر المطهر، زوج ابنتك وأبا سبطيك، يا محمد أنت شجرة ، وعلي أغصانها، وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمارها، خلقتكم من طينة عليين، وخلقت شيعتكم منكم، إنهم لو ضربُوا على أعناقهم بالسيوف لم يزدادوا لكم إلاَّ حُبًّا)) . فما ظنكم بمن أنكر فضلَ ثمرةٍ رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أصلها، وزعم مع ذلك أنه شيعي لها، ما تنفع الدعوى بغير شهود.
وقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((المرء مع من أحبّ، وله ما اكتسب)) .
______________________
([58]) ـ مجموع الإمام زيد - عليه السلام - (ص406).
وورود الحوض لا يكون إلاَّ لأتباع آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فهم أشياعهم، ولا يكون ذلك إلاَّ بالإعتراف بفضلهم ومطابقتهم في قولهم وعملهم واعتقادهم، ولا يرد الحوض إلاَّ من خلصت مودته لهم، ولا يخلص مودتهم من أنكر فضلهم ، وجحد حقهم ، وساوى بينهم وبين غيرهم ، ومثلهم بأغتام العُلُوج ، وطماطم الزنوج، ومثل هذا لا يغبى على منصف.
ووجه قوله: (يرد الحوض): ما روينا عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إذا كان يوم القيامة قمت أنا وأنت يا علي على الحوض، والحسن والحسين يوردان شيعتنا، ويطردان أعداءنا([59]))) . فلم نقل شيئاً في أمرنا إلاَّ لأمر ثابت عن صادق الخبر جدنا، فتأملوا -رحمكم الله- ما فوت على نفسه السالكُ غيرَ سبيلنا، المستغني بزعمه بنفسه عنا، فنسأل الله -تعالى- الثبات في الأمر كله.
__________________________
([59]) ـ سيأتي تخريجه في قول الإمام - عليه السلام - : هذا أخذناه بإسناد قوي .
[صفة حوض الرسول(ص)]
[55]
خصَّ بهِ اللهُ أبانَا المنتجَبْ .... وفيه للناظرِ أنواعُ العجبْ
حصباؤه الدُّرّ ومجراه الذهبْ .... وطعمُه أعذبُ من طعمِ الضَّرَبْ
الحوض ـ ما تقدم ذكره ـ، وقد تواتر عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- نقله، واختلفت الرواة في تقريره، فقيل: هو مثل ما بين مكة والمدينة -حرسهما الله تعالى- جعله الله -تعالى- في عرصة القيامة، وموقف العرض والحساب ليعظِّم به سرور المؤمنين، وتشتد له حسرة الفاسقين والكافرين، من البغضة لعترة خاتم النبيئين -صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين- المنكرين لفضلهم على العالمين ، وما خصهم الله به من ولادة سيد المرسلين، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، أشد بياضاً من اللبن، وأشد حلاوة من الشهد.
(حصباؤه الدُّرّ) والياقوت واللؤلؤ، (ومجراه الذهب) الخالص واللجين على ماشاء الله -تعالى- أن يكون أبلغ في باب الحسن تشريفاً وتعظيماً لنبي الرحمة وسيد الأمة -عليه وآله السلام-، ولم ينكره أحد من أهل الشهادة، إلاَّ أن الباطنية فرقة تظهر الشهادة وهي خارجة عن فرق الإسلام لتأولهم الشريعة، ومخالفتهم لما علم من دين النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ضرورة، يزعمون أن الحوض إشارة إلى القائم المغربي، وأن شرابه الطيب ـ الذي حكى ـ إشارة إلى علم ذلك القائم، وفي ذلك العلم الحلاوة لأنه رفع عنهم به التكاليف الشاقة من الصلاة والصيام، وحج بيت الله الحرام، إلى سائر خرافاتهم التي خرجوا بها من دائرة الإسلام ، وأباحت سفك دمائهم للإمام ، ونحن لا نتكلم معهم في هذا وإنما نتكلم معهم في إثبات الصَّانع، تعالى وصفاته، وما يجوزعليه، وما لا يجوز، وأفعاله، وأحكام أفعاله، وما يحسن منها، وما لا يحسن. ثم نتكلم بعد ذلك في النبوءة، وأن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا يجوز أن يكون مُلبساً ولا مُغلطاً ولا يكتم شيئاً ممَّا أمر الله به عباده ؛ لأن ذلك ينقض الغرض ببعثته، فعند ذلك ينقطع كلامهم ، وينتقض إبرامهم، وجملة أنهم يستهزؤن بالشرع والشارع، وينكرون الصَّانع، يعرف ذلك من شاهد أحوالهم، واطلع على أسرارهم القبيحة التي ستروها بالكتمان، فشهرها ونعاها عليهم أعيانُ الله على عباده ، وأمناؤه في بلاده ، تراجمة الدين ، وحماة سرح المؤمنين ، من العترة الطاهرة المكرمة، لا العترة الغامضة المكتمة، فميز بعقلك الأمور تكتب في ديوان الفائزين.
[ذكر من يكون عند الحوض يوم القيامة]
[56]
وعندهُ الحيدرةُ الضرغامَهْ .... وولداهُ صاحبا الإمامهْ
وكلّهم في كفِّهِ صدَّامهْ .... تَنفِي عَنِ الفاسقِ عَظْمَ الهامهْ
(الحيدرةُ): هو علي -عليه أفضل الصلاة والتسليم-.
و(الضرغامَةْ): هو الأسد، نعته بذلك لما جرى من التمثيل السابق على ألسنة العرب وإلاَّ فهو -صلوات الله عليه- أشد بأساً من اللُّيوث العادية، والقروم السامية، أين المثل من الممثول، ولكن في تشبيه الله -تعالى- لنوره بمصباح المشكاة أسوة حسنة.
(وولداه): الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام-، وقد أوضح ذلك بقوله: (صاحبا الإمامة) لأنه لا إمام من ولده -عَلَيْهم السَّلام- إلا هما، ولا نص على سواهما ـ كما قدمنا في باب الإمامة ـ.
قوله: (وكلهم في كفّه صدّامة): يريد بلفظ الجمع بكل: الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام-، وذلك شائع في اللغة، ولأن أصل الجمع التثنية وإن كان العرف قد نقل عنه، وقال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] ، معنى {صَغَتْ} [التحريم:4]: مالت عن الحق لإظهار سر النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
وقال الراجز:
ومهمهين قَذَفَين مرْتين .... ظهراهما مثل ظهور التُرْسَين([60])
.... [جبتهما بالنعت لا بالنعتين([61])] ....
وشواهد هذا الجنس كثيرة.
و(الصدّامة) ها هنا: هي العصا، وسميت صدّامة لأنها تصدم من وجهت إليه، وأصل المصادمة: المدافعة الشديدة، وبذلك سُمي يوم الحرب يوم الصدَام، وتصادَم الفرسان إذا تلاقيا كلٌ يدفع صاحبه إلى نقيض مراده.
قوله: (تنفي عن الفاسق عَظم الهامة): يريد ؛ تكشف عظم رأسه عن أم دماغه ؛ لأن الطرد لا يكون إلاَّ بذلك، وهو أهل لما وصل إليه من الإهانة والعذاب لبغضته ورثة الكتاب.
________________________
([60]) - هذه لخطام المجاشعي ، وقيل لهميان بن قحافة . والمهمة : المفازة ، والقذف -بالتحريك- : الذي يقذف سالكه فلا يمكث فيه أحد ؛ وقيل : البعيد . والمرت -بالسكون-: القفر لا ماء فيه ولا نبات . والترس : حيوان ناتي الظهر .
وثنى (ظهراهما) على الأصل وجمع فيما بعد لأمن اللبس ، ولأنه ربما كره اجتماع تثنيتين لا سيما عند تتابع التثنية كما هنا ، وقال النحاة : كل مثنى في المعنى مضاف إلى متضمنه يختار في لفظه الجمع لتعدد معناه وكراهية اجتماع تثنيتين في اللفظ ، ويجوز مجيئه على الأصل كما هنا ويجوز إفراده كقوله : حمامة بطن الوادييني ترنمي .
والجوب : القطع ، والنعت : الوصف ، ويروى : بالسمت لا بالسمتين. والسمت : الهيئة والقصد والجهة والطريق . والمراد أنهما وصفا أو ذكرت هيأتهما له مرة واحدة . يقول : رب موضعين قفرين لا أنيس فيهما له ظهران مرتفعان كظهري الترسين قطعتهما بالسير بنعت واحد لا بوصفهما لي مرتين أو ثلاثة كغيري ، ويجوز أن المعنى بذكر نعت واحد من نعوتها لا بذكر نعتين بالنعت بمعنى الصفة القائمة بالشيء وفي الكلام دلالة على شجاعته وحذقه . تمت من حاشية على الكشاف.
([61]) - هذه الزيادة غير موجودة في النسخة ولكن زيادة فائدة وتوضيح ، تمت.
[تفصيل أخبار ورود الناس على الحوض]
[57]
فمَنْ أتى وهو لنا وليُّ .... سقاهُ من كاساتِهِ([62]) النبيُّ
ومَنْ أتى وهوَ بنا شقيُّ .... صبَّ على خُرْطُومِهِ العصِّيُّ
هذا تفصيل معنى الخبر الذي في أول القصة، من أتاه وهو موالٍ لآل محمد -عليه وعليهم أفضل السلام- مبار لأعدائهم، متابع لهم في أعمالهم وأقوالهم، معترف بحقهم، مقرّ بفضلهم على جميع الأمة التي فضلها الله -تعالى- بفضل جدهم على جميع الأمم، سقاه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بكأسه ، وأورده حوضه. وإن أتى وهو على غير الصفة المتقدمة صبَّ الحسنان الطاهران - عليهما السلام - على خرطومه العصي، و(خرطومه): أنفه ومقدم وجهه كما ورد في الخبر عن الصادق المصدوق -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من قوله: ((والحسن والحسين يوردان شيعتنا، ويطردان أعداءنا فيضربانهم ضرب الإبل الهيم )) ، وذلك عنوان العذاب الأليم، والخلود في الجحيم، وتجريع الحميم، نعوذ بالله من عذابه، ونسأله المصير إلى كريم ثوابه.
________________________
([62])ـ في (ن): كأسه...
[صفة باغض العترة ومنكر فضلها عند انصرافه من موضع الكرامة إلى موضع الندامة]
[58]
وَرُدَّ مَلْعُوناً شقياً خائبا .... قَدْ صَدَعَ السِّبطان مِنْه الحاجبا
فَانصَاعَ مَلْهوفاً حَزيناً نادبا .... إذْ لمْ يؤدِّ في الوِدَادِ الواجبا
هذه صفة باغض العترة ومنكر فضلهاعند إنصرافه من موضع الكرامة إلى موضع الندامة.
(والملعون): هو المبعد المطرود.
(والشقي): هو الخاسر الذي لا يظفر بمراده بعد الإلحاح في طلبه ـ هذا في الأصل ـ وهو نقيض السَّعيد ؛ لأنه الظافر بمراده بغير طائل كلفة ـ هذا في الأصل ـ.
و(السِّبطان): هما الحسنان -صلوات الله عليهما- ولما كانت ولادتهما نبوية نقل إسمهما من أولاد يعقوب، كما سميا شبر وشبير بإسم ولدي هارون لمشابهة علي -عَلَيْه السَّلام- لهارون في الخلافة والشركة في الأمر، وذكر صدع الحاجب إستدلالاً وإن لم يرد تفصيله في الخبر؛ لأنه لا يُصَدُ عن الماء مع شدة الظمأ، وتلهب الأحشاء، إلا بهوان ظاهر، وشر قاهر.
و(الإنصياع): هو الإنعطاف بسرعة من المخوف المفاجيء.
و(الملهوف): الذي بلغ به الظمأ غايته.
و (الحزين): معروف،و زيادة كشفه: أنه المغموم المهموم، وهو في الأصل مأخوذ من الصعوبة، ولهذا قيل للمكان الصلب حَزْن، كما أن السرور مأخوذ من الأسرَّة ، وهي الأماكن السهلة المطمأنه.
و(النادب): هو المعلن البكاء ، الذاكر بلسانه موجبات الشجى، أخذ من الندب وهو الشق، فكأن فاعل ذلك يشق قلب نفسه وسامعه.
قوله: (إذ لم يؤدِّ في الوداد الواجبا): لأن محبَّة أهل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- واجبة على كل مسلم لقول الله -تعالى- آمراً لنبيئه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] ، فمن لم يخصصهم بالمودة فقد ظلم رسول الله أجره، وظالم رسول الله أكبر الظلمة وشر الفاسقين.
وقد روينا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي([63]))) . وهذا ـ كما ترى ـ أمر، والأمر يقتضي الوجوب، فلولا تخصيص الله -تعالى- لهم بالفضل لما قرن -عليه وآله السلام- حبَّهم بحب الله -تعالى- وحبِّه -عليه وآله السلام-، يعقل هذا كل مستبصر لم يطمس الران قلبه.
________________________
([63]) ـ أخرجه الإمام المرشد بالله في الأمالي (1/152) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما - ، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (78).
[بيان صحة ما تقدم من أخبار الحوض]
[59]
هذا أخذناهُ بإسنادٍ قويّ .... وقَدْ نَظَمنَاهُ على حرفِ الرويّ
إنِ ارعَوَى عن الضَلالِ مُرْعَوي .... فالناسُ قسمان سعيدٌ وغوِي
يريد بهذا ما تقدم من خبر الحوض وطرد أعداء العترة -عَلَيْهم السَّلام- وحضور الأشهاد على العباد وهم محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على الحوض، أخذ ذلك كله بأسانيد([64]) قويه تنتمي إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الذي لا يجوز إعتراض الشك في شيءٍ ممَّا جاء به. وألفاظ البيت ظاهرة، زيادة كشف ذلك: أن (الإرعواء) هو الرجوع في الأصل.
________________________
([64]) ـ أخبار الحوض متواترة شهيرة رواها الجم الغفير من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وشيعتهم وغيرهم من العامة وروي بألفاظ مختلفة وفي مواقف متعددة وسنذكر بعضاً من تلك الروايات:
فمنها: ما أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/370) عن أبي هريرة وجابر بن عبدالله قالا: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((علي بن أبي طالب صاحب حوضي يوم القيامة فيه أكواب كعدد نجوم السماء وسعة حوضي ما بين الجابية إلى صنعاء)) قال: رواه الطبراني في الأوسط (1/68) رقم (188) .
ومنها: ما رواه أيضاً الهيثمي (9/138) عن عبدالله بن إجارة بن قيس، قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- وهو على المنبر يقول: (إني أذود عن حوض رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بيدي هاتين القصيرتين الكفار والمنافقين كما تذود السقاة غريبة الإبل عن حياضهم) قال: ورواه الطبراني في الأوسط (4/44) رقم (5153).
ومنها: ما رواه المحب الطبري في الرياض النضرة (2/211) عن علي -عَلَيْه السَّلام-، قال: (لأذودن بيدي هاتين القصيرتين عن حوض رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- رايات الكفار والمنافقين كما يذاد غريب الإبل عن حياضها)، قال: أخرجه أحمد في المناقب.
ومنها: ما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/135) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((يا علي معك يوم القيامة عصى من عصي الجنة تذود بها المنافقين عن حوضي))، قال: رواه الطبراني في الأوسط، ورواه أيضاً ابن حجر في تهذيب التهذيب (3/284).
ومنها: ما رواه أيضاً في مجمع الزوائد (9/176) عن أبي هريرة أن علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، قال: يارسول الله أيما أحب إليك أنا أم فاطمة؟ قال: ((فاطمة أحب إلي منك، وأنت أعز علي منها، وكأني بك وأنت على حوضي تذود عنه الناس وإن عليه لأباريق مثل عدد نجوم السماء)) ورواه الطبراني في الأوسط (5/380) رقم (7675).
و(الغوي): مجاوزة الحد، وأصله في الفصيل يجاوز الحد في الرضاع فيهلك ، أو يشفي على الهلاك، فاستعير لمن يجاوز أمر الله ؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك.
و(حرف الروي): هو ما تنبني عليه القصيدة، وهو مطلق ومؤسس، وله تفاصيل لا وجه لذكرها ها هنا.
[بيان أن بغض أهل البيت (ع) سبب هلاك أكثر الناس]
[60]
لم يُهلِكِ الناس سوى بغضانا .... لو ساعدونا وَرِثُوا الجِنَانَا
ونالوا الغِبْطَةَ والأمانَا .... وفَارَقُوا الذِّلَّة والهوانا
يقول إن هذه الأمة لو اتبعت هداتها من أهل بيت نبيئها -عليه وآله السلام- لسلكوا لهم المنهاج الواضح ، وقصدوا بهم العلم اللائح، ولَما عال فيهم مسلم، ولا ضهد معاهد، ولجرت الأمور على سننها ، وما عاقها عائق من غاياتها ، ولَما ضلّ ضال في دين الله ، ولا عشا عاشٍ عن ذكره، ولا انقلب أحد من المسلمين بسهم غبين، وقلب حزين، ولكان اليتيم هويداً، والمؤمن سعيداً، والكافر طريداً سليباً، والباطل قصياً([65]) غريباً، ولكنهم بغضوا هداتهم ، ورفضوا ولاتهم من عترة نبيهم ، وفلك نجاتهم -صلوات الله عليهم- وألحدوا في فضلهم،
_______________________
([65])ـ في (ن): قضاءً.
واستغنوا عن علمهم بجهلهم، فشردوا في الآفاق، واشتد عليهم عقد الخناق، والعترة ممحصة بالحوادث، وأعداؤهم ممحوقون بالكوارث ، قد رضوا بالدنيَّة، ورغبوا عن قسمة السويَّة، فما أصابهم من ذلك فهم جناته على نفوسهم. قال العليم القدير: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ(30)} [الشورى] .
و(الغبطة): ما يغبط عليه الإنسان.
و(الأمان): نقيض الخوف، وهو معروف ظاهر.
و(الذلّة): نقيض العزّة، وقد قدمنا الكلام في معناهما في الجزء الأول من هذا الشرح بدليله.
و(الهوان): هو الإستخفاف، والتنكيل بالفعل والقول لا يكون هواناً حتى يكون كذلك.
[بداية قصة من نازعه وأنكر عنده فضل أهل البيت (ع) وهو بزعمه مظهر للتشيع]
[61]
كم عايَنَتْ عيناي يوماً شيعي .... في أُهبةِ المنقطعِ المُطِيعِ
مُطَامِناً للظَّهَرِ في الرُّكُوعِ .... لا يَرفَعُ الصوتَ مِنْ الخُشُوعِ
(كم) ها هنا: نقيض كم في قوله: (وكم لنا من ناصر في الشيعة)، لأن هذا مبتدأ قصة من نازعه وأنكر عنده فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وهو بزعمه مظهر للتشيع، ولم يعرف معنى هذه التسمية، ولِمَا وضعت في الأصل ، مع أنه ـ والله محمود ـ لم ينكر فضل العترة -عَلَيْهم السَّلام- إلاَّ شذاذ من ضلال الأمَّة وطواغيتها ، الذين يتسترون من الناس بإسم التشيع وهو منهم على مثل ليلة القدر، كيف يكون شيعياً لآل محمد -عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم- من أنكر فضلهم، وجحد حقهم، وقبس العلم بزعمه عن غيرهم، وقد كانت هذه المقالة لا يجتريء أحدٌ عن إظهارها مع دعوى التشيع إلاَّ في زماننا هذا، فإنها قد فشت، وظهرت وتظوهر عليها وأعلنت، ورفع أهلها الحشمة في إظهارها، فصار الذاب عنها كثيراً، والداعي إليها جماً غفيراً. وأشد ما تكون نار البدعة صعوداً أقرب ما تكون جموداً، ونحن في زمان فترة أصبح لها الإسلام غريباً، والحق حريباً، فأذكرنا ذلك ما روينا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((بعثت بين جاهليتين: أخراهما أعظم من أولاهما))([66]) . وليس عظم أخراهما إلاَّ لتماليهم على بغض العترة الطاهرة، وإنكار حقها، وسفك دمائها، فيديلها الله منهم، ويبني فوق الكواكب قباب فخرها، ثم يرفعها سبحانه -وتعالى- مكرمة إليه، ويختار لها ما لديه، ويعاجل منكري فضلهم بالعقاب كما ذكره سبحانه في الكتاب: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(45)}[الأنعام].
___________________
([66]) - رواه الإمام المرشد بالله في الأمالي (2/277) بسنده إلى علي -عَلَيْه السَّلام- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((بعثت بين جاهليتين أخراهما شر من أولاهما)).
وقد قال النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في مثل ذلك: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فإذا زال أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون، وإذا زالت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون))([67]) . فربُّنا الرحمن المستعان على ما تصفون.
قوله في صفة منكر فضلهم إنه (في أهبة المنقطع المطيع): لأن حاله كانت كذلك، لباسه الصوف، وظاهره التقشف والتنظيف، وذلك أعظم في الفتنة، وأشد في المحنة. ثم وصفه (بالمتطامن) في الركوع لأنه يحسن أعمال العبادة في الظاهر، وإن محقها بالإعتقاد الباطن.
ووصفه (برفع الصوت) لأن حال أكثر من أنكر فضل العترة -عَلَيْهم السَّلام-، كذلك يماوتون أصواتهم في الكلام، لينفذ سحرهم في العوام، فيلقنوهم بغضة آل محمد البررة الكرام -عليه وعليهم أفضل السلام- وإنكار ما جعل الله -تعالى- لهم من الفضل على جميع الأنام. وقد قال أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- في مثل ذلك: (قطع ظهري إثنان: عالم فاسق يصد الناس عن علمه بفسقه، وذو بدعة ناسك يدعو الناس إلى بدعته بنسكه).
________________________
([67]) - قال الإمام الحافظ الحجة الولي مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي -أيده الله تعالى- في لوامع الأنوار (ط2) (100، 101): أخبار النجوم والأمان شهيرة رواها الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام وكتاب معرفة الله والإمام الرضا علي بن موسى الكاظم بسنده المتصل عن آبائه (ع) والإمام أبو طالب ، والإمام الموفق بالله، والإمام المرشد بالله، والإمام المنصور بالله (ع) بأسانيدهم وصاحب جواهر العقدين عن سلمة بن الأكوع ، وقال : أخرجه مسدد وابن أبي شيبة وأبو يعلى والطبري في ذخائر العقبى عن سلمة أيضاً، وصاحب الجواهر أيضاً عن أنس قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- : ((النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون)). قال : أخرجه ابن المظفر من حديث عبدالله بن إبراهيم الغفاري.
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- : ((النجوم أمان لأهل السماء)) ..الخبر بلفظ ما تقدم أخرجه أحمد في المناقب وهو في ذخائر العقبى بلفظ: قال : وعن قتادة عن عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- : ((النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب الشيطان)) قال : أخرجه الحاكم وقال الحاكم في المستدرك : هذا حديث صحيح الإسناد . انتهى المراد .
[62]
لَمّا ذَكَرْتُ عندهُ آل النبي .... لَفّفَ أطرافَ القِنَاعِ يحتبي
وقالَ لي دَعْ عنكَ ذِكْرَ المنْصبِ .... فالفضلُ في مذهبِنَا أمرٌ غَبِي
هذا تفصيل لحال من تقدم ذكره يقول: ما اختص الله -سبحانه وتعالى- به العترة الطاهرة من الفضل العظيم، والشرف الجسيم، الذي جعلهم -عَلَيْهم السَّلام- له أهلاً، وقرارة ومحلاً، وعقد لهم على جميع البشر الولاية والإمارة، ضاق لذلك صدر المنتحل التشيع الخاشع، ونفد صبره، وجمع للحبوة قناعه، وأظهر من إعتقاد فضل العترة الطاهرة إمتناعه، وقال: (دع ذكر المنصب)، وما المنصب؟ هذا أمر لا نعرفه في مذهبنا ولا نعتقده ، ونسي أن مذهبه وإعتقاده لا يكون حُجَّة على الحُجَّة عليه وعلى جميع البشر من الأسود والأحمر، أهل الحسام والمنبر، والصفا والمشعر، والمقام والمنحر. جعلهم الحكيم، سبحانه، أعلاماً للحُجَا ، وأقماراً للدجى، فتصلب في دفاع الحُجَّة، وشمر عن ساقه ليخوض اللجَّة.
فقلنا: فقد قال النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فيهم: ((قدِّموهم ولا تقدَّموهم، وتعلموا منهم ولاتعلموهم ولا تخالفوهم فتضلوا ولا تشتموهم فتكفروا)) . فنفض رأسه وأظهر شماته.
وقال: ما أهل البيت إلاَّ ناس من الناس، و على هذا مضت الشيوخ الأكياس.
قلنا: إنهم وإن كانوا كذلك فإنهم في الناس بمنزلة الرأس من الجسد، وبمنزلة العينين من الرأس، لا يصلح جسد لا رأس له، ولا رأس لا عين فيه، والناس مع إستوائهم في الإنسانية معادن وأجناس، كالذهب والفضة والحديد والنحاس، ألا ترى أن الإنسان الواحد مجموع أعضاء أفضلها الرأس.
قال: هذا لا يجوز في مذهبنا.
قلنا: هذا من ذلك، إن من أعاد الضمير في مذهبنا إلى نفسه وهو من غير أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- فقد إرتكب عظيماً ، وامتطى خطباً جسمياً، فلا تمحق هذه العبادة بالإنكار فضل أدلة الدنيا وشفعاء الآخرة ، فتشدد إستكباراً ، وازداد مع تلطفنا في الدعاء فراراً، فتأملوا الإحتجاج -رحمكم الله- فأكثر لفظه وجميع معناه قد كان بيننا وبين من أنكر الفضل ممن تقدمت صفته.
[حال من تقدمت صفته بالخشوع وانخفاض الصوت لما ذكر له فضل أهل البيت (ع)]
[63]
وخفَّ بعد الحلمِ والوقارِ .... وقامَ لي مُنْتَصِباً يُمَاري
بحُجَّةٍ دائمةِ العثارِ .... ساقطةٍ في وسطِ المضمارِ
من تقدمت صفته بالخشوع وانخفاض الصوت خف لما ذكر له فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، ورفع صوته بإنكاره، وكذلك سمعناه، والله على ما نقول وكيل.
قوله : (بعد الحلم) يريد في ظاهر الحال لأنه لما رآه خاشعاً متواضعاً ظن أنه لا ينكر فضل الهداة إلى سبيل الرشاد، والولاة في العباد والبلاد، فلو كان ما ظهر من حاله حلماً حقيقياً لم يلحقه من الحق خفه.
و(المماراة): هي المنازعة والمخاصمة والمجادلة.
ومعنى قوله: (قام لي): يريد ؛ قام إلي كما قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)}[المطففين] ، معناه ـ والله أعلم ـ إلى ربِّ العالمين.
ووصف حُجَّته بأنها (دائمة العثار) لأنه يجادل بالباطل ليدحض به الحق، لذلك عثرت حُجَّته ، وبطلت في لجة بحر الحق مجته.
و(المضمار): هو المكان الذي يجري فيه خيل الحلبة، وهي عشر: منها سبع: ترحا، وثلاث تقصى، وتقلا، ولا وجه لذكر أسمائها ها هنا، وكان أصل المضمار صيغة الخيل للسباق أربعين يوماً بتفاصيل يطول شرحها، فلما كان نهاية تلك الأعمال إرسالها في ذلك المكان سُمِّي مضماراً ، وللجدال غايات ، وللكلام فرسان ، فلما كانت حجة المخالف في الفضل لا تصل إلى غاية الحديث التي يبين فيها أمر المحق من المبطل، بل يتضح لأهل العقول فسادها في أوَّل وهلة وصفها بالعثار والسقوط في وسط المضمار ، وكذلك كانت الحال.
[حكاية مجادلته صلوات الله عليه للمخالف في فضل أهل البيت (ع)]
[64]
فقلتُ مهلاً يا أخا الزَّهَادَهْ .... إنَّا أخذنا عن رُوَاةٍ سادهْ
بأنهمْ للمسلمينَ قادهْ .... وحُبُّهُم مِن أفضلِ العبادهْ
هذا حكاية مجادلته للمخالف في فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- بالتي هي أحسن كما أمر الله -سبحانه- فاستغنى عن التفسير إلاَّ في اليسير لظهور المعنى فيه، فمعنى قوله (رواة سادة): يريد ؛ فضلاء ثقات عدولاً نقلوا لنا أن أهل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أفضل الناس وخير الناس ، وأن الدين لا يستقيم إلاَّ بحبِّهم ، فلذلك قال: (هو من أفضل العبادة) فمن ذلك ما روينا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال حاكياً عن جبريل: ((يا محمد طفت مشارق الأرض ومغاربها فلم أرَ أهل بيت أفضل من بني هاشم)) . ولا أصدق من دعوى قوم شاهِدُهم جبريل ، ثقة الملك الجليل، وكذلك الخبر الذي قدمنا ذكره في قوله -عَلَيْه السَّلام-: ((قَدِّمُوْهُم ولا تَتَقَدَّمُوْهُم)) وذلك يوجب الإنقياد لهم وكونهم قادة للكافة.
وقد روينا ـ أيضاً ـ بالإسناد الموثوق به إلى جعفر بن محمد -صلوات الله عليه- بإسناده عن آبائه -عَلَيْهم السَّلام- إلى النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه سئل: ((من قرابتك الذين أمرنا الله بمودتهم؟
قال: فاطمة وأبناؤها([68]))) . فهذه أخبار متظاهرة بعضها كافٍ في تصحيح معنى القافية وقيام الحُجَّة على المخالف.
وقد رأيت أن لفظة من ذلك ما تعرى من دليل مفرد قائم بنفسه، وقد كان الناس في الصدر الأول لا يختلفون في أن الموالي لأهل البيت، والمعتقد لصحة ما هم عليه، يعتقد فضلهم على جميع الخلق حتى نجم هذا الخلاف المتناقض.
___________________________
([68]) ـ رواه الإمام المرشد بالله في الأمالي عن ابن عباس (1/148)، وابن المغازلي الشافعي في المناقب (191) رقم (352) ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب (1/131) رقم (72) ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل من ثمان طرق (2/130، 146) رقم (822، 843) وذكر له شواهد، ورواه ابن البطريق في العمدة من تفسير الثعلبي ومسند أحمد بن حنبل ، ورواه الزمخشري في الكشاف (4/223) رقم (988) ، والطبراني في الكبير ، وابن أبي حاتم ، وابن كثير في تفسيره (4/133)
[زيارة جابر بن عبدالله رضي الله عنه لقبر الحسين بن علي(ع)]
يزيد ذلك ما روينا بالإسناد الموثوق به إلى جابر بن عبدالله الأنصاري -رحمه الله تعالى- أنه زار قبر الحسين بن علي -عَلَيْهما السَّلام- ومعه عطية العوفي زائراً،: قال عطية: فلما وردنا كربلاء دنا جابر من شاطيء الفرات فاغتسل، ثم اتزر بإزار وارتدى بآخر، ثم فتح صرة فيها سعد فنثره على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلاَّ ذكر الله -تعالى- حتى دنا من القبر قال: ألمسنيه فألمسته ، فخر على القبر مغشياً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلما أفاق قال: يا حسين يا حسين ـ ثلاثاً ـ، ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه، قال: أنَّى لك بالجواب ، وقد شخبت أوداجك على أشباحك ، وفرق بين بدنك ورأسك، فأشهد أنك ابن خير النبيئين، وابن سيد الوصيين، وابن حليف التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيد النقباء، وابن فاطمة سيدة النساء، وما بالك ألاَّ تكون هكذا وقد غذتك كف محمد سيد المرسلين، وربيت في حجور المتقين، ورضعت من ثدي الإيمان، وفطمت بالإسلام، فطبت حياً وطبت ميتاً، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة لفراقك، ولا شاكة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، فأشهد أنك مضيت على ما مضى يحيى بن زكريا.
قال عطية: ثم جال ببصره حول القبر فقال: السلام عليكم أيتها الأرواح الطيبة التي بفِناء الحسين -عَلَيْه السَّلام-، وأناخت برحله، أشهد أنكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين، والذي بعث محمداً بالحق -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
قال عطيَّة: فقلت لجابر بن عبدالله: وكيف ولم تهبط وادياً، ولم تعل جبلاً، ولم تضرب بسيف؟ والقوم فرقت بين رؤوسهم وأبدانهم، فأوتمت الأولاد، وأرملت الأزواج، فقال لي: يا عطيَّة سمعت حبيبي رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول: ((من أحب قوماً حُشر معهم، ومن أحب عمل قوم أشرك معهم في عملهم)) ، أحدرني نحو أبيات كوفان قال: فلما صرنا في بعض الطريق قال: يا عطية هل أوصيك ؛ وما أظنني بعد هذه السفرة لاقيك: أحبب محب آل محمد ما أحبهم، وأبغض مبغض آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ما أبغضهم، وإن كان صوَّاماً قوَّاماً([69]))). وهذا كما ترى تصريح من جابر -رحمه الله- بوجوب حب محبهم، وبغض مبغضهم ، وإن كان صوَّاماً قوَّاماً. ومنكر فضلهم مبغض وزيادة.
وقد روينا عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((مَنْ كان في قلبه مثقال حبَّة من خردل عداوة لي ولأهل بيتي لم يرح رائحة الجنَّة)) ، فهذا يؤيد قول جابر -رحمه الله-.
________________________
([69]) ـ روى زيارة جابر بن عبدالله : الإمام أبو طالب في الأمالي 93 عن عطية العوفي ، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين ، ورواه عن السيد أبي طالب (141) .
وكذلك فإنَّا روينا أن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال في المرض الذي توفى فيه -صلى الله وملائكته عليه وعلى آله-: ((أيها الناس إني قد خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي أهل بيتي، فالمضيع لكتاب الله كالمضيع لسنتي، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي، وأما أن ذلك لن يفترقا حتى اللُّقَا على الحوض([70]))) . فهذا ـ كما ترى ـ موجب للرجوع إليهم في جميع الأوقات إلى إنقطاع التكليف، وأن الله -تعالى- يحكم ما يشاء ويختار ما يريد، ولا إعتراض لأحد من خلقه عليه، وقد أوضح ذلك بقوله:
[الإخبار بما يجب على أهل الإسلام من التسليم لله -سبحانه- وترك الاعتراض عليه في فعله]
[65]
ليس على ربي اعتراضٌ لأحدْ .... يَفْعَلُ ما شاءَ تعالى ومَجَدْ
لم يَجْعَلِ الكلبَ سَواءً والأسدْ .... فَاطَّرِحُوا ثَوْبَ العنادِ والحسدْ
هذا إخبار منه بما يجب على أهل الإسلام من التسليم لله -سبحانه- وترك الإعتراض عليه في فعله، وهو نوع من الإحتجاج على من أنكر اختيار الله -سبحانه- لمن شاء من خلقه ؛ قوي لا يدفعه إلاَّ مكابر، لأنه لا ينقد على الحكيم إلاَّ من هو أعلى رتبة منه، ومن لحق بهذه الحال بلغ في الكفر الغاية القصوى، ونقل معه الكلام إلى إثبات الصَّانع -تعالى- وأفعاله، وصفاته، وما يجوز عليه، وما لا يجوز، وقد قال تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23)}[الأنبياء] .
________________________
([70]) ـ رواه الإمام الأعظم زيد بن علي في المجموع (404) والإمام أبو طالب في الأمالي (94) والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (73) .
ثم بين ذلك بقوله: (لم يجعل الكلب سواءً والأسد): لأنه سبحانه الخالق لهما، فجعل الكلب نجس الذات، والأسد طاهر الذات، وجعل الأسد مخوفاً جرياً، والكلب مهاناً زرياً.
قوله: (فاطَّرحوا ثوب العناد والحسد): هو إستعارة ها هنا، يقول: كأنَّ قائل هذا القول مدثر ثوب عناد وحسد فأمره بإلقائه، لأن ((الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) ، ذلك مروي عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا(54)}[النساء] . ولا يجهل هذا القدر إلاَّ جاهل مغبُون.
[حكايته لأحوال مناظرته ولطفه بخصمه واحتجاجه عليه بمحكم الآيات]
[66]
وجئتُهُ بمحكمِ الآياتِ .... وفَاصِلِ المُنْزَلِ في السُّورَاتِ
وقلتُ قَدْ جئتَ على ميقاتِ .... إنْ كُنتَ تبغي طرقَ النجاةِ
هذه حكاية لأحوال مناظرته ولطفه بخصمه واحتجاجه عليه بمحكم الآيات، وفاصِل قوارع السُّورات الشريفة، فما ازداد عن الهدى إلاَّ نفاراً ، وعن الحق إلاَّ فراراً، ونشر أذنيه، وقطب الجلدة التي بين عينيه فنعوذ بالله -تعالى- من دين يكون سبباً للهلاك، وحبالة للإرتباك. وآخر القافية ظاهر فلا يحتاج إلى تفسير.
---
[حكايته أنه بعد أن احتج عليه بالذكر احتج عليه بالسنة]
[67]
وقلتُ إنْ كنتَ تريدُ الجنَّهْ .... فهاكَ بعدَ الذكرِ حكمَ السنَّهْ
وخُذْ هنياً لستُ أبغي مِنَّهْ .... ودادُنا من العذابِ جُنَّهْ
يقول لما فرغ من الإحتجاج له أولاً، وعليه آخراً بآي الكتاب الذي فَهَّم الله -سبحانه وتعالى- عترة نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم وعليهم- عجائبه، ولقنهم غرائبه، وجعلهم أدلته وتراجمته، وقرنه بهم وقرنهم به، إحتج عليه بسنة النبيء صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم، وذلك هو الأليق بأهل المعرفة أن يبدءوا بكتاب الله -سبحانه وتعالى- ثم بسنة نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فمن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر. وقد تقدم من الآيات الباهرات ما فيه كفاية لكل عاقل منصف، وفرقناها في آخر الشرح رجاء أن يكون ذلك أقرب إلى حفظها.
فأمَّا السُّنة: فهي الأخبار التي وردت في هذا الباب في فضل آل محمد -عليه وعليهم السلام- ووجوب إتباعهم، والدفاع عن حوزتهم، والجهاد بين أيديهم، وهي كثيرة جداً لا يأتي عليها الإحصاء، ولا يحصرها الإستقصاء ، إلاَّ أنَّا قد ذكرنا في أثناء هذا الشرح ما يكون داعياً لمن كان طلب الحق مراده، إلى طرق رشاده، ولو لم يكن من ذلك إلاَّ ما رويناه بالإسناد الموثوق به إلى زيد بن علي -عَلَيْهم السَّلام- بإسناده عن آبائه عن علي -عليه السلام - أنه قال: ((بايعت لرسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وكنت أبايع له على السمع والطاعة في العسر واليسر، وفي أن نقيم ألسنتنا بالعدل، وفي أن لاتأخذنا في الله لومة لائم)) . فلما ظهر الإسلام وكثر أهله قال: ((يا علي ألحق فيها على أن تمنعوا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وذريته من بعده ممَّا منعتم منه أنفسكم وذراريكم، قال علي -عليه السلام -: فوضعتها من الله على رقاب القوم وفى بها لله من وفى، وهلك بها من هلك([1]))) . وهذا غاية التصريح بوجوب إتباعهم والذب عنهم، وأن ذلك أحد شروط بيعة الإسلام التي عقدها رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على كافة أمته، وقد ثبت أن من أخل بشرط من شروطها فكأنه أخل بالجميع، فلم يثبت له شيءٌ من الإسلام، وهذا واقع بشهادة المعصوم الذي لا يجوز عليه الكذب، وهو علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، عن أمر الصادق المصدوق الذي لا يقول شيئاً من تلقاء نفسه وإنما يؤدي ما أمره به ربُّه ، فقد ثبت لك أن الدفاع عنهم واقع لهم، والمنع لهم قائم مقام ذلك في رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وأن التأخر عنهم كالتأخر عنه، وذلك وجهٌ عظيم في إثبات الفضل لهم، لا يعمى عنه إلاَّ أعمى البصيرة، خبيث السريرة.
______________________
([1]) ـ رواه الإمام زيد بن علي في المجموع (402، 403) والإمام أبو طالب في الأمالي (126) والحاكم الجشمي في التنبيه (81) ، والطبراني في الأوسط عن جعفر بن محمد بسنده عن آبائه عليهم السلام (1/473) رقم (1745).
ثم قال للخصم المفتون: (ودادنا من العذاب جُنَّهْ): لدليل لا لهوى، وذلك ثابت فيما روينا عن أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ألا لا يجوزن أحد إلا بجواز، فيقال: وما ذلك الجواز؟، فيقول: حب أهل البيت المستضعفين في الأرض ، المغلوبين على حقّهم ، فمن لقيني بحبهم أسكنته جنَّتي، ومن لقيني ببغضهم أنزلته مع أهل النفاق([2]) )) . فقد رأيت أن حُبنا جُنَّة من النار ، وسبب لسكون دار القرار ، وجوار العزيز الجبَّار، وأن بُغضنا سببٌ لدخول النار وعذاب([3]) الجبَّار، والخلود فيها مع شر الأشرار ؛ لأن الله، عز من قائل، يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145] . ومنكر فضلهم أشد الناس لهم بغضة، وأرذل مخالفيهم طبقة ، لأنهم يدفعون الحق بما لم ينزل الله به سلطاناً، ولا يجدون عليه برهاناً إلاَّ بتقليد مشائخ لهم سابقين، لم يجعل الله لهم في وراثة النبوءة نصيباً، ولا في ولاية الأمر شركاً.
[جواب صاحب المقالة المقدم الذكر المنتسب إلى التشيع]
[68]
فقالَ لستُ خارجاً عَنْ مذهبي .... لو جاءني جبريلُ أو جاءَ النبي
إنَّ شيوخي قَدْ أجادوا أدبي .... وانتفختْ أوداجُهُ للغضبِ
____________________
([2]) ـ رواه الإمام المرشد بالله - عليه السلام - في الأمالي (1/157) عن جعفر بن محمد عن آبائه .
([3])ـ في (ن): غضب.
هذا جواب صاحب هذه المقالة المقدم الذكر المنتسب إلى التشيع، المتزيي بزي الصالحين، الذي ظهر للعترة الطاهرة عناده ، واستبان منها شراده ، لما بهرته الأدلة الكثيرة، وتظاهرت عليه الحجج الظاهرة المنيرة، قطع الحجاج بقوله: (لست خارجاً عن مذهبي لو جاءني جبريل أو جاء النبي) -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول: أنت أيها المحتج المستنصر المعنف في جحدان فضل العترة الطاهرة المنكر ، المفسق بذلك المكفر، يدل بولادة النبوءة وشرف البنوة، وكونك من ولادة التنزيل ، وكفالة جبريل، ولو جاء جبريل الأمين، وخاتم النبيئين، ما رجعت عمَّا أمرني به شيوخي عن إنكار فضل العترة والمساواة بينهم وبين أولاد أبي بكر.
ثم يحتجّ بتأديب شيوخه له الذي كان أصلاً لإنكار فضل العترة الطاهرة، الذي جعلهم الله أدلاء أهل الدنيا، وشفعاء أهل الآخرة، فلما انتهى إلى هذه الحال من العماية إنتفخت أوداجه، وكثر لجاجه، فنعوذ بالله من الشقاوة والخسارة، ونسأله أن يجعل التقوى لنا بضاعة وتجارة.
ثم عقب ذلك بنوع من أنواع الإستعطاف، وسبب من أسباب الألطاف، ووجه من وجوه الإنصاف.
[حكايته لصفة حاله مع المخالف المنكر فضل العترة الطاهرة]
[69]
فقلتُ رِفْقَاً أيّها الإنسانُ .... بِحُبِّنَا يُسْتَكْمَلُ الإيمانُ
وبُغْضُنَا غايتُهُ النيرانُ .... ونحنُ للخلقِ معاً أمانُ
هذا صفة حاله مع المخالف المنكر فضل العترة الطاهرة، فأمره بالرفق والنظر والتثبت ؛ لأن الأمر عظيم جسيم، وقال: (بحبنا يستكمل الإيمانُ): لأن باغض العترة يستحق النار وغضب الجبَّار، إنكار فضلهم أقوى أسباب البغضة ؛ لأنه يصد الناس عن اتباعهم والفزع إليهم، فلو أتى بجميع خصال الإيمان على أبلغ الوجوه إلاَّ هذه الخصلة لما أغنى عنه ذلك من عذاب الله شيئاً ؛ وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد روي عن جابر بن عبدالله عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهودياً، فقال له جابر: يا رسول الله وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟، قال: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم([4]))) . والأخبار في ذلك كثيرة لا تحصى، لو لم يكن منها إلاَّ ما روينا عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((حرمت الجنَّة على من أبغض أهل بيتي، وعلى من حاربهم، وعلى المعين عليهم أولئك لا خلاق لهم في الدنيا، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)) . فهذا بالغ مبلغه لكل عاقل منصف.
قوله: (ونحن للخلق معاً أمان): وذلك للخبر الذي رويناه أولاً أنه قال: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهب النجوم من السماء أتى أهلَ السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهلَ الأرض ما يوعدون)) ، وهذا غاية البرهان لمن لم يجعل عقله حسيماً ، وعرف الفرق بين المسميات والأسماء ، فزع إلى أولى العباد بالعباد ، وحجة الله على الحاضر من خلقه والباد ، أقمار الحق المنيرة ، وهداة كل ذي بصيرة.
[70]
إنْ شكَّ في المولودِ يوماً والدُ .... فَحُبُنَا لهُ عليهِ شاهدُ
ما كذبَ الحيَّ الحلالَ الرائدُ .... قولي إلى طُرُقِ الرشادِ قائدُ
هذا غاية التنبيه لأهل البصائر على أن بغضة أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- أسفل الخلق درجة ؛ لأنه لا يبغضهم إلاَّ من يكون مخلوقاً من غير ماء صاحب الفراش فيأتي رديء المنصب، فتؤدّيه رداءة منصبه إلى بغضة العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام-.
___________________
([4]) ـ رواه الإمام الناصر الأطروش في البساط (98) والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (198) والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان في الحقائق ـ خ ـ، والطبراني في الأوسط (3/104) رقم (4002) والهيثمي في مجمع الزوائد (9/175) والشيخ الصدوق في المجالس (273) .
وقد روينا عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((من أنكر فضل أهل بيتي، أو([5]) أبغضهم، أو جحد حقّهم ـ أشكل لفظ الخبر بين هذه الألفاظ وهي كما ترى متقاربة ـ فهو لغير رشده))([6]).
ومعنى قوله: (فحبنا له عليه شاهد): يقول: إذا شك الوالد في ولده هل هو له أم لا؟ واتهم أمّه، نظر في حال الصَّبي فإن كان محباً للعترة فهو له، وإن كان باغضاً لهم فليس له، فليحسن النظر في تسريحها بإحسان ، ويعلم أنها من متخذات الأخدان، وذلك ثابت بنص الصادق الذي لا يكذب ولا يجوز عليه السهو فيما يتعلق بالتأدية إلينا ولا النسيان، والخبر الذي قدمنا ظاهر في الأمة والأئمة حتى قيلت فيه الأشعار، فمن ذلك قول الصاحب([7]) الكافي -نفعه الله بصالح عمله- حيث يقول:
أحبّ النبيّ وآل النبي .... لأني ولدتُ على الفطرةِ
إذا شكّ في ولدٍ والدٌ .... فآيته البُغْض للعترةِ
فأدرج معنى الخبر ونظمه شعراً، وكان من المجيدين.
_______________________
([5])ـ في (ن): و.
([6]) - روى الإمام الناصر الأطروش -عَلَيْه السَّلام- في كتاب البساط بسنده عن علي -عَلَيْه السَّلام- : ((لا يبغضنا إلا كافر أو ولد زنا)).
([7]) ـ الصاحب الكافي : هو إسماعيل بن عباد بن العباس أبو القاسم الطالقاني ، الملقب بالصاحب بن عباد ، ولد سنة (326هـ) لقب بالصاحب لصحبته مؤيد الدولة من صباه ، وكان متولياً للوزارة لبني بويه ، وكان مجلسه يمتلئ بالعلماء ، وكان الصاحب من أئمة العدل والتوحيد ، ومعدوداً في جملة الشيعة ، وكان عالماً فاضلاً أديباً شاعراً وجيهاً ، كان نادرة العصر ، وأعجوبة الدهر ، وكان ممن بايع الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني ، وله الكثير من القصائد الشعرية في الأصول ، وفي فضائل أمير المؤمنين علي - عليه السلام - وفي العدل والتوحيد وغيرها ، وله أيضاً الكثير من الكتب والرسائل، وكان يقول : ما تحت الفرقدين مثل السيدين ، يريد بالسيدين : الإمام المؤيد بالله ، والإمام أبو طالب - عليهما السلام - ، وتوفي رحمة الله عليه في شهر صفر سنة (385هـ).
قوله: (ما كذب الحيَّ الحلال الرائدُ): هذا مثل من أمثال العرب الدائرة في كلامها، يقولون: الرائد لا يكذب أهله، والرائد هو الذي يقص لهم الكلأ والماء إذا أرادوا إنتجاعه فهو يصدقهم لا محالة؛ لأنه مشاركهم في نفع ذلك وضره، يقول: فكما أن ذلك الرائد لا يكذب أهله أنا لا أكذبكم أيها الإخوان ؛ لأن أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- روّاد أهل الإيمان؛ بل رعاتهم وحماتهم من أُسود أهل الطغيان، إلاَّ أن تشرد عنهم شاردة، أو تفرد فاردة ، فتفترسها عواسِلُ الذوبان ، فتلحق مراقيها بالسحاب ، وتصل نفسها في التراب ، وذلك لايكون إلاَّ في أخبث البهائم نفساً ، وأردأها جنساً، فكيف يرضى عاقل لنفسه بمثل هذه الحال، ويشذّ عن هداته، وينفر عن ولاته ، ليتمسك بما لا دليل عليه؟
قوله: (قولي إلى طرق الرشاد قائدُ): لأن قوله بتفضيل أهل البيت، والإعتراف بأنهم خيرة الله من خلقه، وصفوته من عباده، يحمل على إتباعهم والموت دونهم، واختلاط اللحم والدَّم بحبهم، ويؤدي إلى([8]) ترك الإنقياد لغيرهم وإن طال عمره وكثرت عبادته، ومثل ذلك بحال الرائد فقال: فكما أن الرائد يرشد أهله في أمر دنياهم كذلك قولي يرشدكم في أخراكم.
[الساعي من أهل البيت في إصلاح الناس لايسأل الناس أجراً]
[71]
لم أسألِ الناسَ عليهِ أجرا .... عُذْرَاً لكلِ مؤمنٍ ونذْرَا
يُوسِعُني الأبرارُ عنهُ شُكرَا .... والظالمونَ سَفْهَاً وهُجْرَا
معنى هذا البيت ظاهر، وزيادة بيانه وكشفه: أن رباني أهل هذا البيت الشريف المخصوص من الله -تعالى- بالتشريف وصالحهم لا يسأل الناس أجراً على هدايتهم، بل يتمنى صلاح هذه الأمة بذهاب جوارحه، وفوات روحه، ولهذا يفزع في أول الكتيبة القليلة من المؤمنين، في مقابلة الدُّهم([9])، والدوسر المجر([10])، المشابه للبحر، من جنود الظالمين، برَّاق الثنايا وضاح الجبين، يعلم ذلك من حضر وخبَر ، لا من نفر وختر ، وظاهر الحال تدل على ذلك.
___________________
([8])ـ نخ: من.
([9]) ـ دهمهم الأمر : غشيهم ، وبابه فَهِمَ، وكذا دهمتهم الخيل ، والدَّهم جمع أدهم نوع من أنواع الخيول. تمت مختار صحاح.
([10]) ـ المجْر بسكون الجيم والتحريك لحن : الكثير من كل شيء ، والجيش العظيم . تمت قاموس.
قوله: (عذراً لكل مؤمنٍ ونذرا): يريد إعذاراً وإنذاراً، والإنذار هو المبالغة في النصح بترك ما يوقع في الشر إلى الإشعار بنزوله لنفع الإحتراز منه بالممكن، ومنه الحديث عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((قد أبلغ في الإعذار من تقدم بالإنذار)) ، يقول: قد أبلغ في النصيحة من أعلم بنزول الشر الذي يمكن الإحتراز منه قبل نزوله ؛ لأن الله -تعالى- ما حذرنا من شيءٍ إلاَّ ويمكننا منه الإحتراز خلافاً لما ذهبت إليه المجبرة، وذلك لأنه عدل حكيم لا يجوز عليه القبيح ولا العبث.
وخصَّ المؤمنين بالإنذار في القافية وإن كان إنذاره وإعذاره يتعلق بالجميع لأنهم ينتفعون بذلك دون غيرهم من الفاسقين المصرحين والمتأولين فأضافه إليهم.
ومعنى قوله: (يوسعني الأبرار عنه شكرا): يريد ؛ يكثرون شكره على موضوعه هذا لكونه نافعاً لهم في أجل المطلوبات وهو ثواب الآخرة، وزاجراً لهم عن أهول المرهوبات وهو عذاب الآخرة، نعوذ بالله منه.
و(السَّفه) معروف، و(الهجر) هو الكلام القبيح المختلط المعيب، فيقول: إن الظالمين يقابلون هذه العلوم التي نشرها، والحكم التي أظهرها ، بهجر من القول ، وسفه من الكلام، كما قوبل بمثل ذلك جده -عليه أفضل الصلاة والسلام- وأخبر بتوطين نفسه على احتمال ما يقع عليه في ذلك ممَّا لا خطر له، لأنه موطن لها في إحياء الدين على اقتحام القَتَام([11])، وهزم اللهام([12])، وإعمال حد الحسام، حتى يكسو كفه علقاً ([13]) ، وينقلب صافي الكدر([14]) طرفاً رنقاً([15])، ولاشطط([16]) وكأن قد، وما ذلك على الله بعزيز.
[حال الطاعن في أعراض الأئمة (ع)]
[72]
مَنَحْتُ فيه كلَّ باغٍ عِرضي .... قَرضاً وما أثقلهُ من قَرضِي
أعددتهُ ذُخْرَاً ليوم عَرضي .... يوماً به المرءُ ثقيلُ النَّهْضِ
____________________
([11]) - القتام : كسحاب الغبار ، تمت قاموس.
([12]) - اللُّهام: كغُراب العدد الكثير ، والجيش العظيم . تمت قاموس.
([13]) - العَلَق -محركة-: الدم عامة ، أو الشديد الحمرة ، أو الغليظ أو الجامد ، تمت قاموس.
([14]) - الكدر : نقيض الصفاء.
([15]) - رَنِق الماء كفرح ونصر ، رَنْقاً ورَنَقاً ورنوقاً كَدِر .
([16]) - قوله : ولا شطط معطوف على قوله : مما لا خطر له ، ولا شطط.
(المنح) معروف، وهو الإعطاء إبتداءً بمستغل يملكه الإنسان، هذا حقيقة المنح في أصل اللغة، وكان أصل ذلك في المواشي ثم استعير بعد ذلك للأرضين، فهو على هذا الوجه مجاز ها هنا في العِرْض.
و(الباغي) هو الآخذ ما ليس له وطالبُه، وأصل البغي الطَّلب، وحقيقته في عرف الشرع ما ذكرنا، والباغي ها هنا هو منكر الفضل لأنه طلب ما ليس له، وهو أن الله -تعالى- ساوى بينه وبين صفوته من عباده ولم يرفعهم عليه درجات، وكان بذلك من أبغى البغاة، وأحكام البغاة قد ذكرها آباؤنا -عَلَيْهم السَّلام- بما فيه كفاية وغنى عن تحريرها ها هنا.
قوله: (قرضاً): يريد ؛ أقرضتهم قرضاً يكون قضاؤه يوم الحاجة، وهو يوم القيامة، وفي ذلك ما روينا عن أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن الناس اليوم شجرة مثمرة ويوشك أن تكون شجرة شايكة لا ثمر فيها، فإذا كان ذلك فاقرض من عِرْضك ليوم فقرك([17]))) .
قوله: (وما أثقله من قرض): تعظيماً لحال الإعتراض على الهادين، من عترة خاتم المرسلين -سلام الله عليهم أجمعين- وإرسال كلام الفرية إليهم، وإن كانوا حملة الأثقال ، وشحاك الضلال ، ومن فات عقوبة الله -تعالى- بأيديهم في الدنيا والآخرة، فليس بفائت في يوم يشيب فيه الأطفال، ويعظم البلبال، وتشتعل النار، وتراكم الأهوال، يوم ليس فيه دينار ولا درهم، ولا ذهب ولا فضة، لا يؤخذ فيه فدية، ولا تنفع شفاعة، ولا تقبل معذرة، ولا هم من الله يصحبون، ولا من العذاب يرحمون، ولا من النار يخرجون، إنما هي الحسنات والسيئات.
ومعنى (أعددته): دخرته، لا فرق بين ذلك.
و(يوم العرض): هو يوم القيامة، نعوذ بالله من شدائده، وأهواله، ونسأله الصلاة على محمد وآله.
_______________________
([17]) ـ رواه الإمام المرشد بالله في الأمالي الخميسية من طريقين عن أبي أمامة الباهلي (2/53) بلفظ : ((إن الناس اليوم شجرة ذات جنى ويوشك أن يعود الناس كشجرة ذات شوك ، إن ناقدتهم ناقدوك ، ولو تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم طلبوك)) قال ، قلنا : فكيف المخرج يا رسول الله ؟ قال : ((تقرضهم من عرضك ليوم فقرك)).
[بيان الوجه في تسمية يوم القيامة بيوم العرض وحال الناس فيه]
وسمي يوم العرض لوجهين ؛ أحدهما: أن العباد يعرضون فيه على الله -تعالى- {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(31)} [النجم] .
وثانيهما: أن أعمالهم تعرض عليهم فيستأنسون إلى حسنها ، ويستوحشون من قبيحها، فيقولون ما حكى الله -تعالى- عنهم: {يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49)}[الكهف] .
قوله: (يوماً به المرءُ ثقيل النهضِ): وذلك من صفة ذلك اليوم، لأن المؤمنين يدخلون الجنَّة على قدر أعمالهم في البُطو والسرعة، منهم كالبرق الخاطف، ومنهم كالطائر، ومنهم كأسرع دابة في الأرض، ومنهم دون ذلك، ومنهم لا يدخل الجنَّة إلاَّ زحفاً. ولم نقل هذا إلاَّ لأثر بلغنا عن أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ولسنا نمنع ألا يكون مع كثير ممن خالفنا من هذا الذي قلنا خبر ولا أثر، فالحمد لله الذي هدانا لما جهله المفرِطُون والمفَرّطون، واعتقل دونه المتورطون، وجعلنا نمرقة وسطى يرجع إليها الغالي، ويلحق بها التالي.
فأمَّا أهل النار فيدخلون النار على أحوال مكروهة، نعوذ بالله منها، منهم من يسحب على وجهه حتى يكب في النار على منخريه وهذا يخص به المتخلف عنَّا، واللاحق بعدونا، والمتثاقل عن إجابة دعوتنا لقول أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم))([18]) . ومنهم من يبعث الله -تعالى- إليهم ملائكة بسلاسل من نار يسلكونهم فيها كما تسلك الخرز في النظام حتى يصير في السلسلة أمة من الأمم، فيأتي بهم إلى شفير النار فينبزهم فيها كما ينبز الحطب كما قال تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32)} [الحاقة] . ومنهم من يؤخذ بناصيته وقدمه فيجمعان ويسحب إلى النار، ومنهم من ينهضه ذنبُه فيمكث في موقف الحساب خائباً حسيراً، لا يملك من الأمر نفيراً، فيرسل الله -تعالى- عليهم عُنقاً من النار فيحترقهم كما يحترق السيل الغثاء، وهذا النوع من النكال يختص بالظالمين من أهل المعاصي، وكل هذه أمور هائلة، نعوذ بالله منها.
_____________________
([18]) - رواه الإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام (خ)، ورواه الحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (80) عن الحسين بن علي -عَلَيْهما السَّلام-: ((من سمع داعينا أهل البيت فلم يجبه أكبه الله على منخريه في النار)) . قال السيد العلامة أحمد بن يوسف زبارة رحمه الله في تتمة الاعتصام (5/432) : في شرح التجريد روى عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال : ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم)) رواه الطحاوي وهو في أصول الأحكام والشفاء وروى عن محمد بن يحيى الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- أنه قال الواعية فهو الإمام الداعي إلى الله عز وجل فمن سمع دعوته ونداه فلم يجبه فقد قطع حبله من الله وخرج بلا شك من طاعته وتمكن في معصيته ، وفي بعض الأخبار : ((فلم يجب)) وفي بعضها : ((من سمع داعيتنا)).
[إعتزاز الإمام(ع) بإتباعه نهج آبائه بالحجة والدليل]
[73]
لم أعْدُ مِنْهَاجَ جُدُودِي الصِّيدِ .... وقَوْلَهُم في العدلِ والتوحيدِ
وفي فُصُولِ الوعدِ والوعيدِ .... بحُجَّةٍ عَنْ غيرِ ما تقليدِ
يقال: عدى الطريق إذا مال منها وإن لم يتعمد([19])، وتعداها إذا مال متعمداً، و(المنهاج) معناه ومعنى الطريق والسبيل واحد.
و(جدوده) هم الأئمة الأعلام -عليهم أفضل الصلاة والسلام-.
و(الصيد): هم السَّادَة الفضلاء في عرف اللغة، وكان أصل الصيد في الإبل، واختلف فيه فقيل: هو داءٌ مَيَّل أعناقها، وقيل: هو أن الفحل إذا عظم حاله، وقهر سائمته التي هو فيها أمال عنقه عجرفة([20]) وصرف بخطاه([21])، ثم نقل إلى الرؤساء بعد ذلك، ولا أتم رئاسة، ولا أعظم نفاسة ممَّا حكم الله -سبحانه- لآبائنا -عَلَيْهم السَّلام- وأورثنا إياه إلى يوم نشر العظام ، من ولاية خاص خلقه والعام، وإلحاق الكفر والفسق لمن أنكر حقنا في ذلك من جميع الأنام، فهذه رئاسة في المستحفظين منَّا عامة، وفضيلة من الله -تعالى- تامَّة، فله الحمد على ذلك حمداً يكافيء نعمه إلى مبلغ علمه ورضاه.
___________________
([19]) - نخ (ن) : يعتمد.
([20]) ـ يكون الجمل عجرفيَّ المشي ، وفيه تعجرف وعجرفيِّة وعجرفة ، قلة مبالاة لسرعته ، وهو يتعجرف : يتكبر. تمت قاموس.
([21]) - نخ (ن) : بخطا.
وأهل البيت هم الصيد في المقامات التي تهجر فيها البيض الأغمادَ ، وتزوَرُّ([22]) الهوادي والأكتار، فهم في تلك الحال أهل التبيهس([23]) والعمهجية ، والأنوف الحميَّة ، كم من ناظر فيهم ملء الأرض جنوداً ببعض عينه إحتقاراً وقلة ، لا يميل في دين الله إلى الدنيّة ، ولا سَلم للذلَّة ، حتى تسيل نفسه الشريفة على شبا([24]) طوالها ، وطبقات نصالها، ضاحكاً مستبشراً، فالحمد لله الذي جعلنا لهم خلفاً، وجعلهم لنا سلفاً.
وأقوالهم في العدل والتوحيد موجودة، وصحفهم بأدلتها مشحونة.
والتوحيد قبل العدل في وجوب المعرفة، وأخره عنه في اللفظ لمزاوجة ألفاظ القافية، ومثل ذلك جائز، وقد تقدم كلامه في العدل والتوحيد، والوعد والوعيد، وتوابعها من النبوءة والإمامة، وسائر ما تعلق بذلك من الأحكام، الأول في الجزء الأول من شرح الرسالة الناصحة، فتأمل كلامه في ذلك وانظر في كلام آبائه الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- تجده كأنما خرج من مشكاة واحدة، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، ومعرفة جميع ذلك يجب على كل مكلف بالدليل.
____________________
([22]) - تزاور : عدل وانحرف. الهوادي : السنام . الأكتار : السنام المرتفع.
([23]) ـ التبيهس: التبختر تبيهس تبختر ، والعمهج المختال المتكبر، تمت قاموس.
([24]) - الشبا : الحدَّ من كل شيء . والطوال : كناية عن الرماح.
قوله: (بحُجَّةٍ عن غير ما تقليد): يقول: لأنه أخذ كلام آبائه ـ وهم أفضل العدول ـ بأوضح برهان، وأبين دليل، ولم يقتصر في ذلك على التقليد الذي لا يوصل إلى الظن فضلاً عن العلم كما فعلت اليهود والنصارى وكثير من ضلال الأمة، إذ([25]) الأصول من الدين يجب المصير فيها إلى العلم، والعلم لا يحصل إلا بالحُجَّة، والدليل هو الحُجَّة، وقد قدمنا في الجزء الأول من هذا الشرح فصلاً كافياً في بطلان التقليد.
[إهتمام الإمام(ع) بتحصيل العلوم منذ صغره]
[74]
ولم أزلْ مُذْ مِيْطَتِ التمائِمْ .... ولُوُّيتْ في رأسيَ العمائمْ
أسبرُ قولَ كلِّ فَذٍّ عالِمْ .... بفكرةٍ نافذةٍ كالصارِمْ
[بيان ما هي التمائم والعقيقة والعمائم]
(التمائم): ما يجعل في عنق المولود ويديه ورجليه من حنوط وهيئات تختلف العرب فيها، يزعمون أن بها تمام حياة المولود، فأمَّا نحن معشر أهل بيت النبوءة فنجعل تمائم أولادنا شيئاً من أسماء ربِّنا كما رويناه عن سيد البشر جدنا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وهو مما كان يعوذ به أبوينا المطهرين الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام-([26])، وكان جدنا إبراهيم خليل الرحمن يعوذ به ولديه إسماعيل وإسحاق -صلوات الله عليهم أجمعين-.
_________________________
([25]) - نخ (ن): أن.
([26]) ـ أخرج الإمام أبو طالب في الأمالي ص(95) عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - يعوذ الحسن والحسين : ((أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامَّة ، ومن كل عين لامة)) ويقول : ((كان أبوكم يُعَوِّذ بها إسماعيل وإسحاق)) ، وأخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (6/470) رقم (3371) عن ابن عباس.
وأخرجه أيضاً أبو داود في السنة (4/235) رقم (4737) والترمذي في الطب (4/396) رقم (2060) وأحمد في المسند (1/353) رقم (2438) ، وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط (3/344ـ 385) رقم (4793ـ 4899) ، ورواه أيضاً في مجمع الزوائد (5/116) والطبراني في الأوسط أيضاً (6/394) رقم (9183) عن علي - عليه السلام - وعن ابن عباس في الأوسط للكبراني (1/621) رقم (2275) والهيثمي (5/116ـ 117) بلفظ : ((أعيذكما بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، وذرأ وبرأ ، ومن كل عين لامة)) .
ومن ذلك العقيقة: وهي كبش أو كبشان يذبح لسبعة أيام من ولادة المولود، ثم يفصل إرباً ولا تكسر عظامه، ثم تدعا عليها جماعة من المسلمين، ويحلق شعر المولود ذلك اليوم ويتصدق بوزنه ذهباً أو فضة على قدر الإمكان، فكل هذا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبمشيئة الله -تعالى- تتم الحياة والبركة ؛ لأنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - لا يفعل شيئاً من تلقاء نفسه ، وإنما يفعل ما أمره به ربُّه ، وقد فعل كل ما ذكرنا لولديه المطهرين الحسن والحسين -صلوات الله عليهما وعلى من طاب من المنتسبين إليهما- فإذاً معنى التمائم: هي الكتب في حق أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، المتصلي الأنساب، العارفين بدلالة الكتاب، فإذا ترعرع المولود نزعت عنه تلك الكتب فلذلك قال: (ميطت التمائم).
و(العمائم) معروفة لهم خاصة، ولأهل الرفعة من العرب عامة، وأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- إذا نشأ فتاهم تعمم وأماط الشعر، وعلي -عَلَيْه السَّلام- الأصل في ذلك، لأن في الحديث عنه -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: سمعت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول: ((إن تحت كل شعرة جنابة فَبِلوا أصول الشعر وأنقوا البشر، قال -عَلَيْه السَّلام-: فمن هناك عاديت شعري([27]))) . واقتدى به في ذلك الطاهرون من ذريته. وقد رأينا([28]) من ترك ذلك فالله المستعان.
قوله: (أسبرُ): يريد به الفطن، والقياس، واعتبار صحيح الأقوال من سقيمها.
و(الفذ): هو الواحد المنفرد، وقد صار بالنقل يفيد المنفرد بخصال الكمال حتى صار حقيقة فيه.
و(العالم) معروف، وهو نقيض الجاهل في المجاز، لأن المناقضة الحقيقية بين العلم والجهل.
و(الفكرة) والرؤية معناهما واحد.
وقوله: (نافذة): يريد ؛ ماضية ؛ لأن فكرة البليد متحيرة لقلة تمييزه، وشبهها (بالصارم) وهو السيف الذي يصرم ما قابل ومعناه يقطعه، وبه سمي صارماً، ومنه سمي حصاد النخل صراماً، ومنه صرم المودة.
_______________________
([27]) ـ رواه بألفاظ مقاربة الإمام المؤيد بالله (ع) في شرح التجريد (خ) والإمام المتوكل علىالله أحمد بن سليمان (ع) في أصول الأحكام (خ)، وأخرج نحوه أبو داود في الطهارة (1/63) رقم (249) وابن ماجه في الطهارة (1/196) رقم (599) وأحمد في المسند (1/118) رقم (730) والطبراني في الأوسط (5/193) رقم (7034) بلفظ: ((من ترك شعرة من جسده لم يغسلها فعل به كذا وكذا في النار)) ، قال علي عليه السلام : (فمن ثم عاديت شعري).
([28])ـ في نخ (ن) : أُرينا.
[بحث في الافتخار]
وما ذكر في هذا البيت وفي الذي قبله وفي الذي بعده ممَّا يجري مجرى الإفتخار وذكر الفضائل خارج عن الباب المذموم، لأن القُصُود هي التي تُحَسِّنُ الأفعال أو تُقَبِّحها، وفي ذلك ما روينا عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((الأعمال بالنيَّات ولكل امرءٍ ما نوى([29]))) فلما كان غرضنا بذلك الدعاء إلى الدين، وتعريف الجاهل بواجب الحق، والكشف للمسترشد الطالب عمَّا يزيده بصيرة وبياناً في دينه حَسُنَ ذلك ؛ بل زاد على الحسن صفة الوجوب ولم لا يكون كذلك والله -تعالى- يقول حاكياً عن عمنا يوسف -صلوات الله عليه- على لسان أبينا محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55)}[يوسف] ، فوصف نفسه بالعلم والأمانة في كلام طويل، ولكن لفظ القرآن الكريم وجيز لكونه أشرف جوامع الكلم، وشهرة مثل ذلك عن صلحاء أهل البيت وأئمتهم -عَلَيْهم السَّلام- يغني عن الإستشهاد، وغرضهم ما قدمنا ذكره وإلاَّ فهم -عَلَيْهم السَّلام- أشد خلق الله تواضعاً، ولكن ليس هذا من التواضع في شيءٍ، لأن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أعلى خلق الله في التواضع لله ولصالح عباده طبقة، فما روينا عنه في هذا الباب إلا ما يكشف شرف قدره، وارتفاع ذكره.
روي عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال وقد ذكرت الفصاحة: ((ومن أفصح مني وأنا من قريش البطاح ونشأت في بني سعد؟)) .
____________________
([29]) ـ رواه الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان (ع) في أصول الأحكام بلفظ : ((الأعمال بالنيات وإنما لامرئٍ ما نوى)) ، وأخرجه البخاري في بدء الوحي (1/15) رقم (1) ومسلم في الإمارة (3/155) رقم (155/1907) والطبراني في الأوسط (5/196) رقم (7050) .
وروينا عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أن رجلاً من أصحابه درس شيئاً من التوراة، فبلغه ذلك فضاق حتى احمر وجهه وقال: ((والله لو أن أخي موسى في الحياة ما وسعه إلاَّ اتباعي))([30]) وذكر فضله على جميع ولد آدم، ونفى فخر الجاهلية دون فخر الإسلام، لأن فخر الإسلام لا يظلم فيه أحد من حقه، ولا يترك أحد يتناول ما ليس له، لولا هذا عند أهل العلم لتناقض الكلام، وإلاَّ فأي فخر وشرف أعظم من كونه أفضل ولد آدم، وقد كانت الجاهلية تمنع من الحقوق بالفخر، حتى أن المفضول إذا سبق إلى الماء لم يسق حتى يأتي الفاضل فيسقي قبله، وهذا عدوان نفاه رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)}[الضحى] ، ومن أكبر نعمة الله علينا أن جعلنا من ذرية الأنبياء، وهدانا لطرق الهدى، وعند تبييننا الواجب الحق يقع الإقتداء فيعظم الأجر الذي يجب التعرض له بكل ممكن، لأن الدنيا متجر عظيم الربح والخسران، فنسأل الله -تعالى- التوفيق. وما قلنا واضح لكل منصف لم تملِّكه([31]) نفسه هواها، ويصدها عن هداها، فيوالي بغير علم أعداءها، ويعادي على عمد مولاها، فبعداً لمن دسَّاها، وطوبى لمن زكَّاها.
[نشأة الإمام (ع) في صغره]
[75]
لم تُلْهِنِي في صِغَرِي الملاهي .... ولستُ أدري بِالعَيَانِ ما هِي
وذاكَ للنِّعمةِ مِنْ إلهي .... أحمدهُ إِذْ([32]) كان غيري لاهِي
يقال (ألهاه) كذا وكذا بمعنى شغله كما قال الله تعالى: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)}[التكاثر] ، وأكثر ما يستعمل فيما يوافق هوى النفس، وإن وجد مستعملاً في غيره ممَّا يشغل ويصد فهو الأمل.
و(الملاهي): هي آلات اللَّهو واللعب كالمعازف والطنابير والمزامير وما شاكلها.
________________________
([30]) - رواه في كتاب المدخل في أصول الفقه للإمام أحمد بن سليمان -عَلَيْهما السَّلام- والله أعلم . تمت هامش طبري.
([31])ـ في (ن) : يملك.
([32])ـ في (ن) : إنْ.
[ذكر إحاطته(ع) بعلوم الفرق]
قوله: (ولست أدري بالعيان ما هي): يقول: لست أعرف أعيانها ولا عاينت شخوصها وحجومها، وإنما عرفت أسمائها من الكتب وكلام علمائها فيها، لأن ما به ضلالة ولا هدى إلاَّ ولها علماً، قد أحطنا بمبلغ علمها في ضلالتها وهداها، لنتمكن من ردها عن ضلالتها بنقض أصولها ، فننقض ضلالها عن خبره ، ونقوي عزمها في هداها عن معرفة، ولهذا ألزمنا نفوسنا الإحتجاج عن كل فرقة من فرق أصول الأديان من أصولهم التي لا ينكرونها، فاحتججنا على أهل التوارة من توراتهم، وعلى أهل الإنجيل من إنجيلهم، وعلى أهل كل فرقة من فرق الكفر والإسلام من أصل مقالاتهم ، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:43] ، وإنما كان أصل هذه الملاهي عن قوم من الأوائل يدعون الإنفراد بالحكمة، وكيف يكون حكيماً من صنع آلة تشغل القلب عن الإستعداد للمرجع والمعاد؟ وتستوعب أوقاتاً لا سبيل للزيادة عليها والإستفاضة في غير ما خلقت له وسيقت إليه، وقد اتفق حكماؤهم على أن أبلغ ملاهيهم لهواً، وأتقنها صنعة، قالوا: وأشدها مناسبة لأنواع الحكمة، وأوقات الأزمنة، وأحوال العباد، والطبائع المركبة في الإنسان أربع، فجعلوا الزير([33]) بإزاء الشجاعة، والشجاعة بإزاء الصفراء، والمثنى بإزاء العدل، والعدل بإزاء الدم، والمثلث بإزاء العفة، والعفة بإزاء البلغم، والبُم([34]) بإزاء الحلم، والحلم بإزاء المرة السوداء.
________________________
([33])ـ الزير : هو الدقيق من الأوتار . تمت قاموس.
([34])ـ البم : الغليظ من أوتار المزهر . والبم بالباء الموحدة . انتهى من هامش الشافي.
قالوا: وقد يختص كل وتر بإحداث حال في السامع فيلزم المثنى عندهم السرور والطرب، ويلزم المثلث الجبن والجزع، ويلزم البُم الذي بإزاء السواد السرور والفرح، فجعلوا مزاجها مزاج الطبائع ـ أعني أوتارهم ـ وقابلوا بينها وبين الأزمنة بمناسبة ـ بزعمهم ـ عقلية عندهم، فمثلوا الزير والمثلث بالمرة الصفراء مع البلغم، وجعلوها بإزاء الصيف والخريف، وجعلوا بإزائهما من الأحوال الشجاعة والجبن، ومثلوا المثنى والبم بالدم والمرة السوداء، وجعلوا بإزائهما من الأزمنة الشتاء والربيع ؛ وبإزائهما من الأحوال السرور والحزن، وجعلوا تقلب هذه الأحوال مناسباً لتقلب أصابعهم ودساريتهم التي تختلف في كل وتر على حسب مرادهم في الإظهار.
قالوا: ولكل أصل من الأحوال فرع يتقوى على قدر قوة أصله، والشجاعة أصل الجود والملك والكرم، والجبن أصل الذل والبخل والرذالة، والسرور أصل اللَّذة والمحبَّة وحسن الخلق، والحزن أصل إنقطاع الشهوة وترك طلب المراد.
وقد قدمنا الدليل على قبح الملاهي من جهة العقل ؛ لأنها تشغل عن الإستعداد للأمور المهمة في الدين والدنيا، وما هذا حاله فهو قبيح عند كل عاقل.
وأمَّا من جهة الشرع: فنهي النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- عن سماعها، ووعيده عن أمر ربِّه على ذلك، وذلك لا يقع منه إلاَّ على أمر القبيح، وإذ قد ذكرنا ذلك لتعريف أهل كل رأي بأنَّا أعرف من كثير منهم بأصول رأيهم ليعلموا أنَّا لم نتركه لجهلنا به، وإنما تركناه لعلمنا بقبحه.
فلنرجع إلى تفسير القافية:
قوله: (وذاك للنعمة من إلهي): يقول: من أصول نعم الله عليه، لأنها لا تحصى أن جعله من أهل بيت سجيتهم الهدى، وشيمتهم الدين والتقوى، فلم يشتغل في حال صغره بشيءٍ من لهو الدنيا فيحتاج عند كمال العقل لمفارقة المألوف من ذلك إلى تعب وعناء، لأن مفارقة المألوف شديدة يعلم ذلك أرباب الحجا، وإنما كان إشتغاله في حال صغره بما عليه الصالحون من أهله (رضي الله عنهم) من عبادة العلي الأعلى، وخيفته لما يشاهد من خيفتهم من منكرات الأشياء، وذلك عادة الصالحين سيما من العترة الطاهرة وفي تربية الأبناء.
قوله: (أحمده إذ([35]) كان غيري لاهي): يريد ؛ غافلاً ممن عليه مثل نعمتي وهو لا يشكر مثل شكري.
[حكايته عليه السلام لكثرة نعم الله تعالى عليه]
[76]
كَمْ نعمٍ عندي له لا تُحصى .... عمَّ بها سبحانه وخصَّا
وأوجبَ الشكرَ لها ووصّى .... نصصتُ عنها شكر ربِّي نصّا
(كم): معناه التكثير، لأنه لا يحصيها العادون، ولا يحصرها الحادون ـ كما قدمنا ـ، فكأنه قال: كثيراً نعم الله عليَّ، فلا مكافأة لها إلاَّ الشكر ؛ لأنها لا يحصيها العادون، ولا يحصرها الحادون.
قوله: (عمَّ بها سبحانه وخصَّا): يقول: من نعمه عليَّ ما هو مما يصل نفعه إلى غيري فلذلك كان عامًّا لعموم نفعه، خاصًّا بخصوص موقعه، وإيجاب الشكر على النعم وارد في الشريعة والعقل، قال سبحانه: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ(152)}[البقرة] .
و (النص): هو إظهار الأمر، ومنه نصاص العروس، و(نصًّا): مصدره.
[الإمام المنصور بالله(ع) يذكر سعيه في إقامة الدين منذ صغره]
[77]
ولم أزل لمَّا حملتُ القَلَمَا .... ثُمَّ يَفَعْتُ وبلغتُ الحُلُمَا
أسعى إلى الدينِ الحنيفِ قُدُمَا .... ولو رماني دُونَ ذاكَ مَنْ رَمَى
يقول في حال الصغر وحمله القلم وهو أول مراتب ترسخ الصالحين، و(يفعته): وهو ترعرعه دون البلوغ.
________________________
([35])ـ في (ن) : إن.
و(بلوغ الحلم): هو بلوغ الحنث، وله في الشريعة ثلاث أمارات ليس لذكرها ها هنا وجه، أجرى الله -تعالى- العادة بإكمال العقل لمن أراد تعبده عند حصول إحداها، يقول: ففي هذه الحالات كلها يسعى قدما إلى الحق في حال صغره([36])، بتربية الأبوين الصالحين -رضي الله عنهما- وفي حال الكبر بالنظر والإستدلال، وقلة السآمة والملال، فلم ينفك من سعي إلى الخير إقتداءً وإبتداءً حتى حاز ـ بحمد الله ـ ما حاز من أسباب الهدى، فنسأل الله -تعالى- الثبات وإحماد العاقبة، وحسن الخاتمة، والصلاة [والسلام([37])] على محمد وآله.
و(الدين الحنيف): هو دين محمد وإبراهيم -صلوات الله عليهما- ومنه قوله سبحانه: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}[البقرة:135] ، وقولهم دين الحنيفية و(الحنيف): هو المائل إلى الحق على الباطل في عرف الشريعة، وأصله في اللغة الميل عن كل شيءٍ، ومنه سمي الأحنف بن قيس([38]) لميل كان في رجله، روي أن أمه رأته يلعب مع الصبيان فساءها ميل رجله فقالت:
والله لولا حنف في رجله .... ما كان في فتيانكم كمثله
فلم يكن مثله، ولم يضره حنفه.
قوله: (ولو رماني دون ذاك من رمى): يقول: لو صَّدني عن الحق من صدَّ بكلام أو فعال لم أنثنِ له ؛ لأنه من قوم هوَّن الله عليهم مقاومة ليوث الرجال، في القتال والجدال.
[الإمام المنصور بالله(ع) يبين أن صغر السن لايمنع من إرتقاء المعالي]
[78]
كم قائلٍ قال صغير السِّنِّ .... يُريدُ أنْ ينفي الكمالَ عنِّي
فقلتُ هذا من عظيمِ المنِّ .... إنْ كنتَ ذا جهلٍ فسائلْ عنِّي
________________________
([36]) - نخ (ن) : الصغر.
([37])ـ زيادة في (نخ).
([38]) - الأحنف بن قيس أبو إسحاق شهد مع علي (ع) صفين وكان من محبيه وشيعته توفي سنة سبع وستين أو إحدى وسبعين . قال الثوري : ما وزن عقل الأحنف بعقل إلا وزنه. انظر الجداول (خ).
صدر هذا البيت وما يجانسه لقصة بل لقصص شرحها يطول، وذلك أن من قدمنا ذكره من المنتحلين عداوة العترة الطاهرة وإنكار فضلها الذي إبتدأها الحكيم -سبحانه- به، أكثرَ إعتمادها في إحتجاجهم على صحة دعواهم هذه الباطلة بذكر مشايخ لهم، تقدمت موالدهم، وطالت أعمارهم، حتى حدبت ظهورهم، وأنخصت([39]) شعورهم ، وهم مكبون على إنتقاص العترة الطاهرة المرضيَّة، المشرفة على جميع البريَّة، فإذا حضَّهم الصالح على إتباع أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وتفضيلهم على جميع الأنام قال قائلهم: نحن على مذهب فلان؛ وهو لا يرى تفضيلهم، وهو على الحق لأنه شيخ كبير عالم قد مضى له من العمر كذا وكذا سنة، على هذا الرأي حتى نخص رأسه، وسقطت أضراسه، وهو يرويه عن شيوخ مثله ينعتهم بمثل نعته.
[ذكر بعض المعارضة للمنصور بالله(ع)]
وقد سمعت ما يقرب من هذا الكلام وأخبرت من طرق شتى بما يجانسه ؛ من ذلك ما رواه لي بعض من أثق به من الإخوان: أنه ناظر رجلاً منهم إلى أن أفضى الحال إلى ذكر من يؤخذ عنه العلم فذكر المخالف من يعتمد عليه من شيوخه، فقال صاحب الحق: لسنا نأخذ العلم إلاَّ عن أهله وهم آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، لأنهم أهل الحق ومعدن العلم، والنبي أبوهم، وكلٌ أعرف برأي أبيه، أو كلاماً هذا معناه، ولم آخذ هذا الكلام إلاَّ عن عبدالله بن حمزة، وسمعته يقول: (هم قرارة الحكمة، وفيهم وراثة الكتاب والنبوءة) فقال المخالف: (وكم عسى أن يفهم عبدالله بن حمزة في مدَّة قريبة وهو حديث السِّن، وشيوخنا قد توالت عليهم السنون الكثيرة؟) وعد([40]) منهم أشخاصاً، فجعل كبر السِّن حُجَّة، فأردنا إنهاء الذكر أن كبر السِّن وصغره لا تأثير له في زيادة ولا نقصان، وإنما التعويل على المعرفة.
_______________________
([39]) ـ نَخِصَ لحمه كفرح، ذهب، تمت قاموس، والحدب محركة خروج الظهر ودخول الصدر والبطن: حَدِب كفرح، واحدب واحدودب وتحادب، وهو أحدب وحدبٌ، تمت قاموس.
([40]) - نخ (ن): وعدد.
وقال: (إن كنت ذا جهلٍ فسائل عنِّي) يقول: إن كنت تريد الرشاد فاسأل شيوخك الذين عظم عندك خطرهم لكبر أسنانهم، وإضطراب أبدانهم، عن معرفتي في الدين، فإن أقروا بالواجب فذاك وإلاَّ فانظر بعين بصيرتك ما الواجب عليك؟ ومن يلزمك إتباعه؟ ومن يجوز لك خلافه؟ ولا تنظر في كبر ولا صغر ؛ لأن أصاغر أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- بالعلم والولادة النبوية كبار، وكبار أضدادهم بالجهل، واتباع العصبيَّة صغار. ومثل ذلك ذكر ابن عباس رحمه الله لنجدة بن عامر الحروري في شأن علي بن الحسين -عَلَيْهما السَّلام-.
[إختصاص أهل البيت(ع) بالعلم في الصغر بنصِّ جدِّهم رسول الله(ص)]
[79]
العلمُ في آلِ النبي من صِغَرْ .... نَصَّ بذاكَ جدُّهُم خيرُ البشرْ
وغَيرُهُم ليس بمغنيهِ الكِبَرْ .... لو شَابَ شعرُ رأسهِ أو انتثرْ
قوله: (العلم في آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من صغر): يريد؛ من وقت الصغر، معناه ظاهر، ودليله واضح من شاهد الحال، وقد كان الصدر الأول والذين يلونهم يعرفون ذلك ويعتقدونه ، وقد كان عبدالله بن عباس -رحمة الله عليه- يفضل الحسن والحسين على نفسه ، ويعرف حق قدرهما وعلمهما، وقصته مع علي بن الحسين -عليهما السلام- ونجدة بن عامر مشهورة، وهو أكبر من أبيه الحسين -عليه السلام-، ولازم النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وأخذ العلم عنه، ودعا له -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بالتفقه في الدين وانتشار العلم ، وكان في غاية الفطنة والمعرفة والكمال ، فيفضل علي بن الحسين - عليهما السَّلام - في حال صغره على نفسه في باب العلم، لأن لأهل هذا النصاب النبوي الشريف زاده الله شرفاً من التوفيق والتسديد، والعون والتأييد، ما ليس لغيرهم بولادة النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ولهذا جعل الله الأمر فيهم وألزم الكافة الرجوع إليهم بقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83] ، فهذا معلوم بظاهر النص في النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وفيهم من بعده بالإستدلال.
وكذلك قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)}[النحل] ، انعقد إجماعهم وهو حُجَّة أنهم المرادون بذلك، ودليله ظاهر في الكتاب في قوله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ}[الطلاق:10،11] ، فسمى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ذكراً. ولا خلاف في أنهم أهله.
[مخاصمة ابن عباس -رحمه الله- لمعاوية]
وقد روي قولنا هذا عن ابن عباس -رحمه الله- وذلك أن معاوية قال يوماً والناس عنده وجماعة من بني هاشم فيهم ابن عباس، فقال معاوية: (يابني هاشم لم تفخرون علينا، أليس الأب واحد، والأم واحدة، والدار واحدة؟، فالعجب لقوم أبونا وأبوهم غصنان من شجرة واحدة بماذا يفتخرون علينا؟) قال ابن عباس -رحمه الله-: (نفخر عليكم بما أصبحت تفخر به قريش على العرب، وتفخر به العرب على العجم، برسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- نفخر به، لا تستطيع له إنكاراً، ولا عنه فراراً) فقال معاوية: (يا ابن عباس لقد أعطيت لساناً ذرباً([41]) يكاد يغلب بباطلك حق غيرك) فانظروا رحمكم الله ما أدقّ تلبيس عدوّ الله على أغمار الحاضرين ، فقال ابن عباس -رحمه الله-: (إن الباطل لا يغلب الحق، فدع عنك الحسد فبئس الشعار الحسد). ثم ذكر ابن عباس إشراك الله -تعالى- لأهل بيت النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في أمره، فإنه أدخلهم في أمره في الخمس، حيث أدخله، وأخرجهم من الزكوة حيث أخرجه، وقرنهم الحكيم -سبحانه- بذكره وذكر رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال: (يا معاوية نحن قومه الأقربون وأنتم الأبعدون، ولا علم عندك في القرآن فتسألون ، وعلمه عندنا لا تجحدون، وقد أمركم الله بسؤالنا فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)}[النحل] ، وأوضح من هم أهل الذكر، وبين أنهم آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بقوله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ}[الطلاق] ، فسمّاه ذكراً، ثم قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)}[النحل] ، يعني أهل الرسول). فانقطع معاوية، فيا ويلنا هذا غير مستحدث.
_______________________
([41]) ـ الذربة بالكسر: السليطة اللسان ، وهو ذرب ، تمت قاموس.
[قصة أخرى لابن عباس -رحمه الله- ومعاوية]
وفي رواية أخرى أن معاوية -لعنه الله- قال يوماً: (إن لقريش ثلاثة أنساب: ذرية إبراهيم وبنو إسماعيل، والثاني: أنهم أولاد النضر بن كنانه، والثالث: إسم سماهم الله به ورضيه لهم، وجعل لهم الملك به فسماهم قريشاً وابتعث فيهم رسولاً كافة، فاستوى الناس في نبوءته، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ(44)}[الزخرف] ، فعمَّ من يشاء ولم يختص به أحداً دون أحد، وقد زعمتم يا بني هاشم أن النبوءة أوجبت الخلافة، وأن الخلافة لأهل القرابة، فما منعكم من طلبها بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ولو بسطتم إليها أيديكم لبسطت بنو عبد مناف أيديها معكم، ولو بسطت بنو عبد مناف أيديها لبسطت بنو قصي فما طمعت فيها تيم ولا عدي، فما منعكم من طلبها إلاَّ أحد أمرين: إمَّا أن تكونوا عرفتم صغرة قدركم في نفوس الناس ذكرهم أن يكفوكم بما في نفوسهم لكم، أو عرفتم أنه لا حق لكم فيها، وأمسكتم عنها، واتخذتم الكف لكم سُلماً إلى العذر مع أنكم في تركها كحافي الإمالة، وفي الجواب عنها كما قال قيس بن أبي حازم:
وكنتم كَذَابِ القِدْرِ لم يدر إذ غلت .... أينزلها مذمومة أم يذيبها
فأجابه ابن عباس -رحمه الله- بقوله: يا معاوية إنَّا وإن كان لنا من الأسماء ما ذكرت فأحبها إلينا الإسم الذي أطعمنا الله به من جوع وأمننا من خوف، أمَّا بعد: فإن الله نظر إلى أهل الأرض جميعاً فاختار منهم رجلاً واحداً، من خير الأحياء حياً فكان ذلك الرجل محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من حي واحد من أحياء قريش وهم بنو هاشم، ثم خصنا الله -تعالى- بقرابتنا منه إذ قرن حقنا بحقه فيما فرض له ولنا معه من الفيء والغنيمة، وأخرجنا من الصَّدقات، فلم يخرجنا مما أدخله فيه، ولم يدخلنا فيما أخرجه منه، ونحن معه يوم القيامة بالقرابة، ولنا بِكْرُ شفاعته، وقد قال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] ، وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}[طه:132] ، فأمر الناس بها كافة وخصنا معه بالذكر.
وأمَّا قولك يا معاوية: إنَّا عرفنا صغر قدرنا،. فمن ذا الذي في قريش أعظم منَّا قدراً، نحن أزمة الجاهلية وهداة الإسلام، ولم تختلف الأمة أن قريشاً أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن أهل بيت محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أفضل بني هاشم، وأن علي بن أبي طالب أفضل أهل البيت.
وأمَّا قولك: إنَّا عرفنا أن لا حق لنا فيها،. فلو عرفنا ذلك أمس عرفناه اليوم، ولعمري ما استفدنا جهلاً بعد علمنا، ولا نخاف بعد علم جهلاً، ولعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
فقال في ذلك قيس بن سعد بن عبادة:
قل لابن صخر جهاراً إن مررت به .... ما ذا دعاكم إلى هيج ابن عباسِ
ما ذا دعاكم إلى أفعى مصممة .... رقشا لها نفث عال على الناسِ
مهما يقل قالت الأحياء قاطبة .... هذا البيان وهذا الحق في الناسِ
فانظروا -رحمكم الله- ما أكثر أتباع معاوية -لعنه الله- ممن زعم([42]) أنه عدوه - في إنكار فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- بقرابة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وأكثر أعداء ابن عباس -رضي الله عنه- وأهل بيته -قدس الله أرواحهم- ممن يزعم أنه صديقهم وخاصتهم - وهو مع ذلك منكر فضلهم جاحد حقهم، وهذا باب يطول فيه الشرح فلنرجع إلى ذكر أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وما اختصهم الله -سبحانه- في العلم دون غيرهم من الناس.
[خبر السفينة العلوي]
فلو لم يكن في ذلك إلاَّ ما رويناه بالإسناد الموثوق به إلى أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: ((أيها الناس إعلموا أن العلم الذي أنزله الله على الأنبياء من قبلكم، في عترة نبيئكم، فأين يتاه بكم عن أمر تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة، هؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب السِّلم فادخلوا في السِّلم كافة، وهم باب حطَّة من دخله غُفر له، خذوا عني عن خاتم المرسلين حُجَّة من ذي حُجَّة قالها في حَجَّة الوداع: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض)) . ولم يستثن -عَلَيْه السَّلام- كبيراً من صغير من أهل هذا البيت -عَلَيْهم السَّلام-؛ بل من بلغ درجة أهل العلم عدّ منهم، وكيف لا يطلق لهم ذلك وهم أهل العلم المطهرون من الأدناس، المفضلون على سائر الناس بقوله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)}[الأحزاب] .
قوله: (نصَّ بذاك جدهم خير البشر): لما روي عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((تعلّموا منهم ولا تعلموهم، فإنهم أعلم منكم صغاراً، وأحكم منكم كباراً)) .
___________________
([42]) - نخ (ن) : ممن يزعم.
قوله: (وغيرهم ليس بمغنيه الكبر): يقول: التعويل على حصول العلم وهداية الله -سبحانه- لمن يشاء من عباده دون تقدم الميلاد، ولولا ذلك لما فضل علي -عَلَيْه السَّلام- على أبي بكر وعمر، ولقد قال المنافقون في ذلك الوقت (لا نقدم على شيخ الإسلام أحداً) - يعنون أبا بكر - ونقصوا علياً -عَلَيْه السَّلام- لحداثة سنه، ونسوا ما اختصَّه الله -تعالى- من حفظ العلم ووراثته، فأرى علة هذا الإحتجاج قديمة.
[ذكر أن العبد لا يصل من فعل ربه إلا إلى ما أراد به]
[80]
صبراً لحكمِ([43]) ربِّكمْ أو مُوتُوا .... فسوفَ أُبْدِي الشكرَ ما حييتُ
فما لكمْ ما شيئتُمُ أو شِئْتُ .... بل ما يشاءُ المحيِيُ المميتُ
(صبراً): مصدر الأمر، لأنه أمرهم بذلك والحكم لله -سبحانه وتعالى- فإن كرهتم -أيها الناصبون لأهل بيت نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- العداوة بإنكار فضلهم- مرادهُ فيهم، فموتوا بغيظكم فليس لكم ما أردتم، ولا لآمركم ما أراده، الإرادة لله -تعالى- في الجميع، وقد نبَّه تعالى على ذلك بقوله: {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}[الرعد:41] ، والمعقب: هو الذي يتعقبه بنقض أو تغيير، والله أعلم.
وهذا هو المتقرر من مذهب الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-، وعليه قامت الأدلة أن العبد لا يصل من فعل ربِّه إلاَّ إلى ما أراد به، وإن دقت حيلته، وعظمت قوته.
ثم بلغنا عن قوم ينتحلون التشيع في عصرنا هذا أنهم أحالوا بالحياة إلى إعتدال الأغذية، وانحراف الأمزجة، وأن كل واحد من الأمرين يحصل به للعبد نقيض مراد الحكيم -تعالى- وما لله -تعالى- في الحياة والموت لمن مات دون مائة وعشرين سنة إرادة، فإن صح ذلك فقد خرجوا - والله -تعالى- على جميع الحالات محمود مودود - من الشيعة الزيدية، ولحقوا بفرق الطبيعية، وكان الحكم والكلام على الجميع واحداً، ونقل الكلام معهم إلى إثبات الصَّانع -تعالى- وتوحيده، وما يجوز عليه، وما لا يجوز من أفعاله وأحكامه كما قدمنا.
_______________________
([43])ـ في (ن): بحكم .
[بطلان قول من قال لا فضل إلا بعمل]
[81]
ألْهَمَ يحيى حُكمَهُ صبيِّا .... وَجَعَلَ ابنَ مريمٍ نبيَّا
في المهدِ حُكْمَاً نافذاً مقضيِّا .... فَمُتْ أسَاً إنْ كنتَ رافضيَّا
(يحيى) المسمى في هذه القافية هو يحيى بن زكريا -صلوات الله عليهما- ورأيت لبعض([44]) آبائنا -صلوات الله عليهم- في تفسير قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا(12)}[مريم] ، أنه قال له الصّبيان: "إذهب بنا نلعب" وهو ابن ثلاث سنين، فقال صلوات الله عليه: ((ما للعب خلقنا)) ، وكان ذلك بإلهام من الله -سبحانه- له؛ لأن ابن ثلاث سنين في مجرى العادة لا يبلغ حسّه هذا الحد.
و(ابن مريم): هو عيسى -صلوات الله عليه- وهو أقرب الأنبياء والمرسلين من أهل الشرائع إلى محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبينه وبين محمد -عليهما السلام- ستمائة سنة كما حكي في التاريخ، وكان حمل مريم -كرمها الله تعالى- به -صلوات الله عليه- ثلاث ساعات من أول النهار، ربع نهار لا غير، وجاءها المخاض آية أظهرها الله -تعالى- بها وفيها، وذلك من قدرة الله -تعالى- قليل، وكان نبياً من أول وهلة، وقد نطق بذلك القرآن الكريم في قوله -صلوات الله عليه-: " {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)}[مريم] .
ووجه الإستدلال بهذه الآية أنَّا نقول: لا يخلو إمَّا أن يكون -عَلَيْه السَّلام- نبياً في حال قوله - هذا قولنا - فيكون -صلوات الله عليه- صادقاً.
وإمَّا أن يكون غير نبي في تلك الحال فيكون قوله: {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)}[مريم] كذباً فيكون كاذباً ولا يجوز ذلك ، ولم يقل به أحد من المسلمين ، لأن الكذب على الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- لا يجوز قبل النبوءة ولا بعدها؛ بل هم معصومون عنه في جميع الأحوال.
__________________
([44]) ـ هو الإمام الناصر أبو الفتح الديلمي -عَلَيْه السَّلام- ذكر ذلك في كتابه (البرهان في تفسير القرآن) في الجزء الثاني منه ، في تفسير سورة مريم.
[شبهات وردود حول آية: {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)} ]
فإن قيل: المراد بذلك سيجعلني نبياً، وبه فسره بعض آبائكم -عَلَيْهم السَّلام-.
قلنا: نحن نقدة علم آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- ومعنا شاهده، ونحن رواة ذلك، فلم تصح لنا هذه الرواية، ولأنهم -عَلَيْهم السَّلام- لا يخالفون دلالة العقل ومحكم القرآن؛ بل نحن نعرض ما روي عنهم -عَلَيْهم السَّلام- على محكم القرآن.
ألا ترى أن ظاهر الآية يقضي بأنه نبي في تلك الحال.
فإن قيل: المراد من جهة المعنى: سيجعلني نبياً.
قلنا: ذلك بالإختلال من طريق المعنى أولى، لأن واحداً لو قال: علمت كذا وكذا من فنون العلم.
ثم بحثناه عن ذلك فوجدناه جاهلاً بما ذكر أنه به عالم لعلمنا كذبه، لأن الخبر عن الشيء لا على ما هو به كذب عند أهل العلم بذلك، كما أن الصّدق الخبر عن الشيء على ما هو به. فإن قال: مرادي أني سأعلمه في المستقبل. لم يكن ذلك مخلصاً له عن الكذب عند أهل المعرفة، ومثل ذلك لو قال: تصدقت على فلان بعشرة دنانير. وظهر لنا أنه لم يعطه شيئاً فإنَّا نكذبه ولا نعذره بقوله: أردت سأتصدق عليه.
وتأويل كتاب الله -تعالى- لا يجوز وقوعه إلاَّ بأحد ثلاثة أوجه: عقل، أو نقل، أو لغة، بعد أن يجمع المؤول له شروطاً لا يحتمل الكتاب ذكرها لميلنا فيه إلى الإختصار، فكيف يفسر بما لا يعقل؟.
[ذكر ما يؤيد ما قاله في نبوة عيسى(ع) في حال صغره]
وممَّا يؤيد ما قلناه في نبوءة عيسى -عَلَيْه السَّلام- في حال صغره ما رويناه بالإسناد الموثوق به إلى الإمام السّيد فقيه آل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أحمد بن عيسى بن زيد -عَلَيْه السَّلام- بإسناده إلى على بن أبي طالب -رضوان الله عليه- في كتابه الذي وسمناه بـ (بدائع الأنوار في محاسن الآثار): أن عليًّا -عليه السلام- قال: "نزلت مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في قبر ولده إبراهيم -رضوان الله عليه- فلما وضعه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في لحده، وأضجعه على يمينه، غمس يده الطيبة المباركة عند رأسه في التراب إلى الكوع وقال: ((ختمتك من الشيطان أن يدخلك))، ثم التفت إلىَّ فقال: ((يا علي إن كان إبراهيم لنبياً))([45]) ثم فاضت عينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبكا المسلمون حتى ارتفعت أصوات الرجال على أصوات النساء، فنهاهم -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وقال: ((تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يغضب الرَّب، وإنا من بعدك يا إبراهيم لموجعون ، ثم قال: لو عاش ما أذنت في إسترقاق قبطي ولا قبطية))؛ لأن أمه -صلوات الله عليه- كانت من القبط، ويجوز أن يكون الله -سبحانه وتعالى- أعلمه أن في المعلوم أن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- إن حيي كان استرقاق القبط مفسدة في الدين، فقال ذلك -عَلَيْه السَّلام- عن أمر الله -تعالى- لأن الله تعالى يعلم ما لا يكون لو كان كيف كان يكون، كما قال تعالى في أهل النار: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}[الأنعام:28] .
__________________________
([45]) ـ رأب الصدع (أمالي أحمد بن عيسى) (2/793)، وقال في التخريج : في الجامع : ((لو عاش إبراهيم لكان صديقاً نبياً)) رواه البارودي عن أنس ، وابن عساكر عن جابر ، وعن ابن عباس وابن أبي أوفى ، ورواه أيضاً الإمام المرشد بالله في الأمالي الاثنينية (خ).
وفي المعلوم أنهم لا يردون، كما يعلم أن استرقاق العرب مفسدة في الأزمنة بعد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد كان قبل ذلك حلالاً، وإنما كان ذلك كذلك لأن التعبد يجوز إختلافه بالأزمنة والأمكنة والمتعبدين، خلافاً لما ذهبت إليه اليهود -لعنهم الله- من أنه لا يجوز إختلافه ، ولا يجوز أن يكون التحليل والتحريم إلى الأنبياء -صلوات الله عليهم- خلافاً لما يحكى عن بعض أهل العلم،؛ لأن التعبد مصالح، والمصالح غيوب، ولا يعلم الغيوب إلاَّ الله.
ومن تمام الحديث قال الراوي: قلت لعلي -عَلَيْه السَّلام- : وكيف يكون إبراهيم نبياً ومحمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خاتم الأنبياء؟، فقال: (أفليس محمد قد ختمه؟!).
[الجواب على من قال كيف تجوزون نبوءة الأطفال؟]
فإن قيل: وكيف تجوزون نبوءة الأطفال؟
قلنا: هذا سؤال من لا يعقل الكلام، ولا يعرف معاني الإلزام، لأن الطفل في عُرف الشريعة من لا عقل له، فإذا أكمل الله لهم العقول عند الولادة خرجوا عن حكم الأطفال، ولحقوا بالرجال، وكان ذلك أبلغ في حكم النبوءة؛ بل يكون من دلائلها لخرقه العادة، فما ذكرنا في تصحيح قولنا في نبوءة الصَّغير على الوجه الذي ذكرنا أقرب ممَّا ذكر السائل لخروج السؤال عن أسئلة المتَوسّمين.
وممَّا يشفع ما قلناه: أن الكبر لا يصحح الأحكام ويوجب التكليف إلاَّ بتمام العقل، فإذا المطلوب في هذا الباب العقل دون سواه.
فإن قيل: وكيف تصح نبوءته وهو لصغره لا يقدر على التكاليف الشرعية؟
قلنا: هذا السؤال لاحق بالأول، لأن ما ضعف عنه سقط عنه حكمه، لأنه تعالى لا يكلف أحداً ما لا يطيق، والإجماع منعقد أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لو اعتل - وقد كان ذلك - حتى لا يقدر على التكاليف الشرعية لم تسقط نبوته، وليس ذلك إلاَّ لأنه في حال الضعف معذور، فكيف يورد هذا السؤال من يروم مجاراة أهل العلم في ميدان الكلام.
عدنا إلى تفسير القافية:
(المهد): هو فراش المولود في عرف اللغة، وهو في أصلها اسم لكل فراش.
و(الحكم) لله -تعالى- وحده.
و(النافذ): هو الذي لا يرد.
و(المقضي): الموجَب.
قوله: (فمت أساً): يريد؛ مت غيظاً أيها المخالف إن كنت رافضاً لأهل البيت -عليهم السلام- الذين أوجب الله -سبحانه- عليك الصلاة عليهم في الصلاة وذكر أبيهم في الأذان، وأوجب الله عليك مودتهم في القرآن، إلاَّ أن تظلم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أجره على الهدى والبيان قال الله -سبحانه وتعالى-: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] ، وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}[الإسراء:26] ، فآتاهم الخمس، عَوَّضَهُم الحكيم -سبحانه- إياه عن الزَّكوة، فعلم الناس مَنْ مراد الحكيم في المودة مع أنهم قد سألوه مَنْ قرابته الذين أمرهم الله -تعالى- بمودتهم؟ فقال: ((فاطمة وابناها([46]))) .
و(الرافضي) عند أهل البيت -عليهم السلام-: هو منكر فضلهم وجاحد حقهم، كما أن الناصبي عندهم من حاربهم، لا يجهل ذلك أحد منهم ولامن أتباعهم البررة العلماء -عليهم السلام وعلى أتباعهم الرحمة-.
[حكايته لنشأته (ع) وذكر إحسان الله وإنعامه عليه]
[82]
نشأتُ بينَ مُصْحَفٍ منشورِ .... ودفترٍ مُحَبَّرٍ مَسْطُورِ
حتى استقامتْ([47]) في الهدى أموري .... وتمَّ بالله العظيمِ نُورِي
عاد إلى ما يجانس ما تقدم من ذكر إحسان الله وإنعامه عليه في طهارة النشأة وتوفيق البداية.
(المصحف) معروف: وهو القرآن الكريم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)} [فصلت] ، فهو أشهر من أن يُعَرَّف.
و(الدفتر) معروف: وهو الكتاب الذي يتضمن شيئاً من علوم العبادة، ولا وجه لذكر أنواع العلوم ها هنا.
___________________________
([46])- في نسخة (ن، م): أبناؤها.
([47]) - نخ (ن) : استأمت.
يقول: لم أزل بين هذين متردداً من هذا إلى هذا حتى استقامت أموري بتوفيقه ومنِّه، فصرت أقول ما أقول عن معرفة، ولا أقطع عن أمر من الأمور بغير دلالة.
(وتمَّ بالله العظيم نوري): يريد؛ كمل، و(النور) هو العلم ها هنا، لأن به يهتدى في ظلمات الجهل كما يهتدى بالنور في ظلمات الليل وما شاكلها.
وقوله: (بالله): يريد؛ بتوفيقه، وتسديده، وعونه، وتأييده.
[المنصور بالله(ع) يذكر حالته مع الطالب المسترشد]
[83]
كمْ طالبٍ جاءَ مُجِدّاً في الطلبْ .... أدركَ عندي في العلومِ ما أَحَبْ
لَقَّيْتُهُ بِشْرَاً وعلماً منتخبْ .... كأنهُ صِنويَ من أمٍ وأبْ
أراد بقوله: (كم): تكثير طالب العلم عند الله -سبحانه وتعالى- وعند خيار خلقه وإن كان قليل الذات، ولم لا وهو عز من قائل يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ(13)}[سبأ] .
ومعنى (المجد) والمجتهد واحد، وهو نقيض المتواني والهازل.
(أدرك عندي في العلومِ ما أحب): يريد؛ أصاب ما أراده. ومعنى الحب والإرادة واحد، لأنك لا تقول: (أحببت هذا الأمر وما أردته ، ولا أردته ولم أحبه)؛ بل يعد من قال ذلك مناقضاً جارياً مجرى من يقول: (أردته وما أردته).
و(البشر): هو الطلاقة والبشاشة، وسمي بشراً لظهوره في بَشَرة الوجه، ومنه البشارة؛ تقول منها: (بشرت الرجل بخير وأبشرته أبشره) وأُبشِّرُه وبشَّرتُهُ : مشدد - أيضاً - بمعنى فعلته، وهو نقيض العبوس.
و(المنتخب): هو المختار من كل شيءٍ.
و(الصنو): هو الأخ من الأب والأم، ثم صار بعد ذلك يفيد الأخ من كل واحد من الأبوين على الإنفراد، وأصله في النخل أن يخرج من النخلة فسيلتان فتكون كل واحدة لصاحبتها صنواً، ثم نقل إلى الناس فصار حقيقة في الجميع.
[حالة طالب العلم بعد عودته إلى أهله]
[84]
فراحَ جذلانَ قريرَ العينِ .... قد نالَ ما رامَ بأمرٍ هَيْنِ
يفْرقُ بينَ حاسدي وبيني .... كالفرقِ بين الصفْرِ واللُّجَيْنِ
يقول: رجع هذا الطَّالب إلى أهله (جذلان): يريد؛ فرحان. (قرير العينِ): يريد؛ مسروراً بما أصاب من العلم، لأن عين المحزون سخينة، وقد قيل أصل قرة العين من القر وهو البرد، ودمعة السرور باردة بالمشاهدة، وسخينة العين من السخونة وهو الحر، ودمعة الحزن حارَّة بالمشاهدة - أيضاً ـ، وقيل قرة العين أخذت من القرار وهو السُّكون، فلما كان الراضي بما معه لا تعدو عينه إلى سواه؛ بل هي ساكنة عليه غير طامحة إلى غيره، قيل: قرت عينه بما أوتي.
قوله: (يفرق بين حاسدي وبيني): يريد؛ يعلم فضل العترة -عَلَيْهم السَّلام- على من أنكر فضلهم وهو حاسدهم كما يعلم فضل (اللجين): وهو الفضة على النحاس، وهو ها هنا (الصفر) ولا يجهل فضل أحدهما على الآخر إلاَّ جاهل، وأجهل منه من أنكر فضل العترة الطاهرة على جميع البشر.
[المنصور بالله(ع) يذكر حالته مع خصمه اللدود في المخاصمة]
[85]
هذا وكمْ خصمٍ من القومِ ألَدّ .... رقَّيْتُهُ عندَ الخصامِ في كَبَدْ
حتى إذا ما صارَ يرمي بالزبدْ .... قلتُ قليلاً يتعاطينَ الجَدَد
يقول: هذا الذي منَّ الله به علي من ولادة نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وهدايته لدينه الذي إرتضاه لنبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ولذريته -عَلَيْهم السَّلام- إنضاف إليه - أيضاً - من النعم ثبات الجنان، ومضي اللسان، (فكم خصم ألد): وهو شديد الخصومة لا يكاد يغلب - وقد قال سبحانه وتعالى: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا(97)}[مريم] - قد غلبته.
قوله: (رقيته): معناه: رفعته بفواصل الكلم حتى خف، وعلا نَفَسُهُ، واشتد خناقه.
و (الخصام): هو الجدال.
و(الكبد): هو الشدة. يقول: " لما اشتد لجاجه وجداله (صار يرمي بالزبد) من شدقيه، وقد كان ذلك، وعاتبه غير واحد لشدة حمقه وغلوانه، ومتابعته لشيطانه...
قوله: (قليلاً يتعاطين الجَدَد): معناه: تأيد([48]) قليلاً حتى يتضح لك الحق ويبين لك الصدق، فإن اتبعتني كنت من الصادقين السالمين، وإن خالفتني كنت من الكاذبين الظالمين، وهذا مثل تضربه العرب لمن إستعجل لأمر هو فيه مغبون، وأصل ذلك في قيس بن زهير، وحذيفة بن بدر، وقصتهما مشهورة في رهانهما على الحطار والحنفاء لحذيفة، والداحس والغبراء لقيس، وقد قيل كان الرهان على فرسي قيس الداحس والغبراء، وإنه اعترض قيس([49]) في فرسيه فنفر الغبراء على الداحس إعتراضاً منه وعدواناً، وراهن قيساً على فرسيه. وعلى القصة الأولى الأكثر من أهل المعرفة، وهي الأليق بالحال، ففي الحديث: أن الخيل لما ألقى مقوسها - وهو حبل يعرض على وسطها الإجتهاد في التساوي ـ بدرت فرسا حذيفة فقال: (سبقت يا قيس)، فقال قيس: (قليلاً يتعاطين الجدَدَ)، فأرسلها مثلاً، فسبقت فرس قيس الغبراء سبقاً ظاهراً على أعيان العرب، وضرب حصانه الداحس في وسط الميدان فكان له السبق، والقصَّة تطول، والكلام ذو شجون، والعلم ذو فنون.
[الإمام المنصور بالله (ع) يصف حاله مع هذا الخصم]
[86]
أرفَعُهُ حَينَاً وحيناً أُنْزِلُهْ .... حتى بَدتْ حِدَّتُهُ وأفكُلُهْ
وصحَّ لِلحُضَّارِ طُرَّاً زَلَلُهْ .... وَنَفِدَتْ عند الخِصَامِ عِلَلُهْ
هذا وصف حاله مع هذا الخصم يعليه مرة وينزله أخرى، وذلك لشدة الإستظهار بالله -سبحانه- وهدايته، لا بحوله ولا قوته، فصار حاله معه كمن يصرع قِرنه([50]) ثم يقيله، ثم يصرعه مرة أخرى، فذلك يكون أبلغ في الإستظهار من صرعه مرة واحدة.
و(الحدة): هي النَّزَق، وهو نقيض الوقار.
و(الأفكل): هو الرعدة .
و(الحضار) عند الخصام بمنزلة النظارة عند القتال.
و(الزلل): هو الخطأ، وأصله دحوض القدم وقلة ثباتها، يقال: زل، إذا عثر وسقط.
و(العِلَل): هي ما يعلل به قوله، ويحتج به لكلامه.
(نفدت): نجحت وذهبت فلم يبق له علَّة يعتل بها.
_______________________
([48]) ـ التأيد: هو الإمهال.
([49]) - نخ (ن): قيساً.
([50]) - القِرن بالكسر : الكفؤ في الشجاعة.
[صفة هذا الخصم المغلوب لما نفدت علله]
[87]
فمُذ بدا الحقُّ وأعمى بصرَهْ .... ثنَى بتعدادِ الشيوخِ خُنْصُرَهْ
قالَ العلومُ فيهمُ مُنْحصرهْ .... ومَدَّ باعاً في الهدى مُقَصِّرهْ
هذا صفة هذا الخصم المغلوب لما نفدت عِلَلُه، رجع إلى ذكر مشائخه وتعظيم علمهم، وتفضيلهم على غيرهم من هداتهم من عترة نبيئهم -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقال: (لا علم إلاَّ ما عندهم)، فلذلك قال: (العلوم فيهم منحصرة).
و(الخنصر): هي أول ما يقبض من الأصابع في العد والحساب، وهي الصغرى منهن ويليها البنصر، ثم الوسطى، ثم السبَّابَة. وروي أن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- سمَّاها المسبحة، وكان -عَلَيْه السَّلام- يحب الأسماء الحسنى فلمَّا كان التسبيح يقع بها والسَّب دعاها بأحسن إسميها. ثم الإبهام وهي الكبرى.
[إحتجاج الخصم لشيوخه بكثرة العبادة]
[88]
وقالَ هلْ تَحْسِبُهُمْ في النارِ .... بَعْدَ صلاةِ الليلِ والنهارِ
وهَبَّةِ النومِ لدى الأسحارِ .... وذِكرِهِم للواحدِ الجبَّارِ
وهذا نوع من إحتجاج المخالف للعترة، النافي لفضلها، وهو الذي يعتمد عليه جمهور أهل الإنكار لفضلهم، إذا قُطع واحدهم عند الجدال وظهر له الحق قال: (هذا الذي أنا عليه رأي فلان وفلان) وعد شيوخ مقالته العبَّاد، أهل الجد والإجتهاد، الذين جحدوا فضل العترة المرضيَّة، وساووا بينهم وبين غيرهم من البريَّة، وقال: (هل تحسبهم في النار) وقد قطع لعبادتهم وخشونتهم أنهم في الجنَّة، ونسي أن الإيمان قول وعمل وإعتقاد، وأن الإعتقاد الصحيح أصل لصحَّة القول والعمل ، والخوف([51]) ما وقع فيه هذا القائل.
______________________
([51])ـ في الأصل هكذا والأصح : والخلاف. تمت.
قال جدنا أمير المؤمنين -صلوات الله عليه-: (قطع ظهري اثنان: عالم فاسق يصد الناس عن علمه بفسقه، وذو بدعة ناسك يدعو الناس إلى بدعته بنسكه). وقد سمعنا هذا الإحتجاج بعينه من رجل من المخالفين، وذلك أنه جعل حجتة على صحَّة دينه، قوله: هل فلان وفلان من أهل الجنَّة أم من أهل النار ؟ وذكر شيخين كبيرين من شيوخ مقالته، وقد ألجت الضرورة إلى مناظرة من هذه حاله، والله المستعان. وإلاَّ فمن انتهى به الأمر إلى هذه الحال إستغني بجهله عن مناظرته، وكانت مسألته تنتقل إلى باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعتبار الشرائط في ذلك، ثم ذكر أفعالهم التي قطع لهم بالجنَّة لأجلها من الصلاة، والصيام ، وهجر النوم، ووصل اللَّيلة باليوم، ولعمري إن بعض تلك الأعمال يكفي في دخول الجنَّة إذا وافق إعتقاداً صحيحاً، وأصل صحة الإعتقاد الإعتراف بفضل آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على الأحمر والأسود من الناس، كما قدمنا من الأدلة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
[الجواب على الإحتجاج]
[89]
فقلتُ إنْ كانوا يرونَ الدِّينا .... في قولِنا وفعلِنا يقينا
ثم يُعَادونَ الطغاةَ فِينَا .... فسوفَ يلقونَ الحسانَ العِينَا
هذا جوابه على كلامه يقول: إن كان من ذكرت محبًّا لنا معشر أهل بيت النبوءة يرى برأينا، ويدين بديننا، إذ المحبَّة لا تقع إلاَّ بالمتابعة، ويعادي أعداءنا، ويوالي أولياءنا، فسوف يدخل الجنَّة إن شاء الله -تعالى- ويلقى (الحسان العين) وهنَّ حور الجنَّة.
[تأكيد وبيان لما تقدم من الجواب]
[90]
وإنْ نأوا عَنْ رأينا في الدينِ .... بغيرِ ما علمٍ ولا يقينِ
فَهُمْ مِنَ المكتوبِ في سجينِ .... لو عَبَدُوا ألفاً مِنْ السنينِ..
هذا كله جواب؛ ووجهه: أن هؤلاء العباد من المشائخ ـ الذين ذكرتهم ـ وكانوا أصلاً لما أنت عليه لما رأيت من عبادتهم إن خالفونا معشر أهل البيت ، ولم يقولوا بقولنا، ويتبعوا آثارنا ، ويدينوا بفضلنا، ويوجبون على أنفسهم مودتنا، (فهم من المكتوب في سجين) ، وسجين إسم صحف أهل النار، ولما كان المرقوم فيها يؤديهم إلى السجن الذي هو الضرب المبرح، والسجن الذي هو الحبس الشديد سُميت الكتب سجيناً، وضعف للمبالغة كما يقال: شِرِّيبٌ، وشواهده ظاهرة، وميلنا إلى الإختصار. يقول: فلو عبد المشائخ ـ الذين ذكرت ـ (ألفاً من السنين) وذلك لا يدخل الإمكان، وخالفونا أهل البيت لم تغن عنهم عبادتهم من العذاب شيئاً، يقول النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)) وذلك ظاهر، لأن النار موعد أهل الضلال.
[اتباع العترة شرط في قبول الأعمال ومثال ذلك:الخوارج أصحاب النهر]
[91]
وَيْكَ ألم تعلمْ بأصحابِ النَّهَرْ .... وذِكْرِهِم للهِ أوقات السَّحَرْ
وَصَبْرِهِمْ للموتِ خوفاً للضررْ .... فَهَلكُوا إذْ خالفوا خيرَ البشرْ
(ويك): كلمة عربية يبدأ بها المُخَاطِبُ كلامه، وهي في كتاب([52]) الله سبحانه وتعالى.
_______________________
([52]) ـ في قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(82)} [القصص]، قيل: إنها كلمة تعجب ، وقيل: معناها ألم تر ، وقيل: ويلك ، وقيل: اعلم ، تمت قاموس معنى مختصراً.
و (أصحاب النهر): هم الذين خرجوا على علي -عَلَيْه السَّلام-، وكان أول خروجهم إلى حرورا، وهو موضع معروف، فخرج إليهم -صلوات الله عليه- وابن عباس -رضي الله عنه- فناظراهم ورداهم المصر، وسماهم علي -عَلَيْه السَّلام- الحرورية لاجتماعهم بحرورا ، ثم خرج متوجها إلى الشام وهم من جملته -عَلَيْه السَّلام- فانفصلوا إلى النهروان وسلوا سيوف البغي على الناس، وقد اختلف في عدَّتهم وهي كثيرة إلاَّ أنهم القراء والعبَّاد ، وأهل الإنقطاع والتخلي ، قوام اللَّيل ، وفرسان الخيل، فبعث -عَلَيْه السَّلام- إليهم رسولاً فقتلوه، فوجه إليهم ابن عباس -رضي الله عنه- فناظرهم فرجعت منهم طائفة وثبت باقيهم على الضلالة.
وكان إمامهم ـ بزعمهم ـ عبدالله بن وهب الراسبي([53])، وكان له ثفنات كثفنات البعير من كثرة الصلاة والعبادة.
وكان فيهم المُخَدَّجُ الذي يقال له ذو الثدية، وقد ذكره النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لأمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- وبشره بجهادهم، كانت إحدى يديه مثل ثدي الإمرأة عليها شعرات كشارب السنور إذا مدَّت ساوت الأخرى فإذا تركت عادت إلى حالتها الأولى.
___________________
([53]) ـ عبدالله بن وهب الراسبي ، من الأزد ، من أئمة الإباضية من فرق الخوارج ، كان ذا علم ورأي وفصاحة وشجاعة ، وكان عجباً في عبادته ، أدرك النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وشهد فتوح العراق مع سعد بن أبي وقاص ، وكان مع علي -عَلَيْه السَّلام- في حروبه إلى أن وقع التحكيم، فحصل الاختلاف ، فأنكره الخوارج ، وهم جماعة كانوا في جيش أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- فكَفَّروا علياً -عَلَيْه السَّلام- ومرقوا من طاعته ، فأمروا عليهم الراسبي ، وحاربهم علياً -عَلَيْه السَّلام- في وقعة النهروان وقتل عبدالله بن وهب الراسبي في المعركة سنة (38هـ) وللخوارج أخبار وقصص تطول ، من أراد الاستكمال فليرجع إلى شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي.
وكانت محطتهم يسمع لها دوي كدوي النحل من القراءة والتسبيح بأنواع ذكر الحكيم -تعالى- فلم تغن عنهم عبادتهم من الله شيئاً، وما زادوا على من خالفنا في زماننا([54]) مثل الشعرة؛ لأنهم أرادوا من علي -عليه السلام- وولديه -عليهما السلام- وهم العترة في ذلك الوقت ـ الرجوع إلى رأيهم، فلما لم يفعلوا ذلك -عَلَيْهم السَّلام- أنكروا حقهم، وجحدوا فضلهم، وخرجوا عليهم، واستغنوا بأنفسهم عنهم، واتخذوا منهم أكابر فزعوا إليهم في الحوادث، ونبذوا العترة -عَلَيْهم السَّلام- وراء ظهورهم، وكذلك المخالفون لنا لَمّا لم نرجع إلى رأيهم جحدوا حقنا، وأنكروا فضلنا، والأمر في ذلك ظاهر، ولم يفرق أحد بين العترة في وجوب الإتباع من إستقام منهم، وارثاً للكتاب، عارفاً لفصل الخطاب، ولا يجوز مرور وقت من الأوقات إلاَّ وفيهم -عَلَيْهم السَّلام- من هو كذلك، لقول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) يعني الكتاب والعترة.
وقد روي من إجتهاد الخوارج أن الإنسان منهم كان يجري في الرمح إلى قاتله وهو يقول: "وعجلت إليك رب لترضى" فلم يغن عنهم ذلك من عذاب الله -تعالى- شيئاً لما خالفوا أمير المؤمنين(ع) وهو قائم عصرهم، والعترة العظمى في زمانهم ذلك ، كذلك أهل هذا العصر لا تغني عنهم عبادتهم من الله شيئاً إذا خالفوا العترة الطاهرة في زمانهم، الذين هم حُجَّة الله -تعالى- عليهم وعلى جميع العباد، وصموا عن دعاتها؛ بل رفضوها وثبطوا عنها، ونصبوا لخلافها والتخلف عنها العلل والتأويلات.
________________________
([54])- المراد بهم المطرفية المرتدة الغوية .
قوله: (فهلكوا إذ خالفوا خير البشر): يريد؛ محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، لأنه أمر أمته باتباع عترته المطهرة فخالفوه في ذلك، ولهم أتباع في كل وقت يقتفون آثارهم في خلاف العترة الطاهرة حذو النعل بالنعل ؛ بل تعدّوا ذلك إلى أن قالوا: هم أولى بالحق منهم، واتباعهم أوجب من اتباع هداتهم، فردوا بذلك قول النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((قدِّموهم ولا تقدَّموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا ولا تشتموهم فتكفروا)) وهذا نص في موضع الخلاف لا يجهل معناه إلاَّ من خذِلَ.
[بيان أن مجرد العبادة لا توجب دخول الجنة لمن اختل اعتقاده]
[92]
إسمعْ إذا شِئْتَ كلامَ الغاشيهْ .... في أوجهٍ ناصبةٍ وخاشيهْ
تُسَاقُ للذلةِ سوقَ الماشيهْ .... وهي إلى نارِ الجحيمِ عاشيهْ
يريد بذلك أن مجرد العبادة لا توجب دخول الجنَّة لمن اختل اعتقاده كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2)عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3)تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4)تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ(5)}[الغاشية] ...إلى آخر الآيات المكرمات، ولا يعلم ذلك إلاَّ في المخالفين لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- من أهل النسك والعبادة من الفرق الشاذة عن العترة، لا يعرف للآية وجهاً سواه.
شبههم (بالماشية) لأنها تساق وتضرب ولا تنتصر، وكذلك أهل النار، نعوذ بالله من حالتهم.
و(نار الجحيم): هي نار الآخرة، نعوذ بالله منها.
و(عشا) إليه إذا قصده، وعشا عنه إذا زايله، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ}[الزخرف:36] معناه يصد عنه، والله أعلم. وهذا واضح لكل منصف لنفسه جاهدٍ في فكاك رقبته، راغب في طلب نجاته، أن لا يغتر بظاهر العبادة قبل النظر في الإعتقاد؛ إذ قد تبين ذلك له بذكر أهل الغاشية وما وصفهم الله -سبحانه- به من الخشوع والإجتهاد ثم صاروا إلى النار الحامية كما حكى الله سبحانه وتعالى...
[بيان أن الطعن على من يبغض آل النبي (ص) ليس من السب في شيء]
[93]
ولا تعدِّ النُّصحَ مني سبَّا .... فَتُولِنِي عنه جَفَاً وعتْبَا
وتاقِ في آلِ النبي الرَّبَّا .... فألْسُن الحبِّ لهم لا تَغْبَى
هذا خطاب منه لخصمه المقدم الذكر، وموعظة يقول: إذا رأيتني وسمعتني أطعن على من يبغض آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وانتقصه ـ وذلك فرض كل مسلم ـ فلا تقل سببت المسلمين؛ لأن ذلك يكشف عن أن الذين سميتهم مسلمين، ورجعت إليهم في الدين، أهل النقصة على طولها، المنكرين فضل العترة الطاهرة (كرم الله أرواحها)، الجاحدين حقها، المستغنين بأنفسهم عن علمها، لأنهم إن كانوا متبعين لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، مفضلين لهم على جميع الأنام، فهم بمعزل عن هذا الكلام.
قوله: (وتاق في آل النبي الربا): يقول: إتق الله -تعالى- في ترك محبتهم والجرأة على انتقاصهم بإنكار فضلهم ومخالفتهم. والمحب لهم لا يغبى حاله، هو الذي لو ضرب على عنقه بالسيف لم يزدد لهم إلاَّ حبًّا.
[لزوم الحجة وظهور الحق مما تقدم]
[94]
قد وضحَ الصبحُ لأهلِ الأبصارْ .... وما على المنذرِ إلاَّ الإنذارْ
وأنتَ لا تُسْمِعُ أهلَ المقبارْ .... كلاَّ ولا تُنْقِذُ أربابَ النارْ
يقول: ما تقدم بمنزلة الصبح في جلائه وظهوره، فمن كان له بصر فقد رآه، ومن كان أعمى فليس عليك هداه.
قوله: (وما على المنذر إلاَّ الإنذار): يقول: إذا أنذرهم فلم يقبلوا فقد سقط عنه فرضهم في هذه الحال إذا لم يؤمر فيها بقتل ولا قتال.
و(أهل المقبار): هم الأموات، وهم أهل الخلاف شبههم بالموتى، يقول: من كان قلبه عن العترة الطاهرة نافراً ، وكان لفضلها كافراً ، فهو ميت الأحياء، وأنت لا تسمعه...
وقد قال الله سبحانه : {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ(80) } [النمل] ، شبه النافرين عن الحق بالموتى والصم عند الدعاء؛ إذ كل واحد من المذكورين لا يسمع داعياً ، ولا يجيب منادياً، وخصَّ الله -سبحانه- الأصم بالإدبار، إذ بالإدبار تنسد عنه طرق المعرفة؛ لأنه عند إقباله ربما نظر حركة الشفتين ففهم المراد ونُبِّه بإشارة، هذا معنى الآية عندنا، والله أعلم.
قوله: (كلاَّ): حرف ردع وزجر يتضمن معنى القسم. (ولا تنقذ أرباب النار): يقول: من عمل للنار فأنت لا تنقذه، وهو أهل لما صار إليه، فلا يُرحم من لم يَرحم نفسه.
[الدعاء بحسن الخاتمة]
[95]
نسألُ ربَّ الناسِ حُسْنَ الخاتمَهْ .... وَدَوْلَةً للطيبينَ قائمهْ
تُضْحِي رؤوسُ الكفرِ منها كاظمهْ .... وَهْيَ لشملِ المسلمينَ ناظمهْ
الدعاء إلى الله -تعالى- ممَّا ورد به التعبد وتعلق به قرار الحكيم ومصلحة العباد، وقد أمر به الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام-، وهو سلاح المؤمنين في المواقف التي لا ينفع فيها السلاح، وهو شعار الصالحين أجمعين ، فلما فرغ ممَّا يرجو من الله -تعالى- الثواب عليه، وتبييض الصحيفة به، سأل الله -تعالى- (حسن الخاتمة)، لما روي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((ملاك العمل خواتمه)) .
ولما روينا عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إسألوا الله الثبات في الأمر، فإن العبد قد يكون على الجادة من جواد النار ، فلا يزال يعمل عليها دؤباً دؤباً ، حتى تعرض له الجادة من جواد الجنَّة فيسلكها فيموت عليها فيصير إلى الجنَّة، وقد يكون على الجادة من جواد الجنَّة ، فلا يزال يعمل عليها دؤباً دؤباً ، حتى تعرض له الجادة من جواد النار فيسلكها [بعد ذلك([55])] فيموت عليها فيصير إلى النار، فاسألوا الله الثبات في الأمر([56]))) .
___________________________
([55]) - زيادة من (نخ).
([56]) ـ روى الإمام أبو طالب في الأمالي (236) نحوه ، وله شواهد كثيرة توافق في المعنى وتخالف في اللفظ .
وسأل الله -تعالى- بعد ذلك (دولة لأهل محمد) (صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين) لتُرَدَّ المظالم إلى أهلها، وتنفق الأموال في وجوهها، وتجبى الحقوق من حلها، وتصرف إلى أهلها، وتستريح الأرامل واليتامى في مساكنها، وتسلم إليها أقواتها، وتجري الأحكام إلى غاياتها ، وتعود الإمامة إلى أربابها ، ووراثة النبوءة إلى نصابها، فحينئذٍ تُعض رؤوس الكفر فلا تقوم حلاوة رضاعها ، لمرارة فطامها، فينتظم شمل المسلمين بعد إنحلاله، ويخفت صوت الكفر بعد إهلاله ، فيصيح بأنه كان مغلولاً وكبشه نطيحاً، ويمشي المظلوم آمناً مستنيراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
[من فوائد استجابة الدعوة، أولاً: الجهاد في سبيل الله تعالى]
[96]
حتى تُروَّى الباتراتُ في العَلَقْ .... وثَمَراتُ السُّمرِ من ماءِ الحدَقْ
مِنْ كُلِّ رِجْسٍ قد تعّدى ومَرَقْ .... إذا لِوَاءُ النصرِ لاحَ وَخَفَقْ
يقول: إذا منَّ الله -سبحانه- بإستجابة هذه الدعوة، العامة النفع بوقوع هذه الدولة المرجوة، الحميدة العادلة المفيدة، روينا السيوف من (علق الدم)، لأن آخر هذا الدين لا يصلح إلاَّ بما صلح به أوله.
و(السُّمر): الرماح ، و(ثمراتها): أسنتها، تشبيهاً بالثمر؛ لأنها في رؤسها، وثمر الشجر أبداً في رأسه.
و(الحدق): هي العيون أنفسها، يريد: يطعن عيون أعداء الكتاب حتى يدينوا لحكمه، فتُروَّى الأسنَّة من مائها.
و(الرجس): هو الفاسق والكافر، وأصل ذلك النجس الكريه الذي تنفر عنه النفس.
و(التعدي): فعل ما ليس للإنسان فعله، أو ترك ما عليه فعله في عرف الشريعة، والأول أصل اللغة في ذلك.
و(المروق): هو الخروج عن الحق بعد الدخول فيه، وأصل ذلك في السَّهم إذا مرق عن الرمية.
و(اللواء) هنا: الإمارة، وهو معروف لفظه ممدود، فإذا نصر الله الحق وأهله فهو لواء النَّصر، ولا يوضع إلاَّ في أيدي الأكارم الصَّابرين في الملاحم.
يقول صاحب هذا الشأن في مثل ذلك:..
إنّ على أهل اللواء حقا .... أن يحصنوا الصعدة أو تندقا
و(خفقانه) ولمعه يقع من الإضطراب عند صدق الضراب.
[ثانياً: هداية الناس إلى الحق]
[97]
حينئذٍ نَسُوقُ أهلَ العصيانْ .... وما لنا إلاَّ الموَاضِيْ عِصْيانْ
وذاكَ باللهِ العظيمِ قدْ آنْ .... حتى يَبِيْعُوا كفرَهم بالإِيْمَانْ
(حينئذٍ): اسم مركب من إسمين، وهو يذكر، ويراد به تعظيم الحال، وكذلك يؤمئذٍ، وقد قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ(39)}[الرحمن] ، لعظم الحال، وهو عظيم، فنسأل الله -تعالى- النجاة من أهواله، والصلاة على محمد وآله.
و(السوق) معروف، وأصله في المواشي. يقول: إذا نصر الله -سبحانه وتعالى- أولياءَه على أعدائِهِ في هذه الدنيا سُقنا أهل المعاصي كما تساق الإبل وغيرها من المواشي سوقاً لا ينتصرون منه لصدق ما تقدم، لأن لا نغر نفوسنا بالأماني.
و(عصينا) السيوف، وهي تسمى (مواضٍ) لمضيها وقطعها.
قوله: (قد آن): يريد؛ قرب ودنى بتوفيق الله وعونه حتى يستبدلوا الإيمان بالكفر طوعاً وكرهاً وقلوبهم وَجِلة وعيونهم برهاً([57]).
[قصة عجيبة لأحد الرفضة للعترة الطاهرة (ع)]
[98]
كأنَّنِي بقائلٍ يا سادتِي .... قد كانَ حُبِي لَكُمُ عِبَادَتِي
طابتْ بِوُدِّي لَكُمُ وِلادَتِي .... هذا قِنَاعِي ثُمَّ ذِي سجَّادَتِي
__________________________
([57]) ـ بره كسَمِعَ ، برهاً : ثاب جسمه بعد علة ، وابيض جسمه ، وهو أبره ، وهي برهاء . تمت قاموس.
هذا البيت ومايليه إلى آخر القصَّة في رجل من رفضة العترة الطاهرة، كنا نعرفه بشدة العداوة والإنتقاص، ونفي فضلهم على العام والخاص، ولا سبيل إلى التصريح بذكره حتى يقضي الله -تعالى- في أمره بما هو قاضٍ، فنقول: إذا نصر الله -سبحانه وتعالى- عترة نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ونرجوا أن يكون قريباً ويطول الله -تعالى- عمر ذلك الرَّجل لهدايته إن تاب ، أو نكاله إن لم يتب ، ولا بد من رجوعه؛ بل رجوع من هو أشد منه شكيمة ، وأقوى عزيمة ، إمَّا وفاقاً وإمَّا نفاقاً فيكون عقابه والحال هذه إذا نجم نفاقه، ولا بدَّ عند رجوعه من إنكار ما سلف، جرت بذلك العادات من السَّلف، فكأنه به قد قال: كنت أحكم بطيبِ ولادتي يا سادتي؛ إذ بحبكم يعرف طيب المولد وطهارة المحتد، ومن يبغضكم يعرف خبث الأصل وقبح الفعل.
قلنا: ذلك كذلك، لأن في الحديث المروي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه لا يبغض أهل بيته -عَلَيْهم السَّلام- إلاَّ من حملته أمُّه في غبَّر حيضة، يريد: بقية حيض، أو كان لغير رشده ، أو كان ممَّا لا خير فيه من الرجال السالكين مسلك قوم لوط (لعنهم الله تعالى)، فلا يظن الظان بنا ظن السوء أنَّا قلنا: خبث أصله وقبح فعله، نريد الذم ومزاوجة الألفاظ؛ بل لفظنا بحمد الله موضوع على المعنى المفيد النبوي.
وما ذكر من إظهار آلة العبادة من ذكر (القناع والسجَّادة) فلأن المتقرب إلى أهل النصاب، لا يتقرب بأقوى من إظهار طاعة ربِّ الأرباب، وملك الرقاب؛ إذ قلوبهم رحيمة بالمؤمنين، غليظة على الكافرين.
[حكاية شدة بغضه لأهل البيت(ع) وادعائه ما ليس له]
[99]
وقد عَهِدْنَاهُ قَدِيْمَاً في الخَشَبْ .... أبغَضَ من هَبَّ لأجدادي ودَبْ
سَمِعْتُهُ يقولُ يوماً في شَظَبْ([58]) .... بأنَّهُ يُضْحِي نَبِيَاً إنْ أحبْ
_______________________
([58]) - نخ (ن) : سمعته يوماً يقول في شظب.
(الخشب): بلد معروفة من بلاد همدان، بين البَوْن وصنعاء، ومعرفته له فيها يحتمل أنه من أهلها، أو من ساكنيها، أو ممن طافها، وعَرَفه بالبغضة فيها، وهو لا يريد إلاَّ تعمية أمره حتى يأتي الله -تعالى- بنصره.
و(شظب) مصر معروف في مغرب بلاد همدان، وسمع هذا المخذول يوماً في شظب يشرح في نفي فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وأن الله -تعالى- لم يختصهم بشيءٍ من فضله دون سائر الناس؛ وإنما فضَّل من فضَّل من أحدهم المتقدمين بعد أبيهم وشيعتهم، فأمَّا المتأخرون فلا فضل لأحد منهم عنده إلاَّ لمن كان على رأيه ورأي شيوخه الذين أسّسوا له هذه المقالة، ثم ارتفع بعد ذلك في هذه الضلالة ، من حالة إلى حالة، إلى أن بلغ النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فنفى أن يكون الله -سبحانه- إختصه بالنبوءة، وأمره بالرسالة.
وقال: ذلك بجده واجتهاده وعبادته، فوصل إلى ما وصل من الشرف باختياره وإرادته، ولو فعلتُ مثل فعله لأصبحت نبياً.
فقلت: ما بينك وبين النبوءة إلاَّ أن تريد.
فتواقَحَ. وقال: ما بينه وبينها إلاَّ أن يريد.
فقلت: هب على إستحالة ذلك أن النبوءة داخلة تحت مقدورك فأين البيت الرفيع المنيع؟ فقد روي عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((ما بعث الله نبياً إلاَّ في منعة من قومه)) . ويحك ألم تعلم أنها لو كانت من مقدور البشر لما قصر عنها السَّبَّاق إلى الغايات، حامل الرايات ، أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- ولم نذكر طرفاً من المناظرة إلاَّ لما نرجوا من أنه بحمد الله لا يتعرى من الفائدة.
ومن ألفاظ القافية: (هب): وهو المنتبه من نوم أو غفلة.
و(دَب): مشى في([59]) الأرض.
[حكاية الإمام (ع) بعض المخاطبة بينه وبين ذلك الرافضي]
[100]
فقلتُ مُسْتَهْزٍ بهِ في المحفلِ .... بحقِ هذا الرأسِ كُنْ مِثْلَ عَلِي
وَدَعْ عِرَاضَاً للنبي المرسلِ .... ما الشُّهْدُ يا مهبولُ مثلَ الحنظلِ
________________________
([59])ـ في (ن) : على .
هذه حكاية بعض المخاطبة بينه و بين المقدم الذكرقال له في (المحفل) وهم الخلق المجتمعون يسمون محفلاً لتحفلهم.
والتحفل هو التجمع، وكذلك التنكل والتحشد والتكلع ولها نظائر، والإجتماع في أصل اللغة إحتفال من ذلك الحديث في الشاة المحفلة، وهي التي جمع لبنها في ضرعها، فقال عند ذلك مستهزءاً به لمرامه أمراً سماوياً لم يطمع فيه أقرب منه إلى الله -سبحانه وتعالى- وأكثر علماً وعملاً وعبادةً واجتهاداً من الأوصياء المقربين والأئمة الراشدين (صلوات الله عليهم أجمعين) (بحق هذا الرأس) على وجه الإستخفاف لا على وجه التعظيم: (كن مثل علي) يريد فهو أهون عليك إن وجدت إلى ذلك سبيلاً من تلك الدرجة العالية، التي ينقلب البصر عنها خاسئاً حسيراً ، التي لم يطمع فيها علي -صلوات الله عليه- مع فضله، ولا همَّ بالإرتقاء إليها، ولا كانت من مقدورات البشر؛ لأنها لو كانت من فعل البشر ما قصر عنها خيرة الخير؛ لأنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لم يكن بالملولة([60]) في دين الله، ولا النؤمة عن حق الله، ولا المقصر في طاعة الله -تعالى- فكن أيها الممقوت عندنا اليوم، وغداً عند الله وعند صالح عباد الله ، مثل علي بن أبي طالب - عليه السلام- إن وجدت إلى ذلك سبيلاً، ولا سبيل لك، والحمد لله، ولا لأعلى منك رتبة، وأشد لله ولدينه وأهل ولايته محبَّة، ودع عنك الكون مثل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فذلك ما لم يطمع فيه علي -عَلَيْه السَّلام- على كرَم نفسه، وطيب جنسه،، وذكاء حنينه، وقوة أُسِّه، وخشونة مسِّه، على حرب الشيطان وإنسه.
ثم قال: (ما الشهد يا مهبول): يريد؛ يا مثكول، والثكل أهون عقوباته (مثل الحنظل)، أي لست من أولئك فلا تطمع فيما هنالك، وقس شبرك بفترك([61])، وقف عند انتهاء قدرِك، واعرف حقيقة أمرِك.
_______________________
([60])ـ نخ: بالملومة.
([61]) ـ الفِتر بالكسر : ما بين طرف الإبهام وطرف المشيرة . تمت قاموس .
والشبر : ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر . تمت قاموس.
[بيان سبب توبة من سبق ذكره وأنه لابد من العمل والإخلاص]
[101]
تَوَّبَكَ البِيْضُ الرِّقاقُ والأسَلْ .... وَطَعْنُ أبناءِ النبي في الوَهَلْ
وقَدْ قَبِلْنَا القولَ فاجهدْ في العملْ .... وأَخْلِصِ النيَّةَ للهِ الأجلْ
الأليق بهذا البيت أن يكون بعد قوله: (كأنني بقائلٍ يا ساداتي) وأحسب أنه في الأصل كذلك، والمراد فائدة اللفظ، وهي واقعة أينما وقع، وليس فيه إلاَّ ما هو ظاهر، يريد: أن من تقدّم ذكره بما حقق من أمره إذا انتفخ من الخوف منخره، وحاق به مكره، تاب خيفةً من السيوف والرماح، وفرقاً من الحَيْنِ المتاح، وذلك بمشيئة الله كائن عند نصر الله -تعالى- لأهل بيت نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-. ثم أخبر بردهم الجميل؛ إذ المعلوم من دينهم قبول توبة كل تائب، وقد يأمرون مظهر التوبة بلسانه بالعمل والإخلاص لله؛ إذ الإيمان عندهم -عَلَيْهم السَّلام- قول، وعمل، وإعتقاد.
[102]
وَكَمْ بِهَا مِنْ مُؤْمِنٍ نالَ الحَرَجْ .... في حُبِنَا وهو مُلِظٌّ ما خرجْ
أصبحَ بالرحمنِ في أعلى الدُّرُجْ .... ما بَعْدَ ما كانَ بِهِ إلاَّ الفَرَجْ
يقول: (كم) بدول الضلال الظالمة التي إستقام ظهورها إلى يومنا هذا (من مؤمن نال الحَرجَ) وهو الضيق في حبِّ آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - أئمة الهدى ، وأغلال العدى، وبحار الندى، ومصابيح الدجى، وأرباب الحجا، وإنما قال ذلك؛ لأن العادة جرت بأن باغضهم في يومنا هذا وفيما تقدمه من الأيام يجزل له العطايا، وتُسنى الجوائز على بغضهم، ومحبهم منقوص الحق، مغموض القدْرِ في حبِّهم.
قوله: (وهو ملظ): بالظاء معجمة، من أعلى، وهو أبلغ، وقد يجوز أن لا تعجم أو تعجم من أسفل على اختلاف، ويفيد معنى الإعجام من أعلى، إلا أنها تقصر عنها، فمعنى الإلظاظ: هو السدوك واللزوم،، فيقول: هذا المؤمن المحب صابر محتسب على الشدائد في حبهم حتى يلقى الله -تعالى- على عهده، فائزاً بذلك؛ إذ ضيعه الجاحدون.
وقد روينا عن أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال حاكياً عن ربِّه ليلة أسري به، أنَّه عز وجل قال له: ((من خَلَّفْت على أمتك؟، قال: أنت يارب أعلم، قال: يا محمد خَلَّفْت عليهم الصِّديق الأكبر، الطاهر المطهر، زوج ابنتك، وأبا سبطيك، يا محمد أنت شجرة، وعلي أغصانها، وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمارها، خلقتكم من طينة عليين، و خلقت شيعتكم منكم، إنهم لو ضربُوا على أعناقهم بالسيوف لم يزدادوا لكم إلاَّ حبًّا)) فهذا تصريح بما ذكرنا على أبلغ الوجوه.
قوله: (ما خرج) يريد عن ماهو عليه إلى غيره أصبح بلطف الله في أعلى المنازل، وهي الدرج في عرف الشريعة فأعاضه سبحانه رتباً عاليةً، ومنازل سامية، في الدنيا والآخرة، بحبه من أمره الحكيم بحبه، وكونه في حزبه.
[بشارته (ع) لأوليائه من أشياع آل محمد بالنصر من الله تعالى]
[103]
فأَبْشِرُوا يا شِيْعَةَ الرحمنِ .... بالنصرِ مِنْ رَبِّكُمُ المنَّانِ
على ولاةِ الكُفْرِ والطُّغْيَانِ .... فليسَ للهِ شَرِيْكٌ ثانِ
هذه بشارة منه لأوليائه من أشياع آل محمد الذين لحقت بهم قلوبهم حين طارت عنهم قلوب الناس، فأعزُّوهم حين أذلوهم الناس، واعترفوا من فضلهم بما أنكره الناس، فهذه البشارة لهم مخصوصة ، وإليهم منصوصة.
وقد روي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إشتدي أزمة تنفرجي)) ، وروي عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((لأن أكون في شدة أنتظر الرخاء أحبّ إليَّ من أن أكون في رخاء أنتظر الشدة([62]))) ولا أشد فيما علمنا من زماننا هذا الذي نحن فيه من تعطيل الشرائع، وإظهارالبدائع، وارتكاب الشنائع، وتتابع القوارع، فالله المستعان.
______________________
([62]) ـ روى هذين الخبرين الإمام الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- في الأحكام (2/468) .
يقول: ليس لله، سبحانه، من شريك([63]) في ملكه فيمنعه من تمام وعده بنصر جنده، وكيف لا يفرج سبحانه الغمَّة، ويرحم الأمَّة، وهو عز من قائل يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(6)}[الشرح] . عرف العسر فعلمنا أنه واحد، ونكر اليسر فعلمنا أنهما إثنان ولن يغلب عسر واحد يسرين، ومثل ذلك مروي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
[حكايته (ع) لوعد الله تعالى لنبيئه(ص) بالمهدي]
[104]
وَوَعْدُهُ صِدْقٌ وقدْ كانَ وَعَدْ .... أفضلَ مخلوقٍ مِنَ الناسِ سَجَدْ
بأنَّهُ يأتيهِ مِنْهُ بولدْ .... يملاؤها عدلاً برغمِ ذي الحَسَدْ
معنى هذا البيت: أن الله -سبحانه وتعالى- وعد نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وهو أصدق واعد، والموعود أفضل ساجد، أن يجعل من ذريته رجلاً مهدياً لم يسمه بعينه([64]) ، ولم يؤقت زمانه، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، وبين الناس في أمره اختلاف كثير لا وجه لذكره، فجملة الأمر أن لا بُدَّ من كونه من هذه العترة الطاهرة لتواتر الأخبار بذلك فيه عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فإن ذلك ممَّا نقله المخالف والمؤالف، فنسأل الله -تعالى- تعجيله وتسهيله، وأن لا يحرمنا وصوله.
قوله: (يملأها عدلاً): لما روي أنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً)).
________________________________
([63])ـ في (ن): يشاركه .
([64]) - قال الإمام الحافظ الحجة مجدالدين بن محمد بن منصورالمؤيدي أيده الله تعالى : وروينا عن إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن أنه سُئل عن أخيه محمد -عَلَيْهما السَّلام- أهو المهدي الذي يذكر ؟ فقال : المهدي عِدَةٌ من الله لنبيئه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- وَعَدَه أن يجعل من أهله مهدياً لم يسمّه بعينه ولم يوقّت زمانه، وقد قام أخي بفريضته عليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أراد الله أن يجعله المهدي الذي يذكر ففضل الله يمنّ به على من يشاء من عباده ، وإلا فلم يترك أخي فريضة الله عليه لانتظار ميعاد لم يُؤمر بانتظاره . انتهى من كتاب التحف الفاطمية شرح الزلف الإمامية ، ورواه الإمام أبو طالب (ع) في الأمالي (102).
وقوله: (برغم ذي الحسد): لأن حسدة العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- يكرهون وقوع ذلك لقلّة إنتفاعهم بالحق؛ لأنه لا ينتفع به إلاَّ المؤمنون، ولا يهتدي به إلاَّ الصالحون، فأمَّا الضالون فهم بالهداية لا يهتدون، قال الله -سبحانه-: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(17)} [فصلت] ، {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ(106)}[الأنبياء] .
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم، وسبحان الله العظيم وبحمده، سبحان الله([65]).
---
___________________________
([65])-قال في نخ (ن):كان الفراغ من زبر هذا الكتاب وقت أذان العصر يوم الأربعاء شهر صفر سنة (1355هـ) بقلم العبد الفقير المملوك إلى سيده الغني المالك: أحمد بن حسين سهيل.
[1]
الحمدُ للمُهيمِنِ المنَّانِ .... جَمِّ النوالِ باسطِ الإحسانِ
ذي الطولِ والعزةِ والسُّلطانِ .... لكلِ ذي شِدْقٍ وذي لِسَانِ
مِنْ غَيرِ تقريظٍ ولا سُؤالِ
[2]
مُرَكِّبِ الأرواحِ في الأجسامِ .... مُجرِي الرياحِ مُنْشئِ الغمامِ
كالبُركِ مِنْ سائمةِ الأنعامِ .... مِنْ الحنينِ الجمِّ والارزامِ
فَاعتَبِري يا أُمَّةَ الضَّلالِ
[3]
عجيبة يُعذرُ فيها مَنْ عَجِبْ .... في حملِهِ الماءَ فِلِمْ لا يَنْسَكِبْ
قَبْلَ بُلوغِ أرضهِ حيثُ نُدِبْ .... لو خالفَ اللهَ عصاهُ فَغَضِبْ
وصَارَ في دائِرةِ النَّكَالِ
[4]
كَمْ معشرٍ ساقَ إليهمْ رزقَهُ .... قد خَلَعُوا من الرِقَابِ رِقَّهُ
وقد عَصَوْا وجَحَدوهُ خَلْقَهُ .... جُلَّ الذي صوَّرَهُ ودِقَّهُ
لِمُبْلِغِ الحُجَّةِ لا الإجلالِ
[5]
دلَّ على ذَاتِ القديمِ ما صَنَعْ .... وما ابْتَدا من خَلْقهِ وما اَخْتَرَعْ
مِنْ ظَاهِرِ الجسمِ ومَكْنُونِ البضَعْ .... عَجَائباً يعجزُ عَنْها مَنْ صُنِعْ
مِنْ غَيرِ تَعليمٍ ولا مثالِ
[6]
يا ذا الذي أَصْغَى إلينَا مَسْمَعَهْ .... يَطْلُبُ عِلمَاً بَاهِراً ومَنْفَعَهْ
إنْ كُنْتَ لا تهوى طَرِيقَ الإمَّعَهْ .... فانظُر إلى أربعةٍ في أرْبَعَهْ
فذلكَ الجِسْمُ مَعَ الأَحْوَالِ
[7]
دلَّ على حُدُوثِ قَرْنِ الأحوالْ.... خُرُوجُهُ مِنْ حَالةٍ إلى حَالْ
لو كُنَّ لِلذَّاتِ عَدِ مْنَ التِّرحَالْ.... ولم يُسَلِّمْنَ لِحُكْمِ الإِبْطَالْ
فانْظُر بِعَينِ الفِكْرِ غيرَ آلِ
[8]
مَا انفَكَ عَنْها الجِسمُ أَينَ مَا كَانْ.... في دَاني الأرضِ وَقَاصِي البُلدانْ
وغَابِرِ الدهرِ وباقي الأزمانْ.... كلا ولا يَدْخُلُ تَحْتَ الإمْكَانْ
خروجُهُ عَنْها مِنَ المَحَالِ
[9]
دَلَّ عَلَى صِحْةِ مَا أَقُولُ.... الفِكْرُ والتَدْبِيرُ والعقُولُ
والسَمْعُ إذ جَاءَ بهِ التَنْزِيلُ.... ومَا أَتى بِشَرْحِهِ الرسولُ
مُنَبّهاً عَْن وَسْنَةِ الإغْفَالِ
[10]
وَهْيَ إلى صَانِعِهْا مُحْتَاجهْ .... في مُقْتَضَى العقلِ أشدَّ حاجهْ
إذْ صَارَ مِن حاجتِها إِخراجَهْ .... قَلبُ سليمِ القلبِ كالزجاجهْ
مضيئةٌ مِن قَبَسِ الذَّبالِ
[11]
وهوَ تعالى ذو الجلالِ قادِرُ .... إذ فعلهُ عَنِ الجوازِ صَادِرُ
أَعراضُ ما رَكَّبَ والجواهرُ .... وذاكَ في أهلِ اللِّسانِ ظاهرُ
عِنْد ذوي الفِطْنَةِ والجُهَّالِ
[12]
وكلُّ ما بانَ مِن الترتيبِ .... في ظاهرِ البُنْيَةِ والتَرْكِيبِ
من كلِّ فَنٍّ مُتْقَنٍ عجيبِ .... دَلَّ على العلمِ بِلا تَكذيبِ
في مَعْرَضِ الجوابِ والسؤالِ
[13]
وكلُّ مَنْ كان عَلِيمَاً قادراً .... لِذَاتهِ وناهياً وآمراً
وباطناً لخَلْقِهِ وظاهِراً .... وقابلاً لتَوْبِهِم وَغَافِراً
فَذَاكَ حَيٌّ غَير ذِي اعْتِلالِ
[14]
يَسْمَعُ ما دَقَّ مِن الأصوَاتِ .... ويَعْلَمُ المقصُودَ باللُّغَاتِ
ليس بِذِي دَاءٍ ولا آفَاتِ .... ويَنْظُرُ الذَرَّةَ في الصّفاتِ
سودَاءَ في سودا مِنَ الليالي
[15]
وَرَبُنا سُبْحانَهُ قَدِيمُ .... لَمْ تَخْتَلِجْنَا دُونَهُ الوُهُومُ
وهوَ بأوصَافِ العُلى مَعْلُومُ .... حَيٌّ على عِبادهِ قَيُّومُ
مُمْتَنعٌ من حَالَةِ الزَّوَالِ
[16]
وهو تعالى غير ذِي تَنقُّلِ .... قُدِّس عن مَقَالَةِ ابنِ حَنْبَلِ
والأَشْعَريِّ وضِرَارِ الأحْوَلِ .... فَخَالِف الشَّكَ إلى النَّصِ الجَلِي
ليس بِذِي نِدٍّ ولا مِثَالِ
[17]
وهو غَنِيٌّ ليس بِالمُحْتَاجِ .... إلى سَدَادِ البَطَن والأزواجِ
إذْ هوَ عَنْ نَيْلِ المَلاذِّ نَاجِي .... ومُقْتَضَى المِحْنَةِ والإحْرَاجِ
قَدْ عَمَّ كُلَّ الخَلقِ بالإفضَالِ
[18]
وعنه نَنْفِي رُؤيةَ الأبْصَارِ .... في هذه الدَّارِ وتِلْكَ الدَّارِ
إذ هو لا يُعْلَمُ بالمِقْدَارِ .... ولا بِإقْبَالٍ ولا إدْبَارِ
في أيِّما حَالٍ من الأحْوَالِ
[19]
لو كَانَ ربِّي مُدْرَكاً في حَالهْ .... أَدْرَكْتُهُ الآنَ بِلا مَحَالَهْ
يا إخوتا فَاطَّرِحوا الجَهَالهْ .... وَالشَّكَ والحَيرَةَ والضَلَالهْ
واغْتَرِفُوا من زَاخِرٍ سَلْسَالِ
[20]
وهو يَجِلُّ عن قَرِينٍ ثَانِي .... يَمْنَعُ مِنْهُ العقلُ والمَثَانِي
لَوْ كَانَ ثانٍ وهُما ضِدَّانِ .... وَظَهَرَ المُنْكَرُ في البُلدانِ
ولم يُسَلِّمْ أوَّلٌ لِتَالي
[21]
وهو حَكِيمٌ ذُو الجَلالِ عَدْلُ .... إذ كُلُّ جَورٍ حَاجَةٌ وجَهلُ
وَمِنْهُ للكُلِّ العَطَاءُ الجَزْلُ .... وليس يَثْنِي نِعْمَتَيْه العَذْلُ
يُجْزِي عَلى الحبَّةِ بالمِثْقَالِ
[22]
قَضَاؤُهُ بالحقِّ دُونَ الباطِلِ .... كما أَتَى في السُّورِ النَّوَازِلِ
وإذْ بِهِ يَفْرَحُ كُلُّ عاقِلِ .... والظُّلمُ يُشجي قَلبَ كلِّ فَاضِلِ
فَانْظُرْ إلى مَخَارِجِ الأقَوَالِ
[23]
وَكَلَّفَ العَبدَ دُوَيْنَ الطَّاقَهْ .... وحَلَّ إذ كلَّفَهُ وِثَاقَهْ
إذْ صار لا تَجْرِيْ عليهِ الفَاقَهْ .... ولَم يُرِدْ سُبْحَانَهُ إرهَاقَهْ
جَلَّ فما أَرْحَمَهُ من وَالِي
[24]
ولم يُرِدْ ظُلماً ولا فَسَادا .... لو شَاءَهُ ما عَذَّبَ العِبادا
ولأَرَدْنا كُلَّ ما أرادا .... ثَمَّتَ وَالَيْنَا الذي قَدْ عَادَا
وكان لا يَنْهى عن الإضْلالِ
[25]
يَمْتَحِنُ العالمَ بالأمْرَاضِ .... والموتِ والشدَّةِ والأعرَاضِ
لِلإعْتِبَارِ المَحْضِ والأعْوَاضِ .... وهو عَنِ المُمْتَحَنِيْنَ راضِي
يُحِلُّهُم فَوْقَ المَحَلِّ العَالِي
[26]
ومِنْهُ قَدْ جَاء الكتابُ المُنْزَلُ ....شَاهِدُهُ البَرُّ النَبيُّ المرسلُ
مُوَصَّلٌ مَتْلُوّهُ مُفَصَّلُ .... فيه الهُدى مُبَيَّنٌ ومُجْمَلُ
كالدُّرِ والياقُوتِ واللآلي
[27]
وعندنا محمدٌ نبيُّ .... مهذَّبٌ مطهَّرٌ زكيُّ
إختصَّهُ بذلكَ العليُّ .... وجاءَ منهُ مُعْجِزٌ جَلِيُّ
يَعْجَزُ عنهُ كلُّ ذِيْ مَقَالِ
[28]
أيَّدهُ ربي بإِظْهَارِ العَلَمْ .... فصَارَ في هَامَةِ بَحْبُوح الكَرَمْ
أفَضَلُ مَنْ يمشي على بَطنِ قَدَمْ .... وكلِ ذي لحمٍ من الخلقِ ودمْ
مَنّاً مِنَ الواحدِ ذِي الجَلالِ
[29]
وقولُنَا في الوعدِ والوَعِيدِ .... للمؤمنِ الطائعِ والعنيدِ
وللشقيِّ العرضِ والسعيدِ .... بالمَكْثِ في الدارينِ والتَخْلِيْدِ
وذاكَ قُولُ اللهِ ذي المَحَالِ
[30]
وما لأهلِ الفِسْقِ مِنْ شَفَاعهْ .... لَمَّا تَنحَّوا عن طريقِ الطاعهْ
وخَالَفُوا السنةَ والجَمَاعهْ .... وارتَكَبُوا المُنْكَرَ والبشاعهْ
فَخُلِّدُوا في حِلَقِ الأنكالِ
[31]
ولا يُسمَّى ذُو الفُسُوقِ كافِراً .... مُغَالِبَاً بِكُفْرِهِ مُجَاهِراً
ولا تَقيَّاً ذا وقَارٍ ظاهِراً .... بَلْ فاسقاً رِجْسَاً لَعِيناً فَاجِراً
يَجُولُ في جَوَامِعِ الأَغْلالِ
[32]
والنَّهيُ عَنْ فِعْلِ القبيح واجبُ .... والأَمْرُ بالمعروفِ فرضٌ لازِبُ
وهو على فاعِلِهِ مَرَاتِبُ .... وَعظٌ وَزجرٌ وَحُسَامٌ قَاضِبُ
مِْن غِيرِ تَفْرِيطٍ ولا استعجالِ
[33]
ثُمَّ الإمامُ مُذْ مضى النبيُّ .... صلَّى عَليِهِ الواحدُ العليُّ
بغيرِ فَصلٍ فَاعْلَمَنْ عليُّ .... والنَّصُ فِيهِ ظاهِرٌ جَلِيُّ
يومَ الغَدِيرِ ساعةَ الإحْفَالِ
[34]
قالَ فمنْ كُنتُ لهُ وليَّا .... فليتولَ مُعلناً عليَّا
إنْ كان يَرْضَانِيْ له نَبِيَّا .... شافِعاً وصَاحِباً حَفِيَّا
فَصَارَ أهلُ الزَيغِ في بَلْبَالِ
[35]
وقالَ ربِّي وهوَ نِعمَ القائلُ .... وهَدْيُهُ إلى العبادِ واصِلُ
مَولاكمُ فِيهِ لكُم دلائلُ .... مَنْ أَخَذَ الخَاتَمَ عنهُ السائلُ
وهو لِمَفْرُوضِ الصَلاةِ صَالِي
[36]
وبَعدَهُ الأمْرُ إلى السِّبْطَيْنِ .... الحسنِ الطَاهِرِ والحسينِ
قَتِيلِ أَربَابِ الشَقَى والمَيِنِ .... شَهْمِ الجَنَانِ طَاهِرِ الثَوْبَيْنِ
مُردِي كُمَاةَ الظُّلمِ في النِّزَالِ
[37]
والحُجَّةُ الظاهرةُ المُعِمَّهْ .... بالأمر في آلِهِما الأئمهْ
شَاهِدُهَا إجمَاعُ هَذِي الأمهْ .... سَفِينةِ الحقِّ بُدُورِ الظُّلْمَهْ
إذا ألَمَّتْ ظُلَمُ الأَهْوَالِ
[38]
فيهمْ نِصَابُ الأمرِ والإمامهْ .... ليس إلى غيرِهِمُ الزَّعَامهْ
فلا تَخَطَّوا طُرَقَ السلامَهْ .... واستَمِعُوْا مِنْ ربِّكم أَحْكَامَهْ
لا تُخْطِروا الحِسْدَ لكمْ ببَالِ
[39]
أتحسُدُونَ الناسَ فَضَلَ الباري .... في الرزقِ والخِلْقةِ والمِقدارِ
وَوَاقِعِ الإقتَارِ والإيسَارِ .... ومَنُّهُ على الجميعِ جاري
بالعدلِ في الإكثارِ والإقلالِ
[40]
أراد من أهلِ القليلِ الصَبْرَا .... ومِنْ ذَوي المالِ الكثِيرِ الشُكْرَا
وادَّخَرَ الأَجْرَ لدَارِ الأُخرَى .... ومَنُّهُ على الجميعِ يَتْرَا
لِلفائزينَ بالمحَلِ العالي
[1]
حَمْدَاً لِمَنْ أيَّدَنَا بِعِصْمَتِهْ .... وَاخْتَصَّنَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهْ
وَصَيَّرَ الأَمْرَ لَنَا بِرُمَّتِهْ .... فِيْ كُلِّ مَنْ أَظْهَرَ مِنْ بَرِيَّتِهْ
[2]
صِرْنَا بِحُكْمِ الواحِدِ المنَّانِ .... نَمْلِكُ أَعْنَاقَ ذَوِي الإيِمَانِ
وَمَنْ عَصَانَا كَانَ في النِّيْرَانِ .... بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ أَوْ هَامَانِ
[3]
لَوْ أَنَّهُ صَامَ وَصَلَّى وَاجْتَهَدْ ....وَوَحَّدَ اللهَ تَعَالَى، وَعَبَدْ
وَصَيَّرَ الثَّوْبَ نَظِيْفاً والجَسَدْ .... وَقَامَ لِلطَّاعَةِ بِالعَزْمِ الأَشَدْ
[4]
ثُمَّ عَصَى قَائِمَنَا المَشْهُوْرَا .... وَقَالَ لَسْتُ تَابِعَاً مَأمُوْرَاً
مُحْتَسِبَاً لأمْرِكُمْ مَقْهُوْرَا .... لَكَانَ مَلْعُوْنَاً بِهَا مَثْبُورَاً
[5]
وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الجَحِيْمِ الحَامِيَهْ .... وأمُّهُ فيها يَقِيْناً هَاوِيَهْ
وَمَا الذي يُدْرِيْ الجَهُولُ مَا هِيَهْ .... نَارٌ تُصَلِّيهِ بِهَا الزَّبَانِيَهْ
[6]
إنَّ بَنِيْ أَحْمَدَ سَادَاتُ الأُمَمْ .... بِذَا لَهُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ حَكَمْ
مَنْ أَنْكَرَ الفَضْلَ لِأُذْنَيْهِ الصَمَمْ .... مَنْ عِنْدَهُ الدُّرُ سَواءٌ والحِمَمْ
[7]
قَد قَالَ مَنْ أَنْكَرَ فَضْلَ الأَخْيَارْ .... أَعنِي بَنِيْ بِنْتِ النبي المُخْتَارْ
مَقَالَةً يَغْضَبُ مِنْهَا الجَبَّارْ .... ليس لِحُكْمِ اللهِ فيها إِنْكَارْ
[8]
أَنْكَرَ فَضْلَ الفَاضِلِيْنَ بِالنَّسَبْ .... وَهْوَ إلى نَيْلِ العُلَى أقوى سَبَبْ
نَقُولُ هَذَا إِنْ شَكى وإن عَتَبْ .... لا يَسْتَوِيْ الرَأسُ لَدِيْنَا والذَّنَبْ
[9]
هَلْ عِنْدَهُ إِذَا أتاهُ المُنْتَسِبْ .... بِنَسَبٍ غَثِّ الجُدُودِ مُحتَجِبْ
مُلَفْلَفٍ([53]) مِنْ كُل أوبٍ مُضْطَرِبْ .... مِثْلُ صَمِيْمِ آلِ عَبْدِ المُطَّلِبْ؟
[10]
وهَل لَدِيْهِ قِطعةُ الرصَّاصِ .... كَالذَّهَبِ المُسَبَّك الخُلاصِ؟
وَكُلُّهُ جِسمٌ بِلا اختِرَاصِ .... مَالَكَ إنْ أنصفتَ مِنْ مَنَاصِ
[11]
قَدْ نَصَّ ربِّي في الكتابِ المُنْزلِ .... نصاً جليَاً لأخِ العَقْلِ الجَلِي
يُعْرَفُ مِنْ مُبَيَّنٍ ومُجْمَلِ .... ولم يُقَيِّدْهُ بِشَرْطِ العَمَلِ
[12]
لو كَانَ أَجْرَاً كانَ بَعدَ الإكمالْ .... إذْ ذاك من شَرْطِ حُقُوقِ العُمَّالْ
ولم يَزَلْ مِنْ حَالَةٍ إلى حَالْ .... ولم تَشُبْهُ رَائِعَاتُ الزِلزَالْ
[13]
دَارُ الجزا يا قومِ دارُ الآخرهْ .... إنَّا أخذنا عَنْ بحارٍ زاخرهْ
أولَ ما دِنَّا بِهِ وآخرَهْ .... فَلَمْ تكن صَفْقَتُنَا بِخَاسِرهْ
[14]
قَد قال جَدِي القاسِمُ العلاَّمَهْ .... في أوَّلِ التَّثْبِيتِ للإمامهْ
قولاً نَفَى عَنْ دِينِنَا ظِلَامهْ .... وَحَلَّ عن مذهبنا لِثَامَهْ
[15]
ثُمَّ ابنُهُ ذو الشَّرفِ الأصِيلِ .... محمدٌ ذو الفهمِ والتحصيلِ
حَقَقَ في الثَالِثْ مَنَ الأُصُولِ .... قولاً يُزيلُ مذهبَ الجَهُولِ
[16]
ثُمَّ الإمامُ الأسَدُ الهَصُورُ .... أبو الحسينِ العالمُ المشهورُ
قد قال قولاً يَعْتَليهِ النورُ .... وهو بما يَقُولُهُ خَبِيرُ
[17]
ثُمَ أَبَانَ بعدُ في الكفاءهْ .... ما قَدْ رَأيْنَا والورى سَنَاءهْ
فَلَم نُفَارِقْ أَبَدَاً ضِيَاءَهْ .... إذ نَحْنُ لا نَبْغِي الهُدَى وَرَاءهْ
[18]
وقالَ في ذاكَ الإمامُ القاسِمُ .... وَسِبْطُهُ الفَذُّ الحسينُ العالمُ
قَولاً كَدُرٍّ قَدْ جَلاهُ الناظمُ .... يَعْرِفُهُ الحبرُ اللبيبُ الفَاهِمُ
[19]
وَكَمْ أعُدُّ مِنْ كلامِ الجبَّارْ .... آياً وَمِنْ قولِ النبي المُختارْ
وشَرْحِ أجدادي الحُمَاةِ الأبرَارْ .... مِنْ حُجَّةٍ لائحةٍ للأبصارْ
[20]
لم يَعَمَ عَمَّا قُلْتُهُ إلاَّ عَمِي .... ذو منطقٍ حُلوٍ وقلبٍ مُظْلِمِ
يَحسِبُ أنَّ الدِّينَ بالتَّوهُمِ .... فصَارَ للشّقْوَةِ في جهنَّمِ
[21]
وكلُّ مَنْ أنكرَ فضلَ الصفوهْ .... شَارَكَ أربابَ الرَدَى والشّقْوَهْ
فيما أَتَوْهُ عَامِدِينَ ضحوهْ .... في أرضِ باخَمرى وصَحرَا أتْوَهْ
[22]
ثم بِيَحْيَى في بلادِ البَهْلَوَانْ .... إذْ أنْزلُوهُ مِنْ شَمَاريخِ القِنانْ
وَفِعْلِ نَصْرٍ نَجْلِ سَيَّارِ الهُدَانْ .... بسِبط زيدِ الخيرِ يومَ الجوزجانْ
[23]
وَشَارَكَ الأشرارَ في الكُناسَهْ .... لما نَفَوْا عَنْ جِسْمِ زيدٍ رأسَهْ
ونَزَعُوا لا قُدِّسُوْا لِبَاسَهْ .... ثم أطَافُوا حَوْلَهُ الحِرَاسَهْ
[24]
وكَمْ لأجدادِيَ مِنْ يَوْمٍ أغَرْ .... فيهِ النِّطاحُ بالجِبَاهِ والغُرَرْ
لا يَرْفَعُ الصوتَ بِهِ إلاَّ الذَّكَرْ .... يَضَلُّ يَرْمِيْ بِالرُؤسِ والقِصَرْ
[25]
وأصلُهُ الإنكارُ لِلتفضِيلِ .... والقَوْلُ بالتّرجيم والتعليلِ
ونَفي حُكْمِ الوَاحِدِ الجَلِيْلِ .... في كلِّ ما حيٍّ وكلِّ جيلِ
[26]
يا قومِ لَيسَ الدُّرُ قَدْرَاً كَالبَعَرْ .... ولا النِّظَارُ الأبْرَزِيُّ كالحَجَرْ
كلا ولا الجوهَرُ مِثْلاً للمَدَرْ .... فحاذِرُوا في قولكمْ مَسَّ سَقَرْ
[27]
هَلْ في البرايا كَبَنِي بنت النبيِّ .... أهلِ الكِسَا والحَسَبِ المهذَّبِ
والضَّربِ في عَرْضِ العَجَاجِ الأشهَبِ .... عَنْ دِينِهمْ كلَّ رَدِيِّ المنْصِبِ؟
[28]
لا أنسَ في نَورُودَ فِعْلَ النَّاصرِ .... الحسنِ الفذِّ الإمامِ الطّاهرِ
بكلِّ رِجْسٍ ذي عِنَادٍ فاجرِ .... خَبٍّ لئيمٍ داعرٍ مُكابرِ
[29]
ولا فِعالَ النَّاصرِ بن الهادِي .... يومَ نُغْاشٍ في ذوي الفسادِ
إذْ صيَّرَ القومَ كَصَرعَى عادِ .... بالسُّمْرِ والمُرْهَفَةِ الحدادِ
[30]
وَكَمْ ليحيى ذي الأيادِي السابِقهْ .... مِنْ حَمْلَةٍ نحوَ الأعادي صَادِقهْ
كأنها فَوقَ الطغاةِ صَاعقهْ .... مَشْفُوعَةٍ برجفةٍ وبارقهْ
[31]
أَقُولُ قَوْلاً فافهَمُوا تَأوِيلَهْ .... واستَمِعُوا هُدِيتُمُ دليلهْ
واتبِعُوا لترشَدُوا سَبِيلهْ .... فما طَريقُ الحقِّ بالمجهُولهْ
[32]
ما قولكمْ في مُؤمِنٍ قوّامِ .... مُوحِدٍ مُجتهدٍ صوَّامِ
حِبرٍ بكلِّ غامضٍ علاَّمِ .... وذكرُهُ قد شاعَ في الإسلامِ
[33]
لم يبقَ فنٌّ مِنْ فُنُونِ العلمِ .... إلاَّ وقد أضحى لهُ ذا فَهْمِ
وهو إلى الدِيْنِ الحنيفِ ينْمِي .... مُحَكَّمُ الرأي صَحِيحُ الجسمِ
[34]
ومالهُ أصْلٌ إلى آلِ الحسنْ .... ولا إلى آلِ الحسينِ المؤتمنْ
بَلْ هُو مِنْ أرفع بيتٍ في اليمنْ .... قَدِ استوى السرُّ لديهِ والعلنْ
[35]
ثم انبرى يَدعو إلى الإمامهْ .... لنفسهِ الوَاجِبَةِ القوَّامَهْ
ثَمَّتَ أجرى بالقضا أقْلاَمَهْ .... وأنفذت أسيافهُ أحكامَهْ
[36]
وقَطَعَ السارقَ والمحُاربا .... وسلَّ للعاصينَ سيفاً قاضِبَا
وقادَ نحو ضِدِّهِ المقانِبَا .... وبثَّ في أرضِ العِدَا الكتائبَا
[37]
ما حُكْمُهُ عِندَ نُفَاةِ الفضْلِ .... لما تناءا أصْلُهُ عن أصلِي
ولم يكنْ مِنْ مَعشرِي وأهلِي .... أهلِ الكِسَا مَوضِعِ عِلْمِ الرُّسْلِ؟
[38]
أمَّا الذي عِنْدَ جُدُودِي فِيْهِ .... فيَنْزَعُونَ لِسْنَهُ مِنْ فِيهِ
ويُؤْتِمُونَ جَهْرَةً بَنِيْهِ .... إذْ صارَ حقَّ الغيرِ تَدَّعِيهِ
[39]
وأحبَطَ الأعمالَ تلكَ الصالحهْ .... بهذهِ الدَّعوى الشَّنَاعِ الفاضحهْ
وهي لأَرْبَابِ العقولِ واضحهْ .... بالحججِ الغُرِّ الكبارِ اللآئحهْ
[40]
إن لم يكونوا في الهدى حُيَارَى .... واستَعْمَلوا العقولَ والأفكارا
ولم يلوُّوا رؤسهُمْ فِرَارَا .... ويَقْرِنُوا الياقوتَ والأحجارا
[41]
وتَجْعَلُوا العَبْدَ شَبِيهاً بالنبي .... في عَقْلِهِ وجِسْمِهِ والمنْصِبِ
ما الليْثُ عِنْدِيْ فاعْلَمُوا كالثَعْلَبِ .... وإنْ غَدَا كِلاهُمَا ذا مخْلَبِ
[42]
يا لهفَ نَفْسِي إنْ شَفَانيْ لهفُ .... على حُمَاةٍ قَدْ حَواهَا الطَّفُ
ما هَالهمْ عِنْدَ القِتَالِ الزَّحْفُ .... بَلْ شَهَروا أسيافهم واصْطَفُّوا
[43]
وَهُمْ على ما جاءنا دونَ المائهْ .... كُهُولُهُم في الملتقى والأصبيهْ
فَجَعْلُوا البِيْضَ الرقاقَ أعْصيهْ .... وصَادَمُوا أهلَ الردى والمعصيهْ
[44]
لو أنكروا فضلَ أبي عبداللهْ .... ما وَهَبُوا تلكَ النفوسَ للهْ
وطَلَبُوا لكلِّ أمرٍ عِلَّهْ .... واتَّخَذُوا للشُّبَهِ المُضِلهْ
[45]
بَل سَلَّمُوا الفضلَ لأهلِ الفضلِ .... واستَهْدَفُوا من دُونِهم للقتلِ
واعتَمَدُوا الضربَ بِكُلِّ نَصْلِ .... مُقَدَّمِ الصُّنْعِ حديثِ الصَّقْلِ
[46]
وَصَحْبِ زَيدٍ عند بابِ الحِيرَهْ .... إذ أخلصُوا للخالِقِ السَّرِيْرَهْ
وكافَحُوا الضِّدَّ على بَصِيرَهْ .... فَوَرِثُوا مَمَالِكاً خَطِيرَهْ
[47]
ولستُ أَنْسَى صَاحِبَ المدِيْنَهْ .... ونَفْسَهُ الزاكيةَ الأمينَهْ
لَمّا حَمَى عَنِ الطغاةِ دِيْنَهْ .... ونصَّ للبيضِ الظبا جبينَهْ
[48]
وَصَحْبهُ مِثْلُ الليُوثِ العاديهْ .... حولَ صريحِ الجَدِّ عالي الناصيهْ
والظَالِمُونَ كالكلابِ العاويهْ .... قَدْ أقبلتْ تسعى بكلِّ ناحيهْ
[49]
فلم تَرُعْهُم كثرةُ الأعادي .... بل ثَبَتُوا للطعنِ والجلادِ
يؤملونَ الفوز في المعادي .... في جنَّةٍ عاليةِ العمادِ
[50]
ومَنْ كأصحابِ الإمامِ المُحْرمِ .... ذي الفضلِ والعفَّةِ والتكرمِ
إذْ هو كالبدرِ وهُمْ كالأنجمِ .... قد عَمَرُوا بعارضٍ مُحْرْجمِ
[51]
جاء إليهِ أربعونَ ألفاً .... مثل الجبالِ يزحفونَ زحْفَاً
وَهُمْ ثلاثمائةٍ لا خلفاً .... فَحَكَّمُوا البِيْضَ وصفوا صفاً
[52]
وأَعمَلُوا في الروعِ أطرافَ الأسلْ .... ولم يَشُبْهُم جَزَعٌ ولا فشَلْ
بلْ صارَ صابُ الموتِ فيهمْ كالعسلْ .... فجاوروا خالقَهم عزّ وجلْ
[53]
وكمْ لنا مِنْ ناصرٍ في الشيعهْ .... قد جَعَلَ الحُبَّ لنا ذريعهْ
إلى منالِ الدُّرُجِ الرفيعهْ .... يرى الفنا في حُبِّنا صنيعهْ
[54]
فذاكَ مِنَّا كائناً مَنْ كانَا .... غداً ينالُ الفوزَ والجنانا
ويردُ الحوضَ بما وَالَانَا .... حوضاً يُوافي عندهُ أبانَا
[55]
خصَّ بهِ اللهُ أبانَا المنتجَبْ .... وفيه للناظرِ أنواعُ العجبْ
حصباؤه الدُّرّ ومجراه الذهبْ .... وطعمُه أعذبُ من طعمِ الضَّرَبْ
[56]
وعندهُ الحيدرةُ الضرغامَهْ .... وولداهُ صاحبا الإمامهْ
وكلّهم في كفِّهِ صدَّامهْ .... تَنفِي عَنِ الفاسقِ عَظْمَ الهامهْ
[57]
فمَنْ أتى وهو لنا وليُّ .... سقاهُ من كاساتِهِ النبيُّ
ومَنْ أتى وهوَ بنا شقيُّ .... صبَّ على خُرْطُومِهِ العصِّيُّ
[58]
وَرُدَّ مَلْعُوناً شقياً خائبا .... قَدْ صَدَعَ السِّبطان مِنْه الحاجبا
فَانصَاعَ مَلْهوفاً حَزيناً نادبا .... إذْ لمْ يؤدِّ في الوِدَادِ الواجبا
[59]
هذا أخذناهُ بإسنادٍ قويّ .... وقَدْ نَظَمنَاهُ على حرفِ الرويّ
إنِ ارعَوَى عن الضَلالِ مُرْعَوي .... فالناسُ قسمان سعيدٌ وغوِي
[60]
لم يُهلِكِ الناس سوى بغضانا .... لو ساعدونا وَرِثُوا الجِنَانَا
ونالوا الغِبْطَةَ والأمانَا .... وفَارَقُوا الذِّلَّة والهوانا
[61]
كم عايَنَتْ عيناي يوماً شيعي .... في أُهبةِ المنقطعِ المُطِيعِ
مُطَامِناً للظَّهَرِ في الرُّكُوعِ .... لا يَرفَعُ الصوتَ مِنْ الخُشُوعِ
[62]
لَمّا ذَكَرْتُ عندهُ آل النبي .... لَفّفَ أطرافَ القِنَاعِ يحتبي
وقالَ لي دَعْ عنكَ ذِكْرَ المنْصبِ .... فالفضلُ في مذهبِنَا أمرٌ غَبِي
[63]
وخفَّ بعد الحلمِ والوقارِ .... وقامَ لي مُنْتَصِباً يُمَاري
بحُجَّةٍ دائمةِ العثارِ .... ساقطةٍ في وسطِ المضمارِ
[64]
فقلتُ مهلاً يا أخا الزَّهَادَهْ .... إنَّا أخذنا عن رُوَاةٍ سادهْ
بأنهمْ للمسلمينَ قادهْ .... وحُبُّهُم مِن أفضلِ العبادهْ
[65]
ليس على ربي اعتراضٌ لأحدْ .... يَفْعَلُ ما شاءَ تعالى ومَجَدْ
لم يَجْعَلِ الكلبَ سَواءً والأسدْ .... فَاطَّرِحُوا ثَوْبَ العنادِ والحسدْ
[66]
وجئتُهُ بمحكمِ الآياتِ .... وفَاصِلِ المُنْزَلِ في السُّورَاتِ
وقلتُ قَدْ جئتَ على ميقاتِ .... إنْ كُنتَ تبغي طرقَ النجاةِ
[67]
وقلتُ إنْ كنتَ تريدُ الجنَّهْ .... فهاكَ بعدَ الذكرِ حكمَ السنَّهْ
وخُذْ هنياً لستُ أبغي مِنَّهْ .... ودادُنا من العذابِ جُنَّهْ
[68]
فقالَ لستُ خارجاً عَنْ مذهبي .... لو جاءني جبريلُ أو جاءَ النبي
إنَّ شيوخي قَدْ أجادوا أدبي .... وانتفختْ أوداجُهُ للغضبِ
[69]
فقلتُ رِفْقَاً أيّها الإنسانُ .... بِحُبِّنَا يُسْتَكْمَلُ الإيمانُ
وبُغْضُنَا غايتُهُ النيرانُ .... ونحنُ للخلقِ معاً أمانُ
[70]
إنْ شكَّ في المولودِ يوماً والدُ .... فَحُبُنَا لهُ عليهِ شاهدُ
ما كذبَ الحيَّ الحلالَ الرائدُ .... قولي إلى طُرُقِ الرشادِ قائدُ
[71]
لم أسألِ الناسَ عليهِ أجرا .... عُذْرَاً لكلِ مؤمنٍ ونذْرَا
يُوسِعُني الأبرارُ عنهُ شُكرَا .... والظالمونَ سَفْهَاً وهُجْرَا
[72]
مَنَحْتُ فيه كلَّ باغٍ عِرضي .... قَرضاً وما أثقلهُ من قَرضِي
أعددتهُ ذُخْرَاً ليوم عَرضي .... يوماً به المرءُ ثقيلُ النَّهْضِ
[73]
لم أعْدُ مِنْهَاجَ جُدُودِي الصِّيدِ .... وقَوْلَهُم في العدلِ والتوحيدِ
وفي فُصُولِ الوعدِ والوعيدِ .... بحُجَّةٍ عَنْ غيرِ ما تقليدِ
[74]
ولم أزلْ مُذْ مِيْطَتِ التمائِمْ .... ولُوُّيتْ في رأسيَ العمائمْ
أسبرُ قولَ كلِّ فَذٍّ عالِمْ .... بفكرةٍ نافذةٍ كالصارِمْ
[75]
لم تُلْهِنِي في صِغَرِي الملاهي .... ولستُ أدري بِالعَيَانِ ما هِي
وذاكَ للنِّعمةِ مِنْ إلهي .... أحمدهُ إِذْ كان غيري لاهِي
[76]
كَمْ نعمٍ عندي له لا تُحصى .... عمَّ بها سبحانه وخصَّا
وأوجبَ الشكرَ لها ووصّى .... نصصتُ عنها شكر ربِّي نصّا
[77]
ولم أزل لمَّا حملتُ القَلَمَا .... ثُمَّ يَفَعْتُ وبلغتُ الحُلُمَا
أسعى إلى الدينِ الحنيفِ قُدُمَا .... ولو رماني دُونَ ذاكَ مَنْ رَمَى
[78]
كم قائلٍ قال صغير السِّنِّ .... يُريدُ أنْ ينفي الكمالَ عنِّي
فقلتُ هذا من عظيمِ المنِّ .... إنْ كنتَ ذا جهلٍ فسائلْ عنِّي
[79]
العلمُ في آلِ النبي من صِغَرْ .... نَصَّ بذاكَ جدُّهُم خيرُ البشرْ
وغَيرُهُم ليس بمغنيهِ الكِبَرْ .... لو شَابَ شعرُ رأسهِ أو انتثرْ
[80]
صبراً لحكمِ ربِّكمْ أو مُوتُوا .... فسوفَ أُبْدِي الشكرَ ما حييتُ
فما لكمْ ما شيئتُمُ أو شِئْتُ .... بل ما يشاءُ المحيِيُ المميتُ
[81]
ألْهَمَ يحيى حُكمَهُ صبيِّا .... وَجَعَلَ ابنَ مريمٍ نبيَّا
في المهدِ حُكْمَاً نافذاً مقضيِّا .... فَمُتْ أسَاً إنْ كنتَ رافضيَّا
[82]
نشأتُ بينَ مُصْحَفٍ منشورِ .... ودفترٍ مُحَبَّرٍ مَسْطُورِ
حتى استقامتْ في الهدى أموري .... وتمَّ بالله العظيمِ نُورِي
[83]
كمْ طالبٍ جاءَ مُجِدّاً في الطلبْ .... أدركَ عندي في العلومِ ما أَحَبْ
لَقَّيْتُهُ بِشْرَاً وعلماً منتخبْ .... كأنهُ صِنويَ من أمٍ وأبْ
[84]
فراحَ جذلانَ قريرَ العينِ .... قد نالَ ما رامَ بأمرٍ هَيْنِ
يفْرقُ بينَ حاسدي وبيني .... كالفرقِ بين الصفْرِ واللُّجَيْنِ
[85]
هذا وكمْ خصمٍ من القومِ ألَدّ .... رقَّيْتُهُ عندَ الخصامِ في كَبَدْ
حتى إذا ما صارَ يرمي بالزبدْ .... قلتُ قليلاً يتعاطينَ الجَدَد
[86]
أرفَعُهُ حَينَاً وحيناً أُنْزِلُهْ .... حتى بَدتْ حِدَّتُهُ وأفكُلُهْ
وصحَّ لِلحُضَّارِ طُرَّاً زَلَلُهْ .... وَنَفِدَتْ عند الخِصَامِ عِلَلُهْ
[87]
فمُذ بدا الحقُّ وأعمى بصرَهْ .... ثنَى بتعدادِ الشيوخِ خُنْصُرَهْ
قالَ العلومُ فيهمُ مُنْحصرهْ .... ومَدَّ باعاً في الهدى مُقَصِّرهْ
[88]
وقالَ هلْ تَحْسِبُهُمْ في النارِ .... بَعْدَ صلاةِ الليلِ والنهارِ
وهَبَّةِ النومِ لدى الأسحارِ .... وذِكرِهِم للواحدِ الجبَّارِ
[89]
فقلتُ إنْ كانوا يرونَ الدِّينا .... في قولِنا وفعلِنا يقينا
ثم يُعَادونَ الطغاةَ فِينَا .... فسوفَ يلقونَ الحسانَ العِينَا
[90]
وإنْ نأوا عَنْ رأينا في الدينِ .... بغيرِ ما علمٍ ولا يقينِ
فَهُمْ مِنَ المكتوبِ في سجينِ .... لو عَبَدُوا ألفاً مِنْ السنينِ
[91]
وَيْكَ ألم تعلمْ بأصحابِ النَّهَرْ .... وذِكْرِهِم للهِ أوقات السَّحَرْ
وَصَبْرِهِمْ للموتِ خوفاً للضررْ .... فَهَلكُوا إذْ خالفوا خيرَ البشرْ
[92]
إسمعْ إذا شِئْتَ كلامَ الغاشيهْ .... في أوجهٍ ناصبةٍ وخاشيهْ
تُسَاقُ للذلةِ سوقَ الماشيهْ .... وهي إلى نارِ الجحيمِ عاشيهْ
[93]
ولا تعدِّ النُّصحَ مني سبَّا .... فَتُولِنِي عنه جَفَاً وعتْبَا
وتاقِ في آلِ النبي الرَّبَّا .... فألْسُن الحبِّ لهم لا تَغْبَى
[94]
قد وضحَ الصبحُ لأهلِ الأبصارْ .... وما على المنذرِ إلاَّ الإنذارْ
وأنتَ لا تُسْمِعُ أهلَ المقبارْ .... كلاَّ ولا تُنْقِذُ أربابَ النارْ
[95]
نسألُ ربَّ الناسِ حُسْنَ الخاتمَهْ .... وَدَوْلَةً للطيبينَ قائمهْ
تُضْحِي رؤوسُ الكفرِ منها كاظمهْ .... وَهْيَ لشملِ المسلمينَ ناظمهْ
[96]
حتى تُروَّى الباتراتُ في العَلَقْ .... وثَمَراتُ السُّمرِ من ماءِ الحدَقْ
مِنْ كُلِّ رِجْسٍ قد تعّدى ومَرَقْ .... إذا لِوَاءُ النصرِ لاحَ وَخَفَقْ
[97]
حينئذٍ نَسُوقُ أهلَ العصيانْ .... وما لنا إلاَّ الموَاضِيْ عِصْيانْ
وذاكَ باللهِ العظيمِ قدْ آنْ .... حتى يَبِيْعُوا كفرَهم بالإِيْمَانْ
[98]
كأنَّنِي بقائلٍ يا سادتِي .... قد كانَ حُبِي لَكُمُ عِبَادَتِي
طابتْ بِوُدِّي لَكُمُ وِلادَتِي .... هذا قِنَاعِي ثُمَّ ذِي سجَّادَتِي
[99]
وقد عَهِدْنَاهُ قَدِيْمَاً في الخَشَبْ .... أبغَضَ من هَبَّ لأجدادي ودَبْ
سَمِعْتُهُ يقولُ يوماً في شَظَبْ .... بأنَّهُ يُضْحِي نَبِيَاً إنْ أحبْ
[100]
فقلتُ مُسْتَهْزٍ بهِ في المحفلِ .... بحقِ هذا الرأسِ كُنْ مِثْلَ عَلِي
وَدَعْ عِرَاضَاً للنبي المرسلِ .... ما الشُّهْدُ يا مهبولُ مثلَ الحنظلِ
[101]
تَوَّبَكَ البِيْضُ الرِّقاقُ والأسَلْ .... وَطَعْنُ أبناءِ النبي في الوَهَلْ
وقَدْ قَبِلْنَا القولَ فاجهدْ في العملْ .... وأَخْلِصِ النيَّةَ للهِ الأجلْ
[102]
وَكَمْ بِهَا مِنْ مُؤْمِنٍ نالَ الحَرَجْ .... في حُبِنَا وهو مُلِظٌّ ما خرجْ
أصبحَ بالرحمنِ في أعلى الدُّرُجْ .... ما بَعْدَ ما كانَ بِهِ إلاَّ الفَرَجْ
[103]
فأَبْشِرُوا يا شِيْعَةَ الرحمنِ .... بالنصرِ مِنْ رَبِّكُمُ المنَّانِ
على ولاةِ الكُفْرِ والطُّغْيَانِ .... فليسَ للهِ شَرِيْكٌ ثانِ
[104]
وَوَعْدُهُ صِدْقٌ وقدْ كانَ وَعَدْ .... أفضلَ مخلوقٍ مِنَ الناسِ سَجَدْ
بأنَّهُ يأتيهِ مِنْهُ بولدْ .... يملاؤها عدلاً برغمِ ذي الحَسَدْ