الكتاب : شرح التجريد |
قال: ولو أن رجلاً لطم رجلاً فابيضت عينه وذهب البصر ثُمَّ انجلت وعادت إلى حالها ففيها قصاص ولا دية، وكانت فيها حكومة على حسب ما مر به من الصعوبة، وذلك أن ما لحقه كان عارضاً لا حكم له أو استبان ذلك بعود بصره كما كان، وهذا ما لا خلاف فيه يبين ذلك أنَّه لو جناه على العبد لم ينقص من قيمته شيئاص، فكذلك إذا جناه على الحر لم يوجب من ديته شيئاً وتجب فيه الحكومة لما لحقه من الألم كما نقول في غيره، قال: وإن كان الملطوم أخذ من اللاطم دية العين، ثُمَّ برئت رجع اللاطم عليه بالدية والتزم الأرش وذلك أن عودة إلى حال الصحة، كشف أنَّه لم يلزم اللاطم الدية فجاز أن يرجع فيها وهذا ما لا خلاف فيه، وأما الأرش فقد حكى أنَّه أحد قولي الشافعي، وعندنا أنَّه واجب واختلف في مثل هذا إذا لم يبن له أثر، قال أبو حنيفة: لا شيء فيه، وحكى مثل قولنا عن أبي يوسف ومحمد وأنه أحد قولي الشافعي، والدليل على هذا أن رجلاً لو شج ثُمَّ يرى وذهب الأثر، وذكلك لو شج موضحة وكذلك لو جرح جائفة فدية من جميع ا ذلك وذهب الأثر كان ذلك لا يسقط أثر شيء من ذلك وقد علمنا أنَّه يكون واجباً لما مر من الألم ولزمه من العلاج والتعب؛ لانه لو وجب للأثر لكان يجب أن يسقط إذا لم يبن أثر، فإذا ثبت ذلك في المقدر الذي، ورد فيه النص وجب مثله في الحكومة لاشتراكها في الألم والاحتياج إلى المعالجة. (110/16)
مسألة
قال: ودية المرأة نصف دية الرجل، والدية في أعضاء النساء وجرحائهن، أما في النفس وفيما زاد على الثلث من الدية فقد أجمع المسلمون على أن دية المرأة على النصف ن دية لرجل، وأما الثلث فما دونه فقد ذهب مالك وسعيد بن المسيب إلى أن المرأة تعاقل الرجل فيه وحكى أن الشافعي به كان يقول ثُمَّ رجع عنه إلى ما ذهب إليه سائر العلماء من أنهم ذهبوا إلى أن دية المرأة على النصف من دية الرجل في جميع الجراحات قل أو كثر، والحجة في ذلك ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: جراحة المرأة على النصف من جراحات الرجل لا يستوي بينهما في شيء من الجراحات، ولا الخدش وإذا قد أجمعوا على أن ما زاد على الثلث من جراحات النساء فهي على النصف من جراحات الرجال وجب في الثلث وما دونه أن يكون كذلك لأنها أيضاً جراحات مقدرات أو غير مقدارت على أن الأصول تشهد لنا؛ لأن قيم المتلفات لا تنفصل بين الثلث وبين ما يكون أكثر من الثلث، وروى أن ربيعة الرأي قال لسعيد بن المسيب: ما تقول فيمن قطع إصبع امرأة قال فيها عشر من الإبلن، قال: فإن قطع اصبعين، قال عشرون، قال: فإن قطع ثلاثاً، قال: ثلاثون، قال: فإن قطع أربعاً، قال: عشرون، قال: كلما كثير جرحها وعظمت مصيبتها، نقص أرشها، قال: يقر أي أنت هكذا أنت السنة. (110/17)
فإن قيل: فقوله: هكذا أنت السنة يدل على أنَّه قال توقيفاً.
قيل له: يحتمل أن يكون أراد دلالة السنة وهي غرة الجنين؛ لأنَّه يستوي فيه الذكر والأنثى.
فإن قيل: فما تنكرون من هذه العبرة.
قيل له: اعتبارنا أولى؛ لأنا قسنا جراحاتها وهي حية بعضها على بعض وهم قاسوا جراحاتها على الجنين فكان فرعنا أشبه بأصولنا وهو قول علي عليه السلام مخالف في الصحابة ويشهد لنا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لايحل مال امرء مسلم إلاَّ بطيبة من نفسه> فلا نأخذ مالا توقيف فيه وما لا دليل عليه من مالها وما نأخذه من إصبع المرأة اتفقا وما نجاوره لا إتفاق فيه ولا توقيف فيه، فوجب ألا يؤخذ دليله ما زاد على ذلك. (110/18)
مسألة
قال: وفي جنين المرأة إذا طرحته ميتاً بجناية عليها غرة، أما عبدٌ أو أومة وقيمة الغرة خمسمائة درهم، وبه قال العلماء ولم يذكر فيه خلافٌ إلاَّ القيمة، فقد حكي عن بعضهم أن القيمة بالغة ما بلغت والأصل في هذا ما روي أن امرأتين اختصمتا فرمت إحداهما فألقت جنينها فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغرة عبد أو أمة وألزم ذلك العاقلة فقال من ألزم ذلك وقيل أنَّه حمل بن مالك بن النابغة كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <اسجع كسجع الأعراب فيه غرة عبدٌ أو أمة> فدل ذلك على أنَّه دية الجنين دون الجناية على المرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنكر السجع ولم ينكر أن يكون ذلك دية الجنين ولم يقل: إنَّه أرش الجناية على المرأة فثبت أنها موروثة إبطالاً لقول من يقول إنَّه اللمرأة؛ لأن الجناية كانت عليها.
فإن قيل: فما معنى إنكاره السجع.
قيل له: أراد أن يبين أن الأحكام لم تبن على أن ينسق فيها الأسجاع، وروى زيد عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قضى في جنين الحرة بغرة عبدٌ أو أمة، وأما تقديرها بخمس مائةفوجهه أنَّه لا قول إلاَّ قول من قال: إن القيمة بالغة ما بلغت أو قال: إن القيمة مقدرة ولا يجوز القول أن قيمتها بالغة ما بلغت؛ لأنَّه يؤدي إلى أن تكون دية الجنين عشرين ألفاً أو أكثر فتكون دية الجنين أكثر من دية الحر، وهذا خلاف موضوع الشرع، فإذا بطل ذلك فلا بد من التقدير، وكل من قدر قال إنها خمسمائة درهم أو نصف عشر الدية، قال فإن طرحته حياً ثُمَّ مات وجبت فيه الدية كاملة، وذلك أن دية الصغير والكبير واحدة، وهذا ما لا خلاف فيه، قال: وإن قتلت المرأة وفي بطنها ولدٌ ولم ينفصل، فلا شيء سوى ديتها، وهذا أيضاً وجبت فهي الغرة، مما لا خلاف فيه؛ لأنَّه لا حكم للجين ما لم ينفصل عن الأم، قال: وإن انفصل ميتاً وجبت فيه الغرة مع دية الأم، قال أبو حنيفة إن انفصل بعد موت الأم فلا شيء فيه، وأظن الشافعي يوجب فيه الغرة كما قلنا، والدليل على صحة ذلك قوله وقد قال له حمل بن مالك ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فمثل ذلك بطل، فقال: <اسجع كسجع الأعراب فيه غرة عبد أو أمة> فخرج الجواب على ذلك، فقال فيه غرة عبدٌ أو أمة، فوجب ما قلناه وأيضاً لم يرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن حال الجنين أخرج والأم حية أم لا فدل ذلك على أنَّه لا فرق بينهما وهو قياس على ما انفصل قبل موت أمه بعلة أنَّه جنين أسقط بجناية، فكذلك إذا انفصل بعد موتها وأيضاً لو كان حياً كان يستوي حكمه بين أن ينفصل قبل موتها أو بعد موتها، كذلك إذا كان ميتاً، والعلة أنَّه جنين أسقطته الجناية. (110/19)
فإن قلي: إذا خرج بعد موتها جوزنا أنيكون مات لموت الأم لا للضربة.
قيل له: هذا التجويز لا يغني؛ لأن التجويز على الأحوال كلها قائم؛ لأنَّه معتبر بجناية الجاني؛ لأنَّه لو سقط قبل جريان الروح فيه لزمت فيه الغر، قال: وكذلك إن طرحت جنينين أو أكثر حيين أو ميتين كان في كل ميت غرة، وفي كلحي إذا مات دية لما تقدم بيانه وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <فيه غرة عبد أو أمة> فصار ذلك حكم كل جنين سقط ميتاً قل أو كثر، وكذلك إذا سقط حياً ثُمَّ مات. (110/20)
مسألة
قال: وإذا شربت المرأة دواءاً أو فعلت فعلاً أسقطت به الجنين لزمها من الدية والغرماء ما لزم غيرها كما إذا جني عليها بذلك، والوجه فيه أنها جناية على الجنين بفعلها فوجب أن يلمها من الغرة ما يلزم في الجنين كما يلزم ذلك غيرها، وذلك أنَّه موجب الجناية على الجنين إذا جني على الجنين مثل جنايتها لا سيما والغرة موروثة عندنا والم إذا فعلت ذلك لم ترث ويرثه سائر الورثة، وقد دللنا على هذا فيما تقدم، فأما قول يحيى في المنتخب إن طرحته وقد جاوز أربعة أشهر ففيه الدية وإن طرحته وله دون أربعة أشهر ففيه الغرة، فإن المراد به على ما ذكره الأخوان دفنها على ما دللنا عليه، فإذا كانت هي الجانية لزمها ما لزم سائر الجناة.
مسألة
قال في المنتخب: إن طرحته وقد جاوز أربعة أشهر ففيه الدية وإن طرحته وله دون أربعة أشهر ففيه الغرة.
والعم أن تأويل هذا الكلام إن طرحته وله أربعة أشهر حياً ففيه الدةي؛ لأنها إذا طرحته ميتاً فالواجب فيه الغرة والله أعلم.
فإن قيل: فما معنى فصله بين أربعة أشهر وبين ما دونها إذا كان الاعتبار بالحياة والموت.
قيل له: مراده ما روي أن الروح تجري فيه بعد أربعة أشهر، فإذا سقطبعد أربعة أشهر جاز أن يكون حياص وجاز أن يكون ميتاً فلم يمتنع أن تجب الدية، وإذا كان قبل أربعة أشهر فمعلوم أنَّه لا يسقط إلاَّ ميتاً، فلذلك قال فيه غرة يعني لا محالة.
مسألة
قال: وجنين الأمة إذا لم يكن من سيدها ففيه نصف عشر قيمته حياً واعتبر أبو حنيفة فيه الذكر والأنثى فجعل فيه إذا كان ذكراص نصف عشر قيمته، وإن كان أنثى فعشر قيمتها، وعن أبييوسف أن فيه مانقص من قيمة الأم، وقال الشافعي: عشر قيمة الأم، واعتبر الأم والدليل على ما قلنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجب فيه الغرة، ولم يفصل فيه الذكر والأنثى، وقدر القيمة بنصف عشر الدية المطلقة؛ لأن الدية المطلقة مائة من الإبل لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <في النفس مائة من الإبل> ثُمَّ جعل دية المراةنصف الدية المطلقة فأوجبنا نحن في جنين الأمة نصف عشر قيمته؛ لأن قيمته هي القيمة المطلقة، لم يعتبر الذكور والأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتبر ذلك على ن قولهم هذا يؤدي إ‘لى أن تكون النثى أحسن حالاً من الذكر فيما ه جارٍ مجرى الدية وذلك عكس الشريعة، ألا ترى أن الجنين ي باب القيمة يتقارب فيه الذكر والأنثى أو ربما كانت الأنثى أكثر قيمة من الذكور، فإذا أوجبنا في الأنثى عشر قيمتها وفي الذكر نصف عشر قيمته جعلنا الذكر فيه على النصف أو أقل من الأنثى فوجب بطلان هذا القول، فأما ما ذهب إليه الشافعي من الاعتبار بالأم فهو فاسد؛ لأنَّه لوكان من مولاها لم يعتبر بالأم، كذلك إذا كان من غير مولاها بعلة أن الجناية عليه لا على الأم والأصول تشهد لنا؛ لأن كل ما يجيء عليه يعتبر حالة بنفسه دون أبويه وأيضاً لا خلاف أنَّه لا يعتبر بأبيه، فوجب أن لا يعتبر بأمه، والعلة أن كل واحد منهما غير المجني عليه فإذا سقط ذلك بطل ما قاله الشافعي، وأما ما قاله أبو يوسف فإنما بناه على أصله في الجناية على العبد، فوجب ما نقص قسطاً من قيمته ونحن نبين فساد ذلك ونبين أن الجنايات على العبد توجب قسطاً من قيمته كما أن الجنايات على الحر توجب له قسطاً من ديته، فسقط قوله على أن هذه الجناية قد ثبت شرعاً أنَّه جناية على الولد فلا وجه (110/21)
لاعتبار حال الأم كما قلنا للشافعي، وقال القاسم عليه السلام في جنين الأمة: أن الواجب على مقدار قيمته كما في جنين الحرة على مقدار ديته، والأظهر من هذا أنَّه أراد قول أبي حنيفة وإن كان يحتمل أن يكون المراد ما قال يحيى عليه السلام، قال: وفي جنين البهيمة إذا ألقته ميتاً نصف عشر قيمته، وقال أصحاب أبي حنيفة: ما نقص من الأم ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه قاسه على جنين الأمة كما قاس جنين الأمة على جنين الحرة بعلى أنَّه جنين أسقطته الجناية. (110/22)
فإن قيل: ألستم تقولون أن البهيمة إذا فقئت عينها أو قطع أنفها يوجبون ما نقص منها ولا يوجبون قيمتها فما أنكرتم من أن يكون حكم الجنين كذلك.
قيل له: لأن هذه جناية على البيهمة؛ لأن عينها عضوٌ منها وليس كذلك الجنين؛ لأنَّه غيرها فلم نعتبر في الجنين حالها كام أعتبرنا في عينها، قال: وإن طرحه حياً ثُمَّ مات ففيه قيمة مثله، وهذا يجب أن يكون في الأمة والبهيمة سواء؛ لأن القيمة جارية مجرى الدية على أن كل من أتلف أمة أو بهيمة فعليه قيمة ما أتلف، كذلك إذا أتلف ولدها.
مسألة
قال: وفي العبد قيمته بالغة ما بلغت، وكذلك إن زادت قيمته لصناعة بحسنا إلاَّ أن تكون الصناعة مما لا يحل كالغناء وضرب المعازف ونحو ذلك، وقال في المنتخب: لا ترزاد قيمته على دية الحر، قال الشافعي وأبو يوسف: قيمته بالغة ما بلغت، وقال أبو حنيفة ومحمد: فيه القيمة ما لم تبلغ الدية، فإن بلغت أو جاوزت فقيمته دون الدية بعشرة دراهم، قال يحيى في الأحكام عند قوله في العبد إذا قتل فقيمته بالغة ما بلغت، قلت أو كثرت وهو قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، وهذا الذي حكاه عن علي لا نعرفه عنه، ويجوز أن تكون رواية وقعت إليه، والذي نعرفه عن علي مثل ما ذكره في المنتخب، وذلك ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: لا نبلغ بدية العبد دية الحر، وروى محمد بن منصور بإسناده عن عبد خير، عن علي عليه السلام، قال العبد مال يؤدي ثمنه ولا تكون قيمة العبد أكثر من دية الحر، قال أيده الله: والأصح عندي رواية المنتخب لاشتهارها عن علي عليه السلام ولما يذكره من بعد وبه كان يقول أبو العباس الحسني رضي الله عنه، إلاَّ أنَّه كان يحمل رواية الأحكام على رواية المنتخب ويقول: ما ذكره في الأحكام تقديره أن الواجب قيمته بالغة ما بلغت ما لم يتجاوز دية الحر والظاهر من رواية الأحكام خلاف ما كان يقوله ووجه ما ذكره في المنتخب أنَّه آدمي قتل فيجب أن لا يزاد عوضه على الدية الكاملة قياساً على الحر وأيضاً قد ثبت في يده إذا قطعت أو رجله أو عينه إذا فئت أنها يجب فيها النصف من عوضه عند يحيى عليه السلام والشافعي ويستدل عليه فيما بعد أن الذي يجب النصف من ديته، فوجب أن لا تزاد ديته على دية الحر قياساً على الحر وأيضاً هو محقون الدم على التأبيد، فوجب أن لا تزاد ديته على الدية الكاملة دليله الحر؛ ولأنا وجدنا العبد يتجاذبه أصلان أحدهما البهيمة، والثاني الحر فكان قياسه على الحر أولى من قياسه على البهيمة؛ لانه أشبه من حيث (110/23)
يجمعهما التكليف وحقن الدم على التأبيد ولزوم الكفارة في قتله؛ ولأن الحرية يجوز أن تطرأ عليه دون البهيمة؛ ولأنا وجدنا العبد يوازي الحر في بعض الأحوال ونقص عن الحر في بعضها ولم نجد في شيء من الأصول له حالة يريد فيها على الأحرار، فكانت الأصول شاهدة لما قلنا وناقضةٌ لما قالواه من جواز أن تزاد قيمته إذا قتل على دية الحر وأيضاً هذا القول يؤدي إلى أن تكون الحرية سبباً للنقص في شخص واحد وهو عكس الشرع، وذلك أن عبداً قيمته عشرون ألفاً وهو عبدٌ فعندهم إن الواجبات عشرون ألفاً ولو أعتق ثُمَّ قتل كان الواجب فيه عشرة آلاف فتكون الحرية سبباً للنقص في شخص واحد ووجه ما في الأحكام أنَّه مالٌ يباع ويشترى فأشبه البهيمة في أنَّ قتله قيمته بالغة ما بلغت ؛ ولأن ضمان الغصب وضمان القتل يستوي في الحر وفي البهيمة فلا وجه لأن نقول أن ضمان العبد يختلف في الغصب والقتل، وهذا غير صحيح؛ لأن الحر والعبد قد يخالف ضمان قتلهما ضمان غصبنهما بالاتفاق؛ ولأن ضمان الغصب فيهما لا يتعلق به القصاص وضمان قتلهما قد يتعلق به القصاص وليس كذلك البهيمة، وهذا وجه قوي يصح الاعماد عليه لنصرة الرواية التي اخترناها وهي رواية المنتخب ويجوز أن يعتمد ذكر القصاص من غير ذكر الغصب فيقال لما جاز أن يتعلق بذكره القصاص لم يتجاوز بديته الدية الكاملة كالحر، وكذلك يختلف الحال بين ضمان الغصب وضمان القتل فيها من وجه آخر وهو أن الكفارة تتعلق بضمان القتل دون ضمان الغصب وايضاً قد ثبت أن النفوس في الجنايات لا تزاد دية وأخذ منهم على الدية الكاملة فوجب أن يكون كذلك العبد. (110/24)
فإن قيل: فقد تنقص قيمته إذا تقل عن الدية كان يكون عبدٌ يساوي ألفاً فما تنكرون من الزيادة عليها.
قيل له: لأن النقصان قد يكون في الديات، ألا ترى أن المرأة ينقص ديتها عن دية الحر، وكذلك دية الجنين، مع ذلك لا يجوز أن يزاد على الدية شيء، فلم يجب أن يكون النقصان كالزيادة ويبين أن ضمانه في القتل ضمان النفوس في الجنايات أنَّه قد يتعلق به القصاص تتعلق الكفارة وليس كذلك ضمان المغصوب وضمان العتق؛ لأن ضمان الأموال ومما يبين ذلك أيضاً أن العاقلة تعقله ولا تعقل ضمان الأموال. (110/25)
مسألة
قال: وجراحات العبيد عل قدر قيمتهم في عين العبد نصف قيمته وفي جائفته ثلث قيمته وفي ذكره قيمته وفي انثييه قيمته، وبهذه الجملة يقول أبو حنيفة والشافعي: وإن كان في بعض التفاصيل خلاف قال أبو يوسف ومحمد: يلزمه ما نقص منه، والأصل في هذا ما قدمناه من أن ضمان الجنايات عهليم مثل ضمان الجنايات على الأحرار، وقد روى ذلك عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أنَّه قال: تجري جراحات العبيد على نحو من جراحات الأحرار في عينه ونصف ثمنه وفي يده نصف ثمنه، وإذا ثبت أن الجناية عليه مما تحمله العاقلة وتتعلق به الكفارة والقصاص وجب وأن تجري جراحاته من قيمته مجرى جراحات الحر من ديته، ولما بيناه من قبل أن أحواله بأحوال الحر أشبه منه بأحوال البهائم، فوجب أن يجري مجرى الحر وعامة ما تقدم ذكره يمكن أن يعتمد عليه في هذه المسألة.
فإن قيل: كيف يجوز أن يجتمع عينه وبدله أو أكثر منه، وذلك كان يقطع قاطعق يديه ويفقأ عينيه.
قيل له: ذلك ليس ببدل له وإن كان مقدار البدل وإنما هو بدل ما استهلك من أعضائه بحكم الشرع فلا يمتنع أن يحصل لمالكه مع عينه، ألا ترى أنَّه غير ممتنع أن يؤاجره صاحبه مدة طويلة ويجيء عليه جانٍ جناية توجب أخذ النقصان فيجتمع من أجرته وأرش نقصانه ما يوفي على قيمته فيكون قد حصل لصاحبه عينة مع أزيد من بدلها، فإذا جاز ذلك لم يمتنع ما قلناه.
مسألة
قال: وإذا اشترك جماعة في قتل رجل خطأ لزمت الجميع دية واحدة يشتركون فيها، وهذا ما لا خلاف فيه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في النفس مائة من الإبل، فإاذ كانت الجناية واقعة من الجماعة كان الغرم على الجماعة>. (110/26)
مسالة
قال: وإذا اشتركوا في قتله عمداً واختار أولياء الدم الدية لزمت كل واحد منهم دية دية، وهذا مما لا أحفظه عن أحد من العلماء سواه، فإن كان خلاف الإجماع فهو فاسد ويجوز أن يكون عرف يحى بن الحسين فيه قولاً لغيره ولم يقع البنا، ووجهه أن ولي الدم عنده بالخيار بين أن يأخذ دية المقتول وبين أن يستقيد، وهذه المسألة تدل على أن له أن يأخذ دية من يلزمه القود، فإن شاء أخذ القود وإن شاء أخذ دية من لزمه القود، فإذا ثبت ذلك ولزم القود جماعة كان له أن يأخذ دية كل واحد منهم لأنها عوض عن دمه.
فإن قيل: فلم جعلتم لولي الدم الخيار الثالث.
قيل له: لأنَّه قد استحق دماؤهم وله العدول عنها إلى الما، فوجب أن يكون له العدول إلى المال الذي هو بدل تلك الدماء..
مسألة
فإذا قتل رجل وصبي عمداً قتل الرجل به ولزم عاقلة الصبي دية جنايته، قال أبو حنيفة: قصاص على العامد وهو أحد قولي الشافعي، ودليلنا قول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلِيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقوله عز وجل: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} فأوجب القصاص فيمن اختلفنا فيه، وأيضاً هو قاتلٌ عمدٌ فوجب أن يلزمه القصاص، دليله لو انفرد أو شاركه مثله يبين ذلك أن مسلماً وذمياً لو اشتركا في مال يجب فيه الزكاة لزمت الزكاة المسلم دون الذمي ولم يكن سقوطها عن شريكه الذمي موجباً لسقوطها عنه، فبان أن المشتركين في الشيء لا يغير أحد الشريكين حكم صاحبه فيما له وعليه.
فإن قيل: قتل العامد يبيح نفسه، وقتل الصبي لا يبيح نفسه بل يبقى على الحظر والحظر والإباحة إذا اجتمعا كان الخطر أولى فوجب أن تكون نفس العامد أيضاً محظورة.
قيل له: ها هنا الخطر والإباحة لم يجتمعا في شيء واحد وإنما اجتمعا في نفسين فيبقى المحظور على حظره والمباح على إباحته، وإنما يجب التغليب إذا اجتمعا في شيء واحد، قال أيده الله: ادعى أصحاب أبي حنيفة الإجماع على أن المخطئ والعامد إذا اجتمعا في قتل فلا قول على القاتل العامد، ويجب أن ننظر في هذا الإجماع، فإن كان الأمر على ما ادعوا واستقر هذا الاجماع فالمسألة قوية وإن لم يكن ما ادعوه على ما ادعوه، فوجه المسألة على ما ذكرناه أولاً، وفهي نظرٌ، وقلنا نصف الدية على عاقلة الصبي؛ لأن عمد الصبي خطأ، وأحد قولي الشافعي إن عمده عمدٌ وذلك لا معنى له؛ لأنا إنَّما نريد أنَّه في الحكم كذلك لأنا نريد أن الصبي لا قصد له فإن القصد أيضاً قد يكون للجنون، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: <رفع القالم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق والنائم حتى ينتبه>. (110/27)
مسألة
قال: ولو أن رجلين تواثبا بالسلاح فقتل أحدهما صاحبه وأصابه من المقتول ضربات أذهبت عينه وقطعن أنفسه ويديه، كان ورثة المقتول بالخيار إن شاؤوا قتلوا القاتل وأعطوا دية عينه وأنفه ويديه وإن شاؤوا تركوا القاتل وحاسبوه وهذا يبني على أن لولي الدم الخيار بين القتل وأخذ الدية وسنبين الكلام فيه فيما بعد، فإذا ثبت ذلك فوجب المسألة إن كل واحد منهما قد جنى على صاحبه فيجب أن يقع استيفاء توجب الجناية من الجهين ويجب ما لزم للقاتل المقتول في مال المقتول إن كان له مال وإلا كان هدراً كمن يمون مفلساً وقد قتل قتيلاً عمدا أو شجة آمة أو جرحه جائفة عمداً؛ لان الذي يجب في ماله وقد مات مفلساً لا مال له فيكون هدراً. تم والله أعلم وأحكم بالصواب.
باب القول في تحديد الدية وكيفية أخذها
الدية مائة من الإبل في أصحاب الإبل وألفا شاه في أصحاب الشاء ومأتا بقرة في أصحاب البقر وألف دينار في أصحاب الدنانير عشرة آلاف درهم في أصحاب الدراهم، وبه قال أبو يوسف ومحمد وزادا مأتي حلة في أصحاب الحلل، قال أبو حنيفة: ثلاثة في الإبل والدراهم والدنانير والدراهم عندهم جميعاً عشرة آلاف كما قلناه وأحد قولي الشافعي، الأصل الإبل فإن أعوزت الإبل على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الفضة اثنى عشر ألف درهم، وقوله الثاني إذا اعوزت الإبل ففيها قيمتها بالغة ما بلغت،وقال القاسم: الدية في الإبل وما عداها صلح، والصل فيه ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عهلي السلام أنَّه قال في النفس في قتل الخطأ من الورق عشرة آلاف درهم، من الذهب ألف مثاق ومن الإبل مائة بغير ربع جذاع وربع حقاق وربع بنات لبون وربع بنات مخاض وابن الغنم وألفا شاة ومن البقر مأتا بقرة ومن الحلل مائتا حلة يمانية، وروى أن عمر جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف والبقر في أهل البقر والشافعي أهل الشاء والحلل في اهل الحلل على نحو ما رويناه عن علي عليه السلام وما كان من عمر في هذا الباب كان بمشهد من الصحابة ولم يزو عن أحد منهم أنَّه أنكره فصار ذلك إجماعاً منهم وإذا ثبت ذلك فليس يخلوا ما قاله علي عليه السلام وعمر من ذلك من أحد وجوه ثلاثة، إما أن يكون قالاه على سبيل المراضاة أو على سبيل لتقويم أو من جهة التوقيف ولا يجوز ألأول؛ لأن ذلك لو كان لنقل وجعل شرطاً فيما ذكر؛ لأن خصمين وأن تراضيا به لم يلزم ذلك سائر الخصوم فكان يجب أن يذكر التراي على سبيل الشرط فيه، فإذا لم يذكر ذلك ولم ينقل بطل ذلك ولا يجوز أن يكونا قالاه على سبيل المراضاه أو على سبيل التقويم أو من جهة التوقيف ولا يجوز الأول؛ لأن ذلك لو كان لنقل وجعل شرطاً فيما ذكر؛ لأن خصمين وإن تراضيا به لم يلزم ذلك سائر الخصوم، فكان يجب أن يذكر التراضي (110/28)
على سبيل الشرط فيه، وإذا لم يذكر ذلك ولم ينقل بطل ذلك ولا يجوز أن يكونا قالاه على سبيل التقويم لوجهين أحدهما أن الأشياء لا تقوم بالشاء والبقر والحلل والثاني أن التقويم يختلف بحسب الأزمان والأحوال ولا يجب أن يحمل لناس إلى آخر الدهر على تقويم زمان مخصوص، ألا ترى أن كل من رأى التقويم في الصدقات يجعل التقويم بحسب الأزمان والأحوال فصح بما بيَّناه أنهما لم يتولا ذلك على سبيل التقويم. (110/29)
فإن قيل: في الوجه الأول لهذه العلة قال أبو حنيفة إن الدية ثلاث الإبل والدراهم والدنانير؛ لأنها لا تقوم إلاَّ بالدراهم والدنانير.
قيل له: النقل ورد ي الجميع على سماء فإن بطل بعض ذلك بطل الباقي، وإذا ثبت ذلك ثبت أنهما قالا على سبيل التوقيفوأيضاً قد ثبت أن مثل هذه المادير لا بد فيها من التوقيف إذا لم تثبت المراضاة فصح ما قلناه.
فإن قيل: روي عن الزهري أنَّه قال: إن الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مائة بعير أوقية فلما كان في زمن عمر غلت الإبل ورخص الورق فجعلها اثنى عشراً ألف ومن العين ألف دينار.
قيل له: يجوز أن يكون الزهري بلغة ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول هذه التقديرات وما فعله عمر قبل وقوع التوقيف إليه، ألا ترى أن الأمر استقر إليه في آخره، فلو كان الأمر على ما قال لوجب أن يزداد العين والورق أبداً خصوصاً الورق فإنه أبداً وخص والدينار قد بلغ عشرون درهماً والإبل أيضاً غلاؤها زائدٌ، فأما قوله أنَّه جعلها اثنى عشر ألفاً فيحتمل أن يكون أراد بوزن ستة ليوافق ذلك سائر ما رويعنه على أنَّه لا خلاف أن الورق يجب أن تكون قيمته ألف دينار على تقيوم ذلك الزمان كان أصلاً برأسه، وثبت أن الدناير على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام يقوم بعشرة دراهم بدلالة ما روي أنَّه لا قطع إلاَّ في دينار أو عشرة دراهم وأن المجن الذي كان يقطع فيه كان يقوم علىعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدينار أو عشرة. (110/30)
فإن قيل: فإن يحيى عليه السلام لم يذكر الحلل.
قيل له: لم يذكرها ولم ينكرها وقد ثبت صحة القول بها لما رواه زيد بن علي عليهما السلام عن علي علهيم السلام؛ ولأن ما دل على تقدير الدرهم والدينار والشاء والبقر، دل على تقديرها.
مسألة
قال: ومن لزمته الدية لم يؤخذ إلاَّ ماله ولم يكلف سواه إن كان ماله الدراهم لم يكلف الدنانير وإن كان ماله الدنانير لم يكلف الدنانير، وإن كان ماله والدنانير لم يكلف الإبل، وكذلك لقول فيما سوى ذلك والمراد بذلك أن القوم إذا كان الغالب على أموالهم وتعاملهم الدراهم لم يكلفوا غيرها وهم أهل خراسان وما قرابها من البلدان وإن كان الغال بعلى أموالهم وتعاملهم الدنانير لم يكلفوا غيرها وهم على ما حكى أهل مصر والمغرب، وهكذا القول في غيرهم والأكراد من نحا نحوهم أموالهم الشاء فلا يكلفون غيرها، والوجه في ذلك التخفيف؛ لأن الدية صنفت هذه الأصناف للتخفيف فلا وجه لتكليف أخذ ما هو على خلاف أموالهم، وروي عن عمر: لا يكلف العرب غير الإبل ولا القري غير الدنانير، أراد فيما ظن والله أعلم تلك القرى المقاربة للشام ومصر التي تعاملهم بالدنانير. (110/31)
مسألة
قال: وتؤخذ الدية أرباعاً في النفس وما دوها ربع جذاع وربع حقاق وربع بنات لبون وربع بنات مخاض، وكذلك دية المرأة تؤخذ أرباعاً على ما بيناه، وقال في المنتخب: في الموضحة والسن خمس من الإبل جذعة وحقة وبنت لبون وبنت مخاض وابن مخاض، وقال فيه: وفيالأصبع عشر من الإبل جذعتان وحقتان وبنتا لبون وبنتا مخاض وابنا مخاض، وقال في الأحكام تؤخذ دية الموضحة فصاعداً أرباعاً، قال أبو حنيفة: الدية أخماس عشرون جذعة وعشرون حقة وعشرون بنت لبون وعشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض، قال الشافعي: كذلك إلاَّ أنَّه قال: وعشرون ابن لبون حكي عن عمر وابن مسعود مثل قول أبي حنيفة حكاه أبو بكر الجصاص، وذكر ابن أبي هريرة عن عم مثل قول الشافعي، فأما ما ذهبنا إليه فهو قول أمير المؤمنين علي علهي السلام، روى ذلك زيد بن علي، عن ابيه، عن جده، عنه وروى غيره أيضاً عنه وهو مشهور عنه لم يخلف فيه ووجهه أن الدية وجوبها توقيف، فكما أن عدد الإبل يجب أن يثبت بالاتفاق أو بالتوقيف كذلك أسنانها وكما لا يجب أن يثبت من عددها مالا توقيف فيه ولا إتفاق عليه، كذلك لا يجب أن يثبت من سنها إلاَّ ما اتفق عليه أو ورد فيه التوقيف والاسنان التي قلنا بها مما اتفق عليها، فإن الكل قد قالوا بها فيثبت الاتفاق وما عماه لم يثبت إذ لم يتفق عليه، فوجب أن يكون الصَّحيح ما قلناه. (110/32)
فإن قيل: فقد روي نحو قول أبي حنيفة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل له: الصَّحيح أنَّه موقوف على عبد الله ومرفوعه لم يثبت عندنا، فإن ثبت فلعله صلى الله عله وآله وسلم أمر به في موضع مخصوص على وجه مراضاة أو لعوذ الواجب على أولياء الدم، وأيضاً قد ثبت أن العوذ والحوار لا يدخلان في أسنان الدية، فكذلك بنو مخاض وبنوا لبون، والعلة أنها لا تدخل في أسنان الزكاة إلاَّ علىة جهة التقويم وللضرورة ووجه ما ذكره في المنتخب أنها إذا كانت أخماساً لم يحج في دية الموضحةوالأصبع أن يشترط المعطي والمعطى في شيء منه، ويجب الإشتراك إذا كانت أرباعاً؛ لأن الخمس والعشر ليس لهما ربع صحيح، فكان ذلك أسلم من أداء المشاكرة، والصحيح رواية الأحكام لما بيناه. (110/33)
مسألة
والقتل عمد وخطأ ولا معنى لشبه العمد وحكى نحو قولنا عن مالك وأثبت أبو حنيفة والشافعي وأكثر العلماء شبه العمد وغلظوا الدية فيه، والخلاف في هذا الباب يتعلق بموضعين، أحدهما موضع القصاص، فإن أبا حنيفة يسقط القصاص في مواضع، نحن نوجبه ويوجبه الشافعي ويغلظ فيه الدية، والكلام ي هذا نوضحه في باب القصاص، والثاني في تغليظ الدية في مواضع مما لا قصاص فيه، فأما التغليظ فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يجب أن تؤخذ الدية من الإبل رباعاً، وذلك هو الدية عندنا في جميع المواضع على ما مضى القول فيه، فيصير تحقيق الخلاف بيننا وبينه فيما نسميه خطأ محضاً، فإنه يوجب الدية فيه أخماساً ونحن نوجبها فيه أرباعاً، وقد مضى الكلام في هذا ولم يبق بيننا وبينه كلام لا في التغليظ ولا في غير التغليظ لما مضى، وأما محمد والشافعي فغنهما ذهبنا في التغليظ إلى أنَّه ثلاثون جدعة وثلاثون حقة وأربعون خلفة في بطونها أولادها، ووجه منعنا من التغليظ ما بيناه من أن أسنان إبل الدية لا يمكن إثباتها إلاَّ بالتوقيف أو الاتفاق، ولا ورد فيه توقيف فوجب ترك القول به.
فإن قيل: المقدور وردالتوقيف به؛ وذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة إلاَّ أن في قتل العمد الخطأ بالسوط والعصا والحجر الدية مغلظة أربعون خلفة في بطنها أولادها. (110/34)
قيل له: هذا الخر لم يقبله كثير من العلماء، وذلك أن مالكاً أنكر سنة العمد مثل قولنا، أو قال: ليس إلاَّ عمداً وخطأ وأبو حنيفة وأبو يوسف أيضاً لم يعملا به؛ لأنهما قالا في التغليظ بغير ما في هذا الخبر، والشافعي قد يوجب القود بالحجر الكبير والعصى الذي مثله تقتل، ثُمَّ اختلفت الصحابة في التغليظ، فروى عبد الله بن مسعود أرباعاً مثل قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وروي عن علي عليه السلام وابي موسى والمغيرة مثل قول محمد والشافعي، وروي عن علي رواية أخرى وهي ثلاث وثلاثون جذعة، وثلاث وثلاثون حقة وأربعٌ وثلاثون ما بين بنية إلى بازل عامها في بطونها أولادها، فلو كان الخبر مضبوطاً في مثل ذلك المشهد الظيم لم يختلف العلماء في موجبه، هذا الاختلاف، وفي وقوع هذا الخلاف دليل على ضعف الخبر، وقد قيل: إن سنده مضطرب، ذكره أبو بكر الجصاص فإذا بت ذلك ثبت أنَّه لا يجوز الاعتماد عليه، فلم يثبت في التوقيف ولا أجمع في، فوجب العدول عنه، ومما يدل على أن لا تغليظ أن فقهاء الأمصار الذي قالوا بالتغليظ أجمعوا على أن لا تغليظ إلاَّ في الإبل، فلوكان التغليظ صحيحاً وكان حكماً مقطوعاً لزم في جميع أصناف الدية، ويجوز القياس فيه بأن يقال: لا تغليظ في الذهب والفضة، فوجب أن لا يكون في الإبل؛ والعلة أن كل واحد منهما من أصناف الدية على أن التغليظ لو وجب لوجب بحال يرجع إلى القتل ولم يجب بحال يرجع إلى أصناف الدية؛ لأن الأصناف لا تؤثر في هذا الباب وإنما المؤثر في ذلك حال القتل وفي علمنا بأن جميع أحوال القتل إذا كانت من العين أو الورق أو الشاء أو البقر لا تغليظ فيه، دلالة على أن أحوال القتل لا توجبه، وإذا ثبت ذلك سقطوجوب التغليظ أن كون الدية من الإبل لا
توجب ذلك؛ لأنَّه لو أوجبه لأوجب في كل خطأ بعد أن تكون الدية إبلاً، وهذاخطأ بالإجماع. (110/35)
فإن قيل: روى زيد بن علي يرفعه إلى علي عليه السلام التغليظ في جميع أصناف الدية.
قيل له: يحتمل أن يكون ذلك زيد أدرجه في روايته عن علي عليه السلام، فلم يثبت عنه ما ادعيته، على أن الرواية في هذا عن علي لو ثبتت لم يخالفه، إلاَّ أن الروايات قد اختلفت واضطرب على ما بيناه، والله أعلم.
فإن قيل: فما تقولون في الخبر إن ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل له: يحتمل أن يكون أراد أن يعرفنا جوامز العدول عن القود إلى الدية وأن تغليظ الدية والزيادة على الأصل المقرر منها جائز على سبيل الصلح، وأن يكون أراد بقوله: الخطأ العمد تطييباً لنفوس أولياء الدم وتنبيههم على أن الإنسان قد يقصد الضرب بهذه الآلات وإن لم يقصد القتل، وإن كان الغالب أن من ضرب بالسيف فإن قصده يكون القتل، وإن كان الحكم في باب القود في الجميع سواء.
فإن قيل: فما تقولون فيما روي عن الصحابة في هذا الباب.
قيل له: يحتمل أن يكونوا قالوا من ذلك ما قالوا على طريق الصلح عن العمد، فلهذا اختلفت عنهم الروايات بحسب اختلاف أولياء الدم والقاتلين؛ إذ جائز أن يكن بعض أولياء الدم رضي بالسن كما روي عن عبد الله في الأرباع، وبعض رضي بما روي عن علي وعمر وبعض رضي بما روي عن علي من الرواية الأخير، فكل ذلك جرى على طريق الصلح فيما استحق به القود، والله أعلم.
مسألة
قال: والدية الكاملة تؤخذ في ثلاث سنين في كل سنة ثلثها، وما كان نصف الدية مثل دية العين أو اليد أو نحوهما أخذ في سنتين، وكذلك ثلثا الدية تؤخذ ي سنتين، وكذلك ثلاثة أرباعها وثلث الدية يؤخذ في سنة واحدة.
اعلم أن الصحابة اتفقوا أن الدية تؤخذ في ثلاث سنين في أيام عمر ولم يذكر عن أحد منهم خلاف بعد أن ظهرت المسألة، والأقرب أنَّه كان عن توقيف؛ لأنَّه لا يجوز أن يجتمعوا على تأخير حق لازم بضرب من الاجتهاد، ولم يختلف أيضاً بد ذلك على ماعرفت أ؛دٌ من العلماء فيه، فصار ذلك إجماعاً من المسلمين، وإذا كان الدية في ثلاث سنين أخذ الثلث في سنة واحدة، وكذلك ما دونه، وأخذ النصف في سنتين؛ لأن الثلث يؤخذ في سنة واحدة والباقي وهو سدس يؤخذ ي سنة ثانية، وكذلك الثلثان يؤخذ ي سنتين؛ لأن كل ثلث يؤخذ في سنة، والباقي، وهو نصف السدس جعله تابعاً للثلثين؛ لأنَّه يسير فجعل اليسير تابعاً للكثير، وهذا وجه ما ذكر من التفصيل، قال: وإذا لم الرجل ديات عدة أخذ كلها في ثلاث سنين؛ وذلك أن الديات لا تتداخل؛ لأنها من حقوق بني آدم، فيأخذ من كل دية في كل سنة ثلثها فؤخذ الجميع في ثلاث سنين، ولا أحفظ في هذا خلافاً. (110/36)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً ضرب رجلاً بالسيف فعفى عنه المضروب قبل أن يموت ثُمَّ مات كان وصية إن كان له مالٌ تكون الدية ثلثه فلا شيء عليه وإن لم يكن مال تكون الدية في ثلث سقط عنه من الدية مثل ثلثه، ولا قود عليه، وهذا إذا عفى عنه عن القصاص والدية جميعاً؛ لأن العفو عن الدم عندنا لا يوجب العفو عن الدية على ما نبينه بعد هذا في باب القصاص، وإذا عفا عن الدية مع القصاص كانت الدية وصية؛ لأن الدية موروثة عنه بمنزلة سائر أمواله، ولا أحفظ فيه خلافاً بين عامة العلماء إلاَّ شيئاً يحكى في الزوجة عن بعضهم، فإاذ ثبت فعفوه إراؤه منها، ويجري مجرى إبرائه منمال له على آخر أنَّه يراعى فيه الثلث إذا كان الإبراء في المريض، فكذلك ما ذكره.
مسألة
قال: وكذلك إن قدر لجرحه شيء بعينه فعفى عنه المضروب ثُمَّ مات منه كان ذلك القدر وصة وسقطعنه القتل، وذلك أنَّه يكون قد رضي أن يتحول دمه إلى الدية إذا لزمه المقدار المقدر لجرحه، فسقط عنه القود فصار ذلك وصية للجارح. (110/37)
باب القول فيما يلزم العاقلة
كل جناية يجنيها الإنسان على النفس فما دونها على سبيل الخطأ فديتها على العاقلة إلاَّ أن تكون الجناية تثبت باعتراف الجاني على نفسه، فإن ديتها في خاصة ماله، الأصل في إيجا دية الخطأ على عاقلة الجاني الأخبار المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تلقتها العلماء بالقبول، منها أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قضى في الجنين بالغرة جعلها على عاقلة الجاني، وروي عن جابر أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وعن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: < المرأة يعقل عنها عصبتها يورثها بنوها>، والأخبار في هذا كثير يطول أن تتبعناها، وروي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن علياً قال في ديات الخطأ كل ذلك على العاقلة وقضى بها عمر في وفارة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم ينكره أحد، فصار ذلك إجماعاً ولا أعرف أن العلماء اختلفوا في ذلك إلى يومنا هذا، فأما ما اعترف به الجاني على نفسه فهو من خاصة ماله؛ لأن القياس كان يوجب أن تكون الجنايات كلها على الجاني، لكنا اتبعنا الأثر والإجماع ولم يرد الأثر في المعترف أن جنايته على العاقلة، وأجمع العلماء على ما أحفظ أنَّه في خاصة ماله، فقلنا ذلك، وروي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: لا تعقل العاقلة عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً.
مسألة
قال: وكذلك إذا كانتالجناية دون الموضحة كانت ديتها في خاصة مال الجاني إن كان مؤسراً، وفردها وإن كان معسراً سعى فيها، وقال فيالمنتخب: تلزم العاقلةدية ما دونالموضحة أيضاً قل أو كثر، وما ذكرناه أولاً به قال أبو حنيفة وأصحابه وهو الأصح، ورواية المنتخب من ألزم العاقلة ما قل أو كثر، به قال أبو حنيفة وأصحابه وهو الأصح، ورواية المنتخب من إلزام الاقلة ما قل أو كثر به، قال الشافعي: ووجه رواية الأحكان أن الدية تلزم الجاني؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وُزْرَ أُخْرَى}، وقوله عز وجل: {وَلا تَكْسِبُ كُلَّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وقياساً على جنايات الأموال، فلما كان الأصل ما ذكرناه خصصنا الظواهر وعدلنا عن القياس؛ حيث وجد الأثر حصل الإجماع، وذلك في السن والموضحة فما فوقها، وتركنا الباقي على ما اقتضت الظواهر، ودل عليه القياس الاعتبار بذلك، ألا ترىأن العاقلة تعقل مالا قصاص في عمده وهو الجائفة والآمة والمنقلة أن تغرم مقدراً ولا تغرم ما دوه على الانفراد، الا رى أن القطع يجب في مقدار مخصوص فيكون قد قطع فيما دنه ولو انفرد ما دونه لم ولو انفرد ما ده لم يجب له القطع على أن تحمل العاقلة إنَّما هو مواساة، فوجب أن يكون له مقدار مخصوص كالزكاة لما كانت مواساة، وجب أن يكون تعلقها بمقدار مخصوص، وحكى عن مالك أن العاقلة لا تعقل ما دون الثلث، والذي يسقط قوله ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالغرة على العاقلة وهي نصف عشر الدية. (110/38)
فإن قيل: فما تقولون في العشرة لو اجتمعوا على موضحة أليس يحمل ديتها العاقلة.
قيل له: هذا ليس بمحفوظ عن أصحابنا، والأقرب أن العاقلة لا تحمله؛ لأن مايخص كل واحد منهم يسير، ووجه رواية المنتخب أن العاقلة جملت الدية لحرمة النفس، والقليل والكثير فيه سواء، أو يقال: إذا حصل الاتفاق على نصف العشر أو الثلث أن العاقلة تحمله كذلك ما دونه؛ لأنَّه مما يتعلق بالنفس، ألا ترى أن ما يتعلق بالأموال لا تحملهالعاقلة قل أو كثر فوجب أن تتحمل مايتعلق بالنفس قل أو كثر. (110/39)
مسألة
قال: ولا تعقل العاقلة دية شيء من العمد ولا دية ثبتت صلحاً، وذلك مما لا خلاف فيه، وقد قدمنا مارواه زيد بن علي، عن علي عليه السلام: لا تعقل العاقلة عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً على أن المواساة وجبت للمخطئ لم يعتمد بتعمد الجناية، فمن تعمدها فلا وجه لأن يتحمل عنه والصلح أيضاً يجري العمد؛ لأنَّه قصادٌ إلى الجناية فأشبه العمد.
مسألة
قال: لو أن عبداً جنى جناية لمتعقلها عاقلة سيده عنه؛ ذلك لأن فعل العبد ليس بفعل سيده، ألا ترى أنَّه هو المعاقب عليه، وأنه إن كان عمداً لزمه القصاص دون سيده، فلم يجب أن تتحمله عاقلة سيده؛ لأنهم ليسوا عواقل للعبد والعبد هو الجاني والعاقلة لا تحمل إلاَّ عن من هي عاقلة له دون من سواه، قال: وإذا جنى الحر على العبد خطأ كانت الدية على عاقلة الجاني، وبه قال أبو حنيفة والشافعي: وروي عن أبي يوسف أنَّه قال: هو منمالالجاني؛ لأنَّه جعل الجناية على العبد كالجناية على سائر الأموال على أصله في إيجاب قيمته بالغة ما بلغت، ووجهه أنها بعدل النفس، فوجب أن تتحمله العاقلة كدية الحر؛ولأن الدلالة قد دلت على أن العبد لا يجري في الجناية عليه مجرى الأموال في أن قيمته لا تزاد على دية الحر، وفي أن أعضاءه تقسط على قيمته كما قسطت لقضاء الحر على ديته، فثبت أن حكمه حكم الحر، ولأن القصاص يتعلق به فيقص له ويقتص منه، فيجب أن يجري في العقل مجرى الأحزار، حكى من أبي حنيفة وأصحابه أن ما جناه الحر على العبد فيما دون النفس فالعقالةلا تتحمله؛ لأن ضمانه ضمان الأموال، وليس ذلك كذلك؛ لأن في عينه نصف قيمته وفي إحدى يديه نصف قيمته، فبان أن ضمانه ضمان الأحرار دون ضمان الأموال فبطلما قالوه، وقد قال أبو حنيفة: لو فقأ عينه كان صاحبه بالخيار إن شاءأمسكه لا شيء له غيره وإن شاء سلمه، وأخذ من الجاني قيمته، فجعله أسوأ حالاً من البهيمة؛ لأن صاحبها له أن يمسكها ويأخذ ما نقصت منها الجناية، والذي دعاه إلى هذا أنَّه قال: لا يجتمع عند صاحبه عين وبدلها، هذا قد بينا الكلام فيه فيما تقدم فلا معنى لإعادته على أنَّه يوجب في إحدى عينيه أو إحدى يديه أو رجليه نصف قيمته فيقال له: كيف جاز أن تحصل له العين ونصف قيمتها فإن جاز ذلك لم لا يجوز أن يحصل له العين وجميع قيمتها. (110/40)
مسألة
قال: ولاتعقل لعاقلة شيئاً من البهائم والعروض، وهذا ما لا خلاف فيه، لأن العاقلة إنَّما تتحمل النفس فقط. (110/41)
مسألة
قال: والعاقلة فهي العشيرة.
اعلم أن المراد بها أنهم هم العصبة فالأدنون الذين بلغوا إلى حد يحتمل الدية أجمع وذلك ما لا حفظ فيه خلافاً، ولأنه روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه جعل دية المرأة التي قتلتها الأخرى على عصبة القاتلة، ولأن عمر قال لعلي عليه السلام حين قال في المجهضة: إن كانوا قد غرفوا فقد غشوا، وإن كانوا لم يعفرفوا فقد جهلوا أقسمت عليه لتجعلنها على قومك يعني قريشاً، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالأرث لأهله، وقضى بالدية على العاقلة دون أهل الميراث وبه قال الشافعي: قال أبو حنيفة هم أهل الديوان واحتج بعمر أنَّه قضى بالعقل عليهم.
قيل له: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدية على العاقلة، ولا ديوان في عصره فعلم أنهم هم العصبة على ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وما روي عن عمر يجوز أن يكون المراد به دعلها على العصبة الذين جمعهم الديوان لكونهم عشيرة وعصبة لا بكونهم من أهل الديوان فيكون موافقاً لقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والعقل موضوع على النصرة، لهذا لا تدخل فيه المرأة ولا الصبي وقد علمنا أن التناصر كان في القبائل.
فإن قيل: فإن عمر جعل التناصر بين أهل كل ديوان.
قيل له: التناصر وجوبه عام بين المسلمين فلا يجوز لعمر أن يخصص به قوماً دون قوم فيون قد رفع الواجب عن بعض من أوجبه الله عليه لأن المسلمين يلزم جميعهم نصرة بعضهم لبعض والعقل لمن يوضع على هذا لأنَّه لو كان على هذا للزم العقل جميع المسلمين، وإنما وضع على نصرة القبائل التي كانت في الإسلام وقبل الإسلام فوجب صحة ما قلنا من أنهم هم العصبة والعسيرة يبين ذلك أن الذمي إذا كانت له عاقلة من أهل الذمة تحملوا عنه للتناصر الذي بينهم لا لتناصر الإسلام.
مسألة
قال: ولا ينبغي أن تحمل الدية على على البطن الأدنى إلى الجاني إذا لم يحتملها بل يضم أقرب البطون إليه، كذلك إلى أن يكون الذي يلزم كل واحد منهم في كل سنة كثيراً كثيراً، وهذه الجملة لا خلاف فيها لأنَّها لو اقتصر بها على البطن الأدنى لثقل مايلزمهم فأجحفهم فوجب أن يضم إليهم سواهم أبداً إلى أن يكون ما يلزم كل واحد فيها شيئاً قليلاً، ويحيى عليه السلام لم يجد ما يلزم كل واحد منهم أكثر من قوله كثيراً كثيراً، والأقرب عندي والله أعلم أنَّه يجب أن يكون الذي يلزم كل واحد منهم في ثلاث سنين أقلمن عشرة دراهم ووجهه ما ثبت من وجوب القطع في عشرة دراهم، وما روي أن اليد لم تكن تقطع في التافه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وثبت أن ما دون العشرة تافه لامتناع وجوب تعلق القطع فلذلك قلنا: أن الواجب أن يكون ما يلزم كل واحد منهم دون عشرة دراهم وذلك يكون من تسعة إلى ثلاثة لأن ثلاثة أقل ما قيل فيه، والله أعلم. (110/42)
مسألة
قال: ودية جناية الصبي على العاقلة ولا فصل بين عمده وخطأه وذلك لقوله: <رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم>. ولأن جنايتة وإن كانت عمداً فلا قصاص فيها فبان أنَّه خطأ حكماً وإن كان منه قصد كالمجنون فإذا كان كذلك وجب أن تكون العاقلة تحتمل خطأه وعمده جميعاً إذ العمد منه خطأ حكماً.
فصل
والجاني لا يحمل من العقل شيئاً وكذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يحتمل كما يحتمله واحد من العاقلة. ووجه قولنا: أنَّه يحمل عنه تخفيفاً عليه، فلو حملناه أبطلنا ما إليه قصدنا ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قضى بالدية على العاقلة لم يقل والجاني يكون كأحدهم، وكذلك ما روي عن علي عليه السلام أن ديات الخطأ كلها على العاقلة لمن يشترط أن يكون الجاني كأحدهم، وعمر لما قال: أقسمت عليك لتجعلنها على قومك. لم يقل فأكون كأحدهم، وعلي لم يأمره بذلك فبان أنها تلزم العاقلة دون الجاني، وأيضاً قد ثبت أن العقل موضوع على النصرة فلو أدخلنا الجاني فيه جاز أن يكون الجاني امرأة أو صبياً وهما ليسا من أهل النصرة فنكون قد أدخلنا في العقل من ليس من أهل النصرة وهذا نقص موضوع العقل. (110/43)
مسألة
قال: ولو أن حرة تزوجت عبداً فولدت غلاماً فجنى في حال رقِّ أبيه لزمت جنايته عاقلة أمه دون أبيه، وكذلك إن أعتق أبوه قبل إيفاء الدية إذا كانت الجناية في حال رقه وذلك أن نصرته على عاقلة أمه فلذلك ألزمناهم عقل جنايته في حال الضرورة وذلك إذا تزوج العبد مولاة لقوم فولدت ولداً ألا ترى أنَّه لا خلاف أن ولاه لمولى أمه ما دام أبوه عبداً بحال الضرورة وكذلك العقل.
مسألة
قال: والصبي إذا لم تكن له عاقلة وكان له مال كانت دية جنايته في ماله، وإن لم يكن له مال كانت في بيت مال المسلمين، واختلف في ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي يجعلها في بيت مال المسليمن، ووجه: ما ذهبنا إليه أن الجناية إنَّما تلزم الجاني فاتبعنا الشرع، فإذا لم تكن له عاقلة كما بيناه ويكن ورد الشرع أنها تتحملها عاقلة الجاني على بعض الوجوه عن الجانيفاتبعنا الشرع، فإذا لم تكن له عاقلة عادت في ماله كما تقول زكاة الفطر تلزم المرأة كما تلزم الرجل، فإذا كان للمرأة زوج حملها عنها وإذا لم يكن لها زوج رجعت في مالها خاصة يؤكد ذلك أن ما لا تتحمله العاقلة من جناية العمد والصلح والإعتراف وما دون الموضحة تلزم الجاني في خاصة ماله والعاقلة لا تتحمل ولا تتحمل تعمداً وجب أن تكون في مال الجاني كما أنها إذا لم تتحمله حكماً كان في ماله لامتناع، تعلقه بالعاقلة وقد نص في المنتخب أن أهل الذمة إذا لم تكن لهم عواقل لزمتهم في خاصة أموالهم فعلى هذه الجملة إذا كان في عواقل الجاني، وقال الشافعي: يرجع إلى بيت مال المسلمين بناءً على قوله: إن من لا عاقلة له فدية جنايته في بيت المال كذا بنيناه على قولنا: أن دية جنايته ترجع إلىخاصة ماله. قلنا: فإن لم يكون له مال كان ما لزمه في بيت مال المسلمين لأن بيت مال المسلمين إنَّما هو لمصالحهم فيعان كما يعان الغارم والمكاتب، ومن تحمل حمالة أو لزمه خطب فدحه أو أمر كربه. (110/44)
مسألة
قال: وجنايات الصبي كلها خطأ وديتها على عاقلته وهذا قد مضى الوجه فيه فلا طائل في إعادته. قال القاسم عليه السلام: وجنايات المجنون كلها خطأ وديتها على عاقلته وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً. ووجهه: ما قدمنا في جناية الصبي لأن حالهما واحدة.
مسألة
قال: ولو أن مسلماً جنى وعشيرته ......... كون عقل عنه المسلمون دون عشيرته وهذا على ما بيناه إذا لم يكن له مال لزم المسلمين إعانته، وإن كانت بيت المال أعانه الإمام منه، وإن لم يكن أعانه المسلمون. (110/45)
باب القول في القسامة
القسامة تجب في القتيل يوجد في القرية أو المدينة لا يدعي أولياؤه على رجل بعينه أنَّه قتل قتيلهم فإذا كان ذلك كذلك جمع من رجال تلك القرية أو المدينة خمسون رجلاً يختارهم أولياء القتيل فيقسمون بالله ما قتلناه ولا علمنا قاتله فإذا حلفوا كلهم خلي سبيلهم وكانت الدية على عواقل أهل تلك القرية أو القبيلة التي وجد فيها القتيل، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: الإيمان على المدعيين، فإن حلفوا استحقوا الدية، وقيل: أن له قولاً آخر أنهم يستحقون الدم وأظنه قول مالك، فإن أبوا ردت الأيمان على المدعى عليهم، والصل فيما ذهبنا إليه الحديث الذي ذكره يحيى بن الحسين في الأحكام وهو حديث زياد ابن أبي مريم، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني وجدت أخي قتيلاً في بني فلان، فقال: <اجمع منهم خمسين رجلاً فيحلفون بالله ما قتلوا ولا علموا قاتلاً> قال: يا رسول الله، مالي من أخي إلاَّ هذا؟ قال: بل لك مائة من الإبل> فدل هذا الحديث على أن الأيمان على الذي وجد القتل فيهم وعلى أنهم يغرمون الدية وهو نص ما ذهبنا إليه، وروي عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالقسامة على المدعى عليهم وعن عمر بن أبي خزاعة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالقسامة على المدعى علهيم، فدل ذلك على أن الأيمان على الذي وجد القتيل فيهم، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دالبينة على المدعي واليمين على المدعى عليه>.
فإن قيل: قد روي في الخبر إلاَّ في القسامة.
قيل له: هذا يحتمل مغيبين أحدهما أن يكون أراد إلاَّ ي القسامة، فإنه يحلف فيها من لم يدع عليه بعينه، والثاني إلاَّ في القسامة فإنها لا مرى من الخصوم، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في قتيل قتل في محله لا يدرى من قتله، فقضى على أهل المحلة أن يقسم منهم خمسون رجلاً بالله ما قتلناه ولا علمنا قاتلاً ثُمَّ يغرمون الدية، وروى أبو الحسن الكرخي بإسناده عن الشعبي عن مسروق، قال: وجد بين قريتين فكتب فيه إلى عمر، فكتب أن قيسوا ما بين القريتين فأيهما كان أقرب فاستحلفوا منهم خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ثمأقسموا الدية، وروى أبو سعيد الخدري، قال: وجد قتيل بين قريتين، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذرع ما بينهما فوجدت إحداهما أقرب، فألقاه على قربهما قال يحيى بن الحسين، وروى نحوه إذا وجد بين قريتين عن علي عليه السلام، وفي بعض الأخبار أن عمر لما قضى بذلك قيل له: يا أمير المؤمنين تحلفنا وتغرمنا؟ قال: نعم. وفي بعضها قال: نعم فبم يبطل دم هذا، وما فعله عمر من ذلك كان مشهوراً بين الصحابة فلم ينكره منكرٌ فكان ذلك إجماعاً، وأما حديث سهل بن أبي خيثمة الذي اعتمده الشافعي في القسامة فهو مملا يا يجوز الاعماد عليه لما نذكره، وذلك لما روي أن قتيلاً وجد في بعض قلب اليهود بخيبر، فجاء أولياء الدم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وآسلم وهو حويصة ومحيصة، فذهب محيصة ليتكلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <كبر كبر> يريد السن فتكلم حويصة ثُمَّ محيصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <إما تدوا صاحبكم، وأما أن تأذنوا بحرب> فقالوا: ما قتلناه. فقال صلى الله عليه وآله وسلم لأولياء الدم: <أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم، وهذا لا دليل فيه، فقالوا: لا نحلف على ما لا نعلم، فقال: <تبرئكم اليهود بخمسين يميناً، فقالوا: إنهم ليسوا مسلمين فوداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عنده، (110/46)
فاستدلوا بهذا الخبر أن يبدأ بيمين المدعيين؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم، وهذا لا دليل فيه؛ لانه استفهام، والاستفهام بظاهره لا يفيد حكماً ولا أمراً بل يحتمل أن يكون للإنكار كما قال الله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِيْ خَلَقَ الأَرْضَ فِيْ يَوْمَيْنِ} وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى} وقوله: {أَإلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وظاهر الاستفهام هو طلب ما عند المستفهم عنه، وليس فيه مع كثرة وجوه مايحتمله أمرٌ ولا حكم، فكيف يصح الاستدلال بذلك على أولياء الدم يحلفون. (110/47)
فإن قيل: روي: تحلفون وتستحقون دم صاحبكم بغير ألف الاستفهام.
قيل له: ذلك لا يخلوا من أن يكون خبراً أو استفهاماً بغير ألف، فإنه يصح ولا يجوز أن يكون خبراً؛ لأنَّه لو كانخبراً كان كذباً؛ لا، القم لم يحلفوا ولم يستحوا دم صاحبهم فلم يبق إلاَّ أنَّه استفهام وقد مضى الكلام فيه، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم تبرئكم بخمسين يميناً ليس فيه ما يدل على أن اليهود يبرون بالأيمان؛ لأنظاهر قوله: تبرئكم اليهود خبر وقد ثبت أنَّه ليس بخبر؛ إذ لوكان خبراً لكان كذباً؛ لأن اليهود لم يفعلوا ذلك فلم يبق إلاَّ أن يكون فيه ضمير ويحتمل أن يكون استفهاماً كأنه أراد أن يعرف هل يرضون بأن يحلف لهم اليهود ويبروا فبان بما بيناه أن هذا الحديث لا يدل على أن المدعيين يحلفون ابتداءاً ولا على أنهم يستحقون بأيمانهم إن حلفوا شيئاً لا دية ولا دماً ولا أن اليهود يبون بأيمانهم كيف وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إما أن يدوا صاحبكم أو يأذنوا بحرب> فقد دل هذا اللفظ على أن الدية لازمة لهم وجملة ما في هذا الحديث ليس هو قول لأحد؛ لأن في آخره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وداه من عنده وليس أحد يقول إن ذلك حكماً لازماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجملة الأمر أن حديث سهل يشتمل على تخاليط لو تتبعناها لطال الكلام، وقد روي والله أعلم ما كان الشان لكن سهلاً وهم ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احلفوا على ما لا علم لكم به، وعن محمد بن إسحاق حدثنا عمرو بن شعيب وحلف بالله أن ما قال سهل باطلٌ، وهذا الحديث رواه سهل ابن خديج سليماً من هذه التخاليط، قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا ذلك فقال: لهم شاهدان يشهد أن على قاتل صاحبكم قالوا: يا رسول الله، لم يكن ثمة أحدة من المسلمين وإنما يهود قد يجترون على ما هو أعظم، قال: فاختاروا منهم خمسين رجلاص فاستحلفهم ووداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عنده، فكان (110/48)
هذا الحديث دالاً على فساد ما رواه سهل وأنه لا يجوز الاعتماد عليه ولسائر ما قدمنا من الروايات فيه أنَّه أوجب اليمين على الذين وجد القتيل فيهم وليس أنَّه أوجبها على المدعيين. (110/49)
فإن قيل: فإنه أيضاً روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وداه من عنده فما تقولون.
قيل له:يجوز أن يكن فعل ذلك الضرب من الإصلاح، وقد روي أيضاً عن سهل بن أبي خيثمة، ورواه الطحاوي أن خبر القتيل لما أنهي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكروا عداوة اليهود لهم، قال: أفتبرؤكم اليهود خمسين يميناً أنهم لم يقتلوه، فقالوا: فكيف نرضى بأيمانهم وهم مشركون، قال: فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوا، قالوا: كيف نقسم على ما لم نر فوداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعلى هذا الحديث أنَّه بدأ بيمين اليهود وهو خلاف قول الشافعي وأهل المدينة، وروى الطحاوي بإسناده عن مالك بن أبي ليلى عن عبد الله بن سهل بن أبي خيثمة أنَّه أخبره رجلٌ من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل وحويصة ومحيصة ثُمَّ ساق الحديث فدل على أنَّه لم يكن مشاهداً للقصة يدل ذلك أيضاً على ضعف خبره، وقلنا: أخيار من يحلفون إلى أولياء الدم لما في حديث زياد بن أبي مريم، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن شكى إيه قتل أخيه: <إمع منهم خمسين> فجعل الجمع إليه، فدل ذلك على أن اختيارهم إليه، وفي حديث رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأولياء الدم:<أختاروا خمسين رجلاً> فاستحلفهم فجعل الاختيار إليهم؛ ولأن الأيمان حقهم على الذين وجدوا القتيل فيهم، فاختار الاستيفاء إيلهم وأوجبناها على العاقلة؛ لأن العمد لم يثبت عليهم وإنما لزمهم وثبتت عيهم الخطأ حكماً ولم يثبت على التحقيق منهم لا عمد ولا خطأ، فأقل أحواله أن يشبه بالخطأ وتتحمل عنهم ما لزمهم عواقلهم.
مسألة
قال: وإن نكل بعض الخمسين عن اليمين حبس حتى يحلف أو يقر بجرمه، فإن أقر أخذ بجرمه، وإن حلف خلي عنه، وتكون الدية على عواقل تلك القبيلة أو القرية من حلف منهم ومن لم يحلف وحكى ذلك أبو الحسن الكرخي عن محمد، وذكره أبو جعفر الطحاوي حبس الناكل؛ إذ اليمين قد لزمتهم وصارت حقاً لأولياء الدم، فمتى تقاعدوا عن إيقائها وجب حبسهم كما يجب في سائر الحقوق وكما نقول فيمن ادعى حقاً على رجل فأنكره ونكل عن اليمين يحبس حتى يقر أو يحلف، فكذلك مسألتنا هذه، وقلنا إن أقر أخذ بجرمه؛ لأن الجناية تلزمه بإقراره ويحكم بها عليه كسائر إقراراته؛ ولأن القسامة وجبت لإلتباس الأمر في القتل، فإذا زال الالتباس بإقراره لزمته الجناية وسقط حكم القسامة وقلنا: تلزم الدية عواقل من حلف ومن لم يحلف؛ لأن الأخبار عليه دلت على ما مضى؛ ولأن من لم يحلف لم يحلف؛ لأن ولي الدم لم يحلفه واختار غيره عليه فلا يسقط عنه ما لزمه من الدية يشف ما قلناه أنهم لزمهم حقان: اليمين والدية فسقوط اليمين عن بعهضم لعدول أولياء الدم عنهم لا يوجب سقوط الحق الثاني وهي الدية. (110/50)
مسألة
قال: ومن كان غائباً من أهل تلك الدور والمنازل في الوقت الذي وجد فيه القتيل فلا قسامة عليه ولا دية ووجه ما ذهبنا إليه أن القسامة لزمت والدية؛ لأن الحال حال الظنة والتهمة بدلالة أن من لا أثر به لا قسامة له ولا دية، وأن النساء والصبيان لا قسامة علهيم ولا دية؛ لأنهم ليسوا من أهل التقل والقتال.
قال: وإذا ثبت ذلك ثبت أن من عرف غيبته في الوقت الذي وجد القتيل فيه عن ذلك الموضع حصل اليقين بأنه لم يباشر القتل واليقين مطلٌ للظن المنافي له فلم يحصل له حال الظنة فوجب أن لا تلزمه القسامة ولا الدية.
فإن قيل: فعندكم أنَّه لوكان في جملة أقوام صالحين لا يتوجه عليهم التظنن أنهم في القسامة والدية كالفساق الذين يتوجه عليهم التظنن.
قيل له: لا نعتبر أحوال الآحاد؛ لأن أصل القسامة لم توضع على ذلك وإنما تعتبر الحال الشاملة لهم، وإذا كانت الحال حال الظنة لزمتهم القسامة، وإذا لم تكن الحال حال الظنة وذلك مثل ما نقول في السفر أنَّه لما كان حال المعذر في الإفطار سوينا في باب الإفطار بين المسافر المضطر إلى الإفطار والمسافر الذي لا يضطر إليه ولم نعتبر أحوال الآحاد وإنما نعتبر الحال الشاملة لهم، فإذا كانت الحال حال الظنة أوجبناها وإذا لم تكن الحال حال الظنة أسقطناها ولم نعتبر أحوال الآحاد، يبين ذلك انه من البعيد أن يكون رجلٌ عرف يوم عرفة أنَّه كان بعرفات فتلزم القسامة والدية لقتيل وجد في محلته بطبرستان في ذلك اليوم، ويؤكد ذلك ما ثبت من أن القتيل إذا وجد بين القريتين أن القسامة تلزم أقربهما إلى موضع القتيل؛ لان الظنة فيهم أقوى، ويؤكد ذلك أن القسامة والدية تلزم أهل القرية وأهل الدور والمنازل دون القرية والدور والمنازل البعيدة، فإذا كان لبعد الدور والمنازل تأثير ي إسقاط القسامة فأولى أن يكون بعد أهلها أشد تأثيراً في ذل، وهذا أوضح، والخلاف في ذلك بيننا وبين أبي حنيفة في غالب ظني وأن قول الشافعي في هذا مثل قولنا. (110/51)
مسألة
وتجب القسامة على الأحرار والحاضرين لوقت القتل دون النساء والصبيان والعبيد وتجب القسامة على من كان من أهل القرية غريباً أو غريباً ساكن دار بشراء أو بكرءا، لا خلاف بيننا وبين أبو حنيفة أنَّه لا يدخل فيه النساء والصبيان والعبيد ووجهه أن النساء لسن من أهل القتل، وكذلك الصبيان والعبيد أيضاً الغالب من أحوالهم التصرف على أغراض مواليهم، وليس هم من أهل النصرة والقتال، ولهذا لا يجعل لهم سهمٌ في الغنيمة كما يكون للأحرار، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والولدان والعسفاء في دار الحرب، فأما الغيب فقد مضى الكلام فيهم وتجب القسامة على السكان والمشترين،وبه قال أبو يوسف، وقال أبو حنيفة: لا قسامة إلاَّ على أهل الخطة إلاَّ أن لا يبقى منهم أحد .... على المشترين ووجه ما ذهبنا إليه ما في حديث زياد بن أبي مريم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني وجدت أخي قتيلاً في بني فلان، فقال: <اجمع منهمخمسين رجلاً فيحلفون بالله ما قتلوا وما علموا قاتلاً> ولم يشترط في الذي يجمعون أن يكونوا ملاكاً أو أرباباً الخلط والمشتري والسكان والمستأجر وغيرهم، وكذلك ما روي أن قتيلاً وجد بين قريتين فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذرع بينهما فوجدت إحداهما أقر فألقاه على أقربهما ولم يخص من بينهم المُلاَّك بل عم المُلاَّك وغيرهم، فكذلك ما روي عن علي عليه السلام في قتيل وجد في محلة فقضى على أهل المحلة فعم ولم يخص، وهكذا فعل عمر فبان أن المعتبر بالسكنى والحضور دون التملك، وأيضاً لا خلاف أن داراً فيها ساكن مكبر لو تنازع متاعاً فيها هو ومالكها أن الساكن أولى بها وأن اليد يده، فكذلك إذا وجد قتيل فيها فيجب أن يكون الساكن أولى أن يجري عليه حكمه فبان أن كونه ساكناً أقوى في هذا الباب من كونه مالكاً، وأيضاً قد علمنا أن القسامة موضوعة على الظنة والنصرة وحال الظنة يحصل للساكن دون المالك، (110/52)
وكذلك الساكن أولى بالنصرة لأن التصرف له. (110/53)
فإن قيل: قد علمنا أن الدار لو كانت في يد امرأة وزوجها كانت القسامة على الزوج وليس كذلك لو وجد فيها متاع فإنه يكون بينهما فبان أنَّه لا اعتبار بالسكنى.
قيل له: العلة ما قدرت بل العلة أنها ليست من أهل القسامة ألا ترى أنها لو كانت مالكة أيضاً لم تكن من أهل القسامة ونظير هذا أن يكون في الدار آلة لا تصلح إلاَّ للرجال فإنها تكون للرجل دونها لاختصاصه بها دونها فكذلك القسامة على أنا قد علمنا أن القسامة والدية لا يجريان مجرى الخراج الذي يلزم في الأرض فلا وجه للإعتبار الملك وإنما يلزمان بحصول الظنة ووجوب النصرة فيجب أن يتعلق الحكم بالسكان على أن أبا حنيفة يعتبر أن يكون من تلزمه من أرباب الخطة دون المشترين وهذا أبعد لأن كونه رب الخطة ........ له في هذا الباب ولا في شيء من الأحكام، ألا ترى أنَّه لا فرق بينه وبين المشتري في باب الشفعة ولا في الحقوق المتعلقة بالمنازل كالطرق والمياة وغيرهما فلما اشتركوا في سائر الحقوق اشتركوا في لزوم القسامة لهم على أن أبا حنيفة قد قال: إن قتيلاً لو وجد في سفينة كانت القسامة على أرباب السفينة، وإن كان فيها ركاب مع أربابها فعليهم جميعاً فوجب أن تكون الدور والمنازل هذه المثابة، والعلة حضورهم وهم في الوقت الذي وجد فيه القتيل وكذلك نقول في القتيل يحمل على دابة ومعها سائق وقائد وراكب أن القسامة عليهم جميعاً فلم يعتبر المُلاَّك فوجب أن تكون الدور والمنازل كذلك للعلة التي ذكرناها ولأن حال التهمة جمعتهم وذكر أبو الحسن الكرخي أن قول ابن أبي ليلى مثل قولنا، وقول أبي يوسف.
مسألة
قال: وإذا وجد القتيل في قرية لا يتم فيها خمسون رجلاً كررت عليهم الأيمان حتى تتم خمسين يميناً فإن كانوا خمسة وعشرين استحلف كل واحد منهم يمينين، وإن كانوا ثلاثين استحلف كل رجل منهم يميناً واختار منهم عشرين فكرر عليهم كل رجل يميناً حتى تتم خمسين يميناً وبذلك قال أبو حنيفة وأصحابه، ووجهه أن خمسين يميناً قد صارت حقاً لأولياء الدم على ما مضى القول فيه فلهم أن يستوفوها من الذي استحقوها عليهم على ما يمكن، وإذا تقاصر عددهم عن الخمسين لم يمكن استيفاء خمسين يميناً إلاَّ بالتكرير، فلذلك قلنا إن كانوا خمسة وعشرين كرر على كل رجل يمنين وإن كانوا ثلاثين فالخيار لأولياء الدم في عشين رجلاً تكون عليهم الأيمان ليتم خمسين يميناً، قلنا لهم: الخيار؛ لأنَّه قد ثبت لهم الخيار في أصل اليمين لما بيناه فيما مضى من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <اختاروا منهم خمسين رجلاً> ولقوله لآخر: <اجمع منهم خمسين رجلاً> فجعل ذلك إليهم في الأصل، فكذلك في التكرير. (110/54)
مسألة
قال: وإذا وجد القتيل بين قريتين ولم يعرف من أيهما قاتلة قيس بين القريتين ولزمت القسامة أقرب القريتين إلى المقتول، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وعمر على ما بيناه فيما تقدم على أنا قد بينا أن القسامة موضوعا على الظنة فأقرب القريتين إلى القتيل أقرب إلى حال الظنة، فكان أولى بالقسامة على أن كثير البعد كقليله، فكما أن القتيل لو كان على باب أحد القريتين، وكان بعيداً شديد البعد عن القرية الأخرى كانت القسامة على من وجد على باب قريتهم لعلة القرب، فكذلك ما ذكرناه.
مسألة
وإذا وجد القتيل بين قوم فادعى أولياء القتيل قتله على رجل بعينه بطلت القسامة وكانت على أولياء القتيل البينة وعلى المدعى عليه إن أنكر اليمين، وذلك أن أصل القسامة إنَّما كان للالتباس؛ ولأن الدعوى من أولياء الدم لم تتوجه على واحد، فإذا توجهت على واحد بعينه صار ولي الدم مدعياً عليه، وهو منكر لدعواه، فوجب فيه ما يجب في سائر الحقوق ويكشف ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوجبها لادعاء أولياء على أقوام لا بأعيانهم، فيجب أن يجري فيها على ما شرعه صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك فعل علي عليه السلام وعمر. (110/55)
قال: وإن ادعوا على قوم من أهل القرية لزمتهم القسامة وكان للإمام أن يحلف باقي أهل القرية، والدية على عواقل أهل تلك القرية؛ وذلك أن ادعاهم على أقوام منهم كادعائهم عليهم في أن الدعوى لم تتوجه على معين، فثبتت القسامة والدية، وكذلك سائر أهل القرية مشاركين لهم؛ لأن القتيل وجد بحيث كان حكم الجميعمع ذلك الموضع حكماً واحداً من غير اختصاص وعلى هذا وضع أمر القسامة؛ لأن القتيل وجد بين أظهرهم جميعاً.
مسألة
قال: ولو أن أولياء الدم أبروا الذي وجد فيهم القتيل وادعوا على غيرهم بطلت القسامة؛ لأن القسامة تجب لادعائهم، فإذا أبروا فلا قسامة، ومن ادعي عليه فعليه إن أنكر اليمين وعلى المدعي البينة على ما مضى القول فيه؛ ولأن الذي لم يوجد فيهم القتيل إذا ادعي عليهم لم يكن هناك حال الظنة والتهمة وبهما تتعلق القسامة مع ادعاء أولياء الدم، فإذا تجرد الأمر عن صاحبه ـ أعني الدم عن وجدان القتيل ـ بطلت القسامة.
مسألة
قال: ولو أن ميتاً وجد في قوم ليس فيه أثر القتل فلا قسامة عليهم ولا دية، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه قال الشافعي فيه القسامة والدية ووجه ما ذهبنا غليه أن الميت إذا لم يكن به أثر القتل كان الأقرب والأغلب على الظن أنَّه مات حتف أنفه فلا وجه لإيجاب الدية والقسامة؛ ولأن القسامة على ما بينا تتعلق بحصول حال الظنة والتهمة وأقل ماله تحصل الظنة والتهمة أن يعلم أنَّه مقتول، فإذا لم يحصل العلم بأنه مقتول فكيف تتوجه الظنة على الذي وجد فيهم على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالقسامة في القتيل فما لم يعلم أنَّه قتيل فكيف يوجب بالقسامة وقد قال الشافعي: إذا أنكر الرجل كونه في جملة الذي وجد القتيل فيهم لميحكم عليه بالقسامة إلاَّ أن تقوم البينة على أه كان فيهم فكيف يوجب القسامة لميت لا أثر فيه، وهذا أقوى في انتفاء القتل عنه من انتفاء كون المدعى عليه فيهم، بل العلة في الجميع أن حال التهمة لم يحصل فلم يكن للقسامة وجه؛ لأن الرجل ما لم يعلم أنَّه قتل لا يحصل للقوم حال التهمة والظنة. (110/56)
مسألة
قال: وإذا وجد القتيل بين الذميين كانت القسامة عليهم والدية على عواقلهم، فإن لم تكن لهم عواقل ففي صلب أموالهم؛ وذلك أن أصل القسامة كان في أهل خيبر وكانوا يهوداً فثبت وجوب القسامة على الذميين على أن حقوق الذميين لا تختلف فيها أحكام الملة وأهلالذمة، وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً، وقلنا: إن لم يكن لهم عواقل فالدية في أموالهم لما بيناه فيما مضى من أن العاقلة تتحمل عنهم ما لزمهم، فإذا لم يكن لهم من العاقلة من يتحمل عنهم وجب أن يرجع عليهم.
قال: وإن وجد بين المسلمين والذميين كانت القسامة على المسلمين والذميين والدية على عواقل المسلمين والذميين؛ وذلك لما بيناه من أن حقوق الآدميين يستوي فيها أهل الملة وأهل الذمة وأن أحكامهم فيها لا تختلف.
مسألة
قال: ولا قسامة في البهيمة إذا وجدت مقتولة وكل ما يلزم العاقلة فلا قسامة فيه؛ وذلك مملا لا أحفظ فيه خلافاً؛ لأن موضوع القسامة إنَّما هو لحرمة النفس وتعظيم دمها كالقصاص وضع لذلك، وكذكل تحمل العاقلة. والبهيمة وسائر الأموال ليست لها حرمة ولا لدمها تعظيم ولا لل4قصاص فيه مسرح ولا لتحمل العاقلة فوجب أن لا تكون فيه القسامة. (110/57)
مسألة
قال: ولا يقتل أحدٌ بالقسامة على وجه من الوجوه، قال أبو حنيفة وأحد قولي الشافعي، وقال مالك يقتل به، وهو القول الثاني للشافعي، والدليل على صحة ما قلناه أن الذكي شكى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأمره أن يختار خمسين للتحليف، قال: فما لي من أخي غير هذا؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: <بلى ومائة من الإبل> فبين أن له الدية ولم يقل: وإن شئت القود، وكذلك علي عليه السلام أوجب فيه الدية دون القود وكذلك عمر، فبان أن القود غير واجب فيه على أن موضع القسامة إنَّما هو لحرمة النفس وتعظيم أمر الدم، فأولى أن يحتاط للمدعى عليه، فلا يراق دمه بغير بينة على أن القصاص شدد فيه الأمر ولم تجز فيه شهادة النساء ولا الشاهد، واليمين عند من أجازه ولا الشهادة لعى الشهادة، ودرئ في كثير من المواضع للشبهة، فكان الأولى أن لا يستوفي بالقسامة؛ لأن موضوعها على الظن وما يغلبه دون البينة، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يحل م امر مسلم إلاَّ في إحدى ثلاث> والقسامة لم تصح واحدة من ثلاث، ويدل على ذلك أنَّه بعث إلى اليهود على ما روي، فقال: <إما أن تدوا صاحبكم أو تأذنوا بحرب> فدل على أن الواجب هو الدية دون القود>.
مسألة
قال القاسم: ولا يمين على المدعي، وهذا مما مضى القول فيه في أول المسألة، فلا وجه لإعادته.
مسألة
قال: ومن مات في ازدحام من الناس في مسجد أو طريق كانت ديته من بيت مال المسلمين، وهذا إذا تحقق أن الزحمة قتلته، ووجهه أن بعض المسلمين ليس بأولى بذلك الموضع ولا أخص من غيرهم، فوجب أن تكون ديته على جماعة المسلمين وما لزم جماعة المسلمين استوفي من بيت مالهم وفيه رواية عن أمير المومنين عليه السلام ولست أتذكر موضعه. (110/58)
مسألة
قال: وإن وجد القتيل في محلة من مدينة كانت القسامة على أهل تلك المحلة، والدية على عواقلهم؛ وذلك أن القسامة موضوعة على الاختصاص، فمن اختص بموضع القتل كانت القسامة عليهم، يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يذرع بين القريتين حين وجد القتيل بينهما ثُمَّ ألقى على أقرب القريتين إليه، وكذلك فصل علي عيه السلام وعمر، وإذا ثبت ذلك ثبت أن القتيل إذا وجد في محلة من مدينة كان أهل المحلة ألى بالقسامة من سائر أهل المدينة لاختصاصهم الموضع الذي وجد فيه، وعلى هذا إن وجد في دار من محلة كانت القسامة على أهل الدار دون المحلة لاختصاصهم بموضع القتيل، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وعند الشافعي فيه القسامة، ومن أصحابه من قال: هو على قولين، ومنهم من قال: هو قول واحد.
فصل
عند أبي حنيفة في العبد إذا وجد قتيلاً القسامة، قال: أبو يوسف لا قسامة فيه، وشبهه بسائر الأموال، والأقرب على مذهب يحيى أن فيه القسامة؛ لأنَّه يجزئه في الجناية عليه مجرى الأحرار ووجهه ما تقدم في ذكر قيمته وفي أعضائه؛ ولأن القسامة موضوعها لحرمة النفس وبظيم الدم والعبد مشارك في هذا للحر.
فصل
إذا قال أهل المحلة: فلان قتله، قال أبو يوسف: يحلفون ما قتلنا وسقط عنهم ولا علمنا قاتلاً، قال محمد: يحلفون ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً غير فلان، والأولى ما قال محمد: لأنَّه يكون قد أتى باللفظ الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإستثناء يخرجه من أن يقع فيه الكذب.
فإن قيل: فما معنى تحليفهم ولا عملنا قاتلاً ولا يسمع منهم إذا قالوا. (110/59)
قيل له: إنَّما نطلب الفائدة لما نقوله نظراً واجتهاداً، فأما ما نقوله للنص الوارد فليس علينا طلب فائدته إلاَّ إذا أرادنا حملنا عليه غيره على أنَّه يمكن أن يقال: إن فائدته أنهم إذا نسبوه إلى واحد بعينه لم يمتنع أن يدعي عليه ولي الدم فتسقط القسامة والله أعلم.
باب القول فيما تضمن به النفس وغيرها وما لا تضمن
لو أن رجلاً رمى طائراً أو نحوه أو إنساناً أو قصد ضربه بالسيف فأصابه إنساناً آخر، فقتله ولزمته ديته ويحملها عنه عاقلته، وهذا ما لا أحفظ فيه خلافاً في أنَّه خطأ محض وأن الواجب فيه الدية وأن العاقلة تتحملها، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: الخطأ ما أراد القاتل غيره فأخطأ فقتله.
مسألة
قال: ولو أن رجلين تعلقا بطرفي حبل يتجاذبانه فانقطع الحبل وسقط الرجلان وماتا لزمت دية كل واحد منهم عاقلة صاحبه وليس للعاقلتين أن يتقاصا الديتين.
اعلم أن قوله: لزمت دية كل واحد منهما عاقلة صاحبه معناه هو ما لزم من دية لزم العاقلة؛ لأن الواجب لكل واحد منهما إنَّما هو نصف الدية ,إنما عبروا عن القدر الواجب من الدية بالدية،ووجهه أنهما ماتا من السقوط وكان السقوط سببه انقطاع الحبل والحبل انقطع لفعلهما جميعاً وهو الجذب، فصار كل واحد منهما ميتاً بجنايته على نفسه وجناية صاحبه عليه، فلزم كل واحد منهما لصاحبه نصف الدية أدلة الجناية والنصف الباقي هدر؛ لأنَّه فعل الجناية على نفسه، ألا ترى أن لو قتل نفسه لكان دمه هدراً، فكذلك إذا شارك غيره في تقل نفسه يجبأن تكون نصف ديته هدراً، وقلنا: ليس للعاقلتين أن يتقاصا؛ أن العاقلة قد تكون من لا يستحق الإرث غير من يلزمه العقل، فلم يجز أن يقاصا؛ لأن المقصاة تكون بين رجلين إذا كان ما يجب على كل واحد منهما حقاً لصاحبه دون من سواه.
قال: فإن كان الحبل لأحدهما وجذبه الآخر من غير أن يكون له جذبه كانت دية صاحب الحبل على مجاذبة وبطلت دية المجاذب، وذلك أن صاحب الحبل تعلق بحبله، صار المجاذب له متعدياً في فعله فلزمه لصاحب الحبل نصف الدية للوجه الذي قلناه ولم يجب للمجاذب له دية؛ لأنَّه كان متعدياً في جذبالحبل وصاحب الحبل لو لم يمكنه أخذ حبله منه إلاَّ يجرحه وقتله لم يلزمه أرش ولا دية، فكذلك إذا مات بالجذب. (110/60)
فإن قيل: فلم قلتم إن لصاحب الحبل نصف ديته والمجاذب له متعدٍ عليه.
قيل له: وإن كان متعدياً عليه فلم يستبد بسبب قتله بل شارك صاحب الحبل فيه فلم يلزمه إلاَّ نصف الدية، ألا ترى لو أن رجلاً عدى خلف سارق سرق متاعه ليستنقذه منه فسقط من عدوه ومات كات ديته هدراً؛ لان عدوه كان باختياره، وإن كان حقاً فكذلك جذب الحبل كان باختياره، وإن كان فيه محقاً فوجب أن تكون نصف ديته هدراً.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً كان باب داره إلى شارع من شوارع المسلمين، فرشه بذلفك الرش بعض المختارين فسقط ومات أو اندق بعض أعائه ضمن الراش دية ما لحقه ووجهه أنَّه متعدٍ في الرش؛ لأنَّه ليس له أن يحدث في طريق المسلمين ما يجوز أن يعنت فيه عانت وهو بمنزلة من وضع حجراً أو جذعاً في طريق من المسلمين فعثر به عاثر في أنَّه يلزمه ضمان ما لزم العاثر، وهذا مملا خلاف فيه؛ لأن الفاعل لذلك بمنزلة المانع لمن زلق أو عثر.
مسألة
قال: وكذلك إن أخرج من جذره شيئاً إلى طريق من طرق المسلمين أو حفر فيه بئراً أو أحدث فيه فعنت فيه عانتٌ أو تلف تالفٌ لزمته ديته ووجهه ما مضى من كونه متعدياً فيما فعل من ذلك، فوجب أن يضمن جميع ما يلحق الإنسان من دية إن تلف أو أرش إن انكسر، فأما أن فعل ما فعل من ملكه فعنت فيه عانت أو تلف تالف فلا ضمان عليه، وذلك لا خلاف فيه؛ لأنَّه غير متعدٍ بإحداث ما أحدث في ملكه، فأما إذا لم يتعد فيه فيجب أن لا يكون عليه ضمان، وعلى هذا إن حفر في طريق من طرق المسلمين أو أحدث فيه حدثاً لمصالح الناس بإذن الإمام فيجب أن لا يضمن ما يحصل فيهمن عنت أو تلف؛ لأنَّه إذا فعل ذلك بإذن الإمام لم يكن متعدياً فيجب أن لا يضمن. (110/61)
مسألة
قال: وكذلك من وقف دابته في ريق من طرق المسلمين فصاحبها ضامن لما أحدث بيديا أو رجليها، ووجهه أن الطريق إنَّما هو للإستطراق، فإذا وقف فيه داية مربوطة أو غير مربوطة كان متعدياً فيما فعل، فيجب أن يضمن ما يكون منها من أي وجه كان بيدها أو رجلها أو صدمها أو عضها أو عثار الإنسان بها؛ لأنَّه بمنزلة من وضع حجراً في طريق أو حفر بئراً، بل واضع الحدر وحافر البئر أحسن حالاً منه؛ لأن الحجر والبئر لا فعل لهما وإنما لعنت الإنسان بفعله عندها والبهيمة لها فعل فقد يعنت الإنسان عندها بأن تعثر بها وقد تحدث هي أيضاً ما يؤدي إلى التلف والإعنات، فيجب أن يحصل لواقفها الضمان وجهين ولم يحصل لحافر، ووضاع الحدجر إلاَّ من جه واحد، فإن زالت الدابة عن مكانها الذي وقفعها فيه صاحبها فلا ضمان فيها يحدثه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <العجماء جبار> وليس فيه لصاحبها فعل إذا قد خرج عن التعدي بمفارقة الدابة مكانها وصارت متفلتة، وعلى هذا يجب أن يكون الإنسان إن وضع حية أو عقباً في طريق من طرق المسلمين فلسعتا في موضعهما أن يكون الواضع ضامناً لذلك، فإن انسابت الحية أو دبت العقرب عن موضعهما أو غير ذلك الموضع لم لسعتا لم يضمن الواضع، وعلى هذا يجب أن يكون حكم من وضع كلباً أو سبعاً أو غيرهما في طريق من طرق المسلمين أو سوق من أسواقهم فهو ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها. (110/62)
مسألة
قال: وإن ركض دابته في شارع من شوارع المسلمين فصدم بها ضمن ما عنت بصدمه، ووجهه أنَّه ليس له أن يركض في شارع المسلمين إلاَّ على التحفظ أو شرط السلامة؛ لأنَّه كما أن له حقاً فيه لغيره من المستطرقين حق أيضاً فيه، فإذا ركض وصدم كان متعدياً؛ لانه لم يكن له ركضها إلاَّ على شرط السلامة والتحفظ، قال: وإن ركضها في ملكه فصدمت لم يضمن؛ لأنَّه غير متعدٍ إذا كان الركض في ملكه، وإنما يجب التحفظ على الداخل، ألا ترى أن من وضع حجراً في الشارع ضمن ما غطب به، وإذا وضعه في ملكه لم يضمن، فكذلك الركض والصدم. (110/63)
مسألة
قال: والكلب إذا عقر ضمن أهله عقره إذا كانوا قد عرفوا عقره ثُمَّ تركوه وإن لم يكونوا عرفواه فلا ضمان عليهم إلاَّ أن يكونوا أخرجوه وجعلوه فيشارع من شوارع المسلمين، ووجه ما قلناه من ضمان عقر الكلب الذي عرف بالقتل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: <خمس يقتلن في الحل والحرم> وذكر فيها الكلب العقور، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل الكلاب إلاَّ كلب صيد أو كلب ماشية، وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلاب، وقال: <لا يتخذ الكلاب الأصياد أو خائف أو صاحب غنم، وفي بعض الأخبار كلب زرع، فكل ذلك يوجب قتل الكلب العقور، فمن تركه فقد تعدى في تركه، فيجب أن يضمن عقره كما أن من وقف دابته في شارع المسلمين يكون متعدياً فيضمن ما يكون فيها بيدها أو رجلها أو عضها أو صدمها، وإن لم يكن عرف عقره فلا ضمان؛ لأنَّه لا يتعدى ببركة إذا كان ينتفع به على ما بيناه، وقلنا: إلاَّ أن يكون مترك في شارع من شوارع المسلمين يكون سبيله سبيل الدابة وغيرها على ما مضى القول فيه من اعتبار عقره في الموضع الذي أقيم فيه دون أن يتجاوزه، روى محمد بن منصور يرفعه إلى علي عليه السلام أنَّه كان يضمن صاحب الكلب إذا عقر نهاراً ولا يضمنه إذا عقر ليلاً، والوجه في ذلك أنَّه إذا ترك نهاراً يكون صاحبه متعدياً، وروي عنه عليه السلام أنَّه قال: إذا دخلت دار قوم بإذنهم فعقرك كلبهم فهم ضامنون، وإذا دخلت بغير إذنهم فلا ضمان عليهم، ويجوز أن يكون وجهه أنَّه إذا دخل بإذنهم يحصل له حق استطراقها والكون فيها فيجري مجرى أن يعقر في شارع من شوارع والله أعلم، قال: وكذلك القول في غير الكلب إذا عقر ينظر في حال الغير فيجري قياسه على ما قددمنا القول فيه من التعدي وغير التعدي. (110/64)
مسألة
قال: ولو أن دابة فسدت زرع قوم ليلاً ضمن صاحب الدابة لصاحب الزرع ما فسد من زرعه وإن أفسدته نهاراً لم يضمن، وبه قال الشافعي، قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يضمن ليلاً كان ذلك أو نهاراً، والأصل فيه ما روي أنَّه ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فأتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقضى على أن أهل الماشية حفظها بالليل، وعلى أهل الزرع حفظه بالنهار، فلما قضى صلى الله عليه وآله وسلم على صاحب الماشية بحفظها في الليل كان من لم يحفظها وأرسلها متعدياً في رسالة فيجب أن يضمن ما أفسدت من الزرع كما أن من وقف دابته في شارع المسلمين فلا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن صاحبها يكون ضامناً لما يكون منها؛ لكونه متعدياً في إرساله، وروى هذا الحديث أبو جعفر الطحاوي فزاد وعلى أهل المواشي ما أفسدت مواشيهم بالليل، وروي أيضاً ما أفسدت المواشي بالليل ضمان على أهلها. (110/65)
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <العجماء جبار> وهو عام.
قيل له: يكون ذلك جباراً إذا لم يكن من صاحبها تعد في إرسالها لا خلاف فيه، ألا ترى أنَّه إذا دفقها في الشارع لم يكن جباراً، فإذا صح ذلك وكان صاحبها متعدياً بإرسالها ليلاً لم يجب أن يكون ما تفسد ليلاً جباراً، فإن قيس إفسادها ليلاً على إفسادها نهاراً كان ذلك فاسداً، وذلك أن ضمان جنايات البهائم تتعلق بتعدي صاحبها، فيجب أن يراعى متى يكون متعدياً ومتى يخرج عن التعدي، وهذا مملا لا خلاف فيه بإرساله نهاراً غير متعدٍ، فكيف يجوز أن يقاس إفسادها ليلاً على إفسادها نهاراً.
ويمكن تحرير القياس فيه بأن ما يقال لا خلاف أن من وقف دابته في شارع المسلمين يكون ضامناً لما يكون منها في حال إرساله؛ والعلة أن جنايتها وقعت في حال كان صاحبها متعدياً في تركها على تلك الحال.
مسألة
قال: ولو أن صاحب الزرع عدى على الدابة فقتلها أو جرحها أو قطع منها عضواً ضمن ما فعل من ذلك ليلاً كان او نهاراً، ووجهه أنَّه في جميع ذلك متعد، فيجب أن يضمنه كمايضمن إذا جنى على سائر أموال الناس واستهلكها، وهذا مالا خلاف فيه. (110/66)
مسألة
قال: فإن أخذها ليلاً وحبسها فتلفت بأي وجه كان من التلف ليلة تلك لم يضمنها إذا لم يكن تلفها بجناية منه فإن حبسها بعد ليلته تلك فتلفت ضمنها.
اعلم أنَّه يكون كذلك إذا أخذها حفظاً لها على صاحبها ليردها عليه، فإذا أخذها على هذا الوجه يكون بمنزلة الملتقط والأخذ للضالة في أنَّه لا يضمنها إذا تلفت بغير جنايته إلى حين إمان ردها على صاحبها، فأما إن أخذها على سبيل الغصب فإنه يكون ضامناً لها كما يضمن المغصوب؛ لأنَّه لا يخلو أخذها من أن يكون لصاحبها أو لنفسه، فإن كان أخذها لصاحبها فهي بمنزلة الضالة، وإن أخذها نفسه يكون غاصباً وتحديده تلك الليلة؛ لأن الغالب أنَّه لا يمكن ردها حتى يصبح وأنه إذا أصبح أمكن ذلك، فأما إن أمكن ردها تلكالليلة فإنه يكون بحبسها غاصباً ويضمن وإن لم يمكن ردها إذا أصبح لم يكن بإمساكها غاصباً ولم يضمن ونكتة الباب ما ذكرنا.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً رفع آخر على ثوب فانخرق ضمنه الدافع دون المدفوع إلاَّ أن يكون فيه للمدفوع جناية، ووجهه أن المدفوع بمنزلة الآلة، فكان الدافع ألقى عليه حجراً ونحوه حتى خرقه؛ لأن المدفوع يجري مجرى الحجر في ذلك، إلاَّ أن يكون منهجناية أيضاً فيه، كأن يرسل نفسه أو يعتمد عليه أو يتحرك حركة تؤثر يذلك فيضمن بقدر ذلك.
مسألة
قال القاسم عليه السلام: لو أن رجلاً أشعل النار في زرع له فيأرضه فتعدت النار إلى زرع غيره لم يضمن، ووجهه أن الإحراق ليس بفعل له وإنما فعله وضع النار في الزرع وهو لم يكن متعدياً ي وضع النار الذي كان سبباً للإحراق فلم يجب أن يضمنه كما أن رجلاً لو وضع حجراً في داره أو حفر بئر فيملكه فعثر بالحجر عاثر أو وقع في البئر واقع لم يضمن؛ لأن العثار بالحجر لم يكن فعله ولا الوقوع في البئر ولم يكن هو متعدياً في سببا الذي هو وضع الحجر وحفر البئر؛ ولأن الإنسان إنَّما يضمن فعله إذا تعدى فيه أو يضمن فعل غيره إذا تعدى في سببه، ولسنا نريد بالسبب ما يريده المتكلم؛ لأنَّه لا يجوز أن يكون المسبب فعلاً لغير فاعل السبب إذا أريد به التحقيق وإنما يستعمل ذكر السبب على طريقة الفقهاء. (110/67)
فإن قيل: أليس الإنسان يرمي صيداً فيصيب إنساناً فيضمنه وهو غير متعدٍ في الرمي فما الفرق بين هذا وبين ما ذكرتم.
قيل له: الفقر بينهما أن الإصابة فعله كما أن الرمي فعله فهو إنَّما يضمن الإصابة التي هي فعله وهو يها متعدٍ، وليس كذلك الأحراق؛ لأنَّه ليس بفعل له وإنما فعله هو وضع النار في الزرع كما بيناه، فإن تعدى في وضع النار بأوضعها في أرض غيره ضمن جميع ما احترق بها؛ لأنَّه متعدٍ في السبب كما أن من وضع حجرا أو حفر بئراً في شارع من شوارع المسلمين ضمن ما يحدث من العثار به والوقوع فيها.
مسألة
قال: وإذا عنت المتطبب والحجاج والمجبر ضمنوا إذا لم يكونوا تبروا وإن كانوا تبروا لم يضمنوا إلاَّ إذا لم يكونوا من أهل البصر فيما اقتحموه، وذلك أن تلك الجنايات جنايات أيديهم، فيجب أن يضمنوها؛ لأن أفعالهم مضمونة، إلاَّ أن يكونوا قد تبروا، وذلك أن الإبراء منها يصح، الا ترى أن من شج غيره يصح منه ابراؤه من الضج ومما يتولد عنه؛ ولأن إبراؤه يجري مجرى الأذن لهم فيما يتفق منهم، والله أعلم، قال: إلاَّ أن يكونوا غير عالمين بالصنعة، وذلك أن إبراؤم إنَّما كان بشرط أن يجتهدوا مع العلم بذلك، فإذا لم يكونوا من أهل البصر كانوا قد غروا فيجب أن يضمنوا كما يضمن سائر من تعدى. (110/68)
مسألة
قال: وإذا وقع الحدار على طريق من طرق المسلمين فعنت تحته عانت ضمن صاحب الجدار إن كان قد علم قبل ذلك بفساده وتركه على ذلك وإن لم يكن علم ذلك قبل أن يقع فلا ضمان عليه، لا خلاف أنَّه يضمن ما تلف بسقوط الجار عليه من نفس أو عضو أو مال وإنما اختلفوا فيه متى يكون ضامناً، فقال أبو حنيفة لا يضمن حتى يتقدم إليه برفعه وإصلاحه، وسواء تقدم إليه به الحاكم وأخذ ممن له فيه حق الاستطرا، فإذا كان ذلك وتركه مع إمكان الإصلاح صار ضامنا، قال: ويشهد عليه والأشهاد إنَّما هو لخوف التجاحد، فأما وجوب الضمان فيما بينه وبين الله عز وجل فيكفي أن يقتدم إليه، وحكى ابن أبي هريرة نحو ذلك عن مالك، وقال ابن أبي هريرة هو ضامن على كل حال؛ لأنَّه متعدٍ فإنه حكاه عن الشافعي واشترط أصحابنا أن يكون قد علم بذلك، وذلك أن ميلانه إلى الطريق ليس بفعل له ولا تعدى في فعل سببه؛ لأنَّه إن كان بناه فلم يتعد في بنائه، وإن كان ملكه قائماً فلم يتعد في تملكه فيجب أن لا يضمن متى سقط من غير أن يعلم ميلانه ويتمكن من رفعه وإصلاحه، ألا ترى أن الريح لو أسقطته وهو منتصبٌ غير مايل لم يضمنه، فكذلك إذا مال ولم يعلم به؛ لأن الميل يحصل عند إسقاط إياه أولاً ثُمَّ يسقط، ولكن لا يضمنه إذا لم يعلم ولم يتمكن، فأما إذا علم أو تمكن ثُمَّ ترك على تلك الحال فإنما يكون متعدياً بتركه على تلك الحال، فلذلك يكون ضامناً، فإن قيل: لم قلتم أنَّه يكون متعدياً ذا لم يتقدم إليه بذلك. (110/69)
قيل له: لأن الحرام إذا علم وجب عليه التقدم بإزالته دفعاً للأذى عن طريق المسلم طريق المسلمين، فإن أبى إكرهه عليه أو فعله بغيره، فلولا أنَّه واجبٌ لم يحسن للحاكم أن يفعل ذلك، وإذا ثبت أن الحاكم يحسن منه، بل يجب إكراهه عليه، ثبت أنَّه واجبٌ عليه؛ لأن الحاكم لا يجوز أن يكره أحداً إلاَّ على ما هو واجبٌ عليه.
فإن قيل: فما أنكرتم أن يصير واجباً عليه بأمر الحاكم له.
قيل له: ولو لم يكن واجباً عليه قبل الأمر لم يحسن الأمر به على طريق الإيجاب، وأيضاً روي لا يكون الرجل مؤمناً حتى يأمن جاره بوائقه، وهذا من بوائقه فيجب عليه أن يأمن جاره منها، فأما أن مال على ملكه فلا يضمن شيئاً من ذلك إن سقط؛ لأنَّه غير متعدٍ فيه، ومما يدل على تعديه متى علم بميلانه على الطريق وتركه أنَّه يكون قد شغل بميلانه هوي مالا يملكه من الطريق، فمتى تركه على ذلك كان متعدياً؛ لأنَّه ليس له أن يدع ملكه لشغل ملك غيره؛ لأنَّه إذ ذاك يجري مجرى فعله. (110/70)
مسألة
قال: وم اقتص منه بحق فمات فلا قود له ولا دية، وبه قال أبو يوسف ومحمد قال أبو حنيفة: تلزم ديته المقتص له، ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه استوفا منه ما استوفا بحق ولم يكن فيه تعدٍ فوجب أن تكون سرايته غير مضمون دليله من أقيم عليه الحد فمات وأيضاً إذا جرح أهل العدل أهل المبغي فمات منه الباغي لم تكن له دية ولا قود؛ والعلة أن جراحته لم تكن مضمونة فوجب أن تكون سرايتها غير مضمونة، وكذلك الدافع عن نفسه وماله إذا جرح الطالب الطالب له ظلماً فمات منه لما بيناه لم تكن عليه.
فإن قيل: لسنا نسلم أن جراحته غير مظمونة؛ لأنا مستوفاه على وجه البدل.
قيل له: هذه عبارة فارغة مساحتكم فيها مملا لا فائدة فيها؛ وذلك أن معنى قولنا: أن جراحته غير مضمونة أن المجروح لا يستحق على الجارح فيها لا القصاص ولا الأرش فلو تركنا ذكر الضمان وقلنا لما كانت جراحته لا يستحق بها الأرش ولا القود وجب أن تكون السراية كذلك دليله سائر ما ذكرنا لاتسق الكلام.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <من استقاد من أحد ثُمَّ مات المستقاد منه غرم المستقاد ديته>.
قيل له: هذا حديث ضعيف ما نعرف صحته ولا تلقته العلماء بالقبول ولا رجعوا إليه على أنَّه إن صح فليس في ظاهره ما يدل على موضع الخلاف؛ لأن ظاهره إلزام الدية المستقاد وهو الذي تولى أخذ القود والخلاف في المستقاد له وهو المستحق للقود أنَّه يلزم الدية أولاً والمستوفي يكون اجنبياً يستوفيه بإذن المستحق وإذن الإمام، وإذا ثبت ما قلنا به احتيج له إلى تأويل، فكان تأويله والله أعلم أن المستوفي إن كان منه خطأ في استيفاء اكثر مما وجب فمات فعليه الدية. (110/71)
فإن قيل: الجراحات معتبرة بما تؤول إليه وسيقط معها حكم الابتداء بدلالة أنها إذا سرت إلى النفس وجب القود.
قيل له: هذا يكون إذا كان الجراحة مضمومة، فأما إذا كانت غير مضمونة فلا تعتبر فيها السراية بدلالة سائر ما قدمناه من قطع يد السارق أو جرح الباغي وما أشبهه.
فإن قيل: اليد المقطوعة مأخوذة على وجه البدل من يد المقتص له والأبدال مضمونة، فوجب أن تكون يده مضمونة، فإذا كانت مضمونة كانت السراية مضمونة.
قيل له: قد بينا أن قولكم أن يده مضمونة عبارة فارغة على أن الردع والزجر كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وما كان كذلك لم يجب أن تكون مضمونة ولم تجر مجرى الأبدال التي تجري للمعاوضات.
مسألة
قال: ولو أن شيخاً حامع امرأته فلكزته أو ضمته ضماً شديداً أو ما أشبه ذلك فقتلته لزمها ديته؛ وذلك أنها قتلته خطأ فوجب ديته عليها، كما يجب على المخطئ في سائر المواضع، قال يحيى بن الحسين عليه السلام: وبلغنا نحو ذلك عن علي عليه السلام أنَّه قضى بديته عليها، فكذلك لو أن معلماً ضرب صبياً أو فزعه فمات ضمن ديته، وهذا عندي والله أعلم محمول على أنَّه إذا تجاوز به المتعاد الذي يستحسنه المسلمون في مثله ويكون هو في حكم المأذون له فيه، فإاذ تجاوز ذلك كان متعدياً فتلزمه الدية وإن لم يتجاوز ذلك فيجب أن لا يلزمه شيء والهل أعلم، قال: ولو أن رجلاً أفزع امرأة حاملاً فألقت ما في بطنها ضمنه المفزع؛ للوجه الذي بيناه قبل هذه المسألة، ولما روي أن عمر أرسل إلى امرأة بلغه عنها امرء فألقت حملها فزعاً من عمر وإرساله فاستشار فيه، فقيل له لا شيء عليك، فقال علي عليه السلام: إن كانوا جهلوا فقد أخطأوا وإن كانوا عرفوا فقد غشوك فالزمه الضمان فالتزمه عمر ولم ينكره أحد. (110/72)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً عض يد رجل ظالماً فانتزع المعضوض يده من فيه فقلع شيئاً من أسنانه فلا شيء عليه لا دية ولا قود، وحكي عن ابن أبي ليلى أنَّه يضمن ولم يبلغني عن غيره فيه خلاف،ووجهه أنَّه مأذون له في دفع الظلم عن نفسه ولو بقتل الظالم؛ إذ لم يمكن سواه، وليس قلع أسنانه بأعظم من قتله ولو لم يمكن تخليص يده من فيه إلاَّ بقتله لم يلزمه في قتله شيء، فكذلك في قلع أسنانه، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سئل عن ذلك فقال: <أيدع يده في فيك تقضمها كأنها في فم فحل> ولم يقض فيه بشيء، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن رجلاً عض يد رجل فانتزع يده من فيه فسقطت ثنياه، فلم يجعل عليه شيئاً، وقال: أتترك يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحلن فكل ذلك دل على أنَّه هدرٌ، قال: ولو أن رجلاً راود امرأة عن نفسها حراماً فلم تجد إلى دفعه سبيلاً إلاَّ قتله فقتلته دفعاً له عن نفسها فال دية له ولا قود، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن الواجب عليها أن تمتنع وتدفعه عن نفسها بكل ما أمكنها وإن بلغ ذلك جرحه أو قتله فإذا قتلته فلا شيء عليها. (110/73)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً استحفر بئراً في ملكه فحفر له ثُمَّ عنت فيه عانت فلا ضمان على المستحفر ولا الحافر، ووجهه إن عنت من عنت فيها ليس بفعل للمستحفر ولا الحافر ولا كان منهما تعدٍ في سببه وهو الحفر؛ الحفر وقع في ملك المستحفر فلا وجه لتضمين واحد منهما، وهذا مملا لا خلاف فيه، قال: فإن استحفره في شيء من طريق المسلمين فعن فيه عانت ضمنه الحافر دون المستحفر، ووجهه أن الحافر تعدى في الحفر وهو سبب الوقوع فيه فيجب أن يضمنه؛ لأنَّه لم يكن له أن يحفر في طريق المسلمين، وأما المستحفر فلا شيء عليه؛ لأنَّه لم يكن منه إلاَّ الأمر المجرد، فلم يجب أن يضمن، قال: فإن كان الحافر عبداً كانت جنايته في رقبته كسائر جناياته في أنها في رقبته، فإن شاء مولاه فداه، وإن شاء سلمه كما نقول في سائر الجنايات، وهذا إذا كان العبد مأذوناً له في أن يؤاجر نفسه، قال: إلاَّ أنَّه إن كان مأذوناً له في أن يؤاجر نفسه لم يرجع سيده على المستحفر بشيء؛ لأنَّه غير غاصب له فلا شيء عليه. (110/74)
قال: فإن كان محجوراً عليه رجع مولاه بما لزمه ما لم يتجاوز بقيمته، فإن تجاوزها لم يرجع بالزيادة؛ وذلك أن المستحفر يكون غاصباً فيجب أن يكون ضامناً له ولجنايته إلى قيمته؛ لأن ذلك حكم الغصب، وكذلك للعبد لو مات ي ذلك العمل يضمنه كما يضمن الغاصب.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً استعان بصبي حر أو مملوك بغير إذن أوليائهما فعنت ضمنه المستعين به؛ وذلك أنَّه ي حكم الغاصب لهما؛ لأن تصريفه لهما على أمره غصب لهما فيجب أن يضمنها إذا عنتا فيه، وبمثل قولنا قال أبو حنيفة وأصحابه أن العبد لا يغصب إلاَّ باستعماله وتصريفه على الأمر والنهي بغير إذن صاحبه، فكذلك قلنا أنَّه متى استعلمه بغير إذن صاحبه كان غاصباً ويضمنه كما يضمن الغاصب. وفصل أبو حنيفة بين الحر الصغير وبين العبد ي باب الضمان بأنقال: إن من غصب الصبي الحر يضمن تلفه إلاَّ أن يتلف بأمر سماوي والعبد مضمون التلف بأي وجه كان، وذكر أيضاً أنَّه يضمن جنايات العبد إلى قيمته ولا يضمن جناية الصبي. (110/75)
مسألة
قال: ولو أن سفينتين تصادمتا فغرقتا ضمن أصحاب كل واحدة منهما ما تلف في الأخرى يعني بالأصحاب المجري له القائم بأمر مسيره من الملاح وصاحب المحراق دون الالك والراكب فلا فعل لهما إلاَّ أن يعملاهما مع الملاحين فيدخلا في الضمان وعلى ما مضى القول في متجاذبي الحبل يجب أن يكون أصحاب كل واحدة منهما يضمنون نصف ما في السفينة الأخرى ونصف ما في هذه على ما قلناه فيما تقدم؛ لأن التصادم منهم وقع بإجمعهم فكان كل واحد منهم كان له فعل في كسر كل واحدة منهما، قال: وإن كانت إحداهما هي الصادمة ضمن أصحابها المصدومة وذلك أن الجناية من جهة أصحاب الصادمة فلزمهم الضمان دون أصحاب المصدومة؛ وذلك أن الجناية من جهة أصحاب الصادمة فلزمهم الضمان دون أصحاب المصدومة التي لا جناية لها.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً وقع من سطح أو ما أشبهه على رجل فمات الرجل وكان في شارع او مسجد أو ما أشبهه ضمن الساقط ديته وذلك إذا كان السقوط بفعل من جهة الساقط؛ لأن سقوطه لو كان بفعل غيره كانت الدية على المسقط كما نص فيما مضى على من أوقع غيره على ثوب فانحر وأن الضمان على الموقع؛ لأن الساقط يكون كالآلة من الحجر ونحوه فبان أن الساقط يضمن الدية إذا كان السقوط بفعله به أو بسبب هو فعله وإنما اشترط ان يكون ذلك في مسجد أو شارع؛ لأنَّه لو كان سقط في ملكه لم يكن متعدياً في السقوط وإنما يكون متعدياً إذا سقط في غير ملكه. (110/76)
قال: فإن ماتا جميعاً ضمن الساقط دية من سقط عليه وتطلب دية الساقط؛ لأنَّه لا جناية لمن سقط عليه في إتلاف الساقط وإنما الساقط هو المتلف له.
باب القول في القصاص (111/1)
أيما رجل بالغ قتل حراً مسلماً بالغاً كان المقتول أو غير بالغ على غير جهة الاستحقاق لزمه القود، وهذا ما لا خلاف فيه، والأصل فيه قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِيْ الْقَتْلَى} وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقصَاصِ حَيَاةٌ} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيْهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} قال: وكذكل من طقعله عضواً من المفصل أو فقأ له عيناً اقتص منه له، وكذلك إن جرحه جراحة يمكن أن يعرف مقدارها في طولها أو عرضها وذهابها في الجسد اقتص له منه، فإن لم يمكن الإحاطة بها لم يقتص، وهذا أيضاً لا خلاف فيه؛ وذلك لقوله عز وجل:{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفِ بِالأَنْفِ..} الآية.
وأما السنن الواردة في القصاص ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوم فتح مكة، فقال: <ألا ومن قتل قتيلاً فوليته بخير النظرين بين أن يقتص وبين أن يأخذ الدية، ورى ذلك غيره أيضاً بألفاظ مختلفة، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يحل دم ارمء مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث> وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <العمد قود إلاَّ أن يعفوا ولي الدم المقتول> ويدل على ذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا..} وفي رواية زيد بن علي يرفعه أن علياً عليه السلام قال في شاهدين شهدا على رجل بالسرقة فقطع يده ثُمَّ جاء فقال: يا أمير المؤمنين، غلنا فالزمهما الدية، وقال: لو علمت أنكما تعمدتما قطع يده لقطعت أيديهكما، فدل على أن اليد تقطع قصاصاً، وكذلك كل طرف يمكن قطعه، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يستقاد في الجرح أن يكون مما يمكن الإحاطة بمقدارها يكون القصاص واقعاً على التحقيق؛ لأن القصاص من حكمه أن يقع موقع جرح المقتص له، فإذا لم يمكن الإحاطة لم يصح القصاص وإذا لم يصح لم يجب ولم يجز.
مسألة
قال: ولا قصاص في المنقلة ولا الهاشمة ولا الاَّمة ولا الجائفة وهذا مملا خلاف فيه؛ لأنَّه لا يمكن ضبط هذه الجراحات؛ لأن المنقلة والهاشمة والامة لا يصح القصاص فيها إلاَّ بكسر العظام، ولا يمكن أن تكسر على مقدار معلوم وحد وحدود، وكذلك الجائفة لا يمكن فيها التقدير الصحيح، فلذلك سقط في جميع ذلك القصاص؛ لأنها توضح عن العظم ولا تؤثر فيه، فمقدارها معلوم ودها مضبوط، وقد ذكر ذلك عن كثير من العلماء ولم يختلفوا أنالقصاص منها واجب، وأما ما دونها فالأقرب أن القصاص يتعذر فيه فإن أمكن جاز والله أعلم، قال: وكذلك أن كسر العظم أو قطع لا من المفصل بل من وسط العظم كنحو الزند أو قصبة الساق فلا قصاص فيه، وهذا أيضاً مملا لا خلاف فيه، وذلك لتعذر ضبط مقاديرها على حقائقها على مابيناه. (111/2)
مسألة
قال: وإذا قتل الحر عبداً لم يقتل به، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وأصحابه يقتل به، والدليل على ما قلناه قوله عز وجل: الحر بالحر ودخول الألف واللام في الحر على الجنس فكأنه عز وجل قال: كل الحر يقتل بالحر فلم يجز أن يكون حر يقتل بعبد؛ لأن تقديره أن الأحرار كلهم يقتلون بالأحرار والوجه الثاني أن العبد لو كان بمنزلة الحر في باب القصاص لم يكن لهذا التخصيص فائدة كما لا فائدة في أن يقال أهل الحجار بأهل الحجار وأهل الشاهل بأهل الشام وأهل العراق بأهل العراق، وإذا ثبت أن الحجازي والشامي والعراقي في القصاص واحد فدل ذلك على أن الحر والعبد لا يجريان في القصاص مجرى واحد، وأيضاً لا خلاف أن طرف الحر لا يؤخذ بطرف العبد فوجب أن لا يؤخذ بنفسه، وكذلك القول في المستأمن، وروي عن جابر فيما أظن من السنة إلاَّ يقتل حرٌ بعبد.
فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {النَّفْسُ بِالنَّفْسِ}.
قيل له: ذلك مخصوص بما قدمناه.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمون تتكافئ دماؤهم>.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد في الحرمة وتعظيم سفكه؛ إذ لا تكافؤ بالإجماع من جهة الدية فإن العبيد تختلف دياتهم على مقادير قيمتهم والمرأة ديتها على النصف، فجاز أن لا تتكافأ في القصاص، وإن يكون المراد ما قلناه، وأيضاً لا خلاف أن دم الأب والابن لا يتكافأن في القصاص وإن تكافئا في الدية. (111/3)
فإن قيل: فقد روي: <من قتل عبده قتلناه ومن جدع أنف عبده جدعناه>.
قيل له: هذا الظاهر لا دليل لكم فيه؛ وذلك أنَّه لا لاف بيننا وبينكم أن السيد لا يقتل بعبده وأنه لا قصاص بين العبيد والأحرار في الأطراق وإذا لم يدل ظاهره على موضع الخلاف كان تأويله عندنا أن نقتله على وجه السعي في الأرض بالفساد والمحاربة فيقتل عندنا حداً لا قصاصاً، وإذا لم يختلف أن السيد لا يقتل بعبده جب أن لا يقتل بعبد غيره؛ والعلة أنَّه ليس بمالٍ فلا يجب أن يقتل بما هو مال وقياس على البيهمة أيضاً، وأيضاً قد ثبت أنَّه لا يحد إن قذف العبد، فكذلك لا تقبل إن قتله على أن العبد أنقص حالاً من الحر في عامة الأحوال فوجب أن يكون كذلك في القصاص والله أعلم، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقتل به، والدليل على صحة قولنا ما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يقتل مسلم بكافر> وهو عام في جميع الكفار.
فإن قيل: فقد روي معه ولا ذو عهد في عهد فكان تقديره لا يقتل مسلم بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهد بكافر فلا بد فيه من ضمير وإذا ان كذلك فالمراد به المستأمن.
قيل له: أول ما في هذا أن اللفظة الأولى قد رديت منفردة عن اللفظة الثانية وذلك يقتضي عمومها في الكفار أجمع على أن اللفظة معنى أجرى أمرها على الظاهر ولم يثبت فيها ضميرٌ لم يدل على ما قلتم وذلك أن التقدير فيه إذا كان على ما قلناه كأنه قال: لا يقتل مسلم بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهد فيكون الكلام قد دل على أن المسلم لا يقتل بكافر وأن العهد يحقن دم ذي العهد فلا يقتل مع عهده كما يقتل من لا عهد له، هذا هو ظاهر اللفظتين ولابد على الأقوال كلها من إثبات الضمير الأول وهو القتل وما قالوه لا يتم إلاَّ بإثبات ضمير ثاني وهو أن يقدر ولا وعهد في عهده بكافر وهذا الضمير الثاني لا يفتقر الكلام إليه وليس فه ما يدل عليه فيجري مجرى إثبات لفظ لا دليل عليه؛ لأن الضمير بمنزلة اللفظ ومتى كان ذلك كذلك سقط حكم هذا الضمير وإذا سقط حكمه بطل ما تعلقوا به وصح ما ذهبنا إليه. (111/4)
فإن قيل: اللفظ الأول المراد به هو القصاص والضمير الذي أثبتموه هو قتل ليس بقصاص وليس هذا حكم الضمير؛ لأن الضمير يجب أن يرجع إلى المنطوق به ليصح كونه ضميراً ومتى كان ذلك كذلك وجب فيجب أن يكون تقدير الكلام لا يقتص من مسلم لكافر ولا يقتص من ذي عهد في عهده فيجب لا محالة إثبات ضمير آخر حتى يكون تقديره ولا يقتص من ذي عهد في عهده لكافر.
قيل له: اللفظة الأولى هو القتل ويجوز أن يكون الضمير الثاني أيضاً هو القتل وإن كان القتل الأول قتلاً على صفة والضمير قتلاً على صفة أخرى بعد أن يشتركا في كونهما قتلاً مثال ذلك أنَّه يصح أن يقول الإنسان لا يصح مع كشف العورة صلاة الرجل ولا صلاة المرأة ويكون الضمير فيه مع كشف العورة صلاة المرأة وإن كان ما يريد من العورة بالرجل خلاف ما يريده بالعورة من المرأة؛ لئن عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبتين وجسد المرأة كله عورة خلا الوه، فصح الضمير مع اختلاف المرادين لاشتراك الضمير للمظهر في كونهما عورة كذلك ما اختلفنا فيه لاشتراكهما، أعني الضمير والمنطوق به في كونهما قتلاً وإن كان المنطوق قتلاً على صفة، على أن قوله ذو عهد ينتظم الذمي والمستأمن فهو محظور الدم ما دام في عهده من الذمة والإستيمان وبما اعتمدناه يخص جميع الظاهر التي يتعلقون بها من قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلِيْهِمْ فِيْهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وغيرها، على أنا نعارض هذا بأن نجعله ابتدأ دليل وهو ما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <في النفس مائة من الإبل> فأوجب ذلك في كل نفس؛ لأن دخول الألف واللام يوجب التعميم، فإذا ثبت ذلك ثبت في قتل المسلم لكل كافر مائة من الإبل وثبوته يوجب سقوط القصاص بإجماع المسلمين أن الدية التامة والقصاص لا يجتمعان. (111/5)
فإن قيل: روي عن عبد الرحمن بن السمان أن رسول الله لى الله عليه وآله وسلم أتي برجل من المسلمين قتل معاهداً من أهل الذمة فأمر به فضربت عنقه، وقال: أنا أولى من وفى بذمت، وروي أيضاً عن علي عليه السلام أنَّه قتل مسلماً بذمي ثُمَّ قال: أنا أولى من وفا بذمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل له: يحتمل أن يكون المسلم قتل الذمي على وجه المحاربة والفساد في الأرض فوقع القتل حداً ولم يقع اختياراً ولا حكماً فوجب أن لا يقتل المسلم به قياساً على المستأمن وعلى الراهب والشيخ الفاني أن قتلهم مسلم ولا يعترضه أطفال المسلمين؛ لأن الذي قد ثبت لهم حكماً وإن لم يثبت اختياراً. (111/6)
فإن قيل: قد أجمعوا على أن ذمياً لو قتل ذمياً ثُمَّ أسلم القاتل أنَّه يقتل به، وهذا قتل المسلم بالكافر.
قيل له: هذا استحق القتل قبل الإسلام فإسلامه لم يزل عنه حقاً لزمه كما أن حربياً لو استرق في دار الحرب ثُمَّ أسلم لم يزل عنه إسلامه رقة المستحق عليه قبل الإسلام وإن كان ابتداء الرق لا يجوز أن يجري عليه في حال الإسلام، فكذلك القتل.
مسألة
قال: ولا قود في شيء من الخطأ ولا قود على المجنون ولا على الصبي فقد قيل أن أحد قولي الشافعي إن عمده عمدٌ وإن كان لا يوجب القود.
مسألة
قال: ولو أن أعور فقأ عين صحيح فقئت عنه، وقال في المنتخب عين الأعور بمنزلة العينين ولا تفقأ عينه بعين الصحيح.
ما ذكرناه أولاً هو رواية الأحكام، وبه قال العلماء أبو حنيفة وأصحابه والشافعي، وما ذكرناه من رواية المنتتخب هو قول مالك والدليل على أن عينه تفقأ بعين الصَّحيح قول الله عز وجل: {الْعَيْنُ بِالْعَيْنِ} فعم ولم يخص عين الأعور من عين الصَّحيح، فوجب أن يتم القود فيها، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العينين الدية، وروي في العين خمسون من الإبل، وهذا عام في كل عين فبطل قول من قال إن عتق الأعور بمنزلة العينين في القصاص أو في الدية.
فإن قيل: روي عن علي علي وغيره من الصحابة أن عين الأعور بمنزلة العينين.
قيل له: يحيى بن الحسين لم يصحح هذه الرواية عن علي عليه السلام في الأحكام بل ضعفها وظاهرُ ما روى عنه زيد بن علي من قوله في العينين الدية في كلواحدةٍ منها نصف الدية يدل على بطلان هذه الرواية، فإن كان قال بذلك بعض الصحابة فلا يجب علينا القول به؛ لأن كثيراً من الصحابة قالوا بأقوايل عندنا وعند مالك باطلة: كما روي في المهر بإبطال القول وما أشبه ذلك. (111/7)
فإن قيل: إن عين الأعور بمنزلة العينين؛ لأن نور إحداهما ينتقل إلى الأخرى كان هذا كلامٌ لا قوله محصلٌ لوجهين أحدُهما أنَّه ليس في العقل ولا الشرع ولا التجارب ما يدل على ذلك والثاني أن ذلك وإن صح فلا معتبربكثرة شعاع العين، ألا ترى أن الشابالطري يكون شعاع عينه أكثر من شعاع عيني الشيخ الهم بإضعافٍ مضاعفة، وهذا مما نعرفه ضورة ولا خلاف أنَّه لا فصل بين عيني الشاب وعيني الهم في القصاص وفي الدية، فبان أن كثة الشعاع لا معتبر به ولا خلاف أن ..... قطع لا تقوم مقام اليدين في الدية والقصاص، فوجب أن تكون عين الأعور كذلك؛ لأن كل واحدة منهما اثنان في أصل الخلقة السوية فلا يجب ان تكون الواحدة بمنزلة الاثنين، فأما وجه ما في المنتخب فهو ما ذكرناه على طريق السؤال واجبنا عنه.
مسألة
قال: وإذا قتل الرجل المرأة عمداً فأولياء المرأة بالخيار إن شاؤوا قتلوا الرجل وأعطوا أولياءه نصف الدية وإن شاؤوا أخذوا من القاتل دية المرأة، والدليل على ذلك قوله عز وجل: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأَنْثَى} فلو لم تكن لصنفٍ من هؤلاء الأصناف تخصيصٌ وكان الحران إذا قتل أحدهما صاحبه بمنزلة حرٌ وعبدٌ، وكذلك الذكران إذا قتل أحدهما صاحبه، وكذلك الأنثيان إذا قتلت إحداهما صاحبتها بمنزلة ذكرٍ قتل أنثى لم يكن الذكر هؤلاء الأصناف وأفراد كل صنفٍ منها عن صاحبة معنى على ما بيناه في قتل الحر بالعبد، وإذا قد ثبت ذلك فلا بد من تخصيص يقع وتمييز يحصل بين قتل الذكر للأنثى وقتل الذكر للذكر والأنثى للأنثى، وإذا وجب التخصيص فلم يقل أحدٌ فيهما بالتخصيص مع استيفاء القود إلاَّ على ما قلناه، وهو قول علي عليه السلام ومروي عنه، وما صح عنه عندنا أنَّه يجب أن يتبع ومن خالف في هذا كان الكلام بيننا وبينه في هذه المسألة دون القرع المبني عليها، وأيضاً قد ثبت أن النكافي بين النفوس والدماء مراعى عندنا على ما بيناه من أن المسلم لا يقتل بالكافر، لأن ذميهما لا يتكافئان للكفر والإسلام وكذلك الحر لا يقتل بالعبد لهذا المعنى، لأن ذميهما لا يتكافئان للحرية والرق فكان الواجب أن لا يتكافئان دم الذكر والأنثى لما بينهما من التفاوت في الدية إلاَّ أن هذا لما أمكن جبره بالدية أوجبنا القصاص فيه مع تكميل دية الذكر لما لما لم يحصل يمكن جبر ما بين الكافر والمسلم ولا بين الحر والعبد أزلنا القصاص على المسلم والحر. (111/8)
فإن قيل: فهذا أخذ العوض على دمٍ يراق، فذلك مما لا يجوز؛ لأن الدم لو كان مستحقاً فلا وجهَ لأخذ لأخذ نصف الدية وإن كان غير مستحق فلا يجوز سفكه بوجه من الوجوه لعوضٍ يبدل.
قيل له: نحن نقول أن الدم مستحق لولي الأنثى إلاَّ أنَّه إذا أراقه استحق عليه ولي الذكر القاتل نصف الدية، وهذا كما نقول في رجلٍ قطع إحدى يدي رجلٍ ثُمَّ عدى المقطوع إليه عليه فقتله، أن ولي المقتول إن شاء قتله وأعطاه نصف الدية وهي دية يده وإن شاء أخذ منه نصف الدية وقاصه بدية يده وهو نصف ديته والله أعلم. (111/9)
مسألة
قال: وكذلك القول في الرجل إذا فقأ عين المرأة إن شاءت المرأة فقئت عينه وأعطته نصف دية عينه، وإن شاءت أخذت منه دية عينها وهي نصف دية عينه، ووجه هذه المسألة ما مضى من الكلام في المسألة الأولى إذ هي مبنية عليها.
مسألة
قالوا: إن جماعة من الرجال أو الرجال والنساء قتلوا رجلاً عمداً قتلوا جميعاً إلاَّ أن يشاء ولي الدم أن يأخذ من كل واحدٍ منهم دية من ماله، فذلك له، فإن اجتمعوا على قتل رجلٍ خطأ لزمتهم جميعاً دية واحدة، أما قتل الجماعة بواحدٍ فيه، قال أبو حنيفة والشافعي وكثير من العلماء، وبه قالأحمد بن عيسى والقاسم وعن الناصر أو لي الدم يقتل واحداً يخاره ويأخذ من الباقين للمقتص منه قسطهم من الدية وعن مالك لا يقتلون، والدليل على صحة ما ذهبنا غليه قول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أُوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَى النَّاسَ جَمِيْعاً}وقد علمنا أنَّه ليس المراد به في الإثم؛ لأن قاتل النفس الواحدة لا يجوز أن يكون إثمه مثل مثل إثم قاتل الجماعة فلم يبق إلاأن يكون المراد به الكمُ، فكان المراد به أن قتل الواحدكقتل الجماعة حكماً، فلما كان كذلك وكان جماعة لو قتلوا جماعة قتلوا بهم، كذلك الجماعة لو قتلت واحداً قتلوا به، ويدلُّ على ذلك قوله كتبنا ومعناه أوجبنا وحكمنا فعلمنا أن المراد به الحكم، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية> فعم ولم يخص، فوجب هذا الحكم في من قتل واحداً كان القاتل أو جماعة، وروي عن عمر أنَّه قتل جماعة بواحدٍ، وقال: لو .... عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، وروي نحو ذلك عن علي عليه السلام وأشتهر ذلك ولم يرو خلافه عن غيرهما إلاَّ رواية عن أبي الزبير، وروي عنه خلاف ذلك أيضاً فقد روي أن جماعة اجتمعوا على قتل واحدٍ فأراد قتلهم به فمنعه معاوية فدل ذلك على ان ما روي عن أبي الزبير من أنَّه لم ير قتل الجماعة بالواحد غير صحيح، وروى زيد بن علي، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: الشاهدين (111/10)
شهدا على آخر بالسرقة فقطعه ثُمَّ رجعا وقالا: أخطأنا، فقال عليه السلام: لو علمتأنكما تعمدتما لقطعتكما به. (111/11)
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا يقتل اثنان بواحد>.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد إذا لميفعل أحدهما ما يستحق به القود رداً على ما كانت العرب تفعله ويفعله الآن غيرهم من أهل الحمية الجاهلية فيمن قتل واحداً؛ لأن أولياء القتل ربما طلبوا قتله وقتل من صحبه وأعانه ولم يباشر القتل، ويدل على ذلك أن النفس لا تتبعض في الإتلاف فوجب أن يقتل كل واحد منهم؛ لأنَّه قاتل نفسٍ دليله لو انفرد.
فإن قيل: القصاص هو المساواة والمماثلة والنفس الواحدة غير مساوية للجماعة.
قيل له: ليس معنى القصاص هو استيفاء مقادير أجزاء المقتول من القاتل بدلالة أن الكبي مقتولٌ بالصغير وإنما هو إتلاف ونفس القاتل بالمقتول فيجب أن يتلف نفسه، ونكتة الباب أن كل واحدٍ منهم قاتلٌ تلك النفس؛ لأن النفس لا تتبعض في الإتلاف، فأما ما ذهب إليه الناصر فلا معنى له؛ لأنَّه أوجب قتل واحدٍ منهم ولا شك أن قتله واجبٌ بجنايته فكيف يجوز أن يستحق القتل بجنايته، ومن شاركه فيها لا يستحق فصار قوله بعيداً فاسداً، ويقال: أنَّه إذا جاز قتل واحدٍ منهم لقتله النفس، فكذلك الباقون لقتلكل واحد منهمالنفس، وأما إيجاب الديات في العامدين بعدد القاتلين فقد مضى القول فيه ويمكن أن يستدل عليه بقوله عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ..} الآية، فكما أن خمسة لو اجتمعوا على قتل خمسة لم كل واحد منهم دية، فكذلك لو اجتمعوا على قتل واحدٍ لزم كل واحدٍ منهم دية على ما رتبناه وبيناه في الإقتصاص من الجماعة لواحد، وأما في الخطأ فلا خلاف أن الدية الواحدة هي الواجبة يشتركون فيها.
مسألة
وكل من قتل أو جرح عمداً فولي الدم بالخيار إن شاء طالب بالقود وإن شاء طالب بالدية وإن تصالحا على شيء دون الدية أو فوقها أو تراضيا به كان ذلك جائزاً وما ذهبنا إليه في الخيار به قال الشافعي وقال أبو حنيفة: ليس لولي الدم إلاَّ القصاص أو العفوا ولا سبيل له إلى الدية، ألا يرضى القاتل ورتب أصحاب الشافعي قوله على وجهين أحدهما ما ذكرناه، والثاني أن الواجب هو القود، ثُمَّ ننتقل إلى المال بالعفوا عن القود واختيار المال، والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <في النفس مائة من الإبل والألف واللام إذا لم يكونا للعهد كانا لجنس فكأنه قال في كل نفس مائة من الإبل، وذلك يتناول العمد والخطأ، ووجوب القود قد ثبت بالإجماع، وبقوله: {كُتِبَ عَلِيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <العمد قود> وكان الواجب أن تثبتا جميعاً على طريق الجمع، لكن أجمع المسلمون على خلاف ذلك فأثبتناهما على طريق التخيير، ويدل على ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: <من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا أخذوا الدية وإن أحبوا قتلوا> وهذا نص فيما ذهبنا إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل الخيار في ذلك إلى ولي الدم، وروي أيضاً عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <من أصيب بقتل أو خبل فأهله بخيار إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يعفوا وإما أن يأخذ الدية> ساوى بني القتل والخبل الجراح، فدل على ما ذهبنا إليه في القتل والجراح جميعاً نصاً، ويدل على ذلك قول الله عز وجل بعد ذكر القصاص وإيجابه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ..} الآية فعين أن بعد العفوا مالاً يجب وذلك الدية بعد العفوا عن القصاص وهو نص ما ذهبنا إليه وقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيْفٌ مِنَ رَبِّكُمْ} معناه على ما روي أن بني إسرائيل لم يكن (111/12)
فيهم إلاَّ القصاص فسهل الله على هذه الأمة بما شرع لهم من العدول عن القصاص إلى الدية. (111/13)
فإن قيل: العفوا في اللغة يستعمل في التسهيل والتخفيف كما قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ} ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <وآخر الوقت عفو الله> وإذا كان ذلك كذلك فالمراد بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٍ} أي عفي القاتل وسهل وسمح ببذل الدية.
قيل له: هذا وإن كان مستعملاً في اللغة فهو ضرب من التوسع؛ لأن الحقيقة في العفوا إنَّما هو إسقاط حق قد وجب وذلك لا يصح متى حمل على الحقيقة في القصاص على ما بيناه، وروي عن ابن عباس، قال: لم يكن في بني إسرايل غير القصاص ولم تكن فيهم الدية، قال ابن عباس: فالعفوا أن يقبل الولي الدية في العمد {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ بِإِحْسَانِ} قال: عليه: أن يتبع بالمعروف وعلى هذا أن يؤدي بإحسان فقد صرح أن العفوا من قبل ولي الدم على ما يقتضيه العرف واللغة دون ما به عنه الخصم من أن العفوا من القاتل بأن يبذل الدية ويسمح بها ويوضح ما ذهبنا إليه قول الله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٍ} ولم يقل الكل، فدل على أن العفوا تناول بعض ما وجب فبان بذلك أن القصاص والدية كانا واجبين على طريق التخيير، فلما عفي عن شيء منه، والمراد عن بعض منه وهو القصاص طالب بالحق الآخر.
فإن قيل: قد ثبت أن للنفس يستحقه عليه بمثل ما اعتدي عليكم.
قيل له: هذا يدل على وجوب القصاص ونحن لا نأبى ذلك بل نقول به، لكنه لا يمنع وجوب الدية مع طريق التخيير إذا دلت الدلالة عليه، وقد أقمنا عليه الدلالة فما ننكر منه.
فإن قيل: لا خلاف أن من استهلك ماله كان المثل هو الواجب دون القيمة، فوجب أن يكون المستحق بالقتل هو القود لا غير وأن لا ننتقل إلى القيمة إلاَّ بالتراضي.
قيل له: هذا فاسدٌ بالإجماع؛ لأن النفس ليست من ذوات الأمثال دليله أن من غصب عبداً فتلف على يده ليس يلزمه مثله، وإنما يلزمه قيمته، وأيضاً لو كان المستحق بالقتل هو القود كما نقول في ذوات الأمثال فوجب أن يستوي فيه العمد والخطأ؛ لأن من استهلك لغيره من ذات الأمثال فالواجب مثله سوى استهلكه عمداً أو خطأ وأيضاً لو روعي فيه ما يراعي في ذوات الأمثال لوجب أن تراعى فيه صفات المقتول والمأخوذ قوداً كالصغر والكبر والحسن والقبح والطول والقصر وما جرى مجرى ذلك، فلما لم يراعى فيه شيء من ذلك علم بطلان ما ذهبوا إليه من حديث المثل وما يجب فيه على أنا قد بينا أن وجوب القصاص فيه كوجوب الدية فلا وجه لهذا القول وهو قول من قال أن الرجوع إلى الدية هو يرضى القاتل. (111/14)
فإن فيل: فقد روي في بعض الأخبار إما أن يقتل وإما أن يفادي والمفادى يكون بين الاثنين.
قيل له: نحن لا ننكر ذلك ومعناه الصلح وعندنا أنَّه إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن شاء رضي بالمفاداة وهي المصالحة على القليل أو الكثير فكل واحد من ذلك يثبت مما ورد من الشرع به على أنَّه لا خلاف أن دخول العفوا في بعض الدم ينقل الباقي إلى الدية من غير اعتبار مراضات القاتل، فدل ذلك على أن سقوط القود يوجب العدول إلى الدية يبين ذلك أن الأمة والجائفة لما لم يصح فيهما القود كان الواجب هو الدية، وكذلك إذا قتل الأب ابنه وعلى مذهبنا إذا قتل المسلم الكافر واحلر العبد فإما الصلح بما قل أو كثر فلا خلاف في صحته بين المسلمين عن عمد وقع أو خطأ وقد دل على ذلك في العمد ما روي إما أن يقتل وإما أن يفادي، والمراد به الصلح وأمر التغليظ عندنا أيضاً محول على التراضي والمصالحة.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً فقأ عين واحد وقطع يد آخر أو رجله وجدع أنف آخر ثُمَّ قتل رجلاً اقتص منه لكل واحد من هؤلاء ثُمَّ أقيد بالمقتول وذلك أنَّه جنى على كل واحد منهم جناية وجب فيها القصاص، فوجب أن يقتص منه لكل واحد منهم ثُمَّ وجب أن يقاد منه للأخير الذي قتله ليكون قد استوفي لكل ذي حق حقه من القصاص إذ هو واجب وليس فيه ما يمنع فعله حكماً ولا تعذراً. (111/15)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قتل رجلاً عمداً ثُمَّ عفى عنه بعض أولياء الدم سقط عنه القتل وطولب بالدية كاملاً وإن كان الذي عفى عنه أسقط عنه نصيبه من الدية سقط وطالبه البقاون بحصصهم من الدية إذا عفى بعض أولياء الدم وأسقط القود ففلا خلاف أن القود يسقط بواحدة وأن حق الباقين ينتقل إلى الدية؛ لأن الوقد لا يتبعض، فإذا دخل العفوا في بعض الدم دخل في باقيه وقلنا أن نصيب من عفى لا يسقط الدية ؛ لأن الواجب كان أحد شيئين على ما بيناه القود أو الدية فعوله عن القود وإسقاطه إياه لا يوجب سقوط الدية نصيبه من الدية ولا وجه لما حكى من أحد قولي الشافعي أن العفوا عن الدم سيقط الدية إن لم يختر الدية حين العفوا عن القود لما بيناه من أن القود والدية جميعاً واجبان على طريق التخيير وأيضاً لو كان سقوط القود يوجب سقوط الدية لوجب أن تسقط الدية رأساً كما يسقط القود رأساً، فلما ثبت أن القود يسقط بعفوا الواحد من الأولياء وتبقى حصص الباقين من الدية وصح أن سقوط القود لا يوجب سقوط الدية، فوجب أن لا يسقط نصيب الذيعفى عن القود من الدية كما لم يسقط نصيب الباقين إلاَّ أن يكون أيضاً أسقط نصيبه من الدية، وكتة الباب أن سقوط القود لا يوجب سقوط الدية ويكشف بالأمة والجائفة والمنقلة؛ لأن القود ساقط في جميع ذلك ولم يجب أن تسقط ديتها.
مسألة
قال: وإذا قتل الجل وله أولاد صغار انتظر بلوغهم ثُمَّ إن شاؤوا أخذوا الدية وإن شاؤوا قتلا وإن شاؤوا أسقطوا عنه الدية والقتل جميعاً،لم ينص يحيى عليه السلام على حكم من قتل وله أولاد صغار وكبار إلاَّ أن عموم قوله: وله أولاد صغار انتظر بلوغهم يوجب الانتظار سواء كان له ولدٌ بالغٌ أو لم يكن وهنا الأحرى على ماذهبه، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأظنه قول الشافعي، فرواه يحيى بلفظه هذا عن القاسم عليهما السلام، قال أبو حنيفة: للبالغ أن يقتص ووجه هذا القول أنَّه لا خلاف فيمن قتل وله أولادٌ غيب وحضَّر أنَّه لا يقتله الحضر حتَّى يحضر الغيب، وكذلك الكبار والصغار والعلة أن في أخذهم القود تفويتاً لحقوق الباقين. (111/16)
فإن قيل: فقد روي أن الحسن بن علي ععليهما السلام قتل ابن ملجم وكان لعلي أولاد صغار.
قيل له: عندنا أنَّه مقتول على الردة بدلالة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: <يا علي إلاَّ الكافر> فثبتت الردة بهذه الدلالة.
فإن قيل: لم انتظر به موت علي؟
قيل له: لا يمتنع أن يكون موته عليه السلام هو الدال أو الموجب لردته لأنَّه لا يكونقاتلاً حتَّى يموت المجروح والنبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل ذلك الحكم لقاتله.
فإن قيل: لما كان الغصير ممن يولى عليه جاز للولي أن يزوجه إذا كان النكاح مملا لا يتبعض.
قيل له: هذا منتقض بالطلاق ولأن الولي لا يطلق عليه على أن أبا حنيفة لا يعتبر فيه الولي؛ لأن قوله أن للوارث الكبير أن يقتص أي وارثٍ كان ولو ان من ذوي الأرحام، قال: وكذلك إن عفى بعضهم بعد البلوغ سقط القود وقد بينا ذلك فيما تقدم.
مسألة
قال: ولو أن إنساناً سقى صبياً سماً عمداً فمات قتل به، وذلك أن السم يقصد القتل به كما يقصد بالسيف وربما كان السم أوحا، فإذا حصل قاتلاً ففيه القود لقوله الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصَ فِيْ الْقَتْلَى}وهذا إسا سقاه بيده أو جعله في طعام وصيره في فيه، فأما إن جعله في طعام وشراب وخلى بينه وبين الصبي حتَّى يتناوله باختياره، فالأقب أنَّه يلزمه الدية دون القود؛ لأنَّه لم يباشر القتل بنفسه كمن حفر بئراً في طريق من طرق المسلمين وإن كان قصده أن يعنت فيه عانتٌ فوقع فيه إنسانٌ أنَّه يلزمهُ الدية دون القود، وهذا وما ذكره في إيجاب القود بالخنق يكشف أن مذهبه إيجاب القصاص إذا قتل بكل شيء، الغالب منه أنَّه يقتل، وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد، قال أبو حنيفة: لا قود إلاَّ أنيقتل بالسيف أو الحديد أو ما يعمل بعملهما، وهذا غير صحيح، والدليل علىصحة ما ذهبنا إليه قول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِيْ الْقَتْلَى} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيْهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ..} الآية، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <العمد قودٌ> وما روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوم فتح ملكة فقال: <ألا ومن قتل قتيلاص فوليه بالخيار النظرين بين أن يقتص منه أو يأخذ الدية إلى غير ذلك من السنن الواردة في هذا الباب فأوجبت هذه الظواهر من الكتاب والسنة القصاص لكل قتيل وقوله: <العمد قود> أوجب القصاص في كل عمد، فلما أجمعوا على أن المخطئ لا قود عليه، وكذلك من قتل بما لا يقتل به غالباً أنَّه لا قود عليه خصصنا ذلك وفي ما عداه على حكم القصاص بقضايا هذه الظواهر، وروى الطحاوي بإسناده عن قتادة عن أنس أن يهودياً رضخ رأس جارية بين حجرين فقيل لها: من فعل بك هذا فأشارت إلى اليهود فأتي به فاعترف فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرضخ رأسه بين حجرين، فدل ذلك على وجوب القود، وإن لكن القتل (111/17)
بالحديد. (111/18)
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <كل شيء خطأ إلاَّ السيف>.
قيل له: إنكم قد خصصتم هذا بأن قلتم إنَّما يعمل عمله من الحديد أو الخشب المحدد ففيه القود، وكذلك فيمن أحرق غيره بالنار فهلا جاز لنا أن نخص منه كلما عرفنا من حاله أن يقتل به غالباً للأدلة الَّتِي قدمناها.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال يوم فتح مكة: <ألا إن قتل الخطأ بالسوط والعصا الدية فيه مد مغلظة>.
قيل له: قد تكلمنا في ضعف هذا الخبر في مسألة شبه العمد بما لا يحتاج إلى إعادته وأصحاب أبي حنيفة يضعفون ذلك، ولهذا لا يرجع أبو حنيفةفي التغليظ إلى مضمونه وبينا إن صح ذلك فلا يمتنع أن يكون الغرض بيان جاز الصلح على التغليظ من العمد.
فإن قيل: فقد روي أقتيل امرأتان من هذيل فقتلت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دية جنينها بغرة وقضى بديتها على العاقلة.
قيل له: لا يمتنع أن تكون رمتها بحجر لا يقتل مثله فقتلتها به، فلهذا أوجب الدية ونحن لا ننكر ذلك على أنَّه روي أنها ضربتها بعمود قطاط، وروي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتلها مكانها فمن أمر بقتلها كان يجوز أن تكون قتلت بما تقتل به غالباً ومن ألزمت الدية يجوز أن تكون قتلت بما لا يقتل مثله غالباً.
فإن قيل: لما قال قتيل العمد الخطأ دل ذلك على أنَّه يضمن العمد إلى القتل.
قيل له: عن هذا جوابان أحدهما أنَّه ما بيناه أنَّه أراد العمد وإنما قال: الخطأ لأن القاتل لا يبعد أن لا يكون له قصدٌ إلى القتل والثاني أن العمد يتضمن عمداً إلى شيء ما وليس في الخبر ما ذلك الشيء فيجوز أن يكون أراد العمد إلى الضرب فرقاص بينه وبين أن يقصد غيره فيصيبه فإن ذلك لا يكون عمداً إلى الضرب ولا إلى القتل وأيضاً لا خلاف أن من قتل بم له حداً أو أحرقحتى قتل فإنه يقاد منه كذلك ما اختلفنا فيه، والعلة أنَّه مما يقتل به غالباً وأيضاً قد علمنا أن أصحاب الحروب يعدون الحجر كالسلاح في أنهم يحاولون القتل به، وذكلك الأتراك يقاتلون في الحروب بالأعمدة ويسونها اللتوت، فقد بان أن هذه الأشياء قائمة مقام السيف، ومنها أيضاً ما هو أنكى من السيوف إذا ضرب به فصح أن الإعتبار إنَّما هو بما يقتل غالباً؛ لأن ذلك يسمى قتالاً كما يسمى القتال بالسيف قتالاً. (111/19)
فإن قيل: فقد روي <لا قود إلاَّ بالسيف>.
قيل له: كذلك نقول ولا نوجب أن يسقاد إلاَّ بالسيف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لميقل لا قود إلاَّ من السيف وإنما قال: <لا قود إلاَّ بالسيف>.
مسألة
قال: ولو أن جماعة شهدوا على رجلٍ عند الإمام بأمرٍ يوجب قتله فعتله الإمام بشهادتهم ثُمَّ أقوا أنهم كذبوا في شهادتهم وتعمدوا قتل الرجل بها قتلوا جميعاً، وكذلك إن أقر بعضهم قتل المقر منهم إلاَّ أن يشاء ولي الدم أن يأخذ دية كاملة من كل من أقرب منهم فله ذلك فإن قالوا: شهدنا غلطاً ولم نتعمد لم يلمهم إلاَّ دية واحدة، وهذا قد مضى الكلام في مثله في مسألة شهود الزنا والإحصان إذا رجعوا بعد الرجم مع العمد أو الخطأ وإيجاب الدية الكاملة على كل من قتل عمداً وإن كانوا جماعة قد مضى الكلام فيه فلا وجه لإعادته والله أعلم.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً خنق رجلاً بيده أو بحبل أو وترٍ حتَّى قتله ان عليه القود، وبه قال الشافعي والأصل فيه ما بيناه فيما مضى من أن القود يجب فيما يقتل به غالباً وقد ثبت أن الخنق يقتل به كما يقتل بالسيف فوجب أن يكون حكمه حكمه والظواهر الَّتِي توجب القصاص يمكن أن تتعلق بها لإيجاب القصاص من الخنق. (111/20)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قتل رجلاً عمداً بسهم رماه أو جرح جرحه أو ضربة ضربه بها كان الواجب لأولياء الدم أن يضربوا عنقه ولم يكن لهم أن يفعلوا به ما فعل هو بصاحبهم، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي يفعل به ما فعل وهو بمن قتله، والدليل على صحة ما قلناه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لا قود إلاَّ بالسيف، وروي: <لا قود إلاَّ بحديدة فمنع صلى الله عليه وآله وسلم القود إلاَّ بحديدة، وروى عنه <إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وإذا قتلتم فأحسنوا القتل> والمراد به التوجيه، ونهى صلى الله عليه وآله وسلم عن المثلة، وقال: <لا تمثلوا بآدمي ولا بهيمة>، ونهى أن يجعل ذو الروح عرضاً وكل ذلك مما يجوز أن يتفق مثله من القاتل، وقد نهينا عن فعله فعلم أن القود يجب أن يكون بضرب العنق؛ لأنَّه أوحى للقتل وأقله تعذيباً.
فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سِيْئِةٌ مِثْلُهَا}.
قيل له: ما نهى عنه صلى الله عليه وآله وسلم صار مخصوصاً من الآية وعلى هذا يجب إن سألوا عن قوله: {فَمَنْ اعْتُدِيَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتُدِيَ عَلِيْكُمْ}.
فإن قيل: فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر باليهودي الذي كان رضح رأس الجارية بين الحجرين فماتت أن يرضح رأسه بين حجرين حتَّى مات.
قيل له: يجوز أنيكون فعل ذلك قبل نسخ المثلة كما فعل بالغرينين من سلم الأعين والطرح لهم في الشمس إلى أن ماتوا ثُمَّ نسخ ذلك ودل على نسخه الخبار الَّتِي قدمناها ولا خلاف في أن من قتل باليف فقوده بالسيف كذلك من قتل بغيره، والعلة أنَّه قود ويقال لهم: لا يخلوا من أن يكون القاتل استحق عليه القتل فقط أ يكون استحق عليه ان يفعل به مثل ما فعل هو بالقتل أو يكون استحق الجميع ولا يجوز أن يكون استحق ذلك مع القتل؛ لأنَّه يكون فعل به أكثر مما فعل بصاحبه؛ لأنَّه إذا كان قطع يداً من رجلٍ فمات من ذلك لو استحق أن يقطع يده ثُمَّ إذا لم يمت استحق القتل بالسيف كان قد استحق أكثر مما فصل، وهذا ممال يا يجوز، ألا ترى أنَّه لا خلاف بين المسلمين أن الآمة والجائفة لا قصاص فيهما إذ لا يؤمن أن يلحق الجاني أكثر مما يستحقه بفعله من الألم ولا يجوز أن يكون الذي استحقه أن يفعل به ما فعل لوجهين، أحدهما أنَّه قد لا يكونمضبوطاً مقداره على التحقيق فلا يجوز أن يستحق كما لا يجوز أن يستحق القصاص في الآمة والجائفة وسائر الجراحات الَّتِي هي غير الموضحة والإبانة من المفصل؛ ولأنه لو كان هو المستحق لوجب أن يقتصر عليه مات منه أو لم يمت فلما فسدت فساد قوله من قول أنَّه استحق هذين ثبت أنَّه لم يستحق إلاَّ القتل فقط، وكان أوحى القتل ضرب العنق فوجب أن يكون هو المستحق وإن لا يتجاوز إلى ماسواه وأيضاً لا خلاف أن من أوجر غيره خمراً حتَّى قتله لا يجوز أن يؤجر خمراً حتَّى يقتل ووجب أن تضرب عنقه باليسف، كذلك من قتل بغير ذلك، والمعنى أنَّه قود، وهذا ينقض تعليلهم؛ لأنَّه يجب أني فعل به ما فعل هو بالقتيل وايضاً هو قتل مستحق بالشرع فوجب أن لا يستوفي مع التمكن من سواه بالإحراق أو التغريق والخنق دليه قتل المرتد والزاني المحصن، وإذا بطل ذلك بطل استيفاؤه بغير السيف وضرب العنق. (111/21)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً لم رجلاً لطمة اقتصَّ منه بلطمته إلاَّ أن تكون وقعت في العين أو في موضع مخوف منه التلف فإنه لا يقتص منه، والوجه في ذلك ما قدمناه في الجروح من أن يقتص منها ما أمكن ضبطه ومعرفة قدره ولم يكن معه خشية التلف ولا يقتص منها ما خالف ذلك. (111/22)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قتل ابنه لم يتقل به، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وعامة العلماء، قال مالك إنحذفه باليف فقتله لم يقتل به، وإن ذبحه قتل به، والأصل في هذا حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: لا يقتل والدٌ بولده،وهذا نصٌّ فيما ذهبنا إليه ولم يعتبر وجوه القتل، فوجب أن لا يقتل به على حال من الأحوال، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يقتص ولد من والده ولا عبدٌ من سيده فلما منع الولد من الإقتصاص من والده علم أنَّه لا قصاص على الواد لولده؛ لأنَّه لوكان عليه قصاص كان يجوز أن يقتص هو إذا جنى عليه جناية وجب القصاص، وروي أن رجلاً جرى بينه وبين امرأته كلام فاعترض له ابنه فحذفه بسيفه فقطعه باثنين فرفع ذلك إلىعمر فلم يقتله وأخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <لا يقتل والد بولده> وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <أنت ومالك لأبيك> فوجب أن يكون ذلك شبهة يدرأ بها القصاص كما أن الشبهة يدرأ بها القطع وأيضاً إضافة صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبيه إضافة الملك فيجب أن ينتفي القود كما انتفى القود عن المولى إذا قتل عبده ولا خلاف إن قتله إياه بالسيف بحذفهبه لا قصاص فيه، كذلك إذا ذربحه والمعنى أنَّه إن قتل ابنه فيجب أن لا يقتص له وإن شئت قست الذبح على القتل بالحذف بالسيف كالعبد لما كان قتله بالحذف بالسيف لايوجبقصاصاً لم يوجب الذبح يوضح ذلك أنا وجدناهما أعني القتل بالحذف بالسيف والذبح لا فرق بينهما في
العمد في الأجانب فوجب أن لا يكون بينهما فرق في الولد والوالد. (111/23)
فإن قيل: الأب جعل له تأديب ابنه وقد يحذفه باليسف تأديباً وليس كذلك الذبح.
قيل له: ليس لأحد أن يؤدب من جعل إليه تأديبه بالحذف بالسيف فهذا مما لا معنى له على أنَّه إذا لم يقتل إذا قتل ابنه بسيفٍ حذفه به لم يخل ذلك من أن يكون لحال يرجع إلى الفاعل أو لحالٍ يرجع إلى الفعل الذي هو القتل فإن كان لحالٍ يرجع إلى القاتل وهو حرمة الولادة فيجب أن لا يقتل وإن ذبحه وإن كان لحالٍ يجع إلى القتل فكل من قتل على ذلك الوجه يجب أن ينتفي عنه القود، فلما لم يجب انتفاء القود عن كل من قتل على ذلك الوجه وجب أن يكون ذلك لحالٍ يرجع إلى القاتل وهي حرمة الولادة فوجب أن لا يقتل الأب على أي وجهٍ قتل ابنه.
فإن قيل: لم يقتل لشبهة في الفعل وهي شبهة التأديب.
قيل له: فالحاكم يجب أنل ا يقاد منه إذا حذف غيره بسيف فقطعه نصفين نشبهه التأديب؛ لأن حال الحاكم في باب التأديب أقوى من حال الأب، فأما الابن فلا خلاف في أنَّه إذا قتل أباه قتل به، قال: وعلى الأب إذا قتل ابنه عمداً الدية يسملها إلى سائر ورثته ولم يرث هو منها شيئاً ولا من سائر إرثه هذه الدية لا خلاف أن العاقلة لا يحملها؛ لأنها دية عمدٍ وكل عمدٍ سقط فيه القود زلمت الدية كانت الدية في مال القاتل وهي لسائر ورثته دونه؛ لأن قاتل العمد لا يرث المقتول من ديته كما لا يرث من ماله لا خلاف فيه.
مسألة
قال: لوو أن جماعة قتلوا رجلاً عمداً فعفى ولي الدم عن بعضهم لم يكن له أن يقتل الباقين فله أن يأخذ من كل واحدٍ من الباقين دية دية وعند الشافعي وأبي حنيفة: له أن يقتل الباقين ووجهه أن دمالقتيل قد دخله العفوا فوجب أن يبطل القود بعده كما أن واحداً من الورثة لو عفى عن نصيبه من القاتل بطل القود بعده الدخول العفوا فيه.
فإن قيل: العلة في ذلك أن دم المقتول قود فلا يصح تبعيضه فإذا دخله العفوا سقط القود.
قيل له: لا يمتنع أن يكون ما ذكرتم علة إلاَّ أنها تمنع صحة علتنا فنقول بالعلتين جميعاً، ويوضح ذلك أنَّه لا بد من اعتبار حال دم المقتول أولاً، ألا ترى أنه إذا دخلته شبهة أو بعضه سقط القود إذا كان القاتل حراً مسلماً، فبان بذلك صحة علتنا، فأما إيجاب أن يأخذ من كل واحد منهم دية فقد مضى وجهه، قال: فإن قتل بعضهم ثُمَّ عفى عن الباقين صح ذلك، وهذا ما لا خلاف فيه؛ ولأن القتل لم يقع بعد العفو فلم يكن فيه قود ولم يكن فيه تعدٍ ولم يكن قود عن دم دخله العفوا فصح ذلك. (111/24)
مسألة
قال: وإذا ادعى أولياء الدم على رجلٍ أنَّه قتل قتيلهمخطأ وقال للمدعى عليه: بل قتلته عمداً فلا قود فيه، ولا دية إلاَّ أن يصدقوه وذلك أن ماادعاه ولي الدم من قتل الخطأ ينكره المدعى عليه ولم يجب أن يلزمه دعوى المدعي وما أقر به المدعى عليه قد دفعه ولي الدم فسقط إقراره فلم يجب أن يثبت شيء من ذلك.
فإن قيل: إنَّه إذا أقر بالعمد فقد أقر بلزومه الدية إن اختار ولي الدم على أصولكم وولي الدم قد ادعى عليه الدية بادعاء الخطأ فقد اتفقا على وجوب الدية.
قيل له: إن ولي الدم حين دفع إقراره بقتل العمد أبطل كل حكم يتعلق به، وإنما ادعى عليه دعوى مستأنفة لم يقر الخصم بها فلم يجب على هذا ثبوت الدية على أن دية العمد حكمها مخالف لحكم دية الخطأ؛ لأن دية الخطأ تلزم العاقلة ودية العمد في مال القاتل ودية الخطأ تؤخذ في ثلاث سنين ودية العمد حاله، فلما اختلفت أحكامهما لم يكن ما أثبته أحدهما نفس ما أثبته الآخر فلم يجب ثبوت شيء منه.
فإن قيل: قد ثبت القتل باتفاقهما فأقل ما فيه يوجب الدية.
قيل له: الذي ثبت هو القتل وكلامنا في موجب القتل وقد اختلفوا فيه فلم يستقر؛ لأن القتل قد يكون ولا يجب الموجب ولم يجب إلزام الدية؛ لأنها من موجب القتل الذي لم يستقر؛ لأن القتل قد يكون ولا يجب له قودولا دية، فأما إذا صدقوه ثبت العمد ووجب القود.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قتل رجلاً فجاء آخر فقتل القاتل بغير إذن ولي الدم كان ولي الدم القتيل الثاني بالخيار إن شاء قتل قاتله وإن شاء أخذ الدية فإن أخذ ديته ردها إلى أولياء القتيل الأول، وذلك أن القاتل الثاني قاتلٌ عمد فيجب أن يثبت حقه على ما مضى من أبواب القصاص يوجب استقرار الدية، فإن كان المقتول الثاني خلف مالاً يفيء بالدية حكم بالدية في ماله وإن لم يكن له مالٌ واختار وليه قتل قاتله ان له ذلك ولم يكن لولي القتيل الأول استيفاء ديته؛ لأنَّه يكون بمنزلة من قتل عمداً ثُمَّ مات فقيراً قبل أن يقتص منه فيبطل حق ولي المقتول الثاني الدية من القود والدية جميعاً لتعذر استيفاء واحدٍ منهما، فإن اختار ولي المقتول الثاني الدية حكم له بها ووجب تسليمها إلى ولي القتيل الأول؛ لأن الدية إذاحصلت صارت بمنزلة ميراثٍ تركه، ألا ترى أنَّها تقسم على حسب المواريث. (111/25)
فإن قيل: إذا لم يكن للقتيل الثاني وفاء بالدية فما أنكرتم أن لا يكون لوليه قتل قاتله بل يلزمه أخذ الدية ليوفي دية القتيل الأول.
قيل له: لأنَّه مخير بين القود والدية ولا يبطل حقه من الخيار لحق يلزم في مال قتيله؛ لأنهلا سبيل إلى إبطال حقه ليثبت حق غيره؛ ولأن حقه ثابتٌ في الخيار بين القود والدية وحق القتيل الأول غير ثابت إلاَّ أن يحصل المال ولا يبطل حقاً ثابتاً بسبب حق غيره ثابت يكشف ذلك أن من باع داراً لها شفيع واشترط البائع لنفسه خياراً لا يبطل حقه الثابت من الخيار ليثبت حقاً لم يثبت بعد للشفيع، وهذا واضح ونظائره كثيرة.
مسألة
قال: وإذا قتل الرجل وله وليان وعفى عنهأحدهما وقتله الآخر لزمه القود إن كان علم بعفو صاحبه وإن انلم يعلم بعفوه حتَّى قتله لزمه من الدية بقسطه، حكى لي من أثق بحايته من أصحاب أبي حنيفة أن مذهبه يلزمه القود إن كان علم بعفو صاحبه وعلم أنَّه ليس له أن يقتله مع عفو صاحبه ثُمَّ قتله فالأقرب أن يكون هذا مذهبنابأن القود يجب بحصول هذين العلمين، فإن يحيى عليه السلام يعتبر حصول العلم في درء الشبهات، ووجه ما ذهبنا غليه أنَّه لاحق له في دم القاتل وإنما له عليه نصيبه من الدية وإذا قتله واحال هذه وهو عالمٌ بها فهو بمنزلة من قتل أجنبياً له عليه دين ولا شبهة عليه في استباحة قتله في أنَّه يلزمه القود وذلك أن الدم لا شبهة فيه وهو نفسه لاشبهة عليه فيه، فصار القتل عمداً محضاً ويمكن أن يقاس على من قتل خطأ في أن ولي المقتول متى قتله مع المتعدي، فأما إذا لم يعلم بالعفو فإنه يدرأ عنه القصاص للشبهة وكذلك إن لم يعلم أن عفو صاحبه يسقط القصاص، فإذا سقط القصاص للشبهة الَّتِي ذكرنا وجبت وهي ما زاد على نصيبه؛ لأن مقدار نصيبه من الدية مما يستحقه فيحط من جملة الدية وقد مضى فيمواضع أن سقوط القصاص لأي وجهٍ سقط يوجب الدية. (111/26)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قتل رجلاً خطأ أو عمداً ثُمَّ علم أنَّه كان قتل أباه أو ابنه عمداً لم تلزمه دية ولا قود، وهذا إذا لم يكن له وارثٌ غيره ووجهه أنَّه بمنزلة من وطئ امرأة ثُمَّ علم أنها زوجته أو مملوكته في أنَّه لا يلزمه لهامهر ولا حد وبمنزلة من سرق من إنسان مالاً ثُمَّ علم أنَّه كان بعينه ماله وذلك أنَّه لو قتله مع العلم به لم يلزمه القود لكونه مستحقاً للدم الذي أراقه، فكذلك إذا لم يعلم؛ لأن الدم الذي أراقه كان مستحقاً في الحالين، وكذلك سبيل الوطء الذي ذكرنا والمال المسروق الذي وصفنا، فأما إذا كان له وارث غيره فالذي يقتضيه قياس قول يحيى عليه السلام أن القود يسقط وتلزمه الدية إلاَّ قسطه منها وذلك أنَّه نص على منوطئ جارية بينه وبين شريكه فلا عليه بشبهة الملك وعليه العقر في نصيب شريكه فيجب أن تكون هذه المسألة محمولة عليها؛ لأن القاتل له حق الإراقة في الدم فيكونذلك شبهة توجب درء القصاص بل هذه المسألة أوكد من شبهة الوطء؛ لانه يصح منه إراقته متى اجتمع عليه هو وصاحبه أو إن أذن له صاحبه وليس كذلك الوطء؛ لأن وطئ جارية بين شريكين لا يجوز على وجه من الوجوه كما يجوز قود أحد دم بين وارثين. (111/27)
باب القول في جنايات المماليك
إذا قتل العبد الحر عمداً وجب تسليمه إلى ولي الدم فإن شاء ولي الدم قتله وإن شاء باعه وإن شاء وهبه وإن شاء استرقه وإن شاء عفى عنه وأعتقه وله إن شاء أن يعفوا للسيد عن عبده أو يصالحه على الدية أو غيرها فإن كان القتل خطأ كان مولاهمخيراً بين أنيسلمه إلى ولي الدم وبين أن يفديه بدية جنايته فإن سلمه إلى ولي الدم كان له أن يتصرف فيه في جمع وجوه التصرف الَّتِي ذكرنا في المسألة الأولى غير القتل، أما الخطأ فلا خلاف فيه بيننا وبين أبي حنيفة وعند الشافعي أن صاحبه إن شاء فداه بجنايته وإن شاء باعه في الجناة، وأما العمد فقول أبي حنيفة إن صاحبه يسلمه القتل دون الاسترقاق إلاَّ أن يتصالحا بينهما صلحاً؛ لأن من أصله أن العمد ليس فيه إلاَّ القصاص والعفوا والصلح وتحصيل مذهبنا أن صاحب العمد يسلمه في العمد إلى ولي الدم إلاأن يعفوا ولي الدم عن الدم أو يصالحه، فإذا أسمه وملكه جاز له أن يتصرف في عبده فيه كما يتصرف في عبده إذا قتل ابنه من القتل والهبة والاستخدام أو العفوا أو العتقمع العفوا، والأصل في هذا أن جناية العبد إما أن تكون في ذمته أو في رقبته أو ذمة سيده إذ لا يجوز أن يكون هدراً ولا يجوز أن يكون في ذته؛ لأن العبد ليست له ذمة ثابتة وإنما له ذمة منتظرة ربما تحصل بالعتق وربما لا تحصل إن لم يعتق. (111/28)
فإن قي: أليس لو أقرضه مقرضٌ شيئاً ثبت في ذمته.
قيل له: لأن المقرض رضي بذمة منتظرة غير حاصلة، وليس كذلك حكم الجناية ولا يجوز أن تثبت في ذمة سيده؛ لأنَّه لم يجنها ولم يجت تحويلها إلى ذمته.
فإن قيل: أليس يثبت في ذمة العواقل ما لم يجنوا ولم يرضوا بتحويله إلى ذممهم فما أنكرتم أن يكون ذلك سبيل السيد.
قيل له: أمر العواقل بخلاف القياس إذا اكن القياس ألا يلزمهم شيء إلاَّ أنا اتبعنا فيه الإجماع والأثر وليس كذلك حال السيد، فإن الإجماع على خلاف ذلك؛ لأنَّه لا خلاف أنها تثبت في ذمته إلاَّ باختياره، فإذا بطل أن يثبت في ذمة العبد أو ذمة سيده لم يبق إلاَّ أن يثبت في رقبة العبد. (111/29)
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون ذمة العبد مثل ذمة الفقير في أنَّه يثبت فيها جناية، ألا ترى أنَّه لا يمكن استيفاؤها منه لفقره ولم يمنع ذلك من تعلق جنايته بذمته.
قيل له: الفقير له ذمة ثابتة؛ لأنَّه يصح أن يطالب بما في ذمته ويجوز حبسه إن اتهم أن له مالاً وللحاكم أن ينجم عليه الدين إن كان له كسب، وكذلك إن وهب واهبٌ له شيئاً صح أن يقضي دينه وإنما يتعذر الإستيفاء لفقره، وليس كذلك العبد؛ لأنَّه لا سبيلإلى مطالبته ولا حبسه في الدين ولا التنجيم عليه، وكذلك إن وهب واهبٌ لهشيئاً أو أوصى له بشيء لم يجز أن يقضي دينه منه؛ لأن ذلكيصير ملكاً لسيده فبان أنَّه لا ذمة له ثابتة، كما أن للفقير ذمة ثابتة ولا خلاف أن العمد يثبت في رقبة العبد، فوجب أن يكون الخطأ كذلك؛ والعلة أنَّه جناية وقعت ممن يجوز أن تستحق رقبته بالمال، فوجب أن يستوي فيه عمد الجناية وخطاؤها، وليس يلزم عليه الحر؛ لأن رقبته لا يجوز أن تستحق بالمال ولا البهيمة؛ لأن عمد جنايته لا يثبت في رقبته، وبهذين الطريقين تبين أن حكم المال في هذا الباب حكم النفس؛ لأن أصحابنا لم يفصلوا في ذلك بين المال والنفس. نص يحيى بن الحسين على ذلك في مسألة الأمة تأبق وتدعي الحرية وتتزوج، وعه أبي حنيفة حكم المال مخالفٌ لذلك، وقول أبي حنيفة في المال: هو الذي حيكناه عن الشافعي والشافعي يقول في خطأ الجناية على النفس كما يقول في المال هو وأبو حنيفة، فإذا ثبت ما قلناه من أن رقبة العبد تستحق بالجناية إلاأن يفديه مولاه بإرش الجناية وجب أن يستحقها ولي الدم عن العمد إذ لا سبيل هناك إلى الإفتكاك بالفراء، وإذا استحقها كان بالخيار بين أن يقتله قصاصاً وبين أن سترقه مكان الدية على ما سلف القول في أن ولي الدم خير بين القصاص والدية، وأما الفدية من جناية الخطأ بأرش الجناية فلا خلاف أنَّه لمولاه إن اختار ذلك وما قلناه أنَّه في الخطأ يسلم للإسترقاق دون القتل لا خلاف فيه؛ لأن الخطأ لا قود فيه. (111/30)
مسألة
قال: وإذا قتلت أم الولد عمداً سلمت للقتل دون الاسترقاق، وإن قتلت خطأ التزم مولاها قيمتها لولي الدم، وهذا إذا كانت قيمتها مثل الدية أو دون الدية، فأما إن زادت على الدية فلا يلزمه أكثر من الدية، فتحصيله أن مولاها يلزمه لولي الدم الأقل من قيمتها أو دية القتل فإنما قلنا أنها لا تسلم في القتل للإسترقاق؛ لأن رقها لا يجوز أن يملكه غير مولاها فلم يجز أن يسترقها ولي الدم، وأما الخطأ فقلنا أن مولاها تلزمه قيمتها؛ لأن حكم الرق باقٍ عليها، فوجب أن تثبت جنايتها في رقبتها والرقبة قد خرجت عن أن يكون لولي الدم استرقاقها بفعلٍ كان من المولى فصار ملواها في الحكم كأنه استهلك رقبتها على ولي الدم، فوجب أن يلتزم قيمتها له، والذي يقتضي أصول يحيى عليه السلام في تخييره بين القصاص والدية في العمد، وقوله أن لولي الدم أن يسترق العبد القاتل أن يكون له أن يطالب سيد أم الولد بالأقبل من قيمتها ودية المقتول في العمد؛ لأنَّه كان له أن يسترقها في الخطأ بالأقل من قيمتها ودية المقتول، فلما استهلك مولاها عليه رقبتهاجاز أن يطالب بقيمتها بدل الدية. (111/31)
مسألة
قال: وكذلك المدبر إذا قتل عمداً سلم للقتل دون الاسترقاق، فإن قتل خطأ التزم مولاه قيمته لولي الدم، فإن كان معسراً سلمه بجنايته مملوكاً.
اعلم أن من مذهبنا أن المدبر إذا كان صاحبه مؤسراً لم يجز بيعه وكان في حكم أم الولد فيجب أن تكون جنايته في العمد والخطأ مثل جنايات أم الولد، والوجه في ذلك ما ذكرناه، فأما إذا كان صاحبه معسراً واضطر إلى بيعة جاز بيعه وكان في حكم سائر العبيد، فلا وجه لإعادته، قال: وإن كان الجاني أم الولد وكان مولاها معسراً سعت إلى قيمتها ووجهه أن أم الولد موقوفة بعد، فيجب أن تكون جنايتها في رقبتها على ما بيناه في جناية العبيد ولزم ذلك سيدها فإن كان معسراً رجع إليها كما نقوله فيمن أعتق شقصاً له مملوكٌ أنَّه يضمن نصيب صاحبه إن كان مؤسراً؛ لأنَّه هو المستهلك له وإن كان معسراً سعى العبد في ذلك للأثر الوارد في ذلك وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم فإن كان المعتق معسراً عسى العبد في نصيب شريكه غير مشقوق عليه فصار ذلك أصلاً في كل مستهلك عبداً بالعتق أو ما جرى مجراه وهو معسرٌ ووجب فيه ضمان يتحول إلى سعاية العبد، ولأن الملوى تضمن ذلك عن العبد؛ لأن النفع حصل للعبد دون المولى، فإذا تعذر تضمينه رجع إلى العبد كما نقول أن العاقلة تحمل المال على الجاني، وإذا تعذر تحميلهم رجع إلى المتحمل عنه وهو الجاني كما أن الزوج عندنا يتحمل زكاة الفطر عن زوجته، فإذا كان تعذر ذلك رجعت إلى المرأة ويكون الذي تسعى فيه هو الأقل من قيمتها، والأرش على ما مضى القول فيه. (111/32)
مسألة
قال: وإذا قتل المكاتب خطأ لزمته دية قتيله يسعى فيها مع الكتابة وذلك أن المكاتب بعد رقيق فيجوز أن تكون جنايته في رقبته كسائر الأرقاء ثُمَّ وجدناه في يد نفسه كما كان قبل الكتابة في يد مولاه، ألا تراه يتصرف بنفسه من دون إذن سيده ويكون أولى بكسبه من سيده، وكذلك بأرش جناية إن جنيت عليه كان الذي عليه لمولاه في حكم الدين فكان هو الأولى بجنايته، ألا ترى أنمولاه لا يمكنه تسليمه، إلاَّ أن يختار هو العجز وليس كذلك أم الولد؛ لأن تسليمها لا يصح على وجهٍ من الوجوه، وتحرير القياس فيه بأن جنايته لزمته لكونه في يد نفسه، كما كانت تلزم سيده لو كان في يده، ويكشف ذلك أن العبد المغصوب لو جنى لم يلم سيده عنه شيء إذا لم يتمكن من التصرف فيه؛ لأن تسليمه قد تعذر ولا يلزمه الفداء إلاَّ باختياره، وكذلك إن مات العبد بعد الجناية قبل القضاء بطلت الجناية ولم يلزم سيده منه شيء لخروجه عن يده، فوضح بذلك صحة ما ذهبنا غليه، قال: والقول في سائر جناياتهم الخطأ كالقول في القتل الخطأ هذا هو الواجب في الجنايت على النفس فيما دون القتل، وذكلك جناياتهم على الأموال على ما بيناه فيما سلف. (111/33)
مسألة
قال: وإذا جنى العبد على جماعة فيهم الحر والمكاتب والمدبر جناية خطأ أو عمداً كان القول فيه كالقول إذا جنى على الواحد في تسليمه إلى جماعتهم أو افتدائه لا أحفظ خلافاً في ذلك، ووجهه أن لا فصل بين تعاظم الجناية أو بين كثرتها ولما ثبت أن الجناية وإن عظت فلا يختلف في أن على صاحبه تسليمه أو افتداؤه بجنايته وإن عظيمها كصغيرها فوجب أن يكون ذلك حكمها وإن كثرت وإن يكون كثيرها كقليلها.
كتاب الوصايا (112/1)
باب القول فيما تجوز فيه الوصية وما لا يجوز
الوصية جائزة لكل من أوصى له الميت سواء كان الموصى له حراً أو عبداً ذكراً أو أنثى، وارثاً أو غير وارث، إذا قبلها الموصى له، وهذه الجملة لا خلاف فيها إلاَّ الوصية للوارث، ويدل على الوصية للوارث قوله عز وجل في آيات المواريث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِيْ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، وأما الوصية للوارث فذهب عامة العلماء إلى أنها لا تجوز إلاَّ أن يجيزها باقي الورثة.
وذهب أصحابنا إلى أنها جائزة للوارث كما تجوز لغيره، وبه قالت الإمامية: والصل فيه قول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمُوتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ} فاقتضت الآية وجوبها لوالدين والأقربين، والوجوب صفة زائدة على الجواز؛ لأن معنى كتب عليكم أوجب عليكم لا خلاف فيه، ثُمَّ ثبت نسخ الوجوب بالإجماع، فبقي الجوار، فإن قيل: الشيء إذا ثبت واجباً فنسخ الوجوب، فإنه يقتضي نسخ الجواز، فيجب إذا ثبت نسخ وجوب الوصية للوالدين أن ينسخ جوازها.
قيل له: هذا فاسدٌ؛ لأنَّه إذا ثبت للشيء حكمان يصح انفصال أحدهما عن صاحبه وبقاء الآخر دونه فانتفاء ما يصح انتفاؤه مع بقاء صاحبه لا يوجب انتفاء صاحبه كالشيئين إذا كان لهما حكم واحدٌ وكان مما يصح أن ينتفي عن أحدهما دون صاحبه فانتاؤه عما ينتفي لا يوجب انتفاؤه عن صاحبه ولا فصل في هذا الباب بين ان يكون الشيء واحداً وله حكمان وبين أن يكون شيئين ولهما حكمٌ واحدٌ يكشف ذلك ما ثبت من وجوب صوم يوم عاشوراء في الأول ثُمَّ لما نسخ وجوبه لم يجب ان يكون جوازه منسوخاً، كذلك ما ذكرناه، ويدل على ذلك قوله عز وجل باب المواريث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وذلك عام في الوارث وغيره، فيجب أن تصح الوصية للوارث كما تصح لغيره.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم آية الوالدين منسوخةوآية الوصيةمع الدين مخصوصة بقوله لا وصية لوارث. (112/2)
قيل له: النسخ يجب إذا لم يمكن الجمع والتأويل وقوله لا وصية لوارث يحتمل أن يكون إلاَّ لا وصية لوارث يعني على حسبما كانوا يوصون به من قبل.
ويحتمل أن يكون المراد به فيما زاد على الثلث لئلا يقع بين الورثة بسببه الوحشة المؤدية إلىقطع الأرحام، وهذا مزية تختص الورثة لا يمتنع أن يكون تخصيصهم بالذكر من أجلها، وهذا الوجه هو الذي اعتمده يحيى عليه السلام في تأويل الخبر، وكذلك ما رواه زيد بن علي، عن علي عليه السلام من قوله: لا وصية لوارث محمولاً على هذين الوجهين.
ويمكن أن يقاس الوارث على غير الوارث بعلة أنَّه ممن تصح له الوصية فوجب أن يكون حكمه في باب الوصية حكم الأجنبي.
وأيضاً مذهب أكثر العلماء كأبي حنيفة والشافعي أنها تجوز إن أجازها بغير إجازتهم في الثلث، وما دونه باقي الورثة فيما زاد على الثلث، فوجب أن تجوز بغير إجازتهم في الثلث وما دونه دليله الأجنبي.
وأيضاً إذا ثبت أنها تجوز للوارث إذا جازه سائر الورثة فيجب أن يكون المنع منها لحق الورثة، وإذا ثبتت أن الورثة لا حق لهم في الثلث مع الميت فيجب أن تجوز الوصية للوارث؛ إذ لا يمع من جوازه لعدم ما هو التابع وهو حقوق الورثة يؤكد ذلك ما ثبت من الاتفاق بيننا وبين أبي حنيفة أن رجلاص لا وارث له لو أوصى بماله جميعاً بعض الناس أن الوصية صحيحة؛ لأنَّه أوصى بما لا حق فيه للورثة، فوجب أن يكون ذلك سبيل الوارث إذا أوصى له بالثلث، أو ما دونه؛ إذ لا حق فيه للورثة، فليس لهم أن يقولوا أنَّه في سبيل المحجور عليه فيما يتصرف الوارث فيما جرى مجرى الوصية؛ لأنهم بنوا ذلك علىأن لا تصح الوصية للوارث، والخلاف فيه وقع، وأما قبول الوصية له فلا خلاف في أنَّه شرط في تملكه ما أوصى له به، وأنه إن رده بطلت الوصية.
مسألة
قال: وصايا المسلمين لأهل الذمة جائزة وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً؛ لأن الوصية جهة يصح أن يتملك بها المسلمون بعضهم على بعض بإيجاب المالك الأول وقبول المالك الثاني كالبيع والهبة، فوجب أن يصح تملك المسلمين بها على أهل الذمة، ويملك أهل الذمة على المسلمين؛ ولأن الله تعالى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمُوتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ} ولم يشترك أن يكون الوالدان والأقربون من المسلمين أو منأهل الذمة، وكذلك قوله من بعد وصية يوصىي بها أو دين لم يفصل بين أن يكون الموصى مسلماً أو ذمياً ولا بين أن يكون الموصى له مسلماً أو ذمياً فصح ذلك. (112/3)
مسألة
قال: وللرجل أن يوصي في ماله إلى الثلث، وليس للورثة رده، فإن أوصى بأكثر من الثلث كان الأمر إلى الورثة إن شاؤوا أجازوا الزائد على الثلث، وإن شاؤوا ردوه، وهذا أيضاً مملا خلاف في، والأصل فيه حديث عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن مالك، قال: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود لي فقلت: يا رسول الله: إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلاَّ ابنتي، فأوصى بمالي كله، وفي بعض الروايات بثلثي مالي، قال: لا قلت والشطر، قال: لا قلتُ فالثلث، قال: الثلث والثلث كثيراً إنك إن تترك ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تتركهم عالة يتكففوان الناس فمنع صلى الله عليه وآله وسلم الوصية بأكثر من الثلث فاقتضى ذلك بطلانها وقصرها صلى الله عليه وآله وسلم على الثلث، فدل ذلك أيضاً على أنها لا تصح فيما زاد على الثلث، ونبه بقوله إنك إن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة على المنع لحق الورثة، فاقتضى ذلك أنهم إن جازوا الزائد على الثلث جاز وإن ردوه لم يجز
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أوصى لرجل بشؤء فمات الموصى له قبل الموصي بطلت الوصية؛ وذلك أن الوصية إنَّما تستقر بموت الموصي، وتصح، ألا ترى أنَّه في حياته له أن يرجع عنها ويتصرف فيها سائر التصرف، فإذا كان ذلك كذلك وكان الموصى له مات قبل الموصى بطلت الوصية؛ لأنها تكون بمنزلة الوصية للميت؛ لأن استقرارها وصحتها يكون بعد موته، فلم يصح أن تستقر. (112/4)
مسألة
قال: ولا تجوز وصية من لا يعقل مثل الصبي والمجنون، ونص في الأحام على أن المجنون إن كان يفيق في وقت فوصيته في وقت إفاقته جائزة، وذلك مما لا خلاف فيه؛ لأن الصبي والمجنون تصرفهما في أموالهما غير جائز، فكذلك الوصية؛ لأنها ضرب من التصرف، وأما المجنون الذي يفيق في بعض الأوقات فإن وصيته تصح في تلك الأوقات؛ لأن السب المانع من جواز تصرفه هو الجنون، فقد زال بالإفاقة، فيجب أن تصح وصيته كما يجوز سائر تصرفه.
فصل
قال يحيى في الأحكام: كل من أوصى فوصيته جائزة إلاَّ أن يكون صبياً لا يعقل كابن خمس وستٍ وسبع وما دن عشر سنين فنبه به على أن ابن العشر تجوز وصيته، وبه قال مالك، ووجهه أن لا يمتنع أن يكون قد لزمه التكلف فيما بينه وبين الله تعالى، وإذا كان قد حس تمييزه فلا يجب أن يمنعه الانتفاع بماله في آخر عمره ولو أبطلنا وصيته كنا منعناه ذلك، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم إن الله جعل الثلث في أموالكم زيادة في أعمالكم فلا يجب أن يمنع منه المراهق المميز.
فإن قيل: فلا تمنعوه سائر العقود.
قيل له: لا ضرورة في ذلك إذ غيره يقوم مقامه فيها على أنا نجيز لك منه بإذن وليه، وهذا يكون إذا أحسن الوصيةووضعها موضعها واستدل على ذلك بقول الله عز وجل: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدُ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِيْنَ يُبَدِّلُونَهُ}، وبأن يقاس على البالغ إذا كان في هذا السن بأن يقال: مميز أحسن الوصية، فوجب أن تصح وصيته وإن كان ابن عشر ولا يلزم عليه ما دون العشر بالإجماع، ولأن تمييزه لا يكاد يصح. (112/5)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أوصى بأكثر من الثلث من ماله وأجازه بعض الورثة ورده بعضهم جاز بمقدار حصة من أجازه، وهذا قد مضى وجهه إذا قد بينا أن منع الموصي من الوصية بأكثر من الثلث لحق الورثة وأجازتهم جائزة؛ لأنَّه إسقاط حق لهم لا يتعلق به إسقاط حق غيرهم وآحادهم في هذا كجماعتهم، هذا مما لا خلاف فيه.
مسألة
قال: ولو أنَّه استأذنهم في أن يوصي بأكثر من الثلث فأذنوا له في ذلك وأجازوه جازت الوصية ولم يكن لهم أن يردوها بعد موته، ووجهه ما بيناه من أن المنع من الوصية بأكثر من الثلث إنَّما هو لحق الورثة، فإذا رضوا بإسقاط حقهم جرى مجرى الوصية في الثلث في أنَّه وصية بما لا حق فيه للورثة أو يجزي بجميع مال ولا وارث له في أنَّه يصح؛لأنه وصة فيما لا حق للوارث فيه وأيضاً قد ثبت أنَّه ممنوع من الوصية لحق الورثة بأكثر من الثلث، فإذا جازوه جازت الوصيةوخرج الموصي من أن يكون ممنوعاً بالشرع فأشبه الوصية بالثلث في أنها وصية وقعت وهي جائزة في الشرع، فوجب أن تستقربالموت، وهذا هو رواية الأحكام، وبه قال ابن أبي ليلى وعثمان البتي، وعن مالك أنهم ليس لهم الرجوع إن كان استأذنهم في حال المرض وإن كان استأذنهم وارثٌ ليس في عياله ونفقته فجعل للمن هو في عيالهالرجوع ولم يجعله للبائن عن، وقال يحيى بن الحسين عليه السلام في الفنون فهم الرجوع بعد موت الموصي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي، وبه أقول،ووجهه أن حق الورثة لم يستقر بعد، وما يمنع المريض منه إنَّما يمنع للمال، ألا ترى أنَّه إن تصرف في ماله أي تصرفٍ كان ثُمَّ عوفي كان ذلك ممضي ولم يجب رده إلى الورثة فأشبه الشفعي يسلم الشفعة قبل وقوع البيع في أن له الرجوع فيما سلم بعد البيع؛ لأنَّه سلم حقاً لم يستقر له بعد فوجب أن يكون له الرجوع بعد الإستقرار، وذكلك البراءة من الرد بالعيب لا يؤثر قبل البيع، وكذلك إبطال خيار الثلث قبل البيع لا يصح ويشهد لقياسنا الأمة تختار زوجها قبل العتق، ألا ترى أن لها ترجع عن ذلك وتختار نفسها بعد العتق؛ لأن الي كان منها كان إبطال حق لها لم يستقر، فكذلك ما ذهبنا غليه. (112/6)
فإن قيل: لولا استقرار حق الورثة لم يمنع المريض من أن يوصي بأكثر من الثلث.
قيل له: قد بينا أن ذلك المنع إنَّما هو للمال، ألا ترى إلى ما روي في الشفعة ولا يبيع الشريك قبل أن يأذن شريكه فمنع من البيع قبل أن يعلمه، ولكن لما كان ذلك للمال لم يؤثر تسليم الشفعة قبل البيع، كذلك مسألتنا على أنا قد علمنا أن الموصي أولى بالمال من الوارث، ألا ترى أنَّه يتصرف فيه وهو مالك له في الحقيقة، والوارث غير مالك ولا له شيء من التصرف، فإذا جاز للموصي أن يرجع فيما أوصى ما دام حياً مع تأكيد حاله فأولى أن يجوز للورثة الرجوع من الإجازة. (112/7)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً عليلاً أصمت فقيل له: اعتق عبدك أو أوص بكذا فأشار برأسه إشارة تفهم أنَّه يريد ذلك جازت الوصية إذا علم أن عقله ثابتٌ وذلك أنَّه لا يصح منه في تلك الحال إلاَّ الإشارة مع اضطراره إلى الوصية قياسه الأخرس.
فإن قيل: فالأخرس يجوز سائر عقوده وإيقاعاته، فهل يجيزون جميع ذلك للعليل بالإشارة.
قيل له: لا يجيز ذلك؛ لأن العليل إنَّما يضطر ي تلك الحال إلى الوصية والأخرس يضطر إلى جميع ذلك على أنَّه ليس يعد أن نقول على قياس قول يحيى أنَّه إن اضطر إلى غير ذلك جاز ذلك بالإشارة يوضح ذلك ما روي أن يهودياً عدا على جارية فأخذ أوضاحها ورضخ رأسها بين حجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: <أقتلك فلان لغير ذلك اليهود فأشارت برأسها لا ثُمَّ قال ففلان لآخر، فأشارت برأسها لا، ثُمَّ قال: ففلان يعني قاتلها، فأشارت نعم، فأمر به صلى الله عليه وآله وسلم فرضخ رأسه بين حجرين فجعل صلى الله عليه وآله وسلم إشارتها بنعم بعد ما يعرف تمييزها دعوى، ويدلعلى ذلك حديث أمامة بنت أبي العاص حكى الطحاوي نحو قولنا عن الليث.
مسألة
قال: وللعلين أن يهب من ماله ما شاء ويعتق من مماليكه من أحب ما دامت العلة خفيفة، فإذا اشتدت العلة وخف عليه لم يجز من ذلك إلاَّ مقدار الثلث، وهذه الجملة مملا لا أحفظ فيها خلافاً؛ لأن خفيف العلة لا إشكال في أن حكمها حكم الصحة؛ لأنَّه لا يخاف منه الموت سبيله سبيل الصحة كالفالج والشلل والنقرس، فالاعتبار بخوف الموت، ونص الطحاوي على الفالج والشلل أنهما بمنزلة الصحة، فإذا كات العلة مما يخاف منها الموت فيجب أن يراعى فيما يأتيه الثلث. (112/8)
مسألة
قال: وكذلك الحامل لها ذلك في أول الحمل، فإاذ تجاوزت ستة أشهر لم يجز لها إلاَّ الثلث، وكذلك من زحف للحرب له ذلك ما لم يصافَّ عدواً أو يباشر قتالاً، فإذا كان ذلك لم يجز فعله إلاَّ في الثلث، قال: أبو حنيفة والشافعي في الحالم أنها بمنزلة الصَّحيح حتَّى يضربها الطلق ثُمَّ تكون في حكم المريض، وقال أبو حنيفة: من بارز رجلاً أو قدم ليقتل في قصاص أو ليرجم للزنا فهو بمنزلة المريض، وقول مالك والليث مثل قولنا كل ذلك حكاه الطحاوي في اختلاف الفقهاء، وحكي عن ابن الميسب أن الحامل والغازي تصرفهما من الثلث، وعن ابن حي والثوري <إذا التقى الصفان فما صنع فهو وصية> والذي تيدل في الحامل على ما قلنا قول الله عز وجل: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حِمْلاً خَفِيْفاً فَمَرَّتْ بِهِ..} الآية ففصل بين حال أول الحمل وآخره، فوصف الأول بالخفة والآخر بالثقل، فدل ذلك على اختلاف حكمهما ولم يفصل أحد بينهما إلاَّ بما ذكرناه، والأصل في هذا الباب ما ثبت من أن العلة الخفيفة بمنزلة الصحة والثقيلة منها بمنزلة المرض، ولم يكن الفاصل بينهما إلاَّ أن ما يخشى عليه الموت من عارض عرض في مدة قريبة يكون حكمه حكم المرض المخوف ومن لم يكن كذلك يكون في حكم الصحيح، وقد ثبت أن من تجاوز ستة أشهر يخاف عليها الموت من الحمل في مدة قريبة، فأشبه من ابتدئ به البرسام أنَّه عرض له عارض يخاف عليه الموت في مدة قريبة. (112/9)
فإن قيل: ولم قلتم أنَّه يخاف على الحامل بعد ستة أشهر الموت في مدة قريبة.
قيل لهك لأن بينها وبين الوضع المتعاد أقل من ثلاثة أشهر، وهذه المدة قريبة؛ لأن كثيراً من الأعلال المخوفة قد تمتد هذا القدر وليس كذلك الفالج والنقرس؛ لأنهما يمتدان بصاحبهما سنين عدة، فوجب أن يكون ذلك حكم القريب، وكذلك من صاف للحرب أو باشر قتالاً لا يخاف عليه لعارضٍ عرض الموت في مدة قريبة فأشبه المبرسم، ويمكن أن يقاس ذلك مع أبي حنيفة على من بارز أو قدم ليقتل وليس لأصحاب أبي حنيفة أن يقولوا لا يجب الفصل بين أول الحمل وآخره؛ لأنهم فصلوا بين حالتي المحكوم عليه بالقتل المحارب إذا حضر الوقعة بل الصف، وإذا بارز وفصلوا بين حالتي المحكوم عليه بالقتل إذا حكم عليه به، وإذا قدم ليقتل قال: وكل ذلك إذا لم يجزه الورثة، وهذا قد مضى فيه ما يغني عن الإعادة. (112/10)
مسألة
قال: وإذا مات الرجل بدي بما يحتاج إليه من التكفين والدفن ثُمَّ بالدين إن كان عليه ثُمَّ بالوصية، وهذه الجملة مما لا أحفظ فيها خلافاً؛ لأن الكفن والدفن مملا با بد للميت منه كستر العورة، وشد الجوعة للحي، فكما أن الحي إن كان عليه ديون تستغرق ماله فمقدار ما يستر عورته ويسد جوعته مستثنى منه، كذلك الكفن والدفن؛ لأنَّه مما لا بد له منه، الدين أولى بالتقدم من الوصية؛ لأنَّه واجبٌ في ماله، ولهذا لو استغر ماله لم يرثه الورثة، والوصية أصلها التطوع والتبرع، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي علهيم السلام، قال: لا وصية ولا ميراث حتَّى يقضي الدين.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أوصى لعبده بثلث ماله جازت الوصية، وعتق هو منها، فإن كات قيمته زائدة على الثلث سعى في الزائد، وإن كان الموصي لا مال له سواه سعى في ثلثي قيمته، وذلك أن الموصى له لا يستحق أكثر من الثلث، والعتق لا يصح يه التبعيض على ما نص في كتاب العتق، فلا بد من بت عتقه ثُمَّ يجب ألا يزيد الحاصل له على ثلث تركة الميت، فيسعى على ما بيناه وأظن الشافعي يبطل الوصية.
مسألة
قال: ولو أنَّه أوصى لمساكين معروفين معدودين وجعل عبده في الوصية كأحدهم جازت الوصية لهم جميعاً وعتق العبد بحصته وسعى العبد باقي قيمته إن زادت القيمة على حصته، ووجهه أنَّه مالك العبد حرٌ من نفسه معلوماً، فأوجب ذلك عتقه؛ لأن العبد لا يملك نفسه على حدٍ ما يملكه سيده وإنما ملكهنفسه هو عتقه، فإذا وجب عتق بعضه وجب عتق سائره؛ لأن العتق لا يتبعض وواجبنا السعاية إن زادت قيمته على قدر حصته؛ لأنَّه حق للورثة، وهذا قد مضى تفصيله في كتاب العتق، قال: وإن أصى لمساكين غير معدودين وجعل العبد كأحدهم بطلت وصية العبد، ووجهه أن الوصية لا تعين في شيء بعينه؛ لأن للورثة أن يخرجوا الثلث من أي موضع شاءوا فلا يحصل للموصي لهم شركاً في التركة، فلم يجب أن يملك العبد حراً من نفسه وليس كذلك إذا أوصى بثلثه لقومٍ معدودين بأعيانهم؛ لأنهم يصيرون شركاء في التركة، فإذا كان العبد معهم كأحدهم صار هو أيضاً في التركة فصار شريكاً في نفسه، ووجهه بطلان الوصية للعبد أنَّه ليس بأحد بالفقر، ووصية مجهولة؛ لأنها غير معلومة أنها وصية بماذا، وحكى مثل هذا القول عن عطاء في اختلاف الفقهاء، قال أبو حنيفة والشافعي في مثله: يعطى الورثة ما شاؤوا أو شبهوه بمن أقر أن لفلان عليه شيئاً أنَّه يفسره بما شاء وبينهما فرق، وذلك أن الإقرار خبرٌ عن أمرٍ ثابتٌ وليس هو تثبيت وإيجاب، وإذا وقع مجهولاً قيل له: فسر فإنك قد أقرت على الجملة بأمرٍ ثابت، والوصية شيء مجهولٌ هو تثبيت حق مجهول لا ندري ما هو، فوجب أن تبطل، وهكذا يجيء على قول يحيى بن الحسين عليه السلام لو قال: أوصيت لك بسهم من مالي أنَّه يكون باطلاً. (112/11)
فإن قيل: الوصية بالمجهول جائزة؛ لانه إذا أوصى بثلث ماله أو بربع ماله فيجوز أن لايكون عالماً بماله كله فيكون ذلك وصية بالمجهول.
قيل له: ليس ذلك وصية بالمجهول؛ لأنَّه يمكنه أن يعلم في الثاني، ألا ترى أنا نجوز مثله في البيع برأس المال، وإن لم يكن ذلك معلوماً في الحال؛ لأنَّه مما يصح أن يعلم في الثاني، ولا خلاف أنَّه لا يجوز البيع بشيء غير مسمىً على أن الوصية تمليك كالهبة والبيع فوجب أن لا يصح بالمجهول قياساً على البيع والهبة. (112/12)
مسألة
قال: وكل من أوصى بوصية فله أن ينقضها ويثبتها ويزيد فيها وينقص، وذلك مما لا أحفظ فيه خلافاً؛ لأن الوصية موقوفة إلى أن يقبلها الموصي له بعد موت الموصي فحينئذٍ تستقر، فأما ما دام الموصي حياً فهي موقوفة والتمليك الموقوف يجوز فسخه كالبيع والنكاح وغيرهما فكانت الوصية بذلك أولى، وأما تثبيتها فليس هو إلاَّ الاستمرارعليها والزيادة فيها كوصية مستأنفة، فوجب أن تكون صحيحة، والنقصان فهو رجوع في بعضها وفسخ له فوجب أن يصح ذلك كما صح في الكل.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أوصى بوصية في صحته أو مرضه ثُمَّ أوصى بعد ذلك بمدة قصيرة أو طويلة بوصية أخرى ولم يذكر الأولى بنقضٍ ولا إثبات كانت الوصيتان ثابتتين، وهذا أيضاً مملا لا أحفظ في جملة خلافاً وإن كان قد اختلف فيما يكون رجوعه عن الأولى أولاً يكون رجوعاً عن الأولى، وذلك أنَّه إذا لم يرجع عن الأولى فالثانية وصية مستأنفة فوجب أن تصح كالأولى.
مسألة
قال: وقال القاسم عليه السلام: لو أن رجلاً أوصى بأكثر من ثلث ماله وأجازه الورثة من غير أن يعلموا أنَّه أكثر من الثلث فلهم أن يرجعوا في الزائد على الثلث.
اعلم أن هذا مما يجب حمله على أن المراد فيما بينه وبين الله عز وجل؛ لأنَّه إذا علم أنَّه لم يجزه ما زاد على الثلث لم يلزمه، ألا ترى أنَّه لو لفظ فقال: قد أخرت منه مالم يتجاوز الثلث لم يلزمه ما تجاوزه ومن حكم النية أن تؤثر في اللفظ كما يؤثر فيها اللفظ، ألا ترى أنَّه لا فرق بين أن يلفظ بعموم يريد به الخصوص وبين أن يستثني ما أراد تخصيصه من جهة اللفظ، فإذا ثبت ذلك صح أن الذي يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى هو الذي نواه، وهذا كما يقول فيمن نادى امرأة من نسائه فأجابته أخرى فقال لها: أنت طالق، أن المطلة هي الأولى؛ لأنها هي المقصودة بالطلاق. (112/13)
فإن قيل: هذا يخرج الإجازة من أن يكون لها حكمٌ؛ أن ما لم يرزد على الثلث جائزٌ، وإن لم يجزه.
قيل له: هذا وإن كان كذلك فلا يجب أن يلزمه ما لا يلزمه، وقد علمنا أن النية في حكم اللفظ في معنى الاستثناء والتخصيص، فإاذ ان هذا هكذا فسبيله سبيل من قال: أجزته إلى الثلث في أن هذا القول وإن لم تكن له فائدة فلا يلزمه ما زاد على الثلث، كذلك ما ذكرناه على أنَّه يجوز أن يكون لإجازته فائدة؛ لأن الموصي لو أوصى بالثلث أو ما فوقه واشترط في أصل الوصية إجازة الوارث كانت الإجازة حكم، فأما في ظاهر الحكم فيجب أن تلزمه الإجازة إذا أطلق القول؛ لأنَّه عم وعمومه يلزمه يظاهر الحكم، وهذا كما نقول فيمن لفظ بالطلاق معرباً لفظه عن القصد أن الطلاق لا يلزه فيما بينه وبين الله تعالى وإن حكم علهي به في الظاهر.
مسألة
قال: وإذا أوصى الرجل بشيء من ماه فتله الموصى له بطلت الوصية، وهكذا ذكره في المنتخب، وذكر فيه أنَّه إن ضربه ثُمَّ عفى المضروب عن الضارب ومات من الضربة إن عفوه تكون وصيته من الثلث، والأقرب، واللهأعلم أن تحصيل مذهبه الفرق بين أن يكون القتل عمداً أو خطأً فكأنه أبطل الوصية لقاتل العمد وأجازه القاتل الخطأ كما ذهب إليه في الميراث؛ لأنَّه منعه قاتل العمد وورث قاتل الخطأ، وقال لا بد من الفرق بين العمد والخطأ، والأصل في ذلك ما روى الجصاص في شرح الطحاوي عن عاصم، عن زر، عن علي عليه السلام، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ليس لقاتلٍ وصية، وروى زيد بن علي، عن ابيه، عن جده، عن علي عليهم السلام موقوفاً: <لا وصية لقاتل>. (112/14)
فإن قيل: فهذا يوجب أن لا وصية للقاتل عمداً أو خطأ؛ لأنهما لم يفصلا.
قيل له: قد علمنا أن ذلك جارٍ مجرى العقوبة للقاتل، وقد علمنا أن المخطئ لا عقوبة عليه، ولهذا قال أبو يوسف أن الورثة لو أجازوها لم تجز، ويدل على أن قاتل العمد لا وصية له أنَّه لا إرث له، فوجب أن تكون الوصية كذلك، والعلة أنَّه مال يستحقه بالموت، فكل مال يستحقه بالموت فقتله المستحق عليه عمداً على وجهٍ يأثم فيه يوجب سقوطه على أن الإرث أوكد من الوصية لدخوله في ملك الوارث بغير اختياره، والوصية لا تدخل في ملك الموصى له إلاَّ باختياره أو اختيار من يقوم مقامه، فإذا سقط الأوكد بقتل العمد وجب سقوط ماهو دونه، وقدثبت عندنا أن قاتل الخطأ لا يبطل حقه من الإرث، فكذلك حقه من الوصية، والأولى على قول يحيى عليه السلام أن لا يجوز وإن أجازه الورثة كما ذهب إليه أبو يوسف؛ لأنَّه منع لا لحقالوارث بل على سبيل العقوبة وحكى الطحاوي في اختلاف الفقهاء عن مالك أنَّه قال: إذا كانت الجناية متقدمة على الوصية ومات من تلك الجناية فالوصية صحيحة للعامد والمخطئ في المال والدية إذا علم ذلك منه، وإذا كانت الوصية متقدمة ثُمَّ قتله الموصى له فالوصية لقاتل الخطأ يجوز في ماله دونديته، وقاتل العمد تبطل وصيته في المال والدية، والأصح عندي من مذهب يحيى وظاهر ما يدل عليه قوله الفق بين تقدم الجناية أو تقدم الوصية؛ لأنَّه سئل عن رجل ضرب رجلاً بسيف فعفى المضروب قبل أن يموت، فقال عفوه وصية يجوز من الثلث وبعيد أن يكون يكون أراد به المخطئ لأن من يضرب غيره بالسيف يبعد أن يكون مخطئاً فإجازته إنَّما هي لتقدم الجناية على ظاهر قوله: وسئل أيضاً عن رجلٍ أوصى لرجلٍ بثلث ماله ثُمَّ قتله، قال: لا تجوز له الوصية؛ لأنها لا تجوز للقاتل فأبطل الوصية لما تأخرت الجناية وتقدمت الوصية فيجب أن يكون ظاهر مذهبه ما ذكرناه، ووجهه أن إبطال الوصية عقوبة، فإذا أوصى بعد الجناية فكأنه عفى له عن هذه العقوبة فيجب أن تصح الوصية إذاً لزوال السبب الموجب لإبطالها (112/15)
ويحتمل الأخبار الواردة في هذا الباب عن علي من أوصى له ثُمَّ قتل. (112/16)
فإن قيل: فما تقول فيمن أوصى لرجلٍ ثُمَّ جرحه الموصي له فعفى المجروح هل تكون وصيته صحيح.
قيل له: لا تصح وصيته؛ لأنَّه حين جرح أبطل وصيته متى كان جرحاً يؤدي إلى التلف فعفوه بعد ذلك لا يعيد الوصية إلاَّ أن يستأنف الموصي الوصية فتصح له فعلى هذا يجب أن يجري هذا الباب والله أعلم.
مسألة
قال: ووصية المكاتب جائزة على قدر ما أدَّى من الكتابة وذكرنا فيه ما ورد فيه من الأخبار الدالة على ما قلناه مما لا طائل في إعادتها، فإذا ثبت ذلك ثبت أن وصيته يجب أن تنفذ على قدر ما أدَّى من مال الكتابة؛ إذ هو في ذلك جارٍ مجرى الحر.
باب القول في الوصي وما يجوز له فعله
ولو أن رجلاً أوصى إلى رجل بوصية فقبلها ثُمَّ أراد الخروج منها في حياة الموصي جاز له ذلك وإن قبلها الوي في حياته وأراد الخروج منها بعد وفاته لم يكن له ذلك، وكذلك إن أوصى إلى غائب فله أن لا يقبلها حين يبلغه، فإن قبلها حين تبلغه وأراد الخروج بعد ذلك لم يكن له، وتحصيل هذه الجملة أن الوصي إذا قبل الوصية فليس له الخروج منها إلاَّ في وجه الموصي لهذا، قال إن الغائب لم يجز خروجه منها إلاَّ في وجه، ولهذا قال أن الموصي إذا مات لم يجز خروج الموصي من الوصية؛ لأنَّه لا يجوز خروجه منها إلاَّ في وجهه، ولهذا قال إن الموصى به قال أبو حنيفة وأصحاب، وذهب الشافعي إلى أنَّه يجوز خروجه منها متى شاء على جميع الأحوال في حال الحياة للموصي وبعد موته، وفي وجهه ومع غيبته، فأما ما يدلعلى أنَّه لا يجوزخروجه منها بعد وفاته فهو أنَّه يتصرف فيها بحكم الولاية فأشبه الأب والجد في أنَّه لا يصح منهما إخراج أنفسهما من الولاية، ويدل على ذلك المتكفل بالبدن والضامن للمال؛ لأن واحداً منهما لا يصح له الانفراد بإخراج نفسه مما دخل فيه، والعلة أنَّه لزمه حق للغير بدخوله فيه، فلا يجوز له التفرد بإخراج نفسه منه، ألا ترى أنَّه لزمه حق الميت وحق الصغار من ولده، فوجب ان لا يصح خروجه مع الغيبة منها لهذه العلة وليس يصح الاعتراض على ذلك بالوكيل؛ لأن الوكيل لا يصح خروجه من الوكالة عندنا إلاَّ بمحضرٍ من الموكل، فالوكيل والوصي في هذا سواء، وثبت ما ذكرنا أولاً من أنَّه لما ان متصرفاً بالولاية ولم يكن هناك من يولى من جهته أنَّه لا سبيل له إلاَّ أن يعزل نفسه وحاله في ذلك حال الإمام أنَّه لما اكن تصرفه بالولاية لم يصح منه أن يعزل نفسه، فأما خلفاؤه فيجوزأن يلحقوا به في هذا الحكم ويجوز أن يفرق بينه وبينهم بأن يقال إن للخلفاء أن يولوا من جهته وهو الإمام فيجب أن يصح منهم عزل أنفسهم في وجهه كالإمام والأب والجد. (112/17)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أوصى إلى رجلين أو ثلاثة رجال غيب، فلما بلغتهم الوصية قبلها الواحد وأباها الباقون كان القابل منهم وصياً في جميع المال ووجهه ما بيناه أنَّه يتصرف بحكم الولاية فأيهم ثبت له الولاية صح أن يتصرف في جميع المال كالمرأة يكون لها إخوان غير بالغين فأيهما بلغ كان له أن يتصرف في إنكاحها بحكم الولاية. (112/18)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أوصى إلى رجلين بأولادٍ له صغار وكان له وعليه دينٌ وعنده ودائعٌ فلا بأس لأحد الوصيين أن يقوم بذلك كله دون الآخر إذا حضر هو وغاب الآخر، وكلما فعله من ذلك فهو جائزٌ ما لم يتعمد الحق، وبه قال أبو يوسف، وقال أبو حنيفة ومحمد والشافعي: ليس ذلك لأحدهما دون صاحبه، قال أبو حنيفة: ليس لأحدهما أن يشتري شئاً إلاَّ الكسوة والطعام للورثة إذا كانوا صغاراً، وقال أبو حنيفة لأحد الوصيين أن يبتاع الكفن للميت، وعن محمد أنَّه قال: ليس له ذلك إلاَّ في ستة أشياء: في شراء الكفن للميت وقضاء ديونه وإنفاذ وصيته فيما أوصى به من صدقة أو نحوها أو شيء ان لرجلٍ بعينه وفي الخصومة للميت في ماله من الحقوق قبل الناس وشراء الطعام والكسوة لصغار الورثة، والأصل في هذا أنَّه يتصرف بحكم الولاية فيجب أن يجوز تصرف أحدهما دون صاحبه كالمرأة إذا كان لها وليان أو أولياء عدة وكالقاضي يستخلف على البلد خليفتين أو ثلاثة، ألا ترى أنَّه لا خلاف أن يجوز لكل واحدٍ منهم أن يتصرف دون صاحبه لما كان تصرفه بحكم الولاية، فكذلك الوصيان والأوصياء، فإن ألزموا عليه الوكيلين في أنَّه لا يصح تصرف أحدهما دون صاحبه لم يلزم ذلك أن الوصي متصرف تصرف الولاة، ألا ترى أنَّه يتصرف مع انقطاع أمر الموصي وليس كذلك الوكيل؛ لأنَّه يتصرف بأمر الموكل وتبطل ولايته بموت الموكل لانقطاع أمره وأيضاً لا خلاف أن الوصي يتصرف على الصغير في وجوه التصرف الَّتِي لم ينص له عليها كالبحارات وما أشبهها أو كاستيفاء حقوقه وإيفاء ما يلزمه من الحقوق
وغير ذلك، ففكان تصرفه بتصرف الولاة أشبه منه بتصرف الوكلاء، ألا ترى أن الوكيل لا يتصرف إلاَّ فيما ينص عليه له أو كان في حكم المنصوص فوجب أن يفارق حكم الوصي حكم الوكيل على أن من مذهب أبي حنيفة أن للوصي أن يوصي وليس للوكيل أن يوكل وعلته في الفرق بينهما أن تصرف الوصي تصرف الولاية وليس كذلك الوكيل، فكذلك ما اختلفنا فيه. (112/19)
فإن قيل: إن الميت لم يرض برأي واحدٍ فلا يجوز تصرفه.
قيل له: هذا منتقض بشراء الطعام والكسوة للصغير وشراء الكفن للميت وسائر ما أجازوا تصرفه على أنا لسنا نسلم ذلك ونقول أن الميت رضي برأي كل واحدٍ منهما أولياء يصنع الأمر إن غاب أحدهما كما يقول ذلك في القاضي إن استخلف في البلد خليفتين.
فإن قيل: في شراء الطعام والكسوة للصغير وشراء الكفن للميت أنَّه ضرورة فلم يجز فيه الانتظار لأحدهما دون صاحبه.
قيل له: هذا لا يعصم من النقض على أنا نقول لهم أن أحد الوصيين إذا انفرد صار عندكم في حكم من ليس بوصي من الأجانب في أن تصرفه لا يصح، وإذا كان كذلك وجب أن يستوي فيه حال ما تدعوا الضرورة إليه وما لا تدعوا مما ذكرتم، ألا ترى أن الأجنبي يستوي حاله في ذلك على أن الخصومة عن الميت مما لا ضرورة في تأخيرها، وقد أجازوها لأحدهما، وهذا نقض ظاهر، وحكى ابن أبي هريرة أن الميت لو أوصى إلى كل واحدٍ منهما بانفراده فمات أحدهما كان للآخر أن يقوم به فيلزم على هذا إذا قال قد أوصيت إليكما إن يصح انفراد كل واحدٍ منهما؛ لأن كل واحدة من اللفظتين يقتضي الوصية إلى كل واحدٍ منهما، وذكر الانفراد هو ضرب من التأكيد إن أوصى إليهما في لفظة واحدة واشترط الإنفراد، وإن كان الإيصاء إلى كل واحدٍ على الإنفراد فلا فصل بين ذلك وبين الإيصاء إليهما معاً؛ لأنَّه لا فرق بين ذلك، ألا ترى أنَّه لا فرق بين أن يقول لزيدٍ علي درهمٌ ولعمرو علي درهمٌ وبين أن يقول لزيد وعمرو علي درهمان وكذلك لا فصل بين أن يقول: بعتك هذا العبدين، ولهذا نظائرٌ كثيرة. (112/20)
مسألة
قال: ولهما أن يبيعا ما كان للميت لإنفاذ وصيته، فإن كان للميت ورثة كبار لم يكن لهم بيع العقار والضياع من مال الميت إلاَّ مأمرهم، ومعناه أن العقار والضياع مما يتعلق بهما من الأعراض ما لا يتعلق بسواهما، فمتى بذل الورثة ما يكون فيه وفاء بالوصية كانوا أولى بتركة الميت ولم يكن للوصي أن يقتات عليهم في ذلك، وهذا مملا لا أحفظ فيه خلافاً، فأما إذا لم يبذل الورثة ذلك فللوصي بيع ما يمكن به إنفاذ الوصية وصية الميت رضي الورثة أم أبوا لا خلاف في ذلك.
مسألة
قال: وليس للوصي بيع شيء من أموال الأيتام إلاَّ لضرورة وتجرٍّ لمنفعتهم وحسن النظر لهم، وإن باع لا على هذا الوجه كان للأيتام إذا بلغوا نقض البيع ووجهه أنَّه لا ولاية للوصي على اليتيم إلاَّ فيما يؤدي إلى الصلاح والغبطة لهم، فأما ما يؤدي إلى خلاف ذلك فلا ولاية للوصي فيه عليه، ألا ترى أنَّه لا خلاف أنَّه لو باع ماله بوكس لا يتغابن بمثله كان ذلك مفسوخ، أو كذلك لو أجر غفارة بوكسٍ لا يتغابن الناس بمثله وجب فسخه، وكذلك لو أنفق عليه من ماله ما زاد على قدرِ حاجته على وجهٍ يؤدي إلى الإضاعة كان ضامناً فبان به صحة ما قلناه من أن ولايته عليه إنَّما هي فيما يؤدي إلى صلاحه وغبطته، فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ما ذكرناه في بيع أموالهم على ما قلناه من أنَّه متى لم يتجر به نفعه وحسن النظر له وجب فسخه ونقضه. (112/21)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً مات وخلف أولاداً صغاراً وكباراً ولم يوصِ فجعل بعض السلاطين الظلمة أمر الصغار إلى بعض الكبار، وجعله وصياً عليهم جاز ذلك، هذا مبني على أن الولاية تصح بتولية الظلمة إذا كان المولى ممن يصح للولاية.
وبه قال أكثر العلماء، وقد نبه يحيى بن الحسين على ذلك بما ذكر أيضاً في الأحكام من قوله: يقر من أحكامهم ما وافق الحق وإلى نحو ذلك أشار أ؛مد بن عيسى فيما حكاه عنه محمد بن منصور في جامعه.
ووجهه ما صح من عدة من الصالحين الفضلاء أنهم تقلدوا القضاء من جهة الظلمة في أيام بني أمية وبني العباس ولم ينكر ذلك عليهم غيرهم من أهل الفضل والصلاح من انتشار ذلك وظهوره، فصار ذلك إجماعاً.
وقد قيل أنَّه يحتمل أن يكونوا تقلدوا برضى جماعة من المسلمين فتكون ولايتهم من قبل المسلمين لا من قبل الظلمة ويكون الظلمة لهم في حكم المعينين والأعضاء، وظاهر الحال بخلاف ذلك؛ لأنَّه لم يرو عن أحدٍ منهم أنَّه فعل ذلك بتحصيل رضى المسلمين وبأمرهم، وكان الظاهر أنهم تصرفوا بتولية الظلمة لهم، والأمر المحتمل لا يعترض به على الأمر الظاهر، كيف ولم يرو عن أحدٍ من المسلمين الذين كفوا عن النكير عليهم أنهم استبحثوا عن أحوالهم في رضى المسلمين بهم؛ ولأن الكف عن النكير عليهم كان بعد ذلك فلم يجب صرف الأمر إلى ذلك الوجه. (112/22)
على أني لا أمتنع أن يكون في رضى المسلمين ممن يتولى من جهة الظلمة ضرباً من الاحتياط، وأنه هو الأولى، والذي اختاره ليكون أبعد من الخلاف وأقرب إلى الوفاق في عدد الجماعة من المسلمين الذي يرضون به ويولونه أن يكونوا خمسة، فقد نص في الأحكام في أن أقل من يحضر حد الزنا خمسة، الإمام والشهود الأربعة، وأحدهم يجلد وتأول على ذلك قول الله عز وجل: {وِلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ}، وإليه ذهب أبو علي الجبالي في عدد الذي يعقدون الإمامة وهو أكثر ما قيل فيه، وكان أبو علي يعتمد لذلك بيعة أبي بكر؛ لأنها وقعت يوم وقعت من خمسة ويعتمد أيضاً حكم أمر الشورى، وإذا اختلف الناس في العدد فمن قائل أنها تنعقد بواحدٍ وآخر، قال أنها تنعقد باثنين، وكان الخمسة أكثر ما قيل كان ذلك مجمعاً عليه، فوجب أن يكون هو الصَّحيح؛ إذ مجمع عليه وما دونه لا دليل عليه.
مسألة
قال: وإذا خرج رجلان في السفر فمات أحدهما، ولم يكن أوصى إلى الآخر جاز له أن يكفنه تكفيناً وسطاً، فإن أشرف في التكفين ضمن الزائد على الوسط، ووجهه أنَّه يحصل له ضربٌ من الولاية فيتلك الحال، ألا ترى أنَّه يتعين عليه فرض دفنه وتكفينه، فأشبه الوصي؛ لأن فرص الدفن والتكفين متعينٌ عليه؛ ولأن الدفن إذا وجب عليه فرضه لم يلزمه ذلك من ماله، فإذا لم يلزمه ذلك في ماله ثبت أنَّه يلزمه في مال الميت، وإنما قال الوسط؛ لأنَّه الأصل في جميع ما جرى هذا المجرى، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: <خير الأمور أوسطها>، وقال في مهر المثل: <وسط لا شطط فيه ولا وكس> فصار الوسط أصلاً في مثل هذه المواضع؛ ولأن ما زاد سرف وما نقص منه تقصير، فإذا ثبت ذلك فيما زاده على الوسط يكون إضاعة فيجب أن يضمنه؛ لأنَّه يكون مضيعاً بذلك القدر على الورثة، قال: ومقدار ما يجوز له التكفين أن يكون سببها بنصف العشر أو نحوه، وليس ذلك حداً محدوداً لا تجوز مجاوزته ولا القصور عنه، بل الواجب فيه بحسب الحال والزمان والغلاء والرخص، وبحسب المال في القلة والكثرة، وبحسب الاجتهاد، وإنما قال يحيى بن الحسين؛ لأنَّه عمن كان معه مائة دينار فمات، فقال: يكفن بنحو نصف العشر؛ وذلك يكون خمسة دنانير، ولعله رأى أن ذلك القدر هو الواجب بحسب ما عرف من حال أجرة الحافر وكم يوارى به، ويحيط في ذلك الزمان وذلك المكان، وليس يجب أن يحمل على ذلك لو ترك عشةر آلاف دينار ولا أن يحمل عليه لو ترك مائة درهم، فإن صاحب العشرة لا يبلغ تكفينه خمسمائة وصاحب المائة درهم لا يقتصر به على خمسة دراهم. (112/23)
مسألة
قال: وكل ما يفصل الحي عن الميت من وجوه البر نحو الحج والصدقة والعتق فهو للحي دون الميت إلاَّ أن يكون الميت أوصى به واختلف العلماء في ذلك، وكل التكفين، واختلفوا فيما عدى ذلك، فقال أبو حنيفة: جميع ما يلزمه في الحد والزكاة وغيرهما مما ليس له مطالب بعينه يكون من الثلث ويجب بالوصية والأظهر عن الشافعي أنَّه قال في الحج والزكاة: أنهما من جميع المال، وأصحابنا فصلوا بين الحج والزكاة فجعلوا الحج من الثلث، وأوجبوه بالوصية، نص يحيى في الفنون وهو الظاهر في كلامه في الأحكام، وذكر أصحابنا أن الزكاة من جميع المال وشبهها بالدين، ذكر ذلك أبو العباس الحسني في النصوص، وهو الأظهر من كلام يحيى عليه السلام؛ لأنَّه ربما شبهها بالدين، وفي بعض المسائل زاد قوتها على قوة الدين؛ حيث يقول: إن الزكاة تمنع الزكاة، والدين لا يمنعها، فيجعل قدر الزكاة في حكم الخارج من ملكه، وما ذهبنا إليه من الفرق بين الحد والزكاة به قال أبو علي الجبالي في كتاب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وجملة الفصل بينهما أن الحج يلزم البدن والمال يدخل فيه على سبيل البيع والزكاة تجب في المال كالدين، وعندنا أنها تجب في مال اليتيم والمجنون كالدين، وكثيراً مما يجب في هذا الباب قد ذكرناه في كتاب الحج من شرح التجريد وبينا لما نذهب إليه من أن الحد يجب من الثلث، ودللنا على أنَّه لا يجب إلاَّ بالوصية، وأوضحنا الكلام فيه وفي أن ما يفعله الحي عن الميت من غير أن يكون الميت أوصى به يكون للحي، وأنه إن كان أوصى فهو له فلا طائل في إعادته. (112/24)
فصل
دل كلام يحيى ومسائل على أن للوصي أن يوصي وأنه يالف الوكيل في هذا؛ لأنَّه بنى كلام في باب الوصي على أن تصرفه تصرف الولاة، فقد مضى الكلام في هذا.
باب القول في أحكام الوصايا
لو أن رجلاً أوصى لرجلٍ بثلث ماله والآخر بنصفه وامتنع الورثة من إجازته، ان الثلث بينهما على خمسة أسهم، لصاحب النصف ثلاثة أسهم، ولصاحب الثلث سهمان، وبه قال أبو حنيفة: الثلث بينهما نصفان على سواءٍ، قال: لأن الموصى له بالنصف لا يضرب في الثلث بما سمي له مما زاد على الثلث: كأنما أوصى له بالثلث فقط، فيستوي ..... والموصى له بالثلث، فأما إن أوصى لعدة من الناس لبعضهم بالثلث ولآخر بالسدس ولاآخذ بالثمن بعد إلاَّ أن يكون سمى لأحدٍ منهم ما زاد على الثلث، فلا خلاف أن الجميع يتضاربون في الثلث على قدر أنصبائهم من الوصية، ووجه ما ذهبنا غليه أنَّه لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة في الوصية بالدراهم مرسلة أنها وإن زاد نصيب بعضهم على الثلث أنهم جميعاً يتضاربون في الثلث، فوجب أن يكون ذلك حكم الوصية المعينة، لعلة أنَّه ضربٌ بالحصص الموصى لهم بها، ويمكن أن تجعل الوصية لكل واحدٍ منهم بالثلث فما دونه أيضاً أصلاً ونقيس عليه بالعلة الَّتِي ذكرناها، ويمكن أن يقال: إن العلة في ذلك أن الموصي لم يرض إلاَّ أن يكون بين الذي يصيب كل واحدٍ منهم التفاوت الذي ذكره. (112/25)
فإن قيل: الفصل بين الأصل والفرع الذي ذكرتم أن في أحد الأصلين وهي الدراهم المرسلة يجوز أن يبلغ المال مبلغاً يخرج الوصية تامة من الثلث، ولي كذلك الوصية بجزء من المال معين.
قيل له: نحن بينا المسألة على رجلٍ مات ولم يخلف إلاَّ ثلثمائة درهم، وأوصى لرجلٍ بمائة وخمسين درهماً ولآخر بمائة درهم، فكيف يبلغ المال المبلغ الذي ذكرتم على أن هذا الفصل وإن كان صحيحاً فلا يمتنع من الجمع بينهما بالعلة الَّتِي ذكرنا.
فإن قيل: في الأصل الثاني أن الوصية للجمع ثابتة؛ لأنَّه لم يتجاوز بواحدة منهما الثلث، فصح أن يتضاربوا في الثلث، وليس كذلكحال الموصى له بما زاد على الثلث؛ لأن الوصية به غير صحيحة؛ لأنها وصية بمال الوارث.
قيل له: كيف يكون ذلك وعندكم أن الورثة إن أجازوه ملكه الموصى له دون الورثة على أن الوصية لكل واحدٍ منهم عن المسمى له، ومع هذا تضاربوا في الثلث، فكذلك ما اختلفنا فيه، ويمكن أن يجعل القول أصلاً لهذا الباب بأن يقال: لما لم يمكن اتصال الجميع إلى المسمى له في الإرث وجب أن يضرب الجميع في المال على قدر ما يسمى لكل واحدٍ منهم، فكذلك الوصية، ويكشف ذلك كله بأن يقال: إن الوصية تضمن أمرين: أحدهما أن يزاد الموصى له على الثلث، والثاني أن يحصل بين الذي أوصى لهم فيما يصبيهم التفاوت المعين، فلما منع الشرع أن يزادوا على الثلث إذا امتنع منه الورثة منعناه واتبعنا فيه قول الله عز وجل: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْه}، ولما لم يمنع الشرع من التفاوت في القسمة بينهم أمضينا الوصية بالتفاوت على ما أوصى بها، واتبعنا قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ..} الآية. (112/26)
مسألة
قال: وكذلك إن كان له ابنان فأوصى لرجلٍ بثلث وللآخر بمثل نصيب أحدهما ولآخر بنصف ماله أو ثلثه أو بمثل نصيب أحدهم وزيادة شيء أو بمثل نصيب أحدهم إلاَّ شيئاً كان العمل فيه على ما بيناه من المقاسمة على مقدار الوصية، وكلما أتى من هذا الباب فهو قياس عليه.
اعلم أن حكم هذه المسألة وحكم الَّتِي تقدمتها مع الإجازة وغير الإجازة حكم واحدٌ لا خلاف فيه على ما بيناه، وإنما الخلاف في مقدار النصيب إذا أوصى بمقدار بمثل نصيب الابن، فذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي على أنّه إن أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابن واحدٌ أن المال بين الابن والموصى له نصفان؛ لأن هذا القول عندهم يقتضي التسوية، فإن كان له ابنان، وأوصى بمثل نصيب أحدهما كان له ثلث المال وعلى هذا كثر الأولاد أو قلوا، وهذا إذا أجازه الوارث، يعني في الابن الواحد، وقال مالك: إذا أوصى بمثل نصيب ابنه وليس له إلاَّ ابن واحدٌ فالمال كله للموصى له، ولا شيء للابن؛ لأن نصيب الابن هو جميع المال، فإذا أوصى بمثله كان ذلك وصية بجميع المال وإن كان له ابنان وأوصى بمثل نصيب أحدهما كان للموصى له نصف المال، ولكل واحدٌ منهما ربع المال، هذا أيضاً إذا أجازه الوارث أو الورثة، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً عن يحيى عليه السلام إلاَّ أن المتأخرين من أصحابنا كانوا يشيرون إلى مثل ما حكيناه عن أبي حنيفة والشافعي، وأظنه فيما عقلته عن أبي العباس الحسني، والمسألة عندي فيها نظرٌ، وكأن قول مالك في نفسي أقوى؛ وذلك أن قوله مثل نصيب ابني معناه مقدار نصيب ابني، فإذا كان نصيب الابن هو الجميع فمقدار الجميع هو الجميع. (112/27)
فإن قيل: فإنه أراد السوية بين الموصى له وبين ابنه.
قيل له: ليس للتسوية لفظٌ فلا يصح ادعاؤها؛ لأنها إما أن تعقل من اللفظ واللغة لا يقتضيه أو يعلم ذلك من العرف والعادة، هذا مما لا يمكن أن يدعى فيه العرف والعادة؛ لأن هذه المسألة مما لا تكاد، فبدر لا يثبت لمثله عادة.
فإن قيل: هذا القول يؤدي إلى تقديم نصيب الابن على الوصية، ومن شأن الوصية أن تقدم على الارث.
قيل له: إذا كانت الوصية مقدرة بنصيب الوارث فلا بد من تقديم تقديره، وإنما الممتنع هو تقديم استحقاقه لنصيبه، فأما تقدير النصيب أولاًفلا بد منه إذا كانت الوصيةمقدرة به على أن قول أبي حنيفة والشافعي في هذا لا يثبت إلاَّ أن يكون القول يتضمن إيجاب الوصية مقدرة بنصيب الابن بعد ثبوت الوصية، وليس لذلك لفظٌ، فوجب أن لا يكون إطلاقهموجباً وصية مقدرة بنصيب الابن مطلقاً على أن قولهم يؤدي إلى أن لا يمكن تقدير النصيب إلاَّ بتقدير الوصية، ولا يمكن تقدير الوصية إلاَّ بتقدير النصيب، وذلك مستحيل وكل ذلك يرجح ما كان يقوله مالك عندي، والله أعلم بالصواب. (112/28)
فصل
كان أبو حنيفة يذهب إلى أن من أوصى لرجلٍ بنصيب الابن أن الوصية باطلة وخالفه أصحابنه، قال أبو حنيفة: نصيب الابن هو ما يستحقه الابن ويملكه، فإذا أوصى به فكأنه أوصى بمال الغير، ووجهه الخلاف عليه أنَّه إذا احتمل أن يكون أراد بذلك الوصية بما يملكه، واحتمل أن يكون أراد بذلك التقدير، وجب حمله على ما يصح دون ما يفسد؛ لأن صرف المسلمين محمول على الصحة ما أمكن، وليس لهم أن يقولوا: إنكم أبطلتم الوصية بالمجهول كأن يقول: أوصيت له بشيء من مالي؛ لأنَّه مع التصحيح يحتمل أموراً كثيرة ليس بعضها أولى من بعض ومسألتنا هذه ليست تحتمل إلاَّ فساداً ووجهاً واحداً في التصحيح، فكان التصحيح أولى، والله أعلم.
مسألة
قال: وإذا كانت الوصية دون الثلث لم يحتج إلى المقاسمة، وأعطى كل ما أوصى له به، والمراد بالمقاسمة ها هنا هو المقاسمة على سبيل إدخال النقص على أرباب الوصايا، ولم ترد مقاسمة الشركاء في الوصية فيما بينهم؛ إذ هي مما لا بد منها، وكذلك مقاسمة الورثة، إذا كانت الوصية بجزْ من المال المعلوم؛ إذ لا بدٌ منها على ما نص عليه بعد هذه المسائل، وكل ذلك مما لا خلاف فيه، قال: وكذلك إن أوصى بثلثه أو سدسه ونصفه وأجازه الورثة أعطى كل ما أوصى له به، وكذلك إن أوصت المرأة لزوجها بصداقها ولآخر بثلث مالها كان القول فيه كالقول فيما مضى ولا خلاف أنَّه هذا كما مضى، والخلاف فيه الخلاف فيما مضى على ما بيناه، فلا جه لإعادته. (112/29)
مسألة
قال: وإذا أوصى الرجلُ بثلث ماله كله من ناص وعرض وعقار كان الموصى له شريكاً لورثته فيها يضرب معهم بثلث جميع ذلك، ويس للورثة في جميع أن يعطوه عوضاً عن شيءٍ من ذلك إلاَّ بمراضاته، ووجهه أنَّه صار شريكاً للورثة في جميع التركة لاستحقاقه بالوصية جزءاً من التركة معلوماً شائعاً فيها، فأشبه الوارث وإن كان استحقاق الوارث من جهة الإرث، واستحقاقه من جهة الوصية، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً، قال: وإن أوصى له بمالٍ معروفٍ لم يكن له شريكاً في سائر الأموال، ولزمهم أن يبيعوا منها ما يوفي الرجل ما أوصى له به، وهذا كما قال: لا يكون شريكاً للورثة إذ لم يوص له بجزءٍ معلوم شائع في التركة، وإنما أوصى له بشيء معين، وهذا يكون على ثلاثة أوجه أن يوصي له بشيء معين، كأن يوصي بعبدٍ أو دارٍ أو ثوبٍ بعينه فلا يستحق إلاَّ ما أوصى به، فإن تلف ذلك الشيء قبل الوصول إلى الموصى له بطلت الوصية، والوجه الثاني أن يوصي له بعبدٍ مطلقٍ أو ثوبٍ أو جارية غير معينٍ فله من ذلك ما يختاره الورثة إن كان في مال الميت دفع إليه وإن لم يكن في مال الميت اشترى له ودفع إليه، والوجه الثالث أنيوصي له بدراهم مرسله أو دنانير أو شيءٍ مما يكال أو يوزن، فعليهم أن يعطوهُ من ماله إن كان ذلك في مالهِ وإن لم يكن حصلوا وباعوا ما احتاجوا إليه من ماله ليوفوه ذلك، هذه الجملة مما لا خلاف فيها. (112/30)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أوصى بثلثِ ماله في أحسن وجوه البر، وجب صرفه إلى الجهاد؛ وذلك أن معنى الأحسن في هذا الموضع هو الأفضل، وقال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِيْ القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ غَيْرَ أُلِي الضَّرَرِ..} الآية، فبين أن المجاهدين أفضل من سائر المؤمنين، وليس يصح ذلك إلاَّ بأن يكون الجهاد أفضل القرب، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <الجهاد سنام الدين> وسنام الشيء ذروته وأعلاه، وذلك يوجب أنَّه أفضل سائر القرب، وذكر يحيى في المنتخب في وجه هذه المسألة أن الجهاد لما كان هو الأمر الذي به يمكن أن يقام به سائر الطاعات من الحج والصلاة واستند الزكاة والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر؛ إذ لو كفَّ الناس عن الجهاد لغلب أهل الشرك وأهل البغي وتختل هذه الطاعات، فدل ذلك على أن الجهاد أفضل القرب لافتقار جميعها إليه. (112/31)
مسألة
قال: وإن أوصى في سبيل الله وجب أنيصرف إلى الجهاد وبناء المساجد وحفر القبور وعمل السقايات وما أشببه ذلك تخريجاً هذا مخرج من جملة جزء السبيل في قسمة الصدقات على هذه الأبواب، ووجهه أن سبيل الله هو ما تقرب به إلى الله عز وجل، وكان ذلك من الأبواب الَّتِي موضوعها موضوع القرب، فوجب صرفه إليها ولا يجوز صرفه إلى ما يقع التقرب به نذراً، كأن يهدي إلى الغني؛ لأن العرف يقتضي أن الموصي قصد بوصيته هذه ما يكون موضوعه موضوع القرب.
مسألة
قال: وإن أوصى به للفقراء وكان له أبٌ فقير جاز أن يدفع غليه لفقره، فكان أحق به؛ وذلك أنَّه أوصى لقومٌ لهم صفة وهي الفقر، وتلك الصفة حاصلة لأبيه، فجاز أن يوضع فيه بحصول الصفة له ولم يمنع منه كونه وارثاً؛ لأن الوصية للوارث عندنا صحيحة.
فإن قيل: أليس لا يجوز دفع الزكوات والكفارات إلى الأب فما أنكرتم أن لا يجوز دفع ما أوصى به للفقراء إليه.
قيل له: لا يجوز أن تدفع إليه الحقوق الواجبة الَّتِي تكون للفقراء، فأما ما كان تبرعاً وتطوعاً فإنه جائزٌ أن يدفع إليه، والوصية تبرع، فجاز أن تدفع إليه ولو كان أوصى للفقراء بزكاة كانت في ذمته أو نذر أو ما أشبه ذلك لم يجز أن يدفع منه إليه شيء؛ لأنَّه لم يصير إلى الفقراء يجعل الموصى لهم، وإنما جعله لله عز وجل لهم، فأما التبرع فحكمه خلاف ذلك الحكم، ألا ترى أن له أن يدفع إليه ما كان هو متبرعاً به ولا يجوز أن يدفع إليه ما كان واجباً عليه، فكذلك بعد موته، وقلنا: إنَّه أحق به؛ لأنَّه يكون فيه صلة الرحم مع أنَّه تصدق عليه فيجتمع فيه وجهان من الحسن. (112/32)
مسألة
قال: وإن أوصى به لفقراء أهل بيته ولم يوجد فيهم فقيرٌ وجب أن يصرف إلى سائر الفقراء المسلمين، وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الوصية تبطل، ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه أوصى بثلثه أن يصرف في قربة مخصوصة، جعل لتلك القرية صفة زائدة، فمتى تعذرت تلك الصفة لم يجب أن تبطل الوصية كما أجمعوا عليه من أن من أوصى أن يحج عنه بثلث ماله من بلد بعينه فلم يمكن أن يحج عنه بثلث ماله من ذلك البلد لم تبطل الوصية، ووجب أن يحج عنه من حيث يمكن ذلك ما اختلفنا فيه؛ لأنَّه جعله في قربةٍ مخصوصة وهي التصدق في الفقراء، ثُمَّ جعلت للفقراء صفة زائدة، وهي أن يكونوا من أهل بيته، وإذا تعذرت ذلك لعدم الفقراء فيهم وجب صرفه في سائر الفقراء ولم يجب أن تبطل الوصية.
فإن قيل: فما تقولون فيمن أوصى لرجلٍ بعينة وهو ميتٌ أو مات قبل أن يموت الموصي، ألستم تقولون أن الوصية تبطل ولا يجب صرفها إلى غيره فما أنكرتم أن يكون ذلك سبيل ما اختلفنا فيه.
قيل له: لأنَّه أوصى لإنسان بعينه وصية يجوز أن لا يكون موضوعها موضوع القرب، فلم يشبه ما ذهبنا غليه؛ ولأنها وصية لإنسان بعيننة يخاصم فيها ويقبلها إن شاء ويردها ولا تستقر إلاَّ بموت الموصي قبل موته، فأما إذا لم يكن ذلك بطلت الوصية، وليس كذلك ما ذهبنا غليه، ويشهد لما قلنا ما لا خلاف فيه من أن من أوصى لعدةٍ بوصايا مختلفة ولم يبلغها ثلثه، أن الحظ يلحق كلً منهم ولا يجب أن تبطل الوصية، وذهب كثير من العلماء إلى أن من أوصى أن يعتق عنه مملوكٌ بألف درهم، فلم يبلغ ثلثه ألفاً أنَّه يجب أن يعتق بمقدار ما أمكن. (112/33)
مسألة
قال: وإن أوصى لأقاربه صدرف إلى أقاربه من أبيه وأمه، وكان الذكر والأنثى فيه سواء، ووجهه أن اسم القرابة يلحق من كان له قربة من جهة الأم، فلما اشتركا في الاسم وجب أن يشتركا في الحكم المتعلق به، وفي العلما من يجعلها لقرابته من قبل أبيه منهم مالك، وحكى عن الليث والشافعي مثل قولنا، ووجب التسوية بين الذكر والأنثى كما يبناه في سهم ذي القربى أنَّه مالٌ اشتركا فيه الذكر والأنثى من غير تخصيص لأحدهما، فوجب أن يستويا فيه، واختلف العلماء في الوصية للقرابة، فذهب أبو حنيفة أنها لكل ذي رحمٍ محرم، وأظنه اعتبر أن يكون من قبل الأب ما وجدوا، وعن أبي يوسف أنه قال: هم بنوا أبٍ ينسبون إليه من الرجال والنساء إلى أقصى أبٍ كان في الإسلام، وعن الشافعي أنَّه ساوى بين قرابة الأب والأم والأقرب والأبعد سواء، وهو لن انتسب إلى أبٍ معروف عند العامة ومن العلماء من راعى الأب الرابع، والأظهر من قول يحيى على ما ذكره في باب قسمة خمس الغنيمة من الأحكام أن أقرباء الرجل الذين ينتسبون إلى الأب الثالث إلى آخر ما تناسلوا لقوله، وهذا السهم لقرابتهم، وإن بني المطلب في سهم ذوي القربى أنَّه لبني هاشمٍ لقرابتهم وأن بني المطلب أعطوا ما أعطوا على وجه الرضح للنصرة لا للقرابة، فيجب أن تكون القرابة عنده من الأب الثالث إلى آخر ما تناسلوا لقوله: وهذا السهم لا يزول ما يثبت القرابة والقرابة لا تزول أبداً، والأصل في هذا أن الله تعالى لما قال: ولذي القربى كان ذلك مصروفاً إلى بني هاشمٍ، وروي عن النبي صلى اله عليه وآله وسلم أنَّه لما نزل عليه قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتِكَ الأَقْرَبِيْنَ} دعى بني هاشمٍ وأنذرهم فثبت أنهم هم القرابة. (112/34)
فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعط قرابته من قبل الأم، وعندهم أنهم قرابة.
قيل له: لا يمتنع أن يكون ذلك السهم كان لخاصٍ من قرابته، وهذا يكون كالتخصيص من العموم، وهذا لا يمنع أن يكون من ذكرنا قرابة ثُمَّ نلحق بهم القرابة من قبل الأم لاشتراكهم في الاسم، وكذلك القول في الإنذار؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد كان أنذر جميع قريش، فدخل فهيم قرابته من قبل الأم، وإنَّما الغرض بهذا الاستدلال بيان أن بني هاشمٍ يلحقهم اسمُ القاربة ثُمَّ يحمل عليهم من سواهم، وإذا ثبت ذلك اشترك فيها الأبعد والأقب؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساوى بينهم في السهم، فإن كان أوصى لقرابته وهم لا يخصون ولم يشترط الفقر فعند أبي حنيفة وأصحابه أن الوصية باطلة، وحكى الطحاوي في الاختلاف عن مالك أنها جائزة؛ لأنَّه أجازها لقاربته مطلقاً ولم يشترط أن يكونوا ممن يخصون، فالظاهر أنها جائزة سواء خصوا أو لم يخصوا، ووجهه ما ثبت من أن سهم ذوي القربى لقومٍ لا يخصون ويشترك فيه فقراؤهم وأغنياؤهم، فثبت أن الحق يثبت لهم وإن كانوا لا يخصون، فوجب أن يثبت ذلك بالوصية؛ لأن الوصية تحتمل من الجهالة ما لا يحتمل غيرها؛ ولأنه لا خلاف أنها تصح إذا اشترط الفقر، فكذلك إذا لم يشترط، والعلة أنها وصية لأقوامٍ بأعيانهم، وكذلك لا خلاف أنها تصح للذين يخصون وإن اشتملت على الغني والفقير، فكذلك إذا لم يخصوا للعلة الَّتِي قدمناها. (112/35)
فإن قيل: إنها إذا كانت للفقراء صارت حقاً لله فصحت، وإذا كانت للأغنياء لم تصح إلاَّ أن تكون حقاً لهم، فإذا مل يعرفالمستحق بعينه لم يثبت الحق.
قيل له: إنها وإن كانت قربةٌ فهو حقٌ للفقراء بأعيانهم، ألا ترى أنَّه لا يدخل فيها سائر فقراء المسلمين، فإذا صح ذلك فإن كان لا يخصون لا يمتنع أن يصح للأغنياء وإن كانوا لا يخصون كما يصح للفقراء، ولم يؤثر فيها كونها قربة أو غير قربة على أنَّه يصح أن يتقرب إلى الله عز وجل بالوصية للأغنياء، فإن كثيراً من الناس يوصون للعلوية من غير اشتراط الفقر متقربين إلى الله عز وجل بالوصية وللعلماء وإن كانوا أغنياء ولا خلاف أن صلة ذي الرحم المحرم والوصية له قربة وإن كان غنياً، ولهذا لا يجوز أبو حنيفة الرجوع في الهبة له ويجريها مجرى الصدقة، فإذا ثبت ذلك ولم يفصل أحدٌ في الوصية لأغنياء لا يخصون بين أن يكون الموصي قصد القربة أو لم يقصد ثبت أنَّه لا تأثير للقربة في هذا الباب أو يقال: إذا ثبت صحتها مع القربة للأغنياء فلم يفصل أحدٌ بين أن تقع الوصية مع القربة أو غير القربة في هذا الباب، فوجب أني صح ما قلنا. (112/36)
مسألة
قال: فإن أوصى به في وجه فصرفه الوصي إلى غير ذلك الوجه كان ضامناً، فهذا ما لا خلاف فيه؛ لأنَّه جعل له التصرف على وجهٍ خصوصٍ، فإذا عدل عن ذلك كان في حكم الغاصب فوجب أن يمضنه.
مسائل ليست من التجريد.
دل كلامه في الفنون في مسألة من أوصى بحجة وله امرأة لا وارث له سواها على أن من أوصى في جميع ماله ولا له وارث أن وصيته جائزة في جميع المال، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وعند الشافعي لا تجوز الوصية إلاَّ في الثلث، والباقي لبيت المال، ووجه ما قلناه ما دللنا في صدر كتاب الوصية على أن الوصية قصرت على الثلث لحق الورثة، فإذا كان القصر عليه لحق الورثة فمتى لم يكن وارثٌ لم يجب أن يقصر عليه نبين ذلك في قصر الوصية على الثلث أن الورثة لو أجازوها فيما جاوزوا الثلث جاز وأيضاً هو مال لا يتعلق به حق الوارث فأشبه الثلث في أن الوصية جائزةٌ فيه.
مسألة
قال أيده الله: وإذا أوصى لرجلين بثلث ماله فمات أحدهما قبل موت الموصي بطلت الوصية بنصف الثلث ورجع إلى ورثة الموصي به، قال أبو حينفة وأصحابه؛ لأن الوصية لا تستقر إلاَّ بعد موت الموصي، وتكون إلى حين موته موقوفة، فإذا مات الموصي له قبل موته بطلت الوصية وفيه بيان أن اليبع الموقوف إذا مات أحد المتبايعين قبل تنفيذ البيع يجب أن يبطل. (112/37)
انتهى الجزء الخامس من كتاب شرح التجريد بداية الجزء السادس كتاب الفرائض
كتاب الفرائض (113/1)
كل وارث ينتسب لا بعد وأن يكون عصبة أو ذا سهم أو ذا رحم وهذه الجملة لا خلاف فيها وأن اختلف في تفاصيلها على ما يجيء القول فيه لأن الوارث بالنسب إما أن يأخذ المال أجمع أو فاضل المال فيكون عصبة أو يأخذ السهم المسمى له فيكون ذا سهم أو يأخذ بغيره والذي يدل به إلى الميت فيكون ذا رحم.
مسألة
قال: في العصبة كل ذكر نسب إلى الميت بنفسه أو بذكر خلا الأخوات مع الأخوة أو الأخوات مع البنات ا, البنات مع البنين وبنات الابن مع بني الابن إذا كانوا في درجة واحدة فإنهن عصبات ولا خلاف في هذه الجملة إلاَّ في الأخوات مع البنات والأخوة والأخوات في هذه المسألة هم الذين هم ن الأب والأم أو من الأب؛ لأن الأخوة والأخوات من الأم لا حظ لهم في التعصيب وإنما لهم السهم المذكور والأصل فيه قول الله تعالى: {يُوصِيْكُمُ اللَّهُ فِيْ أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}، وقوله تعالى في ذلك الأخوة والأخوات وإن كانوا اخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين بعد ما بين سهام البنات من الصحابة والأخوات إذا انفردت، وأما بنات الابن فأجمعوا أنهن في حكم البنات إذا لم يكن بنات ولا بنون، وأما الأخوات مع البنات فإنهن عصبات في قولنا وقول عامة الفقهاء من الصحابة وخر بعدهم ولم يحك الخلاف فيه في الصحابة إلاَّ عن ابن عباس وابن الزبير وحكى عنه الرجوع عن ذلك إلى قول ستئر تلصجتبو زجطة أمخ طتم يستذل على ذلك بقوله عز وجل أن أمر هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك، قال: فلم يجعل لها النصف إلاَّ بشرط أن لا يكون له ولد والبنت ولد فيجب أن لا يكون معها للأخت شيء فيقال إن له النصف الذي في الآية هو المسمى وليس لها عنا مسمى مع الابنة وإنما لها ما بقي بحكم التعصيب وليس حكمه مستقراً من الآية على أن الدلالة إذا دلت على أنهن مع البنات عصبات على ما نبينه لم يمتنع أن يكون المراد بقوله ليس له ولد الذكر المذكور من
الأولاد كما يقول ذلك ابن عباس في قوله عز وجل وهو يؤتها إن لم يكن لها ولد على أن الآية اقتضت أن لها النصف إذا لم يكن له ولد وليس فيها حكمها إذا كان له ولد فلا دليل فيه عليه سما إذا لم يقل بدليل الخطاب، والأصل فيه حديث هذيل بن شهرحبيل، عن ابن مسعود حين سئل عن ابنته وابنه ابن وأخت فقال: (قضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملت الثلثين وما بقي فللأخت)، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: (الأخوات مع البنات عصبة وروى الشعبي عن عمر وعبد الله ومعاذ نحوه. (113/2)
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي عصبة ذكر>.
قيل له: ما اختلفنا فيه مخصوص من هذا الحديث بدلالة الحديث الذي ذكرنا يبين ذلك أنَّه عند مخالفنا لو كان معها أخ كان المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يكن للذكر خاصاً، وكذلك لو ترك أبويه وابناً وابنة كان الباقي عن السهام بين الابن والابنة؛ للذكر مثل حض الأنثيين، ولم يختص به الابن والأقرب أن مراده صلى الله عليه وآله وسلم بذلك الفرق بين العمد والعم وبين بنات الأخوة وبني الأخوة وبنات العم وبني العم، وممن يخالف في هذا الناصر والإمامية إلاَّ أن الكلام بيننا وبينهم ليس يختص هذا الموضع؛ لأنهم يخالفون في العصبات جملة ويجرونهم مجرى ذوي الأرحام ولا يرون لبعضهم على بعض مزية إلاَّ أن يكون أقرب نحن نبين الكلام في ذلك إذا انتهينا إليه بياناً شافياً بعون الله.
مسألة
قال: وذو الرحم كل ذكر انتسب بأنثى إلى الميت أو أنثى انتسبت إليه بذكر أو أنثى خلا بنات الابن والأخوة والأخوات من الأم والجدات وهذا الذي ذكرناه في وصف ذي الأرحام؛ لأنَّه لا خلاف فيه وإنما الخلاف في تواريثهم وكيفية توريثهم ولا خلاف أيضاً أن صفة ذوي الأرحام بنات الابن والأخوة والأخوات من الأموال جدات صفة ذوي الأرحام إلاَّ أنهم لما نبت لهم السهام لم يكونوا من جملة ذوي الأرحام. (113/3)
مسألة
قال: وذو السهم كل من له سهم مسمى من سدس أو ثلث أو نصف أو ثلثين ولم يذكر سهام الزوجين؛ لأنهما ليسا ممن يرث بالأنساب، وغرضنا في هذا الفصل بيان أحوال الذي يرثون بالنسب وهؤلاء الذين هم ذو السهام قد نص في الكتاب على سهام أكثرهم، ومنهم من دل الكتاب على سهمه، ومنهم من ثبتت سهامهم بالسنة ومنهم من ثبتت سهامهم بالإجماع، ومنهم من أختلف فيه فكان طريقه الإجتهاد، فأما الذين نص الكتاب على سهامهم فهم: الابنة لها النصف، وما فوق اثنتين من البنات لهن الثلثان لقوله عز وجل: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}...الآية، والأم إذا لم يكن معها ولد ولا اثنان ن الأخوة والأخوات فصاعداً لها الثلث؛ فإن كان معها ولد أو من ذكرنا من الأخوة والأخوات فلها السدس، والأب له مع الولد السدس وذلك لقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُس مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} إلى قوله: {فَلأُمِّهِ السُّدُس}، والأخ أو الأخت إذا كان كل واحد منهما من الأم السدس، فإن اجتمعا لهما الثلث لكل واحد منهما السدس وكذلك إن زادوا كان الثلث بينهم بالتسوية لقوله عز وجل: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}، وللأخت من الأب والأم النصف إذا لم يكن له ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك، فهذه هي السهام المنصوص عليها في الكتاب، أعني سهام ذوي الأنساب وقد نص الله تعالى على أربعين سهام للزوجين بقوله
ولكم نصف ما ترك أزواجكم إلى آخر ذكر الزوجين والسهم الذي دل عليه الكتاب هو سهم الابنتين؛ لأن النص ورد فيما فوق ابنتين، وسنبين وجه دلالته بعيد هذا في موضعه، والسهام الثانية بالسنة سهم ابنة الابن مع الابنة الواحدة وهو السدس فكملة الثلثين رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسهم الجد وهو السدس وقد رواه غيره واحد من الصحابة كالمغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلم، وريرة، وقيل ابن عباس، أيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه جعل للجد هو السدس ثُمَّ جعل له سدساً آخر ثُمَّ قال له السدس الثاني طعمة مني لك. (113/4)
والسهام المجمع عليها: ابنة الابن النصف، وابنتي الابن وما فوقها الثلثان إذا لم يكن للميت بنات؛ أجمعوا لهن في هذه الحالة يقمن مقام البنات، وسهم الأخت من الأب والأختين فما فوقهما من الأب إذا لم يكن أخوة ولا أخوات من الأب، والأم السدس تكملة الثلثين، وأجمعوا أن للجد السدس مع الولد؛ إلاَّ قولاً شاذاً ذهب إليه الناصر فإنه يجعله بمنزلة الأخ ويشفطه مع الولد وسنبين فساده وما عداه من السهام طريقة الإجهاد، وكسهم الجد مع الأخوة وسهم الأم مع الأب وأحد الزوجين وما أشبه ذلك مما اختلف فيه.
مسألة
قال: وكل وارث بسبب لا يعد وهو أن يكون سببه عقد نكاح أو ولاء وهذا مما لا خلاف فيه، والولاء على وجهين ولاء العتق وولاء الموالاة وهو أن يسلم الخربي على يدي رجل مسلم فإن أسلم الذمي على يديه لم يرثه ويرث الأعلى الأسفل ولا يرث الأسفل إلاَّ على في المسألتين وهذا قد مضى بيانه في كتاب العتق شافياً فلا وجب لا عادته والله أعلم وأحكم بالصواب.
باب القول في فرائض الأولاد وأولاد البنين (114/1)
أولاد الميت إذا كانوا ذكوراً أو ذكوراً وإناثاً حجبوا جميع الورثة إلاَّ الأبوين والزوجين والجدان الأب والدتين أم الأم وأم الأب وما جرى مجراهن من الجدات وهذه الجملة مما أجمع عليها الصحابة ومن بعدهم من العلماء، ولا يتحفظ فيها خلافاً؛ إلاَّ ما ذهب إلية الناصر من أن الولد يحجب الجد والجدة ويسقطهما وأظنه قول الإمامية وإن الناصر تابعهم على ذلك والذي يدل على والذي يدل على أن الولد لا يحجبهما أنَّه جماع الصحابة وإذا أجمع الصحابة على قول صح ذلك وانقطع الإجتهاد بعدهم وللم يجب الإعتبار الخلاف الذي ينشوا بعد ذلك وأيضاً روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل للجدة السدس فيجب أن لا نمنعها ذلك في جميع الأحول إلاَّ حيث يمنع الدليل فوجب لها ذلك مع الولد وإذا بت لها ذلك نبت للجدات لم يفرق أحد بينهما وروي أيضاً أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم جعل للجد السدس فوجب ذلك له في جميع الأحوال إلاَّ حيث يمنعه الدليل وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، أن علياً كان لا يزيد الجد مع الولد على الثلث إلاَّ أن يفضل من المالبشء فيكون له غيا بذلك إذا كان الولد بنتا فحقق أن له مع الولد السدس وأيضاً الجد فسيجيء من بعد.
مسألة
قال: وإذا مات الرجل وخلف ابناً كان المال كله للابن، فإن خلف ابنين أو أكثر كان المال بينهم بالسوية وهذا مما أجمع عليه الأمة إذ تعصيبهم أقوى التعصيب، فإن ترك بنين وبنات كان المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وهذا مما لا خلاف فيه؛ ونص الكتاب عليه حيث يقول عز وجل: {يُوصِيْكُمُ اللَّهُ فِيْ أَوْلاَدِكُمْ لِلْذَكَرِ مِثْل حَظِّ الأُنْثَيَيْن}.
مسألة
قال: فإن ترك ابنة فلما النصف وما بقي فللعصبة فإن لم يكن عصبة رد عليها النصف الباقي اختلت الصحابة في الرد فذهب زيد بن ثابت إلى أن فاضل المال لبيت المال وذهب سائرهم إلى أنَّه يرد عليها والكلام فيه نستوفيه في باب ذوي الأرحام فإن الخلاف فيها على وجه واحد فأما كون النصف للبنت فلا خلاف فيه لقول الله تعالى، فإن كانت واحدة فلها النصف، ولا خلاف أن النصف الباقي للعصبات إلاَّ ما ذهب إليه الإمامية والناصر من أن العصبة يسقطون مع البنات كما يسقطون مع البنين؛ والدليل على فساد قولهم أن الصحابة أجمعت على ذلك ولم يختلف فيه مع ظهور المسألة فيما بينهم حتى أن الذين تبعوا أقاويلهم وأوردوا كل ما قال به منهم قائل وجمعوا ما كان عندهم صحيحاً أو فاسدا بعذاب أن يكون ذلك قولاً لو أحد منهم أو مزوياً عند ولم يحك خلاف ذلك عن واحد منهم فثبت أنَّه إجماع منهم، وقال أبو جعفر الطحاوي في شرح الآثار أن هذا القول بخلاف الإجماع وأنه غير محفوظ عن أحد من السلف مع كثرة تتبعه للأخبار ومعرفته بها وحلى ذلك عن غيره من الغرضين فإذا ثبت إجماع الصحابة ثبت أنَّه هو الحق وأن القول بخلافه غير جائز ولهذا نقول أنَّه ليس من مائل الإجهاد وأن الحق فيه واحد. (114/2)
فإن قيل: ما تنكرون على أن ذلك كان قولاً لكنه كتم لغرضٍ كان للقوم أن يحابوا.
قيل له: هذا السؤال في غاية الدكاكة والجواب أن مثل هذا لا يسوغ ولا يجوز؛ لأنَّه لو جاز في هذه المسألة جازفي غيرها مما أجمع عليه ولم يمكن السكون إلى شيء من الإجماعات على أنَّه لا غرض يتعلق بذلك؛ لأنَّه ليس أخ ممن روى هذا الباب إلاَّ وهو يستجيز مخالفة كل واحد من الصحابة كعلي وغيره فلو كان ذلك قولاً لواحد منهم لرواة الراويثم خالفه إن اشترذله كما فعلوا لك بسائر ما رويعنهم ألا ترى أنهم لم يتركوا ذكر الشاذ من ذلك كما لم يتركوا ذكر المشهور فأما قول من قال من جمال الشيعة أنَّه يعصب به على فاطمة عليها السلام فذلك مما لا معنى له؛ لأنا نعلم أن الصحابة كانت معظمة مكبرة لحقها وأن ما جرى بينها وبينهم في ذلك كان الضرب من الشبهة على أنها وإن لم تكن معظمة لها فإنا نعلم أنها لم تكن تستحل أبطال حقهما ولو فعلوا ذلك لم يساعدهم عليه علي وابن عباس ولظهر الخلاف فيه على أن القوم كانوا رووا أن الأنبياء لا يورثوهن فلو كان في نفوسهم وحانتاهم من ذلك شيء ما ذكروه لكان فيه كفاية فإنه أحسم للباب وهذا الكلام وأرك وضعف من أن يجوز لنا أن نشغل كتابنا به لكنا ذكرناه لاغترار قوم من البيعة به ويدل على ذلك ما روي واشتهر أن سعد بن الربيع لما قتل أراد أخوه أن يأخذ ماله فجاءت زوجته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت يا رسول الله إن سعداً قتل وإن أخاه يروم الإحتواء على ماله وإن له ابنتين، فدعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخاه فقال: <لزوجته الثمن وللابنتين الثلثان>، وذلك ما بقي فنص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على توريث العصبة، ويدل على ذلك قول عبد الله بن مسعود حين سئل عن ابنة وابنته، ابن وأخت فقال: أقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، والباقي للأخت، فجعل الأخت عصبة مع الابنة وورثها، ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (114/3)
من قوله: <ألحقوا الفرائض بأهلها>، فلا ولي عصبة ذكر فأوجب ظاهره إن ما بقي بعد سهم الابنة يكون للعصبة، ويدل على ذلك ما روي أن مولاً لابن حمزة بن عبد المطلب مات وترك ابنة، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابنته النصف، والنصف الباقي لابنة حمزة، ولا خلاف أن المولى ن أضعف العصبات فإذا جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم النصف الباقي عن سهم الابنة للمولى مع ضعفه فسائر العصبات أولى به، وقول علي في هذا أشهر من أن يحتاج إلى ذكر الروايات، لكني أذكر ما ورد من طريق الشيعة الزيدية، روى زيد بن، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام: (لا شي لبنات الابن مع ابنتي الصلب؛ إلاَّ أن يكون معهن أخ لهن يعصبهن فأثبت التعصيب مع بنات الصلب)، وروى محمد بن منصور عن الشعبي، عن علي عليه السلام نحوه، وروى أيضاً زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في ابني عم أحدهما أخ لأم فقال: (للأخ من الأم السدس وما بقي فبينهما نصفان)، فأتت التعصيب لابن العم مع الأخ للأم وفي ذلك إبطال مذهب المخالفة لنا في التعصيب، وروى محمد بن منصور، عن أبي الظاهر أحمد بن عيسى، عن أبيه، عن جده عمر بن علي، عن علي في ابنة ومولاً: (للابنة النصف، وما بقي فللمولى). (114/4)
فإن قيل: روي عن علي أنَّه لم يكره يورث المولى مع الابنة، وعن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا لا يجعلان الأخوات مع البنات عصبة فكيف يدعون الإجماع.
قيل له: نحن ندعي الإجماع في توريث العصبات جملة فأما في أن شخصاً فعينه في مسألة بعينها أنَّه عصبة لم يدع الإجماع وهذا كما يدعي الإجماع في تحريم الصدقة على بني هاشم ثُمَّ يقع الخلاف في بطن وفخذ أنهم بنو هاشم ولا يكون ذلك نقضاً لما ادعيناه من الإجماع؛ لأن ابن عباس وابن الزبير لا يخالفان في الأخوة مع البنات وكذلك في سائر العصبات، وإنما قالا: أن الأخوات مع البنات ليس بعصبات إذا انفردت عن الأخوة، فأما ما روي عن علي عليه السلام أنَّه لم يورث المولى مع البنت فقد اختلت الرواة، والأصح عندنا ما رواه محمد بن منصور لموافقته ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مولا ابنة حمزة على أنه يحتمل أن يكون من روى عنه أنَّه لم يكن يورث المولى مع الابنة أراد مولا الموالاة فإنه لا يرث عندنا ما وجد أحد من ذوي الأنساب، ولست أعرف في هذا للمخالفين حجة محققة ولا شبهة محتلة وإنما لهم شبهة واحدة لا تكاد تخفى على من له آيسة حظ من العلم ونحن نكشفها لاغترار قوم من جهال الشيعة بها وإلا فليس لها من المقدار ما يجوز أن تشغل به كتابنا هذا فمن ذلك أنهم تصورون مسألة يتعجبون منها ولا يعلمون أن التعجب لا يدل على صحة الشيء ولا فساده، فيقولون لو مات رجل وخلف ثلاثين ألف ونزل ثمان وعشرين ابنة وابناً واحداً يكون للابن ألفا درهم ولكل بنت سبعمائة درهم وكثيراً تعجبوا من ذلك فقالوا كيف صار نصيب ابن العم عشرة آلاف ولو كان بدله ابن كان نصيبه ألف درهم ولم يعلموا أن الابن إذا كان مع البنات عصبهن فصار الجميع عصبة واقتسموا ما بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وإذا كان معهن ابن عم لهن الثلثان والباقي لمن يكون عصبة، ولا يجب أن يتعجب من كون ما يأخذ ابن العم أكثر مما يأخذه الابن لاختلاف الأحوال مع قرب الابن، ألا ترى أنَّه لا خلاف أن رجلاً لو ترك أختين لأم وعشرين أختاً لأب وأم وخلف ثلاثين ألف درهم يكون لكل واحد من الأختين لأم خمسة آلاف (114/5)
درهم ولكل واحد من الأخوة من الأب والأم ألف درهم مع أن قرابة الأخ الأب والأب أقوى من كان عصبة، وكانت الأختان من ذوي السهام فالأقرب قوي قد يجوز الأقل والأضعف قد يجوز الأكثر لاختلاف الأقول، وعلى هذا ثبتت الفرائض كذلك لو تركت المرأة زوجها وعشرة أخوة لأب وأم وعشرين ألف درهم كان للزوج عشرة آلاف درهم ولك أخ ألف درهم للعلة التي بيناها فقد وضح سقوط تعلقهم وقد تعلق بعضهم بأخبار ضعيفة رويت من طريق ضعيف وهي أيضاً غير دالة على موضع الخلاف، رووا عن علي عليه السلام أنَّه قال: (ما جعل الله من له سهم كمن لا سهم له)، وعن سلمان: (ما جعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له)، فاق لما في هذه الأحاديث أنَّه لا ذكر فيها للمواريث ولا يمتنع أن يكون المراد به بها أن من أعان المسلمين في مجاهدة الكفار من أهل الذمة لا يجرون مجرى المسلمين؛ لأن للمسلمين سهماً في الغنيمة وأولئك لهم الرضح كما للعبيد والنساء والصبيان ولا يمتنع أن يكون المراد به أن من كان له حظ في الإسلام يريد التأثير والمعونة والمجاهدة والغنا ليس كمن يسلم ولا يكون له هذا الحظ، وظاهر تلك الألفاظ على هذا يدل على أن المراد به لو كان المواريث مع بعده فجائز أن يكون القصد بيان تقديم ذوي السهام على ذوي الأرحام، على أن الناصر لم يعمل بهذه الأحاديث بل خالفها وأنه يسقط الأخوات من الأب مع بنات الابن مع ا، ابنة الابنة لا سهم لها، وللأخوات سهام مفروضة ويورث الجد أبا الأم مع الأخوات وللأخوات سهام مفروضة ولا سم للجد أبي الأم، وكذلك يورث أولاد الأخ للأب وللأم أو للأب مع الأخوات من الأم والأخوات من الأم سهامهن مفروضة وأولاد الأخوة لا سهم لهم، واعلم أن نصوص أصول الفرائض مبينة على نصوص في الكتاب وبعضها على سنن واردة وبعضها على إجماعات كانت من الصحابة وبعضها على طرق المقاييس والإجتهاد والمخالف لنا إذا علم أنَّه مخالنا في مسألة لا نص فيها من القرآن طالب (114/6)
بالنص وإذا علم أن طريقه الإجماع طالب بالنص أو السنة، وإذا علم أن طريقة الإجتهاد طالب بالنص أو السنة أو الإجماع وهذا لا يفعله إلاَّ جاهل أو مداهن يريد التلبيس على ضعفاء العامة نعوذ بالله من ذلك وربما تعلقوا بقول الله عز وجل: {لِلرِّجَالُ نَصِيْبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيْبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالدَانِ وَالأَقْرَبُونَ}، وهذه آية لا دليل فيها لبعض المذاهب دون بعض وإنما فيها بيان فساد ما كانت العرب تفعله في جاهليتها من منع النساء الميراث، واعلم أن القوم قد أبطلوا حكم الآية رأساً؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النَّصْف}، وهم لا يعطونها النصف فقط في شيء من المسائل؛ لأنهم إما أن ينقصوها أو يزيدوها، فإذا أردت أن تعرف ذلك فتتبع مسائلهم فهل يكون رفع حكم الآية إلاَّ هذا والله المستعان ورأيت بعض جهال متأخرهم يقول أشياء سخيفة ناقضة لمذهب الناصر فعلمت أنَّه لا يميز بين ماله مما عليه ولا يبالي بدينه، كان يقول قد أجمع الجميع على أن الابنة وارثة واختلفوا في ابن العم معها فالمجمع أولى فعرفته أن الإجماع إنَّما حصل في النصف؛ لأن الابنة ترثه وذلك لا يؤثر في النصف ثُمَّ هو ناقض لمذهب الناصر؛ لأنَّه يورث الخال مع العم والعم وارث بالإجماع والخال ممن يذهب كثير من المسلمين إلى أنَّه لا يرث بتة، وكذلك يورث الجد أب الأم مع الإخوة من الأم ويسقط الأخوة والأخوات مع ابنة الابن. (114/7)
مسألة
قال: فإن ترك ابنتين فما فوقهما فلهما الثلثان بينهما على سواء وما بقي فللعصبة فإن لم يكن عصبة رد عليهن أو عليهما والكلام في التعصيب قد مضى وفي الرد يجيء بعد والذي يختص هذا الموضع هو الكلام في نصيب الابنتين؛ لأن ابن عباس يذهب إلى أن الثلثين لثلاث بنات فصاعداً استدلالاً بقوله عز وجل: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}، وذهب سائر الصحابة والعلماء إلى أن للابنتين فما فوقهما الثلثان، وقد روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، ورواه محمد بن منصور بإسناده عن الشعبي، عن علي ولا أعرف فيه مخالفاً غير ابن عباس فإنه حكى عنه أنَّه جعل للابنتين النصف ولا دليل له في الآية؛ لأن الله تعالى جعل للابنة الواحدة النصف والثلاث الثلثين ولم يذكر حال الابنتين فليس من يجعل لهما النصف بأولى ممن يجعل لهما الثلثين، ثُمَّ نص الكتاب على أن للأختين الثلثين وقد علمنا أن حال البنات أقوى من حال الأخوات فلم يجب أن يقصه حال الابنتين عن حال الأختين ولا يمتنع أن يكون الله نبه بحال ما فوق اثنتين من البنات على من فوق اثنتين من الأخوات ومحال الأختين على حال الابنتين، ويمكن أن يجعل قياساً صحيحاً بأن يقال أن الاثنتين من الأخوات بمنزلة الثلاث فكذلك البنات والعلة أن كل واحدة منهن إذا انفردت سهمها النصف أو يقال إن أخوتهن يعصبوهن ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأخ سعد بن الربيع: <إعط ابنته الثلثين وزوجته الثمن ولك ما بقي>، فنص على أن للابنتين الثلثين ويدل عليه حديث ابن مسعود لابنة ابنه السدس تكملة الثلثين وهي أضعف حالاً من الابنة فإذا أراد نسبتها كانت الابنة بذلك أولى. (114/8)
مسألة
قال: والقول في أولاد البنين ذكورهم وإناثهم أو ذكورهم مع إناثهم كالقول في الأولاد إذا لم يكن أولاد وهذا مما أجمعت الأمة عليه وقد تعلق بعض العلماء لهذا بقول الله عز وجل: {يُوصِيْكُمُُ اللَّهُ فِيْ أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مُثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن}، قال: واسم الولد يستمد على الأسباط كما يستمد على الأولاد وهذا فيه نظر؛ لأن السبط يجري عيه اسم الولد على سبيل المجاز والتوسع فلا يجب حمل الآية على المجاز إلاَّ بالدلالة والمعتمد عندي هو الإجماع. (114/9)
مسألة
قال: فإن مات الرجل وترك بنين وأولاد البنين فالمال للبنين واحداً كان أو أكثر وسقط أولاد البنين وهذا مما لا خلاف فيه، فإن ترك ابنة وترك أولاد البنين ذكوراً أو ذكوراً وإناثاً فللابنة النصف وما بقي فلأولاد البنين للذكر مثل حظ الأنثيين، والخلاف في موضعين أحدهما: خلاف الإمامية والناصر؛ لأنهما لا يورثون العصبة مع البنات وقد تكلمنا عليهم والثاني قول ابن مسعود؛ لأنَّه كان يذهب إل أن الباقي لأولاد البنين إلاَّ السدس الذي هو تكملة الثلثين فإنه لبنات الابن لا يند عليه، وإن كان السدس قد فات بأن يكن اثنتين فلا شيء لهن وما ذهبنا إليه هو قول علي وزيد، روى ذلك زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام وبه قال الفقهاء ووجهه أن ابن الابن يعصب ابنة الابن إذا انفردوا مع الابنة الواحدة لا خلاف فيه، فوجب أن يعصبهن في الموضع الذي اختلفنا فيه؛ لأن الذكر إذا عصب الأنثى التي في درجته عصبها في جميع المواضع كالأخوة والبنين وإذا عصبهن في الموضع الذي اختلفنا فيه فوجب أن يكون الثلث بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
واستدل عبدالله لقوله بأن قال: إن بنات الابن إذا انفردن لا حظ لهن في الميراث مع ابنتي الصلب فلا يجب أن يرثن لكون أخوتهن معهن.
قيل له: لا يمتنع أن يحصل بالإرث مع التعصيب وإن لم يحصل مع الإنفراد، ألا ترى أن رجلاً لو مات وخلف ثمان بنات وعشرة دنانير وابن عم لكان لهن الثلثان لا يزدن عليه وهي ستة دنانير وثلثا دينار، ولو كان معهن بدل ابن العم ابن يعصبهن وصار إما يأخذن ثمانية دنانير فإذا جاز أن يردن التعصب أختهن لهن من الزيادة ما لم يكن يرثن مع الإنفراد جاز أن يرثن بنات الابن لتعصيب أختهن لهن مالا يرثن لو انفردن يبين ذلك أنهن قد يسقطن بالتعصيب في بعض الأحوال، ألا ترى أن امرأة لو تركت ابنة وأبوين وابنة ابن وزوجاً كان للبنت النصف وللأبوين السدسان ولابنة الابن السدس وللزوج الربع، فنقول الفريضة تعول بنصف سهم وبهذا أسقط في المشتركة الأخوة والأخوات من الأب والأم والأصل في الفرائض موضوع على أن التعصيب يربح تارة ويخسر أخرى ويسقط أخرى. (114/10)
مسألة
قال: فإن ترك ابنة وابنة ابن أو بنات ابن فللابنة النصف ولابنة الابن أو ابنتي الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللعصبة وهذا مما لا خلاف فيه إلاَّ للإمامية، والأصل فيه حديث هذيل بن شرحبيل عن عبد الله أنَّه قال في ابنة وابنة ابن وأخت أقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت وهو قول علي رواه زيد بن علي، عن أبيه عن جده، عن علي عليهم السلام، ورواه محمد بن منصور بإسناده عن الشعبي، عن علي.
مسألة
قال: فإن ترك ابنتين فصاعداً الثلثان، وما بقي فلأولاد البنين أو أولاد بنين ذكوراً أو ذكوراً وإناثاً فللابنتين فصاعداً وما بقي فلأولاد البينين للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا مما لا خلاف فيه، إلاَّ ما كان يذهب إليه ابن مسعود وقد مضى الكلام عليه؛ لأنَّه كان يقول الباقي للذكور ويعتمد له ما مضى ويمكن أن ننصر قوله بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <ألحقوا الفرائض بأهلها>، فما أبقت السهام فلأولي عصبة ذكر وهذا عندنا مخصوص بالدليل الذي كنا نخص ونحن نخص هو به البنات إذا كن مع البنين والأخوات إذا كن مع الأخوة ومراد الخبر والله أعلم بيان أن في منزلة العصبة من ليس بعصبة لكونه أنثى كبنات العم مع بني العم وكالعمة مع العم. (114/11)
مسألة
قال: فإن ترك ابنتين فصاعداً وبنات ابن فللابنتين فصاعداً الثلثان، وما بقي فللعصبة ويسقطن بنات الابن وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن النساء لا تعصيب لهن إذا انفردن إلاَّ في مسألة واحدة وهي الأخوات مع البنات وليس لبنات الابن سهم مع البنات فوجب سقوطهن، قال: وكلما سفل أولاد البنين بدرجة فحكمهم من الدين كونهم من أولاد البنين حكم أولاد البنين مع الأولاد وهذا مما لا خلاف فيه إلاَّ على الوجه الذي بيناه والله أعلم.
مسألة
قال: فإن ترك ابناً أو ابنين أو بنات مع بنين وأوين أو أحدهما فلكل واحد منهما السدس وما بقي فللأولاد على ما مضى، معنى قولنا على ما مضى أنَّه للذكور بينهم على سواء بالسوية إن كانوا ذكوراً وإن كانوا ذكوراً وإناثاً فللذكر مثل حظ الأنثيين وهذا مما لا خلاف فيه لقوله عز وجل: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُس}، وقوله تعالى: {يُوصِيْكُمُ اللُّهُ فِي أَوْلاَدِكُم}.
مسألة
قال: فإن ترك ابنة وأباً فللابنة النصف وللأب السدس لقوله عز وجل: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُس}، والباقي للأب بالتعصيب لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ألحقوا الفرائض بأهلها>، فما أبقت فلأولي عصبة ذكر، والإمامية يخالفون في هذا ففي رواية لهم شاذة للأب السدس وما بقي للابنة، ورواية أخرى وهي المشهورة فيما بينهم للأب السدس وللابنة النصف والباقي رد عليهما وكل ذلك خطأ؛ لأن الذي ذكرناه أولاً مما أجمع عليه الصحابة، ولا خلاف بينهم فيه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ألحقوا الفرائض بأهلها>، فما أبقت فلأولي عصبة ذكر على أن الأب لا خلاف أن له حكم التعصيب وإذا ثبت ذلك فقد بينا أن الفاضل عن السهام يجب أن يكون للعصبة في كلامنا على الإمامية فلا فائدة في إعادته، وكلاماً جرى هذا المجرى ففيه خلافهم فلا نعيد ذكره؛ لأن الكلام فيه هو ما مضى ولا فائدة في التكرار فإن اتفق بخلاف آخر ذكرناه قال فإن ترك ابنتين فصاعداً وأباً للابنتين فما فوقهما الثلثان والباقي للأب، ولا خلاف فيه إلاَّ ما مضى ذكره وقد بينا الكلام فيه. (114/12)
مسألة
قال: فإن ترك ابنة وأماًّ فللابنة النصف وللأم السدس وما بقي فللعصبة فإن لم يكن عصبة رد الباقي عليهما على حسب مواريثهما للابنة النصف؛ لأنَّه سهمها وكذلك للأم السدس؛ لنه سهمها والكلام في التعصيب قد مضى والكلام في الرد نذكره من بعد في موضعه.
مسألة
قال: فإن ترك ابنتين فما فوقهما وأماًّ فللأم السدس، وللابنتين فما فوقهما الثلثان، والباقي للعصبة فإن لم تكن عصبة رد الباقي عليهن على حسب مواريثهن وهذا مثل المسألة التي قبلها والكلام فيها واحد.
مسألة
قال: فإن ترك ابنة وأختاً أو ابنة وأخوة فللابنة النصف وما بقي فللاخوة والأخوات، وهذا مما لا خلاف فيه إلا ما حكينا عن ابن عباس أنَّه لا يجعل الأخوات مع البنات عصبة وقد استقصينا الكلام عليه، فأما الأخوة فلا يخالف هو أنهم عصبة مع البنات وإنما الإمامية يخالفون فيه، والكلام ليهم قد مضى وأما سائر الصحابة والعلماء فلا يختلفون في الجملة التي ذكرناها، قال: فإن ترك معهم ابنتين فللابنتين الثلثان والباقي لهم والكلام على ما مضى فلا فائدة في إعادته والله أعلم وأحكم. (114/13)
مسألة
قال: والجدات مع الأولاد وأولاد البنين بمنزلة الأم إذا لم تكن أم والأجداد مع الأولاد وأولاد البنين بمنزلة الأب إذا لم يكن أب وإن علوا وهذا مما قد مضى الكلام فيه فلا غرض في إعادته.
مسألة
قال وللزوج مع الأولاد وأولاد البنين الربع وللزوجة أو الزوجات الثمن مع الأولاد وأولاد البنين، وهذا مما لا خلاف فيه لقوله تعالى: {وَلَكُمْ مَا تَرَكَ أَزْوَاجَكُم}، إلى قوله: {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم}، وأجمع المسلمون على أن أولاد البنين في حكم الأولاد إذا لم يكن أولاد، والله أعلم.
باب القول في فرائض الأبوين (115/1)
لا يرث مع الأب إلاَّ الأولاد وأولاد البنين وإن سفلوا والزوجة والأم والجد أم الأم، والخلاف فيه في موضعين أحدهما ما ذكرناه فيما مضى من قول من قال: إن الجدة لا ترث مع الأب وأنها بمنزلة الأخت وقد بينا أن إجماع الصحابة بخلافه وذكرنا ما ورد فيه من السنة، والثاني ما ذهب إليه كثير من الصحابة من ا، الأب لا يسق أمه، وما ذهبنا إليه هو قول علي عليه السلام، وسنتكلم عليه في باب مسائل الجدات.
مسألة
قال: والأب عصبة إلاَّ مع الابن وبني الابن؛ فإنه يكون معهم يهم وهذه؛ الجملة لا خلاف فيها لقول الله تعالى: {وَلأَبَوَهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}، فأما إذا لم يكن ولد فهو عصبة لا خلاف فيه؛ لأنَّه بعد الابن أقرب العصبات فأما مع الابنة فله السدس والباقي يعود عليه بالتعصيب، وهو اتفاق العلماء؛ وربما يقال: للابنة النصف وما بقي فللأب هذا، والأول من طريق المعنى سواء والعبارة الأولى هي الأولى وعليها نص يحيى بن الحسين عليه السلام واقتضاه ظاهر الكتاب؛ لأن الابنة ولد وكذلك ابنة الابن حكماً ولهذا يحجبان الأم عن الثلث، والزوج عن النصف وألن وجه عن الرابع، قال: ومتى انتقض سهمه في التعصيب عن السدس عاد ذا سهم وأخذ السدس، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن الابن أقوى الورثة وأوكدهم فإذا كان له معه السدس فمع غيره أولى أن لا ينحط عن السدس.
فإن قيل: فلابن مع قوته قد ينحط عن السدس.
قيل له: لأنَّه لا يعود بتة ذا سهم ومع ذلك لقوته لا يسقط بحالٍ والأب لو لم يجعله ذا سهم لوجب أن يسق
في كثير من المسائل كحاله مع الابنتين والزوج أو الزوجة مع الأم أو الجدة وكذلك مع البنين ونحو ذلك.
مسألة
قال والأم تحجب الجدات لا خلاف أن الأم تحدب الجدات وأجمعت الصحابة عليه ورواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، فأما أنها لا تحجب إلاَّ الجدات فلا خلاف فيه أيضاً بين الصحابة وإجماعهم حجة وإنما الخلاف فيه للإمامة، ومن قال بقولهم فإنهم يجعلونها بمنزلة الأب ويحجبون بها من يحجبون بالأب وتفاصيل ذلك في المسائل يجيء في موضعهما وقد بينا أنَّه أجمع الصحابة، وقول علي عليه السلام في المشترك يدل على خلاف ما ذهبوا إليه والله أعلم. (115/2)
مسألة
قال: ولا يحجب الأم عن الثلث إلاَّ الولد وولد الابن أو الاثنان من الأخوات فصاعداً أو هما جميعاً؛ إما أن الولد وولد الابن يحجبها عن الثلث فهو مما لا خلاف فيه لقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُس مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، وأجمعوا على أن ولد الابن يقوم مقام الولد إذا لم يكن ولد وأما حجبها بالأخوة فالخلافية في موضعين ذهب ابن عباس إلى أنَّه لا يحجبها الابنان منهم فما فوقهما ويعتمد ظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُس}، ويقول: إن الأخوة اسم للجمع دون التثنية، فيقال له: إن الله تعالى بين حكم الثلاثة وليس في الآية حكم الاثنين فليس من رد حكم الاثنين إلى حكم الواحد بأولى ممن رد حكم الاثنين إلى حكم الثلاثة، وقد وجدنا في الأصول ما يدل على أن حكم الاثنين حكم الثلاثة وذلك أنَّه لا خلاف أن الأختين بمنزلة الثلاث، وإن حكمها مخالف لحكم الواحدة لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}، وكذلك حكم الاثنين من الأخوة للأم حكم الثلاثة دون حكم الواحد لقوله: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُس}، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، وكذلك في الحجب حكم الاثنتين من الأخوات حكم الثلاث دون حكم الواحدة؛ لأن حكم الواحدة تحجب العم عن النصف والاثنتين يحجبانه عن الثلثين وكذلك الثلاث، فدل جميع ما ذكرناه على أن حكم الاثنين حكم الثلاثة، فإن رد حكمهما إلى الثلاث أولى من رده إلى حكم الواحدة على أن الله تعالى قال: {يُوصِيْكُمُ اللَّهُ فِيْ أَولاَدِكُمْ}، ولا خلاف أن حكم الواحد والابنة الواحدة حكم الجماعة، وكذلك قوله: {فِإِنْ كَانُوا أخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً}، وحكم الواحد والأخت الواحدة حكم الجماعة، فكذلك يجب أن يكون في مسألتنا على أن الاثنين يجوز أن يبر عنهما بلفظ الجمع فيقال للأخوين أخوة، والخلاف الثاني (115/3)
هو رواية عن علي أنَّه كان يحجب بالأخ الواحد بالأخت الواحدة أو بالأخوين وكان لا يحجب بالأختين؛ وليست الرواية بتلك المشهورة، وإذا ثبت أن للأخت مدخلاً في الحجب وثبت أن الآية متناولة لها وجب أن يحجب بالأختين كما يحجب بالأخوين؛ لأن كل واحد مما أعني الأخ والأخت مراد بالآية، قال: وسواء كان الأخوة لأب وأم أو لأب أو أم؛ وهذا مما لا خلاف فيه إلا ما تذهب إليه الإمامية من أن الأخوة من الأم لا يحجبون الأم عن الثلث وتابعهم على ذلك الناصر، والإجماع يحجبهم ويفسد قولهم ظاهر قوله، فإن كان له أخوة فلأمه السدس، فاسم الأخوة يتناول الأخوة من الأم، كما يتناول الأخوة من الأب والأم أو الأب ويمكن أن يقاسوا على الأخوات من الأب؛ بعلة أنهم أولاد أحد الأبوين فوجب أن يحجبوا الأم عن الثلث، أو يقاس عليهم وعلى الأخوة من الأب والأم؛ بعلة أنهم أخوة أو على الأخوة من الأب والأم بمعنى أنهم ارتكضوا مع الميت في رحم واحد. (115/4)
مسألة
قال: سواء مات رجل وترك أبوين فللأم الثلث، وما بقي فللأب؛ وهذا مما لا خلاف فيها [فيه]، وقد نص الكتاب على نصيب الأم وبته على نصيب الأب وهو قوله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ}، وورثه أبواه فلأمه اللث، قال: وكذلك إن كان معهما أخ واحد وأخت واحدة؛ وهذا مما لا خلاف فيه، قال: وإن كان معهما اثنان فصاعداً من الأوة أو الأخوات فللأم السدس، وما بقي فللأب وهذا قد مضى الكلام فيه، ولا خلاف أن ما يبقى فيها يكون للأب وقد ثبت عليه الكتاب، قال: فإن مات وترك أباً فالمال كله للأب وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأنَّه عصبة وكل عصبة انفرد حاز المال كله كالابن الواحد، قال: فإن ترك أماًّ فلها الثلث والباقي للعصبة فإن لم يكن عصبة رد عليها الباقي عن الثلث، ولا خلاف فيه إلاَّ ما ذهب إليه الإمامية من إسقاط العصبات، وقد تكلمنا عليهم ويحجهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت السهام فلأولي عصبة ذكر>، فإذا أعطيناها سهماً وهو الثلث وجب أن نجعل الباقي للعصبة، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل الباقي عن الثلثين للابنتين والثمرة للمرأة والباقي للعصبة في حديث سعد بن الربيع، وجب أن يكون حكم الفاضل عن نصيب الأم للعصبة؛ لأن الابنة الواحدة أؤكد حالاً من الأم، ألا ترى أن الابنة تحجبها وهي لا تحجب الابنة، فإذا كان الفاضل عن الابن بالسنة للعصبة فالفاضل عن الأم أولى بذلك، وأما الرد فيأتي الكلام فيه. (115/5)
مسألة
قال: فإن ترك أباً وزوجة، فللزوجة الربع، والباقي للأب وهذا ما لا خلاف فيه؛ لأن الزوجة لا يحجبها عن الربع إلاَّ الولد، قال: فإن ترك أماًّ وزوجة، فللزوجة الربع وللأم الثلث، والباقي للعصبة، فإن لم يتكن عصبة رد الباقي على الأم، وهذا الكلام فيه فيما مضى.
مسألة
قال: ولا يرد على الزوجين شيء وبه قال علي عليه السلام رواه عنه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: (يرد ما أبقت السهام على كل وارث بقدر سهمه، إلاَّ الزوج والزوجة)، وروي نحوه عن ابن عباس، وبه قال عامة الفقهاء القائلين بالرد نحو أبي حنيفة وأصحابه، وروي عن علي أنَّه كان لا يرد على الجدة وهذه الرواية غير مضهورة عنه، والمشهور ما قدمنا ذكره، وكان عبد الله لا يرد على ستة: (على الزوج، والمرأة، وعلى ابنة الابن مع ابنة الصلب، وعلى الأخت للأب مع الأخت للأب والأم، ولا على الأخوة والأخوات من الأم مع الأم، ولا على الجدة مع ذي سهم)، وروي عن عثمان وجابر بن زيد أنهما كانا يردان على الزوج المرأة أيضاً، ووجه ما ذهبنا إليه من أن الزوجين لا يرد عليهما شيء؛ أنهما يأخذان السهام بالسبب وليس يني بينهما بشيء ليستعان به الإرث بعد السهام لو لم تكن السهام وسائر ذوي السهام لهم رحم يأخذون به [بها] لو لم تكن سهام فإذا أخذوا سهامهم بقي بعد ذلك رحم يأخذون به ولم يبق مثل ذلك للزوجين فأما ابن مسعود فوجه قوله أن الأخت للأب والأم أؤكد سبباً من الأخت للأب، وكذلك ابنة الصلب أؤكد سبباً من ابنة الابن، فيقال: لمن قال ذلك الأخت من الأب أؤكد سبباً من الأخت للأم ومع ذلك يرد عبد الله عليها ففسد ذلك الوجه وأن تعلق بالقرب؛ فالأم أقرب إلى الميت من الأخت للأبوة و يرد عليها فسقط ذلك، ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه لا يخالف في أنَّه يرد على الابنة والأم معاً وعلى الأخت والأم سواء كانت لأب وأم أو لأب، فكذلك يجب أن يرد على سائر ذوي السهام والعلة أن لكل منهم سهم مع رحم، ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه أعني قولنا في الرد إلاَّ على الزوجين أن ما عداه من الأقوال المخالفة لقولنا: منقطع لا فائدة به فكأنه به، فكان صار خلاف الإجماع. (115/6)
مسألة
قال: سواء أن تركت المرأة أباً وزوجاً فللزوج النصف، وما بقي فللأب وهذا مما لا خلاف فيه، لأن الزوج سهمه مسمى وهو النصف والباقي يأخذه الأب بالتعصيب، قال: فإن تركت أماًّ وزوجاً فللزوج النصف، وللأم الثلث وما بقي فللعصبة وهذا مما مضى الكلام في مثله فلا وجه لإعادته. (115/7)
مسألة
قال: وإذا ماتت المرأة وتركت زوجاً وأبوين فللزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وهو سدس جميع المال وما بقي فللأب، وإن ترك أبوين وزوجة فللزوجة الربع، ولم ثلث ما بقي وهو ربع المال، وما بقي فللأب، وما ذهبنا إليه في هاتين المسألتين هو قول علي رواه زيد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، وتابعهم عليه سائر الفقهاء، وذهب ابن عباس إلى أن للأم ثلث جميع المال، وما بقي فللأب، وتابعه على ذلك الإمامية وأما الناصر فإنه خالف الإمامية في هاتين المسألتين؛ وقال بما يقول به، وروي عن علي عليه السلام رواية غير مشهورة أنَّه قال فيما مثل قول ابن عباس، والرواية المشهورة ما ذكرناه أولاً، وروي عن معاذ مثل قول ابن عباس فأما سائر الصحابة فقولهم ما حكيناه أو عن علي، ووجهه أنَّه تعالى قال: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسِ}...الآية، فجعل للأم الثلث بشرط أن يشتملا على المال والنصف والربع مما لم يشملا عليه وارثه، فوجب أن يكون للأم الثلث بعد النصف أو الربع.
فإن قيل: قد سمى الله تعالى لها الثلث ولم يحجبها عنه إلاَّ بالولد والأخوة، فإذا لم يكن ولد ولا أخوة فيجب أن توفى الثلث كاملاً.
قيل له: قد بينا أن الله تعالى جعل لها الثلث مما اشتملا عليه وراية لقوله وورثه أبواه فلأمه الثلث وإن مل يكن لقوله وورثه أبواه فائدة فلا يلزم ما قلتم.
فإن قيل: السهم تقولون أن لها الثلث وإن لم يكن أب.
قيل له: نقول ذلك للإجماع وإلاَّ فالظاهر يقتضي أن لها الثلث مما اشتملت هي والأب عليه من المال وأيضاً وجدنا للأب ضعف ما للأم إذا لم يكن في الفريضة زوج وامرأة ولم يكن ولد فوجب أن يكون له الضعف وإن كان في الفريضة زوج وامرأة والعلة عدم الولد وأيضاً لما دخل عليهما النقص مع الولد لم ينتقص حال الأب عن حال الأم فكذلك إذا دخل عليهما النقص بأحد الزوجين وأيضاً لم يجد في شيء من الفرائض تفضيل الأم على الأب فصارت أصول الفرائض شاهدة لقولنا. (115/8)
مسألة
قال: وإن ترك أماًّ وأخاً فللأم الثلث، وللأخ ما بقي؛ وهذا مما لا خلاف فيه إلاَّ خلاف الإمامية وما دللنا عليه من توريث العصبات مع ذوي السهام يحجهم ويسقط قولهم ويحجهم قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}، فوجب أن يرث مع الأم بظاهر الآية، قال: فإن ترك أماًّ وأخوة وأخوات فللأم السدس وما بقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وذلك مما لا خلاف فيه إلا الخلاف الذي ذكرنا؛ لأن الله تعالى سمى للأم السدس مع الأخوة فلها المسى بنص الكتاب والباقي لهم للوجوه التي مضت ولقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا اخْوَةٌ رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}، فعمر ذلك مع الأم كانوا أو غيرها إلاَّ حيث يمنع الدليل، قال: وإن ترك أماًّ وأختاً فللأم الثلث وللأخت النصف، وما بقي فللعصبة وهذا ما لا خلاف فيه إلاَّ خلاف الإمامية، وذلك أن الله تعالى سمى للأم الثلث وللأخت النصف فأعطينا واحة منهما سهمها، وكان الباقي للعصبة وكان الباقي للعصبة، قال: فإن ترك أماًّ وأختين فصاعداً فللأم السدس وللأختين فما فوقهما الثلثان وما بقي فللعصبة، كل ذلك إذا كانت الأخوة أخوات لأب وأم.
مسألة
قال: والأخوة لأم بمنزلة سائر الأخوة في الحجب وهذا مما لا خلاف فيه إلا خلاف الإمامية وقد مضى الكلام فيه، قال: وللواحد منهم مع الأم السدس وللاثنين فصاعداً الثلث ولا يفضل ذكر أنهم على إنائهم، وهذه الجملة لا خلاف فيها إلاَّ خلاف الإمامية فإنهم يذهبون إلى أنهم لا يرثون مع الأم وقد مضى الكلام فيه، وأن ظاهر الآية يحجبهم. (115/9)
مسألة
قال: وإذا تركنت المرأة أماًّ أو جدة وزوجاً وأخوة لأم وأخوة وأخوات لأب وأم فلأم أو الجدة السدس وللزوج النصف وللأخوة من الأم الثلث، ولا شيء للأخوة من الأب والأم وكذلك إن كان معهم أخوات فلا شيء لهم ولهن.
وهذه المسألة التي تسمى المشتركة ومن ذهب إلى التشريك جعل الثلث الذي هو للأخوة من الأم بينهم وبين الأخوة من الأب والأم بالسوية واشترك الجميع، وروي عن عمر أنَّه كان لايشرك، ثُمَّ رأى بعد ذلك أنه يشرك، واختلفت الرواية في التشريك، والمشهور عن عبدالله وزيد وابن عباس التشريك، وكان علي لا يشرك، وروي ذلك عن أبيّ بن كعب وأبي موسى، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وكذلك حكى عن الشعبي، وقال الشافعي بالتشريك، ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت السهام فلأولي عصبة ذكر>، وقد ألحقنا الفرائض بأهلها فلم يبق شيء فلم يجب للعصبة شيء، وأيضاً لا خلاف أن الله تعالى سمى للأم السدس وللزوج النصف وللزوج النصف وللأخوة من الأم الثلث، فيجب أن يوفى كل منهم ما سمى الله له ولا يبخل بعضهم دون بعض، وهذا دليل على سقوط الأخوة للأب والأم، وأيضاً لا خلاف أن النقص في هذه الفريضة لا يدخل على الأم ولا على الزوجة، فوجب أن لا يدخل على الأخوة للأم والعلة أنهم بعض المسمين في هذه الفريضة على أن الأخوة من الأب والأم وكذلك إن كن معهم أخواتهم عصبة؛ لا خلاف في ذلك وأنهم يأخذون ما يأخذون بالتعصيب لا بالتسمية وكل ما أخذ بالتعصب دون التسمية فإنه يسقط إذا لم يبق من السهام شيء، على هذا ثبتت المواريث فوجب أن يسقط في هذه المسألة. (115/10)
فإن قيل: فإنهم ساووا الأخوة من الأم في المعنى الذي به أخذوا فلا يجب أن يسقطوا وهذا معنى ما قال عمران، وقيل له: عذاباهم كان حماراً.
قيل له: أنهم لم يساووهم في ذلك؛ لأن الأخوة لأم يأخذون بالتسمية والأخوة من الأب والأم، يأخذون بالتعصيب وأن حصلت المساواة ثُمَّ يقال لهم: لا خلاف بيننا وبينكم في زوج وأم وأخ لأم وعشرين أخاً لأب وأم، أن للزوج النصف والأم السدس وللأخ من الأم السدس والباقي بين عشرين أخاً لأب وأم، فيكون ما يصيب كل واحد منهم نصف عشر السدس فلم يساووا الأخ لأم للعلة التي ذكرنا؛ وهي أنهم يأخذون بالتعصيب والأخ للأم يأخذ بالتسمية فكذلك في السقوط. (115/11)
فإن قيل: السقوط يخالف النقصان.
قيل له: هذا فاسد وذلك أنَّا قد علمنا أن الأخوة للأب والأم إذا أخذوا أخذوا بالتعصب وتعصيبهم أنَّما هو من جهة الأب دون جهة الأم والأخوة لأب قد ساووهم في ذلك ومع ذلك يسقطون معهم فقد علمنا أنَّه لا يمتنع أن يحصل النقص لبعض مع المساواة في السبب إذا كان يأخذ بالتعصب وغيره يأخذ بالتسمية، وكذلك السقوط، فوضح ما ذهبنا إليه.
مسألة
قال: فإن كانت المسألة بحالها وكانت أخت واحدة لأب وأم بدل الأخوة والأخوات لأب وأم فلها النصف والفريضة عائلة بثلاثة أسهم فإن كان بدل الأخت أختين فما فوقهما لأب وأم لهما أو لهنَّ الثلثان والفريضة عائلة بأربعة أسهم، وهذا مما لا خلاف فيه إلاَّ خلاف من لا يقول القول وسيأتي القول فيه أو خلاف للإمامية فقد مضى الكلام عليهم وذلك؛ أن الأخوات من الأب والأم لا يأخذن إذا انفردن التعصب وإنما يأخذن بالتسمية فلا بد أن يجرين مجرى غيرهن في المسمى لهن ولا بد مع ذلك من العول فصح ما ذكرناه.
باب القول في فرائض الأخوة والأخوات (116/1)
الأخوة والأخوات من الأب والأم قياسهم قياس البنين والبنات إذا لم يكن بنون وبنات، والأخوة والأخوات من الأب قياسهم قياس أولاد البنين، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء.
مسألة
قال: وإذا مات الرجل وترك أخاً لأب وأم كان المال كله له، وإن كانوا أخوة كان المال بينهم بالسوية، وإن كانوا أخوة وأخوات لأب وأم كان المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن ترك أختاً لأب وأم فلها النصف والباقي للعصبة؛ وإن لم يكن عصبة رد عليها، وإن ترك أختين لأب وأم فما فوقهما فلهن الثلثان وما بقي فللعصبات وقد مضى الكلام فيه، والأصل فيه قول الله تعالى: {إِنْ امْرَءٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ}...الآية.
مسألة
قال: وليس للأخوة والأخوات من الأب مع الأخوة والأخوات لأب وأم شيء وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن الأمة مجمعة على أن الأخوة والأخوات م الأب حكمهم مع الأخوة من الأب والأم حكم بني البنين وبناتهن مع البنين والبنات، ولا خلاف أن بني البنين وبناتهم لا يرثون مع البنين فكذلك لا يرث الأخوة والأخوات من الأب مع الأخوة والأخوات من الأب والأم شيئاً.
مسألة
قال: وإن ترك أختاً لأب وأم وأختاً لأب، فللأخت من الأب والأم النصف، وللأخت من الأب السدس تكملة الثلثين، وهذا لما قدمنا من أن حكمهما حكم الابنتين [الابنة] وابنة الابن وقد ثبت أن للابنة النصف ولابنة الابن السدس، وقد ثبت أن للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ودللنا عليه فيما تقدم، فوجب أن يكون ذلك سبيل الأخت للأب والأم والأخت للأب وذلك كما سقطت ابنة الابن مع الابنتين للصلب ولا خلاف فيه، قال: والأخوة من الأب والأم يحجبون الأخوة من الأب كما يحجب الأولاد أولاد البنين، وهذا مما لا خلاف فيه كما بيناه.
مسألة
قال: والأخوة والأخوات من الأم يحجبهم أربعة: الولد وولد الابن والأب والجد أب الأب، وهذا مما أجمع عليه الصحابة، ولا خلاف فيه إلاَّ ما كان يذهب إليه الناصر من أن الجد لا يسقط الأخوة من الأم؛ لأنَّه يجري الجد مجرى الأخوة سواء؛ لا يجعل له عليهم مزية، وإجماع الصحابة على ما ذكرنا يحجبه ويبطل قوله، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه كان لا يورث أخاً لأم مع جد، قال: ولا يفضل ذكر أنهم على إناثهم للواحد منهم السدس والاثنين السدسان، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، وهذا مما لا خلاف فيه لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ}..الآية. تمت والله أعلم وأحكم بالصواب. (116/2)
باب القول في فرائض الجد والجدات (117/1)
الجد لا يحجبه إلاَّ الأب وهو يقاسم الأخوة والأخوات إذا كانوا لأب وأم أو كانوا لأب ما لم تكن المقاسمة شراً له من السدس، لا خلاف أن الأم تحجبه لأنَّه يدلي بالأب وكل عصبة تدلي بغيره فإنه يحجبه من يكون أولا به، وأما مقاسمة الأخوة فقد اختلفت الصحابة والعلماء بعدهم فيها، فروي عن أبي بكر وابن عباس وابن الزبير وعائشة معاذ بن جبل وغيرهم من الصحابة أنهم جعلوه بمنزلة الأب واسقطوا الأخوة معه، وحكي ذلك عن الحر البصري وغيرهم من الصحابة إلاَّ أن المشهور الذين اعتمده العلماء من قول علي وعبد الله وزيد أنهم كانوا يقاسمون بينه وبين الأخوة ثُمَّ اختلفوا في كيفية المقاسمة على ما نبينه وذهب ابن أبي ليلى والحر بن زياد والحسن بن صالح إلى قول علي عليه السلام المشهور عنه وهو الذي به نأخذ، وذهب أهل المدينة والثوري وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعي إلى قول زيد المشهور وسنبينه من بعد، والذي يدل على أن الأخوة لا يسقطون مع الجد قول الله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}، فأوجب الميراث بشرط عدم الولد فمتى م يكن معه للميت ولد فلا يجب أن يحرم الميراث إلاَّ حيث خصه الدليل؛ وهو إذا كان للميت ولد ولولا دليل الإجماع لكان حكم الظاهر يوجب إلاَّ تسقط مع الأب أيضاً ومما يدل على ذلك أن الأخوة قياس البنين بعلة أنهم يعصبون الإناث إذا كن معهم في درجتهم؛ فوجب أن لا يسقطهم الجد قياساً على البنين وهذا الوصف أقوى أحوال العصبة، وإذا حصل للأخوة أقوى أحال العصبة فلا يجب أن يسقطهم الجد، ومما يدل على ذلك أنا وجدنا الجد وإن كان له أولاد فإن حاله يضعف عن حال الوالد بدلالة أنَّه يسقط معه وليس له شيء من الولالة [الولاية] مع الأب فوجب ألا يسقط الأخوة كالأم؛ لأنها وإن كان لها أولاد فإن حالها لما ضعفت عن حال الأب لم تسقط الأخوة فكذلك الجد.
فإن قيل: اسم الجد [الأب] يتناول الجد لقول الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيْكُمْ إِبْرَاهِيْم}، وقد قال الله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُث}، فلما تناولة اسم الأب وجب له بالآية الثلثان مع الأم من غير أخوة وإذا كان معه أخوة وجب له خمسة أسداس المال. (117/2)
قيل له: ليس يخلو هذا الإستدلال من أن يكون بالظاهر أو بالقياس، فإن ادعوا أنَّه بالظاهر فليس في الظاهر أن تلو ما يوجب أن خمسة أسداس المال للأب دون الأخوة، وإنما عرفنا ذلك بالإجماع؛ لأنَّه تعالى نص على سهم الأم ولم ينص على سهم الأب لا مع وجود الأخوة ولامع عدمهم وقد كان جائزاً لولا الإجماع أن تكون الخمسة الأسداس الفاضلة عن الأم بين الأب والأخوة لولا الدليل وليس هاهنا ظاهر سوى الآية توجب إسقاط مع الأب فيدخل الجد بحتة؛ فسقط تعليقهم بالظاهر على أنَّه لو كان ههمنا [فهما] ظاهر يوجب ذلك لكان لا يوجب إدخال الجد تحته إلاَّ بالدليل؛ لأن اسم الأب يتناول الجد على سبيل المجاز؛ لأن الأب يختص الوالد على التحقيق كما أن الجد اسم يختص أبا الأب على التحقيق، على أن مذهب أصحاب أبي حنيفة أن للفظة الواحدة لا يجوز أن يراد بها المجاز والحقيقة فلا يجوز على هذا عندهم أن يدخل الجد تحت سمة الأب لا بالدليل ولا بغير دليل فوضح سقوط التعلق بالظاهر وإن كان التعلق بالقياس بعلة جديان اسم لأب عليه فهو منتقض بالعم؛ لأن الله عز وجل حكى عن أن أولاد يعقوب أنهم قالوا: {نَعْبُدُ إِلاَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِسْمَاعِيْل وَإِسْحَاق}، فسمى إسماعيل أباً وإن كان عم يعقوب صلى الله عليه، وينتقض أيضاً بالأب القائل: أو لأب العبد والأب المشترك لأن اسم الأب يجري على جميعهم.
فإن قيل: الأب له ولاء وتعصيب فأسقط الأخوة فوجب أن يسقطهم الجد؛ لأن له أيضاً ولاء وتعصيب.
قيل له: الأب لم يسقطهم .... فيبان أن الإعتبار ليس هو بالولاء وإنما هو بقولة التعصيب على أن الأب إنَّما اسقط الأخوة؛ لأنهم به يدلون كما الجد لأن به يدلي والأخوة لم يدلوا بالجد فلم يجب أن يسقطهم الجد ولهم وجوه يقيسون بها الجد على الأب بمعان يذكرونها كلها لا تثبت عند التحصيل؛ لأن العلة الموجبة لإسقاط الأخوة إنَّما هي قوة تعصيبه وقد بينا أن حال الجد يضعف عن حل الأب أو يسقطهم الأب؛ لأنهم به يدلون وليس يدلون بالجد فهذه جملة الكلام على أكثر ما يوردونه في هذا الباب على أنا ودنا الأخ والجد جميعاً يدليان بالأب فقط فوجب أن لا يسقط أحدهما الآخر كالأخوة من الأب والأم يدلون مع الأب بالأم فصارت لهم مزية على أنهما وإن كانا جميعاًً يدليان بالأقرب فالأخ أقرب إلى الأب من الجد لأن الأخ ابنه والجد أبوه فأقل رتبة الأخ أن لا يسقطه الجد. (117/3)
فإن قيل: الجد يسقط الأخوة من الأم كالأب والابن.
قيل له: نحن قد بينا أن الموجب لإسقاط إنَّما هو التعصيب في الابن والأب وفي الأب مع ذلك أدلاؤهم به وقد علمنا أن إسقاط الأخوة للأم لا يوجب تلك القوة لأن الابنة أيضاً تسقط الأخوة لأب وأم.
واعلم: أن الصحابة رضي الله عنهم اعتروا في هذا الباب مزايا الجد ومزايا الأخ فوجدوا للجد مزايا لم يجدوها للأخ ورأوا للأخ مزايا لا [لم] يجدوها للجد فلم يروا إسقاط بعضهم ببعض وشركوا بينهما في الميراث.
فمن تلك المزايا: أن الجد يلي كما يلي الأب والأخ لا يلي.
ومنها أن الجد لا يسقط مع الابن والأخ يسقط معه.
ومنها ـ أنَّه أب الأب فله قوة الأب مع عدم الأب كما أن ابن الابن له قوة الابن مع عدم الابن.
ومنها ـ أن له أولاداً وليس للأخ أولاد.
ومنها ـ أن اسم الأب يجري عليه.
ومنها ـ أن الأخوة من الأم يسقطهم الجد.
وأما الأخ فمزاياه من وجوه: منها ـ أن قوته قوة البينين في أنهم يعصبون الإناث وهذا أقوى حال التعصيب لأنها حالة البنين الذين هم أقوى العصبات.
ومنها ـ أن ميراثهم مذكور في الكتاب، أعني الأخوة وليس كذلك الجد. (117/4)
ومنها ـ أنهم جميعاً يدلون بالأب والأخوة أقرب إلى الأب لأنهم بنوه والجد أبوه.
ومنها ـ أنهم أقرب إلى الميت من الجد لأن الأب يجمعهم أو الأب مع الأم وإلى هذا الوجه ذهب أمير المؤمنين عليه السلام وزيد بن ثابت فيما روي أن عليّا شبهه بالمسيل فقال: إن مثله مثل مسيل ينشأ منه نهر ثُمَّ ينشق من ذلك النهر نهران فأح النهرين إلى أنهر الثاني أقرب منه إلى المسيل الذي هو الأصل، وشبهه بالشرة فقال: مثله مثل الشجرة لها غصن ثمر خرج من الغصن غصنان فأحد الغصنين إلى الغصن الآخر أقرب منه إلى أصل الشجرة والله أعلم كيف كانت الحكاية أكانت بهذا اللفظ أو غيره؛ ولكنها ترجع في المعنى إلى نحو ما ذكرنا.
وأعلم أن: قوة التعصيب تراعى من وجهين:
أحدهما ـ أن يعصب الذكر الأنثى وهذا أقوى وجوه التعصيب وهو قوة الابن بين ذلك أن من ضعف العصبة لا يعصب أخيه كالعم وابن العم وابن الأخ.
والثاني ـ أن يعود ذا سهم لئلا يسقط وهذا هو قوة الأب الذي هو دون الابن في التعصيب، ألا ترى أن الذين ضعف تعصيبهم كالعم وابن العم ليس لهما واحدة ن هاتين القوتين ثمر وجدنا قوة تعصيب الأبناء آكد من قوة عودة ذا سهم فوجب أن يكون الأخ أقوى بحصول هذه القوة له.
مسألة
قال: وإذا كانت المقاسمة شراكة من السدس كان له السدس عنه وبه قال ابن أبي ليلى والحسن بن زياد الولوي والحسن بن صالح بن حيي؛ وهو الأظهر من قول الإمامية، وقيل أنَّه روي عنه المقاسمة إلى السبع وهي رواية ضعيفة غير مشهورة عنه، والرواية التي ذكرناها رواها زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، وهذه الرواية الضعيفة قد حكت في بعض كتب الإمامية وذهب عبد الله وزيد إلى أنَّه يقاسمهم ما لم تكن المقاسمة شراً له من الثلث فإذا كانت المقاسمة شراً له من الثلث كان له الثلث ولهذا قال أبو يوسف ومحمد والشافعي وأظنه قول مالك وسفين الثوري، وذهب الناصر إلى أنَّه بمنزلة الأخوة يقاسمهم أبداً وهذا القول خلاف ما أجمعت عليه الأمة؛ فوجب سقوطه لأنَّه لا يعرف به قائل مع اختلاف المختلفين في الجد مع الأخوة، روى زيد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه كان يجعل الجد بمنزلة الأخ إلى السدس، وروى محمد بن منصور بإسناده، عن الشعبي، عن علي في الجد أنَّه جعله أخاً إلى ستة يقاسم به ما دامت المقاسمة خيراً له من السدس فإذا نقص حظه م السدس إذا شاركهم أعطاه السدس، والذي ذكره يحيى في الأحكام وهو ما روى عمران بن حصين: <أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال إن ابن ابني مات فمالي من ميراثه؟ فقال: لك السدس، فلما ولى قال: أرجع فلك سدس آخذ، ثُمَّ قال: إن السدس الآخر طعمه>، فدل ذلك على أن سهمه السدس، وأنه الواجب له في جميع الأحوال وأن السدس الثاني أعطاه إياه لا على أنَّه سهمه بل لوجه آخر، ويجوز أن يكون أعطاه على وجه التعصيب كان يكون الميت ترك ابنةً وأماَّ وجداً فإن للابنة النصف، وللأم السدس، وللجد السدس والسدس الباقي له بالتعصيب ولهذا مثله، ولو أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل سهمه الثلث لكان يقول: لك الثلث فلما فصل بين السدس والسدس علم أن سهمه كان السدس في جميع الأحوال وزاد يحيى في الحديث أن (117/5)
علياًّ كان يقول: (نسيتم وحفظت)، يعني للذين يجعلون سهمه مع الأخوة الثلث، وروي أن ابن عمر سأل الناس فقال: أيكم شهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في الجد، فقال معقل بن يسار: أعطاه السدس، فقال مع من قال؟ لا أروي، فهذا أيضاً يؤكد أن سهمه السدس قياساً. (117/6)
ومِمَّا يدل على ذلك: أنَّه عصبة بنفسه عاد ذا سهم فوجب أن يكون سهمه السدس قياساً على الأب وإنما احترزنا بقولنا عصبة بنفسه من الابنة والأخت؛ لأنهما قد يكونان عصبة وسهمهما النصف إلاَّ أنهما يكونان عصبة لا بأنفسهما بل بأخوتهما على أنا إذا قلنا عصبة عاد ذا سهم فلم يجب أن يكن سهمه الثلث صح الكلام لكن ما ذكرناه أولاً هو الأول؛ لأنَّه يشتمل على ذكر السدس ويدل على ذلك أيضاً أن سهمه مع الولد السدس ولا يسقط الأخوة فوجب أن يكون سهمه أيضاً مع الأخوة السدس قياساً على الأم لما كان سهمها مع الولد السدس وكانت لا تسقط الأخوة كان ذلك سهمها مع الأخوة.
فإن قيل: وجدنا الجد حكمه مع الجدة حكم الأب مع الأم فلما كان للجدة السدس وجب أن يكون للجد الثلث مثلاً ما للجدة كما أن الأم لما كان لها الثلث وجب أن يكون للأب الثلثان مثلاً ما للأم.
قيل له: هذا الاعتبار نحن أولى به وذلك أن ما ذكرتم من حال الأبوين إنَّما كان إذا لم يكن الأب ذا سهم فإذا عاد ذا سهم فإن سهمه مثل سهم الأم فكذلك الجد إذا عاد ذا سهم وجب أن يكون سهمه مثل سهم الجدة.
فإن قيل: وجدنا الفرائض مبنية على الواحد إذا خالف الجماعة في العمل م حب أو أخذ كان حكم الاثنين والثلاثة سواء كالابنتين والأختين أنهما والثلاث سواء في الثلثين وكحجب الأخوة للأم إن الاثنين والثلاثة سواء؛ فوجب أن يكون سهم الجد مع الأخوين والثلاثة سواء؛ وذلك يوجب أن سهم الثلث لأنَّه لا خلاف أن سهمه مع الأخوين الثلث.
قيل له: عندنا أنَّه مع الأخوين والثلاثة والأربعة مقاسم ليس بذي سهم ولسنا نسلم أن سهمه مع الأخوين الثلث على أن الذي ذكرتم لو كان صحيحاً لكان اعتبارنا أولى؛ لأنا اعتبرنا حالة في نفسه بنفسه وأنتم اعتبرتم حالة بغيره على أنا لا نسلم في تلك المسألة أن الواحد من الأخوة يخالف عمله الجماعة؛ لأن الأخ الواحد عندنا مقاسم للجد وكذلك الثاني والثالث والرابع فلم يخالف عمله عمل الجماعة فسقط هذا الاعتبار، ألا ترى أن الابن الواحد لا يصح أن يقال عمله يخالف عمل الجماعة في الأخذ وإن كان يأخذ الكل إذا كان واحداً ويأخذ النصف إذا كان معه آخر لأن عمله المقاسمة قل نصيبه أو كثر فوضح سقوط هذا الكلام فأما السبع الذي روي عن علي عليه السلام الرواية الضعيفة فليس لها وجه لا في الأثر ولا في النظر لأن السبع لم تجعل في الفرائض سهماً لأحد على وجه من الووه فوجب سقوطه والعمل على الرواية المشهورة عنه عليه السلام لأنها اشهر ولأن السنة والعترة يدلان عليه. (117/7)
مسألة
قال: وهو مع الأخوات إذا لم يكن معهن اخوة عصبة؛ وهو قول علي عليه السلام، لم يختلف فيه، روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه كان يعطي الأخت النصف وما بقي فللجد، وكان يعطي الأختين الثلثين وما بقي فللجد، وروى محمد بن منصور، عن الشعبي، عنه وبه قال ابن مسعود وعلقمة والأسود ومشروق، وكان زيد بن ثابت يقاسم الجد بهن منفردات إلى الثلث، ويدل على ما قلنا قول الله تعالى: {إِنْ إِمْرَءٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}، فجعل لها النصف مع عدم الولد، فوجب أن يكون سهمها مع عدم الولد في جميع الأحوال حيث يمنع منه الدليل؛ فوجب أن يكون ذلك سهمها مع الجد، وكذلك الأختين يجب أن يكون سهمها مع الجد لقوله: {وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ}، وهذا يحج من اسقط الأخت مع الجد كما يحج من قاسم بها الجد.
فإن قيل: الآية واردة في ذكر الكلالة وإذا كان في المسألة جد لم يكن كلالة. (117/8)
قيل له: الكلالة هم الورثة فليست المسألة هي اسم وإنما بين الله في الآية حكم الكلالة سوى كان معهم من كان كلالة أو غير كلالة، وإنما يجب أن ينظر في ذلك من وجه آخر إذا كان معهم من ليس بطلالة والظاهر يوجب أن للواحد مع عدم الولد النصف والاثنتين مع عدم الولد الثلثين فقد وهذا كاف في استدلالنا على أن الأم ليست كلالة وهي لا تسقط الأخوة وكذلك الابنة على أنا وجدنا الأخت تقاسم الأخوة من حيث يعصبها الأخوة وهذه قوة للأخوة ليست للجد، ألا ترى أنَّه لا يعصب أخته وهي تكون عمة أبي الميت، فإذا لم يكن له قوة للأخوة يعصب أخته بها فكيف يعصب سبطته، وإذا لم يصح أن يعصبها لمتجب بينهما المقاسمة؛ لأنها شرط التعصيب.
فإن قيل: إن الجد بمنزلة الأخ حتى يعود ذا سهم فإذا عصب الأخ أخته وجب أن يغصبها الجد إذا لم يكن أخ.
قيل له: لا يكون على الإطلاق بمنزلة الأخ عندنا وعندكم، ألا ترى أنَّه يعود ذا سهم وليس ذلك حكم الأخوة وله مع الابن السدس، وليس ذلك حكم الأخوة وإنما يجعله بمنزلة الأخ في موضع مخصوص ولا يجعله في تعصيب الأخت بمنزلة الأخ؛ لأنَّه أمرٌ اختص به الأخ دونه، فلا يصح سؤالكم هذا، و يستدل على المسألة بقوله: <ألحقوا المال بالفرائض فما أبقت السهام فلأولي عصبة ذكر>، تمت والله أعلم وأحكم بالصواب.
مسائل ليست من التجريد [في الشرح]
روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام؛ أنَّه يقول في أخت لأب وأم وأخت لأب وجد للأخت من الأم والأب النصف، وللأخت من الأب السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللجد وجملة ما مضى في المسألة، قال: وكان يقول في امرأة وأم وأخوات وأخوة وجد؛ للمرأة الربع وللأم السدس وما بقي فبين الأخوة والأخوات والجد؛ للذكر مثل حظ الأنثيين وذلك يكون ما لم يكن نصيبه أقل ن السدس وهو صحيح على أصوله التي دللنا عليها، ومن المشهور عنه عليه السلام في ابنة وأخت وجد؛ أنَّه كان يقول للابنة النصف المسمى لها وللجد سهمه وهو السدس مع الولد، وللأخت ما بقي؛ لأنها عصبة مع الابنة على ما بيناه في صدر الكتاب، وروي عن علي توريث ابن الأخ مع الجد رواية شاذة، والمشهور خلاف ذلك وهو ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه كان لا يورثه شيئاً مع الجد، وبه قال الصحابة والعلماء وهو الصَّحيح؛ لأنَّه ليس لابن الأخ قوة الأخ، ألا ترى أنهلا يعصب أخته. (117/9)
رجعنا إلى التجريد:
مسألة
قال: وللجدات السدس وسوى كانت الجدة وأحج أو اثنتين أو أكثر؛ وهذا مما ذكر أنَّه إجماع الصحابة، إلاَّ ما روي عن ابن عباس أنَّه قال: الجدة بمنزلة الأم إذا لم تكن أم، وهذا قول لم يقل به أحد بعده فوجب سقوطه بحصول الإجماع بعده، وروي عن إبراهيم النخعي <أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطعم جدتين السدس>، ويوضح ذلك أن الربع والثمن لما كان سهم الزوجة اشترك الزوجات فيه، وحكي عن محمد بن شجاع أنَّه أسقط أم الأم مع أم الأب وعلل ذلك بأن أم العصبة ويدلي به، وهذا خلاف الإجماع.
مسألة
قال: وهو للأقرب فالأقرب منهن، والمراد بالمسألة الأولى إذا استوين في القرب؛ فأما إذا اختلفن فهو للأقرب، وهذا قول علي عليه السلام، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وروي عن عبدالله أنَّه كان يشرك بينهما، وروي أيضاً عن زيد بن ثابت التشريك بينهما، وروي عنه أن أم الأم إن كانت هي أقرب فهي أولى بالسدس، وإن كانت أم الأب أقرب من أم الأم فإنهما يشتركان فيه، ووجه ما ذهبنا إليه أنا وجدنا الأم تحجب أمها وأم الأب لا خلاف فيه؛ لأنها أقرب إلى الميت وهي ذات سهم فكذلك القرباء تحجب البعداء؛ لأنها أقرب إلى الميت وهي ذات سهم، وهكذا لا خلاف أن بنات الصلب يحجبن بنات الابن لقربهن فصرن أولى بالسهم، فكذلك الجدات؛ والعلة قربهن من الميت، وحكي عن مالك وعدة أنَّه لا يرث من الجدات إلاَّ الأم وأم الأب وإنهن لا يرثن إذا بعدن، وروي عن سعد بن أبي وقاص أنَّه بلغه أن عبد الله ورث ثلاث جدات فقال: هلاّ ورثت حوّى؟ وهذه غفلة من سعد عظيمة؛ كيف يورث من مات قبل الموروث! وهذا فاسد للأثر الذي مضى؛ ولأن بنات الابن يقمن مقام البنات. (117/10)
مسألة
قال: ولا يحجبهن إلاَّ الأمهات؛ وهذا مالا خلاف فيه على ما مضى، قال: وتحجب الأب الجد أم الأم وقد أختلف فيه؛ فذهب علي عليه السلام إلى أن الأب يحجب أمه، وروي عن عمر و عبد الله وعمران بن حصين أنهم ورثوا الجدة مع ابنها، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام ما حكيناه عنه وجه قولنا: أن الأب لا خلاف أنَّه يحجب أباه وكذلك يجب أن تحجب الأم أمها، والعلة أنها أحد أبويه ويكشف ذلك أن الجدة ليست أقوى حالاً من الجد؛ لأن الجد يجوز المال بالتعصيب ويسقط الأخوة ن الأم ويقاسم سائر الأخوة ولا يقاسم سدسه غيره وليس شيء من ذلك للجدة فلما لم تكن الجدة أقوى حالاً من الجد بل كان الجد أقوى حالاً منها وجب أن يكون الأب يحجبها كما يحجب الجد.
فإن قيل: الجدة تأخذ سهم الأم والأم لا تسقط مع الأب.
قيل له: لسنا نسلم أنا نأخذ سهم الأم، ألا ترى أنَّه لو ترك أبياه وجدته لم يكن للجدة الثلث كما أن للأم معه الثلث وإنما تصير محجوبة بالأم وليس من صار محجوباً بغيره يكون سهمه سهم ذلك الغير؛ ويدل على ذلك أنا وجدنا الابن يحجب ابنته كما يحجب ابنه لما كان أدلاء وهم به أدلاء واحداً ولم تفصل بينهما الذكور والأنوثة فكذلك الجد؛ لأن أدلاءها بالأب كإدلاء الجد حتى أنَّه لا فاصل بينهما إلاَّ الذكور والأنوثة، ويمكن أن يقال أن الابن لما حجب ابنته وجب أن يحجب الأب أمه؛ والعلة أنها أدلت إلى الميت بعصبة فمن كان أدلاؤه إلى الميت بعصبة فيجب أن يحجبه م كان أدلاؤه به، وروي عن ابن عباس؛ أن الجدة بمنزلة الأم إذا لم تكن أم كما أن الجد بمنزلة الأب إذا لم يكن أب وهذا فاسد؛ لأن الجد قد ثبت أنَّه لا يقوم مقام الأب فكيف بما هو فرع عليه. (117/11)
مسألة
قال: وكل جدة أدرجت إما بين أمين فهي ساقطة؛ إلاَّ في ذوي الأرحام الأولى هي أم أبي الأب أم أبي الميت، ألا ترى أن بينها وبين أبي الميت أنثى والثانية أم أبي الميت، ألا ترى أن بينهما وبين أم الميت ذكر وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً بين الفقهاء كأبي حنيفة وأصحابه والشافعي ومالك وغيرهم، إنَّما ذكر فيه الخلاف بين الصحابة فروي عن عبدالله بن مسعود؛ أنَّه كان يورث أم أبي الأم مع سائر الجدات، وروي عنه أنَّه كان لا يورثها فاختلفت عنه الرواية، وروي عن ابن عباس أنَّه كان يورثها، وكذلك روي عن جابر بن زيد وقول علي: لا يرث وبه قال زيد بن ثابت، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: (لا ترث الجدة أم أبي الأم شيئاً)، والمراد بذلك إلاَّ في ذوي الأرحام؛ لأنها لا شك فيهم والوجه في ذلك أن الذين يدلون بهم لا يرثون بالسهم ولا بالتعصب إنَّما يرثونه بالرحم عند من يرى ذلك فوجب أن يكون من يدلي بهم لا يرث إلاَّ في ذوي الأرحام يؤكد ذلك أنا وجدنا أصول الفرائض مبنية على م يدل إلى الميت تقريب لا يجوز أن يكون أؤكد حالاً ممن يدلي به، فإذا كان أبو الأم لا تعصيب له ولا ميراث إلاَّ بالرحم فيحب أن لا يكون حال أمه أؤكد من حاله وليس كذلك حال الجدات الثلاث لأنهن يدلين بن له التعصيب أو السهم فلا يمتنع السهم. (117/12)
فإن قيل: أليس الأخوة من الأم يحجبون الأم عن الثلث وإن كان أدلاؤهم بها فدل ذلك على أنهم أؤكد حالاً منها؟
قيل له: هذا غلط وذلك أن الأم أؤكد حالاً نهم، ألا ترى أن الأم لا تسقط في حال وأنه يسقطهم من لا يحط الأم عن الثلث إلى السدس كالأب والجد وحطهم لها عن الثلث إلى السدس لا يدل على تأكد حالهم، ألا ترى أنَّه لا يحطها الأب والجد عن الثلث ولا الأخ من الأب والأم ولا أحد من الأخوة نفرداً فصح، قلنا: أن من أدلى بقريب لا يجوز أن يكون أؤكد حالاً ممن أدلى به والحجب قد يكون لا لقوة إذا لم ينتفع الحاجب بحجبه. (117/13)
باب القول في العصبة (118/1)
أقرب العصبة الابن ثُمَّ ابن الابن وإن سفل؛ وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن الأب يزول معهم بعصبة ويعود ذا سهم كالجد لقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُس}.
مسألة
قال: ثُمَّ الأب ثُمَّ الجد أب الأب وإن علا، وأما الجد والأخ فقد الأب فلا خلاف أنَّه أقرب العصبات تعد الابن؛ لأنَّه يسقط سائر العصبات ولأنهم جميعاً يدلون به فصار أولاهم جميعاً بعد البنين وبني البنين. وأما الجد والأخ فقد اختلف فيهما فمن جعل الجد بمنزلة الأب وأسقط به الأخوة فإنه يجعله أقرب العصبات، وأما نحن فنقول أنهما يشتركان يعني الأخ والجد وإنما نريد بقولنا أنَّه أقرب أنَّه لا يسقط بحال إلاَّ مع الأب وتحصل له مزية على الأخوة إذا صارت المقاسمة شراً له من السدس فيأخذ السدس فلهاتين المزيتين، قلنا أنَّه أقرب العصبات بعد الأب.
فإن قيل: عودة ذا سهم لا يدل على القوة ألا ترى أن الأب يعود ذا سهم مع الابن ولا يدلك ذلك على قوته على الابن.
قيل له: له الوارث يعود ذا سهم لقوته تارة ويعود ذا سهم لضعفه تارة والجد مع الأخوة عاد ذا سهم لقوته، ألا ترى أنَّه قائم حين كانت المقاسمة خيراً له من السدس دليل ذلك الأب؛ لأنَّه لم يقاسم البنين بتة، وفي الجملة قد دللنا على صحة ما ذهبنا في هذا الباب وإنما نحن في تأويل أطلقها أصحابنا، قلنا: إن تناولها على أي وجه وليس فيه مشاحنة إذ ليس في العبارة مشاحنة بعد الإبانة عن الغر والغر ما بيناه.
مسألة
قال: ثُمَّ الأخ لأب وأم ثُمَّ الأخ لأب ثُمَّ أبو الأخ لأب وأم ثُمَّ ابن الأخ لأب وإن سفل؛ وهذه الجملة مما لا خلاف فيها لأن الأخ لأب وأم اقرب إلى الميت من الأخ لأب لأنَّه ثبت إليه بوجهين وأم التعصيب موضوع على القرب فلا يرث إلاَّ بعد مع الأقرب لا خلاف فيه والأخ لأب أقرب من ابن الأخ لأب وأم؛ لأنَّه يمت إلى الميت بأنه هو الذي هو أخو الميت من أخيه لأبيه وأمه لا خلاف فيه فصار من بدلي به أقرب ممن يدلي بأخيه وأما ابن الأخ لأب وأم فهو أقرب بعد الأخ لأب لأنَّه يمت إليه بالأخ لأب وأخ، بعده ابن الأخ لأب للوجه الذي بيناه وكذلك إن سفلوا كانوا أولى ممن لم يلدهم أبو الميت لأن العصبة من أولاد الأب يحجبون العصبة من أولاد الجد للوجه الذي بيناه، ألا ترى أن العصبة من أولاد البينين يحجبون العصبة من أولاد الأب لما كان الابن أقوى حالاً من الأب، كذلك أولاد الأب أقوى حالاً من الجد. (118/2)
مسألة
قال: ثُمَّ العم لأب وأم ثُمَّ العم لأب ثُمَّ ابن العم لأب وأم ثُمَّ ابن العم لأب وإن بعد؛ وهذا أيضاً لا خلاف فيه لأن أولاد الجد أقرب إلى الميت من أولاد أبي الجد كما كان أولاد الأب أقرب من أولاد الجد والكلام في ترتيبهم هو ما مضى، قال: ثُمَّ عم الأب لأب وأم ثُمَّ عم الأب لأب ثُمَّ بنوهم على هذا الترتيب؛ وهذا أيضاً لا خلاف فيه لما بيناه من الووه في المسائل إلى تقدمته في أحوال العصبات، ألا ترى أن عم الأب هو ابن أبي الجد وأبوا الجد هو أقرب إلى الميت من جد الجد.
مسألة
قال: ثُمَّ مولى العتاقة وهو أبعد العصبات اختلفت الصحابة في المولى فروي عن علي عليه السلام أنَّه جعله بمنزلة العصبة رواه عنه محمد بن منصور وغيره، وروي ذلك عن زي بن ثابت وبه قال أكثر الفقهاء نحو أبي حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى والشافعي، وروي عن عمر وابن مسعود أنهما ورثا ذوي الأرحام دون المولى من الميت، وروي هذا القول عن علي عليه السلام إلاَّ أن الصَّحيح عنه ما رويناه أولاً وهذا محمول على أنه يجوز أن يكون أراد به مولى الموالاة لما نذكره، وروى محمد بن منصور بإسناده عن أبي خالد، عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب قال: (مات مولى لعلي عليه السلام وترك ابنة له فأعطاها النصف وأخذ النصف)، ذكر ذلك لأبي جعفر فقال: هذا القول، وروى أيضاً محمد بن منصور بإسناده عن محمد بن عبد الله بن الحسن في مولى وابنه للابنة النصف وما بقي فللمولى، ورواه أيضاً عن جعفر بن محمد من طرق شتى وحكاه عن أحمد بن عيسى، والأصل فيه ما رواه شداد بن أطاد؛ أن ابنة حمزة اعتقدت مولى لها فمات وترك ابنة فورث ابنته النصف وورث ابنة حمزة النصف من تركته، وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <الولاء لحمه كلحمة النسب لا تباع ولا توهب>، فجعله في حكم النسف فوجب أن يرث به على أنه لا خلاف في أنَّه يرث إذا لم يكن للميت نسب فلا يخلو إرثه من أن يكون من جهة التسمية أو الرحم أو التعصيب؛ لأن شيئاً من المواريث بالنصب لا يستحق إلاَّ من هذه الوجوه الثلاثة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: < الولاء لحمة كلحمة النسب>، لا خلاف أنَّه لا تسمية له وأنه لا رحم له فثبت أن من يرث من جهة التعصيب فإذا ثبت ذلك وجب أن يعطي ما فضل عن ذوي السهام لقوله ألحقوا المال بالفرائض فما أبقت السهام فلأولي عصبة ذكر على أنه لا خلاف أنَّه يجري مجرى العصبات في التزويج وعقل الجنات وأن ذوي الأرحام لاحظ لهم في واحد منها فثبت أن له التعصيب وأن شئت حددت القياس فيه فقلت (118/3)
لما كان له التزويج والعقل وجب أن يكون عصبة في الإرث كالعم ويمكن أن يحترز زم مولى الموالاة بأن يقال سبب جعله الشرع نسباً على أني لا أحفظ خلافاً في أن المعتق إذا مات وخلف ابن مولاه وابنته لا وارث له غيرهما أن الميراث لابن مولاه دون ابنته فثبت أنَّه يرث من جهة التعصيب؛ لأن الأنثى إذا كان في منزلة الذكر لمردود [يسقط] الذكر إلاَّ في التعصيب فثبت أنه عصبة وإذا ثبت أنَّه عصبة صار أولى من ذوي الأرحام ومن ذوي السهام بعد السهام كسائر العصبات. (118/4)
فإن قيل: قد قال الله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، فدَل ذلك أنَّهم أولى من الموالي.
قيل له: الشرع قد جعل الولي بمنزلة الرحم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <الولاء لحمة كلحمة النسب>، وروي أن الآية نزلت حين كان لا يورث من لم يهاجر ممن هاجر فنسخ ذلك ويحتمل أن يكون المراد بذلك إذا لم يكن للميت عصبة ولا ذو سهم فيكون ذوو الأرحام أولى من سائر المسلمين خلافاً لما ذهب إليه زيد وتابعه عليه مالك والشافعي وهو الأولى أن تحمل الآية عليه ويحتمل أن يكون المراد به النصرة.
فإن قيل: روي عن عائشة أن مولى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مات وترك مالاً فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <هاهنا أحد من قرابته؟ قالوا: نعم، فأعطاه ميراثه>.
قيل له: الحديث يحتمل وجهين:
أحدهما ـ أن القريب جائز أن يكون عصبة.
والثاني ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجوز أثره لما كان هو حقه من المال إحساناً منه وتفضلاً بت.
مسألة
قال: ومولى الموالاة لا يرث ما وجد وأحد من ذوي الأنساب؛ فهذا ما لا أحفظ فيه خلافاً إلاَّ شيئاً يحكى عن ابن بشر بن غياث أنَّه كان يجعله بمنزلة العصبة ويقدمه على ذوي الأرحام والإجماع يحجه ولا سائر ما دل على أن موالي العتاق أولى من ذوي الأرحام، لا يدل على ذلك ولأنه غير محفوظ عن أحد م الصحابة.
باب القول في ميراث ذوي الأرحام (119/1)
إذا مات الرجل وخلف ذوي الأرحام ولم يخلف أحداً من العصبة ولا ذوي السهام خلا الزوجين كان الإري لذوي الأرحام، اختلفت الصحابة والعلماء بعدهم في توريث ذوي الأرحام إذا لم يكن عصبة ولا ذو سهام؛ فذهب علي وعبد الله بن مسعود وأبو الدرد إلى توريثهم، وذهب زيد بن ثابت إلى أنهم لا يرثون، وأن المال لبيت المال، واختلفت الراوية عن عمر في ذلك؛ فذهب عامة علماء أهل البيت إلى توريثهم وإلى القول بالرد غير القاسم بن إبراهيم عليه السلام فإنه لم يورثهم ولا رد وجعل المال لبيت المال، وأكثر علماء التابعين قالوا: بتوريثهم والرد كالشعبي ومسروق ومحمد بن الحنيفة وإبراهيم وغيرهم، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح وأبو نعيم ضرار بن صرد ويحيى بن آدم وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق بن راهويه والحسن بن زباد، وقال مالك والشافعي وأبو ثور بقول زيد بن ثابت، وبه قال الزهري ومكحول.
واعلم: أن الخلاف في توريث ذوي الأرحام والرد على ذوي السهام على وجه واحد؛ لأن واحداً من العلماء لم يفصل بينهما؛ لأن كل م قال بتوريث ذوي الأرحام قال بالرد وكل من منع توريث ذوي الأرحام منع الرد فأيهما ثبت ثبت الآخر وأيهما بطل بطل الآخر؛ لإجماع الأمة على أن حكما حكم واحد والحجة لتوريث ذوي الأرحام قول الله عز وجل: {وَأُلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، فوجب بظاهر الآية أن يكون بعضهم أولى ببعض في أفاضل المال من سائر المسلمين وليس لهم أن يخصوا فيجعلوه في غير الإرث؛ لأنَّه تخصيص لا دليل معه ويعل على ذلك قول الله تعالى: {لِلْرِّجَالِ نَصِيْبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ}...الآية، فدل ذلك على توريث ذوي الأرحام، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة من الصحابة منهم عمر وعائشة والمقدام بن معدي كرب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: <الخال وارث من لا وارث له>، فصرح بأن الخال وارث. (119/2)
فإن قيل: قوله: لا وارث له؛ نفي أن يكون وارثاً.
قيل له: ليس بنفي أن يكون الخال وارثاً وإنما تقديره الخال وارث من لا وارث له سواه، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <الخال وارث، كان يقول في دعائه: يا عماد من لا عماد له>، وتقدير من لا عماد له سواك، على أنَّه روي مطلقاً، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <الخال وارث>، على أن في بعض الحديث: <الخال وارث من لا وارث له يرثه ويعقل عنه>، وروي عن واسع بن حتام أن ثابت بن الدجداج توفي وكان ابناً وهو الذي ليس له أصل يعرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعاصم بن عدي: <هل تعرفون له فيكم نسب؟ قال: لا يا رسول الله، فدعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا لبابة بن عبد المقداد ابن أخيه؛ فأعطاه ميراثه>، وهذا صريح في توريث ذوي الأرحام، وفيه أيضاً دليل على الرد؛ لأن ابن الأخت إذا أعطى جميع المال لرحمه كان م له سهم في الكتاب أو السنة أولى بذلك. (119/3)
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الخالة والعمة فوقف ورفع يديه وقال: <اللهم رجلٌ هلك وترك عمته وخالته ـ فعل ذلك ثلاثاً ـ ثُمَّ قال: لا شيء لهما>، وروي: <لا أجد لهما>، وروي: <لا أدري ينزل علي شيء، لا شيء لهما>.
قيل له: هذا يحتمل لا شيء لهما مسمى كالأم والأخوات والجدات ونحوهن، ويحتمل أن يكون ذلك قبل نزول حكم ذوي الأرحام وقبل نزول الآيتين اللتين احتججنا بهما على الحديثين إذا تعارضا في النفي والإثبات كان المثبت أولى، ويدل على ما ذهبنا إليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها؛ وهذا الحديث يدل على الرد وعلى توريث ذوي الأرحام من وجهين وذلك أن الأم لا تستحق جميع الإرث إلاَّ على جهة الرد، فإذا ثبت الرد ثبت توريث ذوي الأرحام ذ لا أحد فصل بينما ودل على توريث ذوي الأرحام قوله: <ولورثتها من بعدها>، لأن ورثتها غير أمها وأولادها يكونون ذوي أرحام الميت، وروي عن سعد بن مالك قال: <مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوني فقلت يا رسول الله: إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلاَّ ابنتي فأوصي بمالي كله؟ وفي بعض الروايات بثلثي مالي؟ قال: لا قلت فالشطر، قال: لا قلت فالثلث، قال: لا الثلث والثلث كثير إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس>، فدل ذلك على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم منع ما زاد على الثلث لحق الوارث ولا وارث هناك سوى الابنة، فدل على أن الابنة تحوز ما زاد على الثلث وذلك لا يكون إلاَّ على جهة الرد ومن طريق النظر أجمعوا أن العصبة يحوون المال دون بيت المال إذا لم يكن ذوو السهام، فكذلك ذوو الأرحام والعلة أن بينهم وبين الميت نسب فكل من كان بينه وبين الميت نسب فيجب أن يكون وارثاً إذا لم يكن هناك ما يخرجه من كونه وارثاً لكونه عبداً وكافراً أو قاتلاً؛ وهذا يستوي العصبة وذووا الأرحام وإن شئت قلت هو ذو رحم للميت فيجب أن يكون أولى بالمال من بيت المال؛ دليله العصبة ويؤكد هذا القياس أن سائر المسلمين يتحقون إرثه للإسلام وذووا الأرحام قد شاركوهم في الإسلام واستبدوا بمزية الرحم فصاروا أولى كالأخ للأب والأم مع الأخ للأب، ألا ترى (119/4)
أنهما لما اشتركا في الأخوة من الأب واستبد أحدهما برحم الأم كان أولى بالميراث، وأيضاً وجدنا الأخوة من الأم والجد أم الأم يدلون بالرحم دون التعصيب وصاروا بذلك من أهل الميراث فوجب ا، يكون ذلك حكم سائر ذوي الأرحام ويؤكد ذلك أجمع قوله عز وجل: {وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، يعترض قول من يقول: لم آخذ لهم ذكراً في الكتاب؛ لأن الآية قد دلت عليه على أنها لا ذكر للجدة في الكتاب لكن إثباتنا ميراثها بالسنة فلو لم يكن لذوي الأرحام ذكر في الكتاب لوجب أن يثبت إرثهم بالسنن الواردة التي بيناها على أنَّه لا خلاف أن للقياس والإجتهاد مسرحاً في المواريث فلا وجه ملا ذكروه. (119/5)
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ما أبقت الفرائض فلأولي عصبة ذكر>، يدل على أن ذوي الأرحام لا يرثون وعلى إبطال الرد لأن المسلمين يكونون عصبة.
قيل له: هذا لا يصح؛ لأنَّه لا خلاف أنه إذا صار إلى بيت مال المسلمين صرفة الإمام حيث شاء في النساء والرقاب وليس يختص الرجال.
فإن قيل: روي أن عمر جاءته جد أم أب فتوقف في ميراثها فقال ابن عباس كيف تورث من إذا مات لم يرثها ولا يورث من إذا ماتت ورثها؛ يعني أن ولد البنت لا يرث ولم ينكره منكر فصار ذلك إجماعاً.
قيل له: الخلاف في ذلك ظاهر فلا يصح رفعه بهذا القدر؛ لأنَّه ليس كل من قال قولاً من طريق الإجتهاد ينكره مسمعه على أنَّه يحتمل أن يكون آراء به لا يرث من جهة التسمية أو التعصيب؛ لأن من يرث منهما أقوى حالاً ممن يرث بالرحم فقط.
فإن قيل: لو كان لذوي الأرحام إرث لزمهم العقل؛ لأن العقل مرب على الإرث.
قيل له: هذا غلط؛ لأن البعيد من أهل التعصيب قد يعقل وإن كان لا يرث وذووا السهام قد يرثون ولا يعقلون فلا يمتنع أن يرث ذووا الأرحام وإن لم يعقلوا، فهذا هو الجواب إن سألوا في ولاية النكاح.
فإن قيل: في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <الخال وارث من لا وارث له>، كما يقال: الصبر حيلة من لا حيلة له، والجوع زاد من لا زاد له. (119/6)
قيل له: الصبر يصح أن يقال فيه ذلك؛ لأنَّه ضرب من الحيلة وقد يتوصل به إلى كثير من الأمور فتقديره الصبر حيلة من لا حيلة له سواه وأما الجوع زاد من لا زاد له فهذيان لا يحفظ عن عاقل، فإن قاله قائل: وحفظ عن ممير فعلى طريق النايرة والتجوز فلا يصح حمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه.
فإن قيل: لو أعطينا الابنة كل المال على سبيل الرد كنا جعلناها بمنزلة الابن وهذا رد على الكتاب.
قيل له: لسنا نجعل جميع المال كما نجعله للابن؛ لأن الابن يجوز جميع المال بالعصيب والابنة تعطيها نصف المال بالقسمة والنصف الباقي نعطيها بالرحم، وهذا كما نقول في ابنة وأب أن للأب السدس بالتسمية والثلث الباقي يحوزه بالتعصيب فلا يجب أن ينكر لهذا قولنا في الرد على أن الذكر والأنثى يستويان في بعض المواضع وإن اختلت علة ما يأخذه كل واحد منهما وذلك في زوج وأخ للزوج النصف وللأخ النصف ولو كان بدله أخت لكان نصيبها أيضاً النصف وللأخ النصف ولو كان بدله أخت لكان نصيبها أيضاً النصف فقد استويا فلا يمتنع ا، يستويا في الحال التي ذكرنا ووجه تخصيصاً في المسألة الزوجين عن سائر ذوي السهام أنَّه لا يرث عليهما إلاَّ أن يكون لهما رحم فإذا لم يكن رحم كان ما فضل عنهما لذوي الأرحام وهذا مالا خلاف فيه.
مسألة
قال: وتوريث ذوي الأرحام على التنزيل يجعل لهم من الإرث ما يكن لمن يمتون به لو كانوا أحياء اختلفت العلماء في ذلك فذهب أبو حنيفة وأصحابه غير الحسن بن زياد إلى أن الميراث للأقرب واعتبر ما يعتبر في العصبات وجعل أولاد أولاد الميت أولى بالإرث من أولاد أبي الميت وجعل أولاد أولاد أبي الميت أولى من أولاد أولا جد الميت، وذهب الحسن بن زياد والثوري وأبو نعيم والحسن بن صالح وأبو عيد وإسحاق ويحيى ابن آدم إلى القول بالتنزيل وهو توريث ذي الرحم نصيب من يدلي به إلاَّ أن القائلين بتوريث ذوي الأرحام من الصحابة هو علي وابن وعمر وغيره أجمعوا على أ، من مات وترك عمته وخالته أن للعمة الثلثين وللخالة الثلث وتابعهم على ذلك جميع العلماء القائلين بتوريثهم الأثي عن بشر بن غياث أنَّه جعل المال للعمة دون الخالة وهو خلاف الإجماع فليس يخلوا من أن يكون الصحابة راعوا في ذلك القرب أو أعطوا كل واحد منهما نصيب من أدلت به على التنزيل وقد علمنا أنهم لم يراعوا القرب؛ لأن قربهما قرب واحد لأن العمة أخت أب والخالة أخت الأم، فلو كانوا اعتبروا القرب لقالوا: إن المال بينهما نصفان، ألا ترى أن الدتين أم الأم وأم الأب لما روعي فيهما جعل السدس بينهما نصفين لاستوائهما في القرب فإذا بطل أن يكونوا راعوا القرب في العمة والخالة ثبت انهم راعوا التنزيل فأعطوا كل واحدة منهما نصيب من أدلت به فثبت أن القول بالتنزيل إجماع القائلين من الصحابة بتوريث ذوي الأرحام، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: (ابنة الأخ بمنزلة الأخ وابنة الأخت بمنزلة الأخت وهذا هو التنبيه على القول بالتنزيل وإن شلت القياس في العمة والخالة فقلت لما ثبت أن للعمة نصيب الأب وللخالة نصيب الأم بالإجماع وجب ا، يكون لكل ذي رحم نصيب م يمت به إلى الميت قياساً على العمة والخالة بعلة أنه ذوا رحم، وأيضاً وجدنا ذوي الأرحام ليس لهم سهام مذكورة في كتاب (119/7)
ولا سنة ولا هم يأخذون بالتعصيب؛ فوجب أن يكونوا آخذين بغيرهم الذين هم يدلون بهم إلى الميت فوجب لهم نصيب من يدلون به. (119/8)
مسألة
قال: ولو أ، رجلاً مات وترك عمته وخالته كان للعمة الثلثان وللخالة الثلث؛ لأنَّه يرفع العمة إلى الأب فتعطي نصيبه والخالة إلى الأم فتعطي نصيبها فكأنه ترك أباه وأمه وقد ثبت أن هذا هو إجماع القائلين بتوريث ذوي الأرحام وبينا ما وجب في ذلك فلا غرض في إعادته.
مسألة
قال: فإن ترك ثلاث خالات متفرقات فللخالة ن الأب والأم النصف وللخالة من الأب السدس وللخالة للأم السدس والباقي رد عليهن فيكون المال بينهن على خمسة أسهم هذا هو قول الأكثر من أهل التنزيل، وقال أبو حنيفة: وأصحابه للخالة ن الأب والأم جميع المال؛ لأنها أقرب إلى الميت ومن مذهبه من إعادة القرب في هذا الباب على ما بيناه، ووجههما ذهبنا إليه ما بيناه من أن الأولى هو اعتبار من يدلي به فإذا ثبت ذلك جعلنا ما كانت الأم تأخذه وهو جميع المال بينهن على حسب استحقاقهن لتركتها.
فإن قيل: هل لا قلتم بما حكي عن بعض أهل التنزيل من أنَّه جعل المال بينهن على سواء؛ لأنكم لا تعتبرون الذكورة والأنوثة في ذوي الأرحام بل تسوون بينهما فهلا سويتم في هذه المسألة؟.
قيل له: لأن ذوي الأرحام يرثون بالقرابة ولا يرثون بأنفسهم على ما بيناه فوجب أن يعتبر جملة القرابة وجملة جهات قراباته مختلفة فاعتبرناها ولم نعتبر الذكور والأنوثة؛ لأنا لا نعبر أحالهم في أنفسهم، ألا ترى أنهم اعتبروا اختلاف جهة قرابة العمة والخالة ولو كان بدل الخالة خالاً كان لا يغير الحكم فثبت أن أحوالهم في الذكورة والأنوثة خلاف حالم جهة القاربة.
مسألة
قال: فإن ترك ابنة عم وابنة عمه كان المال لابنة العم كأنه ترك عماً وعمة وذلك أنا قد بينا أنا تعطي ذوي الأرحام نصيب من يمتون به إلى الميت فنعطي ابنة العم نصيب ابنها وهو جميع المال ولا نعطي بنت العمة شيئاً؛ لأنَّه لا نصيب للعمة مع العم، قال: فإن ترك ابنة عم لأب وابنة عم لأم كان المال لابنة العم لأب؛ لأنَّه ترك عماً لأب وعماً لأم، ووجهه ما مضى في المسألة التي قبلها، قال: فإن ترك ابنة أخيه وابنة عمه كان المال لابنة الأخ كأنه ترك أخاه وعمه ووجهه أيضاً هو ما مضى وهذه المائل الثلاث لا خلاف في جوازها بيننا وبين أبي حنيفة وأن اختلفنا في عللها؛ لأنَّه يراعي فيها القرب أو القوة يكون من يكون من ولد العصبة وقيل أنَّه اسحبار وخلاف القياس ويراعى خلاف القياس بحق التنزيل على ما سلف القول فيه. (119/9)
مسألة
قال: فإن ترك ابنة عمه وابنة أخيه فالمال لابنة العم كأنه ترك عمه وابنة أخيه وعنه أبي يوسف يجب أن يكون المال لابن بلت الأخ على قوله أن أولاد أولاد أبي الميت أولى بالميراث من أولاد أولاد جده على اعتبار القرب، وحكي عن سفين الثوري وبع أهل التنزيل أن ذوي الأرحام إذا اختلفت جهة قراباتهم رفعوا إلى الميت مرة واحدة من غير مرعاة الوسايط فكأنه ترك عمه وأخاه فعلى قياس قوله يجب أن يكون المال لابن ابنة الأخ ابن ابنة الأخ كان قياس قوله أن يكون لابن ابنة الأخت النصف والباقي لابنة العم، وما ذهب إليه سفيان في هذا الباب لا معنى له؛ لأن التنزيل يوجبان يكن ذو الرحم يأخذ نصيب من يدلي به فإذا كان من يدلي به إلاَّ بعد لا يرث مع م يدلي به الأقرب فلا وجه لتوريثه وهكذا حكي عن سفيان أنَّه قال في ابنة ابنت أخت وأبنة ابنه أن المال بينهما نصفان والكلام عليه قد مضى.
مسألة
قال: فإن ترك ابنة ابنة وابنة عم، فللابنة النصف والباقي لابنة العم كان ترك ابنة وعماً وبه قال أهل التنزيل، ووجههما مضى، وقال أبو حنيفة: المال لابنة الابنة؛ لأنها أقرب إلى الميت والكلام عليه في مثله قد مضى، قال: فإن ترك ابنة ابنة ابنه وابنة عم كان المال لابنة العم، كأنه ترك ابنة ابنته وعمه؛ وبه قال أهل التنزيل، ووجهه ما مضى، وقول أبي حنيفة: إن المال لابنة ابنة الابنة على ما بيناه من قوله في اعتبار القرب، قال: وإن ترك ابنة ابنة عم وابنة ابنه كان المال لابنة ابنهن، كأنه ترك ابنة وابنة عم؛ وهذا مما اتفقوا فيه قولنا وقول أبي حنيفة وإن اختلفنا في العلة؛ لأنَّه اعتبر اللقب واعتبرنا التنزيل، قال: وإن ترك ابنة ابن أخت وابنة خال؛ كان المال بينهما على خمسة أسهم؛ لأنك ترفع ابنة ابن الأخت إلى ابن الأخت ثُمَّ ترفع ابن الأخت إلى الأخت وترفع ابنة الخال إلى الخال ثُمَّ ترفع الخال إلى الأم فكأنه ترك أختاً وأماً وهذا على قولنا في التنزيل وقول أبي حنيفة أن المال لابنة ابن الأخت؛ لأنَّه أقرب إلى الميت على ما سلف القول فيه. (119/10)
مسألة
قال: فإن ترك ابنة ابنه وأخاها ابن ابنه وابنة أخت وأخاها ابن أخت؛ فلابنة الابن وأخيها ابن الابن النصف بينهما على سواء لا يفضل الذكر على الأنثى وما بقي وهو النصف لابنة الأخت وأخيها بينهما نصفان لا يفضل الذكر على الأنثى، واختلفوا في هذه المسألة؛ فقول أبي حنيفة المال كله الابنة ابنة الميت وأخيها للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنهما أقرب وقد مضى الكلام عليه ويتعلقون لتفضيل الذكر على الأنثى بقوله تعالى: {يُوصِيْكُمُ اللَّهُ فِيْ أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}، وهذا عندنا غير صحيح؛ لأن الاسم الأولاد لا يتناول الأسباط إلاَّ على ضرب من المجاز والتوسع وقول الله تعالى لا يصح حمله على المجاز إلاَّ بالدلالة على أنهم لا يجوزون حمل اللفظ الواحد على المجاز والحقيقة فكيف يحملون الآية على الأولاد والأسباط، وأما أهل التنزيل فإنهم قالوا فيه بما ذهبنا إليه إلاَّ في التسوية بين الذكور والإناث فإن أكثرهم قالوا للذكر مثل حظ الأنثيين، وقال عبيد القاسم بن سلام وإسحاق ابن راهويه بمثل قولنا في التسويع بين الذكور والإناث في جميع ذوي الأرحام، ووجهه أن الأخوة والأخوات من الأم يستوي في الإرث ذكورهم وإناثهم فكذلك سائر ذوي الأرحام والعلة أنهم يأخذون برحم لا تعصيب فيه فكل ذكر وأنثى يرثان برحم لا تعصيب فيه فيجب أن يستوي ذكورهم وإناثهم، وأيضاً لا خلاف أن ابن الابنة إذا انفرد يجوز جميع الإرث بسبب واحد وهو الرحم وكذلك ابنة الابن وكذلك الخال والخالة؛ فوجب إذا انفردت أن يكون المال بينهما بالسوية. (119/11)
فإن قيل: عندكم أن الابنة تحوز المال أجمع إذا انفردت وكذلك الابنة ومع هذا إذا اجتمعا كان المال للذكر مثل حظ الأنثيين فما أنكرتم أن يكون ذلك حال الذكور والإناث من ذوي الأرحام إذا اجتمعوا.
قيل له: الابنة عندنا لا تحوز المال بسبب واحد؛ لأنها تأخذ نسف المال بالتسمية والنصف الباقي تأخذه بالرحم على سبيل الرد ونحن اشترطنا أن تكون تحوز المال بسبب واحد فلا يلزمنا، ما ذكرتم يؤكد ما ذهبنا إليه أن ذوي الأرحام لا يأخذون بأنفسهم إذ ليس لهم تعصيب ولا لهم سهام وإنما يأخذون بغيرهم، ألا ترى أنهم يأخذون نصيب من يدلون به فإذا ثبت لك لم يجب أن يعتبر أحوالهم في أنفسهم في الذكورة والأنوثة إذا كانت أحوالهم معبرة بغيرهم ممن يدلون بهم. (119/12)
مسألة
قال: فإن ترك ابنة ابنته وابنة أخته فلابنة ابنه النصف وما بقي فلابنة الأخت كأنه ترك ابنة وأختاً على ما مضى للابنة النصف والباقي هو النصف للأخت، قال: وكذلك القول أن ترك ابن الابنة وابنة الأخت وترك ابنة الابنة وابن الأخت ويورث سائر ذوي الأرحام على هذه الطريقة وكل ذلك مما مضى وجهه وبيانه فلا معنى لإعادته.
باب القول في ميراث الزوجين (120/1)
إذا مات الرجل وترك زوجة فها الربع، وما بقي فللعصبة فإن لم تكن عصبة كان الفاضل لبيت مال المسلمين، فإن خلف معها ولداً كان لها الثمن؛ وذلك لقول الله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}...الآية. ولا خلاف في الفاضل عنها أنَّه يكون لغيرها من الورثة إن كانوا، ولبيت المال إن لم يكنوا أنهما لا يرد عليهما؛ لأن الرد يكون بالرحم ولا رحم بينهما فإن كان بينهما رحم جاز أن يرد عليهما إن لم يكن هناك من هو أولى منهما، قال: فإن تركت المرأة زوجاً فله النصف، فإن خلفت معه ولداً كان له الربع والقول في الفاضل عنه كالقول في الفاضل عن المرأة؛ وذلك لقول الله عز وجل: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجَكُمْ}، الكلام فيما فضل عنه كالكلام الذي مضى فيما فضل عن الزوجة فلا معنى لإعادته.
مسألة
قال: ويدفع إلى الزوج سهمهما مع سائر ذوي السهام فإن أراد المال كان للعصبة وإن نقض جعله المسألة عائلية وتفسيره إدخال النقص على كل ذوي سهم بقدر سهمه، ومثاله: إن تترك المرأة زوجاً وأبين وابنتين فللزوج الربع وللأبوين السدسان وللابنتين الثلثان عالت الفريضة بسهم ونصف وصحتها من خمسة عشر سهماً للزوج ثلاثة أسهم وللأبوين أربعة أسهم وللابنتين ثمانية أسهم، ما ذكرناه من أن الزوجين يدفع إليهما سهمهما مع ذوي السهام لا خلاف فيه وإن فاضل المال يجب أن يكون للعصبة وقد مضى الكلام فيه شافياً في أول هذا الكتاب وإنما يختص هذا الموضع الكلام في العول ونحن نبينه إن شاء الله تعالى.
أجمعت الصحابة على القول بالعول غير ابن عباس فإنه أنكره وأدخل النقص على البنات والأخوات إذا كن لأب وأم أو لأب وأخذت الإمامية في ذلك بقول ابن عباس وتابعهم على ذلك الناصر وذهب سائر العلماء إلى القول بالعول كما ذهب إليه علماء الصحابة، وروى القول بالعول زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، وروي أنَّه كان يعيل المسألة الفرائض، وروى عليه السلام، عن أبيه، عن جده، عنه أنَّه كان لا يشرك وكان يعيل الفرائض، قال: وسأله ابن الكوي وهو يخطب عن ابنتين وأبوين وامرأة، فقال: صار ثمنها تسعاً، وقال في هذا الخبر بعض من خالنا أن علياً قاله على سبيل الإنكار والتعجب؛ كأنه قال: أصال ثمنها تسعاً وهذا من البعيد الذي لا يشتبه على المحصل بطلانه؛ لأنَّه يؤدي إلى بطلان [إبطال] أكثر الشرائع؛ لأنَّه يمكن أن يتناول عليه أكر ألفاظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد رأيت في الإمامية من كان سلك هذه الطريقة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا نكاح إلاَّ بولي وشاهدين>، والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه من القول بالعول أن الفرائض قد اجتمعت وزادت على الأصل؛ ولا خلاف أن النقص يدخل على البنات والأخوات فيجب أن يدخل على غيرهن بعلة أن لكل واحد منهم سهماً وزادت جملة السهام على المال يوضح ذلك أن بعضهم ليس بالنقصان بأولى من بعض فيجب أن يستووا فيه على قدر سهامهم، ألا ترى أن المخالف لنا في هذا لا يخالف في أن المال إن زاد إلى السهام رد على كل واحد من ذوي الأرحام على قدر سهمه وكذلك النقصان. (120/2)
وحكي فيه عن ابن عباس أشياء كلها واهية؛ منها ما حكي عنه أنَّه قال: إن الذي أحصى رمل عالج يعلم أن المال لا يكون فيه نصف ونصف وثلث ذهب النصفان بالمال فأين الثلث؛ وهذا الكلام من لم يفهم أغراض القائلين بالعول وسلك طريق المتاعمي ليموه على الجهال الذين لا يفهمون ذلك أن القائلين لا يقولون أن الورثة يأخذون نصفاً ونصفاً وثلثاً كيف يتولون ذلك وقد قال سيد القائلين بالقول أمير المؤمنين صار أن ثمنها تسعاً فصرخ بأن حقها قد رجع إلى التسع وإنما يذكرون النصف والنصف والثلث ليعرفوا أصل السهام ويعرفوا كم يجب أن يكون مقدار النقص الداخل على كل واحد منهم فمن لهم ذلك كيف يقو ما حكي عن ابن عباس. (120/3)
ومثال هذا ما نقول فيه الرد للابنة النصف وللأم السدس والباقي يرد عليهما فتكون الفريضة من أربعة أسهم فذكر النصف والسدس وإن كان ما يعطي كل واحد منهما أكثر من ذلك ليعرف أصل لا سهام ومقدار الزيادة وفي من خفي عليه هذا الغرض من ظن أن ما قلناه من العول شيء يمتنع من جنة العقل وفي كشفنا عن الغرض ما يزيل التوهم والتمويه وقد كان من أصحابنا من ضرب لذلك مثلاً فشبهه بالدين يزيد على المال أو الوصية تزيد على الثلث فيجب إدخال النقص على كل ذي حق فيفرق المخالف بين العول وبين ذلك بأن يكون لقصور المال أو لجهل الموصي؛ وهذا كلام لا معنى له؛ لأن غرض من ضرب المثل به أو يبين أنَّه لا يمتنع أن يدخل النقص على الجماعة على قدر حقوقهم واختلاف السبب لا يؤثر في ذلك فسقط هذا الفرق على أن الموصي قد يجوز أن يوصي به مع العلم بالحكم ويحكون الحكم ما ذكرنا على أنَّه يمكن أن يضرب له مثل سواه فيقال لو أن رجلاً دفع ديناراً إلى آخر وقال: إن حضرك زيد فأعطه النصف أ حضرك عمرو فأعطه النصف أو حضرك بكر فأعطه الثلث أو حضرك خالد فأعطه الثلثين فإن اجتمعوا فأقسم ذلك بينهم على قدر ما سميت لكل واحد منهم لص ذلك ولم يجب فيه شيء مما ظنه المخالف وكذلك العول، وحكي عن ابن عباس أنَّه قال: لو قدمتم من قدم الله عز وجل ما عالت فريضة فليس يخلوا م أن يكون أراد من قدمه الله في اللفظ أو في الحكم فإن أراد التقديم في اللفظ فإن اللفظ قدم فيه الابنة والبنات وهو يدخل النقص عليهم خصوصاً وكان الواجب على هذا أن يكون توفيت حهن؛ لأنهن اللواتي قدمن في اللفظ وإن قال: مرادي من قدم في الحكم فيه تنازعنا، فإن الجميع فيه شرع سواء كما أنهم استووا في الرد نه الزيادة من غير مراعاة التقديم والتأخير، وحكي عنه أنَّه قال إن المقدم هو إذا زال عن فرضه لم يكن له إلاَّ ما بقي يريد به البنات والأخوات وهذا لا معنى له؛ لأنا لا نسلم ذلك إذا لم يكن معهن بنون أو أخوة؛ لأنهن (120/4)
يصرن معهم عصبات يكون لهم ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين وهذا مما لا يخالف فيه ابن عباس فسقط هذا الإعتبار وهذا الذي ذهبنا إليه مزية الوضوح إلاَّ أن أكثر من يتكلم في هذا الباب لا يفهم ولا يحصل. (120/5)
واعلم: أن باقي مسائل هذا الباب على ما بيناه فلا غرض في ذكر أعيان تلك المسائل فتجاوزناها وقد ألزم ابن عباس القول بالعول في زوج وأم وأخيون لأم؛ لأن الأم لا يحجبها عنه أقل من ثلاثة أخوة فلا يجد بداً على أصله من إخال النقص على الجميع؛ لأن الأخ من الأم ليس هو كمن يأخذ ما بقي في شيء من المسائل فسقط ما اعتمده هذا يلزم ابن عباس خصوصاً دون الإمامية والناصر؛ لأنهم لا يورثون الأخوة مع الأم.
باب القول في الإرث على الولى (121/1)
إذا مات المعتق وترك ورثته وورثه معتقه كان الميراث لورثته دون ورثة معتقه إلاَّ أن لا يكون في ورثته عصبة وفضل المال على السهام فيجعل المال لعصبته المعتق، فإن ترك ابنة وابن مولاه فإن المال يكن لابنه دون ابن مولاه، فإن ترك ابنته وعصبة مولاه كان لابنته النصف وما بقي لعصبة مولاه، أما إذا كان في ورثة المعتق عصبة فلا خلاف أنهم أولى بالمال من عصبة مولاه؛ لأن مولى العتاق لا خلاف في أنَّه أبعد العصبات وأنه يسقط مع سائر عصبات الميت فإذا لم يكن في ورثة الميت عصبة وكان في ورثة المولى عصبة فلا خلاف أن عصبة المولى أولى بفاضل المال إذا لم يكن للميت عصبة من نسبه في باب العصبات وذكرنا الخلاف فيه فلا وجه لإعادته.
مسألة
قال: فإن ترك لنفسه ورثة ذوي السهام لا عصبة فيهم ولمولاه ورثة ذوي السهام لا عصبة فيهم جعل لكل ذي سهم من ورثته ورد الباقي عليهم بقدر سهامهم ولم يكن لورثة مولاه شيء، لا خلاف أن ذوي سهام المولى لا يرثون مع ذوي سهام الميت؛ لأن ورثة المولى يأخذون بالتعصيب ولا تعصيب لذوي السهام، قال: وكذلك إن ترك الميت ذوي أرحام لنفسه وذوي أرحام لمولاه كان المال لذوي أرحام نفسه دون ذوي أرحام مولاه وهنا كالمسألة الأولى لا خلاف فيه.
مسألة
قال: فإن ترك ذوي أرحام مولاه ولم يترك لنفسه وارثاً كان المال لذوي أرحام مولاه والمحفوظ من غيره من العلماء أن المال يكون لبيت المال، ووجه قوله: إن وجد الولاء يحاز على وجه الإضطرار على حد لولاء الإضطرار لكان لا يحاز وذلك في عبد تزوج معتقه رجل فأولدها ثُمَّ مات الولد كان ولاؤه لمعتق أنه للضرورة فإن اعتق أبوه حر ولاؤه ومعتق الأم يجري مجرى ذوي الأرحام فإذا حاز الولاء بالإجماع عند الضرورة وجب أن يحوز ذووا أرحام المعتق للإضطرار وتقاس ابنة المولى على ابنة الأخ وابنة العم بعلة أن في منزلتها من الذكر من يحوز المال أجمع بالتعصيب فوجب أن تكون هي ترث في ذوي الأرحام ولا يلزم عليه الحالة وإن لم تكن للخال عصبة؛ لأنَّه وجد الحكم ولا علة وهذه المسألة قوية إن لم تكن خلاف الإجماع. (121/2)
مسألة
قال: ولا تدخل لنساء مع الرجال في تعصيب الولاء ذلك أن النساء لا يكن عصبة إلاَّ إذا عصبة إلاَّ إذا عصبهن الذكور الذين هم بمنزلتهن نحو البنات فإن البنين يعصبونهن والأخوات، فإن الأخوة يعصبونهن في ذلك لقوة الأخوة والبنين وليست هذه القوة للأعمام وبني الأعمام؛ لأنهم أضعف العصبات وأبعهم لهذا لا يدخلن النساء في الولاء إلاَّ على الضرورة كما نقول في توريث ذوي الأرحام، قال: ولو أن معتقاً مات وخلف ابن مولاه وابنته كان المولى لابن مولاه دون ابنته، وكذلك إن ترك أخاً لمولاه وأخته كان المال لأخيه دون أخته؛ وهذا مما لا خلاف فيه ووجهه ما بيناه من أن النساء لا يشاركن الرجال في الولاء.
مسألة
قال: ولو أن رجلين اعتقا مملوكاً وماتا ثُمَّ مات المملوك وكان للرجلين عصبة كان النصف لعصبة أحدهما والنصف الأخر لعصبة الأخر؛ وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <الولاء لمن أعتق>، فعلق الولاء بالعتق فإذا كان كل واحد منهما معتق نصف الولاء فأيهما مات وجب أن تقوم عصبته في النصف مقامه.
فإن قيل: كيف يصح هذا على قولكم أن العتق يتبعض؟ (121/3)
قيل له: ليس معنى قولنا أن العتق لا يتبعض أن العبد إذا أعتقه اثنان لم يكن نصف العتق لكل واحد منهما هذا مالا يذهب إليه أحد وإنما يريد بذلك أنَّه لا يجوز أن يكون عبد نصفه حر ونصفه مرقوق فعبرنا عن هذا المعنى بتلك العبارة والغرض ما بيناه فسقط هذا السؤال.
مسألة
قال: فإن كان لأحدهما عصبة ولم يكن للآخر عصبة كان النصف لعصبة أحدهما والنصف الآخر لورثة الآخر على تنزيل ذوي الأرحام وذلك أن كل واحد منهما على ما بيناه يجب أن يكون في نصيب صاحبه في حكم الأجنبي فلهذا لا يرث عصبة أحدهما على شيء من الأحوال النصف الباقي، فأما وضعه في ذوي الأرحام من لا عصبة له فقد مضى وجهه، قال: فإن لم يكن للآخر أحد من الورثة كان النصف الباقي لبيت مال المسلمين تخريجاً؛ وهذا ما لا خلاف فيه؛ لأن ذلك النصف إرث لا وارث له على وجه من الوجوه فيجب أن يكون لبيت المال بت.
باب القول في نوادر المواريث (122/1)
إذا مات الرجل وخلف وارثاً خنثى لبيسة فله نصف نصيب الذكور ونصف نصيب الأنثى سوى كان معه غيره أو لم يكن إلاَّ أن يكون في مسألة يستوي فيها الذكر والأنثى فله نصيبه، اختلف العلماء في خنثى لبيسة، فقال أبو حنيفة له أقل النصيبين كان يكون ابن خنثى يكون له نصيب الابنة؛ لأنَّه المتيقن والباقي يكون للابن وبه قال الشافعي إلاَّ أنَّه قال في الزائد يوقف حتى يتبين أمره وحكي عن محمد مثل قولنا وعن أبي يوسف أنَّه كان يقول بغيره ثمر رجع إلى مثل قولنا وما ذهبنا إليه به قال الشافعي وابن أبي ليلى، وحكي أنَّه قال به مالك وحكي عن قوم أنهم قالوا: إنَّه نصيب الذكر والأصل فيه ما روى زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه سئل عن ذلك فقال: (له نصيب الذكر ونصف نصيب الأنثى)، ووجه الاعتبار فيه أن من ترك ابناً وخنثى فلابن يستحق النصف لا محالة وهو سنة من اثني عشر والخنثى تستحق الثلث لا محالة وهو أربعة؛ لأن أقل أحواله أن يكون أنثى فيبقى بينهما سهمان لا يكون أحدهما إلى بهما من صاحبه فيجعلان بينهما فيكون للابن سبعة وللخنثى خمسة وذلك يكون نصف نصيب الذكر ثلاثة ونصف نصيب الأنثى سهمان ويبين ذلك ما أجمعنا عليه؛ أن داراً لو كانت في يد اثنين فادعياها جميعاً وجب أن تقسم بينهما؛ لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر فيها وكذلك لو ادعياها وليس في أيديهما فأقاما البنية جميعاً، وهكذا نقول نحن وأبو حنيفة في الجارية تكون بين رجلين قد وطئاها فولدت فادعياه؛ أنَّه يكون بينهما، ولهذا نضائر كثيرة والعلة في الجميع أنهما استويا فيه فوجب أن يكون بينهما، وكذلك مسألة الخنثى فإن قال أبو حنيفة لا يتيقن الخنثى إلاَّ نصيب الابنة فلا نعطيها أكثر من ذلك.
قيل له: ولا نتيقن للابن إلاَّ النصف ولا نعطيه أكثر من ذلك وهذا خلاف قوله، ويقال للشافعي لا وجه لتوفيق المال على الشك أربداً؛ لأن الأصول تشهد بخلاف ذلك، ألا ترى أنا لا نقف الدار التي ادعاها رجلان ولا الابن إذا ادعاه رجلان ولا العبدين اللذين يلتبس حالهما في العتق بل للكل منه حكم قاطع فوجب ا، يكون للخنثى كذلك، وكذلك الغرقى لا نقف أموالهم ولا مال الابن والأب وأن علمنا أن أحدهما مات قبل صاحبه إذا شكل أيهما مات أولاً على أنَّه إذا روى ذلك عن علي ولم يرو خلافه عن غيره من الصحابة جرى مجرى الإجماع فلا معنى لما ذهب إليه المخالف. (122/2)
فإن قيل: كيف نعطيه نصف نصيب الذكر ولا نعلم أنه ذكر ونصف نصيف الأنثى ولا نعلم أنَّه أنثى؟
قيل له: لو علمنا أنَّه ذكر لأعطيناه نصيب الذكر تاماً وكذلك لو علمناه أنثى لأعطيناه نصيب الأنثى تاماً؛ ولكنه لما التبس أعطيناه ما قلناه للوجه الذي بيناه، ويقال: لهم كيف يقتصرون به على نصيب الأنثى ولا يعلمون أنَّه أنثى؟ فلم يثبت للمسألة وجه إلاَّ ما ذكرناه، وقلنا: إلاَّ أن يكون في مسألة يستوي فيها حال الذكر والأنثى فله نصيبه وذلك كان يترك الرجل أخاً لأمه وخنثى فإن للخنثى مثل ما للأخ سواء كان ذكراً أو أنثى ثُمَّ يتغير نصيبه، ألا ترى أن تغير النصف لما كان للذكورة والأنوثة وجب أن يراعى حالهما فإذا سقط ذلك التغيير سقطته مراعاة حالهما في الذكورة والأنوثة وهكذا نقول في ذي الأرحام؛ لأنَّه يستوي ذكورهم وإناثهم عندنا.
مسألة
قال: وإن كان في مسألة يسقط فيها الذكر فله نصف نصيب الأنثى وإن كان في مسألة يسقط فيها الأنثى فله نصف نصيب الذكر فالأولى ما نذهب إليه في المشتركة وهي زوج وأم وأخت لأب وأم وأختان لأم فيقدر الذي من الأب والأم خنثى يكون له الربع ونقول المسألة بسهم ونصف؛ لأنَّه لو كان أنثى كان لها النصف ولو كان ذكر السقط؛ لأن الأخ للأب والأم لا سهم له وإنما يأخذ بالتعصيب وإذا لم يبق شيء عن السهام هو وهم فيه؛ لأنَّه لو كان ذكراً لكان لسائر الورثة دونه ولو كان أنثى كأن يترك الرجل ابن عم ومعه خنثى يجعل له نصف نصيب الذكر؛ لأنَّه لو كان أنثى كان ساقطاً لا شيء له، ولو كان ذكراً لكان له نصف جميع المال فجعلنا له ربع المال للوجه الذي بيناه وهو نصف نصيب الذكر. (122/3)
فصل:
اعتبر يحيى بن الحسين عليه السلام في الخنثى المبال فإن خرج بوله من الذكر حكم بأنه ذكر وإن خرج بوله من الفرج حكم بأنه أنثى وإن خرج منهما معاً اعتبر أيهما أسبق وهذا قول عامة العلماء، وحكي عن بعض أنَّه إن استويا اعتبر الكثرة؛ والأصل فيه ما روي عن علي عليه السلام أنَّه اعتبر المبال وقال: (إنه إن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل، وإن كان يبول من حيث تبول المرأة فهو امرأة)، روى ذلك زيد بن علي، عن أبيه، عن جده عليه السلام، وروي أيضاً غيره ذلك عنه واعتبرنا السبق؛ لأنَّه إذا خرج من أي الفرجين صار له به حكم فلم يجب أن يبطل بخروجه عن موضع آخر، وروي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سئل عن مولود يولد في قوم وله ما للمرأة وما للرجل كيف يورث؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <من حيث يبول>، وروي عن علي عليه السلام أنَّه اعتبر الأضلاع وقال: أن أضلاع الرجل من جانب اليسار تكون أنقص وأضلاع المرأة تكون من الجانبين سواء.
فصل:
حكي عن أبي يوسف أنَّه قال فيمن ترك ابناً وخنثى على قياس قوله من يقول له نصف نصيب الذكر ونصف نصيب الأنثى: أن المال بينهما على سبعة للابن أربعة وللخنثى ثلاثة، وقال محمد فيه مثل ما نص عليه يحيى؛ وهو أن المال بينما على اثني عشر للابن سبعة وللخنثى خمسة وبه قال عامة الفقهاء ممن قال بنصف نصيب الذكر ونصف نصيب الأنثى وهو الصَّحيح وذلك أن اعتبار أبي يوسف فاسد من وجهين أحدهما أنَّه جعل للابن أربعة وجعل للخنثى ولو كان بيناً سهمين ثُمَّ جعل له نصف نصيبه لو كان... وهو سهم واحد ونصف ونصيب الذكر وهو سهمان من أربعة فصار ثلاثة فاعتبر نصف نصيبه لو كان أنثى ولم يعتبر نصف نصيبه لو كان ذكراً؛ لأنَّه لو كان ذكراً لكان له ثلاثة ولأخته ثلاثة ونصفه سهم ونصف وهو قولنا وإنما اعتبر حال الذكورة بنصيب أخيه والواجب اعتبار ما كان يستحقه لو كان ذكراً دون ما كان يستحقه أخوة كما اعتبر نصف نصيبه لو كان أنثى، والوجه الثاني: الذي من أجله قلنا: أن له نصف نصيب الأنثى ونصف نصيب الذكر على ما بيناه فيما تقدم وهو أنا وجدنا الابن يستحق النصف على التحقيق واليقين والخنثى تستحق الثلث على اليقين بقي ثلث مشكوك فيه فجعلناه بينهما؛ لأنَّه ليس أحدهما أولى به من الآخر على ما تقدم بيانه؛ وجعل أبو يوسف أربعة أسباع هذا السدس المشكوك فيه وهو أربعة دوانق من درهم ودانق للخنثى وثلاثة أسباعه وهو نصف درهم من درهم ودانق للابن وهذا فاسد لا وجه له؛ لأنَّه لم يجعله بينهما على السوية كما قلنا في سائر نظائره ولا اعتبرما يعتبره في الرد من رده على قدر سهامهما بل جعل للخنثى أكثر مما جعل للابن فقد ابن فساد اعتباره وصحة اعتبارنا في هذا الباب. (122/4)
مسألة
قال: وإذا غرق قوم أو انهدم عليهم بيت فلم يدر أيهم مات قبل صاحبه ورث الأموات بعضهم من بعض ثُمَّ يورث الأحياء من الأموات ما كان لهم في الأصل وما ورثوه ولا يورث الأموات بعضهم من بعض ما ورثوه، وفسر يحيى عليه السلام العمل في ذلك فقال: يجب أن يمات الواحد منهم أيهم كان ويحيى الباقون حتى يرثوه ثُمَّ يحيى الذي يميت ويمات من الباقين آخر حتى يرثوه يعمل ذلك بكل واحد منهم واحداً بعد واحد ولا يجب أن يمات اثنان منهم في حالة بل الميت في كل حال واحد والباقون أحياء حتى يصح العمل، فإذا أفرغ من ذلك أميتوا جملة معاً فورثهم الأحياء ولم يورث بعضهم من بعض في الإمامة الثاينة ولا يمات أحد منهم ثلاث دفعات بل لا يمات إلا مرتين مرة ليورث بعضهم من بعض مع الأحياء ومرة ليرثهم الأحياء منفردين، فأيهم العمل في ذلك ثُمَّ مثل بثلاث مسائل ذكرها، نحن نبينها إن شاء الله في آخر المسألة، أختلف العلماء في مسألة الغرقى، فروي عن علي عليه السلام أنَّه ورث بعضهم من بعض، وروث عنه أيضاً أنَّه ورث بعضهم من بعض وإلا ظهر أنَّه جماع أهل البيت عليهم السلام، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وبه قال شريح وإبراهيم النخعي والشعبي وبان أبي ليلى وجماعة من أهل الكوفة، وروي عن أبي ببكر أنَّه لم يورث بعضهم من بعض، وروي ذلك عن زيد بن ثابت وابن عباس والحسن بن علي عليهما السلام وبه قال الحسن في عدة من التابعين وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي ومالك، وحكي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسبب، ووجهه ما روي أن قوماً من خثعم قتلهم خالد بن الوليد وقد كانوا اجدوا حين رواه فوداهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصف الدية؛ لأنهم جائز أن يكونوا سجدوا لله؛ لأنهم كانوا كفاراً فاحتاط بذلك مع العلم بأنهم لو كانوا مسلمين لاستحقوا دية كاملة ولو كانوا كفاراً لم يستحقوا شيئاً ولم ينظر في أمرهم اليقين بحصول الإسلام بل احتاط فصار ذلك أصلاً في مثل هذه (122/5)
الأحوال في باب الاحتياط؛ فذلك قلنا في الغرقى: أنَّه يحتاط في توريث بعضهم من بعض للالتباس الواقع وأيضاً نفرض المسألة في أخوين مات أحدهما في أول الشهر والثاني في آخره وعرفنا ذلك على القطع والتبس أيهما الميت أولاً وأيهما الميت ثانياً فنقول يجب أن يورث كل أحد منهما من صاحبه؛ لأنا لو لم نفعل ذلك كنا قد أبطلنا حقاً ثابتاً من الميراث، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <من أبطل ميراثاً فرضه الله أبطل الله ميراثه من الجنة>، ولا يمكن الخروج من عهدة هذا الحديث إلاَّ بتوريث بعضهم من بعض، وإذا ثبت ذلك فيما ذكرنا ثبت في الغرقى إذ لم يفصل أحد بينهما. (122/6)
فإن قيل: كيف يكون الواحد في حالة واحدة وارثاً موروثاً؟
قيل له: لا يمتنع أن يكون ذلك حكماً كما أنا نعلم أنَّه لا يجوز أن يكون الواحد مسلماً كافراً في حالة واحدة فإن جعلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك حكماً للالتباس فكذلك الغرقى، وأيضاً لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة وأصحابه فيمن أعتق أحد عبديه ومات ولم يبين الحر منهما أن العتق يقع عليهما ويسعى كل واد منهما في نصف قيمته ولا وجه إلاَّ الإلتباس؛ لأن المعتق لا سعاية عليه والذي لم يعتق لا يجوز أن يجعل مراًّ بالسعاية، وإنما جاز ذلك للإلتباس وكذلك إذا بان إحدى نسائه ومات يجعل الربع والثمن بينهن للإلتباس وإن كان المعلوم أن التي بينت لا حق لها في الإرث وكذلك الخنثى يجري فيها وإن اختلف في وجه التحري على أنا قد بينا أن الصَّحيح ما ذهبنا إليه من أن له نصف نصيب الذكر ونصف نصيب الأنثى.
فإن قيل: الأصل في كل أمرين لم يعرف تاريخهما أن يجعلهما في الحكم واقعين معاً.
قيل له: ذلك يكون فيما لم يبعد وقوعهما معاً فأما فيما يبعد وقوعهما معاً حتى لا يتفق ذلك إلاَّ ندراً فلا نقول فيه ذلك بل نحتاط فيه ويبعد في الغرق أن يكون موتهم معاً حتى يصادف آخر جزء من حيوة أحدهم آخر جز من حيوة الآخر؛ لأن ذلك إن اتفق كان نادراً والنادر لا حكم له. (122/7)
فإن قيل: روي عن علي عليه السلام أنَّه لم يورث قتلا الجمل وصفين بعضهم من بعض.
قيل له: وقد روي أنَّه ورث فيحمل ما روي أنَّه لم يورث أنَّه كان فيمن وقعت الشهادة أنهما قتلا معاً وما روي أنَّه وري فيمن التبس أمرهما ولا يمكن غير ما ذكرنا إذا حمل الخبران على الصدق، وإذا ثبت ذلك ثبت قولنا دون قول مخالفنا، وروى الناصر عليه السلام بإسناده أن رجلاً وابنه وأخوين قتلوا يوم صفين وما يدري أيهم قتل أولاً فورث على عليه السلام من بعض، وروي أيضاً بإسناده عن الحرث، عن علي في قوم غرقوا في سفينة؛ فورث بعضهم من بعض.
فأما المسائل التي ذكرها يحيى فالأولى أنَّه قتال في أخوين غرقا معاً ولم يدر أيهما مات أولاً وخلف كل واحد منهم ابنتين العمل في ذلك أن تميت أحدهما وتحيي الآخر فالذي أمته ترك ابنتين وأخاً فللبنتين الثلثان وما بقي فللأخ، ثُمَّ أمتهما جميعاً وورث ورثة كل واحد منهما ما في يده من ماله وميراثه من أخيه، ويكشف ذلك بأن تقدر أن الأكبر مات عن ثلاثة دنانير ولأخيه الميت ديناراً، ثُمَّ تقدر أن الأصغر مات أولاً فلابنته درهمان ولأخيه درهم، ثُمَّ تقدر أنهما ماتا جميعاً فيكون لابنتي الأكبر صاحب الدنانير ديناران ودرهم ولابنتي الأصغر صاحب الدراهم درهمان ودينار، والمسألة الثانية ولو أن مول مات هو ومولاه غرقاً ولم يدر أيهما مات أولاً وترك كل واحد منهما معاً ابنتين فإنك تميت المعتق أولاً فلابنتيه الثلثان ولمولاه المعتق الثلث، ثُمَّ متهما معاً فلابنتي المعتق الثلثان من مال أبيهما والثلثان من الثلث الذي ورثه من عبده المعتق والباقي للعصبة إن كان عصبة وإن لم يكن عصبة رد عليهما ولابنتي العبد الثلثان من مال أبيهما فقط؛ لأن العبد المعتق لا يرث من مال مولاه المعتق شيئاً، والمسألة الثالثة: قال: فإن كانت المسألة بحالها وكان مع ابنتي المعتق أخوهما فلابنتي العبد الثلثان على كل حال من مال أبيهما العبد وفي حال ما يكون السيد مات أولاً الثلث الباقي لابن السيد دون ابنتيه وفي حال ما يكون السيد مات أولاً الثلث الباقي لابن السيد دون ابنتيه، وفي حال ما يكن العبد مات أولاًً يكون لابنتيه الثلثان وليسده الباقي وهو الثلث ثُمَّ يكون الثلث لابنه وابنتيه على أربعة أسهم للذكر مثل حظ الأنثيين. (122/8)
اعلم: أنَّه عني بقوله لابن المعتق المولى الثلث إن كان مات أبوه أولاً ثُمَّ مات العبد على تقدير أنَّه قد علم ذلك أو صح بالبينة وهو في ذلك خارج عن تقدير ميراث الغرقى وتوريث بعضهم من بعض، وأما إذا التبس فالجواب ما ذكره أخيراً من أن الثلث من تركة العبد بين أولاد السيد للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنا قد بينا في صدر هذه المسألة أن الأمانية تكون مرتين مرة مرة واحداً بعد واحد مرة حين يماتان معاً، والقول الذي نقول فيه أن الثلث لابن المعتق يؤدي إلى أن تكون الإماتة ثلاثاً ويؤدي إلى أن يكون التوريث على الأحوال؛ وذلك على أن المراد به إذا ارتفع اللبس وذهب بعض المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة إلى توريث الغرقى بعضهم من بعض على أصح الأحوال في القياس؛ لأنا لا نتحقق أيهم مات أولاً فنقول: أنَّه في حال يرث وفي حال لا يرث ويجعل له نصف الإرث كمال نقول ذلك في العبدين إذا أعتق أحدهما والتبس، وكما نقول: في الخنثى وهذا وإن كان صحيحاً من جهة القياس فهو قول ساقط بالإجماع؛ لأن المسلمين أحد رجلين رجل لا يرى توريث الغرقى وبعضهم من بعض فهذا القول عنده باطل، ورجل يرى توريث بعضهم من بعض فيسلك في العمل الطريقة التي ذكرنا ولا يقول بريقه الأحوال ويرى أنها غير صحيحة؛ فوجب سقوطه بالإجماع وثبت أن الطريقة في عمله ما قدمنا ذكره لإطباق القائلين بالتوريث عليها. (122/9)
مسألة
قال: وإن مات الرجل وترك حملاً فاستعجل الورثة للقسمة فينبغي أن يتركوا نصيب أربعة ذكور ثُمَّ يقسموا ما بقي فإذا وضعت المرأة صححوا القسمة على حسب ما يضع؛ ووجهه أن حمل أربعة قد يتفقوا في مجرى العادات واختار أن يؤخذ أنصباؤهم للإحتياط، فيكون في مسألة يفضل فيها الذكور على الإناث وإن كان في مسألة يستوي فيها الذكور والإناث تركوا نصيب أربعة ولم يشترط فيها الذكور.
فإن قيل: فهلا ترك أكثر م ذلك فإنه يحتمل في قدرة الله عز وجل أن تحمل المرأة بخمسة أو أكثر.
قيل له: رأي هو أن ذلك لم يتفق ولم يعرف فلم يحمل الحكم عليه على أن أحداً فيما بلغنا لم يقل بذلك؛ فوجب سقوطه. (122/10)
مسألة
والمفقود لا يورث ماله ولا تتزوج امرأتين حتى يضح الخبر بموته، وهذا قد مضى الكلام فيه في الكتاب النكاح.
مسألة
قال: فإن اقتسم الورثة ماله بخبر ورد عليهم بموته ثُمَّ انكشف أن الخبر كان كذباً رد كل واحد منهم ما أخذ وكذلك إن كانت امرأته تزوجت بطل النكاح وكان الرجل الذي لم يثبت خبر موته أولى بالنكاح، كذلك إن كان ورثته ورثوا مملوكاً واعتقوه رد في الرق؛ وهذه الجملة لا خلاف فيها؛ لأن النكاح كان ثاباً ولم يعرض ما يزيله ولأن الورثة لا يملكون ماله إلاَّ بموته فإذا لم يكن موت فهو على ملكه.
فصل (ذكر في باب المفقود): (123/1)
في كتاب النكاح من الأحكام أن امرأته لا تتزوج حتى تعلم خبر موته وتوقن يقيناً بموته، فإن أخطأت وتزوجت على أنَّه قد مات وكان ذلك الخبر بلغها، وقال في كتاب الفرائض من الأحكام: لا يقسم ماله ولا يورث حتى يعلم خبره فإن جهل الورثة أو أتاهم خبره فصرح أن موته لا يثبت إلاَّ باليقين والعلم وذلك لا يكون إلاَّ بأحد الوجهين: إما أن يعلم ذلك بخبر يوجب العلم أو بينة توجب الشريعة قبولها، فأما بخبر لا يوجب العلم فليس يجوز أن يحكم بذلك وقد نبه على ذلك بقوله: فإن أخطأت فتزوجت الخبر كان بلغها من وقاته فبين أن التزويج قد يرد خطأ لا يجوز، وقال: فإن جهل الورثة وأتاهم خبر فكان كذباً فتبين أيضاً أن العمل على الخبر جهل ولا شك أن المراد به إذا لم يوجب العلم ولا يكون شهادة يقتضيها الشرع؛ ووجهه أن تلك حقوق متعلق بالمفقود لا يجوز قطعها إلاَّ بما يجوز قطع سائر الحقوق به وذلك لا يكون إلاَّ بالبينة والخبر الموجب للعلم قطعها إلاَّ بما يجوز قطع سائر الحقوق به؛ وذلك لا يكون إلاَّ بالبينة والخبر الموجب للعلم.
فإن قيل: هلاّ أجريتموه مجرى أخيار الهدايا المتفق على جواز قبولها والعلم بها وكذلك خبر من في يده شيء فيقول أن صابه قد وكلني مبيعة.
قيل له: إن حالم الهداية إذا كان بالغاً ومن في يده الشيء ويدعي أن صاحبه وكله فإنما يقبله؛ لأن من في يده الشيء قوله مقبول لا فيه، وهذا أصل في الشريعة والخبر بموت المفقود ليس في يده شيء فيقبل قوله فيه وحامل الهدية إذا كان صبياً كان ذلك خلاف القياس وإنها أخبر استحساناً لا تباع عرف المسلمين وعادتهم في ذلك.
مسألة ذكر الأقارب في الفرائض (124/1)
قال: ولو أن وارثاً أقرب وارث آخر معه لزمه أقداره فيما في يده ولا أحفظ خلافاً في أن نسب القربة لا يثبت بإقرار بعض الورثة؛ لأن الإقرار بالنسب يضمن الإقرار على غيره وإقرار على غيره وإقرار الإنسان على غيره غير مقبول فأما الميراث فقد اختلف فيه فذهب الشافعي إلى أن لا ميراث للمقر له كما لا يثبت نسبه وحكاه الطحاوي في اختلاف الفقهاء عن الليث بن سعد، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وملك وعبيد الله بن الحسن أن المقري يقاسم المقر له ما في يده واختلوا في القسمة على ما نبينه، ووجه ما ذهبنا إليه من وجوب المقاسمة أن إقراره يتضمن أمرين أحدهما إقرار النسب والآخر إقرار ببعض ما يده فلما لم يثبت النسب؛ لأنَّه إقرار على الغير وجب أن يثبت وجوب المقاسمة؛ لأنَّه لا يتعداه كالعبد يقر بسرقة ما في يده أن أراده بالشرقة مقبول؛ لأنَّه إقرار على نفسه وإقراره بما في يده غير مقبول؛ لأنَّه إقرار على سيده؛ لأن ما في يده يكون ملكاً لسيده وكذلك المسألة التي اختلفنا فيها وكذلك لا يختلفون أن من مات عن اثنين فاقد أحدهما بزوجة كانت لأبيه أه يعطيها ما تستحقه مما في يده من الميراث وإن لم تثبت الزوجية فكذلك في إقرار أحد الأخوين بأخ ثالث، وأيضاً لو أن رجلاً شرى عبداً فقبضه ثُمَّ أقر أن البائع أعتقه وجحده البائع نفذ العتق ولم ينفسخ البيع، وكذلك لو أقر رجل أنَّه باع داره من رجل وأنكره المشتري وحلف كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة وإن لم تثبت وكذلك لو أقر أحد الوارثين بدين على الميت جاز إقراره على نفسه دون صاحبه فكل ذلك يشهد لصحة ما قلناه من أن المقر إذا تضمن إقراره أمرين أحدهما؛ يصح ويثبت، والآخر لا يصح ولا يثبت أن الإقرار بما يصح ويثبت يلزم دون غيره وإن كان أحد
الإقرارين مستنداً إلى الآخر والعلة في الجميع أنَّه أقر بجوفي يده محتمل ومعلوم أن ذلك كذب والإقرار المعلوم أنَّه كذب لا حكم له.
فإن قيل: لو أن رجلاً أقر أن عليه لصاحبه عشرة دراهم من ثمن هذا الثوب الذي في يد صاحبه لم يستحقها إن لم يسلم الثواب. (124/2)
قيل له: ليس هذا عروضاً لما قلناه؛ لأن إقراره تضمن ثبوت المال عليه على وجه يكون عوضاً للثوب فلا يسلم ذلك إلاَّ بتسليمه الثوب العوض وليس كذلك الإقرار بالأخ؛ لأنَّه لا يتضمن عوضاً للمال الذي يجب أن يقاسمه وهذا عندي فيه بعض النظر أنَّه لا يبعد أن يقال أن الإقرار بالعشرة يثبت دون الثوب؛ لأنَّه يجوز أن تكون العشرة لزمنه من ثمن ذلك الثوب بأن كان قد قبض الثوب ثُمَّ عاد إلى يد البائع فيسقط هذا السؤال وإلى الجواب الذي اخترته، أشار يحيى في الفنون.
مسألة
قال: فإن كان المقر له يحجب المقر حجبه وأخذ كل ما في يده وهذا ما لا خلاف فيه بين الذين أوجبوا المقاسمة؛ لأنَّه مقر أن ما في يده للمقر له وأنه لا حق له فيه، قال: فإن كان يشاركه شاركه فيما في يده ومثاله أن يكون رجل مات وترك أخوين لأب وأم فأقر أحدهما بأخ لهما في ميراثهما فللمنكر النصف وللأخ المقر له السدس سدس المال، قال أبو حنيفة وأصحابه: يقاسم المقر المقر له بنصف ما في يده، ما ذهبنا إليه قال به ابن أبي ليلى وعبيد الله بن الحسن، ووجه ما ذهبنا إليه أن المقر أقر أن له ثلثاً شائعاً في جميع المال فوجب أن لا يلزم إلاَّ ثلث ما في يده وهو سدس جميع المال؛ لأن ذلك القدر هو الذي تناوله الإقرار، ألا ترى أنَّه لو أقر لآخر أنَّه أوصى له بثلث المال لم يلزمه إلاَّ ثلث ما في يده؛ لأنَّه أقر له بثلث شائع في جميع المال، فكذلك ما اختلفنا فيه.
فإن قيل: أنَّه أقر أنَّه مثله في إسحاق ما يستحقه فوجب أن يسلم إليه نصف ما في يده.
قيل له: إقراره بأنه مثله إقرار بالنسب وذلك لم يثبت وإنما الإقرار الذي حكمنا بصحته هو الإقرار بما بيناه وهو مثل الإقرار بالوصية؛ لأنَّه إقرار بثلث شائع في جميع المال فوجب أن لا يقضى عليه إلاَّ بذلك، روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في رجل يموت وخلف ابنين فيقر أحدهما بأخ له قال: (يستوفي الذي أقر حقه ويدفع الفضل)، وهذا نصا ذهبنا إليه، وليس يحفظ عن الصحابة خلافه، قال: فإن كانت المسألة بحالها وأقر أحد الأخوين بابن الميت كان نصف المال للأخ المنكر والنصف الباقي للمقر له وليس للأخ المقر شيء وقد مضى وجهه وهو أنَّه يقر أنَّه لا حق له فيما في يده وأنه للمقر له. (124/3)
مسألة
قال: وابن الملاعنة لا يرث الملاعن وعصبته عصبة أمه يرثونه ويعقلون عنه، لا خلاف أنَّه لا يوارث الملاعن؛ لأن اللعان قد قطع ما بينهما من النسب فيسقط التوارث بينهما فأما موارثته لأمه وقرابة أمه فقد أجمعوا على حملها واختلفوا في كيفيتها، والمشهور عن علي عليه السلام مما رواه محمد بن منصور بإسناده، عن ابن أ[ي ليلى، عن الشعبي، عن علي عليه السلام في ميراث ابن الملاعنة قال: (ميراثه لأمه إن لم يكن غيرها، فإن كان معها أخوة أو زوج أو امرأة أعطي كل وارث الذي سمي له، فإن فضل من الميراث شيء رده على أمه وعلى الورثة إلاَّ الزوج والمرأة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وروي نحوه عن زيد بن ثابت إلاَّ في الرد وبه قال الشافعي، وعمل أبو العباس الحسني قول يحيى رضي الله عنهما؛ عصبة عصبة أمه على ما روي عن علي عليه السلام، المراد به صعبة أمه إذا لم يكن غيرها وهو الصَّحيح عندي ويحتمل أن يكون المراد به الموالي إذا كانت أمه لها ولا وذلك مما لا خلاف فيه فظاهر ا قاله يحيى بن الحسين مروي عن عبد الله بن مسعود وغيره من علماء التابعين، وروى ذلك أيضاً عن علي والمشهور ما ذكرناه أولاً وعن ابن عباس مثل قول عبد الله وربما قاسوا سائر عصبتها على مواليها وهذا ضعيف؛ لأن حكم عصبها لو كان كذلك لوجب قديمهم على الموالي؛ لأن سائر العصبات أولى منهم وذلك خلاف الإجماع؛ لأنَّ الموالي لا خلاف أنهم أولى من سائر عصبات الأم والصحيح ما ذكرناه؛ لأنَّه بمنزلة ولد الزنا في أنَّه لا موارثة بينه وبين أبيه وأقرباء أبيه وأن مواريثه مقصورة على أمه ولا خلاف فإن حكمه موارثة أمه ما ذكرنا فكذلك ابن الملاعنة فعلى هذا يجب أن يجري الباب فيه. (124/4)
مسألة في ميراث المجوس لعنهم الله (125/1)
المجوس يرث بعضهم من بعض من جهة الأنساب من وجهين ولا يرثون من جهة الزوجية إلاَّ إذا كان النكاح صحيحاً، أختلف العلماء من الصحابة وغيرهم في تورثهم من وجهين؛ فذهب علي وعمر إلى توريثهم من وجهين واختلفت الرواية عن ابن مسعود فروي عنه التوريث من وجهين، وروى التوريث بأقرب النسبين وبه قال الشافعي، قال أبو حنيفة وأصحابه مثل قولا عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه كان يورث المجوس بالقرابة من وجهين ولا يورثهم بنكاح ولا تحل في الإسلام، قال يحيى بن الحسين وتفسيره ذلك أن مجوسياً وثب على ابنته فأولدها ثلاث بنات ثُمَّ مات فورث البنات الأربع الثلثين والباقي للعصبة ثُمَّ ماتت إحدى البنات الثلاث وتركت أخيها لأبيها وأمها وهي أختها لأبيها فللأم السدس ولأختيها لأبيها وأمها الثلثان فإن ماتت إحدى الابنتين الباقيتين فلأختها لأبيها وأمها النصف ولأختها لأبيها التي هي الأم السدس تكملة الثلثين ولها أيضاً السدس؛ لأنها أمها فقد ورثت من وجهين وحدبت نفسها بنفسها عن الثلث إلى السدس؛ لأنا أخت ثانية للميت، قال: وكذلك لو وثب مجوسي على ابنته فأولدها ابناً ثُمَّ مات الابن بعد أبيه كان لأمه الثلث؛ لأنها أمه ولها أيضاً النصف؛ لأنها أخته من أبيه فقد ورثت من وجهين، فإن كان له عصبة ورث الباقي وهو السدس فإن لم يكن رجع عليها الباقي على سبيل الرد وعند الشافعي لها الثلث بالأمومية ولا شيء لها؛ لأنَّها أخت؛ لأن نسب الأم أقوى؛ لأنَّها لا تسقط بحال، ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه لا خلاف بيننا وبينهم في ابني عم إذا كان أحدهما أخ لأم أنَّه يأخذ السدس؛ لأنَّه أخ لأم ويأخذ النصف الباقي؛ لأنَّه ابن عم وكذلك إذا أخلفت المرأة زوجاً وهو ابن العم يأخذ النصف؛ لأنَّه زوج ويأخذ الباقي؛ لأنَّه ابن العم وكذلك المعتق إذا أعتق جارية ثُمَّ تزوج بها ثُمَّ ماتت فله النصف بالزوجية والنصف الباقي
بالولاء فصح بما ذكرناه أن القرابتين والسببين بمنزلة الشخصين، فكذلك يجب أن يكون حكم المجوسي في هذا الكتاب. (125/2)
فإن قيل: وجدنا الأخت لأب وأم لا ترث من جهتين؛ لأنها لا ترث مورث الأخت من الأم.
قيل له: لأن الإرث يتعلق بالنسب والقراب أو بالسبب لا بجهات النسب والأخت من الأب والأم ليس لها إلاَّ نسب واحد وقرابة واحدة فلم تؤثر فيها الجهات، ألا ترى أن ابني العم لما كان أحدهما أخاً لأم ورث من جهتين لما حصلت له قرابتان فكذلك ما اختلفنا فيه وليبس يؤثر فيما قلناه أن ابن العم الذي هو أخ لأم يأخذ أحد النصيبين غير مقدر وهو نصيب التعصيب؛ لأن المقدر وغير المقر في هذا سواء وربما قالوا: إن الله غز وجل لا يجعل الحرام طريقاً إلى القرابتين فثبت بذلك أن فرض المجوس لم يؤخذ من طريق الاسم وهذا بعيد لا يقوله م يفهم؛ لأنَّه إذا جاز أن يجعل الله عز وجل طريقاً إلى القرابة الواحدة جاز أن يجعله طريقاً إلى قرابتين فما الذي يمنع فوضح سقوط التعلق به المخالف، وقلنا: أن النكاح لا يورث به إلاَّ أن يكون صحيحاً وهو الذي لو أسلما أقر عليه في الإسلام؛ لأنَّه لا خلاف فيه فيما أحفظ، ولأن الزوجية بينهما غير ثابتة إذ هي باطلة وإن خلينا بينهم وبينها للعهد والذمة كما يخلى بينهم وبين سائر الأنكحة المحظورات التي هي في مداهم مباحة وإذا بطل التزويج لم يقع التوارث به دليله سائر الأنكحة الفاسدة بين المسلمين وقد ذكرنا ما رواه زيد بنعلي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه كان لا يورثهم بنكاح لا يحل في الإسلام، وحكى ابن أبي هريرة، عن أبي شريح أنَّه قال: إذا كانت أخته زوجته ورثناها بأنها زوجة؛ لأن الأخت قد سقط في الإرث والزوجة لا تسقط بحال، قال ابن أبي هريرة: وهذا خلاف ما أجمع عليه أهل الفرائض؛ فوجب أن يكون قول ابن شريح ساقطاً، ووضح أن ما ذكرناه هو الإجماع.
مسألة
قال: وقد يحجب الوارث منهم نفسه بنفسه ومثاله ما ذكر يحيى في مجوسي أولد ابنتين فماتت إحدى الابنتين بعد أبيها وخلفت أختها لأبيها وأمها التي هي أختها من أبيها فلأختها من أبيها وأمها النصف ولأختها من أبيها التي هي أمها السدس تكملة الثلثين ولها السدس دون الثلث؛ لأنها حجبت نفسا بنفسها مع بنتها التي هي أخت المتوفاة لأبيها وأمها، وهذا ما لا خلاف فيه بين القائلين بتوريثهم من وجهين لما بيناه من أن القرابتين في الحكم كالشخصين فكأنه هذه المرأة تركت أختين إحداهما لأبيها وأمها والأخرى لأبيها وتركت أمها. (125/3)
فإن قيل: إن الله تعالى حجبها عن الثلث بغيرها فكيف حجبتموها بنفسها؟
قيل له: لسنا نسلم أن الله تعالى لم يحجبها عن الثلث بغيرها، وإن حجبها في مواضيع بغيرها؛ لأن الله حجبها بالأخوة وهي إذا كانت أختاً فقد حصل لها الاسم الموجب للحجب على أن النص وإن ورد بحجبها بغيرها فلنا أن نقيسها على الغير إذا ثبت أن نفسها في الحكم كأنها نفسان فما الذي يمنع من ذلك، قال: ويحكم بين أهل الذمة في المواريث وغيرها بأحكامنا وذلك لقول الله تعالى: {فَإِنْ جَاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}، إلى قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ}، بينهم بالقسط والحكم بالقسط هو إحكام المسلمين، ولقوله: {وَأَنِ احْكُمْْ بَيْنَهُمْ بَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، وذلك هو حكم الإسلام الذي أنزل الله على نبيه ولئن كل ما خالف حكم الإسلام من أحكام أهل الذمة وسائر المشركين باطل؛ لأنَّه إما أن يكون وضع في الأصل باطلاً من جهة رؤسائهم أو يكون حكماً صحيحاً قد نسخ بشريعتنا والمنسوخ باطل لا يجوز الحكم به فثبت أنَّه لا يجوز أن يحكم فيه فيهم إلاَّ بأحكامنا، وأما قوله عز وجل: {وَإِنْ حَكَمْتَ بَيْنَهُمْ}، فالمراد به والله أعلم أنهم إن ترافعوا إليك؛ لأنَّه ليس يلزمنا أن نتبعهم فيما لم يترافعوا إلينا وإنما نحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا لقوله عز وجل: {فَإِنْ جَاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ}، وقوله: {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}، معناه والله أعلم أن لم يترافعوا إليك ويؤكد ذلك أن الله تعالى قد ذم من لم يحكم بما أنزل الله بقوله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُلَئِكَ هُمُ الكَافِرُوْنَ}، والظالمون والفاسقون على أني لا أحفظ في المسألة خلافاً. (125/4)
باب القول في الذين لا توارث بينهم (126/1)
لا يرث قاتل العمد من المقتول شيئاً ويرث قاتل الخطأ من مال المقتول دون ديته؛ لا خلاف بين المسلمين أن قاتل العمد على وجه المعصية لا يرث لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا ميراث لقاتل>، ولا خلاف أيضاً أعرفه أن القاتل عمداً كان أو خطأً لا يرث من دية المقتول، فأما المال فقد اختلفوا فيه فذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي الثوري وعامة الفقهاء العلماء إلى أنهلا يرث منه كقاتل العمد، وذهب مالك إلى أنَّه لا يرث الدية مثل قولنا وبه قال الأوزاعي والحجة فيه الحديث الذي رواه داود القطبي بإسناده عن محمد بن سعيد الطائي، وليس هو محمد بن سعيد الشامي إذ الشامي قيل أنَّه كان ملحداً وأنه صلب ويعرف بالمصلوب، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام يوم فتح مكة فقال: <لا توارث بين أهل ملتين والمرأة ترث من دية زوجها ومال وهو يرث من ديتها ومالها ما لم يقتل أحدهما صاحبه عمداً، فإن قتل أحدهما صاحبه عمداً لم يرث من ديته وماله شيئاً وإن قتله خطأ ورث ماله ماله ولم يرث من ديته>، فما ذهبنا إليه هو الذي صرح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: روي عن علي رواه حلاس أن رجلاً رمى بحجراً فأصاب أمه فقتلها فغرمه علي عليه السلام الدية ونفاه من الميراث وقال: (إنما حظك من ميراثها الحجر).
قيل له: يجوز أن يكون الرجل تعمد رميها بالحجر والحجر ما تقتل مثله غالباً ومثله عندنا يوجب القود ولا يمتنع أن يكون عدل به عن القود على سبيل المراضاة لسائر الورثة فمنعه الميراث أنَّما كان؛ لأنَّه كان قاتل عمد، ويدل على ذلك أنَّه غرمه الدية ولو كان القتل خطأ لزمت الدية العاقلة.
فإن قيل: روي أن رجلاً حذف ابنه بالسيف فأصاب رجله فقتله فغرمه عمر الدية مغلظة ونفاه من الميراث وجعل ميراثه لأخيه وأمه.
قيل له: هذا كان عمداً، فكذلك أسقط ميراثه ووجه رد القود أنَّه كان أبا وعندنا أن الأب لا يقتل بالابن، وروى الناصر بإسناده، عن علي عليه السلام في رجل قتل ابنه قال: إن كان خطأ ورث وإن كان عمداً لم يرث ويقال لأبي حنيفة عندك أن الصبي والمجنون إذا قتلا لم يجر ما الميراث، حكى ذلك عنه الطحاوي في اختلاف الفقهاء فكذلك قاتل الخطأ والعلة أن القتل كان خطأ أو أن القتل وقع معرى من المآثم فكل قتل وقع من المآثم لم يجرم القاتل الميراث فيجعل ذلك أصلاً ويقاس عليه ما اختلفنا فيه بعلة تعري القتل عن الإثم وأصحاب الشافعي ربما عللوا منع القاتل الميراث بالتهمة في التوصل إلى تعجل الإرث وذلك بعيد؛ لأنهم يحرمون الميراث حيث تبعد التهمة؛ لأن الأب لو قتل خطأ ابنه الصغير الذي ليسله من الإرث إلاَّ اليسير منعوه الإرث فلا نتوجه التهمة أنَّه قتل ابنه لإرث يسير مثله لأبويه له مع الغنى وكثرة المال الذي يكون للأب على أن موضوع الإرث ليس أنَّه ممنوع عنه للتهمة كدرء الحدود أو الشهادة فلا وجه لما قالوه والصحيح ما نعلله به من أنَّه على سبيل العقوبة فلا يجب أن يحرم الابن حصل منه القتل على وجه يقتضي التآثم، وذلك أنا وجدنا المرتد يحرم الميراث على وجه العقوبة بدلالة أنه إذا ارتد حرم وإذا تاب منه عاد الإستحقاق، وبمثله يعرف أن الشيء على طريق العقوبة فإذا ثبت أن للعقوبة مدخلاً في المنع من الميراث صار ما عللناه به أولى فأما الدية فحرمناها للإجماع والنص؛ ولأنا لو لم نفعل كنا جعلنا الجناية سبباً للغنم وذلك خلاف موضوع الشرع، ألا ترى أنه لو ورثها لكان قد غنم بالجنائي؛ لأنَّه لو لم يجن لم يصل إلى الدية. (126/2)
مسألة
ولا توارث بني الأحرار والمماليك وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً؛ ولأن العبد عندنا لا يملك فلا يجوز أن يورث ولا يجوز أيضاً أن يرث؛ لأنَّه ممن لا يستقر له ملك فلو ورث لكان المولى هو الذي يرث ولا يصح أن يرث من ليس بينه وبينه رحم ولا سبب، قال: وإن مات الحر وله ابن مملوك واعتق قبل أن يحاز المال ورثه وهذا المراد به إذا لم يخلف وارثاً سواه وكان المال جهته بيت المال وقد بين ذلك يحيى في الأحكام، ووجهه أن المال إذا لم يحز وأعتق المملوك كان هو كواحد من المسلمين يتعلق حقه بذلك وتحصل له مزية الرحم فيجب أن يكون هو أولى بمال الميت من سائر المسلمين؛ لأنَّه واحد منهم وقد تعلق حقه به وحصلت له مزية الرحم، فوجب أن يكون المال دون بيت المال ومثل هذا نقول في المسلم إذا وجد في غنائم المشركين ماله بعينه أنَّه يكون أولى به قبل القسمة؛ لأنَّه واحد من المسلمين وتحصل له مزية الملك فأما إذا كان له وارث سواه فإنه لا يستحق شيئاً إذا اعتق بعد موته؛ لأنَّه إذا مات صار المال ملكاً للوارث وبهذا قال في نصراني أسلم بعد موت أبيه المسلم بساعة لا حق له في الميراث؛ لأن الميراث يصير ملكاً لغيره من الورثة ساعة موت الميت وذكر يحيى بن الحسي في الأحكام أنَّه روى عن أمير المؤمنين عليه السلام في مثله أنَّه اشتراه بمال الميت ثُمَّ أعتقه وورثه باقي المال. (126/3)
مسألة
قال: وإذا أعتق نصف المملوك ثُمَّ مات كان نصف المال لمولاه ونصفه لورثته وإن مات له قريب حر ورث نصف نصيبه لو كان حراً وهذا له أحد الوجهين إما أن يكون أراد به المكاتب الذي أدَّى نصف كتابته؛ لأن حكمه في باب الإرث وغيره يكون حكم من عتق نصفه وإن كان هو في الحقيقة عنده مملوكاً أو يكون حكم من عتق نصفه وإن كان و في الحقيقة عنده مملوكاً أو يكون أراد يبين الحكم على قول من يجوز أن يكون نصف العبد حراً ونصفه مملوكاً؛ لأن ذلك لا يصح على مذهبه على ما بيناه في كتاب العتق.
مسألة (المكاتب) (126/4)
قال: والمكاتب يرث ويورث على قدر ما أدَّى من مال الكتابة وهذا مما بيناه في كتاب العتق وبينا فيه أنَّه يسر في باب الإرث والدية والحد في حكم الحد في مقدار ما أدَّى وذكرنا فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <إذا أصاب المكاتب ميراثاً أو حداً فإنه يرث على مقدار ما عتق منه ويقام عليه الحد بمقدار [بقدر] ما أعتق منه>، وما روي من قوله: <يود المكاتب بحصته ما أدَّى دية حر وما بقي دية عبد واستوفينا الكلام فيه ولا معنى لإعادته.
(الكلام في الملل المختلفة) (127/1)
مسألة
قال ولا يرث الكفار أحد من المسلمين ولا المسلمون يرثون أحداً م الكفار إلاَّ لمرتد فإن ميراثه لورثته من المسلمين؛ لا خلاف بين المسلمين في أن الكفار لا يرث المسلم، والمسألة وفاق واختلفوا في المسلم هل يرث أهل الذمة؟ فذهب الإمامية والناصر إلى أن المسلم يرث الذمي وروى ذلك عن معاذ ومعوية، وذهب سائر العلماء إلى أن المسلم لا يرث الذمي والأصل فيه ما ذكرناه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم>.
فإن قيل: روي عن معاذ قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <الإسلام يزيد ولا ينقص نرثهم ولا يرثوننا>، وروي: <الإسلام يعلو ولا يعلا>.
قيل له: قوله يزيد ولا ينقص ويعلوا ولا يعلى لا يدل على استحقاق الإرث، ألا ترى أنا قد نخلي بين الكفار وبين كثير من الأحوال الدنيا كنكاح الأخوات والبنات وليس الحرير وما جرى مجراه ونمنع منه المسلمين ولا يدل هذا على أن الإسلام نقص منهم وكذلك نحد المسلم على شرب الخمر وإتيان الأمهات والأخوات ولا نحدهم، فإذا كان ذلك كذلك لم يكن في منع الإرث نقص كما ذكرنا بل ذلك أرفع الإسلام؛ لأن فيه قطع الولاية للإسلام ممن ليس بسلم، فأما قوله نرثه مولاه يرثوننا يجوز أن يكون المراد به المرتد ليكون ذلك استعمالاً للأخبار كلها ولا نكون تركنا المشهور من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا توارث بين أهل ملتين>، وقوله: <لا يرث المسلم الكافر>، على أن قطع الموارثة لو كان نقصاً لوجب أن يوارث الحربي.
فإن قيل: لا يرثوننا ونرثهم كما لا ينكحون إلينا وننكح إليهم.
قيل له: لسنا نجوز للمسلمين نكاح الذميات فبطل هذا السؤال على أن النكاح لم يوضع على الإرث؛ لأن القاتل ينكح امرأة المقتول ولا يرث ماله وكذلك العبد ينكح ولا يرث.
ميراث المرتد:
فأما المرتد فقد اختلف العلماء في ميراثه فذهب أبو حنيفة إلى أن ما اكتسبه قبل الرد ورثه ورثته المسلمون وما اكتسب بعد الردة كان لبيت المال وأبو يوسف ومحمد لم يفصلا بين ما اكتسبه قبل حال الردة وبعدها، وقالا: هو يورثه وبه قال يحيى بن الحسين عليه السلام؛ لأنَّه أطلق القول في ذلك ولم يخص، قال الشافعي: ما اكتسبه قبل الردة وبعدها هو في بيت مال المسلمين، قلنا: أن ميراثه لورثته من المسلمين لعموم قوله عز وجل: {يُوصِيْكُمُ اللَّهُ فِيْ أَوْلاَدِكُمْ}. وسائر آيات المواريث، ولما روي عن علي عليه السلام أنَّه قتل المستورد العجلي حين ارتد وجعل ميراثه لورثته من المسلمين. (127/2)
فإن قيل: يخصه حديث أسامة لا يرث السلم الكافر.
قيل له: أما الحديث لا يتوارث أهل ملتين له ولا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم فهو منع توارث أهل الملك المختلفة، ولا خلاف أنَّه لا ملة للمرتد وأنه ليس من أهل الملك يبين ذلك أن المرتد لا يرث من أهل الدين الذي انتقل إليه.
فإن قيل: فقد روي مطلقاًً من غير ذكر الملة.
قيل له: هو خبر واحد سامه بعض من رواه على وجه وحذف البعض على أن تخصيصه بالقرآن ألوى من تخصيص القرآن به؛ لأن تخصيص الأضعف بالأقوى أولى وجميع آيات المواريث توجب ما ذهبنا إليه وأيضاً ورثته قد ساووا المسلمين في الإسلام وحصل لهم مزية الرحم أو السبب فكانوا أولى من سائر المسلمين كما قلنا ذلك في ذوي الأرحام وكما أجمعوا عليه في الأخ من الأب والأم أنَّه أولى من الأخ للأب؛ لأنَّه حصل له سببان فكان أولى ممن حصل له سبب واحد، وأيضاً وجدنا المرتد ينتظر بماله الموت وما يجري مجرى الموت من القتل أو للحوق بدار الحرب؛ فوجب أن يكون له مال لورثته دليله مال المسلم ومال الذمي وعكسه مال الحربي ومال الوثني ويشهد لذلك مال الزاني الذي يجب به ومال من يلزمه القصاص وذلك القول هو المشهور عن علي وعبدالله وأبي بكر وعمر، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه كان ليستتيب المرتد ثلاثاً فإن تاب وإلا قتله وقسم ميراثه بين ورثته من المسلمين، فعم ولم يخص ما اكتسبه في حال الردة فأما روي عن أبي بكر أنَّه غنم أموال أهل الردة فوجه أنَّه صارت لهم منعة صاروا بمنزلة أهل الحرب وكذلك نسبي ذراريهم وأما أبو حنيفة فيقال له لا خلاف أن المرتد لو رجع إلى الإسلام لكان ما اكتسبه قبل الردة أو في حال الردة يكن أجمع ماله وملكه، فكذلك إذا قتل يجب أن يكون حكم الحالين حكماً واحداً وتحرير العلة فيه أن يقال هو مال لو أسلم وعليه ورجع عن الردة كان كما له فوجب أن يكن إذا مات أو قتل لورثته دليله ما اكتسبه قبل حال الردة ويشهد له أولاد المرتد؛ لأه لا يسئ منهم م ولد قبل ردته ولا في حال ردته بل حكمهم حكم واحد، فكذلك لا يغنم من ماله إلا ما اكتسبه قبل الردة ولا ما اكتسبه في حال الردة ويكشف ما قلناه في ذلك أنَّه إذا ظفر بمال الحربي لا يرجع إليه إن أسلم كما يرجع مال المرتد إليه الذي هو مكتسب في حال الردة. (127/3)
فصل:
والذي يجيء على مذهب يحي أن ديون المرتد ووصاياه منفذ مما اكتسبه قبل الردة وفي حال الردة وبه قال أبو يوسف ومحمد، قال أبو حنيفة وزفر لا يقضى بشيء من ذلك مما اكتسبه في حال الردة؛ لأنَّه فيّ وقد دللنا على أنَّه ماله دانه ليس بفيء؛ فوجب أن تقتضي منه ديونه وتنفذ وصاياه ويقال للشافعي في أصل المسألة ولأبي حنيفة فيما خالفانا أن مال المرتد إن استحقه لبيت المال لم يخلا استحقاق من إن يكون على سبيل الغنيمة أو على سبيل الإرث ولا يجوز أن يستحقه على سبيل الغنيمة؛ لأنَّه لو كان مستحقاً على سبيل الغنيمة لم ينتظر موته؛ لأن سائر ما يغنم متى ظفر به كان غنيمة ولا يعبر فيه موت المالك الأول ولا حياته ولو كان يستحقه على سبيل الإرث كان لا يجوز أن يستحقه وهناك ذوو السهام وعصبات فبطل أن يستحقه بيت المال. (127/4)
مسألة
قال: ولا توارث بين اليهود والنصارى ولا بين اليهود والمجوس ولا بين النصارى والمجوس ولا بينهم وبين عبدة النجوم؛ لأن مللهم مختلفة ولا توارث بين أهل ملتين مختلفتين والأصل فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا توارث بين أهل ملتين>، إلاَّ أن كثيراً من العلماء ذهبوا إلى أن الكفر كله ملة واحدة ونحن قد استقصينا الكلام في أن الكفر ملل مختلفة في كتاب النكاح وذكرنا فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: <لا تقبل شهادة ملة على ملة إلاَّ ملة الإسلام فإن شهادة المسلمين جائزة على أهل الملل>، وبينا أن ذلك يوجب أن تكون ثلاث ملل؛ لأن أقل الجمع ثلاثة فيقتضي أن الكفر أكثر من ملة واحدة وبينا فيه أيضاً أن اسم الملة يتناول الشريعة وأن شرائعهم مختلفة فوجب أن تكن مللهم مختلفة واستقصينا الكلام فيه استقصاء شافياً لا وجه لإعادته فوجب أن تكون مللهم مختلفة واستقصينا الكلام فيه استقصاء شافياً لا وجه لإعادته.
مسألة
قال: وإذا تنصر يهودي أو تيهود نصراني أو مجوسي أقر على ما صار إليه، فإن مات وخلف ورثة على الملك التي انتقل اليهادن ورثته الذين هم على الملة التي انتقل عنها، قد بينا في كتاب الحدود أن اليهودي إذا تنصر أو تمجس خلى بينه وبين ما صار إليه، وهذا معنى قولنا: أقر عليه، وبينا أنَّه لا يجب قتل من بدل دينه إلاَّ أن يبدل الإسلام بالكفر فإذا صح ذلك وصح أن ملل الكفر مختلفة صارت ملته ما انتقل إليها؛ لأنَّه انتقل إلى ملة وجب أن يخلى بينه وبينها وإذا صارت تلك ملته وجب أن نوارثهم ولم يجز أن نوارث أهل الملة التي انتقل عنها؛ لأنها ليست ملة. (127/5)
كتاب القضاء والأحكام (128/1)
باب القول في أدب القاضي
قال أيده الله: يحتاج أن يكون القاضي عالماً بما يقضي ورعاً في دينه عفيفاً عن أموال المسلمين حليماً وثيق العقل جيد التمييز صليباً في أمر الله، فإن نقص شيء من هذه الخصال كان ناقصاً، اختلفت العلماء في القاضي هل يجب أن يكون عالماً على الإطلاق حتى تكن منزلته منزلة المجتهدين أو يجوز أن يكون مقلداً فيما يحكم ولم يختلفوا في أن الأولى أن يكون عالماً قد بلغ نزلة المجتهدين، وذهب كثير من العلماء إلى أن يكون منزله منزلة المجتهدين وذكر أبو بكر الجصاص في شرح مختصر الطحاوي ما يدل على أنه يجوز أن يكون مقلداً، وذكر الطحاوي في المختصر ا يدل أن محمداً كان يجوز حكم المقلد ولم يصرح يحيى عليه السلام أن كونه عالماً على الحد الذي ذكرنا شرط في صحة قضائه، أم هو على أن يكون ذلك أولى؛ لأنَّه قال: يحتاد أن يكون القاضي عالماً، إلاَّ أنَّه لما قال في آخر الفصل: فإن نقص شيء من هذه الخلال كان ناقصاً، نبه على أنَّه هو ما ذكر من ذلك على سبيل الكمال وعلى انه هو الأولى ولم يجعله شرطاً فيجب أن يدل ذلك على أنَّه يجوز حكم المقلد، والأصل في القضاء قول الله تعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ}، وقوله عز وجل: {وَأَن احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ}، وقوله جل جلاله: {يَا دَاوُد إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيْفَةً فِيْ الأَرْضِ}، وروي عن عقبة بن عام قال: جاء خصمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: <اقض بينهما يا عقبة، قلت يا رسول الله أقضي بينهما وأنت حاضر؟ قال: اقض بينهما فإن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة واحدة>، وروي أنَّه بعث معاذ إلى اليمن قال: كيف أقضي بينهم؟ قال: <تقضي بينهم بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: ففي سنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة النبي؟ قال: اجتهد رابي لا آلوا فضرب
صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله>، وروي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران وإن اجتهد فأخطأ كان له أجر واحد>، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (أوّل القضاء ما في كتاب الله عز وجل، ثُمَّ ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ ما أجمع عليه الصالحون، فإن لم يوجد ذلك في كتاب الله ولا في السنة ولا فيما أجمع عليه الصالحون اجتهد الإمام في ذلك>، لأنا لو احتاطا واعبر وقاسم الأمور بعضها ببعض، فإذا تبين له الحق أمضاه ولقاضي المسلمين في ذلك ما لإمامهم، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده عليهم السلام قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فقلت يا رسول الله تبعثني وأنا شاب لا علم لي بالقضاء، فضرب بيده في صدري ودعى لي فقال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه ولقه الصواب وبته بالقول الثابت)، فكل ذلك يدل على أن الحاكم يجب أن يكون عالماً بالكتاب والسنة والإجتهاد وإن لم يدل على أن ذلك شرط في صحة قضاؤه، قولنا: إن حكم المقلد جائز؛ لأن التقليد هو طريق من قصر عن الإجتهاد يتوصل به إلى امتثال مراد الله عز وجل منه في فروع الأحكام كما أن الإجتهاد طريق يتوصل به المجتهد إلى امتثال مارد الله عز وجل منه في ذلك وكما أن الوحي طريق يتوصل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى امتثال مراد الله عز وجل منه في ذلك فكما جاز للمجتهد أن يحكم بالإجتهاد مع قصور حاله عن حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كذلك ويجوز للمقلد أن يحكم مع قصور حاله عن حال المجتهد؛ لأن كل ذلك هو تكليف من ذكرنا. (128/2)
فإن قيل: من شأن الحاكم أن يقطع إجتهاد المجتهد، فكيف يقطع التقليد الإجتهاد مع أنَّه دون الإجتهاد وأضعف منه؟
قيل له: لا يمتنع ذلك لأنا بالإجتهاد وخبر الواحد نرفع موجب العقل إذ يبيح بهما ما خطره العقل ويخطر بها ما أباحه العقل وإن كان كل وأحد منهما أضعف من موجب العقل وكذلك يخص بكل واحد منهما كتاب الله تعالى، ومن مذهبنا أن نسخ كتاب الله تعالى بخبر الواحد كان جائزاً لولا الإجماع على أن تقليد المقلد يستند إلى اجتهاده في تقليد من تقليده أولى وذلك جهة يغلب في ظنه حكم الحادثة كما أن الإجتهاد يغلب في ظن المجتهد حكم الحادثة فقد استويا من هذا الوجه، وإنما قلنا: أنَّه يجب أن يكون ورعاً؛ لأنَّه لا خلاف فيه؛ لأنَّه شرط العدالة في الشهود وأقل منزلة الحاكم أن يكون بمنزلة الشهود فما يجب أن يرعى في حال الشهود يجب أن يراعى في حالة الحاكم أو الحكام، وقلنا: يجب أن يكو عفيفاً عن أموال المسلمين للتأكيد؛ لأن عامة الحكام تتعلق بالأموال وإلا فالورع يشتمل عليه؛ لأنَّه لا ورع إلاَّ وهو عفيف عن أموال المسلمين، وقلنا: يجب أن يكون حليماً وثيق العقل جيد التمييز؛ لأن بالحلم والعقل وصحة التمييز يمكن التوصل إلى الفرق بين الحق والباطل والصحيح والفاسد؛ لأن من يستفره الغضب والخفة يضطرب عليه رأيه وإذا اضطرب رأيه اختل تبيين اشتبه عنه الحق والباطل، ويؤكد ذلك ما روي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: <يا علي لا تقض بين اثنين وأنت غضبان؛ ولأن صحة التمييز شرط في العدالة>، وحكي عن بعض المتقدمين أنَّه قال: (كنا نستسقي بمن لا تقبل شهادته أشار إلى أنَّه كان ورعاً ضعيف التمييز)، وقلنا أنَّه يكون صليباً في أمر الله؛ لأن لا يهن ويضعف فيه فيؤدي إلى أن يجتري القوي على الضعيف والشريف على المشروف، وقد قال الله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِيْ سَبِيْلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُوْنَ لَوْمَةَ لاَئِم}، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <إياك والإقراد، قالوا يا رسول الله وما (128/3)
الإقراد؟ قال: يكون أحدهم أميراً وعاملاً فيأتي الأرملة واليتيم والمسكين فيقول اقعد حتى ننظر في حاجتك يتركون مقردين لا تقضى لهم حاجة، ويأتي الرجل الغني أو الشريف يقعده إلى جنبه فيقول: ما حاجتك؟ قال حاجتي كذا وكذا، فيقول: اقضوا حاجته وعجلوا بها>، وإذا كان الرجل صليباً في أمر الله أمنت هذه الأحوال من جنته فمتى استكمل هذه الخلاف كان كاملاً وإن نقص منها شيء كان ناقصاً، قال: ويجب على القاضي أن يتعاهد من تقدم إليه من البلدان فيفصل أمره ولا يطيل احتباسه، وذلك أن الضرر عليهم في ذلك يكثر؛ لأن الغريب ليس كالقاطن فيما يلزمه من المون فلذلك خصه، والحاكم منصوب لدفع الضرر والأذى عن الناس فيلزمه أن يتوقا ما يدخل الضرر عليهم على أن فصل أمر القاضي أيضاً مما يجب ولا يجوز فيه تأخير إلاَّ أن الغريب أولى بذلك لئلا يعظم ضرره فإن كان الغريب ممن لا ضرر عليه في المقام لا في أهله ولا في حسب هو سوى بينه وبين القاطن بالتقديم والتأخير بت. (128/4)
مسألة
قال: ويستحب للقاضي أن يحرض على الصلح بين الناس ما لم يبن له الحق فإذا بان الحق وجب امضاؤه وذلك إن الله تعالى ندب إلى الصلح فقال عز وجل: {وَالصَّلْحُ خَيْرٌ، وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُس الشُّح}، وقال: {إِنْ يُرِيْدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}، وقال: {لاَ خَيْرَ فِيْ كَثِيْرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، ولا خلاف في جواز الصلح بين المسلمين، وروي أن كعب بن مالك تقاضى ديناً كان له على إنسان في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بيته فخرج إليهما فقال: <يا كعب، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار إليه بيده أتضع الشطر من دينك؟ قال: قد فعلت يا رسول الله>، وهذا إنَّما رآه للحاكم ما دام الأمر ملتبساً وما لم يصح الحق ولم يبن؛ لأنَّه بعد أن بين الحق ويظهر ويطلب الخصم إمضاء الحكم لا يحل تأخيره بوجه من الوجوه وإطلاقه القول بأنه إذا بان له الحق وجب عليه إمضاؤه من غير أن يشترط أن يكون بأن له بالبينة والإقرار يوجب أن يلزمه إمضاء الحكم بعلمه؛ لأنَّه إذا علمه فقد بان له وعلى هذا الإطلاق لا يجب أن يفصل بين ما علمه قبل القضاء أو بعد القضاء، وقد اختلف فيذلك، فذهب أبو حنيفة إلى أن الحاكم يتحكم بعلمه إذا علمه بعد القضاء وحيث هو قاض فيه ولا يحكم بعلمه على قبل القضاء أو حيث لا ينفذ فيه حكمه، وقال أبو يوسف ومحمد: يحكم ... بعلمه على أي وجه حصل قبل القضاء وبعد وهو تقتضيه إطلاق يحيى عليه السلام، وقال مالك: لا يحكم علمه على وجه من الوجوه، وحكى أنَّه للشافعي على قولين وقرأت فيما علق ابن أبي هريرة إن أصح القولين هو القول: بأنه يحكم بعلمه ولم يشترط أن يكون علمه قبل القضاء أو بعده، ويدل على ذلك قول الله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعِ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}، فإذا علم الشيء فعلمه به حق قد (128/5)
جاءه فيجب أن يحكم به، وقال: وإن حكمت {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}، ولا قسط أوضح من أن يعلم أن المحكوم له محق، وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}، فمتى علم أنَّه الحق لإنسان لزمه الحكم به، لا خلاف أنَّه يحكم بالظن الذي يحصل له عند شهادة الشاهدين فأولى أن يحكم بعلمه الذي علمه بالمشاهدة؛ لأن العلم أقوى من الظن، ولا خلاف أن لغير الحاكم أن يمنع الظالم من ظلمه إذا عرف ذلك وتحققه على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأولى أن يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه وأيضاً لا خلاف أنَّه جائز الاقتصار على حاكم واحد، فدل ذلك على أن قوله فيه مقبول، ألا ترى أن الشاهد لما لم يكن قوله مقبولاً وحده لم يكن بد من إنضمام شاهد آخر فإذا ثبت أن قوله فيه مقبول فمتى قال اعلم يجب أن يكون مقبولاً منه ومتى كان مقبولاً جاز امضاؤه، وأيضاً لا خلاف أنَّه يجوز له الحكم بما يراه فيما يختلف فيه وبما يعلمه فيما لا يختلف فيه بل لا يجوز غيره فكذلك يجوز له أن يحكم بما علمه من حال الخصومة والمعنى أنه حكم بما علم. (128/6)
فإن قيل: علمه قبل القضاء لم يكن يجوز أن يحكم به إلاَّ مع آخر فكذلك إذا تقلد القضاء لم يجب أن يتغير.
قيل له: يجب أن يتغير وذلك أنَّه قبل القضاء، النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحكم بعلمه حين جحده الأعرابي بيع فرس له منه حتى شهد له خزيمة.
قيل له: ذلك لم يكن على سبيل الحكم، ألا ترى أن الحاكم لا يحكم لنفسه وإنما كان والله أعلم ليتعرف بصائر أصحابه أو ليعرفهما من حميت عليه، فإذا ثبت ذلك لم يكن للفصل بين ما علمه قبل القضاء وبعده وجه كما ذهب إليه أبو حنيفة، ألا ترى الشاة لما جاز أن يشهد بعلمه لم يكن فصل ما علمه قبل حال العدالة وجواز شهادته وبين ما علمه قبل ذلك وإنما المعتبر كان بحصول العلم.
فإن قيل: علمه قبل القضاء لم يكن يجوز أن يحكم به إلاَّ مع آخر فكذلك إذا تقلد القضاء لم يجب أن يتغير.
قيل له: يجب أن يتغير وذلك أنَّه قبل القضاء لم يجز هل أن يحكم به؛ لأنَّه كان ممن لا يصخ حكمه فإذا صار ممن يصح حكمه جاز أن يحكم به، ألا ترى أن من عل الشيء في حال صغره أو فسقه أو كفره لم يجز أن تقع به الشهادة حتى إذا بلغ وصار عدلاً صح أن تقع به الشهادة بتغير حكمه؛ لأن العلة في ذلك أنَّه ممن لا تصح شهادته فكذلك الحاكم، وأيضاً لا خلاف أن القاضي إذا علم الشيء بخلاف ما وقعت الشهادة سوى علمه قبل القضاء أو بعده لم يجز له الحكم بتلك الشهادة فبان أن علمه أقوى من الشادة على أي حال حصل العلم له. (128/7)
مسألة
قال: ويجب على القاضي إذا تقاضى إليه خصمان ألاّ يقض أحدهما حتى يسمع كلامهما ويفهمه ويتثبت في حججهما والأصل في ذلك ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن: <يا علي إذا جلس بين يديك الخصمان فلا تعجل بالقضاء بينهما حتى تسمع ما يقول الآخر>، وقد قيل: إن الذي تاب منه داود صلى الله عليه وسلم أنَّه حكم بتظليم أحد المتداعيين قبل إسماع كلامه على ما حكى الله عز وجل حين قال: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ}، إلى قوله: {وَعِزَّنِيْ فِيْ الْخِطَابِ}، قال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}، فنبهه الله على الخطأ بقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}، فجعل الحكم بالحق، بعد سماع قول الخصم؛ ولأنه لا يجوز له أن يحكم حتى يتبين له الحق ولا يتبين له الحق حتى يسمع كلامهما ويثبت في حججهما مع التمكن من ذلك؛ لأن عليه الاحتياط وبذل المجهود في التوصل إلى معرفة الصحيح من الفاسد.
مسألة
قال: ويجب أن يسوي بين الخصمين في المجلس والإقبال والتسليم والإصاخة، والأص فيه ما رواه زيد بن علي، عن أبي، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <لا يضعن أحد الخصمين دون صاحبه فأمر بالتسوية بينهما>، وروى الجصاص بإساده عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظة وإشارته ومقعده ومجلسه ولا يرفع صوته على أحد الخصمان ما لم يرفع على الآخر>، يدل على وجوب التسوية وروي أن رجلاً أتى علياً ع فأضافه تقرب إليه في خصومة، فقال علي عليه السلام: (أخصم أنت؟ قال: نعم، قال: فتحول عنا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهانا أن نضيف الخصم إلاَّ ومعه خصمه)، فكل ذلك موجب للتسوية، وروي أن علياً خاصم نصرانياً في درع وجده في يده ورافعه إلى شريح فلما حضره جلس إلى جنب شريح وقال: لولا إن خصمي ذمي ما جلست إلاَّ جنبه لكن أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نذلهم ونلقاهم بالصغار أو كلاماً، هذا معناه ومن التسوية بينهما إلاَّ يكلم واحداً منهما إذا حضره بل يخلي حتى ينك ما أو يقول: مالكما، أو ما الذي جاء بكما، ولا يفرد أحدهما بالكلام. (128/8)
مسألة
قال: ويستحب أن يبدأ بالإستماع من أضعفهما إلاَّ أن يكون القوي هو المستعدي، وهذا إذا كان كل واحد منهما يستدي على صاحبه، فأما إذا كان المستعدي أحدهما فيجب أن يسمع كلام المستعدي قوياً كان أو ضعيفاً وإنما استحب أن يبدأ بالإستماع من أضعفها؛ لأنَّه لا يمكن أن يستمع كلاهما معاً؛ لنه يمنع من تفهم ما يورد أن فلا بد من استماع كلام أحدهما فرأي أن استماع كلام الأضعف أولى؛ لأنَّه يخبر بذلك ضعفه ويكسبه بعض القوة حتى تكون نفسه تقوى على مخاصمة من هو أقوى منه إذ لو ابتدى باستماع كلام الأقوى كان قد زاد هذا ضفعاً وذلك خلاف التسوية فأما إذا كان المستعدي هو الأقوى فلا بد من استماع كلامه وإلا كان ظالماً.
مسألة
قال: ويكره أن يقضي وهو غضبان أو جائع شديد الجوع أو مستغل القلب بأمر من الأمور سوى ما هو فيه وذلك لما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن: <يا علي لا تقض بين اثنين وأنت غضبان>، وروى غيره أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان>، وعن أبي سعيد الخدري فيما رواه الجصاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقضي القاضي إلاَّ وهو شبعان ريّان>، فدل ذلك على أن كل ما يشغله ها هو فيه من التأذي بالبول والنعاس والسبع المفرط يجب أن يكون مجانباً له في حال الحكم وعلى هذا إن كان حضور العلماء يورثه الضجر واشتغال القلب نحاهم عن نفسه وإن كان ذلك فالأولى أن يحضروه ليوبهوه على ما يجب تنبيهه عليه من هفوة أو زلة وكذلك للحكم ما لم يلحقه الضجر الشاغل ولفكرة ويتخير له أوقاتاً يعلم أن درعه فيها يكون أخلى؛ ولأن جميع ذلك مما يبلج الخاطر ويفسد الفهم ويمنع عن شدة التميز ويختلط عليه الأمر ويلتبس الحق بالباطل فلذلك وجب للقاضي أن يتوقى في حال قضائه كلما يوجب شغل الفكر واختلاط الأمر. (128/9)
مسألة
قال: ولا يجوز له أن يقبل الهدايا من الناس فإن قبل كان لبيت مال المسلمين وهذا قد بينا ما ورد فيه في كتاب الزكاة من الآثار؛ ولأنه نهم وجار مجرى الرشوة، وعن علي عليه السلام من طريق زيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: <يا علي لا تقبل هدية مخاصم ولا تضيفه دون خصمه>، وروي: <هدايا الأمراء غلول>، قال أبو العباس الحسني: يجيء على مذهبه من كان يهاديه قبل القضاء يجوز أن يقبل هديته بعد القضاء وكذلك هدية ذي الرحم؛ لأنَّه نع قبولها إذا كانت الهدية لمكان الولاية والهمة والذي ذكرناه لا مسرح فيه لهذه العلة.
مسألة
قال: ولا يجوز له أن يضيف أحد الخصمين تخريجاً وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن علي من النهي وهو إذا منعه من تخصيص أحد الخصمين بسلام دون خصمه كان الضيافة بذلك أولى؛ لأنَّه خلاف التسوية بينهما وكل ما أدنى إلى أن يكون أحدهما مميزاًً عنده عن صاحبه فيجب أن يجتنبه، قال: ويكرث له حضور الدعوات وهذا مما دل عليه كلامه في منع التخصيص لأحدهما بالبال والسلام، قال أبو العباس رضي الله عنه: ذلك في خاص الدعوات؛ لأنها توجب أنهم الوليمة وما جرى مجراها ذكر أنَّه جائز له حضورها إذ لا تهمة فيها، وقال: ذلك بشرط أن لا يكون لصاحب الوليمة خصومة وكل ذلك قريب، والأصل في جميع ذلك أن يتوقى مواقع التهمة والتخصيص لأحد الخصمين؛ لأن كل ذلك مما نهى عنه وأجمع على أنَّه لا يجوز. (128/10)
مسألة
قال: ولا يجوز له أن يخوض مع الخصم في شيء من أمره أو يشير برأي إلاَّ أن يأمره بتقوى الله والإنصاف لخصمه وذلك أنَّه متى فعل شيئاً من أمره أو يشير برأي إلاَّ أن يأمره بتقوى الله والإنصاف لخصمه وذلك أنَّه متى فعل شيئاً من ذلك يكون قد أعادنه على خصمه وترك التسوية بينهما وذلك مما لا يجوز ولذلك منع منه، ولأن ذلك أيضاً يوجب التهمة، قال: ويكره للإنسان طلب القضاء والحرص عليه؛ لأنَّه يعرض لإلتزام تكليف شديد لا يدري هل يؤديه أم لا، وهل يسلم منه أم لا ولذلك روي من قلد القضاء فقد ذبح بسكين، وروي عنه من طلب القضاء وكل إلى نفسه، وروي أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمارة فقال: <إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القامة حرب وندامة إلاَّ من أخذها بحقها وأذى الذي عليه فيها>، وهذا إذا لم يثق من نفسه بالوفاء أو كان بالمسلمين عنه غني بغيره فأما إن وثق بنفسه وعلم أن بالمسلمين عليه حاجة وأنه إذا لم يطلب لحق المسلمين ضرر لم يكره له طلب بل ربما للزمه طلبه والتعرض له، فإنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أوجبهما الله على عباده وعلى هذا يجب أن يكون طلب الإمامة أيضاً. (128/11)
مسألة
قال: ولو أن بعض الجوره قلد القضاء من يصلح له جاز قضاؤه تخريجاً، وهذا بينا وجهه في كتاب الوصايا؛ لأن المسألة مخرجة من مسألة في كتاب الوصايا فلا وجه لإعادته.
مسألة
قال: ولا يجوز تقليد النساء القضاء تخريجاً خرجه أبو العباس الحسني رضي الله عنه من قوله إن النساء أمر بالستر وعليهن من ستر أصواتهن ما عليهن من ستر وجوههن، قال: وذلك يمنع من كونها قاضية واحتج لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: < النساء عي وعورات فاستروا عيهن بالسكوت وعوراتهن بالبيوت>، ومع هذا لا يجوز أن تكون قاضية، وروي بإسناده في شرح القضاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <لما هلكوا كسرى من استخلفوا قالوا ابنته قال: لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة فذم صلى الله عليه وآله وسلم تولية النساء دولا يجوز أن يذم إلاَّ القبيح المنهي عنه وذلك يدل عندنا أنها فاسدة؛ لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه فثبت بذلك فساد ولايتهن. (128/12)
فإن قيل: فالوصية عند ولاية ويجوز أن يجعل ذلك إلى النساء.
قيل له: الظاهر يوجب المنع من ذلك لكنا اختصصناه بالإجماع على أن امتناع المسلمين من لدن الصحابة إلى يومنا هذا من توليتهن يدل على ما قلنا، وأيضاً لا خلاف أنَّه يجوز أن يولي القضاء في الحدود والقصاص فوجب أن لا يولين القضاء في سائر الأشياء قياساً على الفاسق، والعلة أنَّه لا يصح تولية القضاء في بعض الأشياء فكذلك في جميعها.
مسألة
قال: وينقض من أحكام البغي ما لم يوافع الحق فأما ما وافق الحق فإنه يمضي.
اعلم أن المراد به والله أعلم أحكام من يكون عدلاً في نفسه وتكون توليته من جهة أباه والباغي المتأول الذي يكون في سائر أحواله عدلاً إذ لا خلاف بين المسلمين أن المظهر للفسق على غير وجه التأويل إذا تولى الحكم بنفسه كان باطلاً وإنما اختلفوا في المتأول الذي يكون في سائر أحواله عدلاً وفي العدل المتولي من جهة الظلمة فلذلك حملنا قوله عليه وقد مضى الكلام في هذا في كتاب الوصية، ومما يدل على هذا أنَّه لم يثبت عن أمير المؤمنين أنَّه فسخ شيئاً من أحكام البغاة الذي حاربوا أو أظهر جواز فسخه فبان أن المتأولين أحكامهم ماضية ما وأفع الحق وإنما ينقض من أحكامهم ما ينقض من أحكام المحقين إذا وقع فيها الغلط والخطأ الذي يكو رد للنصوص أو الإجماع وتلك مسائل كثيرة منها قول من قال بإسقاط العصبة من ذوي الأرحام أو ذوي السهام فلو حكم هب حالكم وجب نقض حكمه؛ لأن ذلك إجماع الصحابة لم يختلف فيه أحد منهم وكذلك لو حكم حاكم لا يرى القياس بصحة بيع الآزر قفيز بقفيزين وجب نقض حكمه؛ لأن القياس قد ثبت أنَّه حق وإنه ليس من مسائل الإجتهاد وأجمع القائسون على تحريم ما ذكرنا وجملة الأمران الحكم إذا نفذ بإمضاء حاكم لا يكون طريقة الإجتهاد وقد كان على خلافه دليل فيجب أن ينقض سوى حكم به باغ أو عادل وما كان بخلاف ذلك لم يجز نقضه والأقرب على مذهبه أن بيع أم الولد إذا حكم به حاكم لم يجز نقضه وكذلك المؤنة إذا باع المدبر وحكم به حاكم وما لا يجوز نقضه إذا حكم به الحاكم من فروع الأحكام أكثر من أن يعد ويحصي فعلى هذا يجب أن يجري الباب. (128/13)
مسألة
قال: ويجوز القضاء على الغائب تخريجاً دلت مسائله على ذلك وبه كان يقول أبو العباس الحسني رضي الله عنه وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز القضاء على الغائب، وبه قال أصحابه والذي يدل على ذلك قول الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}، وقال: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}، وقال: {يَا دَاوُدُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيْفَةً فِيْ الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}، ولم يستثن اضباً من حاضر، فوجب الحاكم على الجميع. (128/14)
فإن قيل: من أين يثبت الحكم على الغائب حكماً بما أنزل الله أو حكماً بالقسط ليصح دخوله تحت الآية.
قيل له: الحكم بما أنزل الله وبالقسط من صفات الحكم لا م صفات المحكوم عليه ونحن اختلفنا في صفات المحكوم عليه دون صفات الحكم والعموم يقتضي الحكم على الغائب والحاضر بعد أن يكون الحكم على الصفة التي أمر الله عز وجل، ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لو أعطى قوم بدعاً وهم لا دعى قوم دماء قوم وأموالهم لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه>، فبين أن الذي على المدعي إذا أراد أن يستحق على الغير حقاً أن يقيم البينة فمتى أقام البينة حصل مستحقاً لأن يحكم له به حضر المحكوم عليه أو غاب.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا تقاضى إليك الخصمان فلا نقض لأحدهما حتى تسمع كلام الآخر.
قيل له: هذا إذا تقاضى إليك الخصمان فأما إذا غاب المدعي عليه فليس في الخبر ما يدل على أنَّه لا يحكم له عليه حتى يسمع قوله؛ لأن معنى قوله: <إذا تقاضى إليك>، إذا ترافعا إليك فإذا لم يحضر المدعي عليه لم يشمل الخبر على حكمه وفي بعض الأخبار: <إذا جلس بين يديك الخصمان>، فدل ذلك على أن الخبر وارد في حاضري المجلس.
فإن قيل: فقد روي: <لا نقض لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر>.
قيل له: الخبر واحد والقصة مشهورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي حين أخرجه إلى اليمن إلا أن بعض الرواة أوجز وبعضهم سرد على وجهه على أنَّه يقال لهم ظاهر الخبر جعل له أن يقضي حين يسمع كلام الآخر لأن حتى غاية فإذا قال: لا نقض لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر، كان المنع إلى حين يسمع كلامه وبعد سماعه يزول المنع ولا يصح ذلك إلاَّ بأن يكون سمع الدعوى والبينة، قال: يجوز القضاء على الغائب والخبر دال على جواز سماع الدعوى والبينة وإن لم يكن الخصم حاضراً ليس يبعد أن يجعل الخبر دليلنا في المسألة، ويدل على ذلك أنَّه لو حضر المدعي عليه وأنكر لوجب أن يستمع الدعوى والبينة من المدعي ويحكم له به، فكذلك وإن غاب والعلة حضور الدعوى المسموعة في الشرع والبينة المقبولة فيه على ما أمكن والمراد بهما على الصفة التي لو حضر الخصم معهما كانت البينة والدعوى صحيحتين وليس ينتقض بالخصم لو كان حاضراً البلد أو المجلس أنَّه لا يحكم عليه حتى يسأل لوجهين: (128/15)
أحدهما ـ أن كثيراً من القائلين القضاء على الغائب قد أجازوا ذلك وإن حضر الخصم البلد والمجلس.
والثاني ـ أنا قد اشترطنا الإمكان في علتنا، وإذا كان الخصم حاضر البلد مكن إحضاره والإستماع منه وإذا كان غائباً لم يمكن، ذلك يكشف قياسنا أنَّه لم يفت إلاَّ إنكار المعي عليه وليس ذلك مما يؤثر في صحة الدعوى أو البينة، فبان أن الحكم يتعلق بصحة الدعوى والبينة فمتى صحنا وجب الحكم، وأيضاً لو صح الإنكار ولم تصح الدعوى البينة لم يجب الحكم ومتى صحنا وجب الحكم فبان أن وجوب الحكم تعلق بصحتهما فوجب القضاء بهما متى حصلنا وصحتنا حضر المدعي عليه أو غاب.
فإن قيل: لمن ذهب على أنَّه يحكم على حاضر البلد قبل أن يستحضرا، هذه العلة ما يكون الحكم الذي تقتضيه العلة يكون هو الواجب وذلك لا يصح؛ لأنَّه لا خلاف أن الأولى أن يستحضره فكيف يكون واجباً ما يكون تركه أولى أو يكون الحكم إذا وقع نافذاً فهذا لا ننكره؛ لأنا لا نمتنع من وقوع الحكم ونفوذه على الغائب إذا قضاه الحاكم وأداه إجتهاده إليه. (128/16)
قيل له: حكم العلة هو الوجوب وفي كثير من الواجب ما يكون تأخيره أولى، ألا ترى أن الحكام يحتاطون في أول المجلس إذا تقررت الدعوى وحصل الإنكار وقامت البينة عدلت في أن يؤخذوا الحكم مجلساً بعد مجلس ليوده المدعي عليه حجة إن كانت له ويرون تأخير إبرام الحكم إحتياطاً وأولى وأن كان موجب الإمضاء قد في أول المجلس ومن مذهبنا ومذهب أكثر العلماء إن الصلاة تجب في أول الوقت ومع ذلك لا أحفظ خلا ف في العشاء الآخرة أن تأخيرها أفضل ولهذا نظائر كثيرة فقد بان أنَّه لا يمنع كثير من الواجبات أن يكون تأخيره أولى، ويدل على ذلك أيضاً أن الرواية المشهورة عن أبي حنيفة أن المصمم على السكوت إذا حضر يقضي عليه ويسمع عليه الدعوى والبينة وكذلك الغائب للعلة التي قدمناها أو لتعذر الوقوف على نص ما عنده؛ لأنَّه لا فرق بين أن يستمر على السكوت وبين أن يغيب في أن الحاكم يتعذر عليه الوقوف على ما في نفسه من الإقرار بما يدعي عليه أو الإنكار له.
فإن قيل: إنهما أعني الغائب والساكت افتر ما في جانب اليمين؛ لأن الساكت في حكم الناكل فيردون اليمين على المدعي ويحكمون به وليس كذلك الغائب فوجب أن يفترقا في جانب البينة حتى تسمع على الساكت ولا تسمع على الغائب.
قيل له: أما اليمين فلا تلزم المدعي إذا ادعى إلاَّ إذا طلب المدعي عليه ردها على المدعي فيستوي في ذلك الغائب والساكت وأما حكم النكول فلا يصح إلزامه الغائب؛ لأن النكول معنى لا يصح مع الغيبة كمال لا يصح الإقرار ولا الإنكار فذلك إقرار الحال من الغائب والساكت وسماع البينة ويصح البينة يصح على الغائب كما يصح على الساكت فلم يجب أن يفترق فيه حالاتهما، وأيضاً لا خلاف بيننا وبين أ[ي حنيفة أن الغائب يقضي عليه الحاكم بعلمه فكذلك يقضي عليه بالبينة؛ لأنها أحد الموجبين لتنفيذ الأحكام فإذا حلت وجب تنفيذ الحكم بها على أن البينة أقوى من العلم؛ لأنَّه لا خلاف أن البينة يقضي بها وقد اختلف في العلم هل يقضي به؛ ولأن العلم يقضي به قياساً على البينة فإذا جاز القضاء على الغائب للحاكم بالعلم كالجواز القضاء عيه بالبينة أولى بالبينة من القوة والمزية وهذا مما يمكن الإعتراض به على جميع ما يستدلون به من الأثر والنظر، ويدل على ذلك أن من مذهب أبي حنيفة وأصحابه أن رجلاً لو ادعى على آخر أنَّه ضمن له على آخر مالاً معلوماً بإذنه والمضمون عنه غائب سمع الحاكم لا بينة وحكم بها على الضامن ولا مضمون عنه فإن كان غائباً فكذلك سائر ما اختلفنا فيه والعلة أنَّه حكم بمال على الغائب بالدعوى المقررة بالبينة على أنَّه يقال لهم الغائب إذا حضر إما أن يقر فيزيد الحكم تأكيداً أو ينكر فمن شأن البينة أن يبطل الإنكار المجرد أو ينكر ويدلي بالحجة فالحة بعد الحكم مسموعة فلا وجه لتأثير الحكم. (128/17)
فإن قيل: يجب أن يحتاج للمدعي عليه بالكف عن الحكم حتى يسمع لحجته؛ لأنَّه وأورد الحجة بعد الحكم وخروج المال عنه لا يبعد أن يتلف المال أو يغيب المدعي فتوى ماله.
قيل له: مثل هذا في جنبت المدعي؛ لأنَّه لا يأمن أن حقه إن تأخر ربما يستهلك مال المدعي عليه ويفلس فيرى وجنبه المدعي أولى بالاحتياط؛ لأنَّه قد أقام البينة على ثبوت حقه فصار هذا الذي ذكروه وجهاً يقوى لنا. (128/18)
فإن قيل: لو كان حاضر المجلس لم يحكم عليه حتى يرجع إليه ويسأل وكذلك إذا كان غائباً.
قيل له: الحكام إنَّما نصبوا الاحتياط لكل واحد من الخصمين مما أمكن وإذا كان حاضراً فالاحتياط في السؤال والرجوع إليه لأنَّه لا ضرر على المدعي وإذا كان غائباً فالاحتياط للمدعي في أن يبرم حكمه؛ لأنَّه لا يمكنه سواه فافترق حاله في الغيبة والحضور على أن هذا يعترضه حكم الحاكم بعلمه وحكمه على الغائب إذا كان هناك خصم آخر.
فإن قيل: العلة في ذلك عدم الإنكار.
قيل له: لا يجوز أن يجعل ذلك علة؛ لأن الإنكار لا يؤثر في البينة فصار وجوده وعدمه سواء وما ذكرنا من الاحتياط معتبر في الأحكام فصار ما بيناه أولى.
فإن قيل: لما اتفقوا على أن المدعي عليه يحضر ويستحضر ثبت أن الحكم لا يجوز إلاَّ بحضوره.
قيل هل: هذا منتقض إذا حكم بعلمه الحاكم ويسأله الضمان ويقال لهم ذلك يفعل على سبيل الاحتياط؛ لأن الاحتياط يجب أن يؤخذ به ما أمكن ومثاله ما قلناه من أن عادة قضاة المسلمين أنهم إذا سمعوا الدعوى والإنكار والبينة والعدالة مهلوا الخصم مجلساً أو مجلسين أو مجالس ليورد حجته إن كانت له؛ لأن ذلك واجب؛ لأن فيه احتياطاً قد أمكن فكذلك استحضاره.
فإن قيل: قد أجمعوا أن القضاء للغائب لا يجوز فكذلك على الغائب والعلة غيبة أحد الخصمين.
قيل له: العلة في ذلك أن الحق لا يستقر بالبينة للغائب؛ لأن البينة تثبت مع الدعوى، ألا ترى أن المشهود له لو أكذب شهوده بطلت شهادتهم فلا بد م أن يكون هناك دعوى للمدعي فإذا غاب لم يصح الحكم وليس كذلك المحكوم عليه؛ لأن قوله لا يؤثر في البينة فوجب الفرق بينهما بما بيناه.
مسألة
قال: وليس للحاكم أن يحجر على البالغ الصَّحيح العقل والعاقل أولى بما له إلاَّ أن يفلس وترتكبه الديون، نص في الأحكام على إبطال الحجر ودلت مسائله في المنتخب على أه يفلسه للدين حتى منع قبول إقراره بما في يده في حال التفليس وجملة الخلاف في المسألة في موضعين أحدهما مع أبي حنيفة فإنه يبطل الحجر على جميع الوجوه، والثاني مع أبي يوسف ومحمد والشافعي فإنهم يرون حجر الشفعة كما يرون حجر الدين على اختلاف في تفصيل ذلك بينهم؛ لأن الجميع أجمعوا على أن حجر الدين لا يكون إلاَّ بالحكم، وقال محمد في حجر السفه: أنَّه يكون محجوراً عليه وإن لم يحجره الحاكم، والذي يدل على أنَّه لا وجه لحجر السفه قوله تعالى:{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}، فعم ولم يخص. (128/19)
فإن قيل: قد قال الله تعال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا}، فأمر بدفع الأموال عند إيناس الرشد.
قيل له: ليس فيه إنَّه إن لم يونس منه الرشد فلا تدفعوا على أن الرشد هو العقل والتمييز، فإذا بلغ عاقلاً مميزاً فهو رشيد ويدل على ذلك قوله:{لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}، فنبه عل أن التجارة إذا وقعت على التراضي صحت وحل المأخوذ بها، ويدل على ذلك الخبر المشهور أن رجلاً كان يغبن في الشراء والبيع لضعف كان في عقله فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: لا أصبر على البيع والشراء إذا بعت واشتريت فقل لا خلابة، وروي في بعض الأخبار ولي الخيار ثلاثاً وفي بعض الأخبار أنَّه قال: جعلني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أبيع وأشتري على الخيار ثلاثاً، وفي بعض الأخبار: أن أهله سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحجر عليه فنهاه عن البيع، فلما قال: لا أصبر، قال له ذلك، روى الحديث بألفاظ مختلفة وليس في شيء من ذلك أنه حجر عليه، فدل ذلك على أن الحجر ليس بواجب للسفه وليس لأحد أن يقول أنَّه لا يدل على أن لا يجوز؛ لأن أحداً لا يقول بجواز الحجر؛ لأن من العلماء من أوجبه ومنهم من منعه، ويدل على ذلك قوله عز وجل: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}، فعم ولم يخص ليستثن منه السفيه، وقال في وسط الآية: {فَإِنْ كَانَ الَّذِيْ عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيْهاً أَوْ ضَعِيْفاً}، إلى قوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}، فدل على أن المداينة تصح ممن فيه سفه في المال. (128/20)
فإن قيل: أمر وليه بالإملاء.
قيل له: قد قيل في التفسير أن المارد به ولي الحق يمله ويذكره به أن يحجر عن الذكر والضبط فيسقط السؤال مع هذا، وأيضاً لا خلاف أن المبذر لا يحبس فكذلك لا يحجر عليه ولهذا قلنا أنَّه يحجر عليه للدين؛ لأنَّه يحبس فيه لحق الغير فجاز أن يحجر عليه بحق الغير.
فإن قيل: روي الحجر عن عدة من الصحابة، وروي أن علياً سأل عثمان أن يحجر على عبد الله بن جعفر. (128/21)
قيل له: يحتمل أن يكون الحجر الذي رواه كان حجر الدين ونحن لا ننكره وكذا الحجر سأل علي عليه السلام عثمان يجوز أن يكون حجراً الدين؛ لأن عبد الله بن جعفر كان كثير الإفضال ومن كان كذلك ربما ارتكبه الدين.
فإن قيل: روي أنَّه سئل ذلك حين باع أو اشترى عبد الله شيئاً غبن فيه غبناً عظيماً فصح أنَّه كان حجر السدس.
قيل له: لا يمتنع ذلك أن يكون ذلك حجر الدين؛ لأن من عليه الدين إذا باع أو اشترى مع الغبن لم يؤمن ذهاب ماله وفيه توأما عليه من الدين، ويقال: لأبي يوسف والشافعي لو كان السفه يوجب الحجر لم يفتقر إلى حكم الحاكم به كالصبي ولا مجنون؛ ولأنه لما لم يحجر على نفسه لم يحجر على ماله كالرشيد، فأما ما يدل على وجوب الحجر للدين خلافاً لأبي حنيفة فما روي عن الصحابة وعلي عليه السلام من غير إنكار أحد منهم، فإذا لم يجز أن يكون ذلك حجر السفيه فلا بد من أن يكون حجر الدين إ ليس حجراً ثالثاً، ولأنه لما حجر على نفسه بالحبس بحق الغير جاز أن يحجر عليه على ماله لحق الغير؛ لأن كل واحد منهما يؤدي إلى إحياء ما عليه من الدين مع أن فيه صلاحاً له ولصاحب الدين، وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجر على معاذ وباع عليه للغرماء.
فصل:
قال في المنتخب: والمفلس إذا وج في يده مال فأقر به لغيره نظر الحاكم فيه، فإن ثبت أنَّه على ما قال سلم وإن لم يثبت دفعه إلى الغريم فأبطل حكم إقرار المحجور، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً بين م رأى الحجر إذا كان الإقرار يتعلق بالمال؛ ولأنه إذا حجر عليه البيع والشراء يؤديان إلى تلف المال والإقرار أولى بذلك.
مسألة
قال: والقضاء باليمين مع الشاهد الواحد جائز في الحقوق والأموال، وقرأت فيما علق ابن أبي هريرة أن مالكاً كان يقول بذلك. قال الشافعي: يقضي به خاصة في الأموال، ومذهب كثير ن علماء أهل البيت جواز القضاء به، قال زيد بن علي: لا يقضي به ولا بد من رجلين أو رجل وامرأتين وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. (128/22)
قال في الأحكام: تقبل في الأموال والحقوق وأما في غيرها من سائر الأشياء ف معنى له. والأصل في القضاء بالشاهد واليمين هي الأخبار الواردة في هذا الباب التي قد اشتهرت واستفاضت، منها ـ خبر عمرو بن دينار، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين مع الشاهد، وروي أيضاً عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وروي عن عبد الوهاب بن عبد الحميد الثقفي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي بعض الألفاظ قضى بشاهد ويمين، وروي في بعضها بالشاهد ويمين الطالب، وروي أن علياً عليه السلام قضى به بالعراق، وعن عبد الله بن عامر وربيعة أن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقضون باليمين مع الشاهد الواحد، وروي أنَّه قضى به أبي كعب وشريح وعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه ولم يرو عن أحد من الصحابة خلاف ذلك.
واعلم: أن المخالفين في هذه الأخبار من وجوه، أحدها؛ الطعن في أسانيدها، والثاني؛ ادعوا أنها توجب الزيادة في الكتاب وأن الزيادة فيه نسخ حتى قالوا من أجل ذلك أن حكم الحاكم به ينقض، والثالث؛ أنهم تأؤلها وجوهاً من التأويل بت، والرابع؛ أنهم ادعوا أنها مخالفة للأصول.
ونحن نبين الكلام في كل هذه الفصول بعون الله، أما المطاعن في الأسانيد، فمنها ـ أنهم قالوا إن حديث سيف بن سليمان الملكي عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، حديث وهم؛ لأن قيساً لا يعرف له رواية فوجب سقوطه؛ ولأن سيف بن سليمان ضعيف فيقال ما في أن قيساً لا يعرف له غير هذا الحديث عن عمرو ما يوجب سقوطه أو لستم قد احتججتم بحديث عورك السعدي، عن جعفر في زكوة الخيل وعورك هنا مجهول لا تعرفه الرواة ولم يعرف عنه رواية عن جعفر، ولا إشكال أن حديث قيس أحسن من هذا الحديث؛ لأن قيساً في نفسه معروف مشهور وإن لم يعرف عنه عن عمرو بن دينار غير هذا الحديث، وكم قد رأينا من الفضلاء من روى عن شيخ واحد حديثاً واحداً أو حديثين وهذا لا يجوز أن يكون طعناً، وقولهم: إن سيف بن سليمان ضعيف لا يلتفت إليه بل هو قوي قد أخذ بحديثه العلماء، وروي عن ابن حنبل؛ لأنه وثقه، وقالوا: في حديث ربيعة عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أنَّه ضعيف لما روي عن عبد العزيز الدار وروي أنَّه قال: سألت سهيلاً عن هذا الحديث فلم يعرفه وعنه سليمان بن بلال، قال: قلت لسهيل إن ربيعة يرويه عنك، فقال: إن كان رواه عني فهو كما قال، فيقال: أكثر ما في هذا الحديث أن يكون سهيل نسي ما رواه وما في نسيانه ما يوجب سقوط الحديث بل كل عاقل إذا رجع إلى نفسه يعلم أنَّه قد نسي كثيراً مما رواه ثُمَّ يتذكر أو لا يتذكر فإذا حفظه عنه الثقة كان صحيحاً فوجب بما بيناه سقوط هذا الوجه من الطعن وقالوا وهذا يفسد ما روي عنه، عن أبيه، عن زيد بن ثابت؛ لأنه لو كان نايباً عنه لقال الدرا رديء لست أعرفه عن أبي هريرة لكنه عندي، عن زيد بن ثابت وهذا أبعد من الأول؛ لأنَّه يجوز أن يكون نسي الحديث جملة ونسي الطريقين سيما وذكر أن النسيان غلب عليه لأمر أصابه، ويقل: أنَّه كان سبب ذلك حزنه على أخ له مات، ويجوز أن يكون كان ذاكرنا لحديثه عن أبيه، عن زيد، لكن الدرا (128/23)
ورديء سأله عن حديث أبي هريرة وأجابه عما سأله وسكت عما لم يسأله، وقيل: أنَّه فاسد؛ لأن كتاب سعد بن عبادة ربيعة سئل عن قولهم في شهادة شاهد ويمين صاحب الحق، فقال: وجدت ذلك في كتاب سعد بن عبادة فلم يذكر أنَّه رواه عن سهيل، قيل لهم: يجوز أن يكون أراد هذه الزيادة عني ويمين صاحب الحق التي وجدها في كتاب سعد على أنَّه لا يمتنع أن يكون ذكر له أحد الوجهين فليس يجب على من يقول قولاً أن يذكر جميع الوجوه التي لها قال ذلك. ويجوز أن يكون عرف من مراد السائل أنَّه كان سأله عن غير ما رواه عن سهيل لعلم به فما في هذا ما يوجب سقوط الحديث قالوا وحديث عبد الوهاب، عن جعفر متصلاً وقد وصله معه إبراهيم بن اليسع، عن جعفر يضعف؛ لأن مالكاً وسفيان روياه عن جعفر عليه السلام، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلاً فيقال لهم: هذا من الطعن العجيب؛ لأنَّه ليس في إرسال واحد ما يدل على سقوط إسناد غيره. (128/24)
ولأن المراسيل عندنا وعندهم مقبولة فلو لم يرو إلاَّ ما روي عن مالك وسفيان لكان كافياً، وهذا الكلام أوضح سقوطاً من أن يحتاج إلى الإطناب فيه وهذه رحمك الله عادة لأصحاب أبي حنيفة أنهم إذا عصبهم الحجاج من طريق الأخبار عدلوا عما يعتقدونه هم به من الأخبار الواهية عند أصحاب الحديث.
وأما ما ادّعوه من أن هذه الأخبار زيادة فقي الكتاب والزيادة نسخ فيقال لهم فيه ولِمَ ادّعيتم أن الزيادة في الكتاب نسخ فإنه أصل نخالفكم فيه وننكره.
فإن قيل: لأن الله تعالى قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيْدِيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}، اقتضت الآية الاقتصار على شهادة الرجلين أو لرجل وامرأتين فمن أين قلتم بالشاهد واليمين، فقد رفعتم الاقتصار بالخبر وذلك هو معنى النص.
قيل له: الاقتصار عندنا ليس هو من مقتضى الآية ولا من مضمونها فمتى رفعناه لا نكون رافعين لما أوجبته الآية وإنما الاقتصار ألاّ نحكم إلاَّ بما تضمنته الآية في أن العقل أوجب أن لا نحكم على أحد بشيء من الشهادات فلما ورد الكتاب بالحكم لشهادة رجلين أو رجل وامرأتين حكمنا بذلك وتركنا ما عداه على حكم العقل متى حكمنا بالشاهد واليمين رفعنا بذلك ما أوجبه العقل وأضفناه إلى ما أوجبه الكتاب، ونظير ذلك مما لا خلاف فيه إن نهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع ومحلب من الطير ليس بنسخ لقوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}..الآية، وإن كان الاقتصار على ما نطق به الكتاب واجباً لولا الخبر؛ لأن الاقتصار لم يكن من مقتضى الآية وموجبها وإنما وجب الاقتصار؛ لأن العقل اقتضى إباحة سائر الأشياء فلما وردت الآية بمحضر هذه الأشياء حضرناها ورجعنا فيهما عداها إلى حكم العقل ثُمَّ لما وردت السنة في كل ذي ناب ومحلب من الطير ألحقناه بحكم الآية ورفعناه من جملة وأباحه العقل فكذلك مسألتنا. (128/25)
فإن قيل: لما نزل قوله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً}، لم يحرم إلاَّ ما نطق به الكتاب ونزول تحريم أشياء بعد ذلك لا يوجب نسخ الآية.
قيل له: و يجوز أن لا يكون الحكم جاز عند نزول الآية لا بشاهدين أو شاهد وامرأتين ثُمَّ نزل بعد ذلك الحكم بشهادة شاهد ويمين وليس في نزول أحكام أخذ ما يوجب نسخ الآية على أنهم قد جوزوا الحكم بالنكول ولم يوجب ذلك نسخ الآية فكذلك ما قلناه.
فإن قيل: لا يجوز الاعتراض بخبر الواحد على الآية إلاَّ على وجه التخصيص والتخصيص يكون على ضربين؛ تخصيص حال أو تخصيص اسم وليس واحد مما ذكرنا في خبركم فوجب أن يكون ذلك نسخاً.
قيل له: لسنا نسلم أنا نعترض به على الآية بل نقول أنَّه يوجب إلحاق حكم آخر بحكم الآية وهذا ليس باعتراض على أنا لو قلنا أن فيه تخصيصاً جاز أن نقول يجب الحكم بالشاهدين أو الشاهد والمرأتين إذا أمكن ونخص حال تعذر ذلك بخبر الشاهد واليمين وعلى هذا يجري الكلام في قوله عز وجل وأحل لكم ما وراء ذلكم لا تنكح المرأة مع عمتها وخالتها. (128/26)
فإن قيل: أنتم اعتمدتم أن الشاهد واليمين لما صح إلى الرجلين أو الرجل والمرأتين لم يجز أن يكون ذلك نسخاً وهذا فاسد لما أجمعوا عليه أن الصلاة إلى الكعبة نسخ للصلاة إلى بيت المقدس وإن صح الجمع بينهما وإنّ عاشورا نسخ بصيام رمضان وإن صح الجمع بينهما سيما ومن قولكم أن المسح على الخفين يوجب نسخ الآية.
قيل له: لسنا نطلق أن ما صح ضم أحدهما إلى الآخر لا يكون نسخاً لكنا نقول أن صورته ليست صورة النسخ وأنه لا يكون نسخاً إلاَّ بدلالة خارجة عن المسألة كالإجماع ونحوه؛ لأنا لو قيل لنا: صلوا إلى الكعبة مع كون صلواتنا إلى بيت المقدس جائزة لم يكن ذلك نسخاً وإنما علمنا أنَّه نسخ لما علمنا من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أمره بالصلاة إلى الكعبة كان كالنهي عن الصلاة إلى بيت المقدس.
وكذا نقول لو أمرنا بصيام شهر رمضان مع وجوب صيام عاشوراء لم يعلم أنَّه نسخ وإنما قلنا أنَّه نسخ وجوب صوم يوم عاشورا للإجماع.
فكذلك يجعل النسخ على الخفين نسخاً للآية بأطباق الصحابة على مراعاة التقدم والتأخر فيهما ولا فائدة فيه إلا النسخ فقلنا أنَّه نسخ لإجماع الصحابة أن تأخر عن الآية.
وهكذا نقول أن الشاهد واليمين لا يكون نسخاً من جهة الظاهر ولا دل دليل خارج عليه فبطل أن يكون نسخاً على أن ذلك لو كان نسخاً لوجب أن يكون الحكم بشهادة القابلة نسخاً للآية، ولوجب أن يكون الحكم بالنكول نسخاً وكل ذلك يوجب سقوطهما ذهبوا إليه وإنما ادعاؤهم أنَّه مخالف للأصول والكتاب فهذا بعد، وذكروا فيها أشياء منها أنهم قالوا: أن الآية تضمنت الحكم بشاهدين أو شاهد وامرأتين فالحكم بشاهد ويمين يكون مخالفاً للكتاب كما أن الحكم بشاهد واحد من غير يمين مخالف للقياس. (128/27)
قيل لهم: المخالفة التي ادّعيتموها لا يخلوا من أن يريدوا بها إثبات حكم لم يتضمنه الكتاب.
فإن أردتم هذا فلا معنى له؛ لأنا لا نختلف في تثبيت كثر من الأحكام التي ليست في الكتاب بالسنن والعبر، وإن أردتم أنَّه تخصيص للكتاب لهذا لا معنى له؛ لأنا لا نختلف في جواز كثير من ذلك، وإن أردتم أنَّه نسخ لكتاب فقد بينا فيما تقدم بطلان قول من يقول ذلك فسقط قولهم أنَّه مخالف للكتاب على أن ذلك لو كان مخالف للكتاب على أن ذلك لو كان مخالفة للآية لوجب أن يكون الحكم بشهادة القابلة مخالفاً للآية وكذلك الحكم بالنكول ولوجب أن يكون الوضوء بنبيذ التمر مخالفاً للآية.
فإن قيل: لما قال صلى الله عليه وآله وسلم لو أعطى ناس بدعاويهم لادعى لا قوم دماء قوم وأموالهم دل ذلك على أن أحداً لا يستحق بدعواه شيئاً ويمين المدعي هي دعواه.
قيل له: أن الإنسان لا يستحق شيئاً إلاَّ بمجموع الدعوى والبينة، ألا ترى أن البينة لو انفردت عن الدعوى لم يستحق بها شيئاً وإنما مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك الدعوى المجردة وإذا كان مع المدعي شاهد واحد وحلف لم تكن دعواه دعوى مجردة؛ لأنها دعوى آلت بشهادة شاهد ويمين صاحبها.
فإن تعلقوا بما روي في خبر الأشعث حين قال له شاهداك أو يمينه لم يصح ذلك، ألا ترى أنهم أجازوا مع ذلك الحكم بالنكول فمثلاً أجازوا أن يحكم بشاهد ويمين فإن الشاهد مع يمين الطالب أقوى من النكول. (128/28)
فإن قيل: شهادة الظئر والجار إلى نفسه غير مقبولة فوجب ألاّ تقبل شهادة الطالب.
قيل له: لسنا نقبل شهادته وإنما نؤكد بيمينه شهادة الواحد.
فإن قيل: اليمين موضوعة لنفي الحق فكيف يثبتون بها إيجاب الحق.
قيل له: قد بينا أنَّه لا يمتنع من ذلك إذا دل الدليل عليه، ألا ترى أن السكوت موضوعه موضوع الاستبهام ومع هذا فقد حكمنا بالنكول وحكمنا بأن سكوت البكر رضاؤها لما قام الدليل عليه فكذلك يمين الطالب مع الشاهد الواحد.
فإن قيل: يمين المدعي تصديق لشاهد وتركته له ولا يجوز أن يزكي المدعي شاهده.
قيل له: يمينه وإن تضمنت تصديق فلا يجب أن تسقط كما أن دعواه وإن كان تصديقاً له فلا يجب أن تسقط والتركية التي تكون إلى المدعي ليس هذا معناها وإنما هي الأخبار عن أحواله في باب العدالة على الإطلاق على أن قولهم ذلك مخالف للأصول لا معنى له؛ لأن الأمة مجمعة على جواز ورود حكم مخالفة للأصول إذا دلت السنة عليه كما قالوا هم في الوضوء بنبيذ التمر، وكما قال الجميع بأن سكوت البكر رضاؤها.
وأما تأويلاتهم للأخبار فمنها؛ أنهم قالوا: يحتمل أن يكون المارد بقوله قضى باليمين مع الشاهد أنَّه قضى بيمين المنكر مع شاهد الطال فأسقط الشاهد الواحد.
قيل لهم: هذا فاسد من وجوه منها؛ أن أخبار كثيرة وردت بألفاظ لا تحتمل ذلك؛ لأن في بعض الأخبار يمين الطالب وفي بعضها بشاهد ويمين فعلق الحكم بها وفي بعضها أنَّه قضى بذلك في الأموال والأموال وغير الأموال في ذلك سواء.
روي عن أبي الأحلح، عن جعفر، عن أبيه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاهد ويمينة، وعن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بيمين وشاهد، ومنا أن ذلك لا فائدة فيه، ومنها أن الناس تكلموا في هذا الخبر؛ لأنهم عقلوا من معناه غير هذا إذا لو كان المعقول عين هذا لم يكن في التنازع معنى؛ لأن ذلك إجماع، ومنها أن مذهبهم أن يمين المنكر لا يحكم بها وإنما تقطع بها الخصومة ولهذا قالوا لنا على سبيل الإنكار: إنكم قضيتم باليمين واليمين لم توضع للإثبات. (128/29)
وحكى بعضهم أنَّه قال: يجوز أن يكون المراد خزيمة.
قيل له: لو كان خزيمة لم يحج مع شهادته إلى اليمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعله ذا الشهادتين.
فإن قيل: لا يعلم أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قضى به في ماذا؟ فلا يقضى به في شيء.
قيل له: إذا روي أنَّه قضى به فيجب أن يقضى به في كل شيء إلاَّ ما منع منه الدليل، ألا ترى أنه لما روي أنَّه أعطى الجدة السدس أعطيناها ذلك في جميع الأحوال إلاَّ حيث منع منه الدليل، وكذلك لما روي أن رجلاً أتاه فقال أن ابن ابني مات فمالي من ماله؟ فقال: السدس، فجعلنا له ذلك ف كل حال ما لم يمنع الدليل منه، وكذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهى فسجد، فأوجبنا السجود لكل سهو ما لم يمنع منه الدليل على أنَّه قد روي أنَّه قضى به في الأموال فسقط هذا الوجه.
فصل:
القضاء في الحقوق فيه خلاف للشافعي وحكى عن مالك والأصل ما بيناه أنَّه إذا روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قضى به علي عليه السلام، وعن جعفر، عن أبيه، أنَّه قال للحكم بن عيينة، وقضى به بين أظهركم بالكوفة.
فإن قيل: روي أنَّه قضى به في الأموال.
قيل له: ذلك لا يمنع من القضاء به في غير الأموال.
فإن قيل: فهلاّ قلتم أنَّه يقضي به في الحدود و القصاص.
قيل له: لأنَّه لا خلاف أنَّه لا يقضي فيه بالشاهد وامرأتين لضعف ذلك عن الشاهدين فوجب أن لا يقضي به بالشاهد واليمين؛ لأنَّه أعف من الشاهدين والشاهد وامرأتين؛ ولأن ذلك مما تسقطه السنة، فوجب أن لا تهبل فيه الشاهد واليمين لضعفه؛ لأنَّه أضعف من الشاهد وامرأتين. (128/30)
باب القول في الدعوى والبينات (129/1)
إذا ادّعى رجل على رجل حقاً أو مالاً عليه البينة وعلى المدعي عليه اليمين إن أنكر، وهذا مما لا خلاف فيه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لو أعطى الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه>، ثُمَّ أحوال البينات تختلف بحسب الدعاوي على ما نبينه.
واعلم أن الدعوى التي من حكمها أن تقرر بالبينة أن يدعي شيئاً في يد غيره أو مع دعوى غيره وإن لم يكن في يد أحد أو يدعي إيجاب حق على غيره أو يدعي إسقاط حق ثابت على نفسه فمتى ادعى شيئاً من ذلك فعليه بالبينة وعلى المنكر اليمين إذا كان الذي ينكره من حقوق الآدميين فهذا الجملة يجب أن تضبط؛ لأن م ادعى داراً في يده فلا بينة علم وكذلك من ادعى صحة عقد جرى بينه وبين غيره فلا بينة عليه ونظائر ذلك كثير، وكذلك من ادعى بعض ما يحتمله إطلاق لفظ منه لا بينة عليه، فهذا أصول هذا الباب.
مسألة
قال: فإن نكل المدعى عليه اليمين لزمه ما ادعى عليه من الحق وحكم به، قال أبو حنيفة: يحكم بالنكول إلاَّ في القصاص في النفس، وبه قال أصحابه إلاَّ زفر فقد حكي عنه أنَّه يحكم به في القصاص، أيضاً قال الشافعي: يقال للمدعي احلف واستقح، وحكي عن مالك أنَّه يحبس حتى يقر أو يحلف، وحكي عنه خلاف ذلك أيضاً وهو الحكم به.
والأصل في هذا ما روي عن ابن عمر أنَّه باع غلاماً بالبراءة فقال المشتري: هب داء لم يسمه، فاختصما إلى عثمان فقضى أن يحلف ابن عمر بالله فرد عليه الغلام.
وروي عن ابن أبي مليكة أنَّه كتب إلى ابن مليكة أنَّه كتب إلى ابن عباس في امرأتين ادعت إحداهما على صاحبتها أنها صابت لله يدها بالاشغاف فأنكرت فكتب ابن عباس إن ادعها، وقرأ عليها: {إِنَّ الَّذِيْنَ يَشْتُرُونَ بِعْهِدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيْلاًً}..الآية، فإن حلفت فحل عنها وإن لم تحلف فضمنها.
فذكر أبو بكر الجصاص أنَّه قد روى نحوه عن أبي موسى، فثبت أنهم رأوا الحكم بالنكول ولم يروا خلافه عن أحد من الصحابة فجرى مجرى الإجماع منهم. (129/2)
وأيضاً قد ثبت أن النكول على المعدي عليه حقاً إذ لا خلاف فيه وإنما الخلاف في ما هيته ذلك الحق فمن قائل هو لزوم ما يدعي عليه ومن قائل هو رد اليمين، لا فائدة فيه للمدعي؛ ولأن الحق يصح أن يطالب به وليس له أن يطالب فيقول: حلفني؛ لأن المطالبة بالحليف في الأصول أجمع من حق الخصم؛ ولأن الحبس يجب بعد ثبوت الحق وثبوت الامتناع منه، ألا ترى أن المدعي لا يطالب به أبداً فلم يبق إلاَّ أن يكون الذي أوجبه النكول هو الحق الذي ادّعاه المدعي ويمكن أن يقاس على البينة بأنه أمر أوجب حقاً بعد الإنكار للمدعي، فوجب أن يكون ذلك الحق هو المدعي.
فإن قيل: هذا يعترضه النكول فيما يوجب القصاص.
قيل له: إطلاق قول يحيى عليه السلام يقتضي أن القصاص وغيره في ذلك سواء كما روي عن وفر فسقط هذا السؤال على أن القياس عند أبي حنيفة يوجب ذلك إلاَّ أنَّه استحسن ترك الحكم به تعظيماً للأم، ويرى القصاص به فيما دون النفس وإن كان أبو يوسف ومحمد يوجبان الإرش في النفس وما دونها عند النكول ويمكن أن يحترز من ذلك بأن يقال أنه أوجب حقاً في مال بعد الإنكار وليس لهم أن يقولوا ذكر المال لا تأثير له في الأصل؛ لأن البينة قبل أن تثبت عدالتها في النفس يوجب الحبس عند أبي حنيفة، وإن كان لا يوجب في المال شيئاً، وقيل أيضاً الحبس يجري مجرى العقوبة ولم يثبت أمر تستحق به العقوبة فلا وجه له.
فإن قيل: اليمين حق للمدعي فإذا نكل عنه فقد منعه حقه في حبس لذلك، كما قلتم في القسامة أن من نكل عن اليمين يحبس حتى يحلف.
قيل له: اليمين لا تكون بنفسها حقاً للمدعي، ألا ترى أنَّه لا يجتمع مع الحق المدعى ولأن الأصول للمدعى عليه أن ينكل ولا يحلف؛ ولأنه قد كره اليمين في الشيء اليسير ولو كان ذلك حقاً للمدعي لم يصح م ذلك شيء وليس كذلك حال اليمين عندنا في القسامة؛ لأنها تجتمع مع الدية فيكونان جميعاً حقين لأولياء الدم فلذلك جاز حبس من امتنع وحكي عن ابن شريح أنَّه قال أن البينة جعلت علماً لإثبات الحق كما جعلت اليمين علماً لنية، فلما أجمعنا على أن امتناع المدعي عن إقامة البينة لا يبطل دعواه في الإثبات كذلك امتناع المدعى عليه عن اليمين، لا يبطل ما ادعاه من النفي. (129/3)
قيل له: وكما أن المدعي إذا امتنع من إقامة البينة لا ترد إلى المنكر كذلك إذا امتنع من اليمين لا ترد إلى المدعي على أن النفي لا يستقر إلاَّ مع اليمين والإثبات، فقد يستقر عندنا وعندهم بغير بينة؛ لأنا نقدر بالنكول وهم يقدرونه برد اليمين مع النكول فلم يجب أن يكون حكم اليمين حكم البينة ولم يمتنع أن يبطل النكول ما ادعاه من النفي، وأيضاً قد لزم المدعى عليه قطع الخصومة باليمين أو إلتزام الحق وهو من حق المدعي فإذا امتنع م اليمين وجب أن يلزم الحق دون اليمين والحبس إذ بواحد منهما لا تنقطع الخصومة.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للأنصار: <تحلفون وتستحقون دم صاحبكم>.
قيل له: قد أنكر جماعة من المتقدمين هذا اللفظ وادعوا الغلط على سهل ابن أبي حيثمه، وقد بينا ذلك في القسامة وبينا أنَّه لو أثبت لوجب أن يحمل على وجه النكر مثل قول الله عز وجل: {أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، وقوله: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ}، وقوله: {آاللهُ أَذِنِ}، لك على أن الشافعي لا يحكم بمضمون هذا الخبر في غير الدم إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كب إلى اليهود يحلف منكم خمسون رجلاً، فقالت الأنصار لا نرضى بأيمان اليهود، فقال: <لهم أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم>، ولا خلاف في سائر الحقوق أن المدعى عليه إذا أبر اليمين لم ترد على المدعي على أن رد اليمين لا يجوز أن يكون للمدعي؛ لأن الإنسان لا يطالب بتحليف نفسه ليستحق على غيره شيئاً، ولا يجوز أن يكن حقاً للحاكم إذ لا حق له في الخصومة ولأنه لو كان حقاً للمعنى لكان لا يجب إلاَّ بمطالبة فلم يتق إلاَّ أنَّه حق المدعى عليه، وإذا كان حقاً له فلا يلزم إلاَّ بطلبه ونحن لا ننكر ذلك وهو إحدى الروايات عن مالك. (129/4)
فإن قيل: روي لو أعطي الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم فبين أنَّه لا يعطي الإنسان بدعواه وإذا حكمنا بالنكول فقد أعطينا بمجرد الدعوى.
قيل له: لي الأمر كذلك؛ لأن النكول أمر يتجرد من المدعى عليه وليس هو دعوى المدعي كما أن الإقرار أمر يتجرد من المدعى عليه ولا يمتنع أن يتعلق بالنكول أحكام بحسب الأدلة كما يتعلق سكوت البكر وكف الشفيع عن طلب الشفقة، وإذا كان كذلك لم نعطه بمجرد الدعوى شيئاً.
فإن قيل: النكول لا يخلو أن يكون بمنزلة البينة أو الإقرار فإن كان بمنزلة البينة أو بمنزلة الإقرار لم يجب أن تسمع بعد ذلك يمين الناكل.
قيل له: هو عند يحيى بن الحسين بمنزلة الإقرار لتنصيصه في المنتخب أنَّه إقرار، إلاَّ أنَّه ليس بإقرار محض بل هو جار مجراه على بعض الوجوه ليس على جميع الوجوه، فقد نص أيضاً على أن يمين الناكل مسموعة وفي ذلك ما يوجب أنَّه مشبه بالإقرار إلاَّ أنَّه يضعف عنه، ألا ترى أنَّه ليس لقائل إن يقول: أن السكوات لو كان أجازه لاستوى فيه البكر والثيب؛ لأنَّه وإن كان إجازة فليس هو إجازة تامة بل يضعف عن ذلك فلذلك جاز أن يختص ولا يعم كما تعم الإجازة، وكذلك النكول. (129/5)
فإن قيل: لما لم يكن بد من القول بالنكول أو برد اليمين وجب أن يصير إلى الأقوى ورد اليمين مع النكول أقوى.
قيل له: قد بينا أن رد اليمين على ما يقوله الشافعي لا وجه له؛ لأنَّه لا يجوز أن يقال أنَّه حق المدعي ولا حق للمدعى عليه، وإذا بطل ذلك ثبت الحكم بالنكول على أن هاهنا قولاً ثالثاً، وهو القول بالحبس وهو يبطل ما تعلقوا به بت.
فإن قيل: أن رد اليمين للمدعى عليه وإن كان الحاكم هو المطالب به كالتعديل أنَّه حق للمدعى عليه وإن كان حقاً للحاكم هو المطالب به.
قيل له: التعديل ليس هو حق للمدعى عليه وإن كان حقاً له لم يجب على الحاكم المطالبة به إلاَّ بعد التماس المدعى عليه ذلك كما ذهب إليه أبو حنيفة فيما عدى الحدود، وإنما نقول أنَّه حق لله ولهذا يختص الحاكم بالمطالبة به.
فإن قيل: قوله عز وجل: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ}، يدل على رد اليمين.
قيل له [لهم]: نحن لا ننكر رد اليمين جملة وإنما ننكر ردها على الوجه الذي قلتم فلا تعلق لهم بالآية، ويقال لهم: لو لم يجب الحكم بالنكول لم يجب أن ترد اليمين؛ لأنَّه لا يكون الحكم باليمين المجردة واليمين إما أن تسقط الدعوى أو تؤكد الشهادة على ما نقول في الشاهد واليمين.
مسألة
قال: فإن حلف بعد ما ألزمه النكول وبعد ما ألزمه الحاكم الحق سقط ما ادعى عليه.
واعلم: أن معنى قوله: بعد ما ألزمه الحاكم بعد ما عرفه الحاكم، لزومه بالحكم ولزومه باجتهاد وليس نريد به بعد ما حكم عليه بذلك؛ لأن الحاكم إذا حكم به بطلت يمينه؛ لأن اليمين تكون لإسقاط الدعوى وقطع الخصومة ومتى حكم الحاكم بصحة الدعوى لم يكن إسقاطها باليمين سبيل؛ لأن يمين الخصم لا تعترض حكم الحاكم ولأن الخصومة تكون منقطعة بفصل الحاكم فلا وجه لليمين والنكول على ما سلف القول فيه، ليس بقول تام، فلذلك كان لليمين فيه مسرح على أنَّه لا خلاف أن النكول لا يمنع اليمين؛ لأن أبا حنيفة يذهب إلى أنَّه إذا نكل يكرر عليه عرض اليمين ثلاثاً ثم يحكم، وعند الشافعي ما لم يحكم برد اليمين يسمع يمينه، ومالك يحبسه حتى يقرأ ويحلف فصار سماع اليمين بعد النكول إجماعاً. (129/6)
قال: وللناكل أن يرد اليمين على المدعي وحكى ذلك عن مالك، ويجب فيه على التحقيق ألاّ يكون بيننا وبين الشافعي فيه خلاف؛ لأنَّه يوجب رد اليمين وإن لم يطله الناكل فطلبه لا يمنعه والخلاف فيه بيننا وبين أبي حنيفة يذهب إلى أنَّه إذا نكل، ووجهه أنَّه إذا طلب يمينه فقد تضمن دعوى أن دعواه باطل وأنه يعلم ذلك فصار مدعياً والمدعى عليه وذلك منكراً كما أنَّه لو ادعى أنَّه قد قضاه ذلك الحق وأبرأه منه صار معياً والمدعى عليه منكراً فتلزمه اليمين بقوله: البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه.
فإن قيل: ألستم ذكرتم في أول هذا الباب أن المدعي الذي عليه البينة هو الذي يحاول أخذ شيء من غيره أو إلزامه حقاً لا يلزمه في الظاهر أو إسقاط حق ثابت عليه في الظاهر، وهذا ليس هو واحداً من ذلك.
قيل له: هو أحدها وذلك أن طلبه يمينه يتضمن دعوى علمه ببطلان دعواه فهو يلزمه ترك دعواه وإبطالها وذلك لا يلزم في الظاهر، وقد روي عن علي عليه السلام أنَّه استحلف الخصم مع بينته، روى ذلك زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن عي عليهم السلام، وذكره الطحاوي في اختلاف الفقهاء، وروى الشافعي، عن شريح أنَّه كان يأخذ اليمين مع الشهود إذا طلب الخصم ذلك ولم يرد، وخلاف ذلك عن أحد من الصحابة فجرى ذلك مرى الإجماع وبه قال الأوزاعي والحسن بن صالح بن حي حكاه الطحاوي. (129/7)
فإن قيل: فالحد يلزم المقذوف بالبينة من غير يمين لقوله عز وجل: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتُ}...الآية.
قيل له: الفصل بين ذلك وبين ما ذهبنا إليه أن إقامة الحد على القاذف ليس هو حقاً للمقذوف محضاً وإن كان يتعلق حقهن به ونحن إنَّما قلنا أنَّه يحلف على حقه، وهذا إنَّما هو حق لله تعالى.
فإن قيل: روي أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أرض فقال للمدعي: <بينتك، قال: ليس لي بينة، قال: فيمينه، قال: يذهب بها إذا قال: ليس لك إلاَّ ذلك>، فلم يوجب على المدعي غير البينة.
قيل له: نحن إنَّما نوجب اليمين عليه بعد البينة وبعد طلب المدعى عليه وليس في هذا الخبر ما يدل على أنَّه كان لا يوجب عليه اليمين لو أقام البينة ثُمَّ طلبه المدعى عليه.
فإن قيل: الإقرار لم يحج معه إلى اليمين؛ لأن قطع الخصومة ولا معنى لليمين مع انقطاع الخصومة.
فإن قيل: والبينة أيضاً تقطع الخصومة.
قيل له: فيها اختلفنا؛ لأنا لا نسلم ذلك، ويقال لهم: المدعي على مورثه دين يحلف أنَّه لا يعلم ذلك، فكذلك اختلفنا فيه، والعلة أنَّه ادعى عليه العلم ببطلان ما يقوله في الحق المطلوب.
مسألة
قال: وإذا حلف المنكر ثم أتى المدعي بالبينة سمعت بينته بعد يمين المنكر وحكم بها، وبه قال زيد بن علي عليهما السلام، والعلة ما رواه عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: (البينة العادلة أولى من اليمين الفاجرة)، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي، وقال ابن ليلى: لا تقبل البينة بعد اليمين، وقال مالك: إن استحلفه ولا علم له بالبينة ثُمَّ علم أن له بينة قبلها وبطلت اليمين، وإن كان يعلم بينة واستحلفه ورضي باليمين ورك البينة فلا حق له وحجة قولنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <البينة على المدعي، فمن أوردها استحق بها سواء أقامها قبل اليمين أو بعدها>، وأيضاً قد ثبت أن اليمين والبينة لو اجتمعا كانت البينة أولى ولم يكن لليمين حكم، كذلك وإن تفرقا كالرجل يقيم البينة أنَّه وارث هذا الدار من أبيه والآخر يقيم البينة أنَّه اشتراها من أبيه كانت بينة الشراء أولى وإن افترقتا؛ لأنَّه أولى إذا اجتمعا وهكذا اليد والبينة لما كانت البينة أولى فاستوى فيه الإجتماع وافتراق، وأيضاً لو أقر المدعى عليه بعد اليمين بطل حكم يمينه كذلك إذا أقام المدعي البينة، والعلة أن كل واحد منهما حجة للمدعي يثبت حقه فيجب أن لا يكون لليمين معه حكم. (129/8)
فإن قيل: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <شاهداك أو يمينه وليس لك إلاَّ ذلك>.
قيل له: معناه يمينه إن لم يتم الشاهدين، إذ لا خلاف أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد به التخيير.
فإن قيل: روي: <من حلف يميناً كاذبة ليقتطع بها مال مسلم لقي الله وهو عليه غضبان>، وهذا يدل على أنَّه يقتطع المال بيمينه.
قيل له: ذلك اقتطاع في الظاهر ما لم يرد ما هو أقوى من اليمين فإذا ورد ما هو أقوى بطلت اليمين وزال ذلك الاقتطاع، ألا ترى أنَّه لو أقر بعد اليمين كان ما ذكرناه فكذلك إذا أقام المدعي البينة على أن الاقتطاع ليس ظاهر التملك كما أن قاطع الطريق لم يتملك والقاطع قد يكون ظالماً فلا صحة في هذا، وأيضاً البينة إذا قامت صارت اليمين كاذبة، فوجب أن يبطل حكمها مع البينة. (129/9)
مسألة
قال: فإن كان المدعي قال للحاكم حلفه لي على أني أبريه مما أدعيه فحلفه الحاكم على ذلك ثُمَّ أتى المدعي بالبينة لم تقبل ولم يحكم بها وهذا قد ذكر نحوه عن مالك على ما حكيناه قبل هذه المسألة من قوله أنَّه كان رضي باليمين وترك بينته واستحلفه على ذلك فلا حق له، ووجهه قول الله عز وجل: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، والمدعي قد عقد له ذلك وقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم: <المسلمون عند شروطهم>، والمدعي قد شرط ذلك فاليمين بعض حق المدعي فكما أنَّه لو رضي باستيفاء بعض حقه وارائه من الباقي صح ذلك كذلك إذا رضي باستيفاء اليمين وابرائه مما ادعى عليه يجب أن يصح ذلك وكذلك الشفيع أن قال: إن لم آتك إلى وقت كذا فقد أبرأتك من الشفعة صح ذلك وكذلك لك الشفيع أن قال ما قلناه.
فإن قيل: هذا يكون كالبراءة على الأخطار كان يبريه أن جاء المطر أو قدم فلان.
قيل له: ليس ذلك جارياً هذا المجرى بل هو جار مجرى ما قلناه، لأنه كالمصالحة على بعض الحق أو ما يتعلق به على ما بيناه.
مسألة
قال: وإذا ادّعى رجل على رجل مالاً فأقر له ببعضه فأنكره بعضه لزم المقر ما أقر به، وعلى المدعي البينة وعلى ما أنكره المدعى عليه وعليه اليمين، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأنَّه إذا أقر بشيء لزمه ما أقر به وما أنكر رجع فيه إلى قوله: <البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه>.
مسألة
قال: وإذا ادّعى مالاً حالاً فأقر المدعى عليه بمال مؤجل نبت حالاً وعلى المدعى عليه البينة فيما ادعى من الأجل وعلى المدعي اليمين وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، قال الشافعي القول قول المقر، ووجهه أنَّه لما أقر له بالمال كان الظاهر أنَّه يلزمه الخروج منه، وقوله أنَّه مؤجل يقتضي أنَّه لا يلزمه الخروج منه في الحال فهو يحاول إسقاط حق نفسه قد لزم في الظاهر فوجب أن يكون بذلك مدعياً لا تثبت دعواه إلاَّ بالبينة كما أنَّه لو أقر لآخر بدار في يده وقال أنها مرهونة في يدي لم تثبت دعواه أنَّها مرهونة إلاَّ بالبينة وكذلك لو قال أنها مؤجرة منه إلى شهر كان مدعياً لا تثبت دعواه للإجازة إلاَّ بالبينة ويمكن تحرير هذه العلة فيه فيقال أنَّه أقر لغيره بمال وادّعى أنها مرهونة في يده أو في أجارته إلى مدة. (129/10)
فإن قيل: هلاّ أجريتموه مجرى الإستثناء إذ لا خلاف أنَّه لو قال علي عشرة دراهم إلاَّ درهماً ألاّ يلزمه إلاَّ تسعة دراهم.
قيل له: لا خلاف بين أهل اللغة ولا في الشريعة أن قوله عشرة إلاَّ درهماً أو قوله تسعة عبارتان يفيدان معنى واحداً وهو التسعة فلم يجب أن يلزمه غير التسعة، وقوله: على مال مؤجل كلام ان منفصلان حكماً وإن اتصلا في اللفظ كما قلناه في الدار المؤجرة والمرهونة.
فإن قيل: هلاّ قلتم أنَّه كقوله له عليّ عشرة زيوف.
قيل له: لأن ذلك صفة للمال والأجل ليس صفة للمال.
فإن سألوا عمن أقر بمال الكفالة إلى أجل.
قيل له: ذلك غير منصوص عن أصحابنا وإطلاق يحيى عليه السلام من أقر بمال وقال أنَّه مؤجلا يكون القول فيه قول المقر له يقتضي أن الكفالة وغيرها فيه سواء وبه قال أبو يوسف، روي أنَّه رجع إليه آخراً فأما على قول أبي حنيفة ومحمد وقول أبي يوسف الأول فيمكن الفصل بينهما بأن يقال أن مال الكفالة يجوز أن يتعلق ثبوته بمجيء وقت معلوم كن يقول إذا جاء رأس الشهر فقد كفلت لك عشرة دراهم مؤجلاً ثبوته في الحال فالمقربة مقر بمال لم يتقرر ثبوته في الحال، فوجب أن يكون القول قوله في الأجل وليس كذلك سائر الديون؛ لأن ثبوتها لا يجوز أن يتعلق بزمان مستقبل؛ لأن قوله: بعتك بعشرة إلى شهر يقتضي ثبوت العشرة في الحال ودخل الأجل لتأخير المطالبة فبان أن سائر الديون لا يجوز أن يكون سبيله سبيل مال الكفالة يكشف ذنك أنَّه لو قال: بعتك هذا الثوب بعشرة على أن لا تلزمك العشرة إلاَّ بعد شهر لم يصح، فبان أن دخول الأجل لتأخير المطالبة على أن الأحرى على القياس هو ما قلناه لا لأن الكلام ليس هو في الثبوت وإنما هو في وقت المال به وقد ثبت دينار تجوز مطالبته إلاَّ بعد مدة. (129/11)
مسألة
قال: فإن ادعى مالاً فقال: ماله عليّ شيء ولا أعرف ما يقول، فأتى بالبينة على دعواه فأتى المدعى عليه بالبينة أنَّه قد أوفاه أو برئ منه قبلت بينته ولم يقدح فيها إنكاره الأول، ووجهه أن البينة محمولة على الصحة حتى يثبت ما يوجب تكذيبها أو سقوطها، وقول المدعى عليه مال عليّ شيء حين قال ذلك فقوله موافق للبينة، وقوله: لا أعرف ما يقول، محمول على أنَّه أراد به على أنَّه لا يعرف ما يقوله المدعي من ثبوت الحق عليه؛ لأنَّه إذا قضاه لم يكن ثابتاً وإذا لم يكن ثابتاً لم يعلمه ثبوته فليس فيه تكذيب للبينة والذي يجيء على ما قلناه أن المعنى عليه لو قال له ما كان لك على شيء قط أنَّه لا يكون تكذيباً للبينة إذا أقامها أنَّه قد قضاه، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه؛ لأن براءة ذمته من حق المدعي لا تمنع من صحة قضائه ما يدعيه؛ لأن الإنسان قد يفعل ذلك قطعاً للخومة وتفادياً من اليمين فليس فيه اكذاب البينة، قال أبو حنيفة: فإن قال مع ذلك: ولا أعرفك، لم تقبل بينته والأولى أن تقبل بينته على قول يحيى؛ لأنَّه نص على أن بينته تقبل ول قال: ما أعرف ما تقول، وهذا مثل قوله: لا أعرف، ووجهه يراه ويكلمه وإنما المراد به لا أعرف أحوالك، فيجب أن يحمل ذلك على أنَّه لا يعرف اسمه ولا نسبه ولا صنعته ولا معاملته كانت بينة وبينه أوجب ذلك الحق عليه وإذا حمل على ذلك لم يكن منه تكذيب للبينة ويحتمل أن يكون قضاه أيضاً بالرسالة من غير الملاقاة، وإن تكون الدعوى أيضاً كانت بالرسالة فكلامه يدل على أن هاتين المسألتين على ما أجبنا عنهما؛ لأنَّه قال في آخر المسألة يسمع منه ما يقول حتى ينظر ما يدفع المعي فإن صح قوله فيما يدفع المعي قبل قوله فكأنه راعى أن يكون قوله غير مناف لبينته، فمتى كان كذلك قبل وقد بينا أنَّه لا يتنافى في هاتين المسألتين فوجب أن يكون القول عنهما على قوله بما أجبناه. (129/12)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً ادعى على رجل أنَّه دفع إليه دنانير يشتري له بها شيئاً فقال المدعى عليه: دفعتها إليّ لأدفعها إلى فلان وقد دفعتها إليه، فالبينة على من أخذ الدنانير فيما ادّعى من أخذه على ذلك الوجه ودفعه إلى الآخر، وإنما وجب أن يكون القول قول من دفع الدنانير؛ لأن المدفوع إليه يثبت لنفسه حق يصرف مخصوص وهو غير ثابت في الظاهر فوجب أن يكون مدعياً تلزمه البينة على دعواه ويجب أن تكون اليمين على صاحبه المنكر لذلك فأما قوله: وعليك البينة في دفعه إلى الآخر، فالمارد بذلك إذا أنكر المدفوع إليه فيلزمه البينة عله إذا كان التحاكم بينه وبينه وليس يلزمه البينة لحق الدافع؛ لأنَّه إذا أقام البينة أنَّه أمره بدفعه إلى فلان صار فيه أميناً ويكون القول قوله: أني دفعتها إلى فلان في حق صاحب المال وعليه البينة في حق المدفوع إليه. (129/13)
مسألة
قال: وإذا ادعى رجل على آخر دعاوي متفرقة استحلف المدعى عليه لكل دعوى يميناً، وإنما كان ذلك كذلك؛ لأنَّه في كل دعوى من تلك الدعاوي مدع وصاحب مدعى عليه؛ فيلزمه لكل منهن يمين لقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم اليمين على المدعى عليه، ولأنها لو انفردت لكان ذلك حكمها فمصامه غيرها لها لأبعد حكمها.
مسألة
قال: ولو أن رجلين ادعيا في شيء هو في أيديهما أو ليس هو في أيديهما إذا لم يدع فيه غيرهما فادعى أحدهما أن كله له وادعى الآخر أن نصفه له فأقام أحدهما البينة ولم يقم الآخر حكم له بها، وذلك أن المدعي لكل إذا أقام البينة أنَّه له استحق بينه ما في يد صاحبه وهو النصف وبقيس النصف الآخر في يده لا منازع فيه فيسلم الكل له، وإن أقام مدعي النصف البينة فبينته لم تفد له إلاَّ النصف والنصف في يده فيكون له إلاَّ أنَّه يكون مستحقاً للربع وهو نصف ما في يد صاحبه ببينته والربع الثاني يستحقه يكون في يده؛ لأن من مذهبه أن بينة من في يده الشيء غير مسموعة وهذا إذا كان الشيء في أيديهما، وأما إن لم يكن في أيديهما فإن أقام مدعي الكل البينة استحق الكل وإن أقام البينة مدعي النصف استحق النصف كلاً ببينته لا إشكال فيه ولا خلاف. (129/14)
قال: فإن أقام البينة على صحة عواهما قسم الشيء بينهما على أربعة ثلاثة أرباعه لمدعي الكل وربعه لمدعي النصف، وبه قال أبو حنيفة إذا لم يكن الشيء في أيديهما، قال أبو يوسف ومحمد: يقسم بينهما على ثلاثة لمدعي الكل ثلثان ولمدعي النصف ثلث، وقول الشافعي على ما حكاه ابن شريح؛ أنَّه بينهما نصفان، وأظنه إذا كان بينهما في أيديهما وعليه دل كلام ابن أبي هريرة فيما علق عنه، ووجهه ما ذهبنا غليه أن النصف من الجملة مسلم لمدعي الكل لا منازع له فيه، والنزاع في النصف الباقي فإذا أقام مدعي النصف على النصف البينة وأقام مدعي الكل على الكل البينة كانت بينتاه على النصف ثابتة فيجري هذا النصف مجرى شيء منفرد يدعيه رجلان ويقيم كل واحد منهما البينة عليه في أنَّه له، فيجب أن يقسم بينهما كذلك هذا النصف يجب أن يقسم بينهما، فإذا قسم ذلك بين مدعي النصف ومدعي الكل وخلص النص لمدعي الكل كان ذلك بينهما أرباعاً على ما قلناه، ونظيره ما يقوله في ابن وخنثى أن للابن النصف لا منازعة فيه، وللخنثى اللث لا منازعة فيه، والسدس فيه المنازعة، فيجب أن يكون بين الابن والخنثى، فأما أبو يوسف ومحمد فإنهما شبها بالابن والبنت في الإرث فقالا: لما كان حق الابن في الإرث يتعلق بالجمع، وحق الابنة النصف؛ وجب أن يكون للابنة الثلثان وللابنة النصف إذا اجتمعا، وهذا بعيد؛ لأنَّه ليس بينهما إلتباس وتنازع في الاستحقاق ومسألتنا فيها بينها تنازع والتباس في الاستحقاق، فكان رده إلى التنازع في الشيء المنفرد أولى وبهذا أنجيب أن ردوه إلى العول وإلى الديون وذكر أبو بكر الجصاص أن الوجه في ذلك أن كل من أدلى بسبب صحيح ثابت في الحال ضرب به في الجميع ومعناه أن كل واحد منهما يضرب بنصيبه الذي يستحقه لو انفرد كالابن والابنة والأختين من الأب والأم وأختين من الأم مع الزوج في مسألة العول، وكرجل له على رجل ألف درهم ولآخر خمسمائة ولم يخلف إلاَّ ألف درهم وما أشبه ذلك، (129/15)
وما كان سببه غير ثابت بل يكون موقوفاً فإنه يجب أن يقسم بينهم أرباعاً فلذلك قال ما قال في مسألة الدعوى وما حكي عن الشافعي فمبني على أن من في يده الشيء أولى فيدعي الكل أقامه البينة على ما في يده وهو النصف، ومدعي النصف قد أقام البينة على ما في يده وهو النصف على أنَّه مقر له به فسلم له ولم يسمع عليه بينه مدعي الكل ونحن نبين بعد هذا أن بينة الخارج أولى فسقط هذا، فأما إن كان الشيء في أيديهما فعند أبي حنيفة أنَّه إذا أقام كل واحد منهما البينة على صحة دعواه حكم الجميع لمدعي الكل ولم يحكم لمدعي النصف بشيء؛ لأنَّه قد ثبت أن بينة الخارج أولى من بينة من في يده الشيء فمدعي الكل يكون مقيماً للبينة على ما في يد خصمه وهو مدعي النصف إذا ما في يده من النصف سلم له لا تنازع فيه، ومدعي النصف يكون مقيماً للبينة على ما في يده من النصف إذ لا يدعي النصف الذي في يد خصمه وهو مدعي الكل فكل واحد منهما أقام البينة على النصف الذي في يد مدعي النصف فسقطت بينته ووجب الحكم ببينة مدعي الكل إذ هو الخارج من ذلك النصف فهذا وجه قولهم وعندنا أن بينة الخارج وإن كانت أولى فليس الأمر على ما قالوه ولك أن مدعي النصف يدعي في الشيء نصفاً سابعاً في الجميع ويدعي انه لا جزء منه مما هو في يده أوفي يد مدعي الكل ألا وهو شريكه فيه ومالك لنصفه فهو مقر أن ما في يده من النصف هو بينه وبين مدعي الكل وكذلك يدعي أن النصف الذي في يد مدعي الكل هو بينه وبينه فصار هو مدعياً لنصف ما في يد مدعي الكل وهو الربع ومدعياً لنصف ما في يده وهو الربع الباقي، فإذا أقام البينة لم تسمع بينته على الربع الذي في يده ثُمَّ أن الربع الباقي نه قد سلمه وأقر به لصاحبه فلم يستحق منه شيئاً إلاَّ أنَّه ادعى نصف ما في يد صاحبه وأقام البينة عليه فحكمنا له به ويكشف ذلك أنَّه لم يدع نصفاً معيناً هو في يده لادعى نصفاً شائعاً في الجميع فلا بد من أن يكون مدعياً لنصف ما (129/16)
في يد مدعي الكل ومما يبين ذلك ما ذهب إليه كثير من العلماء أن الدار إذا كانت بين شريكين على سبيل الشياع فغاب أحد الشريكين أنَّه ليس للشريك الحاضر أن ينتفع بسكناها وعلوا ذلك بأن قالوا: أن كل جزء منها إذا انتفع به تكون منتفعاً بملك شريكه مع ملك نفسه فوضح صحة ما ذهبنا إليه في هذا الباب. (129/17)
فإن قيل: أن الذي في يده هو النصف الشائع وهو الذي يدعي ملكه فإذا أقام البينة كان مقيماً لها عليه.
قيل له: الذي يكون في ذلك هو الذي يتأتى تصرفه فيه، ولا يجوز أن نقول في يده مالاً يتأتى تصرفه فيه ولا يتأتى تصرفه إلاَّ في ملكه وملك شريكه إذ لا يصح أن يتصرف فيما هو خاص له فبان أن ما في يده مما يدعيه هو الربع وأنه يدعي ربعاً آخر في يد خصمه فصح ما قلناه.
قال: ويحلف كل واحد منهما مع البينة على صحة دعواه أن طلب صاحبه يمينه وهذا قد مضى وجهه فلا غرض في إعادته، قال: فإن لم يكن لواحد منهما بينة استحلف كل واحد منهما على دعواه لصاحبه فإن حلفا قسم الشيء بينهما على ما بيناه أيضاً وذلك أنا قد بينا أن الذي يعيه وهو في يده إنَّما هو الربع، فأما الربع الآخر الذي هو تمام النصف إنَّما هو في يد خصمه وهو إنَّما يحلف على ما في يده ويدعيه، لأن ما في يه ولا يدعيه ولا يحلف عليه وما يدعيه في يد غيره لا يحلف عليه فالربع هو المتنازع فيه في يد مدعي الكل وكذلك في يد مدعي النصف فلذلك قلنا أنَّه يقسم بينهما أرباعاً إذا حلف كل واحد منهما على ما في يده ويدعيه، قال: وإن حلف أحدهما ولم يحلف الآخر حكم للحالف بما يدعي وذلك أنَّه إذا حلف أحدهما تقدر له ما هو في يده ويدعيه، وإذا نكل خصمه حكم عليه بالنكول فأخرج من يده ا يدعيه خصمه وحكم به لخصمه، فإن كان الحالف مدعي الكل تقرر الربع له الذي في يده بيمينه وأخرج عن يد مدعي النصف ما في يده ويدعيه وهو الربع بنكوله فيصير الشيء أجمع لمدعي الكل وإن كان الحالف مدعي النصف تقرر في يده الربع الذي في يده وحكم على خصمه بالربع الذي في يده بنكوله فتحصل له النصف الذي ادعاه. (129/18)
قال: فإن لم يحلف واحد منهما قسم أيضاً بينهما على ما بيناه وذلك أنه مات إذا نكلا جميعاً حكم على كل واحد منهما بنكوله لخصمه بما ادّعاه فيحمل الربع لمدعي النصف والباقي لمدعي الكل على ما تقدم بيانه، والله أعلم.
مسألة
قال: فإن أقام أحدهما شاهدين وأقام الآخر أربعة شهود أو أكثر كان الأمر سواء، ولم يكن لزيادة الشهود تأثير وبه قال العلماء، وحكي عن قوم أنهم جعلوا لكثرة الشهود تأثير أو حكي ذلك عن الأوزاعي وذلك لا معنى له؛ لأن الله تعالى يقول:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيْدِيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ..} الآية، فعلق الحكم بالشاهدين والشاهد وامرأتين فوجب امضاء الحكم به وإذا وجب إمضاء الحكم به لم يجب التوقف عن الحكم له لزيادة شهود خصمه وإلا كان ذلك رفعاً لمقتضى الآية، وأيضاً قد ثبت بالإجماع أن شهادة الشاهدين كافية في إلزام الحق فوجب أن يكون الزائد على ذلك من عدد الشهود لا يعتبر حال لزوم الحكم دليله الإقرار، ألا ترى أن الإقرار لما كان كافياً في إلزام الحكم لم يكن لتكريره وزيادة عدده مزية فكذلك عدد الشهود ويمكن أن يقاس على عدد الشهادة؛ لأن الشهادة متى وقعت مرة واحدة لزم بها الحكم فلا مزية لتكريرها. (129/19)
فإن قيل: فقد جرت العادة من الحكام بسماع شهادة أكثر من شاهدين ولو لم يكن لذلك تأثير لكان لغواً.
قيل له: غلط ق اعتبر في الشهادات الأقوى له إنَّما يفعلون ذلك للإحتياط؛ لأن كثرة الشهود لا يضر ولأن بعضهم لو رجع لبقي ما ينفذ الحكم به ولو رجعوا بعد الحكم سقط التضمين ما بقي اثنان ولم يجب نقض الحكم به ولو رجعوا على مذهب من يرى ذلك ولأنه أقوى في علبته ظن الحاك.
فإن قيل: قد اعتبر في الشهادات الأقوى والشهود أكثر عددهم كانت شهادتهم أقوى.
قيل له: نحن نعتبر القوة فيما كان الأمر فيه موكولا إلى الاجتهاد، فأما ما كان فيه نص أو ما جرى مجرى النص فلا معنى لاعتبار ما ذكرتم وعدد الشهود منصوص عليه فلا وجه لاعتبار الضعف والقوة فيه، ألا ترى أنا نعترض بالقياس على موجب العقل وإن كان أقوى من موجب القياس، وكذلك خبر الواحد وتخص الآية بخبر الواحد؛ لأن خبر الوارد والقياس في حكم المنصوص عليهما.
فإن قيل: روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنَّه حكم في رجلين ادّعيا شيئاً فأقام أحدهما البينة ثلاثة شهود والآخر شاهدين بأن يقسم الشيء بينهما على خمسة لصاحب الثلاثة ثلاثة أسهم ولصاحب الشاهدين سهمان. (129/20)
قيل له: يحتمل أن يكون فعل ذلك لا لاختلاف عدد الشهود بل لأنَّه عرف أن الخمس منه لصاحب الشهود الثلاثة أو لأن صاحب الشاهدين أقر له بالخمس فإذا احتمل ذلك لم يجب حمل الأمر على ما ذكرتم ولم يثبت أنَّه جعل لكثرة الشهود تأثيراً.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً مات وادّعت زوجته على ورثته صداقاً حكم لها به إلى مهر المثلث إلاَّ أن يأتي الورثة بالبينة ببرائتها من صداقها ولورثة الزوج أن يحلفوها على ما ادّعت، وهذا مبني على أن الدخول كان حصل منهما على رواية الأحكام ولا يجب أن يحمل ذلك على رواية المنتخب والصحيح عندنا رواية الأحكام أنَّه إذا مات ولم يكن فرض لها مهراً ولا دخل بها فلا شيء لها، فإذا ثبت الدخول وجب هلا مهر المثل لا محالة إذا لم يكن بينه بشيء دون ذلك فلذلك قال أنَّه يحكم لها بذلك؛ لأن ذلك يجري مجرى أن يثبت عند الحاكم أنَّه كان استهلك لها ثوباً قيسمته عشرة دراهم في أنَّه يحكم لها بثمنه، كذلك إذا ثبت الدخول يحكم لها بمهر المثل؛ لأن مهر المثل يجري مجرى قيمة البضع، وكذلك الجواب لو كان الزوج حياص وادعى عليه المهر كان القول قولها إلى مهر مثلها للوجه الذي قلنا، وبه قال أبو حنيفة ومحمد، قال أبو يوسف: القول قول الزوج ما لم يذكر شيئاً تافهاً مستنكراً.
فإن قيل: إذا احتمل أن يكون قد سمى لها دون مهر المثل فهل قضيتم لها بمهر المثل.
قيل له: أن ذلك وإن كان محتملاً فهو خلاف الظاهر وإذا كان خلاف الظاهر لم يثبت إلاَّ بالبينة، ووجب أن يحكم لها بالقيمة تامة، وأيضاً لا خلاف أن المرأة لا تصدق على أكثر من مهر مثلها، كذلك الزوج لا يصدق إذا ادّعى أقل من مهر مثلها، والعلة أنهما ادّعيا في المهر خلاف الظاهر فلم يجب تصديق واحد منهما إلاَّ بالبينة. (129/21)
فإن قيل: هلاّ قلتم هو بمنزلة مال الخلع إذا ادّعى الرجل دون ما تدعيه المرأة في أن القول قوله.
قيل له: لأن الخلع ليس يثبت في الظاهر شيئاً معلوماً كما أن الدخول يوجب مهراً معلوماً فكان القول قول مدعي الأقل كما أن رجلاً لو ادعى على آخر ألفاً فأقر المدعي عليه بخمسمائة يكون القول قول المدعى عليه؛ لأنَّه ليس في الدين شيء ثابت معلوم، وسبيل المهر سبيل ما ذكرناه إذا استهلك رجل على رجل شيئاً له قيمة معلومة؛ لأن استهلاكه أوجب القيمة كما أن الدخول أوجب مهر المثل.
فإن قيل: هلاّ قلتم أن البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن القول قول البائع إلى القيمة.
قيل له: لأنهما أقرا بانتقال الملك بعقد صحيح وعقد البيع لا يوجب شيئاً بعينه كما يوجب الدخول فلم يلزم ذلك.
فإن قيل: فما تقولون في الصلح عن دم العمد إذا اختلف القائل وولي الدم.
قيل له: لا نص فيه لأصحابنا والذي يجيء على مذهبهم أن القول قول ولي الدم إلى الدية، لأن القتل يوجب عندنا الدية المعلومة كما يوجب الدخول مهر المثل ولا يجب على أصولنا الفصل في لزوم الدية متى شاء ولي الدم بين العمد والخطأ فأما لزوم اليمين فلا خلاف فيه إذا ادعى عليها تسميته دون ذلك أو الاستيفاء أو الإباء وعندنا أن اليمين تلزمها وإن لم يدع عليها ذلك على ما بيناه في إيجاب اليمين مع البين؛ لأن إنكاره ما يدعيه يتضمن بعض ذلك فهو في حكم المنطوق به فأما إذا اختلفا في نصف المهر بعد الطلاق وقبل الدخول فيجب أن يكون القول قول الزوج على قياس قول يحيى عليه السلام في المتابعين إذا اختلفا في الثمن، وذلك أن مهر المثل لا يثبت مع الطلاق إن اخلفا فيها قبل الدخول أن يكون القول قول المرأة إلى متعة مثلها للوجه الذي بيناه، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. (129/22)
مسألة
قال: فإن ادعت أكثر م مهر مثلها فعليها البينة فيما زاد على مر المثل وعلى الورثة اليمين يحلفون على علمهم، وهذه الجملة مما لا خلاف فيها؛ لأن ما زاد على مهر المثل ليس له أصل يرجع إليه فلا يجب تصديقها إلاَّ بالبينة وعلى الورثة اليمين كحكمهم في سائر الديون، ولا خلاف أنَّهم يحلفون على علمهم؛ لأن الحق لم يلزمهم في الأصل وإنما انتقل إليهم والمراد لا تدعيه عليهم وإنما تدعي انتقاله إليهم من مال الميت فكل ما جرى هذا المجرى يحلف فيه المدعى عليه على علمه وعلى هذا يحلف الزوج إن كان حياً إلاَّ أنَّه يحلف على البنات ولا يحلف على علمه؛ لأن الدعوى عليه توجهت في الحقيقة، وقال: وكذلك إذا ماتت المرأة فادعى ورثتها على زوجها صداقها قضى لهم بمهر مثالها إلاَّ أن يقسم الزوج البينة ببرائتها منه والكلام فيه هو ما تقدم في المسألة الأولى فلا غرض في إعادته، قال: ولا فضل بين أن تكون المرأة طالبت بصداقها أيام حياتها أو لم تطالب، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن السكوت لا يسقط الديون فكذلك المهر، ألا ترى أن سكوت البائع عن المطالبة بالثمن لا يسقطه وكذلك قبض المشتري السلعة لا يؤوب سقوط الثمن ولا يكون إقراراًً بالقبض، فكذلك الدخول لا يسقط المهر ولا يكون إقراراً بالقبض فصح أن يطالب الورثة بعد موتها ما لم يقم البينة على استيفائها أو براءتها. (129/23)
مسألة
قال: وإن مات الزوجان فادّعى ورثة الزوجة على ورثة الزوج صداقها فعلى ورثة الزوجة البينة، فإن أقاموها حكم لهم بها وإن لم يقيموها استحلف لهم ورثة الزوج على علمهم ولم يحكم عليهم بشيء، وبه قال أبو حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يحكم لورثتها بالمهر كما يحكم به لو كانا حيين.
قال أيده الله: وهو الصَّحيح لأن المهر قد ثبت بالدخول فلا يسقطه موتها فأما وجه ما ذهب إليه يحيى عليه السلام فهو ما ذكره أصحاب أبي حنيفة من أنَّه محمد محمول على أن المراد به إذا تقادم العهد حتى لا يمكن أن يعرف حال المرأة إذ لا يكون قد نفى من نسائها من يمكن اعتبار مثلها مهرها، ويدل على ذلك أنهم قالوا: أن أبا حنيفة قال: أرأيت إن ادعى آل علي على آل عمر مهر أم كلثوم بنت علي أكنت احكم بذلك عليهم، والأقرب عندي أن هذا استحسان؛ لأنَّه لا إشكال في أن القياس ما قاله أبو يوسف ومحمد، ووجهه ما ذكرناه، ويمكن أن يقال بأن العادة جرت بأن المسلمين لا يتحاكمون به لبعد العملة والتعذر ضبط الأحوال، والله أعلم. (129/24)
فإن قيل: فهلاّ قلتم أوجبتم لهم عشرة دراهم إذ هي متيقنة.
قيل له: هي يختلف حكمها بأن يكون مسمى أو مهر المثل فلا يمكن إيجابها حتى تعرف جهتها، ويمكن أن يقال أن أحداً لم يقل به، قال: وكذلك إن ادعى عليهم ديناً سوى الصداق، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن الدين ليس له أصل ثابت كالمهر فمن ادّعاه فعليه البينة وعلى من أنكره اليمين.
مسألة
قال: وإذا ادعى رجل على ميت ديناً فشهد له من الورثة رجلان أو رجل وامرأتان ثبت له ما ادّعاه، فإن شهد له من الورثة رجل واحد وامرأة واحدة أو امرأتان وجب على من أقر منهم أن يخرج مما في يده من الإرث إلى المدعي ما كان يخصه لو ثبت الحق على الجميع، وأما إذا تمت الشهادة غلط كان ذلك إقراراً من الوارث وقد اختلف فيه، فقال الشافعي: فلا إشكال في ثبوت الحق في مال الميت، ولا خلاف فيه، وإذا لم تتم الشهادة كان ذلك إقراراً من الوارث وقد اختلف فيه، فقال الشافعي مثل قولنا: أن عليه أن يخرج مما في يده ما كان يخصه لو ثبت الحق على الجميع، وقال أبو حنيفة: عليه أن يخرج الدين كله مما في يده فإن لم يبق شيئاً بعده أخرج كل ما في يده، ووجهه ما رواه زيد بنعلي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في يقر بعضهم بدين، قال: (يدفع الذي أقر حصته من الدين)، ولم يرو خلافه عن غيره من الصحابة، فجرى مجرى الإجماع منهم، فوجب الانتهاء إليه ولا خلاف أنَّه لو أقر بالوصية لم تلزمه إلاَّ ما يخصه، فكذلك إذا أقر بالدين وذلك أنه حق ثبت في المال، ألا ترى أنَّه لو لم يقر بحق في ذمته بدلالة أنَّه لو لم يرثه لم يلزمه شيء وإقراره على موروثه لا يصح فثبت أنَّه إقرار يثبت في المال كالوصية، فإن فصلوا بين الوصية والدين بأن يقولوا أن الدين إذا جرى فيه الغصب يتعين في باقي المال، وليس كذلك الوصية؛ لأن المال إذا تلف ذهب من الوصية بمقدار ما تلف منه، يقال لهم: لو أوصى بشيء بعينه ثُمَّ تلف بعض المال لبقيت الوصية في باقي المال فقد شابهت الدين في هذا الوجه، فكذلك من الوجه الذي قلنا على أن إقراره يجري مجرى إقرار تام من الموروث ن وإذا ثبت ذلك فوجب أن يخصه بعض المال؛ لأنَّه في الحكم كان الموروث أقر بذلك القدر ولو كان أقر به لم يلزمه غير ذلك، وأيضاً قوله لو تمت شهادته لم يلزمه إلاَّ ذلك القدر وذلك أن يشهد معه غيره بذلك، فكذلك إذا لم يتم والمعنى أنه (129/25)
حق نبت في الإرث بقوله. (129/26)
مسألة
قال: وإذا ادعى رجل في شيء أنَّه كان لأبيه وأنه صار ميراثاً له وهو في يد رجل آخر، فعليه البينة أنَّه كان لأبيه إلى أن مات وتركه إرثاً، فإن أقامها استحقه وكان للذي في يده الشيء أن يستحلف المدعي مع بينته، قلنا: أنَّه لو أقام البينة أنَّه كان لأبيه إلى أن مات وتركه إرثاً يستحقه إن كان الشهود أثبتوا ملك أبيه إلى أن مات وأثبتوا انتقاله إليه بالإرث وجب أن يحكم له به وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً، والذي يجيء على هذا أنهم إن شهدوا أنَّه كان لأبيه إلى أن مات ولم يقولوا وتركه إرثاً له تكون الشهادة تامة؛ لأن الإنسان إذا ملك الشيء ولم يزل ملكاً له إلى أن مات صار ميراثاً له لا شبهة فيه ولا إشكال إذا اثبت أنَّه ابنه وانه كان وارثه، فإن شهدوا أنَّه كان لأبيه لم يجب له حكم؛ لأنهم لم يذكروا انتقال الملك صريحاً ولا ما يوجبه والاستحلاف مع البينة قد مضى القول فيه، قال: وإن أقام الذي في يده الشيء البينة أنَّه ملكه على عين أبيه ثبت في يده وبطل دعوى المدعي، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن الذي في يده الشيء لو أقام البينة على أبيه الموروث قضى له بها عليه فأولى أن يقضي بها على ابنه الوارث؛ لأن الموروث أؤكد حالاً في ذلك من الوارث؛ ولأن ذلك يمنع انتقال الملك إلى الوارث.
فإن قيل: إذا كنتم تجعلون بينه الخارج أولى فكيف جعلتم هاهنا بينة من في يده الشيء أولى.
قيل له: أن بينته قد حققت انتقال الملك إليه وثبوته له ولي كلك بينة من في يده الشيء؛ لأنها بينة الظاهر دون التحقيق على أنه قد صار مدعياً في هذه المواضع فوجب أن تكون بينته أولى كالخارج لما كان هو المدعي كانت بينته أولى.
فإن قيل: فأنتم لا تسمعون بينة من في يده الشيء على النتاج مع بينة المدعي فكيف تسمعون بينته.
قيل له: لأن النتاج لا يوجب الملك ولا اتقاله والشراء يوجب انتقال الملك إليه فوجب القضاء به.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أتى رجلاً برسالة بعض الناس وأخذ منه مالاً ثُمَّ وقع التجاحد كان الحكم بين الدافع وبين المدفوع إليه وهو الرسول على الدافع البينة وعلى المرسل اليمين. (129/27)
اعلم: أن هذه المسألة تكون على وجهين:
ـ أحدهما: أن يكون الرسول مكذوباً للدافع.
ـ والثاني: أن يكون مصدقاً له، فإن كان مكذباً له فعلى الدافع البينة وعلى الرسول اليمين؛ لأنَّه ادّعى دفع مال إليه وهو له منكر وليس للرسول أن يثبت المال عليه بالبينة أن يدّعيه على المرسل؛ لأنَّه إذا أنكر أن يكون أخذ من الدافع شيئاً فقد تضمن إنكاره ذلك الإقرار أنَّه لم يدفع إلى المرسل شيئاً فلا يصح أن يدعي عليه دفعه وإن كان مصدقاً للدافع أنَّه أخذه منه وادّعى دفعه إلى المرسل وأنكره المرسل، فإن أقر المرسل أنَّه أرسله فالقول قول الرسول في دفعه إليه؛ لأن المرسل قد أقر أنَّه لم ينه فهو بمنزلة المودع في أن القول قوله مع يمينه إذا قال: رد على المودع وإن أنكر المرسل أنَّه أرسله وقبض ذلك منه فالبينة على الرسول في أيهما ادعى من إرساله أو دفعه أو هما واليمين على المرسل فعلى هذا التفصيل يجب أن تجري المسألة، والعلامة لا تأثر لها في الحكم فلذلك سويا بين وجودها وعدمها وإذا أقر الرسول ولم يثبت على المرسل ما ادّعاه وادعى الرسول تلفه فإن المحفوظ عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم قالوا: إن كان الدافع أعطاه مصدقاً له فلا ضمان على الرسول؛ لأنَّه أقر أنَّه رسول المسل أو وكيله، وأنه غير متعد في أخذه وإقراره على نفسه جائز، قالوا: وإن أعطاه مصدقاً له وضنه مع ذلك كان له أن يرجع عليه أن طالبه المرسل به لأنَّه يجري مجرى ضمان الداك وهذان صحيحان على ما قالوه، وإن أعطاه مكذباً له كان له أن يضمنه.
قال أيده الله: وهذا عندي خطأ؛ لأنَّه إذا أعطاه مكذباً له فقد قال أنه ليس بوكيل له وقد جعله وكيل نفسه فيجب أن لا يلزمه الضمان، قالوا: وإن أعطاه غير مصدق ولا مكذب فله أن يضمنه وهذا غير بعيد؛ لأنَّه لم يقر بأنه وكيل المرسل ولم يجعله وكيل نفسه فكأنه أعطاه بشرط أن يكون صادقاً في ذلك فمتى لم يثبت صدقه بالبينة أو إقرار المرسل ضمنه وحكي عن الشافعية أنهم قالوا: إن كان الدافع شرط على الرسول أن يدفع إلى المرسل بالبينة فأعطاه بغير بينة ضنه، وهذا الإطلاق عندي خطأ ويجب أن يفصل ذلك، فيقال: إن كان أعطاه مصدقاً له وشرط ذلك عليه فلا معنى للشرط؛ لأنَّه إذا صدقه فقد أقر أن المال قد صار ملكاً للمرسل بدفعه إلى الرسول؛ لأن قبض الرسول يكون قبض المرسل وليس له أن يتحكم على مال المرسل وإن أعطاه مكذباً وشرط ذلك فما قالوه صحيح؛ لأنَّه قد جعله وكيل نفسه على ما مضى بيانه فإذا خالفه وكيله ضمن قالوا وإن تشترط البينة ودفعه إليه مطلقاً فعلى وجهين: (129/28)
ـ أحدهما: أنَّه يضمنه لأن العادة أنَّه أمره أن يدفعه على وجه لا يلزمه ضمانه مرة أخرى ويتبرأ في الحكم ذمته.
ـ والثاني: أنَّه لا يضمنه. والصحيح هو الوجه الثاني؛ لأن العادة التي ادّعوها في الوجه الأول غير ثابتة ولا معلومة؛ لأن الناس يتسمحون بتسليم الأموال ودفعها وقضاء الديون بغير بينة، فإذا لم تشترط البينة فليس لهم أن يدعوا أن العادة اقتضت ذلك الشرط.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً اشترى من رجل شيئاً فقال البائع بعتك بعشرين درهماً، وقال المشتري: ابتعته منك بعشرة كانت البينة على البائع واليمين على المشتري وبه قال ابن شبرمة، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف مثل قولنا، إن كانت السلعة مستهلكة وقالا: إن كانت السلعة قائمة تحالفا وترادا البيع، وقال محمد والشافعي: إن كانت السلعة قائمة تحالفا وترادا البيع، وإن كانت مستهلكة ترادا على القيمة وأصحابنا لم يفصلوا بين استهلاك السلعة وبقائها، ووجه ما ذهبنا إليه أنهما قد اتفقا على انتقال السلعة إلى المشتري بعقد البيع واختلفا في الثمن فما اقر به المشتري وجب وما أنكره كان البائع فيه مدعياً والمشتري منكراً، فيجب أن تكون البينة على البائع واليمين على البائع واليمين على المشتري لقوله: <البينة على المدعي>. (129/29)
فإن قيل: كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فيجب أن يحلف كل واحد منهما لصاحبه.
قيل له: المشتري ليس بمدع على وجه من الوجوه لأن ما يدعيه من انفاذ السلعة إليه بعقد بيع صحيح فقد أقر به له البائع وإنما ينكر المشتري زيادة ثمن يدعيه البائع، فيجب أن يكون القول قوله على أنَّه لا وجه لفسخ بيع أقر البائع والمشتري بصحته والتحالف يؤدي إليه فيجب أن يكون فاسداً.
فإن قيل: فقد وردت أخبار تقتضي ذلك فيجب أن ننتهي إليها.
قيل له: الأخبار المشهورة الواردة في هذا الباب ليس فيها ذكر التحالف وإنما الخبر الذي يروى عن ابن مسعود أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: <إذا اختلف البيعان والمبيع قائم بعينه وليس بينهما بينة فالقول ما قال البائع أو يترادّان>، وروي عن ابن مسعود قال: قال رسولا الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم: <إذا اختلف البائع والمشتري ولا شهادة بينهما استحلف البائع، وكان المبتاع بالخيار، وإن شاء أخذها وإن شاء ترك فلي في شيء من ذلك يمين المشتري>، وجعل الرد موقوفاً على خيار المشتري فيما ينطق به ظاهر الخبر ليس يذهب غليه أحد من الفقهاء، فوجب ترك ظاهر الخبر بالإجماع، وإذا كان كذلك لم يصح الإحتجاج به وأكثر ما فيه أن تناوله فنقول يجوز أن يكون المراد إذا اختلفا فقال البائع: لم أبع، وقال المشتري: قد بعت، فيكون القول قول البائع إذ ليس في الخبر أن ذلك هو الحكم إذا اتفقا في وقوع العقد واختلفا في مقدار الثمن ويكن المراد بقوله إن شاء أخذ المشتري أي أخذه بعقد جديد إذ قد رضي به البائع أو يترك ومعنى قوله يترادّان، إذا كانت السلعة في يد المشتري ويقال لأبي حنيفة وأبي يوسف قد اتفقا على أن القول قول المشتري إذا كانت السلعة مستهلكة، فكذلك إذا كانت قائمة، والعلة أنهما اتفقا على وقوع عقد جديد صحيح واختلفا في مقدار الثمن على أنَّه قد حكي عن أكثر العلماء أصحاب أبي حنيفة أن القياس هو ما قلناه؛ لأكنهم تركوا القياس فيه للأثر وإن كان المحكي عن أبي الحسن أنَّه كان يميك إلى أن القياس هو ما ذهبوا إليه وشبهه بالبائع يقول: بعتك بألف، وقال الآخر: وهبته، يقال له: الفرق بينهما أنهما لم يتفقا في عقد واحد؛ لأن عقد البيع غير عقد الهبة وهناك قد اتفقا على عقد البيع على أن هذا لا نص فيه لأصحابنا فلو سوينا بينهما لم يبعد وإن كان الأقرب هو التفرقة بينهما وعلى هذا يجب أن يجري الجواب في قول المرأة لزوجها بعتني هذا العبد، وقال الزوج (129/30)
تزوجتك عليه، فيقال لمحمد والشافعي: التراد على القيمة يكون لفسخ البيع، ولا يصح فسخ بيع سلعة مستهلكه كما أنَّه لو ظهر بها عيب بعد الاستهلاك لم يصح فيها الفسخ، والعلة أنها مستهلكة فكذلك ما اختلفنا فيه. (129/31)
فإن قيل: اختلافهما في الثمن يمنع صحة العقد.
قيل له: ليس ذلك كذلك؛ لأن كل واحد منهما مقر بصحة العقد بثمن معلوم وإنما اختلفا في مقدرا الثمن صح البيع به فلم يكن لإفساده وجه، ويقال لهما قولكما هذا يؤدي إلى خلاف موجب الشرع والعقل وهو أن يلزم المشتري في حال دون حال ما يقر هو للبائع ويدّعيه، وذلك كان يختلفا في ثمن عبد قيمته خمسمائة فيقر المشتري أنَّه اشتراه بخمسمائة بسبعمائة ويدعي البائع أنَّه باعه بألف وإن يؤخذ من المشتري في حال أكثر مما يدعيه البائع وذلك كعبد قيمته ألف فيدعي المشتري أنَّه اشتراه بخمسمائة ويدعي البائع أنَّه باعه بسبع مائة، وما أدّى إلى مثل هذا الفاسد يجب أن يكون فاسداً فصح ما ذهبنا إليه.
مسألة
قال: وإذا اشترى رجل من رجل شيئاً بدينار وقبض البائع الدينار ومضى ثُمَّ جاء يرده على المشتري بالعيب فأنكر المشتري أن يكون ذلك ديناره كانت البينة على البائع واليمين على المشتري فإن جاء المشتري برد السلعة بالعيب فأنكرها البائع فالبينة على المشتري واليمين على البائع، والوجه في ذلك أن كل واحد منهما في المسألتين يدعي على صاحبه أنَّه يلزمه استرداد ما يرده صاحبه وصاحبه منكر لذلك، فوجب أن تكون البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه يكشف ذلك أن المدعي يحال إلزام صاحبه حقاً لا يلزمه في الظاهر، ومن كان كذلك يكون مدعياً تلزمه البينة وصاحبه منكر تلزمه اليمين.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً اشترى من رجل موزوناً أو مكيلاً أو غير ذلك فادعى البائع أنَّه أعطى المشتري أكثر مما أقر المشتري يقبضه كانت البينة على البائع واليمين على المشتري، ووجهه ما مضى فلا فائدة في إعادته، والله أعلم.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً كان له عند رجل مال فتلف فادّعى من عنده المال أنَّه كان مضار به وادّعى رب المال أنَّه كان سلفاً كانت البينة على من ادّعى أن المال كان مضاربه وعلى رب المال اليمين، ووجهه أن من عنده المال ادّعى لنفسه حقاً في ذلك وهو حق التصرف للمضاربة فلم يجز أن يثبت حقه إلاَّ بالبينة وإذا لم يكن له بينة كان القول قول صاحب المال مع يمينه. (129/32)
فإن قيل: لمن عنده المال تضمن قولك أمرين:
أحدهما: ادّعا حق التصرف للمضاربة.
والثاني: دعا الأمانة، فإذا لم تكن لك بينة لم يثبت لك حق التصرف وتثبت لك الأمانة؛ لأنَّه ليس هناك ما يوجب الضمان.
قيل له: أنَّه لما ادعى المضاربة جعل كونه أميناً فيه تبعاً للمضاربة إذا أقر أنَّه لم يكن هناك وجه يوجب كونه أميناً؛ لأن تبع للمضاربة ولا يجوز أن يكون صار أميناً لغير ذلك لاتفاقهما جميعاً على نفسه، فوجب أن يضمنه ولو قال من عنده المال كان عندي وديعة فالواجب أن يكون القول قوله؛ لنه لم يدع لنفسه حقاً فيه وإنما أنكر ضماناً لم يثبت في الظاهر وكل من أنكر شيئاً مل يثبت في الظاهر فالقول قوله مع يمينه، وهذا لا نص فيه ليحيى بن الحين عليه السلام ولكن الصَّحيح ما ذكرته وعليه تدل مسائله، فإن قال: من عنده المال أخذته منك وديعة فذر لفظ الأخذ، فقال رب المال: أخذته قرضاً أو غصباً، فالواجب عندي والله أعلم أن القول قول صاحب المال لقول النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم: <على اليد ما أخذت حتى ترد>، فعلق الضمان على الأخذ؛ لأنَّه قوله يوجب ضمانه له فثبت المضان عليه في الظاهر، فوجب ا، يكون القول قول رب المال؛ لأنَّه يدعي ضماناً ثابتاً بظاهر قول النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم، وفصل أصحاب أبي حنيفة بين أن يقول صاحب المال بل أخذته غصباً وبين أن يقول بل أخذته قرضاً فقالوا مثل ما ذكرته في الغصب، وقالوا في القرض بخلافهن وذكروا في الفرق بينهما أنَّه إذا قال بل أخذته قرضاً فقد أقر بأن المال صار في يد الآخر بإذنه، وقيل عندي لا يصح أن الأخذ قد يأخذ الشيء من صاحبه بإذنه ويضمن مع ذلك فليس في ذلك ما يوجب سقوط الضمان عنه، والله أعلم. (129/33)
مسألة
قال: إذا ذكر المدعي للمنكر شاهداً فقال المنكر: هو صادق وقد رضيت به، كان له ألا يلتزم الحكم مقبوله بعد ذلك حتى يشهد معه آخر، ووجهه أن ذلك ليس هو إقرار بالحق وإنما أخبر عن حال الشاهد ولو أن الحاكم عرف ذلك من حال الشاهد لم يجز له الحكم به كذلك إذا عرفه الخصم، وأيضاً فإن الله تعالى لم يوجب الحكم بمجرد شهادة الواحد ولم يجز فلم يؤثر فيه قول الخصم، ألا ترى أن ذلك لو قال في كافر أو فاسق ظاهر الفسق لم يجز الحكم بقوله كذلك للمسلم؛ لأن الشرع ورد بخلافه فلم يؤثر فيه رضى الخصم، وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً وعلى هذا لو شهد شاهدان غير عدلين ورضي بهما الخصم لم يجز الحكم به؛ لأن الشرع قدور بخلافه فلا يؤثر فيه رضى الخصم. (129/34)
فإن قيل: فلم لم يؤثر وقد رضي به؟
قيل له: لأن تنفيذ الحك ه من حق الله عز وجل فلا يعتبر فيه رضى الخصم، ألا ترى أنَّه تعالى بين أحوال الشهود وعددهم بحسب المشهود له وعليه على أنَّه وإن كان رضي به فلد الرجوع عنه ما لم ينفذ الحكم عليه والذي يجب أن يقال للخصم إن رضيت به فالتزم الحق بغير حكم.
مسألة
قال: وإذا ادعى رجل شيئاً في يد رجل وأقام البينة على دعواه وأقام الذي في يده الشيء أيضاً البينة أنَّه له كانت البينة بينة الذي لم يتكن في يده ولم تسمع بينة الذي في يده الشيء، وبه قال أبو حنيفة وأصحاب، وقال الشافعي بينة من في يده الشيء أولى والأصل في هذا قول النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم: <البنية على المدعي واليمين على المدعى عليه>، والاستدلال من هذا الخبر من وجوه:
أحدها: أنَّه قد ثبت أنَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم جعل البينة حجة للمدعي في تقرير حقه الذي يدّعيه كان جعل اليمين حجة للمدعي عليه في قطع خصومة المدعي عنه، فمتى أقام المدعي البينة فقد أقام حجته، فوجب أن يحكم له؛ لأن الغرض في إقامة الحجة هو أن يحكم بها.
فإن قيل: إنَّما تكون البينة حجة للمدعي إذا لم يقابلها بينة للمدعى عليه.
قيل له: هذا خلاف ظاهر قول النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وتخصيص له بغير حجة. (129/35)
فإن قيل: من أين لكم أن اسم المدعي يختص الخارج دون م في يده الشيء.
قيل له: لأن المدعي هو الذي يدعي خلاف الظاهر والمدعي عليه هو الذي يقف مع الظاهر وينكر دعوى المدعي وقد علمنا أن من في يده الشيء هو واقف مع الظاهر؛ لأن الظاهر يوجب أن من في يده الشيء هو له على أن هذا لو لم يكن كذلك لم يكن لقوله البينة على المدعي واليمين فائدة؛ لأن كل مدعى عليه إذا أنكر دعوى من يدعي عليه فقد تضن إنكاره ضرباً من الدعوة إلاَّ أنَّه لا يسمى في الشرع مدعياً فيما ذكرنا يتعلق فائدة قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم هذا، وأيضاً لا خلاف أن الذي يطالب بالبينة أولاً هو الخارج.
الوجه الثاني من الاستدلال من الخبر: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لما قال: <البينة على المدعي>، أوجب أن تكون البينة حجة المدعي؛ لأن الألف واللام فيها دلالة الجنس وظاهرة أن جنس البينة حجة المدعي وأنه لم يبق للمدعي عليه بينة يجوز أن يكون حجة له.
والثالث: أن البينة اسم لما هو حجة، وقيل أنها بينة؛ لأنها يبين بها ومنه قول الله عز وجل: {وَلْيَهْلَكْ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ}، وإنما نقول في الشهود أنهم بينة ونقصد هذا المعنى، فإذا كان ذلك كذلك فلسنا نسلم أن شهود من في يده الشيء بينة؛ لأنهم لا يثبتون أمراً لم يكن معلق بما يل شهادتهم فلا يصح قول من يقول أن بينته تقابل بينة المدعي ويدل على ذلك ما روي عن علقمة بن وايل بن حجر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً من كندة ورجلاً من حضرموت جاءا إليه فادّعى الحضرمي أرضاً في يد الكندي فقال الكندي: هي أرضي في يجيء أزرعها لا حق لك فيها، فقال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم للحضرمي: <ألك بينة قال: لا، قال: فلك يمينه ليس لك إلاَّ ذلك>، فحقق أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وحقق أن ليس لك إلاَّ ذلك فلم يجعل للمدعى عليه سبيلاً إلى إقامة البينة، وأيضاً بينه من في يده الشيء لا يقبلها الحاكم إلاَّ ما كان من معرفة كون الشيء في يده وتصدفه فيه فلم يكن لسماع شهادتهم معنى فكيف يكون ذلك بينة، وأيضاً لا خلاف أن الدعوى إذا كانت في دين ولم تكن في عين ـأن بينة المدعى عليه غير مسموعة، فكذلك إذا كانت فيعين، والعلة أنها بينة مطلقة للمدعى عليه احترزنا بقولنا مطلة من بينة لو شهد وأب الإبراء والاستيفاء وفي العين لو شهدوا بتملكه على المدعي أو من يدعي المدعي تملكه من جهته. (129/36)
فإن قيل: لأنَّه لا سبيل للشهود أن يعملوا براءة ذمته على التحقيق.
قيل لهم: فكذلك لا سبيل لهم أن يعرفوا الملك على التحقيق على أن تمكنهم أن يعرفوا القبض أو يعرفوا الأبراء فيشهدوا ببراءة ذمته؛ لكنها غير مسموعة فكذلك في الأعيان، وأيضاً لا خلاف أن يمين المدعي غير مسموعة إذا تجردت مع يمين المدعى عليه، كذلك يمين المدعى عليه وجب أن لا تسمع مع بينة المدعي، والعلة أن كل واحد من ذلك مما جعله الشرع حجة لأجد الخصمين فلا تسمع من خصمه وليس تلزم اليمين مع الشاهد الواحد؛ لأن تلك غير مجردة وبينة المدعى عليه إذا لم تتجرد بأن تشمل على ذكر جهة التملك أو سقوط الدعوى تكون أيضاً مسموعة وليس لهم أن يتعلقوا بالنتاج، لأن قولنا في النتاج وغيره في هذا الباب سواه. (129/37)
فإن قيل: البينات قد تكافأت وازدادت قوة المدعى عليه بايد وهذا عمدتهم.
فيقال لهم: لسنا نسلم أن شهود المدعى عليه تكون بينة فكيف يمكنهم الادعاء أنهما تكافأن، أو يقال لهم: نحن نراعي قوة البينتين إذا لم يوجب النص قبول أحدهما فأما إذا أوجب النص قبول احاهما فلا وجه لمراعاة القوة، وهذا كما نقول جميعاً في أحد الخصمين إذا أقام شاهدين والآخر أكثر من ذلك أنا لا نراعي قوة البينة بكثرة العدد؛ لأن النص أوجب قبول الشاهدين على أن قولهم هذا يؤدي إلى أن المدعى عليه يجوز أن يعدل عما جعله الشرع حجة له وهو اليمين إلى البينة وإن جعلها الشرع حجة للمدعي، وهذا فاسد، قال وسوى كان المدعى فيه نتاجاً أو غير نتاج، ووجهه ما قدمناه من الظواهر والعلل أو لأن النتاج لا يوجب ملكاً فإن الإنسان قد ينتج ملك غير وهذا جار مجرى اليد والتصرف.
فإن قيل: روي عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في رجلين تداعيا دابة فأقام كل واحد منهما بينة في أنها دابته نتجها وأنه قضى بالدابة للذي هي في يده.
قيل له: ليس هاهنا لفظ عموم وإنما هو حكاية فعل ويجوز أن يكون النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قضى بها لا لبينته بالإقرار جرى في كلام المدعي أو لسقوط بينته لبعض الأسباب المسقطة للبينة ولم يعر الراوي ذلك فروى ظاهر إحلال فإذا احتمل ذلك لم يجب أن يعترض به على سائر الأدلة التي قدمناها. (129/38)
فإن قيل: قد ثبت في رجلين أقام كل واحد منهما البينة أنَّه اشترى هذا العبد من رجل بعينه وهو في يد أحد المتداعيين أن الذي هو في يه أولى؛ لأنَّه ادّعى الملك من الجهة التي ادعاها صاحبه ومعه يدن فكذلك النتاج.
قيل له: قد بينا أن النتاج لا يوجب تحقيق الملك وإنما هو كاليد والتصرف لأنَّه قد ينتج الغاصب والمرتهن والمستعبر كما ينتج المالك، وليس كذلك الشراء؛ لأنَّه يوجب تحقيق الملك للمشتري في الظاهر لما كان ذلك كذلك وجب تعارض بينتهما وسقطتا وحكم له باليد، وحكم النتاج حكم اليد المطلقة فكانت البينة بينة المدعي ويبين أن النتاج لا حكم له انه لو ادعى النتاج وأقام عليه البينة لم تسمع وإن ادّعى الملك ولم يدع النتاج وأقام البينة سمعت، وكذلك المدعى عليه لو قال: نتج عندي ولم يقل أنَّه ملكي لم يسمع قوله فإذا قال هو لي ولم يدع النتاج سمع، فبان أن الحك ف الجميع تعلق بالملك دون النتاج وبه الاعتبار.
مسألة:
قال: وإذا كان الجدار بين دارين فادعى صاح كل واحد من ما أنَّه له فهو لمن أقام البينة منهما، فإن أقاماها جميعاً قسم بينتهما أو كان لهما وإن لم يقيمها تحالفا وكان بينهما.
اعلم: أن هذا هو الجواب في كل شيء تداعيا فيه رجلان، والأصل فيه ما روي أن رجلين ادّعيا بعيراً وأقام كل واحد منهما شاهدين انه له فقسمه النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقال: <هو لكما لكل واحد نصف>، وأيضاً لما تساويا في سبب الاستحقاق وجب أن يتساويا في استحقاق ما تداعيا، دليله الغرماء إذا تساووا في استحقاق مال المبيت أو المفلس يوجب أن يكون ذلك بينهم وكانوا لدين يرثان أباهما على التسواي لتساويهما في سبب الاستحقاق ، وكذلك الأخوان. (129/39)
فإن قيل: قد علمنا كذب إحدى البينتين فلا نحكم بواحدة منهما كما أنا لا نحكم بشهادة الشاهدين إذا علمنا أن أحدهما شاهد زور؟
قيل له: ليس الأمر على ما ذكرتم بل لا يمتنع أن يكون معاً صادقين؛ لأن الشاهدين إذا شهدا بالملك فليس مرادهما الشهادة بتحقيق الملك إذ ذلك لا سبيل إلا أبيه وإنما شهد كل واحد منهما بظهر الحل وظاهر التصرف وظاهر التملك، ولا يمتنع أن تكون كل واحدة من البينتين عرفت لمن شهد تظاهر الحال فتكون صادقة في شهادتهما فيسقط ما اعترضتم على أنا لو سلمنا سقوط البينتين لم يتعين الحكم، فأما إذا كان أحدهما هو الذي أقام البينة استحق الجدار كله بالبينة؛ لأنَّه مدع أقام البينة على دعواه، وقلنا: إن لم تكن لواحد منهما بينة حلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، وقسم بينهما لاستواءهما في اليد والدعوى واليمين، فجرى مجرى استوائهما في البينة في أنَّه يجب أن يقسم بينهما.
مسألة
قال: وإن كان وجه الجدار إلى أحدهما كان له ذكر أبو بكر أنَّه قول أبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا معتبر بوجه الجدار، ووجه ما قلناه أن وجه الجدار يكون وجهاً له بأن يحصل فيه مزية تأنق وتزيين وذلك تصرف زائد على ما سواه، فوجب أن يكون له بماله فيه من مزية التصرف، ألا ترى أن رجلين لو اختصما في قيص وكان أحدهما لابساًله والآخر قابضاً على كمه، فأنا نحكم به لمن هو لابس له، كما له فيه مزيد التصرف، ألا ترى أنهما لو كانا جميعاً متعلقين بكمه حكمنا به بينما لاستوائهما في المتصرف، فكذلك ما اختلفنا فيه، وكذلك راكب الدابة إذا تعلق بالآخر بزمامها تكون اليد للراكب دون المتعلق بزمامها ولو كانا جميعاً متعلقين بزمامها كانت بينهما يكشف ذلك أن العادة جارية بأن من بنى جداراً يجعل وجهه إلى حيث يليه فكان الظاهر من حال الجدار أنَّه في يد من كان وجهه إليه. (129/40)
فإن قيل: اليد لا تثبت بالدلالة وإنما تثبت بالتصرف الظاهر المشاهد.
قيل له: المعلوم في هذا كالمشاهدة ألا ترى أنا نتفق في الزوجين إذا اختلفا في متاع البيت يجعل ما للنساء للمرأة وما للرجال للزوج، وإن لم يشاهدهما، وكذلك ينفق في الخشب المركب في الجدار يتم، فإن على ذلك الجدار، فكذلك مسألتنا وقد استدل على ذلك بما روي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في حصن فبعث بحذيفة فقضى به لمن إليه القمط، فأجازه النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فإذا ثبت ذلك في القمط ثبت في الوجه إذ لم يفصل أحد بينهما؛ ولأن القمط كالوجه وفي معناه قال: وكذلك إن كان لأحدهما فيه خشب مركب كان له، وجهه ما بيناه في وجه الجدار؛ لأن تركيب الخشب يوجب أن له فيه تصرف أو يداً ليس لصاحبه على ما سبق الكلام فيه وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، قال الشافعي: لا معتبر بتركيب الخشب عليه، قال: فإن كان لكل واحد منهما عليه خشب مركب أو لم يكن لواحد منهما أو التبس كان الحكم ما ذكرنا، ووجهه ما قد مضى من أنهما قد تساويا، فيجب أن يكون بينهما. (129/41)
مسألة
قال: وإذا ادّعى رجل شيئاً في يد رجل وأقم البينة على دعواه وأقام من هو في دية البينة أنَّه اشتراه من فلان استحقه المدعي ورجع المشتري على البائع بالثمن، وذلك أن المدعي ادعى الملك وأقام البينة على ذلك، فوجب أن يستحقه، والمدعي وإن ثبت شراؤه من إنسان فلم يثبت أنَّه باع ملكه، ولو كان المدعي أقام البينى على بايعه لاستحقه عليه، فوجب فوجب أن يستحقه غلط، والمدعى عليه وإن ثبت شراؤه من إنسان فلم يثبت أنَّه باع ملكه، ولو كان المدعي أقام البينة على المشتري؛ لأن المشتري إذا كان يدعي الملك من جهته لم يكن أقوى حالاً منه وكان له الرجوع بالثمن على البائع؛ لأن الاستحقاق عليه يدل على بطلان البيع؛ لأن الحاك إذا حكم باستحقاق المدعي على المشتري تضمن ذلك الحكم بطلان ذلك الشراء، وإذا بطل رجع بالثمن على من أخذه؛ لأنَّه يكون أخذه بغير أمر صحيح.
مسألة
قال: وإذا ادّعى المملوك على سيده أنَّه اعتقد أو دبن كان عليه البينة فإن لم تكن له بينة استحلف سيده، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً لقوله البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وهذا مما لا أحفظ، قال: وكل من ادّعى عليه شيء مما يجب في حد من حدود الله عز وجل نحو الزنا والسرقة وما أشبههما مما لا يتعلق بحقوق العباد ولم تكن للمدعي بينة فلا يمين على المدعى عليه وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً، لأن اليمين تكون لقطع الخصومة وهذه الأمور متى لم تثبت بالبينة تكون الخصومة فيها منقطعة، فلا وجه لليمين، ألا ترى أن المدعى عليه لو أقر ثُمَّ أنكر قبل إنكاره بعد الإقرار بعد الإقرار، وقال في المنتخب: إذا ادعى رجل على رجل أنَّه مملوكه فأنكره المدعى عليه ولم يكن للمدعي بينة فلا يمين على المدعى عليه وأما سائر الدعاوي في الجراح والقتل والنكاح والطلاق والنسب وغير ذلك فعلى المدعي البينة وعلى المنكر اليمين، أما ما حكيناه عنه في المنتخب فإنه مخالف لأصوله ومسائله، فلا وجه له ويجوز أن يكون ذاك غلطاً من الراوي، الصَّحيح عنه ما ذكرنا عنه بعد ذلك وهذا الكلام قد مضى مستقضى في كتاب النكاح، فلا وجه لإعادته، وما ذكرناه في السرقة إنَّما قلنا أنَّه لا يمين عليه إذا كان المدعي على وجه الحسبة، فأما إذا ادعى عليه إنسان بعينه أنَّه سرق له مالاً بعينه لزمته اليمين للمال دون القطع؛ لأنَّه لو نكل ألزمناه المال ولم نوجب عليه القطع؛ لأن القطع من حقوق الله، قال: وكل من ادعى عليه حق من جهة غيره مثل أن يدعي عليه أن كان على ابنه دين أو نحو ذلك فأنكره فليس يجب أن يحلف على القطع بل يحلف على علمه، ومن ادّعى عليه حق يختصه فأنكره لزمته اليمين على القطع وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً فيه خلافاً وقد مضى الكلام فيه. (129/42)
باب القول في الإقرار (130/1)
كل عاقل حر بالغ أقر بحق عليه لزمه ما أقر به، والأصل في الإقرار ما روي عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنَّه رجم ما عزاً حين أقر بالزنا، وقال أيضاً في غيره: <اغديا انيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها>، وروي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قطع سارقاً بإقراره والأخبار في ذلك كثيرة، وقد قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلُو عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، وشهادة المرء على نفسه هو الإقرار وهو مما لا خلاف فيه بين المسلمين من أيام الصحابة إلى يومنا هذا وذكرنا الحرية فيه؛ لأن من ليس بالغاً ولا عاقلاً لا حكم لألفاظه، وهذا مما لا خلاف فيه إلاَّ في إسلام الصبي، وروي عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنَّه قال: <رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم>.
واعلم: أن الإقرار لا يجوز إلاَّ بما يجوز أن يكون المرق صادقاً فيه فأما ما يعلم أنَّه كاذب فيه ف يجوز إقراره به نحو أن يقر بقتل رجل يعلم أنَّه قد مات قبل مولد المقر أو إتلاف مال علم أنَّه تلف قبل مولده أو يقر بمقارب له في السن أنَّه أبواه أو ابنه أو أقر بذلك بمشهور النسب، قال: وكذلك من أقر بحق لله لزمه نحو أن يقر بالزنا أو شرب الخمر أو غير ذلك مما يوجب الحد، وهذا لا خلاف فيه، وقد دلت الأخبار التي ذكرناها على ذلك فلا فرق بين الحر والعبد، قال: وكذلك من أقر بالسرقة يضمن ما أقر به، وهذا ما لا خلاف فيه إذا لم يكن قطع وإن كان المقر عبداً وأقر بشيء بعينه في يده غير معينة كان ضمانها دينا في ذمته يطالب به إذا أعتق، قال: ومن أقر بالزنا أو بغيره أو بغيره مما يوجب الحد ثُمَّ رجع عنه قبل ردوعه، وهذا قد مضى الكلام فيه في كتاب الحدود.
مسألة
قال: وإقرار الرجل بالولد والوالد والزوجة والمولى جائز إلاَّ أن يكون اشتهار نسب المقر والمقر له يبطل يبطل إقراره وكذلك القول في المولى والنكاح، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً بين العلماء؛ لأن الإقرار وقع على وجه لا يقتضي واسطة بين المقر والمقر له، ألا ترى أن الإقرار إذا كان بالأخ لما اقتضى واسطة وهي أولاد الأبوين لم يثبت ولا خلاف أن الإقرار إذا كان للمشهود النسب من غير يكون باطلاً، وكذلك الولاء والنكاح؛ لأن الإقرار إنَّما يجوز إذا كان على وجه يحتمل أن يكون صادقاً فيه، فأما إذا لم يكن صادقاً على وجه يعلم أنَّه كاذب فيه فهو باطل، وقال: وإقرار المرأة أيضاً جائز بكل ما ذكرناه، ولا فصل بين إقرار المرأة وإقرار الرجل ، أما إذا أقرت بالوالد والزوج والمولى ف خلاف في جواز إقرارها وإنها في ذلك في حكم الرجل، وأما إذا أقرت بالولد فمذهب أبي حنيفة وأصحابه وأكثر العلماء أن إقرارها بالولد لا يجوز، واختلف أصحاب الشافعي على ما سمعته من تحصيلهم، فذهب بعضهم إلى قول أ[ي حنيفة وبعضهم إلى مثل قولنا، وحكى الطحاوي في اختلاف الفقهاء عن بعض البصريين ثل قولنا، ووجهه أنَّه إقرار لا يتضمن الإقرار على غير المقر فوجب أن يجوز مثل إقرار الرجل وهو معنى قولنا: لا واسطة بينهما، أعني بين المرأة المقر ة والولد. (130/2)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم أنَّه يتضمن الإقرار على الزوج وذلك لا يصح.
قيل له: عندنا أن إقرارها يقبل إذا لم يكن لها زوج معروف وكان نسب الزوج لا يتعداها فأما إذا كان لها زوج معروف يقتضي إقرارها إلحاق النسب به فهو عندنا لا يجوز ولا يثبت إلاَّ بالبينة.
فإن قيل: إقرار الرجل بالولد إنَّما يصح ويثبت؛ لأنَّه لا يمكن أن يعرف أنَّه ولده إلاَّ من جهته، وليس كذلك إقرار المرأة؛ لأنَّه يمكنه أن يعرف الولد من غير جهتها؟
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما: أن ثبوت الولد ولد الرجل يمكن أيضاً أن يعرف بالبينة بأن يعلم أنَّه لود على فراشة. (130/3)
والثاني: أن هذا منتقض وذلك أن النكاح والولاء يمكن أن تعرف صحتهما من جهة المقر، ولا خلاف أن الإقرار بهما يصح لما لم يكن بين المقر والمقر له وامتطة فلا يمتنع أن يجوز إقرار المرأة بالولد وإن صح أن يعلم من غير جهتها.
مسألة
قال: والإقرار بالدين جائز في الصحة والمرض للوارث وغير الوارث، لا خلاف في جواز إقرار المريض بالدين وإنما الخلاف فيه إذا كان هناك غرماء في حال الصحة، قال أبو حنيفة: يقدمون على من أقر له في حال المرض، وقال الشافعي: يساوي بينهم، وهو الصَّحيح، ووجهه أنهم جميعاً قد استووا في ثبوت حقهم في ذمة المريض، واشتركوا في السبب الموجب، فوجب أن يستووا في الاستيفاء، ولا خلاف أنهم يستوون إذا كان وفا، فكذلك إذا كان عجز ولا خلاف أنَّه لو ثبت الحق بالبينة استوى غرماء الصحة والمرض، كذلك إذا ثبت بالإقرار، والمعنى أن كل واحد منهما يوجب الحق ويستدل على ذلك بقول الله عز وجل: {كُونُوا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ}...الآية، فكيف يأمره بالإقرار بما عليه، ويمنع تصديقه، وقال: {فَلْيُمْلِلِ الَّذِيْ عَلَيْهِ الْحَقُّ}، فكيف يأمره بأن يمل ولا يصدق.
فإن قيل: غرماء الصحة قد تعلق لهم حق الاستيفاء في مرضه بماله، ألا ترى أنَّه لو وهب أو تصدق ثُمَّ مات فسخ ذلك؛ لحق الاستيفاء في مرضه بماله، ألا ترى أنَّه لو وهب أو تصدق ثُمَّ مات فسخ ذلك لحق الغرماء، فإذا ثبت أن حقهم تعلق بالمال في المرض لم يصدق المريض عليهم في إيجاب حق الغير مع حقهم؟
قيل له: هذا منتقض بالورثة وذلك أن حقهم تعلق بماله في المرض فيما زاد على الثلث، ألا ترى أنَّه لو زاد على الثلث في الهبة والصدقة وجب أن يفسخ ومع هذا صدق من أقر بما زاد على الثلث مع تعلق حق الوارث به، فكذلك مع تعلق حقوق غرماء الصحة به، وأيضاً قد استووا هم وغرماء الصحة في وجوب فسخ الهبة والصدقة لحقوقهم، فوجب أن يستووا في الاستيفاء وأما الإقرار في المرض للوارث فإن أبا حنيفة يبطله إذا مات في مرضه، وحكى ذلك عن مالك، وقال الشافعي: هو ثابت صحيح مات أو عوفي، وبه نقول هذا الفصل كان الأولى أن يؤخر. (130/4)
فإن قيل: حال المرض حال التهمة فوجب أن يقدم عليه إقرار حال الصحة؟
قيل له: ليس كذلك بل حال المرض أبعد من التهمة؛ لأنها حال يظن معها الورود على الله عز وجل والانقطاع عن أحوال الدنيا التي لها يقدم الإنسان على ما لا يحب على أنا لو سلمنا أنها حال التهمة لم يؤثر؛ لأن بالتهم والشبهة لا تسقط الحقوق وإنما تدرق الحدود فلا تعلق بها، ووجه قولنا في جواز إقرار المريض للوارث قوله عز وجل: {فَلْيُمْلِلِ الَّذِيْ عَلَيْهِ الْحَقِّ}، ومعلوم أنَّه أمر به لتثبيت الحق ولم يخص به الصَّحيح من المريض وإن يكون صاحب الحق وارثاً أو غير وارث، فكذلك قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ}، وأيضاً هو مميز نافذ الإقرار للأجنبي فوجب أن يثبت إقراره للوارث دليله الصَّحيح والإقرار هو إخبار عن حق لزمه قبل الإقرار للأجنبي، فوجب أن يلزمه دليله الإقرار للأجنبي.
فإن قيل: المريض في حكم المحجور عليه فيما يتعلق بالوارث؛ لأن ما يملكه من الثلث في حال المرض لا يجوز له صرفه إلى الوارث وهذا صفة لا يجوز تصرف المالك فيه كالصبي والمجنون، فوجب أن لا يصح إقرار للوارث.
قيل له: هذا السؤال لا يستقيم على أصلنا؛ لأن من مذهبنا أن الوصية للوارث جائزة إلى الثلث وقد بينا ذلك في كتاب الوصايا.
ويقال لهم: لو سلمنا لكم ما ادعيتموه لم يصح ما بينتم عليه؛ لأن الوصية لا تشبه الإقرار ولا يمتنع أن يكون في حكم المحجور عليه في الهبة والوصية، فإن لم يكن في حكم المحجور عليه في الإقرار، ألا ترى أن الإقرار لا يصح له من المريض في الوصية بأكثر من الثلث، ولا أن يهبه له وهو في الثلثين في هذا في حكم المحجور عليه، ومع هذا يصح الإقرار للأجنبي فيما زاد على الثلث ولم يكن في الإقرار في حكم المحجور عليه فكذلك ما اختلفنا فيه. (130/5)
فإن قيل: فهو في حال المرض غلي مالك للثلثين فليس ذلك في حكم الحجر؛ لأن الحجر هو منع المالك من التصرف؟
قيل له: هذا باطل؛ لأن إقراره للأجنبي جائز في الثلثين وذلك يقضي منه ديونه ولو لم يكن مالكاً هل لم يصح ذلك فبان أنَّه يملكه إلاَّ أنَّه في حكم المحجور عليه فيه في باب الوصية فلا يمتنع أن يكون ذلك حكمه في الثلث في باب الوصية للوارث.
فإن قيل: روي عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنَّه قال: <أن الله جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم>، فدل ذلك على أنَّه لا يملك إلاَّ الثلث؟
قيل له: النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم ينف كون ما زاد على الثلث ملكاً له وإنما جعل الثلث زيادة في الأعمال فلا دليل لكم فيه.
فإن قيل: قد ثبت أنَّه لا يملك إثبات الوارث في المرض في الهبة والوصية فكذلك في الإقرار؛ لأن ذلك كله قول؟
قيل له: قد بينا أن هذا على أصولنا لا يلزمنا لتجويزنا الوصية للوارث على أنَّه يمكن أن يقال لهم مع تسليم ذلك أن الإقرار بالثلثين جائز للأجنبي وإن كان لا يصح إثبات حقه فيه م جهة الهبة والوصية، فكذلك الوارث لا يمتنع أن يصح إثبات حق الوارث بالإقرار وإن كان لا يجوز إثبات حقه بالهبة والوصية.
مسألة
قال: وإذا أقر الرجل بأخ له شاركه في الإرث ولم يثبت نسبه، وهذا قد بيناه فيما مضى في كتاب الفرائض فلا وه لإعادته. قال: وإذا أقر رجل واحد بدين على موروثه وكان معه وارث غيره ينكره لزمه من ذلك ما يخصه، وهذا أيضاً بيناه فيما تقدم. (130/6)
مسألة
وإقرار السبي بعضهم ببعض لا يجوز، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك، ووجه قولنا ما روي أن عمر كتب إلى أمرائه: أن لا تورثوا الحميل إلاَّ ببينة، ولم يرو خلاف عن غيره، فجرى مجرى الإجماع على أنَّه مما يضعف من طريق الاعتبار حداً، وما جرى هذا المجرى إذا قاله مثله من الصحابة فالأقرب أنَّه قال أيضاً عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم، ووجه الاجتهاد في أنَّه يسقط ما استحق بالولاء الثابت عن ما يجري مجرى العوض من العتق وهذا يغير صفة أن الولاء كالتعصيب ومحمول عليه، ولا خلاف أنَّه أضعف التعصيب فإذا جاز أن يسقط الإقرار بالولد التعصيب كان أولى أن يسقط الولاء؛ لأنَّه أضعف التعصيب واحترزنا بأنه يجري مجرى المستحق على عوض هو العتق بضعفه؛ لأنَّه وإن كان كذلك فلا شك أن يعصب النسب أقوى منه وأنه يسقطه، فإذا صح الإقرار بالدين وإن كان ذلك يسقط التعصيب، فكذلك إقراره بالأمن مع الوكيل على أن إقرار الرجل بالابن مع الزوجة يعترض ذلك؛ لأنَّه يردها من الربع إلى الثمن وهو مستحق على ما جرى مجرى العوض وهو البضع فلما بيناه استضفنا وجه الاجتهاد فيه والأقرب أن نعتمد فيه على الرواية وجملة الأمران المسألة فيها ضعف؛ لأن الرواية أيضاً تحتمل التأويل، والله أعلم.
مسألة
قال: وإذا أقر العبد على نفسه بما يوجب عليه حداً أو قصاصاً جاز إقراره وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً؛ لأن العبد أولى بنفسه من مولاه، ألا ترى أن له أن يطالبه بالإنفاق عليه وأن لا يرهفه في العمل وإنما يملك المولى تصرفه فصار ما يقربه مما يلزمه في نفسه من حد أو قصاص جائزاً، وأيضاً هذه الأمور مما لا يملكها منه مولاه إلاَّ بالجناية، فصار إقراره جائزاً؛ لأنَّه إقرار بما لا يملكه مولاه، وليس كذلك الإقرار بالمال ونحوه؛ لأنَّه إقرار في الحقيقة على مولاه وعلى ما يملكه مولاه، فجرى مجرى الإقرار على الغير في أنَّه لا يجوزن قال: وكذلك إن أقر بمال بعينه أنَّه اغتصبه أو سرقه لم يجز إقراره وذلك أنَّما في يده هو لمولاه فلم يزل إقراره به؛ لأن يده جارية مجرى يد مولاه فكما أنَّه لو أقر بشيء في يد مولاه لم يجز إقراره، كذلك إذا أقر بشيء في يده، قال: وا أقر به العبد على نفسه من مال أو حق طولب به إذا أعتق وذلك أن ما منع من قبول إقراره به هو حق مولاه وأنه لا يملك شيئاً، فإذا نال حق مولاه عنه بالعتق وصح تملكه لزمه ما سلف الإقرار به كما أن المحجور عليه للدين إذا أقر بمال عليه يطالب به إذا قضى الدين وفك عنه الحجر، وهو مما لا أحف فيه خلافاً. (130/7)
مسألة
قال: وإذا ولد للرجل مولود فأقر به لم يكن له نفيه بعد ذلك، وكذلك إن سكت حين يولد لم يكن له نفيه بعد ذلك وسكوته في هذا الموضع بمنزلة الإقرار، وهذا قد أوردنا فيه ما وجب آخر باب اللعان وبينا أنَّه إذا أقر فلا خلاف أنَّه لا يجوز إنكاره بعد ذلك كسائر الحقوق إذا أقر بها، وبينا ما في السكوت من الخلاف وأن وجه قولنا فيه أن ما يوجب السكوت يستوي فيه قليل المدة وكثيرها كالشفعة فلا وجه لإعادة تفاصيل ما مضى.
مسألة
قال: وإذا لفظ الرجل هازلاً بما يجري مجرى الإقرار على نفسه وعلم ذلك من قصده لم يكن ذلك إقراراً ولم يلزمه به حكم، والوجه في ذلك أن الإقرار إنَّما تلزم؛ لأنَّه خبر منه عن لزوم الحق إياه والمقصود إنَّما يعلم ضرورة فإذا علم من قصده أنَّه لم يرد الآبار عن لزوم الحق لم يكن له حكم دليله سائر العبارات التي لا تتضمن الأخبار عن لزوم الحق، وأيضاً قد ثبت فيما صيغته صيغة الأمر أنَّه لا يجب أن يحمل على الأمر إذا علم أنَّه تهديد أو إباحة سوى صدر عن الله عز وجل أو عن رسوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم، أو عن بعض من تلزمه طاعته كسيد العبد ونحوه، والعلة أنَّه علم من قصد فاعل الصيغة أنَّه لم يقصد أن يكون ذلك أمراً فوجب صرفه عن ظاهرهن كذلك ما ظاهر الإقرار إذا علم من قصد فاعله أنَّه لم يرد به الإقرار لا يجب أن يحمل على أن إقرار، والعلة أنَّه لفظ علم من قصد فعله خلاف ظاهره، يؤكد ذلك شهادة الهازل أنها لا توجب حكماً، كذلك إقرار الهازل، والمعنى أنَّه هزل بما ينبئ عن استقرار حق متقدم واحترزنا بهذا من إيقاع الطلاق والعتاق والنكاح، وأيضاً قد ثبت أن من أقر بحق يعلم أنَّه فيه كاذب لا يكون لإقراره حكم كذلك الهازل، ولا معنى أنَّه لا يجوز أن يكون فيه صادقاً والهازل ليس يكون مخبراً فلا يكون قوله: لا صدقاً ولا كذباً، فيجب أن لا يكون له حكم؛ لأنا لا نجوز ما علمنا بقصده أنَّ يكون ذلك صدقاً ويجيء على هذا أن الوكيل لو ادعى لموكله شيئاً له لم يكن ذلك إقراراً لموكله وأنه لو ملكه بعد ذلك لم يحكم به عليه لموكله؛ لأنَّه قد علم من حاله أنَّه غير قاصد إلى الإقرار به. (130/8)
مسألة
قال: وإذا وجد شيء في يد المفلس الذي حجر عليه لإفلاسه فأقر به لغيره لم يجز إقراره، ومن حجر عليه للتبذير والإسراف جاز إقراره إذا كان صحيح العقل؛ لأن الحجر على هذا الوجه لا يصح.
هاتان المسألتان مبينتان على أن حجر الدين صحيح وإن حجر التبذير غير صحيح وقد مضى الكلام فيهما بما يغني عن إعادته. (130/9)
مسألة
قال: وإقرار الوكيل على الموكل جائز فيما هو وكيل فيه وبه قال أبو حنيفة وأصحابه غير زفر فإنه لم يجوز في الخصومة، ووجهه أن الموكل قد أقامه مقام نفسه في نفسه في الخصومة وفي البيع والشراء فيجب أن يجوز إقراره في الموضع الذي تصرفه فيه جائز كما جاز إقرار الموكل ولأن الخصومة وسائر ما ذكرنا يشتمل على الإقرار والإنكار وينتظم الأمرين جميعاً فوجب أن يكون ذلك أعني الإقرار داخلاً تحت التوكيل وإذا كان داخلاً فيه وجب جوازه، وأيضاً يصح من الوكيل إقراره بالقبض، فيجب أن يصح منه إقراؤه بالإقرار، دليله الموكل، ألا ترى أن الأجنبي لما لم يجز إقراره ابراؤه بالإقرار لم يجز إقراؤه بالقبض.
مسألة
قال: وإذا أقر الرجل أن لفلان عليه دراهم كثيرة حمل على مائتي درهم تخريجاً خرجه أبو العباس الحسني رضي الله عنه م قوله في الأحكام في تزكية ما لا يكال: أنَّه لا شيء فيه إن كان يسيراً لا يبلغ في السنة مائتي درهم إلاَّ أن تكثر غلاَّته وتعظم حتى تبلغ مائتي درهم ففيه العشر، ووجهه أنَّه يثبت في الشرع أن مائتي درهم كثير؛ لأن الكثير هو ما يكون الإنسان به غنياً مكثراً وما لا يكون به الإنسان غنياً مكثراً لا يكون كثيراً فإذا كان كذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ: <خذ من أغنيائهم ورد في فقرائهم>، ثبت أن من تكون معه مائتا درهم يكون غنياًن وذلك يوجب أن مائتي درهم كثير بالشرع، فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون الإقرار بالشرع محمولاً على ما يفيده الشرع، ألا ترى أن من أقر بالنكاح كان ذلك محمولاً على ما هو نكاح من جهة الشرع، وكذلك الإقرار بالبيع محمول على ما يكون بيعاً من جهة الشرع، وكذلك الوقف والنسب والولاء، فكذلك الكثير يجب أن يكون الإقرار به محمولاً على ما يوجب الشرع أن يكون كثيراً.
مسألة
قال: ومن أقر لغيره بشيء فكذبه المقر له بطل إقراره، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً، وذلك أن المقر يثبت لغير حقاً فإذا أنكره المقر له لم يثبت إذا كان ذلك حقاً له محضاً؛ لأنَّه بمنزلة من أقر أنَّه ليس له ذلك الحق عليه، فوجب سقوط الإقرار له، والله أعلم. (130/10)
مسألة
قال: وإذا ادّعى رجل على رجل مالاً فقال المدعى عليه: قد قبضته كان ذلك إقراراً من المدعى عليه بالمال وعليه البينة بالقضاء، وعلى صاحبه اليمين، وهذا أيضاً مما لا أحفظ فيه خلافاً وذلك أن قول المدعى عليه: قد قبضته يتضمن أمرين:
أحدهما: الإقرار بثبوت المال عليه؛ لأن القضاء لا يكون إلاَّ بعد الثبوت.
والثاني: ادّعاء أدائه فإقراره محكوم عليه به، وادعاؤه لا يثبت إلاَّ بالبينة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه>، ومتى أنكر المدعي أن يكون قبض فعليه اليمين؛ لأنَّه منكر، قال: وإن قال: إن كان له علىَّّ شيء فقد قبضته لم يثبت به شيء ولم يكن ذلك إقراراً يلزمه شيئاً، وذلك أنَّه علقه بشرط مجهول فلم يثبت الإقرار الذي يكون في مضمون قوله قبضته فلم يكن له حكم.
باب القول في الشهادات (131/1)
لا تجوز شهادة الفاسق ولا الصبي ولا الشريك لشريكه ولا الجار إلى نفسه، أما شهادة المجاهد بفسقه فلا خلاف أنها لا تقبل؛ لأن الفسق مناف للعدالة والماهر بالفسق لا يكون عدلاً، وقد قال الله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، ومن يرضاه المسلمون لا يكون فاسقاً، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام: (لا يجوز شهادة منهم ولا ظنين ولا محدود في قذف ولا مجرب في كذب ولا جاز إلى نفسه ولا دافع عنها)، والصبي أيضاً لا خلاف في أن شهادته لا تقبل في الحقوق، وعلى البالغين وإنما الكلام في جواز شهادته على مثله في الشجاج وما جرى مجراها، وسيأتي الكلام فيه في موضعه، ووجه منع شهادته ما قدمناه من أن العدالة معتبرة فيها، والصبي لا يكون عدلاً لئن العدالة ترجع إلى أفعاله واعتقاداته، ولا حكم لأفعاله وأقواله؛ إذ لا تكليف عليه فهو بمنزلة المجنون، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <رفع القلم عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم>، والشريك لا تقبل شهادته لشريكه فيما هو شريك له فيه؛ لأنَّه يكون شاهداً لنفس وشهادة الإنسان لنفسه يكن دعوى إذن مدع في شهادة يحتاج فيها إلى البينة لقوله: <البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه>، وقوله: <لو أعطي الناس بدعاويهم؛ لادعى قوم دماء قوم وأموالهم>، فأما إن شهد لشريكه في أمر لا تعلق له به فشهادته مقبولة؛ لأنَّه لا يكون في ذلك مدعياً لنفسه وشهادة الجار إلى نفسه، أيضاً لا خلاف في أنها مردودة للوجه الذي بيناه في الشريك، ويكون جاراًّ إلى نفسه متى تضمنت شهادته إثبات ملك لنفسه أو حقاً على أي وجه كان.
مسألة
قال: ولا تجوز شهادة الذمي على المسلم، وشهادة المسلمين على أهل الذمة جائزة، وهذا مما لا خلاف فيه، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا تجوز شهادة ملة على ملة إلاَّ ملة الإسلام فإنها تجوز على الملل المختلفة كلها>، فبين أن شهادة المسلمين جائزة على أهل الملل كلها، وأيضاً المسلم العفيف عدل على الإطلاق فوجب أن تقبل شهادته على أهل الذمة، دليله شهادته على أهل الإسلام، والذمي وإن كانت تجوز شهادته عندنا على مثله فإنه لا يكون عدلاً على الإطلاق؛ لأن الإطلاق يقتضي أن يكون عدلاً في اعتقاده وأفعاله، والذمي وإن كان عدلاً في أفعاله فلا يطلق فيه أنَّه عدل لفساد اعتقاده. (131/2)
مسألة
قال: ولا تجوز شهادة اليهود على النصارى ولا شهادة اليهود النصارى على اليهود لاختلاف مللهم وشهادة اليهود والنصارى على النصارى جائزين تخريجاً اختلفوا في هذه المسألة فذهب الشافعي إلى أن شهادة أهل الذمة غير مقبولة غير جائزة على وجه من الوجوه، وذهب أبو حنيفة إلى أن شهادة أهل الذمة جائزة بعضهم على بعض وأجاز شهادة اليهود والنصارى بعضهم على بعض، وقال ابن أبي ليلى مثل قولنا، وكذلك الأوزاعي والحسن بن صالح بن حيّ والليث ذكره الطحاوي في اختلاف الفقهاء، وحكي ذلك عن كثير من المتقدمين، والأصل في قبول شهادة أهل الذمة قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا شَهَادَةَ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ}، إلى قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، والظاهر أنَّه أراد بقوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ}، من غيركم المؤمنين، فوجب أن يكون المراد من غير المؤمنين، فاقتضى ذلك جواز شهادتهم على المسلمين وغيرهم فلما نسخ الحكم بشهادتهم على المسلمين بقيت شهادتهم على أهل لكفر على موجب حكم الآية.
فإن قيل: روي عن بعض المفسرين أن المراد به من غير قبيلتكم.
قيل له: قد روي ذلك عن بعضهم وعن بعضهم بل الأكثر من المفسرين، أن المارد به من غير أهل دينكم، وهذا هو الظاهر؛ لأن الخطاب للمؤمنين ليس لقبيلة بعينها على أنا لو قبلنا ذلك حملنا الآية على الوجهين جميعاً، فقلنا: يجوز أن يكن المراد من غير أهل دينكم من غير قبيلتكم، فيصح استدلالنا على ما بيناه. (131/3)
فإن قيل: يلزمكم بهذا أن تجيزوا شهادة الوثنية والملحدة وإن تجيزوا شهادة اليهود على النصارى وشهادة النصارى على اليهود.
قيل له: كل ذلك يقتضيه الظاهر إلاَّ أنا نخص الوثنية والملحدة بالإجماع ونخص شهادة اليهود على النصارى، وشهادة النصارى على اليهود بما نذكره من بعد.
فإن قيل: شهادتهم منسوخة على كل وجه بقوله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
قيل له: هذا نسخ بشهادتهم على المسلمين ولم تنس شهادة بعضهم على بعض؛ لأن قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، وارد في المسلمين؛ لأن صدر الآية قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}، إلى قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، وكذلك: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، ورد بعد قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، وذلك من أحكام المسلمين وليس في الآيتين ما يدل على نسخ شهادة الذميين بعضهم من بعض، ويدل على ذلك ما روي عن الشعبي عن جابر أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل وامرأة منهم زنيا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <ائتوني بأربعة منكم يشهدون>، فشهد أربعة فرجمهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروي عن عامر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض، وروى لنا أبو العباس الحسني بإسناده يرفعه فيما أظن إلى ابن الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاز شهادة اليهود بعضهم على بعض، وأيضاً عند الشافعي أن شهادة أهل الأهوى جائزة، وبه قال أكثر العلماء إلاَّ الخابية فإن بعضهم يشهد لبعض إذا أقسم له وإن بلغ ذلك حداً يوجب الفسق، وكذلك الباغي فيجب أن تجوز شهادة أهل الكتاب؛ لأن ضلالهم من طريق اليدين كضلاله، وإن كانت الوصية من شرطها الأمانة، والمعنى أن المبتغي في كل واحد عدالة الأفعال. (131/4)
فإن قيل: فكيف تقولون أنَّه عدل في فعله مع كفره؟
قيل له: لا يمتنع ذلك؛ لأن معنى العدل هو الوسط الذي لا يميل ومن كان مأموناً في فعله لا يمتنع أن يقال أنَّه عدل في فعله.
فإن قيل: كيف يكون الكافر مأموناً؟
قيل له: الشرع منع من ذلك ولا يمتنع أن يكن الإنسان من أهل الشهادة ممن تقبل شهادته ثُمَّ لا تقبل في موضع دون موضع كالمرأة وإن كانت من أهل العدالة ولعفاف لا تقبل شهادتها في القصاص والحدود وعند الشافعي في النكاح فلا يمتنع أن تقبل شهادة الذمي في موضع دون موضع. (131/5)
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٌ فَتَبَيَّنُوا}، الكافر فاسق؟
قيل له: المارد به من فسق من جهة الفحل لا على وجه اليدين للأدلة التي ذكرناها، ويكشف ذلك شهادة أهل الأهواء وإن فسقوا يكشف ذلك أن البغاة الذين حاربوا علياً عليه السلام فسقوا ولم يمتنع أحد من العلماء من قبول أخبارهم وإن كان لا يقبل إلاَّ خبر العمل؛ لأن فسقهم كان من جهة اليدين لا من جهة التهتك فإن قاسوهم على من فسق من المسلمين ناقضناهم بالخوارج والبغاة.
فإن قيل: فإنهم يرتكبون أموراً لو ارتكبها المسلم سقطت عدالته كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وما أبه ذلك فأولى أن تسقط عدالتهم.
قيل له: إنَّما سقطت عدالة المسلمين بهذه الأفعال؛ لأنهم لا يفعلونها تديناً بل تهتكاً والذمي يفعلها تديناً لا تهتكاً فلم يجب أن تسقط عدالته يكشف ذلك، أو من شرب النبيذ المحلل عند أبي حنيفة، وكان خفياً لم تسقط عدالته؛ لأنَّه شربه متديناً، ومتى شربه من كان من أصحابنا أو أصحاب الشافعي سقطت عدالته؛ لأنَّه شربه تهتكاً لا تديناً.
فإن ناقضونا بالمرتد.
قيل لهم: أنَّه ليس من أهل الملل وكلامنا في أهل الملل، فإن شئت زدت في العلة فقلت أنَّه محقون الدم على التأبيد فسق تديناً احتراز من المرتد، فأما المنع من شهادة اليهود على النصارى أو النصارى على اليهود، فالأصل فه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا تجوز شهادة ملة على ملة إلاَّ ملة المسلمين فإنها تجوز على الملل كلها>.
فإن قيل: الكفر كله ملة واحدة مختلفة؟
قيل له: الخبر قد دل على خلاف ما ذهبنا إليه؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لما قال على الملل كلها، أثبت ثلاث ملل فبان أن بعد ملة الإسلام أكثر من ملة واحدة. (131/6)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم عبر عن الملتين بالملل؛ لأن الاثنين قد يعتبر عنهما بلفظ الجمع؟
قيل له: ذلك يكون مجازاً أو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحتمل على المجاز إلاَّ بالدلالة، وقد استقصيناه ف كتاب النكاح في مسألة منع الناكح بين اليهود والنصارى، فلا وجهن لإعادته، وإن ثبت أن الكفر ملل كثيرة فلك أن تقيس شهادة اليهودي على النصراني على شهادة كافر على من لا يدين بشريعته؛ لئلا يحتاج إلى ذكر اختلاف الملل.
مسألة
قال: وتجوز شهادة العبد إذا كان عدلاً، قال أصحابنا: المراد به إذا شهد لغير سيده، وقال عثمان البتي: تجوز شهادة العبد لغير سيده، وذكر أن ابن شبرمة كان يراها جائزة، ويروى ذلك عن شريح، وروي عن أنس قال: ما أعلم أحداً رد شهادة العبد والأظهر أنَّه رأي أكثر أهل البيت، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي إلى أنها لا تجوز، ويدل على ما قلنا قول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}، وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، فلم يخص حراً من عبد فمن ثبتت عدالته جازت شهادته، وهو قياس على الحق بعلة أنَّه مسلم عدل أو يقال هو ممن يجوز قبول أخبار الدين منه، فيجب أن يكون من أهل الشهادة، دليله الحر، ألا ترى أن الفاسق لما لم يجز قبول خبره في الدين لم يكن من أهل الشهادة ولا يلزم عليه الذمي؛ لأنَّه وجود الحكم ولا عليه وذلك لا يكون نقضاً.
فإن قيل: أن الشهادة من صفتها أن يلزم الضمان بالرجوع فكما لم يكن العبد ممن لم يضمن لم يكن من أهل الشهادة؟
قيل له: في ضمان الراجع عن يحي بن الحسين عليه السلام روايتان:
إحدى الروايتين: أن الحكم ينقض به ولا يلزم الضمان فعلى هذه الرواية السؤال ساقطاً. (131/7)
والجواب على الرواية الأخرى: أن الضمان يلزم ولا يطالب به ما دام عبداً؛ لأنَّه لا يملك فهو بمنزلة الفقير المعدم يلزمه الضمان في أنَّه لا يطالب بهما دام عبداً، وإن كان الدين قد لزمه.
فإن قيل: العبد لما لم يكن من أهل الولاية لم يكن م أهل الشهادة كالصبي والمجنون.
قيل له: لم تكن العلة فيهما ما ذكرت بل العلة فيما أنَّه لا يصح وضعها بالعدالة، وليس كذلك العبد وتبين أن العدالة ليس سبيلها سبيل الشهادة أن المخالف في هذا لا يجوز شهادة الأب لولده وإن كان، ولأبيه عليه أقوى الولايات ما دام صغيراً.
فإن قيل: شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل لما كان ميراثها على النصف من ميراث الرجل، فبان أن الشهادة معتبرة بالإرث، فإذا لم يكن العبد من أهل الميراث لم يكن من أهل الشهادة؟
قيل له: لا يصح اعتبار الشهادة بالميراث من وجوه:
أحدها: أن المرأة لا يطلق أن شهادتها أبداًً على النصف من شهادة الرجل؛ لأنا لا نقبل شهادتها أصلاً فليس الحدود والقصاص وتقبل شهادة امرأة وحدها فيما لا يطلع عليه الرجال فتكون شهادتها بمنزلة شهادة رجلين، ولا يصح إطلاق القول بأن المرأة على النصف من الرجل في الميراث؛ لأن في بعض المسائل تكون المرة والرجل في الإرث سواء، وفي بعضها تسقط المرأة ولا يسقط الرجل فإذا صح ذلك بطل ما اعتقدوه.
فإن قيل: قول الله تعالى: {عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}، يوجب سقوط الشهادة من العبد؛ لأن الظاهر أنَّه لا يقدر على شهادة لها حكم؟
قيل له: أما الشهادة فقد علمنا ضرورة أنَّه يقدر عليها فثبت أنَّها غير مراده بالآية، وقولهم: لا يقدر على شهادة لها حكم لا معنى له؛ لأن كونها مما يحكم بها أولا يحكم بها ليس مما يدخل تحت المقدور؛ لأنه أمر يرجع إلى أمر الله عز وجل من جهة النص والإجهاد فلا معنى للتعلق بالآية.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَلا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}، والعبد ممنوع من الإجابة بحق المولى فلم يدخل في الآية؟ (131/8)
قيل له: المراد بالآية: {وَلا يَأْبَى الشُّهَدَاءَ}، مع ارتفاع الموانع، ألا ترى أن الحر قد يأباها لمرض أو خوف أو كونه محبوساً لحق الغير أو لكونه ملازماً، وإذا كان كذلك صح أن يكون العب داخلاً في الآية على أن العبد إذا ألزمته إقامة الشهادة فلا يمتنع أن نقول يقيمها لوجوبها كالصلاة المفروضة والصيام المفروض وإن أخل ذلك بحق المولى.
مسألة
قال: وشهادة الابن لأبيه والأب لابنه والأخ لأخته جائزة إذا كانوا عدولاً، أما شهادة الأخ لأخيه فلا خلاف في جوازها بين العلماء، إلاَّ ما يحكى عن الأوزاعي من منعها والإجماع يقضي عليه وعامة ما يستدل به على جواز شهادة الابن لأبيه أو الأب لابنه، يدل على ذلك وأما شهادة الابن لأبيه والأب لابنه فقد حكي عن عمان البتي أنَّه أجازها بشرط أن يكون الشاهد عدلاً مهدياً فاضلاً كأنه اشترط في هذا الموضع في باب العدالة أزيد مما يشترط في غيره، وهو رأي كثير من أهل البيت، وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وعامة العلماء إلى أنها لا تجوز، وما ذكرناه من الظواهر من قوله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وقوله عز وجل: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، وقوله تعالى: {حِيْنَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <شاهداك أو يمينه>، ولم يستثن ولداً ولا والداً، فاقتضى ذلك كله جواز شهادة الولد لولده والوالد لولده.
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <أنت ومالك لأبيك>، فوجب أن لا تصح شهادته له؛ لأنَّه يجري مجرى الشهادة للنفس، وكذلك روي أنَّه قال: <إنما أموالكم وأولادكم من كسبكم فكلوا من كسب أولادكم>، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <فاطمة بضعة مني>، فأثبت البضعية؟ (131/9)
قيل له: قوله: <أنت ومالك لأبيك>، لا خلاف أنَّه لم يوجب كون مال الابن لأبيه على التحقيق؛ لأن له أن يطالب الأب بماله عليه، ولا يجوز للأب أن يبيع مال الابن عليه إذا كان بالغاً، وكذلك لا ينفذ في عبيده عتقه فإن أن المارد به أن له حق التبس فيه لقوته أو ما جرى مجراه، وهذا القدر أو ما هو فوقه بإضعاف مضاعفة عند أبي حنيفة، والشافعي لا يوجب سقوط الشهادة؛ لأن للغريم أن يتناول عندهما من مال غريمه إذا امتنع من إيفائه حقه ومع ذلك لا خلاف أن شهادة الغريم لغريمه جائزة، كذلك قوله: <أولادكم من كسبكم>، مجازي يفيدان ابتدأه منكم وإلا فلا خلاف أنهم ليسوا كسب آبائهم وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <فاطمة بضعة مني إنَّما أراد تسريفها وتعظيمها وتعريف الناس عظم محلها عنده لا أنَّها في الحقيقة بضعة إذ هي منفصلة عنده مستبدة بأحكامها ومن حكم بعض الشيء أن تكون الجملة مستملة عليه وعلى غيره فليس في شيء من ذلك، دليله على سقوط شهادة الآباء للأولاد وإنما ذلك كما، مثل وقال:
وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض
لم يرد أنهم أكباد في الحقيقة وإنما وصف كرامتهم عليهم وما قدمناه يوجب قبول شهادتهم للأولاد، وشهادة الأولاد لهم، وأيضاً هو مسلم عدل فوجب أن تجوز شهادته له وإن كان سبباً له، دليله الأخ إلاَّ على قول الأوزاعي والعم والخال على قول الجميع.
فإن قيل: لما عرف م وجد الآباء بالأولاد ومحبتهم لهم توجب التهمة في شهاداتهم؟
قيل له: معاذ الله أن يتهم العدل النقي بذلك فقد عرفنا من أحوال المسلمين من لدن الصحابة إلى يومنا هذا أنهم بانيوا الأولاد وقاتلوهم ابتغاء رضوان الله ولئن جاز أن يتهم في الشهادة لنفع يصل إلى ولده جاز أن يتهم إذا شهد للأجنبي، وأن يكون ارتشى وشهد له ثُمَّ قد علمنا أن الإنسان قد يحب أخاه كما يحب ولده، لهذا قال بعض العرب لما بلغه أن أخاه قتل ولده: (131/10)
أقول للنفس تأسِّياً وتغرية ... إحدى يدي أصابتني ولم تزد
كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين ادعوه وذا ولدي
فكيف عن أخيه ولم يقتص نه فبان أن شيئاً مما ذكروه لا يثبت ولا يصير طعناً فيما تعلقنا به، قال أيده الله: وجه المسألة ما بيناه، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: (لا تجوز شهادة الولد لوالده إلاَّ الحسن والحسين؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهد لهما بالجنة)، فإن صح أن الخبر لم أحق قبول شهادة بعضهم لبعض لوجهين:
أحدهما: أن قوله عندنا منبع.
والثاني: أنَّه لم يعرف له في الصحابة مخالف، والله أعلم.
وفي الجملة إن لم يكن إجماع على ذلك فما ذهب إليه أصحابنا من إجازة شهادتهم قوي.
مسألة
قال: وتجوز شهادة الزوج لزوجته، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز، والوجوه الَّتِي ذكرناها فيما تقدم أكثرها يدل على ذلك، ويدل على ذلك ما روي أن علياً شهد لفاطمة عليهما السلام ... أبي بكر، فقال أبو بكر: رجل مع رجل أو امرأة وذك أن أم أيمن كانت شهدت مع علي ولم يقلان شهادة الزوج لزوجته لا تقبل، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعاً منهم؛ لأن الأمر إذا ظهر وانتشر فيهم، وقال به بعضهم ولم يظهر عن أحد خلافه، كان إجماعاً.
فإن قيل: لا تجوز شهادة أحدهما لصاحبه؛ لأن كل واحد منهم ينتفع بماله غالباً فلم يجز أن تقبل شهادة واحد منهم لصاحبه.
قيل له: أما الزوج فلا حق له في مال المرأة ولا يحل أن يبسط فيه إلاَّ بإذنها كالأجنبي فلا يجب أن يكون هذا مانعاً من قبول شهادته وأما المرأة فانتفاعها إنَّما هو بالمعاوضة؛ لأن المهر عوض البضع والنفقة في مقابلة بذلها نفسها، وهذا يجري مجرى ما يكون بين المتبايعين أو بين المستأجِر والمستأجَر، إما يكون بين الغرماء وشيء من ذلك لا يمنع قبول شهادته. (131/11)
فإن قيل: ما تستحق المرأة من النفقة يزداد بحسب كثرة مال الزوج، وكذلك مهر المثل يزداد بحسب زيادة مال المرأة، فشهادة الرجل تسقط؛ لأنها تزيد في قيمة ما يملكه وهو البضع وشهادة المرأة تسقط؛ لأنها تزيد في استحقاقها.
قيل له: هذا فاسد فإن الغريم إذا شهد لغريمه المقر ثبت شهادته، وإن كان ما يحصل له يستحقه الشاهد والرجل يشهد على جاره السخيف المؤذي في داره للكريم الفاضل فتقبل وإن كانت مجاورته تزيد في قيمته دار الشاهد على أن ما قالوه لا فائدة فيه لأن زيادة مهر المثل لا تنفع الزوج على وجه من الوجوه؛ لأنها ولو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج، فأي فائدة للزوج فيه.
فإن قيل: العادة أن مال الزوج يكون في يد المرأة وما المرأة يكون في يد الزوج، فإذا شهد أحدهما لصاحبه فكأنه شهد بما يستحقه باليد؟
قيل له: مال لكل واحد مما في يد صاحبه يكون على سبيل التراضي لا على سبيل الاستحقاق، فلا معنى لقولكم أنها شهادة بما تستحقه يد.
مسألة
قال: وتجوز شهادة كل ذي رحم لرحمه إذا كان عدلاً، وهذا مما لا خلاف فيه إلاَّ ما تقدم بيانه وبما أجمع عليه من ذلك يستدل على ما أختلف فيه، والله أعلم.
مسألة
قال: ولا تجوز شهادة الأعمى وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى والشافعي، وقال مالك والليث: تجوز، وحكي عن بعضهم أنَّه جازها إن كان تحملها قبل العمى ولم تجز ما تحمله بعد في العمى والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٍ}، فنهى عن اتباع القول بغير علم، الأعمى يقول بالظن والحسبان دون العلم، وقال الله تعالى: {إِلاَّ مِنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فبين عز وجل أن الممدوح من شهد بالحق وهو عالم به، وروي عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشهادة، قال: <ترى هذه الشمس على مثلها فاشهد وإلاّ فدع>، وروي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: <لا تشهد إلاَّ على ما تيقنه>، والأعمى إنَّما يشهد على الصوت والصوت قد يشبه الصوت، وقد يتعمد التشبه بصوت غيره حتَّى لا يكاد يغادر منه شيئاً في النعمة وغيرها، وأيضاً قد ثبت أن البصير إذا لم يتحقق ما يشهد به لا يجوز أن يشهد فيجب أن لا تجوز شهادة الأعمى قياساً عليه؛ لأنَّه لا يتحقق ما يشهد به إنَّما يظن ذلك. (131/12)
فإن قيل: يجوز أن يعلم الأعمى من يشهد عليه على التحقيق بأن يتعلق به فيقر بشيء فيظن ويأخذ بعض أعضائه ثُمَّ يسمع منه إقراراً ثُمَّ يشهد به قبل أن يفارقه ويخليه عن يده.
قيل له: هذا أيضاً يجوز أن يقع فيه التلبيس بأن يقرب رجل من الرجل المتعلق به فيقر بشيء فيظن الأعمى أن المقر هو من تعلق به على أن مثل هذا لا حكم له؛ لأنها شهادة لا بقع مثلها على ما بلغنا قط وينعد أن يتفق وقوع مثلها فيما بعد على أنَّه إذا ثبت أن شهادة الأعمى في سائر المواضع غير مقبولة جاز أ، نمنع من هذه الشهادة؛ لأن أحداً من المسلمين لم يفرق بينهما وبين سائر الشهادات.
فإن قيل: ففي الشهادات ما تجوز إقامتها بالاستفاضة من دون المعاينة فأجيزوا فيا شهادة الأعمى؟
قيل له: هذا وإن كان كذلك فلا بد من إقامة هذه الشهادة على الخصم ومع ادعاء المدعي والأعمى لا يحصل له العلم بهما، ويمكن أن يقال أن شهادته لما لم تجز في المبصرات لم تجز في المسموعات بدلالة شهادة الفاسق والصبي والمجنون فلا ينتقض بالأصم وذلك أن الأصم يتحقق بالمبصرات؛ لأنَّه عكس ما قلنا، وليس هو ينقض له على أن بينهما فرق، وذلك أن الأصم يتحقق المبصرات وليس كذلك الأعمى؛ لأنَّه لا يتحقق المسموعات؛ لأنَّه لا يدري ممن يسمع وإنما يظن. (131/13)
فإن قيل: أن خبر الأعمى يقبل وقد قبل الناس أحاديث أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير روايتهن، فكذلك تجوز شهادة الأعمى؟
قيل له: الشهادة ليست كالخبر؛ لأن الخبر يثبت به الحكم إذا قال فلان عن فلان، ومثله لا يصح في الشهادة ويجوز عندنا في الأخبار الإرسال ولا يجوز في الشهادة، والأصل فيه أنَّه تسومح في الأخبار ما لم يتسامح في الشهادة، ألا ترى أن الأخبار الواردة في القصاص والحدود وإن كانت من جهة النساء تقبل شهادتهن في ذلك لا تقبل، ويصح أن يقال في جواب ما سألوا أن الأحكم ثبت من جهة الاستدلال فلا يمتنع أن يكون ذلك حال الخبر المثبت وليس كذلك ما يقضي به القاضي؛ لأنَّه لايثبت بالاستدلال، فكذلك ما يثبت به القضاء من الشهادة فإن سألوا عمن ذهب بصره من الأنبياء عليهم السلام، قيل لهم: لا يمتنع أن حال الشادة في شرائع من كان قبلنا لم يكن كحالها الآن بالتسدد فيها على أن الأنبياء لا يمتنع أن يزيدهم الله عز وجل بزيد المعرفة وإن كان ذلك ناقضاً للعادة؛ لأن أكثر ما فيه أن يكون ذلك معجزاً فليس يلزم سؤالهم.
فإن قيل: إذا جاز أن يزوج الأعمى ابنته الصغيرة فهلا جاز أن يشهد؛ لنه لا يجوز أن يزوج حتَّى يعلم حظها، وذلك متعذر مع العمى.
قيل له: الفرق بينهما أن الحظ المبتغي يجوز أن يعلم من جهة الأخبار، ألا ترى أنَّه يجوز أن يزوج ابنته الصغيرة من غائب لم يره قط إذا غلب عليه من جهة الأخبار أن لها فيه حظاً، وليس ذلك الشهادة؛ لأنَّه لا يجوز إقامتها على الغائب الذي لم يره على أن الإنكاح لم يراعى فيه ما روعي في الشهادة من الإحتياط والتشدد. (131/14)
مسألة
وشهادة النساء وحدهن جائزة فيما لا يطلع عليه الرجال إلاَّ النساء، وتجري شهادة امرأة واحدة أما قبول شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال فلا خلاف في جملته وإن اختلف في أعيان المسائل إلاَّ ما يروى عن زفر أنَّه لم يجوز قبول شهادة النساء وحدهن في الولادة وغيره، والإجماع يحجه، وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره في هذا الباب على ما نبينه من بعد هذا يحجه وقوله تعالى: {وَأَقِيْمُوا الشَّهَادَةَ للهِ}، وقوله: {وَلا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}، يشتمل على النساء كما يشتمل على الرجال؛ لأن أحكام الشرع كلها وردت بلفظ التذكير وإن كانت مشتملة على النساء اشتمالها على الرجال، كقوله: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وما جرى مجراه، ويمكن أن يقال قد ثبت أن لقبول قول النساء على الانفراد مدخلاً في الشرع، وذلك في أخبارهن المتعلقة في الدين، فكذلك في الشهادات والعلة أنها محكوم لها بالعدالة ولا يلزم عليه قبول قولهن في المعاملات نحو حمل الهدايا وغير ذلك، وإن لم تثبت لهن العدالة؛ لأن ذلك إثبات الحكم ولا علة.
فأما: عددهن فقد اختلف فيه فذهب أبو حنيفة وأصحابه أن شهادة الواحد مقبولة مثل ما ذهب إليه أصحابنا، وروي ذلك عن الثوري، وقال أبو شبرمة والشافعي: لا يقبل أقل من أربع نسوة، وعن البتي لا يقبل أقل من ثلاث في الولادة واستهلال الصبي، عن مالك لا يقبل أقل من امرأتين، وروى ذلك عن ابن أبي ليلى، وروي عنه أيضاً مثل قولنا وحكي عن مثل قولنا عن الشعبي وإبراهيم وروي ذلك عن علي عليه السلام وذكر عن هشام أنَّه روى ذلك عن علي عليه السلام في القابلة، ووجهه أنَّه روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قبل شهادة القابلة والظاهر أنَّه قبلها وحدها؛ ولأنه لا فائدة في رواية ذلك إن كان قبلها مع غيرها وأيضاً قد علمنا أن الذي يجوز قبول شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه الرجال إنَّما هو الضرورة، ولا ضرورة إلاَّ إلى واحد، فيجب أن لا يكون بأكر منها اعتبار على أنَّه قد تكون الشهادة على أمر لا يحل النظر إلهي إلاَّ لعذر فإذا نظرت إليه الواحد فلا ضرورة بعد ذلك فلا وجه لجواز ظهر أخرى إليه فجرى مجرى الرجل، وليس يلزم عليه الرجلان فيما لا يحل النظر إليه للرجال إلاَّ لعذر؛ لأن الدلالة قد دلت على أن الرجل الثاني في حكم الأول، وليس كذلك النساء، وأيضاً قد ثبت أنَّه لا حكم لعددهن إذا انفردن وذلك أن خمساً منهن أو أكثر لو شهدن بمال كانت الواحدة والعدة الكثيرة منهن سواء في أن شهادتهن لا تقبل فوجب أن لا يكون لعدهن معتبر في مسألتنا والمعنى انفرادهن عن الرجال، فكل موضع ينفردن عن الرجال فيجب أن تكون الواحدة والعدة الكثيرة فيه سواء، وأيضاً قول المرأة الواحدة مقبولة في نقل أخبار الأحكام فكذلك فيما اختلفنا فيه والعلة أنَّه قول ليس من شرط صحته انضمام قول رجل إليه. (131/15)
فإن قيل: فخال الرجل سواء في هذا من خال المرأة؛ لأن شهادة الرجل الواحد لا تقبل بحال؟
قيل له: هذا مما لا نص فيه عن أصحابنا، وقد حكي عن ابن سماعه أنَّه ذكر في نوادره، عن محمد أن الرجل الواحد لو فاجأها وهي تلد ولم يتعمد النظر وشه بذلك أن شهادته وحده مقبولة، وليس هذا ببعيد لو قلناه، وحكي عن الطحاوي أنَّه استدل على ذلك بأن قال قد ثبت وجوب قبول شهادة النساء في الولادة فنظرنا هل هو لأه لا يصلح للرجال النظر في تلك الحال فأقيم النساء مقام الرجال أو لأنها أصل في نفسها لا يعتبر بالرجال فلما وجدنا الشهادة على النساء لا تجوز إلاَّ لأربعة رجال وإن كان محرماً على الرجال النظر إلى ذلك الموضع لغير ذلك ولم يجب أن يقمن النساء مقام الرجال علمنا أن ذلك جاز؛ لأنَّه أصل بنفسه فإنهن لا يقمن فيه مقام الرجال، فوجب أن يسقط اعتبار العدد. (131/16)
فصل
قال يحيى بن الحسين عليه السلام وإذا قالت امرأة واحدة أني أرضعت رجلاً وزوجته رأينا أن يكف عنها ويخلي سبيلها مخافة أن يكون الأمر كما ذكرت والاحتياط فيه أصلح فخرج ذلك أبو العباس الحسني في النصوص على الاحتياط والاستحباب؛ لأن ظاهر قوله: لا يتضمن وجوب الفسخ وإنما أشار إلى الاحتياط؛ لأن الرضاع مما يجوز أن يطلع عليه الرجال لغير عذر ولأنه قال في الأحكام في باب الشهادات: ولا تقبل شهادة النساء وحدهن إلاَّ فيما لا يشهد عليه غيرهن من الاستدلال وأمراض الفروج، قال أيده الله: وهذا التخريج عندي لما ذكره بما نبه عليه يحيى عليه السلام فيجب على هذا أن لا تقبل شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: تقبل شهادة أربع نسوة وحكي عن الأوزاعي أنها وحدها إذا شهدت بعد النكاح لم تقبل شهادتها وأشهدت قبل النكاح جازت شهادتها، والأصل في ذلك أنَّه مما لا يجوز أن يطلع عليه الرجال؛ لأن ذوي المحارم منهم أن يجوز لهم أن ينظروا إلى تدينهن والإجارة والقرض ونحوه في أنَّه لا يقبل فيه شهادة النساء وحدهن، والعلة أنَّه مما يطلع عليه الرجال، وأيضاً هو مما ثبت به الحرمة فلا تجوز فيه شهادة النساء نفردات كالنكاح. (131/17)
فإن قيل: فالولادة أيضاً تجوز أن يحضرها الرجل؟
قيل له: المراد هو المعتاد وليس في المعتاد أن الرجال يحضرون الولادة، وليس كذلك الرضاع؛ لأنَّه قد يرى النساء يرضعن مع الاتفاق في الطرق وغير ذلك.
مسألة
قال: وشهادتهن جائزة مع الرجل في الأموال والنكاح وسائر الحقوق غير الحدود والقصاص وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، قال الشافعي: لا تجوز إلاَّ في الأموال ولا يجزي في الوصية إلى إنسان، وتجوز في الوصية بالمال قول عثمان البتي مثل قولنا، وقال مالك: أنها لا تجوز في النكاح والطلاق والأنساب والولاء والإحصان، وتجوز في الوكالة والوصية، وقد مضى الكلام في جواز شهادة النساء في النكاح في كتاب النكاح وسنذكر طرفاً من هاهنا فنقول: قال الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيْدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}، فاقتضى جوازها في جميع الحقوق إذا لم يخصها في شيء دون شيء وكن صدر الآية في الدين لا يوجب قصر ذلك على الدين ؛ لأنا لا نوجب قصر العموم على السبب الوارد فيه بل نجعل الحكم للفظ وقد قال الله تعالى: {وَلا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}، وذلك قائم في الرجال والنساء، فوجب بما ذكرناه جواز شهادتهن في جميع الحقوق من الأموال وغيرها إلاَّ حيث منع منه الدليل، وأيضاً لا خلاف أن شهادتهن مع الرجال مقبولة في الأموال، فكذلك في سائر ما اختلفنا فيه، والعلة أنَّه مما لا يجب سقوطه للشبهة فيجب أن تكون شهادة النساء فيه مع الرجال مقبولة. (131/18)
مسألة
قال: ولا تجوز شهادتهن وحدهن إلاَّ مع الرجال في الحدود والقصاص، أما الحدود فلا خلاف أن شهادة النساء فيها غير مقبولة على وجه من الوجوه، والقصاص أيضاً لم يختلف فيه العلماء في أن شهادتهن فيه غير مقبولة إلا ما حكي عن الأوزاعي والثوري أنها تجوز، وقد روي عنه أيضاً خلاف ذلك، والوجه فيه ما روي عن الزهري قال: مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخليفتين من بعده ألا يجوز شهادة النساء في الحدود والقصاص، وأيضاً لا خلاف أنها لا تجوز في الحدود، فكذلك في القصاص والمعنى أنَّه مما يسقط بالشبهة.
فإن قيل: هو حق الآدمي فوجب أن تقبل فيه شهادة النساء؟ (131/19)
قيل له: حد القذف هو أيضاً حق يتعلق بالآدمي، فوجب أن تقبل فيه شهادة النساء ولكن لما كانت الشبهة تسقطه لم تقبل فيه شهادة النساء كذلك القصاص.
مسألة
قال: وإذا شهد الصبي بعد البلوغ ومن كان كافر بعد الإسلام بشيء عرفاه قبل جواز شهادتهما جاز، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً؛ لأن الاعتبار بالشهود إنَّما هو في حال الأداء دون حال التحمل، فإذا كان الشاهد في حال الأداء ممن تجوز شهادته وجب أن تقبل شهادته ولا يراعى فيه حال التحمل.
مسألة
قال: والشهادة على الشهادة جائزة في الحقوق والأموال وتكره في الحدود ولا تجوز في الرجم، قوله: تكره في الحدود ولا تجوز في الرجم ليس يجب أن يكون محمولاً على أنها جائزة في الحدود مع الكراهة بل يجب أن يكون المراد به تغليظ في تغليظ الأمر في الرجم لاشتماله على إفاتة النفس فأما الحدود فلا يجوز فيها أيضاً؛ لأن الكراهة تقتضي المنع إذا كان المكروه يتعلق بالعين سيما وظاهر قول القائل: هو مكروه يقتضي قبحه، ويجب على تشديده الأمر في الرجم أن يكون ذلك حكم القصاص فيكون تحصيل المذهب أن الشهادة على الشهادة لا تجوز في الحدود والقصاص، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال مالك: أنها تجوز في الحدود والقصاص، وقال الشافعي: تجوز في كل حق لآدمي من مال واحد أو قصاص في حقوق الله على قولين، فأما جوازها فيما عدى ما ذكرنا من الحقوق والأموال فلا خلاف فيه، والأصل فيه أن قبول الشهادة شرع؛ لأن العقل لا يوجب إمضاء حكم على الغير بقول من لا يمكن أن يعلم صدقه ولا دلالة في جواز الشهادة على الشهادة إلاَّ الإجماع والإجماع حصل في جوازها في الحقوق والأموال دون الحدود والقصاص فقلنا بما أجمع عليه وتركناها في الحدود والقصاص على الأصل، وأيضاً قد ثبت أن شهادة النساء غير مقبولة في الحدود والقصاص؛ لأنها بدل من شهادة الرجال، فوجب أن لا تجوز فيها الشهادة على الشهادة؛ لأنها بدل من شهادة الرجال، فوجب أن لا تجوز فيها الأصل، ألا ترى أنَّه لا حكم لها مع حصول شهادة الأصل فهي أضعف من شهادة النساء، وأيضاً كان القياس أن لا تقبل الشهادة على الشهادة بدلالة أن الشاهد معترف أنَّه لا علم له بالمشهودية والشاهد إذا اعترف بذلك فالأصول كلها توجب بطلان شهادته، فلما كان القياس يوجب رد شهادته، وأجمع المسلمون على جوازها فيما عدى الحدود والقصاص، قلنا به وبقينا حكمها في الحدود والقصاص على موجب القياس. (131/20)
فإن قيل: أن الشهادة على الشهادة يشهد على الشهادة دون الحق فلم يجب ردها قياساً؟ (131/21)
قيل له: ليس كذلك، ألا ترى أنَّه لو رجع عن الشهادة في مال بعد الحكم به ضمن فبان أنها شهادة بالحق.
فإن قيل: فقد قلتم أن شهود الإحصان يضمنون إذا رجعوا فإن م تكن شهادة بالزنا فما أنكرتم أن يضمن الشاهد على الشهادة وإن لم تكن شهادته بالحق؟
قيل له: شهادة الإحصان تتضمن وجوب الرجم كشهادة الزنا، فهي في الحكم بشهادة توجب الحد، كذلك الشاهد على الشهادة في الحكم كالشاهد على الحق على أن تضمين شهود الإحصان إذا رجعوا فيه نظر، وأيضاً يمكن أن يقاس على شهادة النساء بعلة أنها شهادة الضرورة، فوجب أن لا تجرى في الحدود والقصاص بل هي أضعف من شهادة النساء؛ لأنها لا تسمع من شهادة الأصل.
مسألة
قال: وإذا شهد رجلان على شهادة رجلين بأن يشهد كل واحد منهما على شهادة واحد لم تجز شهادتهما، وإن شهد على شهاتهما بان شهدا جميعاً على شهادة كل واحد منهما جازت شهادتهما على شاهدي الأصل، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والخلاف في هذه الجملة من وجهين، ذهب ابن أبي ليلى وابن شبرمة إلى أن شهادة رجلين على شهادة رجلين جائزة بأن يشهد كل واحد منهما على شهادة واحد، وهذا لا يجوز عندنا، وقال الشافعي: لا يقبل أقل من شهادة أربعة بأن يشهد كل رجلين منهم على شهادة رجل، أما ما ذهب إليه ابن أبي ليلى من أن شهادة رجلين يصح على شهادة رجلين بأن يشهد كل واحد منهما على واحد من شاهدي الأصل فهو ظاهر الفساد؛ لأن الشاهد على الشهادة يحتاج أن يقرر شهادة الأصل عند الحكم كما يحتاج شاهد الأصل أن يقر الحق عند الحاكم فكما أنَّه لا يصح تقدير الحق بشهادة الواحد، كذلك لا يصح تقدير الشهادة بشهادة الواحد، وأيضاً لو جازت شهادة الواحد على الواحد على شهادة الواحد لجازت شهادة الواحد على شهادة الاثنين، ألا ترى أن شهادة اثنين لما جازت على شهادة الواحد جاز على شهادة الاثنين، ويحرر هذا بأن يقال من لم تجز شهادته على اثنين لم تجز شهادته على واحد، دليله المرأة أو من ليس بعدل، ويدل على ذلك ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: لا تجوز شهادة رجل على شهادة رجل واحد حتَّى يكونا شاهدين على شهادة شاهدين، وأما ما ذهبنا إلهي من أن شهادة اثنين تجوز على شهادة اثنين، فوجهه أن شهادة الاثنين حق للمدعي، يجب إثبات عند الحاكم فيجب أن يصح إثبات بشهادة شاهدين، دليله إقرار رجلين وإن كان في حق واحد أنَّه يصح إثباته بشهادة شاهدين يوضح ذلك أن الشهادة على الشهادة ليس بأقوى من الشهادة على الإقرار بل هو أضعف منه فإذا جاز ثبوت الأقوى بالشاهدين كان الأضعف أولاً بذلك، وأيضاً تحملها شهادة أحد اشهادين لا يمنع تحمل شهادة الشاهدين (131/22)
الآخر في حق واحد، دليله إذا كان في حقين، وأيضاً قد حصل على شهادة كل واحد من شاهدي الأصل شهادة رجلين، فوجب أن يصح، دليله إذا شهد على شهادتهما أربعة. (131/23)
فإن قيل: هما قاصدان إلى تصحيح شهادتهما فلم يجب أن تقبل شهادتهما على شهادة الشاهد الثاني؟
قيل له: وما في ذلك ما يمنع من قبول شهادتهما بل على كل شاهد أن يقصد إلى تصحيح شهادته، وعند الشافعي أن شهادة الابن لأبيه والأب لابنه لا تقبل للبعضية الَّتِي بينهما، وقد ثبت أن الابن والأب لو شهد الإنسان بحق صحت شهادتهما، وإن كان كل واحد منهما على ما ذكروا قاصداً التصحيح شهادة صاحبه ع البعضية الَّتِي بينها على أنَّه لا خلاف بيننا وبين الشافعي في الحكم بالشاهد واليمين، ولا شك أن المدعي يقصد باليمين إلى تصحيح دعواه ومع هذا قيمته ثابتة كذلك ما اختلفنا فيه.
فإن قيل: لو شهد رجل على إقرار آخر وشهد مع شاهد على شهادة شاهد على \ذلك الإقرار لم يصح ذلك؛ لأنَّه بمنزلة من شهد بحق واحد على وجهين، فكذلك إذا شهدا على شهادة أحد الشاهدين لم يجز أن يشهدا على شهادة آخر إذا كان الحق واحداً؟
قيل له: هذا ينتقض بشهادة رجلين على إقرار رجلين بحق واحد، وقد فرق بينهما بأن قيل أنا لو جوزنا ذلك لكنا جعلناه شاهداً واحداً أصلاً بدلاً؛ لنه إذا شهد على الإقرار كان أصلاً، وإذا شهد على شهادة شاهد على الإقرار صار بدلاً، ولا يجوز في شيء واحد أن يكون أصلاً بدلاً كما لا يجوز ذلك في التيمم، وصوم الظهار وصوم الكفارة ، وهذا فيه بعض النظر؛ لنه صار أصلاً في أمر وبدلاً في آخر، وهذه المسألة غير محفوظة عن أصحابنا وليس يبعد المرور على جواز ذلك إن لم يكن خلاف الإجماع، وإن صح أنَّه إجماع فلا ضمير أن تسليمه للإجماع ونقول أنَّه خلاف القياس.
مسألة
قال: وتجوز الشهادة على الشهادة إذا مات المشهود على شهادته، أو كان عليلاً أو خائفاً لا يقدر أن يأتي الحاكم أو كان غائباً عن البلد، فإن لم يكن كذلك لم تجز الشهادة على شهادته، قال أبو حنيفة: لا تقبل إلاَّ إذا كان عليلاً أو خائفاً إلى مسيرة ثلاثة أيام، وقال أبو يوسف ومحمد: تقبل، وأظن قول الشافعي مثل قولنا، وقول أبي حنيفة، ووجهه أن الشهادة على الشهادة بدل من شهادة الأصل، بدلالة أنَّه لا حكم له مع حصول المبدل، فوجب أن لا تجرى إلاَّ مع تعذر المبدل كالتيمم وصوم الظهار وصوم كفارة اليمين، ومما يكشف أنها بدل أنَّه لا يجوز استماعها مع حضور شهود الأصل مجلس الحكم فإن مروا على ذلك فلا إشكال أنَّه لا يجوز استماعها، والحكم بها مع قول شهود الأصل إنا نريد أن نشهد أو بعد وقوع شهادتهم ذكر أصحابنا الخوف؛ لأنَّه كالمرض في العذر، ألا ترى أن الخوف سائر المعاذير يقوم مقام، ولا نص لأصحابنا في مقدار الغيبة، ويمكن على أصل يحيى عليه السلام أن يقال بريد؛ لأنَّه عنده مدة يقصر فيه الصلاة، ويكون الإنسان به مسافراً ويقرب عندي، والله أعلم أنَّه إذا كان بحيث لا يمكنه في يوم واحد أن يحضر مجلس الحاكم، ونعود نجوز الشهادة على الشهادة؛ لأن ذلك إذا تعذر عليه لزمته مؤنه وليس عليه إلاَّ إقامة الشهادة دون التزام المؤن يكشف ذلك أن المريض وإن أمكن حمله في المجفه إلى الحاكم لا يجب ذلك؛ لأنَّه يؤدي إلى أن يحمل المؤن، والله أعلم. (131/24)
وقال في آخر: هذه المسألة في المنتخب ولا أحب للحاكم أن يقبل إذا لم يكن كذلك، ومعناه لا أرى؛ لأنَّه قد جعل في المسألة هذه الأحوال شرطاً في جواز ذلك، فوجب أن يكون المراد ما قلناه.
مسألة
قال: وإذا عرف الرجل خط نفسه ونسي الشهادة لم يكن له أن يشهد حتَّى يتذكر الشهادة بخطه ويتيقنها.
قال في المنتخب: يشهد إن أيقن بخطه فكان الكلام ملتبساً؛ لأنَّه يحتمل أن يكون أراد أن يتيقن المشهود عليه بتأمل الخط على سبيل التذكر، وهو الذي حملنا عليه قوله؛ لأن إداله الباء في الخط دليل على أنَّه جعله آلة للتيقن ولم يرد تيقن الخط، ولأنه قال في آخر: هذا الباب ولا تجوز الشهادة على خط، وقد يحتمل أن يكون أراد به تيقن الخط إلاَّ أن الأولى ما ذكرناه لما بيناه، وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً؛ لأنَّه إذا لم يتذكر المشهود عليه لم يعلمه، وقد قال الله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <إن عرفت مثل هذه الشمس فاشهد وإلا فدع>، والخط قد يشبه الخط حتَّى لا يغار منه شيئاً، ولهذا نقد كثير من التزويرات على الحكام والشهود وغيرهم؛ ولأنه الإنسان قد يكتب الشيء لغرض وإن لم يرد أن يشهد به، وهذا مما يوجب التوقف عنه. (131/25)
مسألة
قال: ولا يجوز للرجل أن يشهد على المرأة حتَّى يعرفها معرفة صحيحة بوجهها أو صوتها.
قال في المنتخب: إذا عرفها بوجه أو صوت أو غير ذلك جاز تشهاته إذا أيقن، فدل حمله كلامه أنَّه يشير في باب الشهادة إلى حصول العلم واليقين، فإذا كان ذلك يحصل بالصوت جازت الشهادة على الصوت ويبعد ذلك عندي أن يحصل بالصوت على الانفراد إلاَّ أن يضامه سواه كأن يراها متجلبة أو متبقية وما جرى مجرى ذلك، ووده ما قلناه من أن المطلوب به هو العلم قوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، وقوله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}، على ما بيناه في المسألة الَّتِي تقدمت.
مسألة
قال: ومن شهد على إنسان بخط رآه له كانت شهادته باطلة، وليس للحاكم أيضاً أن يحكم بالمخط، أما الشهادة على الإنسان بالخط بخط له رآه فلا أحفظ فيه خلافاً في ـأنه لا يجوز إلاَّ ما حكي عن مالك، حكى أبو جعفر الطحاوي عنه أنَّه قال إذا شهد شاهدان في ذكر حق أنه كتابه بيده جاز كما لو شهد على إقراره، قال وخالفه جميع الفقهاء في ذلك، قال: وعدوا هذا القول شذوذاً وهو صحيح؛ لأنَّ الخط قد يشبه الخط وقد يتعمد إلى العتزوير فيه على ما بيناه فيما تقدم، وإنما إطلاق يحيى القول في أنَّه ليس للحاكم أن يحكم بالخط فكان أبو العباس الحسني رحمه الله يقول إن هذا بدل من قوله على أن كتاب القاضي إلى القاضي لا يجوز حتَّى يشهد به الشهود، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، ولا أحفظ فيه خلافاً وظاهر قوله يقتضي أنَّه لا يكفي أن يشهدوا أنَّه كتاب القاضي فقط حتَّى يشهدوا بمضمونه، ووجهه ما مر من اشتباه الخطوط وجواز وقوع التزوير فيه. (131/26)
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب كتاباً وختمه ودفعه إلى بعض أصحابه وقال: <لا تفتحه حتَّى تأتي موضع كذا، فإذا بلغته فتحته وعملت بما فيه>، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن شهد على كتاب القاضي وإن لم يقرأ ما فيه.
قيل له: هذا جار مجرى الأخبار دون مجرى الشهادة وقد احتيط في الشهادة ما لم يحتط في الأخبار، ألا ترى أنَّه لو كان وسأله جاز أن يعلم بها، ولا يجوز ذلك في الشهادة، فكذلك كتاب القاضي، ويدل كلامه على أنه لا يعتبر الختم في ذلك ولا انكساره؛ لنه بني الأمر فيه على الشهادة، وبه قال الشافعي، وحكي عن أبي حنيفة وزفر أن الختم إن انكسر لم بقية الحاكم وذلك لا وجه له؛ لأن الشهود لو شهدوا على تفصيل ذلك بغير كتاب لجاز، فدل على أن الكتاب جار مجرى العهود والقبالات في أن العمل على الشهادة دون ما سواها وقياس قول أصحابنا إن كتاب القاضي إلى القاضي لا يقبل في الحدود والقصاص، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه قياساً على شهادة النساء والشهادة على الشهادة. (131/27)
مسألة
قال: وإذا شهد رجلا بالزنا واختلفا في الموضع الذي أقر فيه كانت الشهادة جائزة وإن شهدا على رجل بالزنا واختلفا في الموضع الذي أقر فيه كانت الشهادة باطلة، أما في الإقرار فلا خلاف في أن اختلاف المواضع لا يؤثر فيه؛ لأن ذلك لا يوجب تغاير الحق حتَّى تحمل شهادة كل واحد منهما على أنها شهادة بغير الحق الذي شهد على الإقرار على الإقرار به، وأما الزنا فلا خلاف أيضاً فيه إلاَّ ما حكي عن أبي حنيفة أن الشهود إذا اختلفوا في موضع من بيت واحد جازت الشهادة وحققه أصحابه في البيت الصغير دون البيت الواسع المساعد الأطراف وإنما وجب فساد هذه الشهادة؛ نل اختلاف مواضع الشهادة الزنا يوجب تغاير الزنا؛ لأن الزنا الواقع في موضع بعينه غير الزنا الواقع في موضع آخر فإذا اختلفوا في موضعه فكأن الشهادة لم تتم على زنا واحد، فلذلك وجب سقوطها على أن أصحاب أبي حنيفة يقولون أن القياس يوجب خلاف قولهم وإن ذلك استحسان فكان الصَّحيح ما قلناه على أن الحدود تدرأ بالشبهات وأقل ما في ذلك أن يكون ذلك شبهة فوجب أن لا يحكم بها.
مسألة
قال: وإذا شهد أحد الشاهدين بألف درهم والآخر بخمسمائة درهم بطلت شهادتهما، وكذلك لو شهد أحدهما أنَّه طلق ثلاثاً، والآخر أنَّه طلق اثنتين بطلت شهادتهما، وبه قال أبو حنيفة، قال أبو يوسف ومحمد: يثبت الأقل الذي اتفقا عليه، ووجه قولنا أن الشهادة يعتبر فيها اللفظ لا خلاف فيه، ألا ترى أنَّه لو قال: اعلم أن له علي هذا كذا من الحق، أو قال: أخبر لم يكن ذلك شهادة حتَّى يقول: اشهد، فإذا ثبت أن اللفظ فيها معتبر واثبت أنهما اختلفا في اللفظ؛ لأنَّ لفظ الألف لا يوافق لفظ خمسمائة، وجب أن تبطل شهادتهما كما أن أحدهما لو شهد بألف قرض والآخر بألف غضب لم تثبت شادتهما لاختلاف اللفظ، وكذلك لو شهد أحدهما بألف من ثمن سلعة والآخر بإقراره بألف، وهذا هو الوجه الذي شهد أحدهما بتطليقه، والآخر بثلاث تطليقات، قال: والأصح عندي ما ذهب إليه أبو يوسف من ثبوت الأقل؛ لأن اختلاف اللفظ إذا لم يؤثر في المعنى لم تبطل شهادتهما، ألا ترى أن أحدهما لو شهد بالعربية والآخر بالفارسية لم تبطل شهادتهما، وهما إذا شهد أحدهما أحدهما بالغصب والآخر بالقض فذلك لم يبطل لاختلاف اللفظ، وإنما بطل الإختلاف المعنى؛ لأن القرض غير الغصب، وأحدهما يشهد بغير ما شهد به الآخر على انه يمكن لأصحابنا أن يقولوا أنهما قد اتفقا على ثبوت الألف عليه فلم تبطل الشهادة إلاَّ لاختلاف اللفظ، وأما الفارسية والعربية فيمكن أن يقال أنهما ليسا باختلاف لفظ في الحقيقة؛ لأن اللفظ إنَّما يقال أنَّه مخالف للفظ إذا أدَّى إلى اختلاف المعنى ولفظ العربية إذا أدَّى معنى الفارسية لم يعد ذلك اختلافاً في اللفظ ولا يمتنع أهل اللسان أن يقولوا أنهما متفقان في اللفظ، وليس كذلك الألف وخمسمائة؛ لأن أحدهما مخالف للآخر وإن حصل فيه الإتفاق على خمسمائة كما يحصل فيما بيناه الاتفاق على حصول الألف وإن شهد أحدهما بالغصب والآخر بالقض فأما إن شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة فلا إشكال (131/28)
في أن الشهادة بألف صحيحة ولا أحف فيه خلافاً؛ لأنهما اتفقا على لفظ الألف وزاد أحدهما فوجب أن يثبت الألف وهكذا يجب أن يقال إن شهد أحدهما بألف والآخر بألفين إن الألف ثابت؛ لاتفاقهما على اللفظ بالألف. (131/29)
مسألة
قال: وإذا شهد رجلان أن لفلان على فلان مالاً ثُمَّ شهد أحدهما منفرداً أنَّه قد قضاه ذلك المال ثبت ذلك، وحكم به ولم يثبت أنَّه قضاه حتَّى يشهد معه آخر، وبه قال أبو حنيفة ومحمد، وروي عن أبي يوسف أنَّه قال: لا تقبل شهادة من شهد بالقضاء؛ لأنَّه شهد أنَّه لا شيء للمدعي على المعنى عليه، ووجه قولنا أن شهادتهما بالمال على المدعى عليه شهادة صحيحة، وشهادة أحدهما بالقضاء شهادة مستأنفة عليه، وليس يتضمن ذلك أكذابه نفسه وليس إكذاب المشهود له بالحق في القضاء اكذاباً له في الحق فلم يجب أن يبطل شهادته الأولى؛ لأن هذا الشاهد شهد بشهاتين أحدهما له والآخر عليه، فقبلت الَّتِي له؛ لأن معه آخر ولم يقبل الَّتِي عليه؛ لأنَّه شاهد واحد، ألا ترى أن شاهدين لو شهدا له بألف وشهد أحدهما للمشهود عليه بمائة دينار، ثبت الألف بشهادتهما ولم تثبت المائة بشهادة الواحد، فكذلك مسألتنا، ولم يجب لإكذاب المشهود له شهادة فيما شهد عليه سقوط شهادته؛ لأنَّه أكذبه في غير ما شهد له به.
فإن قيل: إذا أكذبه وجب أن يبطل شهادته على أي وجه كان إلا كذاب كما أنَّه لو أقر بأن شهادة فاسق وجب بطلان شهادته؟
قيل له: ليس ذلك حكم جميع الاكذاب؛ لأن قد يكذبه بأن يدعي عليه السهو والنسيان وذلك لا يقدح في شهادته والذي يجب أن يقال في هذه المسألة أن شاهدين لو شهدا بقرض أو دين أو إقرار ثُمَّ شهد أحدهما بقضاء ذلك الأمر على ما بيناه؛ لأن ذلك لا يقتضي إكذاب الشهاد نفسه فإن أطلا الشهادة فشهدا أن عليه ألفاً ثُمَّ شهد أحدهما أن قد قضاه، وجب أن تسقط شهادته؛ لأن قوله عليه كذا ينافي قوله قد قضا فهو إذن مكذباً نفسه؛ لأنه إن كان قد قضاه فليس هو عليه، وليس كذلك إذا شهد بما ذكرناه أولاً؛ لأن شيئاً من ذلك لا ينافي القضاء. (131/30)
مسألة
قال: فإن قال أحدهما: رجعت عن شهادتي لم يحكم بالمال، وهذا ما لا خلاف فيه؛ لأن الشهود إذا رجعوا قبل الحكم بشهادتهم لم يزد الحكم بها؛ لأن الحاكم إذاً يكون حاكماً بغير الشهادة، قال: فإن كان قد حكم به نقض الحكم ولم يلزم الشهود شيئاً، هذا رواية المنتخب ثُمَّ قال في باب الحدود: إن الشهود إذا رجعوا ضمنوا أرش الضرب إذا كان المشهود عليه ضرب أو الدية إن قبل فلم يحكم في الحكم أنَّه خطأ لرجوع الشهود، فدل ذلك على رجوعه عما قال في باب الشهادة من نقض الحكم لرجوع الشهود، فدل ذلك على رجوعه؛ ولأن الحكم لا ينتقض حتَّى يثبت أنه وقع خطأ، ولو كان يجعل حكم الحاكم بالحد أو القتل خطأ برجوع الشهود كان يجعل الأرش والدية في بيت مال المسلمين؛ ؟لن الحكم إذا وقع خطأ ولم يمكن نقضه يجب أن يجعل الغرم في بيت المال على مذهبه وقد ذكر ذلك أيضاً في كتاب الحدود من الأحكام، واستقر من مذهبه أن الحكم لا يجب أن ينقض لرجوع الشهود، وأن الشهود يجب أن يضمنوا، وهذا هو الصَّحيح وبه قال أكثر العلماء، وقد روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: (إذا رجع الشهادة ضمن وأصل المسألة أن يبين أن فسخ الحكم لا يجب برجوع الشهود فإذا صح ذلك صح أن الشهود يضمنون ما غرم المشهود عليه بشهادتهم، الذي يبين أن فسخ الحكم لا يجب برجوع الشهود أن الحكم قد ينفذ مع وقور أسباب الإجتهاد، فلا يجب فسخه برجوع الشهود كما لا يجب فسخ برجوع الحاكم عن الإجتهاد الموجب لتنفيذ ذلك الحكم، وأيضاً قد ثبت أن الحكم لا يجب فسخ بالإجتهاد وإنما يجب فسخه بالنص المقطوع به أو ما يجري مجراه قد ثبت أن الحاكم لا يتبين صدقهم في الرجوع فلو فسخ الحاكم برجوعهم كان فسخه بما يجري مجرى الإجتهاد دون ما يجري مجرى النص، وذلك لا يجوز، وليس رجوعهم شهادة بدلالة أنَّه لا يحتاج إلى لفظ الشهادة، فكيف يلزم الحاكم أن يعمل بموجبه؟ بل هو جار مجرى سائر الألفاظ الَّتِي ليست (131/31)
شهادة في أن الحاكم لا يلزم أن يحم به على الغير أو يعترض به على حكم ثابت، وأيضاً هو مكذب لنفسه بالرجوع؛ لأنَّه بالرجوع مكذب لشهادة وبالشهادة مكذب للرجوع، فوجب أن لا يعمل على قوله في ذلك الأمر ليلة سائر الشهادات المناقضة. (131/32)
فإن قيل: فهذا يوجب انتفاء الشهادة الأولى، وهذا يوجب نقض الحكم؟
قيل له: الشهادة الأولى وقعت سليمة من الإكذاب والإنتقاض وقع الحكم بها صحيحاً سليماً وإنما الرجوع الذي وقع على الوصف الذي ذكرنا؛ لأن التناقض به حصل فوجب أن لا يكون له حكم يؤثر في الحكم.
فإن قيل: فهذا يوجب أن لا يكون له تأثير في إيجاب الضمان؟
قيل له: ليس كذلك؛ لأن الشهادة الفاسدة إذا وقعت وفي مضمونها إقرار من إشهاد على نفسه بحق لم يكن لها تأثير في الحكم على الغير، وثبت تأثيرها في الإقرار على نفسه، فكذلك مسألتنا، فبان بما بيناه أن الحكم لا يجب أن ينتقض برجوعهم فإذا ثبت ذلك فقد اختلف العلماء بعد ذلك فذهب بعض العلماء إلى أنهم لا يغرمون شيئاً ويجعل قولهم هدراً، وأظنه قول الشافعي، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنهم يغرمون، وهو الصحيح، ووجهه أنهم اعترفوا على أنفسهم أنهم أتلفوا مال الغير أو نفسه إن كان حد أو قصاصاً أو عضوه فعليهم ضمانه، دليله لو اعترفوا لا على وجه الرجوع عن الشهادة.
فإن قيل: أنهم لم يتولوا إتلافه فهم بمنزلة من حال بين الإنسان وبين مال في أنَّه لا يضمن؟
قيل له: ذلك الإتلاف في الحكم كأنهم قد تولوه؛ لنهم كانوا ألجأوا الحاكم إلى تسليمه إلى ن أتلفه فصار الحاكم لهم كالآلة في ذلك؛ فيجب أن يضمنوه لأنهم في الحكم كالملجئين للتهمة إلى ما فعل، فكذلك مسألتنا، وأيضاً ليس يختلف قول الشافعي في شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا أنهم يقتلون وإن قالوا: أخطأنا يلزمون الدية ، فيحمل ما فعل الحاكم كأنهم فعلوه، فكذلك حكم المال وروينا ذلك عن علي عليه السلام، ولا مخالف له في الصحابة، وأيضاً هو معترف أن ملك المشهود عليه ملك غيره فوجب أن يقمن حين اعترف في شيء كان في يده أنَّه كان لغيره ثُمَّ باعه، وأيضاً قد تعدوا في سبب تلف المال، فوجب أن يضمنوا كحافر الطريق يضمن ما تلف فيها؛ لأنهم إذا وقفوا في الحدود والقصاص فالأولى في المال، لأن ضمان المال أخف ن ضمان النفس والعضو، ولأن الحدود والقصاص يسقطان للشبهة، والمال لا يسقط للشبهة فأما من أراد نصرة ما حكيناه عنه في المنتخب من نقض الحكم فإنه روى أن أبا حنيفة كان يذهب إليه في أول الأمر ثُمَّ رجع عنه وكان يقول أنقض الحكم إذا كان الشهود في حال الرجوع أتم عدالة نهم في حال الشهادة ونبه يحيى في المنتخب على هذا المعنى؛ لأنَّه قال: كيف ألزمهم شيئاً وقد شهدوا شهادة أعدل من الشهادة الأولى؟! فوجه هذا القول عني نقض الحكم أن يقال: قد علمنا أن الحكم مستند إلى الشهادة؛ لأنَّه استقر باستقرارها، فوجب أن يزول بزوالها، دليله سائر الأصول والفروع؛ لأن كل فرع يبنى على أصل يزول الفرع بزوال الأصل كالإرث يبنى على النسب أو الزوجية متى زالا زال الفرع وكالشهادة المبنية على العدالة متى زالت العدالة بطلت الشهادة، وكالنكاح المبني على الإسلام متى زال الإسلام بطل النكاح، فكذلك ما قلناه. (131/33)
فإن قيل: فالحكم يبنى على الإقرار ويمضى ثُمَّ لو رجع المقر عن الإقرار لم ينقض الحكم؟
قيل له: لأن الإقرار لا يزول بالرجوع كما تزول الشهادة، ألا ترى أن المقر لو رجع قبل الحكم لم يحكم يسمع رجوعه وحكم بما أقر به، وليس كذلك الشهود؛ لأنهم لو رجعوا قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم إلاَّ أنَّه يمكن أن يقال: الحكم وإن كان مبنياً على الشهادة فليس يجريان مجرى الفروع والأصول ولا يجريان مجرى أن يكون أحدهما شرطاً في استمرار الآخر بل تجري الشهادة مجرى إجتهاد الحاكم في أن الحكم يمضي به ثُمَّ زاله لا يؤثر في الحكم الواقع على أنا لسنا نسلم أن الشهادة الأولى قد زالت بالجوع بعد الحكم. (131/34)
مسألة
قال: ولا ينقض الحكم ما بقي من جملة الشهود شاهدان فإن رجعا أو رجع أحدهما نقض الحكم، وهذا على ما ذكره في المنتخب؛ لأن الحكم ثابت ما بقي شاهدان، ألا ترى أنَّه لو كانت هذه الحال قبل الحكم وجب أن يحكم بها فأولى أن لا ينقض ما قد مضى فأما إذا رجعا أو رجع أحدهما فالكلام فيه ما مضى على الروايتين جميعاً.
مسألة
قال: وإن شهدا على رجل بالطلاق وحكم بها ثُمَّ رجعا بطل الطلاق، فإن كانت المرأة قد تزوجت زوجاً آخر انفسخ نكاحها بالثاني ورجعت إلى زوجها الأول، وهذا على رواية المنتخب، وفيه دلالة على أن الحكم في الظاهر ليس هو حكماً في الباطن عنده؛ لأنَّه لو رأى ذلك كان لا يوجب إبطال الطلاق؛ لأن أكثر ما فيه أنهم شهود زور وعلى مذهب من يرى الحكم في الظاهر حكماً في الباطن لا يبطل الطلاق المحكوم به بشهادة الزور، وما ذهبنا إليه هو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة حكم الحاكم في الظاهر حكم في الباطن في النكاح والطلاق والبيوع وما جرى مجرى ذلك، وعنه في الهبة روايتان، والأصل في هذا أن الحاكم يحكم في العقود على وجهين: قد يحكم بالإيقاع، وقد يحكم بالوقوع، فما حكم فيه بالإيقاع فهو الذي يجب أن يكون باطنه كظاهره؛ لأنَّه هو في الحقيقة هو الموقع وذلك كإيقاعه الفسخ بعد اللعان وكإيقاع عقد البيع على مال المفلس للغرماء في الظاهر، وإن كان الحال في الباطن بخلاف ذلك عندنا وكإيقاع البيع الشراء على مال اليتيم إذا احتاج إليه في الظاهر، ويستوي في هذا الباب ما هو إيقاع القد وفسخه، وما هو إيقاع التمليك، ألا ترى أنَّه يحكم بتمليك الشفيع وبإيجاب المال على العواقل، والوجه الثاني وهو الذي فيه الخلاف وهو أن يحكم بثبوت وقوع العقد أو بثبوت حصول الفسخ وما جرى هذا المجرى لا يجب أن يكون حكمه في الظاهر حكماً في الباطن؛ لأنَّه حكم في الظاهر بأن ذاك عقد تقدم وقوعه أو فسخ تقدم حصوله فإذا لم يكن هناك عقد متقدم أو فسخ حاصل متقدم فحكمه لا يوجب ذلك دليله الدين أنَّه إذا حكم بثبوت الدين لم يجب أن يكون حكمه في الظاهر حكماً في الباطن؛ لأنَّه حكم بثبوت دين متقدم، فإذا لم يكن هناك دين ثابت متقدم لم يكن من حكمه في الباطن شيء، ألا ترى إذا حكم بالتمليك للشفيع ووقع به ملك متجدد وجب أو يكون ظاهر وباطنه سواء، وكذلك إذا حكم بنفقة ذي الرحم؛ (131/35)
لأنَّه قصد به تجديد الإثبات، وليس كذلك ما اختلفنا فيه لما بينه وأيضاً هو إثبات أمر مقدم فمتى لم يكن هناك أمر متقدم لم يثبت في الباطن شيء كالإقرار لما كان إثبات أمر متقدم فمتى لم يكن هناك أمر متقدم لم يثبت بالإقرار شيء فكذلك الحكم يكشف ذلك أن الحاكم لا يقصد لإيقاع عقد لم يكن أو إيقاع فسخ لم يكن بل يقصد لإثبات عقد واقع أو فسخ واقع فكيف يقع عقد لم يكن أو فسخ لم يكن وهو خلاف موجب الحكم ويمكن أن يستدل في المسألة بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}، وهذا يوجب أن من ادعى بيعاً أو شراءً وهو يعلم أنهما لم يقعا لا يحل له التصرف في المبيع والمشتري وإن حكم له الحاكم بشهود الزور، ويدل على ذلك ما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <أنكم تختصمون إلىّ ولعل بعضكم ألحن بحته من بعض وإنما أقضي بما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار>، ولم يفصل صلى الله عليه وآله وسلم بين أن يكون حكمه تناول عقداً أو غيره، فدل ذلك على أن الأمر في العقد وغيره سواء، وأيضاً إحدى الروايتين عن أبي حنيفة أن الموهوب لا يملك وإن حكم له الحاكم بعقد الهبة فيمكن أن يقاس عليه سائر العقود بعلة أن الحكم لم يصادف عقداً واقعاً قبل الحكم. (131/36)
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال فيشأن هلال ابن أمية حين لاعن بينه وبين امرأته وفرق بينهما: <إن أتت بولد على صفة كذا فهو لهلال ابن أمية، وإن جاءت بولد على صفة كذا فهو لشريك بن سمحا>، فجاءت به على الصفة، فقال: <لولا ما سبق من كتاب الله لكان لي ولها شأن>، فدل صلى الله عليه وآله وسلم على صدق هلال وكذب امرأته ولم يرفع الفرقة الواقعة لعدم علمه بصدق الصادق منهما، قد دل ذلك أن الفسخ الواقع لا يجب رفعه وإن كان باطنه بخلاف ظاهره؟
قيل له: هذا سؤال بعيد وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوقع فرقة لم تكن واقعة قبل إيقاعها؛ لأن الله تعالى أوجب إيقاعها بعد كمال اللعان فلم يجب أن يرفعها بتة، ألا ترى أنهما أيضاً لو تصادقا بعد وقوع الفرقة لم يجب رفعها وليس كذلك موضع الخلاف، فأما موضع الخلاف فهو أن يحكم بصحة فرقة واحدة قبل حكمه فلا يصادف حكمه فرقة بتة فلا تعلق لكم إذاً بما ذكرتم يكشف ذلك أنَّه كان معلوماً كذب أحدهما لا بعينه فتعيينه لا يغير الحكم. (131/37)
فإن قيل: قد ثبت أن حاكماً لو رفع إليه عقد اختلف فيه بحق الشفعة فأجازه وحكم بالشفعة وصحة العقد لم يجز لحامك آخر يرى خلاف ذلك أن يعترضه بالفسخ، ولو لم تكن حكم به الحاكم الأول لجاز فسخه، فبان أن الحم له تأثير في العقود؟
قيل له: وهذا أيضاً كالأول بعيد مما اختلفنا فيه؛ لأن الحاكم حكم بصحة عقد واقع في الحقيقة، فلذلك نفذ حكمه ولم يكن لمن بعده فسخه، وهذا لو لم يكن عقد أيضاً لم يكن لحاكم آخر فسخه، ألا ترى أن حاكماً لو ترافع إليه الجد والأخ فحكم بنصف الميراث للأخ لم يكن لحاكم أن يفسخ ذلك الحكم ويجعل الميراث كله للجد فبان أن العقد وما ليس بعقد في ذلك سواء، والعلة في الجميع أن الحكم الممضي بالإجتهاد لا يعترض باجتهاد مثله والعقد وغير العقد فيه سواء.
فإن قيل: على الحاكم امضاء العقد إذا شهد به الشهود العدول في الظاهر وهو الذي أمر الله به أن عز وجل فإذا كان ذلك كذلك وجب أن يصح ذلك العقد ويقع؛ لأن سائر العقود إنَّما تستقر لإيقاعها على ما أمره الله تعالى؟
قيل له: هذا فاسد؛ لأن على الحاكم إلزام ما شهد به الشهود العدول في الظاهر من الدين وهو الذي أمر الله به ومع هذا لا يختلف أن الدين لا يلزم بالحكم إذا لم يصادف ديناً؛ لأن ما قبل الحكم فكذلك العقد والفسخ، وهذا ما لا إشكال فيه.
فإن قيل: روي عن علي عليه السلام في امرأة ادّعى زوجها رجل فترافعا إليه فشهد للرجل شهود، فقالت المرأة لعلي: إني لم أتزوجه وسألته إيقاع العقد بينهما، فقال علي عليه السلام: (شاهداك زوجاك)، فدل ذلك على أن حكم الحاكم في الظاهر حكم في الباطن؟ قيل له: لا يمكن حمل قوله عليه السلام شاهداك زوجاك على الظاهر إذ لا خلاف أن مجرد الشهادة لا يوقع العقد وإنما الخلاف إذا حكم بها الحاكم هل يوقع حكم العقد أو لا فلا بد من تأويل الحديث وإلا فلا ظاهر لهن فنقول: يحتمل أن يكون عليه السلام أراد أن الشهود لما شهدوا كانوا سبباً لكون الزوجية في الظاهر فليس علينا سماع ما تقولينه وتدعينه في الباطن، وهذا لا يوجب ما تذهبون إليه، ويمكن أن يستدل في المسألة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا نكاح إلاَّ بولي وشهود>، فلا يكون نكاح بلا ولي يزوج بحضرة شهود فإذا ثبت ذلك في النكاح ثبت في سائر الحقوق إذا حكم بها من غير أن يكون هناك من يقصد إلى إيقاعه، والحاكم في مسألتنا لا يقصد إلى إيقاع العقد ولا إيقاع الفسخ وهم ربما قالوا: أن الحاكم لا يحكم بالملك، وإنما يحكم بالتسليم، فيقال لهم: لا بدل على هذا أيضاً من أن يكون حكم بوجوب التسليم ولا يصير التسليم واجباً لحكمه في الظاهر إذا كان الباطن بخلافه، وهذا يسقط لكما يشعبون من هذا الباب. (131/38)
فصل
قال في الأحكام: إذا رجع من شهود الزنا واحد بعد الرجم وادعى الخكأ ضمن ربع الدية، فدل ذلك على أنَّه يضمن الشهود على قدر عددهم فلو شهد رجلان على مال ثُمَّ رجعا ضمن كل واحد منهما نصف المال، وكذلك لو شهد ثلاثة ثُمَّ رجعوا ضمن كل واحد منهم ثلاث المال، ولو شهد ثلاثة ورجع واحد منم لم يضمن الراجع عند أبي حنيفة وأصحابه، وبه قال: أكثر العلماء وذلك أنَّه قد بقي من الشهود من يثبت الحق بشهادتهم وهو الصَّحيح عندي، والله أعلم.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يضمن قسط الحق بشهادته من المال؛ لأنَّه مقر أنَّه أتلف جزءاً من المال؟ (131/39)
قيل له: إذا بقي من الشهود من يستحق شهادتهم المال المشهود به وكان الحكم قد نفذ بذلك فكان الحاكم قد حكم ببطلان إقراره، فلذلك لا يضمن والإقرار قد يبطل بأمور كثيرة فلا يمنع أن يبطل بحكم الحاكم بإبطاله فلا يضمن، فإن رجع معه آخر فيجب أن يضمنا ثلثي المال، كذلك كل واحد ثلثاً.
مسألة
قال: وإذا ادعى رجل على رجل عشرين ديناراً وأتى بشاهدين يشهدان على إقراره بعشرة دنانير في غير المكان الذي أقر فيه أو لأوجب للمدعي عشرون ديناراً، هذه رواية المنتخب، وقال في الفنون: يكون ذلك عشرة واحدة إلاَّ أن يقيم المدعي البينة أن كل واحدة منهما غير صاحبتها فيكون عشرين ديناراً، ووجه ما ذكره في المنتخب: أنَّه إذا قال له علي عشرة دنانير كان ذلك نكرة.
وعند أهل اللغة: إن ذكر الشيء بلفظ النكرة مرتين يقتضي أنها شيئآن، وليس كذلك إذا ذكر بلفظ المعرف، يدل على ذلك ما روي عن قتادة في قوله عز وجل: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}، أنَّه قد بلغنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر أصحابه بهذه الآية وقال: <لن يغلب عسر يسرين>، وإنما قال ذلك؛ لأن العسر الأول بلفظ المعرفة واليسر بلفظ النكرة، وعن الحسن قال: بلغنا أن هذه الآية لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <إياكم اليسر>، قال وكانوا يقولون لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين، فإذا ثبت ذلك فيجب أن يكون قول الرجل له على عشرة دنانير إذا كرره عشرين ديناراً على ما بيناه، وأيضاً الظاهر من كل لفظ يطلقه الإنسان له معنى برأسه إذا لم يقترن بالدلالة على أن اللفظ الثاني يراد به ما أريد باللفظ الأول ولا يجب أن يحمل ذلك على التكرار إلاَّ بدلالة، فوجب ما قلناه. ووجه ما في الفنون أنَّه إذا احتمل أن يكون المراد باللفظ الثاني هو المارد باللفظ الأول واحتمل أن يكون المراد به غير المراد باللفظ الثاني، لم يكن للحاكم أن يمضي الحكم إلاَّ باليقين ولا يتيقن مع هذين القولين إلاَّ عشرة واحدة فيجب أن يكون هي الواجبة فأما إذا ذكر وجهين مختلفين للوجوب فلا إشكال في أنَّه عشرون ديناراً، كان يقول: على عشرة من قرض، ويقول له: على عشرة من ثمن سلعة، وقال أيضاً في الفنون: إذا قال له: علي عشرة، وقال بعد ذلك له: عليّ خمسة عشر، أنَّه يكون خمسة وعشرين، ووجهه أن اللفظين مختلفتان فلا يجب حملهما على معنى واحد. (131/40)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال: كل شهادة أشهد بها على فلان فهي باطلة، أو قال: ليست عندي شهادة عليه، ثُمَّ شهد عليه بعد ذلك جازت شهادته، ووجهه أن أحوال المسلمين محمولة على الصحة والشهادة مبنية على التذكر لقول الله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}، وإذا كان ذلك كذلك فغير ممنوع أن يقول ما قال من ذلك؛ لأنَّه كان ناسياً للشهادة ثُمَّ يذكرها فليس في تذكر الشهادة بعد نسيانها ما يوجب سقوطها، وقوله: كل شهادة أشهد بها عليه فهي باطلة، معناه فهي باطلة عندي، وفيما أعتقد متى حملنا حاله على السلام، وقوله ليست عندي شهادة أوضح في هذا الباب؛ لأنَّه أبين في أن المراد به أني لا أعرفها ولا أتذكرها. (131/41)
فإن قيل: يكون مكذباً لنفسه فيجب أن تبطل شهادته؟
قيل له: إذا حمل على ما قلناه لم يكن فيه إكذاب.
فإن قيل: لو جاز ذلك جاز أن يقر الإنسان لغيره ثُمَّ يدعيه؟
قيل له: ليس يشبه هذا ما قلناه، وذلك أنَّه بالإقرار موجب للغير حقاً فلا يصح منه أن يدعيه؛ لأنَّه ناف لما أثبت من حق الغير، وقوله لا شهادة لفلان عندي ليس يوجب حقاً لأحد، فصح حمله على ما قلناه.
مسألة
قال: وكل شهادة يحق لإنسان يذكرها المشهود له فهي باطلة وذلك أن الشهادة إنَّما تستمع على الدعوى، فإذا كان المشهود له لا يدعي ما يوجبه الشهادة بل ينكر لم تثبت الشهادة فهذا في الشهادة الَّتِي لا تتعلق بالحسبة، وكانت شهادة الحقوق محضة، ألا ترى أنَّه لا خلاف في شهادة من شهد بأن مملوكة أعتقها سيدها أنها تكون مسموعة وإن أنكرتها المملوكة؛ لأنها شهادة الحسبة وأما الشهادة الَّتِي تتعلق بالحقوق فقط كالبيع والشراء والهبة والدين فلا تستقر إلاَّ مع دعوى المدعي فكيف تستقر مع إنكاره.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً شهد أن رجلاً اشترى من رجل أرضاً ثُمَّ ادعى في تلك الدار شيئاً كانت الشهادة والدعوى جميعاً ثابتتين ولم تبطل أحداهما الأخرى، ووجهه أن الشراء يوجب الملك للمشتري؛ لأنَّه قد يشتري من الغاصب وقد يشتري بالشراء الفاسد ولا يحصل القبض فلا يملك، فإذا كان ذلك كذلك فلا يمتنع أن يكون الدار ملكاً له فيدعيها ويشهد بشراء من اشتراها ويكون فإذا كان ذلك كذلك لم يجب أن يحصل بين الدعوى والشهادة تناف على ما بيناه فلم يمتنع أن يجتمعا، وأيضاً لو كانت الشهادة بالشراء شهادة بالملك لكان الإقرار بالشراء إقراراً بالملك ولو كان كذلك لكان من أقر بالشراء لا يرجع على البائع بالثمن إذا استحق المبيع؛ لأنَّه لو أقر بالملك للبائع كان مبطلاً في دعوى عليه اليمين. (131/42)
مسألة
قال: فإذا قال الشاهد: كنت عرفت هذا لبني فلان لم يكن ذلك شهادة وإنما يكون شهادة إذا قال أشهد أنَّه كان له ولم يخرج عن ملكه بوجه ن الوجوه لم يجعل الأول شهادة لوجهين:
أحدهما: أن الشاهد لا بدله من أيراد لفظ الشهادة، وقوله عرفت أو أعرف وما جرى مجراه لا يجري في الشهادة ولا بد من أن يقول أشهد.
والثاني: أنَّه قال كنت عرفت ولم يكن في كلامه شهادة بأن الشيء في الحال له فلم تكن مسموعة؛ لأن الشيء قد يكون للإنسان ثُمَّ ينتقل عنه فلا بد من أن يتضمن شهادته أنَّه له في الحال فأما إذا أتى باللفظ الذي ذكرناه ثانياً فلا إشكال فيه في أنَّه شهادة تامة.
مسألة
قال: وإن رأى الحاكم أن يستحلف الشهود احتياطاً جاز ذلك أن عرض له في أحوالهم عارض شك، وكذلك أن رأي تفريقهم وسماع الشهادة من كل واحد منهم منفرداً أحوط كان ذلك له فإن اختلفت أقاويلهم أبطل شهادتهم أما تفريق الشهود فلا أعرف فيه خلافاً في أنَّه يجوز إذا رأى الحاكم ذلك احتياطاًً وقد روي ذلك عن علي عليه السلام؛ ولأن الحاكم منصوب لأن يحتاط للمسلمين بما يمكنه ما لم يؤد ذلك إلى الإضرار بأحد الخصمين فله أن يأتي في ذلك ما يغلب في ظنه أنَّه هو الاحتياط فإنه لا مضارة فيه لأحد الخصمين وإذا ثبت ذلك كان التحليف محمولاً عليه في أن الحاكم يأتي ما يراه من ذلك احتياطاً. (131/43)
مسألة
قال: وتجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض فيما بينهم من الشهاد ما لم يتفرقوا فإذا تفرقوا لم يجز وبه قال مالك: وحكي عن ابن أبي ليلى، أيضاً قبول شهادة بعضهم على بعض من غير ذكر التفصيل ومنع أبو حنيفة وأصحابه والشافعي قبولها وهو مروي عن علي عليه السلام وقوله عندنا متبع.
قبول الشهادات مبني على حسب الضرورات، ألا ترى أن الحدود لما لم تكن في إقامتها ضرورة لم تقبل فيها إلاَّ شهادة الرجال فقط والأموال والحقوق لما كثرة فيها الضرورات قبل فيها شهادة النساء مع الرجال وقبل فيها الشاهد واليمين عندنا وعند الشافعي والشهادة على الشهادة، وأما الاستهلال وأمراض الفروج لما ادعت الضرورة فيها إلى قبول شهادة النساء وحدهن قبلت شهادتهن منفردات عن الرجال؛ لأن العادة الغالبة أنهن لا يحضرن الرجال في هذه الحالة وكذلك عندنا وعند أبي حنيفة يقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وكان ذلك كذلك حلن العادة الغالبة أنهم في معاملاتهم ومناكحاتهم وأكثر عقودهم ولا يحضرهم المسلمون، فكذلك شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الشجاح وما يجري مجراها يجب أن تكون مقبولة للضرورة إلى ذلك قياساً على ما ذكرنا من شهادة النساء وشهادة أهل الذمة، والعلة أنهم فرقة والعادة الغالبة أنهم لا يحضرهم غيرهم في ملاعنتهم ومخاصمتهم، وحكي عن كثير من العلماء جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر للضرورة وإنما قلنا أن شهادتهم بعد التفرق لا تقبح لأنهم غير متهمين قبل التفرق على مجرى العادة ويتهمون بعد التفرق؛ لأنَّه لا يؤمن أن يلقوا غير ما جرى فيتلقنوا. (131/44)
فإن قيل: أن من حكم الشهادة أن لا تقبل إلاَّ من العدول والصبيان لا يصح أن يقال فيهم أنهم عدول؟
قيل له: معنى العدل هو المستقيم ومن ظن به أنَّه لم يمل عن الاستقامة فيما يقول يكون قد حصل له معنى العدل في ذلك الشيء وإن كان لا يطلق عليه اسم العدالة، وكذلك من حكم الأخبار أن لا نقبلها إلاَّ ن العدول ثُمَّ نقبل أخبار المعاملات والهدايا وما أشبهها للضرورة ممن لا تطلق فيهم اسم العدالة؛ لأن لإطلاق اسم العدالة شروطاً أو جبتها الشريعة، ألا ترى أنا نقبل شهادة اليهود بعضهم على بعض إذا كانوا على الاستقامة في الأفعال بل من الصبيان ونحوهم إذا ظننا بهم الاستقامة والصدق فيما يخبرون، فلا يمتنع أن يكون ذلك حال شهادة الصبيان فيما يجري بينهم. (131/45)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال: لإنسان لا تشهد عليّ بما تسمع مني ثُمَّ جرى في كلام إقرار بحق لإنسان جاز له أن يشهد عليه، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه؛ لأنهم يجيزون شهادة المختبئ، وهذا في معناه، وعن مالك أنَّه أجاز ذلك في القذف والطلاق، وحكي عنه منع ذلك في المعاملات ونحوها، وعن ابن شبرمة أنَّه لم يجوز ذلك، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، وقوله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}، وما فكل من علم شيئاً جاز له أن يشهد به ما لم يمنع منه مانع، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <إن علمت مثل هذه الشمس فاشهد وإلا فلا>، فأمر بإشهاده متى علم ومن سمع الإقرار علمه فله أن يشهد به ولا يؤثر فيه الاشهاد، وقول المقر: لا تشهد.
فإن قيل: روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: <يجيء قوم يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون>.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد أنهم ليشهدون من غير أن يعلمون ويحتمل أنهم لا يستشهدون لظهور جرحهم وفسقهم فيكون الذم حاصل بقوله: <ولا يستشهدون دون قوله يشهدون كما أن الذم حاصل في قوله ولا يوفون دون قوله: <ينذرون>.
فإن قيل: فقد روي ثُمَّ يجيء قوم فنسبوا شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهدته.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد أنهم يستهينون بالشهادات والأيمان من غير ثبت وتورع، وقد قال الله تعالى: {وَأَقِيْمُوا الشَّهَادَةَ للهِ}، وقال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}، وقال: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِيْنَ}، فكل ذلك يوجب أن من علم شيئاً وكان في كتمانه ضرر وظلم يلحق أحداً من الناس فلا يحل له كتمانه، وأيضاً قد ثبت أن العقود والإقرارات حكمها ثابت غير مغتفر إلى تثبيت الحكام فأشبه الغصب والقتل في أنَّه يسمع ما شهد ذلك وعلمه أن يشهد به وإن لم يشهدوه الغاصب والقائل، وليس كذلك الشهادة على الشهادة؛ لأن الشهادة لا حكم لها بنفسها حتَّى يحكم بها الحاكم فلا يجوز أن يشهد على شهادة شاهد حتَّى يشهد ويعلمه الشهادة. (131/46)
فصل
كان أبو العباس الحسني يقول في معنى قوله أن القاضي لا يقضي لأحد الخصمين حتَّى يسمع كلام الآخر ويثبت في حججهما أن التثبيت في الحجج يقيد البحث عن عدالة الشهود وهو قريب كما قال؛ لأن العلماء مجمعون على ذلك ولا يحكى الخلاف فيه إلاَّ عن أبي حنيفة، فإنه كان يقول المسلمون كلهم عدول، قال أبو بكر، قال أبو حنيفة: هذا القول في أهل عصره؛ لأن الغالب على أحوالهم كانت السلامة والعدال، فأما الآن فلا بد ن التعديل للشهود، والأصل فيه قول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وقال عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، فلا بد من أن يعلم حصول هذه الصفة في الشهود في ظاهر الحال.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك حال كل مسلم في الظاهر؟
قيل له: إن أردت بقولك حال كل مسلم في الظاهر ممن عرفنا تحققه بالدين وتجنبه للمعاصي خوفاً من الله عز وجل فتلك هي العدالة المطلوبة وإن أردت كل من ظهر منه الإقرار بالشهادتين فلسنا نسلم ذلك بل السير والإمتحان يكشفان عن خلاف ذلك؛ لأنا نعلم أن الأقل من القليل ممن يظهر الشهادتين توجد له صفات العدالة والأكثر منهم مصرون على الفسق والفجور. (131/47)
فأما في هذا الزمان فقد كثرت الملحدة من الباطنية والمتفلسفية، وهم منكرون للشرائع والثواب والعقاب على حد ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن أظهر الشهادتين فكيف يقال أن إظهار المرء الإسلام يوجب عدالته، وما أرى أحداً من المسلمين يستجيز القول بهذا في هذا العصر، فأما تلك الأعصار فليس يبعد ذلك.
روي عن ابن مسعود أنَّه قال: ما علمت أن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يريد الدنيا حتَّى نزلت هذه الآية: {مِنْكُمْ مَنْ يُرُيْدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرُيْدُ الآخِرَةَ}، فكان الأصل فيه الدين والورع والعدالة، ولا يبعد ذلك أيضاً أنَّه كان في أوائل عصر أبي حنيفة إذ لا إشكال أنَّه كان في القرآن الثالث، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: <خير أمتي الذين بعثت فيهم ثُمَّ الذين يلونهم ثُمَّ الذين يلونهم>، وإن كانت الأحوال قد تقررت في آخر أيامه.
ويقال أيضاً في صحة ما قلناه: أن العدالة حق الله عز وجل فلا بد من البحث عنها بدلالة أن الخصم لو رضي بشهادة الفاسق عليه لم يلتفت الحاكم إلى رضاه ولم يحكم بشهادته.
وأيضاً لا خلاف في الحدود والقصاص أن الشهود فيها لا بد من تعديلهم، فكذلك سائر الحقوق، والعلة أن الحكم يمضي بشهادة فلا بد من أن يعرف الحاكم عدالته في الظاهر.
باب القول في الوكالة (132/1)
إذا وكل الرجل وكيلاً في أمر م أموره أو خصومة من خصوماته فكل ما لزم وكيله في ذلك من حق لزمه، ووجب عليه بوجوبه على وكيله، والوكالة مما لا خلاف فيها بين المسلمين منذ عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا وهي ما أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمة على ذلك كما أقر على الشركة والمضاربة.
وقد دل القرآن على ذلك قال الله عز وجل حاكياً عن يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِيْ عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضَ إِنِّي حَفِيْظٌ عَلِيْمٌ}، وذلك ضرب من الوكالة، قال أيضاً لِفتيانه : {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِيْ رِحَالِهِمْ} مثله أيضاً، وقال: عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِيْنَةِ}..إلى آخر الآية، وهو من التوكيل وفي حديث عروة البار في وحكيم بن خزام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفع إلى كل واحد منهما ديناراً يشتري له به شاة، حديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرني أن أقضي رجلاً يكره ولك ذلك من التوكيل، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه وكل الخصومة إلى عبد الله بن جعفر وقال: ما قضى له علي وما قضى عليه فعلي وقد كان قبل ذلك وكل الخصومة إلى قعيل بن أبي طالب حتَّى توفي وما قلناه أن ما لزم الوكيل لزم الموكل، مما لا خلاف فيه من نحو الشراء والبيع وغير ذلك، فكذلك الخصومات وقد دل عليه قول علي حين وكل عبد الله بن جعفر ما قضى له فلي وما قضى عليه فعلي قال وليس للوكيل أن يوكل إلاَّ أن يكون الموكل إذن له في ذلك هذا أيضاً مما لا خلاف فيه؛ لأن الوكيل يتصرف بأمر الموكل وينوب عنه منابة بحسب ما أمره وليس يجب أن يكون التوكل بالبيع والشراء والقبض وغير ذلك أمراً له بتوكيل غيره كما أن التوكيل بالبيع ليس هو توكيلاً بالشراء والتوكيل بالشراء والقبض وغير ذلك أمراً له بتوكيل غيره كما أن التوكيل بالبيع ليس هو
توكيلاً بالشراء، والتوكيل بالشراء ليس هو توكيلاً بالبيع في الخصومة، فكذلك بالشيء الواحد ليس توكيلاً بغيره إلاَّ أن يأذن في ذلك فيكون له التوكيل؛ لأن إذنه له في ذلك توكيل له بالتوكيل متى رأى، قال: والوكالة جائزة في البيع والشراء والقبض والنكاح والطلاق وغير ذلك وكل ذلك لا خلاف فيه، وقد مضى بيانه. (132/2)
فصل
قال في الفنون في من ادّعى امرأة أنها زوجته والمرأة منكرة أنها توكل إن شاءت أو تحضر الحاكم وتناظر إن شاءت فجعل الخيار لها دون الخصومة، فدل ذلك من مذهبه أنَّه لا يراعى رضى الخصم إذا أراد خصمه إن يوكل عليه وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يوكل إلاَّ برضى الخصم إلاَّ أن يكون الموكل مريضاً أو غائباً والأصل في هذا ما رويناه عن علي أنَّه وكل عبد الله بن جعفر خصوماته وكان قد وكل قبل ذلك عقيلاً من غير اعتبار رضى الخصم ولم يكره أحد فيذلك العصر فجرى ذلك مجرى الإجماع على أن للخصم أن يوكل في الخصومة من غير اعتبار رمى الخصم.
فإن قيل: لعله وكل برضاء الخصم.
قيل له: لم يرو ذلك عن أحد بل هو ممتنع؛ لأنَّه عليه السلام وكلهم جملة في خصوماته لا في خصومة معينة ولا يجوز أن يراعى رضى من لم يصر بعد خصماً وأيضاً قد ثبت أن الوكيل ينوب مناب الموكل ويقوم مقامه فليس لخصمه أن يمتنع منه؛ لنه يكون موفياً له حق الخصومة؛ دليله لو خاصم بنفسه لم يكن له لخصمه أن يطالب بالتوكيل.
فإن قيل: الخصومة حق توجه للخصم على خصمه بدلالة أن الحاكم يحضره لها ويحول بينه وبين أشغاله بسببها، وإذا توجه الحق عليه لم يكن له أن يجعله إلى غيره.
قيل له: ولم قلتم ذلك وما الدليل عليه بل الأمر بخلافه؛ لأن حقه استيفاء الخصومة عليه، فإذا استوفاها عليه لم يبق حق، ألا ترى أن من كان له على زيد مال فوكل غيره بتوفيت المال لم يكن له أن يمتنع من استيفائه منه، كذلك حق الخصومة وهذا مما ليجوز أن يجعل ابتداء الدليل.
فإن قيل: على الحاكم أن يسوي بين الخصمين وليس من التسوية بين الخصوم حضور أحدهما وابتداله للخصومة وقعود الآخر في منزله. (132/3)
قيل له: الذي يجب على الحاكم أن يسوي بينهما بأن يمكنهما من التساوي، فإن اختار أحدهما ترك المساواة لم يلزم الحاكم شيء، ألا ترى أن على الحاكم أن يسوي بين مجلسيهما فإن اختار أحدهما أن يجلس دون خصمه، وإن يرفع خصمه على نفسه لم يمنع الحاكم من ذلك كذلك مسألتنا؛ لأن الحاكم قد مكنهما من التوكيل فإن اختار أحدهما أن يتبدل ويخاصم بنفسه لم يلزم الحاكم شيء ولا يكون خارجاً عن أن يكون مسوياً بينهما، ويقال لهم: ليس للحاكم أن يضر بأحد من الخصوم ولو لم يقبل الوكالة لأدى إلى أن يحتاج ألاَّ يكن المستضعف أن يخاطب الخطيب المصقع من قصوره عنه، وذلك أضرار به فيجب أن لا يمنع ن التوكيل رضي أم أبى على أنَّه ليس للحاكم أن يمنع أحداً من الاحتياط لنفسه إذا رأى ذلك احتياطاً.
مسألة
قال: وللموكل أن يعزل وكيله متى شاء، وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً؛ لأن الوكالة لا حد، وإنما هي حقه فله أن يبطلها متى شاء كما له أن يبطل سائر حقوقه الَّتِي لا يتعلق بها حق الغير وقد قيل أنَّه يشبه الإباحة بأن للمبيح أن يرجع في الإباحة متى شاء كان يبيح غيره سكنى داره ولبس ثياب أو تناول طعامه، قال: فإذا عزله وقد مضى منه شيئاً لم يفسخ ما أمضاه وكان جائزاً وله من الأجرة بمقدار ما عمل وذلك أن ما عمل على أمره فلم يجب أن يكون مفسوخاً واستحق أجرة عملهن قال: فإذا خالف الوكيل لم يلزم الموكل ولم يستحق الوكيل أجرة ما عمل ؛ وذلك كأن يشتري عبداً بألف وقد وكله بشراه بخمسمائة أو يبيع عبداً بألف وقد أمره أن يبيعه بألفين، فهذا لا يلزم الموكل؛ لأنَّه لم يكن وكيلاً له فيما فعل ولا يستحق أجرة؛ لأنَّه لم يفعل ما هو وكيل فيه وإنما فعل ما لم يوكله فيه، وهذا يجري مجرى أن يبتدئ عملاً من غير أمر الموكل.
مسألة
قال: وإذا وكّل رجل رجلاً ببيع مال أو شراؤه أو قبض دين ثُمَّ فسخ وكالته ولم يبلع الوكيل ذلك، فأمضى ما وكل فيه قبل أن يبلغه عزله جاز له إمضاؤه وفذ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وهذا أحد قولي الشافعي وبه قال بعض الإمامية، ووجهه أنَّه بمنزلة أوامر الله تعالى ونواهيه في أن أحكامها تتعلق بنا بأن نعرفها دون وجودها في ذواتها، فكذلك العز؛ لأنَّه نهى عن التصرف على وجه يتعلق بنا حقوقه وأيضاً قد ثبت أن من أباح له سكنى داره ولبس ثيابه فإنه لا يأثم بسكنى الدار ولبس الثياب ما لم يعلم أنَّه محظور عليه وأن صاحبهما لو حظر ذلك لم يخرج منحكم الإباحة حتَّى يبلغ الحظر، فكذلك الوكيل؛ لن الوكيل مأمور فهو في حكم المأمور حتَّى يبلغ النَّهي وأيضاً لو لم نقل ذلك كنا أدخلنا الضرر على الوكيل؛ لأن من وكل غيره بشراء شيء لو اشتراه بعد العزل وقبل العلم به فيجب أن يلزم الشراء لو لم يلزمه الموكل وإن كان هذا ضرراً على الوكيل؛ لأنَّه يشتري مالاً يريد شراه لنفسه ولا يمكنه الاحتراز من ذلك، وكذلك يدخل الضرر على من ع÷مله؛ لأنه لو اشت ى ےنه¾دïراً هو وكيے ببيعهماےوسلمها وسےüها¯ïلمشتري كناےنےزےه كرى ےلےث ïو أےےلنا بيےهن وïذا ضرر يدخل½عليے~ (132/4)
مسçلة
قال:>فإےےلےے العزل من ےهےےےجلين أو رجلîواحد ےےم يقبلهûûِ ےمضىےما وكلبه ےے ذهك مردوداً، قےے ےبو حنيفة: ےن ےےغه من جهة رج يِ أےےےجل عدل ےا÷ مكزولاً فےےترے أےےيےون للمخبر أحدے صفي الشهادة أما العدالة، قال أبو يوسف ومحمد: إذا بلغه خبر العزل من أي مخبر كان صار معزولاً بعد أن يكون الخبر صدقاًً، وقول أصحابنا إلى قول أبي يوسف ومحمد أقرب؛ لأنهم لم يشترطوا العدالة في الواحد، والأصل فيه أنَّه يجب أن يجري مجرى أخبار المعاملات والأقرب عندي، والله أعلم، أنَّه يراعى فيه غالب الظن فمتى أخبره بخبر يغلب على ظنه صدقه صار معزولاً، والخلاف في خبر الشفعة على هذا الوجه أيضاً، ولم يكن غرض يحيى عليه السلام حين قال رجل أو رجلان: تحقيق ذلك في العدد، وإنما هو تنبيه على أن الخبر إذا بلغه صار معزولاً من أي وجه بلغه، وإنما قلنا أن غالب الظن يراعى ي أخبار المعاملات؛ لأن أخبار المعاملات يثبت إلاَّ مع غالب الظن، ألا ترى أن إنساناً لو حمل شيئاً على سبيل الهدية إلى رجل عن غيره فغلب على ظنه أنَّه يكذب فيما يقول وعجن لم يحمل الانتفاع به، وكذلك المودع من أخبره أن المودع أمره أن يتصرف في الوديعة ضرباً من التصرف وغلب على ظنه كذبه لم يحل التصرف فيه، وعلى هذا خبر الإذن في دخول الدار، فكذلك ما قلناه في ذكر أصحاب أبي حنيفة أن الوكيل يثبت بقول واحد وإن لم يكن عدلاً ولا يثبت العزل؛ لأنَّه أؤكد من التوكيل؛ لنه يوجب ضماناً لم يكن؛ لأنَّه يوجب ضماناً لم يكن؛ لأن المتصرف بعد العزل يضمن، فيقال لهم: يجب أن يكن التوكيل أؤكد؛ لأنَّه يسقط ضماناً ثانياً ويبيح تصرفاً محظوراً فخبره إلى التأكيد أحوج؛ لأن من تصرف في مال غيرهن فالأصل أنَّه يضمن، ومخبر التوكيل يسقط عنه وذلك ولأن خبر الإباحة وخبر الحظر إذا اجتمعا كان خبر الإباحة محتاجاً إلى التأكيد؛ لأنهما لو تساويا كان خبر الحظر أولى فبان أن اعتبار أصحاب أبي حنيفة في هذا فاسد على (132/5)
أنَّه لا خلاف أن المخبر لو كان رسولاً صار معزولاً وإن كان لم يكن الرسول عدلاً، والرسول والمخبر في ذلك سواء. (132/6)
فإن قيل: يفرق بينهما أن الرسول قائم مقام المهل؟
قيل له: ليس فيه أكثر من أنَّه أعلمے مے ےهے ما لم يكن½به عالماً، وهذا والمخبر فيه سçاء فلاےوجه للفرقة، ولا يجعل لقولهم÷هوےقائم مقام ال÷ےسل معنى سوى ماےقلناه ويجيء على هذه الطريقة أن الوكيل إن عمل قبل أن يبلغه خبر التوكيل، كان ذلك مردوداً، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه اعتباراً بما قلناه أن حكما الأمر والني لا يلزمان المأمور والمنهي قبل وصول خبرهما إليه.
مسألة
قال: فإن كانت الوكالة في الطلاق فطلق الوكيل بعد ما عزل قبل أن يبلغه الخبر لم يقع الطلاق، وذلك أن حكم الطلاق مخالف لحكم البيع والشراء؛ لأن الطلاق يلزم الموكل ابتداء ولا يتعلق بالوكيل والبيع والشراء يتعلقان بالوكيل ثُمَّ ينتقلان إلى الموكل فأمكن تشبيه الوكالة فيهما بأمر الله عز وجل ونهيه لتعلق المأمور به والمنهي عنه بالمأمور المنهي، وأيضاً ما ذكرناه من الضرر الذي يلحق الوكيل في الشراء لا يلزم الوكيل في الطلاق؛ لأن الشراء يقع للوكيل متى كان معزولاً، وليس كذلك الطلاق والنكاح؛ لأنهما لا يقعان بتة متى كان الوكيل معزولاً، ويجب أن يكون حكم النكاح والعتاق والصلح عن دم العمد والخلع في هذا الباب حكم الطلاق؛ لأن شيئاً من ذلك لا يتعلق بالوكيل ولا يقع شيء من ذلك مع حصول العزل، فأما البيع والشراء والإجارة والإقالة والهبة على العوض، فيجب أن يكون على ما بيناه من½ےن جميع ذلك يقع ûے العزل حïَّى؟يïلكےالوكيلےخبره.
مسألة
قال:½وûِïأنvرجلاً وكل وےيلےے ےي بع أےےشرےء ےو طلاق أو غےر ذلكے وقال لكلےےاحے÷منهما: قے وكلتےoفيه، فلےما ےےاّ ےمضيا ذلك مجےعينïوûنفرديےï÷ےےذا مما لاےخلےے فيه؛ لنه إذا أفرد كل واحد منهما بالتوكيل كان كل واحے منهما وكيلاً مطلاقاً علے الانفراد½ قال: فإن قال وكلتكما على أن تجتمعا فيه، فليس لواحد منهما أن يمضيه منفرداً عن صاحبه، فإن أمضاه كان مردوداً، وهذا كما قال؛ لنه جعلهما جميعاً في حكم الوكيل الواحد وشرط اجتماعهما فكان الإجتماع شرطاً في وكالتهما فمتى لم يجتمعا وأمضياء منفردين كان كل واحد منهما في حكم الأجنبي، إذ هو وكيل بشرط الإجتماع، فوجب أن يرد ما أمضاه؛ لأنَّه خالف الموكل فلم يصح ما فعلهن فإن وكلهما وكالة مبهمة جاز انقراد كل واحد منهما بالبيع ولم يجز في الطلاق، وقد اختلف في ذلك فذهب أكثر العلماء وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنَّه لا يجوز انفراد كل واحد منهما بشيء من ذلك، ووجه ما ذهب إليه في البيع وما جرى مجراه، أنَّه قال: إذا قال وكلتكما ولم يذكر الانفراد ولا الاجتماع فهو في الحكم كأنه ذكر الانفراد؛ لأن قوله وكلتكما يجري مجرى قوله: وكلت فلاناً ووكلت فلاناً، على الانفراد، ألا ترى إلى قوله ضربهما أنَّه يفيد ضرب كل واحد منهما منفردين كانا أو مجتمعين، ولا يفيد الاجتماع دون الانفراد، وقد بينا هذا في كتاب الأيمان فضل بيان فيما ذهبنا إليه فيم ؟حلف لاèيلےس ثيابے فلبے ثوےاً منها حنث وكشفنے أن اليمين تعلقے بكل واحد من الثياے، وكذلك التےكيلï (132/7)
فإن قيل: لو<ےانّذ÷ك كذلك ٌم ےكے للجميع بينهما غرضے في ب أن يحملےالأمر علىےأنَّه لم ےےض برأي وےحےےمےهما، فلذلك أضاف?الےخر اےآية؟
قيل له: يجوز أن يكون أراد بذلك ألا يفوت البيع والشراء؛ لأنهما قد يتفقان لواحد دون آخر ويتعذر أن على واحد دون آخ، وهذا الغرض يصح في كل ما يتعلق ذلك بالطلب والاجتهاد كالبيع والشراء ونحوهما.
فإن قيل: فإذا احتمل الغرضان فلم جعلتم على ما ذهبتم إليه دون ما ذهبنا إليه ن أنَّه لم يرض برأي أحدهما وهذا حملتموه عليهما معاً؟ (132/8)
قيل له: لأن اطلاق التوكيل يقتضي أنَّه وكل كل واحد منهما على الانفراد، ومتى قلنا خلاف ذلك كنا صرفنا القول عن ظاهره ولا يجوز ذلك من غير دلالة، وإذا حملنا الغرض على أنَّه تجويز التعذر لا يكون فيه إخراج اللفظ عن ظاهره، فأما الطلاق فقلنا: أنَّه لا بد أن يجتمعا عليه؛ لأن الغرض الذي بيناه في الشراء والبيع لا يصح أن نبينه في الطلاق؛ لأنهما لا يتعذر على واحد منهما لأنَّه لفظ يلفظ به فلان يتحصل للجمع بينهما غرض أو فائدة إلاَّ أنَّه لم يرض فيه بأحدهما إلاَّ مع صاحبه، ويجب قياساً على ما قلناه أن يكون سبيل العتاق سےيلïد طلاق وأن يكون سبےل النكاحےوطلب ےلےفعة سبيل البيع والےراء للوجه اےےي بيناه.
ےûألة
قال: والوكےےةےفي ال صومات ےلحاےر جائزةےتخريےاًے وےےه ے مسألة قدےمضتےفے أول هذا اےبابےفلا فائدة في إےےدتها وإن كان هذا الموضع أخص بها.
مسألة
قال: وإذا وكل الرجل وكيلاً في بيع أو شراء فالخصومة في درك إن لحق أو غيب إن كان إلى الوكيل دون الموكل تخريجاً، وبه قال أبو حنيفة، والأصل فيه أن الوكيل المشتري لا خلاف أنَّه مطالب بالثمن والوكيل البائع مطالب بالتسليم وأنهما يتصرفان فيه من غير حصول الموكل أو تجديد إذن، فكذلك سائر ما ذكرناه، والعلة أنَّه من حقوق العقود وأصحاب الشافعي لا يخالفون أن للوكيل أن يرد بالعيب من غير انتظار الوكيل، وليس كذلك النكاح؛ لن الولي في الإنكاح والوكيل لا يطالب بتسليم المرأة والمرأة أيضاً لا يطالبه بالمهر، فخالف ذلك حكم البيع والشراء والإجارة، يكشف ذلك أن المزوج يقول لوكيل الزوج زوجتها من فلان يعني الزوج، ويقول الوكيل: قبلته عنه، وفي البيع والشراء لا يحتاج أن يسموا الموكل بل يتخاطب الوكيلان من دون ذكر الموكلين، فبان أن حقوق البيع والشراء والإجارة تتعلق بالوكيل ثُمَّ ينتقل إلى الموكل، فلهذا قلنا أن الخصم فيما ذكرنا هو الوكيل دون الموكل. (132/9)
مسألة
قال: وإذا اشترى رجل من رجل شيئاً جاز أن يوكل البائع بقبض المبيع من نفسه عن المشتري، وقبضه له إن كان مكيلاً أو موزونےً أن يكيلهےأو ےزنه للمشتري ويےزله وإن لم يكے مكيلاً ولا وزناً فقبضه له أن ےعزلهےللمشتري.
قدےےينا في كتاب النكاح أن الزوج يجوز أن يكون هو المزوج والقابل، والأصل في هذا أن كل شيء لا يكون فيه الخصومة بين الوكيل والمطالب، فيجوز أن يكون الوكيل والمخاطب واحداً كالنكاح؛ لأنَّه لا خصومة بين الزوج والمزوج في حقوق النكاح ولهذا نقول أنَّه يجوز أن يقبل الأب عن ابنه ما وهبه، فكذلك في القبض؛ لأنَّه لا خصومة بين القابض والمقبوض نه في حقوق القبض وقلنا أن قبض الوكيل للمكيل أن يكيله ويعزله للمقبوض عنه؛ لأنه لو كان نفسه كان القبض ذلك، وكذلك الموزون ومالا يكون مكيلاً ولا موزوناً على ما ذكرنا، ويجب على هذا أن يكون قبضه للأرض والدار أن يتصرف فيهما عن المشتري، والله أعلم. (132/10)
مسألة
قال: وإذا وكل الرجل رجلاً ببيع شيء فباعه بدون ثمنه بما يتغابن الناس بمثله وجاز بيعه، وإن باعه بدون ثمنه بما لا يتغابن الناس بمثله لم يجز تخريجاً، وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة: هو جائز، ووجه ما قلناه أن بيع الشيء بدون ثمنه وحاباه يجري مجرى الهبة، ألا ترى أن ذلك إذا كان من المريض أجري مجرى الهبة، ورد إلى الثلث، فإذا ثبت ذلك ثبت أنَّه لا يصح من الوكيل؛ لأن الوكيل لا يصح له أن يهب من الثمن شيئاً، ولا خلاف أنَّه لو وكله بشراء شيء فاشتراه بأكثر من كيمû÷ ÷مايلا يتغاûن ه~لم ےلزم الشراے الûوےل، فےذلك الےيعے والعلةûفيه ÷ن َے تصرف ْلى8حد لا يقتضه أےر الçوےے من جهة اےتعرف، وأيضاً إےا أمرےےبالبيع فمن طريق العرف يأمره ببيعه بقيمة مثله، فإذا باع بدون ذلك يكون مخالفاً فلا يثبت البيع كما أنَّه لو أمره ببيعه بثمن معلوم فباعه بدون ذلك لم يثبت البيع.
فإن قيل: الوكيل يتصرف من جهة الأمر ولفظ الأمر عام في كل ما يسمى بيعاً فجاز بقليل الثمن وكثيره لدخوله تحت اللفظ.
قيل له: ليس الأمر على ما ادعيت وإن العرف قد خصصه حتَّى يجري قوله: بع هذا الثوب مجرى قوله بعه بقيمة مثله، وهذا ظاهر في التعامل على أ، ما قالوه لو صح في البيع لصح في الشراء؛ لأن لفظ الشراء أيضاً عام كما أن لفظ البيع عام إلاَّ أن العرف أوجب تخصيصه في الشراء بقيمة مثله، فكذلك في البيع. (132/11)
فإن قيل: الثمن الذي يلزم الأمر غير ملفوظ في لفظ التوكيل وإنما يلزمه حكماً، فلم يصح اعتبار العموم؟
قيل له: الثمن في حكم المنطوق به؛ لأنَّه إذا قال له اشتر هذا العبد، فكأنَّه قال اعقد فهي عقداً استحق به العبد ويستحق عليَّ الثمن وإن وقع الاستحقاق في الحال الثاني، وكذلك الأمر بالبيع على هذا السبيل يجري أمره، فكأنه قال: اعقد فيه عقداً يستحق عليَّ العبد واستحق الثمن وإن وقع الاستحقاقان في الحال الأول، وانفصال البيع عن الشراء من هذا الوجه لا يؤثر فيكون الثمن في الموضعين كالمنطوق به على أن العموم الذي يدعونه في لفظ البيع مثله موجود في لفظ الشراء، فوجب أن يستوي الأمران.
فإن قيل: أن المشتري ينتقل إلى الوكيل وإن لم يستقر ملكه فيه ومن جهته ينتقل إلى الموكل فلما التزم زيادة على الثمن لم يجب أن يلزم الأم، وليس كذلك البيع؛ لأنَّه ينتقل من الأمر إلى المشتري.
قيل له: هذا الفصل وإن كان صحيحاً فهو غير مؤثر فيما قلناه؛ لأن المشتري ينتقل إلى الأمر بلفظ الشراء وإن انتقل إلى الوكيل أولاً ولا يحتاج لانتقاله إلى المشتري عن الوكيل أمراً آخر فهو مثل الأمر بالبيع، والله أعلم وأحكم.
باب القول في الكفالة والحوالة (133/1)
الكفالة بالوجوه جائزة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو أحد قولي الشافعي، والقول الثاني أنها ضعيفة، والأصل فيها ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <الزعيم غارم والزعيم هو الكفيل ولم يبين زعيماً للنفس أو للمال فهو على العموم، وقال الله عز وجل حاكياً عن يعقوب: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَنِّيْ بِهِ}، وهو الكفالة، وروي الكفالة بالنفس عن علي عليه السلام فيما كان بينه وبين ابن عمر، وعن ابن مسعود أنَّه حين قتل ابن رواحة بالكوفة فاستشار الصحابة فأشاروا عليه بأن يكفلهم عشائرهم فصار ذلك إجماعاً منهم إذ لم يروا إنكاره عن أحد منهم، وروى زي بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن رجل كفل لرجل بنفس رجل فحبسه حتَّى جاء به وهي من العقود المشهورة المتعارفة بين المسلمين من لدن الصحابة إلى يومنا هذا لم نعرف فيها النكير، فصار إجماعاً، وقد ثبت أن حضور الخصم حق لخصمه يستوفيه عليه بنفسه وبالحاكم، ألا ترى أن الحاكم يلزمه ذلك ويكره عليه، فوجب أن يصح الكفالة به، دليله الكفالة بالمال ويحترز من الحدود بأن يقال لا تسقطه الشبهة.
فإن قيل: هو غرر وقد نهينا جملة عن الغرر؟
قيل له: ذلك ليس بغرر؛ لأن إحضاره المكفول به أمر معلوم مضبوط على أن النَّهي إنَّما ورد عن الغرر الذي يكون في البيع فقط؛ ولأن الغرر في كثير من الأمور جائز لم ينه عنه على أنا نجوز الحظر والغرر في الضمان، على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله.
فإن قيل: هو ضمان ما ليس بواجب؛ لأن الواجب على من عليه الحق الخروج من الحق لا تسليم نفسه وحضوره عےد الح÷كمے؟ےيل له: لے نقےلےأن الحےور ےےس بوےجب بل يجب ےلحضوكüعلى من أنےے المال أو دافعه، فالحضور واجب على بعض الوجوه وعليه وقعت الكفالة.
فإن قيل: الأعيان لا يجوز ضمانها؟
قيل له: ليس كذلك وإن العارية عندكم مضمونة وعندنا على بعض الوجوه، وكذلك الأجير المشترك عندنا ضامن وفي أحد قولي الشافعي والعبد المغصوب مضمون بالإجماع. (133/2)
مسألة
قال: ومن ادعى على رجل دعوى فله أخذ الكفيل منه قبل تصحيح ما ادعاه، وهذا إذا ادعى أن له بينة عيناً ذكروه في المنتخب، وبه قال أبو حنيفة، ووجهه أن الحضور مستحق على المدعي عليه بدلالة أن الحاكم يحضره ويكرهه على ذلك، فإذا استحق عليه ذلك صح أن يؤخذ منه الكفيل كما يصح أخذ الكفيل منه بعد وجوب الحق، وأما مقدار ما يأخذ نه الكفيل فهو غير منصوص، وقد قال بعض العلماء مدة المجلس الثاني قبل ثلاثة أيام وهو الأظهر على قول يحيى عليه السلام.
مسألة
قال: وإذا تكفل الرجل بوجه الرجل ثُمَّ مات المكفول به بطلت الكفالة، فإن أقر المكفول به حبس الكفيل إلى أن يأتي اےمكفول به أو يخلص نفسه بتوفير ما على المكفول به تخريجاً قلنا أن المكفول به إذا مات بطلت الكفالة؛ لأن غين اقتضاء العقد تسليم وإذا مات وجب أن يبطل ذلك العقد، دليله السلعة المشتراه إذا تلفت في يد البائع قبل التسليم، ألا ترى أن ےےفهےےيوجبےبطلان اےعےے اےموجب تسےےےےاےوهو عقد البيع، وكذلك العبدےالےےتے ر إذا مات ےبل ےلےسليم بطلےعقے الإجےرة، فےےلكےےقد الكفالے ےجب أن ےبےل بموت المےفول ےے، وقلنے ےے المكےول به إے ےقےےحےسےالكفيل؛ ےأے عےيے التسےيے ےهو مےاےب به ےےا ےےےالعبد المشترى إذا أبق قبل التسليم يكون البائع مطالباً بتسليمه أو تسليم ما أخذ من ثمنه إن اختار المشتري فسخ البيع، ولما رويناه عن علي من حبسه من كفل بنفس رجل حتَّى جاء به فأما إذا خلص نفسه بتوفير ما على المكفول به تبرعاً، فيجب أن تسقط عنه المطالبة بالتسليم؛ لأن الغرض بالتسليم هو التمكن من استيفاء الحق، فإذا وفر هو الحق فلا وجه للمطالبة بعد ذلك.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون مطالباً بالحق الذي على المكفول به.
قيل له: حضور المكفول به دون الحق فلا يطالب بالحق كما أنَّه لو ضمن توفية الحلف لم يطالب بالإحضار؛ لأن كل واحد منهما مما لم يضمنه الضامن فلا يطالب وذكر ابن أبي هريرة أن هذا قول .. على القول الذي نقول بجواز كفالة الوجه، وهو فاسد على ما بيناه، وحكي عن قوم أنهم اعتبروا الحق بالدية وقالوا: هو مطالب بأقلهما من الدية أو الحق، وكل ذلك لا معنى له على ما بيناه. (133/3)
مسألة
قال: ولا فصل بين أن يكون الكفيل تكفل به مطلقاً أو إلى مدة معلومة في أنَّه مطالب بتسليمه قبل المدة وبعدها، وهذا هو مضمون قوله في المنتخب، وقد قاے فيه: أن المدعيےإذا ادعى بينة ےےبےے أخذ من الےد ى ع يه كفيل إلى وقت حضور البيےة، فيےب أن يكون محےولےً على من يقول تكفےے به إلى üےر ûن غير بيان المراد بےولهےإےى شهر، وجهه أےےïلے للتےديد وقے يدخے اےحد÷ے المحدودے ےقدےلا يدےل وقد يحتمل أن يكون ïلم×ےد ے. بوجهےمن¯الكفالے بعدےالشهے، ےےمكن أن يكون المراے هو أنَّه لا يخرج بالتسليم الواجب من الكفالة ما لم ينقص الشهر وقد يحتمل أن يكون إلى الانقضاء الكفالة ويحتمل أن تكون لابتداء الكفالة كما نقول في من قال أنت طالق إلى شهر أن الطلاق يقع بعد الشهر فلما احتمل إلى هذه الوجوه ولم ينكشف المراد به أبطلناه وجعلنا الكفالة مطلقة فأما إذا تكشف الغرض، فيجب أن يكون حداً صحيحاً عنده لتنصيصه في ذلك على من ادعى بينة غيباً.
مسألة
قال: وإن ضمن الكفيل لرجل مالاً على رجل صح ضمانه عليه ولم يبرئ المضمون عنه وكان صاحب المال بالخيار إن شاء طلب الضامن وإن شاء طالب المضمون عنه، وهذه رواية الأحكام وبها قال أبو حنيفة والشافعي، وقال في الفنون: الكفالة والضمان يبرأ بهما المضمون عنه كالحوالة وحكي عن ابن أبي ليلى، مثل ذلك، أما صحة الضمان فلا خلاف فيه، والأصل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <الزعيم غارم>، وما روي أنَّه أجاز ضمان علي عليه السلام عن الميت الذي كان عليه دين وامتنع من الصلاة عليه حتَّى ضمنه علي، وكذلك أجاز ضمان أبي قتادة عن الميت وعن قبيصة بن المحارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأثبت اےنبي لى الله عليهےےآلے ïےلم أسأله يهï،ےفقال: <أقے يûّےى تأتينا الصدقة فوأےر لك ها ے÷ثُمّےےقال يا قےيصة إےےالمسأےة ےے حل½إلاَّ ÷أےدےثلاےة رجل تےمل حےےلة{فَحَلَّتْ له اےمسألة حےےَى يؤدي ا إلى آخر الحديث، والحمالة هي الضمان، وقلنا: لم يبر المضمن عنه؛ لأن الحق ثابت على المضمون عنه قبل الضمان وبحصول الضمان لم يجب اسقاطه من الأصل عقلاً ولا شرعاً فهو على ما كان عليه؛ ولأنَّه لم يشترط براءته، وليس في صحة ضمانه ما يبرئ صاحب لأصل، ألا ترى أن الغاصب من الغاصب يضمن المغصوب ولا يوجب ذلك سقوط الضمان، عن الأصل فكذلك مسألتنا وإن كان أحدهما ضماناً بالقول والآخر ضماناً بالفعل، وفي قتادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على ميت، وضع بين يديه لدينارين كانا عليه حتَّى ضمنهما أبو قتادة فجعل صلى الله عليه وآله سلم يتوثق على أبي قتادة يقول هما عليك، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ألقى أبا قتادة يقول ما صنعت بالدينارين حتَّى قال آخر ذلك قد قبضتهما يا رسول الله، <فقال الآن بردت عليه جلده>،½فدل ذلك ےلى ےن الےïت لم يبرأ من الدين بالضمان ككَّى ےصل الأداء. (133/4)
ے÷ے·قےل: لو لï يكن برïء بضمانه عنه لماےصلى عليه.
ےيل ه: يجوز أن يكون ذلك ص÷ى عليه؛ لëنَّه بمنزلة من ترك الوكاء.½ےإن قيَ: فقد روي أïّے قال هما عےيك واےميے منهما برےے.ے يل له:£يحےمل أن يےون أراد بريء ےےدائك، وےوےلےيدےبن علي، عن أبيه،ûعن جده، عن علي عليهم السلام في رجل له على رجل مال فكفل له رجل بالمال، قال له: أن يأخذها بالمال، وأيضاً قد ثبت أن الضمان يصح بغير إذن المضمون له، فلو قلنا: أنَّه يسقط الحق عن الأصل لكنا أسقطنا حقه بغير رضاه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يحل مال إمرء مسلم إلاَّ بطيبة من نفسه>. (133/5)
فإن قيل: الحق الواحد كيف يكون في ذمتين؟
قيل له: وما الذي يمنع منه على أنَّه لا خلاف أن للمغصوب نه أن يطالب الغاصب أو الغاصب من الغاصب أيهما شاء إذا تلف المغصوب، وكذلك من مات وخلق ألفي درهم وابنين فاقتسما فجاء رجل فصحح بالبينة على أبيهما ألف درهم فله أن يطالب أي الاثنين شاء بألفه، وأيضاً لا خلاف أن كفالة الوجه لا تسقط المطالبة عن الأصل، فكذلك كفالة المال وإذا صح بما بيناه أن المضمون عنه لم يبرأ، ثبت أن لصاحب الحق الخيار بين أن يطالب الضامن وبين أن يطالب المضمون عنه.
مسألة
قال: وإن أبرأ صاحب المال الضامن بريء ولم يبرئ المضمون عنه وإن أبرئ المضمون عنه بريء وبرئ معه الضامن، وبه قال العلماء، ووجهه أن ثبوت الحق على الضامن ےوقوفےعلے ثبوته على المضمون عےے ومستندےإےيه، ےےے ترى أنےےهےلو لمےيكن ثابتا على ےلمضموے ےےه لمےيصح ثبوےهےےلىےےےضےےن بضمانهےوثب تهےعلى المضمون عنه غير موقوف على ثبوته على الضامن، ألا ترى أنَّه كان ثابتاً قبل أن يضمنه الضامن، ولو لم يضمنه الضامن بإبراء صاحب الحق المضمون عنه ولم يجب أن يبرأ المضمون عنه بإبراء الضامن يكشف ذلك أن الضامن يجري مجرى الرهن في أنَّه توثقة بحق ثابت، فكما أن فك الرهن لا يوجب سقوط الحق وإنَّما سقوط الحق بالإبراء والأداء هو الذي يوجب فك الرهن، كذلك سقوط الحق من الأصل يوجب سقوط الضمان، وسقوط الضمان لا يوجب سقوط الأصل، وأيضاً على سبيل التبع ولم يصح على سبيل التبع أن يسقط الأصل لسقوط الضمان. (133/6)
فإن قيل: أليس الحوالة تسقط الأصل وتبرأ المحيل وتثبت على المحال عليه، فما أنكرتم مثله في الضمان؟
قيل له: الفرق بينهما أن الحوالة هي تحويل الحق عن ذمة إلى ذمة وانتقال عن ذمة إلى غيرها فلا يجوز أن يكون الحق محولاً منتقلاً عن ذمة ثانياً فيها، والضمان إنَّما هو توثقة للحق الثابت، فوجب براءة المحيل وإن كان الحق ثابتاً على المحال عليه، ولم يجز براءة المضمون عنه مع ثبوت الحق على الضامن.
مسألة
قال: وإن وهب للضامن صار حقاً له على المضمون عنه يطالبه به، وبه قال أبو حنيفة، ووجهه أنَّه في ذمة الضامن كما أنَّه في ذمة المضمون عنه فصح تمليكه بالهبة كما صح تمليك المضمون عنه بالهبة، فإذا ملكه الضامن بقبوله من الواهب صح أن يطالب المضمون عنه وبريء المضمون عنه من حق صاحب المال في الأصل، وعلى هذا يجب أن تكون مصالحة الضامن، ويكون ذلك على ثلاثة أوجه.
وجهان منها يبرأ الضامن والمضمون عنه وهو أن يصالحه صلحاً مطلقاً فيقول قد صالحتك من هذا المال على نصفه أو أقل أو أكثر، فيجب أن يبرأ منه الضامن والمضمون عنه؛ لأن ظاهره يقتضي إسقاط البقية، فإذا أسقطها سقط حقه منها فلا يكن له مطالبة واحد منهما. (133/7)
والثاني: أن يقول صالحتك على كذا على أن يبرأ من الباقي؛ لأنَّه قد صرح ببراءته فقط، ولا يجب أن يبرأ المضمون عنه، في الوجه الأول نظر؛ لأنَّه يحتمل أن يكون أراد براءة الضامن دون المضمون عنه، ومع الأشباه لا يجوز إسقاط حق ثابت على المضمون عنه، وعلى هذا يجب أن يصح لصاحب الحق أن يصارف الضامن كما تصح مصارفته للمضمون عنه.
مسألة
قال: وإن ضمن رجل عن رجل مالاً بإذنه فأخذ صاحب المال ماله من الضامن رجع الضامن على المضمون عنه، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً؛ لأنَّه إذا ضمنه بأمره يكون في الحكم كأنه استقر من ذلك منه، ويبين ذلك أن رجلاً لو قال لآخر: اقض عني فلاناً له علي من الدين أنَّه بمنزلة من يقول ملكني الألف الذي في ذمتي بألف يقضيه عني على أن أضمن لك مثله، يكشف ذلك أن رجلاً لو قال لآخر اشتر لي هذا العبد بألف ووفر الثمن من عندك، كأنه كان قال: وف الثمن، فيكون لك علي مثله.
فإن قيل: ولم قلتم في جميع ذلكم؛ لأنَّه بمنزلة من تلتزم ضمانته مثل من يعطيه صاحبه؟
قيل له: لأن العادة جرت بأن مثل ذلك يكون على سبيل الضمان وإن الملتمس ذلك لا يسأله على سبيل التبرع وهو بمنزلة أن يقول الرجل للحال أحمل في هذا الحمل إلى موضع كذا وهو يريد الأوفيك الأجرة، ولهذا تجب الأجرة وبمنزلة من يقول لآخر قد احتجت إلى ألف درهم فلما كان ذلك كله عادة جارية في تلك المعاملات، وجب أن يحمل عليه الإطلاقات الَّتِي ذكرناها، ويجري هذا مجرى قوله للخياط خط لي هذا الثوب، فلهذا تجب فيه الأجرة، قال: فإن ضمنه بغير إذن المضمون عنه فأخذ المال عنه لم يرجع على المضمون عنه بشيء مما دفعه إلى صاحب المال، وهذا أيضاً مما لا أحفظ فيه خلافاً؛ لأنَّه متبرع به، والأصل فيه ضمان أبي قتادة وعلي عليه السلام عن الميت؛ لأنهما لم يضمنا لو كان يجب لهما على الميت ما ضمناه كان يعود حال الميت إلى ما كان عليه من وجوب الدين عليه، وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلي عليه فلما صلى عليه، علم أن الدين يسقط عليه وأن حق الضامن لم يلزمه. (133/8)
فإن قيل: صلى الله عليه وآله وسلم لأنَّه لم يلزمه حق الضامن إذ لم يكن أدَّى في الحال وسقط عنه الأول؟
قيل له: الأول لم يكن سقط عنه؛ لنه لو لزم حق آخر لم يكن ترد عنه، وأيضاً قد ثبت فيما يتطوع به الإنسان على غيره من غير إلتماس منه أنَّه في الحكم لا يلزمه شيء كأن ينفق عليه ويضيفه أو يحمل على ظهر أو يهدي إليه، فكذلك الضامن بغير إذن المضمون عنه، قال: والواجب للمضمون عنه فيما بينه وبين الله تعالى أن يلتزم للضامن ما دفعه عنه وشرط عنه يحي بن الحسين عليه السلام أنَّه إذا علم أنَّه لم يهبه له وأنه إنَّما أداه عنه ليقضيه، والأصل فيه أن من عرف من حال إنسان أنَّه أهدى الآية ليعوضه يجب أن يعوضه فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك أن حمله له متاعاً على ظهر لتستوفي الكراء وما أشبه ذلك وإن لم يكن سأله في الأصل، ذلك أوامر به فكذلك حال الضامن ومعنى قولنا يجب هو أنَّه هو الأولى والمستحب لا بالقطع بالوجوب؛ لأنا لو قطعنا بالوجوب لحكمنا عليه بذلك. (133/9)
مسألة
قال: ولو أن ضامناً ضمن المال لرجل عن رجل واشترط عليه البراءة من المضمون عنه صح ذلك، وكان ذلك بمعنى الحق..، وبه قال أبو حنيفة، وذلك أن تقضى الحوالة إن ثبت الحق على الضامن، وينتقل عن الأصل، فإذا ضمنه الضامن وسقط عن المضمون عنه فيكون ذلك معنى الحوالة.
فإن قيل: ألستم قلتم أن الحق لا يثبت على الضامن مع سقوطه عن المضمون عنه فكيف أجزتم ذلك في هذه المسألة؟
قيل له: نحن إنَّما قلنا ذلك في محض الضامن، وهذا الضمان بمعنى الحوالة، وقد بينا أن الحوالة من حماها أن تسقط الحق عن الأصل بتحويله إلى المحال عليه وبينا أن الحوالة هي انتقال الحق عن ذمته إلى ذمته، وإن الضمان الخالص هو توكيد ذمته بأخرى فلا يلزم ما سألت، وهذا يوجب صحته البراءة المعلقة على الشرط مثل صحته بالضمان المعلق على الشرط؛ لأنَّه يصحح براءة من له الحق ممن عليه بشرط ضمان الضامن، ألا ترى أنَّه لو قد أبرأت من عليه الحق على أن يضمنه فلم يضمنه لم تقع البراءة، وهذا يدل على أن الحوالة تصح بغير إذن المحيل إذا رضي بها المحتال، والقابل للحوالة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه؛ ولأنه لا يرجع القابل على صاحب الحق على ما تقدم بيانه، والله أعلم. (133/10)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال لآخر إن لم يوفد عليك غير يمك هذا حقك يوم كذا فهو عليّ ككان ذلك ضماناً صحيحاً على ما شرط، ووجهه أن الضمان يصح مع الخطر وعليه يدل إجازة يحيى عليه السلام شركة المفاوضة؛ لأنها تتضمن ضمانات مجهولة في أوقات مجهولة على أخطار مجهولة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والأصل فيه ما أجمعوا عليه من جواز ضمان الدرك؛ لأنَّه خطر ربما استحق المبيع وربما لم يستحق ولا يغرف أيضاً وقت الاستحقاق، فإذا ثبت ذلك مع الأخطار ثبت مع المجهول وإلى أوقات مجهولة كالطلاق والعتاق، وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أن الآجال المجهولة يجب أن يكون لها أسباب تتعلق بالمال والأداء حتَّى تصح، فإذا لم تتعلق لم يصح ذلك، كأن يقول: إلى أن يجيء المطراف تغيم السماء أو يطير الطائر أو ما أشبه ذلك، وليس ذلك ببعيد، والله أعلم، وإنَّما أجازوا ذلك إذا قال إلى وقت الدياس أو ورود القافلة وما أشبه ذلك؛ لأن ذلك مما يجوز أن يتعلق به إمكان أداء المال.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً كان لرجل عليه مال فأحاله على آخر فرضي به صاحب المال كان ذلك حوالة صحيحة وظاهر هذا الكلام يدل على أن الحوالة تصح بالمحيل والمال من غير اعتبار رضى المحال عليه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بد ن رضى المحال عليه واختلف أصحاب الشافعي على ما حكاه ابن أبي هريرة فمنهم من قال: لا بد من رضى المحال عليه، ومنهم من قال: تصح بغير رضى المحال عليه، قال: وهذا هو الصَّحيح، ووجه ما قلناه أن صاحب الحق ملك حقه الذي في ذمة من عليه الحق فليس له منعه من التصرف فيه كما أن العبد لما ملكه مالكه لم يكن له أن يمنعه من التصرف فيه ببيعه ممن شاء أو أجارته فيما شاء وكما أن من استأجر داراً ليسكنها أو دابة ليكبها لم يكن لصاحب الدار منعه من إسكان غيرهن وكذلك صاحب الدابة ليس له منع من إرتكاب غيره، ولأنه لو وكل وكيلاً يقبضه منه إن شاء أو يصالحه أو يبريه، فلا خلاف أنَّه ليس له أن يمتنع من توفيره عليه، فكذلك المحتال؛ لأنَّه في هذه الأمور جار مجرى الوكيل على أنَّه لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة في صاحب الحق لو وهب ما له للضامن وقبله أنَّه يصح وأنه يصير حقاً للضامن يطالب به المضمون عنه، فكذلك المحتال يجب أن يثبت حقه في ذمته بغير رضاه؛ لأنَّه ليس أكثر من تحويله حقه الذي في ذمة غريمه إلى غيره على أن الأصل في الحوالة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <مطل الغني ظلم، وإذا احتيل أحدكم على مليء فليحتل>، وفي بعض الأخبار <فليتبع>، فذكر صلى الله عليه وآله وسلم المحيل والمحتال ولم يشترط رضى المحال عليهن فدل ذلك على أن الحوالة تصح بغير رضى المحال عليه. (133/11)
فإن قيل: لا تصح الحوالة إلاَّ بقبول المحال عليه؛ لأنَّه لا يجوز المحيل إثبات دين في ذمة المحال عليه إلاَّ برضاه؟
قيل له: المحيل ليس يثبت في ذمته ابتداء الدين بل الدين ثابت فيها، وإنَّما ينقله عن نفسه إلى غيره، وليس تحقيقه إلاَّ تسليط المحتال عليه بالاستيفاء أو الصلح أو الإبراء أو التأجيل وكل ذلك بينا أنَّه يصح لصاحب الحق التوكيل فيه وليس بين التوكيل والحوالة فصل إلاَّ انقطاع حق المحيل وثبوت حق الموكل، فإذا كان المطالب واحداً كان أرفق به، فكيف يسوغ ذلك من غير اعتبار رضاه في الأغلظ ولا يسوغ في الأرفق؟ وحكي عن صاحب الظاهر أنَّه قال: إذا أحيل على ملي فليس له أن يمنع من القبول، فكأنه أثبت الحوالة من غير رضى المحتال، وذلك لا يصح؛ لأن لت أن لا يبرأ الذمة الَّتِي فيها حقه ولا ينقله إلى غيرها؛ لاختلاف أحوال الأعيان، وكذلك لا يجوز أن يكره على نقل حقه إلى بدل سواه فكذلك إلى ذكر سواها. (133/12)
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <من أحيل على ملي فليحتل>، يدل على وجوب ذلك عليه، وإذا وجب أجبر عيه؟
قيل له: ليس ذلك بإيجاب، ولكنه إباحة بالأدلة الَّتِي بيناها، وبدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يحل مال امرء مسلم إلاَّ بطيبة من نفسه>، فليس للمحيل أن يستحل مال صاحب الحق إلاَّ برضاه.
فإن قيل: فما معنى الإباحة، ومن المعلوم أن للناس أن يتصرفوا في حقوقهم على التراضي؟
قيل له: لو لا الإباحة كان ذلك ممنوعاً منه لما روي من نهيه عن بيع الكالئ بالكالئ؛ لأنَّه كان يكون بيع دين بدين، وتحصيل مذهب يحيى عليه السلام في الحوالة أنَّه لا بد من رضى المحتال ورضى أحدهما من المحيل والمحتال عليه، وقد مضى الكلام عليه في جميع ذلك إلاَّ أن المحال عليه لو التزم الحوالة ورضي المحتال بغير رضى المحيل، فإنه ر يرجع على من قبل الحوالة عنه كالضامن يقبل دون المضمون عنه، وكذلك إن كان علم شيء كان بحاله.
فصل
قال في الفنون: إن فرّ المحتال بأن المحال عليه غنيّ فوجده مفلساً فله أن يرجع، وبه قال مالك، وحكي أيضاً عن ابن شريح، ووجهه أنَّه رضي أن يتحول حقه من ذمة إلى ذمة فإذا وجد فيها عيباً كان له الخيار كما أنَّه لو رضي يحول حقه إلى سلعة فوحدها عيباً كان له الخيار، وأيضاً الحوالة عقد معاوضة؛ لأن المحتال يعتاض بما في ذمة المحال عليه عما كان له في ذمة المحيل، فيجب أن يكون له منح في الرد بالعيب. (133/13)
مسألة
قال: وينتقل حق المحتال عن المحيل إلى المحال عليه ويبرأ منه المحيل، أما ثبوت الحق عن المحال عليه فلا خلاف فيهن ولا خلاف في براءة المحيل إلاَّ ما يحكى عن زفر أنَّه جعل الحوالة كالضمان في أن المحيل لا يبرأ من الحق والدليل على ما قلناه: قوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا أحيل أحدكم على ملي فليحتل باشتراطه الملأة، يدل على براءة المحيل؛ لأنَّه لو لم برأ لم يكن على المحتال ضرر في كونه مفلساً كالضامن، وأيضاً اسم الحوالة مشتق من التحول، فدل على ذلك أن الحق قد تحول عنه، وروي عن علي عليه السلام أنَّه كان عليه لجد سعيد بن المسيب واسمه على ما قيل حزن حق فسأل علياً أن يحيل به على رجل كان لعلي عليه السلام حق ففعل فلم يصل إلى ما له من جهة الرجل فجاء إلى علي عليه السلام، فقال علي عليه السلام: اخترت علياً غيرنا أبعدك الله فلما قال ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم أنَّه كان معلوماً أن الحوالة توجب نقل الحق من المحيل إلى المحال عليه.
مسألة
قال: فإن أفلس المحال عليه كان صاحب المال أسوة الغرماء ولم يكن له سبيل على المجيل، وكذلك إن أنكر المحال عليه فلم يكن لصاحب المال عليه على إنكاره ثُمَّ يرجع إلى المحيل بشيء وبه قال الشافعي، قال أبو حنيفة وأصحابه: رجع إذا نوى المال على المحتال بإنكار المحال عليه وحلفه عند الحاكم إذا لم يكن للمحتال بينة أو موته مفلساً زاد فيه أبو يوسف ومحمد أو فلسه الحاكم، ووجه ما ذهبنا إليه أن حقه قد انتقل من المحيل ولم يبق بينه وبين معاملة، فوجب أن لا يرجع عليه إليه لحدوث ما يحدث بعده، دليله لو اشترى صاحب الحق ممن عليه الحق عبداً بماله عليه وقبضه ثُمَّ تلف لم يكن له الرجوع على البائع. (133/14)
فإن قيل: عروض هذا إن مات العبد قبل القبض؟
قيل له: ليس ذلك كذلك؛ لأن العبد إذا تلف قبل القبض يتلف والمعاملة بينهما بعد باقية؛ لأنَّه يطالبه بتسليم ما إعتاض عن حقه، وليس كذلك الحوالة؛ لنه لم يبق بينهما مطالبة بأمر يتعلق بذلك الحق فأشبه ذلك تلف العبد بعد القبض وبعد انقطاع المعاملة بينهما.
فإن قيل: قال صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا أحيل أحدكم على ملي فليحتل أو فليتبع>، فأمر بالإتباع بشرط الملأة فإذا زالت الملأه فلا يجب أن يتبع؟
قيل له: ظاهر الخبر يوجب كونه ملياً في حال الإحالة؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: <إذا أحيل أحدكم على ملّي فليتبع>، ولم تشترط الملأة في سائر، ونحن لو استدللنا بالخبر كنا أسعد، وصح الاستدلال به؛ لأنا نقول أنَّه أحيل به على ملّي فعليه اتباعه بقي على حاله وأفلس، وأيضاً لا خلاف بيننا وبينهم أن الحوالة قد أوجبت نقل الحق عن المحيل.
فإن قيل: العقود كلها مبنية على شرط سلامة الأبدال؟
قيل له: ليس كذلك فإن المرأة لو ماتت قبل الدخول ثبت المهر واستقر، وكذلك لو صالح عن دم العمد وكان المصالح معدماً لم يرجع إلى القود وإنَّما يجب ذلك في مواضع بشرط بقاء المعاملة، فأما زوال المعاملة لحدوث ما يحدث لا يوجب فسخ ما تقدم على أنا قد اتفقنا أن الحق قد انتقل ع المحيل فلا يجوز رجوعه إليه إلاَّ بدلالة ولا دلالة. (133/15)
فإن قيل: فالذمة الثابتة بدل عن الذمة الأولى بشرط قبض ما فيها؟
قيل له: عندنا في حكم المقبوض لذلك جاز لحاله ألف بألف.
فإن قيل: فأنتم تقولون أن المشتري إذا أفلس قبل توفير الثمن رجع البائع إلى عين ماله؟
قيل له: هذا لا يشبه ذلك؛ لأن المعاملة بين البائع والمشتري الذي أفلس لم تنقطع، ألا ترى أنَّه يطالبه بثمن السلعة، وإذا كانت المعاملة قاضمة فلا يمتنع من ورود الفسخ على العقد كتلف العبد قبل القبض أو حدوث عيب به قبل القبض على أنا لو قلنا أن القياس يوجب خلاف قولنا في المشتري إذا أفلس لكنا استحسنا فيه اتباع الأثر لم يكن ذلك بعيداً.
فإن قيل: أليس قد روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: (لا ترى على مسلم إذا أفلس المحال عليه رجع طالب الحق على الذي أحاله؟
قيل له: معناه إذا كان مفلساً في حال الحوالة وقربة المحتال للأدلة الَّتِي قدمناها وعلى هذا أيضاً يحمل ما روي عن عثمان من قوله لا ترى على مسلم بين صحة هذا التأويل أن الحق عندنا لم يبق على المحتال؛ لأنَّه بقول الحوالة في حكم المستوفي حقه، وإنَّما عرض التوابع استيفاء الحق حكماً وذلك لا يعتبر به يكشف ذلك أيضاً أنَّه لا خرف أن المحيل إذا مات قبل استيفاء المحال حقه يقسم ما له على ورثتهن فدل ذلك على انقطاع حقه عنه، ألا ترى أن المضمون عنه لو مات قبل استيفاء المحال حقه يقسم ما له على ورثته، فدل ذلك على انقطاع حقه عنه، ألا ترى أن المضمون عنه لو مات لم يقسم ما له ما لم يبض صاحب المال.
مسألة
قال: ولا يجوز الضمان في الحدود، ووجهه أن الضمان وضع للاستيثاق كي يتوصل به إلى استيفاء الحقوق وأمر الحدود موضوع على خلاف ذلك؛ لأنها تدرأ الحد عنه على ما ورد به الأثر، فإذا كان ذلك كذلك فلا معنى فيها للضمان؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <الزعيم غارم وضامن الحد لا يجوز أن يغرمه>، فثبت أنَّه ليس بزعيم فيه. (133/16)
مسألة
قال: وضمان العبد المأذون له في التجارة جائزة، قال في الأحكام: ضمان العبد المأذون له في التجارة جائز ولهم لازم، فكان تحصيل ذلك أنهم إذا ضمنوا جاز ضمانهم إلاَّ أنهم لا يطالبون به حتى يعتقوا؛ لأنَّه كما قال هو لهم لازم بعد قوله: ضمانهم جائز، دل على أن المراد به أن اللزوم لا يتعداهم؛ لأنهم لو طولبوا به في حال الرق كان ذلك لازماً مواليهم؛ ولأن ذلك ليس من التجارة في شيء بل هو تبرع أو استهلاك المال مولاه، فيجب أن لا يطالب به، ألا ترى أن الضمان ليس بأؤكد من الاستقراض ولو استقرض عبد مالاً لم يلزمه الأداء حتَّى يعتق، فأما لزومه إذا عتق فلأنه ألزم نفسه، ألا ترى أنَّه كالحر وإنَّما يجب تأخير مالبته؛ لأنَّه لا يملك شيئاً ولم يأذن له مولاه في استهلاك ماله.
باب القول في الصلح (134/1)
الصلح جائز في الحقوق والأموال من الرجال والنساء إذا كانوا بالغين، والأصل في جواز الصلح قول الله تعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهِا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا}، بينهما صلحاً ثُمَّ استأنف، فقال عز وجل: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، وهذا عام في جميع الصلح، وقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوْيْكُمْ}، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه أبو بكر الجصاص أنَّه قال لبلال بن الحارث: <اعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلاَّ صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً والمسلمون على شروطهم إلاَّ شرطاً حرم حلالاً>، فدل ذلك على جواز الصلح والشرط وقعا على موافقة الأصول ومقتضى الشريعة، وروي عن أبي بكر الجصاص، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <الصلح جائز بين المسلمين>، فدلت هذه الآيات وهذه الأخبار على جواز الصلح فيما ذكرنا من الأموال والحقوق بين الرجال والنساء ما لم يقع على وجه يمنع منه الأصول ودلائل الأصول.
مسألة
ويجوز الصلح في الحدود والأنساب ولا في تحليل ما حرم الله ولا تحريم ما أحل الله، إنَّما قلنا أن الصلح في هذه الأشياء لا يصح؛ لأن الصلح يجري مجرى البيع أو يجري مجرى الإبدال وشيء من ذلك لا يصح في الحدود والأنساب، البيع فيها لا يصح ولا يصح الإبراء في شيء من ذلك مستحق ولا يصح بدل شيء من ذلك غير مستحق، فصح أن الصلح فيها غير جائز وعلى هذا تحريم الحلال وتحليل الحرام إذا كان الصلح لا يغر حكم الشيء؛ لأن الحلال قد يحرم بالصلح والحرام قد يحل بالصلح، كأن يصالح الرجل عن دار بجاريته؛ لأنَّ ذلك ي معنى البيع فتحل الجارية للمصالح بعد أن كانت حراماً، وتحرم على حدهما بعد أن كانت حلالاً، وإنَّما المراد بذلك هو أن يصالح على ما جرى مجرى الزنا أو على أن يمكن الخصم من وطء جارية خصمه مدة وما أشبه ذلك، وهذا ما لا خلاف فيه، وقد ورد النص فيه حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: <إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً. (134/2)
مسألة
قال: ولا يجوز الصلح على الإنكار، وبه قال الشافعي وابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك: هو جائز، والذي يدل على ما قلنا قول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، وهذا من أكل المال بالباطل؛ لأنَّه يعطيه تفادياً من الأداء، وقوله: <إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً>، وأخذ المال ممن يتفارى به من الأذى حرام، وهذا الصلح يقتضيهن فوجب أن لا يكون جائزا، ولا خلاف أن بعض الظلمة لو صادت بعض الناس على مال معلوم فصالحه على بعضه أنَّه لا يحوز وأن المال لا يحل للآخذ وأن للمعطي الرجوع فيه ما أمكنهن فكذلك الصلح على الإنكار بعلة أنَّه أعطاه تفادياً من الأذى من غير سبب يوجبه، يكشف ذلك أنَّه بمعنى الرشوة الَّتِي تعطى لقطع الأذى إما لأن يكف أذاه في منعه الواجب أو إيصال الظلم إليه، وهذا سبيل الصلح عن الإنكار على أن عقد الصلح عقد معا وفيه؛ لأنَّه يبدل شيئاً عوضاً عن آخر، فإذا لم يكن هناك شيء يصح أن يعوض عنه كان باطلاً لبيع الهوى والربح وما أشبه ذلك. (134/3)
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ما يبدل يبدله على قطع الخصومة؟
قيل له: ذلك لا يصح؛ لأنَّه لو كان كذلك لوجب أن يحكم بالمال على المدعى عليه إن أقر بعد ذلك لو كانت الدعوى في سلعة، فصح كونها في يد المنكر بعد الصلح، فوجب أن يؤخذ منه ولوجب أن تسمع البينة بعد ذلك، ألا ترى أن اليمين لما كانت لقطع الخصومة سمعت البينة بعدها، كذلك الصلح لو كان على قطع الدعوى لوجب أن تسمع البينة بعده ولو كان ذلك كذلك لم يجب إذا صالحا عن الدراهم بالدنانير إلاَّ يفترقا قبل القبض، فكل ذلك يبين فساد قول من قال: إنَّه مأخوذ على قطع الدعوى.
فإن قيل: دخوله في الصلح يجري مجرى الاعتراف بجوازه؟
قيل له: كيف يجري مجرى الاعتراف بجوازه وهو منكر ولو وجب ذلك لوجب لمن دخل في صلح المصادرة أن يكون ذلك منه يجري مجرى الاعتراف بجوازه.
فإن قيل: الآخذ هناك معترف بالظلم؟
قيل له: إنهما وإن افترقا من هذا الوجه فقد اشتبها من حيث جمعنا بينهما، وليس يجب في الأصل أن يوافق الفرع من كل وجه؛ لأنَّ ذلك لو كان كذلك لكانا كالشيء الواحد. (134/4)
فإن قيل: كل متعاقدين دخلا في عقد فقد اعتفا بجوازه.
قيل له: ليس كذلك؛ لأن المكره على عقد لا يكون معترفاً بجوازه.
فإن قيل: ليس على من صالح على الإنكار إكراه؟
قيل له: هناك بعض الاكراه؛ لأنَّه يتفادى به من الأذى، وهذا القدر من الإكراه لا خلاف أنَّه يفسد عقود البيع وما أشبه ذلك.
فإن قيل: تقدم الإنكار لا يمنع صحة الصلح بعده كما لا يمنع صحة الإقرار بعده؟
قيل له: الإقرار لا يجامع الإنكار بل ينفيه فيخلص الإقرار لا يجامع الإنكار بل ينفيه فيخلص الإقرار من الإنكار، وليس كذلك الصلح فإنه يجامع الإنكار ويقع مع الإنكار فلم يجب أن يكون حكمه حكم الإقرار، وأيضاً لا يجوز أخذ المال على دعوى زوجية وقذف فكذلك على دعوى مال؛ لأنَّه يأخذ على بدل لم يثبت له.
فإن قيل: فداء الأشير بالمال جائز فما أنكرتم من جواز ما اختلفنا فيه.
قيل له المفاداة إذا وقعت في دار الإسلام فللمسلم أن يرجع فيما أعطى إن كان الأسير قد تخلص وإن كان في دار الكفر فإن الكفار يملكون علينا في دار الكفر بالغلبة فسبيله سبيل سائر أملاكهم الَّتِي تغلبوا عليها.
مسألة
قال: ولا يجوز الصلح عن نقد بدين المراد به إذا كان الصلح على سبيل الصرف؛ لأن الصلح يكون على سبيل البيع أو على سبيل الإبراء فإذا كان على سبيل الصرف كان كالبيع نحو أن يصالح على الدراهم بالدنانير أو عن الدنانير بالدراهم، فإنه يكون كالصرف لا يصح الصلح ما لم يتقابضا قبل التفرق، فإن لم يتقابضا في المجلس أو تصالحا على أن يكون المصالح عليه ديناً يبطل الصلح، وهذا مما لا خلاف فيه، فإن تصالحا عن ألف بخمسمائة درهم صح الصلح وإن لم يتقابضا الخمسمائة؛ لأنَّه لا يجري مجرى البيع بل هو إبراء من خمسمائة على أن يعطيه خمسمائة فلا فصل بين أن يعجلها وبين أن يؤحدها. (134/5)
مسألة
قال: ولا الصلح عن المجهول، ووجهه إما أن يكون كالبيع فيجوز فيه ما يجوز في البيع أو يكون إبراء من البعض، ولا يجوز بيع المجهول، فيجب أن لا يجوز الصلح الجاري مجرى البيع عن المجهول، ألا ترى أنَّه لا يجوز الصلح الذي هو كالصرف إلاَّ كما يجوز الصرف؛ لأنَّه لا بد فيه من التقابض في المجلس وإذا ثبت ذلك في الصلح الذي هو كالبيع فلم يفصل أحد بينه وبين الصلح الذي هو إبراء من البعض في جوازه عن المجهول فيجب أن لا يجوز الصلح الذي هو إبراء عن المجهول على أن الإبراء عن المجهول إنَّما لا يصح بدلالة ما أجمع عليه من أن لاجً لو كانت له حقوق مختلفة على رجل، فقال له: أبرأتك من حق الحقوق لم يجز ذلك، والعلة أنَّه لإبراء من المجهول، ألا ترى أنَّه لو عين الحق صحت البراءة منه، فكذلك سائر الحقوق المجهولة لا يصح البراءة منها ، فإذا لم تصح البراءة من المجهول ولا بيع المجهول وكان الصلح يرجع إلى واحد منهما لم يجز الصلح عن المجهول، وأيضاً لا خلاف أن الصلح عن المجهول لا يصح، فكذلك عن المجهول؛ والعلة أنَّه أحد عوض الصلح ويكشف ذلك أن الثمن لما لم يجز أن يكون مجهولاً لم يجز أن تكون السلعة أيضاً مجهولة.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفع إلى علي مالاً وبعثه إلى بني جذيمة حين قتل خالد بن الوليد من قتل منهم وأمره أن يدي لهم قتلاهم وما استهلك من أموالهم قال فوادهم ورد إليهم كل ما أخذ عنهم حتَّى مبلغه الكلب وبقيت في يده بقية من مال، فقال: أعطيكم هذا عما لا تعلمونه ولا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ جاءوا فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: <ما يسرني بها حمر النعم>، فدل ذلك على جواز الصلح عن المجهول. (134/6)
قيل له: لك كان منه تبرعاً ونطوعا فلهذا أجاز؛ لأنَّه لا يلزم ضمان ما لم يعلم استهلاكه ولا يد عليه مدع وكلاً منا في الحول المعلوم ثبوته إذا كان مجهولاً على أنَّه لا يمتنع أن يكون علي عليه السلام قدر فيه تقديراً ثُمَّ أعطى ما أعطى عنه وأبراؤه على ذلك هذا مما لا يصح عندنا إذا علم أن الحق المجهول داخل في التقدير؛ لأنَّه يصير معلوماً.
فإن قيل: هو اسقاط الحق فيجب أن يصح في المجاهيل كالطلاق والعتاق؟
قيل له: الصلح عقد يجري بينهما فليس بإسقاط محض.
مسألة
قال: ومن ادعى شيئاً فصولح على ما دونه جاز الصلح وإن صولح على أكثر منه لم يجز الصلح، أما الصلح على ما دونه فلا إشكال في صحته؛ لأنَّه يكون إبراء من البعض وذلك صحيح وإما إذا صالحه على أكثر منه فإنه لا يجوز؛ لأنَّه يكون ربواً؛ لأن الصلح إذا لم يتضمن محنى الإبراء فإنه يتضمن معنى البيع فكأنه باع الألف الذي هو له بألف وخمسمائة، وهذا لا يجوز؛ لأنَّه عين الربا.
فإن قيل: ألستم تجيزون أن يكون المستقرض يرد أكثر مما عليه فلم لا تجوزون الصلح على هذا الوجه.
قيل له: لأن الذي نجوزه نجوزه إذا لم يكن مشروطاً فأما إن شرط الريادة فهو حرام لا يجوز وهما إذا عقدا بينهما عقد الصلح فقد تشارطا الزيادة، وذلك يوجب كون العقد ربواً.
مسألة
قال: وإن وقع الصلح بين الغريمين على شيء مبهم أو جزاف لا يعرف أنَّه بكيل ولا وزن جاز ذلك بينهما، وذلك أن بيع الجزاف من المكيل والموزون وغيرهما صحيح وما صح في البيع فلا إشكال في صحته في الصلح؛ لأن أقصى ما يكون م حال الصلح أن يكون مشبهاً بالبيع، ويجب أن يشترط فيه أن يكون الصلح عن المكيل والموزون عن مكيل وموزون من جنسه، يجب أن يعلم ما يصالح عليه مثل ما يصالح عنه؛ لأنَّه إن كان أكثر منه لم يصح؛ لأنَّه يكون بمعنى الربا فأما إن كان المصالح عنه غير مكيل ولا موزون أو كان المصالح عليه من جنسه صح ذلك، زاد أو نقص ويجب أن يراعى ما يصح في البيع أو يتضمن في إبراء البعض فعلى هذا يجري الباب فيه. (134/7)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً مات وعليه دين فصالح بعض الورثة صاحب الدين عن نفسه وعن باقي الورثة بغير إذنهم صح في حصته ولم يصح في حصة باقي الورثة إما في نصيبه فهو ما لا إشكال فيه، ألا ترى أنَّه عندنا لو باع ما فيه نصيبه ونصيب غيره صح البيع في نصيبه، فكذلك الصلح وقوله ولم يصح في حصص الباقين معناه أنَّه لا يثبت ولا يقر ويجب أن يكون موقوفاً عندهم على إجازتهم، فإن أجازوه صح وإن أبطلوه بطل في حصصهم كالبيع إذا باع نصيب غيره أنَّه يكون موقوفاً على إجازة مالكه فإن أجاز صح البيع وإن أبطل بطل، قال: فإن ضمن لصاحب الدين ما صالحه عليه عن باقي الورثة غرم م ضمنه ولم يرجع على الورثة بما ضمن بغير أمرهم، وهذا إن كانوا قد أذنوا له في الصلح أو أجازوه بعد عقده ثُمَّ ضمن بغير آمرهم؛ لأن الضمان يصح بعد وجوب الحق هذا إذا أن الصلح بمعنى البيع، وقلنا: أن الضامن لا يرجع بما ضمن إذا كان ضمن بغير أمر المصالح عنه لما بيناه في باب الضمان وإن كان الصلح وقع على معنى الإبراء من البعض وضن المصالح الباقي بغير إجازتهم صح الضمان لذلك القدر، وإن بطل الصلح؛ لأن ذلك واجب عليهم، وهذا يدل على أن مذهبه أن الإبراء يصح إبطاله بالرد كما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه؛ لأنَّه أطلق أن الصلح لا يصح إلاَّ بإذن المصالح عنه ومن حملة الصلح الإبراء، وهذا هو الإبراء الذي يقتضي التمليك، ووجهه أنَّه يتضمن معنى الهبة فيجب أن يصح فيه الرد كما يصح رد الهبة، فأما الإبراء الذي لا يتضمن التمليك كالطلاق والعتاق وإبراء الضامن وإبراء الشفيع وإبراء البائع من عيب يجده المشتري في السلعة فإن رده لا يصح؛ لأنَّه ليقتضي عمل كي شيء ولا يحصل له معنى الهبة، فيجب أن يكون واقعاً من غير اعتبار قبول الإبراء لم يبطل؛ لأن إبراء المضمون عنه يقتضي معنى التمليك وإبراء الضامن لا يقتضي إلاَّ إسقاط المطالبة. (134/8)
مسألة
قال: وكذلك إن صالح عن الأجنبي بغير إذنه وأعطى ما صالح به أو ضمن لم يرجع به أو ضمن لم يرجع على من صالح عنه بشيء والكلام في هذا هو الكلام فيما مضى في صحة الصلح وفي كونه موقوفاً في الضمان عنه بإذنه أو بغير إذنه فلا وجه لإعادته. (134/9)
مسألة
قال: وإذا صالح المحال عليه صاحب المال صح الصلح ولم يرجع صاحب المال على المحيل بما حط للمحال عليه، وذلك أن حقه قد انتقل عن المحيل ولم يبق بينهما علقه ولا معاملة، ألا ترى أنا لا نجوز مجموع المحتال عليه أن تفلس المحال عليه أو ينكر، فأولى أن لا يرجع عليه إذا حط بعض المال ويخالف ذلك الضمان؛ لأن بالضمان لا يسقط الحق عن المضمون عنه ولا يمتنع أن يترك الضامن بعض الحق أو يرجع به عن المضمون عنه على ما قدمنا بيانه، والله أعلم وأحكم بالصواب.
باب القول في التفليس (135/1)
إذا اشترى رجل من رجلٍ سلعة ثُمَّ أفلس المشتري قبل توفير ثمنها والسلعة قائمة بعينها كان أولى بسلعته، يأخذها بزيادتها إن كانت زادت وبنقصانها إن كانت نقصت إن أحب ذلك، وإن أحب سلمها وكان أسوة الغرماء، وبه قال الشافعي ومالك، وروي عن الحسن، قال أبو حنيفة: هو أسوة الغرماء. والأصل فيه حديث قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من وجد متاعه بعينه عن مفلسٍ فهو أحق به من سائر الغرماء>، وروى ذلك عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وفي حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا أفلس الرجل وعند سعلة قائمة بعينها لرجلٍ وعليه دينٌ فهو أحق بها من سائر الغرماء>، وروي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <أن من متاعه عند رجلٍ قد أفلس فهو أحق به من سائر الغرماء>، وروي ذلك عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وعن عثمان وحكي عن ابن المنذر، أنَّه قال: لا مخالف لها في الصحابة في ذلك.
فإن قيل: روي عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: <من وجد متاعه عند رجلٍ اشتراه فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن>، وهذا اللفظ مخالف للفظ الذي رويتموه.
قيل له: هذان الخبران صحيحان كلٌ منهما يفيد معنىً صحيحاً غير معنى صاحبه فلا وجه لقولكم هذا لفظ مخالفٌ لفظ حديثكم إذا لكم يرد في معنىً واحدٍ، ألا ترى أن الحديث الثاني يستوي فيه المفلس وغير المفلس.
فإن قيل: روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا أفلس الرجل فوجد متاعه فهو فيه أسوة الغرماء>، وروي: <من باع بيعاً فوجده بعينه وقد أفلس المشتري فهو بين الغرماء>، وروي ذلك أيضاً عن عليٍ عليه السلام.
قيل له: يحتمل أن يكون معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من قوله فهو بين غرمائه إذا رضي صاحب المتاع، وكذلك ما روي عن علي عليه السلام من قوله: فهو أسوة الغرماء، إن رضي به صاحبه، وما قلناه أولى لنكون قد استعملنا الخبرين على فائدتين صحيحتين، ولا نكون أسقطنا أحدهما أو نتأوله تأويلاً بعيداً منعسفاً. (135/2)
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المراد به إذا وجده عند على سبيل الوديعة والمضاربة.
قيل له: هذا من التعسف في التأويل، لأنَّه يبطل فائدة قوله: أيما رجل أفلس، لأن المفلس وغير المفلس في ذلك سواء على أنَّه ذكر في بعض ما روي عن أبي هريرة البيع، وما روي: <إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها دون الغرماء>، وهذا يبطل قول التأويل، وقد روي عن أبي هريرة ما يُبطل هذا التأويل وهو ما روي أنَّه قال في الرجل الذي أفلس هذا الرجل الذي قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيما رجلٍ مات أو أفلس فصحب المباع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه وتأويل الراوي للحديث إذا بينه يكون أولى من تأويل غيره.
فإن قيل: فإنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: <إذا وجد ماله بعينه>، فأضاف المال إليه، وهذا يدل على صحة تأويلنا أن المراد به الوديعة ومال المضاربة، لأن البائع إذا باع لا يكون المال له وعندكم أيضاً أنَّه لا يملكه إلاَّ إذا اختار ذلك.
قيل له: هذا الإضافة قد تستعمل على وجوهٍ، وإن لم يرد به تحقيق الملك، قال الله عز وجل: {هَذَهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا}، وفي الحال كان الشيء قد خرج من ملكهم، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: <من باع عبداً فماله للبائع>، فأضاف المال إلى العبد ولم يرد إضافة الملك.
فإن قيل: ما أنكرتم من تأويلنا أن جاز ما قلتم.
قيل له: لأن الخبر ورد في بيان حكم التفليس، وجعل الحكم متغيراً بالإفلاس، وتأويلنا يفيد ذلك وتأويلكم يجعله .... فصار تأويلنا أولى على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ذكر الحكم وذكر السبب فوجب أن يكون السبب سبّب الحكم، كما روي أنَّه سهى فسجد كان السهو سبب السجود ولما روي أن ماعزاً أقر بالزنى فرجم كان الإقرار بالزنى سبب الرجم، وإذا صح ذلك لم يبق إلاَّ تأويلنا، ولأن تأويلهم يجعل الحكم غير متعلق بالسبب الذي هو الإفلاس ويجعل وجوده وعدمه سواء على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: <فهو أحق به>، فهذه اللفظة تستعمل للتقديم دون تقرير الملك، لأنَّه لا يقال أن المغضوب منه أحق بالمال من الغاصب، وإنما يقال أن المرتهن أولى بالرهن من الراهن، وإذا كان كذلك فتأويلهم أن المالك للمال أحق ممن لا ملك ولا حق له فيه، وذلك لا يستعمل فيصح بهذا إسقاط تأويلهم وثبوت تأويلنا ولا خلاف أن البائع أحق بالسلعة قبل التسليم إذا أفلس المشتري فكذلك التسليم، لأنَّه وجد ماله بعينه يعني في حال إفلاس المشتري قبل استيفاء به الثمن وأيضاً هو مشارك للغرماء في الدين ومنفرد بوجود ماله فوجب أن يكون أحق به لتلك المزية كالمرتهن لما شارك الغرماء في الدين وانفرد بالرهن، كان مقدماً على غيره وأحق به لتلك المزية ويجمع بينهما بأن يقال المعنى وجود العين المتعلقة بما في ذمته كان له الخيار في الرجوع في عين ماله، لأنَّها عارضة على أن يسلم له بذلك بدله، فلذلك ما اختلفنا فيه، وأيضاً لو باعه فوجد به عيباً أو حدث فيه عيب قبل التسليم كان له الخيار في فسخ البيع وكذلك من وجد متاعه بعينه عند مفلسٍ، لأن الثمن صار معيباً بكونه في ذمة مفلس فوجب أن يكون له الخيار، لأن أحد عوضي المتابعين صار معيباً قبل قبضه. (135/3)
فإن قيل: تعلقوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يحل مال امرء مسلم إلاَّ بطيبة من نفسه>.
قيل لهم: عندنا إذا اختار البائع فسخ البيع ملكه، فقد صار ماله، ولا يحل للمشتري على أن ذلك لو لم يكن على ما قلنا، كان مخصوصاً بخبر الإفلاس، لأنَّه خاص وما ذكرتم عام ومن مذهبنا بناء العام على الخاص. (135/4)
فإن قاسوه على الرهن بعد رده ... لم يصح ذلك، لأن لا تعلق للحق به إلاَّ ما أمر هنا فإذا رده لم بق بين الدين وبينه تعلق، وأما الحق له فإن المخار لا يرجع إلى المحيل فليس يقدح فيما قلناه، لأنَّه لم يبق بين المحيل والمحتال تعلق، فلا مطالبة لأن حق المحتال قد تحول عنه إلى المحتال عليه فصار كالأجنبي، على أنَّه قد يمكن أن يغلب عليهم فيقال لهم هلا كان له الرجوع كما كان للمحتال على أن سؤال الحق له لا يصح من أحد من الفريقين إذا تكلموا في مسألة التفليس، لأنَّه ينقلب عليه على أنا تبعنا فيهما الأثر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا أحيل أحدكم على ملئ فليتبع} ولم يشترط الملأة في حال الإتباع، وإنما اشترط في حال الإحالة، وقال: <من وجد ماله بعينه عند مفلسٍ فهو أحق به>.
فإن قيل: لو كان سبيله سبيل أن هلك المبيع لوجب أن يبطل البيع وليس ذلك مذهبكم، وإنما مذهبكم أن له الخيار في الفسخ.
قيل له: ليس سبيله سبيل أن يهلك العبد، وإنما سبيله سبيل أن يأبق العبد قبل التسليم في أن له الخيار بين أن يصبر إلى أن نظفر به وبين أن يفسخ البيع.
فإن قيل: صاحب الآبق طامع في أن يظفر به.
قلنا: وبائع العبد طامع في أن يظفر بالثمن، بأن يؤسر المفلس إن كان حياً، وأن يظهر له مال إن كان ميتاً، وحكى عن مالك أنَّه فرق بين الموت في الحياة، فقال: هو أسوة الغرماء إذا مات المشتري وأحق بعينه إذا أفلس وهو حي فتعلق بما روي: <أيما رجل هلك وعند متاع أمر بعينه فهو أسوة الغرماء>، وهذا عند محمول على أنَّه أراد أن ترك الميت وفاءا وأن رضي البائع وحكي عند أنَّه قال: <إذا مات فقد بطلت ذمته>، فقد وجب أن يشترك الجميع فيه، وهذا أبعد، لأن بطلان الذمة يقتضي فساد الثمن وحدود العيب فيه، فالأولى أن يكون للبائع الخيار في فسخ البيع، ألا ترى أن المرتهن أولى بالرهن من سائر الغرماء إذا أفلس الراهن أو مات مفلساً فكذلك البائع لا يجب أن ينفصل حاله بين أن يفلس غريمه وبين أن يكون مفلساً، وحكي عن مالك أنَّه قال: إن وجده زائداً قال لهم الخيار بين أن يعطوه ثمن المتاع وتباع السلعة لهم وبين أن يتركوه، وما ذهبنا إليه من أنَّه أولى به إن وجد زائداً. وبه قال الشافعي ووجهه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، جعله أحق به إذا وجده بعينه ولم يستثن حال الزيادة كما لم يستثن حال النقصان إلاَّ حال البقاء على ما كان عليه فوجب أن يوجب أن يستوفي حاله في ذلك ولأن المرتهن يكون أولى بالرهن زائداً أو ناقصاً لاستحقاق سبب حقه فلذلك مال المفلس، ولأن الخيار لما كان للبائع دون الورثة والغرماء في حال نقصان السلعة أو بقائها على حالتها وجب أن يكون له الخيار مع زيادتها، لأنَّه بائع وجد عين ماله عند المفلس. (135/5)
فإن قيل: إذا أعطاه الغرماء الثمن فقد زال الضرر فلا وجه لعودة إليه.
قيل له: هذا يلزمكم مع نقصان الحال أو البقاء على ما كان عليه وأيضاً من باع سلعة فوجد في إحداهما عيباً في المبيع وردع الآخر في سلعته وإن كان زائدة فكذلك مسألتنا.
مسألة
قال: وإذا اشترى رجلٌ من رجل أرضاً مع زرعها ثُمَّ أفلس المشتري فبائع الأرض أوى بالأرض وما فيها من الزرع ووجهه أن الزرع عين ماله كما أن الأرض عين ماله فوجب أن يكون هو أحق به لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <من وجد متاعه بعينه عند من أفلس فهو أحق به>، ولأن الأرض ليست أولى بذلك من الزرع فصارا سواء، فإن كان المشتري قد استهلك الزرع فالبائع أولى بالأرض ويقم الثمن على الأرض، والثمر، فمن خص الثمر كان فيه أسوة الغرماء وذلك أنَّه لما وجد الأرض بعينها فجرى مجرى البائع إذا أفلس بعدما استهلك السلعة فإنه يكون في ثمنها أسوة الغرماء ما لا خلاف فيه، وإنما قال أن الثمن بقسط على الأرض والثمر، لأن كل من اشترى شيئين بثمنٍ واحدٍ ثُمَّ احتيج إلى فسخ البيع في أحدهما لم يكن بد من تقسيط الثمن عليهما على مقدار قيمتهما والأقرب عندي والله أعلم أن قيمته قيمته يوم عقدا البيع، وقد نص عليه في الأحكام، لأنَّه الوقت الذي استحق الثمن عوضاً عنهما واستحقا عوضاً من الثمن لا كما حكي عن الشافعي أنَّه يعتبر قيمتهما يوم القبض، لأن القبض لا تأثير له في أن يصير الثمن عوضاً للمشتري والمشتري عوضاً، وإنما تأثير في استحقاق التسليم له في أن يصير الثمن عوضاً للمشتري والمشتري عوضاً للثمن وإنما تأثيره في استحقاق التسليم. (135/6)
مسألة
قال: وإن اشتراها ولا زرع فيها فزرعها ثُمَّ أفلس فصاحب الأرض أولى بأرضه، وجيب عليه أن يصبر للغرماء حتى يحصدوا زرعها، وقلنا أنَّه أولى بأرضه، لأنَّه عين ماله وقلنا أن الزرع للغرماء، لأنَّه مال المفلس لم يملكه من جهة البائع وكان هو وسائر أمواله سواء وقلنا يصبر لأن الزرع لم يكن متعدياً فلم يكلف قلعه المؤدي إلى تلف الزرع وفساده كما أنَّه لو أعاره أرضاً لم يكن متعدياً في زرعه.
مسألة
قال: والقول في تأثير النخل كالقول في الزرع.
قال يحيى بن الحسين عليه السلام: من اشترى نخلاً فيه تمر طلع قد أبره واستثناه المشتري فاستهلكه المشتري ثُمَّ أفلس، كان صاحب النخل أولى بنخله وكان أسوة الغرماء فيما استهلكه من التمر، وذلك أن الطلع إذا أبر وخرج كان ذلك عين ماله، فكن ثمناً للنخل والطلع فكان حكمه ما ذكرنا في الزرع، فإن باعه غير مؤبر فسبيله سبيل من باع أيضاً لا زرع فيها فزرعها المشتري على ما بيناه، فكذلك يلزمه أن يصبر للغرماء إلى وقت الحصاد، لئلا يفسد أموالهم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: < لا ضرر ولا ضرار في الإسلام>، قال وعلى هذا يجب أن يكون من اشترى أرضاً وشجراً من شجر الفواكه مع ثمرها إلى قبل خروج الثمر ثُمَّ خرج التمر ثُمَّ أفلس المشتري على التفصيل الذي بيناه، قال وكذلك من اشترى أشجاراً فتلف بعضها وبقي بعض، ثُمَّ أفلس المشتري أنَّه يأخذ من ما وجد بعينه، ويكون أسوة الغرماء في ثمن ما تلف على التفصيل الذي بينا، فكذلك حكم سائر الأموال إذا استهلك بعضها وبقي بعض والوجه في جميع ما قلنا هو الذي مضى، فلا معنى لإعادته وسيجئ بعض هذه المسائل بعد هذا. (135/7)
مسألة
قال: وإن اشتراها ثُمَّ بنى فيها وغرس ثُمَّ أفلس فلصاحب الأرض أن يأخذ أرضه بما فيها من البناء والغرس، ويعطي الغرماء قيمة البناء والغرس إن أحب، وإن أبى ذلك فللغرماء الخيار إن شاءوا قلعوا البناء والغرس، وسلموا الأمر إلى صاحب الأرض، وإن شاءوا أعطوه ثمن الأرض وأخذوها ما فيها من البناء والغرس وإن أبوا ذلك حكم عليهم بثمن الأرض المبيعة في الأصل للبائع وأخذوا الأرض وما فيها. قال في الأحكام: البائع بالخيار إن أحب أخذ أرضه وأعطاه قيمة البناء والغرس وأن أحب سلم للغرماء وأعطوه ما كان باعها به وإن أبى ذلك وأحب أن يقلعوا ما فيها من الغرس ويدفعوا إليه أرضه فعلوا، ولم يحكم بذلك عليهم فإن أبوا حُكِم للبائع بما باع به الأرض وسلمت الأرض والغرس والبناء إلى الغرماء فحكم بتسليم الأرض وما عليها إلى الغرماء بالثمن محتملاً للأمرين ثُمَّ قال بعد ذلك في مسألة من اشترى داراً وهدمها وأعادها ثُمَّ أفلس أن البائع يأخذ الدار ويعطي قيمة ما زاد في العمارة للغرماء أو يسلم الدار ويكون أسوة الغرماء فبين أن المراد في المسألة الأولى أنَّه أن سلم الأرض وما عليها أخذ الثمن على أن يكون أسوة الغرماء فصا تحصيل مذهبه في المسألتين جميعاً الأولى وما بعدها أن البائع أولى بالأرض والبناء والغرس إن اختار ذلك وأعطى الغرماء قيمة البناء والغرس قائمين فإن لم يختر ذلك سلم الأرض وما عليها للغرماء وكان هو في الثمن أسوتهم بأخذ منه بالحصة وأما هدم البناء وقلع الغرس فإنه يجوز إذا تراضى الجميع به البائع والغرماء على سبيل أن يختار الجميع ذلك. ووجه ما قلناه من أن البائع مخير بين أن يأخذ الأرض وما عليها من البناء والغرس ويدفع إلى الغرماء قيمة البناء والغرس إن أحب ذلك، لن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعله أولى بأرضه، لأنها عين ماله بقوله: <من وجد متاعه بعينه عند رجلٍ، ثُمَّ أفلس فهو أحق به>، ومنع صلى الله عليه وآله وسلم الضرر بقوله: <لا (135/8)
ضرر ولا ضرار في الإسلام>، فكأنه قيل له: أنت أحق بعين مالك على أن لا يضار أحداً فقلنا أنَّه يأخذ أرضه بدفع قيمة البناء والغرس قائمين لئلا يكون أضر بالغرماء في استيفاء حقه، يكشف ذلك أن الإباحة والحضر إذا اجتمعا غلب الحضر وهاهنا أخذ البائع للأرض مباح، وإدخال الضرر على الغرماء محظور فقلنا له ادفع الضرر عنهم ليصل إلى المباح، ألا ترى أن أحد الشريكين إذا أعتق نصيبه ضمن نصيب شريكه ليدفع عنه الضرر الذي لحقه من جهته باستيفائه نصيبه حقه وكذلك ما إذا عفي عن القاتل لم يكن للوارث الآخر قتله لأنَّه يضر بالقاتل باستيفاء حقه فكذلك ما قلناه. (135/9)
فإن قيل: فما تقولون في الشفيع إذا امتنع من دفع قيمة ما بناه المشتري.
قيل له: القياس يوجب أن يسلم شفعته إن امتنع من ذلك إلاَّ على رواية الفنون فإنه يقول أنَّه يلزم المشتري قلعه بغير عوض، وإن كان الأصح ما قلنا من أنَّه يسلم الشفعة متى لكم يضمن قيمة البناء، لأن الباني لم يكن متعدياً فيه، وقلنا: أنَّه أن امتنع من إعطاء القيمة سلم الأرض وما عليها وكان أسوة الغرماء، لنه لما امتنع من توفير قيمة البناء والغرس لكم يمكنه استيفاء حقه الذي أبيح له الآباء دخال الضرر على الغرماء وهو محظور فقلنا أنَّه لا سبيل لك إلى استيفاء هذا الحق فأعدل عنه إلى الوجه الثاني، وهو أن يكون أسوة الغرماء لتكون استوفيت حقك من غير مضارة أحد كما قلنا في الشفيع على أنَّه في هذه المسألة أبين، لأنَّه يعدل عن استيفاء حقه إلى استيفاء حق كان له بالخيار فيهما فصار استيفاء الحق الذي لا مضارة فيه لأحد أولى والشفيع متى سلم الشفعة فقد أبطل حقه، لأنَّه عدل عن استيفاء أحق إلى استيفاء حقٍ، وأما قلع البناء والغرس جميعاً وما يكون إضراراً فقلنا أنَّه لا يكون إلاَّ بتراضي الجميع، لأن فيه إضراراً بالأرض والبناء والغرس جميعاً، وما يكون إضراراً بالجميع لا يصح إلاَّ بتراضي الجميع، ألا ترى أن الثوب الواحد لا يقسم بين الشريكين إلاَّ بتراضيهما جميعاً، لأن فيه ادخاله الضرر على كل واحدٍ منهما فلذلك القلع. (135/10)
مسألة
قال: وإذا اشترى رجلٌ من رجلٍ جاريةً فولدت الجارية عند المشتري أولاداً من غيره ثمر أفلس فالبائع أولى بالجارية دون الأولاد ويقضهم للغرماء وذلك أن الجارية هي عين ماله وليس كذلك الأولاد، لأن منى قولنا عين ماله أنَّه هو الذي تناوله عقد البيع من جملة ماله والأولاد إذا أحدثوا بعد ذلك لم يكونوا مال البائع قط، ولم يتناولهم عقد البيع، وإنما كانوا ابتدءوا في ملك المشتري فكانوا كسائر أمواله. قال: وإن كانت الجارية ولدت من المشتري كانت أم ولد وكان البائع أسوة الغرماء، لأنَّه لا يجد عين ماله قائماً، لأن أم الولد لا نكون ما لا يصح التصرف فيه بالبيع والهبة فصارت مستهلكة حكماً فلا يكون للبائع عليها سبيل، ولأنها لا يصح فيها الانتقال من مالكٍ فلم يصح أن تنتقل من ملك المشتري إلى البائع أولى بها وبولدها وذلك أن الولد كان مالاً للبائع كالأم لا ترى أن أفراده بالحكم كان يصح، لأنَّه لو أوصى به صحت الوصية وكذلك لو أعتق صح عتقه، وعندنا أنَّه لو باع الأم واستثنى الولد الذي في بطنها صح البيع والاستثناء جميعاً، فبان أنَّه كان ملكه وماله وإن عقد البيع تناولهما ولم يحصل للولد لا الزيادة فقط وحصول الزيادة على ما بيناه فيما مضى لا يمنع استحقاق البائع له فوجب أن يستحقه مع الأم ويحتمل في المسألة كان الأولاد صغاراً أن للبائع إما أن يأخذ الأم ويعطي قيمة الأولاد ويأخذهم لئلا يؤدي إلى التفرقة بين الأم والأولاد، وإما أن يسلم بجميع ويكون أسوة الغرماء كما قلنا في البناء والغرس، لأنَّه لا يصل إلى المباح له من أخذ الأم متى لم يأخذ الأولاد بقيمتهم إلاَّ بفعلٍ محظورٍ من التفرقة بينهم فقلنا له إما أن يأخذ الجميع ويعطي قيمة الأولاد ويسلم الجميع ويكون أسوة الغرماء. (135/11)
مسألة
قال: وإن اشترى مملوكاً ثمر وهب له مالاً تمرأفلس كان البائع أولى بالعبد دون المال ويقضي بالمال للغرماء والعلة أنَّه مال المشتري كسائر أمواله، لأنَّه العبد لا يملك مالاً وإن اشترى مع المال، كان البائع أولى به وبماله وذلك أنَّه مع المال جميعاً عين مال البائع الذي كان باعه وكان العقد تناولهما فلم يكن أحدهما أولى أن يأخذه البائع من الأمر فوجب أن يكون له أخذهما جميعاً، لأنهما عين ماله وجدهما عند المفلس، قال: وإن كان المشتري قد استهلك ماله كان البائع أولى بالعبد وهو في ثمن المال أسوة الغرماء وذلك أن العبد عين ماله وجد فله أخذ والمال صار مستهلكاً فكان ما يصخه من الثمن ديناً لسائر أولئك التي على المفلس، فوجب أن يكون أسوة الغرماء، ولأنه لا يصخ فسخ البيع فيما استهلك كما بيناه في الأرض إذا اشتراها مع الزرع ثمر أفلس بعد استهلاك الزرع. قال: وكذلك إذا اشترى إبلاً وغنماً فتلف بعضها فالبائع أولى بما بقي وهو فيما تلف أسوة الغرماء بأخذ ما بقي، لأنَّه عين ماله ويكون في الباقي أسوة الغرماء على ما بيناه من أن المستهلك لا يصح فسخ البيع فيه، وبإن قسه من الثمن تكون كسائر الغرماء، ولأنه بمنزلة أن يجد السلعة كلها مستهلكه في أنَّه يكون في جميع الثمن أسوة الغرماء كذلك البعض إذا وجده مستهلكاً . (135/12)
مسألة
قال: ولو أن المشتري وفر على البائع بعض ثمن السلفة ثُمَّ أفلس كان البائع شريك الغرماء في السلعة لهم منها مقدار ما قبض من البائع من ثمنها، وبه قال الشافعي في أحد قوليه وهو الجديد، وقال في القديم: لا يأخذ شيئاً من السلعة ويكون فيما بقي من ثمنه أسوة الغرماء.
ووجه ما قلناه: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <من وجد متاعه بعينه عند مفلس فهو أحق به>، والمراد إذا لم يكن قبض ثمنه وهنا قد وجد بعض متاعه لك يقبض ثمنه، فوجب أن يكون أحق به.
فإن قيل: روي ما لم يقبض من ثمنه شيئاً .
قيل: المراد عندنا أنَّه أحق بجميعه ما لم يقبض من ثمنه شيئاً، فإن كان قبض من ثمنه شيئاً لم يكن أحق بجميعه، وإنما يكون أحق بمقداره ما لم يقبض من ثمنه شيئاً. (135/13)
فإن قيل: فكيف صار تأويلكم أولى من تأويلنا؟
قيل له: لأنا وفينا كل واحدٍ من الخبرين فائدته، على حياله فجعلنا الخبر المشهور عاماً، وجعلنا خبركم خاصاً ومتى جعلنا الخبر ين على تأويلكم لم يكن للخبر المشهور فائدته وهو قوله: <فصاحبه أحق به>، وأيضاً لو وجد جميع متاعه لم يأخذ ثمنه لكان أحق به فكذلك إذا وجد متاعه والعلة أنَّه وجد متاعاً له عند مفلس لم يقبض ثمنه.
فإن قيل: قولكم يؤدي إلى تفريق الصفقة على المشتري.
قيل له: وما ننكر من ذلك نحن نرى تفريق الصفقة في مواضع كثيرة إذا ذلك الدليل عليه كما يقول في الشفعة وفي من باع ملكه وملك غيره ونحو ذلك.
مسألة
قال: وإذا اشترى رجل من رجل داراً فغير بناءها فزاد فيه فللبائع أن يأخذ الدار بزيادتها، ويلتزم للغرماء قيمة الزيادة إن أحب ذلك، وإن أبى كان ذلك أسوة الغرماء وهذا قد بيناه فيما مضى فلا وجه لإعادة المسألة.
قال: فإن كان المشتري غير بناها ونقص منه، كان البائع أولى بالدار يأخذها وكان فيما نقص أسوة الغرماء نص عليه يحيى في الأحكام، وقال فيه أيضاً: من اشترى أرضاً فيها شجر ثُمَّ أفلس وقد تلف الشجر كان للبائع أن يأخذ الأرض بما فيها ويطالبه مع الغرماء بالذي تلف، وقال فيه بعد هذا الفصل: فإن اشترى جارية حسنة الحال موصوفة بالفراهة ثُمَّ أفلس وقد ساء حالها أو أعورت أو زمنت لم يكن له غير أخذها بنقصها كما يأخذها بزيادتها، فكان تحصيل مذهبه أنَّه رأى النقص على ضربين نقص لا يمكن تقسيط الثمن عليه ابتداء ولا يمكن إفراده بعقد البيع ويقسط الثمن عليه، ألا ترى أن البائع إذا اشترى عبداً أو داراً على السلامة ثُمَّ وجد فيهما عيباً فما ذكرناه أو ما جرى مجراه لم يكن له إلاَّ الخيار بين أخذه أو رده ويمكن أن يعبر عنه بنقص الصفة مع بقاء العين فما جرى هذا المجرى من النقص إذا وجده البائع في المبيع وقد أفلس المشتري فإن شاء أخذه على ما به من النقص وإن شاء سلمه وكان أسوة الغرماء كما أن المشتري إن شاء أخذه وإن شاء رده بالعيب واسترد الثمن والنقص الثاني كان يذهب الشجر ويستهلك وكان يجد الجذع فيذهب بعض العين وهذا مما يمكن أن يفرد بعقد البيع ويمكن أن يقصد عليه الثمن، ألا ترى أن من باع أرضاً مع أشجار فأخذت الأشجار قبل التسليم فإن الثمن يقسط على الأرض، والأشجار وليس كذلك إذا انكسرت الأشجار وبقيت منكسرة، فما كان من النقص يجري هذا المجرى، فإنه يأخذ الأصل ويضرب بما يخص الضارب من الثمن م الغرماء فعلى هذا لو اشترى ناقة مع فصلها ثُمَّ أفلس ومات الفصيل، فإن البائع يأخذ الناقة ويضرب مع الغرماء فيما يخص الفصيل من الثمن، فإن اشتراها سمينة ثُمَّ أفلس وقد هزلت فليس للبائع إلاَّ أخذها مع هزالها أو تسليمها ليكون أسوة الغرماء فعلى هذا يجب أن يجري الباب في هذا المعنى وعلى هذا أيضاً يجب أن يجري حكم الزيادة على ما تقدم. (135/14)
فإن قيل: ألستم تعتبرون في الشفعة أن يكون الذاهب ذهب بجناية المشتري، ولا بجنايته فيقولون إن المشتري إن كان قطع الأشجار وكذلك الثمار فإن الثمن يقسط على الأرض وعلى الأشجار والثمار وإن كانت الأشجار والثمار تلفت بالرياح والأمطار لم يكن للشفيع إلاَّ أخذها على ما بها بجميع الثمن أو تركها فلا قلتم مثل ذلك في بائع المفلس. (135/15)
قيل له: الفرق بينهما إن المشتري يصير للشفيع في حكم الوكيل، لأن عقد البيع يصير إلى الشفيع عن المشتري كما يصير إلى الموكل عن الوكيل والوكيل إذا اشترى ثمر تلف بعضه بغير جناية منه لم يضمن، وإن تلف منه شيء بجناية ضمن فكذلك حكم المشتري مع الشفيع وبائع المفلس جعل الحق بما يجده بعينه من المتاع فما وجده أخذه على أي صفةٍ كان من زيادة أو نقصان ما لم يجده بأن يكون قد ذهبت عينه فلا يمكنه أخذه فلا بد أن يكون فيما يخصه من الثمن أسوة الغرماء وما ذهبنا إليه في بائع المفلس به قال الشافعي.
مسألة
قال: وإذا ادعى الرجل الإفلاس، وادعى غرماؤه أنَّه مؤسر حبسه الحاكم إلى أن يقيم البينة على إفلاسه، فإذا ابن إعساره خلى عنه فإذا ادعى الغرماء إيساره بعد أن فلسه الحاكم فعليهم البينة وعليه اليمين، وهذا كله منصوص عليه في المنتخب غير تحقيق لزوم البينة في المسألتين، فإن كلامه دل عليه، لأنَّه لما نص على وجوب حبسه بأنه رأى أن الضارة مع الغرماء، لأن الحق قد ثبت لهم وهو يدعي أمراً يسقط مطالبتهم، وفي المسألة الثانية نص على أنَّ على المفلس اليمين فحقق أن الظاهر معه بعد تفلس الحاكم فقلنا البينة على من يدعي له اليسار، وقال في الأحكام: يحبس المليء المماطل لغريمه بعد الحج، فأما المعسر الفقير فلا يحبس، فدل أنَّه لما قال في المنتخب أن الحاكم يحبسه إن رأى أن الظاهر مع الغرماء فيما ادعوا من يساره، وقال في الفنون: إذا أقر بالحق وذكر أنَّه معدم لا مال له فالبينة على من يدعي أنَّه واجد، واليمين على من ذكر أنَّه مُعْدم. (135/16)
اعلم أن وجه ما ذكر من أن الحاكم يحبسه ما ذكرناه من أن من لزمه حق لإ...يلزمه الخروج منه، فإذا ادعى أمراً يسقط عنه الخروج لم يصدق إلاَّ بالبينة ولهذا قلنا فيمن أقر لآخر أن عليه مالاً فادعى أن مؤجل ثبت عليه المال ولم يثبت الأجل إلاَّ بالبينة على الإعدام سمعت منه، وقال في الأحكام والمنتخب يستكشف الحاكم أمره فإن ابن له أنَّه على حبسه وإن ابن له الإعسار خلي عنه واعلم أن الحبس يكون على وجهين: إما أن يحبسه الحاكم لالتباس حاله في اليسار والإعسار إلى أن يكشف حاله بالبينة أو بأن يقف الحاكم على أنَّه مليء مماطل لغريمه، والأصل في الحبس ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس ناساً من أهل الحجاز اقتتلوا فقتلوا بينهم قتيلاً، وروي أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حبس رجلاً في تهمةٍ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: <مطل الغني ظلمٌ>، فإذا جاز حبسه بالتهمة، جاز حبسه للظلم أولى، وروي أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حبس رجلاً أعتق شقصاً له في مملوك حتى باع غنيمة له، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ..زلي الواح يخل عرضه وعقوبته ومعلوم أنَّه لم يرد بالعقوبة الضرب، فثبت أنها الحبس، وروى زيد بن علين عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أنَّه كان في النفقة وفي الدين وفي القصاص وفي الحدود وفي جميع الحق والحبس في الحقوق أمر يتعارفه المسلمون من الصحابة إلى يومنا هذا قد أطبقوا عليه قولاً وفعلاً لا يتناكره منهم أحد فجرى مجرى سائر الاجتماعات. (135/17)
وقلنا: أنَّه يحبس إذا التبس أمره، لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <حبس للتهمة>، ولم يجد يحيى بن الحسين عليهما السلام حبس إلاَّ لقياس عدة قليله ولا كثيره، وإنما قال: يحبسه حتى يكشف أمره، وذلك يحتمل قليل الزمان وكثيره، وبه قال أصحاب الشافعي، قال أبو جعفر الطحاوي: يحبسه الحاكم شهراً ثُمَّ يسأل عنه. وقال أبو بكر الجصاص، روى محمد: شهرين أو ثلاثة. قال: وقال محمد عن نفسه: ما بين أربعة أشهر إلى ستة أشهر، ثُمَّ يسأل عنه، والصحيح ما قلنا من الاعتبار بما يكشف معه حاله في ظاهر الأمر دون اعتبار مقادير الأزمنة، لأن الغرض هو الوقوف على حالة فمتى ظهر من حاله الاعتبار في يسير الأمان كان حبسه بعد ذلك ظلماً، يقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٍ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، لأن الحبس كان لاستكشاف حاله فإذا انكشف وهر الأمر زالت التهمة وكان محبوساً لا لغرضٍ فيكون ظلماً. (135/18)
فإن قيل: فيجوز أن يكون له مال مخبوءٌ ولا يظهر ما لم يضجر ويضجر في هذه المدة غالب الأحوال.
قيل له: هذا القسم الذي قلتم لا معنى له، لأن من الناس من يحامي عن ماله فيصبر على الضرب المبرح والتعذيب الشديد، وإن كان فيهم من لعله يبدل طارفه وتالده تفادياً من جفوة تلحقه فآل ما ذكرنا على أن اعتبار أصحاب أبي حنيفة لا معنى له، وأن الصَّحيح ما قلناه وقوله في الفنون: أن البينة على من يدعي أنَّه مؤسر واليمين على من يدعي الاعتبار فيجوز أن يكون أراد بذلك في الحقوق التي على غرامات ولا يكون وصل إلى المدعي عليه مال كالمهر والضمان والديات فارش الجنايات وليس يبعد ذلك الأصل في هؤلاء أنهم لم يملكوا فأما فيمن أخذ مالاً فيجب أن يجري على ما قال في الأحكام والمنتخب أمره ويجوز أن يكون ما في الفنون لأمر مرجوعاً عنه والأصح عندي على الوجوه كلها ما في الأحكام والمنتخب والله أعلم.
مسألة
قال: وإذا قصر مال الرجل عما عليه من الديون حجر عليه الحاكم وفلسه وباع عليه كل ما استغنى عنه من جميع ماله، وفي ....، أما حجر الدين فقد بيناه في كاب أبي القاضي أنَّه صحيح وذكرنا وجه فلا وجه لادعائه وأما بيع ما له عليه فقد وافق فيه أبو يوسف ومحمد والشافعي وقال أبو حنيفة: لا يباع عليه ماله إلاَّ الدراهم والدنانير فإنه يباع عليه استحساناً، وكذا أوردنا طرفاً من الكلام في هذا الباب التسليط على الرهن، إلاَّ أنا.... هنا في كشفه وإيضاحه فمما يدل على ذلك مار وي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حجر على معاذ وباع ماله للغرماء. (135/19)
فإن قيل: معناه أمره بالبيع جاز أن يقال باع كما روي في حديث سويد بن المعرن أنَّه كانت له جارية فلطمها، فقيل في بعض الألفاظ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمره بعتقها، وفي بعضها: فأعتقها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الله عز وجل في قصة فرعون: {يَذْبَحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} ولم يكن يفعل ذلك، وإنما كان يأمر به.
قيل له: ظاهر ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، باع عليه يقتضي أنَّه هو الذي باع عليه وحمله على الأمر مجاز بعيد، لأن ذلك لا يكاد يستعمل في معنى أمر صاحب المال ببيعه ولا يجوز حمل ما روي على مجاز بعيد بغير دلالة، وما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمر بعتقها في بعض الأخبار وفي بعضها أنَّه أعتقها يجوز أن يكون أمر بعتقها ثُمَّ أعتقها بنفسه، ليصح الخبرانب، وقصه فرعون فبخلاف ما قلناه لأنه مشهور في التعارف أن ينسب إلى الملوك هذا الحبس إذا أمروا به على أن كل مجاز لا يثبت إلاَّ بدلالة، فكذلك ما روينا في قصة معاذ على أنَّه أبعد من غيره على أنا بينا أن الحاكم يقوم مقام الرجل في إيقائه ما يلزمه من حق الغير إذا امتنع منه، كتزويجه إذا عضل الولي، وكاستيفاء الإمام العشور، والصدقات إذا امتنع أربابها من الإيفاء، فكذلك الأموال تقوم مقام المماطل في إيفاء الغرماء، ولا يتم ذلك إلاَّ ببيع أموالهم وتجعل الدراهم والدنانير أصلاً للعقار والعروض. (135/20)
فإن قيل: في حديث معاذ لا جائز أن يكون معاذ ممتنعاً من قضاء الدين وبيع ماله عن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعلم أن المراد أنَّه أمره ببيع ماله وأنه هو الذي تولى بيعه.
قيل له: لم يثبت أن معاذاً كان ممن لا يجوز أن يتفوق منه مقارفة معصية، يجوز أن تكون صغيرة ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبق إلى بيعها قبل أن يلزم بيعها؛ إذ رأى ذلك احتياطاً ويجوز أن يكون الدين ثبت عليه في الظاهر وعلم معاذ أنَّه لم يجب عليه وأنه لا يلزمه بيع ماله فامتنع من بيعه.
فإن قيل: تصرف الإنسان يجوز على غيره إذا كان ذلك الغير استفاد التصرف من جهة الحاكم، لم يجز التصرف من الحاكم عليه.
قيل له: ما أنكرتم أن يجوز تصرفه عليه في حق الغير، وإن لم يكن استفاد التصرف من جهته، وكما يتصرف عليه بأخذ العشور والصدقات من ماله، وكما يتصرف عليه بأخذ ماله إذا كان من جنس ماله إذا كان من جنس ما عليه وإعطائه الغريم، وكذلك بيع الدراهم بالدنانير، وبيع الدنانير بالدراهم. (135/21)
فإن قيل: فقد روي: <لا يحل مال امرء مسلم إلاَّ بطيبةٍ من نفسه>.
قيل له: معناه إذا لم يستحق عليه، ألا ترى أنَّه يأخذ ماله إذا كان من جنس ما عليه وتؤخذ منه الصدقات والعشور.
فإن قيل: لما لم يبع عليه منافعه، ولم يبع عليه ماله.
قيل له: قد فصلتم بين بيع منافع، وبين بيع الدراهم بالدنانير، أو الدنانير بالدراهم، فكذلك نفصل بين بيع المنافع وبين بيع العروض، ولا خلاف أيضاً أن الميت يباع عليه ماله للغرماء، فكذلك الحي، لأن كل واحد منهما استيفاء الحق عليه إلاَّ بالبيع؛ إذ كان كل واحد منهما قد اشتركا أن يباع الناض من أموالهما للدين، فكذلك غير الناض.
فإن قيل: جاز ذلك في مال الميت، لأن ولا يته زالت بالموت وجاز عليه ولاية الحاكم.
قيل له: وكذلك جازت عليه ولاية الحاكم في غير الحق وإن كان حياً كما جازت عليه ولايته في الحبس وبيع الناض من ماله، وأخذ الصدقات والعشور على أنا لو لم نفعل ذلك لأدى إلى أن يأكل بعض الناس أموال بعضٍ، وقد نهى الله عز وجل عن ذلك بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}.
فصل
قال في المنتخب: يباع من مال المفلس ما استغني عنه، و لا خلاف أنَّه لا يباع من ماله مالا بد له منه، ولا يستغني عنه لنفسه وعياله من كسوةٍ أو مطعمٍ أو سلف، وقال فيه: فإن كان عليه ثوبان يسويات عشرة دنانير بيعا واشترى من ثمنهما ما يستره ويدفع باقي الثمن إلى غريمه.
قال: فإن كانت له دار بيع بعضها وترك ما يستر عياله منها، وهذا يجب أن يكون إذا لم يجد موضعاً يكتريه، فأما إن وجد ذلك باع جميع الدار واكترى لنفسه وعياله، وإنما قلنا ذلك لأنَّه قال: يباع لنفسه ما يستغني عنه وإذا وجد السُكنى بالكرى استغنى عن ملك الدار. (135/22)
فإن قيل: فهلا قلتم أن جميع ثيابه تباع ويكتري ثياباً يلبسها.
قيل له: لأن عادة الناس غير جارية باكتراء الملبوس، وهي جارية باكتراء المساكن والمنازل ولذلك فصلنا بينهما.
قال: ويباع عليه خاتمه، لأنَّه مما لا يحتاج إليه ويستغني عنه، لأنَّه من باب التجمل وليس من باب الاحتياج.
قال أيضاً في المنتخب: ويبقى عليه نفقته ولعياله ولم يجد فيه حد، قال القاضي محمد بن سليمان: ورأيت يحيى بن الحسين عليه السلام قد حكم على رجلٍ عليه ديون لجماعةٍ من الناس فأمر ببيع ضيعته ودوابه وعبيده وأمره أن يساوي بين الغرماء بالثلثين ويمسك ثلث ماله لعياله، قال أيده الله تعالى: هذه عندي، والله أعلم ليس على استيفاء الثلث لكل من بيع عليه، وإنما ذلك تجنب ما يظهر للإمام من حال الغريم؛ إذ لا يمتنع أن يكون علم يحيى بن الحسين عليه السلام من حال ذلك الإنسان بقلة ماله وكثرة عياله، أنَّه لا يستغني عن مقدار ثلث ماله فلذلك أبقاه عليه ـ في الأصل هذا عندي، والله أعلم أن ننظر إلى حال الغريم وعياه وكسبه، فإن كان ممن يمكن أن يتكسب بعياله يوماً بيوم لم يبق عليه أكثر من لباسه الذي لا بد منه ولباس عياله وسناه وطعامه وشرابه ليومه، وإن كان ممن يمكنه التكسب جمعه جمعة، أو شهراً شهراً، ستبقي عليه من قوته ما يعلم أن يكفيه إلى مدةٍ يمكنه فيها اكتساب قوته وقوت عياله، وكذلك إن كانت له آلة لا يجد بداً منها في اكتسابه لم تبع عليه آلته، إلاَّ أن تباع ويشترى بدلها بنقص ثمنها، والأصل في ذلك: ما أجمعوا عليه أنَّه لا يباع من ماله إلا بد له منه، وما يؤدي إلى ضياع عياله ونفسه وانكشاف عورته وعوراتهم، وكل ما ذكرنا، لأنَّه لا يباع عليه فهو من ذلك والله أعلم. (135/23)
قال ابن أبي هريرة: فيما علق عنه أن ينظر في الثياب إلى حال الرجل فيباع الفاضل منها ويشترى له ما يلبس مثله والذي عندي أنَّه لا يعتبر بذلك وأنه يجب أن يشترى له ما يستره ويدفع عنه الحر والبرد مما يلبسه الفقراء في أعم الأحوال، وقد أطلق يحيى عليه السلام القول: بأنه يباع عليه ثوبه الذي يساوي عشرة دنانير ويشترى له بدله من ثمنه ما يستره ولم يشترط عادة مثله، لأنَّه إن كان أجرى عادته في لبس الفاخر من الثياب فليس يجب له الاستمرار على تلك العادة مع سعة الغرماء حقوقهم، وإنما يجب أن يقتصد والاقتصاد لمثله هو ما قلناه، وعلى هذا لو كان الأجل زمناً لا يمكنه أن يقوم بنفسه أو هرماً، فإنه لا يباع عليه خادمه، لأنَّه لا يستغني عنه إلاَّ أن يباع خادمه ويشترى له ببعض ثمنه خادماً آخر. (135/24)
مسألة
والحاكم ... عليه ديون الغرماء تنجيماً غير مجحف، وعلى الغرماء أن يمضوا إليه بقبض ما يجب عليه لهم، وهذا معناه إذ كان له كسب يفضل عن قوته فيوزع الفاضل بين الغرماء أو كان له دخل من أصل لا يجوز بيعه كالوقوف، وكان بيع الأصل يتعذر لعدم من يشتريه وذهب عامة العلماء إلى أن الحر لا يؤاجر وعليه دل قول يحيى عليه السلام، لأنَّه قال أكثر ما عليه يتجم الحاكم عليه ولم يذكر أنَّه يؤاجره وحكي عن مالك أنَّه يؤاجره، والأصل فيه قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرةٍ فَنَظِرَةٍ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، فجعل حكم المعر الأنظار ولم يكلفه اكتساب، وروي في الرجل الذي ابتاع الثمار فأصيب منها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <تصدقوا عليه>، فتصدق عليه ولم يبلغ ذلك، فقال: <خذوا ما وجدتم ليس لكم إلاَّ ذلك>، وروي أيضاً أن غرماء معاذ التمسوا معاذ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليسلمه إليهم، فقال بعد ما باع عليه ماله: <ليس لكم إلاَّ ذلك>، فدل على أن الحر لا سبيل عليه في نفسه، وقد بينا أيضاً أن المراد لا يجبر على النكاح فيحصل المهر للغرماء وإن الرجل لا يكره على الخلع ليأخذ المهر للغرماء(1)، وإن الرجل لا يكره على الخلع ليأخذ المهر للغرماء فكذلك ولي المقتول لا يجبر على الرضى بالديه، فكذلك سائر المنافع الحاصلة بالاستئجار لأنها أعواض منافع الحر. (135/25)
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه باع سرفاً في دين له ولكم يثبت أنَّه باع رقبته فثبت أنَّه باع منافعه.
قيل له: في الخبر ما يدل على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم، باع رقبته إلاَّ أن ذلك منسوخ بما ذكرناه من الآية، والأثر على أنَّه وإن ثبت أنَّه باع منافعه فقد ثبت هكذا معارضه.
فإن قيل: يكون غنياً بكسبه
__________
(1) ـ كذا على الأصل، ولا شك أنَّه مكرر فنظر. تمت
قيل له: لا يصح عندنا ذلك، لأن المكتسب عندنا تحل له الصدقة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما قال لمعاذ: <خذ من أغنيائهم>، لكم يدخل فيه المكتسب الذي لا مال له. (135/26)
مسألة
قال: ولا يجوز حبسه بعد بيان إعساره، وهذا قد مضى الكلام فيه، لنا قد بينا أن الحبس لا يكف إلاَّ للتهمة والمماطلة فإذا ابن إعساره فلم يحصل واحد منها فلا وجه لحبسه.
باب القول في الوديعة (136/1)
إذا استودع رجلٌ رجلاً وديعة فتلفت عنده لم يضمنها إلاَّ أن يكون تلفها بعدٍ من المستودع وهذا ممالا خلاف فيه إذا لم يختلفوا في الوديعة أمانة غير مضمونة يدل عليه قول الله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي أُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}، ويدل على ذلك قول الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِيْنَ مِنْ سَبِيْلِ}، ومن حفظ مال أخيه بإذنه فقد أحسن، وقد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: <من استودع وديعة فلا ضمان>، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: لا ضمان مستعير ولا مستودع، إلاَّ أن يخالف.
فإن قيل: فأنتم توجبون ضمان العارية، وروي عن جابر أن رجلاً استودع إذا اشترط ضمانها.
قيل له: الخبر وارد في العارية المطلقة وقد بينا الكلام فيه، في باب العارية، وروي عن جابر أن رجلاً استودع متاعه فذهب متاعه فلم يضمنه أبو بكر، وما روي أن عمر ضمن أنساً فيحمل أن يكون خالف وفي جملة المسألة وفاق فلا حاجة إلاَّ الإطالة فأما إذا كان تلفها بتعدٍ من المستودع فلا خلاف أنَّه يضمن، لأنَّه إذا تعدى فيها صار بمنزلة الغاصب لإمساكها على وجهٍ خالف به الأمر وليس الغصب أكثر من ذلك.
مسألة
قال: ومن التعدي أن يعيرها أو يرهنها أو يستودعها غيره بغير إذن صاحبها، وهذا أيضاً لا خلاف فيه، لأنَّه إذا أعارها أو رهنها أو استودعها غيره فقد خالف أمر صاحبها، لنه تصرف فيها تصرفاً لم يأمره به صاحبها فصارت بمنزلة الغاصب وخرجت يده أن يكون قائمة مقام يد صاحبها فوجب أن يصير ضامناً لها كالغاصب.
مسألة
اختلف أصحاب أبي حنيفة والشافعي في من تعدى في وديعةٍ ثُمَّ ردها إلى موضعها ثُمَّ تلفت، قال أبو حنيفة: يسقط الضمان عنه بالرد لها إلى موضعها، وقال الشافعي: لا يسقط عنه الضمان، وظاهر قول يحيى عليه السلام يدل على أن الضمان لا يسقط، لأنَّه ألزم الضمان بالتعدي ولم يشترط سقوطها بإعادتها إلى حالها وهو الصَّحيح والله أعلم، لأنَّه بالتعدي يصير في حكم الغاصب والغاصب لا يبرأ من الضمان ما لم يرجع المغصوب إلى صاحبه فلذلك المتعدي في الوديعة يجب أن لا يسقط ضمانه حتى يرجع الوديعة إلى صاحبها. (136/2)
مسألة
قال: فإذا استدعى المستودع أنها ضاعت فالقول قوله مع يمينه، وهنا مما لا خلاف فيه لأنَّه أمين ويده فيها يد المانة، ولا نضمن إلاَّ بالتعدي والتعدي لا يثبت إلاَّ بالبينة والقول قوله إذا أنكر التعدي، فكذلك كان القول قوله حين ادعى الضياع وهكذا يجب أن يكون القول قوله إذا ادعى أنَّه قدر ردها على صاحبها للوجه الذي بيناه وما ذكره في الفنون من أنَّه إذا ادعى الرد على صاحبها كانت البينة عليه يحتمل أن يكون المراد به إذا جحدها لم ادعى ردها، لأنَّه بالجحود يكون ضامناً ويصير غاصباً فإذا ادعى ردها يكون عليه البينة كالغاصب إذا ادعى رد المغصوب على المغصوب منه ويمكن أن يحمل ذلك على ظاهر ما أطلق فيفصل بين أن يدعي الضياع وبين أن يدعي ردها بأن يقال أنَّه إذا ادعى ردها فقد ادعى فعلاً معيناً به جرح من حفظ الوديعة وليس في الظاهر أنَّه فعل ذلك الفعل ويقوي ذلك بقوله عز وجل: {إِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَاشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}، ولو كان القول في الرد قوله لم يأمر الله بالاشهاد والأصح عندي ما قلته أولاً من الأولى أن يكون راداً دعاء الوديعة الجحود.
مسألة
قال: وإذا أودع رجل صرة فيها دراهم ففتح الصرة وأخذ من شيئاً ثُمَّ تلفت الصرة ضمن ما أخذه ولم يضمن ما تلف، إنَّما ضمن ما ضمن لأنَّه تعدى في أخذه فهو بمنزلة الغاصب والثاني لم يتعد فيه فلا يضمنه، لأن المودع قد بينا أنَّه إنَّما يضمن بالتعدي. (136/3)
فإن قيل: لم لا تقولون أنَّه متعدٍ بتحريك الصرة ونقلها للفتح.
قيل له: لن النقل والتحريك مأذون له فيهما، لأن الحافظ للشيء لا بد له من ذلك فلم يكن ذلك تعدياً في الظاهر وإن كان هو يعلم أنَّه نقلها وحركها ليأخذها لنفسه ثُمَّ اقتصر على أخذ بعضها، فإنه يكون ضماناً للجميع والظاهر ما ذكرناه في الكتاب ومعنى قوله في المنتخب: لا ضمان عليه، لأنَّه فتحها لسلف لا لتلفٍ أنَّه لم يفتحها لأخذ ما تلف فلم يكن تعدي فيه وإنما فتحها ليأخذ ما أخذه فكان تعديه مقصوراً عليه فلذلك ضمنه دون ما تلف والله أعلم وأصحاب الشافعي خرجوا فتح الصرة على وجهين أحدهما: أنَّه بالفتح يضمن الجميع.
والثاني: أنَّه لا يضمن إلاَّ المأخوذ وهو على قوله على تبناه وبيناه.
مسألة
قال: وإذا دفع المودع الوديعة إلى أهله وولده ومن يثوبه عليها ليحفظها في منزل المودع الذي يسكنه فتلف لم يضمنها، وهو قول زيد بن علي عليهما السلام ذكره عنه أبو خالد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وإنما قلنا ذلك لأن المودع مأمور بحفظ الوديعة على ما جرت العادة به ومن حفظ الرجل ماله، والمعلوم أن الإنسان يحفظ مال نفسه بأهله وولده وثقاته في منزله، فيجب أن يكون ذلك حكم الوديعة ومعنى قوله منزله الذي يسكنه أن يبين الغرض ليس هو أن يكون المنزل ملكاً له، لأن المنزل الذي يملكه لو أجره غيره أو جعل سكناً لغيره لم يكن له أن يحفظ الوديعة فيه ولو كان هو في منزل غيره بالإجارة أو نحوها جاز له أن يحفظه فيه فصار الاعتبار بالسكنى، قال: وإن دفعها إلى بعض هؤلاء ليحفظها في غير منزله الذي يسكنه فتلفت ضمنها وذلك لأنَّه يصير بمنزلة من أودعا غيره ولا خلاف أن المودع له ليس له أن يودع غيره وذلك تعدٍ منه. (136/4)
مسألة
قال: وإن سافر بها ضمنها، وقيل أنَّه ظاهر قول الشافعي وفرق أصحابه بين السفر المخوف والمأمون، وقال أبو حنيفة: لا يضمن من....التضمين أن الظاهر من أحوال الناس وعاداتهم أنهم إذا أودعوا عند إنسانٍ شيئاً أو دعوه على أن يحفظ محتاطاً لاحتياط مثله لاحتياط فيها هو حفظها في المصر، لأن السفر لا يسلم من بعض التغرير، وأيےاً العادة جارية في الودائع أنهايتحف في مےےع/المودع، وأن ÷لے ïكوے مراد صاےبهےےلوےےےة فصار ذيك كïےمنطوق به.
ف÷ن قےےے فإن أمرےباےففے عےى الإےلاق ےله أن يحفظها أين شاء من سفرٍ أو حضرٍ.
قيل له: العدة قد خصت هذا الإطلاق كما خصت الحفظ على يد صديقه في غير منزله، ألا ترى أن له حفها في منزله على يد أهله لأن العادة لم تخص هذا وخصت الحفظ على يد صديقه فكذلك العاد قد خصت الحفظ في السفر فمتى سافر بها ضمن على أن أبا يوسف ومحمد أفضلا بين أن يكون للوديعة مؤنة في حملها وبين أن لا يكون وقالوا يضمن إن كان لحملها مؤنة ولا لحملها يضمن إن لم يكن لحملها مؤنة ولا يجب أن يكون بينهما فرق ونن نحمل ما لا مؤنة لحمله على ما لحمله مؤنة في التضمين ونقيسه عليهم من أصحاب الشافعي من يفرق بين السفر المخوف وغير المخوف، وما ذكرنا من العادة يوجب الأفضل بينما قال إلاَّ أن يكون صاحب الوديعة أذن له أن يعمل فيها برأيه من إيداعها لغيره أو للمسافر بها وغير ذلك، وهذا كما قال لأن صاحب الوديعة إذا أذن له في ذلك فقد زال التخصيص التي أوجبته العادة وجعل الحكم للإطلاق. (136/5)
مسألة
قال: وإذا اشترى المودع بالوديعة بضاعة فربح فيها كان الربح لصاحب المال رضي به وللمشتري أجرة مثله وإن لم يرض به كان لبيت مال المسلمين وذلك أنَّه إذا رضي به كان الشراء له فوجب أن يكون الربح له وينظر فيه فإن كان رضي قبل الشراء جرى ذلك مجرى التوكيل له وإن كان ےےے به بعد الشراء ےنفل الشراے إليه عےدنا، ألا ترىےأنَّه يوقف اےشراء كما يوقے البيع وأما الأجرة فإنها تجب بسببين أحدهما أن يكون أمره به قبل الشراء ورضي به، والثاني: أن يكون المودع المتصرف ف ممن يعمل ذلك بالأجرة حتى يجري ذلك مجرى تسليم الثوب إلى الخياط وأمره بخياطته فإنه تجب فيه الأجرة فأما إن حصل الرضى بعد الشراء فلا أجرة للمشتري لنه يكون متبرعاً فيما فعل وكذلك إن لم يكن له عادة في أنَّه يعمل مثل ذلك بالأجرة لم يستحق شيئاً، لأنَّه يكون متبرعاً فيما يعمل مثل ذلك بالأجرة نحو أن يستعين إنسان برجل في أمر له، فإنه لا يستحق الأجرة أعنى المعين ويكون متبرعاً، فأما إن اشتراه بغير إذنه ولم يرض به فإنه يجب أن يصرفه إلى بيت مال المسلمين، لأنَّه ملكه بوجهٍ محظورٍ كما قلنا ذلك في غير موضع من نظائره هذا على رواية الأحكام وقال في المنتخب الربح للمشتري كأنه جعل للمشتري ملكاً بالشراء فجعل له الربح بت. (136/6)
مسألة
قال: وإن أودع رجلا رجلاً نقداً ومات المودع ولم يعرف الورثة الوديعة لم يضمنوها، وإن ادعى عليه أن يعرفونها فعليهم اليمين، ويكون ذلك على وجهين على ما يبينه يحيى عليه السلام في مال المضاربة إن جحد الورثة أن يكون صاحب الوديعة أودع الميت شيئاً ولم يكن لمدعي الوديعة ےينة فعےيهم اليمين ےےےےعرےوا الوديعے وےےےےےرفوها بعينهے ےتميےة لزمت ےلوديع !ےي مال ےلميے فےنےكان عےيه دين كاےےالمودع أسےة ےلےرماء، لأ الميے حين مات من غير أےےيبےعهاےفےے صےرےفيےالحكم مستےلےاً ها فضïنے÷ےفےےا مات كان ديçاے غل ه وكان الےودعےےےوة الغرےاء فأےے إذا ےرفت اُود عû بعينا ےلا إشكال إن صاحبها أولى بها فكذلك مال المضاربة. (136/7)
باب القول في الضوال واللقط (137/1)
ينبغي للإمام أن يجعل الضوال المسلمين مربداً فكل من وجد ضآلة صيرها البيت وعلقت من بيت مال المسلمين. قلنا ذلك، لأن الإمام منصوب لحفظ أموال المسلمين عليهم إذا غابوا عنها ورعايتها، وتحري مصالحا وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: <ضآلة المؤمن حرق النار>، وروي عنه أيضاً في ضآلة الغنم، أنَّه قال: <هي لك، أو لأخيك أو للذئب>، فدل بذلك على أن الضوال يجب حفظها على صاحبها، وقوله هي لك أو لأخيك أو للذئب لم يرد التمليك وإنما بين أن الأخذ أولى وأنه إن لم تأخذه أنت ولا أخوك أخذها الذئب يكشف ذلك أن تمليك الذئب لا يصح وليس هو تمليك للأخذ بقوله ضآلة المؤمن حرق النار، وروي أيضاً: <لا يؤذي الضآلة إلاَّ ضال>، ولا خلاف أن حفظها على صاحبها ےائز فثبت أن المراےےبه إيواءهے لےفسه ےےنےصاحبها وأےے التےليف من بيت مال المسلمين، فلأن تركےتعلïفهے ےعذيب ےها وذلك محظورٌےےلا يےب ذلك عےىےےلإئتمام مے خاصةےماله فوجب ےü يكçن من بيت مےے ےلمسلےين، لأن ما جر ü ذا الےجرى يك ÷ من بيت مےلےالمسلمين ثُمَّ إذے جاءےصاحبها ےان الأمر في أخذ بدل ےا أنفق من صاحبها مأكولاته إلى رأي الإمام فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، لأن له أن يأخذ من بيت مال المسلمين لمصالحهم ما رأى أخذه وله أن يستقرض ما رأى استقراضه، فإن كان استقرضه على صاحبها فله أن يأخذ بدله منه.
مسألة
قال: وكل من ادعى ضآلة وأقام عليها البينة دفعت إليه وهذا مما لا خلاف فيه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث أبي بن كعب حين وجد صرة فيها مائة قفلة عرفها حولاً، فإن وجدت من يعرفها فادفعها إليه وفي حديث زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: <عرفها سنة، فلم تعرف استنفع بها، ولتكن وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر فأدها إليه>، ولقوله: <ضالة المؤمن حرق النار>، وذلك يوجب ردها إليه عليه، لأنَّه جارٍ مجرى قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِيْنَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ظُلْماً..} الآية، وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، ولا خلاف أن الضوال واللقط أمانات لأهلها في يد الملتقط. (137/2)
مسألة
قال: فإن وجد الضآلة في وقت ليس فيه إمام فعليه حفظها وتعريفها والإشادة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلمے قاي لے: <عرفها، فإن وجدےےصاحبها¯ إلے فاعلم ما وعاؤها كُمےَ عرفےا سنے>؟ےےےي أن علےاً عليه السلےم،ےےجے دينا اً فجاء كے ےûىïےلنبي صل ےےل hعليه وآله وسلم، ےےال: وجدت ے ك. فےال: ےرفه، ولم يخےلف العلçےظüےي ےے ےعريفها واجب،ےوروى زيد ïن عييےےعïبسم الله الرحمن الرحيمأبيه، عن جده، عن علي عےيهمےالس كم، قال: من و د ضالة لقطة عرفها حولاً، فإن جاء طالب وإلا تصدق بها، فإذا جاء صاحبها خير بين الأجر ولاضمان وأما الإنفاق فواجب، لأن تركه تعذيب الحيوان وذلك محظورٌ وقد اختلف العلماء في ضمان صاحبها إذا جاء النفقة فقال أبو حنيفة لا ضمان على صاحبها إلاَّ أن يكون أنفق بإذن الحاكم، وبه قال الشافعي وقال مالك للملتقط أن يرجع على صاحبها بالنفقة وإن أنفقها بأمر السلطان وحكى نحوه عن ابن في الآبق قال: إلا أن يكون انتفعا به وبخدمته فتكون المنفعة النفقة ووجه ماق لناه من جواز رجوعه بالنفقة على صاحبها على أي حالٍ أنفق إنَّه لا لا خلاف في أن الحاكم إذا أمر بالإنفاق عليها جاز الرجوع وكذلك الوصي إذا أنفق على اليتيم بنية الرجوع عليه كان ذلك له وإنما كان ذلك كذلك لن لكل واحد منهما ضرباً من الولاية ما أنفق عليه وقد علمنا أن للملتقط ضرباً من الولاية على ما التقطه، لأن يلزمه حفظها ومحاكمة من غصبها عليه بعد الالتقاط ويلزمه الإنفاق فيجب أن يصح منه الرجوع بما أنفق لماله من الولاية. (137/3)
فإن قيل: لو أن رجلاً أطعم جائعاً يخاف الموت عليه أو سقاه كان بذلك متطوغاً فكذلك ےا ےنفق على الضالےت ےاللےے.
قيل ےه: الفرق بينهما أن½المطعے للولاية له علىےالجائع وقد ےےناےأن للمےتقط ےرباً منےالولاية فلم يجب أن يكون حكمه حكم المطعم وأيضاً لو لم نجعل له ذلك كنا قد ألزمنا ضرراً لم يختره ولم يلزمه.
فإن قيل: يجب أن يكون قد اختار ذلك الضرر بالأخذ والإلتقاط.
قيل له: لو اختاره ولزمه ذلك لم يضمن وإن أنفق بإذن الحاكم، إلاَّ ترى أن الزوج لما لزمه الإنفاق على المرأة لم يرجع عليها وإن أنفق بإذن الحاكم. (137/4)
فصل
وقوم كرهوا أخذ الضوال وإن أخذت للتعريف ولحفظها على أصحابها استدلالاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ضآلة المسلم حرق النار>، وقوله: <لا يؤوي الضالة إلاَّ الضال>، وليس المر على ما ذهبوا إليه، لن الخبرين وردا على ودهٍ يبين المراد به وذلك انه روي عن مطرف، عن أبيه، قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في نفر من بني عامر، فقال: ألا أحملكم؟ فقلنا: نجد في الطريق هوامي الإبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <ضآلة المسلم حرق النار>، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لمن أراد الركوب والانتفاع بها، وروي أيضاً عن أبي الجارود قال: بينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن على إبلٍ عجاف، فقيل يا رسول الله، نجد إبلاً فنتركها فقال: <ضآلة المؤمن حرق النار>، فكان ذلك جواب من سأل عن الركوب للضآلة، وعن زيد بن أبي خالد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من آوى ضآلة فهو ضال ما لم يعرفها>، فجعله ضالاًً إذا لم يعرفها وروي عن عبد الله بن عمر أن رجلاً من حزينة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسأل عن ضآلة الغنم، فقال: <طعام مأكول لك أو لأخيك أو للذئب، احبس على أخيك ضآلته، قال يا رسول الله فكيف تراضى ضآلة الإبل، قال: مالك ولها عها سقاؤها وحذاؤها ولا يخاف عليها الذئب تأكل الكلأ وترد الماء دعها حتى يأتي صاحبها>، فنبه صلى الله عليه وآله وسلم على المعنى الذي أمر له بأخذ ضالة الغنم في الإبل وهو خوف تلفها جاز أخذها كضالة الغنم، وروي عن العاص بن حمار المخاسيعي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سئل عن الضالة فقال: <عرفها فإن وجدت صاحبها وإلا فهي مال الله>.
مسألة
قال: وإن بقيت في يده فهي أمانة عنده وإن أتلفها ضمنها لصاحبها إذا طلبها وقال في اللقطة بعد هذه المسألة: لا يجوز أكلها ولا استهلاكها وعليه تعريفها طال مكثها أو قصر فكان تحصيل مذهبه في الضآلة واللقطة أنهما بمنزلة الوديعة عليه التريف أما وجوب التعريف فقد مضى فيه ما كفى وأما كونها بمنزلة في أنها لا يجوز استهلاكه ولا أكلها فلقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يحل مال امرء سلم إلاَّ بطيبة من نفسه>، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ضآلة المسلم حرق النار>، فإذا جعلها صلى الله عليه وآله وسلم مثل حرق النار لمن أراد ركوبها فمن أراد استهلاكاً أولى به وفي حديث زيد بن خلد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لقطة الذهب في الورق، فقال: <اعرف وكاءها وعقاصها ثُمَّ عرفها سنة، فإن لم يعرفها أحد فاستنفع بها ولتكن عندك وديعة فإن جاءها طالب يوماً من الدهر فأدها إليه>، فدل ذلك على أنَّه في حكم الوديعة بل نص صلى الله عليه وآله وسلم على ما ذهب إليه يحيى عليه السلام. (137/5)
فإن قيل: ففي الخبر فعرفها سنة فإن لم يعرف استنف بها.
قيل له: تعريفها سنة فلا تنكر فإنا نقول إنها ترف سنة أو أكثر.
فإن قيل: إذا كان حالها بعد السنة كحالها قبل السنة فلا فائد طلبه أحرص ما كان الزمان قريباً ورعاً يتركه إذا تراخت المدة فجعلت السنة حداً لذلك على أن الخبار في مدة التعريف قد اختلفت وسنبينها واختلافها يدل على أن المقصد ما قلنا وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <فإن لم تعرف استنفع بها>، فيجوز أن يكون المراد به يستنفع في باب الذين يحفظها ويكون وجه قوله ذلك بعد السنة لئلا يلحقه الملال بحفه فإن مدة الحفظ متى طالب لحقها الملال فإذا تذكر انتفاعه في باب الدين بحفظه حق عليه وقلنا ذلك لئلا... قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ولتكن وديعة عندك>، لأن الانتفاع بحفظ الوديعة يكون في باب الدين، ويدل على صحة هذا التأويل قوله: <فإن جاء صاحبها يوم من الدهر فأدها إليه>، والأداء لا يكون إلاَّ مع بقاء عينها كما قال صلى الله عليه وآله وسلم حاكياً عن موسى صلى الله عليه وآله وسلم: <العارية مؤداة>، وكما قال الله عز وجل حاكياً عن موسى صلى الله عليه: {أَنْ أَدَّوا إِليَّ عِبَادَ اللهِ}، وكان ذلك مع بقاء أعيانهم ولو أرد صلى الله عليه بعد التكف لقال: فإن جاء صاحبها فاضمنا له ولم يقل فأدها، فدل ذلك على ما قلنا من أن عليه حفظها، ويدل على ذلك قوله: <احبس على أخيك ضالته>، ولم يوقت الحبس بوقت. (137/6)
فإن قيل: فقد وقت بالحول في سائر الأخبار؟
قيل له: قد بينا قائدة ذكر القت وقد اختلفت الأخبار في ذلك عن أبي أنَّه قال: وجدت صرة فيها مائة دينار فأثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: <عرفها حولاً>، فلم أجد ن يعرفها ثُمَّ أنتبته الثانية فقال: <عرفها حولاً>، فعرفها ثُمَّ انتبه فقال: <عرفها حولاً>، ألا ترى أنَّه أمر بتعريفها ثلاث سنين، وروي عن عمر بن عبد الله بن يعلى عن جديته حكيمة عن أبيها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من التقط لقطة يسيرة درهماً أو حبلاً أو ما أشبه ذلك فليعرفه ثلاثة أيام، فإذا كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام>، وري عن زيد بن صوحان قال وجدت قلادة في طريق مكة فأتيت بها عمر فذكرت له فقال: عرفها شهر، فإن وجدت صاحبها وإلاَّ ضعها في بيت مال المسلمين، فدلت هذه الأخبار على أنَّه ليس للتعريف حد مقطوع وأنه بحسب الرأي والغالب في الظن احتياط لصاحب اللقطة الضالة، وإنَّما قصر بهذه المدة من ثلاث سنين إلى ثلاثة أيام؛ لأن الإنسان لا يمكنه علول عمره أن يكون مشغولاً بالتعريف، وقول عمر: ضعها في بيت مال المسلمين، يدل على وجوب حفظها بعد التعريف كما قلنا. (137/7)
فإن قيل: فقد روي استنفع بها، وري شانك بها، وروي هي لك وروي كلها.
قيل له: أكثر الأخبار على لفظ الاستنفاع وقد بينا أنَّه يجوز أن يكون أراد به اكتساب الأجر بحفظها، وقوله: شأنك بها أي بحفظها، كأنه يحثه على ذلك وقوله هي لك يجوز أن يكون معناه حكمها لك في التعريف والاكتساب للأجر بذلك وقوله كلها يحتمل أن يكون الراوي سمع سائر الألفا فروي على المعنى الذي تصوره؛ لأن لفظه كلها قليل، وحكي نحو ذلك قولنا عن الأوزاعي والليث في المال العظيم، قال الأوزاعي: ما كان مالاً عظيماً جعله في بيت مال المسلمين وقال الليث: إن كان ما التقط شيئاً كثيراً فأحب إلى أن يستيقنها ذلك عنها الطحاوي وأصحابنا لم يفصلوا بين القليل والكثير ومن طريق النظر هي مال أخذه متبرعاً ليحفظه على صاحبه فيجب أن لا يجوز له استهلاكه، دليله الوديعة ولا خلاف إنها في يد الملتقط أمانة لصاحبها فلا يجوز له استهلاكها، دليله مال اليتيم في يد الوصي، ويدل عليه قول الله عز وجل: {إِنْ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، وقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، وقلنا أنَّه أتلفها ضمنها لصاحبها إذا طلبها؛ لنه لا خلاف فيها؛ ولأن الأخبار الواردة في هذا الباب تنطق أن صاحبها إذا جاز خير بين الأجر والإيمان، فدلت على أنَّه إن اختار التضمين ضمنها الملتقط المتلف لها، قال: وإن تلفت بجناية غيره ضمنه إياها وكان غرمها عنده بمنزلتها، وهذا صحيح أيضاً إذ لا خلاف أنَّه أولى بحفظها وتغريم من ينقلها وإن سبيل الغرامة سبيل الأصل. (137/8)
مسألة
فإن تلفت بغير جناية منه ولا من غيره فلا ضمان عليه فيها، لا خلاف أنَّه لا يضمنها إذا تلفت بغير جناية نه، فإن سبيل ذلك سبيل الوديعة وسبيل مال اليتيم في يد الوصي؛ لأن يده يد أمانة دون يد الضمان واختلف العلماء أن أخذها ثُمَّ ردها إلى مكانها، قال أبو حنيفة: قد برئ منها ولا يضمنها وإن تلفت، وقال زفر الضافعي: يضمنا، وعليه يدل ظاهر قوله في الأحكام لأنَّه قال فيه: فإن أخذ أحد ضالة رأيت أن عليه حفظها وتعريفها ےلم يقل أن لهےالخيار فيےأن ي دهكےإلے حيث أےےےا،ےوقےے أيضاً فيه وسبےے اللقط ےنےنا أےےا لازمة ےےنےالےےطها وےلےےےتعريفها طال مكثها ےےدے أم قصے، فنبه أنّےه لا ےيار له ےے ردےا إےىےموےعےا، فإذا ےےن ذلےےےذلے وجب أن يكےن رےها إلى ےوضعےے ےنےية نه ےنےےيحےى عليه السلام فيضنها إن تلفت، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <احبس على أخيك ضالته>، وقوله: <عرفها حولاً>، وقوله: <ولتكن وديعته عندك>، وقوله: <من التقط لقطة يسيرة>...الخبر، فكل ذلك يدل على أن الملتقط يلزمه الحفظ والتعريف إلى أن يظفر بصاحبها ولا ولا ردَّ لها إلا مكانها ينافي ذلك، فوجب أن لا يجوز، وإذا ثبت أنَّه لا يجوز ثبت أنَّه يكون بفعله متعدياً وأنه يلزمه الضمان على أن هذه الأخبار قد أوجبت الحفظ على الملتقط وإذا ثبت وجوب الحفظ ف قول إلاَّ قولنا؛ لأن من يخالف في هذا لا يوجب عليه الحفظ، وبقوله إن شاء حفظ وإن شاء ردها إلى موضعها، فإذا كان مكانها ولم يحفظها، ويدل على ذلك أنَّه لا خلاف في أنه لو وضعها في المكان الذي أخذها منه لزمته، والعلة انه عرضها للتلف، وأيضاً قد ثبت أنها في أمانة في يده، فوجب أن يلزمه حفظها إلى أن تصل إلى صاحبها، أو نقول: فلا تجوز تركها في البرية دليله الوديعة، أو يقال: فيجب أن يضمنها بترك حفظها أو بتخليتها في البرية مثل الوديعة. (137/9)
فإن قيل: أنَّه إذا ردّها إلى مكانها يكون إنَّما ترك التبرع؛ لأنَّه كان مترعاً بأخها وتارك التبرعےےا ضمان عليه كمنےأعار غيره دابة ےيےےے ےû ها متاعه ثےمَّ استرجعها ےم ضمن المتاع، ےكےلمودع إذا رد الوديعة وترك إمساكها لم يلزمه ضمانها. (137/10)
قيل له: قد يتبرع الإنسان بالشيء ثُمَّ يلزمه حكم بعد التبرع وقد دللنا على أن الملتقط يلزمه الحفظ بعد الالتقاط فسقط هذا السؤال، يبين ذلك أن أخذ الوديعة تبرع ثُمَّ يلزمه الحفظ.
فإن قيل: فإذا ردها إلى مكانها سقط عنه الحفظ.
قيل له: الأمكنة في هذا الباب لا تأثير لهان ألا ترى أن المعير دابته له أن يسترجعها في أي مكان شاء، وكذلك المودع له أن يردها على صاحبها في أي موضع شاء، وقد يتبرع الإنسان بحمل غيره في السفينة ثُمَّ لا يجوز له إخراجه عنها في اللجة، فلو كان الملتقط يجوز له أن يترك الحفظ لجاز له أن يتركها بأن يضعها في أي موضع شاء كالمعير والمودع، فقد بان أن الأمكنة لا تأثير لها في هذا الباب وإنَّما المراعى التعريض للتلف، ألا ترى أن المودع والملتقط قد يتر أكان الوديعة واللقطة في حرز ولا يضمنان لما لم يكن فيه تعريض للتلف أو إضاعة للحفظ.
فإن قيل: حكم كونها في يد صاحبها وحكم كونها في ذلك المكان الذي أخذها منه قد استويا بدلالة أنَّه لا يجب أن يزيلها عنهما، فإذا ردّها إلى مكانها فكأنه ردها إلى يد صاحبها.
قيل له: أنهما وإن اتفقا من هذه الجهة فقد اختلفا في وجه آخر وهو أن أخذها من يد صاحبها بغير إذنه محظور وأخذها من ذلك المكان بغير إذن صاحبها غير محظور، فيجب ألا يكون ردها إلى مكانها مثل ردها إلى يد صاحبها، وأيضاً لو أخذها لنفسه ثُمَّ ردها إلى ذلك المكان لم يبرأ من ضمانها ولو ردها إلى يده برئ منهن فبان من هذا الوجه أيضاً اختلافهما في الحكم.
فإن قيل: المودع دلالة لنا؛ لنه لا يلزمه ضمان بأن يصير المأخوذ إلى ما كان عليه إلى يده متبرعاً.
قيل له: هذا ينقلب عليكم؛ لأنَّ الوديعة لما لم تكن تضمن بأن تصير إلى ما كانت عليه لم يختلف حم الأماكن، فكذلك يجب أن لا يختلف حكم اےےماكن في وےع الےقےةےفيهان وذلك يصےے مذهبنا. (137/11)
ےےل
أطےق يحيى أےےے إذے!ےلفت لم تےمنےےلمےيشترط الأےےاے، ےدےےذلك مے ےذهبه ےلى أنَّه لےےيوجبےےلى المےتقط ضمانها وإن أےےها جكيٌ اشهاد،#ےبهّ ال؟ےبو يوسف ےمح÷د وےلشافعي، وق×ل أب÷ حنيفة: يےمن إذےےےمييكن ےشهے حےن الالتقاےےواےأصل فے حديث زيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن لقطة الذهب والورق، فقال: <أعرف وكاؤها وعقاصها ثُمَّ عرفها، فإن لم تعرف فاستنفع بها أو لتكن عندك وديعة>، قيل: فضالة الغنم؟ قال: <لك أو لأخيك أو للذئب>، قال: فضالة الإبل؟ قال:< معها سقاؤها سقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتَّى يلقاها ربها>، وزاد أبو هريرة وغيره في روايته مالك: ولها معها سقاؤها، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <احبس على أخيك ضالته>، فلما لم يشترط في شيء من ذلك الأشهاد دلت هذه الظواهر على أن للملقتط أن يأخذها بغير إشهاد وأنه لا يكون بذلك متعدياً، فثبت أنَّه لا يضمن؛ لأن الملتقط لا يضمن إلاَّ بالتعدي ولا خلاف فيه.
فإن قيل: روي عن عياض بن حمار المجاشعي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <من التقط لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم>، فأمر بالإشهاد والأمر يقتضي الوجوب.
قيل له: ظاهر هذا الخبر يوجب ما لا يقول به أحد، وهو أنَّه يوجب أن يكون الإشهاد بعد الالتقاط؛ لأنَّه قال ن التقط فليشهد فهو يجري مجرى قوله: من قاء أو رعف في صلاته فلےنصرف وليتوضأ، أےا ترى أنَّه يوجب أن يكون ےلاےےكاے والتوضے بعدےےلےےء أو الرعفاï، فكذلك هذا الخبر ےوےب ےن يكونےےلإےهاد بعد الالتقاط ےالإےهاد بعد اےالتےاط، لا خلاے في أنےَه ندب وأےے لےسےبواجب عےى أنا لو استدللنے بهذا ےےخےر على أن الإےهاے ليسےبشےط فيه كان ذلك صحيحےًے
فإن قيے:ےفقد رےي من وجد لقطة فليشهد؟ (137/12)
قيل له: الصَّحيح الذي نعرفه وأسنده أبو جعفر في شرح الآثار هو بلفظ الآثار وهو بلفظ الالقاط دون لفظ الواجدان، فإن كان روي بهذا اللفظ فيجوز أن يكون الراوي رواه على ما تصوره من المعنى على أن أحداً لا يقول بظاهر هذا الخبر أيضاً؛ لأن الإشهاد لا يوجب على الواجد إن لم يرد أحدهما فظاهره يوجب على كل واحد.
فإن قيل: فما فائدة الندب فيه؟
قيل له: أحدهما إن يبين ذلك عن ماله لئلا يختلط بماله فيستقصه الورثة إن حدث به الموت، والثاني إن يبعد نفسه عن موقف التهمة فإن كثيراً من الناس قد يلقط لنفسه، وذلك مثل ما أمر الله به من الإشهاد عند التبائع وعند الرجعة وعند تسليم المال إلى اليتيم عند البلوع، وأيضاً هي في يده أمانة فلا يفتقر إلى الإشهاد عندنا ولها دليله الوديعة، ووجدنا الأصول كلها تشهد بذلك؛ لأن تناول شيء من المال لا تفتقر إلى الشهادة ولم تجعل الشهادة شرطاً في شيء من عقودها واستيفائها وإيقائها والتصرف فيها.
فإن قيل: كان الأصل في اللقطة لا يجوز التقاطها؛ لأنها مال للغير ولا يجوز أخذها بغير إذن صاحبها إذا لم يتعلق الأخذ به حق، فلما أجمعوا على أن أخذها مع الإشهاد جائز إذا أخذها قلنا به وتركنا الباقي على الأصل.
قيل له: قد أجمع المسلمون على أن أخذ اللقطة جائز إذا أخذها للتعريف والحفظ فلا يجعل شرطاً فيه ما لم يقم عليه الدليل، ويبين ذلك أيضاً أن الغصب مضمون إذا أخذه بغير إشهادهن فكان مضموناً إذا أخذه بإشهاد، فكذلك اللقطة لو كانت مضمونة إذا أخذت بغير إشهاد كانت مضمونة وإن أخذت باشهاد؛ لأنها مضمونة إذا أخذت بغير إشهاد.
وفي عكسها الوديعة لما كانت غير مضمونة إذا أخذت بالاشهاد لم تكن مضمونة وإن أخذت بغير إشهاد، كذلك اللقطة لا تضمن وإن أخذت بغير إشهاد؛ لأنها غير مضمونة إذا أخذت باشهاد، فكذلك كالوديعة والأصول تشهد أن الإشهاد لا تأثير له في إثبات الضمان وإسقاطه.
مسألة
وكذلك سبيل اللقطة إذا التقطها الإنسان فلا يجوز له أكلها ولا استهلاكها وعليه تعريفها طال مكثها عنده أم قصر، فإن استهلكها ضمنها، وكل هذا قد مضى الكلام في تفاصيله مستوفياً فلا غرض في إعادته. (137/13)
مسألة
وله أن لا يأخذها إذا وجدها وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وحكى أنَّه جرى في كلام الشافعي ما يدل على أن لا يأخذها واجب على الأمين الثقة، ووجهه أنها أمانة فله أن لا يتحملها، دليله الوديعة، وأيضاً قد ثبت أنَّه لا يلزم الغير حفظ مال الغير إذا لم يكن له عليه ولاية ابتداء، فيجب أن لا يلزم أحداً اللقطة؛ لأنَّه حفظ لها ابتداء، ولا خلاف أن ضالة الإبل لا يجب أخذها ومن الناس من كرهها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <مالك ولها>، فيقيس عليها اللقطة بعلة أنها أمانة يجب تعريفها وطلب مالكها على أن الأصل أن لا وجوب، ولم يرد عن أحد من الصحابة أنَّه قال بوجوبه، فوجب أن لا يكون واجباً، وأيضاً روي عن سويد بن غفلة، قال: خرجنا جادين فأصيب سوطاً فأخذ به فقال زيد بن صوحان: دعه، فقلت: لا أدعه لأحد فلا تنتفعن به، ولم يرو أن أحداً أنكر قوله: عدد، فجرى ذلك مجرى الإجماع.
مسألة
إذا التقط الإنسان اللقيطة أو اللقيطة فكبر عنده لم يجز له بيعهما ولا هبتهما، وهما حران لا خلاف في أن اللقيط حر وذلك أن الأصل في الآدميين الحرية؛ لن الرق يكون لسبب طار، فيجب أن يحمل على الأصل وأن لا يثبت الحكم الذي من شأنه أن يكون طارياً إلاَّ بالبينة، وروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في امرأة باعت لقيطة أنَّه قال: (لا حق لك فيها)، وأنه حكم عليها للمشتري بما أعطاها من الثمن، وقضى للقيطة على المشتري إذا كان وطئها بمهر مثلها، فدل ذلك على صحة ما قلناه من أن حكمها في الظاهر حكم الأحرار، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن عليه عليهم السلام أنَّه قال: (اللقيط حر).
مسألة
قال: ما أنفق عليهما من نفقة لم يرجع به عليهما وكان مےبرعاً بها، واےلم أےَّے نص ے ےلضالةےےنےَه يرجع على صاحبها بما أنفق عليها، وقد مضى الكلام½فيه، وےاے فيےهذے الےوضع لا يرجےےعليهما وےےےي عندي أنَّه لم يرد الفصل بين الإنفاق على الضالة وےےن ےلإنفاق ےلاےتياض عنه وأجےاه{مےرى القرض÷وقال ما قاے في مسأےة اللےےط إذا ےصے به الت وع واےتبرے فےے ×ïمسألتي ÷ےے ے قےدےالإعياض فله أےےيرجع، وإذے كصد ےلتبرع ف÷ي× ےه ے÷ يرجع، ألا ترى أن الوصي لو أنفق على اليتيم تبرعاً فلا رجوع له فيما أنفق ولو اتفق مقرضاً فله الرجوع فيما أنفق، وذلك لثبوت ولايته عليه، فكذلك الآخذ للضالة، والملتقط لها له ضرب من الولاية، فيجب أن يكون حكمه فيها حكم الوصي في هذا الباب. (137/14)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً وطئ لقيطة جاهلاً بالتحريم لزمه مهرها ولا حد عليهما، وذلك أن الحد سقط للشبهة، وإذا سقط الحد وجب المهر، وقد روي على ما بيناه أن أمير المؤمنين عليه السلام قضى بذلك على من وطئها وأنه قال لا يكون فرج بغير مهر يعني إذا سقط الحد للشبهة، قال: وله أن يتزوجها بنكاح جديد وذلك أنهما أجنبيتان لا يثبت بينهما بسبب يمنع النكاح ولا بسبب من نكاح أو رضاع يمنع ذلك، وليس له إلاَّ حق يجري مجرى الحضانة، فوجب أن يصح بينهما النكاح وهو أيضاً مما لا خلاف فيه.
مسألة
قال أيده الله تعالى: وهذه المسألة كان موضعها حيث يقول كل من أقام عليها البينة استحقها يعني الضالة واللقطة، لكن فاتت هنالك ووقعت هاهنا على سبيل السهو، فدل كلامه عçى أنيا تستحق ûايےïنة فقط، وے ےقاëےےبو حنيفة وا شاےےي، وحكي عن الناس>أنها تےتحق العلامے، وبه قےلےمامك، والأصلےفي ذلك قçل النبي صلى اûله عليه وآلهےوسلم: <البيےة على الےےعي>، وقوله:û؟لïsلو أعطے اïناے بےعےويهم لا دعا قےم دماء قوم وےموالهم>، لكن البينة على الےدعے ےاےيمين على الےدûى عےيه، ومدعي اللقطة ےالضالة مدع، فيجب أن لا تثبت له دعواه إلاَّ بالبينة، وأيضاً من ادعى شيئاً في غيره لا يستحقه بالوصف والعلامة، فكذلك اللقطة؛ لأنَّه مدع فيها. (137/15)
فإن قيل: فإقامة البينة تتعذر في ذلك؟
قيل له: وكذلك السرقة يتعذر إقامة البينة عليها على حد ما يتعذر في اللقطة، ومع هذا لا خلاف أنها لا تستحق بالوصف والعلامة، وكذلك الوديعة إذا ودعت يسراً.
فإن قيل: فقد اعتبرتم الوصف والعلامة في الجدار إذا كان له وجه أو قمط أو كان عليه خشب لأحد المتداعيين فما أنكرتم مثله في اللقطة.
قيل له: نحن لم نعتبر العلامة فيها للاستحقاق وإنَّما طلبنا بالعلامة اليد أو قوة اليد، وهذا غير ممتنع إذا ... حكم اليد ومدعي اللقطة، ولا يدله فيها ظاهره ولا ملتبسة على وجه من الوجوه فصار اعتبار العلامة والوصف فيهما كاعتبارهما في سائر الأملاك إذا دعيت.
فإن قيل: فقد قال صلى الله¼عليه وآله وسےے:ےےفلےعرف ےقاصےاےوےكاؤها ووےاؤها>، فلو لا أنےا تستحق بتلك العلامة ما كانت لذلك فائدة.
قيل له:ےقï ےيل فقےه فائدتےن:ےإحےاےما: أن يےےع بذلے من الاختلےط ےماله لئلا يؤےي ےےك إلاَّ اےاسےےلےےےےها.
ےاےثانية:ےےنےَه ےجوےےلهےدفےےے إليه إذا أتے بالوصف، واےےلےمے، ےغلب صدےه ےےى ےنهےولمےيجب ذلك عليه، وهذان وجهان حسنان، وقيل فيها وجه ثالث وهو أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد نبه على حفظ هذه المحقرات تعظيماً للأمانة. (137/16)
فإن قيل: فقد روي في بعض الأخبار: <فإن جاء صاحبها وعرفك عقاصها ووكاءها فادفعها إليه>.
قيل له: فيه إن جاز صاحبها ولم يكن عارفاً لمجيء صاحبها ما لم يعرف بالبينة أنَّه صاحبها فلا يلزم الدافع إليه إلاَّ بالبينة؛ لأنَّه لم يقل فإن جاء وعرفك عقاصها ووكاءها فادفعها إليه.
فإن قيل: فما الفائدة في ذكر الوعاء والعقاص مع ثبوت الحق لصاحبها مع البينة؟
قيل له: لأن ذلك أيضاً مما يحقق قول الشاهدين ويؤكده وما يريد التأكيد للشهادة قد بطلت على أنَّه قد قيل: إن راوي هذه الزيادة وهو حماد بن سلمة، وأنه غلط فيها وأنه كثير الغلط عند أهل النقل.
كتاب صيد الجوارح (138/1)
باب القول في صيد الجوارح
إذا أرسل المسلم الكلب المعلم على الصيد وسمى حين أرسله، فأخذ الكلب الصيد فقتله قبل أن يلحق صاحبه، جاز أكله، وهذه الجملة لا خلاف فيها، وإنَّما يقع الخلاف إذا تغيرت حال بعض هذه الجملة وسنفصلها ونبينها في موضعها إن شاء الله تعالى، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {قُلْ أَحَلَّ لَكُمْ الطِّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِيْنَ}، إلى قوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ}، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أن رجالاً من طي سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صيد الكلاب والجوارح وما أحل لهم من ذلك وما حرم عليهم، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ..} الآية، وعن ثعلبة الحسني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: <إذا أرسلت وقد ذكرت اسم الله عليه فكل>، قال: قلت وإن قتل؟ قال: <وإن قتل>، والأخبار في هذا كثيرة تنكر في مواضعها.
مسألة
قال: وكذلك يجوز أكله وإن وجده صاحبه، وقد أكل الكلب خصية وهو مروي عن أبي جعفر، وعن عدة من الصحابة على ما نبينه، وذهب عامة العلماء إلى أنَّه لا يجوز أكله، وهو للشافعي على قولين وحكي عن مالك مثل قولنا، والأصل فيه قول الله عز وجل: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، ولم يشترط ولم يستثن إلاَّ أن يكون أكل منها الكلب فاقتضى عموم الآية جواز أكله وإن أكل الكلب منه.
فإن قيل: إذا أكل الكلب منه لا يكون ممسكاً على صاحبه؟
قيل له: ومن أين قلتم ذلك بل يكون ممسكاً للباقي، ويكشف صحة ذلك أن البازي والصقر عند مخالفينا وإن أكلا من الصيد لم يخرجا من أن يكون ممسكين على صاحبه.
فإن قيل: فظاهر قوله تعالى في ذكر التحرير: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}، فوجب تحريم ما أكل الكلب منه ما لم يذكه، وهذا نص مذهبنا؟
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما: أن ذلك لك مما ذكيناه حكماً بدلالة إنا نعتبر فليس ذلك ما نعتبر في الذبح من دين المرسل وتسميته أو تركها عمداً أو سهواً، وعلى هذا يصح منا أن نستدل بالآية ونجعلها دلالة لنا بأن نقول إن ذلك مما ذكيناه حكماً، فلا يجب أن يمتنع جواز أكله لأكل السبع منه. (138/2)
والجواب الثاني: إنا وإن سلمنا لم نقل أن تقدير الآية: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكِّيْتُمْ أَوْ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، يعني الجوارح، فتكون الآيتان كالآية الواحدة، ويدل على ذلك حديث أبي ثعلبة الحثي أنَّه قال: يا رسول الله إن لي كلاباً مكلبة، فافتني في صيدها؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <إن لك كلاب مكلبة، فك ما أمسكن عليك>، فقال يا رسول الله: ذكي وغير ذكي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <عليك وآله ذكي وغير ذكي>، فقال: يا رسول الله، وإن أكل منه؟ قال: <وإن أكل منه>، فبين أنَّه وإن أكل نه لا يخرج من أن يكون مكلباً وممسكاً على صاحبه، وروي عن علي عليه السلام: (كل ما أمسك الضارئ وأكل منه، وما قتل الكلب الذي ليس بضار، فلا يصح أكله)، ويدل على ذلك عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا أرسلت كلبك وقد ذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك، وإن قتل إلاَّ أن يأكل الكلب، فلا يأكل فإني أخاف أن يكون إنَّما أمسك على نفسه>.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد بهذا الخبر الكلب الذي لا يؤثق بتعليمه، ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: <أخاف أن يكون إنَّما أمسكه على نفسه>، فلم يحرم بالتحريم، بل علق النَّهي على الظن الذي ذكره، ولا يمتنع نحن أن نقول ذلك في الكلب أول ما يصيد إذا أكل من الصيد؛ لأنَّه لا يقع الثقة بأنه قد كان مكلباً.
فإن قيل: ففي بعض الأخبار النَّهي المطلق وليس فيه أني أخاف؟
قيل له: لا يمتنع أن يكون بعض الرواة حذف هذه الزيادة تخفيفاً وتقديراً أنَّه لا يغير المعنى على أن هذه الزيادة وإن لم تكن في الخبر فلا يمتنع تأويل الخبر على ما قلناه. (138/3)
فإن قيل: يرجح بالحظر؟
قيل له: له في خبرنا أيضاً الحظر؛ لأنَّه محظور عندنا إضاعة ما أكل منه الكلب المكلب فهما حظر أن تقابلا على أن ذلك كان يصح لو كانوا تأولوا خبرنا على وجه يصح، وأيضاً لا خلاف أن الكلب لو لم يأكل جاز أكله كذلك إذا أكل منه، والمعنى أنَّه فريسة الكلب المكلب المعلم، وهذا قياس قوي؛ لأن الأكل واقع بعد الفرس والفعل الآخر لا يغير حكم فعل متقدم، ولا شك أن قتله أولاً وقع مبيحاً أكله.
فإن قيل: لسنا نسلم أنَّه معلم؟
قيل له: أنَّه معلم بعلمه ضرورة فلا وجه لهذا القول، ويمكن أن نقيسه بهذه العلة على أكل منه غير الكلب القاتل له، وهذا القول مروي عن عدة من الصحابة منهم أمير المؤمنين عليه السلام، وسلمان، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر روى لنا بعض هذه الأخبار، أبو العباس الحسني، وروي أيضاً عن أبي جعفر محمد بن علي عليهم السلام.
مسألة
قال: وإذا أرسل إليه كلباً غير معلم وأخذ الصيد فلحقه صاحبه قبل أن يقتله جاز أن ينتفع به، فإن لحه بعد ما قتله لم حل أكلهن وهذا مما لا خلاف فيه؛ إنَّما كان ذلك كذلك؛ لأنَّه إذا أخذ الصيد من الكلب الذي ليس بمعلم ثُمَّ ذكاه كان بمنزلة سائر الذبائح، ولا فضل في هذا بين المعلم وغير المعلم، ويشهد له قوله عز وجل: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}، فأما إن لحقه بعد القتل لم يحل له أكله؛ لأن الله عز وجل إنَّما أباح فريسة الكلب بشرط التعليم.
مسألة
قال: وإذا اشترك كلبان معلمان أو أكثر في الصيد جاز أكله، وإن أكلت الكلاب منه، هذا إذا كان قد أرسل كل واحد منهم؛ لأن قتله يكون بمعنى التذكية بالإرسال، ووجه ذلك عموم قوله عز وجل: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، فعم فكان الإشتراك فيه كالإنفراد؛ ولأن الواحد جائز أكل فريسته للإرسال والتعليم والتسمية وإذا شاركته الجماعة في هذه العلة ساوته في الحكم، فأما جواز أكله وإن أكلت الكلاب منه، فهو ما مضى فلا غرض في إعادته. (138/4)
مسألة
قال: وإذا اشترك فيه المعلم وغير المعلم لم يجز أكله، ووجهه أنَّه لا خلاف في حظر فريسة ما ليس بمعلم وإباحة فريسة ما هو معلم، فلما اجتمعا اجتمع الحظر والإباحة، فوجب تغليظ الحظر على الإباحة.
فإن قيل: فأنتم قلتم في جواز أكل ما قتل الكلب المعلم وأكل منه أنَّه ليس للخصم أن يرجح بالحظ؛ لأن إضاعته عندنا محظورة، فكأنهما حظر أن تقابلا فما أنكرتم أن يكون هذا سبيل الحظر في هذه المسألة.
قيل له: نحن قلنا ذلك في تلك المسألة؛ لأن الخصم ادعى حظر غير صحيح عندنا فقابلناه بحظر هو غير صحيح عنده، وأما في هذه المسألة فالحظر الذي ذكرنا ثابت بالإجماع، فوجب صحة ما قلناه لقوة هذا الحظر على الحضر الذي ادّعوه.
مسألة
قال: وإذا أرسل الذمي كلبه المعلم أو كلب المسلم فأخذ الصيد وقتله، لم يجز أكل ما قتل، فإن أرسل المسلم كلب الذمي فأخذ الصيد وقتله جاز أكله، هذه المسألة مبنية على أن تحريم ذبائح أهل الذمة إجماعاً، وسنبين الكلام في ذلك في باب الذبائح فإذا ثبت ذلك فوجه ما قلناه أن الكلب يجري مجرى الآلة الَّتِي هي السكين ونحوه والإرسال هو الجاري مجرى الذبح، ألا ترى أنَّه يراعى ما فيه ما يراعى في الذبائح من حال المرسل والتسمية، فإذا ثبت ذلك فكما أنَّه لا معتبر بحال السكين وكونه ملكاً لأي شيء كان ذلك المعتبر بحال الكلب في كونه ملكاً لأي مالك وإنَّما المعتبر بحال المرسل كما أن المعتبر بحال الذابح، فإذا ثبت ذلك فكما انه لا معتبر بحال السكين وكونه ملكاً لأي مالك كان ذلك المعتبر بحال الكلب في كونه ملكاً لأي مالك، وإنَّما المعتبر بحال المرسل كما أن المعتبر بحال الذابح، فإذا ثبت ذلك، فإذا أرسل الذمي كلبه أو كلب المسلم فيجب أن لا يجوز أكل فريسته، وإذا أرسل المسلم كلبه أو كلب الذمي، فيجب أن يجوز أكل فريسته على ما بيناه. (138/5)
فإن قيل: إذا كان الكلب جارياً مجرى الآلة فلم تعتبرون حاله في كونه مكلباً؟
قيل له: كما يعتبر حال الآلة في الذبح، ألا ترى أنا لا نجوز الظفر ولا السن ولا الخشب الذي لا يعمل عمل الحديد، ويكره الذبح بالسكين الكال فصح اعتبار الآلة بما يخصها، وإنَّما لا يعتبر حال مالكها، فكذلك لا يعتبر حال مالك الكلب.
مسألة
قال: وما اصطاده البازي والصقر والشاهدين وسائر الجوارح من الطير ووجد صاحبه حياً انتفع به وما قتلته هذه الجوارح لم يحل أكله، وبه قال جعفر والقاسم والناصر عليهم السلام، والرواية عن زيد بن علي عليهما السلام مختلفة، وذهب أكثر الفقهاء إلى جواز أكلهن وروي نحو قولنا عن طاووس، ووجه المسألة ما ذكره القاسم ويحيى عليهما السلام من أنها لا تجري مجرى الكلب في الائتمار والإقبال والإدبار عند الأغراء والأسلاء، وتحصيل القياس فيه ما نذكره من بعد، ويدل على ذلك قول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِيْنَ}، فأباح صيد الجوارح بشرط التكليب، والتكليب تعليم مخصوص للكلب، وذلك لا يتأتى في جوارح الطير وإذا كان ذلك كذلك، وأبيح لنا الصيد بشرط أن تكون الجوارح الَّتِي تقتله مكلبة، وجوارح الطير ولا يتأتى في التكليب، وثبت أنَّه لا يجوز أكل ما قتلته، ويدل على ذلك قوله تعالى بعد تعديد ما حرم علينا: {إِلاَّ مَا ذَكِّيْتُمْ وَمَا قَتَلَتْهُ الطِّيْرُ}، ومما لم نذكه، فوجب أن تكون حراماً. (138/6)
فإن قيل: في حديث سعيد بن المسيب حين سئل عن الصيد، يدرك وقد أكل الكلب منه أو البازي نصفه؟ فقال: سألت سلمان الفارسي، فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: <كله وإن لم تدرك تترك إلاَّ نصفه>.
قيل له: ليس في لفظ سعيد ولا في لفظ سلمان ذكر البازي، وإنَّما هو في لفظ السائل، وإنَّما كان غرض السائل أن يتعرف هل يجوز أكل الصيد الذي أكلت منه الجوارح، فيحتمل أن يكون الجواب خرج على الكلب، يبين ذلك أن سائر الأخبار ليس فيها ذكر البازي، فإذا احتمل ذلك كان ما اقتضته الآية من تحريم ذلك على ما بيناه أولى على أن محمد بن منصور روى عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: قلت يا رسول الله: أنا قوم نصيد بهذه الكلاب والبراءة فما يحل لنا منها؟ قال: <يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلموهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليه واذكروا اسم الله عليه>، فنبه بظاهر قوله: إن التحليل بشرط أن تكون الجارحة مما علمناه مكلبين، فوجب أن لا يدخل فيه البازي والصقر كما لا يدخل فيه كلب الضرع والزرع، إذا لم نعلمهما مكلبين، ويدل على ذلك انه لا خلاف في أن ما قتله الكلب الذي ليس بمعلم ذلك التعليم المخصوص لا يجوز أكل صيده ككلب الضارع والزرع، فوج أن يكون البازي والصقر كذلك بعلة أن كل واحد منهما لا يأتمر لصاحبه في باب الصيد في حال جوعه وشبعه عند الأغراء والأسلاء، يكشف ذلك أن البازي والصقر وسائر جوارح الطير لا يرجع شيء منها إلى صاحبه في حال الشبع، وكذلك لا يطلب الصيد في حال الشبع وأكثر ما فيه أنَّه ألف صاحبه فيأتيه إذا جاع ويطلب الصيد إذا جاع فهو أسوأ حالاً من كلب الضرع والزرع، على أن صاحبه لا يرسله وإنَّما يخلي عنه إذا رأى عنه انبعاثاً لطلب الصيد، ويبين ذلك أنَّه لا يرسل على صيد مخصوص وإنَّما يطلب ما يريده، فهو يصيد لنفسه ويمسك على نفسه، فكل ذلك يوجب أنَّه لا يجوز أكل فريسته، ويمكن أن يقاس البازي الذي ألف صاحبه بتلك العلة على البازي الذي لم يألف صاحبه وإن سيئت جعلت العلة أنها من جوارح الطير، قال: والفهد إن كان في ائتماره وإقباله وإدباره في حال رجوعه وشبعه مثل الكلب المعلم كان حكم صيده حكم صيد الكلب، وإن كانت حاله (138/7)
مخالفة لحال الكلب في ذلك لم يحل أكل ما قتله والصحيح انه يأتمر ائتمار الكلب، وبه قال عامة العلماء، ووجهه انه مقيس على الكلب المعلم بالعلة الَّتِي ذكرناها، وحكيناها عن القاسم ويحيى، وذلك أن التعليل يدل على أن حكم سائر السباع في العبيد عندهما، هذا الحكم فما كان منها يأتمر إئتمار الكلب فأكل صيده جائز وإن قتله، وأكل منه كما يجوز أكل صيد الكلب المعلم لاستوائهما في التكليب وإن ما لا يأتمر ذلك الإئتمار لا يجوز أكل فريسته؛ لأنَّه يجري مجرى الكلب الذي ليس بمعلم، وأنه لا معتبر عندهما بجنس السباع، وهو الصَّحيح الذي يقتضيه القياس على ما بيناه. (138/8)
مسألة
قال القاسم عليه السلام: ومن أخذ الصيد من كلبه وبه رمق فليدكه، فإن لم يذكه بعد ذلك لم يأكله ولم يفصل بين أن يكون قدر على ذبحه بعد أخذه أو لم يقدر، فكان الظاهر من قوله إذا أخذه ولم يذبحه فإنه لا يحل أكله قدر على ذبحه أو لم يقدر، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال مالك والشافعي: أنَّه إن قدر على ذبحه فلم يذبحه حتَّى مات لم يؤكل، فإن لم يقدر على ذبحه حتَّى مات أكل، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}، إلى قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}، فحظر أكل جميع ما ذكر إلاَّ بعد أن يذكيه، وأيضاً إذا أخذ الصيد وتمكن منه وهو حي فقد صار حكمه حكم الدواجن، فوجب أن لا يجوز أكله إلاَّ بعد تذكيته كما لا يجوز أكل الداجن إلاَّ بعد تذكيته قياساً عليها، والمعنى التمكن منه تكشف ذلك أن الصيد لم يحل أكل ما قتل الكلب منه بحبسه بل لامتناع بعد التمكن منه فقد زالت العلة المبيحة لأكله بقتل الكلب له ويبين ذلك أيضاً أن الإبل والبقر إذا بدت وتعذر أخذها وتذكيتها في مذبحها أو منحرها جرى مجرى الصيد في جواز أكلها بأن تقتلب سهم يرشق به أو بسيف يضرب به أو رمح يطعن به وإن لم يذبح أو ينحر، فبان أن وجوب الذبح يتعلق بما ذكرنا من التمكن فمتى حصل التمكن من الصيد فلم يذبح لم يجز أكله وكان ميتة. (138/9)
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون التمكن المعتبر به هو التمكن من الذبح؟
قيل له: لو كان كذلك لوجب أن يكون الداجن إذا أرسل الكلب عليه فجرحه وأخذ وبه رمق فمات قبل أن يتمكن من ذبحه أنَّه يجوز أكله، فلما ثبت أنَّه لا يجوز أكله؛ لأنَّه متمكن منه وإن لم يتمكن من ذبحه في الحال، يبين ذلك في الصيد على أنَّه يلزم فيما مات حتف الله إذا أدركه صاحبه ولم يتمكن من ذبحه أن يجوز أكله، وأيضاً لو مات في يده من غير أن يكون الكلب جرحه لكان ميتة فكذلك إذا جرحه، والعلة أنَّه مات في يده من غير ذبح.
فإن قيل: هو مقيس على الممتنع الذي مات في حال الامتناع؟ (138/10)
قيل له: قد بينا أن العلة المبيحة لأكل فريسة الكلب هي الامتناع، قال: يجوز أن يقاس على الممتنع ما ليس بممتنع كما أن علة تحريم النبيذ لما كان كونه منكراً لم يجز أن يقاس ما ليس بمستنكر على ما هو منكر في التحريم، على أنهم لا يخالفون أنَّه إذا أخذه وقدر على ذبحه فلم يذبحه حتَّى مات لم يؤكل، فكذلك إذا لم يقدر على ذبحه بعلة أن الامتناع المبيح لأكله قد زال.
باب القول في صيد الماء (139/1)
ذكاة الحيتان أخذها حية، فأما ما وجدها منها طافياً أو قذف به البحر ميتاً فلا خير فيه.
اعلم أن قوله ذكاة ليس يريد حقيقة التذكية لتنصيصه على جواز أكل الحيتان الَّتِي يصطادها الكفار ولو كان الآخذ ذكاه لم يحل أكل ما اصطاده وإنَّما المراد به السبب الذي إذا مات به جاز أكله وتحصيل مذهبه أنَّه يجوز أكله إذا فارق الماء ثُمَّ مات أو كان موته في الماء بسبب كان ممن اصطاده فأما الطافئ ففيه اختلاف، ذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنَّه لا يجوز أكله وهو قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، وقال الشافعي: يجوز أكله، وروي جواز أكله عن أبي بكر، والأصل فيه حديث أبي الزبير عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <ما ألقى البحر أو جرر عنه فكله، فلا بأس به وما وجدته طافياً فلا تأكله>.
فإن قيل: روى الثوري وحماد بن سلمة موقوفاً عن جابر.
قيل له: يجوز أن يكون جابر أفتاه مرة ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخرى وليس في ذلك بيان، وأيضاً روى محمد بن منصور بإسناده عن زيد، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، أنَّه كان يكره الطافئ على الماء وما نصف عنه، إلاَّ أن يجده يتحرك وما وجده في ساحل البحر إلاَّ أن يدركه متحركاً أو جزر عنه فكله؛ لأن المعنى ما ألقى البحر أو جدر عنه وهو حي فإن استدلوا بقوله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ}. يقال لهم: يحتمل أن يكون ما يصطاد من الحبر هو المراد والميت فيه لا يصطاد فهو أولى؛ لن حقيقة الصيد هو فعل الصائد على أن الخبر خاص وعليه يبنى العام عندنا وعند الشافعي فصار استدلالنا أولى وكل ما ذكروا من العمومات نحو قوله: أحلت لنا ميتتان، وقوله في البحر: <هو الطهور ماؤه والحل ميتته>، يخصه بخبرنا ويستدل بقوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}، وبأنه رأي أهل البيت عليهم السلام لا أعرف بينهم فيه خلافاً، ذلك عندنا حجة. (139/2)
فإن قاسوه على ما ليس بطاف عورض قياسهم بقياسه على الدواجن في أنها لا حل متى لم يكن موتها لوجه مخصوص، والعلة أنها مما أبيح أكله للمحرم ولا يلزم عليه الجراد؛ لأنَّه لا يجوز أكله للمحرم على أن علتهم يدفعها النص والأصول شاهدة لنا؛ لأن الحيوان لا يحل أكلها إلاَّ أن يكون خروج الروح منها بأمر مخصوص.
فإن قيل: روي أن نفراً من الصحابة نزلوا بقرب البحر وأن البحر ألقى عليهم حوتاً فأكلوا منها أياماً ثُمَّ ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: <إن كان بقي معكم شيء فابعثوا به إلينا>.
قيل له: يجوز أن يكون البحر ألقاه حياً ثُمَّ مات فذلك يجوز أكله إذ ليس في الخبر أن البحر ألقاه ميتاً، فأما ما ذهب إليه أبو حنيفة من أنَّه يعتبر فيه أن لا يكون قد مات حتف أنفه بأن يكون مات من حر الشمس الماء أو برده أو بأن تقتل الحيتان بعضها بعضاً فلا يصح؛ لأنَّها اسم الطافئ بجمع ذلك كله، وعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ما وجدته طافئاً فلا تأكله>، يقتضي تحريمه؛ لأنَّه لم يخص طافئاًً من طاف، ويدل على ذلك قول علي عليه السلام إلاَّ أن يدركه متحركاً، يعني ما ألقاه البحر أو جدر عنه، وأيضاً هو مما مات في الماء بغير سبب كان ممن اصطاده، فوجب أن لا يجوز أكله، دليله الطافئ على أن ما جوِّر ما أكله، لا خلاف فيه وما عداه مختلف فيه. (139/3)
مسألة
قال: ولو أن إنساناً حظر حظيرة في جانب من الماء فدخلها الحيتان وشد عليها صاحب الحظيرة فما طفئ منها فوق الماء فهو ميت لا خير فيه، وما بقي حتَّى ينضب عنه الماء ويبقى في الحظيرة على وجه الأرض فلا بأس بأكله ميتاً كان أو يحياًّ، وهذا إذا كان الماء قائماً فوق الحظيرة، ووجده فوق إملاء طافئاً لا يعلم أن موته كان سبب حصوله في الحظيرة فلذلك قلنا أنَّه لا يؤكل فأما ما يوجد في الحظيرة بعد ما ينضب عنه الماء فالظاهر أن الحظيرة كانت سبب قتله؛ لأنَّه إذا اضطرت فيها لم يمتنع أن يؤدي إلى قتله.
فإن قيل: ولا يمتنع أيضاً أن يكون مات في ذلك الماء حتف أنفه، فلم حملوه على أن الحظيرة كانت سبب قتله؟
قيل له: لأنا قد علمنا أن ما ذكرناه يجوز أن يكون سبب قتله فحملنا موته على أن ما ذكرناه كان سببه، ألا ترى أنا إذا رمينا الطائر بسهم فأصبناه بحدة يجوز أن يكون الطائر مات من داء قبل لا لتلك الإصابة؛ لأن مثل تلك الإصابة تحصل فلا تقتل ومع هذا فإنا نجو أكله ونحمله على أنَّه مات بسبب تلك الجراحة، وكذلك الحكم في جرح الآدمي فيما يوجب القصاص والقود فحملنا أمر السمك إذا ماتفي الحظيرة على ذلك؛ ظنه أمر يجوز أن يكون سبب القتل على أن ما جوزناه أكله لا خلاف فيه فلا وجه لإطالة الكلام. (139/4)
مسألة
قال: ولا بأس بأكل ما اصطاده (الكفار) من الحيتان إذا غسل من مس أيديهم مما لا أحفظ فيه خلافاً إلاَّ ما يحكى عن الناصر أنَّه كرهه، وذلك لا معنى له لقوله: <أحلت لكم ميتتان ودمان الحوت الجراد>، ولأنه إذا لم يختلفوا أن البحر إذا قذفه حياً ثُمَّ مات أنَّه يجوز أكله فقد ثبت أنَّه لاكاده له في الحقيقة وأن المجرح له من الماء حتَّى يموت لا يختلف في حاله أن يكون مسلماً أو ذمياً على أنا قد بينا أنَّه يحل بوقوع الموت على وجه مخصوص ولم يثبت أنَّه يجب أن يراعى فيه حال الصايد.
باب القول فيما اصطيد بالرَّمي (140/1)
لو أن إنساناً رمى صيداً بسهم فأصابه وغراسه فيه وأدماه وقتله بذلك جاز أكله، فإن لم يدمه السهم ومات من وقعه فلا يجوز أكله، فكذلك لا يجوز أكل ما قتل بالمعراض ولا ما قتل بالبندق، وبه قال أكثر العلماء، وحكي عن الأوزاعي في المعراض حرف أو لم يخرق أن ما قتل به جاز أكله، والأصل في ذلك حديث عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله أنا نرزي بالمعراض، قال: < ما خرق فكله وما أصاب بعرض فلا تأكله فإنه وقيذ>، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الحذف، وقال: <لا تمكن في العدو ولا تصيد الصيد>، فبين أنَّه لا يحل الاصطياد بها، والعلة أنها لا حد لها وإنَّما تقتل بنقلها، وأيضاً الموقوذة ما يقتل بالعصا ونحوه وكل ما قتل مما لا حد له يجرح ويدمى فهو كالقتل بالعصا، والمعنى أنَّه قتل بثقله، فوجب أن يكون موقوذاً وكذلك لو أدماه ولم يخرقه، فيجب أن لا يجوز أكله؛ لأنَّه اشترط أنَّه يكون غرسه فيه، وذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ما خرق فكل>، ولأن الضرب بالعاء قد يدمي الموقوذة ولا يحل أكلها، والذي يجيء على هذا أن ما قلته الكلب بالصدم أو بأن يقع عليه فيقتله بثقله ويمنعه التنفس، فيجب أن لا يجوز أكله، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي له فيه قولان كما قيل عنه، وذلك أن جميع ذلك يكون من الموقوذة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا عَلِمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ}، وقيل أن الجوارح مأخوذ من الجرح فلا يحل أكل فريسته ما لم يجرح، وكذلك ما قتل الكلب يجب أن لا يؤكل ما لم يجرحه الكلب، قال: وكل ما قتله بحديد تعمل عمل السهم من الإدماء جاز أكله والمارد به أن كل شيء لا يجرح ولا يدمي فلا يجوز أكله، وما جرح وأجرى الدم يجوز أكله على ما بيناه.
مسألة
قال: ولو أن إنساناً رمى صيداً في الجبل فتردى منه فمات فلا يستحب له أكله، قال في الأحكام: إذا رمى الصيد في الجبل فتردى منه ومات فلا أرى أكله، فكان في معنى قوله لا يستحب أكله فإن وقع على أنَّه لا يجوز أكله لا على معنى أنَّه يجوز، والعدول عنه أفضل وذلك إذا رمي بسهم فوقع على الجبل أو على شيء مرتفع من سطح أو تل ثُمَّ تردى بعد ذلكن فإنه لا يجوز أكله، فإن وقع على الجبل أو غيره وثبت عليه إلى أن مات جاز أكله؛ لأن ذلك لا بد منه؛ ولأنه سبب أوجبه الرمي، وليس كذلك إذا تردى بعد ذلك؛ لأن التردي يكون بأمر سوى الرمي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي، والأصل فيه قوله عز وجل: {وَالْمُتَرَدِّيَةِ}، وهذا مترد، فوجب أن لا يحل أكله، وأيضاً جائز أن يموت من التردي وجائزان يموت من الرمي وما قتله الرمي أكله مباح وما قتله التردي فأكله محظور، فلما اجتمع فيه وجه الحظر والإباحة وجبان يغلب الحظر كما قلنا فيما اشترك فيه الكلب المعلم وغير المعلم، قال: وكذلك إذا وقع في الماء عبد الرمي لم يستحب أكله، وهذا أيضاً معناه لا يجوز نص في المنتخب على أنَّه لا يحل أكله، وهذا إذا مات في الماء روي عن عدي بن حاتم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا وقعت رميتك في الماء فلا يأكل>، ووجهه ما تقدم فلا غرض في إعداته، قال القاسم عليه السلام: إذا وقع في الماء بعد الذبح وفري الأوداج جاز أكله، وذلك انه إذا ذبح وفرى الأوداج فقد قتله ولم يبق فيه إلاَّ الاضطراب، ومعلوم أن المذبوح لا يسلم ن ذلك بل يموت لا محالة، وليس كذلك الغرق؛ لأن الغريق قد يسلم من الغرق فلما اجتمع له الغرق والذبح كان الحكم للذبح؛ لأنَّه قاتل لا محالة، ولم يكن للغرق معه حكم يجوز أن يسلم منه، ألا ترى أن من ذبح رجلاً إلى القفا ثم، جاء آخر فطعنه، فإن القاتل هو الذابح دون الطاعن؛ لأن الذابح قد عمل ما لا بد أن يموت منه والطعن قد يسلم منه، فكذلك مسألتنا. (140/2)
مسألة
قال: ولو أنَّه رمى صيداً بسهم فأثبته به وأرسل عليه كلباً فعض عليه ثُمَّ غاب عنه ساعة أو ساعتين ثُمَّ وجه ميتاً قد أصاب نه سهمه أو كلبه مقتلاً يموت منه، ولم ير فيه غير أثر السهم أو الكب فلا بأس بأكله وذلك أنَّه إذا وجد فيه أثر سهمه أو كلبه ولم يجد غير ذلك ووجده قد مات فقد وجب السبب الموجب لقتله المبيح لأجله فيجب أن يكون الأمر محمولاً عليه، ويجوز أن يكون عرض له سواه لا يؤثر فيه فكما أنَّه وإن لم يغيب عنه جانان يكون عرض له في الحال مرض قتله، وذلك الطائر إذا سقط على الأرض والوعل من الرمي جاز أن يكون سقوطهما على الأرض أعان على قتلهما لكن لما لم يكن لذلك حكم بل كان الحكم للسبب الظاهر، فكذلك مسألتنا، ويمكن تحرير القياس فيه بأن يقال: أن الظاهر من أمره أنَّه قتله سهمه أو كلبه، فيجب أن يجوز أكله، دليله لو لم يغب عن بصره. (140/3)
فإن قيل: أليس قد روى زيد بن علين عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سأله الراعي قال: <ما أضميت فكل وما أنميت فلا تأكل>.
قيل له: قد فسر زيد بن علي معنى الإَماء ما كان بعينك، والإنماء ما غاب عنك، فلعلك غير سهمك أعان على قتله فكان المراد به أن من رأى سهمه يرشق الصيد أو كلبه يحرجه فله أن يأكله، وإن غاب عنه حال سهمه فلا يدري هل رشقه أم لم يرشقه، وكذلك حال كلبه فلم يدر أعض عليه أم لم يعض أمعض غيره، فلا يجوز أكله.
مسألة
قال: ولا يكره الصيد بالليل وإنَّما يكره أن يصطاد الطائر ن وكره، ويؤخذ من مأمنه، وذلك لقوله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا أرسلت كلبك وسميت فكل ما قتل>، وكذلك قوله: <ما أصميت فكل>، وقوله حين سأله عدي بن حاتم عن الرمي، فقال: <ما خرق فكل فلم يستثن في شيء من ذلك ليلاً من نهار>، فوجب أن يكون الليل والنهار في ذلك سواء، ووجه كراهة اصطياد الطائر ن وكره حديث ذكره يحيى عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <الطير آمنة في وكورها بأمان الله فإن فعل حل له الصيد، وإن كان مسيئاً في فعله>. (140/4)
باب القول في الذَّبائح
لا بأس بأكل ذبيحة المرأة المسلمة إن عرفت الذبح، وفرت الأوداج، وكذلك الصبي لا بأس بأكل ذبيحته إذا عرف الذبح وفرى الأوداج، أما المرأة فلا خلاف في ذبيحتها، وقوله عز وجل: {إِلاَّ مَا ذَكِّيْتُمْ}، فعم الرجال والنساء، وأما الصبي فقد شرط القاسم فيه أن يكون مسلماً، وهو لا يكون مسلماً بعقده وقوله، وإنَّما يكون مسلماً حكماً بإسلام أبويه أو أحدهما؛ لأنَّه لا تكليف عليه في نفسه، فعلى هذا لو كان أحد أبويه مسلماً والآخر ذمياً أو وثنياً جاز أكل ذبيحته لا يكون مسلماً بأحد أبويه فإن كان أبواه كافرين لم يحل أكله ذبيحته؛ لأن الإسلام لم يحصل له لا حقيقة ولا حكماً، وحكي عن مالك أنَّه اعتبر الأب على أي دين كان في الذبيحة وذلك لا يصح لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <إن المولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه>، فأثبت له حكم الكفر بالأبوين جميعاً فإذا كان أحدهما مسلماً أيهما كان فيجب أن تكون مسلماً، ولا بأس بذبيحة الجنب والحائض، وهذا مما لا خلاف فيه؛ ولأن ذلك لا يخرجها عن الملة الَّتِي معها يصح الذبيحة، قال: ولا بأس بذبيحة الأخرس والعبد والآبق والأغلف وكل من لم يبلغ فسقه الكفر فلا بأس بذبيحته، أما الأخرس فأكثر ما فيه أنَّه لا يمكنه التسمية، وقد ثبت أن من نسيها على الذبيحة يجوز أكل ذبيحته، والأخرس أبين عذراً من الناسي، ألا ترى أن من نسي القارءة في الصلاة لم تجزئ صلاته، وصلاة الأخرس جائزة، فوجب جواز ذبيحته؛ لأنَّه تارك للتسمية للعذر كالناسي وأما العبد الآبق والأغلف الذي لم يترك الختان استباحة واستحلالاً فعصا معصية وغاية حال معصيته أن تكون فسقاً ولا تبلغ الكفر والفسق لا يخرج الفاسق من الملة، ولهذا يرث ويورث وتصح مناكحته فجاز أكل ذبيحته؛ لأنَّه من أهل الملة وممن يجري عليه أحكام الإسلام له وعليه، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء وإن كانت قد ذهبت طائفة من أصحابنا أنَّه لا يجوز أكل ذبيحة الفاسق (140/5)
وهو غير محكي عن العلماء، ولا وجه له ولأن الفاسق إذا صحت صلاته وصيامه وحجه ونكاحه فذبيحته أجوز دليله البر التقي لما صحت صلاته وعبادته ونكاحه حلت ذبيحته وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام سأله رجل فقال له يا أمير المؤمنين أرأيت قومنا أمشركون هم؟ يعني أهل القبلة، قال: (لا والله ما هم بمشركين ولو كانوا مشركين ما حلت لنا مناكحتهم ولا ذبائحهم ولا موارثتهم؛ ولكنهم كفروا بالأحكام وكفروا بالنعم والأعمال وكفرونا وكفروا النعم والأحكام غير كفر الشرك)، فدل ذلك على أكل ذبيحة من لم يبلغ معصية الشريك. (140/6)
مسألة
قال: ولا يجوز أكل ذبيحة أحد من الكفار ذمياً كان أو غيره، والمشهور عن زيد بن علي، أنه كان يجيز ذبيحة اليهودي والنصراني، وهو المروي عن جعفر، وبه قال سائر العلماء، واقل القاسم ويحيى والناصر عليهما السلام: لا تجوز ذبائحهم، وهو الأصح، والأصل فيه قول الله عز وجل: {يَا أَيَّهُا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، إلى قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}، فعلق الإباحة بتذكية المسلمين فلم يجز أن يدخل فيه اليهود والنصارى.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}.
قيل له: اسم الطعام إذا طلق لم تعرف به الذبائح، ألا ترى أن سوق القصابين لا يعرف بسوق الطعام فلا يجب أن تحمل الآية على ذبائحهم على أنَّه عز وجل أحل طعام أهل الكتاب، وهذا القبيل من الإضافة إذا أطلقت تفيد إضافة الملك، وهذا ليس هو موضع الخلاف؛ لأن المذبوح يكون ملكاً لهم وذبيحة لنا فيجوز أكله ويكون ملكاً لنا وذبيحة له، فلا يجوز أكله.
فإن قيل: هذا يمنع أن تكون الآية فائدة؟
قيل له: لا نمنع ن ذلك؛ لأن الفائدة فيها بيان أنَّه يجوز لنا أن نطعمهم إذا شئنا ونأكل من طعامهم، وأنه لا يجب ترك مواكلتهم، ألا ترى أنَّه تعالى بين أن طعامنا أيضاً حل لهم، ولا فائدة فيه أكثر من أنَّه بين أنه يحل لنا طعامهم؛ لأنَّه لو أراد بيان الحكم لهم لم تكن فيه فائدة؛ لأنهم لا يقبلون شرعهم من كتابنا والالتباس في أن ذبائحنا تحل لهم فكانت الفائدة ما قلناه من أصحابنا من جملة الآية، على أن المارد بها الذين كانوا من أهل الكتاب ثُمَّ آمنوا، وهو لا يمتنع أن يطلق فيهم أنهم أهل الكتاب كما قال الله عز وجل: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ}، فكانت الفائدة حثاً للمسلمين على موادتهم ومخاطبتهم ومواكلتهم إذا آمنوا ولا خلاف أن الوثني لا يجوز أكل ذبيحته، وكذلك عامة العلماء يذهبون إلى أنَّه لا يجوز أكل ذبيحة المجوس، وكذلك ذبيحة اليهود والنصارى، والعلة أنها ذبيحة كافر ويمكن أن يعلل بأنه لا يرث المسلم ولا يرثه المسلم مع كونه وارثاً وموروثاً على أن الذبائح لا خلاف أنَّه يراعى فيها حكم الأديان، فوجب أن لا يستوي فيها حال المسلم واليهودي والنصراني كالشهادات، ألا ترى أن شهادات اليهود وإن قبلت لم تقبل على المسلمين، وكذلك النكاح؛ لن عندنا لا تجوز مناكحتهم وعندهم يجوز لنا أن ننكح إليهم، ولا يجوز أن ننكحهم فلم تحصل المساواة فوج أن يكون ذلك حكم الذبائح فإذا لم تحصل المساواة فلا قول إلاَّ قول من يمتنع من أكل ذبائحهم. (140/7)
فإن قيل: فحقن الدم قد استوفى فيه المسلم والذمي وإن كان يعتبر فيه الدين؟
قيل له: ثُمَّ يستوفيا فيه؛ لأن الذمي محقون الدم على عوض يبذله وهي الجزية، وكذلك نقول في الدية أنَّه لا يراعى فيها مع حقن الدم الدين إذا لم يكن إلى مدة كذا، فلذلك ساوت دية المسلم دية الذمي، قال: ومن جازت مناكحته جاز أكل ذبيحته وإنَّما المراد به إذا جداز للمسلم مناكحته وهذا في الذمي وقد مضى الكلام فيه. (140/8)
مسألة
قال: ومن سرق شاة فذبحها بغير إذن صاحبه لم يحل له أكلا فإن رضي صاحبها حل بعد ذلك أكلها، وهذا يدل على أن من مذهبه أن الغاصب لا يحل له الانتفاع بالمغصوب وإن ضنه بالغصب أو ملكه بالاستهلاك حتَّى يرضى صاحبه، والأصل فيه ا روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدمت إليه شاة ليأكلها فقال: <إنها لا تسيغني> قالوا: إنها شاة فلان أخذناها لنرضيه من ثنها فامتنع من أكلها، وقال: <أطعموها الأسرى>، وقوله: إن رضي صاحبها بعد ذلك حل له أكلها، دليل على جواز أكل ذبيحة الفاسق خلافاً لما يذهب إليه جهال أصحابنا.
مسألة
{بِسْمِ اللهِ}
قال: ومن ذبح إلى غير القبلة جاهلاً أكلت ذبيحته ومن ذبح إلى غيرها متعمداً للامحراف عنها لم تؤكل ذبيحته، هذا محمول على أنَّه يكون تعمده ن أحد وجهين:
إما أن يعتقد في غير قبلة المسلمين أنَّه قبلة مع علمه أنَّه غيره قبلة المسلمين فتوجه إليها وذبح فلا تؤكل ذبيحته؛ لأنَّ ذلك يوجب الكفر.
وذبيحة الكافر أو متعمد للانحراف عنها استخفافاً بها أو بما عظم الله من أمرها، وهذا أيضاً يوجب الكفر، فأما إن تعمد لغرض غير هذين الوجهين فإنه لا يكون كفر فلا يمتنع من أكل ذبيحته.
مسألة
قال: وكذلك إن نسي التسمية على الذبيحة جاز أكلها فإن تركها متعمداً لم تؤكل، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك، وقال الشافعي: تؤكل تركها عمداً أو نسياناً، والأصل فيه قول الله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكِّيْتُمْ}، والتذكية اسم شرعي فأثبت أنَّه ذكاه حصلت به الإباحة ولم يثبت ذلك إلاَّ فيما أجمعوا فيها، و هو أن يسمي عليها وما عداه لا يعلم أنَّه ذكاه، فلا تستباح به، ويبقى المذبوح على الحظر ولا يمكن الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وآله وسلم الذكاة في الصدر واللبة؛ لأن ذلك يدل على موضع الذكاة دون صفة الذكاة ومايتها، وكلامنا في مائية الذكاة، وأيضاً قد ثبت وجوب الذكر لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا}، صواف وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ}، وإذا ثبت الوجوب بظاهر الآية فلم يقل أحد بوجوبها، إلاَّ قال من تركها متعمداً لم تؤكل ذبيحته، وإنها شرط في صحتها للذاكر، ويدل على أن هذا شرط في الذكاة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ثعلبة: <إذا أرسلت كلبك وقد ذكرت اسم الله عليه فكل>، وكذلك في حديث عدي بن حاتم إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك، فأباح ذلك بشرط التسمية، وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: (ذبيحة المسلمين حلال إذا ذكر اسم الله عليها)، قال: (له في صيد الكلب إذا سميت فكل وإلاَّ فلا تأكل)، قال: قلت فأرسل كلبي وأجد عليه كلباً آخر قال: (لا تأكل إنك أنَّما سميت على كلبك)، فبين صلى الله عليه وآله وسلم إباحة ذلك بشرط التسمية، وفي اللفظ الأول نهى عن الأكل إذا ترك التسمية. (140/9)
فإن قيل: قد قال الله عز وجل: {إِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}، وقال: {إِلاَّ مَا ذَكِّيْتُمْ}، ولم يشترط التسمية؟
قيل له: مذهبنا ومذهبكم بنا العام على الخاص وقوله {فَاصْطَادُوا} عام، وقوله: {إِلاَّ مَا ذَكِّيْتُمْ} وما ذكرنا خاص على أنا قد بينا أن الذكاة اسم شرعي إنَّما تكون ذكاة بشرط التسمية، ويدل على ذلك قول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ}، وهذا عام في كل ما لم يذكر اسم الله عليه، فوجب تحريمه. (140/10)
فإن قيل: حكم الآية مقصور على السبب الذي وردت فيه، وذلك أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين فيقولون: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله فأنزل الله هذه الآية.
قيل هل: عندنا أن نزول الآية على سبب لا يوجب قصرها عليه بل يدل عليه السبب وتكون هي عامة إذا كان اللفظ عاماً.
فإن قيل: فهذا يوجب تحريم ما نسي الذابح التسمية عليه.
قيل له: كذلك نقول إلا أنه مخصوص بالدلالة.
فإن قيل: قوله: وأنه لفسق، يدل على أن المراد به ذبيحة المشرك لاتفاق الجميع على من استباح أكله مع ترك التسمية عامداً لا يلحق اسم الفسق؟
قيل له: قد يلحقه إذا اعتقد تحريمه ثُمَّ أكله وإنَّما لا يلحقه اسم الفسق إذ حكمه إذا كان متأولاً مجتهداً فأداه اجتهاده إلى جواز أأكله فيكون الفسق خاصاً بالدلالة وإن كان عاماً في اللفظ وقد يجوز أيضاً أن نقول: لا يحكم عليه بالفسق، وإن أكله محرماً عليه، بأن يخصه إذ لا يمتنع إخراجكم على عموم لفظ أن عطق عليه بخاص فيكون التحريم عاماً، والفسق خاصاً في المشركين، كقوله عز وجل: {وَوَصِّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً}، فهو عام في المسلم وغيره ثُمَّ عطف عليه ما هو أخص منه في المشرك، فقال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِيْ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا}.
فإن قيل: الذكر قد يكون بالقلب كما يكون بالنسيان؟
قيل له: إن أردت بالذكر التذكر بالقلب فكم يقل أحد أنَّه يلزم عند الذبح الذكر بالقلب على وجه تجدده وإن أردت الاعتقاد الخالص فذلك لا يسمى ذكراً على أنه واجب ذكراً يختص حال الذبح والإرسال للجارحة والاعتقاد لا يختص تلك الحال فبطل هذا التأويل. (140/11)
فإن قيل: لو كانت التسمية شرطاً في جواز الذبيحة لاستوى فيها العامد والناسي؟
قيل له: ليس يمتنع اختلاف حكم العمد والسهو في كثير من المواضع؛ لن عندنا أن التسمية شرط في صحة الوضوء ويختلف فيها حكم العامد والناسي وترك الكلام شرط في صحة الصلاة ويختلف فيه حكم العامد والناسي عند الشافعي.
فإن قيل: روي عن عائشة أنَّه قيل يا رسول الله: إن قوماً عهدهم بالجاهلية حديث يأتوننا بل لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا فنأكل منها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <كلوا وسموا>، فأباح أكله وإن لم يعلموا وجود التسمية عند الذبح.
قيل له: هذا الخبر هو حجتنا لأن القوم لولا أنهم علموا أن التسمية شرط في الذبيحة لم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وإنَّما أباح لهم على حمل أمور المسلمين على الصحة وعلى ما يجوز لهذا نقول نحن بجواز أكل ذبيحة المسلم ما لم يعلم أنَّه ترك التسمية عامداً، وهذه مسألة طريقها الآية والأثر والقياس فيها يضعف، وقيل أن الذبح مقيس على الصلاة بعلة انه ذو أفعال متغايرة يختلف فيها حكم أهل الأديان، فيجب أن يكون الذكر شرطاً في صحته، قالوا: ولا يلزم عليه الصوم؛ لأنَّه ليس بذي أفعال متغايرة، وقيل: أنَّه يقاس على ذبيحة من أهلّ لغير الله، والمعنى أنَّه ترك التسمية عامداً فأما الناسي فوكل ذبيحته عندنا وعند أبي حنيفة، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وعطاء وسعيد بن جبير، وروي عن ابن عمر والنخعي وابن سيرين أنها لا تؤكل ذكر جميع ذلك أبو بكر الجصاص، ووجهه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <تجاوز الله عن أمتي الخبر>، وروي: <رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه>، فدل ظاهره على سقوط لزوم حكم التسمية في حال النسيان، فوجب أن تصح الذبيحة من الناسي، وأيضاً الناسي في حكم العاجز، فوجب أن تكون ذبيحته جائزة من غير تسمية، دليله الأخرس، وأيضاً قد زال عنه التكليف، فإذا ذبح أدّى ما كلف ن الذبح، فوجب أن يجزيه وليس يلزم عليه الصلاة إذا تكلم فيها ناسياً؛ لأن القضى فرض ثان، على أنَّه إن لم يكن اليوم به قاتل، فهو إجماع. (140/12)
مسألة
قال: ولا يجوز الذبح بالشطاط والظفر والعظم، وذلك لما روى رافع بن خدع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <ما أنهر الدم وذكرتم عليه اسم الله فكلوا ما لم يكن بسن أو ظفر وسأحدثكم بذلك، أما السن فعظم وأما الظفر فشبه العظم، وأما الشطاط فمدى الحبشة>، فمنع من الذبح بها وبين أنَّه منع من الذبح بالسن؛ لأنَّه عظم فلم يجز الذبح بشيء من العظام، وفي حديث زيد بن علي، عن أ[يه، عن جده، عن علي عليهم السلام: (أن راعياً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أرعى غنم أهلي، ويعرض لأحدها عارض فأخاف أن تفوتني بنفسها ولا مدية معي أفأذبح بسني؟ قال: <لا>، قال؛: فبظفري؟ قال: <لا>، فبعضم؟ قال: <لا>، قال: <لا يمنع الذبح بهذه الأشياء>،). (140/13)
فإن قيل: قد روي عن عدي ابن حاتم أنَّه قال: يا رسول الله أرأيت إن صاد أحدنا صيداً وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشقة العصا؟ قال: <أجر الدم بما شئت، واذكر اسم الله عليه>.
قيل له: تقتد برواية أنَّه قال أجر الدم بما شئت إلاَّ الظفر والعظم وكذا وكذا على أنهم قد استثنوا السن والظفر القائمين فنحن نستثني سائر ما ذكرناه.
فإن قيل: روي أن رجلاً كان يرعى لقحة في شعب من شعاب أحد فأخذها الموت فلم يجد شيئاً ينحرها فأخذ وتداً فوجئ به في لبتها حتَّى أمرق دمها، ثُمَّ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بذلك، فأمره بأكلها؟
قيل له: يحتمل أن يكون الوتد كان من حديد، وكان له حد حاد كحد السكين إذ ليس في الخبر صفته الوتد على أن أصحاب أبي حنيفة لا بد لهم من هذا التأويل؛ لن عندهم لابد من قطع الودجين والحلقوم والمريء، وإن روي عن أبي حنيفة أنَّه يجري قطع ثلاثة نها، وذلك لا يتأتى بوتد مستدير الرأس من خشب.
فإن قيل: ما ذكرتم صفة الحرية فما فائدة السؤال؟
قيل له: لا يمتنع أن يكون سائلاً سأل؛ لأنَّه نحر في حال خشي معها الموت ويؤكد ما ذهبنا إليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وإذا قتلتم فأحسنوا القتل>، وأبو حنيفة يوافقنا في السن والعظم إذا كانا قائمين أنَّه لا يجوز بهما، وإنَّما يخالف إذا كانا منزوعين، وعندنا لا يجوز الذبح بهما على جميع الأحوال، وبه قال الشافعي، وذلك أن النَّهي عن الذبح بهما قدد مطلقاً وتنبيهه صلى الله عليه وآله وسلم على العلة في الن بأنه عظم، يدل على أن ذلك لا يجوز لا في حال قيامه ولا في حال نزعه، و أيضاً الذبح بهذه الأشياء لا يفرى فرياً تاماً وإنَّما يخرش ويقطع ويهشم فيصير المذبوح منخفقاً، وكذلك حكي عن ابن عباس أنَّه قال في الذبح بالظفر، أنَّه الخنق. (140/14)
مسألة
قال: ولا بأس أن يذبح بالمروة والحجر الحاد إذا فرى الأوداج وأنهر الدم، قال في الأحكام والمنتخب جميعاً: لا بأس بالذبح بالمروة والحر الحاد جيمعاً إذا فرى الأوداج وأنهر الدم، وأبان العروق كما تفعل المدية، فكان فيه تنبيه على أن ما فعل المدية يجوز الذبح به، وذلك لما في حديث زيد بن علي عليه السلام أن الراعي لما سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الذبح بالسن والظفر والعود فنهاه فقال: فبم يا رسول الله؟ قال: <بالمروة والحجر إذا كانا حادين يفريان فري السكين>، وفي حديث عدي بن حاتم أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: <أنهر الدم بما شئت فكل ذلك يوجب أن كل ما عمل المدية وفري يجوز الذبح به على ما استثناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا فرى الأوداج وأبان العروق>، يدل على أن من مذهبه يجب أن يقطع أربعة عروق، الودجان والحلقوم والمريء، فكأنه عبر؛ لأن الأوداج يجوز أن يكون عبر به عن الودجين، وذكر بعد ذلك العروق، ولا خلاف أن بعد الودجين لا يجب قطع شيء ن العروق غير الحلقوم والمريء فكأنه عبر عن هذين العرقين، أعني الحلقوم والمريء بالعروق على أنه يعبر عن جميع هذه الأربعة بالأوداج، فيكون ذكره المعروق تخصيصاً بالذكر لبعض ما شمله الأول فيتحصل من ذلك ما قلناه من أنَّه يجب قطع هذه الأربعة، وحكي عن ك والليث: يحتاج أن يقطع الأوداج والحلقوم وإن ترك شيئاً منها لم يجز، وقال الشافعي: يجزئ قطع الحلقوم، والمريء، والأولى أن يقطع معهما الودجان، وأختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروى أن قطع ثلاثة منها وبقي واحد جاز، وروي: لا بد من قطع الأربعة ولكن إن بقي من كل واحد منها أقل من النصف أجزئ، وعن أبي يوسف، لا بد من قطع المريء ع اثنين آخرين من الدم وفريت الأوداج فكل، والأوداج عبارة عن هذه الأربعة العروق، ولا خلاف أن الذبح هو الذي لا يبقى بعده المذبوح إلاَّ المدة اليسيرة الَّتِي يكون (140/15)
بها اضطراب المذبوح ولا يتم ذلك إلاَّ بقطع هذه الأربعة فلذلك وجب قطعها، فأما إن بقي اليسير من بعض هذه العروق أو من كلها فيجب أن لا يكون بذلك معتبر؛ لأنا نعلم أن الذبح يتم، والغرض يحصل مع ذلك، ويجب على مذهبه، أن يكون الذبح في أسفل الحلق وأوسطه وأعلاه جائز لتنصيصه على قطع الأوداج والعروق، وهي أجمع ممتدة من أعلى الحلق إلى أسفله، قال: ولا ينبغي أن يذبح به إلاَّ أن لا يجد حديداً وذلك أن الحديد أوحى، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ونهى عن التعذيب، والذبح بالحديد أبعد من التعذيب. (140/16)
مسألة
قال: ولا يجوز أن يؤكل الجنين إلاَّ أن يلحق دقاته بعد إخلاه من بطن أمه حياً وهو رأي عامة أهل البيت، وبه قال أبو حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: يؤكل وإن وجد ميتاً، وقال مالك: إن كان أشعر وإلاَّ لم يؤكل، والأصل فيما ذهبنا إليه قول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}، وليس لأحد أن يمنع من إجراء الاسم عليه؛ لأنَّه لا يمتنع أحد أن يقول: وجد جنين حي أو جنين ميت في بطن أمه؛ ولأنه كالأم يصح أن يكون حياً ومذبوحاً وميتاً من غير ذبح، فصح انطلاق الاسم عليه وإذا انطلق حرم بظاهر الآية.
فإن قيل: قال الله عز وجل: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيْمَةُ الأَنْعَامِ}، وروي عن ابن عباس أنها الجنين؟
قيل له: وروي عن الحسن أنها الشاة والبقر والإبل على أنا لا نختلف في إباحة الجنين، وإنَّما اختلفنا فيما لا نذكّ منه، وقوله عز وجل: {إِلاَّ مَا ذَكِّيْتُمْ}، يوجب تحريم ما لم نذك منه على أنَّه عز وجل قال: {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}، فحصل المستثنى منه مجملاً موقوفاً على البيان، ولا يصح الاحتجاج به.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <ذكاة الجنين ذكاة أمه>.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به كذكاة أمه يعني أنَّه يجب أنه يذكى كما تذكى أمه، وأنه كالأم في أن ذكاة غيره لا تكون ذكاة له، ويبين ذلك أن المراد لو كانوا ما ذهبوا إليه كان الأشبه والأولى أن نقول ذكاة الأم وذكاة جنينها، ومثال ما قلناه قد ورد في القرآن والشعر، قال الله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، والمراد كالسموات والأرض، ألا ترى أنَّه قال الله تعالى في سورة أخرى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، وجاء في الشعر: فعيناك عيناها وجيدك جيدها. (140/17)
فإن قيل: فقد روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <ذكاة الجنين ذكاة أمه إذا أشعر>، وعن البرا، أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال في الأجنة: <ذكاتها ذكاة أمهاتها إذا أشعرت>.
قيل له: تأويل ذلك ما ذهبنا إليه، وذكر الأشعار يحتمل أن يكون؛ لأن سائلاً عن جنين أشعر سأل فخرج الجواب عنه، فروى الراوي لفظ النبي، وترك لفظ السائل، وهذا كقوله: <إنما الربا في النسيئة>، فذهب العلماء إلى أن يكون المراد به أن يكون سئل عن جنس فخرج الكلام عليه على أن التأويل الذي ذكرنا لا بد منه لأبي يوسف ومحمد والشافعي؛ لنهم لا يفصلون بين ما أشعر وما لم يشعر في أن أكله جائز، وعلى هذا نتأول ما روي عن أبي إسحاق عن الحارث، عن علي عليه السلام، على أنَّه إذا لم يشعر فهو أقرب إلى أن يكون كبعض الأم، ألا ترى أن السقط إذا لم يتبين بشيء من خلقه لم تنقض به العدة ولا الأم تصير به أم ولد، فبان أن زيادة الخلق تكسبه زيادة حكم المباينة.
فإن قيل: فقد روي في حديث أبي خالد الأصم عن مجالد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الجنين: <كلوه إن شئتم، فذكاته ذكاة أمه>.
قيل له: هذه اللفظة لم يذكرها غير أبي خالد، ويحتمل أن يكون أبو خالد رواه على المعنى عنده، وأيضاً الجنين مما له في نفسه ذكاة إذا قدر عليها ، فإذا وجد ميتاً ن غير ذبح ولا جراحة، فيجب أن يجرم أكله كسائر البهائم إذا ماتت موقوذة أو متردية أو ماتت حتف أنفها، وأيضاً وجدنا ذكاة الهائم على وجهين: (140/18)
إما النحر والذبح فيما يتمكن منه.
والجرحة فيما لا يتمكن منه والجنين ليس له واحد منهما، فوجب أن يحرم أكله كسائر البهائم والطيور.
فإن قيل: أنَّه مات بما كان منا من ذبح أمه، فيجب أن يجرى إذا لم يقدر على غيره كما قلنا في الناد من البعير والبقر أو المتردي في البير إذا لم يقدر فيها على الذبح فخرجت.
قيل له: وكلما ذكرت إذا لم يقدر فيها على الذبح أو النحر أو الجرحلم يحل أكله، فكذلك الجنين على أنا نجوز أن يكون مات حتف أنفه لا بسبب ما فعلناه بالأمن فيجب ألاَّ يحل أكله كالصيد إذا وجد ميتاً وبه جراح وشككنا أن ذلك الجرح كان بسبب الرمي أو عض الكلب المرسل عليه لم يجز أكله، فأما من شبهه بعضو ن أعضاء أمه فقد أبعد؛ لأن من ضرب بطن امرأة فألقت جنينها وماتت لزمت مع الدية الغرة، وليس كذلك العضو إذا أبان عضوها وقتلها؛ ولأن الجنين يصح أن يفرد بحكم الذكاة وجد حياًّ، وليس كذلك حكم العضو، لأنَّه لا يصح أن ينفرد بحكم الذكاة على وجه من الوجوه، ويقال لمن قال: إن حكم الذكاة يسرى كالعتق والتدبير أنَّه يصح أن يؤخذ حياً فلا يسري فيه حكم الذكاة، وليس كذلك العتق والتدبير، فبان أن الذكاة لا سراية لها على أن السراية تحصل فيما يعلم أنَّه كان حياً، ولا سبيل إلى العلم بأن الجنين كان حياً في حال ذكاة أمه، فكيف يمكن أن يقال سرى فيه، ويقال لمالك: إذا لم يجز أكل ما لم يشعر، فكذلك ما أشعر، والعلة أنَّه جنين لم يذبح ولم ينحر أو يقال لم يدرك في نفسه، وقد بينا أنَّه بالإشعار يصير أولى أن يكون له في نفسه حكم.
مسألة
قال: ومن ذبح شيئاً من قفاه جاهلاً أكلت ذبيحته، وإن ذبحه كذلك متعمداً لم تؤكل، وقال في المنتخب في الشاة تذبح من قفاها: لا يحل أكلها، وقال فيه؛ لأنَّه لا يصل السكين الأوداج، وهي موضع الذبح حتَّى يموت، فكان تحصيل مذهبه أن السكين إذا بلغ الأوداج الحلقوم والمريء وهو حي فإنه يحل أكله؛ لأنَّه يكن بمنزلة الموقوذة والمتردية وما أكل السبع، إذا أدركت ذكاته، فإن لم يبلغ السكين ما ذكيناه حتَّى يموت فلا يحل أكله؛ لأنَّه يكن بمنزلة هذه الأشياء إذا لم يدرك ذكاته، فيكون والمعنى فيما قال في الأحكام وما قال في المنتخب؛ معنى واحدا أو لا يحمل ذلك على اختلاف الروايتين وإنَّما يحمل على اختلاف الجوابين لاختلاف الحالين، فأما التعمد فمراده والله أعلم أن يكون من قصد إلى مخالفة الشريعة والاستهانة بها، وذلك يوجب الكفر على ما بيناه في قوله فيمن انحرف عن القبلة متعمداً عند الذبح. (140/19)
مسألة
قال: وكل بهيمة مريضة أو متردية أو نطيحة ذبحت فتحرك منها شيء بعد ذبحها ذنب أو عضو من أعضائها أو طفت بعينها حل أكلها وإن لم يتحرك منها شيء بعد ذبحها لم يحل أكلها، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه الشافعي يختلفون، منهم من يجعله على قولين، ومنهم من يقول أنَّه لا يجوز أكله إذا انتهت إلى تلك الحالة، وبه قال أبو يوسف ومحمد على اختلاف وتفصيل بينهما، ووجه ما قلناه قوله عز وجل برعد ذكر الموقوذة والمتردية والنطيحة: {وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ إِلاَّ مَا ذَكِّيْتُمْ}، فعمومه يقتضي جواز أكل ما أدركنا ذكاته، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أنهرت الدم وفريت الأوداج فكل، وحديث زيد بن علي عليهما السلام أن راعياً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أرعى غنماً لأهلي فتكون العارضة فأخاف تفوتني بنفسها، فأذن له بالذبح بالمروة والحجر، وقال: <إن فريت فكل>، وأذن في الذبح مع تلك الحالة، وكذلك ما روي أن رجلاً كان يرعى لقحة في شعب فأخذها الموت فلم يجد شيئاً ينحرها به فأخذ وتداً فوجاها به في لبتها حق أهرق دمها فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمره بأكلها، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن عائشة قالت: يا رسول الله إني أتيت مالاً ينبغي، فقال: <وما ذلك؟>، قالت: كان لي سلخة فخفت أن تفوتني بنفسها فذبحتها، قال: <أفريت؟> قالت: نعم، قال: <كلي وأطعمينا>، ولأنه ذبحها بعد حية، فوجب أن تحل أكلها دليله لو ذبح قبل أن يبلغ تلك الحال، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (إذا أرت ذكاتها وهي تطرف بعينها أو تركض برجلها أو تحول ذنبها فقد أدركت). (140/20)
فإن قيل: إذا صارت إلى حال هي ميتة منها لا محالة فقد صارت بمنزلة الرمية ولم يحل أكلها كما أن المجوسي لو ذبح ثُمَّ قطع المسلم رأس الذبيحة لم يحل أكلها، وكما أن مسلماً لو ذبح ثُمَّ قطع المجوسي رأسها حل أكلها؟
قيل له: الفرق بينهما أن المسلم في المسألة الأولى لم يذبح وإنَّما الذابح المجوسي، وفي المسألة الثانية لم يذبح المجوسي والذابح هو المسلم، وفي المسألة الَّتِي اختلفنا فيها فقد وقع الذبح ممن يصح ذبحه وهو بعد حي، فيجب أن يجوز أكله، وذهب محمد بن منصور إلى انه إن كان ممن يعيش مدة كاليوم ونحوه جاز ذبحه، وهذا لا معنى له؛ لأن الاعتبار إن كان أبو جود الحيوة فهو ما ذهبنا إليه، ولا وجه لتحديد البقاء بمدة دون مدة، وإن كان الاعتبار بما قاله أبو يوسف من أنَّه إذا علم أنها تموت في تلك الحالة لا محالة فلا وجه للاعتبار باليوم ونحوه. (140/21)
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أراد أن ينحر جزوراً أو غيره من الأنعام فند ولم يقدر على أخذه فرماه بسهم أو بسيف طعنه فأدماه وعقره حتَّى قتله وكان سمى حين فعل ذلك فلا بأس بأكله، وإن فعل ذلك تمرداً من غير حاجة إليه لم يؤكل لحمه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: لا يجوز إلاَّ في المنحر والأصل فيه حديث رافع بن خريج أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم مغنماً بذي الحليفة فند بعير فتبعه رجل من المسلمين فضربه بسيف أو طعنه برمح فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فما ند منها فاصنعوا به هكذا>، ولاستدلال به من وجهين:
أحدهما: أنَّه أخبر أنهم قتلوه بسيف أو رمح ولم يذكر المنحر فأباح أكله.
والثاني: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم شبهه بالصيد فبان أن حكم ذكاته مع الشذوذ حكم ذكاة الصيد، وروي عن أبي العثراء الدارمي أنَّه أتاه فقال: يا رسول الله ما تكون الذكاة إلاَّ من اللبته والحلق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لو طعنت في فخذه أجزأك>، فاقتضى ذلك جواز الذكاة بذلك في جميع الأحوال، فلما أجمعوا أنَّه لا يجوز مع التمكن بقي مع حال الامتناع على الجواز، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن عليه عليهم السلام في ناقة أو بقرة ندت فضربت بالسلاح لا بأس بلحمها من طريق النظر أن الصيد لم يكن ذكاة بجنسه، وإنَّما كان لامتناعه بدلالة أنَّه متى تمكن من ذبحه لم تجز تذكيته بذلك وإذا ثبت أن العلة في الصيد هو الامتناع فمتى حصل الامتناع من الجزور والبقر يجب أن تكون تذكيته بالضرب والطعن في غير المذبح، وأما إذا فلذلك من غير حاجة إليه فلا خلاف أنَّه لا يؤكل لحمه؛ لأن مع التمكن لا يجوز الذبح والنحر إلاَّ في موضعهما، وإنَّما جاز العدول عن ذلك للامتناع، وإذا لم يكن امتناع لم يجز ذلك إلاَّ في اللبته والحق، قال: لو أن بعيراً أو بقرة سقط في بئر فلم يقدر على إخراجه حياً، وجب على صاحبه أن يطلب مذبح البقرة أو منحر البعير حتَّى يذبح أو ينحر، فإن لم يقدر على ذلك طعنه حيث ما أمكن وسمى وأخرجه آراباً وحل أكله، وهو قول زيد بن عليه عليهما السلام، ووجهه ما تقدم من تعذر الذبح، فيجب أن يكون حكمه حكم الناد، فأما إن تمكن من الذبح لم يجز إلاَّ الذبح؛ لأن التعذر يكون زائلاً وأظن هذا مما لا خلاف فيه. (140/22)
مسألة
قال: ومن ذبح ذبيحة فأبان رأسها جاز أكلها، ووجهه أنَّه قد فرى الأوداج وأنهر الدم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا أنهرت الدم وفريت الأوداج فكل>، وروى زيد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، في رجل ذبح شاة أو طائراً أو نحو ذلك فبان رأسه، فقال: (لا بأس بذلك، ذلك ذكاة شريعته>، قال: وتنحر البدنة قائمة حيال القبلة يضرب بالحديد لبتها حتَّى يفري أوداجها، لا خلاف في أن ذلك صفة النحر وإن استقبال القبلة بها مستحبة، وروى زيد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: (كان إذا ذبح نسكه استقبل القبلة)، وعن جابر، قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكبش في يوم عيد، فقال حين وجهه: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِيْ فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ..} الآية، والتوحيد لا يكون إلاَّ في القبلة، قال القاسم عليه السلام: وإذا عدى السبع على البقرة أو الشاة ثُمَّ لحقت، وفيها رمق ذكيت وجاز أكلها، وهذا مما قد أوضحنا الكلام فيه، وذكرنا اختلاف العلماء، فلا وجه لإعادته، قال: ولا يجوز أكل ما أبان السبع منها ولا ما قطع من عضو، وهذا مما لا خلاف فيه لما روي: <ما قطع من حي فهو ميت>، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (ما أبان من البهيمة من يد أو رجل أو إلية وهي حية لم يؤكل؛ لأن ذلك ميتة. (140/23)
مسألة في صيد المدينة [ليست من التجريد]
قال: في الأحكام لا يجوز أن يصاد ولا أن يعضد الشجر في شيء بما لابتي المدينة، وهما حدياها، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بذلك، والأصل في الأخبار الكثيرة الواردة في هذا الباب، منها حديث أبي الزبير عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهما ولا يصاد صيدها>، وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرم ما بين لابتي المدينة أن يعضد شجرها أو يخبط، وذكر يحيى بن الحسين حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلع أحد فقال هذا يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني حرم المدينة ما بين لابتيها، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <إن إبراهيم صلى الله عليه حرم مكة وأنا أحرم المدينة>، قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعضد شجرها أو يخبط أو يؤخذ طيرها، وروي أن علياً عليه السلام خطب وعليه سيف فيه صحيفة معلقة به، فقال: (والله ما عندنا من كتاب إلاَّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة)، ثُمَّ نشرها فإذا فيها المدينة حرام من عير إلى ثور، وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه أخذ سلب من رآه بصيد في حرم المدينة فكلم في ذلك فامتنع من رده وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من وجدتموه يصيد في شيء من هذه الحدود فمن وجده فله سلبه>، وعن عامر بن سعد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهما ويقتل صيدها، وعن صالح ابن إبراهيم، عن أبيه، قال: اصطت طيراً بالقنبه فخرجت به في يدي فلقيني عبد الرحمن بن عوف، فقال: ما هذا فقلت طيراً اصطدته بالقنبه، فعرك أذني عركاً شديداً ثُمَّ أرسله من يدي ثُمَّ قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين لابتيها، وروي أن زيد بن ثابت، رأى من ينصب فخا بالمدينة فرمى به، وقال: (140/24)
ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم صيدها، فكانت هذه الأحاديث كلها نصوصاً فيما ذهبنا إليه. (140/25)
فإن قيل: روي أنَّه كان لأبي طلحة ابن يدعى بن عمير، فكان له نعير، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضاحكه فرآه حزيناً، فقال: <ما شأن أبي عمير؟>، قيل يا رسول الله مات نغيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <يا أبا عمير ما فعل النغير(1)؟>، وعن عائشة كان لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحش فإذا خرج لغب واشتد وأقبل وأدبر فإذا أخبر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخل ربض فلم يرم كراهة أن يؤذيه ففي هذين الخبرين دليل على جواز صيد المدينة؟
قيل له: يحتمل أن يكون التغير والوحش صيداً خارج الحرم وأدخلا المدينة ويجوز أن يكون ألفا وكانا مختارين للسكون هنالك فكانا في حكم الميت الذئب يذهب متى شاء وإذا كان كذلك فلا جيب طرده ولا إيذاؤه، ويحتمل أن يكون ذلك خاصاً فيهما، وأما النعير فيجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم رآه بعد ما مات، فعلى هذا يدل الخبر ويجوز أن يكون الخبر ذلك كان قبل التحريم فنسخ ولا يصح احتجاجهم بظاهر ما روي في إباحة الصيد فإنا نخصه بالأخبار التي رويناها ولا نقبل لقياس؛ لأنه يكون قياساً رافعاً للنصوص.
__________
(1) ـ النعير تصغير نعر، طائر نسبه العصفور أحمر المنقار. تمت
باب القول في الأضاحي (141/1)
الأصحية ليست بواجبة، ويستحب لمن قدر أن يضحي، وبه قال الشافعي والثوري، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، قال أبو حنيفة ومحمد وزفر، وهو المشهور عن أبي يوسف: أنها واجبة، وروي ذلك عن مالك، والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال في الأصحية: <هي عليَّ فريضة، وعليكم سنة>، وروى أبان ابن أبي عياش عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <ثلاث هي عليَّ فريضة وعليكم سنة، تطوّع الأضاحي، والوتر، والضحى>، وروي عنه أنَّه قال: <أمرت أن أضحي ولم تؤمروا>، في بعض الأخبار: <كتب عليَّ ولم تكبت عليكم>، وروي عن الأسود بن قيس عن جندب قال: شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر فمر بقوم قد ذبحوا قبل أن يصلي، فقال: <من كان ذبح قبل الصلاة فليعد، فإذا صلينا فمن شاء ذبح ومن شاء فلا يذبح>، وما روي من قوله: <ومن لم يذبح فليذبح>، محمول على أن المراد به إن شاء، وروي عن زيد بن أرقم، أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: <سنة أبيكم إبراهيم صلى الله عليه>، وما كان سنة له فهو سنة لنا لقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيْمَ}، وقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}.
فإن قيل: فهذا يقتضي الإيجاب؛ لنه عز وجل أمرنا بالإتباع والإقتداء؟
قيل له: لا نكون مقتدين به ولا متعين له إلاَّ إذا فعلنا ما فعله على الوجه الذي فعله، فإذا كان إبراهيم صلى الله عليه فعلها على أنها سنة، فنحن أيضاً نفعلها على أنها سنة، وإلاَّ لم نكن متبعين.
فإن قيل: فالسنة يعتبر بها عن الفرض؟
قيل له: يحتاج ذلك إلى الليل؛ لأن السنة إذا أطلقت أفادت أنها غير الفرض، فأما ما يحتجون به من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <من لم يضح فلا يقرب مصلانا>، وهذا وما روي من قوله: <من وجد سعة فليضح>، وقوله عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبَّكَ وَانْحَرْ}، وكل ذلك محمول على الحث، والتأكيد يكون بها سنة(1) واستحباباً، وكذلك إن استدلوا بحديث الشعبي عن البراء بن عازب أنَّه لما ذبح قبل الصلاة أمره بالإعادة، فإنه يدل على أنها لم تكن صحيحة قبل الصلاة، وأمره بالإعادة لتكون ضحية أخذاً بالسنة متمسكاً بها. (141/2)
فإن قيل: ففي الخبر أنَّه قال: عندي عناق، فأذن له بذلك، وقال: إنها لا تقضى عن أحد بعدك، وفي الأخبار: <لا تجزئ>، ويقال تقضى أو تجزئ إلاَّ في الواجب.
قيل له: يحتمل أن يكون البراء كان قد أوجب ذلك على نفسه، ويجوز أن يقال في السنة والتطوع يجزئ ويقضى، ألا ترى أنا نقول في صلاة التطوع: أنَّها لا تجزئ إلاَّ على الطهر، ولا تجزئ إلاَّ بقراءة، و عندنا النوافل قد تقضى، فبين صلى الله عليه وآله وسلم أنَّها لا تقع عن الأضحية لأحد بعده ولا تجزئ، وإن لم تكن الأضحية في الأصل واجبة، ويقاس المقيم فيها على المسافر، فنقو: لما كانت الأضحية غير واجبة على المسافر لم تكن واجبة على المقيم، بعلة أنَّها أضحية لم يوجبها المضحي على نفسه، فإن قاسوها على زكاة الفطر بعلة أنَّها حق في مال يتعلق بالعبد، قلنا: القياس عليهم، قلنا: يجب أن يستوي فيه المسافر والمقيم، وأيضاً لا خلاف أن الحقيقة غير واجبة، فكذلك الأضحية، والعلة أنَّها ذبيحة ليست جبراناً لنقص، وإن شئت قلت؛ لأنها ذبيحة عن إنسان لا لفعل كان منه.
فإن قيل: لا خلاف أنَّها تجب بالنذر، فدل ذلك على أن لها أصلاً في الوجوب؟
__________
(1) ـ فقد وافق سنتنا: <ومن ذبح قبل ذلك فإنما هي شاة لحم عملها، ليس من النسك في شيء>، وبحديث أبي بردة. تمت
قيل له: للذبح أصل في الوجوب، وهذا القدر يكفي لصحة النذر به، وروي أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيان كراهة، إن يرى أنَّها واجبة، وروي نحوه عن ابن عباس وأنه كان يشتري يوم الأضاحي بدرهمين لحماً، ويقول: هذه أضحية ابن عباس، يقصد به إلى تعريف الناس أنها غير واجبة، وروي التشريك في الشاة في الأضحية، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خلاف أن التشريك فيها لا يجوز إذا كانت واجبة، فدل ذلك على أنا غير واجبة على أن أخبارهم إذا كانت محمولة على الندب فقد صرفوا هم العموم عن ظاهره إلاَّ الخصوص واستوينا في والاستعمال فلا حجة لهم فيها على أنهم إذا قالوا في خبرنا أن السنة بمعنى الفرض، فقد صرفوا الخبر عن الظاهر من وجهين: (141/3)
أحدهما: أنهم قالوا: أن المارد بالسنة هو الفرض، وهذا خلاف الظاهر.
ومنها: أنهم جعلوا الخبر في الأغنياء، وهذا أيضاً خلاف الظاهر.
ومن وجه ثالث: أنهم خصوها بالمقيم، ونحن أجريناها على الظاهر من الوجوه كلها.
فإن قيل: قوله: من وجد سعة فليضح، يريد ظاهره أنَّها على الأغنياء؟
قيل له: السعة هو الإمكان لقول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، أي ما أمكنها، وهاهنا من يمكنه وهو عندكم غير مخاطب ما لم يبلغ حداً معلوماً، فقد خصصتموه ونحن لا نخصصه بل نجريه على عمومه، فنقول أنا مستحبة لمن أمكنه.
مسألة
قال: ولا تجزي عمياء ولا عوراء ولا جدعاء ولا مستأصلة القرن كسراً أما العوراء والعمياء والجدعا فلا خلاف في أنَّها لا تجزئ، و الأصل فيه الأخبار الواردة، منها حديث البار بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يجوز في الضحايا العوراء البيّن عورها ولا العرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها والعجفاء الَّتِي لا تنقى>، وري عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء ولا عوراء>، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (في الأضحية سليمة العينين والأذنين والقوائم، لا شرقاء ولا غرقاء ولا مقابلة ولا مدابرة وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستسف)، وفي بعض الأخبار: (أن نستسرف العين والأذن الثني من المعز والجذع من الضأن إذا كان سميناً، ولا جرباء ولا جدعاء ولا هرمة)، فوردة الأخبار في العوراء وكانت العمياء أسوأ حالاً منها فلم يكن إشكال في أنَّها لا تجزئ والشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة كلها من صفات الندب، وقيل: الشرقاء الموسومة، وقيل: المثقوبة، والخرقاء، قيل: المثقوبة، وقيل: المخرقة، وهما يتقاربان في المعنى، والمقابلة ما قطع إذنها من المقدم، والمدابرة ما قطع من أذنها من المؤخر، وأما المستأصلة القرن كسراً فلما روي عن علي عليه السلام، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عضباء القرن والأذن). (141/4)
فإن قيل: روي عن جحته بن عدي، أن رجلاً سأل علياًّ عليه السلام عن المكسورة القرن، فقال: (لا يضرك)، قال: والعرجاء؟ قال: ( إذا بلغت المنسك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستسرف العين والأذن؟
قيل له: يستعمل الخبرين فنقول إذا كانت مكسورة القرن لا من أصله أنَّها تجزي، وإذا كانت مستأصلة القرن لا تجزي، إذ لا يمكن استعمال الخبرين إلاَّ على هذا الوجه على أن العرج أيضاً محمول على هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <ولا عرجاء بين عرجها، فإذا كان العرج يسيراً أجزى، وإذا كان شديداً يمنع من بلوع المنحر لم تجزي>، وعلى هذا يجب أن يحمل اليسير من العيب في الأذن والعين، ألا ترى إلى قوله: عوراء بيّن عورها، وكذلك يجب أن يكون العجف، والمرض لقوله: بيّن عجفها وبيّن مرضها، ونبه يحيى بن الحسين عليه السلام بالعيوب الَّتِي ذكرناها على سائر العيوب الؤثرة الظاهرة، وقال أيضاً في الأحكام: فلينحرها ذات سمن وسلامة من العيوب والنقصان، فدل على أن العجفاء لا تجزي، وكذلك العرجاء، فعليه يجب أن تبنى المسألة. (141/5)
مسألة
قال: ولا يجزي من الإبل والبقر والمعز دون الثني وتجزي من الضان الجذع، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً بين العلماء، وفي حديث زي بن علي، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستسرف العين والأذن الثني من المعز والجذع من الضان)، وفي حديث أبي بردة، أن عليه رسول الله صلى الله علية وآله وسلم لما أمره أن يعيد أضحيته؛ لأنَّه ذبح قبل الصلاة، قال: عندي جذع من المعز، فقال: <يجزي غيرك، وروى بعدك>، فثبت أن الجذع لا يجزي، وروى ذلك زيد بن علي يرفع إلى علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: < الجذع من الضان إذا كان منقباً، , الثني من المعز>، وإذا ثبت ذلك ثبت في الإبل والبقر أنه لا يجزي منها إلاَّ الثني؛ لأنَّ أحداً لم يفصل بينهما، واختلفوا في الجذع، فذكر أصحاب الشافعي أنَّه ما تمت له خمسة أشهر، ودخل في السادس، وعن أصحاب أبي حنيفة: ما تمت له ستة، ودخل في السابع، وسمعت بعض الأدباء يحكي عن أبي حاتم السجستاني، أنَّه ما تمت ثمانية أشهر، وقال العتيبي في كتاب أدب الكاتب: هو تمت له سنة ودخل في الثانية وهو الأولى؛ لأن الحمل لأصحابه، وهو يسمى حملاً في أول السنة؛ ولأن حصول هذا اسم ـ أعني الجذع ـ بعد مضي السنة اتفاق، فإذا ثبت أنَّه لا بد من أن يراعى فيه حصول الاسم فلا يحصل الاسم بالاتفاق إلاّ بعد سنة، وكذلك إذا ثبت أنَّه لا بد فيه من تقدير المدة فلا بد فيه من الأدلة ولا دلالة غير الاتفاق، وهو يكون بعد استكمال سنة؛ ولأن هذه الأسماء الَّتِي هي للبهائم من الطلف والحف والحافر يتحد عليها سنة سنة، قال أبو محمد القنبي: والثني من المعز والبقر ما تمّ له سنتان، ودخل في الثالثة والثني من الإبل ما تمّ له خمس سنين، ودخل في السادسة. (141/6)
فإن قيل: روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <ضحوا بالجذع من الضأن إذا فرط هل ستة أشهر>؟ (141/7)
قيل له: يحتمل أن يكون ذلك من لفظ الراوي أدرجه في الحديث، ويحتمل أيضاً أن يكون أراد أنَّه إذا فرطله ستة أشهر بعد كونه جذعاً، ويكون الغرض فيه الحث على تعظيم الأضحية، وإن لا يقتصر منها مع الإمكان على أدنى ما يجري من السن، ويكون ذلك إذا تمت له سنة ونصف.
فصل
قال في الأحكام: إن قدر على جزور فهو فضل، وإن قدر على بقرة فهي أفضل من الشاة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي، وحكي عن قوم وأظن عن مالك، أن الجذع من الضان أفضل، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}، ونعلم أن الجزور أعظم من البقرة وأن البقرة أعظم من الشاة، وما روي عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: <مثل المهجر مثل الذي يهدي بدنه، ثُمَّ الذي على أثره المثل من يهدي بقرة، ثُمَّ الذيب على أثره كالذي يهدي كبشاً، ثُمَّ الذي على أثره كالذي يهدي دجاجة، ثُمَّ الذي على أثره كالذي يهدي بيضة>، وروي أيضاً عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه، فدل ذلك على أن الأفضل الجزور ثُمَّ البقر ثُمَّ الشاة، وروي عن ابن عمر، أنَّه كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحي بالجزور إذا وجده، فإذا لم يجد الجزور ذبح البقرة والغنم، فدل على ذلك أيضاً على ما قلناه، وأيضاً قد ثبت في الذمة أن الواجب مائة عن الإبل ومائتا بقرة وألفا شاة، فعدل فيها بقرتان ببعير وعشر شياه ببقرة، فدل ذلك على ا قلناه، أيضاً على أن الجزور أوفر ثمناً وأكثر لحماً ثُمَّ البقر ثُمَّ البثا، فيجب أن يكون الجزور أفضل ثُمَّ البقر ثُمَّ الشاه.
مسألة
قال: وأفضل الأضحية أسمنها والخصيان فيها جائز، قلنا أن أفضلها أسمنها؛ لأنها أغلا في الثمن، وخير في اللحم، ولا خلاف فيه، وأجزنا الخصيان لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين عظيمين أملحين أقرنين موجوين؛ ولأن الخصيان تكون اسمن والسمن مبتغى في الأضحية ولا أحفظ فيه خلافاً. (141/8)
مسألة
قال: ومن ذبح قبل أن ينصرف الإمام لم تجز أضحيته، إلاَّ أن يصلي الرجل وحده، فيجزيه أن يذبح إذا صلى، وقال أبو حنيفة: لا يجزيه إلاَّ بعد صلاة الإمام، قال الشافعي إذا مضى الوقت الذي يجوز أن يصلي فيه مع خطبتين خفيفتين جازت الأضحية، وحكي عن قوم أنَّها لا تجزي حتَّى يذبح الإمام، والأصل في ذلك قول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}، فرتب النحر على الصلاة، وعندنا وعند الشافعي أن الواو في الشرع موجب الترتيب، فيجب أن يكون النحر مرتباً على الصلاة، وحديث أبي بردة أنَّه لما ذبح قبل الصلاة قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <شاتك شاة لحم>، وأمره بالإعادة، وروى ذلك زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا أيضاً يحجُّ الشافعي؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتبر الوقت وإنَّما اعتبر الصلاة، وكذلك لم يعتبر ما كان منه في التضحية فحج ذلك أيضاً من قال: إنها لا تجزي إلاَّ بعد تضحية الإمام، وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بالناس يوم النحر فلما فرغ ن خطبته وصلواته دعا بكبش فذبحه هو بنفسه، فكل ذلك يدل على أنَّه مرتب على الصلاة، فإذا كان للرجل إمام يصلي وحده، فيجب به لم تجز الأضحية إلاَّ بعد صلاة إمامه، وإن لم يكن له إمام، وكان يصلي وحده، فيجب أن لا يجزيه إلاَّ بعد صلاواته؛ لأنَّ تعليق أفعاله بعضها على بعض أولى من تعليقها على فعل غيره فيجب أن يكون المعتبر بصلاة المضحي دون الإمام، وأيضاً لا خلاف أنَّه إذا صلى مع الإمام
أدزته أضحيته، فكذلك إذا صلى وحده، والعلة أنَّه ذبح بعد صلاة العيد يبين ذلك أن الوتر لما كانت مرتبة على صلاة العشاء جاز للرجل أن يوتر إذا صلى العشاء سوى صلاها وحده أو مع الإمام ولم يجب ترتيبها على صلاة الإمام. (141/9)
فإن قيل: أليس يحيى بن الحسين قال في الأحكام: إن أهل المدن لا يذبحون حتَّى ينصرف الإمام؟
قيل له: المراد بذلك إذا كان لهم إمام، فإنهم يصلون معه، ولا يجوز لهم التضحية إلاَّ بعد أن يصلي الإمام؛ لأنهم يصلون، وحكي عن بعض المعتزلة، وأظنه أحد الجعفرين، أنه إذا كان الإمام ممن يجب نحره جاز النحر قبل صلواته وما أبعد فيما قال، وعلى مثله يدل قول يحيى بن الحسين عليه السلام.
مسألة
قال: ولا بأس بصاحبها أن يخرج من لحمها ما شاء ويحبسها إلى أي وقت شاء، لم يحد يحيى عليه السلام للإخراج شيئاً، وحكي عن بعض أهل العلم أنَّه قال: يخرج النصف، ويأكل النصف لقول الله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيْرِ}، وقيل يخرج الثلثين ويأكل النصف لقول الله عز وجل: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر}، وليس المقصد في الآية بيان المقدار، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه كان يطعم ثلثاً ويأكل ثلثاً ويدخر ثلثاً، وكل حسن ولم يرد فيه حد محدود، وأما الحبس من لحمها فوق الثلث فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنه ثُمَّ نسخه، وأذن في حبسه ما شاء، وبه قال عامة العلماء، وروى زبد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أنَّه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لحوم الأضاحي أن تدخر فوق ثلاثة أيام)، قال: فلما كان بعد ذلك قال: <أيها الناس كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تدخروها فوق ثلاثة أيام، وذلك لفاقة المسلمين ليواسوا بينكم فقد وسع الله عليكم، فكلوا وأطعموا وادخروا>، وروى ذلك علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق شتى، وروي عن غير واحد من الصحابة كجابر وأبي سعيد الخدري وعائشة، وروت نحو ذلك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي بعض الأخبار: <ادّخروا ما بالكم>، وفي بعضها: <كلوا ما شئتم>. (141/10)
مسألة
قال: وجزي البدنة عن عشرة والبقرة عن سبعة، والشاة عن ثلاثة، قال في المنتخب: إذا كانوا من بيت واحد أحب إليَّ، أما كون البقرة مجزية عن سبعة فلا خلاف، وإجزاء البدنة عن عشرة قد تكلمنا فيه في كتاب الحج، وأوردنا ما ورد فيه ن الأخبار، وما فيه من الاستدلال من جهة النظر فلا وجه لإعادته، وأن إجزاء الشاة عن ثلاثة، فالأصل فيه ما روي عن علي بن الحسين، عن أبي رافع، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين عظيمين أملحينن فإذا خطب بالناس وصلى أتى بأدهما فذبحه بيده، ثُمَّ قال: <اللهم إن هذا عن أمتي جميع من شهد لك بالتوحيد وفي بالبلاغ>، ثُمَّ يؤتى بالآخر فيذبحه ثُمَّ يقول: <اللهم إن هذا على محمد وآل محمد>، وروي نحو ذلك، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن عائشة، و عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه ضحى بكبش أقرن ثُمَّ قال: <اللهم إنَّ هذا عني ومن لم يضَحِّ من أمتي>، فدلت هذه الآثار على أن الشاة تجزي عن أكثر من واحد ولم يقدر فيه أحد أكثر من الثلاثة، فوجب أن تجزي عن ثلاثة، ويكون ما فوقه منسوخاً على أنَّه قد ثبت أن الجزور والبقرة يجزيان عن أكثر من واحد، فوجب أن تجزي الشاة عن أكثر من واحد، والعلة أنَّها أضحية، فكل أضحية يجب أن تجزي عن أكثر من واحد. (141/11)
فإن قيل: فما وجه اجتهادكم من قصرها على ثلاثة أنفس؟
قيل له: لأنَّه قد ثبت عندنا أن الجزور تجزي عن عشرة، والبقرة تجزي عن سبعة، وذلك لتفاوت ما بينهما في اللحم والثمن وفي الدية، فكان ذلك التفاوت موجباً أن يكون بينهما ثلاثة أنفس ثُمَّ وجدنا التفاوت الذي بين البقرة والشاة في اللحم وفي الثمن وفي الدية أعظم من التفاوت الذي بين الجزور والبقرة، فقلنا: يجب أن يكون التفاوت الذي بين البقرة والشاة في عد من يجزيان عنه زيد من التفاوت الذي بين الجزور والبقرة، وأقل الزيادة واحد، فقلنا: يجب أن يكون بينهما أربعة، وإذا جعلها التفاوت أربعة كان الباقي ثلاثة؛ لأن البقرة تجزي عن سبعة، فقال: الشاة تجزي عن ثلاثة، وما قال في المنتخب: أن ذلك إذا كانوا من أهل بيت واحد فبعيد، والصحيح أن ذلك جائز سواء كانوا من أهل بيت واحد أو لم يكونوا؛ لأن الأخبار الواردة في هذا جاءة مطلقة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <هذا عني وعن أمتي>، وهم أهل بيوت مختلفة، وقوله: وإن يكون عن واحد أحبّ إليّ؛ فلأنه أكثر في القربة، فيجب أن يكون أعظم للأجر والأولى عندي أن تكون عن واحد؛ لأنِّي لا أعرف قبل القاسم من قال أنَّها تجزي عن اكثر من واحد، فإن كانت المسألة مما يسوغ الاجتهاد فيها، فما ذكرناه قريب، الله أعلم. (141/12)
مسألة
قال: والأضحية جائزة يوم النحر ويومين بعده، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: يوم النحر وثلاثة بعده، وما ذهبنا إليه مروي عن عدة من الصحابة، علي وعمر وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وأنس، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: (أيام النحر ثلاثة أيام يوم العاشر من ذي الحجة ويومان بعده، وإذا روى ذلك عن علي وعن نفر من الصحابة ولم يرو عن أحد منهم خلاف ذلك كان ذلك جارياً مجرى الإجماع، واستدل على ذلك بما روى أبو عبيدة مولى عبد الرحمن أنَّه سمع علياًّ عليه السلام يوم الأضحى يقول: (أيها الناس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاكم أن تأكلوا نسككم بعد ثلاث، فلا تأكلوها)، فدل هذا الخبر على أمرين: (141/13)
أحدهما: تحريم أكل الأضحية بعد الثلاث من يوم الأضحى.
والثاني: أن أيام ذبح الأضحية هي هذه الثلاثة الأيام؛ لأنَّه إن ذبحت بعدها فلا محالة يكون أكل لحمها بعد الثلاث محرماً، فلما نسخ تحريم الأكل بقي ما اقتضاه الخبر من الحكم الثاني، وهو كون أيام الذبح ثلاثاً.
فإن قيل: كيف نقول ذلك بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمروي أن علياًّ قال هذا، وعثمان محصور؟
قيل له: ذلك محمول على أنَّه عليه السلام قال ذلك على وجه الحكاية لما كان في أول الإسلام، وقوله: (فلا تأكلوها)، تقديره أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل النسخ، قال: (لكم أن لا تأكلوها)، والأخبار كثيرة في نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل النسخ عن أكل لحوم الأضحية بعد الثلاث وكل ذلك يمكن الاستدلال به على ما قلناه على أنَّه لا خلاف أن الأضحية لا تصح إلاَّ في أيام بعينها، وتقدير ذلك لا يصح إلاَّ بالشرع، والأيام الثلاثة قد ثبتت أنَّها أيام الأضاحي وما بعدها لا دليل عليه إذ الاتفاق حاصل على الثلاث، وهو المروي عن كثير من الصحابة.
فإن قيل: روي عن جبير بن مطعم أنَّه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <في كل أيام التشريق ذبح>؟ (141/14)
قيل له: ليس فيه ذبح الأضحية، ويحتمل أن يكون المراد به ذبح هدي القرآن، وهدى المتعة وغيرها.
فإن قيل: قاسوه اليوم الرابع على ما قبله بعلة أنَّها قد استوت في النَّهي عن الصوم فيها والرمي، ويجب أن تكون الأضحية فيه جائزة؟
قيل له: أما النَّهي عن الصوم فهو حاصل فيوم الفطر ولا تجزي الأضحية فيه، والرمي لم يستو حكم الرابع وحكم الأيام الثلاثة فيه؛ لأن الرمي في الرابع يجوز تركه، ولا يخل ذلك بشيء من النسك وليس ذلك في الأيام الثلاثة بل الرمي فيها واجب لا يسع تركه، ولو جعلنا ذلك حجة لنا كان أولى على أنَّه يمكن أن يقاس الرابع على يوم التروية وعرفة لما لم يجب على الحاج الكون فيه بمنى.
مسألة
قال: والعقيقة سنة ولا ينبغي تركها لمن وجدها، وهي شاة تذبح عن الصبي والصبية يوم سبعهما ثُمَّ تطبخ فيأكل منها أهلها ويطعمون البعض ويتصدقون بالبعض، ولا أحفظ فيه خلافاً في أنا تستحب، إلاَّ أن من العلماء من قال: إنها سنة، ومنهم من قال إنها تطوع، والأصل فيها ما روي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <كل مولود مرتهن بعقيقته فكه أبواه أو تركاه>، قيل: وما العقيقة؟ قال: <إذا كان يوم السابع تذبح كبشاً تقطع أضاءه ثُمَّ تطبخ، فأهد وتصدق منه وكل وتحلق شعره فتصدق بوزنه ذهباً أو فضة>، وروي عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <الغلام مرتهن بعقيقته يذبح يوم السابع ويحلق رأسه ويسمى>، وعن جعفر، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمي الصبي يوم سابعه.
فإن قيل: كيف يصح هذا الحديث والغلام لا ذنب له؟
قيل له: أنَّه ليس المراد به ما نقدره بل هو حث عليها وتعريف أن فيها من البركة ما يصرف بها عن المولود كثير من المحذور وهو جار مجرى قوله صلى الله عليه وآله وسلم داووا مرضاكم بالصدقة، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن والحسين شاة شاة يوم سابعهما فإذا فعله صلى الله عليه وآله وسلم وكرر وأمر بها وحث عليها فأقل ما يكون فيه أنَّها سنة. (141/15)
فإن قيل: روي عن محمد بن علي بن الحسين أنَّه قال: نسخ الأضحى لكل ذبح قبله ونسخت الزكاة كل صدقة كانت قلها ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله، وهذا لا يصح أن نقول إلاَّ توقيفاً؟
قيل له: معناه نسخ الوجوب، ألا ترى أن صوم رمضان يستحب بعده صوم أيام كثيرة، ومع الزكاة صدقات كثيرة مستحبة.
فإن قيل: كيف يصح لكم هذا التأويل وأنتم لا تقولون بوجوب الأضحية؟
قيل له: لا يمتنع أن يكون الأمر بها على وجه الندب، نسخ وجوب سائر الذبائح، فأما الأكل منها والإطعام فلا خلاف فيه، وكذلك التصدق على أنَّها عادة للمسلمين توارث فعلها خلفاً عن سلف، قال: ويستحب لهم أن يحلقوا رأس المولود ويتصدقون بوزن شعره ذهباً أو ورقاً، وذلك لما ورد فيه من الأثر، فهو ما روي عن جعفر، عن أبيه، أن فاطمة حقت رأس الحسن والحسين عليهما السلام، يوم سابعهما ووزنت شعرهما وتصدقت بوزنه فضة، وفي حديث الذي ذكرناه في صدر الكتاب وحلق شعره وتصدق بوزنه ذهبناً أو فضة ويؤكل منها ويتصدق، وسميت العقيقة عقيقة لحلق ذلك الشعر، والله أعلم وأحكم بالصواب.
باب القول في الأطعمة (142/1)
يستحب لمن أراد الأكل أن يغسل يديه قبل الطعام وبعده، وذلك أنَّه ينظف ويطهر وعادة للمسلمين؛ ولأن ترك الغسل بعد الطعام يؤدي إلى تغير رائحة يده، وذلك مما يتأذى به، ويجب أن يكره ذلك، قال: وإن يأكل مما بين يديه إلاَّ أن يكون ن التمر فيأخذ من حيث أراد، وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرب منه الطعام أكل من بين يديه أقرب إلى أن لا يحيف على مواكله وأن لا يكون مطيعاً فيه لهمته.
مسألة
قال: ويكره أكل الجرّي والمار ما هي، وذلك لما روي عن ميسرة وزاذان، عن علي عليهم السلام أنَّه كان ينهى الساكين عن الجري والطامي والمار ما هي، وهذا يدل من مذهب يحيى عليه السلام أنَّه لا يجيز أكل شيء مما في البحر إلاَّ السمك؛ لأنَّه إذا كره المار ما هي لشبهة بالحيّة أولى بذلك، وسائر ما في البحر من كلب الماء وخنزيره، وبه قال أبو حنيفة وعند الشافعي يجوز أكل ما يعيش في الماء، والأصل فيه قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ}، وذلك عام في كل ميتة إلاَّ ما خصه الدليل، وقوله تعالى: {وَلَحْمُ الْخِنْزِيْرِ}، عام في خنزير البر والبحر.
فإن قيل: قد قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكَمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}؟
قيل له: الظاهر ن ذلك هو الاصطياد، وقوله: وطعامه، هو ما عرفت العادة بتطعمه، ألا ترى أن الطين والحشيش والورق لا يسمى طعاماً على الإطلاق وإن أمكن أكله لما لم تكن الادة جارية بتطعمه الناس، فإذا ثبت ذلك فالادة لم تجر بتطعم ما في الحبر إلاَّ في السمك، فوجب أن يتناول الظاهر غير السمك، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <أحل لنا ميتتان>، يدل على ذلك؛ لأنَّه أباح جنسين من الميتة، أحدهما الجراد، والثاني لا بد أن يكون السمك، فثبت الإباحة فيهما، وما عداهما يكون على التحريم، بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في البحر: <هو الطهور ماؤه والحل ميتته>، محمول على السمك لما بيناه. (142/2)
فإن قاسوها على السمك بعلة أنَّه يعيش في الماء قسنا كل جنس منه على جنسه البري، بعلة اشتراكهما في الاسم، نقيس الحية على الحية والكلب على الكلب والخنزير على الخنزير نقيس المائي منها على البري على أن صيد البر فيه المحلل والمحرم، فوجب أن يكون صيد الماء كذلك، والمعنى أن لكل واحد منهما أنواع مختلفة جملتها منسوبة إلى مسكنها فيقال صيد الماء وصيد البرّ.
مسألة
قال: ويكره أكل كثير من حرشة الأرض مثل القنفذ ونحوه، والأصل فيه ما روي لنا عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجفنةٍ قد أودمت، فوجد فيها خنفساء وذباباً فأمر به، وطرح، ثُمَّ قال: <سمُّوا عليه، وكلوا، فإن هذا لا يحرم شيئاً>)، فدل ذلك على أن الخنفساء لا يجوز أكلها؛ لأن أكلها لو كان جائزاً لم يأمر أن يرمى بها؛ لأن الأكول لا يجوز أن يرمى به ويضيع، فإذا ثبت ذلك في الخنفساء قسنا عليها سائر الحرشات، ومنعنا من أكلها.
فإن قيل: هلاَّ قستم على الجراد؟
قيل له: لأنَّه مخصوص والقياس على ما لم يكن مخصوصاً من جملته أولى من القياس على المخصوص على أن أصحاب أبي حنيفة لا يرون على المخصوص على أن قياسنا يوجب الحظر وقياسهم يوجب الإباحة والحظر، أولى من الإباحة، وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمس يقتلى من المحرم وذكر فيه الفارة ولو حل أكله لم يبح قتله إلاَّ على وجه الذبح على أن كثيراً من حرشات الأرض لا يتأتى فيها الذبح والتذكية، فهي تكون ميتة فتحرم بقوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}، على الذين أباحوا ذلك لا يفصلون بين أن يموت أو يذبح على أن الذكاة اسم شرعي ولم يرد الشرع بأن ذبح هذه الأشياء يكون ذكاة، ألا ترى أن ذبح الخنزير لا تكون ذكاة له، وحكي عن الشافعي أنَّه قال: ما كانت العرب تستقذره، فهو من الخبائث المحرمة، لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، وذلك لا معنى له؛ لأنَّ القرآن لم يخاطب به العرب دون العجم بل دون سائر الأمم فلم يرجع فيه إلى استخباث العرب. (142/3)
مسألة
قال: ويكره الضب، وليس بمحرم، وذلك لما روي عن ابن عمر، قال: نادى رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ فقال: ما تقول في الضب؟ فقال: <لست آكله ولم أحرمه>، وعن ابن عمر أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى بضبّ فلم يأكله ولم يحرمه، وعن عائشة أنَّه أهدى لهم ضبٌّ فلم يأكله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام سائل بالباب فأرادت عائشة أن تطعمه الضب فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: <أتعطينه ما لا تأكلين؟>، فدل ذلك على أنَّه كرهه لنفسه وغيره، وعن أبي سعيد الخدري، أن أعرابيّاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الضب، فقال: <إن الله سخط على سبط من بني إسرائيل فمسخهم آوبٌّ يدوبُّون على الأرض، فما أظنهم إلاَّ هؤلاء ولست آكلها ولا أحرمها>، فكل هذه الأخبار نصوص فيما ذهبنا إليه.
مسألة
قال: والأرنب يعاف أكلها، وليست بمحرمة، نص علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راع فأهدى له أرنباً مشويَّة فنظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: <أهدية أم صدقة>؟ فقال: لا بل هدية، فنظر إلى حياها فكأنه نظر فيه دماً، فقال لصاحبها: <خذها> فقال الرجل: آكلها؟ قال: <نعم، وكلوا معه>، فأكل القوم)، وإنَّما تركها؛ لأنَّه عافها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عفناه إقتداءً به. (142/4)
فإن قيل: أنَّه عافها لسبب؟
قيل له: الإقتداء به مما يستحب فإن كان فعل هو صلى الله عليه وآله وسلم لسبب، ألا ترى أنَّه أسرع في وادي مخثر أنَّها حلال؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن في أكلها.
مسألة
قال: ويكره أكل الطّحَّال، وذلك لما روي عن علي عليه السلام أنَّه قال: (لقمة الشيطان)، قال: ويكره أكل الهر الأُنسي وحشي، كما يكره غيره من السباع؛ لأنَّه ذو ناب من السباع وهو ذو أربع يعدوا على الحيوان ليأكله، وما كان كذلك أجري عليه اسم السّبع، وسنذكر ما ورد في السبع من الأثر، قال: ويكره أكل الجبن الذي عمله الكفار، وهذا مبني على أصله أنّ ذبائحهم لا تؤكل، والجبن يدخل فيه الأنفحة، وهي تكون الميتة؛ فلذلك لم نجوزه، قال: وكذلك يكره أكل ما عملوه من سمن وغيره؛ لأن مذهبه أن الكفار أنجاس فينجس ما ماسُّوه بأيديهم من الأشياء المائعة والرطبة، قال: ويكره أن يأكل الرجل مستلقياً على قفاه أو منبطحاً على وجهه أو يأكل بشماله، وذلك لما روى يحيى عليه السلام، قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه نهى أن يأكل الرجل بشماله أو مستلقياً على ظهره أو منبطحاً على بطنه، ولأنّ عادة العقلاء خلاف ذلك، ولأن خلاف ذلك أهنى وأمرى وأنفع ـ أعني مستلقياً أو منبطحاً ـ ، قال: ويكره أكل السلحفاة، قال يحيى لأنَّه ليس ممَّا خصه الله بتحليل معلوم كما خصّ غيره ن صيد البر والبحر، فدل ذلك من مذهبه على أنه يرى أكل الحيوان على الحظر حتى يقوم دليل الإباحة، ووجهه أن الميتة منها محظورة بقول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ}، وما ذبح منها فالذبح لا يكون ذكاة إلاَّ من جهة الشرع على أن أيلام الحيوان محظور ما لم يرد إباحته من جهة الشرع، فصح ما ذهب إليه من أن الأصل في أكل الحيوان الحظر حتَّى يقوم دليلاله الإباحة، وقد ذكرنا في مسألة الحرشات سائر ما يتعلق بهذا الباب. (142/5)
مسألة
قال: ولا بأس بأكل لحوم الجلالة من البقر والغنم والطير إذا كانت تعتلف من الأعلاف والمراعي أكثر ممَّا تجل، ويستحب لمن أراد أكلها أن يحبسها أياماً حتَّى تطيب أجوافها، قوله: لا بأس بأكلها على اشتراط أن تعلق من الأعلاف والمراعي أكثر ممَّا تجلّ تنبيه على أنَّه يكره أكلها إذا لم تأكل غير العذرة، وبه قال أبو حنيفة، وحكي أن مذهب الشافعي فيها هذا على التفصيل، وحكي عن مالك أنَّه لا بأس بها، ووجه ذلك ما روي عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل الجلالة، ولأن أكل العذرة إذا كثر وزاد على أكل ما سواها تظهر رائحتها على اللحم على وجه الامتزاج والاختلاط، فتشبه الماء الذي تغلب عليه رائحة النجاسة على وجه الامتزاج والاختلاط، ويكون لها تغليب حكم النجاسة عليها لظهور رائحتها، وإن كانت عين النجاسة غير قائمة، فأما إذا حبست أياماً حتَّى يطيب أجوافها فلا خلاف في جواز أكلها؛ لأن السبب المانع يكون زائلاً، وكذلك إذا كان أكلها للعذرة أقل لا يكون به اعتبار؛ لأن عامة البهائم والطيور لا تكاد تسلم من ذلك أو ممَّا يجري مجراه من الخبائث، قال: وإذا وقع في الطعام الخنفساة والذباب فليخرج منه وليؤكل الطعام، وهذا قد بينا ما ورد فيه من الأثر. (142/6)
مسالة
قال: وإن وقعت فيه فارة فأخرجت حية فلا بأس بأكل الطعام بعد إخراجها، وإن ماتت فيه أو وقعت وهي ميتة وألقي ما حولها من ذلك الطعام وأكل سائره، إذا لم يكن أصابه من قذرها شيء، وإن كان قد تغير بموتها فيه لم يؤكل، أما إذا وقعت وهي حية وأجرحت وهي حية فلا خلاف في أن الطعام لا ينجس به وتنجيس شيء من الحيوان لا يجب إلاَّ الكلب والخنزير، قال القاسم عليه السلام: وإذا وقع في الطعام مالا دم له ولم يبن فيه نتن ولا قذر فلا بأس بأكله، وهذا قد استوفينا الكلام فيه في باب الطهارة في ذكر الماء إذا وقع فيه ما لا نفس له سائلة.
مسألة
قال: ومن اضطر إلى أكل الميتة أكل منها دون السبع، مقدار ما يقيم به نفسه أما جواز أكلها عند الاضطرار فلا خلاف فيه، لقول الله عز وجل بعد تحريم ما حرم من الميتة: {وَلَحْمُ الْخِنْزِيْرِ فَمَنْ اضْطَرَّ فِيْ مَخْمَصَةٍ}، وقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطَرَرْتُمْ إِلَيْهِ}، وقلنا أنَّه يأكل دون السبع، ومقدار ما يقيم به نفسه؛ لأن الله تعالى أباح ذلك في حال الاضطرار فمتى تناول ما يقيم به نفسه وقارب السبع فقد خرج من حال الاضطرار، ومتى خرج من حال الاضطرار عاد ذلك عليه حراماً؛ لأن من أبيح له أمر من الأمور لعارض فمتى زال ذلك العارض زالت الابحاحة، ألا ترى أن المريض أبيح له الإفطار في شهر رمضان، وكذلك المسافر ومتى زال المرض والسفر زالت الإباحة، فكذلك الأكل من الميتة وحكي عن الشافعي انه على قولين أحدهما ما ذهبنا إليه، والثاني؛ لأنَّه لا يأكل منها إلاَّ مقدار ما يمسك الرمق، وهذا بعيد؛ لأن الله عز وجل أباح له ذلك ما دام الاضطرار قائماً ومقدار ما يمسك الرمق لا يزيل الاضطرار؛ لأن الاقتصار عليه يسقط القوة ويمنع من الصرف، وأداء الصلوات ولا يزيل حرقة الجوع ومتى كان كذلك كان مضطراً والإباحة قائمة بنص الكتاب، وأما قول الله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}، فقد أختلف فيه، فذهب أبو حنيفة إلى أن المراد إلاَّ أن يكون باغياً في أكلها للتلذذ ومجاوزة الحد الذي جعل له، وما أشبه ذلك من الاستحلال له وهو الذي يقتضيه ظاهر قوله في الأحكام في غير موضع، وقال الشافعي: المراد به إلاَّ أن يكون سفره سفر بغي وعدوان ومعصية والأولى ما ذهبنا إليه من أنَّه ليس في الآية ذكر السفر ولا الحظر والسن في ذلك والحظر سواء، فكما أن الفاسق المقيم على فسه إذا اضطر إلى أكل الميتة جاز أكله لها، فكذلك المسافر وإن كان سفره فسقاً وبغياً؛ ولأن الله تعالى أباح ذلك للاضطرار، فأي حال حصل معها الإضرار فيجب (142/7)
أن يجوز له ذلك، ولا خلاف أن الباغي في سفره له أن يتيمم عند عدم الماء أو عند تعذر استعماله للمرض، والعلة أن ذلك رخصة الاضطرار، وكل خصه الاضطرار يجب أن يستوي فيه الباغي والعادل، وكذلك عندهم رخصة المسح على الخفين يستوي فيها البر والفاجر، فيلزمهم ما قلناه، والأصول تشهد بما قلناه؛ لأن التحليل والتحريم في المآكل والمشارب والمناكح والملابس يستويفيها البر والفاجر، فوجب أن يكون كذلك لحم الميتة، ألا ترى أن نكاح الإماء لمن لا يجد الطول وخشي العنت عندنا وعند الشافعي رخصة، ألا ترى إلى قوله، و إن تصبروا خير لكم ومع ذلك يستوي فيها البر والفاجر. (142/8)
فإن قيل: إذا كان قوله عز وجل: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}، محمول على ما قلتم فإنه يجري مجرى التكرير؛ لأن ذلك قد فهم بقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ}؟
قيل له: ذلك عندنا أن هذا هو بيان حكم الاضطرار وتأكيد له للأدلة الَّتِي بيناها، قال: وله أن يتزود منها إذا خشي أن لا يجد غيرها، ولك لا خلاف فيه؛ لأنَّه احتياط لنفس وبقائها؛ ولأن أكلها إذا جاز لحفظ البقاء كان حملها أجوز، قال: والقول في لحم الخنزير كالقول في لحم الميتة، وذلك أن الله عطف بالإباحة على لحم الخنزير كما عطف بهما على الميتة، فكان حكمهما واحداً؛ ولأن المعنى الذي أباح أكل الميتة هي الضرورة، فإذا اضطر إلى أكل لحم الخنزير كان حكمه حكم الميتة، وقال الله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بَأَيْدِيَكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وترك أكل لحم الخنزير مع الضرورة القام باليد إلى التهلكة، فكان حكمه حكم الميتة.
مسألة
قال: ولا يحل أكل ذي ناب من السبا ومخلب من الطير إلاَّ عند الضرورة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال مالك: يجوز سباع الطير ولا يجوز سباع الوحش، والشافعي أجاز الضبع والثعلب ولم يجوز الأسد والنمر والذئب، والأصل في ذلك ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الضب والضبع، وعن كل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير، وعن لحوم الحمر الأهلية)، وعن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير)، وعن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله، وعن أبي ثعلبة الحسني، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله، فكل ذلك نصوص فيما ذهبنا إليه. (142/9)
فإن قيل: روي.................. سألت جابر بن عبد الله عن الضبع، آكلها؟ قال: نعم، قال: أصيد هو، قال: نعم، قال: قلت سمعت ذلك من رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: <نعم>.
قيل له: أما قوله توكل فهو كلام جابر، وقوله سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راجع إلى قوله: هو صيد، ونحن لا ننكر أنَّه صيد فإنه إذا قتله المحرم يلزمه الجزاء، ولكن ليس كل صيد يؤكلن وروي عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سئل عن الضبع، فقال: <هي من الصيد>، وفعل فيها إذا أصابها المحرم كبشاً، ولم يذكر الأكل، فبان أن ذكر الأكل كان حين ذكر من كلام جابر، وتحقيق ذلك ما رويناه عن علي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه نهى عنها.
فإن قيل: قال عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً..} الآية؟
قيل له: عندنا أن هذه السباع ميتة وإن ذبحت؛ لأن المذبوح لا يكون مذكرى إلا إذا دل الشرع عليه، ألا ترى أن الخنزير لا يصير مذكرى بالذبح على أنَّه يمكننا أن نجمع بين الخبرين والآية، فنقول تقديرهما على طاعم يطعمه إلاَّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير أو ذا ناب من السباع أو مخلب من الطير، على أن الخبر يجوز أن يكون قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول الآية، فيكون إضعافه تحريم إلى تحريم، وهذا طريقة أصحابنا وأصحاب الشافعي في ضم خبر الشاهد واليمين إلاَّ الآية، وأيضاً هي ذات أربع تعددوا على الحيوان لتأكله، فوجب أن تكون محرمة، دليله الأسد والثعلب هو مقيس على ذلك بهذه العلة. (142/10)
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}، وأباح ذلك إذا حللنا فهو عام؟
قيل له: ليس ذلك هو موضع الخلاف؛ لأنا نجيز اصطياده، وإنَّما نحرم أكله كالأسد والنمر والذئب.
مسألة
ولا يجوز أكل لحوم الخيول والبغال والحمير، وبه قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: يجوز أكل لحوم الخيل، والأصل فيه ما بينا أن الأصل في الحيوان أن أكله حرام محظور، حتَّى تقوم دلالة الإباحة على ما تقد بيانه، ثُمَّ الحديث المشهور عن خالد بن الوليد، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمير، وذكر تحريم ذلك عن ابن عباس، وأنه يستدل على ذلك بقوله عز وجل: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيْهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ..} الآية، ثُمَّ قال: {وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيْرُ لِتَرْكَبَوْهَا وَزِيْنَةً}، فلما عدّ سبحانه النعم الَّتِي في الأنعام ذكر الأكل، ولما عدّ النعم الَّتِي في الخيل والبغال والحمير ذكر الركوب والزينة، ولم يذكر الأكل، فلما جاز أكلها لذكر الأكل؛ لأن جواز الأكل من عظيم النعم فلا يجوز أن يترك ذكرها مع سائر النعم، فدل ذلك على أنَّها لا تؤكل البغال والحمير. (142/11)
فإن قيل: روي عن جابر: كنَّا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وروي نحوه عن أسماء ابنة أبي بكر؟
قيل له: يحتمل أن يكون ذلك قبل التحريم أو فعلوا ذلك قبل علمهم بالتحريم.
فإن قيل: روي عن جابر أنَّه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل، وعنه قال: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر؟
قيل له: لا تمتنع أن يكون تحريم لحوم الخيل متأخراً عن تحريم لحوم الحمر، ونحن لا ننكر أنَّه كان مباحاً ثُمَّ نهى عنه على أن خبر الإباحة وخبر الحظر إذا اجتمعا كان خبر الحظر أولى أن يؤخذ به، ويدل على ذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الخيل فقال: <هي لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر>، ولم يذكر الأكل، فبان أن الخيل أجمع لا يعدوا الانتفاع بها؛ لأن الألف واللام دليل الجنس، فكأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: انتفاع الخيل أجمع مقصور على هذه الثلاثة، ويمكن أن يقاس على البغال والحمير بأنه بهيمة ذات حافر أهلية، فيجب أن يحرم أكله، ألا ترى أن البهيمة الَّتِي ليست ذات حافر لا يحرم أكلها، فعلم أن التحريم كالإبل والبقر والغنم وما كان منها ذات حافر، وكانت وحشية جاز أكلها فعلم أن التحريم في الحمير والبغال تعلق بهذين الوصفين، وإذا وجد في الخيل وجب تحريما، وأيضاً هي ذو أربع أهلي لا يجب أخذ الصدقة من عنها، فوجب أن تكون محرمة الأكل كالخيل والبغال والحمير، أو يقاس عليها أنَّها ذوا أربع أهلي لا يجزي في الأضحية، وأما الحمر الأهلية فقد حكي أن قوماً استباحوها واستدلوا بها، روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأله رجل فقال: يا رسول الله: أنَّه لم يبق من مالي ما أستطيع أن أطعم أهلي إلاَّ حمراً لي، قال: <فأطعم ملك من سمين مالك، فإنما كرهت لكم جوال القرية>، ويقال له: هذا يحتمل أن يكون كان قبل تحريم أكلها للأخبار الواردة الظاهرة بتحريم أكلها يوم خيبر ويحتمل أن يكون السائل سأل عن الحمر الوحشية فأذن له، وأخبر أنَّه كره جوال القرية بمعنى الحمار الأهلي فيكون موقفاً لسائر ما ذكر في هذا الباب، فمن ذلك ما روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أنَّه قال لابن عباس: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل لحوم الحمر الأنسية، وعن متعة النساء يوم خيبر)، وعن (142/12)
مجاهد، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأنسية، وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثله، وروي ذلك عن خلق من الصحابة، والمسألة لا خلاف فيها اليوم، وأما حمار الوحش فعامة العلماء اجمع على جواز أكله، ولا نص فيه ليحيى عليه السلام، إلاَّ أن كلامه في الأحكام في كتاب المناسك، يدل على جواز أكله؛ لأنَّه قال: ولا يشترين ولا يأكلن، يعني المحرم صيداً من طير ولا ظلف ولا حافر مما صيد له أو لغيره فلما منع من أكل ذي الحافر ن الصيد للإحرام نبه ذلك على أن أكله جائز؛ لأن ما كان حظر أكله للإحرام جاز أكله للمحل، والأصل في ذلك الأخبار الكثيرة الواردة منها حديث صعب بن حثامة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا بالأبواء أو بواذن، فأهديت له لحم حمار وحش فرده عليّ فلما رأى الكراهة في وجهي، قال: <ليس بنا رد عليك؛ ولكنّا حرم>، وروى هذا الحديث من طرق شتّى وبألفاظ مختلفة، ووردت أخبار كثيرة سوى هذا دالة على إباحته تركنا ذكرها خشية الإطالة، فأما البغل فلا أحفظ خلافاً أنَّه محرم أكله، فلا وجه للكلام فيه على أنه إذا ثبت تحريم لحوم الحمر فلا إشكال في تحريم البغلف إذ هو منهما. (142/13)
مسألة
قال القاسم عليه السلام: لا بأس بأكل الغراب، وكذلك الجراد لا بأس بأكله، أما الجراد فلا بأس بجواز أكله، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <أحلت لكم ميتتان>، وإطلاق القول في جواز أكله من غير استثناء حال من حال يدل على أنَّه يؤكل على أي حال مات، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وحكي عن قوم أنه يحل منه ما صيد وهو حي، وذلك لا معنى له؛ لأن الخبر ورد مطلقاً فيه ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في استثنائه شيء، وأما الغراب فله مخلب يعد به فهو من جملته، فيجب أن يكون المراد به السود الصغار الَّتِي تلتقط الحب وأما الأبقع فلا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وذلك أن السود الصغار كسائر الطيور المباح أكلها، فأما الأبقع فله مخلب يعمل به فهو من جملة ما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <ذي مخلب من الطير>، ولأنه روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن في قتله على كل حال للمحرم، وفي بعض الأخبار: <الغراب الأبقع فلو جاز أكله لم يؤمر بقتله بل أمر بذبحه بل لم يجوز ذلك لمحرم. (142/14)
مسألة
قال: ولا يجوز أكل الضبع والدلدل، وهما ذوا ناب من السباع، أما الضبع فقد مضى الكلام فيه وهو ذو ناب، وأما الدلدل فهو أيضاًً ذو ناب من السباع كما قال فيدخل في جملته، نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ذي ناب من السباع، قال: ولا بأس أن يشوى الطبيخ أو يطبخ الشواء وذلك أن الشواء إذا جاز طبخه وشية، فكذلك المطبوخ، قال: ولا بأس بأكل ما نبت على العذرة إذا غسل ونضف منها ونقي فذلك أن الأجزاء الَّتِي تحصل منها فيه تكن قد استحالت استحالة لم يبوء لها فيه أثر في المنظر والمطعم والشم، فكان كاللبن المستحيل عن الدم ونحو ذلك ويجيء على هذا أن الميتة وما جرى مجرى مجراها إذا وقعت في الملاحة وصارة ملحاً واستحالت إلى الملح استحالةً تامة بحيث لا يبقى من الميتة أثر جاز أكلها، وما جرى مجراها، كلك فكان ظاهراً؛ لأن هذه الأشياء النجسة المحرمة إنَّما كانت محرمة لصفاتها الَّتِي اختصتها فإذا زالت تلك المعالي والصفات زال ذلك الحكم، ويدل على ذلك من مذهبه قوله في الدود الخارج من الدبر؛ لأنَّه لا يخرج إلاَّ ومعه غيره من العذرة فينقض الطهارة فنبه على أنَّه طاهر وإن كان مستحيلاً على النجسة مخلوقاً منها، فكذلك غيره، ويدل هذا على أن الخمر إذا صارت خلاًّ حل أكله. قال: ويستحب الأكل على موائد آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لما يرويه يحيى عن جده القاسم عليه السلام يرفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <إذا وضعت موائد آل محمد حفت بهم الملائكة، يقدسون الله عز وجل فيستغفرون لهم ولمن أكل من طعامهم ولما يطلب في ذلك من التبرك بمخالطتهم ومعاشرتهم>. (142/15)
مسألة
قال: ولا ينبغي لأحد أن يأكل من الطين ما يضره، وذلك أن فيه مضار عدة فلا يجوز لأحد أن يبلغ بأكله إلى حد يضره، كما لا يجوز أكل سائر ما يضره، وقد روي فيه النَّهي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو نهي الكراهة للضرر الذي فيه، لا أن عينه محرمة بدلالة أنَّه مما يتطهر به للصلاة عند عدم الماء، فوجب أن يكون تناوله حلالاً كالماء؛ ولأنه مما ابتدئ خلقه وكل شيء ابتدئ خلقه مما ليس بحيوان، ومما يختص بحيوان فأكله حلال، فكذلك الطين، ولا يلزم حشاش السموم؛ لأن تحريمها إنَّما هو للضرر؛ لأن أعيانها محمرة وليس يلزم عليه الخمر أيضاً؛ لأنها ليست مما خلق الله عز وجل ابتداء. (142/16)
مسألة
قال القاسم عليه السلام: ولا بأس بأكل الثوم إلاَّ لمن أراد أن يحضر مسجد الجماعة، وذلك لما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من أكل من خضرواتكم هذه ذوات الريح فلا يقربنّ مساجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم>، وعن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من أكل من هذه البقلة فلا يقربن المسجد حتَّى يذهب ريحها>، يعني الثوم، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته>.
فإن قيل: روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، نهى عن أكل الثوم بخيبر، وهذا نهي مطلق لا لحضور المسجد؟
قيل له: هو محمول على ذلك، ألا ترى أنَّه روي عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <من أكل من هذه البقلة فلا يقربن مسجدنا حتَّى يذهب ريحها>، يعني الثوم، فدل ذلك على أنَّه لنهى عنه نهي الكراهة؛ لريحه للتأذي به، وروي عن حية العرني، عن علي عليه السلام، قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نأكل الثوم، وقال: <لو لا أن الملك ينزل عليّ لأكلته>)، فدل ذلك على أنَّه مباح، وأن النَّهي عنه إنَّما هو للتأذي بريحه، وأيضاً قد بينَّا أن شيئاً مما خلقه الله عز وجل ابتداء مما ليس بحيوان أو يختص بحيوان ليس بمحرم بعينه، فكذلك الثوم. (142/17)
مسألة
قال: وتكره مواكلة المجذوم، وذلك لما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا تديمنَّ النظر إلى المجذوم، ومن كلَّمه فليكن بينه وبينه فان رمح.
والعرس من السنة، وكذلك الأعذار؛ وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لعبد الرحمن بن عوف وقد تزوج أولم: <ولو بشاة>، وذكر يحيى عليه السلام أنَّه روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: <ذلك أيضاً لبعض>، وقد تزوج والعذار أيضاً مثله. قال: ويستحب إجابة المسلم ولو إلى لقمة؛ وذلك لما روي عنه عليه السلام أنَّه قال: <لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدى إلى دراع لقبلت>، وروي عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <أجيبوا الدّعوة إذا دعيتم إليها>.
باب الأشربة
الخمر كل ما خامر العقل فأفسده بالسكر من عنب كان أو زبيب أو تمر أو عسل أو رهو أو حنطة أو شعير أو ذرة أو غير ذلك، وتحريم الخمر مما لا خرف فيه بين المسلمين إلاَّ في المحرم، فثبت تحريم الخم، وقال عز وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..} الآية، ففيه ثلاثة أوجه مما تبين به تحريم الخمر أحدها قول الله عز وجل: {رِجْسٌ}، والرجس هو النجس، والنجس محرم تناوله، لقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ}، والثاني قوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، المراد به، والله أعلم، الدعاء إليه من عمل الشيطان؛ لأنا نعلم أن نفس الخمر والأنصاب والأزلام ليست مما عمله الشيطان، والشيطان لا يدعو إلاَّ إلى الحرام، فإذا كان الدعاء إلى هذه الأشياء من عمل الشيطان دل ذلك على أنَّه محرم، والثالث قوله عز وجل: {فَاجْتَنِبُوهُ}، فأوجب علينا اجتنابه، وما وجب علينا اجتنابه كان محرماً، ثُمَّ اختلفوا في مائية الخمر، فأجمعوا أن عصير العنب قبل أن يطبخ إذا اشتد وعلا وصار له زبداً أنَّه خمر يكفر مستحله ويفسق شاربه محرماً، ثُمَّ اختلفوا بعد ذلك، فذهب قوم أن الخمر ما كان من العنب والنخل، واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <أن الخمر من هاتين الشجرتين، النخلة والعنبة>، وروي: الكرمة، وذهب قوم من أصحاب الشافعي إلى ما ذهبنا إليه من أن الخمر كل ما أسكر مما ذكرناه، والأصل فيه ما رواه محمد بن منصور بإسناده، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: <كل مسكر خمر>، ورواه أيضاً الطحاوي، وروي أيضاً بإسناده، عن الشعبي، عن النعمان، عن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: <إن من العنب خمراً، ومن التمر خمراً، ومن النخيل خمراً، ومن الحنطة والشعير خمراً، وإني أنهاكم عن كل سكر>، وروي بإسناده عن الشعبي، عن ابن عمر، قال: سمعت عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (142/18)
يقول: أيها الناس إنَّه نزل تحريم الخمر، وهي يومئذ من خمسة من التمر والعنب والعسل والحنطة والشعير، والخمر كل ما خامر العقل، وعندنا أنَّه إذا روى الصحابي فعلاً أو قولاً بمشهد من سائر الصحابة فلم ينكر ذلك عليه منكر، ولم يظهر الخلاف فيه مخالف صار ذلك أصلاً يصح الاحتياج به؛ لنه إجماع منهم، ذكر هذا المعنى يحيى بن الحسين عليه السلام، في باب الرجم، من الأحكام، وقوله: الخمر ما خامر العقل، لا يخلوا من أن يكون قاله لغة أو شرعاً، فإن كان قاله لغة فيجب أن يقبل نه، وإن كان قاله شرعاً على الوجه الذي قاله بحضرة الصحابة، فيجب أن يعمل به؛ لأنَّه يكون إجماعاً، وروى أيضاً أنس قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسعيد بن ... خليط سراسرا وتمر، وحرمت الخمر فدفعتها وأنا ساقيهم يومئذ وأصغرهم وأنّا نعدها يومئذ خمراً، وروي في اختلاف الفقهاء، عن أنس، أنَّه سئل عن الأشربة، فقال: حرمت، هي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة، وما حرم الله من ذلك فهو خمر، وقد قيل: أن الخمر سمي خمراً بمخامرته العقل، فكلما أثر تأثيره في العقل يجب أن يكون خمراً، وهذا يرجع في صحته إلى قول عمر بحضرة الصحابة: والخمر ما خامر العقل، فأما بيان الاسم من طريق القياس فيضعف جداً إلاَّ أنَّه يمكن أن يقوى بأن يقال أن أهل اللغة لا يمتنعون من أن يسمى شارب المسكر من أي جنس كان مخموراً، وهو لا شك من الخمر، فثبت أن كل مسكر عندهم يجب أن يكون خمراً. (142/19)
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <الخمر من هاتين الشجرتين>، يدل على أن الخمر لا يكون من غيرهما؛ لأنَّ الألف واللام للجنس، فكأنَّه قال: كل الخمر من هاتين الشجرتين؟
قيل له: التقدير إذا ضمت هذه الدلالة إلى قوله الخمر من هاتين الشجرتين، كأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: الخمر من هاتين الشجرتين ومن كذا وكذا.
فإن قيل: روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب>؟ (142/20)
قيل له: إذا ثبت أن جميع ما ذكرنا خمر بالأدلة الَّتِي بيناها، فتأويل الخبر أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أعاد ذكر بعض ما اشتمل عليه اللفظ الأول للبيان، فإن ذلك بفعله أهل اللغة لأعراض، ومثله قد وجد في القرآن نحو قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ..} الآية، وكقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيْلَ وَمِيْكَائِيْلَ}، فأعاد ذكر إبراهيم ومن بعده بعد ذكر النبيين، وأعاد ذكر جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة، وقال عز وجل أيضاً: {فَيْهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}، والنخل والرمان عندنا من الفاكهة ونظائر ذلك كثير ويحتمل أن يكون المراد به ما أسكر من كل شراب، فبين أن الخمر محرمة بعينها لا يجب أن يطلب شيء من أحوالها، ومن سائر الأشربة يحرم ما يكون مسكراً ليكون ذلك موافقاً لسائر ما روي.
فإن قيل: لو كانت هذه الأنبذة من الخمر لكفر من استحل شربها؟
قيل له: من استحل شرب تلك الخمر المخصوصة كفر؛ لأنا عرفنا تحريمها من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة، ومن استحل ما هذا سبيله كفر؛ لأنَّه يكن مكذباً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الأنبذة، علمنا تحريمها من وجهة النظر والاجتهاد فلم يجب أن يكفر مستحلها وإن كان اسم الخمر يجمعها، ألا ترى أن أبا حنيفة لا يخالف في تكفية من أنكر وجوب أحدة من الصلوات الخمس ثُمَّ لا يكفر من أنكر وجوب الوتر والصلوات الخمس اسم الوجوب، وكذلك لا يكفر للوجه الذي بيناه، فكذلك مسألة الخمر، ألا ترى أن ذلك لا يمنع عنده من أن يجمع الوتر والصلوات الخمس اسم الوجوب، وكذلك لا يكفر من استجاز أكل ما قتله الكلب، وإن أكل منه وإن كان يكفر ن استجاز أكل ما قتله الذئب وما أشبه ذلك، ونظائره أكثر من أن يعد ويحصى.
مسألة
وكل شراب أسكر كثيره فالقليل منه حرام، وما لم يسكر كثيره فهو حلال، وهو رأي أهل البيت لا أحفظ عنهم فيه خلافاً، وبه قال مالك والشافعي، وقد اختلف غيرهم من العلماء في ما يحل ويحرم من المسكر اختلافاً كثيراً، إلاَّ أنّا إذا دللنا على صحة قولنا بطل قول جيمع من خالفنا فيه، وثبت أن كل مسكر حرام، وأحد الطرف في تحريمها ما مضى في المسألة الَّتِي قبلها من أن اسم الخمر يتناول جميعها، فثبت أن التحريم بقوله تعالى: {فِيْهِمَا إِثْمٌ كَبِيْرٌ وَمَنَافِعٌ}، قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <كل مسكر خمر>، وما روي عن ابن عمر وغيره، والطريقة الثانية الأخبار الواردة في كل ما أسكر كثيره منها فقليله حرام، حديث زيد بن علي من طريق الناصر، عن آبائه، عن عليّ عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <ما أسكر كثيره فقليله حرام>، وعن سهر بن حوشب، عن أم سلمة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كل مسكر ومغير، وعن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول كل مسكر حرام، وعن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله، وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله، وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله، وعن عامر بن سعيد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره>، وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <إن الله حرم عيكم الخمر والميسر والكوبة، وكل مسكر حرام>، عن عائشة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: <كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام>، وفي بعض الأخبار: <فالحسوة نه حرام>، وروي: <كل مسكر حرام>، عن عبد الله بن عمر، وقيس بن سعد بن قتادة، وعن جابر، عن النعمان بن بشير، وعن أبي موسى كلهم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بألفاظ مختلفة. (142/21)
فإن قيل: المارد بهذه الأخبار هو القدح الأخير الذي يقع السكر عقيب تناوله؛ لأن ما تقدمه مما لا يقع به السكر لا يسمى مسكراً كما لا يقال القليل الماء مروٍ ويسير الطعام مشبع؟ (142/22)
قيل له: هذا التأويل ممتنع فيما روي من قول: ما أسكر الفرق منه فملء الكف مه حرام، والحسوة منه حرام؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم علق الإسكار بالجميع بقوله: <ما أسكر>، الفرق منه، فبان أنَّه أراد به الجنس المسكر دون ما يحصل عقيبه السكر؛ لأن الفرق لا يمكن تناوله دفعة واحدة وإنَّما يتناوله شيئاً بعد شيء، والسكر لا يحصل إلاَّ مع الأول على أن الجميع هو المسكر في التحقيق دون الشربة الأخيرة؛ لأنا نعلم أن لكل بعض منه تأثيراً في فساد العقل، ألا ترى أن القدح الأخير لو شربه أولاً لم يسكر وإنَّما يتم السكر عنده لتقدم سائر الأقداح، ولما يكون قد حصل من تأثير الجميع، ألا ترى أن الإنسان يقول أشبعني هذا الرغيف، ولا يقول: أشبعني اللقمة الأخيرة، فالمشبع هو جنس الطعام والمروي هو جنس الماء، فكذلك المسكر هو جنس الشراب، فيجب أن يكون التحريم متعلقاً به، على أن قوله: ما أسكر الكثير منه فالقليل منه حرام، فيقع ذلك على كل جزء نه شربه أولاً وآخراً، فهذا هو ظاهر هذه الألفاظ على ا ذكروه، وإن كان محتملاً فما قلناه أولى لوجوه نذكرها.
فإن قيل: روي عن ابن عمر قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أتي بشراب فأدناه إلى فيه فقبَّ فردّه، فقال رجل: يا رسول الله: أحرامٌ هو، فردّ الشراب ثُمَّ دعا بماء فصبه عليه ثُمَّ قال: <إذا اعتلمت هذه الأشفية عليكم فأكسروا متونها بالماء>؟
قيل له: ليس في الحديث أنَّه كان مسكراً، يحتمل أن يكون الشراب كان فيه حموضة زائدة أو يكون أخذ من رائحة ذلك الوعاء فكرهه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: <صبوا عليه الماء ليخف ذلك>، وقد يقطب الإنسان وجهه إذا تناول شيئاً شديد الحموضة وما له رائحة كريهة، وعلى هذا يحمل كل ما روي مما يجرى هذا المجرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة، وكذلك ما يروى بلفظ النبيذ محمول على أنَّه ماء قد طرح فهي التمر ليعذب به الماء من غير أن يصير مسكراً، وما روي أن رجلاً شرب من سطيحة عمر فسكر فلما أراد أن يحده قال: شربت سطيحتك محمول على أن عمر كان ظن أنَّه مما لا يسكر، ولفظ الشدة أيضاً في بعض الأخبار محمول على أن حموضته اشتدت أو تغيرت برائحته، وما روي أنَّه يقطع لحوم الإبل في الأجواف أيضاً محمول على الحموضة لا معنى لقوله: يقطع لحوم الإبل أنَّه يعين على الهضم والأشربة الحامضة كشراب ماء الرمان وكشراب يجري مجرى الخل ونحوه مما يعين على الهضم، وما روي من أن عبد الرحمن بن أبي ليلى شرب عند علي عليه السلام فبعث غلامه معه يهديه إلى البيت محمول على أن غلامه خرج معه للظلمة لا للسكر، وإن روي لفظ السكر في بعض الأخبار، فيحتمل أن يكون بعض الرواة على المعنى الذي اعتقده وتصوره، ويحتمل أن يكون الشراب الذي كان عند علي كان مسكراً ولم يعلم هو بذلك من حاله، فكان الشراب على سبيل الغلط، كما قلنا في معنى ما روي أنَّه كان في سطحه عمه. (142/23)
فإن قيل: روي عن أبي هريرة: إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاماً فليأكل من طعامه ولا يسأل عنه، فإن سقاه شراباً فليشرب، ولا يسأل، فإن خشي منه فليكسر بشيء من الماء؟
قيل له: يحتمل أن يكون أراد إن خشي ضرره من فرط حرارة أو برودة فليكسر بما يضاده وليس في الحديث إن خشي كونه مسكراً وما روي أن عمر قال: ما قولك يا رسول الله، كل مسكر حرام؟ قال: <اشرب فإذا خفت فدع>، يحتمل أن يكون معناه اشرب الشراب فإذا خفت أن يكون الشراب مسكراً فدع. (142/24)
فإن قيل: روي عن علقمة، قال: سألت ابن مسعود عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسكر فقال: الشربة الأخيرة، فليحتمل أن يكون المراد به أن حاله تتبين في الشربة الآخرة؛ لأن قبلها قد يشبه بعض المسكر ما ليس بمسكر، ويحتمل أن يكون ذلك رأي ابن مسعود، والله أعلم.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيْلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سُكْراً وَرِزْقاً حَسَناً}، فدل ذلك على أن في المسكر ما أنعم الله به على عباده، وفي ذلك دليل إباحته؟
قيل له: تأويل ذلك، والله أعلم، أنَّه عز وجل جمع فيه بين ذكر الأنعام على عبادة والتوبيخ لهم فذكر اتحاد السكر على جهة التفريغ، وهذا كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا}، على أن قوله عز وجل: {سُكْراً وَرِزْقاً حَسَناً}، يدل على أن السكر ليس من الرزق الحسن؛ لأنَّه فصل بينهما بالواو وفيه دليل على أنَّه ليس بمباح؛ لأنَّه لو كان مباحاً لكان رزقاً حسناً ويحكى عن بعض السلف من المفسرين: السكر الخمر، وهذا يصحح التأويل الذي ذكرناه؛ لأنَّه لا خلاف في تحريم الخمر فأما تحريمها من جهة القياس فظاهر، وذلك أن العصير حلال شربه، فإذا صار مسكراً خمراً حرم شربه، وإذا ارتفعت عنه هذه الحال بأن يصير خلا زال التحريم عن أكثر العلماء، فعلم ان الحكم تعلق بهذه الحالة، وأنها علة الحكم فكل شراب يكن مسكراً يجب أن يكون محرماً ويؤيد هذا القياس الذي نبه الله تعالى عليه من تعليق التحريم لأجله بالخمر من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة يستوي فيه الخمر وسائر الأنبذة، ويؤيد هذه العلة قوله: < كل مسكر خمر>، فبين الاسم، والحكم به يتعلق، ويمكنےأيضےً أن يقاس ا انبذے ع÷ى الخمر كأنے قالے½أن الشرûة الےےےےي تحصل عقيبهے ےùےكر لما كانت حراےاً وجب تےرïمے÷لےربة الأولىے دليلے الخمر وأيضاً يما كان الاستكثاے منه يوےے القداوةےوالصد عن ذكر الله وعن الصَاة،ےوےے أن يےون ےلےلےل ÷نه حراماً كےےخمےے ويمكن ےنü قاے ليل النبيذ على¯كثيرهï كےلے أےه شراب مسكر ےيؤےد ما ذكرنا ما روي أن عمر وجد ريح الراب من ابنه عبيد الله فقال: أني سائل عنه، فإن كان فيما شرب مسكراً جلدته، فجلده. (142/25)
فإن قيل: لو كان ذلك كذلك لورد النقل بتحريمها متواتراً؛ لأن بلوى أهل المدينة بها كان عاماً؟
قيل له: هذا الأصل لأننا نوافقكم عليه؛ لأنَّه لا يمتنع أن تكون البلوى بالشيء عاماً ثُمَّ يرد حكمه من طريقة الآحاد على أن النقل الوارد في هذا الباب لا يبعد الاستفاضة، أن يقال فيه أنَّه متواتر وأنتم أيضاً لا تنكرونها، وإنَّما تتأولونها، وجملة الأمر أنكم إذا تأولتم أخبارنا تأولنا أخباركم، يكون تأويلنا أشد ملائمة للظاهر فهو أولى من تأويلكم إذ ليس في أخباركم لفظ يوجب إباحة السكر على أنا لو استوينا من هذا الوجه كان قولنا أولى من وجوه: منها أن القياس الصَّحيح يعضده، ومنها أن تأويلنا وجب الحضر والحضر أولى من الإباحة، ومنها أن تأويلنا يوجب النقل والناقل أولى من الباني، ومنها أن تأويلنا فيه الاحتياط. (142/26)
فإن قيل: فنحن نمنع قياسكم ونقول أن العلة في تحريم الخمر كونها نياً؟
قيل له: لو سلمناه لكم لم يمنع ذلك صحة قياسنا؛ لأنا نقول بالغتين على أن كونه نياً كونه نياً لا تأثير له في الحكم؛ لأنَّه قبل أن يصير مسكراً يكون نياً ويحل شربه فكان الحكم مجاوراً لما ذكرناه دون ما ذكرتم فصح بما ذكرنا صحته قياسنا على أن ما قالوه خلاف الأصول؛ لأن الأشربة والأطعمة لا يفترق الحال فيها بين القليل والكثر في باب التحليل والتحريم، وهم يحرمون كثير الأنبذة ويحللون قليلها، والأصول بخلاف ذلك، ويستدل على ذلك بإجماع أهل البيت؛ لأن إجماعهم عندنا حجة، ولا أعرف بينهم في المسألة خلافاً. قال: ولا اعتبار فيما طبخ منه بأن يكون بقي منه الثلث أو أقل أو أكثر، وقد بينا أن الاعتبار يكون مسكراً أو غير مسكر، فإذا ثبت ذلك صح أنَّه لا اعتبار ببقاء الثلث أو دونه أو فوقه.
مسألة
قال: ولا يجوز الانتفاع بالخمر بالخمر على وجه من الوجوه بأن يجعل خلاً أو غيره، وبه قال الشافعي، والرواية عن مالك مختلف، وقال أبو حنيفة: لا بأس بتحليلها، والأصل فيه ما روي أنَّه لما نزل تحريم الخمر أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإراقة خمر لايتام، وذكر الطحاوي في اختلاف الفقهاء، قال: روي عن أس قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي حجرة يتيم، وكان عند خمر حين حرمت الخمر، فقال: يا رسول الله نصنعها خلاً؟ قال: <لا فصة حتَّى سال في الوادي>، فلو كان التحليل جائزاً لم ينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يأمر بأرقة الخمر؛ لأنَّه قد نهى عن إضاعة المال. (142/27)
فإن قيل: أنَّها قبل التحليل لم تكن مالاً؟
قيل له: عندكم أنَّه لا يصح أن يجعل مالاً فهي في الحكم كأنها مال؛ ولأن ذلك لو جاز لكان يتعلق بها حق اليتيم للاستصلاح، ولا يجوز تضييع حقه فلما أمر بإراقتها ثبت أنَّها لا يمكن أن تجعل مالاً على وجه من الوجوه، وروى أيضاً الطحاوي في اختلاف الفقهاء، عن أسلم مولى عمر، عن عمر قال: لا نأكل من خمر أفسدت حتَّى يكن الله بدأ بإفسادها، وادعى أو جعفر أن ذلك من لفظ بعض الرواة الظاهر أنَّه من لفظ عمر فإذا ثبت ذلك عنه ولم يرو خلافه عن خيره من الصحابة جرى مجرى الإجماع، وليس لهم أن يردوه إلى دباغ جلد الميتة؛ لأن الدباغ عندنا لا يطهر، قال: فأما الخل الذي يتخذ من العصية ويسمى خل خمر فلا بأس به، وهذا مما لا خلاف فيه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <نِعْمَ الإدام الخل>، والذي عندي أن الخمر إذا صارت بنفسها خلاً كان ذلك حلالاً وإن كان في المتأخرين من أصحابنا من قال بخلاف ذلك، وعليه دلّ كلام القاسم عليه السلام، حيث يقول: ما نبت على العذرة إذا لم يبق فيه رائحة وأثر للجنس كان طاهراً، ولا شك أنَّه يكون مستحيلاً من النجاسة، وكذلك قوله فقي الدود الذي يخرج من أسفل الإنسان أنَّه لا يخرج إلاَّ ومعه غيره من العذرة، فلذلك تنتقض الطهارة، ففيه تنبيه على أنَّه لو ما ماسّه من النجاسة كان طاهراً، ولا إشكال أنَّه مستحيل من النجاسة واللبن أيضاً لا إشكال في أنَّه مستحيل من الدم، مع كونه طاهراً، فصار ذلك أصلاً في كل نجس استحال حتَّى يصير شيئاً آخر من غير فعل الآدمي في أنَّه أيجب أن يكون طاهراً، فكذلك الخل المستحيل عن الخمر على أنه يبعد أن يكون خلاً لم يكن خمراً. (142/28)
مسألة
قال: ولا يجوز الشرب ولا الكل في أواني اللذة ولا الأواني المغضضة والمذهبة، ولا بأس أن يأكل أو يشرب في أواني النحاس والرصاص وغيرها، وذلك لما روي عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة، وقال: <هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة>، وروي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <من شرب في آنيته الذهب والفضة فكأنما يخرجن في تظنه نار جهنم>، فصار النهي عن الشرب فيها منصوصاً عليه، وهذا مما لا خلاف فيه، وصار الأكل وسائر وجوه الاستعمال مقيساً عليه، ولا يجوز على ذلك استعمال ملاعق الذهب والفضة، ولا المجامر ولا شيء من الأواني، وأما المفضض والمذهب فقد أجازه قوم، وكره أصحابنا؛ لأن الظاهر من ذلك يكون الذهب والفضة، ويكون الإنسان مستعملاً لهما، وأما أواني النحاس والرصاص وغيرهما فلا خلاف في جواز استعمالها؛ لأن الأشياء على الإباحة حتَّى يقوم دليل الحظر وحكي عن قوم من أصحاب أبي حنيفة أنَّه لا يجوز الأكل والشرب في الياقوت والفيروزج وما أشبههما، وفصلوا بينها وبين المثمن من الزجاج ونحوه بأن قالوا: ما كان ارتفاع ثمنه ونفاسة قدره بجنسه وجوهره فلا يجوز استعماله؛ لنه جاز مجرى الذهب والفضة وما كان ارتفاع ثمنه ونفاسة قدره للصنعة كالزجاج والنحاس وما أشبه ذلك يجوز استعماله؛ لنه كسائر الأواني وذلك عندي قريب، والله أعلم. (142/29)
مسألة
قال: وإذا شرب الرجل ما يجوز له شربه وأراد أن يسقي أصحابه له أن يبدأ بمن عن يمينه ثُمَّ يدير الإناء حتَّى يرجع إلى من هو عن شماله، وذلك أن الابتداء بالأيمان في كثر من المواضع واجب أو مستحب؛ لأنا نوجب ذلك في ترتيب الوضوء، وقال صلى الله عليه وآله وسلم إذا لبستم أو توشأتم فابدأوا بميامنكم، فصار الابتداء بالميامن في الأمور مستحباً، قال يحيى: وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أتى بشراب فشر منه وعن يمينه غلام وعن يساره مشائخ، فقال للغلام: <أتأذن لي أن أعطي هؤلاء>، فقال الغلام: لا، والله يا رسول الله ما أوثر بنصيبي منك أحداً، فناوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما في يده. (142/30)
باب القول في الملابس (143/1)
يجوز للرجال لبس الحرير المحض إلاَّ في الحروب؛ وذلك لأخبار كثيرة رويت في هذا الباب، منها ما روي عن علي عليه السلام، قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي إحدى يديه ذهب وفي الأخرى حرير، فقال: <هذان حرامُ على ذكور أمتي وحلّ لإناثها>)، وروي هذا عن عدة من الصحابة، زيد بن أرقم وابن عمر وعقبة بن عامر وغيرهم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أهديت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلة لحمتها وسداها إبريسم فقلت يا رسول الله: أألبسها؟ قال: <لا أكره لك ما أكره لنفسي ولكن اقطعها خمراً لفلانة وفلانه>)، فذكر فاطمة عليها السلام فشققها أربعة خمر، وأما في الحرب فلأنه يكون جنة وسلاحاً ورهاباً للعدو، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص لطلحة بن عبد الله في لبس الحرير، ولا أحفظ خلافاً في ذلك، إلاَّ ما ذهب إليه أبو حنيفة أن الحرير المحض لا يكون في الحرب جائزاً أيضاً، وجوز فيه ما لا يجوز في سائر الأحوال؛ لنه جوز لبس ما لحمته حرير، وإذا جاز ذلك، فيجب أن يجوز في الحرير المحض؛ لأنَّه لا فصل بينهما في سار الأحوال، فكذلك في الحروب، قال: فإن كان الحرير دون النصف وكان ما سواه غالباً جاز، وقال في المنتخب: إلاَّ أن يكون نصف الثوب قطناً ونصفه حريراً جاز، والصحيح هو رواية الأحكام، والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص في قليل من الإبرسيم، منها ما روي عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الثوب المصمت، وأما السدي والعلم فلا وما روي أنَّه كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبة مكفوفة الجيب والكمين والعزح بالديباج، وروي أنَّه كان على سعد بن أبي وقاص جبة شامية قابها قز، فإذا ثبت أن القليل من الإبريم جائز لبسه للرجال، قلنا: أن الغالب إذا كان هو القطن وما أشبه وكان الإبريم هو الأقل يجوز لبسة؛ ولأن القليل في كثير من
الأصول قد جعل في حكم الأكثر من غيره على سبيل التبع، ووجه ما في المنتخب أن النَّهي ورد عن الحرير، فإذا خالطه مثله من غيره لم يكن حريراً، وهذا يضعف؛ لأنهما إذا استويا كان لكل واحد منهما حكم على حاله ولم يصح أن يقال أن الحرير صار في حكم غيره على سبيل التبع؛ لأن ما سواه لا مزية له عليه، فيجب أ، لا يجوز لبسه حتَّى يكون ما سواه نسجاً معه فيجري مجرى المستهلك فيه؛ ولأنه إذا كان ظهار أو بطانة فهو لابس ثوب حرير وإن خلطه مع غيره لا يؤثر فيه، قال: ولبس ذلك جائز للنساء ولا أحفظ فيه خلافاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الذهب والإبريسم: <هما حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم>، وما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يسقق الحلة وتجعل خمراً للنساء. (143/2)
مسألة
قال: ويكره للرجل لبس الثياب الَّتِي قد شهرت بالتلوين إلاَّ في الحروب، وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى على رجل ثوبين مصبوغين بالعصفر، فقال: <هذه من ثياب الكفار فلا يلبسها>، وروي عن أنس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه ثوب معصفر فقال له: <لولا أن ثوبك هذا تنور لكان خيراً لك>، فذهب الرجل فجعله تحت القدر أو في التنور فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: <ما أفعل ثوبك>؟ قال: صنعت به ما أمرتني به، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <ما بذلك أمرتك إلاَّ ألقيته على بعض نسائك>، وروي عن نافع قال: كانت أم سلمة وعائشة وأم حبيبة بلبس المصبغات فعلمنا أن الكراهة مخصوصة للرجال كالحرير، وقلنا: يجوز في الحروب كما قلنا في الحرير.
مسألة
قال: ويكره لهم خواتم الذهب، فأما خواتم الفضة فلا بأس بها، ويستحب لبسها في الأيمان، ويكره في اليسار، وذلك لما روي عن أبي هريرة، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه خاتم من ذهب فأعرض عنه فانطلق الرجل فقال: لا أرى حلية شراء من ورق، فأقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأقبل عليه، وعن جعفر، عن أبيه، قال: كان نقش خاتم علي عليه السلام (الله الملك)، وكان يتختم بيمينه، وكراهة لبسها في اليسار ليست كراهة تحريم بل الكراهة الَّتِي هي خلاف الاستحباب لما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن علي عليه السلام؛ ولأن اليمين أبعد من الأقذار، وقد وري أيضاً لبسها في اليسار عن الحسن والحسين عليهما السلام، ولأن اليمين أبعد من الأقذار، وقد روي أيضاً عن محمد بن الحنفية وغيرهم من الصحابة. (143/3)
مسألة
قال: ويكره لبس الخلا خيل للذكران من الصبية ولا يكره للإناث منهم، والأصل فيه أن ما لا يجوز للبالغين لبسه وأكله لم يجز للصغار وكالخمر ولحم الخنازير لما حرم على البالغين حرم على الصغار، فكذلك ما حرم على الرجال فقد يجب أن يكون محرماً على الصغار الذكور كلبس الحرير ونحوه، فكذلك الخلاخيل لا يجوز لهم لبسها، فلم يجز لبسها للصغار من الذكور؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الذهب والابريسم: <هما حرام على ذكور أمتي>، فدخل فيه الرجال والصبيان.
فإن قيل: فكيل يحرم عليهم الشيء ولا تكليف عليهم؟
قلنا: التكليف في تجنبهم هذه المحرمات علينا، وهذا كما نوجب الزكاة ي مال الصغير، ونوجب عليهم والنفقات وأروش الجنايات، وروي عن إسماعيل ابن عبد الرحمن، دخل مع عبد الرحمن على عمر وعليه قميص من حرير، وقلبان من ذهب فشق القميص وفك القلبين، وقال: اذهب إلى أمك، ولم يرو إنكار ذلك عن أحد من الصحابة، وقلنا: لا يكره للإناث؛ لأن ذلك إذا جاز للبالغات كان جوازه أولى.
مسألة
قال: ولا يجوز لبس ما وصف من الثياب لرقته إلاَّ أن يكون تحته ما يستره، وذلك أن في لبسه إبداء للعورة، وذلك لا خلاف فيه، قال: وإن لبسته المرأة مع زوجها في الخلوة لم يكره وذلك أنَّه لا يجب لكل واحد من الزوجين أن يستر عورته مجانبة عن صاحبه، ولا خلاف في ذلك. (143/4)
مسألة
قال: ولا ينبغي لأحد أ، يكشف عورته لدخول الماء أو الحمام يكره لمن كان وحده، ويحرم على من كان معه غيره، وهذا مما لا خلاف فيه، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <نهيت أن أمشي وأنا عريان>، ولأن ستر العورة واجب إلاَّ على ما بيناه، وقد روي كراهة دخول الماء منكشفاً، وروي: للماء سكان، يعني به ـ والله أعلم ـ الملائكة والجن.
مسألة
قال: ولا بأس للمرأة أن تصلي شعرها بشعر المعز وصوف الضان، جائز استعمال ذلك للرجال والنساء وجائز لهم لبسهما، والصلاة فيهما فلم يكن وصلهما بالشعر الأشل سائر وجوه استعمالهما، ولا يجب أن يكره ذلك لأنَّه تزين وذلك أن التزين للنساء مستحب غير مكروه، فأما شعر الناس فإن استعماله محرم بدلالة ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لعن الواصلة والمتوصلة وفسر ذلك فيمن من وصلت شعرها بشعر الناس، ولا أحفظ في ذلك خلافاً.
مسألة
قال: ولا بأس بتغيير الشيب بالخضاب وتركه أفضل، والخضاب مما لا خلاف في جوازه، وقد روي عن كثير من السلف من أهل البيت وغيرهم، وقوله: إن تركه أفضل إنَّما ذهب فيه إلى حديث ذكره عن علي أنَّه قيل له حين كثر شيبه لو غيرت لحيتك، فقال: إني أكره أن أغير لباساً ألبسنيه الله، وروي عن إبراهيم صلى الله عليه وآله رأى شعره شيباً، فقال لجبريل: (ما هذا يا جبريل؟، فقال: إنَّه وقار، فقال: رب زدني وقاراً)، ولأنه يذكر الموت ويبعث على الاستعداد له، وقد روي في بعض التفسير: {وَجَاءَكُمْ النَّذِيْرُ} المراد به الشبب، قال القاسم عليه السلام: ولا بأس بالثوب المصبوغ يصبغ يدخل فيه الشيء النجس إذا غسل وبولغ في غسله وتنقيسته ولم يبق فيه للنجس أثر، الأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في دم الحيض: <إذا بقي أثره الطخته بالزعفران>، فدل ذلك على أن الأثر معفو عنه بعد الغسل والتنقية، وقد علمنا أن الصبغ الذي فيه نجس أخف من دم الحيض عينه نجسة والصبغ ينجس بمجاورة النجس، فإذا جاز ذلك في دم الحيض كان في الصبغ أجوز، وفي معنا قولنا: ولم يبق فيه للنجس أثر، يمكن إزالته بالغسل؛ لأن الأثر الذي يبقى بعد الغسل معفو عنه. (143/5)
مسألة
قال: ويستحب للمرأة أن ترخي درعها أو خمارها حتَّى تستر قدميها ذلك لأنَّه اشتر لهن، وروي أن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كن يطولن أذيالهن حتَّى يحررنها على الأرض، قال: ويكره للرجل أن يرخيهما إلى أكثر من ظهر قدميه، وذلك لأنَّه لا غرض وهو من الخيلاء في الرجال وهو مخالف لما عليه عادة أهل الدين والستر، قال القاسم عليه السلام: لا بأس بالفرس والمقادم تكون من الحرير، وهذا يحتمل أن يكون المراد أن ذلك يحل للنساء، وبه قال عامة العلماء.
فإن قيل: فما الفائدة في إجازتها للنساء وقد جاز لهن اللبس الذي فوق ذلك؟
قيل له: لا يمتنع أن يكون أراد أن يعرف الفرق بين ذلك وبين أواني الذهب والفضة، ولا يحل لهن استعمال أواني الذهب وإن حمل على اهره أنَّه يحل للرجال والنساء احتمل أيضاً، وبه قال أبو حنيفة، والأصح عندي تحريمه على الرجال، لما روي عن عدة من الصحابة، و روي عن علي أنَّه قدم إليه دابة ليركبها فلما وضع رجليه في الركاب رأى على صفة السرج قطعة من الديباج فثنى رجله ولم يركب، وروي عن سعد بن أبي وقاص في حيث طويل أنَّه قال: لأن أضطجع على جمر المعضا أحب إليّ من أضطجع على مرافق حرير، ولأن قوله في الحرير والذهب: <هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم>، اقتضى تحريم استعماله على أي وجه كان من توشد أو لبس اللبس، لما كان محرماً وجب أن يكون الجلوس عليه والتوسد عليه مثله بعلة أنَّه استعمال مثله؛ لأن الفرس والنمارق لا يستعمل إلاَّ بالتوسد والجلوس والنوم عليه، ووجه إباحته للرجال أنَّه ليس باستعمال في الحقيقة بدلالة أن من جلس على فراش مغصوب لم يضمنه ولو لبس ثوباً مغصوباً أو ركب دابة مغصوبة يضمن، فإذا لم يكن استعمالاً لم يجب أن يحرم كما لا يحرم نقله وبيعه وشراؤه وسائر وجوه التصرف فيه، والأقوى ما قدمناه، والله أعلم. (143/6)
كتاب السير (144/1)
باب القول فيما يلزم الإمام للأمة ويلزمهم له
يجب على الإمام أن يقوم في الأمة بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ويقيم حدود الله ـ عز وجل ـ ولو كان أباه أو ابنه أو غيرهما من قريب أو بعيد، وهذه الجملة لا خلاف فيها، ولأصل في وجوب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، قول الله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا مِنْ بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ..} الآية، فدل ذلك على أن أحد ما لعنوا من أجله، أنهم كانوا لا ينهون عن المنكر، وقال الله عز وجل حاكياً عن لقمان: {وَأْمُرْ بَالْمَعْرُوفِ وَأَنَّهُ عَنِ الْمُنْكَرِ}، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، وقال عز وجل: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ..} إلى قوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، وروى زيد بن علي عن أبيه عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لتأمرن بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثُمَّ يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم>، وفي حديث طويل: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر حال بني إسرائيل وأعصاءهم عن المنكر، فتلى قوله تعالى: {لَعَنَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا مِنْ بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ..} إلى قوله: {وَلَكِنَّ كَثِيْراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملكنا فاستوى جالساً، وقال: <لا والذي نفسي بيده حتَّى تأخذوا على يد الظالم فتاطردوه على الحق >، وروي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: <لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتَّى تغيره.
والمعروف ينقسم إلى قسمين: فرض وندب، فالأمر بالفرض فرض، والأمر بالندب ندب. (144/2)
والنَّهي عن المنكر كله واجب بحسب الإمكان، وحملة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر قسمان فقسم يلزم الكافرة بحسب الإمكان، وقسم يلزم الأئمة ومن يقوم مقامهم، فأما ما يلزم الكافة فهو المنع من المناكير الظاهرة كالظلم وشرب الخمر والزنا والسعي في الأرض بالفساد، وما جرى مجرى ذلك، والحمل على الوجبات وما لزم على الكافة من ذلك كان للإمام الزم؛ لنه أحدهم، ولأنه المنصوب لمصالح الأمة وأعظم مصالح الأمة تتعلق بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والقسم الثاني الذي يختص بالأئمة ومن يقوم مقامهم سماع الشهادة وتنفيذ الأحكام واستيفاء الحقوق، وممن لزمته ووضعها في أهلها وتولي الأيتام الذي لا أوصياء لهم والنظر في الوقوف وتجييش الجيوش وما أشبه ذلك من إقامة الجماعات ومراعاة أحوال المساجد وإقامة الحدود والتعذير، فلما كان ذلك كذلك قلنا: يجب على الإمام أن يقوم بالأمر بالمعروف النَّهي عن المنكر؛ لأنَّه لا شيء من ذلك إلاَّ والإمام مكلف به بحسب الإمكان والاقتدار، قولنا: يقيم حدود الله عز وجل على كل من وجبت عليه، لقول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيْهُمَا}، وقوله: الزانية والزاني فاجلدوا..} الآية، وقوله: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ..} إلى قوله: {فَاجْلُدُوهُمْ}، ولا خلاف أنَّ هذه الآيات وما أشبهها من سائر الآيات خطاب للأئمة ومن يقوم مقامهم على أن هذا الخطاب لا يخلو من أن يكون لكل واحد من الناس منفرداً كقوله عز وجل: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، أو يكون لكل من يقع عليه اسم الجمع وأداه ثلاثة أو يكون لجميع الأمة أو لخصائص منهم ولا إشكال أن كل واحد من الناس ليس له أن ينفرد بإقامة الحدود ولا كل ثلاثة منهم، ولا إشكال واجتماع الجميع عليها
متعذر فثبت أنَّها لخصائص من الناس، وهم الأئمة ومن قام مقامهم على أن الحدود استيفاء الحق من غيره، وذلك ليس العامة، فوجب أن تكون إلى الأئمة، دليله سائر الحقوق على أن الحدود آلام، وليس لنا نؤلم أحداً إلاَّ بالدلالة، ولا دليل على ذلك إلاَّ للأئمة إذ الآيات لا عموم لها على ما بيناه، وقولنا يسوي في ذلك بين الشريف والدنيء والقريب والبعيد؛ لأن الآيات لم تخص بعضاً من بعض، ولأن أحكام الشريعة تعم الجميع على حد واحد، وقلنا: يجب أن يشتد على من عصى الله عز وجل ولو كان أباه أو ابنه أو غيرهما، لقول الله عز وجل: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِيْ دِيْنِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِيْ سَبِيْلِهِ}، وقوله: {كُونُوا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ}. (144/3)
مسألة
قال: ويجب أن يأخذ أموال الله من كل من وجبت عليه، ويضعها في من أمر بوضعها فيهم غير خائف ولا محاب، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: <أعلمهم أن في أموالهم حقوقاً تؤخذ من أغنيائهم وترفى فقرائهم>، فبين صلى الله عليه وآله وسلم أن تلك الحدود يجب أن تؤخذ من الأغنياء وترد في الفقراء، ولا خلاف أن ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله ولهذا قال أبو بكر لما اعتقد في نفسه الإمامة: لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاتلتهم عليه، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث عماله لأخذ الصدقات والجزية، وكذلك من بعده، وكذلك كان يفعل عليّ، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أنَّه بعث بعض عماله لجناية الخراج بنواحي الكوفة، والمر في ذلك أوضح وأشهر من أن يحتاج إلى الإطناب فيه.
مسألة
قال: ويجب عليه أن يحكم فيهم بأحكام الله، ويعدل بينهم في الحكم، ويساوي بينهم في قسم الفيّ، وذلك لقول الله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيْفَةً فِيْ الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}، وقوله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}، وقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}، ورى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يعدل في الرعية)، وذلك مما لا خلاف فيه، ومعنى التسوية في قسم الفيّ لا يمنع المستحق حقه ولا ينقصه ولا يرد عليه قليلاً يفاضل بينهم على سبب اجتهاده ورأيه، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً، قال: ويعلمهم ما يحتاجون إليه من الدين، وذلك أنَّه هو القيم عليهم بمصالحهم ومن أعظم مصالحهم أن يعلموا ما يحتاجون إليه لدينهم، قال: ويجب أن يقرب أهل الدين والفضل ويعاون أهل المسكنة الفقر يلزمه تقريب أهل الدين لوجهين: (144/4)
أحدهما: أن من كان كذلك يستحق التوفير والتعظيم ، وعلى الإمام بل على الجميع أن يوفيهم ما يستحقون وذلك يكون بالتقريب.
والثاني: أنَّه يحتاج إليهم للاستشارة فيما يعرض من أحوال الدين والدنيا، قال الله عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِيْ الأَمْرِ}، وقال عز وجل: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، ويلزمه أن يعين أهل المسكنة والفقر كما يلزم غيره ثُمَّ بما في يه من حقوق الله تعالى الَّتِي يجب صرفها إليهم؛ ولأنَّه القيم بأمور المسلمين، قال: وأن لا يحتجب عنهم ويتفقد أحوالهم ولا يتجبر عليهم ويترك الحجاب لئلاّ يغتم المسلمون ولئلاّ يعرض في أمورهم خلل وليتمكنوا من إنهاء حوائجهم وتفريقه بما عساه يخفى عليه من أحوالهم الَّتِي يلزمه القيام بها وتدبيرها، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <أيما والٍ احتجب من حوائج الناس احتجب الله منه يوم القيامة>، ومعناه أنَّه يحجب نظره ورحمته، وليس المراد بذلك ألا يخلو بنفسه وأهليه ومآربه في بعض الأوقات فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخلو بنفسه وأهله وأوطاره، قال الله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}، إلى قوله: {وَاللهُ لا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ}، وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِيْنَ يُبَايُعُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، فدل ذلك على أنَّه كان يخلوا بنفسه وأهله في كثير من الأوقات، وكذلك كانت الأئمة من بعده أذهم بشر كسائر الناس لا بد لهم مما ذكرنا، وإنَّما الحجاب المذموم أن يشبهوا بالفراعنة من ظلمة الملوك في ذلك، وقلنا: يتفقد أحوالهم ولا يتجتر عليهم؛ لأنَّه منصوب لمصالحهم والتجبر على الناس حرام عليه وعلى غيره. (144/5)
مسألة
قال: ويجب على الأمة طاعته ونصرته ومعاونته وموادته، ويحرم عليهم خذلانه وتركه والتخلف عنه والامتناع من بيعته، ويجب عليهم أن يأتمروا بأوامره وينتهوا بنواهيه ينهضوا إذا استنهضهم ويقاتلوا إذا أمرهم، ويسالموا من سالمه ويعادوا من عاداه، إلى أخر الفصل، وكل ذلك مما لا خلاف فيه بين المسلمين، وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ أَطِيْعُوا اللهَ وَأَطِيْعُوا الرَّسُولَ وَأُلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، ولا خلاف أن الأئمة أولو الأمر، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (يحق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله عز وجل ويعدل في الرعية، فإذا فعل ذلك فحق عليهم أن يسمعوا وأن يطيعوا وأن يحسنوا إذا ادعوا، وأي إمام لم يحكم بما أنزل الله تعالى فلا طاعة له)، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل بايع إماماً فإن أعطاه شيئاً من الدنيا وفيّ له ون لم يعطه شيئاً لم يفِ له، ورجل له ماء على ظهر الطريق يمنع سائله الطريق، ورجل حلف بعد العصة، لقد أعطي سلعته كذا وكذا فأخذها الآخر مصدقاً للذي قال، وهو كاذب>. (144/6)
مسألة
قال: ومن امتنع من بيعة إمام محق طرحت شهادته وأزيلت عدالته وحرم نصيبه من ألفي وذلك أن بيعة الإمام واجبة متى طلبها؛ لأن قوة المسلمين وكبت الأعداء، بها يتم ولذلك وقعت البيعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على العقبة قبل الهجرة يوم الحديبية حين هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مكة، وذلك مما لا خلاف فيه فأما طرح الشهادة وإزالة العدالة فلأن من ترك البيعة فقد شق عصى المسلمين وأتى بما يؤذي إلى توهين الإسلام وتعطيل الأحكام، وبدون ذلك تسقط العدالة، وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <ن سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم> ـ رواه الطحاوي ـ فأما حرمانه الفيء فلما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أمر رجلاً على سرية قال: <إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى احدى ثلاث خصال، فإلى أيتهن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثُمَّ ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك أن عليهم ما على المهاجرين ولهم ما لهم، وإن هم أبو فأخبرهم أنهم أعراب كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين فلا يكون لهم في الغنيمة والفيء نصيب إلاَّ أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبو أن يدخلوا في الإسلام فاسألهم إعطاء الجزية، فإن فعلوا فأقبل منهم وكف عنهم وإن أبو فاستعن بالله وقاتلهم>، فدل ذلك على أن المسلمين إذا خرجوا أنفسهم من الجهاد والنصرة في الإسلام لا يكون لهم حظ في الفيء ومن امتنع من بيعة إمام يكون قد أخرج نفسه من نصرة الإسلام والمسلمين، فوجب أن لا يكون له حظ في الفيء كأعراب المسلمين والمقيمين منهم في دار الحرب. (144/7)
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن هذا كان في وقت وجوب الهجرة والآن فقد نسخ وجوبها؟
قيل له: قد دل قوله صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ أن يجاهدوا مع المسلمين على أن الغرض في ذلك هو النصرة والجهاد ووجوبها باق وإن سقط وجوب الهجرة، فيجب أن يكون الحكم المتعلق بهما باق وهو حرمان الفيء لمن أخرج نفسه عنهما. (144/8)
فإن قيل: روي عن عمر أنَّه قال: ما أحد الأوله حق في هذا المال أعطيه أو نهعه وما أحد أحق بهم، الآخر إلاَّ عبد مملوك؟
قيل له: يجوز أن يكون أراد به أهل النصرة والجهاد وليكون ذلك ملائماً لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلمن وروي عن علي عليه السلام أنَّه قال لبعض الخوارج بالكوفة: (إما أن لكم علينا ثلاثاً ما كانت لنا عليكم ثلاث، لا نمنعكم الصلاة في مسجدنا ما كنتم على جينا ولا نبدأكم بالمحاربة حتَّى تبدأونا ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء ما كانت أيدكم مع أيدنا)، ذكر ذلك في الأحكام، قال: ومن ثبط غيره من بيعته وجب تأديبه، فإن أنهته وإلاَّ حبس، ونفي من مدن المسلمين، وذلك لقول الله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِيْنَ فِيْ قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ..} الآية، والإرجاف من التثبيط؛ لأنَّه يكون قد بالغ في مساقة الإسلام والمسلمين ومضارتها والسعي في الفساد في باب الإسلام والمسلمين، وأقلما يجب فيه الحبس والنفي وبدون ذلك يجب الحبس لدفع مضار الدنيا، وري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حبس قوماً لتهمة والمشاق للإسلام أولى، قال: ولا يجوز للرجل الفرر من الزحف ولا ينحرف عن العدو إلاَّ تحرفاً لقتال أو تحيزاً إلى فئة، وذلك لقول الله عز وجل: {إِذَا لَقِيْتُمْ الَّذِيْنَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَار..} الآية، وهذا مما لا خلاف فيه؛ ولأن خلاف ذلك رغبة عن نصرة الإسلام الَّتِي أوجبها الله على المسلمين.
مسألة
قال: ويجوز للإمام أن يستعين بالمخالفين على الفجرة الكافرين إذا جرت عليهم أحكام الله تعالى وأقيمت عليهم الحدود، ولم يمتنعوا من ذلك، وكانت مع الإمام طائفة من المؤمنين، وروى يحيى، عن القاسم عليهما السلام، أنَّه قال: لا بأس بالاستعانة بهم على الباغين، ووجهه ما ثبت أن فرض الجهاد والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر لازم للبر والفاجر، وجار مجرى سائر التكاليف في أنَّه لا يسقط عن أحد برّاً كان أو فاجراً، فإذا كان ذلك كذلك وجب الاستعانة بهم؛ لأنَّه حق لهم على أداء الواجب وهو من جملة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وهذا إذا كان الغالب في الظن أن إجابتهم مأمونة وأنه لا ضرر على المسلمين من جهتهم، ولهذا شرطنا جريان حكم الله تعالى عليهم في الحدود وغيرها، وانقيادهم لذلك، وأيضاً في ذلك توهين للأعداء وتقوية للمسلمين وتوصل إلى إحياء الدين والأحكام وإماته الباطل، وقد استعان أمير المؤمنين بكثير ممن لا ترضى طريقتهم كالأشعث بن قيس وأبي موسى الأشعري وقتلة عثمان، فصح ما قلناه، وقد استعان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمنافقين لا ارتياب فيه لظهوره وكثرة الروايات الواردة فيه، وروي أيضاً أن علياًّ عليه السلام قال لبعض الخوارج: (لا نمنعكم نصيبكم من الفيء ما دام تأيدكم مع أيدينا)، فدل ذلك على انه كان يستعين بهم مع رأيه فيهم، وروى النيروسي عن القاسم جواز الاستعانة بالمشركين، ووجهه ما قدمناه من أن فرض الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لازم لهم لزوم سائر الواجمات والعبادات وإن كانت العبادات لا تصح منهم أداؤها إلاَّ بشرط تقديم الإيمان، كما أن المحدث تلزمه الصلاة؛ لكن لا يلزم تقديمها إلاَّ بشرط تقديم الطهارة، يدل على ذلك قول الله عز وجل مما حكي: {وَيْلٌ لِلمُشْرِكِيْنَ الَّذِيْنَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، وقوله فيما حكي من قول الكفار إذا صاروا إلى النار: {قَالُوا أَلَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّيْنَ..} (144/9)
الآية، فدل ذلك على أنهم يعذبون على إضاعة الصلاة وترك الإطعام، ولا يجوز أن يعذبوا على ذلك إلاَّ مع وجوبه عليهم، فإذا ثبت ذلك ثبت أن فرض الجهاد والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر لازم للمشركين فإذا ثبت ذلك كان للإمام أن يستعين بهم على ذلك ويستعملهم فيه، وإنَّما اشترطنا انقيادهم لأحكام الله تعالى وللحدود؛ لأنهم إذا امتنعوا من ذلك لزم الإمام محاربتهم فلا يصح مع الاستعانة بهم محاربتهم. (144/10)
مسألة
قال: ولا يجوز للإمام التنحي عن الإمامة والترك لهم ما وجد فيهم جماعة يعينون على أمر الله ويأتمرون له ويجاهدون معه، فإن لم يجد منهم أحداً كذلك جاز له التنحي عنهم، وقلنا: لا يجوز له التنحي عن الإمامة والترك لهم ما وجد فيهم جماعة يعينونه؛ لأنَّه لا خلاف فيه، ولأن فيه تضييع الأحكام وتعطيل الحدود، وذلك محظور مع التمكن؛ ولأن علياًّ عليه السلام لم يعتزل مع ما كان يمر به م الشدائد من قومه، ومن اختلاف كلمتهم وطهور خذلانهم له، وقلنا: له أن يتنحى عنهم إذا لم يجد أعواناً كما قعد علي عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الحق كان له إلى أن وجد الأعوان، وكذلك الحسين عليه السلام لما فسد عليه أصحابه وخذلوه اعتزلهم وخلى بين معاوية وبين الأمر، وكذلك القاسم عليه السلام بويع واجتمع عليه الخلق ثُمَّ رأى فشلهم وغلب على ظنه أنَّه لا يمكنه القيام بالأمر كما يجب فاعتزلهم؛ ولأن هذا أمر لا يتم إلاَّ بالأعوان والأنصار فإذا لم يكونوا سقط فرضه من الإمامة.
مسألة
قال: والجاسوس إن ثبت أنَّه قتل أحد بجساسته قتل وإلاَّ حبس، وهذا في جواسيس أهل البغي فأما أهل الحرب فيجوز قتل من يقع منهم في أيدي المسلمين بغير أمان وعهد إذا كانوا في دار الحرب، وإن أخذ في دار الإسلام فهو ملك لمن أخذه، قال: والأسير إن كان قتل أحداً من المسلمين قتل به، وإن كان جرحه اقتص له منه وإن لم يكن ذلك فعل فيه الإمام ما يرى من حبس أو إطلاق، ولم يجز له قتله إلاَّ أن يظهر منه بعد الأسر مضارة للمسلمين والحرب قائمة، فإذا كان ذلك كذلك كان للإمام قتله إن رأى ذلك صلاحاً، وهذا أيضاً في أسير أهل البغي؛ لأن أسير أهل الحرب يجوز قتله، فقد قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر عقبة بن أبي معيض والحارث بن النضر بن كلدة وقتل المسلمون يؤمنئدة أمية بن خلف بعد ما أسره عبد الرحمن بن عوف، وبهذا قال عامة الفقهاء، وحكي كراهة قتله عن قوم من المتقدمين، ويدل على ذلك قول الله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}،و وقل: {فَإِنْ تَوَلَّوا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}،فأمر بقتلهم بعد أخذهم؛ لأن الواو عندنا توجب الترتيب في الشرع على أن عموم الآيتين يقتضي ذلك؛ لأنَّه لم يستثن أسيراً من غيره، ويدل على ذلك وعلى جواز قتل جاسوس الكفار قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ..} الآية، فأما أسير أهل البغي فللإمام قتله عندنا وعند أبي حنيفة وأصحابه، ذكر أبو الحسن الكرخي والجصاص، ونص عليه يحيى فيما تقدم ذكرهن وبه عليه بقوله: إن كانت له فيه أجير على جريحتهم وقتل مدبرهم والجريح في حكم الأسير، وقوله: ما دامت الحرب قائمة، المراد به إذا كانت لهم فئة فئة، فأما إذا لم تكن لهم فئة فيقاس قوله: ألاَّ يقتل أسيرهم كما لا يجار على جريحهم إلاَّ أن يقتل قصاصاً على ما ذكرن وهذا تصريح من مذهبه بأن أهل البغي إذا قتلوا المسلمين أو جرحوهم اقتص منهم وهو أحد (144/11)
قولي الشافعي، والقول الآخر: أنهم لا يطالبون بشيء من ذلك، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والأصل في ذلك قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ فِيْ الْقَتْلَى..} الآية، و: {كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيْهَا أَنْ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ..} الآية، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة: <ألاَّ ومن قتل قتيلاً قوليّة مخير بين أن يقتص أو يأخذ الدية>، وقوله: <لا يحل دم امرء مسلم>، إلى قوله: <أو قتل نفس بغير نفس>، وقوله: <العمد قود إلاَّ أن يعفو ولي المقتول>، وأيضاً هو قاتل عمد فيلزمه القود، دليله لو قتله غيلة ولا يمكن لهم أن يدعوا سقوط القود؛ لأنَّه متأول بدلالة أن الخارجي إذا قتل غيره متأولاً غيلة فلا يسقط القود عنه، ولأن التأويلات الفاسدة لا تسقط الحقوق الثابتة. (144/12)
فإن قيل: روي عن الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون فأجمعوا أن كل دم أريق على وجه التأويل أو مال أتلف على وجه التأويل أنَّه هدر؟
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به التأويل الصَّحيح الذي يكون المتأول له قد أدَّى فيه ما كلف من الاجتهاد والتأويل الذي للاجتهاد في مسرح، وتأويل أهل البغي تأويل خطأ لا يسوغه الدين كتأويل الخارجي في قتل المسلم غيلة، وما روي أن علياًّ لم يطالب ن تاب منهم، يجوز أن يكون ذلك كان كذلك؛ لأن أولياء الدم لم يحاكموا ولم يرافعوا أخصمه من يدل على ذلك أنَّه لما حمل إليه ابن اليثربي أسيراً يوم الجمل قال له: يا أمير المؤمنين سبقتني، قال: (أبعد ما قتلت ثلاثة من أصحابي)، وأمر بقتله فنبّه على أنه قتله قصاصاً، وللإمام أن يحبس كل من خاف معرته، وذلك لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حبس قوماً بالتهمة ولأن دفع المعرة واجب على الإمام، فإذا لم يكن ذلك إلاَّ لحب وجب حبسه كما أنَّه لو لم يكن ذلك إلاَّ بالضرب الموجع المؤذي إلى القتل وجب، وروي أن علياًّ عليه السلام اتخذ حبساً يحبس فيه الدّعا ويقيدهم بقيود عليها أقفال كانت تفتح في أوقات الصلوات، وراه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، والله أعلم وأحكم. (144/13)
باب القول فيما يوصي به الإمام سراياه إذا وجههم لمحاربة العدو (145/1)
وجب عليه أن يوصيهم بتقوى الله وإيثار طاعته؛ لأن ذلك ملاك الأمر، وبه تتم العبادات، قال الله عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنْ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، فأما الرفق وحسن السياسة والتثبت فلا بد منه خاصة لن يقود العسكر ويلقي العدو، فقال: ثُمَّ يقول باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلى أخر الفصل، سرد ألفاظاً رواها زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا بعث جيشاً من المسلمين بعث عليهم أميراً ثُمَّ قال: انطلقوا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، أنتم جند الله تقاتلون من كفر بالله، ادعوا إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمد رسول الله، والإقرار بما جاء به محمد بن عبد الله، فإن آمنوا فإخوانكم، لهم ما لكم عليهم ما عليكم، فإن هم أبو فناصبوهم حرباً واستعينوا بالله عليهم، فإن أطهركم الله عليهم فلا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً لا يطيق قتالكم، ولا تعوروا عيناً ولا تقطعوا شجراً إلاَّ شجراً يضركم ولا تمثلوا بآدمي ولا بهيمة، ولا تظلموا ولا تعتدوا وأيما رجل من أقصاكم وأدناكم من أحراركم أو عبيدكم أعطي رجلاً منهم أماناً وأشار إليه بيده فأقبل إليه بإشارته فله الأمان حتَّى يسمع كلام الله، فإن قبل فإخوانكم في الدين، فإن أبى فردوه إلى مأمنه واستعينوا بالله لا تعطوا القوم ذمتي ولا ذمة الله المخفر ذمة الله لاقي الله عز وجل وهو عليه ساخط أعطوهم ذممكم وذمم آبائكم وفوالهم فإن أحدكم لئن يخفر ذمته أو ذمة أبيه خيراً له من أن يخفر ذمة الله وذمة رسوله، فإن كان العدو من أهل البغي كان الدعاء إلى طاعة الإمام والدخول في الجماعة، وإن كان من أهل الحرب كان الدعاء إلى الشهادتين والإسلام على ما في الخبر.
باب القول محاربة أهل الحرب
لا يجوز قتال أهل دار الحرب إلاَّ مع إمام محق أو وال من قبله، قال أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى: ذلك على قصدهم في ديارهنم، فأما إن قصدوهم دار الإسلام فيجب قتالهم ودفعهم عن المسلمين عن كل من تمكن منه؛ لأنَّه من جملة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وهذا ما لا خلاف فيه، فأما قصدهم في ديارهم وغزوهم حيثهم، فذهب عامة العلماء إلى أن غزوهم إلى ديارهم جائز، وروى زيد بن علي، عن أ[يه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (لا يفسد الجهاد والحج جور جائز كما لا يفسد الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر غلبة أهل الفسق)، وهذا كالتنبيه على جواز قصدهم في ديارهم مع أهل الظلم كالحج، ووجه قوله يحيى بن الحسين عليه السلام، قول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِيْنَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَونَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيْدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسَلّمُونَ}، فكل المفسرين جعلوا الداعي النبي أو الإمام، واستدل القائلون بإمامة أبي بكر وعمر على أن المراد به فارس والروم، وقالوا: الداعي إلى قتالهم إنَّما كان عمر، فيجب أن يكون إماماً لأن الداعي لا بد من أن يكون إماماً، وقائلون قالوا: حين أنكروا ذلك المراد به هوازن، والداعي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقائلون ممن أنكر إمامة عمر، أن المراد به الجمل وصفين، والداعي هو علي عليه السلام، ولم يقل أحد أن الداعي يجوز أن يكون غير إمام، فثبت من اتفاقهم أن الداعي يجب أن يكون إماماً، فثبت بذلك أنَّه لا بد في غزو أهل الحرب وأهل البغي من إمام أو وال من قبله، وأيضاً قال الله عز وجل: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا}، والغزاة لا بدّ لهم من رئيس يجمع شملهم ويضم نشرهم ويأمرهم وينهاهم حتَّى يتصفوا عن رأيه وأمره ونهيه، وذلك هو الركون إليه، فوجب ألا يكون الغزو مع ظلم معتد، وإذا ثبت ذلك ثبت انه لا بد من إمام أو والٍ من قبله. (145/2)
فإن قيل: ما تنكرون عل من قال لكم: أن الإمام يستغني عنه بأن يجتمع المسلمون على تأمير رجل من الصالحين فلا يكون ذلك ركوناً إلى الظالمين؟ (145/3)
قيل له: هذا لا يصح لأن أحداً لم يقل بوجوبه؛ لأن الناس على قولين، منهم من يرى الغزو مع كل أحد، ومن إمام أو رجل صالح أو ظالم، ومنهم من لا يراه إلا مع إمام أو والٍ من قبله، فإذا بطل قول من يجيزه مع رجل من الظالمين لم يبق إلاَّ قول من يقول: أنَّه لا يجوز إلاَّ مع إمام أو والٍ من قبله.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: يجوز للمسلمين أن يغزوا بأنفسهم من غير أن يكون لهم رئيس؟
قيل له: هذا يفسد من وجهين:
أحدهما: أن هذا كالأول، من يجيزه يجيز الغزو مع الظالم، فإذا فسد ذلك فسد هذا القول.
والثاني: أنا قد علمنا أن من طريق العرف والعادة أن شيئاً من السرايا والعساكر لا يستقيم أمرهم ولا يتم سوى كانوا مبطلين أو محقين إلاَّ مع رئيس يقدمهم ويدبر أمرهم فبطل ذلك، وأيضاً قد ثبت أن المسلمين كانوا يغزون بإذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذن الأئمة في زمانهم، ولم يكونوا ينفردون بهم، فصار ذلك سنة متبعة، والذي عندي أن الغزو يجوز بغير إمام، وأن الإمام ليس شرطاً فيه كما أن الحج لا يكون الإمام شرطا فيه، وذلك أن تفاصيل أهل الغزو لا يحتاج إلى الإمام؛ لأن ذلك إما أن يكون دخول دار الحرب أو إراقة دمائهم أو أخذ أموالهم أو سبي ذراريهم، وكل واحد منه لا خلاف أنَّه يصح بغير إمام كالحج، لماَّ كان تفاصيله من الإحرام والطواف والوفوف شملهم كحاج قافلة الحاج إلى رئيس يجمع شملهم، وليس ذلك من الركون إلى الذي ظلموا في أحد من السلف إنكار ذلك، فوجب بذلك صحة ما ذهبنا إليه، ويوضح ذلك قول علي عليه السلام: (لا يفسد الحج والجهاد جور جائز).
مسألة
وينبغي أن يدعوا إلى الإسلام وشهادة أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلمن فإن أجابوا إلى ذلك فهم مسلمون، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وظاهر قول يحيى عليه السلام ينبغي أن يدعوا إلى الإسلام وشهادة أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، يدل على انه لا يقتصر بهم على إظهار الشهادتين حتَّى يظهروا الدخول في الإسلام، ويكون ذلك بالبراءة من كل ما خالف دين الإسلام، قال أب وجعفر الطحاوي في شرح الآثار، وبذلك يقول أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، ورأيت المحصلين من أصحابهم يقولون مع ذلك أنَّه: مبعوث إلى العرب فقط دون غيرهم، وحكى هذا القول عن طائفة من اليهود، ليس ببعيد، والأصل في ذلك ما روي عن حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: <أمرت أن أقاتل الناس حتَّى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلاَّ الله وأني رسول الله وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا، حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلاَّ بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين>، فدل ذلك على أن تحريم دمائهم غير مقصور على الشهادتين، وأيضاً روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل فقيل يا رسول الله ما آية الإسلام؟ قال: <أن تقولوا: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض وتخليت، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويوافق المسلمين، والتخلي هو التخلي من كل دين سوى الإسلام>، فدل ذلك على ما قلناه، وروي أيضاً أن يهودياًّ قال لصاحبه: تعال حتَّى نسأل هذا النبي، فسأله عن أشياء، فلمّا أجاب قبَّل يده، وقال هو ومن كان معه: نشهد أنك نبيٌ، قال: <فما منعكم أن تتبعوني؟> قالوا: إن داود دعاء ألا يزا في ذريته نبي، وإنا نخشى إن اتبعناك تقفلنا اليهود، ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحكم لهم بالإسلام مع شهادتهم أنَّه رسول الله، وشهادتهم أن لا إله إلاَّ (145/4)
الله كانت معلومة منهم. (145/5)
فإن قيل: فقد روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي حين أعطاه الراية ووجهه إلى خيبر: <قاتلهم حتَّى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقها وحسابهم على الله>؟
قيل له: قد روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: <أمرت أن أقاتل الناس حتَّى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله ثُمَّ تحرم دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقها>، عن ابن المسيب والأعرج وغيرهما عن أبي هريرة، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: <أمرت أن أقاتل الناس حتَّى يقولوا لا إله إلاَّ الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلاَّ بحقه وحسابه على الله>، فلم يمنع ذلك من أن يكون تمام الإسلام موقوفاً على أن يضم الشهادة بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمن كذلك لا يمنع أن يكون تمامه موقوفاً على أن يظهر الإسلام ويتخلى عن ما سواه مضموماً ذلك إلاَّ الشهادتين، فأما الدعاء إلاَّ الإسلام قبل القتال فأكثر العلماء يذهب إلى أنه غير واجب إن كانت الدعوة قد بلغتهم وأنه يجب إن لم يكن الدعوة قد بلغته من وقه قال القاسم في مسائل النيسروسي، قال: فإن أحيط بالدعاء كان حسناً والذي عندي أن قول يحيى محمول على ما قاله القاسم عليه السلام؛ لأنَّه لم يحفظ عنه أنَّه لا يجوز قتالهم قبل الدعوة، والأقرب أنَّه قوله ينبغي أن يدعوا قبل القتال على الاحتياط والاستحباب، هذا إذا كانت الدعوى بلغتهم، فإن لم تكن بلغتهم فلا خلاف أن دعاهم قبل القتال واجب، والأصل في ذلك حديث ابن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر رجلاً على سرية قال له: <إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، أحدها: الإسلام وفي حديث طويل، وحديث سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما وجه عليّاً إلى خيبر أعطاه الراية، وقال له:
<انفذ على رسلك حتَّى تنزل بساحتهم ثُمَّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فو الله لا يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لكمن أن يكون لك حمر النعم>، وعن ابن عباس قال: ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحداً حتَّى يدعوهم، ويدل على ذلك قول الله تعالى: {قُلْ لِّلَّذِيْنَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يَغْفِرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، وهذا ضرب من الدعاء إلى الإسلام، وقد أمر الله بن فدل ما ذكرنا أن الأولى هو الدعاء إلى الإسلام على الأحوال كلها؛ لأن الأوامر إما أن تقتضي الوجوب أو الندب، وإنَّما قلنا أنَّه إن كانت الدعوة بلغتهم فالدعاء قبل القتال ندب، واستحباب لما روي عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغير على العدو عند صلاة الصبح فيستمع إن سمع أذاناً أمسك وإلاَّ أغار، وروى الإغارة في حديث كثيرة، فدل ذلك على أن تجديد الدعوة غير واجب، ويلد على ذلك حديث ابن عون، قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال؟ فقال: إنَّما كان ذلك قبل الإسلام، إنَّما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم على الماء فقتل مقائتهم، وبي سبيهم وأصاب يومئذٍ جويرية بنت الحارث، فدل ذلك أيضاً على وجوب الدعاء من لم تبلغهم الدعوة. (145/6)
مسألة
قال: فإن أبو ذلك عرض عليهم ن يكونوا أهل ذمة، ويؤدّوا إلى المسلمين الجزية، ويجرى عليهم أحكام المسلمين ويولى فيهم ولاتهم ويتركوا على دينهم كما يترك سائر أهل الذمة، فإن أجابوا إلى ذلك فعل بهم، ظاهر هذا الكلام في الأحكام يدل على أن الجزية تقبل من جميع المشركين ن غير استثناء أحد منهم، وحكي ذلك عن مالك إلاَّ أن أبا العباس الحسني قال: روي عن يحيى بن الحسين فيما سئل عنه أنَّه قال: أذن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قريش وجاهليتهم أن يصنع فيهم السيف حتَّى يسلموا، ومنعه من كل هدنة ولم يرض ن العرب إلاَّ بالقتل أو الإسلام، وقال أبو العباس: قد نص على وجوب الجزية من نصارى بني تغلب، فدل ذلك على أن مراده كان مشركي العرب الذي لا يدينون بكتاب، فصار تحصيل مذهبه أن الجزية مأخوذة من جميع المشركين إلاَّ مشركي العرب الذي لا يدينون بكتاب، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، قال الشافعي: لا تقبل الجزية من أحد إلاَّ من أهل الكتاب، أما قبول الجزية من أهل الكتاب فلا خلاف فيه لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ}، إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، وقلنا أن أهل الآثار من العرب لا تقبل منهم الجزية، وليس لهم إلاَّ السيف أو الإسلام لقول الله عز وجل: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}، إلى قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ حَيْثُ وَجَدْتُّمُوهُمْ..} الآية، وهذا المراد به مشركي العرب؛ لأن العهد كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون مشركي العجم، فلم يجعل عز وجل لهم إلا القتل أو الإسلام، وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رهطة من قريش لمَّا اجتمعوا عند أبي طالب يشكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: <يا عمّ أني أريدهم على (145/7)
كلمة واحدة، يقولونها يدين لهم بها العرب ونودي إليهم بها العجم الجزية، وهي لا إله إلاَّ الله>، فدل ذلك على أن العرب حكمهم ان يؤخذوا بالطاعة، وأن العجم تؤخذ منهم الجزية، وذلك عام في جميع العجم، وفصل بين العرب والعجم في باب أخذ الجزية. (145/8)
فإن قيل: فلم جوّزتم أخذها من أهل الكتاب من العرب؟
قيل له: ذلك مخصوص بالإجماع وبالآية، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (لا يقبل من مشركي الكتاب العرب إلاَّ الإسلام أو السيف، وأما مشركوا العجم فتؤخذ منهم الجزية، وأما أهل الكتاب من العجم والعرب فإن أبو أن يسلموا أو سألونا أن يكونوا ذمة قبلنا منهم الجزية)، ويقال للشافعي، قد ثبت أن المجوس تؤخذ منهم الجزية لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، ولما حصل فيه من الاتفاق فوجب أن تؤخذ من سائر الكفار من العجم وإن كانوا من أهل الأوثان، والعلة أنَّه عجمي كافر الأصل مستمر عليه.
فإن قيل: أنهم من أهل الكتاب ملا روي عن علي عليه السلام: أن المجوس أهل كتاب بدلوا فأصبحوا وقد أسروا على كتابهم؟
قيل له: هذا الحديث مما لا نعرف، وهو لا يخرجهم اليوم من أن لا يكونوا من أهل الكتاب إذ لا يدينون بكتاب معروف؛ ولأنهم يعبدون النيران فهم في حكم عباد الأوثان، على أن قول الله عز وجل: {تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا}، يعني اليهود والنصارى، أنهم أهل الكتاب فقط، وأنم لا ثالث لهم، وفي ذلك دليل على أن المجوس ليسوا منهم، ويدل على ذلك حديث عبد الرحمن بن عوف، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <سنوا بهم سنة أهل الكتاب>، فدل ذلك على أنهم لم يكونوا من أهل الكتاب وإنَّما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجروا مجرى أهل الكتاب في أخذ الجزية، وفي تقريرهم على ماهم عليه، فوجب أن يكون ذلك حكم جميع العجم على أن حديث عبد الرحمن حديث مشهور تلقنته الصحابة والعلماء بعدهم بالقبول على أنَّه لا يصح أن ينسبوا إلى كتاب لا يعرف ولا يعرف ما في ولا هم يدينون به ولا يعلمن على من كان أنزل، فلو كان لهم في الأصل كتاب إلاَّ أنهم قد جهلوه ولا يتمسكون به لكانوا في حكم اليهود والنصارى، لو صاروا من عبدة الأوثان وأعرضوا عن التوراة والإنجيل، وإن قاسوا مشركي العجم على مشركي العرب كان ذلك منتقضاً بالمجوس، وأما مالك فإنه يحجه ما قدمناه من قول الله عز وجل: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ}، إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا}، لأنَّه عز وجل لم يجعل لهم إلاَّ الإسلام أو السيف؛ لأن الآية على ما بيناه خاصة في مشركي العرب، وكذلك قوله: {فَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، ثُمَّ قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، يعني الكفار، وأيضاً العرب ملا كانوا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سائر الأمم وجب أن يغلظ عليهم العقاب ضرباً من التغليظ كأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس ذلك إلاَّ أن لا تؤخذ منهم الجزية، بدل القتل، قال: فإن أبوا حوربوا واستعين (145/9)
بالله عليهم، فإذا انهزموا وضع فيهم السيف، وقتلوا مدبرين ومقبلين وأسروا واستبيحت بلادهم وتجمع غنائمهم وتقسم، وهذه الجملة لا خلاف فيها، وقلنا يقتلون مقبلين ومدبرين؛ لأن دماؤهم كانت مباحة بالكفر فلم يراع فيهم ما يراعى في أهل البغي في أن يكون لهم فئة أو لا يكون، وقوله: واستبيحت بلادهم، دليل على أن للإمام أن يعمل فيها برأيه من استيفاء إن رأى ذلك صلاحاً للمسلمين، أو إحراق أو تخريب، إن رأي ذلك ضر على أهل الكفر ولم ير فقيه للمسلمين صلاحاً، ولذلك لقول الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِيْنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةٌ عَلَى أُصُولِهَا..} الآية، قوله: {يَخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيْهِمْ وَأَيْدِيْ الْمُؤْمِنِيْنَ}، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بإحراق نخل بني النضير فإذا ثبت ذلك في الأشجار والبيوت كان ذلك حكم جميع الأموال، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. (145/10)
فإن قيل: فقد رويتم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا تعقروا شجراً إلاَّ شجراً يضركم ولا تعوروا عيناً>؟
قيل له: ذلك لا ينافي قولنا؛ لأنا أخرنا ذلك بأن يراه الإمام نفعاً للكفار، ولا نرى فيه للمسلمين صلاحاً، وما كان كذلك فهو ضار للمسلمين، وقد استثناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جملة النهي.
مسألة
قال القاسم عليه السلام: ولا يقتل شيخاً شيخ فان ولا راهب متخل في صومعته إلاَّ أن يقاتلن فإن قاتل قتل، وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً لا يطيق قتالكم>، وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان والأخبار في هذا كثيرة، وروي عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسولا لله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا بعث جيوشه قال: لا تقتلوا أصحاب الصوامع وعن حنظلة الكاتب قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمر بامرأة لها خلق وقد اجتمعوا عليها فلما جاءا فرحوا، فقال: <ما كانت هذه تقاتل> ثُمَّ اتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالداً أن لا يقتل امرأة ولا عسيفاً، فدلت هذه الأخبار على ما قلنا من أن الشيخ الكبير الذي لا يقاتل لا يجوز قتله؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صرح بذلك في الحديث، ودل عليه بقوله في المرأة إن هذه لم تكن تقاتل واشترطنا في الراهب أن يكون متخلياً؛ لأنَّه إن لم يكن متخلياً وكان مع الناس كسائر الكفار الذين يقتلون، وإنَّما سقط عنه القتل؛ لأنَّه قد حبس نفسه في الصومعة وقطعها عن القتال فصار بمنزلة الشيخ الكبير والوليد والمرأة. (145/11)
فإن قيل: الراهب مطيق للقتال؟
قيل له: والمرأة أيضاً مطيقة للقتال، لكن لما جرت العادة أنهن لا يقاتلن صرن بمنزلة من لا يطيف، وكذلك الرهبان لما أجروا عادتهم بأن لا يقاتلوا صاروا بمنزلة من لا يطيق، فإن لم يكن إجراء العادة بذلك ولم يكن تخلي قتل كغيره.
فإن قيل: فقد روي أن دريد بن الصمة قبل يوم أوطاس وكان شيخاً كبيراً فانياً فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قيل له: مشهور أن دريداً كان مالك بن عوف أخرجه يوم حنين للرأي وليرجع إليه في تدبير الحرب وعني ذي الرأي في الحرب أشد وأقوى من عني ذي البطش، ومن كان كذلك فإنه يقتل، وعلى هذا لو كان المقاتل المرأة ممن يقاتل أو ممن لها رأي يعني فالقياس أنَّها تقتل؛ لأن من كان كذلك كان في حكم المقاتل، وبه قال عامة الفقهاء، وللشافعي في الشيخ الكبير والرهبان قولان، أحدهما مثل قولنا، والثاني أنهم يقتلون، وحكي عن المزني أن الأشبه جواز قتلهم، والحجة عليه قد مضت. (145/12)
مسألة
قال: ويجل على الإمام أن يعلم كل من دخل من أهل الحرب بلاد المسلمين انه إن أقام فيها أكثر م سنة لم يتركه يخرج منها ويضرب عليه الجزية وكان ذمياًّ، وإن وجده بعد السنة حكم فيه بذلك، والأصل في هذا أنَّه لا خلاف أن الكافر لا يخلي بينه وبين استدامة المقام في دار الإسلام إلاَّ على وجه الذمة أو الرق، لقوله عز وجل: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، وقوله: {وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ حَيْثث وَجَدْتُّمُوهُمْ}، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ..} الآية، إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}، ولا خلاف أنَّه يجوز أن يمكنوا من إقامة مدة يسيرة على وجه الأمان لقوله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ}، ولما ثبت أن رسل المشركين كانوا يردون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقيمون مدة مثلهم، فعلى الإمام إذا عرف من حال بعض من يدخ من المشركين دار الإسلام على وجه الاستيمان أن يعلمه أنَّه إن أٌم حولاً صار ذمياًّ وإنَّما شرطنا الحول؛ لأنا احتجنا إلى الفرق بين يسير المدة والاستدامة، ووجدنا الحول مما يتعلق بمروره على أهل الشرك حكم لزوم الجزية، وكذلك يلزم بمرور الخراج الذي سببه الشرك فكان هو أولى بالاعتبار على أن مقامهم لما حاز المدة اليسيرة لأغراض كالتجارة أو البحث عن أمر الدين أو أداء رسالتهم، وكان الغالب في الأحوال أن أكثر الأغراض تتم باستكمال الحول كالزراعة وما يجري مجراها من التجارة، كان الاعتبار به أولى، فإذا ثبت ذلك وجب أن يعتبر الحول يتحين يتقدم الإمام إليهم بذلك، وقلنا: أن السنة إذا مرت عليهم على الشرط الذي قلنا صاروا أهل ذمة، وضربت عليهم الجزية؛ لأن الإمام إذا تقدم إليهم بذلك ثُمَّ أقام بعده استكمال الحول فكان ذلك في الظاهر رضىً منهم بما شرط عليهم كما أن المشتري إذا عرف في السلعة عيباً ثُمَّ (145/13)
استعملها بعد ذلك كأن تكون جارية فيطأها أو دابة فيركبها أو يكريها أو ثوباً فيلبسه أو أرضاً فيزرعها يكون جميع ذلك رضىً بالعيب ولا يمكنه ردها بعد ذلك، وكالمشتري له خيار الثلاث إذا سكت إلى انقضاء الثلاث يبطل خياره وسكوته في بعض الثلث، لا يبطل خيارهن وكذلك لو ان صاحب دار قال لآخر: اسكن هذه الدار شهراً بكذا، فسكنها لزمه المسمى بانقضائه، فكذلك حال الحربي؛ لأنَّه إذا أقام حولاً في دار الإسلام وقد اشترط عليه أنَّه إن أقام صار ذمياًّ ولزمته الجزية، فإن أقام ذلك كان رضىً منه بما شرط عليه على ما بينَّاه في جميع المسائل. (145/14)
باب القول في أهل دار الحرب يسلمون أو يسلم بعضهم ويقبلون الذمة
إذا أسلم أهل دار الحرب على أرقاء مسلمين فهم لهم أرقاء على ما كانوا في أيديهم، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والأصل فيه أن من مذهبنا أن أهل دار الحرب من الكفار يملكون علينا ما يصح تملكه بالغلة، فالكلام في هذا قد مضى في كتاب الزكاة وفي مسألة زكاة ما غلب عليه المشركون من أموالنا، فإذا ثبت ذلك فالأرقاء المسلمون الذي كانوا للمسلمين قد صاروا ملكاً بالغلبة، فإذا أسلموا لم يقدح ذلك في ملكهم وكانوا مماليك لهم على ما كانوا بمنزلة أن يملكهم مسلم على مسلم، هذا إن كانوا الأقوام مسلمين، فأما إن كانوا أسلموا في أيديهم ولم يكن ملكهم قبلهم مسلم فهو واضح؛ لأنهم ملكوهم قبل إسلامهم، فإذا أسلموا لم يزل ملكهم.
مسألة
قال: فإن أسلم الحربي وفي يده أم ولد لمسلم وكان المسلم مؤسراً وجب عليه أن يفتديها من الذي أسلم عليها بقيمتها، وإن كان معسراً وجب أن يفتديها الإمام من بيت مال المسلمين، ووجهه أن أم الولد مملوكة لسيدها يطأها بالملك ويكون أولى بقيمتها إن قتلت وبكسبها إن اكتسبت وباستخدامها، وإنَّما حظر عليه أن يملكها غيره، فإذا كان ذلك كذلك وكان قد ثبت أن أهل الحرب يملكون علينا بالقهر والغلبة وجب أن يكون الحربي إذا غلب على أم ولد مسلم إن يملكها عليه على حد ما كان سيدها مالكاً لها، فإذا ملكها وجب أن يكون و أولى بعوضها وإن يستحقها على من يتلفها، فإذا ثبت ذلك فمتى أسلم عليها الحربي لم يجز له أن يقيم على ملكها؛ لأن الإسلام يمنع من كون أم ولد المسلم ملكاً لغيره، ووجب أن يستحق عوضها؛ لأنَّه مال ولا يمتنع استحقاقه مع الإسلام فيحكم به على سيدها إن كان مؤسراً أو يعان عليه من بيت المال إن كان معسراً فإن لم يكن بيت مال فالواجب أن يكون ديناً عليه، ولا وجه لسعايتها؛ لأنها لا تعتق فلا يلزمها عوضها مع كونها موقوفة. (145/15)
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: أن الغلبة في أهل الحرب، وجه يتملكون منه كما يتملك بعضنا على بعض بالشراء والهبة، فما لا يصح أن يتملك بالشراء والهبة بعضنا على بعض ولا يصح منهم أن يملكوه علينا بالغلبة؟
قيل له: لا يمتنع أن تكون الغلبة أقوى في هذا الباب من الشراء والهبة؛ لأن الشراء والهبة لا يصحان على كل وجه بل لا بد فيهما من شروط كارتفاع الجهالة والغرر عن الشراء وعن الثمن والسلعة، كذلك الغلبة فإنها تملك على كل وجه ولا تعتبر فيها رضى المالك أو من يقوم مقامه، فيجب أن يكون حكم الغلبة أقوى فلا يمتنع أن يملك بها ما لا يصح أن يملك بالشراء والهبة، وعلى أنا نقول أنهم يملكون على المسلمين أرقائهم المسلمين بالغلبة، ولا يجوز للكفار أن يملكوا أرقاء مسلمين بالشراء والهبة، فكل ذلك يكشف أن الغلبة أقوى في هذا الباب فلا يمتنع أن تملك بها أم الولد على سيدها، والذي عندي أن على مذهب أبي حنيفة أن سيدها أولى بها من غير واحدة، وهذا هو الأصح عندي؛ لأن اعتباره قوة الغلبة على الشراء والهبة يضعف، والله أعلم، والذي يقتضيه قياساً قول يحي عليه السلام: أن سيدها الأول لو مات فيجب أن تصير حرة، وكذا يجب أن يكون حكم المدبر لقوله في مكاتب المسلم إذا غلب عليه الحربي أنَّه يعتق إذا أدَّى الكتابة إلى الحربي، والله أعلم، قال: ولا يجوز لمن أسلم عليها أن يطأها قبل أن تفتدى منه، وذلك أن الإسلام قد حظر عليه وطأها؛ لأنَّه لا يجوز في الإسلام وطء أم الولد لغير سيدها، على أن الإسلام قد حظر عليه بملكه لها فصح ما قاله، قال: فإن كان وطئها في دار الحرب فأسلم عليها وهي حامل منه كان الولد ثابت النسب منه، فإن افتداها صاحبها أو افتدى له الإمام فليس له أن يطأها حتَّى تضع ولدها من الثاني، ثُمَّ تطهر من نفسها، قلنا: أن النسب ثابت؛ لأن الحربي قد ملكها على ما بيناه، فوجب أن يثبت نسب ولدها منه، وقلنا: أنها إذا عادت إليه لا يطأها وهي حامل حتَّى تضع ما في بطنها وتطهر من نفاسها؛ لأنها بمنزلة الموطوءة للشبهة إذا عادت إلى زوجها أو سيدها على أن الحامل من الزنا عندنا لا يجوز وطؤها، فكانت تلك أولى بذلك. (145/16)
مسألة
قال: وإن أسلم الحربي وفي يده مكاتب لمسلم ينبغي لمن هو له بما كوتب علي، فإذا أدّاه عتق وكان الولاء لمن كاتبه وهو المسلم الأول، فإن أبى العبد أن يسعى له كان مملوكاً لمن أسلم عليهن وذلك لما بيناه أن الحربي في دار الحرب يملك علينا ما ملكناه على الوجه الذي ملكناه، فإذا كان من كاتب العبد من المسلمين كان ملكه له على شرط أن يعتق بأداء مال المكاتبة وجب أن يكون تملك الحربي له على ذلك الوجه، وإذا أسلم عليه الحربي وأدّا المكاتب إليه مال الكتابة يجب أن يعتق بحصول الشرط، وقلنا أن الولاء يكون للمسلم الأول؛ لأنَّه عتق بعقد الكتابة الَّتِي كانت من جهته، فكان هو المعتق له، فوجب أن يكون الولاء له لقوله: الذي كان المسلم الأول ملكه، وقد علمنا أن العبد متى عجز نفسه كانت الكتابة منفسخة وصار عبداً كما كان، وإن كان في ملك المسلم الأول فكذلك إذا صار ملكاً للمسلم الثاني؛ لأنَّه ملكه على الحد الذي ملكه المسلم الأول على أن العبد إذا كان مالكاً لفسخ الكتاب بالتعجيز لنفسه فلا فصل بين أن يكون في ملك الأول أو الثاني كما أن المكاتب له لو مات كان للمكاتب أن يفسخ الكتابة ويصير عبداً للورثة كما كان في الأصل. (145/17)
مسألة
قال: وذا سبي بعض أهل الحرب مملوكاً مسلماً فارتد عن الإسلام ثُمَّ أسلم عليه من سباه وخرج به إلى دار الإسلام عرض عليه الإسلام فإن قبله كان عبداً مملوكاً لمن أسلم عليه، وإن أبى قتل، وذلك أن الحربي ملكه بالسبي فإذا ارتد كان مملوكاً له كافراً، فإذا أسلم عليه صاحبه وحمله إلى دار الإسلام كام حكمه حكم سائر المرتدين في أنَّه يعرض في دار الإسلام، فإن رجع إليه كان مملوكاً كما كان مسلماً وإن أبى قتل كالمملوك يرتد في دار الإسلام يعرض عليه الإسلام، فإن قبل كان مكاتباً لمن أسلم عليه، وإن أبى قتل والكلام في هذا كالكلام فيما مضى؛ لأن ردته لا تغير شيئاً من أحكامه إلاَّ وجوب مطالبته بالإسلام أو القتل إن أباه؛ لأنَّه لو كان حراً كان كذلك، قال: وكذلك القول في أمر الولد إن ارتدت عند من سباها ثُمَّ أسلم عليها في أنَّها يعرض عليها الإقلام، فإن عادت إلى الإقلام افتديت وإن أبت قتلت؛ لأنها مرتدة والمرتدة عندنا تقتل إذا أبت الرجوع إلى الإقلام، والكلام في هذا قد مضى فلا يستحق من أسلم عليها شيئاً من العوض؛ لأن قتلها مستحق فتقع بلا عوض كما أنَّه لو كان حراً أو عبداً له ملكه من غير هذا الوجه، لم يستحق على قتله عوض، قال: فإن كان في بطنها ولد انتظر وضعها ما في بطنها ثُمَّ تقتل إذا قامت على الردة، وذلك أن كل امرأة استحقت القتل لأي وجه استحقته من قتل نفس بغير نفس أو زنى بعد أحصان، فإنها لا تقتل إذا كان ولدها في بطنها؛ لأنَّه يؤدي إلى قتل من لا يستحق القتل فينتظر وضعها ثُمَّ تقتل، وهذا مما لا خلاف فيه عند من يرى قتل المرتدة؛ لأن الحرة لو ارتدّت أيضاً وهي حامل كان هذا حكمها. (145/18)
مسألة
قال: ولو أن قوماً من أهل الحرب قبلوا الذم والتزموا الجزية، وفي أيديهم أرقاء مسلمين لأهل الإسلام قيل لأربابهم من المسلمين إن أحببتم افتيتموهم بقيمتهم، فإن فعلوا وإلاَّ أمر الذين هم في أيديهم ببيعهم م ساعته؛ لأنَّه لا يجوز أن يملك ذمي مسلمان وذلك أنهم قد ملكوهم في حال حربهم، فإذا دخلوا في الذمة لم يزل ملكهم كما لا يزول لو أسلما عليه إلاَّ أنهم لا يخل بينهم وبين الاستمرار على تملكهم، فإن اختار الذين كانوا أربابهم أن يأخذوهم بالقيمة كانوا أولى بهم كما نقول فيمن وجد ماله الذي عليه غلبت أهل الحرب بعد القسمة أنَّه أولى به بالقيمة، وإن لم يختاروهم كلف الذين دخلوا في الذمة بيعهم من سائر من يشتريهم من المسلمين كما يلزم الذمي ببيع ما يملكه من العبد المسلم، وهذا مما لا خلاف فيه، قال: فإن كان في أيديهم مكاتب مسلم، قيل له: أدي مكاتبتك فإن أدَّى أعتق وولاه ملن عقد عليه الكبة وإن أبى أمر ببيعه، وقد مضى الكلام أنهم إذا غلبوا على مكاتب المسلمين في دار الحرب ملكوه على ما كان يملكه أربابهن فإذا دخلوا في الذمة وفي أيديهم مكاتب مسلم قيل له: أدّ مكاتبتك؛ لأنَّه قد استحقه عليه كما كان مولاه المسلم الذي كاتبه يستحقهن فإن أبى أمر ببيعه؛ لأن المكاتب إذا أبى أن يؤدي مال الكتابة كان ذلك تعجيزاً منه لنفسه وتنفسخ به الكتابة ولا يمكن من الاستمرار على تملكه ويلزم بيعه على ما تقدم. (145/19)
مسألة
قال: فإن كانت مع بعضهم أمة مسلمة قد حملت منه أمر باعتزالها وما في بطنها مسلم بإسلامها، فإن أسلم الذمي وهي منه في عدة فهي أم ولده، وإن لم يسلم حتَّى تخرج من عدتها فهي حرة، قلنا ذلك؛ لأن الذمي لا يجوز له وطء المسلمة، وقلنا ما في بطنها مسلم بإسلامها؛ لأن الولد يصير مسلماً بإسلام أحد أبويه، وقد مضى الكلام فيه، وقال: أنَّه إن أسلم الذمي وهي في عدة منه فهي أم ولده، فإن لم يسلم حتَّى تخرج من عدتها فهي حرة كما تقول في الذمي إذا أسلمت زوجته أنَّه أولى بها إن أسلم ما دامت في العدة، و قد مضى الكلام فيه، وقلنا: أنَّها تكون حرة إن لم يسلم حتى تنقضي عدتها؛ لأنَّه لا يخلو من وجوه ثلاث، إمّا أن يقررها في ملكه، وذلك لا يجوز؛ لأن المسلم لا يجوز تقريره في ملك الذمي بل يجب إخراجه من ملكه وإخراجه لا يخلوا إما أن يكون بتمليكها غيره ببيع أو هبة بعتق، ولا يجوز بيع أم الولد ولا هبتها فلم يبق إلاَّ إخراجها عن ملكه العتق، فيجب أن يحكم بعتقها ويجب أن تكون عليها السعاية في قيمتها؛ لأنها لم تعتق باختياره وإنَّما عتقت عليه بغير اختياره فلا بد من حصول العوض وكالعبد بين الشريكين يعتقه أحدهما فلا بد من حصول العوض، وهو قيمة حصته منه للشريك الآخر، ولا وجه هاهنا لحصول العوض إلاَّ من جهة السعاية، فوجب أن تلزمها السعاية كما نص على مثله في كتاب العتق، قال: فإن أسلم بعد ذلك جاز له أن يتزوجها برضاها ويكون ولاؤها له وتكون عنده على ثلاث تطليقات، قلنا: له أن يتزوجها برضاها وتكون عنده على ثلاث تطليقات؛ لأنها حرة لم يجز عليها منه تطليقة. (145/20)
مسألة
قال: ولو أن مملوكاً أسلم في دار الحرب ثُمَّ هاجر إلى دار الإسلام كان حراً ولم يكن لمولاه عليه سبيل، وإن أسلم بعد ذلك أو دخل دار الإسلام قلنا أنَّه إذا أسلم في دار الحرب ثُمَّ هاجر إلى دار الإسلام كان حراً؛ لأنَّه لا إشكال في أن العبد الحربي إذا أبق من أهل الحرب وصار إلى أهل الإسلام أنَّه يكون ملكاً لمن أحرزه من المسلمين ولا يكون للحربي عليه سبيل لخروجه عن يده ومصيره إلى أيدي المسلمين، فكذلك إذا أسلم وهاجر يجب أن يكون قد صار في يد نفسه أحرزها، فيجب أن يكون قد ملك نفسه، وإذا ملك العبد نفسه صار حراً لخروجه عن يد الحربي وحصوله في يد نفسه في دار الإسلام؛ لأنَّه في منزلة العبد الحربي يحصل في يد المسلم في دار الإقلام في انه يملكه، وأيضاً قد انقطعت عنه حقوق الحربي بمصيره إلى دار الإسلام بمنزلة سائر أمواله إذا صارت في دار الإسلام بغير أمان، ألا ترى أنَّه يصير ملكاً لمن يجوزه من المسلمين، فإذا انقطعت عنه حقوقه ولم يحلف عليه حق غيره وجب أن يصير حراً؛ لأن معنى العتق ليس هو اكثر من أن يخرج عن ملك المولى ولا يخلفه مالك سواه، فإذا صار حراً وهو مسلم لم يجز أن جري عليه الرق في دار الإسلام فبقي حراً، فإن جاء بعد ذلك صاحبه مسلماً لم يكن عليه سبيل؛ لأن الحرية قد حصلت له، ألا ترى أنَّه لو هرب بعد كافر إلى دار الإسلام فغنمه مسلم ثُمَّ جاء صاحبه بعد ذلك مسلماً لم يكن له عليه سبيل، فما قلناه أولى؛ لأن الحرية أؤكد من الملك، ويمكن أن يستدل على المسألة بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الذِّيْنَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} إلى قوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}، وقوله: {وَلا جَنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، ولم يشترط أن تكون كانت في الأصل حرة أو أمة، فوجب بحكم هذا الظاهر انقطاع حقوق الكفار عنهن إماءكن أو حرائر في الأصل، فأوجب (145/21)
ذلك عتق الإماء منهن، وروي أن أبا بكرة وكان من عبيد أهل الطائف خرج في جماعة من عبيدهم إلى النبي مسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: < هؤلاء عتقاء لله>، قال محمد في السير: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار الحرب، ثُمَّ استعلى المسلمون على ذلك الدار كان المملوك حراً أيضاً ولم يدخل في جملة الغنائم، ووجهه ما قد مضى؛ لأن المسلمين إذا استعلوا على دار الحرب انقطعت حقوقهم وملكهم عن أموالهم، فوجب أن ينقطع ملكه عن العبد المسلم ولم يجز أن يبتدأ استرقاق المسلم، فوجب أن يكون حراً. (145/22)
مسألة
قال: وإن كان المملوك أسلم ثُمَّ أسلم بعده سيده وهما جميعاً في دار الحرب ثُمَّ استعلى المسلمون على تلك الدار لم يدخلا في جملة الغنائم وكان العبد مملوكاً لسيده؛ لأنهما إذا أسلما جميعاً في دار الحرب لم يجب أن يزول ملكه عن العبد؛ لأن إسلام العبد لا يوجب حريته ما دام في من كان له مالكاً، وإذا كان ذلك كذلك واستعلى المسلمون على تلك الدار كانت يد مولاه ثابتة عليه؛ لأن المسلمين لا يملكون أموال المسلم في دار الحرب، وإنَّما يملكون أموال أهل الحرب، قال: وكذلك لا سبيل على سائر أموال من أسلم إلاَّ العقار والضياع، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وروي عن أبي يوسف أن العقار والضياع كسائر الأموال، لا سبيل عليهما، وبه قال الشافعي، أما سائر أمواله الَّتِي هي في يده فلا خلاف أنَّها له، وأنها لا تكون فيّاً وأما العقار والضياع فوجه ما قلناه فيما أن تلك البقاع كانت من جملة دار الحرب قبل إسلام الرجل، وقد علمنا أن إسلام رجل واحد لا يؤثر في دار الحرب، فيجب أن يكون كما كانت، وإذا ثبت ذلك وجب أن تكون غنيمة للمسلمين كسائر دار الحرب، وأيضاً العقار والضياع مما لا يتأتى فيهما النقل فلا تثبت اليد فيهما إلاَّ حكماً ولا تثبت أيدي المسلمين في دار الحرب حكماً؛ لأن اليد فيها تكون بالغلبة والحيارة ولا يجري حكم الإسلام فيها قبل ظهور المسلمين عليها، فيكون في الحكم كما ل الذي ليس في يده في أنَّه يكون فيّاً. (145/23)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم أنَّه مال مسلم فلا يجوز أن يغنم كسائر ما في يده؟
قيل له: عندنا لا يمتنع أن يغنم مال المسلم على بعض الوجوه، وهذا نقول فيما يكون من ودائعه عند أهل الحرب إذا استعلى المسلمون على دارهم يكون فيّاً على أن رد حكم تلك البقعة إلى سائر البقاع أولى من ردها إلى حكم أمواله الَّتِي في يده.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً من أهل دار الحرب أسلم واجر إلى دار الإسلام ثُمَّ ظهر المسلمون على تلك الدار فكان للمهاجر فيها أولاد صغار كانوا مسلمين ولم يدخلوا في الغنائم، وذلك أنهم إذا لم يبلغوا لم يكن لهم في أنفسهم حكم في الكفر وإنَّما يحكم لهم أبالكفر لكفر الأبوين لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <المولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه ويمجسانه>، فإذا أسلم أحد الأبوين حصل له به حكم الإسلام، وإذا حصل لهم حكم الإسلام قبل ظهور المسلمين على دارهم لم يجز أن يسترقوا؛ لأن المسلم لا يبتدأ عليه الرق، وإذا لم يسترقوا لم يكونوا من جملة الغنائم، قال: فإن كان له فيها أولاد كبار سبوا ودخلوا في الغنائم، وذلك أن الصبي إذا بلغ فحكمه يكون بنفسه إن كفر كان كافراً وإن آمن كان مؤمناً ولم يلحقه حكم أبويه، فإذا كان أولاده الكبار على الكفر وظهر عليهم المسلمون صاروا غنائم كسائر الكفار. (145/24)
مسألة
قال: وكذلك إن تزوج حربي صبية صغيرة من أهل دار الحرب ودخل بها ثُمَّ أسلم زوجها، فإن أسلم أحد أبويها قب انقضاء عدتها أسلمت الصبية بإسلام من أسلم من أبويها كان زوجها على نكاحها، وذلك لما بيناه أن إسلام أحد الأبوين يوجب إسلام الولد الصغير، قولنا: أن ذلك ما دامت الصبية في عدة من الزوج كان الزوج على نكاحها لما بيناه في كتاب النكاح، من أن أبا سفيان حين أسلم بمر الظهران وامرأته هند مشركة بمكة عاد إلهيا حين أسلمت بالنكاح الأول، وما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع حين أسلم بالنكاح الأول، فوجب بذلك أن تكون الصبية متى حصل لها حكم الإسلام قبل انقضاء العدة تكون زوجته كما كانت، وقد مضى الكلام في هذا أكثر استقصاءً منه في هذا الموضع في كتاب النكاح، قال: وإن أسلم أحد أبويها بعد انقضاء عدتها وهي صبية كانت أيضاً مسلمة وانفسخ النكاح بينها وبين زوجها، وذلك أن عدتها قد انقضت قبل حصول الإسلام لها فوقعت البينونة وانفسخ النكاح؛ لأن أحد أبويها إذا أسلم بعد انقضاء العدة كان حكم الإسلام حاصلاً لها بعد البينونة فلم يؤثر فيها. (145/25)
باب القول في أما أهل الإسلام لأهل الشرك (146/1)
يجوز أمان كل واحد من المسلمين للمشركين قوا أو كثروا، وهذه الجملة مما لا خلاف فيها، والأصل فيه قول الله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ}، وقوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِم عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <المسلمون يتكافى دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم>، وما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من شهادته أهل ملكة، وإجارة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجها أبا العاص ابن الربيع، وقال صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة: <من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن>، قال: ولو أن مسلماً أمن عسكراً ن عساكر أهل الشرك أو قربه من قراهم ثُمَّ علم به الإمام لم يجز له استباحتهم حتَّى يخرجوا من ذمة الأمان، وهذا مما لا خلاف فيه، لقول الله عز وجل: {فَأَتِمُّوا إِليْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ}، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قوي أمر المسلمين استقام على ما كان منه من معاهدة أهل مكة انتظاراً لانقضاء المدة المضروبة حتَّى كانوا هم الذين ابتدأوا نقض العهد، قال: ولا يجوز الأمان إلاَّ إذا كان إلى مدة مضروبة، ولا يجوز فيه التأبيد، وذلك أن الأصل في الكفار القتل أو الإسلام أو الجزية ممن يجوز أخذها منهم لقول الله عز وجل: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ}، وقوله: {فَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوانَكُمْ فِيْ الدَّيْنِ}، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ}، إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجَزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُوْنَ}، ولو جلبنا وظاهر هذه الآيات لم يكن لهم إلاَّ السيف أو الإسلام أو الجزية؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمّن أهل مكة مدة،
وقال عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ}، فجعل لذلك حداً، وقال: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}، فلم يحصل لهم الأمان ورفع السيف والمطالبة بالجزية إلاَّ إلى مدة مضروبة، فوجب أن يكون ذلك حكم الأمان، وإلاَّ أدَّى إلى ألاّ يجب أن يحكم فيهم بالسيف أو إطاء الجزية، بأن يحصل لهم الأمان المؤبد، وأيضاً لا أعرف خلافاً في أن الحربي إذا دخل إلينا بأمان لا يجوز أن يؤمن على التأبيد بغير الذمة والجزية، فوجب أن يكون ذلك حكمهم في دار الحرب بعلة أنَّه أمان مؤبد للكافر بغير الذمة والجزية. (146/2)
مسألة
قال: ولو أن جماعة من المسلمين آمنوا جماعة من المشركين في قرية ن القرى ثُمَّ افتتحت تلك القرية لم يكن للمسلمين سبيل على الذي حصل لهم الأمان ولا على أموالهم وأولادهم، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن أمان واحد أو جماعة من المسلمين جائز على جميع المسلمين، فإذا حصل فهم الأمان من واحد أو جماعة من المسلمين حرمت دماؤهم وأموالهم والصغار من أولادهم على جميع المسلمين، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ويسعى بذمتهم أدناهم>، قال: فإن سبيت الغنائم وحيزت ثُمَّ أتت جماعة من المسلمين فادعوا أنهم كانوا آمنوا نفراً منهم وكانوا قد حضروا القتال والغنيمة ولم يتكلموا بشيء منه ثُمَّ تكلموا بعد لم يقبل الإمام منهم قولهم، وإن كانوا في وقت القتال والغنيمة غيباً ثُمَّ حضروا وادعوا قبل الإمام منهم إن أقاموا عليه البينة، والأصل في هذا الباب أنَّه مصدق في قوله: أمنتهم ما دام مالكاً، لأن يؤمنهم وتكون ولا يته في ذلك ثابتة، فإن لم يملكوا أن يؤمنوهم فتكون ولايتهم تلك زائلة، فلم يسمع قولهم إلاَّ بالبينة، فكما أن من كان في يده شيء يملكه فإن إقراره فيه جائز، فإذا خرج عن ملكه لم يجز فيه إقراره فعلى هذا إذا فتحت قرية أو بلدة وسبوا وغنمت أموالهم فلا يصح أمان من يؤمنهم ولا يملك ذلك، فيجب أن لا يقبل قول من يقول كنتم آمنتم فإن قامت بذلك بينة سمعت البينة وردوا كما كانوا، وردت إليهم أموالهم، وفصل يحيى بين من حضر منهم وقت الغنيمة وبين م لم يحضر، إنَّما هو لتأنيهم من حضر وشكت، فأما أن البينة مسموعة في الوجهين وأن قولهم غير مسموع بغير بينة، فهو سواء ويجيء على هذا القول أن الأب إذا أقر بتزويج ابنته الصغير في حال صغرها أن إقراره جائز؛ لأنَّه أقر في حال يملك عليها تزويجها، فإن أقر بذلك بعد بلوغها، فيجب أن لا يجوز إقراره بإنكاحها ولا بد فيه من إقامة البينة. (146/3)
مسألة
قال: ولو أن عسكر الإمام افتتحوا بلداً من بلاد الحرب، فقال الإمام لم أكن أمرتكم بافتتاح هذا البلد وأني كنت أمنتهم كان مصدقاً، ووجب ردهم إلى مأمنهم وترك التعرض هلم، وذلك له أن يحكم بعلمه وحكمه نافذ في جميع المسلمين، فإذا قال: كنت آمنتهم جرى ذلك مجرى الحكم لهم ولا يحتاج في ذلك إلى البينة كما أنَّه لو علم أن لزيد على عمرو مالاً جاز له أن يحكم بعلمه، وإن لم تكن له بينة والكلام في أنَّه يحكم بعلمه قد مضى في كتاب القضاء والأحكام. (146/4)
مسألة
قال: ولو أنَّ أسيراً من المسلمين في يد أهل الحرب أمن بعضهم وهو في أيديهم لم يجز أمانه على المسلمين، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، ووجهه أنَّه مقهور في أيديهم فهو بمنزلة المكره، وأيضاً هو غير متمكن من القتال فهو بمنزلة الصبي وليس يلزم عليه العبد ولامرأة؛ لأنهما متمكنان من القتال وإن لم يكونا من أهله؛ ولأنهما يحرضان ويعينان، وكذلك المريض يحرص ويعين وليس كذلك الأسير.
مسألة
قال: ولو أن مسلماً دخل قرية من قرى الشرك بأمان واشترط لهم أن لا يحدث فيهم حدثاً ثُمَّ افتتحت تلك القرية لم يجب له شراهم وإن لم يكن اشترط فلا بأس، وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <المسلمون عند شروطهم وشراهم>، ضرب من الحدث فيهم، وقد اشترط أن لا يفعله واستحب له الوفاء لهم بذلك؛ لأنَّه لا يدخله في معصية، وليس كذلك لو كان اشترط لهم أن يقيم فيهم ولا يخرج من عندهم؛ لأن ذلك معصية لقوله: أنا بريء من كل مسلم أقام في دار الشرك، ويستحب على هذا للأسير لو أطلق على فداء يبعثه إليهم ن المال الذي لا يجري مجرى السلاح والكراع يستحب له الوفاء به؛ لأنَّه ليس بمعصية فإن شرطوا عليه العود لم يجز له العود؛ لأنَّه معصية فعلى هذا يجب أن يجري هذا الباب، قال: ولو أن قوماً من أهل الحرب دخلوا بلاد المسلمين بأمان لم يخل الإمام بينهم وبين شراء السلاح والكراع ولا أن يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الكفر شيئاً من السلاح والكراع إلاَّ ما دخلوا به بعينه، وذلك أنهم إذا خرجوا بالسلاح والكراع من دار الإسلام كانوا قد زادوا في قوتهم على المسلمين وعدتهم ونقصوا من قوة المسلمين وعدتهم، قال الله تعالى عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ..} الآية، فلذلك قلنا: أن للإمام أن يمنعهم من ذلك ن فأما إذا خرجوا بما دخلوا به لم يكن ذلك زيادة في قوتهم ولا نقصان في قوة المسلمين؛ لأنهم كانوا يوم خروجهم كما كانوا يوم دخولهم على أن الأمان وقع لهم ولأموالهم فلا يمنع من أموالهم الَّتِي دخلوا بها ما لم يعرض حق يقتضيه، قال: فإن أرادوا أن يأخذوا بالجيد رأياً يأخذ، وأفضل ما بينهما أحيز ذلك لهم؛ لأن ذلك زائداً في قوة المسلمين وموهن لقوتهم، وقد قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، وإعطاؤهم الرديء من السلاح وأخذ الجيد منهم من إعداد القوة لهم. (146/5)
مسألة
قال القاسم عليه السلام: يجوز أمان المملوك المسلم، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمانه إلاَّ أن يكون ممن يقاتل، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <المسلمون تتكافئ ماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وعبيدهم أدناهم>، فوجب أن يكون لهم السعي في ذمتهم، وفي حديث زيد بن علي، بسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <أيما رجل من أقصاكم أو أدناكم من أحراركم أو عبيدكم أعطى رجلاً منهم أماناً أو أشار إليه فأقبل إليه بإشارته فله الأمان حتَّى يسمع كلام الله>، فجعل أمان العبيد كأمان الأحرار نصاً على أن قوله أيا رجل من أقصاكم وأدناكم يعم العبيد والأحرار فصح ما قلناه، على أن اشتراط القتال لا معنى له؛ لأن النساء لا يقاتلن ولا أعرف خلافاً في أن أمانهن أمان قد أجازه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أجارت أم هاني بنت أبي طالب، فقد أجرناه فأجاز جوارها على أن القاسم عليه السلام قد حكى الخلاف في أمان المرأة عن بعض الناس وإن كان ذلك غير مشهور. (146/6)
فإن قيل: الأمان تصرف على المسلمين بالولاية والعبد لا ولاية له فلا يملك الأمان؟
كان ذلك منقضاً بالعبد إذا أذن له مولاه في القتال، وعامة ما يحتجون به في ذلك ينتقض بالعبد المأذون له في القتال ويمكن أن يقاس العبد على الحر بأنه مسلم مكلف، فيجب أن يكون حكمهما في الأمان سواء. والله أعلم.
باب القول في محاربة أهل البغي (147/1)
أيَّما طائفة من المؤمنين بغت على إمام الحق ولم تلتزم طاعته وجب على الإمام محاربتهم وعلى سائر المسلمين الأصل في قتال أهل البغي، وقول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلثوا الَّتِي تَبْغِيْ..} الآية، وما من علي عليه السلام من قتال عائشة وطلحة والزبير، وقتال معاوية وقتال الخوارج، وروي عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: <أنك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين>، ووري عنه عليه السلام أنَّه قال: (لم أجد بداً من قتالهم أو الكفر بما أنزل الله)، وهذا يدل على أنَّه قاتلهم بنص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووعيد من جهته على تركه؛ لأن الذي يكون مأخوذاً عن الاجتهاد لا يجب في الإخلال به الكفر، وما يكون مأخوذاً من النص أيضاً لا يجوز أن يحكم على من أخل به بالكفر حتَّى يكون هناك نص عليه أو ما يجري مجرى النص، ولا أعرف خلافاً في أن السيرة في أهل البغي مأخوذة عن علي عليه السلام، والباغي اسم شرعي ولا ينطلق إلاَّ على من بغى على إمام المسلمين ونصب الحرب، وكانت له فئة ومنعه كما كان يوم الجمل ويوم صفين ويوم النهروان، وإنَّما عرفنا الاسم لمن كان كذلك بالإجماع، فأما من خالف الإمام ولم يأتمر له استعصى عليه أو حال بينه وبينهما يجب له فلا يستحق أن يسمى باغياً قياساً على من خرج عليه نوصب له الحرب، وإن كان عاصياً آثماً مرتكباً للحضور؛ لأن الأسماء لا تؤخذ قياساً، ولهذا لا يسمى المختلس والطرار والخائن والغاصب سارقاً، قياساً عليه، ولا تسمى الأنبذة خمراً قياساً عليها، وإنَّما نسميها خمراً لآثار وردت فيها دون القياس، وقد نبه الله على ما قلناه بقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ اقْتَتَلُوا} إلى قوله: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا
عَلَى الأَخْرَى}، ألا ترى أن اسم البغي لم يجز عليهم إلاَّ بالتال والدعاء لهم إلى الصلح والصلاح، فدل ذلك على ما قلناه، وأيضاً قول أمير المؤمنين عليه السلام لبعض الخوارج: (لكم علينا ثلاث مالنا عليكم ثلاث أحدها لا نبدأكم بقتال حتَّى تبدأنا)، فدل على أن البغي يتعلق بالقتال؛ لأنهم لو كانوا بغاة قبل القتال حل قتالهم، فلما لم يحل قتالهم ثبت أنهم يصيرون بغاة بالقتال والامتناع من الرجوع إلى الله بعد الدعاء لهم. (147/2)
مسألة
قال: ويجب على من أراد محاربتهم أن يحج عليهم قبل قتالهم، ويدعوهم إلى كتاب الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ اقْتَتَلُوا..} الآية، فأمر عز وجل بالإصلاح وأمر بالتال إذا امتنعوا، والإصلاح هو الدعاء إلى الحق، وإلى ترك الباطل والاستسلام لكتاب الله عز وجل، وأحكامه فلما أمر الله عز وجل بذلك قلنا أنَّه واجب على من أراد قتالهم، فإنّ قتالهم يجب بعد ذلك إذا امتنعوا، وروى أبو بكر الجصاص في شريح الطحاوي بإسناده عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جد، عن علي عليهم السلام، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث جيشاً إلى المشركين قال: <انطلق باسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تقاتلوا القوم حتَّى تحتجوا عليهم>، فإذا قال ذلك في الكفار الذين دماؤهم مباحة فأهل القبلة أولى بذلك، ومن المشهور أن عليّاً عليه السلام كان لا يبدأ أحداً بقتال يوم الجمل وأيام صفين وأيام النهروان، وأنه كان يقدم إمامة الرسل ويحتج عليهم ويتقدم بذلك إلى أصحابه ويأمرهم به، ذكر ذلك في كثير من السير، فإن امتنعوا من الدخول في الحق وجب قتالهم لقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى..} الآية، ولما فعله علي عليه السلام بعد الأعذار والإنذار، ولا خلاف فيه بين المسلمين.
مسألة
قال: ويتغنم ما أجلبوا به على المحقين في عساكرهم، ولم يحل سبيهم، وهو وقل عامة علماء أهل البيت عليهم السلام، لا أحفظ فيه خلافاً إلاَّ ما في السير لمحمد بن عبد الله عليهما السلام، وذهب عامة الفقهاء إلى أن ما أجلبوا وما لم يجبلوا ملك لهم لا يتغنم، وروي عن أبي يوسف، مثل قولنا رواه الطحاوي في اختلاف الفقهاء، قال أبو حنيفة: ينتفع أهل العدل بما لهم من السلاح والكراع ما دامت الحرب قائمة، وإذا وضعت الحرب أوزارها ردت على أربابها، ومنع الشافعي ذلك، والأصل في ذلك الأخبار المروية عن أمير المؤمنين في محاربة أهل البغي، منها ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (لا يسبي أهل القبلة ولا ينصب عليهم منجنيق ولا يمنعوا من ميرة ولا طعام ولا شراب وإن كانت لهم فئة أجير على جريحهم وأبيع مدبرهم وإن لم تكن لهم فئة لم يجز على جريحهم ولم يبتع مدبرهم ولا يحل من ملكهم شيء إلاَّ ما كانفي عسكرهم)، وروي أيضاً عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أنَّه خمّس حواه عسكر النهروان وأهل البصرة ولم يتعرض لما سوى ذلك، وروى الناصر بإسناده عن أبي جعفر محمد بن علي، عن آبائه، قال: لما واقف أهل الجمل قال: (يا أيها الناس إني احتج عليكم بخصال، ليبلغ الشاهد الغائب ـ في حديث طويل، يقول فيه ـ لا تتبعوا مولياً ليس بمحتاز إلى فئة ولا تستحلوا ملكاً إلاَّ ما استعين به عليكم، ولا تدخلوا داراً ولا خبا، ولا تستحلوا مالاً إلاَّ مالاً خباه القوم أو وجدتموه في بيت مالهم)، قد روي أيضاً بإسناده عن عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين، قال: قتل المسلمون عبيد الله بن عمر يوم صفين وأخذوا سلبه، وكان مالاً، وروى أبو العباس الحسني بإسناده عن عبد الله بن الحسن، عن أمه، مثل ذلك، وروى أبو العباس الحسني رضي الله عنه، عن يزيد بن بلال، قال: شهدت مع علي عليه السلام صفين فكان إذا أتي بأسير قال: (إني لن (147/3)
أقتله صبراً إني أخاف الله رب العالمين) وكان يأخذ سلاحه ويخلي سبيله ويحلفه أن لا يقاتل ويعطيه أربعة دراهم، وأيضاً في خطبة له طويلة روي أن عليّاً عليه السلام خطب في الجامع بعد ما فرغ من حرب الجمل، فقام إليه رجل يقال له عباد بن قيس، فقال: إنك قسمت ما حواه عسكر عدونا وتركت الأموال والنساء والذرية، فقال عليه السلام: (أما علمت أنا لا نأخذ الصغير بنب الكبير وأن الأموال كانت لهم قبل الفرقة وتزوجوا على الرشد، وولدوا على الفطرة، وإنَّما لكم ما حواه عسكرهم وما كان في دورهم فهو ميراث لذريتهم)، والخطبة طويلة، ويقول فيها: (ما علمت أن دار الحرب يحل ما فيها وإن دار الهجرة يحرم ما فيها إلاَّ بحق، وفيها فأيكم يأخذ أمه عائشة بسهمه؟) فقالوا يا أمير المؤمنين أصبت وأخطأنا وفيها عن بعض الأنصار أنَّه قال عند ذلك شعراً: (147/4)
إن رآنا رأيتموه سفاهاً ... لخطأ الإيراد والإصدار
ليس زوج النبي يقسم فيّا ... ذاك زيغ القلوب والأبصار
ليس ما ضمت البيوت بفئ ... إنَّما الفئ ما تضم الأواري
من كراع في عسكر وسلاح ... ومتاع تبيع أيدي التجار
في أبيات طويلة، وروى أبو محنف بإسناده عن علي عليه السلام أنَّه كان يأمر في كل موطن لقينا فيه معه عدواً، فيقول في حديث له طويل أن عليّاً أمر أن يحووا ما كان في عسكر النهروان من شيء، فأما السلاح والدواب وما شهر به عليه فقسمه بين المسلمين وأم المتاع والعبيد والإماء فإنه حين قدم رده على أهله فكل هذه الأخبار دالة أن عليّاً عليه السلام جعل ما حواه من عسكر أهل البغي الذي استعين به على المحقين غنيمة.
فإن قيل: ففي الحديث الأخير أنَّه عليه السلام رد المتاع والعبيد والإماء على أهليهم؟
قيل له: يحتمل أن يكون فعل ذلك؛ لأنها لم تكن مما استعين به على المسلمين، ويجوز أن تكون كانت في منازلهم ومواضعهم غير المعسكر، وما كان كذلك فعندنا أنهه لا يعترض له، وروى أيضاً أبو محيف أن عبيد الله بن عمر حين قتل مع الخلاف: كنت في من قتله واحد محرر بن الصحصح سيفه ذوا الوشاح، وبقي عنده إلى أيام معاوية ثُمَّ أخذ منه ولم ينكره أحد من المسلمين مع مضايفة بعضهم بعضاً أيام صفين في يسير ما كانوا يرونه منكراً، فدل على أنَّه كان رأى الجماعة وبإذن أمير المؤمنين. (147/5)
فإن قيل: وأنه لم يرد إلى الغنيمة ولم يرو ذلك؟
قيل له: يحتمل أيضاً أن يكون عليّ عليه السلام نفله إياهن وذلك عندنا جائز وسنبين الكلام فيه في باب قسمة الغنائم، وروى أيضاً أبو محنف أن رجلاً من أهل الشام خرج يدعوا إلى المبارزة فخرج إليه عبد الرحمن بن محرر الكندي فتحاولا ساعدة، ثُمَّ أنَّه حمل على الشامي فطعنه في ثغرة نحرة فصرعه، ثُمَّ نزل إليه فسلبه درعه وسلاحه، فدل أيضاً على ما قلناه.
فإن قيل: لا يجوز تغنم أموال المسلمين، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <من قال: لا إله إلاَّ الله، فقد عصم مني دمه وماله، إلاَّ بحقه>؟
قيل له: ما أجزنا تغنمه من مال أهل البغي فهو من حقه للأدلة الَّتِي ذكرناها، ألا ترى إن سفك دمه من حقثه على أن يغنم أموال المسلمين على سبيل العقوبة له أصل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يمتنع ما قلناه فيما جلبه أهل البغي إذ رويناه عن علي، وذلك ما روي أن سعد بن أبي وقاص أتاه قوم بعبد لهم أخذ سلبه أذراه يصيد في حرم المدينة فأخذ عليه فكلموه أن يرده فأبى وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من وجدتموه يصيد في شيء من هذه المواضع والحدود فمن وجده سلبه فلا أرد عليكم طعمه>، أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي بعض الأخبار: معاذ الله أن نرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال في الزكاة: <من أداها طائعاً فله أجرها، ومن قال لا، أخذناها منه وشطر ماله عرمة من عرمات ربنا>، وما روي أن من غل أحرف متاعه، وأيضاً روي أن أمير المؤمنين شعب دار جرير بن عبد الله حين لحق بمعاوية، وأحرق مجلسه ثُمَّ خرج إلى دار ثور بن عمر فحرقها وهدم منها، وكان ثور أيضاً لحق بجرير حين خرج، وروى أيضاً أبو الحسن الكرخي ومحمد بن منصور جميعاً بإسنادهما أن علياً عليه السلام أحرق بنادر لرجل كان احتكرها، فقال الرجل لو لم يحق علي من مالي ما أحرق لربحت مثل عطاء أهل الكوفة، وروي أنَّه أحرق دور قوم في بعض السواد كانوا يبيعون الخمور، وروي أن عمر أحرق في المدينة دار رجل كان يبيع الخمر اسمه رويشد فسماه فويسقا، فكل ذلك يدل على أن للتصرف في أموال المسلمين مسرحاً على سبيل العقوبة لهم بالتغنم تارة بالإحراق والإفساد أخرى، وروي أيضاً أن رجلاً كوى عبده فأعتقه عليه علي عليه السلام، وأيضاً أهل البغي لما صارت لهم فيه وتناصر على الإسلام وجلب دماؤهم على بعض الوجوه، وجب أن يحل تغنم المقاييس. (147/6)
فإن قيل: قولنا يوجب الحر وقولكم يوجب الإباحة، فصار قولنا أولى؟
قيل له: وقولنا أيضاً يوجب الحظر؛ لأنا نظرها على أهل البغي الذين ملكوها قبل التغنم ثُمَّ قولنا فيه النقل عن حكم الأصل فهو أولى، وأيضاً لا خلاف أن المسلمين لا يضمنون ما استهلكوه من الأموال، فوجب أن يكون للتغنم مسرح، دليله مال أهل الحرب، فأما سبيهم فلا خلاف بين المسلمين في أنَّه لا يحل، وقال علي عليه السلام منكراً على من ظن أنَّه يجوز: (أيكم يأخذ عائشة بسهمه؟)، قال: وما أجلب التار على المسلمين في عساكر أهل البغي مما هو ملك لهم من سلاح أو كراع جاز تغنمه، ولا يجوز تغنم ما حوى ذلك، والرجال والنساء والصبيان في ذلك سواء، وذلك أن علة التغنم إنَّما هي ما استعين به على المحقين، ولا فصل في ذلك بين أن يكون ذلك للتجار أو غيرهم من النساء والرجال، فأما ما سوى ذلك مما هو ملك لهم في دورهم ومنازلهم مما لم يستعن به على المحقين، فلا خلاف أنَّه مما لا يجوز التعرض له وأخذه، وعلى هذا غصب بعض أهل البغي من غيرهم شيئاً فاستعان به على المحقين فلا يجب أن يتغنم؛ لأن مالكه لم جعله معونة على المحقين، وليس ذلك كما يعصبه أهل الحرب؛ لأن أهل الحرب يملكون بالغلبة فيصير الشيء ملكاً لمن غصبه وليس كذلك أهل البغي؛ لأنهم لا يملكون بالغلبة، فإن استعارة الباغي ليستعين به على المحقين، فالقياس أن تغنمه جائز؛ لأن مالكه رضي أن يستعين به على المحقين. (147/7)
مسألة
قال: وإذا انهزم أهل البغي وكانت لهم فئة يرجعون إليها قتل مدبرهم وأجير على جريحهم، وإن لم تكن لهم فئة يرجعون إليها لم يقتل مدبرهم، ولم يجر على جريحهم؛ ولكن يطردون ويفرقون، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: لا يقتل مدبرهم ولا يجار جريحهم وإن كان لهم فئة، والدليل على ما قلناه قول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغَيْ حَتَّى تَفِيْءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ}، فأمر بقتالهم حتَّى يفيؤا إلى أمر الله، والمنهزم والمجروح ما داما مقيمين على مبارزة المقين فلم يحصل منهما الفيء إلى أمر الله، فوجب قتالهما حتَّى تفيء إلى أمر الله، ومن لزم قتاله لمعنى لزم قتله إلاَّ أن يفارق ذلك المعنى. (147/8)
فإن قيل: إذا انهزم فقد ترك القتال فقد فاء إلى أمر الله عز وجل على وجه من الوجوه فوجب ترك قتاله؟
قيل له: المنهزم المحتاز إلى فئة الضلال لم يأت بما أمره الله عز وجل على وجه من الوجوه؛ لأن الله لم يأمره بترك القتال على هذا الوجه، وإنَّما أمره بترك القتال على وجه التوبة، فوجب القتال إذن كما كان، ألا ترى أن من انهزم عن المشركين محتاز إلى فئة من أهل البغي، فلم يف إلى أمر الله عز وجل.
فإن قيل: قوله عز وجل: {فَقَاتِلثوا الَّتِي تَبْغِيْ}، من المقاتلة الَّتِي تكون بين اثنين، والمنهزم غير مقاتل، وكذلك المجروح المثخن فلا يجوز قتلهما؛ لأن الله عز وجل أم بالقتال دون القتل؟
قيل له: هما مقاتلان حكماً؛ لأنهما دخلا فيه وهما بعد على رأيهما وعزمهما، وكم من جريح قتل غيره أو جرح، وكم من منهزم كر فقتل وقاتل، فهما إذن بمنزلة من فنى نبله فأراد أن يتناول نبلاً غيرها أو انحنى سيفه فأراد أن يخترط سيفاً سواه وهو في المعركة في أنَّه يكون في حكم المقاتل.
فإن قيل: فأنتم تقولون أنَّه إذا لم تكن له فئة فلا يبيع مدبرهم ولا يجار على جريحهم واستدلالكم بظاهر الآية يوجب قتلهما؛ لأنهما بعد على رأيهما في البغي وعلى عزمهما في قتال المحقين؟
قيل له: ظاهر الآية يقتضي ذلك إلاَّ أنا خصصناه بدلال الإجماع، وما روي عن علي عليه السلام، وأيضاً يدل على ذلك ما في حديث زيد بن علي من قول أمير المؤمنين في أهل القبلة: (إن كانت لهم فئة أجير على جريحهم واتبع مدبرهم وإن لم تكن لهم فئة لم يجز على جريحهم ولم يبتع مدبرهم)، وفي حديث جعفر بن محمد أن عليّاً عليه السلام قال يوم الجمل: (لا تبيعوا مولياً ليس بمحتاز إلى فئة)، فنهى عن اتباعه بشرط أن لا تكون له فئة. (147/9)
فإن قيل: روي مطلقاً عن علي أنَّه قال: (لا يذفف على جريح ولا يبيع موبر)؟
قيل له: هذا عام نبنيه على الخاص الذي رويناه، فكأنه قال: لا يذفف على جريح ولا يبتع مدبر إذا لم تكن لهما فئة، وروى أبو محنف بإسناده أن علياً عليه السلام مر يوم صفين إلى نحو الميسرة ومعه بنوه فضربه مولى لبعض بني أمية ابن أبي سفيان أو عثمان، فقال لعلي: قتلني الله إن لم أقتلك أو تقتلني، فأقبل نحوه فخرج إليه كيسان مولى علي، فاختلفا ضربتين فقتله مولى بني أمية فانتهزه علي عليه السلام فدفع يده في جنب درعه فجذبه ثُمَّ حمله على عاتقه، قال الراوي: فكأني أنظر إلى رجليه يختلفان ثُمَّ ضرب به الأرض فكسر منكبه وعضديه وشد ابنا علي الحسين ومحمد عليهما السلام فضرباه بسيوفهما حتَّى قتلاه والحسن قائم مع أبيه علي عليهم السلام، فقال يا بني ما منعك أن تفعل ما فعل أخواك، قال: كفياني يا أمير المؤمنين، ففي هذا الخبر دليل على ما قلناه من جواز الإجارة على الجريح، ألا ترى أن ما فعله الحسين ومحمد ابنا علي بعد ما انكسر منكبه وعضداه من ضرب علي إناءه على الأرض، وأكد ذلك قوله لابنه الحسن: (ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك)، وعلى هذا يجب أن يجوز قتل الأسير منهم ما دامت الحرب قائمة إن رأى الإمام ذلك كما روي أن ابن اليثربي لما أسره عمار أمر علي بضرب عنقه.
فإن قيل: روي أن علياً كان إذا أتى بأسير أخذ سلاحه، وقال: (لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين)، وكان يستحلفه أن لا يعين عليه ولا يمايل عدوه، ثُمَّ يطلقه؟ (147/10)
قيل له: يحتمل أن يكون ذلك؛ لأنَّه رأى ذلك في الوقت لضرب من الصلاح أو لأنَّه غلب على ظنه أن يتوب، ونحن لا نقول أنَّه يجب قتله لا محالة وإنَّما نقول أن ذلك جائز للإمام إن رآه، وتأول أبو بكر الجصاص ذلك بأن قال: يحتمل أن يكون ذلك كان بعد انقضاء الحرب، وفي الحال الَّتِي لم يبق للعدو فيها فئة، و هذا بعيد؛ لأن هذا كان في صفين وفئتهم كانت بحالها كانت إلى أن وقعت الموادعة، وبعد وقوع الموادعة لم يكن قتل ولا أسر، والوجه ما قلناه في تأويل الحديث.
مسألة
قال: ولا ينبغي أن يبيت أهل القبلة في مدنهم ولا أن يوضع عليهم المنجنيقات ولا أن يفتق عليهم ما يعرف مدتهم ولا أ، يضرم بالنار ولا ن يمنعوا من ميرة أو شراب، وكذلك العساكر الكبار الَّتِي لا يؤمن أن يكون فيها ابنا السبيل والتجارة النساء والولدان، فأما العساكر الَّتِي قد أمن أن يكون فيها أحد ممَّن لا يجوز قتله، فلا بأس أن يبيتوا ويقتلوا كثروا أم قلوا، إذا كانت الدعوة قد وصلتهم قبل ذلك، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إلى قوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِيْنَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيْماً}، فبين الله أنَّه كف المؤمنين إنهم لئلا يلحق من هو بين أظهرهم من ضعفاء المسلمين من الرجال والنساء القتل والأذى، فكذلك قلنا: أنَّه إذا خشي أن يؤدي ذلك إلى تلف من لا يجوز قتله وإتلافه لم يبيتوا ولم ينصب عليهم المنجنيق ولم يغرقوا ولم نتضرب عليهم النار، وعلى هذا لو ترس المشركون بالمسلمين لم يرموا إلاَّ أن تدعوا الضرورة إليه، وحكي ذلك عن الشافعي فيما علق عن ابن أبي هريرة، قال أبو حنيفة: لا يكف عنهم، وما قلناه أولى؛ لأن دم المسلم محظور على كل وجه، ودم الكافر مباح والمباح إذا لم يتم فعله إلاَّ بفعل محظور صار محظوراً، وكذلك يجب أن يكون أهل البغي لو ترسوا بالمسلمين، فأما العساكر الَّتِي يؤمن أن يكون فيها أحد لا يجوز قتله فلا بأس أن يبيتوا ولا بأس أيضاً أن ينصب عليهم المنجنيق؛ لأنَّه من جنس الرمي، ولا خلاف أن رمي البغاة جائز، وكذلك التحريق والإغراق كل ذلك جائز إذا أمن أن يكون في العسكر غيرهم؛ لأن ذلك كله يؤدي إلى القتل، وقاتل المحارب لم يختص بشيء دون شيء، فيجب أن يجوز جميع ذلك. (147/11)
مسألة
قال: وإذا ظفر إمام الحق بأئمة الجور أخذ كل ما في أيديهم من قليل أو كثير أو جليل أو دقيق من الضياع والعقار وغيرهما إلاَّ أن تكون جارية قد أولدها أحدهم، قال القاسم عليه السلام: وكذلك يؤخذ ما في أيدي أعوانهم من الظلمة، وعلل القاسم ويحيى عليهما السلام ذلك بأن قالا: إن ما استهلكوه من مال الله أكثر من ذلك، فإن أٌم إنسان بينة على شيء بعينه أنَّه غصب عليه سلم إليه، والأصل في هذا الباب، الإمام منصوب لاستيفاء الحقوق وممن وجب عليه وضعها في أهلها إذا تقاع من إيفاء بها لذمته، يدل على ذلك قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتَزَكِيْهِمْ بِهَا}، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: <أعلمهم أن في أموالهم حقوقاً تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم>، والإمام قائم مقامهم، فوجب أن يفعل ذلك، وهذا مما لا خلاف فيه، ولهذا قال أبو بكر لو منعوني عقالاً بما أعطوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاتلتهم عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعث مصدقه لأخذ الصدقات، و كذلك أمير المؤمنين والأئمة من بعده، ولا خلاف أن من كان عليه دين فتقاعد عن إيفائه ووجد الإمام له عيناً أو ورقاً أنَّه يأخذه ويوفي ما عليه غريمه، فأما عندنا وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي فله أن يبيع عليه عقاره وعروضه إن لم يجد له عيناً أو ورقاً فيقي حق غريمه، وكذلك الحاكم يأخذ من المشتري ما استحقه الشفيع عليه بشفعته فيدفعه إلى الشفيع، فإذا ثبت ذلك وثبت أن الظلمة قد أخذوا أموالاً كثيرة على سبيل الظلم من أربابها وخلطوا بعضها ببعض حتَّى صار في حكم المستهلك، ولم يمكن التوصل إلى معرفة أربابها المأخوذة منهم على وجه الظلم، وكذلك قد أخذوا كثيراً من أقوال الله واستهلكوها وصرفوها في وجوه لا يحل صرفها فيهم، صاروا الجميع ذلك ضامنين وصار جهة جميع ذلك للفقراء ومصالح المسلمين، فإذا (147/12)
لم يفعلوا ذلك لزم الإمام أخذ أملاكهم وآمالهم على سبيل التضمين لهم ووضعها فيما يراه من مصالح المسلمين لزم الإمام أخذ أملاكهم وأموالهم على سبيل التضمين لهمن ووضعها فيما يراه من مصالح المسلمين وفي الفقراء والمساكين. (147/13)
فإن قيل: فقد أمر أمير المؤمنين يوم الجمل أن يؤخذ ما في المعسكر وما في بيوت أموالهم مما حبوه ولم يتعرض لما في بيوتهم ومنازلهم من سائر أموالهم، فكيف قلتم أن الإمام يأخذ كل ما يجد لهم ولأعوانهم؟
قيل له: لأن أصحاب الجمل لم يكونوا تصرفوا في تلك الأموال تصرفاً يلزمهم ضمانها، وكانت أموال الجناية حاصلة في بيت المال؛ لن مدتهم قصرت وليس كذلك أموال الظالم اليوم؛ لأنه قد كال تصرفهم في هذه الأموال وكثرت غصوبهم وقد استهلكوا ما صار إليهم فلزم ضمانه فللإمام أ، يأخذ أموالهم على سبيل التضمين، وعلى هذا لو أن بعض الظلمة أو البغاة أخذ أموالاً ليس له أخذها ولم يكن استهلكها ووجدها بعينها أخذها الإمام ولم يتعرض لسائر أملاكه كما فعل أمير المؤمنين يوم الجمل، كذلك إن كان ما استملكه الظالم من ذلك يسيراً لم يأخذ الإمام من خاصة ماله إلاَّ ذلك القدر دون ما زاد عليه؛ لأنَّه وجد الباقي حاصلاً، فليس له أن يضمنه إلاَّ مقدار ما استهلكه، فأما إذا وجد شيئاً بعينه لإنسان بعينه غصبه الظالم، فيجب رده عليه لا خلاف في ذلك، فأما الجارية الَّتِي ملكها واستولدها الظالم فلا يعترض لها؛ لأنها قد صارت ممنوعة من تملكها عليه؛ لأنَّه لا يجوز بيعها عندنا على وجه من الوجوه، فأما المدبر فالذي يقتضيه مذهب يحي أن مال الظالم إن قصر عمّا عليه فللإمام أن يأخذ مدبره ويبيعه عليه؛ لأن بيعه عندنا جائز للضرورة وإن كان يفي بما عليه فلا يجوز التعرض للمدبر بل لا يجوز التعرض لغير ذلك، أيضاً من أمواله على ما بيناه.
مسألة
قال: وأما أحكامهم فإنه يقر منها ما كان حقاً ويدفع ما كان باطلاً، وقد بينا في كتاب الوصايا وكتاب القضاء أن الظاهر من مذهبه أن قضاتهم إذا كانوا عدولاً في أنفسهم جاز أحكامهم وقضاياهم، وأن أحكامهم وأحكام أهل العدول ساء ينقض من الجميع ما كان باطلاً ويقر ما كان حقاً، فلا وجه لإعادته هنا. قال: وأما قطائعهم وجوائرهم فإنها يثبت منها ما لم يكن سرقاً وكانوا أعطوه على وجه يجب أو يحل، وما أعطوه على غير هذين الوجهين أخذ ممَّن أعطوه. (147/14)
اعلم أن ما أعطوه لا يخلو من أن يكون أعطوه من أموال أنفسهم وأملاكهم أو يكونوا أعطوه من مال الجنايات، فما كانوا أعطوه من مال أنفسهم وأملاكهم لا يخلو من أن يكونوا أعطوه على وجه قبيح وإياه عني بقوله شرفاً، وذلك كان يعطي المغنيين وأهل الفساد من الرجال والنساء وفي أثمان الخمور وما جرى مجرى ذلك مما نهى الله عنه، وحضره مما كان كذلك، فإنه يجب أن يؤخذ منهم، إذا وجد بعينه ويرد في بيت مال المسلمين، وقد بينا في غير موضع من كابنا هذا أن ما يملكه الإنسان من جهة محظورة يجب أن يصرف إلى بيت المال للفراء والمساكين ومصالح المسلمين، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الزكاة في ذكر هدايا العمال، وفي كتاب الغصوب وغير ذلك مما لا يحتاج إلى إعادته. أو يكونوا أعطه على وجه يجب أن يكون تطوعاً ذلك كان يدفع في الزكوات والعثور أو عن الكفارات أو النذور أو يقضوا بذلك الدين عليهم، أو يتطوعون بصلة الأرحام على ما أمر الله عز وجل، أو يوصلوه إلى الفقراء متطوعين بهن أو يكونوا أعطوه على وجه مباح كان يهدي إلى الصديق تودداً وحسن عشرة، فكل ذلك يقرر في أيدي من أعطوه ولا يتعرض لشيء من ذلك، وأما أموال الجنايات فمنها ما صرفت إلى الفقراء والمساكين أو مصالح المسلمين، فإنه أيضاً يقرر ولا يعترض لشيء من ذلك بالفسخ أو يكونوا أعطوه على وجه محظور كما بيناه أو يكونوا قضوا به ديونهم فكل ذلك مأخوذ ممَّن هو فيده؛ لأن الآخذ لم يملكه على وجه من الوجوه، هذا إذا كانت قائمة بعينها، فإن كانت مستهلكة ضمنوا ما أخذوا من ذلك؛ لأنهم في ذلك في حكم الغاصبين؛ لنهم أخذوا ما هو للفقراء ومصالح المساكين، فلم يملكوه بتة، وهذا هو الفرق بين ما أخذ من هؤلاء المفسدين ما هو من ملك ما أعطاه وما هو من مال الجناية؛ لأن ما أخذوه من أموال أنفسهم ملكوه على وجه محظور فيلزمهم رده ما دام قائماً بعينه ولا يلزمهم ضمانه بعد الاستهلاك؛ لأن هذا هو حكم ما صار ملكاً للإنسان من وجه (147/15)
محظور وما كان من أموال الجنايات فإنهم لم يملكوه على وجه من الوجوه فيلزمهم رده ما دام قائماً بعينه وضمانه بعد الاستهلاك، فعلى هذا أن يجري حكم هذه الأموال. (147/16)
مسألة
قال: ويستحب للإمام إذا زحف لمحاربة العدو أن يكر وعليهم الدعوة ويبعث إليهم نفراً من أهل الدين والفضل ينصحونهم ويعرفوهم رشدهم، فإن لم ينجح ذلك فيهم ضعف عسكره ونشر المصاحف على الرماح وأبدى الرجال يدعوهم إلى ما فيها، وذلك لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَولاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ}، وقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، وقوله تعالى: {لا خَيْرَ فِيْ كَثِيْرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ..} الآية، ولما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه كان يكرر رسله يوم الجمل وفي صفين يعظهم ويدعوهم إلى كتاب الله عز وجل وحكمه.
قال: ويستحب إن أمكنه أن يتوقف من قتالهم ثلاثة أيام يصف عسكره في كل يوم ويعرض عليهم المصاحف، فإذا امتنعوا من احلق بعد الثالثة قاتلهم واستعان بالله عليهم، وذلك أن ثلاثة أيام موضوعة للتأني، ألا ترى إلى قوله عز وجل: {تَمَتَّعُوا فِيْ دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ}، ولا خرف أنَّه يتأنى بالمرتد عليه ثلاثة أيام والشفيع يمهل بالثمن ثلاثة أيام، فلذلك اختاره فإن أبوا قوتلوا، لقوله عز وجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِيْ..} الآية.
باب القول في الغنائم وقسمتها إذا ظفر الإمام بأهل الحرب
غنم كل ما لهم من قليل وكثير وياع وعقار وسبي صغرهم وكبارهم ذكورهم وإناثهم وجعل ذلك كله غنيمة، وإذا ظفر بأهل البغي غنم من أموالهم ما أجلبوا به في عساكرهم على المسلمين دون ما سوه من سائر أموالهم، ولا خرف أن أموال أهل الحرب كلها مغنومة، وبذلك سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أهل الطائف وخيبر وغيرهما من المواضع المفتتحة، وهكذا سار المسلمون بعده صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمُ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}، فأما أهل البغي فقد ذكرنا في أموالهم ما وجب، وذكرنا الخلاف فيه. (147/17)
مسألة
قال: وإذا قال الإمام لرجل من أصحابه: إن قتلت فلاناً فلك سلبه فقتله كان سلب المقتول له، وهذا ما لا خلاف فيه؛ لأن الإمام إذا قال ذلك ثُمَّ قتله استحقه، وإنَّما الخلاف في القاتل هل يستحق السلب إذا كان الإمام لم يقل له ذلك، وسيأتي الكلام فيه، قال: والسلب ما ظهر من الثياب والمنطقة والدرع والسيف والفرس والسرج وحليته وما أشبه ذلك، فإن كان مع المقتول جوهر أو دراهم أو ما أشبه ذلك مما يخفى لم يدخل في السلب وكان غنيمة له ولسائر المسلمين، ووجهه أن السلب يستعمل فيما يظهر ويتصل به؛ لأنَّه لا خلاف أن ما لم يكن معه من سائر أمواله لا يدخل في السلب، فكذلك الخفي، ومنه يقال: شجرة سليب إذا أخذ ورقها وأغصانها ذكره الخليل، فدل ذلك على أن هذا الاسم يتناول ما ظهر عليه من أموال المسلمين.
مسألة
قال: فإن كان قال له الإمام إن قتلت فلاناً فلك سلبه، فقتله غيره معه لم يكن السلب له ولا لصاحبه، فهذه المسألة مبنية على أن السلب لا يستحق بنفس القتل وإنَّما يستحق بأن يقول الإمام قبل التناوش من قتل قتيلاً فله سلبه أو يقول ذلك في معين، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك، وقال الشافعي: السلب للقاتل، ووجه قولنا ما روي عن عوف بن مالك الأسجعي أن مدرباً رافقهم في غزوة مؤتة وإن روميا كان يشتد على المسلمين ويغرى بهم فتلطف له ذلك المدري فقعد له تحتا صخرة، فلما مر به عرقب فرسه وخر الرومي لقفاه وعلاه بالسيف فقتله فأقبل بفرسه وسرجه ولجامه ومنطقته وسلاحه مذهب بالذهب إلى خالد بن الوليد، فأخذ منه خالد ونقله بعيبه فقلت يا خالد: أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفل القاتل السلب كله، قال: بلى، ولكن استكثرته، فقلت أما والله لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال عوف: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرته خبره، فدعاه وأمره أن يدفع إلى المدري بقية سلبه، فولى خالد ليفعل، فقلت كيف رأيت يا خالد أولم أوف لك بما وعدتك، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: <يا خالد لا تعطيه>، وأقبل علي وقال: <هل أنتم تاركوا أمر أبي لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره>، فمنعه صلى الله عليه وآله وسلم القاتل السلب حين تكلم عوف بما تكلم، دليل على أنَّه لم يكن مستحقاً للسلب بالقتل، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنَّما كان أمر خالداً بأن يعطيه على سبيل التنفيل دون الاستحقاق؛ لأن الذي يستحق القاتل لا يجوز أن يمنع لجناية غيره، وأيضاً أخذ خالد منه بعض سلبه مع قول عوف: ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفل القاتل السلب كله، فقال: بلى، ولكن استكثرته، يدل على أنَّه عرف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك على سبيل التنفيل لا على أنَّه حق القاتل؛ لأن خالداً لم (147/18)
يكن يجوز أن يخالف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيمنعه ما جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم استكثاراً، لأن من فعل ذلك مستحلاله يلزمه الكفر، فدل ذلك على أن الظاهر عندهم في ذلك أنَّه على سبيل التنفيل لا على سبيل الاستحقاق. (147/19)
فإن قيل: فقد روي في بعض الأخبار أن عوفاً قال لخالد: ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالسلب للقاتل؟
قيل له: يجوز أن يكون المراد بقول من قال قضى راجعاً إلى التنفيل سيما وقد دللنا عليه، ويدل على ذلك ما روي عن عبد الرحمن بن عوف، أن معاذ بن عفان اجتمعا يوم بدر على قتل أبي جهل ـ في حديث طويل ـ فيه: أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبراه، فقال: <كلاكما قتله>، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، فدل ذلك على أن السلب لا يستحق بالقتل فقط؛ لأنَّه لو كان مستحقاً بالقتل لم يكن يجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأحد القاتلين ويمنع القاتل الآخر حقه.
فإن قيل: هذا الخبر لا يصح استدلالكم به؛ لأن القصة كانت يوم بدر، وقد روي أن الغنائم لم تكن أحلت يومئذ؟
قيل له: هذا يقتضي فسخ ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ، وإذا أمكن الجمع بني الأخبار لم يجز نسخ بعضها، وأيضاً روي عن مكحول عن قتادة بن أبي أمية، قال: نزلنا دا.. علينا أبو عبيدة بن الجراح، فبلغ حبيب بن مسلمة أن صاحب فرس خرج يريد إذ ربيجان فخرج في خيل حتَّى قتله وجاء بما كان معه إلى أبي عبيدة، فأراد أن يخمسه فقال حبيب لا تحرمني رزقاً رزقنيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل السلب للقاتل، فقال معاذ بن جبل مهلاً يا حبيب أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <إنما لكم ما طابت به نفس الإمام>، وفي بعض الألفاظ ليس له إلا ما طابت به نفس إمامه ففيه وجهان من الدلالة:
أحدهما: أن معاذاً ذكره في شأن السلب، فكأنه قال: ليس لكم من السلب إلاَّ ما طابت به نفس الإمام. (147/20)
والثاني: أن عمومه يقتضي ذلك، وأيضاً في حديث عبادة بن الصامت، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر فلقي العدو فلما هزمهم الله اتبعهم طائفة من المسلمين يقتلوهم، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستولت طائفة على المعسكر والنهب فلما انصرفوا، قال الذين طلبوهم لنا النفل: نحن طلبنا العدو وبنا نفاهم الله وهرمهم، وقال الذي أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنتم بأح منا بل هو لنا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينال العدو منه غره، وقال الذين استولوا على العسكر والنهب، والله ما أنتم بأحق منا نحن حويناه واستولينا عليه، فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ..} الآية، فقسمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهم عن فواق، فلم يخص القاتل منهم بشيء دون ما سواه، فثبت بطلان استحقاق القاتل السلب، وأيضاً روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل بوادي القرى، فقيل يا رسول الله: لمن المغنم؟ فقال: <لله سهم، وله ولاء أربعة أسهم>، فقيل فهل أحد أحق بشيء من المغنم، فقال: لا حتَّى السهم يأخذه أحدكم من جنبه، فليس بأحق منه من أخيه، فدل هذا على أن الغنائم يستوي فيها الجميع من أهل الحرب القاتل وغيره، فبطل استحقاق القاتل للسلب، وعن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <أدو الخيط والمخيط وما دون ذلك وما فوق ذلك، فإن الغلول عار على أهله يوم القيامة وشنئان>، فدخل السلب في ذلك وغيره.
فإن قيل: فقد روي عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل السلب للقاتل، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفل أبا قتادة سلب قتيل قتله، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قتل قتيلاً له عليه بينه، فله سلبه، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم حنين: <من قتل قتيلاً فله سلبه>، فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين قتيلاً فأخذ أسلابهم. (147/21)
فإن قيل: في حديث أبي قتادة أنَّه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حنين في حديث طويل يذكر فيه أنَّه قتل قتيلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعد ذلك من قتل قتيلاً عليه بينه فله سلبه وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما فعلت وصدقني رجل من القوم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي بسلب ذلك فعلت وصدقني رجل من القوم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي بسلب ذلك المقتول، قالوا: فهذا كان بعد القتال؟
قيل له: يحتمل أن يكون القول في ذلك ؛لأن إنساً قد ذكر قصة حنين، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فيها: <من قتل قتيلاً فله سلبه، ويمكن أيضاً أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك على سبيل التنفيل، ويلد على ذلك أن غير السلب من غير القتيل لا يستحقه بالاتفاق، فكذلك السلب والعلة أن كل واحد منهما لم يوجد فيه من الإمام القاسم بأمر الجيش أو من ينوب منابه إذن في استحقاقه فوجب أن لا يستحقه بقتله، يبين ذلك أن الإمام لو قال عند حضور القتال من قتل قتيلاً فله جميع ماله استحق القاتل كغير السلب كما استحق السلب، فبان أن الاعتبار بقوله عند حضور الوقعة، وأيضاً لا خلاف لو قتل مستدبراً لم يستحق سلبه، فكذلك لو قتله مستقبلاً، والعلة أنَّه قتله في الحب من غير تقدم قول صاحب الجيش، فوجب تمليكه أيضاً إياه، وأيضاً الرد والمقاتل في الغنيمة سواء، والعلة أن المقاتل يقاتل بمعونة الردء، فكذلك القاتل وغير القاتل يجب أن يكون في السلب سواء؛ لأنَّه بمعونة غيره يقتل، ويدل على ذلك أن سائر وجوه التمليك لا تفصل بين أن يكون التمليك عليه مقبلاً أو مدبراً كالبيع والهبات، فوجب أن يكون ذلك حكم القاتل في استحقاق السلب، ويمكن أن يقال: أن سلب القتيل الذي لا يعرف قاتله على أصل الشافعي لا يجب أن يكون غنيمة، ويجب أن تكون بمنزلة اللقطة إلاَّ أن المحكي عن بعض أصحاب الشافعي أنهم يلتزمونه إلاَّ أن يكن أن يقال لمن يلتزمه لو كان ذلك حكمه لظهر في مغازي المسلمين، طلب القاتل وأن يجري السلب مجرى اللقطة، فلما لم يظهر ذلك علم أن الإجماع على خلافه، وإذا ثبت ذلك ثبت ما قلناه من أن الإمام إذا قال: لو أحد إن قتلت فلاناً فلك سلبه فقتله مع آخر لم يستحق سلبه؛ لأنَّه جعل له بشرط أن يكون هو القاتل فلما لم يكن هو القاتل فقط لم يستحق سلبه؛ لأن ذلك إنَّما يتوله الإمام تحريضاً وحثاً فلو كان حكمه إذا قتله مع غيره حكمه إذا (147/22)
قتله منفرداً به زال معنى التخصيص، وهذا لا يشبه القصاص؛ لأن القصاص لا يحصل فيه المعنى الذي ذكرنا بأمر التحريض يكشف ذلك أن القصاص يكون عليهما والسلب على هذا يجب أن يكون له وحده؛ لأن الشريك لأحواله فيه، وهذا ما لا يقول به أحد، فوجب صحة ما قلناه. (147/23)
مسألة
قال: وإن قال الإمام قولاً مطلقاً من قتل قتيلاً فله سلبه فقتله هو وغيره كان السلب بينهما، وذلك أن الغر في هذا أن يكون المشار إليه مقتولاً ولا يختص بتحريض واحد بعينه، قال: فإن قال احتل في قتل فلان فإن قتلته فلك سلبه فاستعان بغيره على قتله كان السلب له دون من استعان به، وذلك أن السلب جعل له بشرط أن يحصل قتل فلان بسبب يكون من جهته، فإذا استعان هو بغيره فقد تم الشرط، فيجب أن يكون مستحقاً بالقتل، قال: إذا قال الإمام: من قتل قتيلاً فله سلبه كان سلب كل قتيل لمن قتله، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء فلا وجه للاشتغال بذكر وجهه، قال: وإذا قال إن قتلت فلك كذا وكذا درهماً فقتله، وج على الإمام أن يعطيه ذلك من الغنيمة، فإن لم تكن غنيمة أعطاه من بيت المال، قال في الأحكام: فإن لم يكن بيت مال أعطاه من الصدقات وذلك مستقيم على أصله بأن يعطي من سهم السبيل، وذلك يجري مجرى أن يجعل السلب له.
فإن قيل: السلب هو حق الغانمين وهو أحدهم فلا يمتنع أن تحصل له مزية بكونه له؟
قيل له: وما في بيت مال المسلمين حق للمسلمين فلا يمتنع أن يصرف ذلك القدر إليه للمزية الَّتِي حصلت له كالسلب، وكذلك إن أعطى من سهم السبيل؛ لأن ذلك السهم عنده مرصد لمصالح المسلمين فلا يمتنع صرفه إليه، وهذا لا يجري عندنا مجرى الإجارة وإنَّما يجري مجرى المعونة والحث على القتل والقتال وعلى هذا يجب أن يجرى الكلام في الجعل على الغزو إذا كان من الإمام فيقال أنَّه جائز؛ لنه معاونة وحث على ما بيناه كالتنفيل، وجعل السلب للقاتل.
مسألة
قال: وإذا اجتمعت الغنائم وحيزت فللإمام أن يأخذ منها الصغي لنفسه وهو شيء وأخذ شيف أو درع أو فرس، وذهب سائر العلماء إلى أن الإمام ليس له ذلك، والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأخذ السفي لنفسه من المغنم وأنه أخذ من بني قريضة ريحانة بنت عمرو بن حذافة وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لما افتتح خيبر أخذ صفية بنت حيي بن أخطب على سبيل الصفي، وروي عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر، وروي عن ابن عباس، قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إن بيننا وبينك هذا الحي من مضر وأنا لا نستطيع أن نأتيك إلاَّ في الشهر الحرام فمرنا بأمر نأخذ به ونحدث به من بعدنا، قال: <أمركم بأربع: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأني محمد رسول الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتعطوا سهم الله من الغنائم والصفي>، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإيتاء الصفي، فدل على أن ذلك ثابت، فإذا صح ذلك وجب أن يكون ذلك للإمام بعده؛ لأنَّه القائم مقامه بتحمل أعباء الأمة وتدبير أمرها والنظر في أمورها كان بينا ذلك في سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخمس، وأيضاً إذا ثبت التنفيل مما نبينه بعد ثبت الصفي؛ لأنَّه إذا جاز أن ينفل الإمام غيره جاز أن ينفل نفسه؛ لأن التنفيل للعناء، وعناء الإمام أعظم من عناء غيره، وروى أبو العباس الحسني رضي الله عنه بإسناده، عن عمر، أن ابن حصين ـ في حديث طويل ـ قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً واستعمل عليهم علياً عليه السلام، فمضى فأصاب جارية لنفسه فأنكروا عليه فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <والغصب يعرف في وجهه، تريدون من علي ثلاثاً أن علياً مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن من بعدي>، فتريره علياً على (147/24)
أخذ الصفى دلالة على أن للإمام أخذه. (147/25)
مسألة
قال: وله أن ينفل من رأى تنفيله على ما يراه، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: النفل إحراز الغنيمة، والأصل في ذلك قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ..} الآية، فدل ظاهر الآية على أن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتصرف فيها على ما يراه، ويدل على ذلك حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينفل بالخمس والربع والثلث، ويدل على ذلك حديث حبيب بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفل في بدايته الربع، وفي رجعته الثلث، وليس لهم أن يقولوا أن التنفيل بعد الرجعة يجوز أن يكون كان من الخمس؛ لأن في بعض ما روي عن حبيب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينفل في البداية الربع وفي الرجعة الثلث بعد الخمس، وعنه أيضاً أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم نفل الثلث بعد الخمس، وهذا مسقط تأويلهم، وروي أيضاً عن عبادة بن الصامت، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفلهم إذا خرجوا بادئين الربع، وينفلهم إذا قفلوا الثلث، وعن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية فيها ابن عمر فغنموا غنائم كبيرة، فكانت غنائمهم لكل إنسان اثني عشر بعيراً ونفل كل إنسان منهم بعيراً بعيراً سوى ذلك، وكل ذلك دال على صحة ما قلناه، وقد روي الخلاف في ذلك عن عدة من الصحابة، فلم يحتج بما روي عنهم مما يوافق قولنا.
فإن قيل: فما تقولون فيما روي عن علي عليه السلام أنَّه قال: (النفل قبل الغنيمة، فأما بعد الغنيمة فلا نفل)؟
قيل له: ظاهر هذا الحديث لا يقول به المخالف؛ لأنهم يجوزون النفل بعد الغنم قبل الإحراز في دار الإسلام، ويجوزونه أيضاً من المس بعد الغنيمة فلا بد لهم أيضاً من التأويل وتأويله عندنا ـ والله أعلم ـ بعد القسمة.
فإن قيل: فد تعلق بها حق الغانمين، فلا يجوز للإمام قطعه؟
قيل له: الغانمون لا يملكونه إلاَّ بعد القسمة وللإمام ، يتصرف فيه قبل أن يملكوا؛ لأنَّه لا خلاف بيننا وبينهم أن العبيد والنساء يرضع لهم منه، وأن له قتل الأسير إن رأى ذلك مع تعلق حق الغانمين به قبل القسمة، وكذلك لا خلاف بيننا وبينهم أن أرض المشركين للإمام يده أولاً في كل ذلك، دلالة على أن للإمام التصرف في الغنيمة قبل القسمة، وأيضاً هو مشبه بالمال الذي يكون في بيت المال في أ، للإمام التصرف فيه بحسب اجتهاده؛ لأنَّه مال لم يملكه مالك بعينه. (147/26)
فإن قيل: التنفيل يكون للحظ والحث على القتال، وذلك تكون قبل القتال فلا وجه له بعد القتال؟
قيل له: وجه صحيح بعد القتال؛ لأنَّه إذا صخ به أهل العناء رغبهم في الاستمرار عليه فيما يستقبل من الحروب، ورغب غيرهم ف مثل فعلهم، وعلى هذا يجوز عندهم التنفل من الخمس بعد القتال، ومن المشهور تنفيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً وسائر قبائل العرب بالأموال العظيمة دون الأنصار، حتَّى كادوا يؤثر ذلك في نفس بعضهم حتَّى قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <أما ترضون أيذهب الناس بالأموال وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: رضينا ـ في حديث طويل ـ على أنى لا أحفظ خلافاً في أن لبعض الغانمين الانتفاع بما يوجد من الطعام والعلف، وقد نص عليه القاسم في مسائل النيروسي، وهذا أيضاً يدل على جواز التصرف فيه على بعض الوجوه مع تعلق حق الغانمين به، والإمام أولى بذلك.
مسألة
قال: وإن حضر الوقعة النساء والصبيان والمماليك وأهل الذمة وأعانوا أهل الحق على العدو رضح لهم الإمام على قدر ما كان من عنائهم، ولم يضرب لهم سهماً، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وعامة العلماء، وحكي عن قوم: الأسهام، وعن مالك أنَّه قال في العبد: لا أعلم أنَّه يعطى شيئاً، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه ابن عمر قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني في المقاتلة، ثُمَّ روي عن البرا، قال: عرضتني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا وابن عمر في يوم بدر فاستصغرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ أجازنا يوم أحد وهو يومئذ ابن أربع عشرة سنة، فدل الخبر على أن ابن عمر رضخ له يوم أحد وهو يومئذ ابن أربع عشرة سنة، وأسهم له يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة، فصار ذلك أصلاً في أن من لا سهم له يرضخ له، وإن الصبي لا سهم حتَّى يبلغ، قال نافع: ذكرت حديث ابن عمر لعمر بن عبد العزيز، فأمر الأجناد أن يعرض من كان له أقل من خمس عشرة سنة في الدرية، ومن كان له خمس عشرة سنة في المقاتلة، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر لمملوك يوم خيبر بشيء من حربي المتاع، وروي عن ابن عباس، ولم يكن يسهم للمرأة والعبد، إلاَّ أن يجد بأشياء من الغنائم، وإذا ثبت أن العبد لا يسهم له فالذمي أولى أن لا يسهم له؛ لأن نقص الكفر أعظم من نقص الرق ونقص الأنوثة، ويمكن أن يقال: أن حكم الذمي حكم الصبي؛ لأن أمانه لا يجوز أمان الصبي، وإن يرضخ له كما يرضح للعبد والصبي إذا أعانا. (147/27)
مسألة
قال: ثُمَّ تقسم الغنائم كلها بعد ذلك على خمسة أسهم ليصرف سهماً منها في الوجوه الَّتِي بينها في كتاب الخمس ويقسم أربعة في الذين حضروا الوقعة، وحاربوا وأعانوا من الأحرار البالغين المسلمين، وذهب أبو حنيفة أن المدد إن لحق بهم في دار الحرب قبل أن تقسم الغنيمة كانوا شركاء للذين حضروا، والذي يدل على ما قلناه حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبان ابن سعيد على سرية، فقدم خيبر بعد ما فتحناه فلم يقسم له شيئاً، وحديث ابن شهاب، عن عمر أنَّما الغنيمة لمن شهد الوقعة، وأيضاً لا خلاف أن سائر المسلمين لا حق لهم فيها، وكذلك المدد، والعلة أنهم لم يحضروا الوقعة، ويدل على أن الحكم تعلق بحضور الوقعة أن من حضرها استحق وإن لم يباشر القتال. (147/28)
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب لعثمان بسهم يوم بدر وكان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله؟
قيل له: يجوز أن يكون ذلك خاصاً له؛ لأنَّه كان تخلف لعلة زوجته بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خرف أن من أقام على أهله وإن كان المقام واجباً أنَّه لا يسهم له في الغنيمة، ويجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أعطاه ذلك من الخمس أو من سهم نفسه، قال أبو العباس الحسني رضي الله عنه: وعلى هذا لو دخل دار الحرب فارسا ثُمَّ نفق فرسه قبل حضور الوقعة أن سهمه سهم راجل، وبه قال محمد والشافعي على ما بلغنا، قال أبو العباس: ولو حضر الوقعة فارساً وقاتل راجلاً فإن له سهم فارس؛ لأن الاعتبار بحضور الوقعة.
مسألة
قال قدس الله روحه: ويجعل للراجل سهم وللفارس سهمان، وبه قال أبو حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي: للفارس ثلاثة أسهم، ولا خف أن الراجل له سهم واحد، والدليل على ذل ما رواه أبو العباس الحسني رضي الله عنه بإسناده، عن كريمة بنت المقداد بن الأسود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهم له يوم بدر سهماً ولفرسه سهماً، وروي أيضاً بإسناده عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر أعطى الفارس سهماً ولفرسه سهماً، وروي أيضاً بإسناده عن هاني بن هاني، عن علي عليه السلام، أنَّه قال: (للفارس سهمان)، وكل ذلك نصوص فيما ذهبنا إليه. (147/29)
فإن قيل: روي عن ابن عمر أنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للفرس سهمين، وللراجل سهماً، وهذا يعارض ما رويتموه؟
قيل له: معناه قسم للفارس سهمين وللراجل سهماً، وأراد الفارس لأن الفرس لا يستحق شيئاً، فالمراد إذاً الفارس.
فإن قيل: روي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسهم يوم خيبر للفرس سهمين وللفارس سهماً، وللراجل سهماً، وروي عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً؟
قيل له: عنده أن التنفيل بعد إحراز الغنيمة جائز، وبه قال الشافعي أيضاً، وقد مضى الكلام فيه، فإذا ثبت ذلك فلا يمتنع أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم نفل بعض الفرسان في بعض المواضع سهماً زائداً على الاستحقاق فقسم له ثلاثة أسهم على سبيل التنفيل، ولا يجوز أن يبخسه ما يستحقه فيرده إلى سهمين مع استحقاقه ثلاثة أسهم؛ لأن البخس غير جائز، والزيادة جائز، فكان ما قلناه أولى في استعمال الخبرين، ويدل على ذلك قوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسِوْلِ..} الآية، فأعلمنا تعالى أنا لأشياء غانمون، فيجب أن نستوي فيه وأوجب العموم، وأن الفارس والرجال فيه سواء إلاَّ أنا زدنا الفارس سهماً واحداً للإجماع، وبقي الباقي على موجب حق العموم، ويدل على ذلك أيضاً أن الفرس لما كان آلة كان القياس ألاّ يجعل له سهماً بتة كسائر الآلات، وكما لا يسهم للبغل والحمار إلاَّ أنا تركنا القياس في السهم الزائد للإجماع والأثر والاقي محمول على القياس، وأيضاً هو شخص له سهم من القسمة، فوجب أن لا يزداد على السهم الواحد، دليله الرجل، ويقوي ذلك بأن يقال عناء الرجل اكثر من عناء الفرس؛ لأن الرجل يقاتل بنفسه والفرس لا تقاتل بنفسها فلم يجب أن يكون سهمه أكثر من سهم الرجل آكد أمراً في استحقاق السهم من الفرس بدلالة أن الفرس لو حضر دون الرجل لم يستحق ولو حضر الرجل دون الفرس استحق؛ ولأن الرجال وإن كثروا استحقوا على مقدار عددهم، وليس كذلك الأفراس، فإذا ثبت ذلك لم جز أن يكون ما تستحقه الفرس زائداً على ما يستحقه الرجل. (147/30)
فإن قيل: فيجب أن لا يتساويا على ما قلتم؟
قيل له: و الواجب في القياس كما بينا إلاَّ أنا جعلنا له سهماً واحداً للإجماع والأثر على التساوي غير ممتنع والحال كما وصفنا وإن لم تصح الزيادة، ألا ترى أن من له ثمانون شاة ساوي في الزكاة من له أربعون شاة، ولا يجوز أن يلزمه أكثر مما يلزم من له أربعون شاة، ويجوز أ، يتساوى الأب والأم في الإرث، فلا يجوز أن يزاد نصيب الأم على نصيب الأب عندنا وعند من يخالفنا في هذه المسألة، ويجوز أن يستي حال الأم ومن ليس يصلح للإمامة في الشهادة، ولكن لا يجوز أن يكون من لا يصلح للإمامة آكد حالاً في الشهادة من الإمام ونظائره كثيرة. (147/31)
مسألة
قال: ولا يسهم لأكثر من فرس واحد، وري عن أبي يوسف أنَّه يسهم لفرسين، ووجهه قولنا أن القياس يقتضي أن لا يسهم للفرس بتة، فلما حصل الإجماع على أن الفرس الواحد سهم له ووردت به الآثار جعلنا له سهماً وبقينا ما زاد عليه على أصل القياس، وأيضاً لم يرو في شيء من الآثار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسهم لأكثر من فرس واحد لأحد من الناس، ومن البعيد في العساكر العظيمة الَّتِي يكون فيها الرؤساء والأشراف ألا يكون أحد معه أكثر من فرس واحد، وأيضاً لو جاز أ، يسهم لفرس ثان جاز أن يسهم لثالث ولرابع وأكثر من ذلك، فلما لم يجز ذلك لم يجز أن يسهم للثاني؛ لأنَّه اسهام لأكثر من فرس واحد لرجل واحد.
فإن قيل: وقد يعطب الواحد فيركب الآخر، وقد يراوج بينهما فيقاتل على هذا تارة وعلى ذلك تارة؟
قيل له: هذا موجود في الثالث والرابع، فوجب بطلانه.
مسألة
قال: ويسهم للبراذين كما يسهم للخيل العراب، وبه قال أبو حنيفة والشافعي؛ لأنهما مما يقاتل عليها وتعين في الحرب، وقد قيل أن الفرس العربي أشد عدواً وأحد عملاً وأن البرذون أصبر على الكر ويحمل النقل في الحرب فلكل واحد منهما معنى يحمد على أن الفرس إنَّما يزداد على البرذون في قوة الطلب والهرب، وأما في نفس القتال فيتقاربان.
قال: ولا يسهم للحمير والبغال ولا الجمال، وذلك أنَّه لم يرو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسهم لشيء منها، وقد علمنا أن الجمال كانت أكثر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الخيل، فلو كان صلى الله عليه وآله وسلم أسهم لشيء منها كان النقل فيه أظهر، ولأنها مما لم تجر العادة بالقتال عليها، فلم يجب أن يكون الشيء منها سهم كالبقر. (147/32)
مسألة
قال: ولو أن مسلماً عرف في الغنيمة شيئاً كان المشركون غصبوه عليه، كان أولى به إن وجده قبل القسمة، وإن وجده بعد القسمة كان أولى به، إذا أعطى قيمته من أخذه بقسمه، وهو قوله زيد بن علي عليهما السلام، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه؛ لأن أهل الحرب يملكون علينا ما يغلبون عليه من أموالنا، وقد مضى الكلام عليه في باب الزكاة، ولا وجه لإعادته.
قال: وإن عرفه صاحبه فيما يغنم من أهل البغي كان هو أولى به قبل القسمة أو بعدها من غير قيمة، وذلك مما لا إشكال فيه؛ لأن أهل البغي لا يملكون علينا بالغلبة كما يملكه أهل الحرب.
ــ تم بحمد الله ــ