الكتاب : شرح التجريد

ووجهه أن الظهار يصح تعليقه بالوقت؛ بدلالة حديث سلمة بن صخر أنه كان ظاهر من امرأته حتى ينسلخ شهر رمضان، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبو الخبر إلى آخر الحديث، فلما لم يقل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تعليقه بالوقت لا يصح، كان مقاراً له على ما أخبره به من تعليقه بالوقت، وإذا ثبت ذلك، صح تعليقه بالوقت، ووجب أن يصح تعليقه بالشرط كالطلاق والعتاق والإيمان؛ لأن ما جاز تعليقه بالوقت جاز تعليقه بالشرط، ومالم يجز تعليقه بالوقت، لم يجز تعليقه بالشرط، كالنكاح، والبيع؛ لأن الوقت جارٍ مجرى الشرط، وليس يلزم عليه الإجارة؛ لأنها يجب تعليقها بالوقت، ولا يجوز إلا كذلك، ومرادنا بالصحة هو أنه يجوز أن يُعلَّق بالوقت، وأن لا يعلق، فإذا صح ما بيناه من دخول الشرط في الظهار، وجب أن يقع به الحنثِ كما يقع به الطلاق، والعتاق، والأيمان؛ لأن معنى وقوع الحنث في الطلاق والعتاق ليس أكثر من حصول الشرط الذي عُلِّقا عليه، فكذلك الظهار.
مسألة: [في الظهار قبل النكاح]
قال: ولو أن رجلاً قال: إن تزوجت امرأة ـ بعينها، أو لا يعينها ـ فهي عليَّ كظهر أمي، ثم تزوج بها، لم يقع الظهار، إذ لا ظهار قبل النكاح. وهذا منصوص عليه في /178/ (الأحكام) (1) وبه قال الشافعي، قال أبو حنيفه: يكون مظاهراً إذا تزوج بها.
ووجه ذلك ما قدمناه في منع الطلاق قبل النكاح، يكشف ذلك ما أجمعنا عليه نحن وأبو حنيفة من أنه لا ظهار للمشرك، لَمَّا لم يوقع قوله تحريماً ترفعه الكفارة، فوجب أن لا يكون قول الرجل للأجنبية: أنت عليَّ كظهر أمي إن تزوجتك ظهاراً، لأنه قول لا يليه تحريم ترفعه الكفارة، على أنه إذا ثبت بالظواهر التي ذكرناها أنه لا طلاق قبل النكاح، فلم يفصل أحد بينه وبين الظهار، فوجب أن لا يكون ظهاراً قبل النكاح.
مسألة: [في الظهار من أكثر من زوجة]
__________
(1) انظر الأحكام 1/463.

(58/19)


قال: ولو أن رجلاً عنده نساء فظاهر منهن، كفَّر لكل واحدة منهن كفارة، فإن لم يطق العتق عن كلهن، أعتق(1) عن بعضهن، وصام عن بعضهن(2)، فإن لم يطق الصيام عن كلهن، صام عن بعضهن، وأطعم عن بعضهن(3)، وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (4).
أما ما ذكرناه من أنه إذا ظاهر منهن، كفر لكل واحدة منهن كفارة فهو قول زيد بن علي عليهما السلام وبه قال أبو حنيفة، وقول الشافعي: إن كان ظاهر من كل واحدة منهن ظهاراً مفرداً، فأما إن كان ظاهر من كل منهن بكلمة واحدة، فذكر ابن أبي هريرة عنه قولين ـ أحدهما: أن كفارة واحدة تجزي، والآخر: أن عليه لكل واحدة منهن كفارة.
والأصل في ما ذهبنا إليه أن الظهار يوجب تحريم الوطء، فإذا ظاهر منهن، فقد حرم وطء كل واحدة منهن، [وذلك التحريم لا يرتفع إلا بالكفارة، فوجب أن لا يحل له وطء واحدة منهن] حتى يكفر لها كفارة توجب رفع التحريم، ألا ترى أنه إذا طلق عدة من نسائه، لم يرتفع التحريم الواقع إلا بأن يراجع كل واحدة منهن، فكذلك التحريم الواقع بالظهار؛ لأن لكل واحدة منهن تحريماً لا يعم، كالتحريم الذي يحصل بإحرام الرجل وصيامه، على أن الأصول تشهد لذلك؛ لأن كل امرأة حرم وطؤها لأمر يختصها لا يرتفع ذلك التحريم إلا بأمر يختصها، على أن الشافعي لا يخالف فيمن ظاهر من كل واحدة منهن ظهاراً منفرداً أن عليه لكل واحدة منهن كفارة منفردة، فكذلك إذا ظاهر منهن بكلمة واحدة، والمعنى أنه مظاهر منهن.
__________
(1) في (أ): عتق عن بعض.
(2) في (أ): بعض.
(3) في (أ): بعض.
(4) انظر الأحكام 1/463.

(58/20)


وقلنا إنه إن لم يطق العتق عن كلهن، أعتق عن بعضهن، وصام عن بعضهن، وكذلك الإطعام؛ لأن الله تعالى أوجب التكفير بالعتق، وأجاز العدول عنه لمن لم يجد إلى الصيام سبيلاً، وأجاز العدول عن الصيام لمن لم يستطع إلى الإطعام سبيلاً، وإذا(1) أعتق عن واحدة، ولم يجد رقبة أخرى، جاز له العدول إلى الصيام، كما لو لم يجد الرقبة الأولى، كان له العدول إلى الصيام، وكذلك إذاصام عن واحدة، ثم لم يستطع، جاز له العدول إلى الإطعام.
مسألة: [في تكرار الظهار]
قال: ولو أن رجلاً ظاهر عن امرأته مرات كثيرة، أجزته عن جميعها كفارة واحدة، إن لم يكن كفَّر بينهن، فإن كان ظاهر، ثم كفر، ثم ظاهر، وجب عليه كفارة بعد كفارة عن كل ظهار، قل عدده، أو كثر. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، قال أبو حنيفة عليه لكل ظهار كفارة إلا أن يكون نوى بالثاني الأول، وهذا هو القول الجديد للشافعي، وقوله القديم مثل قولنا، وقال زيد بن علي عليهما السلام: إن كان قال ذلك في مجلس واحد، ففيه كفارة، وإن قاله في مجالس شتى، فلكل ما قاله في مجلس كفارة.
ووجه ما ذهبنا إليه أنه لا خلاف في أنه لا فصل بين أن يقول الرجل لزوجته أنت طالق، وبين أن يقول أنت طالق، أنت طالق في أن الرجعة الواحدة تكفي لرفع ما حصل من التحريم، فوجب أن لا يكون فصل بين قوله أنت عليَّ كظهر أمي، وبين أن يقع ذلك مكرراً، في أن الكفارة الواحدة تكفي في رفع ما وقع من التحريم، والعلة أنه لفظ له مدخل في تحريم الوطء، فوجب أن يكون تكريره لايوجب تكرير ما يرفع التحريم، ويدل على ذلك أيضاً أنهم لا يختلفون في أن من كرر الظهار، وأراد بالثاني /179/ والثالث الأولَ، فليس عليه إلا كفارة واحدة، فكذلك إن نوى ظهاراً بعد ظهار،
__________
(1) في (أ): فإذا.
(2) انظر الأحكام 1/463 ـ 464.

(58/21)


والمعنى أنه كرر لفظ الظهار من غير إن كان كفر ما تقدم، فوجب أن تجزئه كفارة واحدة، يؤكد ما ذكرناه أنا وجدنا في الأصول كل لفظة ترفع حكماً، فلا تأثير لتكريرها ما لم يكن إرتفاع حكم اللفظة الأولى، كلفظ البيع، والهبة، والوقف، والإجارة، والنكاح، والطلاق، والعتاق، فإذا ثبت ذلك، وجب ألا يكون لتكرير الظهار من بقاء حكم اللفظ الأول منه تأثير، وإذا لم يكن له تأثير، لم يجب له الكفارة؛ لأنه يكون كظهار الصبي والمجنون والمشرك، ويشهد لقياسنا أيضاً الإحداث، ألا ترى أن الحدث لما منع من الصلاة إلا بعد التطهر، كان الحدث الواحد كالأحداث الكثيرة في أن الطهارة الواحدة ترفع أحكامها، وكذلك الإجتناب لما كان مانعاً من الصلاة إلا بعد الإغتسال، كان لا فصل بين أن يحصل مرة أو مرات، كذلك حصول الحيض، والجنابة، على أن قياسنا ينقل حكمها بالكفارة الواحدة عما كانت عليه من تحريم وطئها، فكان أولى، على أن قياسنا يستند إلى ظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}، لأنه يوجب كفارة واحدة، ولم يستثن من كرر القول ممن أفرده، وكذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أمر أوس بن الصامت، وسلمة بن صخر، بالكفارة لم يأمر إلا بكفارة واحدة من غير أن يستعلم منهما التكرار للظهار أم لا، فكل ذلك يوضح صحة ما ذهبنا إليه.
فأما إذا ظاهر منها، ثم كفر، ثم ظاهر، فلا خلاف أن عليه كفارة أخرى، ولأنه لما كفر إرتفع التحريم الأول، فأوجب القول الثاني تحريماً ثانياً لا يرتفع إلا بالكفارة، وكذلك إن تكرر، ألا ترى أنه إذ طلق ثم راجع، ثم طلق، لم يرتفع حكم الطلاق الثاني إلا برجعة ثانية، وكذلك من باع شيئاً، ثم ملكه، ثم باعه ثانياً، افتقر إلى ما يعيده في ملكه ثانياً، وعلى هذا سائر الأصول.
مسألة: [في عتق المظاهر لمدبره كفارة له]

(58/22)


قال: ولا بأس أن يعتق الرجل مدبرة في كفارة الظهار. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
ووجهه أن المدبر عبد عَقْد رقه باقٍ. كما كان، وإن منعنا بيعه على بعض الوجوه، ألا ترى أنا نجيز بيعه في الدَين ولغيره من الضرورات، فإذا كان ذلك كذلك، جرى عتقه مجرى عتق سائر الأرقاء في أنه يجب أن يكون مجزئاً في الكفارة.
مسألة: [في ظهار غير المسلم]
قال: ولو أن كافراً ظاهر من امرأته، لم تلزمه الكفارة تخريجاً، وهذا مما دل كلامه عليه في (الأحكام)، وهكذا خرجه أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى في (النصوص)، وبه قال أبو حنيفة، قال الشافعي: يصح ظهاره.
ووجهه ما ذهبنا إليه أن الكفارة لا تصح من المشرك؛ لأن من شرط أدائها الإيمان، فإذا ثبت ذلك، وجب أن يكون قوله لزوجته أنت عليًّ كظهر أمي لا يوجب تحريماً ترفعه الكفارة، فوجب ألا يكون ذلك ظهاراً، ولا تلزمه الكفارة، دليله لو قال لأجنبية، أو لأمته، ألا ترى أن ذلك لما لم يوقع تحريماً ترفعه الكفارة لم يكن ظهاراً، وإذا قاله المسلم لزوجته، ووقع به تحريم ترفعه الكفارة، كان ظهاراً، على أن الأصل ألاَّ ظهار، وأن الكفارة غير واجبة، وأن الوطء غير محرم، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ}، فجعل الخطاب لنا دون المشركين، على أن قوله بعد ذلك: {مَا هُنَّ أُمُّهَاتِهِمْ}، قد علمنا أن المشرك والمسلم فيه سواء، فلم يبق لتخصيصنا بقوله تعالى: {الَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ}، فائدة إلا تخصيصنا بحكمه.
__________
(1) انظر الأحكام 2/177.

(58/23)


باب القول في الإيلاء
[مسألة: في كيفية الإيلاء ومدته]
إذا آلى الرجل من امرأته، وهو أن يحلف بالله تعالى ألا يجامعها أربعة أشهر فما فوقها تُرك أربعة أشهر، ثم وقفه الإمام، وقال له فء إلى زوجتك، وكفر يمينك، أو طلقها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
لا خلاف أنه إذا حلف ألا يجامعها أكثر من أربعة أشهر يكون /180/ مولياً وإذا حلف أن لا يجامع امرأته أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً، إلا ما حكي عن قوم من المتقدمين أنهم جعلوا الإيلاء صحيحاً، وإن كان بدون أربعة أشهر.
وإنما الخلاف الآن إذا حلف على أربعة أشهر فقط، فإن أبا حنيفة يجعله مولياً، والشافعي يخالف فيه، وكذلك مالك.
والذي يدل على أنه مولٍ قوله تعالى: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ..} الآية، فجعل سبحانه هذه الأحكام جارية على كل مول من امرأته من غير اشتراط المدة، فوجب أن يكون كل حالف داخلاً فيه، قلَّت مدة حلفه أم كثرت إلا، ما منعه الدليل، لأن الألية في اللغة هي: الحلف، فكل حالف مول، فلما ثبت أن من حلف أن لا يجامعها أقل من أربعة أشهر ليس بمول حكماً، خصصناه للدلالة، وبقي الباقي على حكم العموم.
فإن قيل: الإيلاء وإن كان في اللغة على ما ذكرتم، فإن الشرع قد أكسبه حكماً وصفة لم تكن في اللغة، فمن أين لكم أن الحالف على دون أربعة أشهر يكون مولياً حتى يصح ما ادعيتم من تناول الظاهر له؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/433.

(59/1)


قيل له: الشرع وإن جعل له حكماً زائداً، فلم يمنع أن يكون اسماً لكل حلف، فالواجب على هذا أن يعتبر ما يقتضيه الشرع، والشرع لم يقصره على مدة دون مدة، وإنما دل الإجماع على أن أحكام الإيلاء لا تتوجه على من آلى بدون أربعة أشهر، فيجب أن نقول به، ونقول فيما زاد على ذلك بما اقتضاه العموم، وليس كمخالفنا أن يقيس أربعة أشهر على مادونها إلا ولنا أن نقيسها على ما فوقها، ثم يكون قياسنا أولى؛ لإستناده إلى الظاهر؛ لأنه يفيد شرعاً وينقل.
فإن قيل: فأنتم تقولون بالوقف في الإيلاء، ولا وقف إلا بعد مضي أربعة أشهر، ولا وجه للوقف مع إنقضاء مدة اليمين.
قيل له: لسنا نسلم أنه لاوقف إلا بعد إنقضاء مدة اليمين، بل هو واجب متى دل الشرع عليه، ألا ترى أنه قد يطالب بالفيء، وإن لم يقتضِ الفيء حنثاً، وذلك إذا كان المولي ممنوعاً من الوطء لمرض أو نحوه فإنه يفيء بلسانه، ومع هذا لا يحصل حانثاً، فبان أن حكم الوقف لا يتعلق باليمين. وإذا جاز ذلك، لم يمتنع أن يوقف بعد مضي مدة اليمين حتى يفيء أو يطلق، وإن كان فيؤه لا يقتضي حنثاً.
وهذا الذي ذهبنا إليه هو قول علي عليه السلام، رواه زيد بن علي، عن أبيه عن جده، عن علي عليه عليهم السلام قال: الإيلاء: القسم، وهو الحلف، فإذا حلف الرجل أن لا يقرب امرأته أربعة أشهر أو أكثر من ذلك، فهو مول، وإذا كان دون أربعة أشهر، فليس بمول، وروي نحوه عن ابن عباس.
مسألة: [في وقف المولى بعد مضي أربعة اشهر]
والوقف ما ذهبنا إليه من أن الإمام يقفه بعد مضي أربعة أشهر حتى يفيء، أو يطلق، وهو المحفوظ عن علماء أهل البيت عليهم السلام، وبه قال مالك، والشافعي، وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام، رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال كان يوقف المولي بعد مضي أربعة أشهر فيقول: إما أن يفيء، وإما أن يطلق.

(59/2)


قال أبو حنيفة يقع الطلاق بمضي المدة، وروي ذلك عن ابن مسعود، والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ..} الآية.
ووجه الإستدلال منه هو أنه تعالى جعل لهم الفيء على الإطلاق، ولم يشترط لذلك قبل المدة ولا بعدها، فكان بعد المدة وقتاً له، كما أنه قبل المدة وقت له، بدلالة أنه يجوز أن يؤكد له ما قبل المدة، كما يجوز أن يؤكد ما بعدها، ويجوز أن يستثني ما بعد المدة، كما يجوز أن يستثني ما قبلها، فلما ثبت أن بعد المدة تمت إلى الفيء، كما تمت قبل المدة، علُم أن الجميع وقت له، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن الطلاق لا يقع بإنقضاء المدة، إذ وقوع الطلاق يمنع الفيء، فثبت بذلك ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: فلو صح الفيء بعد المدة كما يصح قبلها، لم يكن لضرب المدة معنى.
قيل له: يكون له معنى صحيح، وفائدة ظاهرة(1)، وذلك أن الفيء قبل المدة جائز غير واجب على الزوج، ولا يجوز أن يطالَب به، وبعد المدة يصير خارجاً عن الجواز إلى الوجوب ويتوجه المطالبة به على الزوج، وهذا مثل أن يشتري الرجل /181/ شيئاً مؤجلاً إلى شهر، ألا ترى أن توفية الثمن في الشهر وبعد الشهر صحيحة، إلا أنها قبل إنقضاء الشهر تكون جائزة، وبإنقضاء الشهر تكون خارجة عن الجواز إلى الوجوب، ويصح المطالبة به، فيكون ذلك فائدة ضرب الأجل، فكذلك القول في فائدة ضرب مدة الإيلاء.
فإن قيل: فإن الله تعالى جعل للمولي تربص أربعة أشهر، وأنتم إذا جعلتم له الفيء بعد المدة، فقد زدتم في المدة التي ضربها الله تعالى وحدَّها.
__________
(1) في (أ): صحيحه.

(59/3)


قيل له: لسنا نزيد في هذه المدة؛ لأن المدة مضروبة لامتناع توجه المطالبة بالفيء عليه لا لوقوع الفيء، فنحن إذا قلنا: إن المطالبة تصح بعد المدة لا يكون زيادة في المدة، ألا ترى أن من لزمه أداء المال بعد شهر إذا قلنا إن التوفية تكون بعد إنقضاء الشهر، لا تكون زيادة في مدة الأجل، فكذلك لا نكون زدنا في مدة الإيلاء إذا جوزنا الفيئة بعد المدة، على أن المخالف يقول: إن أجل العِنِّين حول، وتخير المرأة بعد الحول، وليس يقول: إن ذلك زيادة في المدة، فكذلك ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}، بعد قوله سبحانه: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَربُّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}، يدل على أن الفيء يجب أن يكون بعد الإيلاء؛ لأن الفاء توجب التعقيب.
قيل له: لا فصل بينك وبين من يقول(1): إنه يجب أن يكون بعد مضيِّ مدة تربصٍ؛ لأن الفاء توجب التعقيب، ألا ترى أنه قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}، بعد قوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
فإن قيل: قد ثبت أن الفيء مراداً قبل مضي المدة.
قيل له: وما في ذلك ما يمنع كونه مراداً بعدها، على أن قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} يدل ظاهره على أن هناك مسموعاً يتعلق به الحكم، وهذا يدل على أنه لا بد من الطلاق إن لم يكن فيء.
فإن قيل: إن هذا لا يجب؛ لأن الله تعالى قال: {وَقَاتِلُوا فِيْ سَبِيْلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ}، وليس هناك مسموع يتعلق به الحكم؟
__________
(1) في (أ): قال.

(59/4)


قيل له: نحن قلنا: إن الظاهر يقتضي ما قلناه، ولم نقل: إن خلافه يستحيل، ألا ترى أن قول من يقول: أما علمت أن فلاناً يسمع، يدل على أن هناك مسموعاً، وقوله: أما علمت أن فلاناً يرى، يدل على أن هناك مرئياً، على أن الله تعالى قال: {إِذَا لَقِيْتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}، وقال أيضاً: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ}، فقد صح أن عند القتال مسموعاً يتعلق به الأمر، ومسموعاً يتعلق به النهي، فيسقط ما سألوا عنه.

(59/5)


ومما يدل على ذلك ما أجمعنا عليه من أن من آلى من امرأته دون أربعة أشهر، لا يقع عليها الطلاق بالإيلاء، وانقضاء المدة، فكذلك من الأربعة الأشهر، والعلة أنه مُولٍ، وكل مولٍ لا يقع طلاقه بالإيلاء، وانقضاء المدة، وليس لهم أن يمتنعوا من إجراء سمة المولي على من آلى دون أربعة أشهر؛ لأنا أردنا المولي من طريق اللغة، ولا إشكال أن الألية في اللغة اسم للحلف، وأن كل حالف مولٍ في اللغة، على أنا لو عدلنا عن اسم المولي إلى اللغة لاتَّسقَ الكلام، وزال الشغب، وأيضاً لما ثبت أن الإيلاء لا يقع به طلاق معجل، لم يجز أن يقع به طلاق مؤجل، قياساً على سائر الأيمان، وعلى سائر ماليس بصريح في الطلاق، ولاكناية، على أن الطلاق لو وقع، لم يكن الموجب لإيقاعه إلا اليمين نفسها، أو انقضاء المدة المحلوف عليها، أو انقضاء أربعة أشهر، ولا يجوز أن يكون الموجب لإيقاعه هو اليمين؛ لأن اليمين لا مدخل لها في إيقاع الطلاق، ولأنها لو كانت توقع الطلاق لوجب أن تطلق المرأة في الحال إذا قال لها: والله لا أجامعك من غير ذكر المدة، ولا يجوز أن يكون لانقضاء المدة المحلوف عليها؛ لأن ذلك لو وجب لوجب أن يقع الطلاق بانقضاء ثلاثة أشهر إذا حلف عليها بانقضاء سنة إذا حلف عليها، ولأن مرور الزمان لا يوقع الطلاق، فكذلك لا يوجب ذلك انقضاء أربعة أشهر، كما لا /182/ يوجبه انقضاء ما زاد عليا أو نقص منها، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن الطلاق لا يقع مالم يوقعه المالك للبضع.
فإن قيل: إن مرور الزمان قد يوقع البينونة، ألا ترى أن من طلق امرأته تطليقة واحدة رجعية تَبِينُ الزوجة منه بانقضاء زمان العدة، فما أنكرتم أن يكون ذلك سبيل زمان الإيلاء؟

(59/6)


قيل له: عندنا أن الموقع للبينونة هو الطلاق، وإن وقعت بشرط انقضاء زمان العدة، وقد بينا أن ذلك لا يصح أن يقال في اليمين، فلا يصح أن يقال: إن مرور الزمان شرط فيه، على أن ما كان إجماعاً لأهل البيت عليهم السلام، أو قولاً لأمير المؤمنين عليه السلام، فلا يجوز عندنا خلافه، على أن الأصل أن النكاح ثابت فلا يرتفع إلاَّ بالدليل، فوضح بجميع ذلك ما ذهبنا إليه.
مسألة: [في حبس الإمام للْمُولى]
قال: فإن أبى(1)، حبسه الإمام، وضيَّق عليه حتى يفيء، أو يطلق. وهذا منصوص عليه في (الإحكام) (2). وبه قال الشافعي في أحد قوليه، وله قول آخر، وهو أن الإمام يضيق عليه إن أبى.
ووجهه: ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه كان يقف المولي بعد أربعة أشهر فيقول: إما أن يفيء، وإما أن يطلق.
وفي حديث ابن ضميرة(3)، عن إبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه كان يقول: إذا آلى الرجل من امرأته، لم يقع عليها طلاق، وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف، فإما أن يطلق، وإما أن يفيء.
__________
(1) في (أ): فإن امتنع ورأى حبسه الإمامُ حبَسه حتى يفيء.
(2) انظر الأحكام 1/433 ـ 434.
(3) في (ب): ابن أبي ضميرة.

(59/7)


وأيضاً لا خلاف أن الإمام لا يُطَلِّق على غير المولي، فكذلك لا يطلق على المولي، والمعنى أنه تفريق بطلاق، وكل تفريق بطلاق لا يلزم أحداً كرهاً، على أنا وجدنا الأصول شاهدة لذلك، وهو أن الحاكم قد يزوج الصغير ولا يُطلِّق عليه، والسيد يزوج عبده عند كثير من العلماء ولا يُطلِّق عليه، على أن الله تعالى جعل الخيار للزوج بقوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}، فلو جعلنا للإمام أن يطلق عليه، كنا قد أوجبنا قطع خياره، وذلك خلاف الآية، على أنه لا خلاف أنه ليس للإمام أن يفيء عنه قولاً، فكذلك ليس له أن يطلق عنه، والعلة أن كل واحد منهما حق على الزوج اقتضاه الإيلاء، فلم يجز أن يتولاه الإمام بغير إذنه، وليس لهم أن يقولوا إن الفيء لا يتأتى منه؛ لأن الفيء بالقول يتأتَّى منه، ولا خلاف أيضاً أن من ضار امرأته بترك الإنفاق عليها أن الإمام لا يطلِّق عليه، فكذلك المولي، والعلة أن له العدول عن الطلاق إلى غيره.
مسألة: [متى يقف الإمام المولى؟]
قال: ولا يقفه الإمام قبل مضي أربعة أشهر، وإن مضت أربعة أشهر ومضى بعدها زمان طويل لم يُرفع إلى الإمام، وقفه الإمام متى رفع إليه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، ولا خلاف في ذلك بين الذين قالوا بالوقف.
والأصل فيما قلناه من أنه لا يوقف قبل مضي أربعة أشهر قول الله تعالى: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}، فلو وقفناه قبل مضي هذه المدة، كنا قد حرمناه ما جعلت الآية له من تربص أربعة أشهر.
__________
(1) انظر الأحكام 1/433 ـ 434.

(59/8)


ووجه ما ذكرناه من أنه إذا لم يُرفع إلى الإمام بعد مضي أربعة أشهر، وقفه متى رفع إليه، ثبت أنه حق ثبت للمرأة بعد انقضاء هذه المدة فلها المطالبة به متى شاءت، كسائر حقوقها، وسبيل ما ذكرناه أن يكون للرجل حق على آخر مؤجل إلى شهر، ألا ترى أنه لا يجوز لصاحب الحق المطالبة له قبل مضي الشهر، وله /183/ المطالبة بعد مضي مدة الأجل أي وقت شاء، وأنه متى رفع إلى الإمام، طالبه به، وروى أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى في (النصوص) بإسناده عن علي عليهم السلام أنه وقف رجلاً آلى من امرأته بعد سنة.
مسألة: [في معنى الفيء]
قال: والفيء هو أن يجامع، أو يقول بلسانه: قد فئت ورجعت عن يميني، إن لم يستطع الجماع لمرض، أو سفر. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) ومروي عن القاسم عليه السلام، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وذلك لقول الله تعالى: {فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}، والفيء هو الرجوع، فإذا رجع عن يمينه بالقول، دخل في العموم.
قإن قيل: فهذا يوجب أن الرجوع باللسان يكفي، وإن قدر على الجماع.
__________
(1) انظر الأحكام 1/434 ـ 435.

(59/9)


قيل له: هذا هو حكم الظاهر، لكنْ لما أجمعوا على أن الفيء باللسان مع القدرة على الجماع غير كافٍ، قلنا به، وأيضاً لما وجدنا المولي له الخيار بين الفيء والطلاق في إسقاط حكم الإيلاء ، وكان يصح وقوع الطلاق من جهة القول، وجب أن يصح وقوع الفيء من جهة القول، والمعنى أن كل واحد منهما مما جعل للمولي إختياره، وليس لأحد أن يقول : إن قولكم في الطلاق إنه من جهة القول لا معنى له؛ لأنه لا يصح إلا من جهة القول، وما كان كذلك، لم يعبر عنه بأنه يصح، بل يعبر عنه بأنه يجب، وذلك أن الطلاق(1) يصح وقوعه بالكناية دون القول، فصح ما أطلقناه من العبارة، على أنه قد ثبت عندنا وعند أبي حنيفة أنه يقع القول في الرجعة موقع الوطء، فوجب أن يقع ذلك موقع الوطء في الإيلاء، والمعنى أن كل واحد منهما رجوع من الزوج في حكم ما ألزم نفسه في النكاح، وأيضاً لا خلاف أن الحاكم لا يطالبه بالوطء للمرأة في مجلس الحكم، ولا في الحبس الذي معه فيه غيره، وأنه إذا قال: قد فئت، يؤجَّل حتى ينصرف إلى موضعها، فيقع القول إذ ذاك موقع الوطء، وكذلك إذا كان مريضاً أو مسافراً، والعلة أن له عذراً في ترك الوطء وكل مولٍ له عذر في ترك الوطء، قام فيه القول مقام الوطء في اسقاط المطالبة عنه بالفيء.
مسألة: [في الفيء قبل انقضاء المدة]
قال: وإذا آلى الرجل من امرأته أربعة أشهر، ثم أراد أن يفيء قبل مضي أربعة أشهر، ولم يقدر على الجماع، فاء بلسانه، وإن قدر على الجماع، لم يجز أن يؤخر ساعة. وإن كانت المسألة بحالها، لكنْ أراد أن يفيء إليها بعد مضي أربعة أشهر، لم يضيق عليه تأخير الجماع بعد القدرة عليه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، ونص فيه أيضاً على أنه إن كان آلى منها عشرة أشهر، كان القول فيها في هذا الباب كالقول إذا آلى أربعة أشهر.
__________
(1) في (أ): الطلاق وقوعه.
(2) انظر الأحكام 1/435.

(59/10)


ووجه ما ذكرناه أن حكم الإيلاء يقوى مع بقاء مدة اليمين، فلهذا قال: إنه إذا(1) قدر على الجماع بعد الفيء باللسان في المدة، لزمه الجماع، ولم يجز تأخيره، وأنه بتأخيره يكون مبطلاً للفيء الذي أتى به بلسانه، ألا ترى أن التيمم لما قام مقام الماء عند الضرورة، كان التمكن من الماء يُبطل حكم التيمم، ألا ترى أنه لو تمكن من الماء بآخر وقت الصلاة، لم يجز له تأخير الوضوء؛ لتأكد حال وجوبها في الوقت، وكذلك قال أصحابنا: إن الخطأ في القبلة وما جرى مجراها يوجب الإعادة متى علمه(2) في الوقت، ولا يوجب الإعادة متى لم يعلم به إلا بعد تصرم الوقت، لَمَّا كان تأكد وجوبها في الوقت أقوى، وأما(3) بعد انقضاء مدة اليمين، فيجب أن يكون حكم الإيلاء أخف، فلذلك(4) أجزنا تأخير الوطء إذا قدر عليه بعد(5) الفيء /184/ بلسانه؛ لتعذر الوطء، على أن ما ذهبنا إليه من أنه لا يجوز له تأخير الوطء لمدة اليمين إذا قدر عليه بعد الفيء بلسانه مما لا خلاف فيه.
فإن قيل: فَلِمَ قلتم إن حكم الإيلاء مع بقاء مدة اليمين أقوى؟
قيل له: لوجهين: ـ
أحدهما: أن بقاء حكم الإيلاء مما أجمع عليه قبل مضي أربعة أشهر، وأجمع القائلون بالوقف عليه بعد انقضاء أربعة أشهر، فصار أقوى.
والثاني: أن الإيلاء في الأصل تعلق حكمه في الحنث، ووجوب الكفارة، وإن قلنا نحن: إنه قد يحصل حكمه مع إرتفاع حكم الحنث ووجوب الكفارة، إلا أنه فرع على ذلك الأصل، فالأصل إذاً يجب أن يكون أقوى .
مسألة: [فيمن آلى ثم طلق وراجع في مدة الإيلاء]
__________
(1) في (أ): أن.
(2) في (ب): علم به.
(3) في (أ): فأما.
(4) في (ب): فكذلك.
(5) في (أ): بعدما فاء بلسانه.

(59/11)


قال: ولو أن رجلاً آلى من امرأته، ثم طلقها، ثم راجعها قبل انقضاء مدة الإيلاء، وجب أن يوقف بعد انقضاء أربعة أشهر، وكذلك لو تزوجها ثانياً، وجب أن يوقف بعد انقضاء أربعة أشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق ثانياً. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) ونص في (المنتخب)(2) على نحوه.
ووجه ما ذكرناه، أنه إذا راجعها، وتزوجها ثانياً مع بقاء مدة الإيلاء، رجع عليه حكم الإيلاء: حصول النكاح بكماله في مدة الإيلاء، ألا ترى أنه وجب أن يوقف قبل الطلاق لحصوله مولياً مع بقاء كمال النكاح، بدلالة أنه لو آلى منها، ثم طلقها، لم يوقف، فإذا ثبت ذلك، بان أن وجوب الوقوف كما ذكرناه، فلا فصل إذاً بين إبتداء الحال في ذلك وبين العود إليها، ونص أيضاً في (المنتخب) (3) على أنه لو طلقها ثانياً بعد المراجعة الأولى، ثم راجعها ثانياً في مدة الإيلاء، وجب أن يوقف.
وظاهر كلامه في (المنتخب) يدل على انه لو طلقها ثلاثاً، ثم نكحت زوجاً غيره، ثم طلقها، ثم تزوجها الأول مع بقاء مدة الإيلاء، رجع عليه حكم الإيلاء، وبه قال زفر، حكاه عنه أبو الحسن الكرخي في (المختصر).
قال أبو حنيفة: لا يرجع عليه حكم الإيلاء بعد الطلاق الثلاث.
ووجهه ما بيناه من تعلق ذلك بحصول النكاح في مدة الإيلاء.
مسألة: [في الفيء قبل انتهاء المدة]
قال: ومن فاء إلى زوجته قبل انقضاء المدة التي حلف عليها، لزمه تكفير يمينه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4) و(المنتخب) (5)، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً بين عامة العلماء، وحكي عن الحسن أنه لا كفارة عليه بقوله تعالى: {فَإِنْ فَاؤُا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}.
__________
(1) انظر الأحكام 1/435.
(2) انظر المنتخب 159.
(3) انظر المنتخب 160.
(4) انظر الأحكام 1/433.
(5) انظر المنتخب 159.

(59/12)


والأصل فيه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من حلف على شيء، ثم رأى غيره خيراً منه، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه) وقد قال الله تعالى: {لاَ يُؤَآخِذْكُمُ اللَّهُ بِالْلَّغْوِ فِيْ أَيْمَانِكِمْ}.
مسألة: [فيما ينعقد به الإيلاء]
قال: ولو حلف بطلاق امرأته ألا يجامع امرأته لم يكن ذلك الإيلاء(1)، ولا يكون الإيلاء إلا إذا حلف بالله. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2)، ودل عليه كلامه في (الأحكام) (3)، وبه قال الشافعي في القديم ، وقال في الجديد: يكون مولياً بالطلاق، والعتاق، والنذر، وبه قال أبو حنيفة إلا في الصلاة، فإنه إن قال: لله عليَّ(4) أن أصلي إن جامعتك، لم يكن عنده إيلاء، وذكر أبو بكر الجصاص أن القياس يقتضي أنه لا يكون مولياً إلاَّ إذا حلف بالله.
والأصل في ذلك: قول الله تعالى: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُوْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} والألية هي اليمين في اللغة، وقد قال الله تعالى بعد ذكر الكفارة: {ذَلِكَ كَفَارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}، واليمين الذي(5) يكون ذلك كفارة لها هي اليمين بالله تعالى.
__________
(1) في (أ): إيلاء.
(2) انظر المنتخب 160.
(3) انظر الأحكام 1/433.
(4) في (ب): عليه.
(5) في (أ): التي.

(59/13)


ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على أمر، فرأى غيره خيراً منه، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه)، فدل ذلك على أن اليمين هي التي تتعلق بها الكفارة لإيجابه صلى الله عليه وآله وسلم الكفارة على كل حالف خالف ما حلف عليه، وليس /185/ ذلك إلا اليمين بالله، فكل ذلك يبين أن اليمين في الشرع الحلف بالله دون ما عداه، ويبين ذلك أيضاً أن المفهوم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه)) هو اليمين بالله تعالى على عرف الشرع، فإذا ثبت ذلك وجب أن يحمل قوله تعالى: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}، على الحلف بالله تعالى دون ما عداه.
فإن قيل: فقد يقال: إن فلان حلف بالطلاق وبالعتاق وبصدقة ما يملك ونحوه، ويجري عليه اسم الحالف، وقد ذكر ذلك صاحبكم في كتبه وذكرتموه؟
قيل له: نحن لا نمنع أن يجري ما ذكرتم من اسم الحالف واليمين، ولكن ذلك على ضرب من التجوز، لأن جميع ذلك ليس بيمين في الحقيقة، وإنما هو طلاق مشروط، أو عتق مشروط، أو صدقة مشروطة، وما ذكرتم من أن فقهاءنا وفقهاءهم قد استعملوا ذلك وأطلقوه في الكتب، فهو صحيح، إلا أنه لايمنع أن يحصل للفقهاء عرف في بعض الألفاظ فيشيع استعماله فيهم، كما يتفق ذلك باصطلاح المتكلمين والنحاة وغيرهم، ولا يجوز أن يحمل على شيء من ذلك خطاب الله سبحانه وتعالى ولا خطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يجب حملهما على صريح اللغة، أو عرفها، أو عرف الشرع، وقد ثبت أن الشرع قد اقتضى أن يكون اسم اليمين على الإطلاق يتناول اليمين بالله تعالى، فوجب أن يحمل عليه خطاب الله دون ما سواه،
ومما يدل على ذلك أنه لا خلاف في أن من حلف بالكعبة، أو بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يكون مولياً، فكذلك من حلف بالطلاق والعتاق والحج وغير ذلك،

(59/14)


والعلة أنه حلف بغير الله تعالى فوجب أن لا يكون مولياً، على أن أبا حنيفة لا يخالف في أن الرجل لو قال: إن جامعتك، فعليَّ كذا ركعة من الصلاة، أنه لا يكون مولياً، فكذلك سائر ما ذكرناه للعلتين اللتين ذكرناهما ، وحكي عن مالك أنه قال: إذا حلف أن لا يجامعها غير قاصد إلى مضارتها كأن يكون بها علة تصده عن الجماع ونحوه، فإنه لا يكون مولياً، فيمكن أن يقال(1): إنه إذا حلف بالطلاق على هذا الوجه أنه لا يكون مولياً، فكذلك إذا حلف به على غير ذلك الوجه، والعلة ما ذكرناه، والأصول شاهدة لنا؛ لأنا وجدنا كل يمين يحصل بها حكم منفصل عنها، كإسقاط حق المدعي، أو إثبات حق المدعَى عليه، أو لزوم الكفارة، إنما هو اليمين بالله تعالى دون ما عداه؛ لأن الحلف بالطلاق يقع نفسه بحصول الشرط الذي عُلِّق به، وكذلك العتاق والنذر، فلما ثبت ذلك، وجدنا الإيلاء يُثبت حكماً منفصلاً عنه، كالوقف أو الطلاق، وقوعه أو لزومه على حسب الخلاف فيه، وكذلك الكفارة، وجب أن يكون ذلك يميناً بالله تعالى دون ما سواه.
مسألة: [في الإيلاء بغير ذكر المدة]
قال: وإذا حلف الرجل أنه لا يجامع امرأته ولم يذكر المدة، كان ذلك إيلاء. وهذا مما رواه يحيى عليه السلام في (الأحكام) (2) عن القاسم عليه السلام، ودل عليه بقوله: فيه الإيلاء، أن يحلف على أربعة أشهر فما فوقها مع تنصيصه على أن إطلاق اليمين تقتضي التأبيد، والمطلق ليمين الإيلاء مول للتأبيد، فهو مول لأكثر من أربعة أشهر.
__________
(1) في (أ): يقال له.
(2) انظر الأحكام 1/434.

(59/15)


وقال في (المنتخب) (1): إنه إذا(2) أطلق اليمين لم يكن مولياً، وكان أبو العباس الحسني رضي الله عنه: ينصر رواية (المنتخب) ويحمل عليه ما في (الأحكام) والصحيح عندي ما ذكره أولاً، وهو المحفوظ عن الفقهاء؛ لأن الله تعالى قال: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}، فوجب أن يكون ذلك حكم كل مول إلا ما منع منه الدليل، فلما ثبت بالإجماع بأن المولي على أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً، خصصناه، وبَقَّيْنَا ما عداه على حكم الظاهر، والمخالف في هذا لا يجد بداً من أن /186/ يُقدِّر في الآية ما ليس فيها، وهو أن يقول تقديرها للذين يؤلون من نساءهم أربعة أشهر تربص أربعة أشهر وهذا خلاف الظاهر، على أن من يخالف في هذا لا ينكر أن يكون مولياً إذا حلف(3) على أربعة أشهر فما فوقها، فكذلك من أطلق الإيلاء، والعلة أن يمينه تناولت أربعة أشهر فما فوقها.
ووجه رواية (المنتخب) أن الإيلاء معتبر فيه اللفظ، فيمين الْمُطْلق للإيلاء وإن تناولت أربعة أشهر فما فوقها، واقتضت(4) التأبيد، فإنه غير ملفوظ به، فوجب أن لا يقع الإيلاء، ويمكنه أن يفسر ذلك على من آلى دون أربعة أشهر بعلة أنه لم يذكر في الإيلاء أربعة أشهر فما فوقها، فإن حلف على ما دون ذلك، لم يكن مولياً.
مسألة: [في من آلى على دون أربعة أشهر]
قال: ولا إيلاء إلا أن يحلف على أربعة أشهر فما فوقها، فإن حلف على ما دون ذلك، لم يكن مولياً.
__________
(1) انظر المنتخب 159.
(2) في (أ): أن.
(3) في (ب): عكف.
(4) في (ب): ولا اقتضت.

(59/16)


وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب) (2)، وقد بينا فيما مضى أن الرجل إذا حلف على أربعة أشهر فما فوقها يكون مولياً، والمحفوظ عن العلماء أجمع أنه لا إيلاء في أقل من أربعة أشهر، وحكي عن قوم من المتقدمين أنهم جعلوه إيلاء، والإجماع الحاصل بعدهم يسقط ذلك القول على أنه روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام الحديث الذي بينا أنه قال: (إذا كان دون أربعة أشهر، فليس بمول)، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، فوقَّت الله تبارك وتعالى أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه دون ذلك، فليس بإيلاء، وإذا ثبت ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس رضي الله عنه، ولم يرو خلافه عن غيرهما من الصحابة، جرى مجرى الإجماع منهم، على أن ما ثبت عن علي عليه السلام فمن أصلنا أنه لا يجوز خلافه، على أنه قد ثبت أنه لا يلزمه حكم الإيلاء من الوقوف أو الطلاق على حسب الإختلاف فيه إذا حلف على أقل من أربعة أشهر عند انقضاء مدة اليمين ولا قبلها، فوجب ألا يلزمه بعدها، دليله لو حلف أيضاً أن يضارها، أو يسيء عشرتها مدة من الزمان، ألا ترى أنه لما لم يلزمه حكم الإيلاء عند انقضاء مدة يمينه هذه ولا قبلها، لم يلزم بعدها.
__________
(1) انظر الأحكام 1/434.
(2) انظر المنتخب 159.

(59/17)


باب القول في اللعان
[مسألة في شروط المتلاعنين]
اللعان يقع بين الرجل وزوجته إذا كانا حرين بالغين عاقلين مسلمين، أو كانت المرأة حرة، فإن كانا كافرين، أو مملوكين، أو كانت المرأة مملوكة، أو كان أحدهما صغيراً أو مجنوناً، فلا لعان بينهما. نص في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2) في كتاب الحدود على أنه لا حد على من قذف كافراً.
ونص في كتاب الحدود من (الأحكام) (3) على أن الصغيرة إذا قذفها زوجها، فلا حد عليه، لأنها ممن لا يحد فقلنا: إنهما إذا كانا صغيرين، أو كان أحدهما مجنوناً، فلا لعان(4) بينهما. ونص في (الأحكام) (5) و(المنتخب) (6) أن الزوج إذا كان حراً، وزوجته أمة، فقذفها، فلا لعان بينهما، ونص فيهما(7) جميعاً على أن الزوج إذا كان عبداً، وكانت الزوجة حرة، فقذفها، كان بينهما اللعان، إعتباراً بأن يكون الزوج ممن يحد لها إذا قذفها.
والأصل في ذلك: قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسِهِمْ}، بعد قوله: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتُ}.
__________
(1) انظر الأحكام 2/ 268 ، 239.
(2) انظر المنتخب 420 ، 161.
(3) انظر الأحكام 2/268.
(4) في (أ) و (ب): حد وظنن على لعان في الهوامش.
(5) انظر الأحكام 2/269.
(6) انظر المنتخب 420 ، 161.
(7) انظر الأحكام 2/269، والمنتخب 161.

(60/1)


وورد في ذلك ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا الحسين بن يحيى، /187/ حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون، عن أبي مالك الجنبي، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ}، قال عاصم بن عُدي: أرأيت(1) يا رسول الله، لو وجدتُ رجلاً على بطن امرأتي، فقلت لها: يا زانية أتجلدني ثمانين جلدة؟ قال: كذلك يا عاصم نزلت الآية، فخرج سامعاً مطيعاً، فلم يصل إلى منزله حتى استقبله هلال بن أمية، وكان زوج ابنته خولة بنت عاصم، فقال: الشر. قال: وماذاك؟ قال: رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة يزني بها، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره هلال بالذي كان، فبعث إليها، فقال: (ما يقول زوجك)؟ فأنكرت ذلك، فأنزل الله تعالى آية اللعان: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ..} الآية، فأقامه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد العصر على يمين المنبر، فقال: ((ياهلال ائت بالشهادة)) ففعل، حتى قال: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فقالت: يارسول الله كذب، فأقامها مقامه، فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية، وإنه لمن الكاذبين، حتى قالت: والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرَّق بينهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: ((لا تجتمعان إلى يوم القيامة)). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن وضعت ما في بطنها على صفة كذا وكذا، فالولد لزوجها))، وإن وضعته على صفة كذا فهو لشريك بن سحماء، وقد صدق زوجها، فلما وضعت قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لولا كتاب من الله سبق لكان لي فيها رأي))، قالوا: يارسول الله وما الرأي؟ قال: ((الرجم بالحجارة)).
__________
(1) في (ب): قال عاصم بن عدي: يا رسل الله.

(60/2)


فدل الخبر على أن اللعان نزل لرفع الجلد عن الأزواج إذا رموا نساءهم، فوجب أن يكون من لا حد عليه إذا رمى زوجته لم يكن بينهما لعان.
ويدل على ذلك ما روي عن علقمة، عن عبدالله أن رجلاً من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم به جلدتموه، أو قتل، قتلتموه، أو سكت، سكت على غيض، فقال: اللهم افتح، فجعل يدعو فنزلت آية اللعان.
وروي عن عكرمه، عن ابن عباس أن هلال بن أميه لما قذف زوجته عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((البينة، أو جلد في ظهرك))؟ فدل ذلك على أن حد الزوج إذا قذف زوجته كان كحده إذا قذف الأجنبية حتى نزلت آية اللعان، فبان أن اللعان هو لدرء الحد.
وروي عن سعيد بن حبير، عن ابن عباس قال: لما لاعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين امرأة وزوجها فرق بينهما، فلما وضعت الولد وبه شبه ممن قذفت به، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لولا ما مضى من الحد، لرجمتها)) فسمى اللعان حداً، فوجب أن لا يلزم من لا يلزمه الحد، وقد روي: ((لولا كتاب من الله سبق))، وروي: (لولا الإيمان)، ويجوز أن يكون قال: كل ذلك، وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا لعان بين أهل الكفر وأهل الإسلام، ولا بين العبد وامرأته).
فإن قيل: فأنتم توجبون اللعان بين العبد وزوجته الحرة؟
قيل له: نخص ذلك من الخبر بالدلالة.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}، عام في الجميع؟
قيل له: لا ننكر /188/ أن يكون ظاهر الآية(1) يقتضي العموم، لكن يخصها ما بيناه، ويدل على ذلك ما أجمعوا عليه من أن الصبي إذا قذف زوجته قبل أن يبلغ، فلا لعان عليه، وليس لهم أن يقولو إن أفعاله لا حكم لها؛ إذ الحكم يتعلق بجنايته، على أنه إن كان لا يمنع أن يطالب باللعان إذا بلغ، فبان أن سقوط اللعان كان لما ذكرناه.
__________
(1) في (ب): ظاهر الآية العموم.

(60/3)


ويبين ذلك أنه لاخلاف بينا وبين الشافعي أن الزوج إذا إمتنع من اللعان بعد القذف، لزمه الحد ويقول إذا أكذب نفسه، فكشف ذلك أن اللعان بدل من الحد، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن لا حد على من ذكرناهم بما نبينه في كتاب الحدود، ثبت أن لا لعان عليهم.
وأما العبد إذا كانت تحته حرة، والمحدود في القذف، فإن أبا حنيفة يذهب إلى أنه(1) لا لعان عليهما، وأنهما يحدان، وعلل ذلك بأنهما ليسا من أهل الشهادة، فإن اللعان شهادة، وهذا هو(2) عندنا فاسد من وجهين:
أحدهما ـ أن اللعان ليس شهادة، وإنما هو جار مجرى الأيمان، بدلالة أنه لو كان شهادة، لكانت شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، ولا اعتبر فيه العدالة، على أنه يجوز لعان الأعمى، والفاسق، وإن كانت شهادتهما غير جائزة، على أن العبد عندنا، والمحدود في القذف، من أهل الشهادة، وإنما يمنع من شهادة القاذف لفسقه، كما يمنع شهادة سائر الفساق، فإذا أكذب نفسه، وتاب، جازت شهاته فوضح سقوط ما اعتمده في ذلك على أصولنا.
مسألة: [في ما يوجب اللعان]
قال: (ويقع اللعان بين الرجل وزوجته، إذا نفى ولدها، أو بالزنى قذفها، ولم يأت عليها بأربعة يشهدون على لفظه). وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3)، وهذه الجملة مما لا خلاف فيها بين العلماء، وهي دالة على أن من نفى حمل امرأته لم يلاعنها إلا بأن تضع دون سته أشهر؛ ليحصل اليقين بنفي الولد على الحقيقة، وهكذا خرَّجه أبو العباس الحسني رحمة الله عليه في (النصوص)، وهو قول أبو يوسف، ومحمد.
قال أبو حنيفة: لا يلاعن وإن ولدت بعده بيوم، أو أكثر، أو أقل.
وقال الشافعي: يلاعن على الأحوال كلها، وحكي نحوه عن مالك.
__________
(1) في (أ): أن لا.
(2) في (أ): وهو عندنا.
(3) انظر الأحكام 1/470.

(60/4)


فأما الوجه فيما ذهبنا إليه من أنه لا لعان إن جاءت بولد بعد ستة أشهر خلافاً للشافعي، أنه لا يقين بأن هناك ولداً منتفياً، فوجب أن يسقط اللعان؛ لأن اللعان يجب للقذف، أو نفي الولد؛ لِمَا تضمن من معنى القذف، وهاهنا لم يحصل واحد منهما على الحقيقة، وكما لم يعلم أنه ناف للولد، لم يلزمه اللعان، دليله نفي الولد ولا حمل أصلاً بأن تكون المرأة صغيرة، أو آيسة.
فإن قيل: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاعن لنفي الولد، وهي بعد حامل.
قيل له: في الخبر ما يدل على أنه كان قذفها بالزنا صريحاً، ومن فعل ذلك، لزمه اللعان كانت امرأته حاملاً، أو حائلاً؛ لأن اللعان يكون إذ ذاك للقذف بالزنى، لا لنفي الحمل.
فإن قيل: فالحمل محكوم به قبل الولادة بدلالة قوله تعالى: {وَأُوْلاَتِ الأَحْمَالِ أَجَلَهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وقوله: {وَإِنْ كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَانْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وأجمع الفقهاء على ذلك، وأجمعوا أيضاً على أن من إشترى جارية، فشهد النساء أنها حامل، أن للمشتري يردها بالعيب، فإذا ثبت بما بيناه أن الحمل محكوم به قبل /189/ الولادة، لم يمتنع أن يكون لنفيه قبل الولادة حكم.
قيل له: لسنا نمنع(1) مما ذكرتم من أن الحمل يحكم به، وتعلق الأحكام عليه قبل الولادة، إلا أن تلك هي الأحكام التي لا تسقط بالشبهة، ومن حكم اللعان أن يسقط بالشبهة، وإذا سقط، لم يكن كالحمل(2)؛ لأنه قائم مقام البينة في درأ الحد، والحد يسقط للشبهة، وإذا سقط، لم يكن للعان معنى، إذ قد ثبت أنه لدرأ الحد، فوجب أن يفصل بينه وبين سائر الأحكام المتعلقة بالحمل.
فإن قيل: فإن الحمل قد يُتحقق ويُتيقن، فلا معنى لقولكم إن فيه شبهة.
__________
(1) في (أ): نمتنع.
(2) في (أ) و (ب): كالحد، وظنن على كالحمل في هامش.

(60/5)


قيل له لا حمل إلا ويُجَوَّز قبل الولادة أن لا يكون حملاً، وأن يكون ريحاً، أوداء، أو غيره، سيما في الوقت الذي تحصل الولادة بعده لستة أشهر، وإذا كان هذا التجويز قائماً، صح ما بينا من الكلام عليه من أنه لا يخلو من الشبهة.
ووجه ما ذهبنا إليه من أنها إن ولدت لأقل من ستة أشهر من يوم النفي، حصل اليقين بأن النفي صادف الولد؛ لأن أقل الحمل ستة أشهر، فيجري مجرى أن ينفي الولد في انه يجب اللعان له.
فإن قيل: فإن النفي إذا لم يكن قذفاً يوم وقوعه، لم يجز أن يصير قذفاً بعده.
قيل له: لسنا نقول إنه لم يكن قذفاً حين وقع، وإن كنا لم نعلم ذلك إلا بحصول الولادة لأقل من ستة أشهر من يوم النفي، وإذا كان ذلك كذلك، سقط هذا السؤال.
فإن قيل: هو قذف معلق بشرط، فلا يجب أن يتعلق به حكم.
قيل له: ليس الأمر فيه كذلك؛ لأنه نفى الولد نفياً مطلقاً، فكان ذلك قذفاً مطلقاً متى كان هناك ولد منفي على التحقيق.
وقلنا: إن ذلك يلزم إذا لم يكن أربعة يشهدون على لفظه لقوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ..} الآية، فأوجب الحد بشرط أن لا يكون له أربعة يشهدون، واللعان على ما بيناه قائم مقام البينة، فوجب أن لا حد به إذا لم يكن بينة، وبينة القذف شهادة أربعة؛ لما روي أن هلال بن أمية لما قذف زوجته، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((بينتك، أو جلد في ظهرك))، وبينة الزنا إذا أطلقت، عُقل منها أربعة بعرف الشرع، كأنه قال: أربعة يشهدون، أو جلد في ظهرك.
مسألة: [في تراجع أحد الزوجين عن اللعان وفي وعظ الحاكم لهما]
قال: فحينئذٍ يحضرهما الحاكم ثم يقول: خافا ربكما، ولا تُقدما على اللعان، فإن نكل الزوج، ضُرب حد القاذف ثمانين جلدة، وألحق الولد به، وإن مضى الرجل على اللعان، ونكلت المرأة، رجمت.

(60/6)


وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب)(2) غير إلحاق الولد فإنه منصوص عليه في (المنتخب) (3).
قلنا: إن الإمامَ يعظِهما؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: ((إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب، وقال للزوج: إتق الله تعالى، وكذلك قال للمرأة حتى قال لها: إن كنتِ أذنبتِ ذنباً في الدنيا، فإن رجمك بالحجارة أهون عليك من غضب الله تعالى في الآخرة))؛ لأن(4) ذلك من جملة النهي عن المنكر، ومن جملة النصح.
وما قلناه من إلحاق الولد إن نكل الزوج عن اللعان، فمما لا خلاف فيه، ولأن الولد ينتفي باللعان، فإذا لم يقع اللعان، بقي على حكم الفراش.
وما ذهبنا إليه من أن من نكل منهما عن اللعان، أقيم عليه الحد، به قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يحبس الناكل حتى يُقر، فيقام عليه الحد، أو يلاعن.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ..} الآية، فكان ذلك عاماً في الأزواج وغيرهم.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ /190/ أَزْوَاجَهُمْ..} الآية، فاستأنف حكم الأزواج، فلم يجب أن تكون الآية(5) الأولى متناولة للأزواج؟
قيل له: الآية الثانية جعلت للأزواج حجة خصتهم بها، ولم يمتنع أن تكون الآية الأولى متناولة لهم، فإذا قذف الرجل زوجته، ولم يأت بواحدة من الحجتين البينة التي دلت عليها الآية الأولى، أو اللعان التي دلت عليه الآية الثانية لزمه الحد تقتضيه الآية الأولى.
فإن قال قائل: قذف الرجل زوجته أوجب لها عليه حق اللعان، كما وجب(6) الجلد في الأجنبية، وإذا لم يأت به، أجبر عليه بالحبس كسائر الحقوق لها.
__________
(1) انظر الأحكام 1/470.
(2) انظر المنتخب 160.
(3) انظر المنتخب 160.
(4) في (أ): ولأن.
(5) في (أ): الآية متناولة.
(6) في (أ): أوجب.

(60/7)


قيل له: هذا غلط، وذلك أن قذف الزوج عندنا أوجب الحد، كما أوجبه قذف الأجنبي، وإنما ينفصل حال الزوج على الأجنبي فيما يدليان به من الحجة، فجعل للأجنبي إذا قذف أجنبية، وأنكرت المقذوفة حجة واحدة، وهي أربعة يشهدون، وجعل للزوج إذا قذف زوجته حجتان، شهادة أربعة، أو لعان يأتي به.
فأما موجب القذف، فلا فصل فيه بينهما، ويدل على ذلك حديث ابن عباس الذي ذكرناه بإسناده، قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتُ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءٍ}، قال عاصم بن عدي: أرأيت يا رسول الله، لو وجدتُ رجلاً على بطن امرأتي؟ فقلت لها: يازانية، أتجلدني ثمانين جلدة؟ قال: كذلك يا عاصم نزلت.
فدل ذلك على أن قذف الزوجة كقذف الأجنبية في إيجاب الحد.
ويدل على ذلك ما روي أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم به، جلدتموه، أو قَتل، قتلتموه، أو سكت، سكت على(1) غيض؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم إفتح)) فجعل يدعو، فنزلت آية اللعان، فمقارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له على قوله: فتكلم جلدتموه دليل على صحة ما قلناه، وكذلك ما روي عن عكرمة، عن ابن عباس، أن هلال بن أمية لما قذف زوجته عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له(2): ((البينة أو جلد في ظهرك)).
فإن قيل: فكل ذلك قد ورد الأثر به(3) فقد تغير حكمه؟
__________
(1) في (أ): عن.
(2) في (أ): قال.
(3) في (أ): بأنه قد.

(60/8)


قيل له: لم يتغير موجِب القذف، وإنما تغيَّر حكم البينة، فإنه حصل للزوج اللعان بدل إقامة الشهادة على ما سلف القول فيه، ويدل على ذلك أيضاً أنه لا خلاف في الأجنبي إذا قذف أجنبية، ثم لم يأت بحجة، أنه يلزمه الحد، فكذلك الزوج إذا قذف قذغ زوجته، والعلة أنه قاذف لم يأت بحجة، فوجب أن يكون حكمه حكم الأجنبي، والأصول تشهد بصحة قولنا، وذلك أنه لا وجه لأن يكون للإنسان حق المطالبة بما يدخل الضرر على نفسه، ألا ترى أنه إذا لاعنها حقق عليها الزنا.
وأما ما يدل على أن المرأة إذا نكلت عن اللعان بعد لعان الزوج يلزمها الحد قول الله تعالى: {وَيُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِيْنَ..} الآية، فدل ذلك على أنها يُدرأ عنها العذاب بما تأتي به من الإلتعان، فثبت بذلك أن العذاب لازم لها متى لم تلاعن، وهو الحد، ألا ترى أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ادرأوا الحدود بالشبهات)، دال على أن الحد يجب متى لم يكن شبهة /191/ توجب(1) أن يُدرأ بحيث يكون للشبهة مساغ للدرء، فإذا ثبت أن اللعان يوجب درأ العذاب عنها، لزمها العذاب متى لم تلاعن.
فإن قيل: ومن أين لكم أن المراد بالعذاب هاهنا هو الحد، وما تنكرون على من قال لكم: إن المراد به هو الحبس؟
__________
(1) في (أ): فوجب.

(60/9)


قيل له: قلنا ذلك؛ لأن المعهود أولى أن يحمل عليه الخطاب مما لم يكن له عهد، ولم يتقدم في شيء من هذه الآيات إطلاق لفظ العذاب والمراد به الحبس، وقد تقدم إطلاق اللفظ به والمراد به الحد، وهو قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِيْ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَائِةَ جَلْدَةٍ}، إلى قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ}، فكان حمل قوله تعالى: {وَيُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}، على ما تقدم ذكره أولى من حمله على مالم يتقدم ذكره، وقد قال الله تعالى في موضع آخر: {فَإِذَا أُحِصِنَّ فَإِنْ أَتِيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلِيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}، فسمي الحد عذاباً، فأكد ذلك ما ذهبنا إليه.
ويدل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاعن بين هلال بن أمية وزوجته خولة بنت عاصم بن عدي، فوضعت على الصفة المنكرة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لولا كتاب من الله سبق لكان لي فيهما رأي)، قيل: وما الرأي؟ قال: (الرجم بالحجارة)، وفي بعض الأخبار (لو لا الإيمان) وفي بعضها (لو لا الحد) يعني اللعان، فدل ذلك على أنها كانت يلزمها الرجم لولا لعانها، فإذا لم تأت به، وجب ان تُرجم، ولا خلاف أنه لو قذفها وأقام عليها البينة، ولم تُدلِ هي بحجة، أنها(1) يلزمها الحد، فكذلك إذا قذفها ولاعنها وامتنعت هي من اللعان بعلة أن الزوج أقام ما جعل حجة له.
على أن ما ذهبوا إليه من حبسها لِتُقِرَّ بما يوجب الحد، أو تأتي بما يدرؤه عنها(2) لم نجده في شيء من الأصول، بل الأصول شاهدة لنا؛ لأن الواجب في الحدود أن تقام إن وجبت، أو تترك إن لم تجب، فلا يخلو لعان الزوج من أن يكون أوجب عليها الحد، أو لا يكون قد أوجب، فإن كان قد أوجب، فيجب أن يقام متى لم يعرض ما يوجب درؤه، وإن لم يكن قد أوجب، فلا معنى لحبسها.
مسألة: [في ما يوجبه اللعان]
__________
(1) في (أ): أنه.
(2) في (أ): منها.

(60/10)


قال: وإن مضيا على اللعان، فرق الحاكم بينهما، وانتفى الولد عنه.
ما ذكرناه من تفريق الحاكم بينهما منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)، وكلامه يقتضي ما ذكرناه من انتفاء الولد، وهو منصوص عليه في (المنتخب) (3).
ما ذهبنا إليه من أن الفرق بينهما تقع بتفريق الحاكم، به قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، قال الشافعي تقع بنفس اللعان، وهو قول زفر، حكاه أبو الحسن الكرخي في (المختصر).
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن الأخبار الواردة في هذا الباب ناطقة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرَّق بين المتلاعنين، فمنها ما مضى، ومنها: ما أخبرنا به أبو الحسين بن اسماعيل، حدثنا الناصر، حدثنا الحسن بن يحيى الحسيني، حدثنا إبراهيم بن محمد، بن عائد، عن داوود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أخت بني عجلان إذ لاعنت زوجها أن فرَّق بينهما، وجعل لها المهر، ولفظ التفريق إذا استعمل في الشرع على هذا الحد، أفاد قطع أحكام النكاح، فوجب أن يكون ذلك دالاً على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي قطع أحكام النكاح، وفي ذلك دليل على أنها كانت ثابتة حين قطعها صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: فقد يقال: إن الحاكم فرَّق بين فلان وزوجته، وإن لم يكن قطع ما بينهما من النكاح، إذا /192/ منعها منه، فما أنكرتم أن يكون ما رُوي من تفريقه صلى الله عليه وآله وسلم محمولاً على ذلك؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/470.
(2) انظر المنتخب 160.
(3) انظر المنتخب 160.

(60/11)


قيل له: إذا كان استعمال التفريق في عرف الشرع يقتضي ما ذكرناه، فلا يحوز الإنصراف عنه إلى ما سواه إلا بالدليل، والدليل على ذلك: ما رواه أبو داود في (السنن) (1) بإسناده، عن ابن شهاب، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره، أن عويمر العجلاني لما فرغ من لعان امرأته قال: كذبت عليها يارسول الله إن أمسكتها، فطلقها عويمر ثلاثاً، ففي هذا بيان أن التفرقة لم تكن وقعت بنفس اللعان؛ لأنها لو كانت وقعت بنفس اللعان، لم يقاره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قوله: كذبتُ عليها إن أمسكتها، ولا على طلاقه لها؛ لأن ذلك لا يصح أن يقال إلا فيمن يكون له بعد زوجته، وإذا ثبت أن الزوجية(2) لم تكن انقطعت بعدُ بنفس اللعان، ثبت أنها تنقطع بتفريق الحاكم على ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: ولم إدعيتم أن الفرقة لو كانت وقعت بنفس اللعان، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقاره عليه؟
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/280 ـ 281.
(2) في (ب): الزوجة.

(60/12)


قيل له: لأن وقوع الفرقة تقتضي تحريم البضع، وقوله هذا يتضمن إباحة البضع، ولا يجوز أن يسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يستبيح فرجاً محرماً، فلا ينكر عليه، ومما يدل على ذلك أنه لا خلاف بينا وبين الشافعي أن الإيلاء لا يوجب وقوع الفرقة، فكذلك اللعان، والعلة أن كل واحد منهما يمين، وأيضاً وجدنا اللعان تحالفاً بين المتلاعنين، فوجب أن لا يقع الفسخ بنفسه، دليله تحالف المتبايعين، والأصول(1) تشهد لنا؛ لأن اللعان إما أن يكون يميناً، أو يكون شهادة، وقد علمنا أن الأحكام المتعلقة بالأيمان والشهادات من فسخ، أو إثبات، أو غيرهما، لا تحصل بنفس اليمين، ولا بنفس الشهادة، وإنما تحصل بالحكم عند اليمين، أو الشهادة، فوجب أن يكون حكم التفريق الذي يتعلق باللعان، على أن الفرقة تقع عند الشافعي بلعان الزوج قبل لعان المرأة، ولعانه إنما هو تحقيق ما رماها به، وقد علمنا أنه لو حقق ذلك بالشهادة، لم تقع الفرقة، فكذلك إذا حققه بالأيمان، على أن الفرقة لو وقعت بلعان الرجل، لم يكن للعان المرأة معنى؛ لأنها تكون قد صارت أجنبية.
وأما زفر، فإنه يذهب إلى أن الفرقة تقع بفراغ المرأة من اللعان بعد لعان الزوج، فيقال له: إذا لم تقع الفرقة بلعان الزوج، لم يجب أن تقع بلعان المرأة؛ لأن كل واحد منهما لعان، ولأن كل واحد منهما حقق ما ادعاه، وأكذب صاحبه، فلم يجب أن تقع الفرقة، يؤكد ذلك سائر الأصول التي ذكرناها.
فأما انتفاء الولد فالأصل فيه: ما رواه أبو داود في (السنن) بإسناده، عن عكرمه، عن ابن عباس في لعان هلال بن أمية وامرأته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرَّق بينهما، وقضى أن لايدعى ولدها لأب(2).
وفيه حديث ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته ففي زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففرق بينهما وألحق الولد بأمه(3).
__________
(1) في (ب): الأصول.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 2/284 ـ 285.
(3) أخرجه أبو داود في السنن 2/286.

(60/13)


وفي حديث سهل بن سعد، وكان يدعى الولد لأمه(1).
وهذا مما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف أنه ينتفي باللعان، أو ينتفي بالحكم، وذكر أبو العباس الحسني رضي الله عنه أن انتفاء الولد يجب عند يحيى عليه السلام بحكم الحاكم، وأصله ما ثبت من أن التفريق يقع بحكم الحاكم دون اللعان، فإذا ثبت ذلك في اللعان، ثبت مثله في نفي الولد؛ إذ لم يفرق أحد بينهما، ويدل على ذلك قول ابن عباس ففرق رسول الله /193/ صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وقضى أن لا يدعى الولد لأب، فجعل قطع النسب قضاءً، فثبت أنه يثبت بالحاكم، على أنه قياس التفريق بعلة أنه أحد الحكمين المتعلقين باللعان.
فصل: [في أن فرقة اللعان فسخ]
خرَّج أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى أن الفرقة الواقعة باللعان فسخ، وليس بطلاق.
والأصل فيه حديث عكرمه، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [فرق بين هلال بن أمية وزوجته، وقضى أن لا يدعا ولدها لأب، ولا يرمى ولدها، ومن رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحد، وقضى أن لا بيت لها ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها زوجها(2)، فقدصرح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم] (3) قضى أن تفريقهما من غير طلاق، فيجب أن يكون فسخاً.
فإن قيل: ذلك قول ابن عباس، ولم يضفه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما أضاف إليه أنه قضى أن لا بيت لها و لا قوت، وبعد ذلك أدرجه ابن عباس في الحديث.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/281.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 2/285.
(3) ما بين المعكوفين سقط من (أ).

(60/14)


قيل له: ليس ذلك على ما قدرت؛ لأنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بذلك من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، وأخبر عماله قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيجب أن يكون قد عرف ذلك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن لا يكون قال ذلك برأيه، ألا ترى أنه لو قال: سجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه سهى، لم يجب أن يحمل ذلك على أن قوله: لأنه سهى قاله برأيه، وكذلك لو قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن شاهداً واحداً شهد، وحلف المدعي، لم يجز أن يحمل ذلك على أنه قاله برأيه، فكذلك قوله في هذا الموضع، على أنه لو كان قاله برأيه أيضاً، لوجب أن يكون حجة؛ لأنه لم يحفظ عن أحد من الصحابة خلافه، فجرى مجرى إجماعهم.
وأيضاً هي فرقة تقع من غير اختيار الزوج، فوجب أن يكون فسخاً، دليله سائر الفسوخ، يؤكد ذلك أن التحريم الواقع باللعان قد يتأبد؛ على وجه من الوجوه، ولا خلاف أن التحريم الواقع باللعان قد يتأبد لأن الزوج لم يكذب نفسه، ولا خلاف أن التحريم متأبد، فبان بذلك أنه(1) تحريم الفسخ دون تحريم الطلاق.
مسألة: [في اجتماع المتلاعنين بعد اللعان]
قال: (ولا يجتمعان(2) بعد ذلك أبداً)، وقال في (المنتخب) (3) إلا أن يكذب الزوج نفسه ويظهر التوبة فيقام عليه الحد فحينئذٍ يجوز لهما أن يجتمعا بتزويج جديد، وألحق الولد به.
__________
(1) في (ب): فبان بذلك أن الفسخ دون تحريم الطلاق.
(2) في (ب): ولم يجتمعا.
(3) انظر المنتخب 161.

(60/15)


ما ذكرناه من أنهما لا يجتمعان أبداً منصوص عليه في (الأحكام) (1). وما ذكرناه بعد ذلك منصوص عليه في (المنتخب). وكان أبو العباس الحسني ـ رحمه الله تعالى يجعل الروايتين رواية واحدة ـ ويقول: إنهما لا يجتمعان أبداً، ويحمل ما في (المنتخب) على أن المراد به إذا فرق الحاكم قبل لعان المرأة على وجه الخطأ، ذكر ذلك في (النصوص)، وذلك بعيد؛ لأن يحيى عليه السلام علق في (المنتخب) جواز تزويجها به بأن يتوب، ويكذب نفسه، وشرط ذلك في إثبات النسب أيضاً، ولو كان ذلك خطأ من الحاكم في التفريق، لم يكن لذلك التفريق حكم، وإن جعل له حكماً، لم يجب أن يراعى ليزوجه بها ما راعى إذا لم يجعله واقعاً على لعان صحيح، على أنه لا فرق بينه وبين من جعل الروايتين رواية واحدة، وحمل ما في (الأحكام) على ما في (المنتخب) بأن قال: تقدير الكلام أنهما لا يجتمعان أبداً، إلا أن يكذب الزوج نفسه، فيكون ما ذهب إليه أقرب؛ لأن تعسفه أقل، وإحتماله أظهر، والصحيح أنهما روايتان مختلفتان؛ لأن ذلك هو الظاهر من الكلامين، فما ذكرناه أولاً هو رواية (الأحكام)، وبه قال أبو يوسف والشافعي.
وما ذكرناه ثانياً هو رواية (المنتخب)، وبه قال أبو حنيفة، ومحمد.
ووجه رواية (الأحكام) أن النبي صلى الله /194/ عليه وآله وسلم قال لما فرق بينهما: (لا يجتمعان أبداً إلى يوم القيامة). وفيما رواه أبو داود في (السنن) بإسناده عن سهل بن سعد قال: (حضرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين لاعن بينهما فمضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ولا يجتمعان أبداً)(2).
__________
(1) انظر الأحكام 1/470.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 2/288.

(60/16)


وفيما رواه أبو داود في (السنن) بإسناده عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم للمتلاعنين: (حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها) (1)، فمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون له عليها سبيل على وجه من الوجوه، وذلك التحريم.
ويدل على ذلك مارواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال: (إذا فعلا ذلك ـ يعني تلاعنا ـ فرق بينهما الحاكم، فلم يجتمعا أبداً)، وأيضاً لا خلاف أن الزوج لو لم يكذب نفسه أبداً، لم يرتفع ذلك التحريم، وكذلك إذا أكذب نفسه، والعلة أنه تحريم وجب باللعان، ويمكن أن يقاس ذلك على التحريم الواقع بالرضاع، بعلة أنه يحصل مع انتفاء الرق، ولا يرتفع بإصابة الزوج، ولا بغير دين، فوجب أن يكون مؤبداً، والأصول تشهد لذلك؛ لأنا لم نجد الإكذاب أوجب رفع شيء من التحريم الواقع بين الزوجين، ألا ترى أنه لو قال: هي لي ذات رحم محرم، أو قال: هي محرمة عليَّ للرضاع، ثم أكذب نفسه، لم يرتفع التحريم، وكذلك لو قال: طلقتها ثلاثاً، ثم أكذب نفسه، لم يرتفع التحريم، فوجب أن يكون كذلك حكم تحريم اللعان، على أن الإكذاب إذا لم يرفع التحريم الحاصل في الحال، لم يرفع التحريم المؤبد، على أنه إذا ثبت أن الفرقة الواقعة باللعان فسخ، فلا قول بعده إلا القول بأن تحريمها مؤبد.
فإن قيل: فإن اللعان يرتفع حكماً، فوجب أن يرتفع التحريم المعلق به.
قيل له: لو كان ذلك كذلك، ل رتفع تحريم الحال، ولعادا زوجين.
ووجه رواية (المنتخب) أن الزوج إذا أكذب نفسه، ارتفع حكم اللعان، بدلالة أنه يُحد، والولد إن كان نفي فإنه يلحق به، فإذا ثبت ذلك، وجب أن يرتفع التحريم المختص به، وإن لم يرتفع تحريم الحال، كما أن المطلقة ثلاثاً إذا نكحت زوجاً غير الأول، ارتفع التحريم المختص به، وإن لم يرتفع تحريم الحال.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/285 ـ 286.

(60/17)


ويمكن أن يقاس على التحريم الذي يقتضيه الطلاق في أنه لا يجب أن يتأبد، بعلة أنه تحريم لا يَرِج إلا على النكاح، ويمكن أن يقال: إنه تحريم لا يتعلق بحرمة نسب، ولا رضاع، ولا نكاح، فلم يجب أن يتأبد، دليله تحريم الطلاق، أو تحريم إختلاف الدينين، فإذا ثبت ذلك، فما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن أمير المؤمنين عليه السلام، من أنهما لا يجتمعان أبداً محمول على أنهما لا يجتمعان ما دام حكم اللعان باقياً، وكذلك ما روي عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا سبيل لك عليها)، محمول على أنه لا سبيل لك عليها ما دامت على حكم اللعان، ويؤيَّد ذلك بالظواهر المتضمنة لإباحة النكاح.
مسألة:[في كيفية اللعان]
قال: وإذا أراد اللعان، قال الحاكم للزوج: قل والله العظيم إني لصادق فيما رميتها به من قذفي لها، ونفي ولدها، ويكون الولد في حجرها، ويشير الزوج إليه بيده، ثم يكرر ذلك أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين فيما قذفتك به من نفي ولدك هذا، ثم يقول للمرأة: قولي والله العظيم إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من نفي ولدي هذا، ثم تُكرر ذلك أربع مرات، ثم تقول في الخامسة: غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين، وإذا قالا ذلك، فقد تم بينهما اللعان. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2).
__________
(1) انظر المنتخب 163.
(2) انظر الأحكام 1/ 470.

(60/18)


والأصل فيه قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ /195/ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ..} الآية، وما رويناه بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اللعان على هذا الحد، ولا أحفظ فيه خلافاً، ويجب أن يبدأ بلعان الزوج؛ لأن الآية دلت على ذلك، ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ}، فعقَّب الرمي بشهادة الزوج، ولأن الخبر كذا ورد، ولأن الزوج قد وجب عليه الحد، فلا بد من إقامته، أو درئه باللعان، فلا يجب ان يتراخى عن وقت الوجوب.
مسألة: [في الرجل ينفي الولد عن زوجته]
قال: ولو أن رجلاً تحته امرأة، فجائت بولد، فنفاه عن نفسه وعن المرأة، فعلى المرأة البينة أنه ولدها، ولدته على فراشه، فإذا أتت بالبينة، ثم نفاه الرجل بعد ذلك عن نفسه، وجب بينهما اللعان.
وهذا منصوص عليه في كتاب الحدود من (المنتخب)(1).
ووجهه أنه إذا نفى أن يكون الولد ولداً له ولها فلم يقذفها، ولم ينف ولداً يجب إلحاقه به، فلم يلزمه اللعان لأن اللعان يجب للقذف أو لنفي مولود له على فراشه، فأما إذا أقامت المرأة البينة على أنها ولدته على فراشه وجب أن يلحق به، فإذا نفاه بعد ذلك لزمه اللعان كما يلزمه لو نفى ولداً يقر بأنه ولد على فراشه لأنه لا فصل بين أن يقر هو بأنه ولد على فراشه وبين أن يثبت ذلك بالبينة.
فإن قيل: أليس من مذهبكم أن إقرار المرأة بالولد جائز كإقرار الرجل فلم ألزمتموها البينة على أنها ولدته؟ قيل له: إنما يجوز ذلك إذا كان إقرارها به لا يلزم غيرها حكماً، فأما إذا كانت تلزم الزوج نسبه بإقرارها فذلك لا يثبت إلا بالبينة.
مسألة: [في قذف الرجل زوجته برجل معين]
__________
(1) انظر المنتخب 421.

(60/19)


قال: ولو أن رجلاً قذف زوجته برجل بعينه، فللرجل على زوجها الحد، سواء لاعن الرجل زوجته، أو لم يلاعنها، فإن إدعى المقذوف الولد، لم يثبت نسبه منه بدعواه، ويسقط الحد عن القاذف.
ما ذكرناه أولاً من إيجاب الحد للرجل المقذوف منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)، وما ذكرناه ثانياً من إدعاء المقذوف الولد منصوص عليه في (المنتخب) (3). وقال الشافعي: إذا لاعن الرجل زوجته سقط حد من قذفها به على سبيل التبع.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ..} الآية. ولا خلاف بين المسلمين أن حكم الذكور والإناث من أولي الإحصان إذا قذفوا سواء، فوجب أن يلزم الزوج الحد لقذفه الرجل الذي قذف زوجته به لاعنها أولم يلاعنها.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ..} الآية. ولم يخص من رماها مطلقاً، أو رماها برجل بعينه؟
قيل له: هذه الآية أفادت الحكم بينه وبين زوجته، دون ما بينه وبين الإجانب، فلم يكن فيها دلالة على موضع الخلاف.
فإن قيل: هلال بن أمية حين حين قذف زوجته بشريك بن سحما لم يرو أنه حد له، ولا أن شريكاً أقر بالزنا، ولا حصل عفو فدل ذلك على أن حده سقط تابعاً للعان؟
__________
(1) انظر الأحكام 2/270.
(2) انظر المنتخب 160.
(3) انظر المنتخب 160.

(60/20)


قيل له: حد القذف لا يجب حتى يطالب المقذوف به فيجوز أن يكون ترك حده لأن شريكاً لم يطالب به فيكون هذا وجهاً غير الوجه الذي ذكرتم، ويدل على ذلك أنه لا خلاف في أنه لو قذفه مطلقاً أو قذفه بغير زوجته لم يسقط حده باللعان فكذلك إذا قذفه بزوجته، والعلة أنه قذف من ليس بزوجة، أو يقال: لأنه قذف لمن لا لعان بينه وبينه فوضح ما ذهبنا إليه أن اللعان أوجب سقوط الحد عن الزوج لأنه قام مقام البينة على صحة ما ادعاه وقد علمنا أن لعانه لا يقوم مقام البينة على صحة ما ادعاه من قذف الأجنبي، فلم يجب أن يسقط حده بلعانه، ألا ترى أنه لو أقام /196/ البينة في الأجنبي، وجب أن يحد متى لم يأت بما يدرأ عنه الحد كما أنه لو أقام البينة في الزوجة، وجب أن يحد متى لم يأتي بما يدرأ عنها الحد، وعلى أنا وجدنا اللعان حكماً يختص الزوجين فلم يجب أن يكون له تأثير في غيرها كالظهار والإيلاء والطلاق.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ادرأوا الحدود بالشبهات)؟
قيل له: هاهنا لا شبهة فيوجب درأ الحد.
وقلنا: إن المقذوف لو إدعى الولد لم يثبت نسبه منه لأنه يكون مدعياً له من زنى، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقلنا: إن حده يسقط عن القاذف لأنه يكون قد صدقه في قذفه فلا يجب أن يحد له.
مسألة: [في ابن الملاعنة يموت فيُكذب الزوج نفسه]
قال: وإذا لاعن الرجل زوجته، وانتفى ولده، ثم مات الولد، وأقتُسم ميراثه، ثم أكذب الرجل نفسه، وادعى الولد، لم يرجع على الذين اقتسموا ميراثه بشيء، ولو كانت المسألة بحالها، وكان لابن الملاعنة ولداً اعتزى إلى جده، وثبت نسبه منه. وجميعه منصوص عليه في (المنتخب) (1)، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي يثبت نسبه، ويرثه أبوه.
__________
(1) انظر المنتخب 161.

(60/21)


ووجه ما ذهبنا إليه: أنه إذا مات، فلا حكم يتعلق بنسبه إلا الإرث؛ لأن إكذاب الرجل نفسه، وإقراره بالولد، لم يتضمن سوى إدعاء المال، وقد ثبت أن الإنسان لا يستحق شيئاً من الأموال بإدعائه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم (لو أُعطي الناس بدعواهم، لادعى قوم دماء قوم وأموالهم).
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن النسب ثبت، ويجب المال تبعاً؟
قيل له: إثبات النسب إنما هو إثبات أحكام، فإذا مات ابن الملاعنة، لم يتعلق بنسبه حكم الإرث، فإذا لم يثبت غيره، لم يصح أن يقال: هو تبع، وإذا لم يصح أن يكون تبعاً لغيره، وكان إستحقاقه لا يثبت بدعوى من يدعيه، كما لا يثبت في سائر المواضع، صح ما ذهبنا إليه، وبطل القول بأنه يرث، يكشف ذلك أن اللقيط لو إدعاه مدع، صُدِّق، ولو إدعاه بعد موته، لم يكن لدعواه حكم، وكذلك من باع غلاماً وُلد عن حمل كان في ملكه، ثم إدعاه وهو حي، انفسخ البيع، وثبت نسبه، وإن إدعاه بعد الموت، لم يكن لدعواه حكم، ولم ينفسخ البيع، فكل ذلك يكشف أن دعواه الميت متى تجددت، كانت باطلة، فوجب أن يبطل مالا يثبت إلا على وجه التبع لها.
فإن قيل: فكيف تقولون إنه لو كان له ولد، ثبت نسبه؟
قيل له: لأن ولده إذا كان حياً يثبت نسبه، ويعلق الحكم عليه.
فإن قيل: ليس البائع للغلام الذي ذكرتم، لو لم يدعه حتى يكبر، ويولد له، ثم يموت، أنه إذا إدعى بعد ذلك ولداً لا يثبت نسبه، فما أنكرتم أن يكون ذلك سبيل ولد ابن الملاعنة؟

(60/22)


قيل له: الفرق بينهما ان تثبيت نسب ولد الغلام لا يكون بدعوة مبتدأة، [فإذا مات أبوه لا يصح تثبيت نسبه بدعوى مبتدأة] (1) لأنها لا تثبت إلا بعد تثبيت نسب أبيه بدعوة مبتدأة، وذلك لا سبيل إليه، وليس كذلك حال ولد ابن الملاعنة، لأن نسب أبيه كان ثابتاً بالفراش، وإنما إنتفى باللعان، فإذا أكذب الملاعن نفسه، لم يُحْتَجْ لتثبيت نسبه إلى أمر مبتدأ، فصح أن يثبت بالفراش المتقدم، ثم يثبت نسب أبيه.
مسألة:[في نفي الولد بعد الإقرار به أو السكوت عنه]
قال: فإذا أقر الرجل بولده مرة، أو سكت حين يولد على فراشه، لم يكن له بعد ذلك نفيه. ونص في (الأحكام) (2) على أنه لا إنكار له بعد الإقرار، ونص في (المنتخب) (3) على أنه إن سكت حين يولد على فراشه لم يكن له بعد ذلك إنكاره.
وأما ما قاله في (الأحكام) من أنه إذا أقر به فلا إنكار له بعده، فمما لا خلاف فيه، وسواء ولد على فراش ثابت، أوولد من أمه، أو كان مجهول النسب.
والأصل فيه: ما ثبت أن من أقر بحق لغيره، فليس له /179/ إنكاره بعد ذلك، وسواء ذلك في الأموال والجنايات، وسائر الحقوق، فكذلك إذا أقر بولج لأنه أقر بحق له، فلا إنكار له بعد ذلك.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) انظر الأحكام 2/155 ـ 156، وانظر الأحكام 2،180.
(3) انظر المنتخب 164.

(60/23)


فأما ما ذكرناه من أنه إذا سكت حين يولد على فراشه، لم يكن له نفيه بعد، فهو قول كثير من العلماء، وقال أبو يوسف، ومحمد: إن له أن ينفيه ما بينه وبين أربعين يوماً؛ لأنه أكثر مدة النفاس، والنفاس حال الولادة، وذلك لا معنى له، لأن حال الولادة حال الوضع فقط، فأما النفاس فحكم يتعلق به، ولا يمتنع في الأحكام المتعلقة أن يتراخى ويتقدم، والإعتبار به لا وجه له، وأصل ما ذهبنا إليه ما لا خلاف فيه من أنه لو سكت زماناً طويلاً بعد الولادة والعلم بها، كالسنة ونحوها، لم يكن له نفيه بعد ذلك، فكذلك إذا مضت عليه ساعة، والمعنى أنه مضى عليه من الزمان ما يمكنه نفيه فيه فلم يَنفِ، وأيضاً لا خلاف أن حق النفي يبطل بالسكوت، فوجب أن يستوي فيه قليل المدة وكثيرها، دليله حق الشفعة.
فإن قيل: فهذا يعترضه خيار الرد بالعيب، وخيار الأمة إذا أعتقت تحت زوج، وخيار المولى في النكاح الموقوف، فإنكم لم تجعلوا شيئاً من ذلك على الفور.
قيل له: شيء من تلك الحقوق عندنا لا تبطل بالسكوت بل تبطل بالرضى، ولا بد فيه من التعلق بنطق، أو ما يقوم مقامه مما يدل على الرضى، فلم يجب أن يكون بطلانه على الفور، وليس كذلك ما اختلفنا فيه من حق النفي لأنه يبطل بالسكوت، والكف عن طلبه، فوجب أن يكون حكمه حكم الشفعة.
مسألة: [في لعان المرأة في عدتها]
قال: وللرجل أن يلاعن المرأة ما دامت في عدته. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1) ونص فيه على أنه لا فصل بين أن تكون في عدته من طلاق رجعي، أو بائن.
__________
(1) انظر المنتخب 164.

(60/24)


ووجهه ـ ما لا خلاف فيه أنه يلاعنها ما دامت في عدته من طلاق رجعي، فكذلك ما دامت في عدة من طلاق بائن، والعلة أنها في عدة من نكاح، أو نفاس على من لم يطلق، بعلة أنها ممنوعة من التزويج لحرمة الزوجية التي انعقدت بينهما، وليس لهم أن يعترضوا ذلك بأن يقولوا: العلة بقاء الزوجية بينهما؛ لأن ذلك لا يمنع من قياسنا الذي اعتمدناه، على أن اللعان موضوعه لنفي الولد، ودفع العار، وكل ذلك حاصل ما دامت موقوفة عليه بالعدة، ألا ترى أن حكم فراشها منه ثابت، فوجب أن يكون حكمها في باب اللعان حكم الزوجة، يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ادرأوا الحدود ما استطعتم)، فلو لم يوجب بينهما اللعان، لأوجبنا إقامة الحد.
فإن قيل: واللعان ايضاً حد؛ لأنه قائم مقامه.
قيل له: لسنا نسلم ذلك، بل اللعان قائم مقام البينة، وهو يدرأ الحد؛ لأن الرجل عندنا لو أبى اللعان، حُدَّ، وقد قال الله تعالى: {وَيُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ}، وبيَّن أن لعانها يدرأ عنها العذاب الذي هو الحد، فصح أن اللعان ليس بحد، فيسقط الإعتراض به.
فإن قيل: فاللعان عندكم يوجب التفريق، فلا معنى له بعد مفارقة الزوج لها.
قيل له: قد مضى في كتابنا أن الفرقة الواقعة باللعان فصح، والفسوخ يجوز أن تعرض في العدة، وإنما الممتنع عندنا في عدة الطلاق هو فرقة الطلاق، فلا سؤال علينا في هذه.
فإن قيل: ظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}، يحجكم.
قيل له: هذا مخصوص بالأدلة التي اعتمدناها.
مسألة: [في موت القاذف قبل اللعان]
قال: وإذا قذف الرجل زوجته، ونفى ولدها، ثم مات قبل أن يلاعنها، لم يَنتفِ الولد.

(60/25)


وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وهو مما لا خلاف فيه، ولأن النسب ثابت لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش [وللعاهر الحجر] (2))، وإنما /198/ ينتفي بنفي الحاكم له بعد اللعان الواقع، فإذا مات قبل أن يقع، فلا وجه لنفيه، فوجب أن يكون ثابتاً.
__________
(1) انظر الأحكام 2/269 ولكنه قال: (ورثها وورثته؛ لأنه لم ينفذ لعانها وهي على نكاحهما) ولم يذكر انتفاء الولد.
(2) ما بين المعكوفين سقط من (ب).

(60/26)


كتاب النفقات
باب القول في نفقة الزوجات
[مسألة: في صفة الزوة التي يجب الإنفاق عليها، خرج مقدار الصدقة]
يجب للزوجة على زوجها النفقة على قدر إيساره وإعساره سواء كانت الزوجة صغيرة أو كبيرة، مدخولاً بها أو غير مدخولاً بها، يصلح مجامعه مثلها أو لا يصلح، مالم تحبس نفسها، عنه مع التمكن من تسليمها، فإن حبست نفسها فلا نفقة لها.
[جميع ذلك منصوص عليه في كتاب الطلاق من (الأحكام) (1)].
ما ذكرناه من وجوب نفقة المرأة على زوجها على قدر إيساره وإعساره، وإن كانت غير مدخول بها، مالم تحبس نفسها، عنه، وإن حبست نفسها فلا نفقة لها ـ منصوص عليه في كتاب الطلاق من (الأحكام) (2) وما ذكرناه من وجوب نفقة الصغيرة التي لا تصلح للجماع على زوجها بنصوص عليه في كتاب النكاح من (المنتخب) (3).
والأصل في إيجاب نفقة المرأة على زوجها قول الله سبحانه وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ..} الآية، وقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أولادهن..} الآية.
وروى أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى، حدثنا محمد بن الحسين بن علي العلوي، حدثنا أبي، حدثنا زيد بن الحسين، عن ابن أبي أويس، عن ابن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوم النحر، بمنى، في حجة الوداع، فقال فيها: (استوصوا بالنساء خيراً)، إلى أن قال: (ولهن عليكم من الحق نفقتهن، وكسوتهن بالمعروف)، على أنه لا خلاف فيه بين العلماء.
فأما ما ذهبنا إليه من أن المدخول بها، وغير المدخول بها، في ذلك سواء، فبه قال أبو حنيفة.
__________
(1) ما بين المعكوفين زيادة في (ب) ينقل إلى الهامش، ولم ينص على جميعه في الأحكام.
(2) انظر الأحكام 1/494 وهو من كتاب النفقات.
(3) انظر المنتخب 127.

(61/1)


ويدل على ذلك ما ذكرناه من الكتاب والسنة، على أنه لا خلاف أن المدخول بها، إذا لم تمنع نفسها من زوجها، لزمته نفقتها، فكذلك التي لم يدخل بها، والمعنى أنها غير ممتنعة على زوجها، وتبيين صحة هذه العلة أنها لو نشزت من زوجها حتى صارت ممتنعة على زوجها، لم يلزم لها نفقة(1).
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إن نفقتها لزمت لتسليمها نفسا؟
قيل له: قد علمنا لو سلمت نفسها، ثم امتنعت، أسقطت نفقتها، فبان أن وجوب النفقة تعلق بأن لا يكون من قِبَلها امتناع على زوجها، وإذا ثبت ذلك بان أنه لا فرق بين أن يكون التسليم حصل، أو لم يحصل.
فأما ماذهبنا إليه من أنها وإن كانت صغيرة لا تصلح للمجامعة، فإن لها النفقة، ففيه خلاف بينا وبين أبي حنيفة.
ويدل على ما ذهبنا إليه ما قدمنا ذكره من الكتاب والسنة [في الكبيرة] (2)، وكذلك الصغيرة التي ذكرنا(3)، يدل على ذلك أنها غير ممتنعة على زوجها، ويمكن أن يقاس بهذه العلة على من مرضت مرضاً لا يستطاع معه جماعها، أو أحرمت بإذن زوجها، في أن نفقتها لا تسقط.
فإن قيل: المرض عارض، وكذلك الإحرام، فلا يجب أن يكون حكمها حكم الصغيرة.
قيل له: قد علمنا أن النشوز يكون عارضاً، وإن أوجب سقوط النفقة، فدل ذلك على أن ما يوجب سقوط النفقة، لا يؤثر فيه كونه عارضاً، أو غير عارض، فلو كان تعذر الوطء يوجب سقوط النفقة لاستوى كونه عارضاً، أو غير عارض، ويدل على ذلك أيضاً ما أجمعنا عليه من أن الصِغَر لا يُسقط إستحقاق المهر، فوجب أن لا يسقط استحقاق النفقة، والعلة أن كل واحد منهما حق في مال يجب للمرأة على زوجها لأمور تتعلق بالزوجية، يبين ذلك ويوضحه، أن النفقة ليست بدلاً للبضع كالمهر، فلا يجب أن يَقِفَ وجوبها على تسليم البضع، ألا ترى أنها لو وُطئت، ثم نشزت، لاستحقت المهر، ولم تستحق النفقة.
__________
(1) في (أ): نفقتها.
(2) سقط من (أ).
(3) في (أ): ذكرناها.

(61/2)


هذا وقد يجب المهر من غير تسليم البضع على بعض الوجوه، فتارة يلزم منه الشطر، وتارة /199/ الكل، فكانت النفقة بذلك أولى.
فإن قيل: الناشزة سقطت نفقتها لتعذر وصول الزوج إلى الإستمتاع فكذلك الصغيرة.
قيل له: هذا يفسد بمن سافر عن زوجته، أو أحرمت زوجته بإذنه، فلا يصح التعويل عليه، على أن الناشزة إنما وجب سقوط نفقتها؛ لأنها عصت بالإمتناع، وليس يلزم على ذلك الأمة المزوجة التي لم تسلم إلى زوجها؛ لأن هذا إيجاب الحكم بغير تلك العلة، وهذا شائع غير ممتنع، على أنا لو زدنا في العلة بأنها ممن أوجب العقد تسليم نفسها، لزال هذا الإعتراض بواحدة؛ لأن عقد الأمة لا يوجب تسليم نفسها؛ إذ بقي عليها حق الخدمة.
ويمكن أن تحرر العلة على هذا المعنى أيضاً، فيقال: لَمَّا لم يكن من الصغيرة امتناع بمعصية في عقد أوجب تسليم نفسها، لم يجب أن تسقط نفقتها، قياساً على الحرة البالغة الممكنة(1) من نفسها.
فإن قيل: النفقة جُعلت في مقابلة الإستمتاع، فإذا فقد الإستمتاع، فلا نفقة.
قيل له: ليس ذلك كذلك، بل النفقة جُعلت في مقابلة بذل نفسها، فإذا حصل البذل، وجبت، فأما إذا حبست نفسها على الوجه الذي ذكرنا، فلا خلاف في أنها تكون ناشزة، وأن نفقتها تسقط.
ووجه قولنا: إنها بحسب الإعسار واليسار قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سِعَتِهِ..} الآية، وقوله سبحانه: {وَالَّذِيْنَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}، وقد علمنا أن الغني يكون بالقليل مقتراً، والفقير بالتوسعة مسرفاً، والمقادير المذكورة في هذا الباب محمولة على أنها قدرت على حسب أحوال أقوام وعاداتهم.
فصل [في منع المرأة نفسها طلباً لمهرها]
قال أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى: المروي عن القاسم عليه السلام أنها إن منعت نفسها لاقتضاء مهرها، لم تسقط نفقتها، وبه قال أبو حنيفة.
__________
(1) في (ب): المتمكنة.

(61/3)


ووجهه ما استدللنا به من الأثر والآية، وهي أيضاً غير ممتنعة بمعصية في عقد أوجب تسليم نفسها، فوجب أن تجب نفقتها، قياساً على الْمُحرِمة بإذنه، أو المريضة، على أن امتناعها في الحقيقة في حكم امتناع الزوج؛ لأن الزوج يمكنه إزالة الإمتناع بتوفير(1) المهر، فيجري ذلك مجرى ألا تكون منه مطالبة بالكون عنده مع بذلها نفسها، في أن النفقة تجب لها.
مسألة: [في مطالبة الزوج أو وليها بالنفقة]
قال: وللزوجة أن تطالب الزوج بالنفقة إن كانت كبيرة، ولوليها أن يطالب بالنفقة إذا كانت صغيرة.
قد نبه في كتاب النفقة من (المنتخب) (2) على ما ذكرناه في الكبيرة، وفي كتاب النكاح من (المنتخب) (3) على ما ذكرنا في الصغيرة. ويجب أن يكون المراد بولي الصغيرة هاهنا من يتولى عليها في مالها كالأب، أو وصيه، أو الجد، أو الحاكم، أو من يوليه دون من يتجرد لهم ولاية النكاح فقط، كالأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم، وعلى هذا خرَّجه أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى في (النصوص)، أن من قدمنا ذكرهم لهم الولاية في المال، من دون من ذكرناهم ثانياً، ووجهه أن هذه الولاية ولاية تختص المال فوجب أن تكون البالغة أولى بها كما أنها أولى بسائر أموالها وحقوقها المتعلقة بالأموال، إذ ليس لأحد أن يتولاها عليها(4).
وقلنا: إن ولي الصغيرة يطالب عنها لمثل ما ذكرناه؛ لأن له التصرف في مالها وحقوقها المتعلقة بالأموال إذا تحرى نفعها، فكذلك ما ذكرناه، على أنه إذا ثبت استحقاقها للنفقة، فلا خلاف بعد ذلك في أنه للكبيرة أن تطالب بها، وأن لولي الصغيرة أن يطالب عنها كحكمه في سائر حقوقها.
مسألة: [في الزوج يطالَب بالنفقة فيهرب، أو يغيب أو يماطل]
__________
(1) في (أ): بتوفية.
(2) انظر المنتخب 372 ، 373.
(3) انظر المنتخب 127.
(4) في (ب): فيها.

(61/4)


قال: وإذا طولب الزوج بالنفقة، وغاب مدة، أو هرب، أو غفل عنها، أو دافع بأي وجه من المدافعة، طولب بعد ذلك بنفقة ما مضى، وكذا القول إن كان الولي هو المطالب عنها. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1). وحقق أبو العباس الحسني رضي الله عنه في (النصوص) أنها كالدين، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يلزم إلا أن يفرض لها الحاكم، أو يقع التراضي بها. والأصل في لزومها على الأحوال كلها ماقدمنا /200/ ذكره من الآية والخبر؛ لأنهما لم يخصا حالاً من حال، ويدل على ذلك ما أجمعنا عليه أنها تصير لازمة بعد فرض الحاكم، أو حصول التراضي، فكذلك وإن لم يحكم الحاكم، ولم يحصل التراضي، والعلة أنها غير ممتنعة على زوجها على جهة المعصية، فوجب أن تكون نفقتها لازمة لزوجها، كالدَين.
ويبين أن الحكم تعلق بما ذكرناه أن الحاكم لو فرضها، أو حصل التراضي بها، ثم حصل النشوز من جهتها، لم يكن لها نفقة، ومتى أزالت النشوز عاد وجوبها، فبان أن العلة ما ذكرناه،
ويدل على ذلك أنها حق في مال جُعل في مقابلة بذل نفس المرأة، وجعل بدلاً له، فإذا سُلِّم البدل، وجب أن يستحق ما قابله من غير مراعاة حكم أو غيره، دليل سائر الأبدال.
فإن قيل: سبيلها سبيل نفقة ذوي الأرحام في أنها تسقط بالفوات.
قيل له: ليس كذلك؛ لأن نفقتهم لم تُجعل عوضاً عن شيء، كما أن نفقة الزوجة جعلت عوضاً من البدل، ألا ترى أنها لو نشزت، لسقطت نفقتها، ومتى بذلت نفسها، لزمت، معسرة كانت، أو موسرة، فبان أنها لم تلزم على طريق المواصلة والمواساة، كنفقة ذوي الأرحام التي لا يحكم لهم بها إلا مع الإعسار.
فإن قيل: لا يجوز أن تكون النفقة عوضاً من البدل؛ لأن الزوج قد استحق عليها ذلك بالعقد والمهر، ولا يجوز أن تستحق هي بدل المستحق عوضاً ثانياً.
__________
(1) انظر المنتخب 372 ـ 373.

(61/5)


قيل له: المستحق بالعقد والمهر هو الوطء فقط، ألا ترى أنها لو نشزت، وكانت تُمكِّن من وطئها أوقات الحاجة إليه، لم يجب لها نفقة، وإن وجب المهر، وإنما تجب النفقة إذا حصل منها البذل، فبان أن البدل مستحق بالعقد مع المهر والنفقة، فالنفقة، إذاً في مقابلة البدل.
مسألة: [في إنفاق ولي الزوجة عليها أثناء مماطلة الزوج]
قال: وإن كان الولي أنفق عليها في المدة التي دافع الزوج فيها بالمعروف، وجب ذلك(1) له على الزوج، وإن كان أسرف في النفقة، رجع منها بمقدار ما يكون بالمعروف، وهو فيما زاد عليها متبرع، لا يرجع به، وكذلك إن كان للمرأة مال، وأنفق عليها الولي، رجع على الزوج بمقدار المعروف من النفقة.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2).
ووجهه ما قد بيناه من أنها لازمة زوجها، وجارية مجرى الدين، فإذا امتنع من توفيتها، فإنَّ إنفاق الولي عليها، أو انفاقها على نفسها لا يسقط حقها فكذلك قلنا: إن له الرجوع بذلك على الزوج.
وقلنا: إن له الرجوع بمقدار المعروف منها؛ لأن ذلك هو الواجب دون ما زاد عليه، فلم يجز له أن يرجع على الزوج بالزيادة؛ إذ هي غير لازمة له.
مسألة: [في حبس الزوج إذا كان ماطل بالنفقة]
قال: وإن ماطل الزوج، حُبِس لها، ولا تحبس المرأة عن الزوج إن كان موضعهما من الحبس موضعاً مستوراً عن الناس، فإن لم يكن الموضع كذلك، جاز لها أن تحبس.
فهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3).
ووجه قولنا: إن الزوج إن ماطل حبس لها؛ لأن وجوب النفقة قد ثبت، وجرى مجرى سائر الديون، فقلنا: إن الزوج متى امتنع من توفيتها، حبس كما يحبس إذا امتنع من توفية سائر الديون التي عليه.
__________
(1) فيي (أ): وجب له.
(2) انظر المنتخب 373.
(3) انظر المنتخب 373.

(61/6)


وقلنا: إن المرأة لا تحبس عنه إذا كان في الحبس موضع مستور عن الناس، لأنها لو امتنعت من غير عذر كانت ناشزة، والنشوز معصية، وهو أيضاً يسقط ما بعد ذلك من نفقتها، فأما ما وجب من النفقة قبل ذلك، فلا يسقطه النشوز الواقع من بعد، فأما إن لم يكن في الحبس موضع على ما ذكرناه، جاز لها أن تمتنع من حضوره؛ لأنها ممتنعة بحق، كما تمتنع منه إذا كانت محرمة، أو /201/ امتنعت من تسليم نفسها لاستيفاء مهرها، ولم يجب أن تسقط نفقتها فيما بعد أيضاً، لأنها ليست ناشزة، بل هي ممتنعة بحق على ما مضى القول فيه، وفي نظائره من المسائل.
مسألة: [في نفقة المطلقة ومدتها]
قال: وإذا طلق الرجل زوجته وجب عليه نفقتها ما دامت في عدته تطاول زمان العدة، أم تقاصر، فإن كانت التطليقة رجعية وجب لها السكنى مع النفقة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2).
والأصل في إيجاب السكنى والنفقة للمعتدة قول الله تعالى بعد ذكر(3) الطلاق، ووصف أحوال العدة: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ..} الآية، على أن الجملة التي ذكرنا مما لا خلاف فيه، والمطلقة الرجعية لم يختلف المسلمون في أن لها السكنى والنفقة، وإنما الخلاف في غير ذلك مما نبين تفاصيله بعون الله تعالى، ولا خلاف أيضاً أن طويل المدة في العدة كقصيرها.
مسألة: [في نفقة البائنة]
قال: وإن كانت التطليقة بائنة، وجبت النفقة دون السكنى، وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4) و(المنتخب) (5).
__________
(1) انظر الأحكام 1/492.
(2) انظر المنتخب 146.
(3) في (أ): ذكره.
(4) انظر الأحكام 1/492.
(5) انظر المنتخب 146.

(61/7)


واختلف أهل العلم في ذلك، فقال أبو حنيفة: لها النفقة والسكنى، وقال الشافعي: لها السكنى، ولا نفقة لها، وذهب(1) الإمامية إلى أنها لانفقة لها ولا(2) سكنى، ونحن نبين أن لها النفقة ولا سكنى لها بقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، فلم يستثن منهن البائن، فاقتضى العموم إيجاب النفقة على أولات الحمل، إلى أن تنقضي عدتهن بوضع الحمل، بائناً كانت، أو غير بائن، فإذا ثبت وجوب النفقة على المطلقة البائن إذا كانت ذات حمل بالآية التي ذكرناها، ولأنه مما لا أحقظ فيه خلافاً بين عامة الفقهاء، وجب أن يكون ذلك حكمها، وإن كانت حائلاً، بعلة أنها معتدة من طلاق، ويمكن أن يقاس بهذه العلة على المطلقة طلاقاً رجعياً [إذ لا خلاف] (3) في أن النفقة واجبة لها.
فإن قيل: في البائن الحبلى وجبت نفقتها لأنها حبلى.
__________
(1) في (ب): ذهب.
(2) في (أ): وأنه لا.
(3) سقط من (أ).

(61/8)


قيل له: قد علمنا أن الحِبَل لاتأثير له في إيجاب النفقة؛ لإجماع الكل على إستواء وجوده وعدمه في عدة تطليق الرجعة(1) على أن وجوب النفقة، إما أن يكون حق الحمل، أو حق المرأة، فإن كان حق الحمل، وجب أن ينفق عليه من مال الحمل، إن كان له مال، ولوجب أن لا(2) يراعى فيه كفاية المرأة، فلما روعيت فيه كفايتها، ولم ينفق عليها من مال الحمل، علُم أنها حق للمرأة المعتدة، فوجب أن يستوي فيه(3) الحامل والحائل، وأيضاً إذا ثبت وجوب ألنفقة للزوج لكونها محبوسة على زوجها غير نائزة، وجب أن يلزم للمعتدة البائن لكونها محبوسة عليه من غير نشوز، وليس لهم أن يمتنعوا من تسليم أنها محبوسة على زوجها، وذلك أنه وإن لم يكن في الحال زوجاً، فإنه هو الذي ملك بضعها بالنكاح، وحبسها، إنما هو للحرمة المتعلقة بذلك، فإذا ثبت غرض فيما ذكرناه، لم يَقدح فيه امتناعهم من إجراء الإسم عليه، يكشف ذلك أنها في حال الإعتداد موقوفة لحرمة الزوجية، ممنوعة من التصرف في نفسها كحالها وهي متزوجة، فوجب أن تلزم نفقتها كما لزمت في حال /202/ الزوجية.
فإن قيل: هذا ينتقض بالمختلعة إذا خالعت على النفقة.
قيل له: نحن علَّلنا لإيحاب أصل النفقة، لا أن يعتبر فيها الإبراء، فلا وجه لهذا السؤال.
فإن قيل: فقد روي عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: طلقني زوجي البَتَّة، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السكني والنفقة، فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وهذا نص يعترض قياسكم.
قيل له: قد روي أن زوجها لما طلَّق بعث إليها النفقة، فاستَقلَّتَها، فخاصمت، فيمكن أن يكون قولها: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل لي(4) نفقة محمولاً على أن المراد به أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل لي نفقة زائدة على ما بعث، وإذا كان هذا هكذا، لم يكن لخصمنا التعلق به.
__________
(1) في (أ): الرجعية.
(2) في (أ): أن يراعي.
(3) في (أ): ناشزة.
(4) في (ب): لها.

(61/9)


أخبرنا بذلك أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا روح، حدثنا يحيى بن عبدالله بن بكير، حدثني الليث، عن أبي الزبير المكي، أنه سأل عبدالحميد بن عبدالله بن أبي عمرو بن حفص، عن طلاق جده أبي عمرو فاطمةَ بنت قيس، فقال له عبدالحميد: طلقها البته، ثم خرج إلى اليمن، ووكَّل عياش بن أبي ربيعة، فأرسل إليها ببعض النفقة فسخطتها، فقال لها عياش مالَكِ علينا من نفقة، ولا سكنى، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ليس لك نفقة ولا سكنى، ولكن متاع بالمعروف) (1)، فدل ذلك على أن الذي أراده صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ليس لك نفقة)، هو الزائد على الذي بعث إليها.
وأخبرنا أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا وهب، حدثنا سعد بن أبي بكر، عن أبي بكر بن أبي الجهم، قال: دخلت أنا(2) وأبو سلمة إلى فاطمة بنت قيس فحدَّثَت أن زوجها طلقها طلاقاً بائناً، وأمر أن يرسل إليها بنفقتها خمسة أوساق، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: إن زوجي طلقني، ولم يجعل لي السكنى، ولا النفقة. (3) فدل هذان الخبران أن نفقتها(4) كانت قد بُعِثت إليها، وأنها كانت تطلب الزيادة، فمنعها عن طلبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/65 وفيه عن طلاق جده أبي عمر وفاطمة بنت قيس وفيه أيضاً ليس لك نفقة ولا مسكن ولكن متاع بالمعروف اخرجي عنهم.. الخ.
(2) في (أ): أنا وأبو خيثمة.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار، وفيه: فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت، وفيه أيضاً: حدثنا سعيد بدلاً عن سعيد.
(4) في (أ): النفقة.

(61/10)


وذكر أبو العباس الحسني ـ رحمه الله ـ في كتاب (الإبانة) أنه روى عن عبدالرحمن بن المهدي، حدثنا سفيان عن أبي بكر بن أبي الجهم قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: أرسل زوجي أبو عمرو بن حفص عياشَ بن أبي ربيعة بطلاقي، فأرسل إليَّ خمسة أصوع من شعير، وخمسة أصوع من تمر، فإن قيل: فإن في الخبر الأول أنه بعث إليها خمسة أوساق، وفي الخبر الثاني بعث إليها خمسة أصوع من شعير وخمسة أصوع من تمر، وهذا ضرب من التعارض.
قيل له: لا يمتنع أن يكون الذي بعث أولاً عشرة آصع(1)، وإنه أكمل خمسة أوسق بعد ذلك، فتارة أخبرت عما حُمل إليها أولاً، وتارة عما حمل إليها ثانياً، فلا يكون في ذلك تعارض.
فإن قيل: لو كان حمل إليها خمسة أوسق(2) ما كانت تستقلها.
قيل له: يجوز أن لا يكون الجميع كان لنفقة عدتها، بل كان بعضها مما(3) لزمه من نفقتها المتقدمة، ويجوز أن يكون امتد زمان أقرآئها، فتطاولت مدة العدة، فاستقلته.
فإن قيل: فلو كان ذلك كذلك، لم ينكر عمر قولها.
قيل له: يجوز أن يكون عمر سمع ظاهر قولها: ولم يعرف ماكان وصل إليها، وأنها نفت الزائد من النفقة، فأنكر ظاهر إطلاقها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل لها نفقة.
__________
(1) في (أ): أصواع.
(2) في (أ): أوساق.
(3) في (أ): لما.

(61/11)


فأما ما يدل على أنه(1) لا سكنى (2)لها، فهو: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، حدثنا سعيد بن /203/ منصور، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، وحصين، وأشعث، وإسماعيل بن أبي خالد، وداود، وسيار، ومجالد، عن الشعبي، قال: دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة، فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها فقالت: طلقني زوجي البتة، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السكنى والنفقة، فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم(3)، وقال مجالد في حديثه، يابنة قيس إنما السكنى والنفقة لمن كانت له الرجعة، فقولها لم يجعل لي سكنى ـ دليل على أن المبتوتة لا سكنى لها. (4)
وكذلك ما رواه مجالد عنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يأبنة قيس إنما السكنى والنفقة لمن كانت له الرجعة)، نص فيما نذهب(5) إليه، وكذلك قول عبدالحميد بن عبدالله بن أبي عمرو بن حفص: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمه بنت قيس: (ليس لك نفقة ولا سكنى، ولكن متاع بالمعروف)، دليل على صحة ما نذهب إليه من أنها لا سكنى لها.
فإن قيل: فإن عمر أنكر هذا الحديث، ومن شرط قبول خبر الواحد أن لا يكون للسلف نكير فيه.
__________
(1) في (أ): أنها.
(2) في (ب): لا سكنى ولا نفقة.
(3) في (أ): في بيت أم مكتوم.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/64.
(5) في (ب): ذهب.

(61/12)


قيل له: ليس الأمر على ما ذكرت، بل يجب للمنكر أن يذكر للإنكار وجهاً يجوز أن يُنكرَ من أجله، وعمر لم يزد على أن قال: لا نقبل خبر امرأة لا ندري أصدقت، أم كذبت، في بعض الأخبار، وفي بعضها، أو سَهِيتَ،وهذا لايجوز أن يكون وجهاً للإنكار، ألا ترى أنا لو جعلنا ذلك وجهاً للإنكار، لوجب أن ينكر جميع أخبار الآحاد، لأن كل خبر الواحد يجوز على راويه الكذب والسهو، ولا ندري أصدق، أم لا، فلما كان هذا هكذا لم يكن ذلك وجهاً يُنكرَ من أجله خبر الواحد، فوجب أن يسقط إنكار عمر له.
فإن قيل: فإنه قال: لا نقبل على كتاب ربنا، وسنة(1) نبينا صلى الله عليه وآله وسلم خبر امرأة لا ندري أصدقت، أم لا، فبيَّن أنها اعترضت بخبرها(2) على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فوجب أن يسقط خبرها.
قيل له: الإعتراض على وجهين:
أحدهما: أن يعترضه إعتراض الْمُخصِّص، فهذا جائز غير ممتنع؛ لأن عمومات القرآن قد تخصص بخبر الواحد.
[والثاني] وقد تعترض إعتراضاً يوجب رفع حكمه رأساً، وهذا مما لا يجوز، ولم يثبت في كتاب الله تعالى ولا سنة(3) رسوله لفظ لا يحتمل التأويل، ويكون خبر فاطمة بنت قيس يوجب رفع حكمه رأساً، فسقط هذا الإعتراض.
على أن عمر بيَّن أنه رد خبرها، لأنه لا يدري، أصدقت، أم كذبت، فلو كان رده له؛ لأنه رافع لحكم الكتاب والسنة رأساً، لم يقل ذلك، فإنه ما يجري(4) هذا المجرى لا يقبل، وإن ورد مَن جهة من يطلق أنه ثقة عدل.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَاحْصُوا الْعِدَّةَ}، ثم قال: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بِيُوتِهنَّ}، وقال أيضاً بعد ذكره سبحانه أحكام العدة: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وَجْدِكُمْ}، فكان الآيتان عامتين في البائنة وغير البائنة في إيجاب السكنى لها.
__________
(1) في (أ): وعلى على سنة.
(2) في (ب): اعترضت على.
(3) في (أ): ولا في سنة.
(4) في (ب): فإنه يجري.

(61/13)


قيل له: لو ثبت ما ادعيتم من عموم الآيتين، لوجب أن يكونا مخصوصتين بما رويناه عن فاطمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن عبدالحميد بن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شأنها على ما بيناه، على أن في كل(1) واحدة من الآيتين ما يدل على أنها خاصة في المعتدة من الطلاق الرجعي، ألا ترى أن قال بعد قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بِيُوتِهِنَّ لَعَلَّ اللَّهُ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً}، وقد روي في التفسير أن ذلك الأمر هو الرجعة، فدل ذلك على أن الآية فيمن طلقت تطليقة رجعية، على أنه ليس هناك أمر يتعلق بالعدة يَنتَظر حدوثه سوى الرجعة، فوجب(2) أن تكون هي المراد به.
فإن قيل: الرجعة هي فعل المراجع، فكيف يجوز أن يحدثه الله تعالى؟
__________
(1) في (ب): أن كل.
(2) في (أ): فيجب.

(61/14)


قيل /204/ له: المراد به أن الله تعالى يحدث ما يدعو إليها من الأسباب الداعية، وأما ما يدل على أن قوله سبحانه: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}، ومعناه حيث سكنتم، و(من) هاهنا صلة، وقد علمنا أن الْمُطَلِّق لا يجوز له مساكنة المطلقة، إلا أن تكون التطليقة رجعية، فأما البائن فلا يجوز له مساكنتها؛ لأنها في حكم الأجانب، ألا ترى أنها لا تستباح إلا بعقد جديد، وإذا ثبت ذلك، بان بأن الآية واردة في المعتدات من الطلاق الرجعي، ويدل على ذلك أنها ممن لم يبق لمطلقها عليها حق الإستمتاع، فوجب أن لا يجب عليه لها السكنى، دليله إذا خرجت من عدتها [ويكشف أن السكنى تعلق بحق استمتاع الزوج، ولأنها ليست كالنفقة، أن المرأة لو أبرأته من السكنى] (1) كان لزوجها أن يطالبها بأن تسكن حيث يسكنها، وليس لها أن تجعل سكناها لغيرها، والنفقة لو أبرأته المرأة منها، لم يكن له أن يطالبها بالإستنفاق من نفقته، وكذلك إذا قبضت نفقتها، فلها أن تهبها من شاءت، فتصرف فيها كيف شاءت، فدل ذلك على أن السكنى يتعلق بها حق الزوج، فإذا انقطعت حقوق الزوج من الإستمتاع عنها، وجب أن يسقط وجوب سكناها.
مسألة: [في نفقة المختلفة]
قال: والمختلعة إن خولعت على النفقة، فليس لها نفقة، ولا سكنى، فإن لم تخالع على النفقة، فلها النفقة دون السكنى. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
__________
(1) ما بين المعكوفين سقط من (ب).
(2) لفظ الأحكام: (والمختلفة فعدتها واجبة وعلى زوجها نفقتها إلا أن يكون زوها اشترط عليها ألا يكون عليه لا نفقة ولا سكنى فإن كان ذلك جرى في الشرط فهو جائز، وقال عن جده السكنى والنفقة على قدر ما يون من مشارطة الزوج) انظر الأحكام 1/425 فليتأمل.

(61/15)


أما إن خولعت من غير اشتراط إسقاط النفقة فقد دللنا في المسألة التي تقدمت أن لها النفقة دون السكنى، فلا وجه لإعادته، وأما إذا خالعها عن(1) النفقة فإن النفقة تسقط؛ لأنها قد جعلت عوضاً للطلاق، كما سقط المهر إذا جعل عوضاً للطلاق، لأن كل واحد منهما حق في مال وجب بسبب النكاح، فوجب أن يصح اسقاطه بالمخالعة، وليس يمكن الإعتراض عليه بأن النفقة قد تدخل فيها الجهالة، فلا يصح أن تجعل عوضاً؛ لأن دخول الجهالة في أعواض الطلاق لا يبطلها كما يبطل المهر، وليس يصح أن يقال: إن إبراءها منها لا يصح؛ لأنها لم تجب بعد، ولم تصر المرأة مستحقة لها؛ لأنها تستحقها بعد الطلاق؛ لأن ذلك عندنا ليس بإبراء محض، لأنها لم يجعل العوض عنها، وقد علمنا أنها لو أعطيت نفقة العدة قبل الطلاق، صح ذلك، فلم يمتنع أن يعتاض الطلاق عن نفقة العدة قبل وجوبها.
مسألة: [في نفقة المتوخي عنها]
قال: والمتوفي عنها زوجها تجب نفقتها من جملة الميراث حتى تنقضي عدتها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3).
وذهب أكثر العلماء إلى أن لا نفقة لها، قال أبو العباس الحسني رحمه الله: وروي نحو قولنا عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، وقد روى هناد بن السري، عن الشعبي، عن علي عليه السلام، وعبدالله بن مسعود، أنهما أوجبا النفقة للحامل المتوفى عنها زوجها، وروي نحوه عن شريح.
__________
(1) في (ب): على.
(2) انظر الأحكام 1/439 ـ 440، 491.
(3) انظر المنتخب 142.

(61/16)


والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، حدثنا محمد بن علي بن شروشان، حدثنا أبو حاتم الرازي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، عن معاوية بن صالح، عن علي بن(1) طلحة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}، قال: كان الرجل إذا مات، وترك امرأته، اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله سبحانه: {وَالَّذِيْنَ يُتَوَفُّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، فبين أن الآية الآولى أوجبت على المتوفى عنها زوجها إعتداد سنة، وأوجب لها النفقة ما دامت في العدة، فلما نسخت المدة، بقي وجوب النفقة على ما كان عليه.
فإن قيل: فقد(2) روي عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {مَتَاعٌ إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}، : نسخ ذلك بآية الميراث.
قيل له: يجوز أن يكون ذلك قاله لرأي رآه، إذ ليس في ظاهر آية الميراث ما يوجب نسخ ما جعل لها من المتاع، وما كان كذلك، لم يلزمنا المصير إليه إلا بحجة.
فإن /205/ قيل: فإذا كان المروي عن علي عليه السلام أنه أوجب النفقة للحامل، فكيف أوجبتموها للحائل مع قولكم: إنه لا يجوز أن يخالف؟
__________
(1) في (أ): عن علي بن أبي طلحة.
(2) في (ب): روي.

(61/17)


قيل له: ليس فيما(1) روي عنه ما يدل على أنه عليه السلام لم يكن يوجبها للحائل، وجائز أن يكون سأله سائل عن الحامل إذا توفي عنها زوجها، فأفتى بإيجاب النفقة لها، فروى السامع ما سمعه يفتي به، لا أنه عليه السلام لم يكن يرى إيجابها للحائل، على أنها إذا وجبت للحامل، فيجب أن تجب للحائل قياساً عليها، والعلة أنها معتدة من وفاة، فوجب أن يكون نفقتها من جملة الميراث، ولا خلاف أنها لو كانت مطلقة طلاقاً رجعياً، لوجبت النفقة لها، فكذلك إذا توفي عنها زوجها، والمعنى(2) أنها معتدة عن نكاح، ومحبوسة(3) بحرمة النكاح، ويؤيد هذه العلة أنها إذا كانت متزوجة، يجب لها النفقة بهذه العلة، ومتى زالت، زال الحكم.
فإن قيل: فإن الرجل إذا مات، انقطعت حقوقه عن ماله، فلا يجوز أن يتجدد ذلك بوجوب حق.
قيل له: يجوز أن يتجدد ذلك إذا كان السبب متقدماً، كما يتجدد وجوب الكفن، والوصايا؛ للأسباب التي تقدم.
مسألة: [في نفقة من أسلم زوجها أو العكس]
قال: وإذا أسلم الكافر ولم تسلم امرأته فلا نفقة لها، فإن أسلمت هي، ولم يسلم الزوج، فلها النفقة ما دامت في العدة. وهذا منصوص عليه في كتاب النفقات من (الأحكام) (4).
__________
(1) في (ب): مما.
(2) في (أ) والمعنى العلّة.
(3) في (أ): أو.
(4) انظر الأحكام 1/495.

(61/18)


ووجهه أن الكافر إذا أسلم، ولم تسلم امرأته، فهي في حكم الناشزة؛ لأنها بإقامتها على الكفر ممتنعة من زوجها بمعصية، ألا ترى أنها لو أسلمت، لحلت لزوجها، فإذا ثبت أن إقامتها على الكفر امتناع عن(1) الزوج بمعصية، وجب أن تسقط نفقتها، دليله الناشزة، فأما إن أسلمت هي، ولم يسلم، فإنها ممتنعة من زوجها بحق، وممكن لزوجها إزالة ذلك المانع بأن يسلم فسبيلها سبيل من منعت نفسها لاقتضاء مهرها. قبل الدخول في عقد أوجب تسليم نفسها، في أن نفقتها واجبة؛ لأنها امتنعت بحق، على ما سلف القول فيه، وهاتان المسألتان مبنيتان على أن الفرقة لا تقع بينهما إلا بانقضاء العدة، وقد بينا الكلام في ذلك فيما تقدم من كتاب النكاح، فلا وجه لإعادته.
باب القول في نفقة المؤسر على قريبه المعسر(2)
[مسألة: في نفقة الأبوين وذوي الأرحام]
يجب على الْمؤسر، رجلاً كان أو امرأة، صغيراً كان أو كبيراً، نفقة أبويه إذا كانا معسرين، مسلمَين كانا أو كافرين، فأما سائر الأقرباء، فلا نفقة لهم إلا إذا كانوا مسلمين. وهذا جميعه منصوص عليه في (الأحكام)(3).
ووجه قولنا: إنه لا فصل بين أن يكون الذي لزمته نفقه أبويه(4)، أو غيرهما من أقاربه، رجلاً أو امرأة، صغيراً أو كبيراً، هو أن الحقوق المتعلقة بالأموال استوى فيها الرجال والنساء، والصغار والكبار، إذا اشتركوا في السبب الموجِب لها، كذلك الجنايات التي يتعلق بها الأموال لا فصل بينهم فيما يلزم من طريق المال، فكذلك لا فصل بينهم في باب العشور، وعندنا في سائر الزكوات، فإذا ثبت ذلك، وكان الموجب للنفقات هو الرحم، والنسب، فيجب أن يستوي الرجال والنساء، والصغار والكبار فيها؛ لاشتراكهم في سببها، وهو(5) النسب، والرحم.
__________
(1) في (ب): من.
(2) في (أ): باب القول في نفقة المعسر على قريبه المؤسر.
(3) انظر الأحكام 1/496 ، 498.
(4) في (أ): نفقته.
(5) في (ب): وهي.

(61/19)


وقلنا: إن نفقة الأبوين واجبة، مسلمَين كانا، أو كافرين، لقول الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ لِيْ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِيْ الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}، والمصاحبة في الدنيا على سبيل المعروف يقتضي ألا يشبع ويجوعان، وألا يكتسي ويعريان، مع قدرته على أن يشبعهما ويكسوهما، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله /206/ وسلم: (أنت ومالك لأبيك)، فاقتضى ظاهره أن يكون الأب، معسراً كان أو مؤسراً، كافراً كان أو مسلماً، أن يتصرف في مال ابنه، فلما أجمعوا على أنه ممنوع من ذلك فيما زاد على قدر الحاجة عند الإعسار، بقي ذلك على مقتضى الظاهر، مسلماً كان الأب أو كافراً، وإذا ثبت ذلك في الأب، ثبت في الأم؛ لاشتراكهما في الولادة، ولأن أحداً لم يفصل بينهما في هذا الباب، وأما سائر الأقرباء فقلنا: إنهم لا نفقة لهم على المسلم إلا إذا كانوا مسلمين؛ لأنه لاخلاف فيه، ولأن الحقوق التي بينهم منقطعة.
مسألة: [في ماهية النفقة]
قال: والنفقة التي يُحكم بها هي: الإطعام، والكسوة، والسكنى، والخادم إن كان المنفَق عليه لا يطيق خدمة نفسه؛ لمرض، أو صغر، أو كِبرَ. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ووجهه قول الله تعالى: {لا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَالِدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، فدل على وجوب ما ذكرنا، ولأن إيجاب بعض ما قلناه ليس بأولى من إيجاب البعض؛ إذ الجميع قوام المرء وقوته الذي لا يستغني عنه.
مسألة: [في تقسيم النفقة على حسب الأرث]
__________
(1) انظر الأحكام 1/498.

(61/20)


قال: ويحكم على المؤسر بنفقة قريبه المعسر إذا كان وارثاً له على قدر موروثه منه، فإن لم يكن وارثاً، فلا نفقة له(1) عليه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3)، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب أبو حنيفة إلى أن النفقة تجب على كل ذي رحم محرم إذا كان من أهل الميراث، والشافعي قصره على الولادة فقط، وحكي عن الأوزاعي أنها على العصبة دون النساء، وحكي عن ابن أبي ليلى، وأبي ثور أنها تلزم كل وارث بسبب.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {لا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلِدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، ووجه الإستدلال من الآية أن الله تعالى خصص الوالدين والورثة بالمنع من المضارة بالولد، ولا مضارة يقع التخصيص بالمنع منها إلا ترك الإنفاق، وما يتبعه، فثبت أنهم قد أوجب عليهم الإنفاق.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن المراد به سائر الأضرار؟
قيل له: المنع من سائر الأضرار لا يختص به الوالدان والورثة؛ لأنهم والأجانب فيه سواء، فبان أن المراد ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المراد به وارثاً واحداً، وهو الجد؟
قيل له: الألف واللام يفيدان الجنس إذا دخلا في الكلام على هذا الحد، فلا يجوز أن يقتصر على وارث واحد إلا بالدلالة؛ لأنه يكون تخصيصاً، وتخصيص العموم لا يجوز إلا بالدلالة.
فإن قيل: نخصه بما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه).
قيل له: هذا لا يتناول موضع الخلاف؛ لأن الخلاف واقع في لزوم الإخراج، وليس كذلك في الحديث.
فإن قيل: فقد روي عن علي(4) عليه السلام أنه قال: (ليس في المال حق سوى الزكاة).
قيل له: ما استدللنا به من الأية أخص بموضع الخلاف من هذا الخبر، فلا يجوز الإعتراض به علينا.
__________
(1) في (ب): نفقة له.
(2) انظر الأحكام 1/496.
(3) انظر المنتخب 371.
(4) في (أ): عنه.

(61/21)


فإن قيل: فيجب أن تدخل فيها الزوجة، وولي النعمة.
قيل له: نخصهما بدلالة الإجماع، وقد روى هنَّاد تأويل هذه الآية على ما ذهبنا إليه، عن عطاء، وإبراهيم بأسا نيده عنهما، ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَأُلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، ولم يبين(1) الأمر الذي يكون بعضهم أولى ببعض فيه، فوجب أن يكون عاماً في جميع ما يجوز أن يكون مراداً به؛ إذ ليس بعض ذلك بأن يكون مراداً أولى من بعض، فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في الإنفاق عليه، وإذا ثبت ذلك صح ما ذهبنا إليه.
ويدل على صحة ما ذهبنا إليه ما أجمعنا عليه من أن الولد تلزمه نفقة /207/ أبويه، وإن كان الأبوان يلزمهما نفقة الأولاد، فوجب أن يكون كل سبب من أهل الإنفاق يلزمه ذلك للفاقة، والعلة أنه سبب، أو يقال: إن الولد يلزمه نفقة أبيه الفقير، فكذلك سائر ما اختلفنا فيهم، والمعنى أن كل واحد وارث بسبب، وعلتنا أقوى من كل ما يعلِل به المخالف؛ لأن كونه سبباً مما أجمع على أنه مراعى بكونه وارثاً قد نبه النص عليه، ويمكن أن يقوى بأنها أعم من كل ما يعلَّل به في هذا الباب، وبأن فوائدها في الشرع أزيد، وبأنها تقتضي إيجاباً يسقطه ما يعارضها من العلل، وجميع ذلك هو استدلالٌ على أبي حنيفة والشافعي في المواضع التي يخالفانا فيها، وإن كان الكلام إذا كان مع أبي حنيفة أوسع مجالاً؛ لإيجابه النفقة على كل ذي رحم محرم، على أن أصحابه استدلوا بما استدللنا به من قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، ثم قالوا فيمن له خال وابن عم: إن النفقة تلزم الخال، وإن لم يكن وارثاً، وكان ابن العم وارثا، قالوا: لأن الخال على الجملة من أهل الميراث، وهذا خلاف الظاهر، فوجب سقوطه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ابن العم لا تلزمه النفقة، قياساً على مولى النعمة، والزوجة؛ لأنه ليس بذي رحم محرم؟
__________
(1) في (ب): يتبين.

(61/22)


قيل له: العلة في ذلك أن كل واحد منهما ليس بذي رحم، وقد ثبت أنه مراعى في هذا الباب بالإنفاق، فإذا صح تعلق(1) الحكم بالإنفاق، لم يكن لإضافة وصف زائد إليه معنى، وهو قولهم: مُحرَّم، وكذلك من قال: إنها مقصورة على التعصيب يحجهم ما قدمناه من الآية والعبرة.
مسألة: [في فقد أحد شروط وجوب الإنفاق]
ولو أن رجلاً معسراً كان له ابن معسر، وأخ مؤسر، فلا نفقة له على واحد منهما. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2).
ووجهه ما بيناه في المسألة التي قبل هذه، أن النفقة تلزم بإجتماع أمرين: الرحم، والإرث، فإذا ثبت ذلك، سقطت النفقة عن الأخ المؤسر، لأنه لا يرث مع الإبن، وسقطت عن الإبن لكونه معسراً، فلم يلزم واحد منهما نفقته.
مسألة: [في المعسر له سببان وارثان مؤسر ومعسر]
قال: وإن(3) كان له أخوان أحدهما مؤسر، والآخر معسر، حكم بنفقته على الأخ المؤسر، ورواية (المنتخب) (4) يحكم بنصف نفقته على الأخ المؤسر، ولا يحكم بالنصف على واحد منهما.
ما ذكرناه أولاً هو رواية الأحكام، ووجهه أن هذا المعسر له سبب وارث ذو يسار فوجب أن يحكم له بتمام قوته عليه.
دليله لو لم يكن له غير ذا الأخ الموسر، يؤكد ذلك ويوضحه أن المرعى فيه ليس هو بتحقيق الإرث، لأنا نجوز أن يكون الموسر يموت فيرثه المعسر، أو يموت قبل أخيه الآخر فينتقل كمال الإرث عنه، أو يموت ذلك فينتقل كمال الإرث إليه، وإنما المراعَى أن يكون هو في الحال وارثاً لو مات المعسر، فإذا ثبت ذلك، لم يجب أن يسقط عنه بعض النفقة لكون غيره في حكمه في معنى الإرث.
فإن قيل: لو كان ذلك كذلك، لوجب أن يلزمه تمام النفقة، وإن كان الأخ الآخر مؤسراً.
__________
(1) في (ب): تعلق الحكم به بالإنفاق ولم.
(2) انظر المنتخب 371.
(3) في (ب): إذا.
(4) انظر المنتخب 372 وهو بالمعنى فقط ولم يذكر هذا المثال بعينه.

(61/23)


قيل له: هذا لا يلزم؛ لأن الأخ الآخر إذا كان مؤسراً، فليس أحدهما بالإنفاق أولى من الآخر، فوجب أن يستويا فيه، على أنا قد علمنا أن اليسار شرط في لزوم النفقة كالنسب والأرث، فكما أنه لوزال كونه وارثاً، بأن يصير محجوباً، سقطت عنه النفقة، ولزم الوارث تمامها، وكذلك لو قدرناه غير نسيب، وإن كان وارثاً مؤسراً، لسقطت عنه، ولزم النسيب تمامها، فكذلك إذا فقد اليسار يجب أن يسقط عنه، ويلزم تمامها المؤسر، إذ اليسار كالنسب في الإرث في هذا الباب، وأيضاً موضوع النفقة إنما هو لدفع الضرر عن المنفَق عليه، فلو(1) لم نحكم له بتمام نفقته، لم /208/ نكن دفعنا عنه الضرر، والزام الأخ المؤسر تمام النفقة أذهب في الباب الذي عليه وضعت النفقة من المواساة، ودفع الضرر، فوجب أن يكون أولى.
ووجه رواية (المنتخب) أن الأخوين لو كانا مؤسرين، للزم كل واحد منهما نصف النفقة، فكذلك إذا كان أحدهما معسراً، والعلة أن نصيبه من الإرث إنما هو النصف، ولأنه وجد النفقة مقسومة على حسب المواريث، فوجب أن يكون الذي لا يرث أكثر من النصف، لا يلزمه من النفقة أكثر من النصف، وأيضاً دفع الضرر لا يجب أن يراعى في كل وجه، ألا ترى أن من له أخ مؤسر وابن معسر، فلا نفقة له، ولا يدفع عنه ضرر الإعسار، لما لم يكن الوارث مؤسراً، فكذلك إذا كان غير وارث لبعض إرثه، لم يلزم أن يدفع عنه بعض الضرر.
مسألة: [في المعسر له ابنان معسر ومؤسر]
قال: وإن(2) كان للرجل ابنان، أحدهما مؤسر، والآخر معسر، حكم بنفقته كلها على الإبن المؤسر، في الروايتين جميعاً.
أما وجهه على رواية (الأحكام) (3) فهو الذي مضى، وهو القياس، ويمكن أن يقوى به ما مضى من رواية (الأحكام) على رواية المنتخب.
__________
(1) في (ب): فلعل الحكم بتمام نفقته لم يكن دفعنا عنه لإضرار.
(2) في (أ): وإذا.
(3) انظر الأحكام 1/496، 497 وهو بالمعنى كما سبق.

(61/24)


وأما وجهه على رواية (المنتخب) (1) فهو أن سبب الأب أوكد؛ لأنه لا خلاف أن نفقته تلزم كافراً كان أو مسلماً، وليس كذلك حال سائر ذوي الأرحام، فوجب أن يكون استحقاقه أقوى، وليس ذلك إلا الحكم بلزوم نفقته على الأحوال كلها، ويؤكد ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت ومالك لأبيك)، فاقتضى الظاهر أن يكون كل ما يملك ابنه المؤسر له، فوجب أن يحكم(2) له منه بتمام نفقته.
فصل: [في شرط المنفَقِ عليه]
لم يراع يحيى بن الحسين صلوات الله عليه لإيجاب النفقة على ذوي الأسباب غير إعسار المنفَق عليه فقط، وراعى فيه أبو حنيفة إن كان صغيراً، أو كان أنثى، الفقر فقط مثل ما راعيناه به، فإن كان ذكراً كبيراً، راعى فيه مع الفقر الزمانة.
ووجه ما ذهبنا إليه أنه ممن يستحق عليه الإنفاق للرحم والإعسار، فوجب ألا يراعى لإيجاب نفقته على قريبه المؤسر إلا الإعسار، دليله الإناث، وصغار الذكور، وأيضاً لا خلاف أن من يلزمه النفقة لقريبه(3) المعسر لا يختلف ما يراعى من حاله، سواء كان ذكراً أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، فوجب ألا يختلف ما لا يراعى من حال من يلزمه النفقة له في ذلك، والعلة أن كل واحد منهما يتعلق به حكم نفقة الإعسار.
فإن قيل: الذكر إذا كان كبيراً أمكنه التكسب، فلا وجه لإلزام نفقته غيره.
__________
(1) انظر المنتخب 372.
(2) في (ب): يحكم له بتمام.
(3) في (ب): يلزم النفقة لقربيه لا.

(61/25)


قيل له: والأنثى أيضاً إذا كانت كبيرة، والذكر وإن كان صغيراً، إذا كان خارجاً عن حد الطفوليَّة، فإن كل واحد منهما يمكنه التكسب، ولا خلاف أن النفقة تجب لهما، وإن لم يكن بهما زمانة، على أن الزمانة لو لم تكن في الآلة التي يحتاج إليها في التكسب، أمكنه التكسب، فسقط هذا الإعتراض، ويؤكد ما ذهبنا إليه أن الحقوق التي تختص الفقراء، كالزكوات، والعشور، والكفارات، والنذور، يستوي في استحقاقها الصغار والكبار، والذكور والإناث، فوجب أن يستووا فيما ذكرناه، وأيضاً النفقات موضوعة للمواساة، والمعونة، كتحمل(1) العاقلة جناية من يعقلون عنه، ثم وجدنا ما يعقل من الجنايات لا ينفصل فيها(2) أحوال هؤلاء، بل يجب أن يستووا، فوجب أن يكون ذلك شاهداً لما ذهبنا إليه في النفقات، على أن عموم قوله تعالى: {وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، يدل على صحة ما قلناه في هذا الباب.
باب القول في نفقة الرضيع
[مسألة: في وجوب الرضاعة على الأم]
إذا ولد المولود وجب على أمه أن ترضعه اللباء، وذلك يكون مقدار يوم إلى ثلاثة /209/ أيام، ويجب بعد ذلك على الأب أن يستأجر من يرضعه. والأم أولى أن تُسْتَأجَر لإرضاعه إن طلبته، يحكم لها بذلك على الأب بعد فراقه لها حتى يفصل الولد، ويكون ذلك إذا أتى عليه حولان. وجميعه منصوص عليه في (المنتخب) (3).
ووجه ما قلناه من أن على الأم أن ترضع ولدها اللباء ما استقر في العادة أن غير اللباء من الألبان لا يقوم مقام اللباء في التغذية والتقوية، وفي قطعه عن الولد الأضرار(4) به، وقد قال الله تعالى: {لا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}.
ووجه تقديره باليوم الواحد إلى ثلاثة أيام أن الصبي يستغني عنه في غالب العادة إذا أرضع(5) هذه المدة.
__________
(1) في (ب): كتحميل.
(2) في (ب): لا ينفصل في أحوال.
(3) انظر المنتخب 370 ـ 371.
(4) في (ب): إضرار.
(5) في (ب): رضع.

(61/26)


وقلنا: إن على الأب أن يستأجر من يرضعه؛ لأنه لا خلاف في ذلك، ولأن الإرضاع(1) ليس هو من موجب النكاح، وقد دل على ذلك قول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، إلى قوله: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}.
وقلنا: إن الأم أولى أن تستأجر إن طلبته؛ لأنها على الولد أحنى وأدنى إلى دفع المضار عنه؛ لأن الولد قد يعَاف لبن غير أمه، وقد نهى الله تعالى الوالد عن المضارة بالولد، كما نهى الوالدة بقوله: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}، ولقوله تعالى: {فَإِن أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، فأمر (2)بإتيانهن الأجور متى اخترن الرضاع، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (لا توله والدة عن ولدها)، ولأنه منهي عن التفريق بينهما في السبي.
وقلنا: إن ذلك إلى غاية مدة الرضاع؛ لأن حكم الإرضاع قائم فيها، وجعلنا أمدها حولين لقوله سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، وسنورد في هذا أتم من هذا البيان في باب الرضاع بعون الله تعالى.
مسألة: [في نفقة الرضيع على من تكون]
قال: فإن لم يكن له والد، وكان له مال أنفق عليه من ماله، وإن لم يكن له مال، كانت نفقته على قريبه من ورثته، يُحكم بها على قدر مواريثهم. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (3).
قلنا: إن لم يكن له والد وكان له مال أنفق عليه من ماله؛ لأنه لا خلاف فيه، ولأن المرء أولى بماله، ولأن إضاعته غير جائزة، ولا يلزم ورثته الإنفاق عليه ليساره، فلم يبقَ إلا أن ينفق عليه من ماله.
وقلنا: إنه إن لم يكن له مال، كانت نفقته على ورثته؛ لما بيناه قبل هذا في النفقة على ذوي الأنساب(4)، فلا جه لإعادته.
مسألة: [في نفقة الأب على ولده]
__________
(1) في (ب): الرضاع.
(2) في (ب): يأمر.
(3) انظر المنتخب 372.
(4) في (ب): الأسباب.

(61/27)


قال: وإذا كان للرجل ولد وجبت(1) عليه له النفقة حتى يبلغ، سواء كان للولد مال، أو لم يكن له مال، إذا كان مؤسراً، فإما إذا كان معسراً، فله أن ينفق على نفسه وعلى ولده من ماله بالمعروف. وجميعه منصوص عليه في (المنتخب) (2).
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه من أن الأب يلزمه الإنفاق على الولد الصغير كان له مال، أو لم يكن، قوله تعالى: {لا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}، فنهى سبحانه الأب عن الإضرار بولده، فاقتضى ظاهره منعه من انفاق مال الولد على الوالد(3)؛ لأن ذلك يكون اضراراً، من حيث ينتقص بالمال(4)، وإذا ثبت ذلك، ثبت أنه يلزمه الإنفاق عليه من مال نفسه، وذلك عام في الأولاد أجمع على جميع الأحوال، إلا حيث منع الدليل.
فإن قيل: فإنه يلزمكم أن تقولوا: إن ذلك يلزم الوالدة والوارث فقد قال الله تعالى: {لا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}، ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}.؟
قيل له: هو مخصوص بدلالة الإجماع والإتفاق، فلا معترض علينا به.
ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، ثم قال تعالى: {وَعَلَى الْمُولُودِ لَهُ رِزْقَهُنَّ /210/ وَكِسْوَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وهذا عام في الوالدات(5) المطلقات، والزوجات، وفي الأولاد الذين لهم أموال، والذين لا أموال لهم، فإذا ثبت ذلك، لم يلزم والد الصبي لأمه المطلقة بعد انقضاء عدتها إلا على وجه الإنقاق على الولد، وإذا ثبت ذلك، ثبت وجوبه على الوالد، سواء كان الولد له مال، أو لا مال له، بعموم الآية، فثبت صحة ما قلناه.
__________
(1) في (ب): وجب عليه النفقة.
(2) انظر المنتخب 372.
(3) في (ب): الولد.
(4) في (ب): المال.
(5) في (أ): وهذا عام في الزوجات المطلقات.

(61/28)


ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ومعي دينار فقال: أنفقه على نفسك، ثم قال: معي آخر، فقال: أنفقهه على أهلك، ثم قال: معي آخر، قال: أنفقه على ولدك، ثم قال: معي آخر، قال: أنفقه على عبدك، ثم قال في الخامسة: أنت أعلم)، فدل ذلك على وجوب الإنفاق على الولد، فقيراً كان أو غنياً؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يستثنِ غنَى الأولاد من فقيرهم.
فإن قيل: فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يستثن الكبير من الصغير، ومع هذا لا توجبون عليه الإنفاق على الكبير إذا كان واجداً.
قيل له: الظاهر يقتضي ذلك، لكنَّا خصصناه بالدلالة، وأيضاً هي نفقة تجب على المنفق في حال إعساره ويساره، فوجب ألا يسقطها مجرد يسار المنفَق عليه، دليله نفقة الزوجات.
فإن قيل: أليس الأب لو كان معسراً، وكان للإبن مال، لم تلزمه نفقته، فقد انتقضت العلة.
قيل له: نحن ذكرنا أن مجرد اليسار لا يسقطها، وفيما سألتم عنه سقطت لانضمام يسار الولد إلى إعسار الوالد، فسقط ما ادعيتموه من النقض، وأيضاً الوالد يملك على ولده الصغير عامة تصرفه ، فوجب أن يلزمه(1) نفقته، وإن كان واجداً، دليله الزوجة، يكشف ذلك ويوضحه أنه لا خلاف في أن العبد لو تزوج بحرة لم يلزمه نفقة ولده منها لَمَّا لم يملك عليه تصرفه، وكذلك الحر لو تزوج الأمة، واسترق ولده منها، لم يلزمه نفقته حتى يملك عليه تصرفه، فوضح بذلك أن الحكم تعلق بما ذكرناه.
وقلنا: إن الوالد إذا كان معسراً، أو كان الولد مؤسراً، سقطت نفقته؛ لأنه لا خلاف فيه.
وقلنا: إن للوالد أن ينفق على نفسه وعلى الولد بالمعروف، لما بيناه من أن نفقة الوالد(2) إذا كان معسراً تلزم الإبن المؤسر، وإن كان صغيراً.
__________
(1) في (أ): أن لا.
(2) في (ب): الأب.

(61/29)


وقلنا: إن للأب أن ينفق على نفسه؛ لأنه ولي ابنه الصغير، واشترطنا أن ينفق بالمعروف؛ لأنه الواجب دون ما زاد عليه، وليس للولي أن يأخذ من مال الصبي إلا ما يجب دون ما زاد عليه؛ لأنه لا ولاية لأحد على الصبي فيما يضره.
باب القول في الحضانة
[مسألة: في أولى الناس بحضانة الولد]
أم الصبي أولى به إلى أن يعقل ويطيق الأدب مالم تتزوج. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1)، وذكر اطاقة الأدب في (الأحكام) (2)، وعبر عنه في (المنتخب) (3) بأن قال: إلى أن يعقل ويقوم بنفسه، وفسر ذلك أبو العباس الحسني في (النصوص) فقال: هو أن يأكل ويشرب، ويلبس بنفسه، وحكي نحوه عن أبي حنيفة.
ما ذكرناه من أن الأم أولى مالم تتزوج مما لا أحفظ فيه خلافاً.
والأصل فيه قول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، وقال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، إلى قوله: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}، فأمر تعالى بإيتائهن أجورهن إن أرضعن، ولم يُجِزْ العدول عنهن إلا عند التعاسر.
ثم ما روي(4) فيه عن النبي صلى الله عليه وآله /211/ وسلم، رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: (أن امرأة قالت: يارسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء وإن أباه طلقني، وأراد أن ينزعه مني، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنت أحق به مالم تنكحي)، فجعل الحضانة لها مالم تنكح، وهذا نص فيما ذكرناه، ولأن الأم أحنى عليه وأرفق به مالم تتزوج، ولأنها إذا تزوجت اشتغلت عنه بزوجها، فلو أبقيناها على الحضانة، كنا أدخلنا على المولود الضرر، ولا ولاية لأحد على الصغير فيما يضره.
__________
(1) انظر المنتخب 371.
(2) انظر الأحكام 1/411.
(3) انظر المنتخب 371.
(4) في (ب): روى عن.

(61/30)


وقلنا: إن ذلك لها إلى أن يستقل الولد بنفسه؛ لأن الولد إذا بلغ ذلك المبلغ، استغنى عن الحضانة، فوجب أن ينقطع عنه ولاية الحضانة، ولأنه لا خلاف في الذكر أنه إذا بلغ ذلك المبلغ، انقطع عنه حق الأم من الحضانة، فكذلك الأنثى، والمعنى استقلال الولد بنفسه، وكذلك لاخلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن حضانة الأخت والخالة تنقطع عن الذكر والأنثى إذا بلغ ذلك المبلغ فكذلك حضانة الأم للعلة التي ذكرناها، ولأن الولد إذا بلغ ذلك المبلغ، يكون الأب أقدر على تأديبه وتثقيفه، فوجب أن يكون أولى به.
مسألة: [في سقوط حق الأم في الحضانة بالنكاح]
قال: فإن تزوجت، فالأب أولى به منها ومن أمها، وكذلك لو طلقها الزوج الثاني، فالأب أولى به [من أمها] (1) وهذا منصوص عليه في باب تخيير الغلام من (المنتخب) (2)، أما ما ذهبنا غليه من أن حقها من الحضانة يبطل إذا تزوجت، فمما لا أحفظ فيه خلافاً، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت أحق به مالم تنكحي)، فجعلها أحق به بشرط أنه لا تنكح، فإذا زال الشرط، زال المشروط، ولأن في ذلك ضرراً على المولود.
وقلنا: إن الزوج الثاني وإن طلقها، لم يَعد حقها من الحضانة، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت أحق به مالم تنكحي)، فجعلها أحق به بشرط ألا تنكح، فلم يستثن حالها إن طلقها الزوج الثاني، فوجب أن يجرى ذلك على عموم الأحوال، ويدل على ذلك أيضاً ما أجمعوا عليه أن تزوجها بغير أبيه يُبطل حقها من الحضانة ما دامت زوجة له، فكذلك إذا طلقها، والمعنى حصول تزوجها بغير أبيه، وأيضاً لو أبرأت زوجها من مهرها، لم يعد وجوب المهر، وكذلك الحضانة إذا بطلت بالتزويج لم تعد، والعلة أنها أبطلت حقها بأمر هو مباح.
فإن قيل: فهذا ينتقض بإبرائها زوجهامن النفقة؛ لأن لها أن تطالب بها متى شاءت.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) انظر المنتخب 186.

(61/31)


قيل له: الإبراء لا يصح إلا مما وجب من نفقتها، ولم يرجع، وإنما لها أن تطالب بها فيما بعد، لأن الإبراء لم يتناوله فكذلك(1) القَسْم إن سألوا فيه كان الجواب ما ذكرناه.
فإن قيل: الناشزة تبطل نفقتها بالنشوز ثم إذا عادت إلى زوجها وجبت(2) نفقتها.
قيل له: هذا لا يعترض علتنا؛ لأنا اشترطنا فيها أنها أبطلت حقها بمباح، والنشوز محظور.
ويشهد لما ذكرناه سائر ما يبطل الحقوق كالعفو عن القصاص أو الدية، أو ترك الشفعة، أو إبطال الخيار فيما للإنسان فيه الخيار.
فإن قيل: إنما أوجب(3) التزوج قطعَ حقها من الحضانة؛ لأنها إذا تزوجت اشتغلت عن الولد، فإذا طلقها زوجها، زال ذلك المانع، فوجب أن تعود كما كانت.
قيل له: لا يمتنع أن الذي ذكرتم قد أوجب قطع حقها، وإن كان له موجب آخر، وهو أن تزوجها يكشف من حالها أنها قليلة الإهتمام بأمر ولدها غير مفكرة في /212/ اضاعته، وإذا كان ذلك كذلك، فطلاق الزوج الثاني لا يمنع ما انكشف من حالها، فكذلك لا يجب أن يعود حقها من الحضانة، وأيضاً لا خلاف أن فراق الزوج لا يوجب الحضانة لمن يكون معها من هو أولى بالحضانة منها، فكذلك الأم، فإذا ثبت بما بيناه أن حقها من الحضانة لا يعود بفراق زوجها لها، كان ذلك حكم أمها جدة الصبي ـ إذ لم يفصل أحد بين المسألتين، وإذ هي كالقائمة مقامها، فإذا لم يكن لها حق، لم يكن لمن يقوم مقامها.
مسألة [في ذكر أهل الحضانة على الأولوية]
__________
(1) في (ب): وكذلك.
(2) في (ب): وجب.
(3) في (ب): وجب.

(61/32)


قال: وإذا(1) ماتت الأم، كانت الجدة أم الأم أولى به، فإن لم يكن جدة، فالأب، فإن لم يكن أب، فالخالة أخت الأم، فإن لم يكن خالة، كان الأولى به الأقرب فالأقرب من قبل الأب، والجدات من قبل الأم أولى به تخريجاً. قال في (المنتخب) (2): والخالة أولى بالصبي بعد الجدة من الأب، ثم الأب أولى به بعد الخالة من غيرها. ما ذكرنا من أن الجدة أولى به من بعد الأم منصوص عليه في (الأحكام) (3) و(المنتخب) (4) وما ذكرناه من أن الأب أولى به من الخالة منصوص عليه في (الأحكام) (5)، ومروي فيه عن القاسم عليه السلام، وذكره أيضاً في (المنتخب) (6) في باب تخيير الغلام، وقال في (الأحكام) (7): ثم بعد الخالة الأقرب، وقاله أيضاً في (المنتخب)، وزاد من قبل الأب.
وقلنا: إن الجدات من قِبَل الأم أولى به تخريجاً؛ لأنه نص في (الأحكام) و(المنتخب) أن الحدة أم الأم أولى بعد الأم، وكل واحدة(8) منهن يجري عليها اسم الجدة، واسم الأم، نص علي ذلك في كتاب النكاح من (الأحكام) (9) عند ذكر تحريم الأمهات.
وأما ما ذهبنا إليه من أن الجدة هي أولى بعد الأم، فمما لا خلاف فيه، وما قلناه من أن الأب أولى بعد الجدات من الخالة، فإن الأب قد جمع الولاية والولادة، فهو أحق من الخالة التي لا ولادة لها ولا ولاية؛ لأن الإتفاق حاصل أن الجدة أم الأم أولى من الخالة، وهي إنما تتقرب بالأم، فالأب أحرى أن يكون أولى به من الخالة، ولأن حنو الآباء على الأولاد بعد الأمهات أتم، واشفاقهم عليهم أعظم، فوجب أن يكونوا أولى.
__________
(1) في (ب): إن.
(2) انظر المنتخب 186.
(3) انظر الأحكام 1/468.
(4) انظر المنتخب 186.
(5) انظر الأحكام 1/468.
(6) انظر المنتخب 186 ، 376.
(7) انظر الأحكام 1/468.
(8) في (أ): جدة.
(9) انظر الأحكام 1/343.

(61/33)


ووجه ما ذكر في (المنتخب) من أن الخالة أولى من الأب ماروي أن علياً، وجعفراً عليهما السلام، وزيد بن حارثه رضي الله عنه لما اختصموا في ابنة حمزة، فقال علي: عندي ابنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي أحق بها، وقال جعفر عليه السلام: عندي خالتها وهي أحق بها، [وقال زيد: هي ابنة أخي] (1)، فقضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن تكون مع جعفر عليه السلام عند خالتها، وهي أحق بها، [فإن الخالة أم] (2)، فلما جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أما، وثبت أن الأم أولى من الأب قلنا: إن الخالة أولى منه. فأما اطلاقه في (الأحكام) أن الأولى بعد الخالة الأقرب فالأقرب، فالمراد به إذا كن نسوة من قبل الآباء ومن قبل الأمهات، فإن الحضانة للأقرب فالأقرب من غير مراعاة بين(3) أن، تكون من قِبَل الأب، أو من قِبَل الأم.
وأما قوله في (المنتخب): الأقرب فالأقرب من قبل الأب، فإن أبا العباس الحسني رضي الله عنه حمله على أن المراد به إذا انقطعت حضانة النساء بأن لا توجد واحدة منهن، وصارت إلى الرجال، فيكون الأولى بها العصبات، وهو صحيح؛ لأنه إذا لم يبقَ من النساء أحد، فالعصبة أولى بالحضانة من سائر رجال ذوي الأرحام لِما لهم من مزية الولاية، ولأن الولد منهم، ومنسوب إليهم، وهم الذين يعقلون عنه.
قال ابو العباس الحسني رحمه الله: هذا في الذكور، فأما في الإناث فيراعى في العصبة أن يكون مَحرَماً كالأخ والعم، فأما ابن العم، فلا حق له في حضانة الجارية، والخال وأبو الأم أولى منه، والأخ من الأم أولى منهما على ما رتبه في (النصوص).
مسألة: [في حضانة من أطاق الأدب]
قال: وإذا أطاق الصبي الأدب، فالأب أولى به، فإن لم يكن أب، فالأم مالم تزوج، أحب الصبي أم كرهه، فإن تزوجت الأم، خيِّر الصبي بين أمه وعصبته.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) سقط من (ب).
(3) في (ب): مراعاة أن.

(61/34)


/213/ جميعه منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب)(2)، قال الشافعي: إذا بلغ الصبي هذا المبلغ خير بين أمه وأبيه، وعندنا أن الأب أولى من غير تخيير، وبه قال أبو حنيفة في الولد الذكر.
ووجه ذلك أن حق الأم من الحضانة قد انقطع لما بيناه، ولأن الشافعي أيضاً لا يجعل الحضانة لها إلا مع خيار الولد، فلو كان حقها باقياً، لم يخير الولد، كما لم يخير قبل ذلك، وإذا ثبت انقطاع حقها، كان الأب أولى، لأن ولايته عليه باقية حتى يبلغ، فيستحق الولد لما له من مزية الولاية، ألا ترى أن حقها لما انقطع بالتزويج، صار الوالد أولى منها، وإن كان الولد طفلاً، فكذلك إذا استغنى بنغسه، والعلة أن استحقاقها الحضانة على الإطلاق زائل.
فإن قيل: فقد روي عن أبي هريرة أنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يارسول الله إن زوجي يريد يذهب بابني، وقد سقاني من بير أبي عنبه، وقد نفعني، فقال رسول الله: استَهِمَا عليه فقال زوجها: من يحاقني في ولدي؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت، فأخد بيد أمه، فانطلقت به فقد خيره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أمه وأبيه، وهذا خلاف مذهبكم؟
قيل له: يجوز أن يكون خيره؛ لأنه كان قد بلغ وملك أمره، ويدل على ذلك قول أمه: إنه قد سقاني من بئر كذا، والأغلب فيمن يرد الآبار ويستقي أن يكون بالغاً.
فإن قيل: لو كان قد بلغ لم يكن للتخيير معنى؟
قيل له: ليس الأمر كذلك، فإن أكثر التخيير يكون مع البلوغ وحين يملك المخير أمره، ألا ترى أنا نُخيِّر الصغيرة إذا زوجها أخوها، أو عمها، إذا بلغت وملكت أمرها، ولا خلاف بيننا وبينكم في الأمة البالغة إذا اعتقت(3) تحت العبد أنها تخير.
__________
(1) انظر الأحكام 1/411 ـ 412 ولكنه لم يذكر أن الصبي إذا طاق فالأب أولى به، وذكره في الأحكام 1/405 في أولاد الحرة من العبد إذا أعتق.
(2) انظر المنتخب 371.
(3) في (ب): عتقت.

(61/35)


فإن قيل: فقد روي عن عمارة بن ربيعة قال: قتل أبي، فخاصم عمي أمي فيَّ إلى علي عليه السلام، ومعي أخ لي صغير، فخيرني علي عليه السلام فأخترت أمي، وقال: لو بلغ هذا لخيرته.
قيل له: يجوز عندنا أن التخيير بين الأم والعصبة على ما نذكره من بعد هذا الفصل، فلا يعترض(1) علينا فيه، لأنه(2) يحتمل أن يكون قد بلغ، على أنه قد ذكر في بعض الأخبار عن عمارة أنه قال: كنت ابن سبع أو ثمان، فإن صح ذلك، حمل على ما نذكر من بعد، وقلنا: إنه إن لم يكن له أب، فالأم أولى به، مالم تتزوج حتى يبلغ؛ لأن حق الحضانة وإن كان منقطعاً، فإنها تكون أولى بإمساكها، للمزية التي لها وهي(3) فضل حنوها، وشفقتها عليه، ولأن كون الولد عندها أرفق به، فتكون(4) بالمزية لها أولى بالولد من عصبته.
وقلنا: إنها إن تزوجت خير بينها وبين عصبته؛ لأن المزية التي كانت للأم تكون(5) قد زالت على ما تقدم بيانه، لأن تزوجها يدل على قلة فكرها فيه، وضعف اشفاقها عليه، ولأنه لا رفق له في أن يكون مع زوج أمه، فإذا ثبت زوال تلك المزية، استوى حالها وحال العصبة، فلم يكن أحدهما أولى به من صاحبه، فوجب التخيير كما يخير بين الأبوين إذا بلغ لاستواء حالهما في حق الإمساك، وعلى هذا يحمل تخيير أمير المؤمنين عليه السلام عمارة بين أمه وعمه، ونقول إنه يجوز أن تكون أمه كانت قد تزوجت.
مسألة: [في حضانة ولد العبد من الحرة]
قال: وإذا كانت الحرة تحت العبد، فأولدها، كانت الأم أولى بالولد، وإن عقل، وأطاق الأدب، ما دام الأب عبداً، فإن عتق، صار أولى به من الأم. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (6).
__________
(1) في (ب): معترض.
(2) في (ب): على أنه.
(3) في (أ): هذا.
(4) في (أ): فتكون هي.
(5) في (أ): للأم قد زالت.
(6) انظر الأحكام 12/405.

(61/36)


ووجهه: ما قد بيناه من أن الولد إذا استغنى بنفسه، كان الأب أولى به من الأم لما له من مزية /214/ الولاية، وأنه إذا لم يكن له أب فالأم أولى به، وقد ثبت أن العبد لا حظ له في الولاية على وجه من الوجوه، بل(1) لا يملك أمر نفسه،فهو في هذا الباب بمنزلة الميت،فلذلك قلنا: إن الام أولى به(2).
وقلنا: إنه إذا أعتق،صار أولى به من الأم، لأنه إذ ذاك سبيله سبيل الأحرار في حصول الولاية له، فيجب أن يكون أولى بالولد(3) من الأم كسائر الأحرار.
مسألة: [في منع الزوج زوجته من حضانة ولدها من غيره]
قال: وإذا تزوج الرجل امرأة لها ولد من غيره لم يكن له أن يمنعها من تربيته، إلا أن يقيم بإذنها من يقوم مقامها في الحضانة. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (4). ووجهه أن خلاف ذلك يؤدي إلى اتلاف الأولاد إذا لم يكن لهم من يكفلهم، ولأن حضانتهم إذا لم يكن لهم من يكفلهم واجبة على الأم، وقد قال الله تعالى: {وَلا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}، قال يحي بن الحسين عليه السلام: وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما تزوج بأم سلمة أقام من يكفل ولدها برضى منها، فكذلك(5) قلنا: إن لزوجها أن يقيم من يكفل برضاء منها.
مسألة: [في استرضاع الكافرة]
قال: ولا يجوز استرضاع الكافرة إلا عند الضرورة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (6)، وهو قول الناصر عليه السلام. ووجهه أنه قد ثبت أن الكفار أنجاس، فيجب أن يكون لبن الكافرة نجساً، والنجس محرم علينا، ولا خلاف أنه يلزمنا أن نجنب أولادنا ما يحرم علينا كشرب الخمر، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، إلا عند الضرورة، فلذلك منعنا استرضاع الكافرة إلا عند الضرورة.
__________
(1) في (ب): إذ.
(2) في (ب): منه.
(3) في (أ): بالولاية.
(4) انظر المنتخب 132.
(5) في (ب): فلذلك.
(6) انظر الأحكام 1/485.

(61/37)


باب القول في الرضاع
[مسألة في كمية الرضاع المحرمة ومدته]
يحرم من الرضاع ما قل أو كثر، إذا رضع الصبي في الحولين. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)، وهو قول زيد بن علي، والقاسم، والناصر عليهم السلام، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه ومالك، قال الشافعي لا يحرم أقل من خمس رضعات، وحكي عن قوم ثلاث رضعات. والأصل فيما ذهبنا إليه قول الله تعالى في آية التحريم: {وَأُمُّهَاتُكُمُ اللآتِيْ أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرِّضَاعَةِ}، فعلق سبحانه التحريم بالإرضاع والرضاعة، فكلما انطلق عليه اسم الرضاعة، والإرضاع فيجب أن يكون مُحرِّماً بحكم الآية، وقد علمنا أن الإسم يقع على القليل والكثير، ويدل أيضاً على أن الإسم ينطلق على الرضعة الواحدة ما روي عن ابن الزبير قال: ((لا تحرم الرضعة والرضعتان))، فأجري الإسم وإن كان يعتقد أنه لا تحرم، وهو من أهل اللسان، وكذلك روي عن ابن عمر لما بلغه ذلك ((قضاء الله أولى من قضائه))، قال الله تعالى: {وَامُّهَاتُكُمْ اللآتِيْ أَرْضَعْنَكُمْ}، فبين أن المفهوم من قوله أرضعنكم ما يحصل من قليله أو كثيره.
فإن قيل: فإن الله تعالى قال: {وَأُمُّهَاتُكُم اللآتِيْ أَرْضَعْنَكُمْ}، ولم يقل اللآتي أرضعنكم أمهاتكم، فيجب أن يثبت الأمومة أولاً، ثم يكون لإرضاعها حكم، وهذا لا يثبت من طريق اللغة، فيجب أن يرجع فيه إلى الشرع، فبطل تعلقكم بظاهر الآية.
__________
(1) انظر الأحكام 1/482 ، 483.
(2) انظر المنتخب 137.

(62/1)


قيل له: إذا ثبت أن الأمومة تحصل بنفس(1) الرضاع، صح تعليق الحكم عليه، فلا فصل بين تقديم ذكر الأمهات على ذكر الإرضاع، أو ذكر الإرضاع على ذكر الأمهات، فإذا ثبت ذلك، بان أن تعلقنا بالآية صحيح، ويدل على ذلك أيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وقد مضى ذكره في أول(2) كتاب النكاح، فعلق الحكم على الجنس، فوجب أن يدخل فيه القليل كالكثير، وهذا في حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أما علمت أن الله حرم من الرضاعة(3) ما حرم من النسب).
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ((الرضعة الواحدة كالمائة الرضعة)). وروى زيد بن /215/ علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال: ((ما كان من رضاع في الحولين حرم)) وهذا يقتضي القليل والكثير.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تحرم الرضعة، ولا الرضعتان)، وروي: (لا يحرم المصة، ولا المصتان)، وروي: (الإملاجة، والإملاجتان).
__________
(1) في (ب): بيقين.
(2) في (أ): في كتاب.
(3) في (ب): الرضاع.

(62/2)


قيل له: هذه الأخبار تحج الشافعي من وجه، وذلك أن مذهبه القول بدليل الخطاب فدليل الخطاب في هذه الأخبار أن الثلاث تحرم، [فإذا ثبت أن الثلاث تحرم](1) فلا خلاف بيننا وبينه أن الثالثة كالأولى؛ لأنه لا يوجب التحريم بأقل من خمس رضعات، وأيضاً قوله: (المصة والمصتان)، لا يتناول موضع الخلاف؛ لأنا لا نختلف في أن المصة لا تحرم شيئاً، وأن الْمُحرِّم هو حصول اللبن في جوف الرضيع(2)، فيحمل على هذا أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم سُئل عن المصة والمصتين إذا لم يعلم حصول اللبن في الجوف عندهما فقال: (لا تحرم المصة، والمصتان(3))، ويحتمل أن يكون من سمع ذلك رواه بلفظ الرضعة إعتقاداً بأن معناهما واحد، ولم يعلم أنه خرج على السبب، وقصر عليه.
وأيضاً روي عن ابن عباس أنه سئل عما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تحرم الرضعة، والرضعتان)، فقال: قد كان ذلك، ثم نسخ، فأخبر أنه منسوخ، فدل ذلك على أنه عرف التاريخ فيه والنسخ.
فإن قيل: روي عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل الله تعالى من القرآن (عشر رضعات يحرمن)، فنسخ (بخمس معلومات يحرمن)، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهن مما يقرأن من القرآن، وكن في صحيفة تحت السرير، فلما اشتغلنا بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلت داجن فأكلته.
__________
(1) ما بين المعكوفين سقط من (ب).
(2) في (ب): الصبي.
(3) في (ب): المصتان.

(62/3)


قيل له: هذا الخبر لا يصح التعلق به لوجوه: منها أن ظاهره يقضي فساده(1) وذلك أنه لو كان مما يقرأ من القرآن لم يجز أن يكون طريقه خبر الواحد، ولا يجوز أيضاً أن يضيع حتى لا تثبت إلا من طريق إمرأة، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. ومنها أنها أخبرت أن العشر نُسخت بخمس، وهذا لا نمتنع منه، إلا أنا نقول أن الخمس لو ثبتت، لكانت منسوخة لقول ابن عباس في الرضعة والرضعتين لا تحرم، ما روي من الرضعة والرضعتين أنها لا تحرم، وأنها منسوخة، فلئن وجب أن يقبل قول عائشة أن العشر نسخت بخمس لوجب أن يقبل قول ابن العباس في النسخ، ويؤيد ذلك ما روى أبو عباس الحسني في (النصوص) بإسناده، عن الليث، عن مجاهد، عن علي عليه السلام قال: ((يحرم قليل الرضاع ما يحرم كثيره)). ويؤكد ذلك ما روي أن عقبة بن الحارث قال: يارسول الله، إني تزوجت إمرأة، ودخلت بها، فأتت امرأة سوداء فزعمت أنها أرضعتني وامرأتي، وإني أخاف أن تكون كاذبة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فكيف به وقد قيل))؟ ففارقها الرجل، فدل ذلك على أن الحكم يتعلق بما سمي رضاعاً؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل سلها عن عدد الرضعات. ويؤكد ذلك ما روي من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الرضاعة من المجاعة)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الرضاع ما أنبت اللحم، وأنشر العظم) فالقليل يأخذ بقسطه من سد الجوعة، وإنبات اللحم، وإنشاز العظم، ومما يدل على ذلك أن الرضاع سبب يوجب التحريم المؤبد بنفسه، فوجب أن لا يكون التكرير شرطاً فيه، دليله الجماع في تحريم الربائب، والعقد في تحريم أمهات النساء، وحلائل الأباء والأبناء، وليس يلزم عليه التحريم الواقع بالطلاق الثالث؛ لأنه غير متأبد، ولا يلزم عليه أيضاً تحريم اللعان، وأنه يتعلق بتكرير اللعان؛ لأن ليحيى عليه السلام فيه روايتين، إحدى الروايتين
__________
(1) في (أ): بفساده.

(62/4)


أن ذلك التحريم(1) فيه غير مؤبد بجوز ارتفاعه بإكذاب الزوج نفسه، والرواية الثانية أنه مؤبد، وعلى هذه الرواية ايضاً لا يلزم؛ لأن تحريم اللعان عندنا لا يقع بنفس اللعان رواية واحدة، وإنما يقع بتفريق الحاكم، ويرجح قولنا أنه حاظر، وفيه إحتياط، واشترطنا أن يكون ذلك في الحولين لما ستذكره في المسألة التي تليها/216/.
مسألة: [في الرضاع بعد الحولين]
قال: فإن أرضع بعد استكمال الحولين، لم يحرم. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3)، وهو قول القاسم، والناصر(4)، والأظهر من قول عامة أهل البيت عليهم السلام، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وقال أبو حنيفة: مدة ذلك ثلاثون شهراً، وحكى أبو الحسن الكرخي عن زفر أنه ما استغنى به عن التغذي بغيره، وإن كانت ثلاث سنين.
__________
(1) في (ب): التحريم غير.
(2) انظر الأحكام 1/483 ـ 484.
(3) انظر المنتخب 138.
(4) في (ب): وهو قول الإمام الناصر.

(62/5)


والدليل على ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، فجعل تعالى رضاع الحولين(1) تمام الرضاع، والمراد به أنه تمام شرعاً، إذ لا وجه له يصح حمله عليه غير ما ذكرناه، ولأنه لا يصح أن يقال: إنه تمام التغذية، ولأنه لا فصل في ذلك بين مدة الحولين، وبين الأقل منها، والأكثر، وكذلك لا يصح أن يقال: إنه تمام من طريق العادة؛ لأن عادات الناس في الإرضاع تختلف فمن الناس من يرضع أقل من حولين، ومنهم من يرضع أكثر من ذلك، فلم يبقَ إلا ما ذكرناه، على أن الأولى في خطاب الله تعالى وخطاب رسوله أن يحمل على ما يفيده الشرع، دون مالا تعلق للشرع به، فكان حمله على ما ذكرنا أولى، فإذا ثبت بما بيناه أن الرضاع الذي يتعلق به الحكم الشرعي يتم بانقضاء الحولين، ثبت أن ما بعده ليس برضاع يتعلق به الحكم الشرعي، لأن(2) تمام الشيء يكون بوقوع آخر جزء من أجزائه، فإذا وقع آخر جزء من أجزائه، فلا حكم لما بعده، وفي الآية وجه آخر من الدلالة وهو أنه تعالى لما قال: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْرَّضَاعَةِ} دل ذلك على أن الرضاع قد تم من جميع الوجوه إلا ما خصه الدليل، فوجب أن يكون قد تم من حيث يتعلق به.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إن اسم التمام قد يطلق على الشيء، وإن لم يكن تم إذا قارب التمام، كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أدرك عرفة، فقد تم حجه)، وكما روي: (من رفع رأسه من السجده الأخيرة فقد تمت صلاته)، كل ذلك المراد به مقاربة التمام؟
قيل له: هذا لا يصح في الموضع الذي اختلفنا فيه لوجهين:
أحدهما ـ إن ذلك وإن استعمل على سبيل التوسع والمجاز، وإنما يستعمل إذا كان الباقي يسيراً، فأما إذا بقيت ستة أشهر، فكذلك لا تستعمل فيه.
__________
(1) في (أ): حولين.
(2) في (أ): أن.

(62/6)


والوجه الثاني ـ أنه وإن استعمل فيه، فعلى سبيل الإتساع والمجاز، ولا تصرف الآية عن الحقيقة إلى التوسع إلاَّ بالدلالة.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن قوله تعالى: {وَأُمُّهَاتُكُمُ اللآتِيْ أَرْضَعْنَكُمْ}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، يقتضي تحريم الرضاع سواء كان في الحولين، أو بعدهما؛ لحصول الإسم؟
قيل له: هذه لا يصح لكم التعلق بها على أصولكم؛ لأنكم تجعلون ما يجري مجراها مجملاً من الآيات(1) وهكذا قلتم في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}، [وقوله تعالى]: {وَالزَّانِيَةِ وَالزَّانِيْ}، وقلتم لما ثبت أن الحكم يتعلق بالزنا والسرقة على شروط لا تُعرف من الظاهر، نحو أن لا يكون المرضع كبيراً، وأن تكون التي أرضعته(2) من لبن نفسها، فكل ذلك لا يعقل من الظاهر، فإذا ثبت ذلك، ثبت أنه لا يصح لكم التعلق بما تعلقتم به، فإن امتنع منهم من هذا الأصل ممتنع وقال: إنه يصح التعلق به، قيل له: ه مخصوص بما بيناه ونبينه من بعد.
فإن قيل: فلستم باعترضاكم بالآية التي اعتمدناها على الآية التي اعتمدتموها على الآية التي تعلقنا بها بأولى منا إذا اعترضناكم بالآية التي اعتمدتموها؟
قيل له: لا سواء، وذلك أن الآية التي اعتمدناها أخص بموضع الخلاف، وفيها بيان مقدار المدة التي تنازعناها فيها، وليس كذلك الآية التي اعتمدتموها، فصار استدلالنا بها أولى.
ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا رضاع بعد فطام، ولا رضاع بعد فصام)، وقد /217/ بينا أن الرضاع الذي يتعلق به الحكم الشرعي ينقضي بانقضاء الحولين، فيجب أن يكون بعد الفطام، فإذا ثبت ذلك، ثبت ألاَّ رضاع بعده لقوله: (لا رضاع بعد فطام).
__________
(1) في (أ): اللعان.
(2) في (أ): أرضعته أرضعته.

(62/7)


فإن قيل: لو كان الرضاع يتم وينقضي بانقضاء الحولين لم يكن لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}. معنى؟
قيل له: لسنا نقول إن كل رضاع ينقضي بانقضاء الحولين ولا ينقضي قبل انقضائهما، وإنما نقول ذلك في الرضاع الذي يتعلق به التحريم، فبطل(1) هذا السؤال.
وروي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام في قوله تعالى: {وَالْوالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، قال (الرضاع سنتان) فما كان من رضاع في الحولين حرَّم، وما كان بعد الحولين فلا يُحرِّم). وأيضاً لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن الرضاع الواقع في آخر السنة الثالثة لا يحرم، فكذلك الواقع في أولها، دليله الرابعة وما بعدها، يكشف صحة اعتبارنا السنةُ الأولى والثانية، لأن التحريم لما تعلق بالرضاع الواقع في أولهما، تعلق بالرضاع الواقع في آخرهما واستوت أحوال أولهما وآخرهما في هذا الباب، على أنه لادليل إلا ما ذكرناه يقتضي الفصل بين الزمان الذي يحرم فيه الرضاع، والزمان الذي لا يحرم فيه الرضاع، فوجب أن يكون الرجوع إليه؛ لأن الذي يذهبون إليه من التقدير لا دليل عليه، وهم أيضاً لا ينكرون أن ذلك مما لا دليل عليه، حتى قال أبو بكر الجصاص: إنه اجتهاد، وإنه لا يجب أن يكون عن دليل، ويقوى ذلك بقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ}، إلى قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِيْ عَامَيْنِ}، مع قوله (لا رضاع بعد فصال)، وكلما ذكرناه من الآية والخبر يحج زفر، وكذلك يحج عائشة ومن تابعها على قولها يجوز إرضاع الكبير، فأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لسهلة بنت سهيل بن عمرو زوجة أبي حذيفة بن عتبة أرضعي سالماً خمس رضعات فقد روي أنها خاص بها وانعقاد الإجماع بعدها يفسد قولها ويسقطه، واستدل يحيى عليه السلام: بما أخبرنا به أبو
__________
(1) في (أ): فيبطل.

(62/8)


عبدالله النقاش، حدثنا الناصر للحق عليه السلام، عن محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن رجلاً أتى علياً عليه السلام فقال: إن لي زوجة، وإني أصبت جارية(1) فأتيتها يوماً، فقالت لقد أرويتها من ثديي، فما تقول في ذلك؟ فقال علي عليه السلام(2) انطلق فخذ بأي رجلي أمتك شئت، لا رضاع إلا ما أنبت لحماً، أو شد عظماً، ولا رضاع بعد فصال).
مسألة: [في لبن الفحل]
قال: ويحرم الرضاع على الفحل، كما يحرم على المرأة، ويحرم الرضاع كتحريم النسب سواء.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3)، وهو قول زيد بن علي، والناصر للحق عليه السلام، وعامة الفقهاء، وحكي عن صاحب الظاهر أنه لا يحرم عليه، وحكى أبو بكر الجصاص أنه قول مالك في عدة من المتقدمين.
ووجه ذلك ما روي عن عائشة ـ أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن عليها فحجبته، ثم عرَّفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك فقال: (إئذني له)، وفي بعض الأخبار: (لا تحتجبي منه، فإنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وقد مضى اسناده في أول كتاب النكاح، وزوجة أبي القعيس هي التي كانت أرضعت عائشة، فدل ذلك على أنها حرمت على أبي القعيس لكونها محرمة على أخيه أفلح، فبان به صحة ما ذهبنا إليه، ويدل على ذلك مجرد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فكما أن ابنة الرجل نسباً محرمة عليه، يجب أن يحرم عليه ابنته من (4)الرضاعة.
ويدل على ذلك أن الولادة لما كانت سببا ً يوجِب إنتشار /218/ الحرمة، اشترك الوالدان في حرمته، فوجب أن يشتركا في حرمة الرضاع؛ لأنه سبب يوجب انتشار الحرمة، وكذلك الوطء الموجب للحرمة يشترك في حرمته الرجل والمرأة، فوجب أن يكون الرضاع كذلك.
__________
(1) في (أ): خادم.
(2) في (ب): عليه السلام فخذ.
(3) انظر الأحكام 1/485.
(4) في (ب): رضاعاً.

(62/9)


فإن قيل: اللبن للمرأة دون الرجل؛ بدلالة أنها تأخذ بدل ارضاعها الولد.
قيل له: لا معتبر بما ذكرت، وذلك أن لبن الأمة يكون لسيدها في باب التصرف فيه، وإن كان لا يوجب الحرمة إذا لم يكن من سيدها، وإنما المعتبر أن يكون سبب نزوله من الرجل الذي يثبت لوطئه حكم.
وما قلناه: من أن تحريم الرضاع كتحريم النسب هو جملة تفصيلها قد تقدمها وتأخر عنها، فلا وجه لإفراده بالقول، وهذه الجملة هي التي نص عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
مسألة: [في المرأة ترضع أكثر من واحد في أكثر من وقت]
قال: ولو أن امرأة أرضعت صبياً وصبية في وقتين متقاربين أو متباعدين، سواء كان اللبن لولد، أو لولدين، حرم التناكح بينهما، وكانا أخوين، وكذلك لا يجوز لهما أن يتزوجا ولد هذه المرضعة، ولا ولد زوجها الذي(1) أرضعت بلبنه.
جميعه منصوص عليه في (الأحكام)(2) و(المنتخب) (3) في مواضع مختلفة.
ووجه قولنا: أنَّ تباعد وقت الرضاع كتقاربه في إيجاب الحرمة أن إليه تعالى قال: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرِّضَاعَةِ}، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)، وليس في الآية الأولى، ولا في الخبر اشتراط تقارب مدة الرضاعين، فيجب أن يستوي حكم التقارب والتباعد.
__________
(1) في (ب): التي.
(2) انظر الأحكام 1/485 ـ 486.
(3) انظر المنتخب 137.

(62/10)


وكذلك ما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن امرأة سوداء ذكرت أنها أرضعتني وزوجتي، فلم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها تسأل عن وقت إرضاعها لهما، على أن الرضاع إذا ثبت أنه كالولادة في باب التحريم، وقد علمنا أن تباعد زمان الولادة كتقاربه، وجب أن يكون الرضاع كذلك؛ إذ المعتبر بحصول الإشتراك في السبب(1) الموجب للتحريم، دون اعتبار ما بين الوقتين من المدة، على أنه لا اشتباه أنها إذا أرضعتهما معاً كانا أخوين، فكذلك إذا أرضعتهما في وقتين متباعدين لأنهما قد اشتركا في لبن امرأة.
وقلنا: إنهما لا يتزوجان ولد هذه المرضعة لما بينهما من أخوة الرضاع، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في ابنة حمزة: (إنها ابنة أخي من الرضاعة).
وقلنا: لا يتزوجان ولد زوجها الذي أرضعت بلبنه لما بينا من تحريم لبن الفحل، فلا وجه لإعادته.
مسألة: [في نكاح أخوة المرضَع لأولاد مرضعته]
قال: فإن كان لهذا المرضَع أخ أو أخت لم يرضعا معه(2)، جاز لهما أن يتزوجا ولد هذه المرضعة.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (3).
ووجه ما قلناه أنهما أجنبيان ولا اشتراك بينهما في الرضاع، فلا أخوَّة بينهما، يبين ذلك أن أقوى حال الرضاع أن يكون كحال النسب في التحريم، وقد علمنا أن رجلاً لو كانت له أخت من أبيه، وأخ من أمه، لجاز له أن يزوج أخته من أبيه أخاه من أمه، إذ لا اشتراك بينهما في الولادة، وإن كان كل واحد منهما مشاركاً لمن شارك صاحبه، فوجب أن يكون ذلك حكم الرضاع، وأن لا يكون بين الذّين ذكرناهما تحريم، كما أنه لا تحريم بينهما لو كان بدل الرضاع ولادة.
مسألة: [في سقي الرضيع ما حلب من المرأة]
قال: ولو أن امرأة سقت الصبي لبنها باللخا، كان ذلك والإرضاع سواء في التحريم.
__________
(1) في (أ): النسب.
(2) في (ب): كان.
(3) انظر المنتخب 137.

(62/11)


وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2). قال أبو العباس الحسني: وكذلك السعوط تخريجاً(3)، وذلك إن علم أنه جرى في الحلق، ووصل الجوف منه شيء.
ووجهه أن الإعتبار بوصول اللبن إلى جوف الصبي على وجه يغذي دون ما سواه، فكل لبن جرى في الحلق، ووصل إلى المعدة، حصل له حكم التحريم، يبين ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الرضاعة من المجاعة)، وقوله: (الرضاع ما أنبت اللحم، وأنشز العظم)، ولا فصل في ذلك بين أن يرتضعه من الثدي، أو يستقي باللخاء.
فصل [في لبن الميِّتة]
حكى أبو /219/ العباس الحسني(4)، عنه القاسم رضي الله عنهما أنه قال في لبن الميتة: إنه يحرم، وبه قال أبو حنيفة، قال الشافعي: إنه لا يحرم(5).
ووجه ما ذهبنا إليه أن التحريم يتعلق بحصول اللبن في جوفه، فلا فرق بين أن يكون لبن الحية، أو الميتة.
ويمكن أن يحرر القياس فيه بأن يقال: هو لبن آدمية، فوجب أن يصح تعلق التحريم به، دليله لبن الحية، على أنه لا خلاف أنه لو أُخذ في قارورة وهي حية، ثم سقى الصبي بعد موتها أن التحريم يقع به، فكذلك إذا أخذ منها وقد ماتت؛ لأن الحكم به يتعلق.
فإن قيل: وطء الميتة، والعقد عليها، إذا لم يوجبا التحريم، فكذلك لبن الميتة؟
قيل له: قد بينا أن التحريم يتعلق بحصول اللبن في جوف الصبي، واللبن لا يلحقه حكم الموت؛ لأنه لا حياة فيه بدلالة أنه يؤخذ من الحي فلا(6) يألم به كما قلناه في الصوف والشعر فوجب أن لا يكون فرق بين أن يؤخذ من الحية أو الميتة، وليس كذلك حال الوطئ والعقد؛ لأن التي يتعلقان بها إذا ماتت تغير حكمهما، على أنه لا فرق بين أن يخرج الولد من الحية أو الميتة في الجميع، لما كان في حكم المنفصل عنها، وكذلك اللبن.
__________
(1) انظر الأحكام 1/482.
(2) انظر المنخب 137.
(3) نص عليه في المنتخب 137.
(4) في (أ): حكى أبو العباس الحسني رحمه الله عن القاسم رضي الله عنه.
(5) في (ب): لا يحرم.
(6) في (أ): ولا.

(62/12)


فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَأُمُّهَاتِكُمْ اللآتِيْ أَرْضَعْنَكُمْ}، فنسب الإرضاع، إليهن وعلَّق الحكم به، والميتة ليس لها(1) إرضاع.
قيل له: لا خلاف أنه لو أخذ من النائمة، والمغمى عليها، وسقي الصبي، يقع التحريم، وكذلك لو أخذ منها وهي حية، ثم يسقى الصبي بعد موتها، فبان أن الحكم يتعلق بحصول اللبن في جوفه دون أن يكون من صاحبة اللبن الإرضاع، على أنه لا فصل في التحريم بين الأم التي يكون منها الإرضاع، وبين الأخت التي لا ارضاع منها، فبان أن الحكم متعلق بماذكرناه دون أن يكون للمرضعة في الإرضاع فعل.
مسألة: [في إرضاع المرأة زوجها في الحولين]
قال: وإذا أرضعت المرأة زوجها في الحولين، صارت أمه من الرضاع، وانفسخ النكاح بينهما، ولم يجز للرجل الذي أرضعته بلبنه أن يتزوجها بعد ذلك. نص عليه في (المنتخب) (2).
وقال في (الأحكام) (3): له أن يتزوجها، ولا صداق لها على الصبي؛ لأن الفسخ كان من قبلها.
ما ذكرناه من انفساخ النكاح بين التي أرضعت زوجها في الحولين وبين زوجها، فلا خلاف فيه، ولا إشكال؛ لتنصيص الله تعالى على تحريم الأمهات اللآتي أرضعن بقوله تعالى: {وَأُمُّهَاتُكُمُ اللآتِي أَرْضَعْنَكُمْ}، وهذه قد صارت أمه من الرضاعة، فوجب أن يبطل النكاح الذي كان بينهما.
__________
(1) في (أ): منها.
(2) انظر المنتخب 138.
(3) انظر الأحام 1/390.

(62/13)


ووجه ما ذكره في (المنتخب) من أنها لا تحل لزوجها الذي أرضعت بلبنه هو أن المرضَع صار ولداً على ما بيناه في(1) لبن الفحل وقد قال الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِيْنَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ}، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فإذا ثبت ذلك، حرمت المرأة؛ لأنها صارت حليلة ابنه، ولا خلاف أن المرضَع لو زوج بعد الرضاع امرأة أنها تحرم على الذي أرضع بلبنه، فكذلك التي ذكرناها، والعلة أنها امرأة ملكها ابنه من الرضاعة بعقد النكاح.
ووجه رواية (الأحكام) أن كونه ابناً له من الرضاعة صادف فسخ النكاح بينه وبين المرأة فلم يحصل المرضع مالكاً يعقد نكاحها مع أنه ابن من أرضع بلبنه فلم تكن المرأة على هذا قط حليله ابنه، لأن المرضَع لما صار ابنه، خرجت المرأة عن أن تكون له حليلهة فلم يجب أن تتناوله الآية وأيضاً حالها حال حليله الأجنبي وقياس عليها بمعنى أن من له بنوة(2) لم يملك عقدة نكاحها ـ يعني في حالما صار ابناً له ـ فأشبهت حليلة الأجنبي في أنه يجوز له نكاحها.
وما ذكرناه في(3) أنه لا صداق لها؛ لأن الفسخ كان من قِبَلها فهو صحيح على الروايتين، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً؛ لأنه قد ثبت أن كل فسخ يكون من قبل المرأة لا يوجب شيئاً من المهر للتي لم يدخل بها، كما نقول في المرتدة ونحوها.
مسألة: [في إرضاع الزوج بعد الحولين]
قال: فإن أرضعت زوجها بعد الحولين، أو سقته لبنها طالبة لفراقه، لم تحرم عليه، وجاز للزوج أن يؤدبها. وهذا على أصله في الرضاع إذا وقع بعد الحولين، لم يكن له حكم، وقد مضى الكلام فيه مستقصى، فلا وجه لإعادته، فإذا ثبت ذلك، ثبت صحة ماذكرناه من أنها لو أرضعت زوجها بعد الحولين لم تحرم عليه.
__________
(1) في (أ): من.
(2) في (أ): بنوته.
(3) في (أ): من.

(62/14)


وقلنا: لزوجها أن /220/ يؤدبها لما ذكره يحيى بن الحسين(1) عليه السلام من(2) الحديث عن علي عليهم السلام أن رجلاً سأله فقال: إن لي زوجة ذكرت أنها أرضعت جارية لي، فقال له علي (3): ائت جاريتك، فلا رضاع بعد فصال، وأنل زوجتك عقوبة ما صنعت، وفي بعض الأخبار: ((أحسن أدب زوجتك))، ولأنها قصدت ماليس لها من الإضرار بزوجها.
مسألة: [في المرأة تدعي إرضاع رجلاً وزوجته]
قال: ولو أن امرأة قالت أرضعت رجلاً وزوجته، استحب له أن يفارقها احتياطاً، فإن قامت بذلك بينه، بطل النكاح بينهما.
نص في (الأحكام) (4) على هذه المسألة، وذكر فيها أن الإحتياط(5) ما قلناه لكنه لم يصرح أن النكاح لا يبطل إلا بقيام البينة بالإرضاع، إلا أن تنصيصه في (الأحكام) في غير هذا الموضع(6) لم يصرح على أن شهدة المرأة الواحدة تقبل فيما لا يطلع عليه الرجال، كالتصريح بما ذكرناه، وعلى هذا حصَّل المذهب أبو العباس[الحسني رضي الله عنه](7).
ووجه الإحتياط فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أن عقبة بن عامر حين ذكر له أن امرأة سوداء ذكرت أنها أرضعته وزوجته، وقال: أخشى أن يكون ذلك كذباً منها قال له: كيف وقد قيل)؟، فنبه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم أن الأَولى أن يفارقها عند اعتراض الشبهة.
فأما ما قلناه من أن النكاح يبطل بقيام البينة، فهو ما ثبت في سائر ما يطلع عليه الرجال من حقوق الأموال والنكاح أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، وأن شهادة النساء وحدهن لا تقبل، إلا فيما لا يطلع عليه الرجال، فإذا ثبت ذلك، وكان، الرضاع مما يطلع عليه الرجال والنساء، ثبت أنه لا يثبت إلا بما يثبت به سائر ما ذكرناه في صحة ما /221/ قلناه.
__________
(1) انظر الأحكام 1/484 ، 487.
(2) في (أ): في.
(3) في (أ): عليه السلام.
(4) انظر الأحكام 1/410 ـ 411.
(5) في (أ): أن الاحتياط.
(6) في (أ): لم يصرح في غير هذا الموضع.
(7) في (أ) فقط.

(62/15)


تم الجزء الثالث من شرح التجريد والحمد لله المبديء المعيد وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم، وكان إكمال هذا بقلم المفتقر إلى عفو الله أحمد بن عبدالرحمن الغالبي.
وذلك لأن الأصل المصور عليه لم يكن كاملاً فأتم نسخه القاضي العلامة أحمد بن عبد الرحمن الغالبي.

(62/16)


كتاب البيوع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحل البيع والشراء، وأرفق بهما جميع الورى، وحرم الغصب والرباء، وصلى الله على النبي المصطفى محمد وآله أئمة الهدى، وسلم تسليماً.
كتاب البيوع
باب القول فيما يصح أو يفسد من البيوع
من اشترى شيئاً ثم باعه قبل القبض كان البيع فاسداً، ولو كان المبيع عبداً فأعتق كان العتق مردوداً.
وهذا منصوص عليه في الأحكام، وبه قال أبو يوسف، ومحمد والشافعي أعني فساد مالم يقبض في جميع مايملك بالبيع.
وقال أبو حنيفة بذلك إلا في العقارات والأرضين، قال أبو الحسن الكرخي: قول أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة.
وحكي عن مالك أجازه ذلك إلا في الطعام.
والأصل فيما ذهبنا إليه ما أخبرنا به أبو بكر المقري قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن عبدالله بن ميمون، قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحي بن أبي كثير، قال: حدثني يعلي بن حكيم بن حزام أن أباه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إني أشتري بيوعاً فما يحل لي منها؟ قال: (إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه).
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ربح مالم يضمن، وعن بيع مالم يقبض)، فكان ذلك عاماً في جميع ما يباع طعاماً كان أو غيره تأتى فيه النقل أو لم يتأت.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَى}، فهو عام في جميع البيوع إلا ما قام دليله؟
قيل له: نخص الآية بالخبر ونبينها عليه لأنه أخص ولآنه يتناول موضع الخلاف على التفيين فهو أولى.
فإن قيل: خبركم يتناول ما يصح فيه القبض الحقيقي، والدور والعقار لا يصح فيها القبض الحقيقي، لأن القبض الحقيقي لا يكون إلا بالنقل والتحويل، وذلك لا يتأتى في الدور والعقار؟

(63/1)


قيل له: هذا الذي ذكرتموه فاسد، لأن القبض لا يقتضي النقل وتالتحويل، ألا ترى أن من اشترى ثوباً بين يديه فخلى البائع بينه وبينه بحيث يمكنه الإنتفاع به يكون قد قبضه، وإن لم ينقله.
على أنه لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن الرهن لا يصح إلا بأن يكون مقبوضاً، ورهن الدور والعقار صحيح فلولا أن القبض يتأتى فيها كان رهنها لا يصح، وكذلك عنده أن الههبة لا تصح إلا بالقبض، وهبة مالا ينقل عنده صحيحة فلولا أن القبض فيه قد حصل لم تكن تصح هبته.
وكذلك من اشترى أرضاً أو داراً فلا خلاف أن المطالبة بتسليمها واجبة مالم يقبضها فكل ذلك يدل على فساد قولهم إن القبض الحقيقي فيه لا يصح.
فإن قيل: أردنا بالقبض ما تقتضي اللغة دون ما أشرتم إليه؟
قيل له: لا معتبر في مثل ذلك بما يقتضيه أصل اللغة لأن العرف الحاصل أقوى منه والأولى أن يحمل عليه خطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم دون أصل اللغة كمنا نقول ذلك في الأسماء المنقولة.
على أن القبض الذي هو قبض في أصل اللغة هو أن تحيط الأصابع والراحة بالشيء، وذلك لا يتأتى في اكثر الأشياء فبان بذلك كله صحة ما ذهبنا إليه، وأن الواجب في الخبر أن يحمل على ما يقتضي العرف أنه قبض.
ويدل على ذلك ما أجمعنا عليه من أن بيع الطعام قبل القبض لا يجوز، وكذلك لا خلاف بيننا وبينه في سائر الأشياء التي يصح فيها النقل والتحويل، أن بيعه قبل القبض لا يجوز، فكذلك ما اختلفنا فيه، لأنه سلعة لم يقبضها المشتري فوجب أن لا يجوز بيعها، ولا يعترض ذلك الدنانير التي في الذمة قبل القبض، لأنها ليست من جملة السلع بل هي من الأثمان، وأيضاً ما يصح فيه النقل والتحويل لم يجز بيعه قبل القبض، لأن تمام البيع الأول موقوف على القبض ألا ترى أن حق التسليم بعد باق، وهو من كمال العقد وتمامه فيجب على هذا أن لا يجوز البيع قبل القبض فيما لا يجوز فيه النقل والتحويل لما ذكرناه.

(63/2)


وليس يعترض ذلك حق استيفاء الثمن لأنه ليس من تمام العقد، ألا ترى أن الإبراء من يصح من البائع مع ثبوت العقد، وليس كذلك حق التسليم، فعلم أنه من تمام العقد.
ويمكن أن يقال: إن العلة في المنع من بيع مالم يقبض طعاماً كان أو غيره أنه سلعة مضمونة على البائع بعقد البيع فوجب أن لا يجوز بيعه قبل القبض، ولا يلزم عليه ضمان الغصب، ولا ضمان العارية إذا اشترط فيها ذلك، لأن كل ذلك مما لا يصح أن يقال فيه: إنه مضمون على البائع بعقد البيع.
فإن قيل: فأنتم تمنعون جواز بيع الخمص أو الصدقة حتى تقبض، وهما لا يصح أن يقال إنهما مضمونان على البائع بعقد البيع؟
قيل له: هذا وجود الحكم الا علة، ونحن بينا أن ذلك لا يوجب النقص، فما ذكرتموه ليس بنقض.
فإن قيل: إن ما ينقل لا يجوز بيعه قبل القبض لأنه لا يؤمن فيه فساد العقد بتلف المبيع وهذا غير موجود في العقار؟
قيل له: هذه العلة لا تنافي علتنا فلا ضرر علينا منها.
على أنه لا يمتنع أن نقول: إنه يجوز أن ينقض بيع العقار بانهدام البناء القائم، وذكر أبو عبدالله البصري في شرح مختصر الكرخي أنه لا نص فيه عن أبي حنفة فلا نسلم لهم الوصف.
وليس لهم أن يقولوا: إنه يجب أن لا يفسد البيع بانهدام العلو لجواز الإنتفاع بالقرار، ألا ترى أنه لاخلاف في أن الشاة لو ماتت قبل القبض لانتقل البيع فيها، وإن كان الإنتفاع بصوفها جائز عندنا وعندهم، وكان الإنتفاع بجلدها أيضاً جائز عندهم، فيما كان معظم الإنتفاع أو ماهو جار مجرى المعظم قد بطل.
فإن قاسوه على المهر، أو جعل الخلع أو الصلح عن دم العمد بعلة أنه يؤمن فساد عقده بتلف فهو غير مسلم في الفرع على ما بيناه.
على أنا لسنا نحفظ عن أصحابنا إجازة بيع المهر أو جعل الخلع أو الصلح عن دم العمد قبل القبض.
والأقرب على أصولهم أنه لا يجوز فصار الحكم في الأصل غير مسلم فلا يصح اعتمادهم عليه.

(63/3)


فأما ما كان يذهب إليه مالك من أن ذلك خاص في الطعام فلا معنى له. لأن ما اعتمدناه من الخبر عام في الجميع فلا وجه لتخصيص الطعام.
فإن قيل: فقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الطعام قبل القبض والخاص أولى؟
قيل له: إنما يقال: إن الخاص أولى إذا كان وروده ينافي الحكم الذي ورد به العام، فأما إذا لم ينافه فلا وجه لذلك، لأنه يكون ذكر بعض ما اشتمل عليه العموم، وهذا لا يمنع من التعلق بالعموم.
وروي في ذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال حدثنا ابن أبي داود، قال حدثنا أحمد بن خالد، قال: حدثنا ابن اسحاق، عن أبي الزناد، عن عبيد بن حنين، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تباع السلعة حيث تبتاع حتى يجوزها التجار إلى رحلهم فعم بذلك الطعام وغيره.
ويؤكد ما ذهبنا إليه أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ربح مالم يضمن، وما روي من قوله: (لا تبع ماليس عندك فكل ذلك يصحح ما ذهبنا إليه.
على أن العلل التي ذكرناها تحج ما لكا كما تحج أبا حنيفة.
وقلنا: إن المبيع لو كان عبداً فأعتق ككان العتق مردوداً، والمراد لو أعتقه المشتري الثاني لأن شراءه وقع فاسداً، لأنه اشترى مالم يقبضه بائعه على ما سلف القول فيه، وهذا يكون إذا أعتقه المشتري، وهو لم يقبضه، لأنه نص في الأيمان من المنتخب على أن من حلف أن لا يشتري فباع بيعاً فاسداً يجوز فيه العتق أو الهبة أنه يحنث فدل ذلك على أنه يوجب ثبوت الملك بالقبض في البيع الفاسد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ويأباه الشافعي.
ووجهه أن البائع يستحق البدل على المشتري بتسليطه عليه عن عقد فأشبه البيع الصحيح ألا ترى أنه لما ملك عليه البدل وهو الثمن لتسليطه عليه عن عقد أن يملكه المشتري.

(63/4)


وليس لهم أن يقولوا: إن لا تأثير للتسليط في البيع الصحيح، لأن البائع يملك الثمن قبله، لأن ذلك لا يستقر إلا بعد التسلط فصح تأثيره، وليس لهم أن يمنعوا من وجود الوصف في الفرع، لأنه لا خلاف أن من اشترى شراء فاسداً، وقبض المشتري فتلف في يد أن بائعه يستحق عليه البدل الذي هو القيمة.
يوضح ذلك أن النكاح الفاسد لا حكم له في الإنفراد، ثم إذا اتصل به الوطء صار في حكم الصحيح، وصار الواطيء في حكم المالك للبضع، ألا ترى أنه لو وطئها مراراً لم تستحق إلا مهراً واحداً، وصار الوطء الثاني وما بعده في حكم الوطء الواقع في ملكه فكذلك الوطء في البيع الفاسد.
فإن قيل: فقد ثبت أن القبض المنفرد عن العقد لا يوجب التمليك فكذلك العقد المنفرد عن القبض قد ثبت أنه لا يوجب التمليك فوجب أن لا يوجب ذلك اجتماعهما.
قيل له: لا يمتنع أن يكون الشيئان لا يوجب كل واحد منهما أمراً على الإنفراد، وإن أوجباه إذا اجتمعا، ألا ترى أن النكاح الفاسد لا يوجب مهراً إذا انفرد عن الوطء، وكذلك الوطء إذا تجرد، وإن اجتمعا أوجبا المهر فكذلك الإيجاب في البيع لا يوجب الملك إذا انفرد، والقبول أيضاً إذا انفرد عن الإيجاب لم يوجب المملك، وإذا اجتمعا أوجبا فبان سقوط اعبراضهم بهذا.
فإن قيل: فلو باعه بما لا يصح بملكه على وجه من الوجوه ثم قبضه لم يملك، وهذا ينقض ما اعتمدتموه؟
قيل له: هذا ساقط من وجهين:
أحدهما ـ أنا لا نسلم أن ذلك عقد بيع، لأن البيع بما لا يصح تملكه على وجه من الوجوه غير معقول فاسم عقد البيع لا يتناوله.
والثاني ـ أنه لا يجب أن يكون ما يقبضه على ذلك مضموناً عليه عندنا، وقد ذكر أبو بكر الجصاص في شرح المختصر أن ذلك غير محفوظ عن أصحابهم،، وأنه لا يمتنع أن يقال: إنه غير مضمون عند أصحابهم، فأما على قولنا فهو الأظهر، لأن أصحابنا لا يضمنون من قبض الشيء للسوم إذا لم يجر فيه عقد على وجه من الوجوه.

(63/5)


ويشهد لما ذكرناه الهبة على عوض فاسد والإجارة الفاسدة على العمل، ألا ترى أنه يستحق ب الأجرة على العمل كما يستحق بالإجارة الصحيحة على العمل، ويشهد له أيضاً وقوع العتق بالكتابة الفاسدة.
مسألة:
قال: فإن قبضه ثم تركه عند بائعه رهناً أو وديعة، ثم باعه كان البيع جائزاً، وكذلك لا يجوز بيع الصدقة ولا الخمس قبل القبض.
وجميعه منصوص عليه في الأحكام.
ووجه قولنا: إنه إن كان قبضه ثم تركه عند بائعه رهناً أو وديعة جاز فيه البيع أنه قد حصل مقبوضاً، وصار مضموناً له، فسبيله بيل ما يودع أو يرهن عند غير بائعه في جواز البيع، لأنه لا فرق بين البائع وبين من سواه في هذا الباب، على أنه مما لا أحفظ فيه خلافاً.
وقلنا: إن بيع الصدقة والخمص لا يجوز قبل القبض لعموم ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع مالم يقبض وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الصدقة حتى تقبض وعن بيع الخمس حتى يحاز)، ولأنه لا يملكه إلا بالقبض فأشبه بيع الحيتان في النهر في أنه لا يجوز بيعها.
فإن قيل: فإذا كنتم تجوزون بيع مالا يملكه الإنسان وتوقفون على إجازة رب المال فهلا قلتم ذلك في بيع الخمس والصدقة؟
قيل له: أما الخمس فليس له مالك معين فيكون بيع من يبيعه موقوفاً على إجازته، لأن ملكه يستقر لمعين بالقبض، والصجقة لا تكون ملكاً لمالكها حتى يقبضها المتصدق عليه، وإنما سمي صدقة على سبيل التوسع فلو باعه بائع فأجازه مالكه خرج عن حكم الصدقة وصار بمنزلة سائر ما يوقف على إجازة مالكه فلم يجب أن يكون ما سألوا عنه لازماً على مابيناه فسقط التعلق به.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع إمهات الأولاد على وجه من الوجوه سواء وضعت للتمام أو لغير تمام بعد أن وضعت مضغة أو نحوها.

(63/6)


ماذكرناه من أن بيعهن لا يجوز منصوص عليه في الأحكام والمنتخب، وهو قول القاسم عليه السلام وما ذكرناه من أنها لو وضعت لغير تمام بعد أن يكون مضغه أو نحوها منصوص عليه في المنتخب. وما ذهبنا إليه من منع بيعهن هو قول عامة الفقهاء، وهو ما أجمع عليه في الصدر الأول.
وذهبت الإمامية إلى أن بيعهن جائز، وبه قال الناصر عليه السلام، وروي القولان جميعاً عن أمير المؤمنين عليه السلام رواه عنه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام مثل قول الإماية.
وروى لنا أبو العباس الحسني مثل قولنا عنه عليه السلام، قال أبو العباس الحسني: أخبرنا محمد بن الحسين بن علي العلوي المصري، قال: حدثنا أبي الحيسن ـ يعني أخا الناصر ـ قال: حدثنا زيد بن الحسن بن زيد بن عيسى بن زيد بن علي، عن أبي بكر عبدالله بن أبي أويس، عن حسين بن عبدالله بن ضميرة، عن أبي، عن جده، عن علي عليه السلام أنه كان يقول: لا تباع أم الولد.
والأصل في ذلك ما اخبرنا به أبو العباس الحسني قال: أخبرنا أحمد بن سعيد بن عثمان الثقفي، قال: أخبرنا أحمد بن سعيد الدارمي، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن عكرمه، عن ابن عباس، قال: ذكرت مارية أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (اعتقها ولدها وإن كان سقطاً). فدل ذلك على أنها تصير حرة بنفس الولادة، وهذا صريح مذهبنا.
فإن قيل: فأنتم لا تثبتون عتقها في حال الولادة؟
قيل له: لا يمتنع أن يكون الموجب للعتق هو الولادة، وإن وجب أن يراعى لتمامه شرط آخر، ألا ترى أن المكاتب يعتق بالكتابة، وإن كان أداء المال شرطاً في تمام العتق.
فإن قيل: فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أعتقها لدها)، وقد علمنا أن الولد لم يكن منه الإعتاق فلم يكن للخبر ظاهر؟

(63/7)


قيل له: لا وجه للخبر غير اعتاقها بالولادة، ألا ترى إلى قوله: (وإن كان سقطاً)، والسقط لا يكون منه القعل فبان أن الغرض فيه ليس أن فعل إعتاقها، وأن المراد أنها تعتق بولادتها له.
فإن قيل: فإذا تأولتم الخبر على وجه لا يقتضي الظاهر فلنا أن نتأوله على وجه آخر، وهو أن نقول: إنها تعتق بعتق الولد إذا مات الوالد وبقي الولد؟
قيل له: هذا التأويل ساقط من وجهين:
أحدهما ـ أن إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يجب على هذا خصول عتقها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أعتقها ولدها).
والوجه الثاني ـ أن قوله: (ولو كان سقطاً)، يدل على أن المراد به غير ما تأولتموه.
وأخبرنا أيضاً أبو العباس الحسني رضي الله عنه قال: أخبرنا عبدالرحمن بن الحسين الأسدي قاضي همدان، قال: أخبرنا إبراهيم بن الحسين المعروق بابن ديزيل قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الجعفري من ولد الطيار صلوات الله عليه قال: حدثني عبدالله بن سلمة بن أسلم، عن الحسين بن عبدالله بن عبيدالله الهاشمي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأم إبراهيم: (أعتقها ولدها).
ويدل على ذلك ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا الحسين بن عبدالله بن عبدالحميد البجلي الهمداني، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن زيد الواسطي، قال: حدثنا أبي وعمي علي بن أحمد، قالا: حدثنا محمد بن صبيح، قال: حدثنا عبدالله بن خراش، عن العوام بن حوشب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ولدت جارية الرجل منه فهي له متعة حياته وإذا مات فهي حرة)، وهذا صريح مذهبنا.
وروي عن الثوري عن الإفريقي، عن مسلم بن سنان، عن ابن المسيب قال: أهات الأولاد لا يبعن، ولا يجعلن من الثلث، قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكره الجصاص في كتابه.

(63/8)


وروي أيضاً بإسناده عن خوات بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنع عن بيعهن.
ويدل على ذلك ما روي عن عبيد السلماني، عن علي عليه السلام قال: إجتمع رأيي ورأي عمر في جماعة المسلمين على عتق أمهات الأولاد، ثم رأيت أن أرقهن فأخبر أن الإجماع حصل على ذلك.
وروى أبو العباس الحسني رضي الله عنه في كتاب الإبانة بإسناده عن الشعبي، عن علي عليه السلام قال: استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد فرأيت أنا وهو إذا ولدت عتقت، وقضى به عمر حياته وعثمان بعده فلما وليت الأمر من بعدهما رأيت أن أرقهن.
فإن قيل: هذا عليكم من وجهين:
أحدهما ـ أن فيه ما يدل على أنهما لم يحفظا فيه النص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والثاني ـ أن علياً عليه السلام ذكر رجوعه عنه، وعندكم أنه لا يجوز أن يخالف.
قيل له: أما الأول ـ فلا معترض به لأنه لا يجب في كل حال أن يكون قد عرف جميع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويحوز أن يكونا قد عرفا النص فاشتبه عليهما المراد فأجمع الرأي منهما ومن المسلمين على مراده صلى الله عليه وآله وسلم بالخبر فانتهوا إليه.
وأما الثاني ـ فلا معنى له لأن علياً عليه السلام لا يجوز أن يخالف إجماع المسلمين فيجوز أن يكون لكلامه عليه السلام تأويل، وهو أحد الوجهين إما أن يكون مراده إني رأيت أن أبين بقاء رقهن لئلا يظن الناس أن المراد بقوله: إنهن عتقن العتق البتات فيكون كلامه عليه السلام كالتفسير لما أجمعوا عليه من قبل.
فإن قيل: فقد روي في بعض الأخبار <ثم رأيت أن أبيعهن>.
قيل له: يجوز أن يكون هذا لفظ الراوي الذي سمع قوله أرقهن فتأول فيه حقيقة الإسترقاق فعبر عنه بحكمه، وهو جواز البيع لأن أكثر من روى هذا الحديث روى بلفظ الإرقاق دون لفظ البيع.

(63/9)


والثاني ـ أنه يجوز أن يكون ذكر ما عرض له من الرأي، ولم يقل: إنه أخذ به، ومن الجائز أن يكون الرأي يعترض له ثم يمنعه عن الأخذ به ما سلف من الإجماع، وهذا نحو ما روي عن علي عليه السلام أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره)، فبان أن الرأي يقتضي وإن كان هناك ما يمنع منه.
فإن قيل: [ما] روي عن عبيدة السلماني من قوله: فقلت له يعني علياً عليه السلام: رأيت في الجماعة أحب إليَّ من رأيك في الفرقة يقترض هذا التأويل؟
قيل له: قد ذكر جماعة من العلماء أن هذا اللفظ مما لا يصح، وإن عبيدة لم يكن له من الوزن ما يجيزه على أن شافه أمير المؤمنين عليه السلام بذلك وينسبه إلى خرق الإجماع منه، وأنه يجوز أن يكون قال ذلك في نفسه حين خفي عليه معنى قول أمير المؤمنين.
على أنه إن ثبت فلا معترض به على الوجه الثاني من التأويل، وذلك أن معنى قوله موافق لتأويلنا، لأنهما جميعاً يفيدان أن هذا الرأي لا يجوز الأخذ به لمنع الإجماع من، وقد بينا أن علياً عليه السلام لم يقل: إني أخذت بهذا الرأي وعملت به.
فإن قيل: فإن زيد بن علي روى عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام مالا يحتمل هذا التأويل، وهو قوله: وكان يقول إذا مات سيدها وله منها ولد فهي حرة من نصيبه، لأن الولد قد ملك منها شقصاً وإن كانت لا ولد لها بيعت؟
قيل له: هذا رواه أبو خالد، عن زيد بن علي عليهما السلام يرفعه إلى علي صلوات الله عليه أنه كان يجيز بيع أمهات الأولاد، ولا يمتنع أن يكون قول زيد بن علي عليه السلام أدرجه في الخبر، وإن يكون أبو خالد هو القائل، وكان يقول: كذا والمراد به زيد دون أمير المؤمنين عليهما السلام.

(63/10)


ويحتمل أيضاً أن يكون المراد به إذا كان الإستيلاد وقع في غير الملك ويكون الملك تجدد بعد الولادة، وهذه لا تكون أم ولد حكماً وإن كان جاز أن تسمى من طريق أم ولد، وحكمها عندنا هو ما تضمنه ظاهر هذا الحديث، فلا يكون قادحاً في مذهبنا.
فإن قيل: فقد روى زيد بن علي عنه عليه السلام ماهو أوضح من هذا وهو أن رجلاً أتاه فقال: يا أمير المؤمنين إن لي أمة ولدت مني أفأهبها لأخي قال: نعم فوهبها لأخيه فوطئها فأولدها فأتاه الآخر فقال: أهبها لأخ لي آخر قال: نعم فوطئوها جميعاً؟
قيل له: أما الأخ الأول فيجوز أن يكون استيلاده لها كان قبل الملك فوطئها ثم ملككها قبل الولادة، وهذه عندنا يجوز بيعها وهبتها فأجاز علي عليه السلام أن يهبها لأخيه، وأما الأخ الثاني فيجوز أن يكون ألااد بالهبة النكاح، فإن النكاح يجوز أن يعبر عنه بالهبة ألا ترى إلى قوله سبحانه: {وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيْ}، والمراد به النكاح، وكذلك قلنا: إن النكاح ينعقد بلفظ الهبة فيكون وطء الثالث لها بالنكاح دون الملك.
فإن قيل: ما الفصل بينكم وبين من تأول ما روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول: (لا تباع أم الولد) على أم الولد التي مات عنها سيدها وله منها ولد باق؟
قيل له: تأويلنا أولى لموافقة ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولما ذكر من حصول الإجماع فكنا ب أسعد.
فإن قيل: فكيف تدعون الإجماع فيه، وقد روي عن عمر أنه قال: <أم الولد إذا أسلمت وأحصنت عتقت وإن كفرت وفجرت وغدرت رقت>؟
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به إرتدت ولحقت بدار الحرب.
فإن قيل: روي عن ابن الزبير جواز بيعهن؟
قيل له: يحتمل أن يكون من ملك بعد الولادة.
فإن قيل: روي عن ابن مسعود أنه قال: تعتق من نصيب ولدها؟
قيل له: هذا لا يمنع من القول بإعتاقها، وإنما الخلاف في جهة العتق وليس فيه دلالة على جواز البيع. على أنه قد روي عن ابن مسعود مادل على خلاف ذلك.

(63/11)


أخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله قال: أخبرنا الحسين بن أبي الربيع، قال: حدثنا الحسين بن علي بن الربيع، قال: حدثنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن زيد بن هب، قال: مات رجل من الحي وترك أم ولد فأمر الوليد بن عقيبة ببيعها فأتينا ابن مسعود فسالناه فقال: إن كنتم لا بد فاعلين فاجعلوها في نصيب ولدها، فدل ذلك أنه لم يقل ذلك عن رضى ببيعها.
فإن قيل: قد روي عن جابر أنه قال: كنا نبيع امهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهد أبي بكر إلى أن نهى عنه عمر.
قيل له: هذا مما لا حجة فيه للمخالف، لأنه لم يذكر أنه فعل ذلك بإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا ترى إلى ما روى أبي بن كعب لما قال لعمر: قد كنا نجامع على عهد رسول الله فلا نغتسل حتى نزل، فقال له عمر: فأخبرتم بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرضيه قال: لا فلم يأخذ به.
على أن ذلك يحتمل أن يكون في أمهات أولاد ولدن قبل الملك وهذا ممالا نأبا.
ومما يدل على ذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا ابن اليمان قال: أخبرنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري، قال: حدثني عبدالله بن محيريز الجمحي أن أبا سعيد الخدري أخبره أنه بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل من الأنصار فقال يا رسول الله إنا نصيب سبياً ونحب الأثمان فكيف ترى في العزل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا عليكم ألا تفعلوا ذلك فإنها ليس بنسمة كتب الله عز وجل أن تخرج إلا وهي خارجة)، فلولا أن بيعها بعد الإستيلاد غير جائز لقال صلى الله عليه وآله وسلم ليس الإستيلاد بمانع من الثمن فدل ذلك على حظر بيعهن.

(63/12)


فأما ما يذكره المخالف في هذا الباب مما يجري مجرى النظر فلا معنى له لأنه يؤدي إلى خلاف النصوص التي ذكرناها، وإلى خلاف ما أجمع عليه، وما يجري هذا المجرى من النظر فهو فاسد على أنهم لا يخالفون في أن اطلاق بيعها في حال الحمل غير جائز لأنهم فرقتان فرقة يذهبون إلى أن بيعها في حال الحمل غير جائز على وجه من الوجوه، وفرقة يذهبون إلى أن بيعها لا يجوز إلا أن يستثني مافي بطنها فحصل الوفاق في أن بيعها على الإطلاق غير جائز فوجب أن لا يجوز بيعها بعد الولادة على الإطلاق. والعلة أن مالكها أحبلها في الإسلام فكل مملوكة حبلت من مالكها في الإسلام لم يجز اطلاق بيعها، وإذا ثبت أن اطلاق بيعها غير جائز ثبت أنه لا يجوز بيعها على وجه من الوجوه إذ لم يفصل أحد بين ذلك ويؤكد ذلك بالحظر والإحتياط.
وقلنا: إنها تصير أم ولد سواء وضعت للتمام أو لغير التمام لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أعتقها ولدها ولو كان سقطاً)، واشترطنا أن تكون مضغة أو نحوها ليعلم أنه ولد وينفصل حال بين أن يكون ولداً، وبين أن يكون دماً أو غيره مما يجمعه أبداً.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع المدبر إلا من ضرورة وهذا منصوص عليه في الأحكام والمنتخب، وبه قال القاسم، قال الناصر: يجوز بيعه على كل حال وبه قال الشافعي قال أبو حنيفة: لا يجوز بيعه بحال، وقال مالك: إنه لا يباع إلا في الدين.
والأصل في ذلك ما أخبرنا به علي بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسن بن اليمان قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق عن عبدالله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن جابر قال: كان في المدينة رجل أعتق غلاماً قبطياً، عن دبر منه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له الحاجة فأمره أن يبيعه فباعه بثمنمائة درهم من نعيم بن النحام.

(63/13)


وروى أبو داود بإسناده عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر منه، ولم يكن له مال غيره فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبيع.
فدل ذلك على أن بيعه كان للحجة ألا ترى إلى ما روي أن رسول الله سها فسجد دل على أن السجود كان للسهو، وكذلك ما روي أن ما عزاً زنا فرجم دل على أن الرجم ككان للزنا فكذلك قول جابر: أعتق غلاماً له عن دبر فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له الحاجة فأمره أن يبيعه فيه دليل على أن بيعه كان من اجل الحاجة ومقصوراً عليها، وهذا نص فيما ذهبنا إليه.
فإن قيل: فقد روى الجصاص بإسناده عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( المدبر لا يباع ولا يشترى وهو من الثلث، وهذا عام في جميع الأحوال).؟
قيل له: لا ننكر ما ذكت وبه نحتج على الشافعي ومن قال: مثل قوله إذ أجاز بيعه إلا أنا نخصص منه مدبر المضطر بالدليل الذي قدمناه.
فإن قيل: روي عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: إنما باع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خجمة المدبر؟
قيل له: هذا لا يمنع ما اعتمدناه من الأخبار لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم باع خدمة المدبر مرة والمدبر نفسه مرة أخرى فليس بينهما تناف، وأكثر ما في هذا أن يكون أبو جعفر عليه السلام لم يعرف أحد البيعين وعرف الآخر.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إنا نجوز بيع بعض المدبر، وهو أن لا يكون عتقه علق بمجرد موت مالكه فيحمل الخبر عليه.

(63/14)


قيل له: ظاهر الخبر يقتضي خلاف ذلك لأن فيه أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر، وذكر الحاجة فأمر ببيعه فذكر الإعتاق عن دبر ولم يذكر شرطاً سواه فيه ولا يمكن إثبات شرط لا يقتضيه الخبر ولم يدل الدليل عليه، فإن قيل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدبر لا يباع ولا يشترى، ثم روي أنه باع مدبراً فاستعملنا الخبرين بأن حملنا بيعه المدبر على مدبر، دون مدبر وأنتم استعملتموه بأن حملتموه على اختلاف أحوال المدبر في نفسه فتساوينا فيه، وبقي لنا قوله: (المدبر لا يباع ولا يشترى)؟
قيل له: استعمالنا أولى من استعمالكم وذلك أن ما راعيناه من المدبر تضمنته الأخبار الواردة في هذا الباب، ألا ترى أن في بعض الأخبار أنه باع مدبراً في الدين، وفي بعضها ـ أن رجلاً أعتق عبده عن دبر لا مال له غيره، وفي بعضها فذكر الحاجة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيما رواه أبو داود في السنن بإسناده عن أبي الزبير عن جابر أن رجلاً من الأنصار يقال له: أبو مذكور أعتق غلاماً له يقال له: يعقوب عن دبر، ولم يكن له مال غيره فدعا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من يشتريه فاشتراه نعيم بن عبدالله بثمانمائة درهم فدفعها إليه، وقال: إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه.
وفي بعض الأخبار أنه صلى الله عليه وآله وسلم باعه وقال: (الله عنه غني وأنت إلى ثمنه أحوج)، فكل ذلك يدل على أن السبب الذي بيع أجله ما ذهبنا إليه فكان استعمالنا أولى من استعمال من حمله على مالم ينطق به شيء من الأخبار.

(63/15)


ومما يدل على ذلك أنه أمر مستقر يراعى لتقييده الثلث فوجب أن لا يجوز الإعتراض علهي إلا لعذر دليله الوصية بعد الموت، وليس يلزم عليه الوصية قبل الموت لأن الوصية لا تستقر قبل الموت وإنما استقرارها بعد الموت وليس كذلك التدبير لأنه يستقر قبل الموت، ألا ترى أنه لا خلاف أن العبد يكون مدبراً في حال حياة مولاه وأيضاً وجدناه التدبير عتقاً من جهة القول معلقاً على شرط منتظر فوجب أن يكون لمالكه فسخه على حال دون حال، دليله الكتابة ألا ترى أن له أن يفسخ الكتابة إذا عجز العبد أو استقال، ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن من قال لعبده: أنت حر إن مت من مرضي هذا أن له أن يبيعه إذا إطر إلى بيعه فكذلك إن قال: أنت حر إن مت من مرضي هذا أن له أن يبيعه إذا إضطر إلى بيعه فكذلك إن قال له: أنت حر إن مت فقط والعلة أنه مدبر مضطر إلى بيعه مدبرن، وهذه العلة لها تأثير عندنا، لأنه لو لم يكن مضطراً لم يجز بيعه عندنا.
يؤكد ذلك أنا وجدنا المدبر حال المدبر أقوى في باب من حال من أوصى بعتقه، لأنه يفتقر إلى اعتاق الوصي بعد الموت، وليس يعتقر المدبر إلى ذلك، ووجدنا حاله أضعف من حال أم الولد، لأن أم الولد تعتق من جملة المال والمدبر يعتق من الثلث إلا ترى أن الوصية لما كانت أضعف حالاً من الدين نفذت من الثلث، ونفذ الدين من جميع المال، فلما ثبت ذلك وجب أن يكون حاله فاصلة بين حال الموصى بعتقه وحال أن الولد، فككانت أم الولد مما لا يجوز بيعها على وجه من الوجوه، والموصي بعتقه يجوز بيعه بكل حال، فوجب أن يكون المدبر يجوز بيعه على حال دون حال، وكان أولى الأحوال بالفصل في ذلك مادلت الآثار عليه.
وأيضاً وجدنا المدبر بعد موت صاحبه حاله متوسطه بحال أم الولد والموصى بعتقه، لأن أم الولد تعتق بكل حال عتقاً مطلقاً، والموصى بعتقه يمنع الدين من تنفيذ عتقه، والمدبر يعتق مع السعي فوجب أن يكون حال متوسططة في حال حياته بينهما على ما ذهبنا إليه.

(63/16)


فأما مالك فإنه يجيز بيعه في الدين فيجب أن يجوز بيعه في سائر الضرورات لأن الأخبار قد نبهت عليه، لأن في بعض الأخبار أنه عليه السلام باعه في الدين وفي بعضها أن الرجل ذكر الحاجة فأمر ببيعه، وفي بعض الأخبار أنه عليه السلام باعه في الدين وفي بعضها أن الرجل ذكر الحاجة فأمر ببيعه، وفي بعضها أنه قال: إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه، وفي بعضها: (الله عنه أغنى وأنت إلى ثمنه أحوج)، فنبه ذلك على أن الحاجة مراعاة فيه كالدين، وأيضاً وجب أن تقاس سائر الضرورات على الدين بمعنى أنه ضرورة، على أنا وجدنا سائر الضروريات في الأصول كالدين أو أقوى من الدين، ولم نجدها أضعف من الدين، ألا ترى أنهما يستويان في باب أخذ الزكاة، وعندنا الدين أضعف في باب أداء الزكاة، لأن من عليه الدين قد يلزمه نفقة الرحم، وإن كان الفقير لا يلزمه، فإذا جاز أن يباع المدبر في الدين جاز أن يباع في سائر الضرورات إذ ليست حالها أضعف من حال الدين.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الضالة، ولا بيع العبد الآبق في حال أباقه، وبيعها غرر.
وهذا منصوص عليه في الأحكام، ونص في المنتخب على أن بيع الآبق لا يجوز.
والأصل في ذلك ما أخبرنا به أبو الحسين البروجردي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الدينوري، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن يحي بن عتيق، عن محمد بن سيرين، عن أيوب السختياني، عن يوسف بن ماهك المكي، عن حكيم بن حزام قال: (نهاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أبيع ماليس عندي)، والآبق والضالة ليساً عند البائع فوجب أن لا يجوز بيعهما لعموم النهي عن ذلك.
وروي زيد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام: (أنه نهى عن بيع ماليس عندك والنهي عن بيع االغرر يقتضي النهي عن بيع الآبق والضالة، لأنه غرر لا يدري أيظفر به أم لا فيجري مجرى بيع الطير في الهواء والسمك في الماء.

(63/17)


شراء الموقوف
مسألة:
قال: ولا بأس بالشراء الموقوف على إذن المشتري له، وكذلك والقول في البيع الموقوف على اذن صاحب المبيح تخريجاً، نص في الأحكام في مسألة من خالف أمر الآمر على إجازة الشراء الموقوف ودل كلامه فيه وفي النكاح الموقوف على اجازته البيع الموقوف والشافعي يأباهما، وأجاز أبو حنيفة البيع الموقوف دون الشراء الموقوف وأجاز الوقف في الشراء دون البيع مالك.
والأصل في ذلك قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَى}، والبيع اسم للإيجاب والقبول وليس لأحد أن يقول: الإيجاب يجب أن يكون من المالك لأنه لاخلاف أن اسم البيع ينطق عليه، لأنه لا يمنع أحد من أن يقول باع فلان مال غيره.
فإن قيل: البيع هو إيجاب الملك للغير والموقوف لا يكون ملكاً فلا يجب أن يكون بيعاً فثبت أن الإسم لا يتناوله؟
قيل له: البيع هو اسم الإيجاب والقبول فقط يكشف ذلك أن المتعاقدين لو تعاقدا على خيار معلوم كان ذلك كان ذلك بيعاً، وإن لم يجب الملك.
ومما يدل على ذلك حديث عروة البارقي قال: أعطاني رسول الله ديناراً لاشتري به شاة، فاشتريت به شاتين فبعت أحدهما بدينار وجئت بالأخرى فقال: أحسنت، وروي أنه قال: أعطاني ديناراً أشتري به أضحية فاشتريت به شاتين فبعت أحدهما بدينار وجازه بدينار وشاة فدعى له صلى الله عليه وآله وسلم بالبركة ف بيعه فكان لو اشترى التراب ربح، وفي بعض الأخبار قلت: هذا ديناركم، وهذه شاتكم فقال: كيف صنعت فحدثته بالحديث، فقال: اللهم بارك في صفقة يمينه فدلت هذه الأخبار على ما ذهبنا إليه من جواز البيع والشراء الموقوفين لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يشتري شاة فاشترى شاتين بغير أمره ثم باع أحدهما بغير أمره ثم باع أحداهما بغير أمره فأجازه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدل ما ذهبنا إليه من أن الإجازة تلحق البيع والشراء جميعاً.

(64/1)


ومما يدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أعطى حكيم بن حزام دينار وأمره أن يشتري به أضحية فاشترى وباع ثم اشترى، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدينار وشاة، فقال: ما هذا؟ قال: بعت واشتريت وربحت، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بارك الله لك في تجارتك)، فدل ذلك على ما ذهبنا إليه لآن حكيماً باع مالم يؤمر ببيعه، ثم شرى مالم يؤمر بشرائه ثانياً وأجازهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع مالم يملك، وأنه قال: لا تبع ماليس عندك، وهذا نقيض مذهبكم.
قيل له: أما عن بيع مالم يملك فلا يتناول موضع الخلاف، لأن الخلاف إنما هو في بيع مالم يملك إذا باعه غير مالكه، وأما مالا يكون ملكاً لأحد فلا خلاف أن بيعه لا يجوز، وهو الذي ورد النهي عن بيعه، وقوله: (لا تبع ماليس عندك)، أيضاً لا يدل على موضع الخلاف لأن الإنسان قد يكون عنده ملك غيره، والخلاف في بيعه قائم.

(64/2)


على أن ما ذكرتموه لو اقتضى ما ادعوه لكانت أخبارنا أولى لأنها تختص موضع الخلاف فيجب أن تكون مخصصة ملا اعتمدوه، ولا خلاف أن صاحبه لو كان رضي ببيعه جاز البيع، وكذلك إذا رضي بعد وقوع العقد، والمعنى أنه عقد بيع حصل معه رضي المالك، وأيضاً لا خلاف أن المريض لو باع وحاباً وقف البيع على إجازة الورثة، فكذلك ما اختلفنا فيه، والعلة أنه عقد بيع يتعلق به غير حق المتعاقدين فوجب أن يكون موقوفاً على اجازة من له الحق، ولا خلاف أن قول البائع: بعت بكذا وكذا موقوف على قبول المشتري فوجب أن يفق ما اختلفنا فيه على الإجازة والمعنى أنه معنى لو تقدم على العقد لنفذ فوجب أن يفق عليه إذا لم يكن تقدم ألا ترى أنه لا خلاف أنه لو قال المشتري: قد اشتريت منك كذا بكذا فقال البائع: قد بعت لنفذ، وهذا القياس الثاني يودب أن يقف الشراء على إجازة المشتري والوصية أيضاً تشهد بما ذهبنا إليه، ألا ترى أن من أوصى بجميع ماله وقفت وصيته على إيجازة الورثة لما تعلق بالموصى به حق الورثة، وليس لهم أن يقيسوه على الطير في الهواء والسمك في الماء، لأنهما ليساً ملكين لأحد فيكون بيعهما موقوفاً على إجازته.
فإن عللوا لفساد البيع، قلنا: العلة فيه أنه غير مملوك لأحد من الناس فلذلك فسد بيعه، وهذه العلة معلومة لا يصح أن يقابلها العلة المظنونة، وأما قول من قال: إن البيع يوقف والشراء لا يوقف، لأن الشراء يلزم المشتري فهو عندنا غير صحيح، لأن الذي يصح عندنا هو أن الإنسان إذا اشترى شيئاً لغيره بغير أمره لم يلزمه ووقف على اجازة المشتري له، فإن أجازه جاز، وإن لم يلزمه بعد ذلك.
فإن قيل: فالدليل على أنه يلزمه المشتري أن الوكيل إذا الوكيل إذا خالف الموكل في الشراء لزمه؟
قيل له: لسنا نسلم هذا ونقول فيه ما قلنا أولاً إن الوكيل إذا خالف كان موقوفاً على المشترى له فإن أجازه جاز، وإلا لزم الوكيل، وهل الخلاف إلا هذا فكيف يصح البناء عليه.

(64/3)


فإن قيل: فكيف يصح أن يكون لزومه المشتري موقوفاً على امتناع المشترى له من إجازة شرائه؟
قيل له: لا يمتنع ذلك ألا ترى أنهم يقولون في الملتقط إذا تصدق باللقطة ثم جاء صاحبها كان بالخيار بين أن يجيزه ويختار الأجر، وبين أن يضمنه قيمتها فيكون تضمين الملتقط موقوفاً على امتناع صاحب اللقطة من إجازة الصدقة، وتكون الصدقة موقوفة على إجازته، فإن أجازها جازت، وإن لم يجزها ضمن الملتقظ، وكذلك المشترى له إن أجاز جاز، وإن امتنع لزم المشتري الشراء.
بيع الشيء بأكثر من سعر يومه
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً باع من رجل شيئاً بأكثر من سعر يومه يدا بيد جاز، فإن باعه بأكثر من سعر يومه مؤجلاً كان البيع فاسداً، وهو من الربا ولا يجوز ذلك وإن لم يشترط الأجل لفظاً إذا كان مضمرين له ومنطويين عليه.
ما ذكرناه من جواز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه يدا بيد قد دل عليه في باب المزارعة، وفي نسخة أخرى في باب المرابحة من كتاب الأحكام.
ودل عليه أيضاً في مواضع من الأحكام ومنتخب.
وما ذكرناه من المنع من بيعه بأكثر من سعر يومه نسأ منصوص علي في كتاب الأحكام والمنتخب.
وما ذكرناه من أنه يجوز ذلك، وإن لم يشترطا الأجل لفظاً إذا كانا مضمرين له فنبه عليه في باب الصرف من الأحكام.
أما ما ذكرناه من كون بيع الشيء باكثر من سعر يومه لا يجوز نسأ فهو قول القاسم، رواه عن عبدالله بن الحسن، عن علي بن الحسين عليهم السلام. وبه قال الناصر، وسائر العلماء على خلافه.
والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَى}، والربا فهو الزيادة، ومنه قول الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِتُرْبُوا فِيْ أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يُرْبُوا عِنْدَ اللهِ}، فإذا ثبت ذلك ثبت أن ذلك البيع هو بيع الزيادة، فثبت أن بيع الربا فوجب تحريمه بظاهر التلاوة.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}، فلستم بما تعلقتم به بأولى مننا إذا تعلقنا بما ذكناه؟

(64/4)


قيل له: تعلقنا بما تعلقنا به أولى لأنه حاظر، وما تعلقتم به مبيح، والحاظر أولى من المبيح، ألا ترى إلى ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال في الجمع بين الأختين بملك اليمين <أحلتهما آية وحرمتهما آية>، ثم غلب الحظر، ولأن الربا أخص من البيع، لأن البيع يشتمل على ماهو بيع مساواة وربا، وعندنا أن العام يجب أن يبنى على الخاص.
فإن قيل: فلم لا تحملونه على هذا المعنى في بيع الشيء بأكثر من سعر يومه يدابيد؟
قيل له: نخص ذلك بدلالة الإجماع ومن طريق السنة ما روي أن علياً عليه السلام خطب الناس، وقال: سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده ولم يؤمر بذلك، قال الله تعالى: {وَلا تَنْسُوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، ويبايع المضطرون، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع المضطرين، وبيع الغرر، وهذا منبيع الضطر، لأن الشيء لا يشترى بأكثر من سعر يومه مؤجلاً إلا لضرورة، وقد بينا تناوله النهي فيجب فساده.
فإن قيل: فمن يشتري بأكثر من سعر يومه إنما يشتريه لضرب من الضرورة، وأن كان الثمن معجلاً، وقد أجزتموه، وكذلك من يبيع الشيء بأقل من سعر يومه إنما يفعله لضرب من الضرورة، وقد أجزتموه.

(64/5)


قيل له: إنما تعلقنا بالعموم، وكل ما سألتم عنه مخصوص بالإجماع، وأيضاً روي أن امرأة قالت لعائشة: إني بعت من زيد بن أرقم خادماً بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته بستمائة درهم فقالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى قد أبطل جهاده معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يتب، فقالت: ارايت إن لم آخذ إلا راس مالي فقالت عائشة: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله)، وهذا لا يجوز أن تقوله إلا توقيفاً، إذ فيه أبطال الجهاد، وذلك لا يكون للإجتهاد، وفيه مقادير الثواب والعقاب، ولا طريق لها إلا التوقيف، فإذا ثبت ذلك فليس يخلو أبطالها البيع الأول من أن يكون لأنه بيع إلى العطاء، وقد عرف من مذهبهما خلاف ذلكك، أو يكون لأنه بيع باكثر من سعر يومه مؤجلاً فإذا فسد الأول لم يبق إلا الثاني.
فإن قيل: فأجيزوا ذلك لغير المضطرين إذا تبايعا؟
قيل له: قد بينا أن موضوع هذا البيع موضوع الإضطرار فلا معتبر بحال المتبايعين، ألا ترى أنه لا خلاف في المضطرين إذا تبايعا الشي بمثل سعر يومه أنه غير مراد بالخبر، فإذا المراد أن يكون البيع موضوعه موضوع الإضطرار.
ويمكن أن يقال لأبي حنيفة والشافعي لا نختلف في أن من باع شيئاً بأكثر من سعر يومه مؤجلاً واشترط خيار بائعه أن البيع فاسد، فكذلك إذا لم يشترط الخيار والعلة أنه بيع بزيادة الثمن مؤجلاً، ويدل عليه أن من عليه الحق لو قال لصاحبه: أخرني بحقط وأزيدك لم يجز ذلك لأنه زيادة ليس في مقابلها إلا الإمام وكذلك بيع الشيء بأكثر من سعر يومه للزيادة، ألا ترى أن الزيادة لم تحصل إلا على الأيام فقط فليس يلزم عليه السلم، لأن من يسلم في أكثر مما يتبايع به لا يقال: إنه بيع بزيادة، وإنما يقال في مثله بيع بوكس، وإن كان فيه زيادة من وجه.

(64/6)


على أنه لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن من باع شيئاً لم يجز له أن يشتريه بأقل مما باعه به من قبل أن يستوفي الثمن الأول فكذلك ما ذهبنا إليه لأنه لا يحل في أن يحصل في الثمن زيادة لا يقابلها إلا مرور الزمان.
وقلنا: إن ذلك لا يجوز وإن لم يشترطا الأجل لفظاً إذا كانا مضمرين له لقول الله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيْرُونَهَا بَيْنَكُمْ}، وقد ثبت أنهما لم يتراضيا بما جرى بينهما من العقد الظاهر لانطوائهما على خلاف ذلك ألا ترى أن المشتري لو علم أنه يطلب بالثمن معجلاً لم يكن يشتريه بذلك الثمن ولا معتبر بظاهر ما يقع منهما ألا ترى أن المكره إذا باع لم يجز بيعه، وإن ظهر منه ظاهر الإيقاع لما قارن ما يدل على أنه غير راض به، فكذلك ما ذكرناه، ولذلك أبطلنا طلاق المكره وعتاقه.
(ذكر بيع الجزاف)
مسألة:
قال: ولا بأس ببيع الجزاف إذا لم يعرف المتبايعان قدره، فإن كان إحدهما عالماً بمقداره فسده البيع.
وهذا منصوص عليه في الأحكام.
ووجه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النهي عن بيع الغرر، وهذا من التغرير لأنهما إذا باعا جزافاً وأحدهما عالم بمقداره والآخرة غير عالم أنه يكون العالم غاراً له، وأيضاً ما روي أبو داود بإسناده عن ابن عمر أن رجلاً ذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يخدع في البيع فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا بايعت فقل: لا خلابة.
دليل على أن البيع الذي يككون مع الخلابة لا يجوز، وذلك هو بيع الخلابة إذ لا يجوز أن يحمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم إلا على التعريف الذي قلنا، إذ ليس بعد ذلك إلا اشتراط إن لا خلابة، ولا خلاف أن اشترااط ذلك لا يؤثره.
فإن قيل: لو بطل هذا البيع لم يبطل إلا لجهل أحدهما وعلم صاحبه، وقد علمنا أن واحداً منهما لا يبطل البيع إذ لو جمعهما العلم والجهل ككان البيع صحيحاً بالإجماع، وإذا ثبت ذلك لم يجب أن يبطل.

(64/7)


قيل له: لسنا نقول: إنه يبطل لواحد منهما بل نقول: إنه يبطل لاجتماع علم أحدهما وجهل الآخر إذ الخداع بذلك يتم وإياه تناول قوله صلى الله عليه وآله وسلم لا خلابة.
مسألة:
قال: ولا بأس بمبايعة المشرككين إذا لم يباعوا سلاحاً ولا ركاعاً ولا بأس باشتراء بعض المشركين من بعض، وهذا منصوص عليه في الأحكام.
قلنا: إنه لا بأس بمبايعة المشركين لأنه لا خلاف في ذلك، ولقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَى}، فلم يستثن بيعاً من بيع، ولأن كلك مال جاز أن يملككه على الغير بوجه من الوجوه جاز أن يمله عليه بالشراء واستثنينا السلاح والكراع، لأن في ذلك تقوية على المسلمين، وتكثيراً لعدتهم، وذلكك ممالا يجوز لأنه يكون كالمعاونة لهم على ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، ولا يجب أن يكون سبيل سائر الأشياء سبيل السلاح الوكراع في هذا الباب وإن ككان في بيع سائر الأشياء ضرب من التقوية، لأن موضوع سائر الأشياء ليس هو موضوع الإستعانة ب وموضوع السلاح والكراع موضوع الإستعانة به على الأعداء.
ألا ترى أن الله تعالى لما قال: (واعدو الهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)، كان ذلك أمراً بما يكون موضوعه موضوع الإستعانة به عليهم من الأسلحة وما جرى مجراها.
وقلنا: إنه لا بأس بشراء بعضهم من بعض لأنا قد بينا فيما تقدم أن الملك في دار الحرب يكون بالغلبة فكل من غلب من المشركون ممن يصح تملكهم فمن غلب منهم على نفسه في دار الحرب صار مملوكاً للغالب فصح أ، يشترى منه.
مسألة:
قال: ويكره مبايعة الظالمين، هذا منصوص عليه في الأحكام.

(64/8)


ووجهه أ، أحسن أحوال مافي أيديهم من الأموال أن تكون من المشبهات، لأنا وإن لم نحكم بأنها حرام على القطع، فإنما كره لكثرة أمارات التحريم فيه، فإن من المعلوم من أحوالهم أن عامة ما يتصرفون فيه من الغصوب التي لا شك في تحريمها، قال: حدثنا الناصر، قال: حدثني أخي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، عن علي بن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي رفعه، قال: (الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة).
وروى أبو داود في السنن بإسناده عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحلال بين والحرام بين وبيهما أمور متشابهات، لا يعلمهاا كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ دينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).

(64/9)


معاملة المماليك بيعاً وشراء
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع العبد ولا شراؤه إلا بإذن سيده، وهذا منصوص علي في الأحكام.
والأصل فيه ما قد ثبت أن العبد لا يملك شيئاً فإن سيده مالك له، ولما في يده، وقد نص الهادي عليه السلام على ذلك في كتاب الهبات وكتاب المكاتبة من الأحكام، وإذا ثبت ذلك ثبت أن تصرفه لا يجوز إلا بإذن سيده لأنه يكون في حكم من تصرف في ملك غيره في أنه لا يصح إلا بإذن المالك، وماذهبنا إليه من أن العبد لا يملك، به قال أبو حنيفة والمشهور من قول الشافعي، وحكي عنه في القديم أنه قد يملك، وهو قول مالك.
والأصل فيه قول الله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ..} الآية. ففيه وجهان من الدلالة:
أحدهما ـ أنه قال مملوكاً لا يقدر على شيء فمنع أن يقدر على شيء فهو على عمومه إلا حيث يخصه الدليل فوجب أن لا يقدر على شيء من التصرف، وفيه أنه لا يملك.
فإن قيل: القدرة لا تنبي على جواز التصرف في حقوقة، فإن جاز أن يستعمل ذلك اتساعاً فالإتساع لا يعرف منه المراد إلا بالدلالة.
قيل له: ليس حال اللغة فيما ذكرت على ما قدرت لأن أهل اللغة لا يرجعون في معنى القادر والقدرة إلى ما يرجع إليه المتكلمون، وإنما يرجعون فيه إلى التأتي فلا يمتنعون من القول: إن فلاناً لا يقدر على كذا إذا كان لا يتأتى منه، سواء كان ذلك وهو مستطيع له، وتعذره الآلة أو لفقد الدواعي، أو لمنع سوى ذلك على وجه من الوجوه، أو كان غير مستطيع له، فإذا ثبت ذلك صح الإستدلال بما ذكرناه، وصح تعذر التصرف منهم من جميع الوجوه، إلا ما خصه الدليل.

(65/1)


ولاوجه الثاني من الإسدلال بالآية ـ أنه فصل بالواو بين العبد وبين من رزقه رزقاً حسناً فهو ينفق منه، فاقتضى الظاهر إن العبد لا يرزق رزقاً حسناً يوجب ينفق منه، وآخر عاقلاً كان الظاهر أن الذي ذكره أولاً لا يوصف بأنه عاقل، وأن الإختلال المذكور من حاله عبارة عن اختلال العقل، وإن كان الإختلال يصح تصرفه إلى غير العقل.
ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ مِنْ شُرَكَاءٍ}، فنبه أنه ليس فيهم من يشاركنا فيما رزقناه، وهذا ينفي أن يكون لهم ملك، لأنه لو جاز أن يكون لهم ملك جاز أ، يكونوا شركاءنا في كثير من الأملاك.
فإن قيل: فإ،ه قال: (فيما رزقناكم)، والشيء إذا كان ملكاً لإنسان لم يصح أن يكون له فيه شريك حر ولا عبد، لأن اشركة تقتضي أن ذلك التصرف بكماله ليس ملكاً له.
قيل له: هذا يخرج الآية من أن تكون لها فائدة، لأن ذلك يستوي فيه الحر والعبد والله تعالى إنما قال: {هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ مِنْ شُرَكَاءٍ}، فخص نفي الشركة بيننا، وبين ما ملكت أيماننا.
فدل ذلك على أمر يختص ملك اليمين، وليس ذلك إلا ما ذهبنا إليه.
على أن الآية تدل على ما ذكرناه من وجه آخر، وهو أنه تعالى أراد أن يبين أن الملك كله له، وأنه ليس لنا ملك نستبد به دونه ألا ترى أنه تعالى قال: {وَلَهُ مَنْ فِيْ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}، إلى قوله: {فِيْمَا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ مِنْ شُرَكَاءٍ}، فلولا أن ما ملكت أيماننا لا يجوز أن يستبدوا بالملك دوننا لم يصح ضرب هذا المثل.

(65/2)


ويدل على ذلك ما أخبرنا به أبو الحسين البروجردي قال: حدثنا يوسف بن هارون القاضي، قال: حدثني علي بن شعيب، وأحمد بن يحي، قال: حدثنا سفيان، عن الزهيري، عن سالم عن أبيه يبلغ به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع).
وحدثنا محمد بن عثمان الناقاش، حدثنا الناصر، عن محمد بن منصور، عن عباد بن يعقوب، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال علي عليه السلام: [من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع]، فدل الخبر على أن مافي يد العبد يكون لمالكه ألا ترى أنه جعل المال للبائع دون في الوقت الذي أضافه إلى العبد يبين ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما جعل مال العبد في حال زوال تملك مولاه عنه لمولاه كان الأولى أن يكون ذلك لمولاه في حال تملكه إياه.
فإن قيل: فكيف يصح لكم الإستدلال به، وفيه إضافة المال إلى العبد.
قيل له: الشيء قد يضاف إلى من هو في يده كما يضاف إلى مالكه، ألا ترى أن الله تعالى أضاف البيوت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تارة، وإلى أزواجه تارة، فإذا احتمل ذلك ما ذكرناه وجب أن يحمل ذلك على انه أضافه إليه لتقريره صلى الله عليه وآله وسلم ملكاً لبائعه.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِيْنَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ}[النور:32]، والغني يكون بالملك، فدل ذلك على أنهم يملكون؟
قيل له: يجوز أن يكون المراد به الغني بالنكاح، كما قال الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِيْنَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ}[النور:33]، وهو أولى، لآنه خبر، وهو لا يقع بخلاف المخبر. وفي الفقراء من يتزوج فلا يستغني بالمال.

(65/3)


فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، ولم يستثن حراً من عبد؟
قيل له: لا نسلم أن العبد هو المحيي، لأن كسبه لمولاه، فالمحيي إذا هو السيد ألا ترى أن من استأجر أجيراً على أن يعمر أرضاً يكون المحيي هو المستأجر دون الأجير، لما كان فعله يقع للمستأجر.
فإن قيل: فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (من أعتق عبداً فماله له إلا أن يشترط المعتق)؟
قيل له: هو محمول على المكاتب، وكذلك نقول: أنه لا خلاف أنه لا يملك بالإرث فكذلك سائر جهات الملك، والعلة أنه جهة بما يملك، ولم يجز أن تكون جهة يملك بها العبد. ألا ترى أن الإرث أقوى وجوه الملك، لأنه يصير ملكاً للوارث بغير اختياره فلما لم يصح أن يملك من جهة الإرث لم يصح أن يملك من سائر جهات الملك، والعلة أنه مرقوق.
يدل على صحة ذلك أنه لو خرج من الرق ورث، فبان أن المانع منه هو الرق.
فإن قيل: فالذمي لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الذمي، وهذا لا يمنع من صحة تملكهما الأشياء؟
قيل له: كل واحد منهما من أهل الميراث، لأن المسلم يرث من كان على ملته، ويرث المرتد، والذمي يرث من كان على ملته فلم تخرجه ذمته من أن يكون الإرث جهة تملكه فلا يلزوم ذلك على ما ذكرناه.
فإن قيل: فالمكاتب لا يملك فالإرث ملكاً صحيحاً بوجه من الوجوه، وإن جرى على مافي يده بعض أحكام الملك ألا ترى أنا لا نجيز له ان يطأ جارية يشتريها، وكذلك لو اشترى زوجته لم يوجب فسخ نكاحها فثبت بما بيناه أن العبد لا ملك له فلم يجز أن يتصرف فيما في يده إلا بإذن سيده، وأما إذا أذن له سيده جاز تصرفه فيه، وهذا ممالا خلاف فيه.

(65/4)


وأخبرنا محمد بن عثمان النقاش قال: حدثنا الناصر، عن محمد بن منصور قال: حدثنا محمد بن إسماعيل قال: حدثنا وهب بن سهل الأسدي، قال: حدثنا محمد بن قيس الأسدي، بكار العنزي، قال: ارتفع رجلان إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقال أحدهما: إن غلامي يا أمير أمير المؤمين ابتاع من هذا بيعاً وإني رددت عليه فأبى أن يقبله فقال علي عليه السلام: أتبعث غلامك بالدراهم يشتري لك لحماُ بها من السوق؟ قال: نعم، قال: قد أجزت عليك شراءه.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الأب على الإبن الصغير إلا إذا كان متحرياً لنفعه، وكذلك القول في الوصي نص في كتاب الزكاة من الأحكام على أن للوصي أن يتجر في مال اليتيم طلباً لصلاحه ونفعه، ونص في كتاب الوصية على أنه ليس الأب أن يبيع أملاك ولده الصغير التي هي العقار ونحوها إلا من ضرورة، وكذلك الوصي.
نص في المنتخب على ان أب الأب إذا باع الضيعة على الإبهن الصغير فله إذا بلغ أن يفسخ البيع، ونص فيه في كتااب الشفعة على أن الأب إذا ترك شفعة ابنه الصغير لعدمه لم يكن له إذا بلغ أن يطالب بها، قال: فإن كان تركها، وهو واجد لثمنها من مال ابنه كان له إذا بلغ أن يطالب بها لأن أباه قد ظلمه وترك حقه لغير علة.
قال فيه: وهكذا القول في الوصي إذا ترك شفعة الصغير فهذه المسألة تدل من مذهبه على ماا لخصناه في أول هذه المسألة.

(65/5)


ووجهه أن الأب جعلت ولايته على الصغير ثابتة لصلاح الصغير، ألا ترى أن غيره ممن يجوز أن تتوجه عليه التهمة كالأخ والعم لا ولاية لهم في ماله، وهو أيضاً إذا بلغ وصار بحيث يستقل بمصالح نفسه زالت ولاية أبيه عنه، فإذا ثبت ذلك بما بيناه وجب أن تكون ولايته عليه ثابتة فيما يؤدي لإصلاح حاله دون فسادها إذ الولاية على ما بيناه ولاية للصلاح، وليست ولاية للفساد، والوصي في جميع ذلك قائم مقام أبيه، ونائب منابه، فلذلك قلنا: إن حكمه حكم الأب في البيع على الصغير، ومما يدل على ذلك أنه لا خلاف في أن الأب لو باع من مال ابنه الصغير بدون قيمته بما لا يتغبن الناس فيه أن البيع فاسد، فكذلك ما ذهبنا إليه، والعلة أنه بيع لم يتحر فيه مصلحة الإبن فوجب أن لا يصح من المتولي عليه.
فإن قيل: ألستم تقولون: إن الأب لو أنكح ابنته الصغيرة بدون مهر مثلها نفذ ذلك فما أنكرتم أن ينفذ بيعه عليها، وإن لم يتحر صلاحها؟
قيل له: ليس موضوع البيع موضوع الإنكاح، لأن الغرض في البيع تحصيل الثمن، وليس الغرض في النكاح تحصيل المهر بل لا يمتنع أن يكون صلاحها في أن تتزوج من كفؤ صالح بدون مر مثلها، لأن المعتبر في الإنكاح هو حال الزوج، فبان بما ذكرناه الفرق بينهما.
على أنه لا خلاف أن البيع بدون القيمة على ما حكيناه لا يجوز، فبان به أيضاً الفرق بين الأمرين.

(65/6)


بيع المميز المأذون
مسألة:
قال: ولا بأس ببيع المراهق الذي لم يبلغ إذا أذن له وليه.
وهذا منصوص عليه في الأحكام، وبه قال أبو حنيفة.
والأصل فيه قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}، وقوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وهذه تجارة عن تراض.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}، فأمر بابتلائهم فدل ذلك على ما ذهبنا إليه من وجهين:
أحدهما ـ أن التصرف في البيع والشراء ليعرف فيه حاله من االإبتلاء فوجب أن يكون جائز بظاهر قوله: {وابْتَلُوا الْيَتَامَى}.
والوجه الثاني ـ أن الإبتلاء لا يتم إلا به فصار ذلك كالمنصوص عليه.
ويدل على ذلك أنه مميز محجور عليه فوجب أن يصح بيعه إذا أذن له فيه من يتولى أمره.
دليله العبد إذا أذن له مولاه في البيع، على أنه إذا ثبت جواز البيع الموقوف بما قد بيناه وجب أن يجوز ما ذهبنا إليه، إذ لم يفرق أحد بينهما، ولأنه تصرف من مميز صح أن تلحقه الإجازة فأشبه البيع الموقوف.
بيع الرطب والبقول
مسألة:
ولا يجوز من بيع الرطب والبقول إلا ما ظهر منها وعرف، وهذا منصوص عليه في الأحكام والمنتخب، وروي نحوه عن القاسم في الأحام وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وحكي عن مالك أنه يجوز بيع مالم يظهر تابعاً لما ظهر.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر، وهذا بيع الغرر، لأنه يجوز أن يختلف حال ما يظهر اختلافاً زيداً على ما ظهر.
ويدل على ذلك أيضاً نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع ماليس عند الإنسان، وهذا مما لا يصح أن يقال: إنه عند الإنسان، وإيضاً روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع الضامين، وهو بيع ما يتضمنه الشيء خلفه.
والعلة أنه بيع عين لم توجد، ولا خلاف أيضاً أنه إذا لم يظهر منه شيء لم يجز، فكذلك إذا ظهر بعضه لهذه العلة.

(66/1)


فإن قاسوا على منافع الأجرة كان تمكينه شاهداً لقياسنا، لآنها ليست أعياناً، وإن تعلقوا بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، كان ذلك مخصوصاً بما قدمناه، وليس لهم أن يقولوا: إن الضرورة تدعوا إلى ذلك إذ لا ضرورة تدعو إليه.
النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، ويؤمن فسادها، ولا يجوز بيع شيء من ذلك سنين، قال: وقال القاسم عليه السلام: وكذلك القول في ورق التوت.
ما ذكرناه أولاً منصوص عليه في النمتخب، وما حكيناه عن القاسم منصوص عليه في مسائل النيروسي.
وري نحو قولنا عن ابن أبي ليلى.
وقال أبو حنيفة: هو جائز، وقال الشافعي: إن اشتراطنا القطع جاز، وإلا لم يجز.
وقال زيد بن علي عليهما السلام: إذا اشترطنا القطع جاز.
والأصل في ذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقرين حدثنا الطحاوي، حدثنا علي بن معبد، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا زكريا بن إسحاق، حدثنا عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: (نهى روسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه).
وحدثنا الحسين البروجردي، حدثنا عبدالله بن محمد البغوي، حدثنا علي بن الجعد، حدثنا عبدالعزيز، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها.
حدثنا أبوبكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا عبدالله بن صالح، قال: أخبرني الليث، قال: حدثني يحي، عن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تبايعوا بالثمار حتى تزهو، قلنا: يا رسول الله فما معنى يزهو؟ قال: أو تصفى أرأيتم إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه).
وروى زيد بن علي، عن أبيه عن جده، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

(66/2)


وأخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثني محمد بن الحسين بن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا روح، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها)، فكل هذه الأخبار نصوص في صحة ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: يحتمل أن يكون المراد به بيع الثمار قبل حدوثها، حتى يكون بائعاً ماليس عنده، فقد روي عن سمرة، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع السنين.
قيل له: الظاهر أنه نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن بيعها حتى يبدو صلاحها، ولا يجوز حمله على ما ذهبتم إليه لأنه يبطل بتحديد البيع إلى حين يبدو الصلاح، لأنه يرتفع على قولكم.
قيل له: الظاهر أنه نهى صلى الله عن بيعها حتى يبدو صلاح، لأنه يرتفع على قولكم.
وقيل له: ذلك حين حدوث الثمرة فالواجب إذا حمل النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها على ظاهرها، والنهي عن بيع السنين على ظاهره، من غير أن يعترض بأحدهما على الآخر.
فإن قيل: ما تنكرون أن يكون خبركم مخصوص بخبرنا؟
قيل له: التخصيص إذا لم يكن استعمالنا الخبرين على ظاهرهما، فأما إذا أمكن ذلك فلا وجه للتخصيص، على أن خبركم لو اعترض به على خبرنا لم يكن ذلك تخصيصاً بل كان نسخاً، لأن خبرنا اقتضى تحديد المنع من بيعها إلى حين يبدوا صلاحها، وخبركم متى اعترض به عليه ناقتضى ابطال هذا التحديد، وهذا هو النسخ فبطل ما اعتمدوه.
فإن قيل: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرأيتم إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه)، يدل على أنه قصد النهي عن بيع مالم يوجد.

(66/3)


قيل له: يحتمل أن يكون المراد ما ذهبنا إليه، ويكون ذلك تنبيهاً على فساد بيعها في تلك الحال لكون المقصود به التبقية، وإذا احتمل ذلك لم يجز حمله على ما ذهبوا إليه، ولا وجه لقياسهم في هذا الباب، لأنه يؤدي إلى إبطال التحديد الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ألا ترى أنهم يسوون بين حاله قبل بدو صلاحه، وبعده، وذلك يبطل التحديد به.
فأما الشافعي فيوافقنا على فساد بيعها مالم يشترط القطع، فكذلك إذا اشترط والعلة أنه بيع ثمره لم يبن صلاحها، وهذه العلة يعضدها لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأصول تشهد لنا، لأنا لم نجد في الأصول بيعاً فسد بترك اشتراط تسليم المبيع، إلا واشتراط تسليمه غير مؤثر في صحته.
فإن قيل: العلة في فساده أن العرف يقتضي تركه متى اطلق البيع، وإذا اشترط القطع زال ذلك.
قيل له: لو سلمنا لكم علتكم لم تقدح في علتنا، لأنا نقول: بهما فيما أطلق بيعه من ذلك، ونقول بعلتنا فيما اشترط فيه القطع.
وأما ما ذكرناه من إبطال سنين فمما لا خلاف فيه، لأنه بيع الغرر، وبيع ماليس عندك، وبيع مالم يوجد، ولا وجه لأن نستقصي فيه، لأنه وفاق.
وقلنا: إن ورق التوت حكمه حكم الثمرة، لأنه في معناها، وطلب الأنتفاع فيها على وجه واحد، فلا غرض في إعادة القول فيه.
بيع اللبن في الضرع
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، ولا بيع ما في بطون الأنعام، ولا ما على ظهورها من الجلد والصوف والشعلا والوبر، ولا بيع الحيتان في الآجام والأنهار كل ذلك بيع الغرر، جميعه منصوص عليه في الأحكام، غير الجلد فإنه منصوص عليه في المنتخب، وإن كان قد نبه عليه في الأحكام، وبه قال أبو حنيفة.

(66/4)


وإنما قلنا: إن بيع اللبن في الضروع لا يجوز لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النهي عن بيع المضامين، وهو اللبن مضموناً في غيره، وذكر أبو عبدالله البصري أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع اللبن في الضرع، ولآن سبيله سبيل الولد في بطن أمه، لأنه مضمون خلقة.
وقلنا: إن بيع الولد في بطن أمه لا يجوز لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع المضامين، ولما روي من نهيه عن بيع الملاقيح، وعن بيع حبل الحبلة، فأما ما على ظهور الأنعام من الجلد والصوف والشعر والوبر فقلنا: لا يجوز بيعه لأنه لا يمكن استيفاؤه وتسليمه، فأشبه العضو من أعضائها.
فأما الحيتان في الآجام والأنهار فلا يجوز بيعها لوجهين:
أحدهما ـ أنها مباحة غير مملوكة لا يجوز بيعها مالم تملك.
والثاني ـ تعذر تسليمها فإن كانت اصطيدت وملكت، ثم أرسلت في ماء يمكن أن تؤخذ منه على غير وجه الصيد كأن يرسل في ماء يسير، فإن بيعها جائز نص عليه زيد بن علي. وقوله يحي لم يتناوله، لأنه ذكر ما كان منها في الآجام والأنهار.
وما روي من نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر يتناول جميع ما ذكرناه.
بيع الناقة واستثناء مافي بطنها
مسألة:
قال: وإن باع ناقة واستثنى مافي بكنها، أو استثنى جلدها أو غير ذلك إذا كان عضواً معلوماً كان ذلك جائزاً، كل ذلك إذا كان المبيع قد ذبح قبل البيع تخريجاً، وهذا منصوص عليه في المنتخب.
وقلنا: تخريجاً لأن جواز ذلك إذا كان مذبوحاً لتنصيصه فيه على أنه لا يجوز بيع الجلد على الثور وهو قائم، فإذا لم يجز ذلك كان الأولى أن لا يجوز بيع اللحم، وهو قائم، والبائع إذا استثنى الجلد فكأنه باع ماسواه، فإذا لم يجز البيع في الأقل فالأولى أن لا يجوز في الأكثر.

(66/5)


والمراد بقولنا في هذه المسألة إن باع واستثنى مافي بطنها مقصور على ماسوى الولد من الرية والكرش ونحوهماا لتنصيصه في المنتخب على جواز بيع الناقة، وااستثناء ولدها، وهذه الجملة لا أحفظ فيها خلافاً لافي إجازة البيع في المذبوح، ولافي منعه في الحي.
أما وجه إجازة في المذبوح فهو أنه إذا ذبح لم يتعلق حكم بعض أعضائه ببعض فيجري مجرىشيئين منفصلين في أنه يجوز بيع أحدهما دون صاحبه، ويجري مجرى أشياء منفصلة في أنه يجوز بيعها مع استثناء بعضها.
وأما وجه منعه في الحي فهو أن أعضاء الحي لا يجوز أن تفرد بشيء من الأحكام لأن جملته في حكم الشيء الواحد، فلم يحز أن يستثني منه، لأن ذلك يقتضي افراده بالحكم، وذلك يتعذر.
على أن ماروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من نهيه عن بيع الغرر يتناول ذلك لأنه لا سبيل إلى تسليم المبيع دون المتثنى على وجه من الوجوه، ولا يلزم عليه الجزء الشائع في الجميع، لأن ذلك صحيح افراده بالبيع والهبة والإرث والإيجاز فكذلك التسليم.
مسألة:
فإن باعها واستثنى منها رطالاً معلومة كان البيع فاسداً، وإن باع واستثنى ربعاً وثلثاً، أو جزءاً معلوماً منه جاز البيع في الحي والمذبوح.
جميعه منصوص عليه في المنتخب، وهو أيضاً مما لا أحفظ فيه خلافاً.
وأما إذا باعها وااستثنى أرطالاً معلومة لم يدر مقدار البقي والبيع إنما تناوله دون المستثنى فلما اقتضى ذلك جهالة المبيع وجب أن يقتضي فساد البيع.
وأما ترى أن الوارث قد يرثه دون ما عداه، فكذلك يتأتى فيه الهبة والبيع والإجازة فوجب أن يصح استثناه.
ألا ترى أنه لو باع المستثنى منه منفرداً عن المستثنى لصح البيع فكذلك إذا باعها واستثنى جزأً شائعاً في جميعه.
مسألة:
قال: ولو باع ناقة حية واستثنى مافي بطنها من الولد كان البيع جائزاً، ووجب على المشتري للبائع رضعه إلى ثلاثة رضعات ترضعها الناقة فصيلها إذا نتجت.
وجميعه منصوص عليه في المنتخب.

(66/6)


أما ما ذهبنا إليه من إجازة بيع الناقة مع استثناء مافي بطنها من الولد فأكثر العلماء على خلافه أن البيع فيها يفسد.
ووجه قولنا: قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}، وعمومه يقتضي صحة البيوع أجمع إلا مامنع منه االدليل.
فإن قيل: لينا نسلم أنه بيع حتى يجب دخوله دخوله تحت العموم.
قيل له: لالتباس أن اسم البيع منطلق عليه من جهة اللغة، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يتناوله العموم ولم يجب أن يراعى تسليم من يسلم أنه بيع أو امتناع من يمتنع منه وإنما يراعى ذلك في الأسماء الشرعية دون الأسماء اللغوية والبيع هو من أسماء اللغة فوجب بما بيناه صحة ما ذكرناه.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وهذه تجارة عن تراض فوجب أن يكون صحيحاً.
فإن قيل: نهيه عن بيع الغرر يقتضي فساد هذا البيع، وتخصيص ما اعتمدوه من العموم؟
قيل له: ذلك لا يتناول ما اختلفنا فيه، لأن الغرر إذا كان إنما يكون المستثنى فأما في المستثنى منه، وهو الذي تناوله البيع فلا يجوز فيه فوجب أن يكون صحيحاً، وألا يعترض هذا الخبر. ومما يدل على ذلك ما أجمعنا من ان الولد في بطن أمه يصح أن يفرد ببعض من الأحكام كالوصية والعتق لأنه لا خلاف أنه يجوز الوصية بمافي بطن الجارية دون الأم، فلما كان ذلك كذلك وجب أن يصح استثناؤه عن الأم دليله الأرض تباع وفيها الأشجار، لأن الأشجار كما يصح افرادها بالحكم صح استثناؤها عن بيع الأرض، ولم يجب به فساد العقد، وكذلك ما اختلفنا فيه.
يدل على صحة علتنا أن مالا يصح افرده بشيء من الأحكام كالعضو لم يصح استثناءه في البيع.

(66/7)


فإن قاسوه على العضو بعلة أنه لا يجوز إفراده بالبيع لم يصح، وذلك لأن إفراده بالبيع لم يصح لما فيه من الجهالة والغرر، ولا يصح أن يكون المستثنى في هذا الباب كالمبيع المستثنى منه لأن الجهالة والغرر إنما يفسدان البيع ماحصلا فيه فأما حصولهما في المستثنى فلا يوجب فساد المستثنى منه على ما بيناه.
فإن قيل: جاز ما ذكرتم في العتق والوصية لجواز ثبوتهما مع الأخطار والغرر؟
قلناا: لا يلزمنا لأنا لا نجوز بيع الولد في بطن أمه، وإنما جوزنا استثناءه، والإستثناء يثبت فيما لا يثبت فيه البيع.
فإن قيل: أليس عندكم من باع شيئاً واستثنى منه شيئاً مجهولاً يكون بيعه فاسداً فما الفرق بين ذلك وبين بيع الناقة واستثناء ولدها.
قيل له: لسنا نعتبر بكون المستثنى معلوماً أو مجهولاً، إنما اعتبرنا في فساد البيع بالإستثناء، أن لا يكون الإستثناء يوجب جهالة في المعقود عليه.
ألا ترى أن من باع مسلوخة واستثناء أرطالاً معلومة من اللحم يكون بيعه فاسداً، وإن كان المستثنى معلوماً لما كان مؤدياً إلى الجهالة في المبيع فثبت أن اعتبارنا في صحة العقد وفساده مع الإستثناء هو أن يكون المعقود عليه يصبر به مجهولاً، أو لا يصير مجهولاً فإذا كان ذلك كذلك وثبت أن استثناء الولد لا يوجب جهالة في الأم، لم يفسد بيعها على ما بيناه، وسقط الإلزام الذي ذكروه.

(66/8)


ووجه قولنا: إن على المشترى للبائع أن يمكن الناقة أن ترضع فصيلها رضعة إلى ثلاثة رضعات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ضرر وضرار في الإسلام)، ومن المعلوم أن الفصيل إن قطع عليه اللبا ولم يرضع منه شيئاً، فالأغلب أنه يتلف فعلى المشتري أن يمكن من ذلك أيضاً، ولا خلاف أن من خاف على نفسه التلف من الجوع فله أن يتناول من طعام غيره ويضمنه، ويجب على صاحب الطعام تمكينه منه فكذلك حال صحب الفصيل، لأنه إحياء نفس، والضي يجب فيه أن يضمن البائع للمشتري قيمة ذلك اللبن، وإن لم يكن منصوصاً، لأنه لا يصح استباحة ملك الغير بلا عوض عند خشية تلف نفس ابن آدم، فأولى أن لا يجيز ذلك عند خشية تلف الفصيل.
مسألة:
قال: ولا بأس ببيع الصوف على الجلد، وهذا منصوص عليه في الأحكام.
ويجب أن يكون المراد بذلك إذا كان الحيوان غير حي لتنصيصه في الأحكام أنه لا يجوز بيع ما على ظهور الأنعام الصوف والشعر والربر.
ووجه ما قناه فيما ليس بحي أنه إذا لم يكن حياً لم يتعلق حكم بعضه ببعض فيجري مجرى الشيئين المنفصلين في أنه يجوز بيع أحدهما دون الآخر، وإن كان بينهما اتصال.
ألا ترى أن جواز بيع أذرع من الثوب كجواز بيع أحد الثوبين دون الآخر، وليس كذلك إذا كان على الحي لأنه لا يمكن استيفاؤه كاملاً لما يلحق البهيمة من الضرر في ذلك، فإذا لم يكون أعني الجلد والصوف في حكم المنفصلين.
مسألة:
قال: ولا بأس أن يبيع الأرض ويستثني زرعها، والنخل ويستثني ثمرها، والشاة ويستثني لبنها، ولا باس أن يبيع الجارية ويعتق مافي بطنها.
جميع ذلك منصوص عليه في المنتخب.
فأما قول يحي: لا باس ببيع الأرض مع استثناء زرعها فيجب أن يكون محمولاً على أحد وجهين:
أحدهما ـ أن يقال فيه: إنه عبر بالزرع عن الغرس على سبيل التجوز.

(66/9)


والثاني ـ أن يكون فيمن باع أرضاً مع مافيها من الزرع، ثم استثنى شيئاً من جملة الزرع، لأن الأرض إذا أطلق بيعه لم يدخل الزرع، ودخلت الأشجار ذكر ذلك أبو العباس الحسني في االنصوص، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً فيه خلافاً فلا معنى لقول من قال: يجوز بيع الأرض واستثناء الزرع إلا على الوجهين الذين ذكرناهما، لأن الإستثناء إنماء يصح فيما لولاه لدخل في جملة المستثنى منه، وهذا مما لا خلاف فيه، وكذلك لا خلاف في جواز بيع النخيل واستثناء ثمرها إذا وقع العقد على وجه يقتضي اشتماله على الثمر.
فأما بيع الجارية واعتاق مافي بطنها من الولد فالكلام فيه هو الكلام في الذي تقدم في بيع الناقة واستثناء مافي بطنها من الولد فلا غرض في اعادته.
وبيع الشاة واستثناء لبنها مبني على هاتين المسألتين أعني بيع الناقة واستثناء مافي بطنها من الولد وبيع الدارية واعتاق مافي بطنها والكلام فيه نحو الكلام في المسألتين.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الكلب، قاال: وقال القاسم: إلا أن يكون كلباً ينتفع به في زرع أو ضرع أو صيد، قال القاسم عليه السلام لا بأس ببيع الهر.
نص يحي في الأحكام على تحريم ثمن الكلب، ونص القاسم في النيروسي على أن ثمن الكلب يحل إذا كان كلب صيد أو ماشية أو زرع، ورأينا أن نبني قول يحي على قول القاسم عليهما السلام، ثم تأملناه فضل التأمل فلم نجد في كلام يحي ما يقتضي ذلك فالأولى أن تكون المألة خلافاً بينهما.
فوجه ما يذهب إليه يجي عليه السلام من عدم جواز بيعه.
ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا سفينان، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي مسعود (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي، وحلوان الكاهن).

(66/10)


وأخبنا ابو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال حدثنا أبوغسان، حدثنا زهير بن معاوية، حدثنا عبدالكريم الجزري، عن قيس بن حبيب، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ثمن الكلب حرام).
وأخبرنا أبوبكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا عمرو بن خالد، قال: حدثنا ابن لهيعة عن عبيدالله بن أبي جعفر أن صفوان بن سليم أخبره، عن نافع، ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ثمن الكلب وإن كان ضارياً.
فإن قيل: هذا كان في وقت أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الكلاب، ثم نسخ ذلك بأن أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اقتناء كلب الماشية والزرع والصيد نسخ مارويتموه.
قيل له: الإذن إنما ورد في الإقتناء دون البيع، ولم يرد في شيء من الأخبار الإذن في البيع فكيف يدعى نسخ مارويناه، على أن ابن عمر روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد، أو كلب ماشية، ثم روينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم النهي، عن ثمن الكلب وإن كان ضارياً، فدل ذلك على أن النهي عن ثمن الكلب قائماً، وإن كان الكلب ضارياً مع إباحة إقتنائه، ودل ذلك على سقوط ما ادعوه من النسخ.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع العذرة بيع العذر ولا الميتة ولا الخمر، وهذا مما لا خلاف فيه.
ويدل على ذلك قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}، وقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ}، إلى قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ}، والمنع والتحريم يتعلقان بالتصرف فيها، وهما عامان في جميع التصرف والبيع من جملة التصرف فوجب تحريمه والمنع منه.
وروى زيد بن على، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع العذرة والخمر).
مسألة:
قال القاسم عليه السلام: ولا يستحب بيع العصير والعنب ممن يتخذهما خمراً، فإن باعهما منه جاز البيع.

(66/11)


ووجه الكراهة انه عون له على الإثم والفعل الحرام، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
ووجه جواز البيع أنهما مباحان يجوز الإنتفاع بهما فأشبه بيعهما ممن لا يتخذهما خمراً، وقد قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}، وهذه تجارة عن تراض.
فإن قيل: فهلا أبطلتموه لأنه عون على الإثم والعدوان؟
قيل له: ليس ذلك بعون على التحقيق، لأن المعين لا يكون معيناً إلا إذا قصد الإعانة ولهذا لا نقول: إن الله يعين على المعاصي وإن أقدر عليها، ومعنى قولنا: إنه عون على الأثم على التقريب والتشبيه بالعون من حيث كان تمكيناً منه لولا ذلك كان محرماً ولم يكن مكروهاً.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع ما عقد عليه الإجارة دون انقضاء مدتها، فإن كان البائع مضطراً نقضت الإجارة وجاز البيع.
معنى قولنا: لا يجوز بيع ما عقدت عليه الإجارة أن بيعه لايتم إلا بتسليم المبيع، لأن تسليمه لا يصح لحق المستأجر.
يدل على ذلك أن المبيع لو تلف قبل التسليم تلف من مال البائع، فدل ذلك على أن ابيع لا يتم، وليس المعنى انه لا يصح لأنه إنما قال في المنتخب أن البائع إن كان موسراً كان الكراء على حاله، ولم يقل: إن البيع يبطل.
ووجه قولنا: إنه إن كان البائع مضطراً انتقضت الإجارة، وجاز البيع، ومعناه تم ونفذ وصح التسليم، لأن من مذهبنا أن الإجارة تنتقص للعذر على ما نبينه في كتاب الإجارة فإذا كان البيع للعذر انتقضت الإجارة فصح التسليم، لأن الذي منع من التسليم إنما كان حق المستأجر، فإذا انتقضت الإجارة وبطل حق المستأجر لم يكن هناك مانع من التسليم فصح التسليم، وتم البيع.

(66/12)


فأما إذا باعها لاعن ضرورة فالأقرب على مذهبنا ما روي عن أبي يوسف أنه يكون عيباً في المبيع، فإن رضي به المشتري صبر حتى تمضي مدة الإجارة، ويسلم وإن لم يرض به انفسخ البيع، وذلك إن تعذر التسليم فيه في الحال بيع العبد الآبق، لأن ذلك مما يتعذر تسليمه من غير توقيت فيجب أن يكون للمشتري الخيار في فسخه، وإن كان علمه حين اشترى ورضي به، والمستأجر يصح تسليمه بعد انقضاء مدة معلومة فتعذر التسليم إنما هو مدة معلومةفهو كالعيب، وفي الآبق لا حد لتعذر التسليم فكأنه ممنوع من تمام البيع، وحكي عن أبي حنيفة أنه ليس للمستأجر نقض البيع، ولكنه إن أجاز البيع كان في ذلك أبطال ما بقي من الإجارة.
قال أبوبكر الجصاص لا وجه لما حكي عن أبي حنيفة أولاً، وذلك أن حق المستأجر يتعلق باستيفاء المنافع، وهو يمكنه استيفاؤها مع بقاء البيع.
وقال أبوبكر: والصحيح ما رواه محمد، عن أبي حنيفة، وهذا غير بعيد، لأنه إذا أجاز البيع فقد أجاز إتمامه وتنفيذه وفي ذلك تسليم المبيع، وإذا رضي بتسليمه فقد رضي بإبطال حق المتفلق به من استيفائه منافعه. وشبهه بمن باع عبداً، فأبق قبل التسليم في أن المشتري إن شاء صبر حتى تنقضي المدة، وإن شاء فسخ الشراء، والأصح عندي ما حكيناه للفرق الذي بيناه.
بيع الصبرة
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً باع عدلاً على أن فيه مائة ثوب أو أقل أو أكثر فوجده المشتري على ما اشتراه كان ذلك جائزاً.
فإن وجده زائداً جاز أيضاً البيع ورد على البائع ما زاد من الثياب وسطاً.
وإن وجده ناقصاً كان البيع منتقضاً.
أما إذا وجده على ما اشتراه فلا خلاف في جواز بيعه.
وأما إذا وجده زايداً فعند أصحاب أبي حنيفة أن البيع يفسد، وحكي عن ابن سريج أنه إن زاد كان الخيار للبائع في تسليم جميعه بالثمن، وفسخ البيع، وإن نقص كان الخيار للمشتري في أن يرضى به بجميع الثمن، أو أن يفصخ البيع.

(66/13)


ووجه ما قلناه من صحة البيع في الزيادة أن الذين أفسدوه من أصحاب أبي حنيفة إنما أفسدوه للتفاوت االواقع فيه بدلالة أنه لا خلاف بيننا وبينهم في أن من باع صبرة على أن فيها مائة قفيز بر فوجدها تزيد قفيزاً واحداً أن البيع يصح في المائة، ويرد القفيز الزائد، وإذا كان ذلك كذلك كان يكون الوسط مزيلاً للتفاوت فوجب أن يصح البيع.
ألا ترى أن كل ما قصد فيه رفع التفاوت يقصد فيه إلى الوسط كمهر المثل، وزكاة الماشية أنه يؤخذ فيها الوسط، وما أشبه ذلك.
وإن شئت ذلك قياساً، فقلت: إن البيع تناوله، وصح رفع الزئد مع إزالة التفاوت فأشبه بيع القفزان.
وذكر أبو العباس وجهاً آخر لهذه المسألة، وهو أنه قال: متى وجب حمل بيعات المسلمين وعقودهم على الصحة ما أمكن وجب حمل هذا العقد على أنه باع من الجملة مائة جزء [من مائة جزء]، وجزء شائع، لأنه لو باع على هذا الوجه وصرح به لصح به لصح البيع بالإجماع فيجب حمل العقد على هذا الوجه.
ويجب أن يكون رد ما يرده على سبيل القسمة.
وليس لأصحاب أبي حنيفة أن ينكروا ذلك من حيث لم يتلفظ المتبايعان به لا خلاف بيننا وبينهم أن من باع سيفاً محلياً نفضه بنقرة زائدة على ما في السيف أن البيع يصح ويحمل على أنه باع نقرة بنقرة مثلاً بمثل يداً بيد، وإن الزائد من النقرة باع الحديد به، وإن لم يكن البائعان تلفظا به من حيث صح صرف العقد إلى ذلك فكذلك ما اختلفنا في، ويؤكد ذلك بالظواهر لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وقوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}.

(66/14)


فأما ما حكي عن ابن سريج أن البائع مخير بين تسليم الجميع بالثمن، وبين فسخ البيع فلا معنى له، لأن العقد لم يتناول الجميع فكيف يحكم بالتسليم بحق العقد، وليس الزائد مما يصح أن يقال: إنه يدخل في العقد على سبيل التبع كالزوائد التي تحصل من المبيع، أو ماله من الحقوق.
فأما إذا نقص فيجب أن يفسد البيع، لأنه بيع ما ليس عنده الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه وصار ما تناوله العقد مفقوداً فأشب أن يبيع ثوباً ليس بموجود العين فوجب فساده، ولا معنى لما حكي عن ابن سريج من تثبيت الخيار للشتري لأن ما انطوى عليه العقد ليس بحاصل. والتخثيير يصح بعد حصول ما ينطوي عليه العقد.
مسألة:
قال: ولا بأس ببيع الشيء عدداً كل قدر منه بثمن معلوم، وكذلك إذا اشترى ذلك في ظرف، وقد عرف وزنه وطرح قدره كان ذلك جائزاً، وكان أبو حنيفة يقول فيمن اشترى صبرة من طعام على أن كل قفيز بدرهم: إن البيع يصح في قفيز واحد منها.
وقال أبو يوسف ومحمد، إذ العدد في هذا الباب كالكيل في المكيل.
ووجه صحة ذلك أن المبيع مما يجب صحة بيعه، وليس فيه إلا كون جملة الثمن غير معلومة، وهي تصير معلومة بالعدد في المعدود والكيل في المكيل فيجب أن يكون البيع صحيحاً.
دليله بيع التولية وبيع المرابحة. ألا ترى أن من قال: بعتك هذه السلعة برأس المال، أو بربح عشرة يصح بيعه، وإن كان حين وقوع البيع جملة الثمن غير معلومة لأنها تصير في الحال الثانية معلومة فكذلك ما اختلفنا فيه.
وأما بيع الموزون في الظرف بوزن معلوم فيجب أن يصح إذا كان وزن الظرف معلوماً وطرح مقداره، لأنه البيع يكون وزنه معلوماً في أن وزن المبيع يكون معلوماً، لأنه لا فصل بين أن يكون شيء مائة وزن، وبين أن يوزن من غيره مائة وعشرة إذا كان ذلك الغير قد علم وزنه عشرة.
بيع العرصة مع الجدار والسقوف مذارعة
مسألة:

(66/15)


قال: ولا بأس ببيع العرصة مع الجدار الميحيط بها مذارعة. فأما السقوف فلا يجوز بيعها مذارعة.
نص في المنتخب على هذا فقال: إذا اشترى رجل عرصة لدار مع الجدار المحيط به كل ذراع بشيء معروف صح الشراء ووجهه ماا قدمناه في شراء الشيء عدداً كل قدر منه بثمن معلوم، ولأن هذا أيضاً يصح شراؤه، وذالك ليس فيه إلا جهالة القدر، وهي تصير معلومة بالذرع فوجب أن يصح.
قال أبو العباس الحني: فإن قال: بعتك على أنها كذا وكذا ذراعاً، كل ذراع بكذا، صح فإن وجدها زائداً كان عليه قسط الزائد من الثمن، وإن نقص بطل، وكأنه رحمه الله شبهه بما نص عليه في المنتخب في شراء الثيابت في العدل كل ثوب بكذا في باب الصحة والبطلان، وليس ذلك ببعيد.
وفصل بينه وبين شراء الثوب في أنه ألزمه ثمن ما زاد، ولم يودب تركه على البائع كما يوجب في الثياب، لأنه علق البيع على الذرعان، وفي الثياب علق البيع على مائة ثوب في العدل، لأنه لو أمر برد الذراع الواحد ربما لم ينفع، فليس كذلك الثوب الواحد فإنه ينتفع به، والله أعلم.
قال أبو العباس الحسني رضي الله عنه: فإن باعه الدار على أنها مائة ذراع فوجدها زائدة وجب البيع، ولم يلزم المشتري شيء للزيادة، قال: كأنه اشترى عبداً على أنه أعور فوجده سليماً، لا شيء على المشتري بسلامة العين الأخرى.
ونص في المنتخب على فساد بيع اسقوف مذراعة، وعلل ذلك بالتفاوت بين الخشبات في الجودة والرداءة، القلة والكثرة والحسن والقبح، وليس كذلك بيع العرصة والجدار فليس فيهما من التقاوت ماهو في السقوف.
قول الرجل لصاحبه بع مني هذا بمثل ما تبيع للناس
مسألة:

(66/16)


قال: ولو أن رجلاً اشترى من رجل متاعاً، فقال أخذته منك بمثل ما تبيع للناس كان البيع صحيحاً إن كان صاحب المتاع باع صدراً منه بثمن معلوم على سعر واحد، ولم يكن السعر تغير، فإن كان البائع لم يبف منه شيئاً كان البيع فاسداً لأنه غرر، ولو كان باعه بأسعار مختلفة كان أيضاً فاسداً تخريجاً نص في المنتخب على فساد هذا البيع إذا لم يكن باع منه شيئاً.
وعلل فساده بأن قال: إذا لم يكن باع منه شيئاً يكون الثمن مجهولاً، ونص على صحته إذا علم الثمن بما تقدم من البيع.
وقلنا: تخريجاً إن كان باعه بأسعار مختلفة: يفسد البيع لأن الثمن يعود مجهولاً.
ووجه صحة البيع أن لفظة المستقبل استعملت فيمن كان في الفعل إذا كانت الأفعال كثيرة، وإن كان مضى منها فعل فيقال فلان يصلي، وفلان يزرع، وفلان يخيط، فيكون ذلك مصروفاً إلى الماضي والمستقبل، وإن كان قد مضى كثير منه فيحمل قوله بما يبيع الناس على هذا الوجه، وكان مصروفاً إلى ما مضى لأن عقود المسلمين محمولة على الصحة ما أمكن، وليس يمكن حمل هذا العقد على الصحة إلا على هذا الوجه الذي قلناه، ولا يجوز أن يكون ذلك مصروفاً إلى ما يبيع على الإستقبال، لأن الثمن يكون مجهولاً، ولأنه يؤدي إلى الغرر.

(66/17)


بيع السهام الموروثة غير المسماة
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً ورث سهاماً من ضيعة أو حوانيت فباعها من غير قسمة ـ تسمية نخ ـ السههام كان البيع جائزاً إذا كانت السهام معلومة، فإن لم تكن معلومة فسد البيع، وذلك أن ذكر السهام ثجب ليكون نصيبه الذي يتناوله البيع معلوماً، فإذا كان ذلك معلوماً صح أن يقول: بعت نصيبي الذي ورثته من فلان، لأنه إذا كان ورث الثلث أو النصف أو ما دونهما أو فوقهما، وكان ذلك معلوماً للبائع والشتري فلا فرق بين أن يذكر في البيع النصيب بالسهام، وبين أن يقول: نسيبي الذي ورثته فلما لم يكن بين العبارتين فرق صح البيع بإحدى العبارتين ويجب أن يصح بالأخرى إذا كانت السهام معلومة.
أما إذا لم تكن السهام معلومة لواحد منهما فوجب أن يفسد لأن البيع يكون مجهولاً لأحدهما أولهما، وذلك مفسد للبيع.
بيع المعاطاة
مسألة:
ولو أن رجلاً أخذ من رجل طعاماً أو غيره بكيل أو وزن أو عدد لم يكن ذلك بيعاً.
فإن أخذه بدراهم معلومة كان ذلك بيعاً، ولا فرق بين أن يأخذ ذلك دفعه أو دفعتين في المسألتين جميعاً.
كان القياس أن لا يكون بيعاً لأنه لم يحصل فيه إيجاب وقبول والعقود من البيوع وغيرها لا تصح إلا بالقبول والإيجاب بألفاظ موضوعة لذلك. إلا أن أصحابنا أجازوا ذلك في انشاء المحقرات كالمأكول ونحوه لما جرت العادة بين المسلمين، وظهر تعاملهم به على السلف والخلف، وهو المحكي عن أصحاب أبي حنيفة، وذلك مما أجمع عليه المسلمون.
على أن الهدايا لا تحتاج إلى لفظ القبول والإيجاب، وكذلك أجمعوا على التسمح في دخول الحمام وإن لم يكن هناك موافقة على مقدار الأجرة لما ظهر من تعامل المسلمين به فكذلك ما ذكرناه للعلة التي بناها.
المخالفة في المأمور به
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً قال للبقال: لت لي هذا السويق بأوقية دهن فلته بأوقيتين لم يجب عليه إلا ثمن أوقية، وكان في الثانية متبرعاً.

(67/1)


وإن كان قال: لته، ولم يسم الأواقي وجب عليه قيمة ما يلته به إلا أن يتجاوز في ذلك حتى يفسد السويق، فإنه يضمن السويق لصاحبه.
قلنا: إنه في الثانية متبرع لأنه صب عليه من الدهن مالم يأمره به صاحبه فيجري مجرى أن يصب عليه ابتداء في أنه لا يستحق به شيئاً، لأنه متبرع وحكمه في الثانية حكم الإبتداء، لأن صاحب السويق أمره بالأوقية الأولى فقط.
وقلنا: إنه إذا قال: لته، ولم يسم الأواقي فعليه قيمة جميع ما يصب عليه من الدهن لأنه أذن له بلفظ عام فهو يتناول جميع ما يصبه عليه مالم يفرط حتى يفسده، فلذلك أوجبنا قيمة الجميع، لأنه إذا أفسد السويق بكثرة الدهن ضمنه لصاحبه، لأنه أفسد ملك غيره بغير إذنه فيجب أن يضمنه.
الإقالة مع الحط من الثمن
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اشترى من رجل سلعة ثم كرهها واستقال البائع فأبى أن يقيله إلا أن يحط من الثمن شيئاً لم يجز ذلك لأن الإقالة لا تكون إلا بالثمن كله.
فإن ترك المستقيل شيئاً من الثمن من غير أن يشترطه المقيل جاز ذلك.
نص على ذلك في الأحكام والمنتخب جميعاً.
ووجهه أن الإقالة عنده بيع مستأنف، وهي جارية مجرى التولية في أنها عقد بجميع الثمن فإذا قال: أقلتك هذه السلعة على أن تحطني كذا وكذا كان ذلك فاسداً، لأنه يجري مجرى أن تقول بعتك هذه االسلعة بعشرة على أن تحطني درهمين فيفسد االبيع لجهالة الثمن، لأنه لا يجوز أن يكون الثمن عشرة لأن المشتري لم يرض، ولا أن يكون ثمانية لأن العقد لم ينعقد عليها.
وكذلك إذا قال أقلتك والثمن عشرة كأنه قال: اشتريت منك بعشرة على أن تحطني درهمين، فوجب فساد الإقالة لأن ما تقع الإقالة به، وهو الثمن يصير في حكم المجهول.
وقلنا: إن المستقيل إذا ترك شيئاً تبرعاً صح ذلك لأن ذلك لم يعترض العقد فوجب أن تصح الإقالة.
شراء البائع ممن باعه نسأ
مسألة:

(67/2)


قال: وإذا باع شيئاً نظرة لم يجز أن يبتاعه من المشتري بأقل من ثمنه إلا أن تكون السلعة قد نقصت قيمتها فإنه لا بأس به نص عليه في الأحكام والمنتخب جميعاً.
والأصل فيه ما روي أن امرأة سألت عائشة فقالت: إني بعت من زيد بن أرقم خادماً بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته بستمائة درهم. فقاالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أبلقي زيد بن أارقم أن الله قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يتب، فدل هذا الخبر من وجهين على أنها قالت ماقالته عن نص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أحدهما ـ أن الوعيد لا يلزم الصحابي إذا خالف الصحابي فيما طريقه الإجتهاد، ولم يكن طريقه مخالقة نخ، للنص فلما ألزمته الوعيد دل ذلك على أن زيداً خالف النص.
والثاني ـ أن مقادير أجزاء الثوب والعقاب لا يمكن العلم بها إلا من طريق النص.
وقولها: إن الله عز وجل قد أبطل جهاده ـ يدل على أن أجزاء العقاب على الفعل كانت أكثر من أجزاء ثوبه، وهذا لا بد من أن يكون طريقه النص.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الوعيد منصرفاً إلى البيع إلى العطاء.
قيل له: ظاهر كلامها أن الوعيد منصرف إلى الأمرين لأنها قالت: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت على أن البيع إلى العطاء مما اختلف فيه الصحابة، وظاهر كلام عائشة يدل على أنها إجازته لأنه لو لم يجز لكان البيع الثاني فسخاً له.
فإن قيل: فما السبب الذي من أجله أنكرت البيع الأول؟
قيل له: يحتمل أن تكون علمت أن البيع الأول أوقعاه ليتوصلا به إلى البيع الثاني المحظور.
ومن أصحابنا من قال: أنكرت البيع الأول لأنه انطوى على الزيادة، وهذا عند يحي بن الحسين جنس من الربا على ما مضى القول فيه.
فإن قيل: إنكم أبطلتم فعل زيد لقول عائشة وادعيتم أنها قالت ما قالت على النص فما تنكرون على من قال لكم: نحن نبطل قول عائشة بفعل زيد، وندعي أنه فعل ما فعل عن النص؟

(67/3)


قيل له: ليس في فعل زيد ما يدل على النص لأن الفعل قد يقع باجتهاد المجتهد، وقول عائشة: <إن الله قد أبطل جهاده>، لا يجوز أن يكون إلا عن النص، لأن ذلك لا طلايق إلى معرفته إلا من جهة النص.
فإن قيل: القياس سشهد لنا، لأن له أن يبيعه من بائعه بأكثر من ثمنه، وبمثل ثمنه، ويدوز له أن يبيعه من غيره بأقل من ثمنه فوجب أن يجوز بيعه منه بأقل من ثمنه؟
قيل له: لا يمتنح أن القياس ما ذهبتم إليه لكن النص يدل على خلافه على ما بيناه فوجب أن يسقط القياس.
على أنه لاخلاف أن القرض الذي يجر المنفعة لا يحل بل يحرم فكذلك ما اختلفنا في والعلة أنه يثمر الربا.
ويدل على صحة هذا التعليل أن التي سألت عائشة قالت: أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فقالت: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف)، فأجرته مجرى الربا.
وقال أبو حنيفة وأصحابه مثل قولنا، وخالف الشافعي فقال بجوازه.
وقلنا: إلا أن تكون نقصت قيمتها، فإنه لا بأس بذلك ووجهه زوال التهمة، ولأن الخبر ورد في فعل فما يمكن ادعاء العموم فيه، ويجوز أن تكون أنكرت لكون المبيع على ما كان عليه في باب التقويم و إذا احتمل ذلك، رجعنا إلى القياس والظواهر المجيزة للبيع، لأنا كنا عدلنا عن ذلك للنص ولا نعلم ورود النص مع نقصان القيمة.
ذكر اشتمال البيع على شيء لا يصح بيعه
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً ااشترى عبدين صفقة فوجد أحدهما حراً، أو مكاتباً و مدبراً كن البيع فاسداً، فإن تميزت الأثمان صح البيع فيمن جاز بيعه دون من لم يجز.

(67/4)


وكذلك القول فيمن اشترى شاتين مذبوحتين فوجد أحداهما ذبيحة من لا يجوز أكل ذبيحته أو ميتة. في المسألتين قال أبو حنيفة كقولنا، وللشافعي قولان أحدهما ـ مثل قولنا، والثاني ـ أن البيع يصح فيما يجوز بيعه، وللمشتري الخيار بين أخذه بجميع الثمن، وبين رده، وأجرى ذلك مجرى العيب، وحكي قول ثالث ـ أنه يأخذه بقسطه من الثمن، وذلك لا يصح عندنا في هذه المسألة، وإنما يصح إذا باع عبدين أحدهما له والآخر لغيره بغير اذن صاحبه.
ووجه قولنا في هذه المسألة أن البيع وقع فاسداً لانطوائه على مالا يصح بيعه من الحر والميتة فأشبه البيع المنطوي على خيار مجهول المدة أو أجل بثمن مجهول في أنه لما انطوى على مالا يصح وجب فساده، فكذلك ما اختلفنا فيه، ولا يلازم على المسألة أن يبيع ملكه وملك غيره، لأن هذا البيع لم ينطوي على فساد لأنه عقد موقوف، ومتى أجازه المالك صح واستقر، ولا يلزم عليه أن يتزوج امرأتين في عقد واحد فوجدت أحدهما ذات رحم محرم، لأن انطواء عقد النكاح على الفساد لا يفسد ما صح منه ألا ترى أن النكاح على الخمر والخنزير يصح وإن فسد المهر وكذلك انطواؤه على الشروط الفاسدة لا يفسد كما يفسد البيع انطواؤه على الشروط الفاسدة.
وأيضاً يجب فساده لوجه آخر، وهو جهالة الثمن لأن تقسيط الثمن على قيمته لا يصح إذا كان ضامه في العقد مما لا يصح بيعه فلا يصح تقويمه كما يصح ذلك في العبدين إذا كان أحدهما ملكا لغيره.
فإن قيل: فهبكم قلتم ذلك في الحر والميتة فلم قلتم في المدبر والمكاتب، وقد قلتم إن من تزوج على مدبر أو مكاتب أو أم ولد قوم وجعل المهر قيمته؟

(67/5)


قيل له: هذا التقويم ليس بصحيح بل هو على التقدير لأن مالا يصح بيعه لا يصح تقويمه لكنا لما وجدناه أقرب من مهر المثل عدلنا إليه، والنكاح يحتمل من الحهالة مالا يحتمل البيع، فلذلك فلنا ذلك في النكاح، ومنعناه في البيع، وهذا يبطل ماقاله الشافعي من تقسيط الثمن إذاا كان ما ضامه ممالا يصح بيعه. فأما إذا كان مما يصح بيعه بإجازة مالكه فبه نقول.
وقول الشافعي: إنه يخير بين أخذه بجميع الثمن لا يصح للوجهين الذين بيناهما، لأن التخيير يكون في العقد الصحيح أو الموقوف، فأما العقد الفاسد فلا يصح التخيير فيه، لأنه لا يصح التخيير في العقود المنطوية على الشروط المجهولة والغرر، وقد بينا فساد العقد بالوجهين اللذين قدمناهما فلا معنى للتخيير.
فإن قيل: ألستم تجوزن البيع برأس المال، وإن لم يكن الثمن معلوماً في الحال للمشتري، وكذلك تجوزون بيع الشيء عدداً كل قدر من بكذا، وإن تكن جملة الثمن معلومة فما أنكرتم أن تكون جهالة الثمن لا يوجب فساد هذا العقد.
قيل له: ما أجزنا أجزناه لأن الثمن يصير في الثاني معلوماً، ونظيره ما نجيزه إذا باع ملكه مع ملك غيره، لأن ثمن ملكه يصير معلوماً في الحالة الثانية وإذا باع ما يجوز بيعه ومالا يجوز بيعه فلا سبيل إلى أن يصير الثمن معلوماً، لأنه يصير معلوماً بتقسيط الثمن على قيمته، وقيمة ما ضامه فإذا كاان ما ضامه لا قيمة له لم يصح التقسيط، ولم يصر الثمن معلوماً على وجه من الوجوه.

(67/6)


وقلنا: إن الأثمان إذا تميزت صح البيع فيما يجوز بيعه، وذلك أنه يكون بمنزلة الصفقتين المتميزتين فلا يكون منططوياً على الفساد أعنى صفقة ما يملكه، لأنه إنما قال بعتك هذين العبدين هذا بألف وهذا بخمسمائة، على أنه إذا احتمل أن يحمل على وجه يصح بأن يجعل في حكم الصفقتين، وأمكن أن يجعل في حكم صفقة فيفسده فالأولى أن يحمل على وجه الصحة كسائر ما مضى في نظائره، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: و فاسد بمنزلة لو لم تميز االأثمان.
ولا يكون الثمن أيضاً مجهولاً لأن ثمن ما جاز بيعه معلوم فلم يكن فيه واحد من الوجهين الذين أبطلنا ما أبطلناه بهما فوجب صحته.
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون الصفقة واحدة وإن تميزت الأثمان؟
قيل له: معنى قولنا: هما صفقتان أن كل واحد منهما منفرد بحكمه فأما ما يعرض في أحدهما من الفساد أو الصحة لا يشاركه فيه صاحبه، وهذا حاصل فيما قلناه؟
فإن قيل: ألستم تبطلون عقد من تزوج خمساً في عقدة، وإن تميزت المهور فما أنكرتم من فساد ما أجزتم في البيع؟
قيل له: لأن الخمس مشتركات في الفساد لأن نكاح الخمس لا يصح، وليست واحدة منهن إلا وهي كصاحبتها في أنها من جملة الخمس فوجب فساد نكاحهن، وليس كذلك البيع لأن أحد المبيعين لم يشارك المبيع الثاني فيما أوجب بطلان بيعه بل نظيره أن يتزوج امرأتين في عقد فيجد أحداهماا ذات رحم محرم.
ذكر بيع المشترك من الشريك وغيره
مسألة:
قال: وإذا اشترك حماعة في حمل أَدَمٍ، أو بيت طعام لم يجز لبعضهم أن يبيع حصته من غير شركائه من قبل التقليب ولارؤية، ويكره بيعها من شركائه، فإن كاان قد رآها لم يكن بأس ببيعها من غير شركائه قبل القسمة.
فأما بعد القسمة فالشريك وغيره فيها سواء.

(67/7)


هذه المسألة مبنية على أن الشركاء لا يعلم كل واحد منهم نصيبه من الأدم أو الطعاام، وذلك بأن يكون لك واحد منهم دفع دراهم معلومة إلى رجل يشتري له بها أدماً أو طعاماً على سبيل التوكيل، ولم يعلم كل واحد مقدار ما دفع صاحبه، وأذنواا للوكيل في الخلط فاشترى لهم بيت طعام، أو حمل أدم، أو يكونوا قد نسوا مالكل واحد منهم فعلى هذا لا يجوز بيعه نصيبه من الأجنبي، ولا من شركائه، لأنه لا يعلم ما الذي يبيعه، ولا يعلم المشتري ما الذي يشتريه.
وقوله: ويكره بيعه من شركائه هو على المنع لا على أن غيرهم أولى منهم، وعلى هذا لا فضل بين الأجنبي وبين الشركاء، وإن ذكر في الأجنبي بطلان البيع، وفي الشراكاء كراهة البيع لأنهما من طريق المعنى واحد.
قإن عرفوا حصصهم وهو الذي أراده بالتقليب والرؤية فله أن يبيع من شركائه، وهذا مالا اشكال فيه.
وقوله: يكره بيعها من غير شركائه، فالمراد به الكراهة التي هي ضد الإستحباب.
ووجهه أنه يوجب الشفعة في العروض، وما جرى مجراها فيكره ذلك لحق الشفعة.
ولما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يصلح للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه)، يعني لحق الشفعة.
وأما الحال بعد القسمة فلا إشكال فيه.
بيع الحاضر للباد
مسألة:
قال: ولا بأس أن يبيع الحاضر للباد.
ووجهه أن توكيل البدوي للحضري يجوز في النكاح والطلاق والخصومة، وفي كل ما صح توكيله فيه من ليس بحضري، ويجوز للحضري قبول وكالته فيها والتصرف عنه فوجب أن يكون البيع كذلك سواء كان المبيع طعاماً أو غيره.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( لا يبيعن حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)؟

(67/8)


قيل له: المراد بذلك حيث فيه ضرر على المسلمين، فقد روي أن أهل البادية كانوا يردون المدينة فيبيعون الطعام على ضرب من التساهل كان فيه رفق للمسلمين والضعفاء، وكان الحضري إذا تولى ذلك يتشدد فيه فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، ومتى كان الحال هذه فنحن نكرهه ونمنع منه للضرر فيه على المسلمين فقد قال في الأحكام: إن كان كذلك نظر فيه الإمام، وهذا كالإحتكار الذي منع منه مع الضرر، ولا يمنع إذا لم يكن ضرر، ونخص الحال التي لا ضرر فيها بالقياس الذي قدمناه.

(67/9)


استقبال الجلوبة خارج المصر
مسألة:
قال: ويكره استقبال الجلوبة خارج المصر.
ووجهه ماروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن استقبال الجلوبة خارج المصر رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تلقي الركبان).
وعن عكرمه، عن ابن عباس قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تستقبلوا السوق).
وعن ابن عمر قال: (نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تلقي السلع حتى تدخل الأسواق).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تستقبلوا الجلب ولا يبيعن حاضر لباد).
وأيضاً قد علمنا أن ذلك يضر المسلمين لأن العدة جارية أنه متى فعل ذلك عز الطعام وغلا وارتفع سعره، وأدى إلى الإضرار بالمسلمين، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)، فجرى ذلك خجرى الإحتكار الذي منع منه لما فيه من الضرر على المسلمين.
فإن علم أنه يسلم من الضرر فالقياس فيه أنه يجوز كالإحتكار وبيع الحاضر للباد إلا أن الأغلب أ،ه لا يكاد يسلم من الضرر.
الحلف في البيع والشراء
مسألة:
ويكره اليمين على البيع والشراء وإن كانت صادقة.
وذلك لما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة)، لأن ذلك خلاف التعظيم لأسماء الله، لأنه إذا حلف الإنسان من غير حاجة إليه فكأنه لم يوف أسماءه عز وجل حق تعظيمها، ولأنه إذا استكثر منها لم يأمن أن يقع فها الحنث، وهو مما يعظم الإثم فيه.
القول في الإحتكار
مسألة:
قال: ولا يجوز االإحتكار إذا كان على المسلمين فيه إضرار، فإن لم يكن جاز.
اعتبر يحي عليه السرم في الأحكام المنع من الإحتكار بأن يكون فيه ضرر على المسلمين، وروي نحوه عن جده، وري غيره أنه لا بأس به إذا لم يكن فيه ضرر.

(68/1)


واستثنى يحي ما يحتاج الإنسان إليه لقوته وقوت عياله.
إلى نحو ما ذهبنا غليه أشار ابن أبي هريرة فيما حكاه عن االضافعي.
واعتبر أبو حنيفة وأصحابه في الحكرة على ما حكاه أبوالحسن الكرخي أن يشتريه الإنسان في المصر، ويمتنع من البيع، وذلك مما يضر الناس، وإن لم يضر فلا بأس به.
قال أبوالحسن: رواه ابن سماعة، عن أبي يوسف الإحتكار في كل ما يضر بالعامة احتكاره، وهذا قولنا.
والأصل فيه ماروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه عنه ابن عمر: (من إحتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برئ من الله عز وجل وبرئ منه).
وعن أبي أمامة قاال:(نهى روسل الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتكر االطعام).
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (جالب الطعام مرزوق والمحتكر عاص ملعون)، وهو لا يجوز أن يكون قاله غلا بنص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه قال: الجالب مرزوق والمحتكر ملعون.
وروى محمد بن منصور وأبو الحسن الكرخي بإسنادهما، عن علي عليه السلام أنه أحرق طعاماً لرجل كاان إحتكره.
فدل ذلك أجمع على تحريم االإحتكار.
فأما ما ذهبن إليه أبو حنيفة وأصحابه من أنه لا بأس به إذ لم يكن اشتراه في المصر فلا معنى له، لأن العلة فيه هو دفع الضرر عن المسلمين بالحبس عنهم ماهو أقوات لهم، ولا تأثير في ذلك للوجه الذي منه صار الطعام محتكراً، ولأن الأخبار الواردة في هذا الباب لم تفصل في ذلك فصلاً.
فإن قيل: فإذا لم يكن اشتراه في المصر فلم يفعل ما يضرهم؟
قيل له: إذا اشتراه من خارج وحبسه فقد فعل ذلك لأن الضرر على حد واحد سواء اشتراه في المصر أو خارج المصر والأخذ له من ضيعة قد أضر بهم في ترك بيعه عليهم فالضرر حاصل، ولا فصل بين أن يحصل شراؤه من المصر أو غيره في أهنه يؤمر بالبيع، لأن دفع الضرر واحد سواء كان الضرر بأن يفعل ماهو ضرر أو يدعف فعلاً هو ضرر.

(68/2)


فأما جوازه إذا لم يكن ضرر على المسلمين فلا أحفظ فيه خلافاً، ولا وجه للمنع منه، إذ وجهه دفع الضرر، وقد قال يوسف صلى الله عليه: ( تزرعون سبع سنين دأبااً فما حصدتم فذروه في سنبله)، فأمر بالإدخار إذا لم يكن فيه ضرر.
وأما استثناء يحي عليه السلام الذي يحتاج إليه لنفسه وعياله، فلأن الإنسان يلزمه دفع الضرر عن نفسه وعن عياله فلا وجه أن يؤمر بمضاره عياله دفعاً للضرر عن غيره، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أبدأ بمن تعول)، وقال يوسف عليه السلام: (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون)، فأخبر عن إخصان الطعام للمجاعة ولم ينكره.
ولم ينص يحي عليه السلام على المدة التي يدخر فيها قوته وقوت عياله والأقرب إلى نحو سنة، أو أدراك الغلة الممنتظرة إن لحق الجدب في بعض السنة فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يدخر قوت عياله لسنة.
بيع السكران
مسألة:
قال القاسم عليه السلام في بيع السكران وشرائه: جائز إذا كان يعقلهما، وهو كما قال: لأن البائع من صحة عقوده ثبات عقله، فإن كان يعقل لم يؤثر في ذلك تغير بعض أحواله في صحة عقوده إذا كان يعقل.

(68/3)


القول في تلف المبيع قبل القبض
مسألة:
وإذا اشترى رجل شيئاً ثم تلف عند بائعه قبل التسليم فإنه من مال البائع، وهذا لا أحفظ فيه خلافاً إلا ماحكي عن مالك أنه قالك يضمن البائع قيمته.
ويحجه ماروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن بعت من أخيك ثمراً ثم أصابه جائحة فلا تأخذ منه شيئاً، ولأنا لو ألزمنا البائع قيمة السلعة كان ذلك استحقاقاً يختص عقد البيع، وذلك يوجب أن يكون القيمة مبيعة، لأن الإستحقاق المختص بعقد يوجب كون المستحق مبيعاً، ولا يجومز بيع قيمة في الذمة.
وحكي عنه أنه فرق بين الطعام وغيره لو كانت مبيعة لكان ذلك والقومة يدخل في الربا، لأن القيمة قد تزيد على الثمن، وقد تنقص منه، لأن البيع بينهما لم يتم لأن التسليم هو من شرط اتمام البيع، فإذا لم يقع التسليم لم يتم البيع، فإذا تلف والبيع غير تام في يد البائع فيجب أن يكون تعيين ماله، لأن ملكه عنه لم يزل. وكذلك يده لم تزل عنه.
قال: فإن كان تسلمه من البائع ثم تركه رهناً فتلف فهو من مال المشتري، وذلك أن القبض إذا حصل تم البيع واستقر ملك المشتري وزال ملك البائع، فإذا رهنه عند البائع كان ذلك وسائر الرهون سواء.
قال: وإن وضعاه على يدي عدل إلى أن يأتي المشتري بالثمن فتلف فهو من مال البائع، وذلك أن الباضع لم يسلمه إذ وضعه على يدي عدل لأنه لا يكون خلى بينه وبين المشتري، فلا يكون البيع قد تم كما بينااه في المسألة الأولى.
مسألة:
وإن وكل المشتري البائع يقبضه من يفسه له فقاال: اعزله أو كله إن كان مكيلاً أو نحو ذلك ففعل البائع، ثم تلف كان من مال المشتري.
هذا مبني على أن قبض البائع من نفسه يصح.
ووجهه: أنه ليس بين القابض والمقبض خصومة، فوجب أن يصح قبض االإنسان من نفسه كما أنه لو لم يكن بين المزوج والزوج خصومة جاز أن يزوج الإنسان الحرمة من نفسه. وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ما تلف من مال المشتري.
باب القول في بيع الأجناس بعضها ببعض

(69/1)


إذا اتفق الشيئان في الجنس والكيل لم يجز بيع أحدهما بصاحبه إلا مثلاً بمثل يداً بيد، فإن اختلفا في الجنس واتفقا في الكيل جاز التفاضل ويحرم النسأ، وإن اختلفا قيهما جميعاً جاز التفاضل والنسأ.
والقول في الوزن كالقول في الكيل سواء خلا الذهب والفضة فإنه يجوز أن يشتري بهما الموزون معجلاًومؤجلاً غير الذهب بالفضة والفضة بالذهب فإنه يجوز بيع أحدهما بالأخر متفاضلاً إذا كان يداً بيد وأما إذا كان مؤجلاً فإنه لا يجوز مؤجلاً.
والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق شتى وألفاظ مختلفة: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد، والفضة بالفضة مثلاً بمثل يداً بيد، والبر بالبر مثلاً بمثل يداً بيد، والشعير بالشعير مثلاً بمثل يداً بيد، والتمر بالتمر مثلاً بمثل يداً بيد، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد)، رواه عبادة بن الصامت وغيره، وفي بعض الألفاظ: (والفضل ربا)، وفي بعضها: (فمن زاد فقد أربى)، وفي بعضها: (هاوها)، وفي بعض الأخبار: (فإذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم يداً بيد)، وفي بعضها: (قبيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يداً بيد).
وروى زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمر فلم يرد منه شيئاً قال لبلال: دونك هذا التمر حتى أسألك عنه فانطلق بلال فأعطى التمر مثلين وأخذ مثلاً فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: آتنا خبئتنا التي استخبأناك فأخبره بالذي صنع فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحرام الذي لا يصلح انطلق فاردده على صاحبه وأمره أن لا يبيع هكذا، ولا يبتاع ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، والر بالبر مثلاً بمثل، والشعير بالشعير مثلاً بمثل، والذرة بالذرة مثلاً بمثلا، زاد في المجموع يداً بيد، فمن زاد أو ازدااد فقد أربى).

(69/2)


فدلت هذه الأخبار على تحريم التفاضل والنسأ بين هذه الأجناس إذا كان الجنس بجنسه، وعلى تحريم النأ واباحة الزيادة إذا اختلف الجنسان مع الإتفاق في المعنى المضموم إليه.
وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: لاربا إلا في النسية. ويرويه عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان يجيز الذهب بالذهب متفضاً يداً بيد، وقد روي عن عدة من الصحبة أن ابن عباس كان قد رجع عن هذا القول.
والإجماع المنعقد على خلاف ذلك يبطل قوله.
ويجوز أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك إذا اختلف الجنسان ليكون موافقاً لما تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، ولما أجمعت الأمة عليه، إذ لا خلاف بينها في هذه الأجناس المنصوص عليها، واختلفوا في ما عداها فذهب كثير من نفاة القياس إلى أنه لا ربا فيما عداها، وأجمع القائسون على خلاف ذلك، وفي من نفى القياس من لا يخالفنا في ذلك، وهم الإمامية.
ويرجعون فيه إلى الظواهر الواردة في هذا الباب كالنهي عن الصاع بالصاعين.
ويبطل قولهم من وجهين ـ أحدهما: هذه الظواهر. والثاني: إثبات القول بالقياس.
فأجمع الفقهاء من مثبتي القياس أن الجنس مراعى في باب الربا.
وكذلك أمر آخر مضموم إليه وإن اختلفوا في ذلك الأمر ماهو فلا خلاف أنه إذا اجتمع الجنس والأمر المضموم إليه أنه يحرم التفاضل والنسأ، ولا أعرف خلافاً في أن الجنس إذا اختلف واتفق الأمر المضموم إلي حرم النسأ وجاز التفاضل لقوله: (فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد)، فأجااز صلى الله عليه وآله وسلم التفاضل لعدم الجنس، ومنع النسأ، فوجب أن يكون ذلك حكم الجنس إذا انفرد، فلا يصح بيع الثوب بجنسه من الثوب نسأ، وبه قال أأبو حيفة.
قال الشافعي: ذلك لا يحرم على انفراده، وقد بينا أنه إذا اختلف الجنس واتفق الأمر المضموم إليه ترتب تحريم النسأ على المعنى المضموم إليه من الكيل أو الوزن.
فإن قيل: ألستم تجوزون بيع الموزون بالنقد مع النسأ؟

(69/3)


قيل له: نجعل علة النسأ أحد وصفي العلق في قبيل المثمنات، أو يجوز تخصيص العلة فليس ببعيد على أوضاعنا، أو نقول في قبيل ما يتعين، فأما المنع من بيع الذهب والفضة بعضه ببعض فلا يقال، لأنه إجماع منصوص عليه فلا نقيص عليه سواه.
فأما الأمر المضموم إلى الجنس فعندنا أنه الكيل أو الوزن، ونو قول زيد بن علي، والمروي عن جعفر بن محمد، ولا أعرف فيه خلافاً، بين علماء أهل البيع عليهم السلام، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال مالك: هو الإقتيات.
وقال الشافعي: هو الأكل.
والذي يدل على صحة قولنا ماروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روى أبو بكر الجصاص: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم عليه تمر من خيبر فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا والله يارسول الله إنا نشتري الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا تفعلوا ولكن مثلاً بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذاا وكذلك الميزان).
فأما المنع من بيع الذهب والفضة بعضه ببعض فلا يعلل لأنه أجماع منصوص عليه ولا نقيس عيه سواه,
وروى أيضاً أبو بكر بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يصح صاعان بصاع ولا درهمان بدرهم).
ورى بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لاتبيعوا الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين ولا الصاع بالصاعين، فقام إليه رجل فقال: يارسول الله أنبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل؟ فقال: لا بأس إذا كان يداً بيد).
فدلت هذه الأخبار على صحة تعليلنا بالكيل والوزن.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لاتبيعوا الصاع باصاعين)، قد علمنا أن المراد به ليس هو بيع الآلة المخصوصة، وإنما المراد به ما يكال بها، ليكون تحصيل هذا الكلام المنع من بيع ما يكال مثلاً بمثلين.

(69/4)


وكذلك قوله صلى االله عليه وآله وسلم: (وكذلك الميزان)، ليس المراد به عين الموازين، وإنما المراد به مايوزن، فأوجب ذلك المنع من بيع ما يكال بما يكال إلا مثلاً بمثل، وما يوزن بما يوزن إلا مثلاُ بمثل، يدا بيد، فبان صحة تتليلنا.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل، فهلا دلكم ذلك على أن العلة هي الأكل على ما قلتم في الكيل والوزن؟
قيل له: لفظ الطعام يتناول شيئاً مخصوصاً من المأكولات من جهة العرف، ولايتناول السقمونيا والصبر، وضحم الحنظل، وما جرى مجراه، ألا ترى أن سوق الطعام لا يستعمل في صنف الصيدلانيين، وكذلك سوق الفواكه فبان أنه يتناول هذه الأجناس المنصوصة التي يقع الإقتيات بها.
وفي الحديث: (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الطعام بالطعام مثلاً بمثل)، وكان طعامنا يومئذٍ الشعير.
وروي عن أبي سعيد الخدري: (كان طعامنا التمر والزبيب والشعير)، كان طعامنا لم يجب أن يستمر اللفظ في كل مأكول من الأشربة والفواكه والأدوية ونحوها ووجب اختصاصه بما بيناه، وذلك مما لانأبى وجوب الربا قيه.
فإن قيل: فأجرت اسم الطعام على الماء؟
قيل له: ذلك محمول على سبيل التجوز، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم محمول على الحقيقة.
والحقيقة من طريق عرف اللغة هو ما ذكرناه.

(69/5)


على أنها إنما سمته طعاماً لمقارنته التمر، كما قالوا: الغدايا والعشايا، وإن كانت الغداة لا تجمع على الإنفراد غداياً، فكذلك الماء لا يقال فيه على الإنفراد: إنه طعام، وكان شيخنا أبو الحسين بن إسماعيل يستدل على ذلك بقول الله عز وجل في قصة شعيب عليه السلام: (أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم)، فكان يقول: لا يخلو النهي من نأن يكون متناولاً للتطفيف على وجه الخيانة، كما حكى الله عز وجل عن قومه من قولهم: (ياشعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، فبين أنهم كانوا نهوا عما كانوا يفعلون في الكيل والوزن على وجه التراضي إلا ما كان ربا فبان أن الربا تعلق بالكيل والوزن.
ومما يدل على أن علتنا أولى من علة سائر المخالفين ـ أن ما جعلناه علة له تأثير في التحريم بدلالة أن زيادة الكيل في المنصوص عليه مع الجنس، وكذلك الوزن فيه مع الجنس يمنع من جواز البيع، وعدم الزيادة فيهما يوجب صحة البيع، وما كان له تأثير في صحة البيع وفسااده أولى أن يكون علة للتحريم مما ليس له ذلك التأثير.
ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم)، فجعل للكيل والوزن تأثيراً في صحة البيع فبان بذلك أن علتنا أاولى، لأنا لم نجد هذا التأثير في علل المخالفين.
يبين ذلك أن المأكولين يتفاوتان في كونهما ماكولين بأن يكون أحدهما خيراً من صاحبه في باب الأكل، وكذلك المقتاتين، ولم يؤثر ذلك في التحليل والتحريم فعلمنا أن ما عللناه أولى من سائر علل المخالفين.
فإن قيل: فالحكم يتعلق بالأكل أيضاً، لأن من اشترى حنطة تفوجدها متغيرة بالعفونة أو نحوها حتى يؤثر ذلك في الأكل كان لصاحبها الخيار في الرد؟

(69/6)


قيل له: ذلك خيار الرد، وذلك حكم كل ما أدى إلى نقصان القيمة مأكولاً كان أو غير مأكول، على أن لهذا التأثير مع أنه لا يختص بالأكل تأثيراً في خيار الرد، لافي تحريم البيع وتحليله، فلم يجب أن يكون ذلك معارضااً لتأثير علتنا.
وليس لم أن يتعلقوا بقوله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُو الرِّبَا}، لأن الربا يجب أن يثبت أولاً يثبت أولاً ثم يعلق الحكم عليه.
فإن قيل: فإنا نجد النبات حشيشاً لابا فيه، ثم نجده مأكولاً فيه الرا، فعلمنا أن العلة فيه الأكل كما قلنا في العصير: إنا نجده لا شدة فيه وهو مباح، ثم تصير فيه الشدة فيصير حراماً بعد أن كان مباحاً فعلمنا أن العلة فيه الشدة.
قيل له: ومثل هذا يستقيم لنا أن نجده حشيشاً لاربا فيه، ثم يصير مكيلاً فيحصل فيه الربا، فعلمنا أن الكيل علة الربا، على ان الحشيش مأكول لا ربا فيه فبان أن العلة ليست هي الأكل وهذا ينقض علتكم، لأن الحشيش مأكول لا ربا فيه فبان أن العلة ليست هي الأكل.
بيع الجنس بمثل جنسه مع اختلاف أنوعه
مسألة:
قال: ولا يجوز أن يباع كر حنطة بكري حنطة وإن اختلفت أنواعهما، ولا بأس بكري شعير، وكذلك القول في الأرز والشعير وسائر الحبوب والتمر والعنب وغيرهما من الفواكه وغيرهما، وهذا مما قد مضى بيانه، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فإذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم يداً بيد). ولأن تحريم التفاضل إنما ورد إذا كان الجنس واحداً، ألا ترى إلى ترى إلى قوله: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، حتى أتى على الأجناس المنصوص عليها، وإذا كان تحريم التفاضل يتناول الجنس الواحد فما عداه يكون على أصل الإباحة.
وهذه الجملة لا خلاف فيها بيننا وبين أبي حنيفة والشافعي وسائر العلماء، ألا مالك فإنه ذهب إلى أنه لا يجوز بيع الشعير بالبر متفاضلاً، وما قدمناه يحجه.

(69/7)


ويجب فيما عدا المنصوص عليه مثله قياساً عليه كنحو الأرز والعنب وغيرهما بعلة أنها أجناس مختلفة فوجب أن يحرم بيع بعضها ببعض متفاضلاً. وقياساً على ما أجمع عليه من الذهب والفضة أن بيع أحدهما بالآخر جائز متفاضلاً والعلة أنهما جنسان مختلفان.
مسألة:
قال: والحنطة مع تنوعها جنس واحد، وكذا، وكذا الشعير والتمر والعنب، وكذا من الفواكه والرمان والسفرجل وغيرهما.
يدل على ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما ذكر هذه الأجناس قال بعده: (فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد).
وقوله: (بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يداً بيد)، فدل ذلك على أن جميع هذه المذكورات أجناس مختلفة، وإن كان لكل واحد منها أنواع يشتمل عليها الجنس، ولا خلاف أن الذهب والفضة جنسان مختلفان، فإذا ثبت ذلك في المنصوص عليه ثبت فيما عداه من الأرز وغيره من الحبوب والفواكه. والعلة استبداد كل واحد منهما بالاسم الأخص، والإتفاق في تقارب المعنى المقصود إليه، والتقارب في المنطر والهيئة.
ويدل على استبداد كل منه بالإسم االأخص أن تميز أنواعه يكون بإضافة صفة إليه كمء العنب الأبيض والأسود والملاحي، وكذلك التمر وسائر ماقلنا فيها إنها أجناس.
فأما التقارب في المعنى المقصود إليه والتقارب في المنتظر والهيئة فمما لا إشكال فيه، لأن العلم به شرورة فكل ذلك يوضح ماقلناه.
على أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في زكاة الفطر صاع من تمر، أوصاع من شعير، أوصاع من ذرة، أو صاع من زبيب)، يدل على أن كل واحد من ذلك جنس برأسه.
ألا ترى أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر أنواع التمر كالصيحاني والبرني والأزاذ، وكذلك لم يذكر أنواع الزبيب، وإنما ذكر أجناس التمر والعنب وغيرهما.

(69/8)


بيان المعتبر في الكيل
مسألة:
قال: والمعتبر في كيل التمر ووزنه البلدان.
ووجهه أنا وجدنا الشرع فيه تابعاً للعرف، لأن الشرع لم يرد بوزن شيء مما كان العرف فيه قبل الشرع ألا يوزن. وكذلك لم يرد بكيل شيء مما كان العرف فيه قبل الشرع ألا يكال، فعلمنا أن الشرع جاء بحسب العرف في باب الكيل والوزن.
فإذا ثبت ذلك وجب أن يجري الحكم في هذا الباب بحسب عرف البلدان كما قلنا ذلك في الإيمان.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في التمر: (مثلاً بمثل كيلاً بكيل).
قيل له: هو محمول على البلد التي عرف أهل8ا في التمر الكيل لما بيناه.
ويوضح ما بيناه ما أجمعوا عليه أن كل بلد له عرف يعتبرونه في النقد، وأجمعو أنه إذا قال البائع للمشتري بعتك هذا الشيء بكذا درهماً على أنه محمول على ذلك النقد، وأن النقد الذي يتعامل به عرفاً إذا كان مختلفاً كاتن البيع فاسداً إذا لم يعين النقد، فإذا وجب أن يتبع حكم الشرع في باب النقد العرق وجب أن يكون ذلك حكم الكيل والوزن، لأن النس قد خلوا واختيارهم في الكيل والوزن كما قد خلوا واختيارهم في النقود.
فإن قيل: فكيف يجوز أن يحل بيع في بلد ويحرم في بلد؟
قيل له: كما يصح بيع في بلد ويفسد في بلد، ويقع الحنث في لفظ وقول لواحد، ولا يقع لآخر الأمر يرجع إلى العرف والعادة.
على أن أبا حنيفة ذهب فيما يختلف حالة في البلدان في الكيل والوزن أن المعتبر به العرف خلا الأشياء التي كانت بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم توزن أو تكال. وهذا مما يمكن أن يحتج به عليهم فيما خالفوا فيه.

(70/1)


وحكي عن بعضهم أنه قال: إذا اختلف الوزون والكيل في البلدان كان الوزن أولى لأنه أخص المماثلة، وهذا لمعنى له، لأنه لو وجب أن يعمل بأخص المماثلة وجب أن يوزن جميع ما يكال لهذه العلة، على أنهم جوزوا التمرة بالتمرتين، لأن ذلك ممالا يكال عرفاً إلا أن الشرع منع منه، أو كان ذلك مستحيلاً لأنه كان يمكن ان يعمل مكيال صغير لقدر التمرة الواحدة لكنهم اتبعوا العرف.
وكذلك أجازوا التفاضل في المعمولل، ولم يجيزوه في الذهب المعمول والفضة المعمولة لا لأمر سوى العادة الجرية فيه، فيصح بجميع ذلك ما قلنا، وما قاله أصحابنا أقوى من جهة النظر إذ لم يؤد إلى خلاف الإجماع، وقيه نظر والله أعلم.
جناس اللحوم
مسألة:
قال: واللحوم مختلفة الأجناس فلحم البقر جنس واحد، ولا فصل بين لحم الجواميس وبقر الوحش والبقر الأهلي.
ولحوم الضأن والماعز والظبا كلها جنس واحد.
ولحم الإبل جنس مع إختلاف أنواعها.
والقول في الألبان والسمون كالقول في اللحوم.
قلنا في البقر والضأن والإبل: إنها أجناس مختلفة لأن الشرع دل على ذلك لإطلاق أحكامها في الصدقات ولاختصاص كل منها بالإسم الأخص، ولإتفاق كل ما قلنا فيه: إنه جنس منها في تقارب المعنى إليه في بابه، والتفاوت في امنظر والهيئة، فدل ذلك على اختلاف اجناسها.
وأما المعز فإنا جعلناه من جنس الضأن لأن الشرع أجراهما مجرى جنس واحد في باب الصدقات، ولما بينهما من التقارب فيما ذكرناه، وإن لم يشتركا في الإسم الأخص.
قسنا في هذا الظبا على الماعز لتقاربهما يف المنظر والهيئة، وعلى هذه الطريقة يجري الكلام في الجواميس، وبقر الوحش، وكذلك الكلام في الإبل.
فإذا ثبت ذلك وجب أن يلحق بها لحومها وألبانها وسمونها لأنها جزء منها، فتجري مجرى أبعاضها.
ألا ترى أن خبز البر وخبز الأرز وخبز الضعير كانت أجناساً مختلفة لكونها من حبوب مختلفة، فكذلك اللحوم والألبان والسمون.

(70/2)


فإن قيل: فإن قيل: قد اشتركت اللحوم في الإسم الأخص، وكذلك الألبان والسمون فهلا جعلتم كلاً منها جنساً واحداً؟
قلنا: كما أن الخبز وإن اشترك في الإسم الأخص لم نجعله جنساً لاختلاف أجناس ماهو منها، وكذلك اللحوم والألبان، لأن جميع ذلك فروع لأصول مختلفة فوجب أن يعتبر بأصولها.
على أن الشرع جعل أصولها أجناساً مختلفة، فكان الحاقها بالأصول أولى من إلحاقها بالفروع بحكم الإجتهاد، ولأن النص أولى من الإجتهاد، فعلى هذا لا بأس ببيع لحم البقر بلحم الضأن والإبل، ولحم الإبل بلحم متفاضلاً يداً بيد، ولا يجوز بيع بعضها ببعض نسأ، وهذا مما قد مضى بيانه فلا وجه لإعادته.

(70/3)


بيع الحيوان بعضه ببعض
مسألة:
قال: ولا بأس ببيع الحيواان بعضه ببعض مثلاً بمثل، ومتفاضلاً يداً بيد، ولا يجوز بيع بعضه ببعض نسأ، ولا فرق في ذلك بين ن يكون الحيواان جنساً واحداً أو أجناساً مختلفة.
أما إذا كان الحيواان جنساً واحداً فإنا أجزنا بيع بعضه ببعض مثلاً بمثل ومتفاضلاً؛ لأن فيه أحد وصفي علة الرا، وهو الجنس، وليس فيه الوصف المضموم إلأى الجنس، ولا يصح فيه الكيل والوزن، والجنس عندنا إذا تعرى عن الكيل والوزن لا يمنع التفاضل على ما مضى القول فيه.
وقلنا: إنه يجوز يداً بيدٍ ولا يجوز نسأ لوجهين:
أحدهما ـ أن أحد وصفي علة االرا عندنا وعند أبي حنيفة إذا تعرى عن الوصف الثاني حرم النسأ.
والثاني ـ أنا لا نجيز السلم في حيوان على ما نبينه في باب السلم.
ويدل على هذه الجملة ما روي أن رجلاً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يارسول الله أنبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: (لابأس إذا كان يداً بيد)، فأجاز صلى الله عليه وآهل وسلم شرط أن يكون يداً بيد، وهذا نص فيما ذهبنا إليه. وأما إذا اختلف جنس الحيوان فلا بأس ببيع بعضه ببعض مثلاً بمثل ومتفاضلاً، لأنه ليس فيه شيء من أوصاف علة الربا لا الإتفاق في الجنس، ولا الكيل ولا الوزن، فلم يكن في جواز بيع بعضه ببعض متفاضلاً أشكال.
ومنعنا بيع بعضه ببعض نسأأ بوجه واحد، وهو لما ثبت من أنه لا يجوز السلم في الحيوان على ما سنبينه.
بيع مالا يكال ولايوزن مع الإتفاق في الجنس
مسألة:
قال: وإذا اتفق الشيئان في الجنس ولم يكونا مكيلين ولا موزنين جاز بيع بعضه ببعض يداً بيد مثلاً بمثل ومتفاضلاً، ولا يجوز نسأ كنحو الرمان والسفرجل وغيرهما.
ولا بأس أن يبتاع رمانه برمانتين يداً بيد وسفرجلة بسفرجلتين يداً بيد، ولا يجوز ذلك نسأ، وكل هذا قد مضى بيانه فلا غرض في إعادته.
النهي عن بيع الحب القائم بالحب والمحصود وبيع المحافلة
مسألة:

(71/1)


قال: ولا يجوز أن يشترى زرع من بر محصود في سنبله ببر سواه، ولا أن يشترى اللَّبن الرائب بالزبد إلا أن يكون الزبد الذي في اللبن أقل من الزبد المشترى به اللبن، أو كان ما يجرد من السنبل عن البر له قيمة فيجب أن يكون سبيله سبيل بيع اللبن الرائب بالزبد في أن البيع يفسد متى لم يكن البر المشترى به أكثر من البر الذي في السنبل، فإن كان أكثر من ذلك صح البيع.
ما ذهبنا إلي في اللبن والزبد أكثر من الزبد الذي في اللبن به قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، والخلاف منه بيننا وبين الشافعي.
فأما إن كان ما ينفرد عن السنبل مما لا قيمة له فالبيع فاسد على كل وجه، لأنه يكون بيع البر بالبر جزافاً وهو فاسد بالإجماع، والأثر الوارد فيه وهو نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن المحاقلة، وقيل: إنها بيع الحب القائم بالحب المحصود.
وقيل: إنها المزارعة، وهما لايتنافيان إذ لابد فيه من اعتبار المماثلة.
وأما مسألة الخلاف فوجه ما ذهبنا إليه أن الزبد إذا كان أكثر من الزبد الذي في اللبن كان مقدار ذلك الذي في اللبن من الزبد بمثله من الزبد، والفضل ثمن اللبن.
والدليل على ذلك قول الله تعاالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، وقله عز وجل: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
فإن قيل: إنه ربا فيحرم؟
قيل له: إذا اعتبرنا المساواة على ما ذكرنا لم يكن فيه ربا.
فإن قيل: فهلا منعتموه من حيث قيمة الزبد المشترى به اللبن المخيض بمثله من الزبد الذي في اللبن واللبن، وهذا يمنع المساواة التي سححتم البيع بها، لأن الزبد المشترى به إذا قسم على ما قلناه لم يمتنع أن يكون الزبد يلاقي الزبد مع الزيادة والنقصان، كرجل اشترى حنطة وشعيراً بأرز وسمسم أن ما يشتري به من الأرز والسمسم يقسم على قيمة الحطة فلا تحصل المساواة؟

(71/2)


قيل له: هذا الإعبار لا يجوز على ما ذكرت لكونه مؤدياً إلى فساد العقد،، وعقود المسلمين محمولة على الصحة ما أمكن، وإنما يعتبر هذا الإعتبار في العقود التي لا يؤدي هذا الإعتبار إلأى فسادها.
ويدل على ذلك أن المكيل والموزون إذا لاقى جسه فإنما يكون قميه مثله مقدارهن لأن الشرع اقتضى ذلك،، إذ حضر الشرع بيعه بأكثر منه، والمتبايعان دخلاً فيه على حكم الشرع فوجب أن يكون محمولاً على ما اعتبرناه من كون الزبد المشترى به مقسوماً على أن يكون مافي اللبن منه بمثله والباقي منه ثمناً للبن دون الإعتبار الذي ذكرتم.
وأيضاً عقد البيع إذا وقع محتملاً لوجهين: أحدهما ـ إذا حمل عليه فسد البيع، والثاني ـ إذا حمل عليه صح البيع يجب حمله على الوجه الذي يصح البيع لوجوب حمل عقود المسلمين على الصحة ما أمكن.
دليله ـ إذا باع بدراهم مطلقة، ولم يصف النقد لا خلاف أنه يجب حمله على نقد البلد الذي تجري التعامل به، وإن كان حمله على غير ذلك من النقود، ولأن حمله على نقد البلد يوجب صحة البيع، وحمله على غير ذلك من يوجب فساد البيع فكذلك ما اختلفنا فيه يجب حمله على الإعتبار الذي قلنا، ونجعل ذلك كأنه نطق به ليصح البيع، ولا يجب حمله على الإعتبار الذي ذكره المخالف لئلا يؤدي إلى فساد البيع.
ويشهد لذلك جميعاً الأرطال والأمناء والمكاييل إذا بيع الشيء على ذلك، أو أسلم يجب حمله على ما يجري التعامل به ليصح العقد دون ما عداه لئلا يفسد العقد.
فإن قيل: العرف كالنطق، فلذلك وجب حمله عليه.
قيل له: وما ذكرنا أيضاً كالمنطوق به، لأنهما دخلا في العقد لتصحيحه فصار ما يصحححه كالمنطوق به إذا كان يحتمله.
فإن قيل: فهلا حملتم بيع درهمين بدرهم على أن درهم بدرهم، والدرهم الثاني هبة.
قيل له: لأن عقد لم يدخل فيه فلا يصح أن يلزمهما، وليس كذلك مسألتنا، لأن ما صلافنا العقد إليه حد الوجهين الذين احتملهما العقد فلم نلزمهما عقداً لم يدخلا فيه.

(71/3)


فإن قيل: جوزوا على اعتباركم صاعاً من تمر بصاعين منه على أن يكون نوى أحدهما بتمر صاحبه ونواه بتمر الأخر؟
قيل له: لا يجوز ذلك لأنه يؤدي إلى خلاف النص الوارد، وإذا سقط ذلك الإعتبار في موضع لكونه مؤدياً إلى خلاف النص لم يجب أن يصقط في كل موضع.
ألا ترى أن تقسيط الثمن لما سقط في الموضع الذي اختلفنا فيه لكونه مؤدياً إلى فساد البيع لم يجب أن يسقط في كل موضع، وكذا القياس قد سقط في مواضع لأحوال ثم لا يجب سقوطه في كل موضع.
وأيضاً النوى لا حكم له إذا كان في التمر بدلالة أنه لا فرق بين التمر الذي يغلظ نواه، وبين التمر الذي يدق نواه.
فإن قيل: فجوزوا بيع مائة دينار في كاغد بمائتي دينار على أن تكون المائة بالمائة، والمائة الباقية بالكاغد؟
قيل له: إذا كان الكاغد مما يجوز تقويمه، ومما يفصد بالبيع، وقال: بعتك المائة مع الكاغد الذي فيه صح ذلك، وإن كان الأمر بخلافه لم يصح.
على أن يحي بن الحسين عليه السلام قال في كتاب الصرف: إن أراد أن يبدل ديناراً بدينارين فأدخل بينهما قطعة فضة لم يجز، فإن حمل هذا على ظاهره لم يجز ما سألتم عنه، لأن ظاهره يقتضي أن لا يجوز البيع إلا بأن يرضياه، وبيع الكاغد بخمسين ديناراً لا يرضى بالتفرق عليه، وإن حمل على أنه أراد إذا كان الفضة ضعيفة لا يصح تقويمها بالذهب كان الجواب بحسب ذلك.
فإن قيل: روي عن فضاالة بن عبيد أنه اشترى يوم حنين قلادة فيها ذهب بالذهب فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تبيعوها حتى تفصل)؟
قيل له: ذلك محمول على أن قدر الذهب المشتري به لم يكن معلوماً أنه زائد على الذهب الذي كان في القلادة فقد روى الجصاص بإسناده عن فضالة بن عبيد أنه قال: غشتريت قلادة فيها ذهب وخرز يوم حنين باثني عشر ديناراً ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (لا تباع حتى تفصل)، فكان النهي للمعنى الذي ذكرنا.

(71/4)


وعلى هذا يحمل قوله في الأحكان في باب الصرف في المنع من بيع السيف المحلي بالفضة.
بيع الزبد بالسمن ونحوه
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الزبد بالسمن، ولا بيع اللبن بالحليب باللبن المخيض، وهو الذي فيه الماء، وبه قال الشافعي، ويقرب أن يكون قول أبي يوسف ومحمد،
ووجه أن الزبد فيه أجزاء من اللبن تذهب عند الإذابة فينقص عن السمن في تلك الأجزاء مما لا حكم لها ولا قيمة فيشبه الرطوبة التي في الرطب التي من أجلها منع من بيع الرطب بالتمر.
وهذا هو الوجه في المنع من بيع اللبن الحليب باللبن المخيض الذي فيه الماء.
وهذا كله مبني على منعنا بيع الرطب بالتمر.
بيع الرطب بالتمر
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الرطب بالتمر، وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي.
قال أبو حنيفة: هو جائز مثلاً بمثل يداً بيد.
والأصل فيه ماروي عن زيد أبي عياش، عن سعد بن أبي وقاص قالك شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الرطب بالتمر؟ فقال: (أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم قال لا اذن)، وكرهه، وهذانص في المنع من بيع الرطب بالتمر، وفيه تنبيه على العلة التي من أجلها منع البيع، وهذا يبطل اعتراض من يعترض الحديث بأن يقول: لامعنى لاستفهام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماهو معلوم ضرورة، لأن ذا ليس باستفهاماً بل هو تقرير على أمر ينبه به على علة المنع، وهذا مثل قول الله عز وجل لموسى صلى الله عليه: (وما تلك بيمينك يا موسى)، أراد تقريره على هذا الحديث بأن زيداً أبا عياش مجهول وليس كذلك، فإن هذا الحديث قد رواه العلماء وستعملوه وأخذوا بموجبه، ولم يطعنوا فيه، فصح أنه لم يكن عندهم مجهولاً.
على أن أمره أشهر وأظهر من أمر أبي االحوراء السعديء وحديثه فلا وجه لهذا الطعن.
على أنه قد روي عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع التمر بالرطب أو بالتمر كيلاً. قد شككت في اللفط، وعن بيع العنب بالزبيب كيلاً.

(71/5)


فدل ذلك على ماقلناه؛ لأن اللفظ وإن كان عن بيع التمر فالمعنى أنه كان أحدهم رطباً إذ لو لم يكن كذلك فلا خلاف في جوازه يدل عليه قوله: ( عن بيع العنب بالزبيب كيلاً).
فإن قيل: فقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الرطب بالتمر نسية ـ فدل ذلك على أن علة المنع هو النسأ؟
قيل له: هذا لا يمنع ما ذكرناه، ولا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر يداً بيد ونسأ جميعاً فيكون منع من بيعهما يداً بيد للعلة الأولى، ومنع من النسأ للجنسين.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن عليه عليهم االسلام أنه كره بيع التمر الحديث بالعتيق.
فإن قيل: كان في الحديث فضل رطوبة فكذلك أنواع التمر؟
قيل له: ذلك قدر يسير من التفاوت لا معتبر به، لأن مثله يكون في المكيل والموزون، ولهذا قالت العلماء: إن الوزن أخص من الكيل، ولهذا أجازوا الذهب بالذهب وإن وزناً بالميزان وإن جوزنا أن يقع فيه تفاوت لو وزنا بالطفان لم يضر ذلك القدر فبان أن مثل ذلك معفو عنه، وليس كذلك حال الرطب إذا جف، لأنه يتنااقص تناقصاً بيناً، ويقع بين حالتيه في النقصان تفاوت عظيم.
وكذلك العنب والزبيب فلم يجب أن يكون حكمهما حال التمر الحديث والعتيق وأنوااع االتمور.
فإن قيل: إذا كان الرطب والتمر متساويين في الحاال فلم وجب أن يعتبر الحال المآل نخ؟
قيل له:: لسناا نسلم أنهما متساويان في التمر االجاف، وإنما ساوه بالرطوبة التي هي أجزاء الماء فسقط ما سألتم عنه؟
قال: ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق. والمراد به إذا كان الدقيق دقيق الحنطة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، ولا أحفظ فيه خلافاً.
ووجهه أن أجزاء الحنطة تكون أكثر لأن الحنطة إذا طحنت ازداد كيلها، وهذا مما يوضح قولنا في الرطب بالتمر والعنب بالزبيب.

(71/6)


قال: ولا بأس ببيع العجين، أو الخبز بالدقيق أو الحنطة، وإن حصل فيه التفاضل، وذلك أنه ليس فيهما إلا الجنسية لأن الخبر قد خرج عن االكيل إلى أن صار موزوناً، وكذلك العجين فلم يحصل فيهما إلا جزء من علة الربا، وإنما يمنع النسأ دون التفاضل.
قاال: ولا يجوز بيع الحنطة المبلولة بالحنطة المقلوة، وذلك لما بينهما من التفاوت، لأن المبلولة أجزاؤها أقل من أجزاء المقلوة، لأن المبلولة لا تساوي المقلوة لما فيها من أجزاء الماء. فالكلام في الرطب بالتمر.
بيع الأقمشة وبيان أجناسها)مسألة:
قال: والثياب مختلفة الأجناس، فالخز مع تنوعه جنس واحد، وكذلك المروية جنس واحد، وكذلك القصب والوشي.
قال: ولا بأس ببيع الثياب إذا اختلفت أجناسها واحداً بواحد، وواحداً باثنين معجلاً ومؤخراً. فإن ككان من جنس واحد جاز التفاضل وحرم النسأ، وكذلك القول في غير الثياب.
ما قلناه من الإختلاف والإتفاق في أجناس الثياب لأنها فروع من أصول هي مختلفة الأجناس، لأنها تكون من القطن والكتان والإبريسم والخز ونحو ذلك.
والذي يبين أنها أجناس مختلفة أن الزكااة تجب في بعضها ولا تجب في بعض، لأنها لا تجب في الإبريس والخز والصوف، وتجب في الكتان والقطن. ثم االقطن والتكان لا يجب ضم بعضها إلى بعض كما لا يجب ضم الشاء إلى الإبل والبقر، وذلك أنهما جنسان مختلفاان، وكذلك اختلاف أحوالهما على المناظر دال على ذلك، والإبريسم والخز والصوف أيضاً مختلفة، لأن الصوف من الضأن، وهو مخالف للدود والخز، وكذلك االدود والخز مختلفان لما ذكرنااه.
فإذا ثبت ما قلناه في اصول الثياب ثبت ذلك في الثياب مكا قلنا في اللحوم والألبان.
وأما ما ذكرنااه من كيفية جواز بيع بعضهاا ببعض فقد تقدم القول فيه فلا وجه لإعادته.
قال: والحديد كله جنس واحد، وكذلك النحاس والرصاص.
ووجهه أنها لا تختلف على الناظر في المعاني المقصودة بها إليها، وفي الإسم الأخص على ما مضى القول فيه فلا وجه لإعاادته.

(71/7)


مسائل في أنواع من البيوع
مسألة:
قال: ولا بأس أن يشتري حيوان بحيوان مثله أو خلافه مع نقد.
قد بينا فيما تقدم أنه لا بأس أن يشتري الحيوان بالحيوان سواء كانا جنسين أو مختلفين يداً بيد فإذا ثبت ذلك فدخول النقد إن لم يزد البيع تأكيداً لم يكسبه ضعفاً فوجب أن يكون ذلك على ما قال.
قال: ولا بأس أن يشتري ثوباً ودرهماً بدينار، وهذا صحيح على ما بيناه.
قال: ولو قال: اشتريت منك هذا الثوب بدينار إلا درهماً كان ذلك والأول سواء.
أعلم أنه أجرى قوله: اشتريت منك هذا الثوب بدينار إلا درهما مجرى قوله اشتريت الثوب والدرهم بدينار.
ووجه أن من أصلنا حمل عقود المسلمين على الصحة منى أمكن ذلك واحتمل اللفظ معنى يصح، أو احتمل صرفه إلى معنى صحيح.
فإذا ثبت ذلك وأردنا حمل هذا اللفظ على معنى صحيح لم يخل من أن يقول قد بعتك هذا الثوب بدينار قد حط منه ما قيمته الدرهم، أو يقول: إن معناه بيع الثوب ودرهم بدينار، ولم يجز حمله على أنه ثوب بدينار قد حط منه ما يكون قمية لدرهم لما فيه من الجهالة، ولأنه يحتاج إلى ضرب من الإجتهاد فلم يبق إلا ما قلناه فكان حمل اللفظ عليه أولى.
قال: ولا بأس على هذا أن يشتري ثوباً بدينار إلا مكوك طعام.
ووجهه ما بيناه في المسألة التي قبلها.
مسألة:
قال: ولا بأس بالشتراء أرض بالحنطة أو الدراهم والحونطة إذا لم يكن فيها حنطة قائمة.
وهذا لا اشكال فيه إذ ليس مع المبيع شيء من جنس الثمن.
قال: فإن كان فيها حنطة قائمة لم يجز أن يشترى بالحنطة وحدها ولامع غيرها، فإن كانت الحنطة التي اشتري بها الأرض أكثر من الحنطة القائمة في الأرض جاز ذلك تخريجاً.

(71/8)


وهذا محمول على أنه لا يعلم أن الحنطة المشترى بها أكثر من الحنطة القائمة القائمة في الأرض إن اشتري بالحنطة وحدها، وإن كانت اشتريت بها مع غيرها من العين أو الورق كان محمولاً على أن تكون الأرض اشتريتوحدها بالعين أو الورق، والحنطة بالحنطة من غير أن يعلم التساوي فيهما فيكون الفساد راجعاً إلى الشراء بالحنطة، ويصح بيع الأرض بالعين أو الورق.
فأما إن شريت الأرض وفيها حنطة بالحنطة فيجب ان لا يصح البيع إلا أن تكون الحنطة مثلاً بمثل، وما فضل من الحنطة كان ثمناً للأرض على ما بيناه في مسالة الزبد باللبن والزبد.
قال: ولا بأس أن يشترى بغير الحنطة مما يكال يداً بيدٍ ولا يجوز نسأ، وذلك لأن ما يكال لا يجوز أن يباع بما يكال نسأ على ما مضى القول فيه.
وإن باع أرضاً فيها حنطة بأرز نسأ كان قد باع حنطة بأرز نسأ وذلك لا يجوز، وإنما يجوز ذلك يداً بيد.
قال: وأما ما يوزن فلا بأس أن يشترى به يداً بيد ونسأ.
وذلك أنه لم يحصل بينهما شيء مما يوجب الربا لا الجنس ولا الكيل، لأن أحدهما إذا كان مكيلاً، والآخر موزوناً لم يشتركا في شيء من أوصاف علة الربا.
قال: وكذلك القول في سائر الزروع القائمة في الأرض، وقد مضى بيانه فلا حاجة بنا إلى إعادته.
قال: فإن بيعت الأرض واستثنى زرعها فلا بأس بجميع ذلك، وذلك أن الزرع إذا استثني، ولم يعقد البيع عله كان الألاض هي المبيعة على الإنفراد فصح بيعها بجميع ما تقدم يداً بيد ونسأ إذ لم يحصل هناك شيء من أوصاف علة الربا.
إعادة الكيل والوزن للبيع والشراء
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اشترى مكيلاً أو موزوناً بكيل معلوم أو وزن معلوم لم يكن له أن يبيعه حتى يستوفيه بكيله أو وزنه، وإذا باعه وجب إعادة كيله أو وزنه.
وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري).

(71/9)


ومن طريق الإعتبار أنه لا يتعين حقه إلا بأن يكتاله لجواز أن يزداد أو ينقص إذا كيل، فصار قبل الكيل وإن قبض في حكم مالم يقبض إذ الإستيفاء يجب أن يقع بالكيل فما لم يكتل فكأنه لم يقبض في الحكم.
وكذلك الموزون يجوز أن يزداد أو ينقص إذا وزن، فإذا اشتراه وزناً ولم يزنه لم يكن في الحكم قابضاً.
وهكذا المشتري الثاني إذا اشترى منه مكيلاً أو موزوناً لا يتم بيعه إلا أن يكيل المكيل، أو يزن الموزون، لأن القبض لا يتم إلا بهما على ما بيناه، ولا يتم البليع إلا بالقبض، ألا ترى أن المكيل إذا كيل مرة أخرىلم يمتنع أن يزيد أو ينقص فلذلك قلنا: إن المشتري الثاني أيضاً لابد له من كيل أو وزن.
على أنه إذا ثبت انه قبل الكيل أو الوزن لا يكون قابضاً حقه على التحقيق أبطلنا البيع قبلهما لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( أنه نهى عن البيع قبل القبض)، وما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل القبض).
ورى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال: ( إذا اشتريت شيئاً مما يكال أو يوزن فقبضته فلا تبعه حتى تكتاله أو تزنه)، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
قال: والبيع والإقالة والتولية فيه سواء.
أما التولية فهي بيع لا خلاف فيه فوجب أن تكون هي والبيع في ذلك لاتختلف.
وأما الإقالة فهي عندنا بيع على الوجوه كلها.
قال زيد بن علي عليهم السلام: الإقالة بمنزلة البيع والتولية بمنزلة البيع.
وحكي عن مالك أنه يقول به.
وقال أبو حنيفة: الإقالة فسخ في حق المتعاقدين قبل القبض وبعده، وعن أبي يوسف بعد القبض بيع مستقل، وكذلك إذا وقعت قبل القبض.

(71/10)


ويدل على أنها بيع قول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، فاقتضى الظاهر تحريم أكل مال الغير إلا أن تكون تجارة عن تراض والتجارة اسم للبيع والشراء. فلما ثبت أن البائع يحل له ما باع بالإقالة عن تراض ثبت أنها بيع عن تراض. وأيضاً لما عاد إلى صاحبه الأول بتراضيهما على عوض معلوم وجب أن يكون ذلك بيعاً مستأنفاً.
دليله لو عاد بثمن من غير جنس الثمن الأول، أو عاد إليه بلفظ البيع.
وأيضاً قد ثبت أنها بيع في حق الشفيع يثبت بها وجوب الشفعة فوجب أن يكون بيعاً في حقهما دليله البيع لما كان بيعاً في حق غير المتعاقدين كان بيعاً في حق المتعاقدين.
دليله أيضاً الهبة على العوض كما كان بيعاً في حق الغير كان بيعاً في حقهما.
فإن قيل: الإقالة رفع لذلك كما قيل: أقال الله عثرته فوجب أن يكون ذلك رفع البيع وهو الفسخ؟
قيل له: ليس الأمر على ما ذكرت، لأن إقالة العثرة ليست رفع العثرة، لأن العثرة قد حصلت فلا يصح رفعها وإنما المراد بها اسقاط العقاب المستحق فكذلك الإقالة في البيع تتضمن اسقاط الثمن المستحق فكذلك الإقالة في البيع تتضمن اسقاط الثمن المستحق بالبيع سواء كان على وجه المقاصة بأن يستحق المشتري عليه بمثل ثمنه، أو بغير ذلك، وإذا كان هذا هكذا لم يكن في لفظ الإقالة دليل على أنها فسخ، وإنما يدل على ما قلنا.
فإن قيل: إنها تصح بغير تسمية الثمن ولو كان بيعاً لم يصح بغير تسمية الثمن؟
قيل له: الإقالة تتضمن التسمية وإن لم يتلفط بها على ما بينا من أن معناها اسقاط المستحق من الثمن، وإذا كان ذلك كذلك لم يمتنع أن تكون بيعاً.
ألا ترى أن التولية تصح من غير تسمية مقدار الثمن وإن كان ذلك لا يصح في سائر البياعات لما ان معنى التولية يتضمنه حتى يكون في حكم المنطوق، فكذلك الإقالة يتضمنها معنى تسمية الثمن.
فإن قيل: لو كانت الإقالة بيعاً مستأنفااً لما صحت قبل القبض؟

(71/11)


قيل ل: الأظهر على مذهب أصحابنا أنها لا تجوز قبل القبض لتنصيص يحي عليه السلام في المسألة التي نحن فيها أن الإقالة لا تصح فيما يكال حتى يكال فيسقط عنا هذا الإلزام.
على أن الأقرب أنه قول زيد بن علي، لأنه قال عليه السلام يصححها ما يصحح البيع، وفسدها ما يفسد البيع، على أن جميع ما ألزمونا يلزمهم في حق الغير، لأنها عندهم في حق الغير بيع مستأنف.
فإن قيل: لو كان بيعاً لم يجز في السلم قبل القبض.
قيل له: لا يمتنع أن نقول: إنه في السلم قبل القبض فسخ، لأنه لا يتعلق عليه شيء من أحكام البيع المستأنف، ولأنه لا يعود إلى ملك صاحبه شيء عن من خرج من ملكه أعني المسلم إليه وإنما يسقط عن ذمته ما كان ثابتاً فيها فلم يصحل فيها إذا كانت في المسلم شيء مما دللنا على أنها بيع فلم يجب أن يكون بيعاً فيه.
مسألة:
قال: والمستحب لمن باع مكيلاً أن لا يشتري بثمنه مكيلاً سواه قبل الثمن ومعناه مكيلاً من جنسه.
ووجه الإستحباب فيما ذكر أنه يكون أبعد من تهمة الربا ومشابهته، لأنه إذا أعطاه صاعين تمراً ردياً، وعقد عليه البيع بثمن معلوم ثم اشترى بذلك الثمن صاعاً من تمر جيد قبل قبض الثمن يكون كأنه توصل إلى معنى الربا بذكر الثمن، لأنه لا يبطل البيع بذلك، لكن استحب ما ذكرناه للوجه الذي بيناه.
قال: فإن اشترى بثمنه قبل قبضه موزوناً أو شيئاً مما لا يكال ولا يوزن لم يكن به بأس.
وكذلك القول في من باع موزناً، وذلك أنه إذا اشترى بثمن المكيل الموزون لم يكن فيه تهيمة الربا، إذا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً، فأولى أن يجوز ولا يكره لدخولا الثمن بينهما.
وأما الموزون في هذا الباب في أنه لا يشترى به موزوناً من جنسه من قبل قبض الثمن استحباباً فهو كالمكيل للوجه الذي بيناه.
بيع اللحم بالحيوان
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع اللحم من أي جنس كان بحيوان يؤكل لحمه.

(71/12)


الأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع اللحم بالحيوان، وكان القياس أن ذلك يجوز، لأن الحيوان لايجري فيه تحريم التفاضل على ما مضى القول فيه، لأنه لا يحصل فيه وصفاً علتي الربا.
ألا ترى أنه لا يتأتى فيه الكيل والوزن، بل لا يحصل فيه إلا الجنسية، فكان الواجب أن يحمل ذلك على المذبوح، واللحم الذي من جنسه كما كان يذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف. ثم روي أن جزوراً نحرت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني منه بهذا النعاق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا.
وقيل: ذلك عن ابن عباس أيضاً. ولا يجوز أن يكونا قالاه إلا نصاً إذ النظر لا يقتضيه.
على أنهما لو كانا قالا ذلك اجتهاداً فلا يعرف فهما مخالف في الصحابة فجرى مجرى الإجماع. فلما ثبت ذلك حملنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك.
وقلنا: لا يجوز بيع اللحم من أي حنس كان بشيء من الحيوان الذي يؤكل لحمه، وبقينا مالا يؤكل لحمه على القياس.
وقلنا: بإجازته لأنهما قلا لا يصلح لحم الجزور بعناق فكأن فيه أن اللحم وإن كان من جنس مخالف لذلك الحيوان، فإنه لا يجوز أن يشترى به إذا كان مما يؤكل لحمه.
وما قلنا في هذا به قال الشافعي.

(71/13)


بيع المزابنة
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع المزابنة وهي بيع التمر في رؤس النخيل بتمر مكيل، أو غير مكيل، وأشار القاسم إلى أنه يجوز في العريا.
قال: وهي النخلة والنخلتان والثلاث والعشر.
قال: والعرايا هي العطايا يعطيها صاحبها فعجني رطباً.
والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع المزابنة، وهي بيع التمر في رؤس النخل بتمر، وروي ذلك بطرق شتى.
ورواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المحاقلة والمزابنة).
ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر إلا مثلاُ بمثل كيلاُ بكيل، ولأنه لو كان موضوعاً على الأرض كان لا يجوز أن يباع بتمر مجازفة حتى يستويا في الكيل، فكذلك إذا كان على رؤس النخل، وهذه الجملة لا خلاف فيها، وهو أيضاً مقيس على ما زاد على خمسة أوسق.
والعلة أنه بيع التمر بالتمر من غير تجقق المساواة بينهما، أو لأنه بيع تمر على لاؤس النخل بتمر.
واختلف في العرايا فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن العرية هي العطية، وبه قال مالك.وإياه عنى القاسم فيما ذكر.
وقال الشافعي: هي بيع التمر على رؤس النخل بخرصها من التمر فقال: وهي مشتقة من أعراء بعض النخيل من بعض، وهو الإفراد، قال: وذلك جائز فيما دون خمسة أوسقق فكل ما ذكرنا من الأثر والنظر يدل على فساد ما قال، وفيه أيضاً أنه مقيس على بيع الحنطة في المزرعة بخرصها حنطة قد حصدت بعلة أنهما جنس مكيل فلا يجوز بيع ببعض إلا مثلاً بمثل.
فإن قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في العرايا، روي عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في العرايا ونهى عن بيع التمر بالتمر).
وحدثنا زيد بن ثابت: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في العرايا).

(72/1)


وروي عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في العرايا بالتمر أو الرطب، وروي نحوه عن جابر وأبي هريرة: أنه صلى الله عليه وآله وسلم رخص في العريا فيما دون خمسة أوسق، أوفي خمسة أوسق، شك الراوي.
قيل له: هذه الأخبار تحتمل ثلاثة أوجه: أحدهما ـ ما ذكره أبو العباس الحسني رضي الله عنه في النصوص أن معناه أن يعطي الرجل نخلات من النخيل لتجني رطباً بثمن مؤجل، وفيه ترخيص للمحتاجين الذي يشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الرطب يأتيهم ولا نقد في أيديهم فرخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شراء ما دون خمسة أوسق بثمن مؤجل لئلا يلحقهم الضرر بإخراج العشر، لأن من أصل يحي عليه السلام أن المشتري إذا اشترى ما يجب فيه العشر كان عليه أن يخرج العشر، وأن يرجع بثمنه على البائع.
قال: والخرص راجع إلى ما على رؤس النخل، ومعنى الخرص الإحتراز من لزوم العشر.
وحكى الطحاوي، عن عيسى بن أبان أنه قال: إن العرية هي الهبة قبل التسليم، وهي لم تصر ملكاً للمعرى، قال: ولا يجوز لأحد أن يأخذ بدلاً لما لا يملك فيملكه، والتمر الذي يأخذ المعري بدلاً عن عريه لم يملكها. يطيب له، ويملكه بهذه الرخصة التي في هذا الخبر.
وذُكِرَ فيه وجه ثالث، وهو أن المعري هو الواهب لتلك النخل أراد الرجوع قبل التسليم، وقد كان حين وهب تضمن تلك الهبة التسليم فكأنه وعده، ويكره للمسلم الإخلاف في الوعد، وكذلك للموهوب له أخذ عوض مالم يملكه فأجاء الخبر ذلك، فأخرج المعري من ان يكون خالف الوعد، وأجاز للمعري تناول مالم يملكه، ويسمى ذلك بيعاً على طريق المجاز لاشتماله على المعاوضة.
فإن قيل: كيف يستقيم هذان الوجهان على مذهبكم وعندكم أن الهبة تصح من غير قبض.
قيل له: يصح ذلك من وجهين: أحدهما ـ أنا نجوز الرجوع فيها وإن كرهناه.
فدل هذا الخبر على أنه لا يكره إذا عوض المعري.

(72/2)


والثاني ـ أنا لانصحح الهبة إلا بالقبول فنجعل بدل قولهم التسليم القبول كان ذلك قبل القبول فتستتم التأويلات والله أعلم.
فإن قيل: لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نهى عن بيع المزابنة ورخص في العرايا) وجب أن يكون ذلك مستثنى من جملة البيع.
قيل ل: لا يجب ذلك، لأن كل واحدة من اللفظتين يستقل بنفسه، فلا يجب أن يجري مجرى الإستثناء، ويجوز أن يكون بعض الرواة تأول ذلك على ما قاله الشافعي، واستثنى ذلك من عند نفسه.
فإن قيل: فما فائدة ذكر الأوساق على التأويلين الآخرين؟
قيل له: يجوز أن تكون تلك الرخصة اتفقة في ما دون خمسة أوسق فروى أبو هريرة على ما شاهد لا لأن للأوساق فيه تأثيراً، على أن حمل الخبر على ما قلناه أولى، لأن سائر الأخبار تعضده، والقياسات تؤكده، والأصول تشهد له.
لأن شيئاً من المكيل ولا الموزون عندنا، ولا المكيل عند الشافعي لا يجوز بعضه ببعض خرصاً، بل لا يجوز إلا مع العلم بالمساواة.
ويؤكد ذلك ما روي: (تحققوا الخرص فإن في المال العرية والوصية)، وقد علمنا أن المراد به ليس هو البيع، لأن التخفيف (التحقيف) لا يجب من أجل البيع.
فإن قيل: فقد روي أنه رخص في بيع العرايا، وشيء مما ذكرتموه ليس ببيع؟
قيل له: لا سمتنع أن يجري عليه اسم البيع كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}، ثم قال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِيْ بَايَعْتُمْ بِهِ}، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِيْ لَهْوَ الْحَدِيْثِ}، وقال: {وَلا تَشْتَرُوا بَآيَاتِيْ ثَمَناً قَلِيْلاً}، ومنه قيل للبيعة بيعة وكل مستعمل على طريق التجوز على التشبيه بالبيع، وكذلك ما سألتم عنه للأدلة التي بيناها.

(72/3)


على أنهم إذا قالوا بذلك قالوا بتخصيص العلة مع إنكارهم له، لأنهم لا يجيزون المأكول الجنس إلا مثلاً بمثل، ولا يجيزون الوصول إلى التماثل بالخرص فقد أجازوا في هذه المسألة فقد ناقضوا أصولهم.
والبيع على غير المماثلة والتوصل إلى المماثلة بالخرص.
[توضيح المراد بلإفتراق في البيع]

(72/4)


باب القول في خيار البيعين
البيعان بالخيار مالم يفترقا تفرق الأقوال، ولا معنى لتفرق الأبدان.
وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك. وقالت الإمامية: التفرق تفرق الأبدان، وبه قال الشافعي.
والذي يدل على صحة قولنا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقد عقداً البيع بينهما من غير شرط الخيار فلو جعلنا لهما الخيار كنا أجزنا لهما ترك الوفاء بما عقدا، وذلك خلاف ما تضمنت الآية.
ويدل على ذلك قول الله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}، والتجارة هي البيع والشراء، وقد حصلا عن تراض فوجب أن يجوزللمشتري أكله واستهلاكه، والقول بخلافه للخيار مخالف للآية.
وقال: (وأشهدوا إذا تبايعتم)، والغرض به التوثقة وإثبات الخيار له بعد العقد، والإشهاد أبطال للتوثقة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه)، فتضمن ذلك أجازة البيع بعد القبض من غير ذكر الخيار.
ومثله ما روي: (أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري).
وروي عنه عليه السلام: (أنه لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)، فعلق العتق بالشراء من غير اشتراط الإفتراق بدل على أن الملك يستقر بنفس العقد.
ويؤكد ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون عند شروطهم)، لأن كل واحد منهما دخل في العقد للتمليك بنفس العقد.
وروي: (من باع عبداً فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، فجعله للمبتاع بالشرط من غير التفرق.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (البائعان بالخيار مالم يتفرقا)، فجعل لهما الخيار قبل التفرق.

(73/1)


قيل له: وقد روي: (المتبايعان بالخيار)، وهذان الإسمان لا يكونان ثابتين لهما إلا في حال الفعل، لأن اسماء الفاعلين إنما يكون اسماء للفاعلين على الحقيقة في حال الفعل، وأما بعد تقضي الفعل، فإنما يجري ذلك الإسم عليهما على سبيل المجاز، وهذا كقول القائل في رجلين: إنهما متحاربان أو متقاتلان أو متضاربان في أن ذلك لا يستعمل إلا في حال كونهما كذلك.
يؤكد ذلك أنهما لو تفاسخا بعد البيع كانا متفاسخين فلو كان الإسم يبقى بعد الفعلا كانا في الحقيقة متفاسخين متبايعين، وذلك تناقض فصح ما قلناه.
وإذا صح ذلك ثبت أن المراد بقوله: (البيعان)، وقوله: (المتبايعان)، االمتساومان لأن السوم يعبر به عن البيع كما روي عنه عليه السلام: (لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه)، وفي خبر آخر: (لا يسومن على سسوم أخيه)، فعبر عن السوم تارة بالبيع، وتارة بالسوم فعلم أن البيع يستعمل في السوم، وروى نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يفترقا إلا بيع الخيار)، فلم يجعل بينهما عليه السلام بيعاً حتى يفترقا، وقد سماهما متبايعين، فعلم أن المراد به المتساومان. إذ لا خلاف أن البيع واقع بنفس عقد الإيجاب والقبول.
قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الِّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةِ}، وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِيْنَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا}، وقال: {إِنَّ الَّذِيْنَ فَرَّقُوا دِيْنَهُمْ وَكاَنُوا شِيَعاً}.
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، والمراد بجميع ذلك تفرق الأقوال فوجب أن ينقطع الخيار عند حصول أول جزء منه، كما ان إباحة الأكل والشرب لما جعلت غايتها للصائم وقت طلوع الفجر كان أول جزء من الفجر قاطعاً للغاية، وذلك حكم العادات أأجمع.

(73/2)


فدل ذلك على إنقطاع خيارهما عند حصول تفرق االأقواال على أن تفرق الأبداان لا تأثير له مع عدم تفرق الأقوال فبان أن الحكم يتعلق بتفرق الأقول، إذ التاثير له دون تفرق الأبدن لم يجب فيه ما ذهب إليه مخالفنا، لأنه يحتمل أن يكون المراد به أن البائع إذا قال: بعتك فللمشتري قبوله في المجلس مالم يفارقه إذا لم يعرضا عنه، ويأخذا في غيره، وللبائع االرجوع فيه مالم يقبله المشتري فإن افترقا قبل القبول عن المجلس بطل لإيجاب، ولم يكن للمشتري القبول فيكون هذا الخيار مقصوراً على المجلس.
فإن قيل: التفرق إذا أريد به الحقيقة فهو تفرق الأبدان دون تفرق الأقوام فعليها يحمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك قوله: (البيعتان بالخيار)، فهذا الإسم لا يكون حقيقة إلا بعد حصول البيع.
قيل له: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك قول الله تعالى حملهما على ما جعله العرف حقيقة دون ما يوجبه أصل اللغة والإشتقاق والعرف عرفان عرف اللغة وعرف الشرع كما قلنا ذلك في الغائط والدابة والصوم والصلاة.
فإذا ثبت ذلك فقد علمناا أن عرف اللغة قد جعل التفرق حقيقة في الأقوال إذا استعمل فيما يكون مخاطبة ومفاوضة حتى لا يعقل عند الإطلاق إلا ذلك فوجب حمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيماا اختلفنا فيه على تفرق الأقوال، كما يجب أن يحمل قول القائل: فلان وفلان اتفقا في كذا ثم افترقا على تفرق القول، لتعلق ذلك بالأقوال، كذلك البيعان فلا بد من أن يدخلهما المجاز على المذهبين جميعاً، لأن حقيقة الأسماء المشتقة من االأفعال لا تستعمل حقيقة في الفاعلين إلا حال الفعل كالمصلي والقائم والقاعد، وما جرى مجاها، والبيع لا يحصل إلا بخروجهما من حقيقة البيعين فلا بد من أن يكون ذلك على مذهبهم مجازاً، كما أنه إذا استفمل في اسم السوم كان مجازاً، فلما استويا في هذا الوجه لم يكن لهم به تعلق.

(73/3)


فإن قيل: فقد روي في بعض الأخبار: (حتى يفترقا عن مكانهما الذي عقدا فيه).
قيل له: ذلك محمول على الوجه الذي قلناه من خيار الشرط في المجلس.
فإن قيل: فقد روي: (البيعان بالخيرار مالم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه إختر).
قيل له: معناه أن الخيار يبطل بالتفرق إلا أن يجعل أحدهما لصاحبه شرطاً كان الخيار ثابتاً، أو يستعمل بمعنى إلا أن كما تقول: لا تدخل الدار أو يأذن لك صحبها معناه إلا أن يأذن لك، وكذلك تقول: لا تصل أو تتطهر، معناه إلا أن تتطهر، ويدل على ذلك أن البيع هو الإيجاب والقبول فمتى حصلا أوجب أن يكون البيع تاماً لا خيار فيه دليله الخلع والنكاح.
والمعنى أن كل واحد منهماا إنما هو القبول والإيجاب فلم تفتقر صحة واحدة منهما إلى غير القبول والإيجاب فكذلك البيع.
ويشهد له العتق على مال والكتابة، وإن شئت قلت: هو عقد معااوضة فيجب أن لا يفتقر صحته إلا إلى الإيجاب والقبول، وليس يلزم على ذلك الهبة إذ الهبة عندنا غير مفتقؤة إلى القبض وصحتها بالقبول والإيجاب عندنا فقط.
وأيضاً لو كان الخيار موجباً عن عقد البع كان يجب أن لا يصح عقد االصلاف، لأن من شرط صحته أن يتفرقا وليس بينهما شيء، كما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الصلاف لا بأس مالم يفترقا وبينهما شيء فلو لم ينبرم العقد حتى يفترقا وكان التفرق وبينهما خيار يفسد الصرف كان لا يصح الصرف بتة على وجه من الوجوه.
ويمكن أن يجعل الصرف أصلاً نقيس عليه فنقول: لما كان قعد الصرف لا يفتقر صحته إلى تفرق الأبداان، ولا يثبت به الخيار فكذلك ما اختلفنا فيه.
والمعنى أنه عقد بيع أو عقد معاوضة.
وحديث مجاهد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا باع أو اشترى خير صاحبه دليل على ما بيناه، لأن الخيار لو كان ثابتاً بالعقد لم يكن للتخيير معنى.

(73/4)


ولا يجوز أن يقال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يريد قطع الخيار لأنه من الإستقصاء والتشدد، وخلاف التفضل، وخلاف ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يحب العبد يكون سهل البيع سهل الشراء).
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اشترى ثياباً أو سلاحاً أو طعاماً أو حيواناً أو غير ذلك من غير أن كان رآه ورؤية مثله فله الخيار رؤيته. فإن شاء فسح البيع، وإن شاء أمضاه.
وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وأحد قولي الشافعي كذلك، وله قول آخر: إن البيع باطل إذا لم يكن رأي المبيع والحجة فيما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَمَ الرِّبَى}، ولم يشترط الرؤية، وقال: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}، وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}، ولم يذكر الرؤية.
ويدل على ذلك ماروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن تلقي الجلب وقال: (لاتلقوا الجلب فمن تلقى فاشترى شيئاً فهو بالخيار إذا أتى السوق)، ولا وجه لهذا الخيار إلا خيار الرؤية، لأن العادة أن المتلقي يشتري الطعام وهو في الوعاء، ثم يفتحه إذا دخل السوق، ولم تجر العادة بأن تفتح الأوعية، وهي على الظهر، وهم في الطريق.
وروي أن عثمان باع مالاً بالكوفة من طلحة بن عبيدالله فقال طلحة: لي الخيار لأني اشتريت مالم أره، وقال عثمان: لي الخيار لأني بعت مالم أره فحكما بينهما جبير بن مطعم فقضى بالخيار لطلحة، وأجمع هؤلاء الثلاثة على أن الإنسان يجوز له شراء مالم يره، ولا يعرف مخالف في الصحابة فجرى مجرى الإجماع.
فإن قيل: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر، وشراء مالم يره من الغرر، ونهى عن بيع الملامسة: وهو الثوب المطوي.
قيل له: ليس يدخل في الغرر بأن لا يكون المشتري رآه فقد يعلم الشيء من غير الرؤية، ويتحقق، ويخرج عن حد الجهالة.

(73/5)


ألا ترى أنه لا خلاف في جواز البيع بثمن لم يره، وكذلك السلم يجوز العقد عليه ولم ير فبان أن ذلك ليس بغرر فلم يصح إدخال ذلك في النهي عن بيع الغرر.
وأيضاً فبيع الملامسة فليس هو بيع الثوب المطوي، بل ذكر العلماء أنه بيع كان في الجاهلية، وذلك أنه كان يتساوم الرجلان السلعة فأيهما لمس صاحبه وجب عليه البيع منه، وقيل: إذا لمس المبيع أو أمأ بيده إليه وجب البيع فلا معنى لحمله على ما قالوا.
وأيضاً النكاح على مال لم ير، والخلع على مالم لم ير جائز فكذلك البيع، والمعنى أنه عقد معاوضة فلم يجب أن تكون الرؤية شرطاً في جواز، وأيضاً لا خلاف أن الثمن يصح وإن لم يره البائع كذلك المبيع، وإن لم يره المشتري.
والعلة أن رؤية من يملك ليس بشرط في صحة تملكه إذ لا خلاف في جواز شراء الباقلاء في قشره والجوز واللوز، وإن كان المشتري لم ير المقصود بالشراء، وكذلك سائر الأشربة، على أن عدم الرؤية من جهالة الصفة، وجهالة الصفة ليس أكثر من عدمها، ويجوز شراء العبد على أنه صحيح، وإن كان به عمى أو كان مقطوع اليد أو ما أشبه ذلك فأولى أن يجوز الشراء وإن لم يره.
فإن قيل: لو كان العقد جائزاً لم يرد بخيار الرؤية.
قيل له: هذا منتقض بجواز رده بخيار العيب وخيار الشرط، وإن كان العقد جائزاً، فإذا صح العقد بما بيناه فلا خلاف بين المجيزين له أن له خيار الرؤية.
وما روي أن جبير بن مطعم حكم به على عثمان دليل على ما قلناه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من اشتراء جلباً أن له الخيار إذا دخل السوق).
قال يحي بن الحسين عليه السلام في الفنون: إنه إذا وجده على الصفة التي وصفت له فلا خيار له.

(73/6)


وحكى ابن أبي هريرة أن ذلك قول بعض أصحابهم إذا قالوا بخيار الرؤية، وضعف ذلك فقال: الصحيح هو أن للمشتري الخيار على كل حال وهو الصحيح الذي ذكره، وأطلقه في الأحكام دون ما ذكره في الفنون لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل لمشتري الجلب الخيار إذا دخل السوق ولم يشترط أن يكون ذلك له إذا لم يجده على النعت الذي نعت، وكذلك جبير بن مطعم وطلحة، ولم يشترطا فيه أن يكون المشترى على النعت الذي نعت أو لا يكون فصح ما قلناه.
الشروط لصحة الخيار
مسألة:
قال: وكل بيع يعقد على خيار لا يعلم أمده فوه فاسد، وهذا مما لا خلاف فيه لأنه يقتضي الجهالة في العقد، لأنه لا يدري متى يستقر العقد إن استقر، ولا متى يبطل إن بطل فيصير العقد مجهولاً، ويشتمل أيضاً على الغرر، وإلى تعليق حكم المبيع والثمن أبداً فلذلك بطل.
خيار الشرط
مسألة:
قإن عُقِدَ البيع على خيار إلى أمد معلوم جاز البعي والخيار سواء تطاول الأمد أو تقااصر بعد أن يكون محدوداً معلوماً.
أما خيار الثلاثة فلا خلاف فيه.
والأصل فيه ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثاً، وإن رجلاً أتاه فقال: يارسول الله إني أخدع في البيع واالشراء)، فجعله فيما باع واشترى بالخيار ثلاثاً، وما زاد على الثلاثة وإن كان معلوماً ففيه خلاف قال زيد بن علي عليما السلام: ولا يجوز الخيار أكثر من ثلاثة أيام، وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال أصحابنا: يجوز إن كان إلى وقت بعينه وإن طال أمده. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
ووجهه ما أجمعوا عليه من أن شرط خيار ثلاث يصح ويصح البيع معه فكذلك. ما زاد على ذلك إذا كانت مدة الخيار مدة معلومة، والعلة أنه اشترط لنفسه الخيار إلى أمد معلومه فثبت أن الخيار المعلوم إلى المدة يجب أن يكون صحيحاً.

(73/7)


يدل على صحة ذلك أن الخيار متى لم يكن معلوم المدة فسد البيع فبان أن صحته تعلق بكون المدة معلومة.
ويدل على ذلك ما روى بان عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: البيعان بالخيار مالم يفترقا، إلا بيع الخيار، وما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (البيعان بالخيار مالم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار)، فأثبت صلى الله عليه وآله وسلم بيع الخيار وصفقة الخيار من غير اشتراط فيه الخيار على أي وجه يشترط، وبقي الباقي على مقتضى الخبرين.
ويدل عليه قوله صلى االله عليه وآله وسلم: (البعان بالخيار مالم يفترقا)، أو يقول أحدهما لصاحبه إختر ولم يشترط أن يكون الخيار في قليل المدة أو كثيرها فكان دليله كدليل الخبرين الأولين.
فإن قيل: اشتراط الخيار فيه غرر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الغرر فوجب أن لا يجوز من ذلك إلا مقدار ماورد الأثر به، وحصل عليه الإجماع وهو خيار الثلاثة، وبقي ما زاد عليه داخلاً في جملة النهي عن بيع الغرر.
قيل له: الجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما ـ أن مثل هذا لو ثبت فيه ما قلتم لم يجب الإمتناع من القياس عليه فنحن نقيس ما زاد على الثلاث على ما ورد فيه وحصل عليه الإجماع فنخرجه بالقياس من جملة النهي عن الغرر.
والثاني ـ أن اشتراط الخيار إذا كان معلوم المدة فلا يجب أن يكون غرراً، لأنه أبعد من الغرر من خيار الرؤية الذي أجزناه وأجازه أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، ومن خيار الرد بالعيب الذي لا خلاف فيه بين المسلمين، فإذا لم يكن فيهما غرر فأولى أن لا يكون في الخيار المعلوم المدة غرر، لأن هذين الخيارين لا يعلم أمدهما، ومالا يعلم أمده أدنى إلى الغرر مما يعلم أمده.

(73/8)


وأيضاً البائع والمشتري دخلا في خيار الشرط على بصيرة، وعلى العلم بغاية مدة الخيار فوجب أن يكون أبعد من الغرر من خيار الرد، لأنهما لزمهم ذلك من غير إختيارهما، ومن غير بصيرة به، ولأنه لا علم بأنه يحصل أولا يحصل، ولا علم بالمدة، وكذلك خيار الرؤية على ما بيناه فبطل تعلقهم بما تعلقوا به.
مسألة:
قال: ولا فصل بين أن يكون الخيار للبائع أو للمشتري أو لهما جميعاً فيما يفسد به العقد أو يصح، وهذا مما لا خلاف فيه، لأن تاثير الخيار يرجع إلى العقد، ولا معتبر فيه بأحوال المتعاقدين فوجب ان يستوي فيه احوالهما.
مسألة:
قال: وإذا اشترى شيئاً وقبضه واشترط لنفسه خياراً إلى أمده معلوم ثم تلفت السلعة نحو أن يكون حيواناً أو ما جرى مجراه قبل انقضاء مدة الخيار، ولم يكن اختار الرد لزم الثمن، وكانت السلعة من ماله، وكذا إن نقصت السلعة عند المشتري والخيار له، وقال أبو حنيفة مثل قولنا.
وقال ابن أبي هريرة يحتمل وجهين: أحدهما ـ أن على المشتري القيمة.
والثااني ـ أن عليه الثمن مثل قولنا.
أراد بالنقصان حدوث العيب فيها.
والوجه في المسألتين جميعاً أن العيب إذا حدث في السلعة والخيار للمشتري بطل خياره وتم البيع، لأن بطلان الخيار يوجب إتمام البيع، وإذا تم البيع لزمه الثمن.
وإنما قلنا: خياره يبطل لأنه قبضه صحيحاً فلا يجوز رده معيباً، وإذا بطل الرد بطل الخيار، لأن الخيار إنما هو للرد، وكذلك إذا مات بطل خياره في آخر جزء مضى من حياته، لأنه يصير معيباً، ولا يمكن رد المعيب فيلزمه البيع، فإذا مات وجب عليه الثمن، وأيضاً إذا مات أو تلف ن كان ثوباً أو نحوه بطل الخيار، لأن الرد فيه تعذر فبطل الخيار المتعلق به.
فإن قيل: فإذاا قلتم: إن خيار الرد بالعيب لا يبطل بحدوث عيب آخر عند المشتري فلم قلتم: إن خيار الرد المشروط يبطل إذا حدث في يد المشتري عيب فيه؟

(73/9)


قيل له: لأن المعيب إذا سلمه البائع فلم يسلم ما اقتضاه العقد لأنه اقتضى تسليم الصحيح فكأنه في الحكم قد سلم بعض ما اقتضا العقد تسليمه، والعيب فيه يجري مجرى فوات جزء منه، وليس كذلك التسليم مع خيار المشتري لأنه قد سلم ما اقتضى العقد تسليمه موفراً صحيحاً، فإذا حدث فيه العيب لم يجز له رده معيباً، وقد أخذه صحيحاً فبطل خياره، ولزمه البيع، وإذاا صح ذلك بطل قول من يقول: إن على المشتري القيمة دون الثمن، لأنا قد بينا أن البيع قد تم وبطل الخيار قوجب لزوم الثمن له.
مسألة:
قال: ولو تلفت السلعة عند المشتري والخيار للبائع كانت السلعة من مال البائع ولا يلزم المشتري شيء.
قال أبو حنيفة: هو من مال البائع وأوجب القيمة على المشتري، وقال الشافعي بوجوب القيمة.
وإنما قلنا: إنه من مال البائع لأن البائع لم يطلق البيع لم جعل لنفسه خياراً فيه، ولم يرض بخروج الشيء عن ملكه مالم يبطل الخيار. كما لو ساوم ولم يوقع العقد لم يخرج عن ملكه مع أن الخيار له لو وجبت فيه أيضاً الشفعة، ويكشف ذلك أن الخيار إذا كان للمشتري فللشفيع فيه الشفعة لأن الملك قد انتقل إلى المشتري.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا)، وهما لم يتفرقا لأن التفرق حكماً، وإذا ثبت أنه من مال البائع وجب أن لا يلزم المشتري فيه إذا تلف شيء كالوديعة والعارية والعبد المستأجر.
والمعنى أنه قبضه بإذن صاحبه، وهو على ملكه فيمكنه الرجوع فيه متى شاء من غير إن كان حفظه مضموناً عليه، وليس يلزم عليه المغصوب لأن قبضه بغير إذن مالكه ولايلزم عليه المقبوض على بيع فاسد لأنه قد ملكه المشتري، وخرج عن ملك صاحبه عندنا، ولا يلزم الرهن عليه، لأن صاحبه لا يمكنه الرجوع فيه متى شاء، ولا يلزم عليه ضمان الأجير المشترك، ولا العارية المضمونة، لأن الحفظ مضمون فيهما على القابض.
فإن قيل: فقد قبضه على الضمان.

(73/10)


قيل: ذلك غير مسلم لأنه ضمن بشرط انقطاع خيار البائع، ولو صح ذلك أيضاً لم يجب ضمانه، لأنهليس كل مقبوض على الضمان يجب ضمانه كما أن المضارب لو قبض مال المضاربة على الضمان لم يجب الضمان، وكذلك المودع لو قبض على الضمان لم يجب الضمان.
فإن قيل: روي أن عمر أجرى فرسااً أراد أن يشتريه فتلف فحكم عليه شريح بالقيمة، فإذا لزمته القيمة لأنه تلف في يده، وقد أراد أن يشتريه فأولى أن يلزم المشتري، المشتري، وإن كان للبائع فيه خيار لأنه أوكد حالاً ممن أراد الشراء.
قيل له: يحتمل إيجابه أن يكون عمر كان منه في إجراء الفرس جناية، وإن تلفه كان لتلك الجناية فلذلك ضمنه شريح.
مسألة:
قال: فإن زادت السلعة والخيار للبائع كان على خياره ولو نقصت كان للمشتري فيها الخيار.
وذلك أنا قد بينا أن السلعة على ملك البائع فإذا كانت على ملكه لم يوجب زيادتهاا ولا نقصانها خروجها عن ملكه، ولو أبطلنا خياره أوجبنا خروجه عن ملكه.
وقلنأ: إنها إن نقصت صار للمشتري فيها الخيار؛ لأن العيب حدث فيها وهي في ملك البائع فوجب أن يكون للمشتري خيار رد العيب كما أنه لو اشترى معيباً كان له ذلك لأنه يملك بانقطاع خيار البائع والعيب حدث قبل ذلك.
مسأألة:
قال: ولو كان الخيار للبائع والمشتري جميعاً فماتا أو مات أحدهما بطل الخيار وثبت البيع.
تحصيله أن من مات منهما بطل خياره. فإن ماتا جميعاً بطل خياراهما ومن بقي بقي خياره منهم وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: الخيار يورث.
ووجهه أنه حق يسقطه مرور االازمان مع السكوت فوجب أأن لا يورث.
دليله خيار القبول، ويقاس عليه، وعلى خيار الوصي بفسخ الوصية في أنه لا يورث بعلة أنه خيار لا يجوز أن يتحول مالاً كخيار الرد بالعيب، أألا ترى أن العبد المعيب لو مات في يد المشتري رجع على البائع بأرش العيب فيتحول خياره مالاً ويجوز أيضاً أن يصالح عنه على مال فيتحول مالاً.

(73/11)


فإن قيل: الخيار إنما جعل لتدارك ندامة إن لحقت، أو عيب إن ظهر، والوارث والموروث في هذا سواء؟
قيل له: وكذلك خيار القبول جعل ليقبل المشتري إن رأى حظاً، أو يترك إن رأى عيباً، ويستوي في هذا الوارث والموروث، ولا يجب أن يورث فكذلك خيار الشرط.
فإن قيل: هو حق ثبت إلى أن مات من هو له فيجب أن يورث كسائر الحقوق؟
قيل له: هذا منتقض بخيار القبول وخيار الوصية.
قال: وكذلك إن جاز الوقت الذي هو أمد الخيار وسكت بطل الخيار، وهذا مما لا لاف فيه، ولا اشكال، لأن العقد وقف على الخيار إلى تلك المدة فإذا مضت المدة والخيار لم يحصل بطل الخيار، وإذا بطل االخيار ثبت العقد واستقر كما أنهما لو أبطلا الخيار قبل المدة ثبت البيع.
ويقال في الخيار لا يورث إذا مات من له الخيار سقط حقه من الفسخ فوجب أن يستقر البيع دليله إذا سقط بمضي مدة الخيار.
فإن قيل: لسنا نسلم أن حقه سقط لكنا نقول: إنه تحول إلى الوراث؟
قيل له: معنى قولنا: سقط أنه لا يصح منه استيفاؤه على وجه من الوجوه، وهذا الواجب في جميع حقوق الميت.
ألا ترى أنه لو وكل وكيلاً يقوم مقامه في استيفاء حقه بطلت وكالته بموته، ولم يجز أن يستوفيه فبان أن حقه قد سقط.
يوضح ذلك أنه لا فصل بين أن يعقدا على أن له خيار كذا، وبين أن يعقدا على أه إن اختار الفسخ إلى كذا فسخ، لأن كل واحد من اللفظي يقوم مقام صاحبه، وقد علمنا أنه عقد على أنه يفسخ إن اختار وإذا مات بطل الشرط؛ لأنه لا يصح منه الإختيار إذاً بعد الموت، وإذا بطل الخيار بموت البائع ثبت البيع، كما أنه يثبت مبضي المدة لبطرن الخيار.
مسألة:
قال: وإن كان الخيار اللمشتري ومات قبل انقضاء مدته بطل الخيار، لأن الخيار لا يورث، فإن كانت المسألة بحالها ومات البائع كان المشتري على خياره، وإن كان الخيار للبائع ومات قبل مدة الخيار بطل الخيار، وإن مات المشتري والخيار للبائع فهو على خياره، وإن مات البائع والمشتري بطل خيارهما.

(73/12)


وهذه المسائل كلها مبنية على أن الخيار لا يورثن وقد مضى الكلام فيه فلا معنى لإعادته.
مسألة:
قال: وإذا زال عقل من له الخيار ثم ثاب إليه قبل مدة الخيار كان على خياره، وإن لم يثب إليه عقله كان الخيار لورثته.
قلنا: من كان منهم ولياً وبه قال الشافعي.
ووجهه أن حقوقه أجمع باقية، وزوال عقله لا يبطل منها شيئاً، وهو بمنزلة الطقل في أن حقوقه ثابتة، فإذا عجز عن استيفاء حقه وليه فيه مقامه، كالطفل لما لم يصح منه استيفاء حقه قام وليه فيه مقامه، والولي هو الأب أو الجد، أو من نصبه الحاكم له.
مسألة:
قال: ولو أنه ارتد عن الإسلام، ولحق بدار الحرب صار الخيار لورثته، فإن رجع إلى الإسلام قبل مدة الخيار كان على خياره، وإن رجع بعدها بطل خياره، وذلك أن لحوقه بدار الحرب وإن كاان بمنزلة الموت في كثير من الأحكام فليس هو موتاً بالحقيقة، ولا خلاف أن ماله لو اقتسم وهو باق بعينه فرجع إلى الإسلام أنه أولى بمله فبان أن حقوقه لم تنقطع كما تنقطع بالموت لأنه ممن يصح له الرجوع إلى حقوقه على بعض الوجوه فجاز أن يقوم وليه مقامه في مدة الخيار مادام حياً وإن عاد في مدة الخيار فهو أولى بحقه إن كان باقياً. كما أنه ألوى بما كان باقياً من سائر أملاكه وحقوقه.
فإن جاز بعد مدة الخيار فلا خيار له، لأن خياره يكون قد بطل بمضي المدة لأن الخيار لا يبقى بعد مضي المدة.
واالذي يوجبه القياس أن من زال عقله أو اارتد إن كان وليهما أبطل ما كان لهما من الخيار ثم رجع إلى المجنون عقله، وعاد المرتد إلى الإسلام أنهما لا خيار لهما لأن فعله عليهما يجوز في تلك الحال.
مسألة:
قال: وإذا اشترى رجل حيواناً، واشترطا أو اشترط أحدهما الخيار فاختار من له الخيار الرد كان علفه على البائع في أيام الخيار، وإن كان له لبن كان أيضاً للبائع.
وكذلك القول إذا كان المبيع مما يستغل حيواناً كان أو غيره.

(73/13)


ووجهه أن العقد ينفسخ إذا حصل خيار الرد كانه لم يقع يوم وقع فيجب أن تكون السلعة كأنها كانت على ملك صاحبها كما كانت فيجب أن تكون منافعها له ومؤنها عليه كسائر االأملاك لهن ولا يجب أن يكون المشتري متبرعاً بما أنفق، لأنه هو والبائع دخلا فيه على سبيل المعاوضة فيجب أن يستحق العوض بما أنفق.

(73/14)


باب القول في شروط البيع
الشروط التي ينعقد عليها البيع ثلاثة: فشرط يفسد البيع، وشرط مع البيع، وشرط يثبت البيع دونه.
وهذه قسمة لا يخرج عنها شيء من الشروط، ولا خلاف في هذه الجملة، وإنما الخلاف في تفاصيلها، ونحن نبين ما نذهب إليه في كل واااحد من هذه الوجوه.
مسألة:
فالشرط الذي يفسد به البيع هو ما اقتضى جهالة في المبيع نحو أن يبيع الرجل غنماً أو ثياباً أو غير ذلك، واستثنى واحداً لا بعينه، وهذا ممالا خلاف فيه إذ لا خلاف أن الجهالة في البيع يفسده، والجهالة في البيع يفسده، والجهالة في الثمن، وإما أن يكون جهالة في المبيع.
ولا خلاف أن كل واحد من هذه الجهالات تفسد البيع لأنه من الغرر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر، وإذا باع غنماً أو ثياباً واستثنى وااحداً لا بعينه صار المبيع مجهولاً؛ لأنه لا يدري واحد منهما ما الذي تناوله العقد فلا يتميز الذي تناوله العقد من الذي لا يتناوله، وليس هذا مثل ما قلناه في من باع عدلاً على أن فيه مائة ثوب فوجده مائة ثوب، وثوباً فيكون المردود واحداً وسطاً لأن كون االمردود وسطاً يزيل التفاوت فيشبه المكيل والموزون، وها هنا يستثني ما يختاره البائع فيبقى التفاوت الموجب للجهالة.
على أنا ذكرنا هناك وجهاً آخر، وهو أنا قلنا: إنه يحمل على أنه باع مائة جزء وجزء، هذا لا يتأتى في هذه المسألة لأنه اشترط أن يستثني ما يختاره.
مسألة:
قال: وكذلك إن باع وااشترط لنفسه أو للمشتري خياراً إلى أمد غير معلوم، ويكون أيضاً ذلك فاسداً، وهذا أيضاً لا خلاف في فساده، وذلك أن العقد يكون مجهولاً لأنه لا يستقر ولا يدري غاية وقت تأتي الفسخ، ولا وقت تمام البيع.
مسألة:
قال: وكذلك إن باع تمراً في ظرف على أرطال معلومة وااشترط المشتري أن يطرح للظرف مقداراً معلوماً من غير أن يعرفا وزن الظرف كان البيع فاسداً، وذلك أن االتمر المبيع يكون مجهولاً لأنه لا يدري كم قدره.
مسألة:

(74/1)


قال: وكذلك إن باع شيئاً يكون بكذا وكذا دينار على ان يدفع بالدنانير كذا وكذا قفيزاً من االطعام كان البيع فاسدااً.
وهو أيضاً لا خلاف في فساده لأن الثمن يكون في حكم المجهول، لأن العقد وقع على الدنانير، وااشترط غيرها فلم يستقر واحد منهما.
وأيضاً نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيعتين في بيع، وعن شرطين في بيع، وهذا من تلك الجملة.
ويجري مجرى هذا أأن يقول: بعتك نقداً بكذا، وإلى الفطر بكذا والأضحى بكذا.
مسألة:
قال القاسم عليه السلام، وإذا ااشترى شيئاً بكذا واشترط أنه يرجحه كان ذلك أيضاً فاسدااً، لأنه يكون الثمن مجهولاً لا يدري معه مقدار الرجحان، وقد اشترى بكذا وكذا مع الرجحان، وإن كان ااشتراط الرجحان في السلعة صار المبيع مجهولاً.
قال: وإن لم يشترط ثم استرجحه وطابت به نفس البائع كان ذلك جائزاً، وذلك أن العقد وقع صحيحاً، ولا يؤثر فيه الرجحان الواقع بعد، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى سراويل فقال لواازن الثمنك زن وأرجح.
مسألة:
قال: والشرط الذي يثبت مع العقد هو ماكان صفة للمبيع، أو البيع من غير أن يقتضي جهالة فيه، أو كان مما يصح عقده على العوض منفرداً.
وذلك أنه لا خلاف أن البيع يصح مع اشتراط صفة المبيع والمبيع، كأن يشتري جارية على أنها طباخة، والعبد على أنه حجام أو خباز، الدابة على أنها هملاج، وكذلك البيع على خيار الثلاث، وذلك صفة البيع.
وكذلك أن يكون اثمن نقدااً بعينه، أو إلى أجل مسمى فصار ذلك أصلاً ف جواز البيع على اشتراط صفة المبيع أو صفة الثمن أو البيع إذا لم يؤد ذلك إلى الجهالة فلذلك قلنا بهز
وأما ماا يصح افراده بالعقد فيجوز أن نضم إلى العقد كمنا أن أن الشيئين لما صح أن نفرد كل واحد منهما بالعقد جاز أن يجمع بينهما في عقد واحد، وسنوضح هذا بأكثر من هذا عند ذكر المسائل.
فإن قيل: فقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شرطين في بيع، وعن بيعتين في بيع.

(74/2)


قيل له: معناه ما ذكرناه من البيع على أنه بكذا نقداً، أو بكذا نسية، وما يجري مجاه إذ لا خلاف أن المبيع يجوز أن يشرط فيه شروط بعد أن لا يؤدي إلى الجهالات كأن يبيع العبد على أنه خياط، وخباز، ويشترط مع ذلك خيار الثلاثة للبائع، وأن يكون الثمن مؤجلاً، وكذلك شروط سواها، ولا خلاف في أن البيع يصح معها، وتصح هي وإن اجتمت فبان أن المراد بالنهي عن شرطين في بيع ما قلناه ويمكن أن يجعل ذلك أصلاً يقاس عليه سائر ما اختلفنا فيه.
مسألة:
قال: وكذلك إن اشترى الرجل من الإبل والبقر والغنم ما يحلب على أنها تحلب قدراً من اللبن أو على انها حامل فإن يثبت البيع، ويجب الشرط يفسد البيع عند أبي حنيفة.
ووجه صحته أن كونها مما تحلب قدراً من اللبن، وكونها حاملاً صفة لها لا يقتضي الجهالة فوجب أن يصح البيع ويجب الشرط.
دليله إذا اشترى الجارية على أنها طباخة، والعبد على أنه خباز، والدابة على أنها هملاج، بعلة أنه اشتراها واشترط من صفاتها مالا يؤدي إلى الجهالة.
فإن قيل: فقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع المضامين والملاقيح؟
قيل له: معناه بيع اللبن في الضرع دون الناقة وشراء الحمل دون الحامل، وذلك مما لا نجيزه، ولا خلاف أنه يجوز أن يشتري شاة حلوباً وناقة حاملاً فجاز أن يشترط ذلك.
فإن قيل: فاللبن مجهول القدر، وكذلك الحمل ممالا يصح أن يعلم؟
قيل له: هذا وإن كان كذلك فإنه لا يقتضي جهالة في المعقود عليه لأنه إن وجد على الصفة التي ذكر تم البيع، وإن لم يوجد كان للمشتري الخيار في الرد.
على أن اللبن قدره مما يضبط ويعرف من طريق العادة حتى لا يتعترض الجهالة إلا في اليسير الذي لا معتبر به منه، وذلك القدر من الجهالة قد يعرض في الطبخ والخياطة إذا ابتعت جارية على أنها طباخه والعبد على أنه خياط لأن الصبخ يتفاوت وكذلك بخياطة ولا يمنكن أن يضبط ذلك حتى لا يكون فيه جهالة يسيرة، لأنها لا معتبر بها فكذلك ما قلناه.

(74/3)


والحبل مثل الصحة لأنه يعلم بغاالب الظن، الا ترى أنه يصح بيع العبد على أنه صحيح والجارية على أنها صحيحة، وإن جاز أن يكون في باطنها علة أو داء يسير لا معتبر بمثله فكما صح البيع على شرط الصحة صح على شرط الحمل لما بيناه.
والعلة أن كل واحد منهما يصح كل واحد منهما يصح أن يعلم بغلب الظن.
وإذا صح بما بيناه أن البيع على ذلك يصح ولم يجده ما شرط جاز له ان يرده لأنه لا خلاف أن من اشترى سبأ على صفه يصح البيع عليها فوجده على خلاف تلك الصفة فله رده إذا كان ما عليه السلعة أنقص مما شرط له.
وقلنا: إذا رده وقد حلب اللبن واستهلكه رد معه عوضاً من لبنه لأنا قد قدمنا أن الرد بالخيار يوجب فسخ المبيع فتصير في الحكم كأن المبيع لم يكن وقع، وكأن الشيء لم يزل عن ملك البايع فيجب أن تكون منافعه له.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثاً فإن رضيها وإلا رد معها صاعاً من حنطة).
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في من اشترى مصراة أنه بخير النظرين بين أنه يختارها، وبين أن يردها وأناء من طعام).
وفي بعض الأخبار صاعاً من تمر، وفي بعضها صاعاً من لبن.
وروى الجصاص عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من باع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيامن فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً.,
فدلت هذه الأخبار كلها على أن اللبن يجب أن يكون للبائع، وأن المشتري إذا كان قد استهلكه فعليه عوضه.
ويدل على ذلك أنا لو جعلنا اللبن للمشتري، وقد انفسخ البيع كنا قد جعلناه بغير عوض، ولا يجوز أن يجعله بغير عوض دخلاً في العقد على سبيل المعاوضة.

(74/4)


وقول أبي حنيفة: إن من اشترى شيئاً من ذلك، وبقي عنده وحلبه، وأراد رده بعيب فليس له ردهن وإنم يرجع على البائع بأرش النقصان، وهو قول محمد، وروي عن أبي يوسف يرده، ويرد معه صاعاً من تمر على مافي الأخبار التي قدمناها، وبه قال الشافعي.
فأما أبو حنيفة فالأخبار التي قدمناها تحجه، وقد اضطرب فيها أصحابه فروى الطحاوي في شرح الآثار عن محمد بن شجاع أنه قال: إنها منسوخة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيعان بالخيار مالم يفترقا، قالك فقطع الخيار بالتفرق فيجب أن لا يكون له خيار الرد بالعيبن ولا خلاف بين المسلمين أن التفرق لا يقطعه، ولا ما يجري مجراه من خيار الرد إذا لم يجده على الصفة التي شرطت للمشتريز
وحكي عن عيسى بن أبان أنه كان حين كانت العقوبة بالأموال، ولما نسخه للوجه أوجبه عوضاً عن اللبن الذي استهلكه، لا على سبيل العقوبة فكيف نسخه للوجه الذي ذكره.
على أنه جعل وجه العقوبة فيه أن جعل اللبن المحلوب ثلاثة أيام عوضه صاع من تمر، ولعلة يساوي أضعاف ذلك فيقال له، ولعل اللبن لا يساوي ربع صاع من تمر، وهو لا ذنب له، الذنب للبائع الغار فبان بذلك بطلان هذا الوجه.
وقال أبو جعفر الطحاويك يجب نسخه بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الدين بالدين، وذلك مما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع الكالي بالكالي.
قال: وذلك أن اللبن كان في الضرع يوم العقد وتناوله العقد فجعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمشري وهو مستهلك بصاع من تمر يرده مع الشاة والصاع أيضاً دين.
قيل له: الصاع ليس بدين، لأنه يرده مع الشاة فكيف يكون ديناً، وهذا أبعد مما تقعدم.
وقال أبو بكر الجصاص: يحتمل أن يكون المراد بذلك بيع فاسد، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم برد عوض اللبن.
قيل له: كيف يصح هذا التأويل، وفي الخبر أنه بخير النظرين إن شاء رضيها، وفي بعض الأخبار: (وإن شاء أمسكها).

(74/5)


فأما ما ذهب إليه أبو يوسف والشافعي أنه يردهااا ويرد صاعااً من تمر فالأخبار الواردة تدل على خلاف ذلك، بل تدل أن قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان رد العوض لأنهم كانوا بذلك يتعاملون ويتبايعون لعوز الدراهم وقلتها، فكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشار إلى ماهو عوض للبن ألا ترى في بعض الاخبار( إنا من طعام)، وفي بعضها: (صاع من تمر)، وفي بعضها: (صاع من بر)، وفي بعضها: (مثلي لبنها من قمح)، وهذه الأخبار متى حملت على ما قلناه كانت محمولة على موافقة الأصول لأن الأصول توجب أن لا يضمن الإنسان إلا مقدار ما يستهلك من مال الغير.
ومتى حملت على ما قالوه كانت محمولة على أن اللبن الذي يساوي صيعاناً عدة من التمر إذا استهلكه ضمن عنه صاعاً من تمر وإلى أن يكون الذي لا يساوي مع الشاة التي حلب منها صاعاً من تمر يضمن المشتري عنه صاعاً من تمر فوضح أن الصحيح ما ذهبنا إليه.
وليس لأصحاب أبي حنيفة أن يستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الخراج بالضمان)، لإبطال ضمان المشتري لأن أخبار المصراة قد أوجبت ذلك كما لا خلاف في أن الغاصب وإن كان ضامناً فإن اللبن لا يكون له، وكذلك من أخذ الشاة ببيع فاسد فحلبها.
مسألة:
قال: وكذا من اشترط في البيع الخيار مدة معلومة ثبت الشرط مع البيع، وهذا لأنه صفة للعقد، ولم يقتض فيه جهالة، وقد مضى الكلام في باب خيار البائع فلا طائل في إعادته.
مسألة:
قال: وكذا إن اشترى طعاماً على أن يحمله البائع إلى منزله، أو حنطة على أن يطحنها أو ثوباً على أن يخيطه، أو ناقة على أن ترضع فصيلاً للبائع مدة معلومة ثبت الشرط في جميع ذلك مع البيع، لأن ذلك مما يصح عقده على العوض منفرداً فصح أن يضم إلى عقد البيع.

(74/6)


والأصل فيه مارواه الشعبي عن جابر بن عبدالله أنه كان يسير مع رسول الله على جمل له فأعياً فأدركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما شأنك ياجابر؟ قال: أعيا ناضحي يارسول الله، فقال: معك شيء فأعطاه قضيباً أو عوداً عنخسه، أو قال: فضربه فسار سيراً لم يكن يسير مثله، فقال في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعينيه بأوقية؟ فقلت: يارسول الله ناضحك، قال: فبعته بأوقية واستثنيت حملانه حتى أقدم إلى أهلي)، فلما اشترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناضحه على الشرط الذي ذكره صار ذلك أصلاً في صحة كل بيع بيع مع شرط أمر يصح أن يعقد عليه بالعوض على الإنفارد على مابيناه.
فإن قيل: في آخر الخبر أنه لما أتى المدينة أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبعير فقال: هذا بعيرك فقال: ترى أني إنما حئتك لأذهب ببعيرك يابلال اعطه أوقية، وقاال: أنطلق ببعيرك فإنها لك.
فدل ذلك على أن البيع لم يكن وقع.
قيل له: ليس فيه دليل على ذلك بل الظاهر منه أن البيع كان انعقد وصح، ولهذا أمر بتوفية الثمن لكنه صلى الله عليه وآله وسلم على عادة كرمه منحه البعير بعد أن ملكه عليه، وكيف يصح هذا التأويل مع قول جابر: فبعته منه بأوقية واستثنيت حملان.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن شرطين في بيع، وهذا من ذلك، وكذلك عن بيعتين في بيع؟
قيل له: معناه عندنا أن بيع السلعة على انها بالنقد بكذا، أو بالنسبة بكذا، أو على أنها إلى أجل كذا بكذا، وإلى أجل كذا بكذا درهماً، على أن تعطيني بها دنانير.
فإن قيل: عموم ما ذكرناه يقتضي فساد البيع الذي اختلفنا فيه.
قيل له: لو كان ذلك كذلك كان يخصه حديث جابر، ومن أصلنا بناء العام على االخاص، ويكون من اشترى طعاماً على أن يحمله البائع، تقديره من اشترى الطعام واستأجر البائع يحمله، فيكون الثمن ثمناً للطعام، وأجره للحامل مقسطاً عليهما، وكذلك سائر ما ذكرناه إلى آخر المسألة.

(74/7)


فإن قيل: إذا كان الطعام في حال ما يستأجر المشتري صاحبه على حمله يكون بعد في ملكه فكيف يصح هذه الإجارة، لأنه لا يصح أن يتأجر الإنسان على أن يبني دار نفسه، ويخيط ثوب نفسه، ويحمل طعام نفسه.
قيل له: لا تمتنع صحتها إذا كانت الإجارة يصادف تمامها استقرار الشيء في ملك المشتري فلا تكون الإجارة واقعة على ملك البائع، بل على ملك المشتري.
يوضح ذلك أن أهل العراق يجوزون شراء آلة النقل على أن يشركها البائع، ولا وجه لصحتها غير ماقلناه.
وعلى هذا النحو جوابنا إن قيل فيما رويناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى بعيراً من جاابر، واشترط جابر ظهره إلى أن يعود إلى المدينة فكيف يجوز ظهر البيع ثمناً له، وهو بعد في ملك البائع لأنتا نقول: إن ذلك لا يستقر كونه ثمناً إلا مع استقرار ملك المشتري للبعير.
وروي أيضاً عن جابر أنه قال: بعت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناقة وشرط لو حملانها إلى المدينةن فدل ذلك أيضاً على صحة ما ذهبنا إليه في هذا الباب، وهو كالنص فيما قلناه من بيع الناقة على أن ترضع فصيلاً للبائع مدة معلومة، على أن ما أجازه من بيع النعل بشرط التشريك يمكن أن نجعله أصلاً فيما ااختلفنا فيه، فنقول: إذا كان بيعاً قد شرط فيه ما يصح افراد عقده على عوض ولم يقتض جهالة وجب أن يصح البيع والشرط فكذلك سائر ما اختلفنا فيه، ويستدل عليه بقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقد عقدوا للبيع والشرط فيجب الوفاء بهما، وبقوله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}، وهذه تجارة عن تراض وبقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون عند شروطهم).
مسألة:
قال: وكذلك إن اشترى عبداً واشترط على البائع ثمنه إن أبق إلى وقت معلوم صح البع والشرط جميعاً.
معنى قوله: واشترط ثمنه أن لا يابق العبد ويفسخ البيع ويسترد الثمن.

(74/8)


ووجه صحة هذا أنه اشترط أن لا يأبق العبد إلى ذلك الوقت، وجعل تركه الإباق في تلك المدة صفة للمبيع فوجب أن يصح البيع والشرط كبيع العبد على أنه خياط واالدابة على أنها هملاج، وهذا قد مضى بيانه في نظائره.
مسألة:
قال: والشرط الذي يثبت البيع دون ما خلف الشروط التي بيناها بأن لا يكون صفة للمبيع ولا للبيع، ولم يقتض جهالة في العقد، ولا كان مما يصح عقده منفرداً نحو أن يشتري جارية على أن يتعخذها أم ولد، فإن البيع يصح دون الشرط.
والأصل في هذا ما روي أن عائشة اشترت بريرة على أن تعتقها، وشرط البائع الولاء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الولاء لمن أعتق)، وفي بعض الأخبار أن عائشة قالت لرسول الله صلي االله عليه وآله وسلم: إن أهلها يقولون: نبيعكها على أن ولاءها لنا، فقال: (لا يمنعك ذلك، فإنماا الولاء لمن أعتق)، فثبت بهذه الأخبار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثبت البيع وأبطل الشرط.
فإن قيل: روي أن بريرة كانت كوتبت فجاءت عائشة تستعين فقالت: إن أحب أهلك أعطيتهم ذلك جملة، ويكون ولاؤك لي؟ فذهبت إلى أهلها فعرضت ذلك عليهم فأبوا. وليس في هذا الحديث أنهم كانوا يشترطون ذلك في البيع.
قيل له: يجوز أن يكون اختصر الرواي ذلك وسائر الرواة رووه على مابيناه.
ويدل على أنهم اشترطوا في البيع ـ ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قام عند ذلك فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد ما بال اقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق)، فكيف يقول صلى الله عليه وآله وسلم لولا أنهم كانوا اشترطوا الولاء.
فإن قيل: روي أن زينب زوجة عبدالله بن مسعود باعت عبدالله جارية واشترطت خدمتها فذكرت لعمر فقال: لا تقربنها ولأحد فيها مثنوية.

(74/9)


فدل ذلك من قوله على فساد البيع، وتابعه على ذلك عبدالله، ولم نحفظ فيه خلافاً. قيل له: ليس في االحديث أن عبدالله تابعه على ذلك، ولعل ذلك كان اجتهاد عمر، ولا يجب أن لا يخالف.
على أنه يجوز أن يكون كراهة وطئها للخلاف، فقد استحب الإحتياط في أمر الفروج.
على أنه ليس في الحديث أنه اشترط خدمتها مدة معلومة، وذلك يقتضي الجهالة ويوجب فساد البيع.
ودل كلامه في الأحكام والمنتخب عند ذكر خبر بريرة، على أن من باع عبداً واشترط الولاء لنفسه ثبت البيع والشرط يبطل، ووجه النص الوارد فيه.
مسألة:
قال: وكذلك إن اشتراها على أن لا يطأها ثبت البيع دون الشرط.
ووجهه ما مضى من انه لا يوجب الجهالة، وليس هو مما يجوز أن يفرد بالعقد على العوض فوجب أن يسقط الشرط ويثبت البيع.
قال: وإن كان البائع قد نقص من الثمن شيئاً لهذه الشروط فله أن يرجع فيه، وهذا لفظ المنتخب، وكان أبو العباس يقول: إن كان ترك من القيمة شيئاً، ويجعل الثمن عبارة عن القيمة، وشبهه بمن تزوج امرأة على مالا يلزمه الوفاء به، ونقصته من أجل ذلك الشرط من مهر مثلها في أهنا ترجع بما نقصته منى لم يف الزوج لها به.
ويمكن أن يقال فيه: أنه إذا باعها بألف على ذلك الشرط، ثم أبرأه من مائة لذلك الشرط أنه يرجع فيها إذا لم يف لأن البراءة لم تقع مطلقة، وإنما وقعت مشروطة، فإذا لم يوجد المشروط لم يثبت البراء، وهذا هو الأول لموافقة لفظ المنتخب في ذكر الثمن دون القيمة.
قال: ويستحب الوفاء بهذه الشروط مالم تؤد إلى الملآثم لا خلاف فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون عند شروطهم).

(74/10)


بالب القول في المرابحة
ولو أن رجلاً اشترى سلعة ثم باعها ثم اشتراها ثانياً بأكثر من ثمنها رغبة فيها فإنه لا يبعها مراحبة، إلا على الثمن الأول، أويبيعها مساومة.
ووجهه أن الناس يتبايعون ما يتبايعون بحسب قيمة السلعة، أوبما يقع التغابن به في الزيادة والنقصان، فإذا اشتراه لغرض له يختصه بأكثر من ثمنه وباعه على ذلك كان ذلك خيانة، وذلك أن معنى الخيانة أن يكون البيع في الظاهر أفضل، وفي الباطن أنقص للمشتري، وقد حصل ذلك في هذا البيع، لأنه في الظهر مشترٍ بمثل قيمته على العرف والمعتاد، وفي الباطن مشترٍ بأكثر من ذلك، فهو في الباطن أنقص للمشتري، فلم يجز بيع ذلك مرابحة لما فيه من الخيانة، وأجاز بيعه مرابحة على الثمن الأول ليسلم من الخيانة، أو يبيعه مساومة، لأن له أن يبيع ماله بما شاء.
مسألة:
قال: واو أن رجلين اشتركا في سلعة فابتاعاها بخمسين ديناراً، واسترخصاها فتقاوماها بينهما بستين ديناراً، واشترى أحد الشريكين نصيب صاحبه بثلاثين ديناراً فإنه لا يبيعها مرابحة على الستين ديناراً، وإنما يبيعها على خمسة وخمسين ديناراً.
ووجهه أنه اشترى بخمسة وخمسين ديناراً، لأنه اشترى نصيبه الأول بخمسة وعشرين دينااراً، والثاني الذي اشتراه من شريكه بثلاثين ديناراً فحصلت السلعة له بخمسين وخمسين ديناراً، فجاز له أن يبيعه مرابحة على ذلك، ولا يجوز له أن يبيعه مرابحة على ستين، لأن ذلك يكون خيانة لأن بيع المرابحة هو على الثمن دون القيمة، لأنه ملكه بالثمن أعني البائع.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الثياب على الرقوم مرابحة، إلا أن يكون رقمه رقماً صحيحاً بعد أن عرف ماغرم فيه من الثمن والقصارة والكراء وغير ذلك، ويبينه للمشتري، فإذا كان ذلك كذلك فلا بأس ببيعه كذلك مرابحة.
اعلم أن بيع الثياب على الرقوم يكون ذلك على أوجه:

(75/1)


أحدهما ـ أن يكون الرقم غير معلوم لهما بأن يكون ثوباً مطوياً، أو يكون لا يتفقان على الرقم فالبيع على هذا باطل نص عليه في الأحكام، وذلك أن الثمن مجهول لهما، أو يجري مجرى المخاطرة والقمار، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً.
والوجه الثاني ـ أن يكون يفرفان الرقم ومقداره، ولا يعفان هل هو صحيح أم لا كأن يكون الرقم مائة، ولا يدرى أن الثوب اشترى بمائة أو أقل أو أكثر، فهذا يجوز البيع عليه مساومة، لأنه لا فرق بين أن يقول: بعتك هذا الثوب بمائة، وبين أن يقول بهذا الرقم، وهما يعلمان أن الرقم مائة فيجب صحة االبيع لأن الثمن معلوم بينهما على ما بيناه فلا وجه لإفساد االبيع.
االثالث ـ أن يكون عارفين بالرقم، ويكون الرقم صحيحاً على ما ذكره في الكتاب فيجوز البيع على ذلك مرابحة، لأن رأس المال يكون معلوماً فيصح بيع المرابحة عليه، ويبين ذلك للمشتري، أو يقول: قام علي بكذا، ولم يقل اشتريت فإنه كذب.
ومعنى قوله: الثمن والقصارة وغير ذلك ما جرت عادة التجار أن يضم إلى التجارة نحو الصبغ وأجرة الصباغ والسمسار والمضارب أيضاً تضم ما انفقه على التجارة مما لا بد منه إذا كان ذلك قسطاً، ولم يكن اسرافاً.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اشترى ناقة فعلفها وحلبهاا مثل قيمتها جاز له أن يبيعها مرابحة إذا علم المشتري أن مثلها تحلب.
وذلك أن المشتري إذا عرف أن مثلها تحلب ورضي أن يرابحه على الثمن صح ذلك بينهما، لأنه ليس فيه ما يجري مجرى الخيانة.
ويجيء على هذا من اشترى ثوباً بعشرة، ثم باعه باثني عشر، ثم اشتراه بعشرة، جاز أن يبيعه مرابحة على العشرة، وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: يبيعه بثمانية يحط من الثمن قدر ماربح وهو درهمان.
ووجهه ـ أنه وإن انتفع به من وجه، فالثمن الذي اشتري به عشرة، وتقع المرابحة عليه والمشتري يعلم أن الإنسان قد يتصرف في الشيء يبيعه مراراً، وقد يربح ويخسر.
(فصل)

(75/2)


لا نص ليحي بن الحسين عليه السلام في بيع المرابحة إذا كان فيه خيانة لكنه ذكر في الأحكام في رد المعيب أنا جعلنا للمشتري الخيار، لأنه دلس عليه، وخيانة ضرب من التدليس على المشتري فوجب أن يكون له الخيار على تعليل يحي بن الحسين بين أن يرضى بجميع الثمن، أو يرده ويفسخ البيع.
وبه قال أبو حنيفة ومحمد، وهو أاحد قولي الشافعي مادامت السلعة قائمة بعينها.
قال زيد بن علي عليهما لاسلام يحط االخيانة عن المشتري، وبه قال أبو يوسف في الأاصل والربح.
ووجه ما ذهبناا إليه أن ظاهر العقد خير للمشتري من باطنه في بيع صحيح فوجب أن يكون للمشتري الخياار في فسخ البيع.
دليله الرد بالعيب أو اشترى مؤجلاً، وباع مرابحة معجلاً، ولا خلاف أن للمشتري فيه الخيار دون الحط فكذلك ما اتلفنا فيه، فأما إذا كانت السلعة تالفة فلا شيء للمشتري فيه على البائع.
والذي يجيء على قول يحي بن الحسين عليه السلام أنه يحط عنه الخيانة لتنصيصه على أن المبيع إذا تلف في يد المشتري وبه عيب، يرجع بنقصان العيب، وبه قال الشافعي.
ووجه المسألة ما نقوله في الرد بالعيب.

(75/3)


باب القول في الرد بالعيب
من اشترى معيباً، وهو عالم بعيبه لم يكن له رده بذلك العيب.
وكذلك إن علمه بعد البيع فرضيه لم يكن له أن يرده بعد ذلك، وهذا مماا لا خلاف فيه.
ووجهه أن شراء المعيب يصح كالصحيح، وثبوت الخيار للمشتري في فسخ المبيع إنما كان للتدليس، فإذا اشتراه وهو عالم بالعيب لم يكن فيه تدليس فودب أن لا يكون له الخيار، وكذلك إن علم بالعيب بعد البيع ورضي به بطل خياره، لأنه كان مخيراً بين الرضاء والفسخ، فإذا اختار الرضاء ورضي به بطل حكم الفسخ، كما لو اختار فسخه بطل حكم الرضاء.
قال: وكذلك إن استعمله بعد علمه بعيب نحو أن يكون مملوكاً فيستخدمه، أو مركوباً فيركبه، أو ملبوساً فيلبسه، أو أرضاً فيستغلها، كان ذلك رضى وبطل خياره في الرد، وهذا مما لا خلاف فيه وذلك أن استعماله يدل على رضاه بالعيب فهو جار مجرى أن يقول: رضيت بالعيب.
مسألة:
قال القاسم عليه السلام: إن عرضه للبيع بعد علمه بالعيب لم يكن ذلك رضاً، وكان له رده بعد ذلك، وبه قال زيد بن علي عليهما السلام، وعند أبي حنيفة يكون ذلك رضاً، وعند الشافعي خيار الرد على الفور، وسكوت المشتري بعد العلم بالعيب يكون رضاء.
والأصل في أن خيار الرد ليس على الفور، وأن السكوت لا يدل على الرضاء ماروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها فليحلبها فإن رضي حلابها أمسكها وإلا ردهاا ورد معها صاعاً من تمر).
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار إلى ثلاثة أيام)، فجعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخيار هذه المدة، ولم يجعل خياره في الرد على الفور، ولم يجعل السكوت رضاء فوجب أن يكون ذلك حكم الرد بالعيب لأنهما جميعاً خيار الرد بالعيب.
فإن قيل: خيار المصراة مدة مضروبة فلذلك وجب ألا يكون خيار على الفور.

(76/1)


قيل له: لا يكون السكوت في المدة رضاء كذلك لايكون رضاء أبداً مع الإطرق لأن خيار الرد هو الإطلاق، ونعني به أنه ليس له مدة مضروبة كما لخيار الشرط.
فإن قيل: إذا عرف العيب فليس يخلو من أن يرضى به أو يسخطه، فإن رضي به أمسكه، وأن سخطه لم يكن له اسماكه.
قيل له: هذا يفسد من وجهين:
أحدهما ـ أنه لا يمتنع أن يسخط ولا يلزمه الرد في الحال كالمصراة، وخيار الشرط.
والثاني ـ أنه لا يمتنع أن يحصل له حال ثالثة، وهو أن يرى او ينظر هل له حظ في الإجازة والرضاء، او في الرد كما في المصراة ومن له خيار الشرط على أنا لسنا نسلم أن السكوت في كل حين دلالة الرضاء، لأن الساكت قد يسكت لترو، وقد يسكت مع السخط لأغراض له، وإن كان قد يسكت للرضاء، فلم يجب أن يجعل السكوت في كل حاال رضاء، فإذا ثبت ذلك وجدنا العرض للبيع مثل السكوت، لأن الإنسان قد يعرض الشيء للبيع، وهو لايريد البيع بل يريد أن يعرف حال الشيء فيما يساوي، ولأن العيب هو الذي ينقص من القيمة فلا يمتنع أن يعرض المبيع ليعرف مقدار ما ينقصه ذلك العيب لينظر هل يصلح له فيرضى أولا يصلح فيرد فوجب أن لا يكون ذلك رضاء، وأن لا يبطل به خيار الرد.
وتحرير العلة أن يقال: إن العرض للبيع قد يكون عن رضاء، وعن غير رضاء فلم يجب أن يجعل في كل حال رضاء كما في السكوت، وهذا الكلام إنما هو مع أبي حنيفة لأن السكوت ليس يكون على كل حال رضاء على ما تقدم بيانه.
مسألة:

(76/2)


قال: وللمشتري الخيار بين أان يرضى البيع، وبين أن يرده، وبين أن يمسكه ويأخذ من البائع نقصان العيب فإن أبا البائع ذلك حكم عليه برد الثمن وااسترجاع المعيب، وإما الرضى بالعيب فلا خلاف أنه للمشتري وكما يصح أن يشتري المعيب مع علمه بالعيب كذلك له الرضى بالعيب، وقوله: أو يأخذ من البائع نقصان العيب فإنه أراد على المصالحة وكان غرضه أن يبين أن هذا الصلح جائز متى تراضياه عليه، إذ من الصلح مالا يجوز وإن تراضيا به، يبين هذا قوله في آخر هذه المسألة في الأحكام فإن أبى البائع ذلك حكم عليه برد المبيع ـ الثمن ـ وأسترجاع الثمن ـ المبيع ـ وقد غلط في هذا بعض أصحابنا فظنوا أن للمشتري أن يجبر البائع على رد نقصان المعيب وهذا فاسد لما بيناه من قوله في آخر المسائل أن البائع إن أبى ذلك حكم عليه برد المبيع ـ الثمن ـ واسترجاع الثمن ـ المبيع، فبان أن قوله يأخذ نقصان العيب: المراد إن تراضيا به وتصالحا عليه على أن أخذ النقصان إنما يكون على وجهين أحدهما الحط من الثمن من أجد العيب إن كان المأخوذ من جنس الثمن وكان الثمن نقداً أو على وجه إلحاق الزيادة في المبيع بأصل العقد إن كان المأخوذ من غير جنس الثمن وكل واحد من الوجهين لا يصح إلا مع رضى البائع فبان أنه لا يجوز أن يحكم عليه بذلك وأنه إن أبى ذلك فلا يحكم عليه إلا برد الثمن واسترجاع المبيع على أن هذه الجملة أعنى أنه لا يحكم إلا بما قلنا ون ذلك جائز على طريق الصلح لا أحفظ فيه خلافاً بين العلماء.
فإن قيل: ألستم تقولون فيمن اشترى جارية فوطئها ثم وجد بها عيباً أنه يحكم على البائع بنقصان العيب.
قيل له: لأنه إذاثبت أنه لا سبيل إلى الحكم بردها ولم يجز أن يقر المشتري على الرضى بالعيب مع أنه اشترى على أنه صحيح لم يبق فيه إلا إجباره على الحط بمقدر نقصان العيب.
مسألة:

(76/3)


قال: ومن اشترى جارية فوطئها ثم ظهر له فيها عيب وجب له على البائع نقصان العيب وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي:
له ان يردها بالعيب والأصل في ذلك ما روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام في رجل اشترى من رجل جارية فوطئها ثم وجد بها عيباً فألزمها االمشتري ثم قضى له على البائع بعشر الثمن، قال زيد عليه السلام كان نقصان العيب العشر، فإن قيل: فقد روي عن عمر أنه حكم بردها ورد عشر ثمنها إن كانت بكراً ونصف العشر إن كانت ثيبا،ً فما تنكرون على من قال ذلك؟
قيل له: عندنا أن علياً عليه السلام أولى بالأتباع، وقوله عندنا حجة وليس كذلك قول غيره، على أن قول عمر لا أعرف به اليوم قائلاً لأن أبا حنيفة يقول مثل قولنا والشافعي يقول في الثيب يردها بالعيب ولا يجعل للوطء حكماً ويقول في البكر مثل قولنا فإذا سقط قوله بقي قول علي وحده، فجرى مجرى الإجماع منهم لأنه لم يرو عنهم في ذلك إلا قول علي وقول عمر وتابعه ابن مسعود وسقط قول عمر وابن مسعود فلم يبق إلا قول علي عليه السلام، فأما ما ذهب إليه الشافعي في الثيب فهو مخالف لإجماع الصحابة لأن الكل منهم يحكم بخلافه على ما بينااه فوجب سقوطه في هذا الوجه وأيضاً لو ردها بعد الوطء بالعيب كاان ذلك فسخاً للبيع ولو فسخه لعادت إلى البائع كما كانت وصار البيع كأن لم يكن فيحصل الوطء في الحكم كانه وقع في ملك البائع وكل من وطء في ملك الغير لا بد فيه من حد أو مهر فلو ردها لوجب أن يرد معها المر وذلك باطل بالإجماع فبطل الرد إذ يصح إلا مع أمر صح بطلانه.
فإن قيل: أليس للبائع إن رضي باخذها مع العيب صح ذلك ولا ـ هو ـ يؤدي على ما ذكرتموه أن يحصل الوطء في ملك الغير بغير حد ولا مهر وهذا نقض ما اعتمدتموه.

(76/4)


قيل له: هذا غير منصوص عليه ولو صح ذلك كان رضى البائع بأخذها معيبة إبراء للمشتري من جميع حقوقه المتعلقة بالجاارية فجرى مجرى إبرائه من مهرها، وليس كذلك إذا حكم عليه بذلك لأنه لا يرضى بإبرائها من حقوقه المتعلقة بها.
فإن قيل: أليس لو استخدمها ثم وجد بها عيباً فله أن يرددها كذلك يكون إذا وطئها؟
قيل له: الفرق بين الخدمة والوطء أن الإستخدام يصح في ملك الغير بغير عوض ولا يصح الوطء وأيضاً الوطء مبطل خيار الشرط والإستخدام لا يبطله فوجب أن يبطل خيار الرد بالعيب وإن لم يبطله الإستخدام.
فإن قيل: وطء الثيب لا يكون فيه عيباً.
قيل له: لسنا ننكر ذلك ولم نمنع الرد لأن ذلك عيب، بل للوجوه التي بيناهاا وإنما ذلك علة أصحاب أبي حنيفة.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اشترى معيباً فلم يعرف عيبه حتى حدث فيه عنده عيب آخر كان المشتري بالخيار إن شاء رد السلعة ورد نقصان العيب الحادث وإن شاء لزمها وأخذ من البائع نقصان القيب الأول، لا خلاف في أن الدان لدان يلزم السلعة ويأخذ ارش العيب، وإنما الخلاف في أن يرد أرش العيب، قال أبو حنيفة والشافعي: ليس له إلا أخذ أرش العيب ولزوم السلعة وقال مالك يردها ويرد أرش االعيب الحادث عنده، وكل ذلك إن لم يرض االبائع برد الثمن.
وإنما قلنا إن له الخيار لأنه شترى صحيحاً فلا يجوز أن نلزمه معيباً، بل يجب أن يكون له رده وفسخ البيع، دليله: لو لم يكن حدث عنده عيب آخر والعلة أنه اشتراها صحيحة فوجدها معيبة.
فإن قيل: فكيف يردها وفد حدث فيها عيب لم يكن قيل لخ يردها مع ارش العيب فيكون كأنه قد ردها سليمة من ذلك العيب يدل على ذلك أن حاال المشتري لا يجب أن يكون أسوأأ حالاً من حال الغصب ولو كان غصبها ثم حدث عند الغاصب عيب فيها كان له أن يردها مع أرش العيب فكذلك المشتري لأن العيب حدث وهي في ضمانه فلا يجب أن يبطل ما كان له من الرد.
فإن قيل: الغاصب لا يمكن فيه غير ذلك.

(76/5)


قيل له: قد كاان يجوز أن يلزم ويضمن القيمة.
فإن قيل: فإنه لم يرض أن يملك بالعوض؟
قيل له: والمشتري لم يرض أن يملك المعيب بالعوض، فأما لزوم السلعة والرجوع على البائع بأرش العيب فلا أحفظ فيه خلافاً ووجهه أنه قد ملكه بدلالة أنه لو رضي بالعيب لم يحتج إلى تجديد عقد فلا وجه لأن يلزمه لأن يلزمه الفسخ ولا وجه لأن يلزمه المعيب وقد دخل في الشراء على أنه صحيح فوجب أن يكون له لزومه والرجوع بأرش العيب، وليس للغاصب أن يمسكه ويعطيه القيمة لأنه لم يملكه كما ملكه المشتري.
فإن قيل: على المسألة الأولى لو جاز أن يردها ناقصة مع الأرش جاز أن يرد البيع وإن تلفت ويرجع بالثمن ويضمن القيمة.
قيل له: ذلك لا يجوز لأن الفسخ لا يمكن مع تلف السلعة وإذا لم يمكن لم يصح يبطل الرجوع بالثمن فيبطل ما قلتموه، ويقال للشافعي كما جاز لمشتري المصراة أن يردها ويرد عوض لبنها كذلك ما اختلفنا فيه لأنه عوض ما فات وهو في ضمان المشتري، فأما إن رضي البائع بأخذها مع العيب الثاني رد جميع الثمن فوجب أن لا يكون للمشتري فيه خيار غير الرضى بالعيب لأنه لا وجه أن يلزم الأرش وقد رضي بأخذه معيباً وهذا ممالا أعرف فيه اختلافاً.
مسألة:

(76/6)


قال: ولو أن رجلاً اشترى سلعاً كثيرة صفقة واحده من عبيد وإماء وغير ذلك فوجد ببعضها عيباً كان له أن يرد السلع كلها أو يرضى بها وليس له أن يرد المعيب دون صاحبه، وقال أبو حنيفة: إن كان ذلك قبل القبض لم يجب وإن كان بعد القبض فرق الصفقة ورد المعيب دون الصحيح، لنا أن نقيسه بعد القبض عليه قبل القبض فنقول لا يجوز إلا رد الجميع، أو الرضى بالجميع لأن خلافه يؤدي إلى تفريق الصفقة للرد بالعيب، وقولهم فيما يكال ويوزن إذا اشترى مجتمعاً فإنه لا يجوز رد بعضه دون بعض وكذلك قولهم فيمن اشترى شيئين لا يصلح أحدهما إلا بالآخر مثل خفين أو مصراعي باب فوجد بأحدهما عيباً أو بهما ردهما جميعاً أو أخذهما، حكى ذلك يؤكذ ما ذهبنا إليه ويمكن أن يجعل أصلاً يقاس عليه.
فإن قيل: إذا كنتم تقولون إن تفريق الصفقة يجوز للشفيع إذا اشترى المشترى ماله فيه شفعة ومالا شفعة فيه فما أنكرتم أن يجوز تفريقها للرد بالعيب.
قيل له: لا خلاف بيننا وبينكم إن خيار الشرط وخيار الرؤية لا يسوغان تفريق الصفقة، وأن من له الخيار يجيز البيع في الجميع أو يرده في الجميع فكان ما ذهبنا إليه في الرد بالعيب بذلك أشبه لأنه خيار في فسخ البيع الصحيح ويمكن أن يجعل أصلاً يرد ما ذهبنا إليه بعلة أنه خيار الفسخ لبيع صحيح فيجب ألا يجوز تفريق الصفقة وليس كذلك الشفيع لأن سبيل المشتري سبيل الوكيل في أن بيعه ينتقل إلى الشفيع ما ينتقل شراء الوكيل إلى الشفيع كما ينتقل شراء الوكيل إلى الموكل ولا خلاف أن الوكيل لو اشترى شيئين أحدهما لنفسه والآخر لموكله، إن الموكل يأخذ ماهو حقه دون ماهو حق الوكيل ويفرق الصفقة فكان حال الشفيع بحال الموكل أشبه فلهذا قلنا أنه يفرق الصفقة.
فإن قيل: إن الإنسان إذا باع ما يملك وما لا يملك يوجب أن يفرق الصفقة ويثبتون البيع فيما يملك دون مالا يملك فما أنكرتم مثله فيما اختلفنا فيه.

(76/7)


قيل له: الفرق بينهماا أن البيع يتناولهما على حد واحد لأنه صح فيما يملك ووقف فيما لا يملك فصارب الصفقة كأنهاا صفقتان، فجاز أن يعرض الفسخ في الموقوف دون الصحيح، وليس كذلك الرد بالعيب لأن عقد البيع يتناول المبيع كله على حد واحد فكانت الصفقة على التحقيق صفقة واحدة، وحكى بعض الشافعية أنهم مختلفون فيه فمنهم من يرى أن الصفقة تفرق في الرد بالعيب ومنهم من رأى أنها لا تفرق وأنهم لم يفصلوا بين أن يكون ذلك قبل القبض أو بعده ووجدت في كلام ابن أبي هريرة ما دل على أن قولهم مثل قولنا.
(فصل)
قال في الفنون: إذا اشترى رجلان عبداً ثم وجدا بالعبد عيباً فأراد أحدهما أن يرضى به وأراد الأخر أن يرد، إن من يريد أن يرضى بالعيب يلزمه أن يرد مع شريكه، أو يأخذ نصيب شريكه ويأخذ أرش العيب، وعند أبي حنيفة إذا رضي أحد الشريكين بطل الرد وعند الشاافعي أن الصفقة تفرق، ويرد من يريد من يريد الرد ووجه ما قاله يحي عليه السلام أن تفريق الصفقة للرد لا يجوز للوجوه التي مضت ولا يمكن إبطال حق الشريك الذي يريد الرد وفي الشريكين يعتق أحدهما نصيبه من العبد ولأن الحق فيه كالعين فكما انه لو استهلك نصيب شريكه بأي وجه من وجوه الإستهلاك ضمنه وكذلك إذا بطل حقه في العين.
فلهذا قلنا أنه يأخذه وله أن يرجع بأرش ما أخذه عن ابن شريكه على البائع لأنه لم يرض بالعيب في نصيبه ويطل حكم الرد لرضاه بالعيب في رصيد نفسه كماا قلنااه في من وطء جارية مشتراة ثم وجد فيها عسار أنه إذا بطل خياره في الرد يرجع على البائع بأرش العيب إذا لم يكن رضي بالعيب، وكذلك القول فيمن اشترى عبداً ثم مات قبل الرد إنه يرجع بأرش العيب.
مسألة:

(76/8)


دقال: وإذا قال البائع برئت إليك من كل عيب لم يبرأ بقوله هذا من العيوب التي لم يبينها للمشتري، قال أبو حنيفة: يبرأ من جميع العيوب، واختلفت أقوال الشافعي فيه ومن جملتها أن ذلك يبطل البيع لأن البيع يكون مجهولاً لأنه يشتريه بعشرة ولا يدري كم النقصان فيه لأنه لا يدري مقدار الأرش ولا مقدار قيمته وهذا لا معنى له، لأن أكثر ما فيه أن يشتريه وهو لا يعرف قيمته ويجوز أن يكون قيمته تسعة أو ثمانية، أو أقل، وذلك لا يوجب فساد البيع فبطل هذا القول.
ولا يصح أن يقال أن يقال انه شرط مجهول فيجب أن يفسد البيع لأنه لا يوجب جهالة في البيع ولا المبيع ولا الثمن وكل شرط لا يوجب ذلك فلا يجب أن يكون مفسداً للبيع عندنا على ما بيناه فيما تقدم.
فإن قيل: هو يوجب جهالة في المبيع لأن لا يدري ما هو وما الذي فيه من العيوب.
قيل له: لو كان ذلك كذلك لوجب أن يفسد البيع وإن لم يشترط البراءة إذا كان فيه عيب لم يفرقه المشتري والبائع، وذلك فاسد فوجب سقوط هذا السؤال.
وعلى القول الذي يجيز البيع يختلف أقواله فمرة يفرق بين الحيوان والثياب ونحوها ومرة يجمع بينهما ومرة يفرق بين عيب يعلمه البائع وبين مالم يعلم ومرة يجمع بينهما والدليل على أن هذه الراءة غير صحيحة أنها في البيع اشتراط ترك حق له وقد مضى الكلام في مثاله في باب شروط البيع وبينا أن الشرط إذا لم يكن صفة للبيع ولا المبيع ولا الثمن ولا كان مما يصح أن يعقد عليه العوض منفرااداً ثبت البيع دون الشرط، وذلك بأن يبيع ويشترط الولاء لنفسه لأنه شرط ترك حق للمشتري من غير أن يكون ذلك صفة للبيع أو المبيع، أو الثمن، وكذلك من اشترى جارية على الا يطئها ثبت لبيع وبطل الشرط لأنه اشترط على نفسه ترك حق هو له على الوجه الذي بينا فوجب أن يسقط الشرط في ما اختلفنا فيه لأنه اشترط على المشتري ترك حق هوله وهو الرد بخيار العيب.
فإن قيل: أليس لو نص على عيب بعينه ورضي به المشتري صح ذلكز

(76/9)


قيل له: بين هذا وذاك فرق لأن هذا شراء المعيب وشراء المعيب وشراء المعيب جئز، وليس ذلك كذلك لأنه لم يجعله معيباً يتعلق البيع به مع العيب، وإنما شرط عليه أن يترك حقاً يكون له، وهو الرد بالعيب، وأيضاً لا خلاف انه لو قال قد أبرأتك من عيب واحد، أو عيبينأو كثر من ذلك ولم ينص عليه كاان ذلك بااطلاً والعلة أنها برأه من عيب مجهول فكذلك ما اختلفنا فيه.
فإن قيل: فيما ذكرنااه أولاً من الوجه الأول أنه أبرأه من العيوب وليس هو اشترااط ترك حق له.
قيل له: إنه وإن كان بلفظ البراءه فالمعنى في هو ااشتراك ترك حق له لأن تخصيله أنه اشترط عليه ألا يرده بعيب إن وجد فيه وما يراعى في صحة لابيع والشرط وفسادهما إنما هو في المعاني دون العبارات.
مسأألة:
قال: ولو أن رجلاً اشترى من رجل سلعة فحملها إلى بلد غير البلد الذي وقع الابيع فيه فوجد بهاا عيباً ولقي البائع في ذلك البلد كان له أن يردها عليه فيه ولم يكن للبائع أن يطالب المشتري بردها إلى البلد الذي انعقد فيه البيع.
ووجهه أن الرد حق للمشتري لا تعلق له بالمواضع فله أن يستوفيه من البائع في أي موضع وجده فيه دليله سائر الاحقوق كالدين والقصاص والكفالة لأنها أجمع حقوق لا تعلق بالمواضع التي وجبت فيها وغنما احترزنا بقولنا لا تعلق له بالمواضع من السلم فإن السلم إذا كان من شرطه تسليم المسلم فيه في موضع يعينه صحت المطالبة بتسليمه في ذلك الموضع.
مسألة:
قال: ولو أن وجد بها عيباً وأشهد على ذلك وتوجه إلى البلد الذي فيه البائع ليردها فتلفت في الطريق كان له أن يرجع على صاحبها بنقصان العيب تخريجاً التخريج فيه قولناا بنقصان العيب لأن إطلاق اللفط في المنتخب ما يقتضي الردوع بالثمن إلا أن مسائله تدل على الرجوع بأرش النقصان فكان قوله الثمن عبارة عن أرش النقصان.

(76/10)


والوجه في ذلك أن المشتري إذا اشترى معيباً وهو لا يعلم وحدث ما يمنع الرد وجب أن يرجع عليه بالنقصان على ما بيناه في من اشترى جارية معيبة ثم وطئها ثم علم بالعيب أنه يرجع بأرش النقصان لتعذر الرد فكذلك في هذه المسألة لأن الرد فيها قد تعذر لأنه لا سبيل إلى رد التالف فوجب أن يكون له الرجوع بأرش النقصان قياساً على ما ذكرناه، وأيضاً المشتري لم يستوف حقه إذ كان حقه أن يسلمه تسليماً صحيحاً من العيوب فوجب أن لا تبطل ظلامته ولا سبيل إلى إستدراكها إلا بالرد أو الرجوع بالأرش لأنا لولم نفعل ذلك كنا قد أبطلنا ظلامته وقد قال الله تعالى: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}.
ويجب أن يكون ما ذهبنا إليه به قال أبو حنيفة وأصحابه لأنهم جعلوا قولهم في هذا الباب بأنهم قالوا الرد إذا تعذر لغير فعل كان من المشتري أو بفعل منه غير مضمون فيجب أن يكون له الرجوع بأرش العيب عندهم ويدل على ذلك وعلى أن الشافعي يجب أن يكون ذلك قوله؛ قولهما أن المشتري إذا حدث عنده عيب آخر كان له الرجوع بأرش العيب الأول لتعذر الرد إذ لا يصح عندهما رد المعيب.
مسألة:

(76/11)


قال: ولو أن رجلاً اشترى من رجل شيئاً من الفواكه التي لا يتوقف على عيبها إلا بعد كسرها فوجد فيهاا عيباً فله أن يرجع على البائع بنقصان العيب إن كان له مع العيب قيمة وإن كان ممالا قيمة له كنحو البيض وشبهه فله أن يرده ويرجع بالثمن على البائع وبه قال أبو حنيفة وأصحابه واختلفت أقاويل الشافعي اختلافاً كثيراً، والذي يقتضيه مذهب يحي عليه السلام أن للمشتري خيارين إن كان له بعد الكسر قيمة أحدهما ما ذكره ههنا من الرجوع بأرش العيب، والثاني أن له أن يرده ويرد أرش الكسر على ما نص عيه في السلعة إذا وجد المشتري بها عيباً بعد أن حدث عنده عيب آخر لأن الكسر بمنزلة حدوث عيب آخر عنده ولا يجب أن يكون سبيله سبيل الغصب يعتبر فيه أن يكون الكسر أزال معظم منافعه على الوجه الذي يذكره في مسألة الغصب فيضمنه ولا يكون له سبيل إلى رده لأنه متعد فيه وكذلك النجار إذا كسر والدباغ إذا أفسد الأديم لأنهما متعديان والمشتري ليس بمتعد في الكسر لأنه مأذون فيه فكان حكمه حكم السلعة يحدث فيها عيب عند المشتري ثم يجد فيها عيباً والوجه في هذا ما مضى في الكتاب فلا غرض في إعادته، وأما إن لم يكن له بعد الكسر قيمة فعليه أن يرده ويرجع بالثمن لأنه لا يستحق ثمن مالا قيمة له لأن بيعه لا يصح ولأن بيعه لا يصح ولأنه لا يصح أن يقدر فيه الأرش، لأن الأرش مبني على القيمة فإذا لم يكن قيمة بطل البيع ورجع بالثمن.
مسألة:

(76/12)


قال: ولو أنه اشترى من رجل بذراً على أن بذر البصل فنبت كراثاً فله على البايع ما بين القيمتين إن كان البائع لم يعتمد ذلك فإن كان تعمد فهو أولى بما نبت وعليه للمشتري ثمن البذر وما غرم عليه في أرضه، ووجهه أن البائع أعطاه المبيع وله دون الصفة التي اشترط للمشتري فهو بمنزلة أن يبيعه المعيب، فإذا استهلكه المشتري ثم علم به لزمه ما بين القيمتين لأنه أرشه على ما بيناه فيما مضى، وعلى هذا يجب على مذهبه أنه لو اشترى طعاماً فأكله ثم وجد به عيباً أنه يرجع بأرش العيب.
وقال أبو حنيفة: لا يرجع بأرش العيب وقال أبو يوسف ومحمد يرجع به وهو الصحيح لأنهم أجمعوا في من اشترى فاكهة فكسرها ثم وجد بها عيباً انه يرجع بأرش العيب وإن كان كسره فعله، فكذلك الأكل والزرع لأن ذلك استهلاك حصل بفعل المشتر فيجب أن لا يمنعه ذلك من الرجوع بأرش العيب، وكذلك يقتضيه مذهبه أنه لو كان عبداً فأعتقه ثم وجد به عيباً انه يرجع بأرش العيب وبه قال أبو حنيفة وأصحابه لأنه عندهم فعل غير مضمون، وكذلك على مذهبن القتل وهم خالفوا فيه إلا رواية حكاها الطحاوي في المختصر عن أبي يوسف والأصل في جميع ذلك أنه لم يسلم ما استحقه المشتري وتعذر الرد فوجب أن يكون له الرجوع بالأرش كما قلنا في من وطء جارية ثم وجد بها عيباً والوطء أيضاً مضمون عليه ولم يبطلوا الرجوع بأرش العيب مع الوطء فكيف يبطلون مع سائر ما ذكرنا.
فأما إن تعمده البائع فللمشتري الخيار في أن يسلمه إلى البائع ويرجع عليه بالثمن وما غرم، لأم المشتري مغرور، والمغرور يرجع بما غرم بغرور على الغار على ما يجي من بعد.

(76/13)


قال: وإن اشتراه على أنه بذر الكراث فأنبت بصلاً فعلى المشتري للبائع ما بين القيمتين إن كان البائع لم يتعمد ذلك فإن تعمد فهو متبرع بالزيادة وذلك أنه بمنزلة من زاج المشتري على ما استحقه بعقد البيع والبائع أولى بالزيادة إن علم قبل الإستهلاك فكذلك زيادة الصفة وليس يشبه هذا أن يبيعه عبداً على أن به داء فوجده صحيحاً لأن البيع تناول عين العبد ورضي المشتري به معيباً فإذا لم يكن معيباً لم يجب عليه شيء وما قلنا محمول على أن البيع لم يقع على عين البذر فيشبه أن يبيعه عشرة أقفزة فيعطيه على سبيل أن يكون زاد فوق ما استحقه متعمداً كما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى سراويل ثم قال للوازن: زن وأرجح، فكان عليه السلام متبرعاً بالرجحان فكذلك ما ذهبنا إليه.
مسألة:
قال: وإذا ادعى المشتري عيباً في السلعة فأنكره البائع فعلى المشتري البينة وعلى البائع اليمين، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وها هنا المشتري هو المدعي لأن8 يدعي خلاف الظاهر ويحاول إلزام البائع ما لا يلزمه في الظاهر، والبائع دافع لذلك ومستند إلى الظاهر لأن الظاهر في البياعات الصحة والسلامة حتى يثبت خلافه وبما بيناه يفرق بين المدعي والمدعى عليه، وأيضاً المشتري يدعي انطواء المبيع على العيب ونحن لا نعلمه والبائع منكر ولابد من تصحيحه بالبينة، وعلى هذا لو أن أحد المتبايعين ادعى انطوء العقد على خيار لا يعرفه فصاحبه منكر وهذه الجملة لا أحفظ فيها خلافاً.
قال: وكذلك إن أقر البائع بالعيب وادعى حدوثه عند المشتري فعليه البينة وعلى المشتري اليمين، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وهذا المراد به عيب يجوَّز حدوثه في يد المشتري.

(76/14)


ويجوز أيضاً أن يكون كان وهو عند البائع قبل وقوع البيع لأن العيوب ثلاثة: عيب علم أنه لا يحدث مثله في مثل المدة التي وقع فيها البيع، فهذا لزم البائع لا محالة، وعيب يعلم انه عيب حادث من قريب، ولا يجوز أن يكون كان عند البائع فهذا يلزم المشتري لا محالة، وذلك كالجراحات الطرية، وما أشبه ذلك، والعيب الثالث: ما يجوز أن يكون كان عند البائع ويجوز أن يكون حدث عند المشتري، والمسألة مبنية على هذا الثالث، وهذا مما لا خلاف فيه أن البينة فيه على المشتري واليمين على البائع لما بيناه في المسألة التي تقدمت لأن المشتري هو المدعي لادعائه مالا يعلم صحته وما هو خلاف الظاهر لأنا نجد العيب في يده وهو يدعي أنه كان في يد البائع وأن العقد وقع مع حصوله، وكل ذلك خلاف الظاهر والبائع منكر له فوجب أن تكون اليمين على الباائع والبينة على المشتري، قال: فإن أخذه البائع ثم ادعى عيباً حدث عند المشتري فالبينة على البائع واليمين على المشتري.
ووجهه ما مضى من أن الظاهر خلافه وأن البائع يحاول إلزام المشتري مالاً يلزمه في الظاهر فلزمته البينة وكان القول فيه قول المشتري مع يمينه إذا لم يكن للبائع بينة.

(76/15)


باب القول في استحقاق المبيع
إذا استحق المبيع على المشتري فرده على المستحق لم يكن له أن يرجع بالثمن على بائعه إلا أن رده على المستحق بحكم الحاكم، أو إذن البائع وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً.
ووجهه أنه إذا رده على المدعي باختيار نفسه أو بإقراره لم ينفسخ البيع الذي كان بينه وبينه البائع لأن إقراره لا يلزم بائعه ولأن استهلاكه ماا اشترى باختيار لا يعترض العقد الذي تقدم فإما إذا رده بحكم الحاكم فله الرجوع بالثمن على البائع لأن الحاكم إذا حكم به للمدعي فقد تضمن حكمه إبطال البيع الذي جرى بين من كاان الشيء في يده وبين البائع فإذا بطل ما بينهما من البيع وأخذ الشيء من يد من كان في يده حكماً صار ما أعطى البائع من الثمن بمنزلة دين له على البائع فصح أن يرجع عليه، وكذلك إذا أذن البائع للمشتري في رده ورضي به المشتري جرى ذلك مجرى إقرارهما جميعاً ببطلان البيع وبان المبيع قد استحقه المدعي فإن رده رجع عليه بالثمن للوجه الذي بيناه.
وروي عن علي عليه السلام أن إنساناً عرف ملكاً له في يد مشتر له فصححه فقضى عليه السلام بتسليمه إلى المدعي وقال للمشتري: اتبع صاحبك بما أعطيته حيث وجدته.
مسألة:

(77/1)


قال: وإذا اشترى سلعاً في صفقة واحدة فاستحق بعضها رجع على البائع بثمن المستحق، وصح البيع فيما سوااه وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأما الشافعي فقد اختلفت أأقواله، وقد ذكرناها في مسألة بيع العبد مع الحر في صفقة واحدة ووجه ما ذهبنا إليه أن هذا البيع غير منطو على الفساد لأنه قد نفذ في نصيب البائع لأنه باع ما ملكه ولم يجب أن يفسد في نصيب من سواه لأنه وقع موقوفاً على إجازته على مذهبنا في البيع الموقوف فوجب أن يستقر البيع في نصيب البائع دون نصيب المستحق، دليله الشفقة في الضيعتين إذا اشتراهما المشتري وللشفيع حق في إحداهما فإنه إذا طلبها واستحقها استقر البيع فيما لا حق فيه فوجب أن يستحق الشفيع ماله حق الشفعة بشفعته ووجب تفريق الصفقة فكذلك ما ذهبنا إليه، وليس يلزم على ما قلناه من فساد البيع إن باع عبداً وحراً صفقة واحدة وذكية وميتة لأن الثمن لا يمكن توزيعه عليهما إذ لا يصح تقويم الحر والميتة، وليس كذلك في مسألتنا هذه، إذ يصح توزيع الثمن على قيمتهما فوجب أن يكون ما ذكرناه صحيحاً.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اشترى عبداً صائغاً واستغله ثم استحق حكم به لمستحقه، ولم يكن له أن يطالب المشتري بما استغله منه وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم الخراج بالضمان والمشتري قد ضمن العبد وضمن منافعه لإيجابنا عليه لصاحبه كرى مثله، فوجب أن يكون الخراج له وهو الغلة ولأنه إذا ضمن منافعه ولزمه كر المثل فلا وجه لإستحقها كان قد أخذ عوض منافعها مرتين مرة كر المثل، ومرة حين يأخذ الغلة وذلك باطل وذلك مبني على أن يحكم عليه بكرى المثل، وتكون الغلة له، وبه قال أبو حنيفة قال: ولو أنه اشتراه مريضاً فأنفق عليه حتى برأ ثم استحق فإنه يقضى به للمستحق، ولم يرجع المشتري عليه بما أنفق على العبد وذلك أنه متبرع بما أنفق لأنه لم ينفقه بإذن مولاه ولا بإذن الحاكم ولا بحكم ولاية له فأشبه سائر يتبرع به في أنه لا يرجع على صاحب العبد.

(77/2)


مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اشترى ثوباً فقطعه قميصاً ثم استحق قضى به لمستحق، ولم يرجع بنقصان الثوب إلا على من غصبه إن كان المشتري لم يعلم أنه مغصوب.
واعلم أن المراد بهذا أن الضماان لا يتقرر آخراً إلا على الغاصب لأن المستحق يطالب المشتري بما نقص من ثوبه لكنه إن طالبه به كان له الرجوع على الغصب البائع لأن مغرور، والمغرور يرجع بما يضمنه لغروره على الغار على ما نبينه بعد هذه المسألة في هذا الباب.
فأما المستحق فله أن يطالب المشتري به لأنه استهلك بعض مااله بالقطع ومن استهلك مال غيره بغر إذنه فإنه يضمنه سواء استهلكه عالماً أو جاهلاً لا خلاف فيه، لأن الضمان لا يؤثر فيه العلم والجهل، وإنما يؤثر في المآثم.
قال: فإن كان المشتري علم أنه مغصوب كان المستحق مخيراً بين أخذ قيمته صحيحاً، وبين أخذه مقطوعاً، ورجع المشتري على البائع بالثمن دون ماا سوااه، ووجهه أن المشتري إذا علم أنه مغصوب كان هو أيضاً غاصباً، ولم يرجع على البائع إلا بالثمن لأنه ليس فيه بمغرور، وإنما أقدم على ما أقدم مع العلم بهز
ووجه التخيير فيه ما نذكر في كتاب الغصوب فإنه أخص بذلك الموضع.
قال: وكذلك القول فيمن اشترى شاة. فذبحها ثم استحقت، والوجه في جميع ذلك ما قد مضى إذ لا فضل في هذه المسائل غير ما ذكرناه.
مسألة:
قال: وكل من استحق شيء في يده فعليه تسليمه إلى المستحق سواء أمكنه الرجوع على البائع أم لم يمكنه.
وهذا مما لا خلاف فيه، وعليه دل كلام أمير المؤمنين عليه السلام: (اتبع صاحبك حيث وجدت وأمره بتسليم ما استحق إلى المستحق، وأيضاً إذا استحقه المستحق فإن يد من هو في يده تصير يد الغاصب، فليس له احتباسه بحق له على البائع لأنه ليس برهن عليه ولا في حكم الرهن فيصح ذلك.
مسألة:

(77/3)


قال: وإذا اشترى رجل جارية فوطئها فأولدها ثم استحقت فإنه يقضى بالجارية للمتحق ويقضى على المشتري بقيمة الأولاد، ويرجع المشتري بالثمن على البائع، وكذلك يرجع عليه بما لزمه من قيمة أولاده، وقولنا أنه يقضي بها للمستحق لا خلاف فيه، لأن المالك أولى بملكها ولأن استيلادها ليس باستهلاك لها فكان حكمها حكم سائر المغصوبات إذا استحقت وكون الولد حراً فمما أجمع عليه الصحابة والفقهاء بعدهم لأن الوطء كان عن شبهة فلم يكن لاسترقاق الولد سبيل وما قلناه من أنه يقضى على المشتري بقيمة الأولاد مما أجمع عليه الصحابة لأنهم أجمعوا أن المشتري يضمن الأولاد، وإنما اختلفوا في تفسير الضمان.

(77/4)


وري عن ابن عمر أنه قالك غلام كالغلام، أو جارية كالجارية. وذهب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أن المضمون هو القيمة والذي ذهب إليه قالت به العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما ويبين صحته ما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم في عبد بين رجلين أعتقه أحدهما بنصف قيمته للشريك على المعتق إن كان موسراً، ولم يحكم بنصف عبد مثله، فصار ذلك أصلاً في أن ضمان العبد يكون بالقيمة دون المثل، ولا خلاف في العبد المغصوب إذا مات في يد الغاصب أن عليه قيمته دون مثله، وكذلك إن قتله خطأ فبان أنه من ذوات القيم دون ذوات الأمثال، ولأن الدلالة دلت على أن السلم في العبد لا يجو فثبت أنه لا يجوز تثبيته في الذمة. فوضح بجميع ما قلناه أن الصحيح فيه قول علي عليه السلامن فأما رجوع المشتري بالثمن على البائع فمما لا خلاف فيه لأن حكميهما حكم سائر ما استحق في أن المشتري يرجح بالثمن على البائع لأن ما بينهما من البيع يبطل ما بيناه في صدر هذا الباب، وأما رجوعه عليه بقيمة الأولاد به قال أبو حنيفة وأصحابه، وحكى أنه أحد قولي أصحاب الشافعي، وأن الوجد الآخر أنه لا يرجع، والذي يدل على صحة ما قلناه من أنه يرجع على البائع الغار بقيمة الأولاد التي ضمنها ما أجمعنا عليه أن الشهود إذا شهدوا بعتق عبد ثم رجعوا أنهم يضمنون وكذلك لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة والشافعي أن من أعار غيره عرصة ليبني فيها مدة ثم أمره برفعها قبل انقضاء المدة في أنه يضمن للباني قيمة البنا، وكذلك لاخلاف في ضمان الدرك، فصار جميع ذلك أصلاً في أن كل من غر غيره فلحق المغرور غرم لم يستوف المغرور عوض ما غرم كان ضامناً للمغرور ما لحقه من الغرم، فلذلك قلنا أنه يرجع بما غرم من قيمة الأولاد على البائع لأنه غره في المبيع حتى صار ماليس بمال وهم الأولاد في حكم المال.

(77/5)


والذي يقتضي المذهب أنه يضمن للمستحق العقر، على ما نص عليه في الأحكام في الأمة إذا دلست نفسها فتزوجت على أنها حرة لأنه وطء لِشبْهة، ولا يرجع بالعقر على الغار، لأنه قد استوفى لنفسه عوض العقر وهو الوطء، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً، والذي ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه ان قيمة الولد قيمته يوم الخصام ويجب أن يكون ذلك مذهبنا لاتفاقناا أجمعين على أن ولد المغصوب لا يضمن إلا بعد أن يمتنع الغصب من رده فيوجب ذلك أن يكون الغاصب لا يصير ضامناً لقيمته حتى يطالب لأنه إذ ذاك يكون في حكم الممتنع، فإن مات الولدد قبل فيجب أن لا يضمن المضتري قيمته لأنه مات قبل توجه الضمان عليه كما نقوله في ولد المغصوب وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
قال: ولو أنه حين اشتراها لم يطأها لكنه زوجها من عبده فاولدها العبد قضى بها وبأولادها للمستحق، وذلك أن الولد إذا كان من العبد لم تجب له الحرية، وإذا لم تجب له الحرية كان ملكاً لسيد الأمة ألا ترى أن حراً لو تزوج أمة عالماً بأنها أمة فأولدها كان الولد مملوكاً ليسد الأمة لأن حريته لم تجب فوجب أن يملكه سيدها.
قال: ولو أنه حين اشتراها علم أنها مغصوبة فأولدها قضى بها وبولدها للمستحق، وذلك أنه إذا علم أنها مغصوبة كان وطؤه لها زناً، ولم يثبت منه نسب، وكان الولد بمنزلة جارية تاستولدت من زناً في أنه يكون مملوكاً ليسد الأمة، وهذا لا خلاف فيه.
مسألة:
قالك ولو أنه اشترى عبداً فوجده حراً قضى له بالرجوع على البائع ولم يكن له على الحر المبيع شيء وذلك أن بيع الحر باطل فعلى البائع رد ما أخذه من المشتري لأنه أخذه بالباطل، وقد قال الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)، ولم يجب على الحر الامبيع شيء لأن المال لم يدفع إليه ولا سبيل على رقبته لأن الحر لا يملك، قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا ملك على حر).

(77/6)


قاال: فإن لم يكن بالغاً لم يضمن ما أخذه إن كان مستهلكاً وذلك أن الذي ليس ببالغ ليس له قبض ويكون صاحب المال بإعطائه المال يكون في حكم الراضي بتصرفه والمبيح له إياه فلهذا لم يضمنه فأما إذا كان قائماً بعينه فلا إشكال في وجوب رده.
قال: ويؤدب كل من فعل ذلك عالماً به، ووجهه أنه اارتكب أمراً أمراً محظوراً عظيماً، وكل من ارتكب مثل ذلك كان أمر تأديبه موكلاً إلى اجتهاد الإمام.
مسألة:
قال القاسم عليه السلام:
ولو أن رجلاً ااشترى شيئاً كيلاً أو وزناً أو عددااً فاستوفاه على ما اشتراه ثم وجده في منزله زائداً على ما ابتاعه وجب عليه أن يرد الزيادة على صاحبه، وذلك أنه أخذ فوق ما استحقه بالشراء فيلزمه رده، وهذا إذا لم يكن تبرع به صاحبه فإن كان صاحبه تبرع به لم يلزمه رده لتنصيصه فيما مضى على أن من اشترى شيئاً فاسترجحه فأجابه البائع إلى ذلك أنه جائز إذا لم يكن مشروطاً في العقد.

(77/7)


باب الصرف
لا يجوز أن يصرف الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، يداً بيد سواء تبره ودنانيره، وجيدة ورديئة، ومضنوعه ومكسوره وكذا القول ذلك يداً بيد، ولا يجوز نسأ.
وهذه الجملة مما لا خلاف فيه بين العلماء إلا ما روي فيه عن ابن عباس من قوله: (لا ربا غلا في النسيئة)، وقد بينا فيما مضى فساده وما روي من رجوعه عن هذا القول.
والأصل في هذا ما ذكرناه فيما مضى من الأخبار المتظاهره الوارده بطرق مختلفة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد)، وفي بعض الأخبار والفضل رباء وفي بعضها من زاد أو ازداد فقد أربا وفي بعضها (هاوها) وفي بعبضها (فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد)، وما روى ابن عمر من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لاتبيعوا الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين).
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً كان معه دنانير فاراد أن يصرفها بدراهم ولم يحضر تماماً الدراهم لم يجز الصرف إلا بمقدار ما يحضر والزائد إما أن يسترده أو يتركه عند صاحبه وديعة أو قرضاً وهذا مما لاخلاف فيه.
ووجهه ما قدمناه من أن يفترقا إلا بعد أن يقبض كل واحد منهما تمن صاحبه ما وجب له عليه بصرفه وهذا مما خلاف فيه.
والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ابن عمر سأاله فقال:(يارسول الله إني أبيع لإبل بالذهب فآخذ الدراهم وبالدراهم فآخذ الدنانير. فقال: لا باس إذاا لم تفترقا وبينكما شيء).

(78/1)


وروي عن ابن عمر قال: كنت أبيع الذهب بالفضة واالفضة بالذهب، فقال لي رسول الله صلى الله علي وآله وسلم: (إذا بايعت رجلاً فلا تفارقه وبينك وبينه شيء).
وري: (لا تشفقوا بعضه على بعض ولا تبيعوا غائباً منه بناجز)، والأخبار في هذا كثيرة متظاهرة وقال في الأحكام فيمن ااشترى ديناراً بدراهم فلم يكن عنده تمام الدراهم فاستقرض تمامها فأوفاه جميع حقه قبل ان يفترقا فالصرف تام صحيح فدل ذلك على أن تمام الصرف لو لم يحصل عند العقد جاز إذا حضرووفى قبل التفرق وبه قال أبو حنيفة واصحابه، ووجهه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا بأس إذا لم تتفرقا وبينكا شيء) حين سأله ابن عمر عن بيع ما في الذمة من الفضة بالدنانير والدنانير بالفضة ثبت أن المراعى حصول التفرق مع استيفاء كل ذي حق حقه من الصرف، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم يداً بيد، وقوله: هاوها، وهذا محمول على منع جواز الأجل في الصرف.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الذهب بالذهب جزافاً، ولكذلك لا يجوز بيع الفضة بالفضة جزافاً ولا أن يشتري بذهب موزون ذهباً جزافاً ولا أن يشتري بفضة موزونة بفضة جزافاً ولا بأس بيع الفضة بالذهب جزافاً وكذلك لا بأس أن يكون أحدهما موزنا والأخر جزافاً، وهذا مما لا خلاف فيه، ووجهه ما ثبت من تحريم الذهب بالذهب إلا أن يكون مثلاً بمثل وكذلك تحريم الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل فإذا اشترى ذهبا جزافاً بذهب جزافاً لم يحصل العلم بتماثلهما لجواز أن يكون أحدهم أكثر والآخر أقل وذلك يحرم نصاً وإجماعاً، وكذلك الفضة بالفضة وهذا هو الوجه في منع الصرف إن كان أحد الذهبين جزافاً والآخر موزناً فأما الذهب بالفضة فإنه يجب أن يكون الصرف جائزاً لا خلاف فيه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد وليس كونهما جزافين، أو كون أحدهما جزافاً أكثر من حصول التفاضيل وذلك جائز مع اختلاف الجنسين.

(78/2)


قال: ولا يجوز أن يشتري تراب معادن الذهب بالذهب، ولا تراب معادن الفضة بالفضة، ووجهه أنه لا يعلم المساواة والتماثل. فبطل البع لأن الذهب بالذهب لا يجوز إلا مثلاً بمثل، وكذلك الفضة بالفضة.
فإن قيل: هلا أجزتم ذلك كان الذهب المشتري به أكثر من الذهب الذي في التراب على أن يكون االذهب بمثله من الذهب والفاضل ثمناً للتراب كما قلتم ذلك في الزبد باللبن.
قيل له: لأن التراب لا يقصد بالبيع ولا قيمة له فخالف حكمه ما أجرناه من الزبد باللبن لأن اللبن بعد أخذ الزبد عنه له قيمة وهو مقصود بالبيع ولاشراء.
قال: ولو أن رجلاً اشترى تراب معادن الذهب بالفضة، أو تراب معادن الفضة بالذهب كان هو والبائع بالخيار عند بيان ما يخرج فمن شاء منهما فسخ البيع، فإن أحبا أمضياه. ووجهه أن البيع لم يستقر فيه لا شتماله على الغرر لأن كل واحد منهما لا يعلم المقصود بالبيع فيه على طريق الإجمال والتفصيل، فأشبه البيع الموقوف والمعنى أنه بيع غير مستقر فلذلك جعل الخيار فه لكل واحد منهما ولا تمنع على هذاا أن يكون ذلك سبيل من باع عبد آبقاً في أن لكل واحد من البائع ولا تمنع على هذا أن يكون ذلك سبيل من بااع عبد آبقاً في أن لكل واحد من البائع والمشتري الخيار في فسخ الابيع مالم يظفر بالعبد ويسلمة المشتري بعلة أنه بيع غير مستقر لاشتماله على الغرر في باب التسليم.
فإن قيل: هلا أبطلتم البيع فيه لاشتماله على الغرر.

(78/3)


قيل له: ليس بغرر في الحقيقة لأن الغرر في الآبق إنما هو في التسليم دون العبد والغرر في تراب المعادن إنما هو في مقدار ما فيها من ذهب أو فضة فلم يكن غرراً تاماً كما يكون بيع الثمرة سنين وبيع ما في بطون الأنعام وضروعهاا وبيع ما ينتظر خروجه من الزرع على أن المسلمين قد أجازوا بعي تراب المعادن فلم يكن إلى إبطاله سبيل فجعلنا لهما الخيار كماا أن السنة لماا وردت بإجازة البيع الموقوف لم يكن إلى إبطاله سبيل فجعلنا لهما الخيار فيه. وإذا اختلط تراب معادن الذهب بتراب معادن الفضة لم يجز شراؤه بالذهب والفضة وهذا محمول معادن الفضة لم يجز شراؤه بالذهب ولا بالفضة وهذا محمول على أنه لا يجوز إذا لم يعلم أن المشتري به من الذهب والفضة أكثر مما في التراب من جنسه، فإن علم ذلك وجب أن يكون صحيحاً كماا بيناه في مسالة شراء اللبن بالزبد على أن يكون الفاضل مما يقابل جنسه ثمناً للجنس الآخر.
مسألة:
قال: ومن أراد أن يصرف ذهباً بذهب لم يجزه أن يدخل بينهما فضة دون قيمتهما فلا بد من أن يصرف الذهب بالفضة صرفاً صحيحاً يرضيان التفرق عليه ويقبض الدراهم ثم يصرف الدراهم ثم يصرف الدراهم بالذهب صرفاً ثانياً إذا رأيا ذلك، وكذلك القول فيمن أراد أن يصرف فضة بفضة.
والوجه في هذا قول الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)، ولم تجر بينهما تجارة عن تراض فيجب أن يكون ما بينهما باطلاً لأن من المعلوم أن من قال بعتك مائة دينار بنصف دانق من فضة أنه لا يرضى بذلك وإنما قصد به للربا الداخل في ذلك الفضة على طريق الإستحلال فإذا بطل ذلك صح إن ذلك ربا لأنه في الحقيفة مائة بمائة وعشرة.

(78/4)


وأيضاً روى محمد بن منصور بإسناده يرفعه إلى محمد بن سيرين عن ابن عباس قال: إياك أن تشتري دراهم بداراهم بينهما جريرة، قال محمد: يعني الذي يستحل بها ولم يرو خلافه عن غيره من الصحابة فجرى مجرى الإجماع منهم على أنه يحتمل أن يكون مراده عليه السلام الكارهة دون إبطال البيع، ووجه الكراهه أنه يوهم الربا كما في غيره من المسائل منها بيع المكيل بالثمن ثم يشتري بثمنه مكيل من جنسه أكثر منه بذلك الثمن قبل القبض للثمن ونحو ذلك.
ويحتمل أن يقال: أن المراد إذا كان فضة يسيرة دون مقدار الشعيرة حتى يكون مما لا يقصد بالبيع والشراء ولا يمكن تقويمه ولا تقويمه ولا تقويم شيء به، وإذا كان المراد أحد الوجهين الآخرين فيقال: إن ذلك تجارة عن تراض لأن الرضى المعتبر في البياعات هو ما يظهر منه دون ما يكون في الضمائر وظاهر الرضى قد حصل به.
ويحمل قول ابن عباس على جرير لا يكون له قيمة كأن يكون أقل من أصبع أو نحوه، ويؤكذ ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لما قيلك إنا نبيع الصاع من التمر الجيد بالصاعين والصاعين بالثلاثة، نهى عن ذلك، وقال: لاتفعلوا ولكن بيعوا هذا واشتروا هذا بثمنه ولم يشترط أن يكون الثمن قيمة، فاقتضى جواز البيع بأقل أو أكثر من الثمن، فأن سأل سائل عن هذا الوجه الأول فقال: إذا كان البيع لا يصح إلا على التراضي الذي يرضيان التفرق عليه فكيف أجزتم بيع الزبد باللبن الذي فيه الازبد إذا كان الزبد الخارج أكثر من الزبد الذي في اللبن وأجزتم بيع السيف المحلى بالذهب بذهب أكثر منه ومن الجائز أن يكون الزبد فوق قيمة اللبن أو السيف بحيث لا يرضيان التفرق عليه؟

(78/5)


قيل له: الفرق بينهما أن هذا عقد واحد والرضا بالتفرق عليه قد حصل وليس كذلك ما ختلفنا فيه لأنهما عقدان والأول مما لا يرضياان التفرق عليه فوجب أن يبطل، وإذا بطل الأول بطل الثاني لأن صحته مبنية على صحة الأول، وأما منعه من االتصرف في ثمن الذهب من االفضة وثمن الفضة من الذهب قبل القبض فذلك ممالا خلاف فيه، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابن عمر: (لابأس إذا لم تفترقا وبينكما لبس)، وفي بعض الأخبار: (وبينكما شيء)، فيكون الصرف غير واقع حتى يقع القبض وإذا لم يكن وقع لم يجز الصرف فيه لأنه في حكم مالم يملك، والمسألة وفاق، وأظنه منصوصاً عليه في المنتخب.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً استسلف من رجل دراهم والصرف على عشرين درهما بدينار ثم تزايد الصرف، أو تناقص، أو تناقص، أو كاان على حاله لم يكن للمسلف عند المستسلف إلا دراهم مثل دراهمه وهذا مما لا خلاف فيه لأن ماا أخذه قرضاً ولا يلزمه إلا مثله على أنه لو أخذه أيضاً على أنه قد باعه بها دنانير كان الصرف باطلاً ويعود الأمر فيه إلى أن المأخوذ بمنزلة القرض، فيكون الجواب ما ذكرنا.
مسألة:
قال: ولو اشترى رجل من رجل دراهم على أنها جيدة فوجد فيها رديأ لم يجب له على البائع إلا إبدال ما كان فيها من الردئ بالجيد ولم يكن لواحد منهما أن يطالب صاحبه بنقض الصرف من أصله، وكذلك القول لو كان بدل الدراهم دنانير.

(78/6)


وروي عن أبي حنيفة أن الصرف ينتقض إذا كان البدل النصف ولا ينتقض إذا كان أقل من النصف وروى أنه ينتقض بالثلث ولا ينتقض في أقل منه قال أبو بكر صح الروايات أنه ينتقض في النصف ولا ينتقض في أقل منه، وقول أبي يوسف ومحمد مثل قولنا أن الصرف لا ينتقض في قليل البدل أو كثيره وحكي عن الشافعي أنه إذا كان باعه بدراهم بعينها فوجد فيها رديئاً فله الخيار إن شاء رد ما أخذ وفسخ العقد وإن شاء رضي به ناقصاً ولا سبيل إلى استبداال، وهو على قوله: إن الدراهم والدنانير يتعينان بالعقد.
وخرج أصحابه على أقاول إن كان باع بدراهم غير معينة وفي بعضها قالوا أنه كالبيع بالدراهم المعينة، وفي بعضها قالوا: يستبدل قبل التفريق، وفي بعضها قالوا مثل قولنان ثم خرجوا على ذلك أقاويل متفاوتة، ووجدنا ما ذهبنا إليه أن الصرف كان قد تم منهما إذا تفريقاً وليس بينهما شيء كما ورد به الأثر.
والدليل على ذلك أنه لا خلاف في أن المشتري الدراهم لو رضي بالمعيب كان له ذلك ولم يجب أن ينقض الصرف وإذا صح أن ذلك الصرف قد تم فمتى رد المعيب كان ذلك ديناً يصير في ذمته، ويجري مجرى صرف ثان وإذا أخذ البدل قبل التفرق جاز.

(78/7)


وإنما قلنا أنه يجري مجرى صرف ثان ولم نجعله على التحقيق صرفاً ثانياً، لأنه لا خلاف أنه ليس له أن يرد المعيب ويترك أخذ البدل في المحلين ـ المجلس ـ ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة في أقل من النصف أو الثلث أنه يستبدل ولا ينقض الصرف فكذلك إذا زاد على النصف وحكي عنه أن القياس ألا ينتقض الصرف في القليل واالكثير لكنه استحسن في القليل ألا ينتقض لجواز الردي بالجيد من العين الذهب والورق مثلاً بمثل، وهذا غير مسلم لأن القياس على ما بيناه ألا ينتقض الصرف فوجب أن يستوي فيه القليل واالكثير وأيضاً هذا القول يدل على أأن يحي بن الحسين عليه السلام يرى أن الدراهم والدنانير لا تتعين بالعقد لأنها لو تعينت لجرت مجرى السلع المبيعة في أنها إذا وجد فيهاا عيب لم تستبدل فإذا صح ذلك فإن الصرف لم يتعلق بدراهم بأعيانها فيدب أن يجوز استبدالها كما يجوز استبدال السلم إذا وجد فيه عيب وليس لهم أن يقولوا أن الصرف ينتقض لأن الصرف قد تم على ما بيناه فرده لا يوجب فيه النقض وأيضاً هما لم يفترقا إلا عن قرض ولم يقصدا فيه إلى أن يكون قبض بعد افتراق وما يطرؤ على العقد بعد الإنبرام يخالف ما تنطوي العقود عليه، ألا ترى أن المشتري يرد السلعة بالعيب ولو بعد حين ويثبت خياره فيه ولو انطوى البيع على خيار مجهول فسد البيع فكذلك حال الصرف وكذلك إذا رجع بأرش العب على البائع يكون ذلك حطاً من الثمن ويصير الثمن ما بقي ولو باعه بكذا إلا ما ينقص منه من أرش العيب فسد البيع وكذلك لو قصدا في الصرف ألا يتم القبض قبل الإفتراق بطل الصرف.
ونكتة الباب أن الصرف الأول قد تم لما بينا وأأن الذي يعرض بعده لا يؤثر فيه.
مسألة:

(78/8)


قال: وإذا اشترى دراهم بدنانير على أن يرد على البائع ما وجد في الدراهم من الردئ كاان ذلك جائزاً إذا نقد كل واحد منهما صاحبه ما صارفه عليه وهذا إذا أخذ الدراهم على أنها جيدة، ووجهه أن ما أوجبه الصرف لو اشترط رده فيجب أن ينتقض الصرف بمقداره لأنه لم يأخذ في الظاهر ما أوجبه الصرف فكأنهما افترقا من غير تقابض تمام الصرف وقد نبه على ما قلناه وفسرنا قوله إذا نقد كل واحد منهما صاحبه ما صارفه عليه، ووجه المسألة الأولى أنهما تقابضاً في الظاهر ما أوجبه الصرف الذي جرى بينهما بدلالة أن آخذ الدراهم لو رضي بالردئ الذي يجده جاز ذلك بالإجماع وكان الصرف تاماً وكان عقد الصرف أوجب أن يبدل كل واحد منهما ما وجد فيما أخذه من الرديء على ما بيناه فيما تقدم فإذا اشترطا ما اقتضاه العقد لم يضره ذلك لأن ذلك من موجب عقد الصرف فكذا من اشترط لمشتري السلعة ضمان الدرك لم يضر ذلك لأنه اشترط ما أوجبه عقد البيع فكذلك اشتراط استبدال ما يجد فيها من الردئ لا يضر إذا كان على الوجه الذي فسرناه لأن ذلك مما أوجبه عقد الصرف فأما إن أخذ الردئ على أنه ردئ وهو غير راض في الظاهر فذلك يوجب انتقاض الصرف بمقداره على ما بيناه.
مسألة:

(78/9)


قال: وإذا كان لرجل على رجل دراهم جاز له أن يأخذ منه بصرفها دنانير ولو كان له عليه دنانير جاز له أن يأخذ عنها بصرفها دراهم، وهذا إذا لم يكن الذي في الذمة من ثمن الصرف كأن يكون الرجل اشترى من آخر دراهم بدنانير فإنه لا يجوز أن يأخذ منه بدل الدراهم التي في ذمته دنانير وكذلك لا يجوز أن يأخذ بدل الدنانير التي في ذمة الآخر دراهم، وهذا ممالا خلاف فيه لأن الصرف الأول لم يتم لأن تمامه أن يقع التقابض في المجلس حتى أنهما لو تفريقاً قبل القبض بطل الصررف الذي كان بينهما لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لابن عمر حين سأله عن بيع الدراهم بالدنانير فقال: (لابأس إذا لم تفترقا وبينكما لبس)، وجملة الأمر أنه لا خلاف في جواز التصرف فيماا في الذمم قبل لاقبض إلا في شيئين: أحدهما ـ ما كان من ذلك من ثمن الصرف لوجه الذي بيناه، والثاني: ما كان منه في ذمه المسلم إليه عن السلم فإنه لا يجوز التصرف فيه قبل القبض لماا نبينه بعد هذا في باس السلم فأما إذا باع رجل رجلاً عبداً بألف درهم أو بخمسين ديناراً فإنه يجوز أن يأخذ منه بدل الدراهم دنانير وبدل الدنانير دراهم لا خلاف فيه لما روي عن ابن عمر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنا نبيع الإبل بالدراهم فنأخذ الدنانير وبالدنانير فنأخذ الدرراهم، فقال: لا بأس إذا لم تفترقا وبينكما لبس، قال: ولو أن لكل واحد منهما على صاحبه دراهم ودنانير جاز لهما أن يصرفا ما في الذمم من الدراهم بالدنانير والدنانير بالدراهم، إذا وفى كل واحد منهما صاحبه ما وجب له عليه قبل افتراقهما، ووجهه ما قد مضى وذلك إذا لم يكن ما في ذمتهاا من ثمن الصرف على ما بيناه.

(78/10)


فإن قيل: فهلا نعتم من ذلك لأنه بيع الدين بالدين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الكالي بالكالي. قيل له: ليس هذا من الدين بالدين وذلك أن مافي الذمتين في حكم المقبوض من كل واحد منهما، ألا ترى أن كل واحد منهماا لا يحتاج إلى تجديد قبض تمام هذا الصرف فقد بان أنه بيع المقبوض بالمقبوض إما تحقيقاً وإما حكماً وليس هو بيع الدين بالدين وإنما الكالي هو أن يبيع الرجل من رجل شيئاً نسيئه ثم يسلم ذلك الثمن الذي في ذمته في شيء آخر فيكون قد باع ديناُ بدين ولا يجوز ذلك لأنه من الكالي بالكالي ونظائره كثيرة.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً دفع إلى رجل ديناراً فاشترى منه ببعضه ذهباً مثله وبعضه دراهم بقيمته كان ذلك جائزاً، وهو صحيح لأنه باع ذهباً بذهب مثلاً بمثل، وذلك جائز لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الذهب بالذهب مثلاً بمثلٍ يداً بيد)، باع بالبعض منه دراهم، وقد قال عليه السلام: (إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد)، وهذه الجملة لا خلاف فيها، ومن شرط صحة ذلك أن يقع االتقابض في المجلس قبل التفرق على ما بيناه فيما تقدم.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اشترى من رجل دراهم بدنانير فأعطاه فيها مكحلة أننقص من الصرف بمقدار ما في الدراهم من الكحل إلا أن يبدله بدراهم جيدة قبل التفرق، فأن نقص المشتري عن الدراهم المكحلة كحلها لم يجب لصاحبه الدراهم عليه شيء للكحل الذي نقص عنها إلا أن يكن له قيمة فإنها تلزم االمشتري وذلك أن المكحل هو فضة مع كحل متميز عنه فجرى مجرى أن يشتري خاتماً على أنه فضة بذهب فيجد في حضوه قيراً في أن الصرف ينتقض بمقدار القير لأنه لم يعطه ما استحق بصرفه.
فإن قيل: ألستم تجوزون بيع الدراهم الرديئة بالجيدة؟ ولاردئ إنما يكون رديئاً بما يخالط النقرة من الغش.

(78/11)


قيل له: ما يخالطها ليس سبيله سبيل ما يتميز عنه ويجري مجرى الحشو له فلهذا فصلنا بينهما، وقلنا ما ينقصه من الكحل، إن كان لا قيمة له لم يضمنه وإن كان له قيمة ضمنه البائعن لأن التضمين في الأموال إنما يصح على التقويم، ومالا يصح تقويم لا يصح تضمينه، وذلك مثل إنسان يكسر لآخر رأس قلم، أو يتناول من دواته مدة في أنه لا يصح تضمينه، لأن ذلك مما لا يصح تقويمه، فأما إذا كان للكحل قيمة فيجب أن يضمنه، ولهذا قال يحي بن الحسين عليه السلام فيمن اشترى بيضاً فكسره فوجده عفنا لا قيمة له بأنه يرجع بجميع الثمن على االبائع.
مسألة: قال: ولا يجوز للرجل أن يشتري سيفاً عليه حلية بدراهم إلا أن يفصل بين السيف وبين ماا عليه من الفضة فيشتري الفضة بوزنها من الفضة، والسيف بقيمته إلى آخر المسألة، اعلم أن المراد بقوله والسيف بقيمته، السيف بثمنه، لأن الشيء يجوز أن يشتري بدون قيمته وفوق قيمته يداً بيد إذا تراضى به البيعان وهذه المسألة مبنية على وجهين إما أن تكون الدراهم التي يشتري بها مثل الفضة التي على السيف، أو المصحف أو دونهان وإما ألا يعلم أن الدراهم أكثر من تلك الفضة، ومتى كان كذلك لم يجز البيع بالإجماع لأن الفضة يكون بمثلها من الدراهم، والباقي من الفضة إن كانت زائدة مع السف تبقى ولا عوض في مقابلتها، وكذلك إذا لم تعلم الحال في ذلك فأما إذا علم أن الدراهم التي يشتري بها اكثر من الفضة، فيجب أن يصح البيع على مذهبه على أن تكون الفضة بمثلها من الدراهم، والباقي من الدراهم ثمناً للسيف كما نص عليه ف مسألة شراء اللبن المخيض بالزبد في وإن الشراء جائز إذا كان الزبد المشترى به أكثر من الزبد الذي في اللبن، فيكون الزبد الذي في اللبن بمثله والفاضل من الزبد يكون ثمناً للبن، وهذا قد مضى الكلام فيه مستوفى فلا غرض في إعدته، والكلام في مسألة السيف المحلى كالكلام في تلك المسألة.

(78/12)


قال: فإن اشترى المحلى بالفضة بالدنانير، أو المحلى بالذهب بالدراهم صح ذلك، ولكن يجب أن يكون ذلك يداً بيد لأن بيع الذهب والفضة يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً يداً بيد لا خلاف فيه.
مسألة:
قال: وإذا اشترى رجل من رجل دراهم لم يجز أن يستوفيها عدداً إلا أن يكون ابتاعها عدداً، فإن كان ابتعها وزناً لم يجز إلا أن يستوفيها وزناً، وذلك أن الموزون لا يصح قبضه إلا بالوزن إذا اشترى وزناً كالمكيل إذا اشترى كيلاً فإن كان اشترى جافاً، أو عددا فلا بأس باستيفائه كما ابتاع وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من اشترى طعاماً كيلاً فلا يبعه حتى يجري فيه الصاعان)، صاع البائع وصاع المشتري، هذه إذا انت الدراهم مشتراه بغير الدراهم فإن كانت اشتريت بالدراهم فلا يجوز أن يشتري إلا وزناً بوزن مثلاً بمثل، ولا بد من أن يجري فيه ألوزن لأنه لا يجوز بيع الذهب، والفضة بالفضة إلا وزناً بوزن ولا يجوز جزافاً.
مسألة:
قال: وإذا استقرض رجل من رجل دراهم فرد عليه أكثر من ذلك جاز ذلك لهما إلا أن يكون اشترطا الزيادة فإن كانا اشترطاها حرمت وذلك أن الزائد إحسان من المعطي، وليس يكون ربا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للوازن زن وأرجح لأن الرجحاان كان إحساناً وأما إن شاترط ذلك فهو رباً لا خلاف فيه ويجب أن يكون محرماً لقول الله عز وجل: {وَحَرَّمَ الرِّبَى}، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الذهب بالذهب مثلاً بمثلاً يداً بيد، والفضة بالفضة مثلاً يداً بيد فمن زاد أو ازداد فقد أربى).
فإن قيل: فهلا قلتم إنه إذا زاد من غير اشترااط الزيادة يكون قد أربى؟
قيل له: لا يكون قد أربى بعقد الربا، ولا ما يقوم مقامه كأن يكون بينهما في ذلك إشارة تقوم مقام القول.
مسألة:

(78/13)


قال: ولو أن رجلاً باع من رجل مسكة من ذهب فيها ستة مثاقيل بخمسة دنانير كان البع فاسداً، فإن كان الذي أخذ الدنانير تصدق بها أو ابتاع بها شيئاً لم يلزم استرجاعها بأعيانها فأما أن يرد على البائع خمسة مثلها ويسترجع مسكته، أو يأخذ منه دينار آخر.
أما فساد هذا البيع فلا خلاف فيه لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد، والفضل ربا)، فلا خلاف في أن ذلك ربا فوجب فساد ذلك العقد فأما قوله لا يجب استرجااع الدنانير الخمسة فعلى أصله، أن البيع الفاسد إذا ضامه القبض وقع التمليك به وهذا قد مضى شرحه في أول كتاب البع فلا غرض في إعادته.
وإذا وقع التمليك جاز تصرفه فيه، وعليه رد مثله إذا أرادا نقض الصرف، وإن أراد أن يبتدئاه استانفا صرفاً ثانياً، وأأخذ صاحب المسكة ديناراً آخر ليكون باع المسكة بمثلها فيصح الصرف.
مسألة:
قال: االقاسم عليه السلام: لا يجوز إنفاق الزائف إلا أن يكون الآخذ له يعلم ذلك ووجهه أأن ذلك خيانة وغش، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من عشنا فليس منا)، وأجاز إذا علم الأخذ لأنه يجري مجرى شراء المعيب إذا علم المشتري بالعيب ورضي به وهذا مما لاخلاف فيه فكذلك حال الزاائف إذا علمه الآخذ ورضي به.
(فصل)

(78/14)


كان الأولى أن يذكر في أول الباب اختلف العلماء في بيع الدينارين الصحيحين بدينار صحيح ودينار مكسور وفي بيع دينارين نسياً بوريين بدينار عتق، ودينار طري، فأجاز ذلك أبو حنيفة، ولم يجزه الشافعي، ولا نص فيه ليحي عليه السلام إلا أن تسويته بين الصحيح والمكسور والجيد والرديء فيما رواه عن جده القاسم وإطلاقهما القول في ذلك يدل على صحة ماا ذكرناه كما ذهب إليه أبو حنيفة، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل يدااً بيد)، والألف واللام دخلا للجنس فأجاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيع الذهب بالهب مثلاُ بمثل وزناً بوزن على أي حال كانا فااقتضى العموم جواز بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة بالمماثلة في الوزن فقط، أو بالقيمة على االإنفراد، أو مع الوزن، ولا خلاف أنه لا معتبر بالقيمة على وجه من الوجوه للإجماع على جواز بيع دينار قيمته عشرون درهماً بدينار قيمته عشرة دراهم فلم يبق إلا أن يكون الإعتبار بالوزن وعليه دل لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا تماثلا في الوزن صح الصرف، وبطل ما ذهب إليه الشافعي، ولا خلاف في جواز بيع دينارين صحيحين بدينارين مكسورين، وكذلك في جواز بيع دينارين عتيقين بدينارين طريين، فوجب أن يصح وإن كان أحد الدينارين صحيحاً والأخر مكسوراً، وكذلك إن كان أحدهما طرياً والأخر نيسابوريا والعلة تماثلهما في الوزن، والنص منبه على هذه العلة، فوجب صحتها وكذلك الإعتبار الذي قدمناه.

(78/15)


فإن قيل: هذ لا يصح لأن أحد الدينارين إما الصحيح وإما المكسور أو الطري، أو النيسابوري، لو استحق لوجب أن يقسم الدينارين عليهما بحسب قيمتهما وإذا فعلنا ذلك صار ماا يقابل الدينارين أقل من وزن الدينار، أو أكثر فوجب أن يدل ذلك على فسد هذا الصرف، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منع من بيع الرطب بالتمر حين علم أن الرطب يجق فيعود في المال إلى بيع التمر بالتمر متفاضلاً، فكذلك مسألتنا.
قيل له: أما التقسيط الذي ذكرتم فإنه غير مسلم في هذا الموضع لأن الذهب والفضة إذا لاقى كل وااحد منهما جنسه فقيمته مثله في الوزن ولا قيمة للصنعه والجوده، كذلك لا يجوز أن يشترى دينار مضروب بدينار ودانق، ولا دينار جيد بدينار ودانق رديء فإذا ثبت ما قلنا ووجب ما حكيناه شرعاً، كان أحد الدينارين لو استحق لم يجب أن يكون بقيمته من الثمن بل بمثله من الوزن فيسقط جميع ماعولوا عليه في هذا الباب على ان ما ذكروه من تشبيههم له ببيع التمر بالرطب، لا معنى له لأن الرطب فيه أجزاء من الرطوبة التي ليست أجزااء التمر الجاق ولهذا بطل البيع فيه فأشبه الحنطة المبلولة بالحنطة المقلوه، وأيضاً من المعلوم أن الرطب لا محالة يجف إذا بقي وتناقص أجزاؤه، وأحَدُ الدينارين ربما لم يستحق فلا يشبه ما ذكرتم على أن أصحاب الشافعي قد قالوا في غير موضع أن ما يطرأ على العقد يجب أن يكون سبيله سبيل ما ينطوي عليه العقد، ذكروا ذلك في خيار الرد بالععيب وفي تبديله الردئ في صرف وفي نصرة قولهم إن رأس مال المسلم يجوز أن يكون جزافاً حين سألوا أنفسهم لو بطل السلم.

(78/16)


باب القول في السلم
لا يصح السلم إلا بأمور خمس، وهو إن يسلم كذا وكذا من نقد، أو عرض أو غير ذلك في كذا وهو الذي يسلم فيه ثم يذكر صفته ومقداره، ويذكر الوقت الذي يقبض المسلم فيه والمكان الذي يقبضه فيه.
قوله: لابد من أمور خمس، إنماا يريج في المسلم فيه دون رأس المال الذي يعجله، وإنما قال: في شروطه خمسة، لأنه جعل النوع والصفة شيئاً واحداً وعبر عنهما بالصفة، وفي الحقيقة لا بد من ذكر جنس ما يسلم فيه، كأان يقول: التمر، وذكر نوعه بأن يقول: إلا زاذ أو االبرني أو الصيحاني، ويذكر صفته في الجودة والرداءه وذكر مقداره، والمكاان الذي يسلم فيه، والوقت الذي يحل السلم فيه فيكون ذلك ستة، وربما يحتاج إلى أن يجعل ذكر المكيل والميزان بأن يقول: بالصاع الفلاني، والوزن الفلاني، وما جرى مجراه، وذكر زيد بن علي عليهما السلام أنه لا بد من أن يذكر فيه ثلاثة أشياء، الأجل والمكان وصفة ما يسلم فيه، فعبر عن الجنس والنوع والصفة والمقداار بالصفة، وجعل ذلك كله شيئاً واحداً، هذه كلها عبارة تختصر وتبسط والحقيقة ما ذكرناه، وجملة ما ذكرناه في المسألة الخلاف فيها في أربعة مواضع، فأول ذلك رأس مال السلم، قال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك أن يكون جزافاً كما يجوز في سائر البياعات، إن كان موزوناً فلا بد أن يعرف وزنه وكذلك إن كان مكيلاً أو معدوداً فلا بد من أن يعرف كيله، أو عدده، وهو أحد قولي الشافعي، قال أبو يوسف، ومحمد يجوز أن يكون ذلك جزافاً كما يجوز في سائر الأثمان، وهو القول الأخر للشاافعي، وظاهر ما ذكره يحي في الأحكام والمنتخب يجب أن يكون ذلك قوله لأنه لم يذكر في شيء من المسائل أنه يجب أن يكون مضبوطاً بوزن أو كيل، أو عدد، وهذا هو الظاهر من قول زيد بن علي عليهما االسلام لأنه لم يوجب فيه الوزن ولا الكيل ولا العدد، والثاني: اشتراط المكان لماله حمل ومؤنة، والثالث: اشتراطه لمالاً حمل له ولامؤنه، والرابع: اشتراط الأجل، والأصل في

(79/1)


ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أسلم فليسلم في كيل معلوم، أو وزن معلوم إلى أجل معلوم)، فقصد صلى الله عليه وآله وسلم ضبط أوصاف المسلم فيه دون رأس المال، وأطلق القول فيه فوجب أن يجوز ذلك خص بالوزن أو الكيل أو العدد، أولم يخص، وإنماا يضارع هو مال يعجل قبضه عند العقد فوجب أن يصح كونه جزافاً دليله سائر الأثمان والمبيعات وشهد له مالاً يعجل قبضه في االحال وثبت في الذمة من الأثمان أو المسلم فيه المبيع انه لا يجوز أن يكون جزافاً لأن كونه جزافاً يمنع من استقراره في الذمة بالعقد وصحة المطالبة به فلا يصح أن يتناوله العقد.
فإن قيل: الجزاف قد ثبت في الذمة وذلك أن يشتري الرجل سلعة بثمن جزافاً ثم تستحق أو تتلف بعد قبض الثمن، أو استهلاكه فيستحق البائع على المشتري الثمن الذي قبضه جزافاً وثبت في ذمته.
فإن قيل: كما لم يجز أن يكون المسلم فيه جزافاً وجب أن يكون عوضه وهو الثمن المعجل لا يكون جزافاً.
قيل له: العوض إذ لم يشارك المعوض فيماله امتنع من كونه جزافاً جاز أن يكون جزاافاً، وإن كان عوض المبيع جزافاً كما لم يشارك الثمن المبيع فيما له امتنع كونه جزافاً وهو أنه مما يتعجل قبضه ولا يثبت في الذمة لقعد وأيضاً لاخلاف أن الثمن في السلم يجب تعجيله وأن المسلم فيه يجوز أن يحب تأجيله فإذا جز أن يختلفا في هذا لم يمتنع أ، يختلفا فيما ذكرنا على أنه منتقض برأس مال السلم إذا كان عرضاً كالثوب ونحوه لا يجب عند أبي حنيفة أن يكون مضبوطاً بالصفة كما يجب ذلك في المسلم فيه.

(79/2)


فإن قيل: ما يجوز أن يطرأ على المسلم مما يجوز أن يؤول إليه مما يوجب جهالة في المعقود عليه مراعى في حال العقد ومتقضى فساده بدلالة ما أجمعوا عليه من أنه لو أسلم في ملء إناا معين مجهول القدر كان السلم فااسداً، والعلة فيه جواز أن يسكر لإناء فيصير السلم مجهولاً، فكذلك الثمن المعجل إذا كان جزافاً يجب أن يفسد عقد االسلم لجواز أأن يعرض ماا يوجب فساد السلم فيصير الثمن مجهولاً.
قيل له: إن الذي ذكرتم يجب في المسلم فيه دون الثمن لأنه الذي يجب تأجيله وثبوته في الذمة بعقد البيع، وقد قلنا إن ما كان كذلك فلا يجوز كونه جزافاً وهذا غير حاصل في الثمن المعجل يكشف ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله شدد أمر المسلم فيه فقال: فليسلم في كيل معلوم أووزن معلوم إلى أجل معلوم، ولم يأمر بذلك في الثمن المعجل، فإن راموا تقوية كلامهم بأن قالوا قد ثبت أنه يجوز أن يباع عبد بملء إناء مجهول القدر من البر فكذلك بملء سكرجة مجهولة القدر من الدراهم، وكذلك يجوز أن يشتري ملء إناء مجهول بمال موزون من الدراهم فاستوى في جواز ذلك الثمن والمبيع فبان ان فساد عقد السلم إذا كان المسلم ملء إناءٍ مجهول القدر إنما كان لأن عقد السلم فوجب أن يستوي فيه السلم والمسلم فيه.
قيل له: ليس الأمر على ما ظننتم وذلك أن الثمن لو كان مؤجلاً في بيع العين لم يجز ان يكون ملء إناء مجهول إنما يجوز ذلك إذا كان الجميع من الثمن والمبيع معجلين فبان أن العلة هي ما ذكرناه من أن ما ثبت في الذمة بعقد البيع لا يجوز أن يكون جزافاً.
فإن قيل: فإنا نجوز ذلك في ثمن البيع المعين وإن كان مؤجلاً وارتكبوا ذلك.
قيل له: لم يضرنا لأنا إذا لم نسلم ذلك لهم لم يتم كلامهم بارتكابهم ما ارتكبوا فوضح بذلك سقوط كلامهم على أن رأس المال إذا كان عرضاً يعترض هذا أيضاً.

(79/3)


وأما اشتراط المكان الذي يستوفي فيه السلم فقد اختلف فيه على ثلاثة أوجه: قال أبو حنيفة ـ يجب اشتراطه إذا كان السلم مما له حمل ومؤنة فإنه لم يكن له حمل ومؤنة لم يجب اشتراطه وقال أبو يوسف ومحمد لا يجب اشتراط المكان سواء كان السلم له حمل ومؤنة أو لم يكن ويجب أن يستوفى جين يعقد السلم والأظهر عن زفر والثوري والشافعي أنه لا بد من اشتراط المكان على الوجهين حقاً وعلى هذا مذهب يحي، وهو الظاهر من قول زيد بن علي عليهماا السلام لأنهما قالا: لا بد من اشتراط المكان ولم يفصلا بين ماله حمل ومؤنه وما ليس له ذلك والأصل فيه أنه لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة وأصحابه أن الأجل يجب تعيينه واشتراطه فكذلك المكان والعلة أن كل وااحد منهما يوجب جهالته فساد السلم لأنه لو قال أوفيك متى شئت واشترط ذلك فسد السلم فكذلك إذا قال أوفيكه حيث شئت واشترطا ذلك بطل السلم وكذلك إن لم يتعين المكان يجب أن يفسد كما يفسد إذا لم يتعين الزمان ويمكن أن يرد ذلك إلى الكيل والزون في أنه لا بد فيهما من الحصر بعلة أنه مسلم فيه فأما ما ليس حمل ومؤنة فإنه يرد إلى ماله حمل ومؤنه، مع أبي حينفة بعلة أن قيمته تختلف بحسب اختلاف الأماكن فوجب أن يشترط له المكان كما يشترط لماله حمل ومؤنه وبهذه العلة أيضاً يرد إلى الأجل مع أبي يوسف ومحمد على أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم اقتضى وجوب نفي الجهاالة عن المقدار كما أن أن قوله إلى أجل معلوم اقتضى نفي الجهالة عن القبض وجهالة المكان الذي يقبض فيه يقتضي جهالة في القبض أما االأجل فالخلاف فيه بينناا وبين الشفعي لأن أبا حنيفة وأصحاابه أوجبوا اشتراطه وهو قول زيد بن علي عليهم السلام ويدل على ذلك ن النبي صلى الله عليه وآله نهى عن بيع ماليس عند الإنسان فاقتضى ظاهر الخبر بطلان السلم ثم قال صلى االله عليه وآله وسلم من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم اشتمل

(79/4)


النهي عليه ووجب فساده لأن التخصيص ورد في سلم له صفة وهي اشتراط الأجل فأما تعلقهم بالظواهر نحو قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَى}، وقوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}، فهو مدفوع بما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم إنه نهى عن بيع الإنسان ماليس عنده وسائر ما نذكره من بعد.
فإن قيل: ليس يخلو قوله من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم من أن يكون ذلك كله بمجزوعه شرطاً لصحة االسلم لأن المكيل لا يجب أن يوزن، والموزون لا يجب أن يكال بالإجماع، والإجماع على صحة السلم فيما لا يكال ولا يوزن كالمزروع والمحدود، ولا يجوز أن يكون كل واحد منهما على الإنفراد شرطاً في صحة السلم لأنه يجب أن يكون المكيل والموزون يصح فيهماا السلم بمجرد أن يشرط فيهما الأجل ولا يصح ذلك بالإجماع ولأن الكيل والوزن لا يصحان السلم عندكم إذا انفردوا عن الأجل فلم يبق إلا أنه جعل بعض أوصاف السلم.
قيل له: هذا الكلام الطويل يسقط بأيسر كلام وهو أن نقول أن المسلم في مكيل معلوم في المكيل ووزن معلوم في الموزون وأجل معلوم في كل السلم لا أن الأجل يختص بنوع دون نوع فوجب أن يعم جميع المسلم فيه، والكيل والوزن يختصان الأشياء فقصرناهما على ما اختصا به.
فإن قيل: كما جاز العدول عن المنصوص عليه من المكيل والموزون إلى المذروع والمعدود جاز العدول من المنصوص عليه من المؤجل إلى الحال.
قيل له: ليس الأمر على ما ذكرتم لأن النص الذي ذكر المكيل لم يتناول إلا المكيل بل لا يصح غير ذلك والنص الذي ذكر الموزون لم يتناول إلا الموزون فألحقنا بهما غيرهما بالدلالة وليس كذلك الأجل لأن الأجل لا يختص بنوع دون نوع فوجب أن يعتبر.
فإن قيل: الحال من المسلم أبعد من الغرر فيجب أن يكون أجوز.

(79/5)


قيل له: هذا الإعتبار ساقط بالإجماع لأنا لم نعتبره في السلم ولم تعتبروه في الكتابة لأنكم تبطلون الكتابة الحالة على أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحق أن يتبع، وقد قال إلى أأجل معلوم.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى جملاً بتمر موصوف في الذمة بقرب المدينة ثم ساقه إلى المدينة، ووفى التمر بها وهذا يدل على السلم الحال.
قيل له: التمر مما يجوز ثبوته في الذمة وهو فيما ذكرتم كان ثمناً فجرى مجرى النقود ولم يجر مجرى السلم فلا يصح التعلق به وذلك أن المكيل والموزون متى لاقى العروض وصحبته كانت ثمناً كالدنانير ولم يكن مبيعاً وأيضاً لا خلاف أن المقدار يجب أن يكون مشروطاً ليصح السلم وكذلك الأجل والعلة أن كل واحد منهما قد ورد الشرع باشتراطه في السلم ويمكن أن يقاس على المقدار وعلى المكاان بعلة أن جهالته توجب فساد السلم فوجب الا يصح السلم إلا باشتراطه ولأنه بدل يستحق بعقد السلم فوجب ألا يصح فيه ألا احد أمرين التعجيل أو الأجل قياساً على رأس المال ولا يصح فيه العكس بأن يقولواا فوجب ألا يكون من شرطه الأجل لأنه منتقض بالسلم في المعدوم ويمكن أن يجعل السلم في المعدوم أصلاً للمسألة ويقاس عليه غيره بعلة أنه مسلم فيه وإن كان لا يصح ذلك لأبي حنيفة لأنه لا يرى السلم في المعدوم وغيره وكل عللهم تنقض بالسلم في المعدوم ويؤكد ذلك أن يقال لهم إن السلم يختلف بعمل رأس المال وتاميل المسلم منه وذلك أن السلم والسلف في المعنى واحد فلو جاز في السلف الحال أن يسلم في الحال لبطل معنى السلم إذ يكون رأس المال والسلم معجلين فلم يصح أن يقال فيه إنه سلم وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم من أسلم المال والسلم معجلين فلم يصح أن يقال فيه إنه سلم وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم فعبر عنه بالسلم إلى المسلم إليه على هذه الشروط صح السلم إن كان السلم فيما يصح فيه السلم أما

(79/6)


إذا أسلم على الشروط التي ذكرناها فلا خلاف في صحة السلم وإنما الخلاف إذا سقط شرط من جملة هذه الشروط وقد تكلمنا في جميعها ما أغنى وكفى، وإنما اشترطنا أن يكون السلم فيما يصح فيه السلم لأنه لا خلاف أن من أسلم فيما لا يصح فيه السلم لم يصح السلم وإن حصلت الشروط والكلام فيما فيما السلم، أو لا يصح فيه السلم يجيئ في االمسائل التي نذكرها بعد.
مسألة:
قال: ولا يجوز لهما أن يفترقا إلا بعد قبض المسلم إليه من المسلم فإن تفرقا قبل ذلك بطل السلم وكذلك إن تركا شرطاً واحداً من هذه الشروط الخمسة كان االمسلم باطلاً إلا أن يذكراه قبل افتراقهما أما تعلق صحة السلم بقبض رأس المال في المجلس فهو مما لا خلاف فيه بين العلماء ونص عليه زيد بن علي عليهم السلام إلا ما يحكى عن مالك إنه أجاز ذلك يوماً أو يومين ولم يجزه في مدة طويلة وإذا ثبت أن المسلم فيه يجب أن يكون مؤجلاً فلو أجزنا أأن يكون رأأس المال غير مقبوض كان من الكالي بالكاالي وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأن السلم يقتضي تعجيل رأس المال وتأجيل المسلم فيه على ما م ضى بياانه ولأن ظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أسلم فليسلم)، يقتضي تعجيل رأس المال، وأيضاً لا يجوز فيه اسشتراط الخيار فوجب أن يجب تعجيله كالصرف ويمكن أن يقاس مع ذلك يومان أو نحوهما بالمدة الطويلة وأما قولنا أنه إن ترك شرطاً من هذه الشروط التي ذكرناها كان السلم باطلاً فقد مضى الكلام فيه، وقلنا: إلا أن يذكر ذلك قبل افتراقهما لأن ذكر الشروط ليس بأوكد من قبض رأس المال لأن الجميع شرط في صحة السلم فلا بد أن يقع التقابض قبل التفرق، فيجب أن له يخل يذكر الشروط قبل التفرق ولأن العقد لم ينبرم بعد سقوط بعض الشروط ولم يفسج لأن التفرق لم يحصل فوجب أن يكون موقوفاً والموقوف يجوز أن يرد عليه ما يصححه كما يجوز أن يرد عليه ما يفسده على أن العقد لو كان انبرم لكان يجوز أن يلحقه غير ما

(79/7)


ذكر على أصلنا في أن العقد يجوز أن يزاد فيه ويحط عنه.
مسألة:
قال: وإذا أسلم الرجل سلماً فاسداً لم يكن له عند المسلم إليه إلأ راس ماله فإذا أردا تصحيح السلم فليقبض المسلم من المسلم إليه رأس ماله ثم ليدفعه إليه ثانياً ويبتدأ بالعقد على الصحة أما إذا أسلم سلماً فاسداً فإن رأس المال يكون للمسلم لأنه لم يستحق بدله على المسلم إليه فلا يجوز أن يكون المسلم غليه يستحق بدله، وهو راس المال وإذا لم يستحقه وجب أن يكون للمسلم، إلا أن على مذهب يحي عليه السلام لا يبعد أن يقال أن المسلم إليه يكون قد ملكه لأن من مذهبه أن لاتسليم إذا وقع مع الفساد يملكه المتسلم وإذا ملكه صار ضامنا فيوكون ديناً عليه، فلا يجوز أن يجعله في السلم ثانياً حتى يقبضه لأنه يكون من الكالي.
مسألة:

(79/8)


ولو أن رجلاً كان له على رجل دين، أو عنده وديعة لم يجز له يجز له أن يجعله سلماً حتى يقبضهمنه ثم يدفعه إليه سلماً أما الدين فقد قلنا فيه ما كفى وهو ممالا خلاف فيه، وأما الوديعة فالذي أحفظه عن العلماء انهم أجازوا فيهاا أن يكون سلماً لأنهاا إذا كانت في يد المودع كانت مقبوضة حاصلة فيده والأقرب عندي أن مراد يحي عليه السلام في ذلك إذا لم يعلم يقيناً بقاء الوديعة في يده بعينها ويجوز أن يكون قد جرى فيها الإستهلاك وأنها قد صارب ديناً على المودع فيكون الوجه في ذلك ما ذكرناه في الدين أو يقال أنها في يد المودع بمنزله كونها في يد المالك لأن يد المودع يد المالك في يجوز أن يجعلهاا سلماً لأن الإقباض لا يكون حصل حكماً إلا أن يأذن له في قبضه من نفسه فيقبضه بأن ينقله من موضع إلى موضع نفسه لأن من مذهبه أنه يصح من الإنسان أن يقبض الشيء من نفسه لغيره نص عليه في المنتخب في مسألة شراء، وإذا جاز ذلك جاز أن يقبضه من نفسه لنفسه، فعلى هذا لا يصح أن يجعل سلماً ما دامت على صفة الوديعة حتى يحصل النقل في المجلس قبل أن يتفرقا على ما قلناه من أنه لا بد من تعجيل رأس مال السلم قبل التفرق.
مسألة:

(79/9)


قال: ولو كان عليه عشرة دنانير ديناً، أو عنده وديعه فدفع إليه عشرة أخرى على أن يكون العشرون سلماً صح نصف سلمه وبطل نصفه، ووجهه ماا بيناه فيهما مضى فيمن باع ملكه وملك غيره أن البيع يصح في ملكه لأن الفساد لم يعترض فيه حين وقع لصحته فيما يملك، ووقوفه فيما لم يملك فكذلك في هذه المسأالة لأن السلم صح فيما لم يقبضه إلى نحين التفرق فلم يقع العقد منطوياً على الفساد إلا ترى أنه لو استوفى دينه أو وديعته في المجلس نوأاقبضه قبل التفرق لصح السلم، وإنما يفسد لو لم يجر فيه القبض حتى يقع التفرق وعلى هذا نقول: لو باع ديناراً بعشرة دراهم فقبض خمسة منها في المجلس ولم يقبض الخمسة حتى تفرقا إن الصرف يصح في نصف ديناار المقبوض بدله ويفسد في نصفه.
مسألة:
قال: وإذا أسلم الرجل سلماً فاسداً فأراد أخذ ما دفعه إلى المسلم إليه أخذه إن وجده بعينه، وإن كان قد استهلكه وجب عليه مثله إن كان ما أعطاه نقداً أو مكيلاً أوموزوناً فإن كان ما أعطاه عرضاً أو حيواناً أخذ منه قيمته يوم استهلكه، وهذه الجملة لا خلاف فيها لأن السلم إذا فسد كان المسلم أولى بما دفع إن كاان قائماً بعينه لأن العقد قد بطل ولم يكن هناك إلا القبض فوجب أن يكون حكم المقبوض حكم الوديعه والغصب أن صاحبه يكون أولى به بعينه إن كانت عينه باقيه وإن كان قد استهلكه وكان من ذوات الأمثال كان عليه مثله لا خلاف في أن ذلك حكم ذوات الأمثال، وذوات القيم لأن ذلك أقرب إلى إلى أن يكون ذو الحق قد استوفى حقه ويكون أبعد من التفاوت ومعنى قوله يوم استهلكه إذا كاان الإستهلاك يوم القبض لأنه حين يقبضه يصير مضموناً عليه على ما نقوله في المغصوب.
مسألة:

(79/10)


قال: فإن عجز المسلم إليه عن إيفاء السلم كان المسلم بالخيار إن شاء انظره إلى وقت مقدرته وإن شاء استرجع منه ما أعطاه إن كان قائماً بعينه أو مستهلكاً على ما بيناه في المسألة الأولى ولم يجز له أن يأيخذ قيمة ما اسلم منه وذلك ان المطالبة قد صحت بحلول الأجل والعقدصحيح كما كان فااشبه بيع العين إذا تعذر على البائعتسليم المبيع في أن المشتري بالخيار بين أن يصبر إلى أن يمكن فيه التسليم وبين أن يفسخ البيع وبه قال أبو حينفة، وأصحابه إذا كان سبب التعذر إنقطاعه من أيدي الناس ولست أحفظ قولهم إذا تقذر لإفلاس المسلم غليه ويمكن أن يقاس عليه تعذر لإفلاس على تعذر تسليم المبيع وليس لهم أن يقيسوا تعذر التسليم للإفلاس على تعذر الثمن لأن حكم الثمن في هذا الباب خلاف حكم المبيع لصحة التصرف في الثمن قبل القبض وإن كان لا يصح ذلك في المبيع فلا يصح في المبيع أمر من الأمور قبل التسليم كما يصح في الثمن، وقلنا: أنه ليس له أن يأخذ قيمة ما أسلم فيه لأنه يكون تصرفاً في المسلم فيه قبل القبض ولا خلاف أن ذلك لا يجوز كما لاجوز في الصرف، وإن كان العلة في الصرف أنه يؤدي إلى إبطال القبض المستحق في المجلس والعلة في المسلم فيه أنه بيع قبل القبض كما لا يجوز التصرف في المبيع قبل القبضن وكذلك المسلم فيه لأنهما جميعاً مبيعان.
وروى زيد بن علي، عن أبيه عن جده، عن علي عليهم السلام قال: من أسلف في طعام إلى أجل فلم يجد عند صاحبه ذلك الطعام فقال: خذ مني غيره بسعر يومه لم يكن له أن يأخذ إلا الطعام الذي اسلم فيه، أو رأس ماله، وليس له أن يأخذنوعاً من الطعام غير ذلك النوع وهذا يوجب ـ يحقق نخ ـ أن التصرف فيه قبل القبض غير جائز ولا يحفظ عن غيره من الصحابة خلافه فجرى مجرى الإجماع منهم.

(79/11)


قال: فإن عجز عن بعضه أخذ بعضه، وكان القول في المعجوز عنه كالقول فيا مضى أمامالم يعجز عنه فإنه يقبضه لأنه مستحق عليه، وأما المعجوز عنه فوجهه قد مضى، يكشف ذلك ان من اشترى عبدين أحدهما آبق وجب تسليم الباقي وفسخ البيع في الغائب، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال: لا بأس أن تأخذ بعض رأس مالك، وبعض سلمك ولا تأخذ شيئاً من غير سلمك.
مسألة:
قال: وتجوز الإقلة في االسلم وفي بعضه الإقالة عندنا بيع في سائر الأشياء، وإن قلنا في السلم إنه فسخ على ما بيناه فيماا مضى من البع وإذا ان الإقاالة فسخاً وبينا أن الفصخ يصح في السلم وفي بعضه فكذلك الإقالة وذلك فيه خلاف وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وحكي عن مالك أنها تجوز في الجميع ولا تجوز في البعض.
مسألة:

(79/12)


قال: ولا يجوز أن يسلم في الحيواان ولا في شيء مما يتفاوت تفاوتاً فاجشاً، وكذلك لا يجوز السلم في الجواهر والفصوص تخريجاً، أما الفصوص والجواهر فلا أحفظ خلافاً في أن السلم لا يجوز فيها، ووجه التحريم أن يحي عليه السلام قال عند المنع من السلم في الحيواان على طريق التعليل أنه يتقاوت تفاوتاً عظيماً، فدل على أن ما يتفاوت تفاوتاً عظيماً لا يجوز السلم فيه عنده ومن المعلوم أن الجواهر والفصوص تتفاوت تفاوتاً عظيماً، فأما الحيوان ففي قول ابي حنيفة وأصحابه لا يجوز فيه مثل قولها وهو قول زيد بن علي عليهم السلام وقال الشافعي: السلم في جائز والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه نهى عن بيع الحيوان بعضه ببعض نسيئة)، وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تبيعوا الديناار بالدينارين، والصاع بالصاعين)، فقام إليه رجل فقال: يارسول الله، إنا الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل، فقال: (لابأس إذا كان يداً بيد)، وليس لأصحاب الشافعي أن يحملوه على أنه يمتنع النسأ للجنسيه لأنه لا يوجب المنع من النسأ لأحج وصفي علة الربا، ويدل على ذلك ماا روي عن ابن عمر أنه قال: إن من الربا أبواباً لا تخفى منها السلم في السن، ولم يرو خلافه عن غيره من الصحابة فجرى مجرى الإجماع وتسميته إياه بالربا لا يخلو من أن يكون لغة أو شرعاً فإن كان لغة تناوله قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَى}، وأن كان شرعاً فالشرع طريقه التوقيف فهو في حكم من أسنده، وروي عن النبي صلى االله عليه وآله وسلم من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم فاقت ضى ظاهره منع السلم فيما لا يتأتى فيه االكيل والوزن والحيوان داخل فيه، وأيضاً الجواهر لا يجوز فيها السلم لما يحصل فيها من التفااوت العظيم نص أصحاب الشافعي على اللؤلؤ والزمرد والياقوت فكذلك الحيوان لهذه العلة وذلك انه معلوم في الحيواان وإن اتفق الجنس والنوع والسن فإن التفاوت يعظم

(79/13)


بينها وهو الذي اعتمده يحي عليه السلام، وليس يلزم الثياب والبسط على ذلك لأنه ينضبط بالصفة واالذرع حتى يصير التفاوت يسيراً متعذراً لا سبيل إلي فهو باللألئ واليواقيت أشبه.
فإن قيل: ضبطه بالصفة ممكن بدلالة ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه يراها).
قيل له: لا يمتنع أأن يضبط بالصفة بعض الضبط ولسنا ننكر ذلك ألا ترى أن الياقوت واللؤلؤ يمكن ضبطها بالصفة ولكن لا يمكن ضبط شيء من ذلك بحيث يقل التفاوت وهذا معلوم ضرورة فقوله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أن يصفها بغاية ما يمكنها وليس فيه دليل على أنها إذا بلغت الغية قل التفاوت.
فإن قيل: غية أوصافه ان يضبط بالصفة.
قيل له: الأوصاف المقصودة منه لا يمكن ضبطها ألا برى أن االجاريتين تتسااويان في الجنس والحسن ـ واالسن ـ ومع ذلك لاتساويان في الثقل والخفة على القلب ودقائق المحاسن والأثمان تتفاوت لهذه المعاني، وكذلك حكم العبدين لأنهما يتفقان فيما ذكرناا ويختلفان في حفظ الأسرار والذكاء وضحة االتمييز والعقل والقوة والهداية إلى الأعمال ودقائق المحااسن والكسل والكسل والنشاط وكل ذلك مما يتفوت الثمن من أجله، وليس كذلك حكم الثياب وكذلك سبيل الفرسين فبان صحة ما قلناه من عظم التفاوت بين الحيوان.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه استسلف بكراً من االإبل فجائت إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يعطيه من الصدقة.
قيل له: يمكن أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أخذه على وجه الضمان للقيمة والسوم، ثم أعطاه من إبل الصدقة على المراضاه وليس فيه ما يدل على أنه أثبت البكر في الذمه، وقول الراوي استسلف على وجه التجوز.

(79/14)


وقد قيل: إن القرض على إبل الصدقة جائز لجواز أن يثبت في الصدقة حيوان مجهول ولا يمتنع أن يثبت عليها حيوان مجهول، وقد قيل: إنه منسوخ بما ثبت من النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة بما روي أنه من الربا، ويحتمل أن يكون ذلك كان قبل تحريم الربا وقبل المنع من الآجال المجهولة إذ في بعض الأخبار أخذ البعير بالبعيرين في إبل الصدقة وذلك أجل مجهول، كل ذلك يدل على أنه كان سلفاً على التحقيق فهو منسوخ.
فإن قيل: كيف تجزون في الدية والنكاح الحيوان أن يكون مجهولاً في االذمة ثابتاً فجوزوا ذلك في السلم.
قيل لهك لأن الدية تحتمل من الجهاالة ماالا يحتمل السلم وكذلك المهر ألا ترى أن الذي يجب في الدية إنماا هو الأسنان فقط ولا يجب ضبطه بسائر الأوصاف والنكاح يصح على مهر المثل والسلف لا يجوز على القيمة وقد يجوز النكاح بغير ذكر الامهر أصلاً فصح االفرق على أن ماا روينااه من الهنهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة أولى مما رووه من أنه صلى الله عليه وآله وسلم استسلف لوجهين: أحدهما ـ الحظر وهو أولى من الإباحة، والثاني ـ احتمال أن يكون ذلك كان خاصاً له صلى الله عليه وآله وسلم قال: ولا بأس أن يسلم جميع ذلك في غيره وهذا مما لا خلاف فيه لأن التعجيل يزيل حكم التفاوت، ألا ترى أنه يجوز أن يشتري بها الأشياء المعينة إذا عدل قبضها فكذلك حكم السلم.
مسألة:
قال: ولا بأس أن يسلم الأشياء المختلفة في الشيء الواحد نحو أن يسلم عرضاً مع حيوان أو نقداً مع طعام، أو غير ذلك، والأصل فيه أن الذي جاز أن يكون ثمناً معجلاً في بيع العين جاز أن يكون ثمناً في السلم على ما بيناه في كون ثمن السلم جزافاً فكذلك هذه المسألة على أن النقد والطعام يجوز أن يكونا ثمن بيع العين، وإن كانا مؤجلين فأولى أن يصح ما ذهبنا إليه.
مسألة:

(79/15)


قال: ولا بأس أن يسلم ماا يكال فيما يوزن، أوما يوزن فيما يكال، ولا يجوز أن يسلم ما يكال فيما يكال، أو ما يوزن فيما يوزن، خلا الذهب والفضة، فإنهما يسلمان في الموزون، وغيره.
ما قلناه من أنه يجوز أن يسلم ما يكال فيما يوزن وما يوزن فيما يكاال المراد به إذا كانا من جنسين فأما إذا كانا من جينسن فأم إذا كانا من جنس واحد لم يجز ذلك كأن يسلم خبز الحنطة في الحنطة، و خبز الأرز في الأرز وما جرى مجراهما لأن عندنا أن حصول أحد وصفي علة الربا يمنع النسأ ويجيز التفاضل على ما مضى في باب بيع الأجنسا بعضها ببعض ولهذا لا نجيز بيع ثوب بثوب أو ثوبين نسأ، إذا كانت من جنس واحد والجنسية أحد وصفي علة الربا، وقد استوفينا الكلام فيه والخلاف، فلا وجه لإعادته، وكذلك ماا يوزن لا يجوز أن يسلم فيما يوزن ولا ما يكال فيما يكال لجصول أحد وصفي علة الربا، وهو الوزن أو الكيل، فأما الذهب والفضةفقد بين فيم مضى أنه يخصهما بالإتفاق، أو نزيد في العلة على مالا يشتمل على الذهب والفضة على ما سلف القول فيه.
مسألة:

(79/16)


قال: ولا بأس أن يسلم في الفواكه الرطبة واليابسة ومالم يبق منه ومن غيرها إلى الحول أجمع جاز فيه السلم إذا كان أجله إلى الوقت الذي يوجد ذلك فيه فإن كان غير ذلك الوقت بطل السلم أما الفواكه اليابسة التي لا تتفاوت أحوالها ويمكن ضبطها فعند أبي حنيفة السلم فيها جائز وعندنا يجوز السلم في الجميع لأن ضبط الجميع بالصفة والوزن مما يمكن ويقل معه التفاوت وما جرى هذا المجرى يجب أن يصح السلم إلى وقت حلوله في شيء من الأوقات فلا يجوز السلم فيه عند أبي حنيفة وإن وجد في بعض تلك الأوقات وعندنا وعند الشافعي ومالك الإعتبار بوجوده وقت حلوله لأنه هو الوقت الذي يجب فيه تسليمه فإذا كان مماا يوجد في وقت وجوب التسليم فلا معتبر بسائر الأوقات دليله الأوقات التي هي قبل عقد السلم وبعد حلولها لأنه لمالم يجب فيه التسليم لم يبق في وجوده أو عدمه فيه معتبر.
فإن قيل: لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، وكان معلوماً من مراده صلى الله علي وآله وسلم أنه الكيل المعلوم عند الناس كان ذلك مانعاً من السلم في ملء إناء مجهول القدر لجواز هلاكه قبل استيفاء السلم فوجب أن يكون انقطاعه قبلحلوله بمنزلة كونه منقطعاً كما كان جوازهلاك الإناء بمنزلة كونه معدوماً.
قيل له: ليس العلة في المنع من السلم في ملء إناء مجهول ما ذكرت بل هو جواز تعذر التسليم في الأغلب لأن االإناء قد ينكسر كثيرً، وإذا انكسر بطل التسليم وليس كذلك السلم فيما هو في الحال منقطع أو يجوز انقطاعه إذا علم أنه ويجد في قت حلوله لأنه لا يخشى فيه تعذر التسليم.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسلف رجلاً دنانير في تمر مسماً، فقال من حائط فلان؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من حاائط فلان فلا ولكن تمر مسمى وكيل مسمى وأجل مسمى).

(79/17)


فدل هذا الخبر على نفي جواز السلم فيما يجوز انقطاعه لأن تمر حائط بعينه قد يجوز أن ينقطع.
قيل له: لا دليل لأنه صلى الله عليه وآله وسلم منع منه لما جاز أن ينقطع في وقت الحول فيؤدي إلى تعذر التسليم فإنه انقعطع بعد عقد السلم أو كان منقطعاً عنده فالتسليم لا يتعذر إذا وجد وقت حلوله فلا يلزم ما ذكرتم به.
فإن قيل: لو لم يكن موجوداً من حين االعقد إلى حين الحلول لكان يفوت المسلم فيه فيحل السلم وهو معدوم فيجب أن يفسد إذ لا خلاف فيؤ فساد السلم إذا كن معدوماً في وقت الحلول.
قيل له: عندنا أن المؤجل لا يصير حالاً بموت من عليه الحق فلا يلزم هذا السؤال على أنا لو لم نقل ذلك أيضاً كان لا يلزم ذلك فإن الفساد يجب إذا عقد السلم على أن يكون حلوله في وقت انقطاعه فإما إن كان صادف ذلك لعارض ندر فلا يجب أن يفسد لجواز أن يعرض ذلك ألا ترى أن المسلم إليه يجوز أن يموت مفلساً في وقت الحلول وذلك يوجب تعذر التسليم إلا أنه لا معتبر به، وقد يجوز أن يتعذر التسليم في وقت الحلول لإفلاس المسلم إليه أو لغيبة أحدهما منقطعة فلا معتبر به، فإذاً الإعتبار إنما هو بما قلناه من أنه يفسد إذا اقتضى العقد حلوله في وقت الإنقطاع فأما ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم دخل المدينة وهم يسلمون في الثماار قبل محلها فنهى عن ذلك، فذلك محمول على أنهم لم يكونوا يجعلون الأجل في وقت الوجود فإن قيس على بيع الأعيان في أن بيعه لا يجوز إذا كان معدوماً في حال العقد لم يصح ذلك لأن العلة في بيع الأعيان أن تسليمه يجب في حال العقد وليس كذلك في السلم وليس لهم أن يقيسوه على ما يكون معدوماً في حال الحلول بعلة أأنه مسلم في معدوم لأنه إذا أسلم في موجود يبقى ثم يعدم في حال الحلول فسد وإن يكن سلماً في موجود فبان أن الإعتبار إنما هو بحال الحلول.
مسألة:

(79/18)


قال: ولا بأس بالسلم في اللحم والشواء إذا كانا موصوفين بصفة معروفة بينة أما السلم في اللحم فلا يجوز عند أبي حنيفة، ويجوز عند أبي يوسف، ومحمد إن سمى مكاناً معلوماً من الحوان، ونحو ذلك عند الشافعي وأجازه أبو حنيفة في الشحوم والدليل على صحة السلم في اللحم قوله صلى الله عليه وآله وسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم فلم يخص موزوناً من موزون كما لم يخص مكيلاً من مكيل فوجبت صحته في جميع الموزونات كما وجبت في جميع المكيلات واللحم موزون فوجب أن يصح فيه السلم.
فإن قيل: لا خلاف أن وقوع التفاوت فيما يسلم فيه يبطل السلم واللحم يتفاوت.
قيل له: أن يسير التفاوت معفو عنه في السلم لولا ذلك لبطل السلم رأساً لآن شيئااً منه لا يسلم من يسير التفاوت، واللحم إذا ذكر الحيوان وجنسه ونوعه كان يقال لحم شاة أو بقة او جمل، ويذكر المعلوف منها والسائم منها، ويذكر جلب ناحية إن كان يتفاوت ذلك، ويذكر العضو والسمن واالهزال، ويذكر العظم الذي فيه، أو يذكر مخلوعاً من العظم زال التفاوت في مجرى االعادات ولم يبق بعد ذلك من التفاوت إلا االقدر اليسير الذي يكون دوه تفاوت الثياب، والبسط والأكيسة التي لاخلاف في جواز السلم فيها فوجب أان يصح السلم فيها وألا يبطله التفاوت على أأنه إذا ضبط بصفة لا تتغير معها القيمة في اللحم، وجب أن يصح السلم قياساً على سائر ما يجوز السلم فيه من المكيل والموزون والثياب، على ان أبا حنيفة يجوز الاسلم في االبيض عدداً ونحن نعلم أن التفاوت فيه من الصغر والكبر أعظم من التفاوت في اللحم إذا وصف بما ذكرنا وأما االشوي فالطريقة في تصحيح السلم فيه هي الطريقة التي بيناها في اللحم فلا وجه لإعادته، والشافعي لا يجيز السلم فيه.
فإن قيل: إنه يختلف ويتفاوت لأنه لا يمكن ضبط ما تأخذ االنار منه.

(79/19)


قيل له: يمكن ذلك حتى يقل االتفاوت ويكون أقل من سائر التفوات لمعفو عنه في السلم، ألا ترى أن االثياب المصبوغ يصح فيها السلم، وإن كان لا يمكن أن يضبط حتى يعلم تأثير الصبغ فيها على التحقيق إذا وصف بحيث يكون التفاوت فيه يسيراً وكذلك تأثير ونظائره كثيرة نحو تأثير الشمس في النضج في الفواكه وتأاثير االخرز فيماا يخرز وتأثير النسيج فيما ينسج ولا خلاف أن االتفاوت اليسير في جميع ذلك معفو عنه فوجب أن يكون كذلك تأثر النار في الشواء وكذلك تأثير الجفاف في االحبوب يشهد لما قلناه على أن الشافعي يجيز السلم في االسمن، وإن كانت النار تأخذ منه، وهو ينقض تعليمهم للشواء.
قال: ولا بأس بالسلم في الرؤوس والبيض ولكن يجب أن يكون ذلك بالوزن والوجه في ذلك ما تقدم والذي يجيء على قياس قوله أنه يجوز فيها السلم نياً ومشوياً إذ قد نص على صحة السلم، وأما البيض فلا يجوز السلم فيه عدداً لم يقع فيه من التفاوت في الصغر والكبر والثقل والخفة خلافاً لما قاله أبو حنيفة، ولا خلاف فيه بيننا وبين الشافعي.
فإن قيل: العادة الجارية أنها تباع وتشترى عدداً فدل ذلك على قلة االتفوات فيه.

(79/20)


قيل له: النس يتبايعون وتشارون في الأعيان على حد لا يجوز مثله في السلم فلا يكون بيع العين عياراً على بيع السلم ونحن قد قدمنا أنه يقع التفوت فيه إذا عد، ويقل التفاوت إذا وزن فكان الوزن أولى، لأن التفاوت الذي يعفى عنه في باب السلم هو التفاوت الذي يتعذر وتغير ضبطه فإذا أمكن ضبط بعض تفاوت البيض بالوزن ولم يكن ذلك معفواً وجب ضبطه بالوزن قال: وكذلك القول في الحطب والقصب والافواكه التي لا تكال ولا توزن وما أشبه هذه الأشياء لا يسلم فيه إلا وزناً ووجهه أن جميع ذلك يمكن ضبطه بالصفة والوزن والجفاف والرطوبة فيقل التفاوت فيه ولا بأس بالسلم في اللبن والأدهان ووجهه ما مضى وييجب أن يوصف اللبن بجنس االحيوان والصفة وبأنه حلب يومه، أو غير ذلك وكذلك الدهن يجب أن يضبط بجنسه وصفته وكل ما يتفاوت حاله بترك ذكره أو يختلف من أجله قيمته أو رغبة الناس فيه من كونه جديثاً أو عتيقاً، وما جرى مجرى ذلكن قال: ولا بأس بالسلم في الثياب وفي البسط والأكسية وغيرها مما لا يتفاوت تفاوتاً غظيماً فلا يصح السلم في شيء منها إلا بعد أن يوصف بصفة معروفة بينة وهذه الجملة ممالا خلاف فيها ويجب أن يوصف طوله وعرضه ودقته وغلظه، ولونه، وكل ما تتغير به قيمته وتختلف أغراض الناس فيه.
مسألة:

(79/21)


قال: ولا يجوز أن يشترط في شيء مما يسلم خير ما يكون، بل يشرط الوسط، يدل على أن مذهبه أنه لا يجوز أن يشترط رديء ما يكون وحكي عن الشافعي أن اشتراط الأجود لا يجوز وإن اشترط الأردأ عنده على قولين ووجه ما ذهبناا إليه أن اشتراط الأجود يدخله في باب الجهالة وكذلك الأردأ لأنه ليس للأجود والأردأ حد يضبط بل الأظهر في كل ما يقال فيه أنه جيد أن يوجد ما هو أجود منه، وكذلك ما يقال فيه أنه رديء فلما كان اشتراط ذلك يؤدي إلى الجهالة وعظم التفاوت وجب أن يكون مبطلاً للسلم كما يبطله سائر ما يعظم تفاوته فأما إذا اشترط الوسط من الجيد أو الوسط من الرديء فقد سلم من الجهالة مومن أن يكون اشترط مالا يمكن الوقوف عليه.
فإن قيل: لا يمتنع أن يقول المسلم إليه قد تعذر وجود الأردى بأن يقول في كل رديء يجوز أن يكون أردى منه فيؤدي إلى تعذر التسليم.
مسألة:

(79/22)


قال: ولا يجوز إن كان المسلم فيه مما تنبت الأرض أن يشترط فيه ما يخرج من مزرعة بعينهاا، وإن كان لحماً و لبناً ما يكون لإبل بأعيانها أو بقر أو غنم بأعيانها وإن كانت ثياباً أو ابريسما ما كانت صنفة رجل بعينه، أو ما يكون في محلة بعينها ولا بأأس أن يشترط ما يكون في بلد بعينه، وكذا القول في سئر ما جرى هذا المجرى ولا يجوز أن يشترط فيه ما يجوز تعذره على هذا الحد وبه قال أبو حنيفة والشافعي، والأصل فيه الحديث الذي ذكره يحي عليه السلام في الأحكام عن النبي صلى االله عليه وآله وسلم أن يهودياً قال له: يا محمد إن شئت أسلمنا إليك وزناً معلوماً في كيل معلوم من تمر معلوم إلى اجل معلوم من حائط معلوم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يا يهودي ولكن إن شئت فأسلم وزناً معلومااً إلى أجل معلوم لا أن نسمي لك حائطاً فصار ذلك حجة فيماا ذكرنااه من أن السلم لا يصح فيما يجوز انقطاعه من أيدي الناس عند الحلول، وقلنا إنه لا بأس أن يشترط م يكون في بلد بعينه لأنه البلدان الكبار لم تجر العادة في أن يخلى أهلها دفعه واحدة وأن يصيبها جائحة دفعه والشيء إذا اشترط أن يكون من بلد لا يجوز اانقطاعه لما ذكرناه فذلك يصح السلم فيه ولا نألو جوزنا السلم مع شرط أن يكون ذلك من مزرعة أو حائط معينين كان ذلك غرراً ووجب له بطلان السلم كما أن االسلم إلى برء مريض لما كان غرراً وجب بطلانه.
مسألة:

(79/23)


قال: وإذا أسلم إلى يوم بعينه فعلى المسلم إليه أن يوفيه حقه في أول ذلك اليو ووسطه وآخره وذلك لما ذكره يحي عليه السلام في حديث اليهودي الذي أسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن اليهودي جاءه عند انتهاء آخر الأجل تقاضاه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا يهودي إن لناا بقية يومنا هذا، فدل ذلك على أأن االحق إذا وجب في اليوم كان اليوم كله وقتاً له وإن الخيار للمسلم إليه في أن يوفيه في أي وقت من اليوم شااء، وكان القياس أن يوفيه في أول ذلك اليوم لأنه وقت المحل لكنه ترك القياس فيه للأثر الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن المسليمن لا يستحسنون حبس من يقول لغريمه أوفيه بعد ساعتين أو ثلاث أو بعد أن أصلي ويمكن أن يقاس على النية لما وجبت للصوم في آخر جزء من الليل وتعذر ضبطه صار الليل كله وقتاً لها وكذلك القول في النهار بعلة أنه في أحد طرفي الليل والنهار وتعذر ضبطه.
قال: فإن أسلم إلى رأس الشهر وجب أن يأخذ حقه في الليلة االأولى إلى طلوع الشمس من الشهر الثاني.
قال: وكذلك القول إن أسلم إلى رأس السنة وذلك أن رأس الشيء أوله وما علامته، لذلك يقال: رأس الجبل ورس الرمح لما علا ولأن ما بعده يكون في جنب النقصان وكذلك رأس الشهر ورأس السنة ولا يجوز فساد السلم لتجويز أن يعبر عن آخر الشهر لأن التفاوت فيه يقل لأنه يكون قدر ساعة، أو أقل ولأن العدة والعرف جااريان بأن يعبر برأس الشهر عم علا منه وعن اول، فكان القياس أن يكون إلى طلوع الفجر إلا أنه جعله إلى طلوع الاشمس لأن التصرف في أعم الأحوال يكون بالنهار فجعل بعض النار من وقته.
مسألة:
قال: ولا بأس أن يسلم إلى يوم الفطر أو يوم الأضحى، أو يوم عرفه، أو يوم التروية، أو ما أشبه ذلك من الأيام المشتهورة وهذاا مما لا خلاف فيه لأن الأجل إلى هذه الأياام أجل معروف مضبوط لا يقع فيه التفاوت والغرض بضرب الأجل هو ضبط الوقت وحصره.

(79/24)


قال: ولا يجوز السلم إلى قدوم غائب أو خروج حاضر، أو برء مريض، أو مشي صغير وما أشبه ذلك ولا إلى وقت الحصاد، أو الجذاذ أو إلى مجاز الحااج، أو إلى رجوعهم، أو إلى شيء من هذه الأوقات التي تتقدم أو تتأخر، وهذا أيضاً مم لا خلاف فيه لأنهاا أوقات غير مضبوطة ولا محصورة بل تتقدم تقدماً كبيراً، أو وتتأخر أم تفاوتا، فيصير الأجل المضروب إليه مجهولاً، فوجب أن يكون ذلك مفسداً للسلم ونص في المنتخب على أنه لا يجوز السلم إلى النيروز، وصوم النصارى وما أشبهه، وكل ذلك مبني على أن هذه الأوقات تتقدم وتتأخر، ويكون الأجل إليها مجهولاً فإن كان يمكن ضبط شيء منها حتى يصير وقتاً معلوماً لا يتقدم ولا يتأخر وجب أن يصح السلم إليه.
مسألة:
قال: ويجوز للمسلم إليه أن يعجل السلم قبل وقت محله على أن ينقصه المسلم ولا يجو تأخيره على الزيادة إنما جاز التعجيل على النقصان لأن الحط مماا يجوز تأخيره سواء كان في الوقت أو في المسلم إليه فيه فإذا جاز ذلك على الإنفراد حااز على الجميع وتقدم الشرط في ذلك لا يؤثر كما أن رجلاً لو شارط رجلاً أن يبيع منه ثوبه إن هو باع منه عبده ووقع البيعان صحا ولم يؤثر فيهما تقدم الشرط فأما في الزيادة فإنه لا يجوز لأنه لا تجوز الزيادة للأجل لأنه لا يجوز أن يبع عشرة بخمسة عشرة إلى سنة على ما مضى في كتاب البيع فهذه الزيادة لو وقعت إبتداء عنده تفسد العقد فلم يصح إلحااقه به وليس كذلك الحط لأنه لو ابتدأ به في العقد لم يفسده فكذلك إذا لحق.
قال: ولا يجوز للمسلم أن يسلم في الاشيء ما يمتنع أن يكون ثمناً له في الأوقات كلها وذلك بأن يسلم درهماً في قفير من بر، والجه فيه ما مضى في البيع من بيع الشيء بزيادة لا يتغبن بمثلها للأجل فإذا ثبت ذلك في بيع العين ثبت في بيع السلم.

(79/25)


قال: ولا بأاس لكل واحد من المسلم والمسلم إليه أن يترك بعض ما وجب له على صاحبه من السلم قبل القبض وبعده وذلك أنه قبل القبض يكون حطاً وهو جائز، ويكون بعد القبض هبة، وهي جائزة فإذاً لا إشكال فيما ذكره.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً أسلم إلى رجل دراهم في شيء موصوف ثم شرك غيره في سلمه وأخذ منه بعض ما نقد المسلم إليه كان ذلك فاسداً سواء شركه بعد ما قاول السمسلم غليه قبل أن ينقده الدراهم او بعده، ووجهه أنه متى فعل ذلك كان قد باع السلم قبل القبض، ولا خلاف ان التصرف في السلم قبل القبض لا يصح كما لا يصح في الصرف وقد مضى الكلام فيه.
قال: ولو أن المسلم إليه شرك رجلاً في ما عليه للمسلم على أن يأخذ منه نصف السلم ويرده على المسلم كان ذلك باطلاً وذلك حاول بطلانه.
قال: ولو أن المسلم استوفى حقه من المسلم إليه ثم شرك فيه غيره جاز وكان بيعاً جديداً، وهذاا كما ذكر، ووجهه ما ذكر في الكتاب من أنه بيع جديد.
قال: ولو أن المسلم إليه اسلم نصف ما أخذه من المسلم إلى رجل ليأخذ منه نصف ما يجب للمسلم عليه كان ذلك جائزاً، ووجهه أن المسلم إليه أسلم بعض ما أخذه وملكه إلى غيره سلماً مستأنفاً فوجب أن يصح.
مسالة:
قال: وإذا اختلف المسلم والمسلم إليه جنس ما أسلم فيه، أو مقداره، أو المكان الذي يتقابضان فيه، ولم يكن لأحدهم بينة حلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه وبطل السلم وإن أتيا جميعاً بالبينة كانت البينة بينة المسلم.
وجه قولنا أن كل واحد منهما يحلف على دعوى صاحبه إن كل واحد منهماا مدع ومدعى عليه لأن المسلم يدعي على المسلم إليه جنساً هو له منكر، أو قدراً هو له منكر، أو استحقاق قبض في مكان هو له منكر والمسلم إليه يدعي أنه يلزمه قبض جنس أو مقدار، أو في مكان عوضاً مما قبضه من رأس المال والمسلم منكر لذلك.

(79/26)


وقلنا إنهما إن أتيا بالبينة كانت البينة بينة المسلم، لأنه لا يخلو من أن يجب إسقاط البينتين أو اثباتهما أو اثبات أحدهما لا يجوز اسقاطهما لأن المسلم قد ثبتت له بينة ما ادعاه على المسلم إليه ولا سبيل إلى إسقاط بينته، ولا يجوز إثباتهما لكنا قضينا للمسلم بأكثر مما يدعيه لأنه إن ادعى بُراً، واالمسلم إليه يدعي شعيراً، وقبلنا البينتين قضينا للمسلم بالبر والشعير، وذلك مالم يدعه فلما فسد ذلك ثبت أن الواجب قبول إحدى البينتين فإذا ثبت ما ادعاه المسلم ببينته أثبتنا بينته، وألغينا بينة المسلم إليه، وأيضاً لو قبلنا الابينتين قبلناهما على أن كل واحد عقد للسلم مخلف لعقد الآخر فإذا ثبت العقد أن دفعنا إلى المسلم ما يدعيه لثبوت عقده الذي ادعاه ولم يدفع إليه ما ثبت بالعقد الآخر لأنه لا يدعيه ويبطل إقرار المسلم إليه فيما أقر له به فبطلت بينته لأنه بمنزلة من يقر لغيره بحق، ويقيم عليه البينة وهو مبطل لإقراره في أن بينته تبطل.
فإن قيل: فيلزمكم على هذا ألا تقبلوا بينة المسلم إليه وإن لم يكن للمسلم بينة.
قيل له: لا يلزم ذلك لأنه بتجرد دعوى المسلم إليه يلزمه قبض ذلك عما قبضه من راس المال فتسمع بينته، ولأنه لا يؤدي أن يدفع إلى المسلم إليه أكثر مما يدعيه.
مسألة:
قال: وإذا قال المسلم أسلمت سلماً فاسداً، وقال المسلم إليه لا بل أسلمت سلماً صحيحاً فأيهما أقام البينة، قبلت بينته، فإن أقاماها جميعاً كانت البينة بينة المسلم إليه، وإن لم يكن لواحد منهما بينة فالقول قول من حلف منهما وإن حلفا جميعاً فالقول قول من يثبت السلم، وإن نكلا جميعاً بطل السلم.
قلنا: أيهما أقاما البينة قبلت بينته لأنه لم يثبت إلا عقد واحد فأيهما أقام البينة على صفة ذلك العقد وجب أن تكون مقبولة ويجب على هذا أن المدعي للصحة لو ادعى عقداً ثانياً يحلف له المنكر لصحة السلم.

(79/27)


وقلنا: إنهما إن أقاما جميعاً البينة، كانت البينة بينة المسلم غليه لأنه المدعي لصحته وكذلك لو كان المدعي لصحة السلم هو المسلم كانت البينة بينته فالإعتبار بمن يدعي صحة السلم في أن البينة بينته.
ووجهه أنا نصدق البينتين لأن ظاهر أحوال المسلمين السلامة ومتى صدقناهما وجب أن تحمل شهادتهما على عقدين أحدهما فاسد والآخر صحيح، فيجب أن يلغى العقد الفاسد، وإن قامت به البينة، والعقد الصحيح يجب أن يقرر متى قامت بنته فصار الحكوم به بينة المدعي لصحة السلم لما بيناه. وقلنا: إن لم يكن لواحد منهما بينة فالقول قول من حلف منهما لأن كل واحد منهما مدع، ومدعى عليه، فأيهما حلف لصاحبه سقطت دعوى خصمه عنه، ومن لم يحلف تثبت عليه دعوى صاحبه لنكوله فيكون القول قول من حلف منهما على ما بينااه،
فإن قيل: فكيف صار كل واحد منهما مدعياً ومعدى عليه؟
قيل له: لأن تالمدعي لصحة السلم يدعي حقاً بعينه بموجب سلمه إلا أنه إن كان هو المسلم فهو يدعي مبيعاً عليه بعينه، وإن كان هو المسلم إليه فإنه يدعي عليه أنه يلزمه قبض مبيع معين عوضاً عن رأس ماله والمدعي لفساد الاسل مقر بالسلم ويدعي فساداً لم يظهر فصار مدعياً من هذا الوجه فوضح ما ذكرناه من أن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه.
وقلنا: إن حلفا جميعاً كان القول قول المثبت لصحة السلم لأنه يدعي خلاف الظاهر فعليه البينة، وعلى خصمه اليمين، فكما أن من ادعى على غيره حقاً فأنكر المدعى عليه، لا يلتفت إلى يمين الدعي لأنه مدع خلاف الظاهر لأن المدعي فساد السلم مدعي عليه.
وقلنا: إن حلفا جميعاً كان القول قول المثبت لصحة لاسلم لأنه يدعي خلاف الظاهر فعليه البينة، وعلى خصمه اليمين، فكما أن من ادعى على غيره حقاً فانكر المدعى عليه، لا يلتفت إلى يمين المدعي لأنته مدع خلاف الظاهر لأن المدعي فساد السلم مدعي خلاف الظاهر.
مسألة:

(79/28)


قال: ولا بأس للمسلم أن يأخذ الكفيل والرهن من المسلم إليه على ما أسلم إليه والأصل فيه قول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، فدل على أخذ الرهن في الدين والسلم من جملة الديون.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الزعيم غارم)، والزعيم هو الكفيل فإذا كفل السلم فيجب أن يكون غارماً، وذلك يقتضي صحة الكفالة فيه ولا خلاف في صحتها في سائر الحقوق فكذلك في السلم والعلة أنه من حقوق الأموال.
فإن قيل: أليس روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كره ذلك؟
قيل له: ذلك محمول على استحباب الترفيه والتوسعة بين الناس إذا لم يخف ضياع المال وتلفه.
وروي عن ابن عباس انه قاال: أشهد أن السلم المؤجل في كتاب الله ثم تلا قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمىً}، على أن الرهن مقبوض للإستيفاء وعقد السلم يوجب الإستيفاء، فصح الرهن كسائر الديون.

(79/29)


كتاب الشفعة
باب القول فيمن تجب له الشفعة وكيفية وجوبها
تجب الشفعة في الدور والبقاع والضياع إذا بيعت للشريك في أصل المبيع.
هذه الجملة لا خلاف فيها إذا كان المبيع مما تصح القسمة فيه فأما مالا يحتمل الفسمة مثل الحمام، والرحى فذهب الشافعي إلى أنه لا شفعة فيه، وأوجب فيه الشفعة أبو حنيفة وأصحابه وعندن في جميع ذلك الشفعة وكذلك في المماليك والحيوان والعروض وهي في هذه الأشياء للشريك في أصل المبيع دون غيره، والأصل في ذلك حديث ابن أبي مليكه، عن ابن عباس، عن رسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الشريك شفيع والشفعة في كل شيء)، وعن ابن أبي مليكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (في العبد الشفعة وفي كل شيء)، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (في العبد الشفعة، وفي كل شيء)، وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الشفعة في كل شرك وحائط لا يصلح لشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن باع فهو أحق به.
وحديث جابر قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشفعة فيمالم يقسم وكل هذه الأخبار معامة فيما ذهبنا إليه.
وفيه أن موضوع الشفعة لدفع الأذى لضرر المشاركة والمجاورة، ولا يختلف فيه العلماء وقد علمنا أن مالا يتأتى فيه القسمة يكون الأذى بالمشاركة فيه أشد لأنه لا يزول كما يزول فيما تأتي فيه القسمة إذا قسم.
فإن قيل: المقصد منها دفع الأذى في ما يدوم وهذا غير موجود في العروض والحيوان.

(80/1)


قيل له: ولا يتحصل الدوام في شيء من الأشياء وإنما بطول المشاركة في بعض الأشايء على أن العروض والحيوان قد يجوز أن يبقى مدة طويلة وربما يتهدم العقار قبل تلف الحيوان والعروض فلا معنى لماا ذكروا على أن ذلك لو صح لكان لنا أن نقول إن ذكر الدوام لا معنى له لأن الغرض هو دفع الأذى ويمكن أن يقاس على ما أجمع عليه بحصول الشركة، وما يتعلقون به من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشفعة في كل شريك في أرض أو ربعه، أو حائط وما أشبه ذلك مخصوص بما ذكرنا.
مسألة:
قال: ثم الشفعة للشريك في الشرب ثم للشريك في الطريق ثم للجار الملازق، كل من أثبت شفعة الجواز فلا يخالف في الشرب والطريق وأنهما يتقدمان عليه ولا خلاف أنه لا شفعة للجار إذا لم يكن ملازقاً، وإنما الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة وأصحابه في الشرب والطريق فإنهم يسوون بينهما ونحن نقدم الشرب على الطريق، والوجه فيه أن الشرب يجمع حقين حق الماء وحق المجرى فهو أوكذ من الطريق الذي ليس فيه إلا حق الإستطراق، وأيضاً موضوع الشفعة على الإختصاص، ألا ترى أنه لا خلاف أنه لا شفعة للجار مع الشريك في الأصل لأنه أخص بالمبيع بدلالة أن من كان له حق في الطريق فله أن يفتح من داره تلك إلى الطريق من الأبواب ما شاء، وليس كذلك من كانت لأرضه فوهة إلى نهر أنه ليس له أن يفتح إليه فوهة أخرى، فبان أن التخصيص في الشرب أوكد فوجب أن يكون الشفيع فيه مقدماً على الشفيع في الطريق فتأذى شركة الشرب أشد من تأذي شركة الطريق، فوجب أن يكون ذلك أولى فلهذا قدم الشريك في الأصل.
مسألة:

(80/2)


قولنا وقول أبي حنيفة وأصحابه في الشفعة بالجوار واحد والخلاف فيه بيننا وبين ابن أبي ليلى والشافعي والإمامية، حكى الكرخي أن ابن ابي ليلى كان يقول في ذلك مثل قول أبي حنيفة ثم رجع عنه، والدليل على صحة ما ذهبنا إليه في ذلك الأخبار المشهورة منها حديث عطاء، عن جابر قالك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً)، وحديث عمرو بن شعيب، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أرض ليس لأحد فيها شرك ولا قسم، إلا الجوار، قال صلى الله علي وآله وسلم: (الجار أحق بصقبه)، وهذا يبطل كل تأويل يتأوله المخالف.

(80/3)


وحديث سعد بن أبي وقاص لولا أني يمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول الشريك أحق بالشفعة والجار أحق ممن وراءه ما اشتريته، أو كما قال فقد صرح بإيجاب الشفعة للشريك دون الجار وللجار دون من رآه وحديث ابن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (جار الدار أحق بشفعة الدار)، وعن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (جار الدار أحق بالدار)، وحديث جابر: (الشفعة في كل شرك توجب الشفعة ف شرك الشرب والطريق، فأما استدلالهم بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (الشفعة في مالا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، وفي بعض الأخبار فغذا وقعت الحدد وصرحت الطريق فلا شفعة، فيضعف لأن أكثر ما في قوله الشفعة فيما لم يقسم إيجاب الشفعة للخليط وهذا مالا ننكره ولا خلاف فيه فأما قول من قال: فإذا قعت الحدود فلا شفعة فقد قيل أنه من لفظ الراوي أدرجه في الحديث فلو ثبت أنه من لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحتمل أن المراد أن الشفعة لا تجب بالقسمة ووقوع الحدود فيكون المقصد بيان أن ذلك لا يوجب الشفعة ولو كانت القسمة جارية مجرى البيع ومشبهة ل ويحتمل أيضاً أن بعض الشركاء إذا باع حصته ثم وقعت القسمة بطلت الشفعة بينهما على أن ترك الشفعة إلى أن تقع القسمة مبطل لها ليعلم أن طلب الشفعة على الفور، فأما تأويلهم الجار على الشيك فهو بعيد لأن الشريك في اللغةى لا يسمى جاراً وما حكي أن المرأة عبر عنها بالجار فذلك لا للشريكة إذ لا شركة بينهما وبين الزوج، وإنما هو للقرب بالحسد بينهما فتشبه بالجار وعلى هذا يحمل قول الشاعر:
... ... ... أجارتنا بيني فإنك طالقة

(80/4)


على أن ما ذهبنا إليه أولى لأنه يفيد شرعاً مجدداً، وتأويلهم هو ينقي الأمر على ماكان عليه والناقل أولى بالتأويل من الثاني كالعلة ولأن ماذهبنا إليه أحرى في دفع التاذي لأن التأذي بالجار قد يكون قريباً من التاذي بالشريك وربما كان التأذي به أشد لأن الجار له أن ينفرد بالأبنية المؤذية، وليس ذلك للشريك على أن في أخبارنا نصوصاً لا تحتمل التأويل فصار قولنا أولى.
مسألة:
قال: وكل مصر مصره المسلمون فلا شفعة فيه للذمي، ووجهه أن المصر لا حق لهم فيه إلا ما يملكون فلا يفسح لهم في الشفعة ليكون تفرقة بين المصرين، لوما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه وقال تبارك وتعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذَيْنَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةَ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا}، ولا يفح لهم في مصر مصره المسلمون ليتحكموا فيه ويعلو.
مسألة:
قال: فإن كان مصر مصره الكفار كان لأهل الذمة أن يشفع بعضهم على بعض ولم يكن لهم شفعة على المسلمين، ووجه منعهم أن يشفعوا على المسلمين ما قدمنا ولأن الشفعة موضوعة لدفع التأذي وقد أذن لنا في بعض الإيذاء لهم، قال الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كنتم معهم في طريق فألجؤهم إلى المضيق)، وعن علي عليه السلام أنه حاكم نصرانياً إلى قاضيه شريح فجلس إلى جنب شريح وأجلس النصراني بين يديه، وقال: لولا أنك ذمي ما جلست إلا معك فلم يسو بين مجلسه ومجلس خصمه لأنه كان ذمياً، وإن كان فيه بعض الإيذاء فلما كان ذلك كذلك لم يجعل للذمي شفعة على المسلم إذ لا يدفع عنه جميع الأذى كما يدفع عن المسلم.
مسألة:
قال في المنتخب: والشفعة تجب لأهل الذمة في الضياع والدور والحيوان والعروض إلا الضياع التي تجب في غلاتها الأعشار.

(80/5)


الصحيح عنمدي هو ما ذكره في المنتخب لأن الأخبار الواردة في الشفعة ليس فيها تخصيص الذمي من المسلم ولأن سائر الأحكام لا فرق فيها بين الذمي والمسلم فوجب أن تكون الشفعة كذلك، ولأن هذا الجنس من الأذى مما يعظم ويبقى فيجب أن يكون مرفوعاً عن أهل الذمة كما يرفع عن أهل الملة مثل الرد بالعيب وخيار الرؤية وخيار الشرط وضمان رهونهم، وما يجري مجراه، وقوله: الإسلام يعلى ولا يعلى عليه ، ليس المراد به الحقوق والأحكام.
فأما منعهم الشفعة فيما تجب فيه الأعشار، فالمراد به إذا كان المشتري مسلماً ووجهه أنه يؤدي إلى إسقاط حقوق الفقراء لأن الذمي لا عشر عليه فإن كان المشري ذمياً توجهت الشفعة عليه للذمي، ولا شفعة للذمي في العبد المسلم تخريجاً؛ ووجهه أنا نمنعه من إمساك العبد فيجب أن نمنعه من أخذه بالشفعة، هذا إذا قلنا لا يصح أن يملكه بالشراء، وإن قلنا أنه يصح أن يملكه بالشراء ولكن يجبر على بيعه لم يمتنع أن تثبت فيه شفعة.
مسألة:

(80/6)


قال: ولا شفعة في الصداق وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وعند الشافعي فيه الشفعة ولا شفعة في الصدقة والهبة وعند ابن أبي ليلى ومالك في الهبة الشفعة، والأصل في ذلك أن الشفيع يأخذ الشيء بالبدل الذي حصل على المشتري من المال فإذا حصل الشيء له بغير بدل هو مال لم تجب فيه الشفعة فيه، والدليل على ذلك أنه لولم يكن الأمر على ما ذكرنا لكان الشيء يؤخذ بقيمته فلما لم يؤخذ بقيمته وأخذ بالثمن صح ما ذهبنا إليه ولا خلاف أنه لا شفعة في الإرث وكذلك الصدقة، والهبة لأنهما دخلا في ملكه بغير عوض، وربما قاسوه على البيع بعلة أنه دخل في ملكه بإختياره وهذا لا معنى له لأن الإختيار لا تأثير له في هذا الباب، ألا ترى أن الشيء يدخل في ملك اليتيم والمجنون بالشراء ولا إختيار لهما ومع هذا تجب فيه الشفعة، وأما الصداق فإنه وإن كان في مقابلة البضع فإن البضع لا قيمة له في الحقيقة ولأن المهر لا يملك به البضع وإنما يستباح البضع به على أنا لو أوجبنا أخذ المبيع بمهر المثل كنا قد أوجبنا أخذ العوض بحسب أحوال المالكه في حسنها وشبابها وتزوجها ونسبها وثروتها وهذا في نهاية البعد لأن إيجاب العوض بحسب أحوال المشتري خلاف موضوع الشفعة بل خلاف ما يتملك بالأعواض على أن المحكى أن ابن أبي ليلى كان يوجب أخذ المبيع بقيمته وهذا وإن كان بعيداً وبخلاف موضوع الشفعة فهو أقرب مما ذهب إليه الشافعي، وهذا يقتضي ألا شفعة في الخلع، وفي عوض المستأجر وما أشبهه مما لا يكون عوضه مالاً ومنه ما صولح به عن دم العمد، ويقاس ذلك على الصداق أو يجعل دم العمد أصلاً.
مسألة:

(80/7)


قال: والهبة على عوض يجب فيها الشفعة ويؤخذ بقيمة العوض وقول أبي حنيفة مثل قولنا إلا أنه يوجب الشفعة بعد حصول التقابض وفيهما جميعاً أعني الهبة والعوض، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال زفر تجب الشفعة إذا حصل الإيجاب والقبول وإن لم يحصل التقابض، والأشبه ان يكون قولنا كقول زفر، والأصل فيه أن الهبة على العوض كالبيع فكما أنه لو باع بعرض وجبت الشفعة ولزمه قيمة العرض كذلك إذا وهب على عوض لأنه عقد معاوضة أوجب تمليك البدل، والمبدل ولا يشترط التقابض فيها كما لا يشترط في البيع إذ قد بينا أن ذلك مثل البيع على أن من أصلنا أن الهبة تثبت من غير قبض فلم يكن لاشتراط القبض في هذا معنى.
مسألة:
قال: وإذا بيعت أرض بأرض دار بدار وجبت الشفعة بقيمة العوض دون المأخوذ بالشفعة وقيمته قيمته يوم عقد البيع وهذا ممالا أحفظ فيه خلافاً.
والأصل فيه إيجاب الشفعة بالثمن دون القيمة فوجب أن يلزم قيمة العوض لأن العوض هو الذي يجري مجرى الثمن ولأن الشفيع لو أجبنا عليه الأخذ بقيمة المبيع دون الثمن كان ذلك يؤدي إلى دخول الضرر على المشتري إن كان أعطى ما قيمته تزيد على قيمة المأخوذ بالشفعة موضوعة على أن يخرج المشتري كفافاً حتى يكون سبيله سبيل الوكيل من غير أن يلحقه ربح أو خسران، وقلنا إن قيمته قيمته يوم عقد البيع لئلا يلحق المشتري فيه الربح والخسران فكذلك المسألة الأولى ولأن الحق تعلق به يوم العقد فوجب أن تعتبر قيمته يوم العقد.
مسألة:

(80/8)


قال: وإذا اشترى رجل ضيعتين متفرقتين في صفقة واحدة ولإحدى الضعتين شفيع أخذ ماله فيه الشفعة وفرق الصفقة، وحكي عن الناصر أنه قال: يأخذ الجميع، أو يترك الجميع، والصحيح ما ذهبنا إليه وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وذلك أن حق الشفيع تعلق بإحدى الضيعتين فوجب أن يكون المأخوذ إحداهما كالرد بالعيب، ألا ترى أن إحدى الضيعتين لو وجد فيها عيب لكانت هي المردودة دون الأخرى لأن حق الإستحقاق بها تعلق، فكذلك الشفعة يجب أن يكون المأخوذ بها أحدهما على أن الموجب للشفعة هو الشركة في المبيع، أو في طريقة أو في شربه أو الجوار الملاصق، وليس بينه وبين الضيعة الأخرى شيء من ذلك فيجب أن لا يؤخذ بالشفعة قياساً على ما يشتري في صفقتين.
مسألة:
قال: وإذا كانت للصبي شفعة كان له أن يطالب بها إذا كبر وإن كانت للغائب كان له أن يطالب بها إذا حضر وذلك أن حقهما ثابت فلا يبطل للصغر ولا للغيبة، لأن الصغر والغيبة لا يبطلان شيئاً من الحقوق الثابتة فكذلك حق الشفعة إلا أن يكون عرض ما يبطله على ما نبينه من بعد.
مسألة:

(80/9)


قال: وإذا كانت أرض بين رجلين فباع أحدهما حصته من رجل آخر ولم يعلم شريكه ثم باع الشريك الآخر حصته من آخر ولم يعلم ببيع شريكه الذي باع قبله فليس للبائع الأخير ولا لمبتاعه فيه شفعة على المشتري الأول ووجهه أن ما كان يستحق به الشفعة قد خرج عن ملكه فبطلت شفعته كالآجنبي، ألا ترى أنه لما لم يكن بينه وبين المشتري شيء من حقوق الشفعة قائم لم يكن له شفعة فكذلك الشريك إذا باع نصيبه على ان الشفعة موضوعها والله أعلم لدفع ضرر المشاركة والمجاورة، فإذا باع الشريك نصيبه خرج من أن يخاف أذى أو ضرراً بالمشاركة فزال سبب الشفعة فوجب ألا تكون له شفعة وأما مشتريه فإنه ملك بعدما ملك المشتري الأول فلميكن له عليه شفعة لأن الشفعة لم تدخل عليه في شربه أو جواره ويجب أن يكون للمشتري الأول الشفعة على المشتري الثاني لأنه داخل عليه في الشركة كما ثبت له على مشتر ثالث لو دخل عليه في الشركة والعلة دخوله عليه في الشركة.
مسألة:
قال: والشفعة ـ على عدد الرؤوس لا على عدد الأنصباء، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحد قولي الشافعي وله قول آخر أنها على عدد الأنصباء، ووجهه ما ذكره يحي بن الحسين عليه السلام من أن صاحب النصيب الأقل لو انفرد لاستحق الجميع كما يستحقه صاحب الأكثر فإذا اجتمعا وجب ان يقسم المشفوع فيه بينهم بالسوية كالرجلين يدعيان شيئاً ولأحدهما شاهدان وللآخر ثلاثة من الشهود يقسم الشيء بينهم بالسوية والعلة أن كل واحد منهما لو انفرد لاستحق الجميع وكذلك الإبنان والإخوان في الإرث ولا خلاف ف الجارحين لو جرح أحدهما جراحه واحدة والآخر خراجات عدة فمات المخروج إن الدية تلزما على سواء وكذلك العبد إذا كان بين ثلاثة لأحدهم السدس وللآخر الثلث وللآخر النصف فأعتق صاحب السدس والثلث أن النصف يقوم بينهما على سواء والعلة في الجميع إن كل واحد منهم لو انفرد لقضي عليه بذلك فلو اجتمعا قضى عليهما على سواء فكذلك في الشفعة.

(80/10)


فإن قيل: في المدعيين ان الحق وجب بالشاهدين لصاحب الشهود الثلاثة والثالث لا تأثير له.
قيل له: العلة في الجراحات أنها تسري في البدن ولا نعلم أيها كان سبب القتل فسوينا بينهما على عدد الرؤوس.
قيل له: لو كانت العلة ما ذكرت لوجب أن يجعل لكل جراحة حظ السراية فكان الواجب توزيع الدية على الجارحات، لكن العلة ما ذكرنا.
مسألة:
قال: وإذا اشترى أرضاً وقام فيها شفيع لم يكن للمشتري أن يقيل فيها البائع إلا أن يترك الشفيع شفعته، المراد بهذا أنه يكره له الإقالة فيما بينه وبين الله لأنه يكون مانعاً في الحال للشفيع شفعته، او يكون المراد به أن الإقالة لا تبطل شفعته لأن الإقالة تقع، قد نص يحي عليه السلام أنها كالبيع، والبيع الثاني لا يسقط الشفعة فالإقالة تقع إن أقال المشتري مالم يؤخذ المشتري، وله أن يتصرف فيه بما شاء من بيع، أو هبةنن، أو مؤاجرة أو استهلاك لا سمنع من شيء منه حكماً وإن لم يستحب له فيما بينه وبين الله تعالى إلا التسليم والتشفيع فكذلك الإقالة يجب أن تقع صحيحة وإن كرهت فإن أقال وكان الشفيع قد أبطل شفعته في البيع الأول فله الشفعة بالإقالة تخريجاً لأن يجي بن الحسين عليه السلام قال: الإقالة كالبيع سواء، ولو سلم الشفيع الشفعة حين اشترى المشتري ثم باع المشتري ما اشتراه كان للشفيع الشفعة في البيع الثاني، فكذلك الإقالة على مذهبه إذ هي بيع.
مسألة:

(80/11)


قال: وإذا اتغلى الشفيع فترك الشفعة ثم استحط المشتري شيئاً من الثمن فحط البائع عنه كان للشفيع أن يأخذها من المشتري بالثمن الثاني لأن الحط يلحق الثمن فإذا صار الثمن أقل فله أخذه به لأنه ترك حين كان الثمن أكثر، فإن ترك الجميع من الثمن كان الواجب أنيأخذ بجميع الثمن، لأنه إذا اترك الجميع، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأيضاً الحط والزيادة يلحقان العقد حتى يكونا في الحكم كأن كل واحد منهما كان مع العقد وحط الجميع لا يصح أن يلحق العقد لأنه يكون بمنزلة عقد بلا ثمن فيجب أن يكون أبراء وإذا كان ابراء وجب على الشفيع أن يأخذه بجميع الثمن.
مسألة:
قال: وخيار المشتري إذا كان مشروطاً في العقد فإنه لا يمنع الشفعة لأن الشفيع يصير أولى بالعقد وحقوقه من المشتري وقد انقطع عنه حق البائع وخرج الشيء عن ملكه فوجب أن يكون للشفيع أخذه وإبطال خيار المشتري وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحد قولي الشافعي، قال ابن أبي هريره في التعليق، ويحتمل على قول له آخر أن لا يكون للشفيع أخذه حتى يختار المشتري إمضاء البيع، قال: لأن له أن يقول لا أضمن عهدة شيء لا أختار، وهذا لا معنى له لأنه لا يدخل في العهد باختياره وإنما العهد قد لزمته حين استحق الشفيع بانقطاع ملك البائع عنه كما أنه لو كان به عيب كان للشفيع أن يرضى به، ويأخذه ويبطل خيار المشتري فيه فكذلك الخيار المشروط فأما إذا كان الخيار للبائع أو لهما فلا شفعة فيه حتى ينقطع خيار البائع لأن ملك البائع لم يزل عنه بعد، بل هو على ملكه وهذا مالا أعرف فيه خلافاً، ومتى اختار البائع إمضاءه وجبت الشفعة للشفيع.
مسألة:

(80/12)


قال: وإذا أخذ الشفيع شفعته ثم حضر شفيع أولى منه وطلب الشفعة أخذها من الشفيع الأول لأن الشفيع الأول إنما ثبتت له الشفعة بأن يتركها من هو أولى فإذا لم يتركها وطلبها من هو أولى كانت الشفعة للأولى دون من أخذها أولاً، ألا ترى أنهما لو حضرا جميعاً سقطت شفعة أحدهما فكذلك إذا حضر الأولى بعد أخذه وهذا ممالا خلاف فيه.
مسألة:
وإذا بيعت الدار في زقاق لا منفذ له كانت الشفعة للأقرب إليها فاالأقرب.
إعلم أن المراد به الأخص في شركة الطريق كزقاق فيه ثلاث دور، اثنان مشتراكان في موضع من الطريق لا شركة فيه للثالث، والباقي شرك للجميع وكذلك إن كثرت الدور في الزقاق، والأصل فيه أن الخليط لما كان أخص بالشركة من الشريك في الطريق كان أولى بالشفعة من الشريك في الطريق لأن الشريك في الأصل له الشركة حيث لا شركة فيه للشريك في الطريق، وللشريك في الأصل حيث فيه الشركة للشريك في الطريق فكذلك ما ذكرناه للوجه الذي بيناه.
مسألة:
قال: والمضارب إذا اشترى حائطاً وبيع إلى جنبه حائط نظر فيه فإن كانت قيمة الحائط الأول زائدة على رأس المال كانت الشفعة للمضارب، ولصاحب المال جميعاً، وإن كانت لا تزيد على ذلك كانت الشفعة لصاحب المال دون المضارب ووجهه أن الزيادة على رأس المال يكون بين الضارب وصاحبه فمتى زادت القيمة حصل فيه شركة للمضارب فوجب أن يكون له فيه شفعة كالشريكين في دار إذا يبعت إلى جنبها أخرى كان لكل واحد منهما فيها شفعة، فأما إذا لم يكن في ذلك زيادة على رأس المال فلا حق فيه للمضارب فلذلك أبطلنا شفعته لأنه ليس شريكاً في الحائط المشترى أولاً هذا إذا كانت المضاربة صحيحة فأما إذا كانت فاسدة فالشفة على الوجوه كلها لصاحب المال دون المضارب تخريجاً لأن من مذهب يحي عليه السلام إذا كانت المضاربة فاسدة فإنما له أجرة عمله فعلى هذا لا يكون له شرك في الحائط على وجه من الوجوه فلذلك قلنا أنه لا شفعة له بتة.

(80/13)


باب القول فيما تبطل به الشفعة
إذا حضر الرجل عقد بيع له فيه شفعة فلم يطالب ساعة ينعقد البيع بطلت شفعته، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحد قولي الشفعي، والأصل فيه ما روي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (الشفعة كنشطة عقال فإن قيدهاا مكانه ثبت حقه وإلا فاللوم عليه، وما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الشفعة لمن واثبها)، ولا خلاف بين العلماء أن من ترك طلبها مدة طويلة من غير عذر بطلت شفعته فكذلك إن تركها مدة قصية والعلة اعراضه عن طلبها لغير عذر، ولأنه يؤدي إلى تعليق حق المشتري فوجب أن يكون ذلك مبطلاً لشفعته قياساً على تركه مدة طويلة، ويمكن أن يقاس بهاتين العلتين على قبول البيع في المجلس إذ الإعراض عنه في المدة القصيرة مبطل لحقه بالإجماع أعني في القبول فإن كان المانع من ذلك عذراً كالخوف من ظالم أو ما أشبه ذلك لم تبطل شفعته فإذا زال العذر عاد الأمر كما كان في أنهاا تبطل إن لم يطلبها وذلك ان المعاذر لها تاثير في مثل هذا ألا ترى أنه لو باع واشترى أو مكرهاا لم يقع شيء من ذلك وكذلك عند الطلاق والعتاق والنكاح فكذلك السكوت عن طلب الشفعة إذا كان لما ذكرنا والذي يجب أن يعتبر في الخوف هو ما نعتبره في باب الإكراه وغن كان خوفاً يسيراً كالخوف من الوحشة أو ما جرى مجراها لم يؤثر، وبطلت الشفعة كما نقول ذلك في الإكراه.

(80/14)


وحكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة أن الشفعة تبطل إذا سكت خوفاً وشبهوه بخيار القبول في المجلس والفصل بينهما أن العذر لا يؤثر فيه لا ترى أن الشفيع لو تركها ظناً منه أن البيع بألف ثم علم أن البيع بأقل لم تبطل شفته وليس كذلك خياار القبول، والغائب إذا بلغه خبر البيع إن لم يشهد على أنه مطالب شفعته ولم يبعث بذلك إلى المشتري أسرع ما يمكنه بطلت شفعته على ما بينا إلا أن يمنعه ما ذكرنا وذلك أن طلب الغئب هو بالأشهاد والإخفاذ فمتى قصر في واحد من الأمرين بطلت شفعته على ما بيناه، والصغي إذا بلغ فقصر بطلت شفعته على مابيناه، قال: ولو أنهم تركوا ما يجب عليهم في ذلك وتهاونوا يوماً أو يومين، أو أقل أو أكثر لجهلهم بذلك لم تبطل شفعتهم، وهذا عندي ضعيف لأن سائر ما قدمنا ذكره يوجب إبطالها بهذا، ووجه مع ضعفه أن الشفعة موضوعه لدفع الضرر فلو ضيقنا على الشفيع حتى تبطل الشفعة لأمر جهله، ولم يحط به علمه لم نكن دفعناا عنه الضرر، ولا اعرف خلافاً في تاجيل الشفيع مُدَيْدَةً تحمل المال، وقد تسومح في ذلك ليتم دفع لضرر عنه فكذلك ما ذكره ويمكن أن يتعلق لذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه)، ولأن جهله بالبيع يمنع من سقوط حقه فكذلك جهله بما يلزمه في الطلب فأما ما يوضح الوجه الأول فهو أنه لا شبهة في المشتري لو جهل أن قبوله الإيجاب في المجلس من البائع يبطل حق القبول وكذلك القابل النكاح لم يمنه ذلك من بطلان حقه وكذلك من ااشترط خيار الثلاث لو جهل أن سكوته إلى ان تمضي المدة يبطل خياره فسكت حتى تنقضي مدة الخيار لم يمنع ذلك سقوط خياره والأصل في هذا أن هذه أمور تتعلق بالأقوال والأفعال فقط فلا يؤثر فيها الجهل والعلم ويوضح ذلك ماا رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده عليهم السلام أن رجلاً أتى علياً عليه السلام، فقال: عبدي تزوج بغير إذني فقال علي: (فرق بينهما)، فقال السيد لعبده: طلقها

(80/15)


ياعدو الله فقال له علي عليه السلام: (قد أجزت النكاح فإن شئت أيها العبد فطلق وإن شئت فأمسك)، ومن المعلوم أن سيد العبد لم يعلم أن قوله ذلك موجب لتثبيت نكاح عبده لذلك قال وعلي عليه السلام لم يعتبر جهله وأوجب وقوع ما عقتضاه لفظه وإن وقع بغير علم فكذلك ما مضى فيما يبطل الشفعة لا يعتبر فيه علمه ولا جهله فأما صفة الخبر الذي إذا بلغه تعلق الحكم به فقد اختلف فيه فحكى أبو الحسن الكرخي عن أبي حنيفة وزفر أن الخبر يجب أن يكون من رجلين عدلين أو رجل وامرأأتين عدول، وحكي عن بعض أصحابه أنه يجي على قياس قوله أن يخبر رجل عدل وحكي عن أبي يوسف ومحمد أنهما اعتبرا في الخبر أن يكون الخبر حقاً سواء كان المخبر حراً أو عبداً أو صبياً أو امرأأة أو عدلاً أو غير عدل بعد أن يكون الخبر صدقاً ولا أحقظ فيه عن أسحابنا نصاً والذي عندي فيه أن الخبر يجب أن يكون ما يغلب على ظنه انه سدق من غير مراعات حوال المخبر لأن أكير احوال المعاملات يتعلق به كقبول الهدايا وطهارة الشيء ونجاسته وكالإستباحاات التي تكون بين الناس وما اشبه ذلك هذا فيما للإنسان وعليه فيما بينه وبين الله تعالى، فإن أاراد أن يلزم أمراً غيره فلا بد من شهادة تامة وعدالة، وما ذكرنا من امر الشفعة هو شيء بينه وبين الله تعاالى، ويسقط حقه وليس فيه إلزام الغير شيئاً فوجب أن يراعى في الخبر أن يكون مغلباً للظن على أن الأخبار التي لا تغلب الظن لا تأثير لها في سائر الأحكام فوجب أن يكون خبر الشفعة كذلك ولأن 1لك ليس بحكم فلا يجب أن تراعى فيه العدالة كما قلنا في قبول الهدايا وماا أشبهه فإذا بلغ الرجل خبر بيع على صفة فكان عنده أنه بيع فاسد فترك الشفعة كان ذلك تسليماً وإن علم بعد ذلك إن الحاكم قد أجاز ذلك البيع لأن تسليمه لكونه على صفة كان عليها والصحة والفساد حكمان يتبعان تلك الصفة فيجري مجرى أن يعتقد أن لا شفعة بالجوار فيترك شفعة دار بيعت إلى جنب داره في أنه ليس

(80/16)


له أن يعود إلى طلب الشفعة در بيعت إلى جنب داره في أنه ليس له أن يعود إلى طلب الشفعة إذا علم أن الحاكم يحكم له بها وكذلك لو بلغه أن الشرى بعرض فقدر أن لا شفعة فتركها كان ذلك تسليماً.
مسألة:
قال: ويؤجل الحاكم الشفيع بالثمن يوماً إلى ثلاثة أيام وإن رأى الصلاح في أن يزيده فعل وإن لم يوفر الشفيع بعد الأجل بطلت شفعته بهذا القدر من التأجيل وهو ثلاثة أيام رأي أكثر العلماءن ووجهه أن االثلاث جعلت تقديراً في كثير من الأشياء جعلت تقديراص في استتابة المرتد، وفي قصة موسى صلوات الله عليه حين قال في المرة الثالثة: {قَدْ بَلَغْتُ مِنْ لَّدُنِّي عُذْراً}، فكان ذلك تقديراً حسناً ولأن الشفعة وضعت لدفع المضارة فلو ضيقنا على الشفيع ولم نفسح له في القدر كناا قد أدخلناا الضرر عليه وكذلك لو فسحنا له في مدة طويلة كنا قد أدخلنا الضرر على المشتري ورأينا هذا القدر تقديراً حسناً لما بيناه ولما بيناه ولما عليه معااملات الناس فإن لم يأت بالمال في هذه المدة نظر فيه فإن كان الحاكم قد أجله تأجيلاً مطلقاً لم تبطل شفعته وإن كان حكم ببطلان شفعته إن لم يأت بالمال واشراط المشتري عليه بطلت شفعته، قلنا: إن التأجيل المطلق لا يوجب بطلان الشفعة إذا لم يحصل الثمن لأنه قد استحق اشفغعة بالطلب وتأخير التوفير لا يؤثر فيه كما أن الحاكم لو كان حكم له بها لم يؤثر ذلك فيه وأما إذ حكم الحاكم ببطلان الشفعة إن لم يحصل الثمن فيجب أن ننفذ الحكم لأنه لا بد من قطعه الأمد، وإذا قطع الحاكم صح ذلك وكذا إن اشترط الشفيع ذلك لأنه بطلب التسليم له تعلق بهما جميعاً كأن يقول إن كان المشتري هو زيد فقد سلمت الشفعة فيكون زيد هو المشتري تكون شفعته قد بطلت.
مسألة:

(80/17)


قال: وإذا ثبت عند لحاكم عدم الشفيع لم يحكم له بالشفعة قد نبه بذلك أن الحاكم له أن يحكم قبل إحضار المال لهذا استثنى المعدم وإن كان الأولى ألا يحكم إلا بعد إحضار المال لئلا يقع فيه التوى والضرر على المشتري وبه قال محمد بن الحسن أعني أن الحاكم لا ينبغي له أن يحكم إلا بعد إحضار المال فأما إذا صح إعدامه عند الحاكم فلا يجوز أن يحكم له بالشفعة لأنه يكون قد أدخل الضرر على المشتري وعرض ماله للتوى وعلى الحاكم أن ينظر للتخصمين نظراً يوفي كل واحد منهما حقه.
مسألة:
قال: وإذا طلب الشفيع الشفعة فقال له المشتري أحمل الثمن فمضى ولم يعد يكونن على شفعته متى عاد والمشتري يطالبه عند الحاكم وهذا هو الأشهر من قول أبي حنيفة والشافعي وقال محمد إن عاد فيما بينه وبين شهر وإلا بطلت شفعته، وقال يحي بن الحسين عليهم السلام في الفنون نحو هذا القول ولم يحده بشهر والأصح ما ذكره في الأحكام من أنه يكون أبدا على شفعته حتى يسلم، او يحكم الحاكم بإبطالها، ووجهه ما مضى من أن قد استحق بالطلب ووجب حقه والسكوت وتأخير توفير الثمن لا يبطلها كمالا يبطل لذلك سائر الحقوق الواجبة ولأن أجدً لا يقول إن ذلك على الفور بل يفسح له في المجة فوجب أن يكون كثير المدة كقليلها كسائر الحقوق وكما نقول إن كثير المدة كيسيرها في ترك الطلب، ووجه القول الآخر أنه يؤدي إلى تعليق ملك المشتري وقد بينا أن له أن يرافعه إلى الحاكم فيمنع ملكه عن التغليق فإن لم يفعل يكون هو الذي علق ملكه وحق الشفيع يكون ثابتاً كما بيناه.
مسألة:

(80/18)


قال: وإذا أعرض الشفيع عن مطالبة المشتري بالشفعة وطلب البائع بطلت شفعته إلا أن يكون قعل ذلك جهلاً لأن الملك قد صار للمشتري وخرج عن البائع واشفيع عليه يستحق الملك بالشفعة فيجب أن يكون هو المطالب أعني المشتري بالشفعة، ولا خلاف أنه بعد القبض وتراخي الزمان لا يجوز له إلا مطالبة المشتري فكذلك قبل القبض والعلة ما ذكرناه من حصول الملك للمشتري وإذا صح ذلك ثم أعرض عن المشتري وطالب البائع لما بيناه وأما اعتبار الجهل في ذلك فوجهه ما تقدم على أنه يضفع لما بيناه قبل هذا.
مسالة:
قال: ولا يجوز للشفيع أن يأخذ جعلا على تسليم شفعته ولا على أن يبيعها ولا أإن يهبها لغيره، وقلنا في جميع ذلك إن فعل أبطل شفعته تخريجاً ووجهه أن الشفعة حق وليست عيناً، فيتأتى فيه المعاوضة أو البيع، أن الهبة ولأنه يستحقها بسبب لا يصير ذلك السبب لغيره بأخذ لجعل أو ببيع الشفعة، أو هبتها فوجبأن يكون باطلاً دليله الولاء والنسب، وقلنا إن فعل ذلك بطلت شفعته لأنه يكون مسلماً لها ومعرضاً عن المطالبة بها، ومخرجاً لنفسه عن استحقاقها ألا ترى أنه إذا أخذ الجعل على التسليم فقد حصل التسليم وإذا باعها، أو وهبها يكون قد أخرج نسفسه من الشفعة، وفي إخرجه نفسه منها تسليمها كما أنه لو قال: بريت من هذه الشفعة كان ذلك تسليماً والعلة أنه إخراج نفسه منها.
فإن قيل: فإذا قلتم إن هبتها وبيعها لا يصح فكيف يكون مخرجاً لنفسه منه، والثاني تحصيله لغيره، والشفيع وغن لم يصح منه تحصيل الشفعة لغيره يصح إخراج نفسه منها وإذا تضمن البيع والهبة ذلك لم يثبت مالا يصح وثبت ما يصح.
فإن قيل: فهل تقولون في سائر الحقوق أنها تبطل بهذا القدر.
قيل له: لا نقول ذلك في سائر الحقوق لأنها لا بتطل بقول القائل: أخرجت نفسي منه وأسلمته والشفعة تبطل بذلك ولأن الشفعة تبطل بالدلالة كم بتطل بصريح اللفظ.
نقص مسألة قال: فإذا مات من له الشفعة .............. إلى قوله :
مسألة:

(80/19)


قال: وولي اليتيم وولد الصغير إذا ترك الشفعة تحرياً لغبطة اليتيم، أو لعدم ماله بطلت شفعته، وإن تركا لغير ذلك كان الصغير على شفعته إذا بلغ ووجهه أن ما يفعله الوصي أو الأب جائز على الصغير من البيع والشرى متحرياً لغلبط الصغير وليس تسليم الشفعة بآكد من ذلك فيجب أن يجوز فكذلك إن سلمها لعدم مال اليتيم لأن ذلك في تلك الحال لا يمكن غيره فهو كأن يبيع ماله للإنفاق عليه من ضرورة فإنه جائز إذ لا يمكن غيره فأما لو تركاها تهاوناً فقد ضيعا حقه فلا يصح ما فعلا، ألا ترى أنهما لو باعا ماله بمالاً يتغابن لا يصح البيع فكذلك لو وهبنا شيئاً من ماله لم تصح هبتهما فكذلك تسليمهما شفعته لا على الوجهين اللذين بينا يجب أن يكون غير صحيح فوجب إذ ذاك أن يكون الصغير على شفعته إذا بلغ فإن بلغ الصبي وطلبها وادعى المشتري أن أباه، أو وصيه قد سلمها للوجهين أو لأحدهما كانت البينة على الصبي واليمين على المشتري لأن الأصل فيما يفعله الأب والوصي في مال اليتيم الجواز حتى يثبت خلاف ذلك.
قال: وإذا وهب أبو الصبي شيئاً للصبي واستحق الصبي بها شفعة فسلمها الواهب جااز تسليمه وهذا أيضاً يجب أن يكون محمولاً على ما بينااه ومفسراً على ما قدمناه.
مسألة:
قال: ولو سلم ذو الشفعة شفعته قبل وجوب البيع لم يكن ذلك إسقاطاً وكان على شفعته بعد البيع لأنه سلم مالا حق له فيه فأشبه تسليم الأجنبي، وإذا بطل التسليم صح ما قلناه من أنه يكون بعد البيع على شفعته يؤكد ذلك ما ثبت من أن الواهب لو وهب ما لا يملك كانت الهبة باطلة.
باب القول في كيفية أخذ المبيع بالشفعة
إذا كان لرجل شفعة فليس له أخذها إلا برضى المشتري، أو بحكم الحاكم لأن الإملاك إذا كانت في دار الإسلام لا يخرج عن ملك الملاك إلى غيرهم مع سلامة الأحوال إلا برضى الملاك، أو بحكم الحاكم.
مسألة:

(80/20)


قال: وللشفيع أخذ المبيع ممن وجده في يده كسائر الأملاك إذ لا خلاف أن الشفيع إذا حكم الحاكم له بالشفعة ملك المبيع وكان أولى به من المشتري فإذا أخذه من المشتري كان الأحوط أن يحضر البائع ليلاً يقع فيه التجاحد بين البائع والشفيع.
مسألة:
قال: وإذا اشترى عدة من الناس ضيعة لرجل فيها شفعة في جميع الحصص فله ان يطالب من شاء بالشفعة، ويسلمها لمن شاء، فإن اشترى الجميع رجل واحد فليس للشفيع إلا أن يأخذ الجميع أو ترك الجميع وذلك أن الشرى إذا وقع من عدة كانت بياعات مختلفة كل واحد منا منفرد عن صاحبه فوجب أن يكون للشفيع الخيار في كل واحد منها بين الأخذ والترك كالبيع الواحد إذا وقع وللشفيع فيه شفعة كان الخيار في ذلك إليه فأما إذا كان المشتري واحداً فليس له إلا أخذ الجميع أو تركه كالدار الواحدة إذا بيعت واشتراها رجل واحد الا ترى أن الشفيع ليس له إلا أخذها كلها أو تركها وليس له أن يأخذ البعض منها ويترك البعض فكذلك الضيفة الواحدة، وقال الشافعي إذا اشترى رجل من رجلين حصبين كان للشفيع ان يأخذ ما شاء منهما ويترك ما شاء لأنهما كالصفقتين وقد بيناا فساده، والذي يجي على هذا أن الإعتبار بالمشتري لنفسه اشترى أو لغيره من الناس أن البيع إذا كان صفقة واحدة فليس للشفيع إلا أخذ الجميع، أو ترك الجميع، فإن كان المشتري عده فله أن ياخذ نصيب من شاء سواء اشتروا لأنفسهم أو لغيرهم لواحد أو لجماعة، وسواء كان البائع واحداً أو جماعة لا إعتبار بهم وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ولا فرق بين الدار والواحدة والدور المتلاصقة إذا لم يكن بين الدور حائل لم يدخل في الشراء وكان الشفيع داره ملا صقة لكل واحدة من الدور.
مسأالة:

(80/21)


قال: وإذا اشترى المشتري داراً أو أرضاً بمائة دينناار فجاء الشفيع وقد استهلك من أبوابها وأشجارها ما حصته خمسون ديناراً أخذ الشفيع الباقي بخمين ديناراً وهكذا لو اشترى نخلاً وعليها تمر، ووجهه أنه يستحق الجميع بجميع الثمن فإذا استهلك المشتري بعض ما انطوى عليه البيع وحب أن يحط حصته من الثمن قل أو كثر فإن كان ذلك تلف بغير جناية من المشتري كأن تلف بالحرائق أو الريح، أو السيل فليس للشفيع إلا أخذ الباقي بجميع المثن أو تركه لأن يصير أولى بالعقد بجميع الثمن يوم عقد فإن اختار أخذه كان في الحكم كأنه أخذه من يوم عقد البيع فيكون الضرر داخلاً عليه في ملكه فإذا اختار أاخذه كان في الحكم كأنه أتلف حق الشفيع فلزمه الشمان وإنما لم نضمنه القيمة لأنه لم يكن متعدياً فيه وكان متصرفاً في ملكه وأوجبنا حط ما خصه من المثن عن الشفيع ويوضح ذلك أأنه لا يخلو من أحوال ثلاثة: إما أن يقول للشفيع آخذ االباقي بقيمته، أو يضمن المشتري قيمة ما أخذ على التحقيق أو يقول للشفيع خذ الباقي بحصته من الثمن، ولا يجوز أن يقول له خذ الباقي بقيمته لأتنه يؤدي إلى أن يربح المشتري أو يدخل عليه الخسران وكلا الأمرين فاسد لأنه يخالف موضوع الشفعة لأن موضوعها أن يأخذ الشفيع ما يأخذه بما بذله المشتري اشتراه بدون قيمته فيكون قد انتفع بما انتفع وأخذ من قيمة الأرض فوق ماا اشترااه به، ووجه الخسران أن يكون اشتراه بأزيد من قيمته، فإذا أعطاه القيمة كان قد أخسره، وهذا الربح والخسران يجوز أن يتفاوتا ويعظما، ففسد ذلك، ولا يجوز أن يقول للمشتري إضمن قيمة ما أخذت لأمرين: أحدهما ـ أنه يؤدي إلى ما ذكرنا من الربح والخسران وربما أدى إلى أن يجب للشفيع أخذ الباقي بغير بدل بأن تكون قيمة المستهلك محيطة بالثمن، وهذا لا معنى له، والوجه الثاني ـ أن المشتري استهلك ملك نفسه فلا وجه لتضمينه، فإذا بطل هذان الوجهان لم يبق إلا الوده الثالث، وهو ما قلناه: أن

(80/22)


الشفيع يأخذه بحصته من الثمن، وليس كذلك إذا كان التالف تلف بغير فعل المشتري لأنا لو قلنا للشفيع: خذه بدون الثمن ـ كنا ألزمناا المشتري الخسران وهو خلاف موضوع الشفعة وعلى هذا يجب إن كان المستهلك غير المشتري بأن استهلكه غاصب أن يأخذه بجميع الثمن، فإن كان المشتري أخذ من الغاصب قيمة ما استهلك أخذ الباقي بحصته من الثمن، وهكذا حكم الثمر والزرع إن كان اشتراهما مع الأصل ثم قام الشفيع.
مسألة:
قال: فإن اشتراها ولا ثمر فيها ثم أثمرت فاستهلك الثمر ثم جاز الشفيع فإنه يأخذه بجميع الثمن، ووجهه أن الثمرة خرجت في ملك المشتري فانتفع هو بها وليست الثمرة مما انطوى عليه عقد البيع الذي صار الشفيع أولى به فوجب أن تكون خاالصة للمشتري كثمار سائر أملاكه التي لا حق فيها للشفيع وهكذا يجب أن يكون حكم الزرع فإن جاء الشفيع والثمرة قائمة في الأشجار فالشفيع أولى بهاا ويغرم للمشتري ما غرم فيها لأن الثمر وجدها الشفيع قائمة فيما استحقه من االأشجار فجرى مجرى ما انطوى عليه لاعقد ولآنه زيادة في عين ما استحقه الشفيع كما نقول في الزيادة الذي يلحقها البائع في ماله إذا وجده عند المفلس ويمكن أن يتعلق له بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشفعة فيما لم يقسم)، وهذا لم يقسم، لأنه يزايل الشجر فالزمناا الشفيع ما غرمه المشتري لئلا نلزم المشتري ضرراً فيما انتفع به الشفيع.
مسألة:

(80/23)


قال: وإذا جاء الشفيع وقد بنى المشتري أو غرس فإنه إن كان فعل ذلك ولا شفيع هناك لزم الشفيع قيمة البنا والغرس يوم يستحق الرقبة بالشفعة، وودهه أن المشتري بنى في ملكه المستقر ولم يتعد فيه فلا وجه لإدخال الضرر عليه فيما يمكن الشفيع الإنتفاع به وإن بنا والشفيع قد طلب الشفعة ألزم نقض ما بنى وقلع ما غرس، ويترك الأرض كما شترى، ووجهه أنه بنى وغرس وقد تعلق ملكه لتوجه الإستحقاق عليه ولأنه أيضاً هو المعرض ماله للضرر وفعل ما يكره له حين لم يسلم للشفيع واستمر على إمساك الشيء وعمارته فكان ذلك ضرباً من التعرض ـ التعدي، نخ ـ ولهذا ألزمناه تفريغ الأرض وأما إذا بنا ما لا ينتفع به في غالب الأحوال ألزم المشتري النقض على الوجيهن لأن ما يلزم الشفيع من الغرم إنما يلزم بشرط انتفاعه على ما بيناه فإذا لم يكن فيه نفع لم يلزم.
مسألة:
قال: وإذا اشترى المشتري بثمن معجل فعلى الشفيع تعجيل الثمن لا خلاف فيه، وإن اشترى بثمن مؤجل أخذه الشفيع مؤجلاً قلناه في التجريد تخريجاً ثم وجدناه في الفنون منصوصاً وحكي مثل قولنا عن مالك وذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي إلى أن الشفيع يخير بين أن يأذه ويعجل الثمن، وبين أن يصبر إلى حلول الأجل فيأخذه إذ ذاك ويوفر الثمن، ووجه ماا ذهبنا إليه أن الشفيع يصير أولى بالعقد من المشتري على جميع وجوهه حتى يكون المشتري فيه كالوكيل، ألا ترى أنه لو اشتره بثمن له صفة استحقه المشتري بثمن على تلك الصفة وكذلك يكون فيه للشفيع من خيار الرؤية ما كان للمشتري، وكذلك إن كان علم بعيب رضيه المشتري وأخذه لم يكن له إلا ما كان للمشتري فوجب أن يكون كذلك حاال تأجيل الثمن.
فإن قيل: هذا يؤدي إلى أن يلزم المشتري ذمة لم يرض بها.

(80/24)


قيل له: وما في ذلك إن ألزمه الحاكم وليس لهم أن يردوا ذلك إلى الدين المؤجل إذا مات من هو عليه لأن عندن أنه يثبت على الورثة مؤجلاً ولا يجب فيه التأجيل ـ التعجيل، نخ ـ نص عليه القاسم عليه السلام في مسائل النيروسي على أناا وحدنا في الأصول إلزام ذمة لا يرضاها الخصم فلا وجه للتعليق بما تعلقوا به.
فإن قيل: فما تقولون في المشتري إذا كان له الخيار فجاء الشفيع هل يأخذ مع الخيار أو يبطل الخيار؟
قيل له: لا نحفظ في ذلك نصاً عن أصحابنا والأقرب على أوضاعهم أن يأخذه الشفيع وله الخياار الذي كان للمشتري وإن كان أصحاب أبي حنيفة قد نصوا على أن الشفيع يأخذه ويبطل الخيار الذي كان للمشتري.
مسألة:
قال: وإذا اشترى المشتري داراً بألف ثم باعه بألف ومائة، ثم باعها المشتري الثاني بألف ومائتين، ثم باعها المشتري الثالث بألف وثلاثمائة، وكذلك لو تنوسخت وكثر ذلك ثم جاء الشفيع فإنه يقضي له بالدار فإن كان طلب الشراء الأول فإنه يخرج إلى المشتري الأخير ألفاً ويرجع هو على بائعه بثلاثمائة، ويرجع هو على بائعه بماشتين ويرجع هو على بائفه وهو الأول بمائة، ووجهه أنه استحق الشرااء الأول فطالب به وفسخ سائر الأشرية إذ وقعت بعده، ولزمه الثمن الأول لمن أخذ المبيع منه ووجب له الرجوع فيما زاد على الألف على من باعه لأنه استحق عليه ماا اشتراه فوجب أن يرجع بباقي الثمن على من باعه ليرجع إليه جميع ما خرج عنه وكالمغتصب منه إذا استحق الدار على المشتري من الغاصب يرجع على البائع بجميع الثمن ليرجع إليه جميع ما خرج عن، وكذلك إن كان البائع الأول باع وفيها ثمر فأستهلكه المشتري الأول أو باع منها بعضاً للشفيع أن يأخذ الدار من المشتري الأخير ويعطيه الثمن، وقد حط عنه قيمة المستهلك ثم هو يرجع على بائعه به إن كان اشتراه بمثل ما اشتراه الأول والوجه ما بيناه فيما تقدم.
مسألة:

(80/25)


قال: وإذا أخذ الشفيع المبيع كتب العهدة على من أخذ المبيع منه وأعطاه الثمن من البائع أو المشتري أما إذا أخذه من المشتري فلا إشكال فيما ذكرنا لأن البائع قد أزال ملكه وانتقل إلى المشتري الملك تاماً ولا معاملة بين الشفيع والبائع وأما إذا أخذه من البائع وجب أن يكتب عليه العهدة لأن البيع الذي كان بين البائع والمشتري يبطل بأخذ المبيع من البائع لأن تمام البيع موقوف على التسليم فإذا بطل التسليم بطل البيع، ألا ترى أن تلف البيع يوجب بطلان العقد بفوات التسليم فإذا كان ذلك كذالك صار كأن البيع بين البائع والشفيع، وبري المشتري من المعاملة فلذلك قلنا: إن العهدة تكتب على البائع دون المشتري، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا كان المبيع في يد البائع لم يقض الحاكم بالشفعة إلا بحضور البائع والمشتري لأن الحكم يتوجه عليهما لأن المشتري يجب أن يفسخ عليه شراءه ويحكم عليه بذلك والبائع يجب أن يحكم عليه لأن المبيع يؤخذ من يده قالوا: والمشتري لولم يحضر لكان فيه قضاء على الغئب وذلك لا يجوز وأما على أصولنا فجاءز لأنا نرى القضاء على الغائب.
مسائل ليست من التجريد:
لكن رأينا هذا موضعها:
قال أبو حنيفة: إذا قال المشتري: الدار التي ت شفع بها ليست لك إنما أنت فيها ساكن فالبينة على الشفيع أنها ملكه، وقال أبو يوسف ومحمج: البينة على المشتري أنها ليست له، ويروى عن محمد أنه قال: القياس ما قال أبو حنيفة لأن البينة التي يقيمها المشتري إما أن تكون بينة على النفي أو يبنة على أنها دعواه فوجب أن تكون هي الأولى، وأيضاً الشفيع هو المدعي لأنه يريد أن يلزم الغير حقاً لكون الدار ملكاً له والمشتري منكر فوجب أن تكون البينة على الشفيع واليمين على المشتري.
مسألة:

(80/26)


قال: والإشهاد على طلب الشفعة يحتاج إليه لئلا يقع التجاحد وقت الطلب أو الإلتباس فأما للبوت والإستحقاق فيكفي الطلب نص في الفنون على أن الكرى لا شفعة فيه ونص فيه على أن طلب الشفيع الشفعة من المشتري لا ترخص له في منع البائع من الثمن ونص في الأحكام في غير موضع على أن الشفيع يلزمه دفع ما أخرجه المشتري ونص على أن من اشترى أرضاً فقام الشفيع فيها أو فيهما لزمه قيمة التي هي عوض لما طلبها فدلت هذه الجملة على أن الثمن إن كان مما له مثل من الدراهم أو النانير أو ما يكال، أو يوزن فعلى الشفيع مثل ذلك الثمن، وإن كان الثمن مما يجب تقويمه لزمه قيمة ذلك أرضاً كانت أو عبداً أو ثوباً، أو غير ذلك مما أشبهه، وهذه الجملة ممالا أعرف فيه خلافاً ونص في المنتخب على أنه إن كان اشترى بما يكال أو يوزن كالحنطة والشعير ونحوهما فللمشتري على الشفيع مثله.

(80/27)


كتاب الإجارة
باب القول فيما يصح من الإيجارة أو يفسد
الإجارة الصحيحة: أن يستأجر الرجل شيئاً معلوماً له نفع معلوم بأجرة معلومة إلى مدة معلومة أو لها كذا وآخرها كذا، أو أن يتقبل عملاً معلوماً بأجره معلومة فإن دخلت الجهالة في شيء من ذلك فسدت الإجارة.
قولنا: له نفع معلوم ليس المراد أن يكون النفع معلوم القدر على التحقيق بل يقول ذلك في المدة والأجرة، بل يكفي أن يكون النفع معلوماً على الجملة كأن يعلم أن الأرض تكترى للزرع أو للبنا، أو الدار للسكنى أو الرحا للطحن، ولا يجب أن يكون مقدار الزرع معلوماً، ولا من سكن في الدار مع المستأجر من الأهل والولد وغيرهم معلوم العدد ولا الطحن معلوم القدر لأن ذلك لا يمكن ويتعذر فيه الحصر فاما أول المدة فإن ذكره كان أوكد وإن سكت عنه كان من حين يقع عقد الإجارة وأما ذكر آخر المدة فلا بد من ذكره وإلا فسدت الإجارة.
فإن قيل: إلى شهر أو إلى سنة كان آخر المدة مذكوراً لأن انقضاء الشهر أو السنة يكون آخر المدة وأما استئجار الدواب فذكر المسافة فيه يقوم مقام ذكر المدة والأصل في تثبيت الإجارة قول الله تعاالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، وقال موسى لصاحبه: {لَوْ شِئْتَ لأتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً}، وقال شعيب لموسى عليهم السلام على ما ورد في التفسير: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تاجرني ثماني حجج)، وقال صاحب يوسف: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيْرٍ}، وهذا يكون على سبيل الأجرة فدل جميع ذلك على أن الإستئجار كان في شريعتهم صلوات الله عليهم.
وروي أن النبيس صلى الله عليه وآهل وسلم لما أراد الهجرة استأجر رجلاً خريتاً فاخذ به صلى الله عليه وآله وسلم وبأبي بكر على طريق الساحل وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشترى بمنى سراويل وثم وازن يزن بالأحرة فدفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثمن ثم قال ارجح.

(81/1)


وفي حديث ابن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص أن تكرى الأرضون بالذهب والفضة على أنه إجماع الفقهاء وعمل توارثه الخلف عن السلف من الصدر الأول إلى يومنا هذا وأما وجه ما ذهبنا إليه من أن المدة والفع والأجرة والعمل والمستأجر يجب أن تكون معلومة فهو ما أجمعوا عليه من أن الإجارة بيع المنافع، وأنها جارية مجرى البيوع في أن دخول الجهالة يفسدهاا وقد علمنا أن دخول الجهالة في بعض ما ذكرنا ليس باولى بالإفساد من بعض فقلنا أن الجهالة يجب أن تنتفي عن جميع ما ذكرناه وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره)، فأوجب أن تكون الأجرة معلومة، وإذا وجب كونها معلومة وجب كون ما يقابلها من العوض معلوماً كالبيع والسلم لم وجب كون المسلم فيه معلوماً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فليسلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم)، وجب أن يكون ما يقابله من العوض وهو الثمن الذي يعجله المسلم معلوماً.
مسألة:
والإجارة الصحيحة تنتقض لغير عذر وانتقاضها لغير عذر يحكى عن بعض القدماء يقال إنه قول شريح وليس بذلك الظاهر والأجماع قد قطع ذلك فأسقط ويجح قائله، قول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمنون عند شروطهم)، وعن الشاافعي إنها لا تنتقض للعذر، وما ذهبنا إليه به قال أبو حنيفة وأصحاابه، ووجهه ما لا إشكال فيه أن من كان عنده مسبوت فظنه ميتاً واستأجر الحفار ليحفر قبره ويدفنه ثم علم أنه حي أنه لا يجب أن تمكن الأجير من دفنه فيستحق الأجرة وكذى من استأجر أن يقلع ضرسه لوجع به أو يكون له عضوا أليماً ثم زال العارض من الوجع والعلة أنه لا يجب تمكين الأجير مماا استأجر عليه فيستوفي االأجرة فوضح بما بيناه من أن الإجارة تنتقض، ثم وجوه المعاذير كثيرة.
مسألة:

(81/2)


وإذا أجر الرجل داره من رجل ثم باعها من رجل آخر قبل انقضاء مدة الإجارة فإن كان باعها من ضرورة انفسخت الإجارة وسلمها البائع إلى المشتري وإن كان باعها لا من ضرورة لم بنفسخ الإجاارة، وكان المستأجر أولى به إلى انقضاء المدة، ووجه ذلك ما بيناه من أنها تنتقض لعذر ولا تنتقض لغير عذر والضرورة التي أرأيناها، ووجههه أنه باع لسد رمق جوعه أو جوع أهله فوجب أن يصير عذراً فيه كان ولا مال له سواه ويحبسه الحالكم ويعجز عن مؤنة أهله وعياله وغير ذلك فإن كان باعه غير عذر فالأقرب ما روي عن أبي يوسف أن ذلك يكون كالعيب في الدار فإن شاء المشتري صبر إلى حين انقضاء الإجارة وإن شاء فسخ البيع لتعذر التسليم إن لم يكن عرف ذلك قبل البيع ولو أن رجلاً استأجر داراً ليسكنها شهراً معلومااً لم يكن له تسليمها قبل إنقضاء المدة ولا لمن أجرها عنها قبل ذلك سواء تقابضا الأجرة أم لا وهذا على ما بيناه من كونهما معذورين أو غير معذورين.
مسألة:

(81/3)


قال: فإن انهدمت الدار وجب على صاحبها إعادة بنائها إن كان مسراً لِيَتِمَّ سكنى المستأجر وكذا قال الشافعي وعند أبي حنيفة تسقط أجرة ما قي من المدة ويحكى عن أبي ثور أن الأجرة كلها لازمة، ووجه ما ذهبنا إليه أن العاقد على نفسه لغيره عقد معاوضة يلزمه تسليم ما إلتزم تسليمه بالعقد فإن كانت له مؤنه غرمها دليله من أسلم في شيء لحمله مؤنة واشترط تسليمه في مكان أن صاحب السلم يلزمه أن يغرم مؤنة الحمل ليصح تسليمه ما إلتزم بعقد المعاوضة تسليمه ويمكن أن يقال يلزمه ذلك لأنه إنفاق على مال نفسه ليصح منه تسليم ما إلتزم بعقد المعاوضة تسليمه وأصله ما ذكرناه في السلم ثم الأصول تشهد لذلك لأن من باع ثوراً نفوراً عليه تسليمه إلى المشتري وغرامه تسليمه وكذلك الصائغ والنجار وغيرهما من الصنع إن استؤجروا على عمل لهم يلزمهم مؤنة ألا تهم ليتم لهم تسليم م يتقبلونه من العمل وهكذا لو تزوج رجل بامرأة وهي جائض فطهرت مع طلوع الشمس فطالبها الزوج بالدخول فعليها مؤنة الإغتسال ليتم تسليم البضع الذي إلتزم تسليمه بعقد النكاح ونظائره كثير، وأما ما يذهب إليه أبو ثور فبعيد لأنم الإجارة هي بدل الممنافع فإذا تلفت المنافع بطلت الأجرة كما أأن السلعة المشتراه إذا تلفت قبل التسليم بطل الثمن فإن كان معسراً انفسخت فإن ايسر قبل انقضاء مجة الإجارة حكم عيه بالبناء وذلك أن الإجارة على ما بيناه تنفسخ للغذر والإعدام عذر ومعنى ينفس إنما هو أن قسط مدة الإعسار ينفسخ ولا ينفس أصل العقد لأن أصل العقد لو انفسخ لعاد فيما يسكن إلى كرى المثل فإذا كان ذلك كذلك فهو مطالب بالبناء إذا يسر في مدة الإجارة لأن العذر قد زال والعذر إنما أثر في المدة التي كان فيها معسراً.
مسألة:

(81/4)


قال: ولو أن المستأجر لم يفرغها لصاحبها ولم يسلمها إليه بعد إنقضاء مدة الإجارة وجبت عليه أجرة ما سكنها هذا إذا لم يفرغها بعد انقضاء المدة يكون في حكم الغاصب في إيجابة الأجرة عليه وتكون أجرة المثل ونصه على إيجاب كرى المثل عليه يدل على أن من مذهبه إيجاب كرى المثل على الغاصب إذا استعمل المغصوب أو عطله على صاحبه قال: وإن تعذر عليه لغيبة صاحبها أجزأه أن يفرغها ويشهد على ذلك ولو لزم المفتاح ووجهه ان يكون حافظاً لها لصاحبها ولا يكون في حكم الغااصب كالملتقط إن إلتقط لنفسه يكون غاصباً وإن إلتقط للحفظ على صاحب اللقطة لم يكن غاصباً.
مسألة:
قال القاسم عليه السلام: ولا بأس أن يستأجر الأرض بطعام معلوم من حنطة أو شعير، أو غيرهما ووجهه أن هذا يجخل في جملة الأعواض في العقود كالبيع والنكاح والخلغ وإستئجار الصناع ويجرى مجرى الذهب والفضة في أن العقد يصح به فكذلك في الإجاراات والمعنى أنه مما يجوز أن يجعل عوضاً في سائر العقود على أن هذا معروف في تعامل المسليمن، والخلاف فيه شاذ.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص في إجارة الأرض بالذهب والفضة.
قيل له: وماا في ذلك مما يمنع من كون الطعام مثلهما إذا دل دليل.
مسألة:
قال: ولا تنفسخ الإجارة بموت المستأجر ولا المتأجر منه وبه قال الشافعي وخالف فيه أبو حنيفة وأصحابه وإنما قلنا ذلك لأنه عقد صحيح أوقعه العاقد في ملكه فيجب ألا ينفسخ بموته دليله من زوج أمته ثم مات وإن شئت قلت دليله الرهن، فإنه لا ينفسخ بموت الرااهن ولا المرتهن.
فإن قيل: نكاح الأمة ينفسخ بموت الزوج.
قيل له: هذا لا يعترض قياسناا ولا يمكنهم أن يجعلوه أصلاً لأن هذا مما لا تجوز فيه النيابة ولا فيه يقوم غيره كالوكيل والوارث وتشهد سائر العقود لما ذهبنا إليه كعقد البيع وعقد الهبة، وعقد الوصية على أن الوارث لا يجبأن كيون أوكد حالاً من الموروث فإذا لم يكن للموروث فسخ الإجارة فكذلك الوارث.

(81/5)


فإن قيل: فما تقولون في الموقوف عليه إذا أجر الوقف إذا مات هل تبطلون إجارته.
قيل له: الوقف عندنا على ضربين وقف لا يقوم الورثة فيه مقامه من جهته فذلك يبطل ووقف يقوم الورثة فيه مقامه من جهته فإدارته لا تبطل على أن هذا لا يعترض علينا لأن هذا عقد لم يوقعه العاقد في ملكه لأن الوقف ليسس بملك.
فإن قيل: الوقف منتقل إلى الوارث والنفع حادث على ملكه فوجب أن تبطل الإجارة إذ غير جائز إستيفاء المنافع من ملك من لم تنعقد في ملكه.
قيل له: هذا منتق ض بالجارية يزوجها صاحبها ثم يموت لأن الزوج يستوفي منافع البضع من ملك من لم يعقد في ملكه وكذلك المكاتب إذاا مات المولى لم تنفسخ الكتابة واستوفى المنافع ولا خلاف أن رجلاً أن رجلاً لو أوصى بخدمة عبده لرجل صح ذلك ولم تنفسخ الوصية لإنتقال الملك إلى الوارث فكذلك الإجارة على أن رجلاً لو أجر عبده ثم باعه ورضي المشتري بتأخير التسليم لكان المستأجر عندنا وعند أبي يوسف يستوفي المنافع في ملك غير من عقد في ملكه.
فإن قيل: إذا مات المستأجر فقد أنتقل ملكه إلى الوارث فلا كون أنتستحق عليه الأجرة بعد موت الموروث، لأن ذمته قد بطلت بالموت فلا يلحقه الدين.
قيل له: لسنا نزعم أن الدين يلحقه بعد الموت وغنما نقول أنه ينتقل إلى الوارث لإنتقال المنافع إليهم كالأعيان إذا انتقلت إليهم انتقلت اثمانها إليهم على أن المنافع المعدزمة في باب الإجارات كالأعيان الموجودة فيجب أن تنتقل إلى الوارث.
مسألة:

(81/6)


قال: ولو أن رجلاً اكترى من رجل جملاً بعينه أو لا بعينه عل حمل بعينه، فحمله الماري فتلف الجمل وجب على المكاري حمله على غير ذلك الجمل إلى حيث تشارطا عليه ولم يتعين الجمل وحكى الكرخي مثله عن أصحابه وهذا إذاا كان الغرض المقصود هو تسليم الحمل إلى الحمال، ولم يتعلق الغرض بالجمل وإنما ذكر الجمل على سبيل التبع، فإذذا كان ذلك كذلك كان الحمال كاالأجير المشتري في جميع أاحكامه ولزمه حمل ذلك الحمل إن شاء على ذلك الجمل وإن شاء على غيره، وذكر كرى الجمل هو على التوسيع في هذه المسألة، والأصل فيه أن الناس في هذه العقود يحملون عل العرف والعادة، وعادة الناس أن إغرااضهم في حمل اموالهم دون المحمول عليه.
قال: وكذلك إن وكَّلَ رجل رجلاً بأن يكري جماله ويحمل عليها فأكراها على مابيناه ثم تلفت الجمال وجب عليه أن يشتري أو يكتري بدلها لتبلغ الأحمال إلى حيث اشترط ويكون ذلك من مال الموكل وهذا كله إذا كانالإستئجار وقع على الحمل وتعين ذلك، قال: وإن استأجر جمالاً بعينها على أن يحمل عليها المستأجر ما يحمل على مثلها من غير تعيين الحمل وقب ضها المستأجر ثم تلفت لم يجب على الجمال شراء بدلها تخريجاً، قلنا ذلك لتنصيصه على أن من استأجر عبداص للخدمة وقبضه فمرض العبد أو مات لم يجب على المستأجر منه إبداله وذلك أن الإستئجار لم يقع على الحمل وإنما وقع على لجمل والعبد فغذا تلف لم يلزم المستأجر منه شيء وهذا مما لا خلاف فيه.

(81/7)


قال: فإن استأجر على هذا الحد جمالاً ليست للمستأجر منه بطلت الإجارة، وذلك أن هذه الإجارة تكون متعينة في الجمال، وليس يصح أن يؤجر ماليس عنده كما ليس يصح أن يبيع ماليس عنده لأنا قد بينا أن الإجارة تجري مجرى بيع الأعيان، قاال: وغن استأجر منه جمالاً ليست عنده على أن يشتري الجمال ويحمل عليها أحمالاً بعينها صحت الإجارة، وتعينت في االأحمال ولزم الجمال كما بينا في المسألة الأولى فلا معتبر أن يكون عند المكاري جمالٌ أو لا يكون، لأن الواجب عليه هو حمل الأحمال فقط وليس عليه تسليم الجمال فجاز له أن يكتري لهذه الأحمال جمالاً إن شاء أو يشتعريها.
مسألة:
قال: وغن كانت عنده رجل جماال فأكراها بعينها رجلاً على أن يحمل عليها أحمالاً ثم أكراها كذلك رجلاً آخر كان المكتري أولاً أولى بالجمال فإن إلتبس أيهما اكترى أو لا، كانت الجمال بينهما وهذاا إذا تعينت الإجارة في الجمال ولزم الحمال تسليمها لأن الإجارة الثانية تكون فاسدة كمن باع سلعة من وااحجة ثم باعها من خر يكون البيع ااثاني فاسداً قلنا إن ألتبس الأمر كانت االجمال بينهما الشيء يكون في أيديهما أولاً يكون في أيديهما ويقيم كل واحد منهما بينة أنه يكون بينهما.
مسألة:
قال: وغن استأجر رجل من رجل شيئاً واشترطا فسخ الإجارة متى أراد كان لهما أن يفسخاها متى أرادا، قال: ولو أن رجلاً استأجر عبداً من رجل على أن يستخدمه وقبضه من صاحبه فمرض العبد أو مات أو أبق لم يجب على المستأجر منه أن يدفع بدله إلى المستأجر ويتحاسبان على ما خدم العبد، قلنا ذلك لأن الإجارة تعينت في العبد وبطلت منفعته عل وجه لا يمكن صاحبها إعادتها، فوجب ما قلناه، ولم يكن سبيلها سبيل الدار المستأجرة تنهدم لأن تلك المنافع يمكن إعادتها، ولا يجب تبديله لتعيين الإجارة فيه وليس سبيل سبيل الجمل الذي يجب تبديله لعيين الإجارة في الحمل دون المحمول عليه.
مسسألة:

(81/8)


قال: ولو أن رجلاً استأجر من رجل دابة لتحمله من موضع إلى موضع، ثم بان لهما أن الطريق مخوف لا يؤمن على النفس أو المال كان لكل واحد منهما أن يفسخ الإجارة، وعلى المستأجر قسط الأجرة. إن كان سار بعض الطريق، وقد بينا أن الإجارة تنفسخ للعذر ومن أبين العذر لا يأمن الإنسان على ماله وحرمه، فلذلك قلنا إن الإجارة تنفسخ، وليس الخوف المذكور ما يعترض مثله في أكثر الطرق والمسالك، ولكنه الخوف الضديد الذي يغلب على الظن فيه العطب ويضعف رجاء السلامة وأوجبنا قسط الأجرة إلى حيث انتهى، لأن المستأجر استهلك المنافع فيجب أن يوفي ما قابها من العوض.
مسألة:
قال: وغذا اختلفا في الكرى، فقال المكري أكريت بعشرة، وقال المكتري إكتريت بخمسة فالبينة على المكاري واليمين على المكتري، وذلك أن المكاري مدع لزيادة خمسة، والمكتري منكر، وقد قال صلى االله عليه وآله وسلم: (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه)، وهكذا قوله في البائع والمشتري إذا اختلفا في زيادة الثمن.
مسألة:
قال: وغذا دفع رجل إلى رجل حديداً ليعمل منه سكاكين بثلثه أو ربعه، أو جزء منه معلوم، أو دفع إليه طعاماً على أن يحمله بثلثه أو ربعه أو جزء منه معلوم كان ذلك جائزاً، وودهه أنه إذا عين منه جزءاً معلوماً للأجرة وبين للباقي عملاً معلوماً كانت الإجارة صحيحة، ألا ترى أنه لو استأجره على ذلك العمل بشيء سواه صح، فكذلك إذا استأجره بجزء منه معلوم يبين ذلك أنه لو اشترى بذلك الجزء شيئاً صح الشراء فكذلك إذا استأجر به صحت الإجارة.
مسألة:

(81/9)


قال: ولو أن رجلاً استأجر ظئراً لصبي على الإرضاع مدة معلومه فسقته مدة نحو النصف من تلك المجة من لبن السائمة كان له أن يفسخ تلك الإجارة، وللمرأة قيمة ما سقت، واستئجار الظئر مما نبه عليه قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، وهو مما لا خلاف فيه، وأجاز فسخ الإجارة إن كانت سقته لبن السائمة، فإذا عرف منها خلاف الواجب في الظؤرة وقلة الفكر في مصالح الصبي خيف منه على الصبي، فصار ذلك عذراً يجوز معه فسخ الإجاارة، وأوجبنا فيمة اللبن لأنه يغذوه، وإن كان دون لبن المرأة والظئر دخلت فيما دخلت بعقد الإجارة وإلتماس العوض فلم تكن متبرعة.
قال: وإن مرضت المرأة كان لكل واحد من الظئر وأهل الصبي فسخ الإجارة الظؤرة، وهذا من أبين المعاذير: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، ولأهل الصبي فسخ الإجارة لوجهين أحدهما ما يخشى من اختلال الأمر في تعاهد الصبي وتفقده، وذلك مما يضره، والثاني أن لبن العليلة يكون متفيراص من جهتها، وربما أمرض الصبي، ويضره ضرراً شديداً، فيجوز لذلك فسخ الإجارة لأن جميع ذلك عذر على ما بيناه.
مسألة:
قال: ولا بأس بإجارة آلات الصياغة والحدادين والحاكة بأجرة معلومة في مدة معلومة، فإذا انقضت مدة الإجارة كان على المستأجر ردها إلى صاحبها إلا أن يكون اشترط على صاحبها حملها أجزنا أجارة هذه الآلات، لأن لها منافع معلومة يمكن استيفاؤها كمنافع الدور والحيوان على أنه لا خلاف فيه وقلنا إذا اقتضت مدة الإجارة كان على المستأجر ردها إلى صاحبها، لأن صاحبها أذن في كونها في يد المستأجر مدة معلومة فلو لم يردها بعد انقضاء تلك المدة كان في حكم الغاصب ولهذا نوجب عليه كراء المثل إن بقيت في يده من بعد تلك المدة، أما إذا كان شرط حمل صاحبها، فإنَّ ذلك يكون إذناً للمستأجر في كون الآلات في يده إلى أن يحملها صاحبها وتجري بعد انقضاء المدة مجرى الوديعة عنده.
مسألة:

(81/10)


قال: ولو أن رجلاً استأجر رجلاً على أن يحفر له بئراص حتى يخرج الماء كانت الإجارة فاسدة فإن استأجره عل أن يجفر له أذرعاً معلومة بأجرة معلومة كانت الإجارة صحيحة.
قلنا: إن استأجره على حفر بئر حتى يخرج المااء كانت الإجاارة فاسدة، لأن خروج الماء يتفاوت ولابما أسرع وربماا أبطأ وهذا مقتضى الجهالة فيما وقعت الأجارة عليه فوجب أن تكون الإجارة فاسدة، وقنا في الثاني: أن الإجارة صحيحة لن ما وقعت الإجاارة عليه معلومة مضبوظة.
مسألة:
قال: وإذا اكترى جملاً على أن يحمل له أرطالاً معلومة بأجرة معلومة من المدينة إلى مكة، أو إلى عرفة، أو إلى جدة كاان ذلك جائزاً وصح لأن الحمل معلوم القدر والأجرة معلومة والمسافة معلومة فلم يجب أن يعترض فيهاا الفساد لإنتفاء الجهالة عنهاا فأما التعيين فإنه يحصل باستيفاء المنافع وبه يستحق الأجرة عندناا، فلا يطعن عليه من هذا الوجه.
قال: وإن دفع رجل ثوباً إلى مناد ليعرضه للبيع وشرط له إن لم يبعه نصف درهم وإن باعه درهما سصح ذلك ووجهه أن الأمرين معلومان وذكر أجرة كل واحد منهما والبيع أمر زائد على العرض فلم يمنع ذلك.
مسألة:
قال: وإذا اكترى دابة على أن يحمل عليها ألف رطل ولم يسم شيئاً معلوماً صحت الإجارة وودجب أن يحمل عليها ما لا يجفوا على الدواب ولا يعنتها ووجهه أن المحمول معلوم القدر وليس يجب التعيين لأن هذا القدر من الجهالة لا يمكن الإجتراز منه كما بيناه في مسألة السكنى وفي الطحن والزراعة، وقلنا لا يحمل ما يعنت الدواب لأن مثل هذا يرجع فيه إلى العادات والعادات جارية على ألا يحمل على الدواب ما يعنتها بالإجارات المطلقة ولهذا قال أصحاب أبي حنيفة إن اكترى دكاناً جاز له ان يبيع فيها كل شيء ولم يجلس طحاناً ولا قصاراً ولا حداداً لأن هذه الصنائع تؤثر في الأبنية فكذلك ما ذكرناه.

(81/11)


قيل له: البضع يمك بعقد النكاح، وغن لم يحصل العوض المقابل لأن ملك البضع غير موقوف على ملك العوض كاللبيع يكون مك المبيع موقوفاً على مللك العوض، ألا ترى أن البضع يملك بعقد النكاح، وغن لم يذكر المهر أصلاً، أو ذكر مهر فاسد على أن البضع أيضاً يملك بمهر مؤجل كالمبيع يملك بثمن مؤجل ونحن لا ننكر جواز اشتراط التعجيل في الأجرة فمن تزوج على خدمة شهر فهو كأنه اشترط تعجيل عوض الخدمة وهو البضع لأن البضع لا يصح ثبوته في الذمة فهو مشترط للتعجيل حكماً فيلزم لفضاً كما أن المرأة اشترطت التأجيل في العوض وهي خدمة شهر حكماً ولم يشترط لفظاً فدل جميع ذلك أن البضع لم يملك لكونه أجره فبطل ما اعتمدوه.
فإن قيل: لو لم تكن المنافع المعدومة في حكم الموجودة المقبوضة لم يصح أن تعقد الإجارة على أجرة مؤجلة لألنه يكون بمنزلة دين بدين وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وأيضاص للمستأجر أن يؤجر مالا يقع الفبض فيه، وكل ذلك يبين أنه في حكم المقبوض.

(81/12)


قيل له: إن الإجارة، وإن كانت كالبيع فإن البياعانت تختلف فيجوز في بعضها مالا يجوز في بعض، ألا ترى أن الصرف قد اختص بمالا يختص به غيره من البيع، وكذلاك السلم فكذلك حكم الإجارة لا يمتنع أن يختص بأمور فيجوز فيها ما لا يجوز في سائر البيوع فلم يجب ما ادعيتموه من كون المنافع في حكم المقبوض على جميع الوجوه على أن هذه المنافع قد جعلت في حكم المقبوض في مواضع، وفي حكم مالم يقبض في مواضع، ألا ترى أنه لا خلاف في أن امستأجر إذا تف رجع المستأجر باجرة ولم تجعل المنافع من حكم المقبوض فإذا ثبت ذلك في الحقيقة غير مقبوضةة فلا يجب أن نجل في حكم المقبوض إلا في المواضع التي أجمع عليها فأما إن اشترط التعجيل والتاجيل فهو الواجب، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون عند شروطهم)، وقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وما ذكرنا يدل على أن ذلك حكم أجرة الصباغ، فغذا ثبت ما قلنا في الإجارة الصحيحة فهو أولى في الإجارة الفاسدة.
مسألة:
كل من استأدجر شيئاً إجارة فاسدة ثم استوافى منافعه لزم أجرة المثل دون المشروط وكذا القول في الصانع إن تقبل عملاً من غير أن يعقد فعمله فله أجره المثل وتسليم العمل بمنزلة العقد الفاسد في الأجرة والضمان إذا سلمه الصانع، ولا خلاف في من استأجر إجارة فاسدة ثم استوى في المنافع أنه يزمه أجرة المثل كما أن من اشترى شيئاً فاسداً ثم قبضه واستهلكه للزمه العوض على أن ذلك على مذهبنا أوضح لايجابنا على الغاصب كراء امث لأن المستأجر اجاره فاسدة أحسن حالاً من الغاصب ولا يجب المشتروط لأن وجوبه مستند إلى العقد فإذا فسد االعقد زال الوجوب ووجه ما قلناه من ا، تسليم العمل يجري مجرى العقد القاسد ما ظهر التعامل به بين الناس من غير تناكر من شراء
باب القول في وجوب الأجرة
الأجرة تجب باستيفاء المنافع دون عقد الإجارة تخريجاً، ولا فصل في هذا بين أن تكون الإجارة صحيحة أو فاسدة.

(81/13)


وكذا القول في أجرة الصانع أنها تجب بالعمل ددون العقد صحت الإجارة أو فسدت.
والدليل على ذلك قول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، فأوجب إيتاء الأجرة بعد الإرضاع، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يقول لكم ربكم ثلاثة أنا خصمهم: من استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره)، يدل على إيجاب توفير الأجرة بعد استيفاء العمل، ألا ترى أن الذي وجب أن يكون في العقد مذكوراً الأجرة، قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره)، ولو كانت الأجرة واجبة بالعقد لكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إعط الأجير أجره إذا استأجرته وكان يجب أن يقول في احلديث الذي قال: ثلاثة أنا خصمهم رجل إستأجر أجير فلم يوفه أجره فلما م يقل ذلك، وإنما أوجب الأجير بعد استيفاء العمل صح ما ذهبنا إليه من أن الأجرة باستيفاء اللمنافع وأيضاً قد ثبت أن الإجارة كالبيع لأنها تجري مجرى بعي المنافع فكما أن اللبائع لايسحق الثمن إلا مع تسليم ما يقابله من العوض وهو اللسعة فكذلك المستأجر منه لا يستحق الأجرة إلا بتسليم ما يقابلها من الفوض وهو استيفاء المنافع والعلة أنه عقد معاوضة فوجب أن يكون توفية العوض والمعوض منه معااً.
فإن قيل: ما أنكرتم أن قبض المستأجر الشيء يوجب توفير الأجرة بإزائه.
قيل له: ليس ما يقابل االأجرة هو الرقبة إنما هو المنافع فلا تجب الأجرة بقبض الرقبتة إذ ليست هي مقابلة الأجرة على أن قبض الرقبة لا تقتضي ملك المنافع التي هي العوض كما يجب ذلك في البيع ألا ترى أن الرقبة لو تلفت انتقضت الإجارة فبان به صحة ما قلناه.
فإن قيل: إذا جااز النكاح على خدمة شهر لم يجز البضع الذي جعل بدل االخدمة أن يملك جزءاً بعد جزء بإزاء ما يملك من منفعة الخدمة أو تملك البضع بنفس العقد فإن كان يملك في مقابلة ما حصل من المنافع فهو يؤدي إلى تعليق أمر البضع والإنفاق على خلاف ذلك.

(81/14)


المسلمين في الصباغ، وهذا كله كما نقول في المحقرات من المطعوم وما جرى مجرااها أنه يصح تملكه بالقبض والرضا للعادة الجارية بين المسلمين وهذا قد أجمعوا عليه ودخول الحمام من غير العقد على شيء.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً دفع شيئاً إلى رجل فقال: بعه فما زاد على كذا فلك أو يبني وبينك، فهو فاسد وله إذا باع أأجرة المثل، ووجه فساده أن الأجرة مجهولة وقد بينا أن الإجارة لا تصح حتى تكون الأجرة معلومة كما أن البيع لا يصح حتى يكون الثمن معلوماً وأوجبنا أجرة المثل لأنه قد عمل واستوفى صاحب المتاع نفعه فوجبت له أجرة المثل بما عمل.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً استأجر من رجل داراً شهراً ثم سكنها شهرين وجب عليه أجرة الشهر الثاني، وكذلك إن لم يسكنها الشهر الثاني ولكنه أغلق بابها ولم يسلمها إلى صاحبها لوم يشهد على تفريغها كان له أجرة لشهر الثاني أيضاً.
وكذلك إن اكترى حمااراً يوماً فحبسه شهراً وجب عليه كرى الشهر عمل عليه، أولم يعمل، إلا أن يكون حبسه لعذر كعذر الرد في الأصح والخلاف في هذا بيننا وبين أبي حنيفة لأنهم لا يوجبون كرى المثل على الغاصب ونحن نوجبه عليه وحكمه حكمه في أنه غاصب فلذلك أو جبنا عليه الكرى فأما ما كان الحبس لتعذر الرد فليس بغاصب فلذلك لم نوجب عليه الكرى، فإن استعمله مع ذلك كان غاصباً ولزمه الكراء.
مسأألة:

(81/15)


قال: ومن عمل لرجل شيئاً أو حمل له بالإجرة كان له ألا يسلمه إلى صاحبه حتى يستوفي أجرته، وقال أبو حنيفة مثل ذلك في الصياع كالسانع والخياط والإسكاف ونحوه، وقالوا ليس ذلك للحمال والمكاري ووجه ما ذهبنا إليه أن الحمال قد فعل في المحمول ما إلتزمهه بعقد الإجارة فوجب أن يكون له حبسه حتى يستوفي أجرته كالصانع والأصل في جميع ذلك مالا خلاف فيه من أن للبائع أن يمنتع من تسليم المبيع إلى المشتري حتى يستوفي االثمن ويجب الإستيفاء في الثمن والأجرة مع تسليم المبيع والعمل معاً إلا أن يتشاحا فيؤمر المشتري بتسليم الثمن أولاً ليتعين ثم يسلم البائع وثم ربما قالوا إن المكاري والحمال ليس لهما عمل قائم في الحمل فليس لهما الإمتناع من التسليم والصناع لهم أعمال قائمة فلهم الإمتناع من التسليم يريدون الصائغ والحداد ونحوهما وهذا كلام لا محصول له لأنهم إن أرادوا الكلام في الأعراض وبقائها فهذا الكلام لا تأثير له فيما نحن بصدده ويمكن أن يقال في الحمال ما يقال في الصاننع وإن أرادوا وجهاً غير هذا فلا محصول له فيكون عبارة لا معنى لجهتها على أن النقش لو قيل إنه ليس بعمل قائم للنقاش كان أظهر وما أظنهم يمتغون من أن للنقاش االإمتناع من تسليم المنقوش حتى يستوفي أجرته.
مسألة:
قال: ولو استأجر رجل من رجل بعيراً على أن يكون كراه ما يكرى للناس كان ذلك فاسداً، ووجه فساده ان الأجرة مجهولة وقد بينا أن الجهالة في الأجرة تقتضي فساد الإجارة، فإن حمل عليه كان له أجرة مثله، وإن اختلف ذلك حكم عليه بالوسط من ذلك.
قلنا: أن له أجرة المثل لأن حمل المنافع قد حصلت للمستأأجر بإجارة فاسدة فيجب له أجرة المثل على ما تقدم والرجوع في ذلك وفي قيم المتلفات وأروش الجنايات التي ااختلف فيها إنما هو إلى الوسط فلذلك قلنا في هذا إنه يرجع إلى الوسط لأنه أقرب إىل العدل لأنه لا يكون يجف على المستأجر ولا المستأجر منه.

(81/16)


قال: وكل إجارة صحيحة انتقضت للعذر بعدما قضى شطراً منها وجب فيقها من االأجرة بحساب ما انقضى، ووجهه أن تلك المافع قد استوافاها بإجاارة صحيحة فيجب أن يوفيه ما يقابلها من العوض كماا أنه لو استوفا الجميع وجب أن يوفي جميع الأجرة على أن ذلك لا يجب أن يكون أسوأ حالاً من الإجارة الفاسدة، فلا بد من أن يوفي الأجرة.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً استأجر جملاً من المدينة على أن يسير به إلى مكة ويحمل من مكة إلى المدينة حملاً له فلما انتهى إلى مكة امتنع من أن يحمل عليه لا لعذر، حكم عليه بالأجرة وكذلك إن امتنع الحمال لا لفذر حكم عليه بحمله والأصل في هذا ما بيناه من قبل أن الإجارة لا تنقض إلا لعذر فإذا ثبت ذلك فمتى استأجر الرجل جملاً بأجرة معلومة وسلم الجمل لزمه الكرى ولم سكن له فسخ الإجارة إلا لعذر كذلك الحمال ليس له ذلك غلا لعذر فمتى امتنع حكم عليه بإتمام ما إلتزم بعقد الإجارة، وألزم أن يحمل على جمله ما شرط عليه.
قال: ولو أن رجلاً استأجر رجلاً على أن يحمل كتابه إلى رجل ويرجع بجوابه إليه فلم يصاجق الأجير المحمول إليه ولم يأخذ الجواب، او ضاع الكتاب فلا أجرة له ووجه ذلك أن الإجارة لا يستحق أخذ الأجرة عليها إلا إذا حصلت على الغرض المقصود فمتى استأجره ليرجع بالجواب إليه كان غرضه مقصوراً عليه، وعليه وقعت الإجارة فمتى لم يفعل ذلك لعاق، أو غير عائق لم يستحق الأجرة لأن الذي في مقابلتها من النفع وهو رد الجواب إليه لم يحصل وعلى هذا قال في الفنون: من استأجر أجيراً ليحج عن الميت فانصرف من بعض الطريق لعائق منعه إنه لا شيء له من الأجرة لأن الغرض المقابل للأجرة لم يحصل ولا شيء منه فلم يجب أن يحصل له شيء من الأجرة.
قال: فإن كان استأجره على ان يوصل الكتاب إليه ففعل ذلك استحق الأجرة، وإن لم يعد بالجواب لأن الغرض في هذا مقصوراً على الإيصال فمتى حصل ذلك وجب أن يوفي ما يقابله من الأجرة.
مسألة:

(81/17)


قال: ولو أن رجلاً استأجر من رجل جمله ليحمله عليه إلى موضع معلوم بإجرة معلومة فتركه الحمال في بعض الطريق، ولم يحمله لم يكن للحمال الكرى إلا إلى حيث حمله، فإن كان المكتري هو الذي تركه وجب عليه الكرى إلى الموضع الذي شارطه وهذا إذا كانت الإجارة تعينت في الجمل، ولم يكن المكتري سلم نفسه إلى الجمال ليحمله، فإن كان سلم نفسه إلى الحممال ليحمله لم يتغير الجواب في ترك الجمال للمكتري في الوجهين وذلك ان المنافع التي تناولتها الإجارة حملت إلى موضع محخصوص فوجب أن يكون ما استحقه الجمال من الكراء ما يقابل تلك المنافع وأيهما خالف يكون مسيئاً والحكم ما بيناه فأما إذا كانت الإجارة معينة في حمل المكتري، فمتى خالف المكتري الجمال في بعض الطريق فلا أجرة للجمال إلا إلى حيث حمله لأن المنافع لم يقبل إلا إلى ذلك الموضع وإن كانت الإجارة مبينة في الجمل فترك المكتري في بع ض الطريق فالكراء يلزمه إلى حيث شارطه لأنه اكترى الجمل وسلمه ثم لم يركبه فالمنافع في حكم الحاصل له وإن كان هو لم ينتعفع بها كما يقول في الدخول أن المرأة إذا دخلت وسلميت نفسها استحقت جميع المهر وإن لم يجامعها الزوج لأن نفع البضع قد حصل له، وإن كان هو لم ينتفع به.
قاال: فإن حمل على الجمل غير المكتري حين تركه المكتري فلا أجرة للجمال من حيث حمل غيره وذلك أن لجمال قد منعه المنافع واستوفاها لنفسه فلم يستحق عوضها على من اكترى أولاً.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اكترى جملاً يحمله من المدينة إلى مكة على أن يسير به ستاً أو سبعاً فسادر به عشراً وجب للمكاري أجرة مثلة ولا تزاد على ما تشارطا عليه تخريجاً.
قال: وكذلك القول في الأجير والبريد والوجه في ذلك ان المكاري قد خالف ما إلتزم ولم يسلم المنافع على حصب ما اقتضته الإجارة، فوجب ألا يستحق المسمى.

(81/18)


وإن لم يكن بد من أن يوفى أجرة المثل كما نقول في االإجارة الفاسدة، وقلنا لا يزاد على المشروط لأنه رضي أعني الجمال بالمشروط على أن يسير به ستاً أو سبعاً، فلما قصر في ذلك وخان وخالف ولم يوف الحق على ما إلتزم لم يجز أن يستحق الزيادة فتكون الجناية سبباً لمزيد الأجرة، هذا هو االوجه في الريد والأجير.
مسألة:
قال: وإذا استأجر رجل من رجل شيئاً معلوماً بأجرة معلومة كان له يوآجرها غيره بمثل تلك الأجرة، وليس له أن يؤجره بأكثر من أجرته إلا بإذن صاحبه له أن يفعل ذلك بعد قبض المستأجر لأن قبل لاقبض يكون كالبيع قبل القبض لأن تسليم المستأجر يجري في بعض الوجوه مجرى تسليم المبيع فإذا قبض جاز له يوآجر غيره بمثل ما استأجره لأن منافعه قد صارت له حكماً فجازت فيه التولية كما يجوز في السلعة على أني لا أحفظ فيه خلافاً، فأما إجارتها بأكثر مما استأجر فلا يجوز لأنه ربح مالم يضمن، وقد نهى النبي صلى اله عليه وآله وسلم عن رقبح مالم يضمن لأن المنافع لم تحصل بعد في ضمانه بالقبض لها.
فإن قيل: ألستم قلتم أن المنافع صارت في حكم المقبوض فهلا أجزتم الربح فيهاا.
قيل له: إن المنافع في الحقيقة غير مقبوضة وإنما قلنا أنها في حكم المقبوض في مواضع دلت الدلالة عليه فأما على التحقيق فلا يجوز أن تكون مقبوضة، ألا ترى أنه لو هلك الشيء المستأجر بطلت الأجرة فهذا لم يجوز الربح فيه على أن المنافع لا تملك أايضاً على الحقيقة فيكون ذلك ربح مالم يملك لأن المنافع لا تملك بتعيين العقد لأنها معدومة في الحقيقة، فإذا أذن له فيه صاحبه أعني الإجارة بأكثر مما استأجر فإن أصحابنا أجازوه لأن المستأجر إذ ذاك يكون تصرفه كأنه من قبل المستأجر منه فكأن الربح حصل له حكماً ثم انتقل إلى المستأجر.
مسألة:

(81/19)


قال: ولو أن حائكاً أخذا غزلاً على ان ينسجه عشرة أذرع فنسجه اثني عشر ذراعاً كان له أجرة عشرة أذرع وكان في الذراعين متبرعاً، وذلك أن الإجارة تناولت عشرة أذرع فوجب أن يكون المستحق هو أجرتها فقط، وأما الذراعان فلم تناولهما الإجارة على وجه الصحة، ولا على وجه يجري مجرى الفاسد، فلم يجب أن يستحق لهما شيئاً، وكان متبرعاً على أنه يجري مجرى أن يأخذه فينسجه له بغير أمره ومجرى سائر ما يتبرع به الإنسان لغيره مما يستحق به الأجرة.
قال: ولو أن صباغاً دفع إليه رجل ثوباً على أن يصبغه له لوناً بدرهم فصبغه له لوناً أصبغ كان الصباغ في الزيادة متبرعاً تعمده، أولم يتعمده، ووجه هذا هو وجه ما تقدمه، لأن الزيادة لم يتناولها عقد الإجارة لا على وجه الصحة، ولا على وجه الفساد، فوجب أن يكون متبرعاً في الزيادة.
قال: فإن قال الصباغ أمرتني بصبغ يساوي عشرة، وقال صاحب الثوب: أمرتك بصبغ يساوي خمسة كانت البينة على الصباغ واليمين على صاحب الثوب لأن الصباغ هو المدعي وصاحب الثوب هو المنكر، ألا ترى أن الصباغ يحاول أن يلزم صاحب الثوب حقاً لم يثبت عليه وصاحب الثوب يمانعه ذلك.
مسألة:
قال: وإذا دفع الرجل ثوباً إلى خياط ليقطعه قميصاً ويخيطه فقثطعه وخاطه ثم استحق الثوب كانت الأجرة على من امر بتقطيع الثوب ووجهه أن المستأجر له على ذلك دون صاحب الثوب فيلزمه الأجرة كالوكيل والمتبرع على غيره بذلك ولا معتبر بكون الشيء ملكاً لغيره إذا كان هو المستأجر وليس له أن يرجع على صاحب الثوب لأنه فعله بغير أمر صاحب الثوب كما قلنا في النساج والصباغ ويكون بذلك متبرعاً.
مسألة:
قال القاسم عليه السلام:

(81/20)


ولو أن رجلاً كلم رجل في حاجة لرجل فأهدى إليه شيئاً جازله ذلكن يجوز ما قاله إذا لم يكن مشروطاً فإن كان مشروطاً فإن كان مشتروطاً لم يجز للنهي الوارد فيه فأما إذا لم يكن مشروطاً فهو جائز لأن ذلك مقابله الإحسان بالإحسان، ومكافأة على الإحسان، وقد قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانُ إِلاَّ الإِحْسَانِ}، وقال: {وَإِذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيِّوا بِأَحْسَنِ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.
قال القاسم عليه السلام:
ولا بأس بكسب الحجام لأنه صنعةُ مباحة، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر حجام فحجمه، وروى محمد بن منصور بإسناده عن علي عليه السلام قال: إحتجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعطى الحجام أجرته.
مسألة:
قال: والرشا على الحكم حرام لا خلاف في كونه حراماً بين المسلمين لأن المرتشي آثم لأنه أخذ العو ض على ما لزمه، ووجب عليه.
فإن قيل: إنكم تجوزون أن يأخذ القاضي رزقاً من الإمام، وروي أن أمير المؤمنون عليه السلام أعطى شريحاً.
قيل له: هذا ليس بارتشاء لأن الإرتشاء أن يأخذ من أحد الخصمين إما ليظلم أو لينصف، وعلى كلا الوجهين هو حرام وما يأخذ القاضي على الإمام ليس على هذا الودده لنه يجري مجرى ما ياخذه الإمام لنفسه من بيت مال المسلمين يستعين به على ما هو فيه من تحري مصالح المسلمين.
وأجرة الكاهن والبغي حرام لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روي عنه ذلك، قال الله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، وهذا من أكل المال بالباطل.
وتكره أجرة االغازي في سبيل الله، وهو الذي لا يخرج إلا باجرة وذلك لأنه اخذ العو ض على ما هو قربة وطاعة بل وادب وذلك لا يجوز، وقوله وهو الذي لا يخرج إلا بأجرة تدل على أنه يجوز للغازي الذي يخرج متقرباً إلى الله تعلى أن ياخذ ما يهدى إليه إذا لم يكن ذلك مشروطاً كما يجوز للمؤذن ولمن يعلم القرآن، ولمن يعين إنساناً في حاجة له.

(81/21)


قال عليه السلام:
ويكره عسب الفحل إتباعاً للأثر هو كما قال عليه السلام والأثر الوارد فيه مشهور قال: وتكره أجرة السمسار إلا أن يستأجر باجرة معلومة على شيء معلوم وذلك أن المجازفة فيه تعظم وتكبر وتخرج عن اجرة المثل، ولا يأخذ السمسار على شيء معلوم على قدر عمله وإنما ياخذ على قدر السلعة فأما إن أخذ بإذن صاحب المال على قدر العمل لم يكره ذلك، وجرى مجرى سائر الصناع.
باب القول في ضما الأجير
كل ما تلف على الأجير المشترط مما استؤجر على عمله فهو ضامن له سواء تلف بجناية أو يغير جناية، إلا أن يكون تلف بامر غالب لا قبل له بدفعه وهذا قول أبي يوسف ومحمد وغجماع أهل البيت عليهم الاسلام وقل أمير المؤمنين علي عليه السلام، وخالف فيه ابو حنيفة وسائر أصحابه غير أبي يوسف ومحمد وللشافعي فيه قولان، والأصل فيه ماا روي عن علي عليه السلام أنه كان يضمن الأجير المشتري ويقول لا يصلح الناس إلا ذلك ففيه وجهان من الدلالة: أحدهما على أصولنا: هو قول أمير المؤمنين عليه االسلام وعندنا يجب اتباع ولا يجوز مخالفته.
والثاني قوله: لا يصلح الناس إلا ذلك أن المصالح لا يعلمها إلا الله عز وجل والرسول بتعريف الله إياه، فكان ذلك دليلاً على أنه كان قال ما قال توقيفاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجرى مجرى النص عليه.
فإن قيل: لعله أراد أن الناس لا يصلحهم إلا ذلك بأكثر الرأي عنده.

(81/22)


قيل له: حمل الخبر على ذلك حمل له على المجاز بغير دليل لأنه لا يكون صلاحاً على الحقيقة، وإنما يكون عنده أنه كذلك وهذا لا معنى له وأيضاً لا يجوز تضمين الأموال ولو غلب على ظن الإمام أو الحاكم أن ذلك أصلح لهم هذا مالا خلاف فيه، فلم يبق إلا ما قلناه وأيضااً قد ثبت أن الأدير المشترك مضمون عليه عمله الذي استؤجر عليه ولهذا يوجب عليه ضمان ما وقع بفعله فإذا ثبت ذلك وجب ان يضمن إذا ضاع عنده لأن الحفظ مضمون عليه لأنه لا ينال العمل إلا بالحفظ فإذا ثبت ذلك وجب أن يضمن إذا ضاع عنده لأنه قصر في الحفظ وهو دااخل في جملة ما أخذ الأجرة عليه.
فإن قيل: لو كان ذلك كذلك لوجب في الخياط إذا بقي الثوب عنده برهة ثم رده من غير أن يخيطه للعذر أن يستحق على الحفظ قسطاً من الأجرة فلما أجمعوا على أنه لا يستحق بذلك شيئاً من الأجرة دل على انه لم يدخل في جملة ماا أخذ عليه الأجرة.
قيل له: الحفظ دخل فيه على سبيل التبع فلم يجب أن يكون له قسط من الأجرة إذا انفرد، ألا ترى أن من اشترى ناقة حاملاً فنتجت قبل أن يقبضها المشتري وتلف الفصيل أنه لا يحط له شيء من الثمن وإن كان الفصيل داخلاً في جملة ما استحق به الثمن لأنه دخل في ذلك على سبيل التبع، ولم يكن مقصوداً إليه كذلك الحفظ دخل في جملة ما استحق عليه الأجرة على سبيل التبع، ولم يكن له حظ من الأجرة إذا انفرد، ولم يجب أن يدل ذلك أنه لم يدخل فيه.

(81/23)


وتحرير القياس فيه أن يقال قد ثبت أن الحفظ من جملة ما استحق عليه الصانع العوض فوجب أن يضمن ما أتى من جهته كما يضمن ما أتى من جهة الصنعة، فإذا أتى من جهة امر غالب فلم يؤت من جهة الحفظ لن الحفظ لا يفير في ذلك شيئاً فلذلك قلنا أنه لا يضمن إذا أتى من ذلك فأما ما جنته يده فلا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة في ضمانه، وقال زفر لا يضمن إلا بالتعدي ويبطل قوله ما سلف ويوضح ذلك بان يقال أن الأجر لما كان مستحقاً على العمل كان العمل مضموناً عليه لأن عقود المعاوضات تقتضي الضمان فإذا ثبت أن العمل مضمون وجب أن يكون ما يحدث عنه مضموناً.
مسألة:
قال: وما تلف في يد الأجير الخاص فلا ضمان عليه فيه إلا أن يكون تلف بجناية منه وهذا ممالا خلاف فيه إلا ما يحكى عن الشافعي أنه أحج قوليه وذلك لا معنى له لأن الأجير الخاص لا يستحق الأجرة على العمل وإنما يستحقها على تسلم نفسه للعمل ألا ترى أنه لو سلم نفسه للعمل إلى المستأجر استحق الأجرة سواء استعمله المستأجر أولم يستعمله، وليس كذلك الأجير المشتري لأنه لا يستحق الأجرة بأن يعمل فبان أن الأجير الخاص عمله غير مضمون عليه إذ لم يستحق الأجرة عليه وإذا لم يكن مضموناً فلا معنى لت ضمينه ما ضاع على يديه بغير جناية منه فأما إذا كان بجانية منه فلا خلاف في ضمانه.
مسألة:
قال: وإذا ادعى المستأجر عليه التفريط وأنكر الأجير فالبينة على المستأجر واليمين على الأجير، ووجهه أن المستأجر هو المدعي لأنه يلزمه حقاً بجناية لم يثبت عليه والأجير منكر له فوجب أن تكون البينة على المستجر لكونه مدعياً واليمين على الأجير لكونه منكراً، وأيضاً قد بينا أن الأجير الخاص أمين والقول قول الأمين إذا أنكر الجناية مع يمينة كالمودع القول قوله مع يمينه.
مسألة:

(81/24)


قال: وإذا اكترى رجل من رجل جملاً على أن يحمل له حملاً فحمله المكاري فأخذ منه الحمل في الطريق ضمنه المكاري إلا أن يكون أخذ بأمر غالب والمراد بهذا إذا لم يعين الكرى في الجمل لأن الجمال يكون أجيراً مشتركاً ألا ترى أنه هو الذي سلم ـ تسلم ـ لاحمل لا أنه سلم جمله، قال: أو انخرق الزق وذهب ما فيهما ضمنه المكاري، ووجب له الكرى إلى حيث سلم يتقاصان ذلك، أما إنخراق الزق فإنه يكون على وجهين قد ينخرق بأن يكون الزق ضعيفاً، ويملا من الدهن بحيث يقل الخلا فيه فينشق الزق من ذي قبل من غير أن يصيبه شيء، فإن كان كذك فيجب ألا يضمن المكاري لأنه لم يؤت من التقصير في الحفظ، وقد ينخرق بأأن يصيبه شيء أو يلحقه عنف في الرفع والوضع، فإن كان كذلك ضمنه المكاري لأنه ذلك يكون من سوء الحفظ، وهو الذي أراد في المسئلة وأما العاروره إذا كانت صحيحة فإنها لا تنكسر إلا لأمر يصيبها أو عنف يلحقها في الرفع والو ضع فلا بد من أن يضمها المكاري لأن هذا يكون من سوء الحفظ، قال: وإذا حفظ ـ حمل، نخ ـ المكاري الحمل فذهب في منزله أو منزل لصاحب الحمل قبل تسليمه إليه ضمنه إلا أن يكون ذهب بأمر غالب وذلك لأنه بعد في ضمانه لم يقع تسليمه إلى صاحبه كالبائع يكون المبيع في ضمانه قبل تسليمه إلى المشتري.
قال: وإن سلم إليه بالكيل أو الوزن أو العدد ثم وجده ناقصاً لزم المكاري ما نقص منه، أما من جهة العدد فهو كذلك وأما ما نقص من جهة الكيل أو الوزن فإن كان الشيء مماا يتناقص بالجفاف فلا شيء فيه على المكاري لأنه لم يجن وإن كان ممالا يتناقص بالجفاف فهو على ما قال لأنه يكون أتي من سوء الحفظ.

(81/25)


قال: فإن كان المكاري دفعه إلى مكاري آخر ضمن المكاري الأول لصاحب الحمل وضمن المكاري الثاني للمكاري الأول وذلك أن الشيء ضاع على يد المكاري الثاني فوجب ان يضمن للمكاري الأول لأنه ضمن لصااحب الحمل فإن أنكره االمكاري الثاني للمكاري فعليه اليمين لأنه منكر وعلى المكاري الأول البينة لأنه المدعي، قال: وإن أنكره الماري الأول كان عليه اليمين، وعلى صاحب الحمل البينة لأنه هو المدعي ولا شيء على المكاري الثاني لأن المكاري الأول لا يعيه عليه والتداعي بين صاحب الحمل والمكاري الأول.
قال: فإن دفع رجل إلى المكاري طعاماً أو غيره ليحمله بنصفه، أو بثلثه فسرق في بعض الطريق ضمنه المكاري كله، إلا مقدار كراه إلى الموضع الذي سلمه إليه وذلك أن المكاري يكون مستحقاً لذلك القدر فكأنه ضاع من ماله فلم يلزمه ضمانه، ولزمه ضمان سائره لأنه أجير مشترك.
قال: وإن دفع غزلاً إلى الحائك لينسج له ثوباً فلما نسج ادعى على الحائك أنه أبدل الغزل، فإن القول قول الحاك مع يمينه وذلك أن صاحب الغزل يدعي عليه جناية هو لها منكر فوجب أن يكون القول قوله مع يمينه، قال: وإذا دفعه على أن ينسج له إثني عشر ذراعاً فنسج له عشرة أذرع، كاان صاحب الغزل بالخيار إن شاء أخذه بقيمة الغزل واسترجع الأجرة، وإن شاء طالبه بنسج ذراعين، ووجهه أن الحائك خالف فيماا استؤجر عليه، وجعل الغزل في حكم المستهلك لأنه نسجه على خلاف ما أراد صاحبه فخيرنا صاحبه بين تغريم القيمة لأنه في حكم المستهلك كماا نقول ذلك في الغصب وبين أن يرضى به ويطالبه بنسيج ذراعين على ما ااقتضاه الإستئجار.
مسألة:

(81/26)


قال: ولو أنه دفع إلى خياط ثوباً فقطعه قباء، فقال صاحب الثوب أمرتك أن تقطع قميصاً، وقال الخياط أمرتني أن أقطع قباء، ككانت البينة على صاحب الثوب، واليمين على الخياط حكى ابن أبي هريرة أن هذه المسألة للشافعي على قولين، وحكى عن أصحابه فيها اضطراباً شديداً، والصحيح ما ذهبنا إليه لأن صاحب الثوب مقر بالإذن له في القطع، ويدعي عليه جناية لم تثبت فوجب أ، يكون هو المدعي ووجب أ، يكون الخياط هو المنكر.
فإن قيل: إذا كان عندكم أن الأجير المشترك ضامن فال ضمان على االخياط مستقيم، وهو يحاول الإسقاط عن نفسه فهلا جعلتموه مدعياً وهلا ألزمتموه االبينة.
قيل له: إن ذلك الضمان هو ضمان العين، والعين باقية، وليس يطالب صاحب الثوب بذلك الضمان وإنما يطاالبه بضمان لم يستقر لأنه ضمان جناية لم تثبت فوجب أن يكون المدعي هو صااحب الثوب والمنكر هو الخياط، وحكى مثل قولنا ـ عن نخ ـ ابن أبي ليلى.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً دفع إلى صباغ ثوباً ليصبغه لوناً فصبغه غير ذلك اللون كان صاحب الثوب بالخيار إن شاء أخذ ثوبه، وإن شاء أخذ من الصباغ قيمته قبل أن يصبغه تعمد الصباغ أو أخطأ فيه، ووجه أنه قد أفسد الثوب على صاحبه، وأخرجه عن أن يصح من صاحبه الإنتفاع به مع ذلك الصبغ لأن أغراض الناس في الإصبااغ تختلف فصار في حكم المستهلك، فإن شاء أخذه، ولا شيء للصباغ، وإن شاء ضمنه، وتركه عليه، هذا وجه ما في الكتاب من الجواب والذي عمندي في جوابه أأن عين االثوب باقية، إن هذا ليس باستهلاك فيجب أن ينظر فيه فإن كان الصبغ زاد في قيمة الثوب أولم ينقص منه شيئاً أخذ الثوب ولا شيء للصباغ وإ، كاان الصبغ نقصه أخذ صاحب الثوب من الصباغ قيمة النقصان لأن هذا هو الأصل في الجنايات ألا ترى أنا لو قلنا بخلاف ذلك لكان كل من جنى على ملك له جناية مؤثرة أن يسلمه إلى الجاني ويطالب بغيمة المجني عليه، وهذا خلاف الإجماع، وخلاف موضوع الشرع.
مسألة:

(81/27)


قال: ولو أنه دفع إلى المنادي ليبيعه فضاع الثوب ضمنه المنادي، وجهه أن المنادي هون أجير مشترك وليس باجير خاص فوجب أن يضمنه على قولنا في الأجير المشترك.
قال: وكل هؤلاء يضمنون ما تلف على أيديهم سواء كانت الأجرة مسماة أو غير مسماة والإجار ة فاسدة أو غير فاسدة ووجهه أنه تسلم الشيء وتقبل عمله فصار الشيء في ضمانه لأن عمله قد صار مضموناً ألا ترى أنه إذا عمله استحق الأجرة فلو لم يعمله لم يستحق الأجرة وكاان في حكم المتبرع.
قال: وكذلك يضمن الصناع ما أافسدوه بصنعتهم نحو أن ينغل الدباغ الأديم أو يحرق الحداد الحديد، أو يكسر النجار الخشب، أو نحو ذلك وهذا لا خلاف فيه بيننا وبين أبي حنيفة وإنما الخلاف بيننا وبين زفر وقد مضى الكلام فيه.
قال: وإن كان الإفساد أذهب من قيمته أكثر من النصف كان صاحب الشيء باخيار بين أن يسلمه إلى الصانع ويأخذ قيمته صحيحاً كما دفعه وبين أن يأخذه ويأخذ قيمة ما نقص منه من الصانع، ووجهه أنه جعل الأقل تابعاً للأكثر فإذا كان هو الأكثر ألزم الصانع الجميع إن اختار صاحب الشيء تسليمه إليه، وإن كان الذاهب هو الأقل جعل الجميع كالحاصل وجبره بالأرش لأنه في كثير من الأصول القليل يتبع الكثير، فعبني الأمر عليه.
قال: وإن صار الشء بحيث لا قيمة له أخذ قيمته من الصانع وهذا واضح لأن جنايته أحاطت بالشيء فجعله في حكم ماليس بمال فألزمه القيمة.
قال: فإن كان الصانع أفسده بعدما عمله فله أجرة عمله إن إلتزم النقصان وأخذ الشيء ـ صاحبه ـ ووجهه أن النفع الذي حصل عليه عقد الإجارة قد حصل له أو بعضه، ووقع التسليم فيجب أن يستحق الصانع عوضه.

(81/28)


قال: والقيمة في جميع ذلك قيمته يوم دفعه إلى الصانع وهذا كما قال لأن دخل يومئذ في ضمان الصانع كما نقول في المغصوب إلا أن يأخذ اعامل أجرة عمله فتكون القيمة قيمته معمولاً، فإن اختلف الصانع وصاحب المتاع في القيمة فالبينة على صاحب المتاع، واليمين على الصانع لأن صاحب المتاع، مدع للفضل والصانع منكر له.
قال: ويضمن الحمامي ماا ذهب في حمامه للناس من ثوب أو غيره، ووجهه أن الحمامي في حكم الأجير المشترك في حفظ الثياب، لأن العرف قد جرى بين الناس أنهم يعتمدونه لحفظ ما يتركون في الحمام وذلك في حكم المستلم إليه، وهو في حكم المستأجر على حفظه وأظن أن أبا يوسف ومحمد قالا بذلك، وحكى ابن أبي هريرة عن الشافعي أن ما ضاع في الحمام على قولين، وعندنا أن العرف الجاري والعادة المستمرة في تسليم الناس الثياب إلى الحمامي يجري مجرى الإجارة، قال: وإن اختلفا فيما ذهب أو في قيمة ما ذهب كانت البينة على صاحب الشيء، واليمين على الحمامي لأن صاحب الثياب المدعي للزيادة في العين او القيمة، والحمامي هو المنكر.
مسألة:

(81/29)


قال: ولو أن رجلاً استأجر ظئراص لصبي فسقته ما يقتله، فعليها القود إن كانت تعمدته، والدية على عاقلتها، إن كانت أخطأت ووجهه أن من مذهبه أن القود يجب في كل ما جرت العادة أن مثله يقتل به، وشرحه يحي في كتاب الديات والقصاص، فأما الخطأ فلا خلاف فيماا ذكره، قال: وكذلك القول في الخاتن إذا قطع حشفة الصبي فمات منها الصبي، وكذا الحجام والمتطبب يضمنون ما أعنتواا إلا أن يكونوا اتشتراطوا البراءه قال: وما لزم هؤلاء بخطأ كان منهم لزم عواقلهم هؤلاء إنما يضمنون ما جنوه دون الرايات وهذا قال يضمنون ما أعنتوا وقال في الختن: إذا قطع الحشفة لإن الرايات ليست من جناياتهم بل هي غير ممكن لهم الإحتراز منها، فهو من الأحرى الغالب المشترك لا يضمنه كالموت وما جرى مجراه، وضمانعم الإعيان أنه جناية أتوها من قبل أنفسهم استثنى اشتراط البراءة، لأنه يجري مجرى الإذن فيما يتفق منهم وذكر ان ما يلزمهم يلزم عواقلهم لأن الجنايات التي تكون على بني آدم في باب النفس وماا دونها تكون على العواقل على ما يجري بيناه في كتاب الديات.
قالك فإن كان الصانع او الحجام عبداً أذن له يسده بالعمل ضمن يسده مالزمه، وإن كان لم يأذن له سيده فيه كان مالزمه ديناً في ذمته يطالب به متى عتق، قلنا العبد المأذون له في التجارة، فأما المحجور عليه، فلا يلزم مولاه شيء لأن من سلم إليه العمل يكون قد رضي بذمته بمنزلة من يقرضه فيكون ذلك عليه يطالب به إذا عتق.
باب القول في ضمان المستأجر
لو أن رجلاً استأجر داراً فسرقت أبوابها لم يضمنها للمكري إلا أن يكون ضيعها فإن سرق منها متاع المستأجر لم يضمنه صاحب الدار.

(81/30)


قلنا: لا ضمان على مستأجر االدار إن سرقت أبوابها لأنه قبضها فإذن مالكها لا على وجه ضمان البدل، ولا على وجه لزمه حفظهاا بنفس العقد ولم يكن منه تعد فلم يجب أن يضمنها لأن الضمانات تتعلق ببعض هذه الوجوه، فإذا تعرى القبض منها لم يجب التضمين وإن شئت قلت مال لغيره لم يلزمه حفظه لعوض ولم يشترط ضمانه فوجب ألا يضمنه كالوديعة إلا أن يتعدى فيلزمه ضمان التعدي، وكذا ما سرق للمستأجر فلا ضمان على صاحب الدار، لأنه لم يتسلمه، ولم يقبضه هو على وجه من الوجوه.
مسألة:
قال: وإذا استأأجر رجل من رجل جملاً ليحمل عليه أرطالاً معلومة فحمل عليه كثر مما شارطه عليه من غير إذن الجمال فتلف الجمل تحته ضمنه المستأجر إن كانت الزيادة مما يؤثر مثله هذا التأثير أعتبر ليفلم أنه مما يجوز أن يتلف، ألا ترى أنه لو غرز في الجمل خلالاً أو أبرة أو مسواكاً لم يجب أن يضمنه لكون ذلك مما لا تأثير له في الإتلاف، فأما إذا كان مثله يؤثر فإنه يضمنه لأنه تعدى فيه، قال أأبو حنيفة: يضمن قسط الزيادة من القيمة، كأن القيمة تقسم على الأصلن والزيادة، وحكى ابن أبي هريره، عن الشافعي أن الجمال إذا لم يكن معه قولاً واحداً في أنه يضمن جميع القيمة، وهو الصحيح لأنه قد تلف بتعديه، فوجبأن يضمنه، ولا معتبر في أنه مأذون في حمل بعض ما على الجمل، ألا ترى أن من استأجر جملاً إلى موضع بعينه ثم جاوزه ثم تلف لم يجب أن يقسم الضمان على الموضع المأذون له فيه بعقد الإجاارة، وعلى ما بعده مما تعدى في مجاوزته بل يكون ضامناً للجميع، وهكذا الفصاد لو جرح المفتصد جراحه تعدى فيها فمات المجروح لم يجب أن تقسم الدية على جرح الفصد، وعلى الجرح الذي تعدى فيه، بل يلزمه الدية كاملة فكذلك ما ذهبنا إليه.

(81/31)


قال: ولو أنه اكترى منه على أن يركبه إلى موضع فتجاوز ذلك الموضع فتلف ضمن قيمته، ووجب كراه إلى الموضع الذي استأجره إليه لا خلاف في ضمانه القيمة إذا تجاوز ماا اكتراه إليه لأن متعد فيه، وغاصب له في تلك الحال فيجب أن يضمن القيمة وإيجابه الكرى إلى حيث استأجر فالمراد به المسمى وله فيما تجاوزه مع الضمان كرى المثل على ما تقدم من نصوص الدلالة على إيجاب كرى المثل على الغاصب.
قال: فإن اكترى على أن يركبه إلى موضع فركبه إلى موضع آخر أبعد منه فتلف ضمن قيمته، ولم يجب الكرى هذه كالمسألة التي قبلها ألزمه الضمان اتعديه، وأراد بقوله لم يجب الكرى المسمى، فأما إيجابه كرى المثل فقد مضى في كلامه ما يدل عليه.
قال: وإن اكتراه على أن يركبه وحده فأردف معه رديفاً فتلف ضمنه إن كان مثل الرديف يؤثر في مثل ذلك المروكوب، وعليه الأجرة، وهذا بيانه ما تقدم.
قال: وإن اكتراه على أن يحمل عليه أرطالاً معلومة من التمر فحمل عليه ذلك القدر حديداً، فتلف لم يضمن إلا أن يكون الجمل فتياً لا يحمل عليه مثله، فإنه يضمن، ويجب عليه االأجرة مع الضمان، ووجهه أن مثل هذا يرجع إلى العادات، فإن كان الجمل مما يحمل على مثله الحديد، والتمر بكرى واحد فلا تعدي فيه، ولا يجب التضمين، وإن كان غير ذلك ضمن والذي يجب في المكتري له إن كان قطناً ثم حمل بدله حديداً، ثم تلف ان يضمن لا محالة، لأن التفاوت بين القطن والحديد في االإجحاف بالمحمول عليه ظاهر لا يلتس وإنما قال ما قال من ذلك لتقاارب الأمر بين الحديد والتمر.
قال: فإن اكتراه يوماً فحبسه أيامااً فتلف في تلك الأيام ضمنه غلا أن يكون منعه من رده مانع، ووجهه أنه يكون غاصباً في حبصه عن صاحبه لذلك ضمنه.
قال: فإن اكتراه فسوق أو سرق ما عليه من قتب أو غيره لم يضمنه، إلا أن يتعدى في، وهذا بيانه قد مضى في صدر الباب.
مسألة:

(81/32)


قال: ولو استأجر آلات الحدادين او االصناعة، أو غير ذلك، واشترط لصاحبها ضمان ما ضاع منها، أو سرق صح ذلك، وضمن المستأجر، وهذا كما نقوله في ضمان العارية، ووجه انه لما استأجر الآلة، وشرط له ضمانها كان في الحكم عليه كأنه استأجرها بدراهم ويحفظه لها فيكون الحفظ من جملة الأجرة، وتكون المنافع التي في الآلة يستوفيها في مقابلة الأجرة والحفظ جميعاً فيكون كأنه أخذ العوض على الحفظ فيجري مجرى الأجير المشترك، ويعتمد هل قوله عز وجل: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون عند شروطهم)، وبما روي أنه باع ناقة واشترط ظهرها إلى كذا، قال وإن اشترط ضماان ما انكسر منه بالإستعمال كان الضمان باطلاً، ووجهه انه لا يجوز أن يأخذ العوض على ألا يكسره كما يجوز أن يأخذ العوض على الحفط فلم يجز أن تكون المنافع في مقابله ألا يكسره مع الأجرة فبطل الشرط وجرى مجرى الوديعة في أنه لا يصح اشتراط ضماها، ولا عوض يقابل حفظها، وفارق العارية إذ منافعها يجوز أن يكون عوضها بحفظهاا.
مسألة:
قال: وإن استأجر جملاً كان العلف على صاحبه إلا أن يكون المستأجر اشترط له ذلك، ووجهه أن صاحبه رضي من المستأجر بالأجرة المسماه عوضاً عن منافعه التي يستوفيها، فلا يجب أن يلزمه غير ذلك لا علفاً، ولا غيره، فإن اشترط العلف لزمه، لأنه يكون مستأجراً له بالمسمى وبالعلف، فيكون الجميع هو الأجرة كأنه قال له استأجرته منك بدرهم، وبكذا من العلف.
مسألة:
قال: ولو استأجره ليركبه إلى موضع بعينه فوقف في الطريق فمضى المستأجر وتركه، فتلف ضمنه المستأجر إلا إذا كان الطريق مخوفاً لا يمكن المستأجر المقام عليه، وهذا معناه إذا تلف قبل انقضاء المدة التي تضمنته الإجارة وهي المدة التي أمكنه أن يمضي فيها إلى ذلك الموضع أو تكون المدة مشروطة فإنه يلزمه تسليمه إلى صاحبه بعد انقضاء المدة، فإن لم يسلمه لغير عذر كان كالغاصب يضمنه إن تلف.
مسألة:

(81/33)


قال: وإذا استأجر من رجل عبداً لخدمته شهراً ومضى به ثم انصرف وادعى إباقه او موته فعليه البينة في ذلك، فإن لم يكن له بينه ضمنه، إن كان اشترط ضمانه، فإن لم كين اشترط فالقول قوله مع يمينه تخريجاً، ويجوز أن تكون المسألة محمولة على ضمان الكرى فيكون الأمر فيه أظهر فلا يحتاج إلى التحريج، وهذه المسألة المراد بها رجل استأجر عبداً واشترط ضمانه إلا في باب الإباق، فلما ادعى الإباق كان عليه البينة ليسقط الضمان عن نفسه، وكذلك إن ادعى الموت فعليه البينة، لأن الموت غير مضمون عليه بوجه لأنه لا ينفع الحفظ فيه، فإن لم يكن له بينة ضمنه لأن الموت غير مضمون عليه بوجه لأنه لا ينفع الحفظ فيه، فإن لم يكن له بينة ضمنه لأنه مضمون عليه في الأصل، فإذا أراد أن يسقط الضمان عن نفسه بأمر يدعيه كان مدعياً لأن من خاف إسقاط حق لزمه، يكون مدعياً كمن يحاول إيجاب حق لم يثبت وجوبه.
مسألة:
قالكو إذا استأجر رجل من رجل شيئاً فأجره من غير إذن صاحبه بأكثر مما استأجره به فتلف ضمنه، وذلك أنه متعد لأنه لما نهى عن ربح مالم يضمن لم يكن له أن يؤجره بأكثر مما استأجره به، فلما فعل ذلك كان متعدياً، قال: فإن أجره بإذن صاحبه، ثم تلف لم يضمن، وذلك أنا قد بينا أن الربح يطيب له إذا كان كذلك لأنه يكون كأنه صار إليه بإذن صاحبه، فلم يجب أن يكون متعدياً قال وإن أجَّره بمثل ما استأجره فتلف لم يضمن سواء كان بإذن صاحبه او بغير إذنه تخريجاً وذلك لأنه لا يكون متعدياً على الوجهين جميعاً فوجب ألا يضمن.

(81/34)


باب القول في المزارعة
من دفع أرضه إلى من يحرثها ويزرعها على جزء من الزرع، كالنصف، أو الثلث، أو الربع، أو أقل من ذلك، أو أكثر كانت االمزارعة فاسدة فإن كان البذر لأحدهما كان الزرع لصاحب البذر، فإن كان هو العامل كان عليه لصاحب الأرض كرى الأرض وإن كان هو صاحب الأرض كان عليه للعامل كرى مثله، وبه قال أبو حنيفة حكاه الكرخين، قلنا: وإن كان البذر منهما كان الزرع بينهما، ووجب على الزراع نصف كرى الأرض، وعلى رب الأرض نصف أجرة العمل تخريجاً.

(82/1)


وقال زيد بن علي عليهم السلام: تصح المزارعة على جزء من الخارج، وهو المروي عن جعفر بن محمد عليهم السلام، روته الإمامية، وبه قال الناصر وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد وأما قول الشافعي فهو مثل قولنا إلا ما كان من الأرض في أثناء النخيل، والأصل في فساد المزارعة، والمساقاه ما وروى زيد بن علي ، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله علي وآله وسلم: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره فإن شاء رضي وإن شاء ترك)، والمزارع أجير، وكذلك المساقي لإتفاق من أجازهما أنها لا تصح إلا بوقت معلوم فقد دل هذا الخبر على فساد المزارعة والمساقاة لجهالة الأجرة لأنه تضمن إيجاب كون الأجرة معلومة فمتى لم تكن معلومة وجب الفساد كما نقول مثله في السلم لما روي: (من أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، وأيضاً روي عن أبي الزبي،ر عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن المخابرة، وعن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله)، وعن زيد بن ثابت قال: نهى روسول الله صلى الله عليه آله وسلم عن المزارعة بالنصف والثلث وحكم على ذلك أهل اللغة وحكي عن ابن االأعرابي قال: هو مشتق من خيبر ثم صابت لغة، ومثل هذا لا ينكر فقد قيل أعرق الرجل من العراق، وأنجد وأتهم من تهامة وغار من الغور وباد من البادية، وأيضااً روي عن جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كرى المزارع، وروي عن رافع بن خديج، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أزرع من البقول فقال: ما هذا؟ فقلت بذري ولي الشطر ولآل فلان الشطر قال: أربيت، رد الأرض إلى أهلها فدل ذلك على فساد المزارعة من وجهين: أحدهما للنهي والثاني أنه صلى الله عليه وآله وسلم سماه ربا.

(82/2)


فإن قيل: روي عن زيد بن ثابت أنا والله أعلم بالحديث من رافع أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلان قد اقتتلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن كان هذا شأنكم فلا تنكروا المزراع فثبت بهذا الخبر جهة النهي وهو الإفساد، وروي عن رافع بن خديج، قال: كنا نزارع على الثلث والربع وما ينبت على السواقي فنهانا عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي خبر آخر، ويشترط على الأرة ما ينبت على الجادول، وكذا وكذا وربما هلك هذا وسلم هذا فدل هذا أيضاً على جهة النهي.
قيل له: هذا النهي لا يدل على أنه ليس نهي عام عن الخابرة فلا يمتنع أن النهي المخابرة على العموم وينهى عنهاا أأيضاً إذا كانت هذه الجهالات.
فإن قيل: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى خيبر بالنصف من الخارج.

(82/3)


قيل له: هذا محتمل من جهتين: أحدهما ـ أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقاهم على الفئ فكانوا عبيداً للمسلمين فجاز ذلك فيهم لأن النصف المبقى عليهم يجري مدرى نفقاتهم ومؤنهم فلا يكون ذلك مزارعة على التحقيق، أو يكون صلى الله عليه وآله وسلم جعلهم ذمة وأقرهم على الأرضين وجعل نصف الخارج بمنزلة الجزية ويجوز في الجزية من الجهالة مالا يجوز في الجزية من الجهالة مالا يجوز في الإجارات ولا البياعاات، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضف على أهل نجران مؤنة الرسل عشرين يوماً، وجعل عليهم عارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً ويؤكد أن ذلك كان على أحد وجهين: أنه لم يروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ منهم الجزية ولا أبو بكر ولا عمر ويحتمل أن يكون ذلك صار منسوخاً بالنهي عن المخابرة، فإن ثبت أنها مشتقة من خيبر، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يعملوا بما عمل بخيبر على أنه روي أنه قال لليهود أقركم على ما أقركم الله ولا خلاف أن المزارعة والمساقاة لا بد فيها من التوقيت المعلوم وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (نقركم على ذلك ما شئنا)، وأما االشافعي فإنه ذهب إلى جواز المساقاة وجواز مزارعة الأرض التي بين النخيل مع مساقاة النخيل، ولا يجوز مزارعة الأرض البيضاء ويحجه سائر ما قدمناه ويقال له من أين لك أن مزاارعة خيبر كانت في أرض بين النخيل؟ ومن أين أنه لم يكن بخيبراً أرضاً بيضاء؟ ولمن نقيس الأرض التي بين النخيل على الأرض البيضاء لإفساد المزارعة بعلة أنها مزارعة بعلة أنها مزارعة على بعض ما يخرج من الأرض وبأن الأجرة فيها غرر نقيس المساقاة أيضاً على ذلك ونقيسهما على المساقاه في غير النخيل والكرم، ونقيسهما على ما أجمع عليه المسلمون من أنه لا يجوز دفع الإبل والغنم والرماك عىل جزء من النماء من الأولاد والألبان والأصواف والأوبار والعلة في ذلك جهالة الأجرة والغرر

(82/4)


الذي فيها فلا يصح قول الشافعي إن الأرض التي بين النخيل تتبع النخيل فيجوز فيها مالا يجوز في الأرض البيضاء من المزارعة كما يجوز أن يدخل في البيع من الشرب والحقوق على سبيل التبع وإن كان لا يجوز أن تفرد بالبيع لأن الأرض التي بين النخيل يجوز أن تفرد بالعقود في البياعات والإجارات والهبات فلم يجز أن تكون الأرضون تبعاً للنخيل كما أن النخيل لا يجوز أن يكون تبعاً للأرض على أن المساقاة غير المزارعة وهما حكمان مختلفان فكيف تدخل مزارعة الأرضين في حكم مساقاة النخيل.
فإن قيل: فهلا قستموها على المضااربة.

(82/5)


قيل له: المضاربة مخصوصة ولم توضع على القياس ولا يجوز أن تجعل أصلاً لهذا الباب على أن المضاربة من باب الشركة لا من باب الإجارات ولا خلاف أنها غير مؤقته كسائر الشركة وعند القائلين بالمزارعة والمساقااة لا تجوز إلا في مدة معلومة، ويقال لأبي يوسف ومحمد وللشافعي في أحد قوليه: لو كانت المضاربة إجارة لوجب أن يضمن المضارب مال المضااربة أو كان يجب أن يكون أجيراً مشتركاً وقد ذهب أأبو يوسف ومحمد إلى أن المضاربة إذا فسدت ضمن المضارب بوكانت له أجرة عمله فبان أن المضاربة الصحيحة ليست إجارة وأنها لا تصح أن تكون أصلاً للمزارعة على نا ول كانت تصح أن تكون أصلاً لهذاا الباب لصح أن تكون أصلاًلدفع الغنم إلى الراعي ببعض النما من الأولاد والألبان على أن المزارعة والمساقاة بدفع القيم إلى الراعي ببعض النماء شبه فأما ما ذهب إليه الشافعي من أن المسافات أصل للمضااربة فمن المحال الذي لا يذهب على محصل لأن المضاربة أمر لا خلاف فيه بين المسلمين بل نعلم صحتها وجوازها من دين المسلمين ضرورة والمساقااة أمر مختلف فيه فكيف يكون المتفق عليه فرعاً على المختلف فيه، والمختلف فيه أصلاً للمتفق عليه فإذا فسدت المزارعة بما بينا كانت الإجارة فااسدة متى وقعت فوجب ما قلنا من كون الزرع لمالك البذر وصح وجوب كرى الأرض على الزراع لأنه أخذ أرض صاحب البذر بإجارة فاسدة وزرع فيها فطرح بذره وإن كان البذر لصاحب الأرض لزمه أجرة العمل للزراع لأنه يكون مستعملاً له في أرضه وبذره بإجارة فاسدة وعلى هذا القياس إن كان البذر بينهما.

(82/6)


قال: وإن تصالحا على ذلك جاز الصلح لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين)، وقوله: (وكل صلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً، أو حل حراماً)، قال أبو حنيفة: إن كان البذر للزراع تصدق بالزرع، وهذا ممالا يجب لأنه ليس بغاصب، بل طرح بذره في الأرض بإذن مالكها، وإنما كات الإجارة فيه فاسدة فكيف يجب التصدق به على أصله على انه في االغصب أيضاً يبعد، أريت او غصب دجاجة فحضنها بيضااً يملكا أكان يلزمه التصدق بالفراخ، ونظائره كثيرة.
مسألة:
قال: وإن دفع حماراً على بعض ما يكتسب به وفرصاً يجاهد عليه على بعض ماا يغنم جاز ذلك على سبيل الصلح دون الحكم، ووجه إجازة الصلح م بيناه فيما تقد من قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الله عز وجل: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، على أن إلحاق ذلك ببااب الشركة على معنى التوكيل ليس ببعيد فإن كان ذلك فهو ثابت حكماً.
مسألة:
قال: والمزارعة الصحيحة أن يدفع نصف أرضه مشااعاً بأجرة معلومة ويستأجر ذلك الرجل بمثل تلك الأجرة على أن يزرع له نصف أرضه، ويكون البذر بينهما نصفين فيتقااصان بأجرة االأرض، وأجرة العامل فيكون الخارج بينهما نصفين، وعلى هذا القاس إن أراد أن تكون المزارعة على الثلث أو الربع، أو أقل من ذلك، أو أأكثثر والأصل فسيما قثلنا جواز إجارة المشاع، وأبو حنيفة يبطلها، وأبو يوسف، ومحمد يجوزانها والدليل على ذلك جوز بيع المشع، فإذ ثبت ذلك وجب ن يثبت جواز إجارة االمشاع لأنهما جميعاً ضرب من البيوع لأن الإجاارة بيع المنافع كما أن البيع بيع الرقبة.
فإن قيل: لا يصح قبض المستأجر على سبيل الإستداامة فلا يصح الإنتفع به فوجب ألا تصح إجارته لأن الإجارة على مالا يصح الإنتفاع به لا تصح.
قيل له: يصح الإنتفااع به على سبيل المهايا كما يصح بالمبيع.
فإن قيل: ليست المهاياة موجبة بعقد الإجارة.

(82/7)


قيل له: لا يمتنع أن يكون العقد يوجبها إذا كان لا يصح الإنتفاع به إلا معها كالشرب والطريق والمسيل يقتضيه عقد الإجارة إذ الإنتفاع لا يصح إلا معهاا على أنهم لا يخالفون أن هبة االمشاع فيما لا يتأتى فيه القسمة صحيحة، ويعتلون أن القبض فيه لا يتأتى إلا على المهياه فوجب أن يقولوا بذلك في إجارة المشاع، وفي هبة م يتأتى فيه القسمة من المشااع على أن أبا حنيفة يقول لو مات أحد المستأجرين انتقضت الإجارة في نصيبه، وبقيت الإجارة في نصيب الحي، وذلك لا يمكن الإنتفاع به إلا على سبيل المهااياه، ولم يجب لذلك فساد إجارة الباقي فيوجب أن يكون ذلك كذ لك في اابتداء الإجارة لاجتماعهما في أن الإنتفاع يصح على سبيل المهاياه.
فإن قيل: فهلا أبطلتم م ذهبتم إليه لأن الإستيجار على نصف االعمل مجهول.
قيل له: إذا كن الجميع معلوماً فيجب أن يكون النصف معلوماً، ولهذا صح بيع نصف أرض معلومة ونصف حيوان معلوم، ونصف ثوب معلوم، وعلى هذا يجب أان تقدم إجارة الأرض على استئجار العامل ليصح الإبتداء بالعمل، ويصح في الأرض، وفي العمل التسليم عقيب الإجارة، فإذا ثبت ما بيناه صح ما ذهبنا إليه من صحة المزارعة على الوجه الذي بينا.
مسألة:

(82/8)


قال: وإن دفع أرضه إلى آخر مزارعة فغرس فمات صاحب الأرض كان للورثة أن يطالبوه بتفريغ أرضهم فإن شاء المزارع فرغها، وإن شاء طالبهم بقيمة غرسه، وسلمه مع الأرض إليهم هذا يجب أن يكون المراد به في المزارعة الفاسدة دون ما بينا أنها صحيحة لأن المزارعة الصحيحة لا تنقضي لموت صاحب الأرض لأنه تكون أجارة صحيحة والإجارة عندنا لا تنقص بموت المستأجر ولا المستأجر منه فأأم في المزارعة القسدة فلهم المطالبة بتفريقغ أرضهم، وجعل الخيار للمزارع لأنه لم يكن غاصباً فيما غرس لأنه غرس بإذن صاحب الأرض، وإن كانت المزارعة فاسدة فيجب أن يكون يضمن الورثة قيمة الغرس ويسلم الغرس إليهم كما قلنا ذلك فيمن اشترى أرضاً فبنى فيه ولا شفيع لها ثم قام فيها شفيع أنه إن شاء رفع بناه وإن شاء سلمه إلى الشفيع، وضمن له قيمته ولأنه حين لم يكن غاصباً ولا متعدياً في بنائه فكذلك في هذه المسألة.

(82/9)


كتاب الشركة
باب القول في شركة المفاوضة
لا بأس للرجلين أن يشتركا شركة مفاوضة، وبه قال زيد بن علي عليه السلام، وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن الشعبي وابن سيرين القول بما حكاه الجصااص في شرحه، وخالف الشافعي فيه فابطلها، وإذاا ثبت أنها مروية عن زيد بن علي عليهما السلام، ولم يذكر الخلاف في ذلك العصر جرى مجرى الإجماع، ولم يعتبر فيه خلاف من يخالف من بعده، ويدل على ذلك قول االله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وذلك عقد قد جرى فيجب الوفاء به بظاهر الآية، وكذلك قوله صلى االله عليه وآله وسلم: (المسلمون عند شروطهم)، يدل على ذلك، وهو أمرت صالحً عليه فيجب أن يكون ذلك ماضياً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الصلح جائز)، وقول الله تعالى: ومما يدل على ذلك أن المفاوضة تتضمن عقوداً لو فرد كل واحد منها صح فوجب أن تصح إذا اجتمعت كالمضاربة ألا ترى أن المفاوضة تتضمن الكفالة فيما يتعلق بالتجارة، والوكالة في التصرف والخصومة، والشركة والمساقاة، وكل ذلك مما يصح إفراده بالعقد كما أن المضاربة تتضمن التوكيل في التصرف، والخصومة وأخذ العوض عما يعمل المضارب.
فإن قيل: الضمان العام لا يصح لأن رجلاً لو ضمن على آخر كلماً باعه وااشتراه كان ذلك لا يصح.

(83/1)


قيل له: الشركة موضوعة على المسامحة مثل هذا، ألا ترى أن المضاربة يأأخذ عوضاً مجهولاً على عمل مجهول، والعوض معلق على الأخطار لأنه قد يخسر فلا يأخذ شيئاً لكن لما كان في الأصل اخذ العوض على العمل صحيحاً جاز في المضاربة مالا يجوز في غيرها لأنها شرك فكذلك شركة المفاوضة، يجوز فيها الضماان العام لأن الضماان في الأصل كان صحيحاً فصح في المفاوضة الاضمن العاام لأنها شركة وقد ثبت أنه يدخل أشياء على سبيل التبع في البيع، لو انفرد لم يصح كبيع الحقوق من المنافع، وحق الإستطراق، وكذلك الخيار المجهول لا يصح في البيع، وقد صح فيه خيار العيب لأنه دخل فيه على سبيل التبع فكذلك ما ذكرنا في المفاوضة.
مسألة:
قال: وإذا أرادا ذلك فيجب أن يخرج كل واحد منهما ماله من النقد، ويكون مال كل واحد منهما مثل مال صاحبه ثم يخلفان ذلك ويشترطان أن يبيعا ويشتريا بأموالهما ووجوهما مجتمعين ومفرقين ويعمل كل واحد منهما برأيه فيما في يده ويد صاحبه. قلنا: يجب أن يخرج كل منمها ماله من النقد مثل مال صاحبه لتحصيل المساواة لأن المساواة إذا لم تحصل لم تكن الشركة شركة المفاوضة، وإنما تكون شركة عنان لأن المفاوضة مأخوذة من المساواة كما قيل.

(83/2)


لا يستوي الناس فوضى لا سراة لهم، وقوله: يخلطان الأصح أنه ليس على ألا تصح الشركة إلا بالخلط لأن من مذهب أصحابنا أن شركة الوجوه جائزة، وكذلك شركة الأعمال ولا خلط في واحدة منهما إذ ليس هناك ما يصح أن يخلط، ومن مذهبه أن الخلط ليس بشرط في صحة الشركة، وأيضاً قد نص على أن أحد المتفاوضين إذا ورث نقداً بطلت المفاوضة، وكذلك تتعلق الشركة به؛ ألا ترى أنه يقول لو ورث عرضاً لم تفسد الشركة لأنها لا تتعلق بالعرض، فلولا أن الشركة تصح بغير الخلط لكانت الشركة لا تتعلق بأن يرث نقداً، ويقب ضه مالم يخلطه بمال االشركة، وفي تنصيص يحي عليه السلام على ما ذكرنا دليل على أن الشركة عنده تصح بغير الخلط قال زفر والشاافعي: لا تصح الشركة إلا بالخلط على أن الخلط لا تأثير له، فوجب ألا يعتبر به كمالا يعتبر به في الممضاربة والمزارعة في التوكيل لأنه يرجع إلى بعض ذلك وإنما تتعلق صحة الشركة بالعقد والشروط دون الفعل، وما ذكرناه إلى آخر المسأألة فكلُّه بحصول تمام المساواة.
قال: فما كان من ربح كان بينهما نصفين، وكذلك ما كان بينهما من وضيعة، ووجهه أن المسااة لا تكون إلا كذلك، قال: وكل ما لزم أحدهما من دين لزم صاحبه، ولصاحب الدين مطالبة من شاء منما، إلا ما لزم بجناية أو نكاح، المراد بالدين هو الدين المتعلق بالتجاارة لأن الشركة وقعت في التجارة، والجناية والنكاح لا تعلق لهما بالتجارة، فعلى هذا لا يضمن أحدهما ما كفل الآخر، وكذلك الإستهلاك، وروى الكرخي عن أبي يوسف ومحمد وهو استهلاك االغصوب، وما جرى مجراه، وهو الصحيح لأنه لا خلاف أنه لا يلزم أحد الشريكين ما لزم الأخر من المهر بنكاح صحيح أو وطء بشبهه، فكذلك ما ذكرناه، والعل أنه لا تعلق له بتجارتهما لأن الشركة إنما هي في التجارة.
مسألة:

(83/3)


قال: وإن باع أحدهم شيئاً من رجل كان لصاحبه أن يطالب المشتري بالثمن، وكان للمشتري أان يرجع على من شاء منهما بالعيب، إن وجدْ في المبيع وكذلك إن استحق المبيع وهذاا مما لا أحفظ فيه خلافاً بين من قل بشركة االمفاو ضة لأن ذلك من جملة االتجارة فوجب ما ذكرناه.
قال: وتكون نفقتهما من جميع المال، وذلك أنها من جملة البيع واالشراء، ولأنا لو أفردناا كل واحد منهما بالنفقة لجوزنا أن يكون له نقد لا يدخل في الشركة وهذا يبطل شركة المفاوضة، فإن كان نفقة أحدهما أكثر من نفقة الآخر فطابت بهاا نفس الآخر جاز ذلك، وإن لم تطب نفسه حسب ذلك عليه ولم يستوفها منه ما كان على شركتهما، وإن أحب أن يدفع بماله عليه عرضاً جاز لأن زيادة العرض لا يبطل شركة المفاوضة، هذاه الجملة لا خلاف فيهاا بين من أجاز شركة المفاوضة لأنها موضوعه على المساواة، وفي زياادة العروض لا تبطل شركتهما، لأن االشركة لم تتعلق بها وكذلك أن باع أرضاً أو غيرها وقبض الثمن بطلت الشركة وكذلك أن ورث نقدااً فقبضه بطلت ومالم يقبض يكونا على الشركة على ما بيناه من المذهب واالإتفاق وكذلك ما يرد من النقد لا يبطل الشركة حتى يقبض، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأم أن ورث شيئً سوى النقد لم تبطل شركتهما لماا ذكرناه من انه لا يتعلق بتجارتهما الوجداان الشركة لا تصح بالدين وإنما تصح بالحصل المقبوض فلذلك اشترطنا االقبض.
باب الشرك على غير المفاوضة
إذ أراد الرجلان أن يشترك شركة على غير المفاوضة فلهما أن يشتركا بما شاءا من نقودهماا قليلاً كان أو كثيراً،ـ سواء كان لكل واحد منهما نقد غير ما اشتركا فيه أو لم يكن ولا بأس أن يستوي مالهما من النقد أو يختلف، وهذه الشركة هي التي تسمى شركة عنان، وقد يقال بفتح العين، وكسره، فمن قال بفتح العين يذهب إلى أنه من عن االشيء أي عرض، ومنه قيل عنان السماء فكان المراد أنهما اشتركا في شيء عرض، ولم يشتركا في جميع النقود، كالمفاوضة.

(83/4)


ومن قال بكسر العين: قال أنه مأخوذ من عنان الداابة والراكب يصرفه في يد واحد دون الأخرى، وهذه الشكرة لا خلاف فيها، وفي صحتها بين العلماء، وإنماا الخلاف في الإسم والمسلمون لم يزالواا يستعملونها في الأقطار أجمع لا يتناكرون بهاا، ولا يختلفون فيها، فأما الإسم فالمحكي عن مالك أنه قال لا أعرف العناان وأصحابنا أيضاً لم يستعملوا هذه االإسم، والإسم لا معتبر به، وإنما الإعتبار بالمعنى، وقد بينا أنه لا خلاف فيه، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أن رجلين كانا شريكين على عهد رسول الل صلى االله عليه وآله وسلم فكان أحدهما مواظباً على السوق واالتجارة، والآخر مواظباً على المسجد والصلاة، فلماا كان عند قسمة الربح قال صحب السوق أربحني أكثر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما كنت تربح لمواظبة صاحبك على المسجد فدل ذلك على جواز الشركة على ما بيناه، وعلى أن الربح لا يجب في التفضيل من أجل العمل، فأنه يكون على ما يوجب لعقد، وعلى قدر رؤوس الأموال.
مسألة:
قال: وإذا اشترك على ذلك وجب أان يشترطا الربح بينهما على ما أحبا من التسوية والتفضيل، وتكون الوضيعة على قدر رؤوس الأموال، فإن اشترطا في الوضيعة على خلاف ذلك بطل الشرط.

(83/5)


وقال القاسم عليه السلام: إن لم يشترطا في الربح شيئاً كان الربح بينهما على قدر رؤوس أموالهما، ليس معنى قوله: وجب أأن يشترط الربح أنهما لو لم يشترطاه على ما أأحبا من النصف أو الثلث أو الثلثين أو أقل أو أكثر بطلت، وهذه االجملة لا خلاف فيها فيما أحفظه، ولا يستحق العاامل زيادة الربح لأنه يستحق بالعقد، أو على قدر رؤوس لأموال، وقد دل عليه الخبر الذي رواه زيد بن علي عليهما السلام إذ لم يجعل النبي صلى لله عليه وآله وسلم للمواظب على العمل زيادة في الربح، وقلنا أن الوضيعة على قدر راس الماال لأنا لو قلنا خلاف ذلك كنا قد ضمنا الشريك، وهو كالمضاارب لا ضماان عليه، وهو أمين فيما في يده، وعن علي عليه السلام ليس على من قاسم الربح ضماان يعني الشريك، والمضاارب، ويقاس على المضارب.
مسألة:
قال: ولا يدخلان في الشركة إلا النقود فإن أرادا أن يشتركا في شيء سوى النقود باع صاحبه نصفه أو جزءاً منه على قدر شركتهما من شريكه ثم اشتركا فيه، ووجه قولنا أن هذه الشركة لا تصح إلا بالنقود أنها تقتضي الوكالة في التصرف من كل وحد من الشريكين لصاحبه، ولا يصح للرجل أن يقول بع عبدك هذا على أن يكون ثمنه بيني وبينك فإذا كانت الشركة تتضمن الوكالة على الحد لذي بيناه ولم يصح ما ذكرناه أولاً من قول الرجل لصاحبه بع عبدك على أن يكون ثمنه بيني وبينك، كانت الشركة بالعروض جارية ذلك المجرى، فوجب أان تكون فاسدة، وقل الشافعي في هذ على ما بلغني يختلف، وقلنا: أنهما إن يشتركا بشيء سوى االنقد باع صاحبه نصف ذلك الشيء أو جزءاً منه من شريكه ثم اشتركاا فيه، وهذاا أيضاً يجوزه أصحاب الشافعي، وهو قول محمد، ويجب أن يكون صحيحاً لأن توكيل الرجل صاحبه ببيع ملكه جائز، فأيهما باع كان وكيل صااحبه، وكانا شريكين في الثمن على قدر االماالين، واستمر التوكيل في التصرف في أاثمانهماا، فوجب أن تصح الشركة فيما ذكرناه على ماا بيناه.
مسألة:

(83/6)


قالك وإن كان أحدهما يلي لاعمل دون صاحبه فاشترطا له ثلثي الاربح وثلثه للذي لا يلي العمل كان ذلك جائزاً وإن اشترطاا ثلثيه للذي لا يلي العمل وثلثه للذي يلي العمل كان ذلك الشرط فاسداً، وكان الربح بينهم على قدر رؤوس أموالهم، وهذا يكون إذا اشترطا في أصل الشركة أن يكون العامل أحدهماا دون صاحبه، فإذا كان ذلك واشترطا للعامل الثلثين، ولصاحبه الثلث جاز لأن العامل فيما يأخذ من الزيادة على قدر رأس ماله يكون آخذاً العمله فيكون حكمه حكم المضارب، ألا ترى أن المضرب يأخذ ما يأخذ على عمله، إذ لامال له في المضابة ولا خلاف في صحته فكذلك ما ذكرنا فأما إذا اشترطا أن يكون للذي لا يلي العمل الثلثاان، وللذي يلي العمل الثلث! وجب أن يكون الشرط فاسدااً لأنه إذا أخذ من رجل مالا يتجر فيه فيعطيه ربحه، وزياده، وتلك الزيادة تكون ربا، فلذلك فسد الشرط، وكاان لكل واحد منهما قدر رأاس ماله، وكأنهما اشتركا ولم يشترطا في الربح شيئاً فيرجع لأمر فيه إلى أن لكل واحد منهما من الربح قدر رأس ماله وكذلك إن اشترطا ذلك والعامل أحدهما صح ذلك، لأن مال الذي لا يعمل يكون في يد العاامل على سبيل المضاربة لأنه يتجر له فيه، ويعطيه ربحه، وذلك ممالا خلاف في جوازه وأأما إذا اشترطاا في الأصل أن يعملا جميعاً على أن يكون الربح بينهمااا نصفين أو أقل من ذلك، أو أكثر ثم لم يعمل أحدهما، وعمل الآخر صح ذلك، وكذلك إن ااشترط لمن يعمل الثلثين ولمن لا يعمل الثلث، لأن الشرط وقع في الأصل صحيحاً إذا اشترط كل واحد منهما العمل فترك أحدهما االعمل لا يفسده، ويدل على ذلك ما روينااه من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرز من الربح شيئاً للمواظب على عمله لعمله، ولم يبخس المواضب على المسجد بتركه العمل، وجملة هذه المسائل لا خلاف فيها بيننا وبين أبي حنيفة، وأصاحبه، قال: وكذلك إن اشترطا لأحدهما ربحاً معلوماً كذا وكذا درهماً كان ذلك فاسداً وكان الربح بينهما

(83/7)


على قد رؤوس أموالهما، ووجه فساد ذلك أنه يخرجه من الشركة إلى االإجارة لجواز أالا يربح غلا ذلك القدر، وجواز ألا يربح شيئاً، ومتى خرج من الشركة إلى الإجاارة لم تصح الإجارة أيضاً لأن الأجرة تجوز أن تعلق على الإحظار وهذه الأجرة تكون على ألا يربح شيئاً، فوجب فساد ذلك، وكان الربح بينهما على قدر رؤوس أموالهما لأن حكم الشركة إذا فسدت أو المضااربة أن يختص الربح رأاس المال، وحكى االجصاص عن زفر أنه قال: لا يجوز شرط تفضيل الربح في شركة الضماان لأن الربح الزائج يكون بمنزلة الأجرة فلا يستحقه الشريك كطعاام بين رجلين استأجر أحدهما صاحبه بحمله، وهذا فاسد من وجوه: أحدهاا ـ أنا نجوز في الطعام ما منعه، ومنع أصحابه منه، فلا يلزمنا ما ذكر على ان الربح لا يجري مجرى الأجرة في الشركة لأن الشركة مخالفة للإجارة على ان ما قال لوصح لبطلت المضاربة على أصولهم، لأن المضارب يصير شريكاً في أول جزء من الربح فيكون عاملاً في مال نفسه، ومال صاحبه فبطل ما ذهب إليه زفر على أوضاعنا وأوضاعهم فصح ما ذهبنا إليه.
مسألة:

(83/8)


قال: ولابأس أن يشترك الرجلان على أن يبيعا، ويشتريا العروض وغيرها بوجوههما، وإن وإن لم يكن لهما رأس مال ويكون الربح بينهما نصفين، وكذلك الوضعية تكون بينهما نصفين، ولهما أن يبيعا، ويشتريا مجتمعين ومفترقين، على ما يشترطن عليه، ف يجوز أن يشترط أحدهما من الربح اكثر من النصف، وإن كان هو أبصر بالشراء والبيع من صاحبه، وهذه الشركة هي التي تسمى شركة الوجوه، وقد صح ان يعبر عنها بشركة الأبدان، وقال أبو حنيفة بجوازها وأصحابه، وأبطالها الشافعي، فالذي يدل على صحة هذه الشركة أنها تقت ضي الوكالة من كل وااحج منهما لصاحبه في شراء العين على ان تكون العين بينما، وهذه الوكالة لو انفردت لصحت، وإذا تعلقت بالشركة فأولى أن تصح لأن الشركة يصح فيها من هذا الجنس مالا يصح على الإنفراد فما يصح على الإنفراد أولى أن تصح مع الشركة فإذا صحت الوكالة على ما بيناه، وجب ثبوت الثمن في ذمتها لكل ما يشتريانه ويكون الربح بينهما إذا باعان يكون كل ما يبتاع من ذلك ملكا لهما جميعاً، واستدل أصحاب الشاافعي بتعذر الخلط في ذلك على فساد الشركة، وهذا باطل من وجهين احدهما أن الخلط عندنا ليس بشرط في الشركة والثاني أن الإختلاط يحصل فيه لأن كل ما يشتريانه، يكون لهما جميعاً، وعلى هذا أجزنا، والشافعي في الشريكين في شركة العنان، إذا أرادا ان يشتركا في العرض دون النقد أن يبيع مالك العرض جزءاً منه معلوماً لصاحبه، لتصح الشركة.
مسألة:
قال: فإن أرادا تفضيل أحدهما في الربح، وجب أن يضمن في الزيادة بقدر ما يزاد له من الربح، وصحة ذلك ان يكون ما يشتريانه بينهما على ما أحبا وبينا ذلك لكل من ابتاعا منه شيئاً فإن لم يفعلا ذلك كان الربح بينهما نصفين والوضيعة كذلك بينهما نصفين.

(83/9)


وأعلم: أن هذا إنما يصح بينهما بان يؤكل أحدهما صاحبه بان يكون ما يشترياانه بينهما على الثلث، أو الثلثين، وكذلك يفعل صاحبه، فيكون الثلثان مثلاً لمن يريدان زيادة ربحه له، والثلث لصاحبه، فإذا فعل ذلك كان ثلث الربح لأحدهما، وثلثاه للآخر، ويضمن صاحب ثلث الربح ثلث المال، وصاحب ثلثي الربح ثلثي المال، وأما بياان ذللك لمن يبتاعان منه فللتأكيد لا على أن ما فعلاه لا يصح لو لم يبيناه، لأنه ليس يجب على الوكيل أن يبين للبائع انه يشتري السلعة لغيره، فإن لم يفعلا هذا الذي بيناه في أصل الشركة وهو التوكيل على ما بيناه على الثلث، والثلثين، بل أطلقا أن تكون السلعة بينهما كان الربح بينهما نصفين، والوضيعة بينهما كذلك، لأنا لو قلنا خلاف ذلك أجزنا لأحدهما ربح مالم يضمن، وقد نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فلهذا وجب أن يكون الربح بينهما نصفين.

(83/10)


باب القول في المضاربة
المضاربة: أن يدفع رجل ‘لى رجل نقداً ذهباً، أو فضة على أن يتجربه، ويكون الربح بينهما على قدر ما يشترطانه، من نصف أو ثلث أو ربع، أأو أقل أو اكثر، والوضيعة على صاحب الماال، والذي يدل على صحة المضاربة الإجماع لا نعرف فيه خلافاً، ويدل على ذلك ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال في المضاارب يضيع منه ماال المضاربة لا ضمان عليه، والربح ما اصطلحا عليه، والوضيعة على امااال فدل ذلك على صحة المضاربة، من وجوه أحدها أنه قول علي عليه السلام، وقله عندنا حجة، والثاني لا يحفظ عن أحد من الصحابة خلافه، فجرى مجرى الإجمااع منهم، والثالث أنه من العقود اتي استمر عليها المسلمون من لدن الصحابة، إلى يومنا هذا من غير تناكر فوجب أن يكون صحيحاً، وروي أن أبا موسى دفع قرضاً من أموال المسلمين بالعراق إلى ولدي عمر فربحا فيه، فأراد عمر أن ينتزع الربح منهما، فقال أحدهما: أرأيت إن هلك على من كان الضمان، فقال: عليكما، فقيل: لو جعلته قرضاً فدل ذلك على أن القرااض كان معلوماً بينهم فأما من قال إنما يصح قياساً على المساقاة، فقد أبعد فيه لأن المساقاة مختلفة فيها قد أبطلها خلق من العلماء، والمضاربة لا خلاف فيها فكيف يجوز أن يكون المختلف فيه أصلاً للمتفق عليه، وهذا سهو من الشافعي، وما قلناه من أن الربح بينهما على ما يشترطانه، والوضيعة على صاحب المال قد رويناه عن علي عليه السلام في الخبر الذي ذكرنا ولا خلاف فيه أيضاً، وقد نص عليه زيد بن علي عليهما السلام.
مسألة:

(84/1)


قال: ولا يجوز أن يشترطا لأحدهما ربحاً معلوماً م درهم فما فوقه فإن اشترطا ذلك فسدت المضاربة، وكان الربح لصاحب المال، والوضيعة عليه، وللعامل أجرة مثله، وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وبه قال أبو حنيفة واصحابه، ولا أحفظ فيه عن غيرهم خلافاً، ووجهه أنه إذا جعل لأحدهما ربحاً معلوماً خرج من باب الشركة وهذا إذا كان المشروط له الزيادة هو المضارب، فإن كان هو صاحب المال كان ذلك ربا، وحصل العامل على إجارة فاسدة، وإذا صار بمنزلة الإجارة الفاسدة وجب أن يكون للعامل أجرة مثله كما يكون لذلك في الإجارة الفااسدة وأن يكون الربح لصاحب المال، ولا حق فيقه للعامل لبطلان الشركة.
قال: وإن لم يشترطا في المضاربة في الربح أمراً معلوماً فسدت المضاربة، وذلك أن الشركة تتعلق بالربح، فإذا لم يتبين ما يقسمان عليه فسدت الشركة، وإذا فسدت كانت إجارة فاسدة على ما تقدم القول فيه.
مسألة:
قال: ولا يجوز أن يدفع إلى المضارب سوى النقد من عرض أو حيوان، أو متاع، أو غير ذلك بقيمته فإن فعل فسدت المضاربة، وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وقال القاسم تصح المضاربة بالفروض، وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وقال القاسم تصح المضاربة بالعروض، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه مثل قولنا، وهو قول أكقر العلماء، ووجهه ما بيناه في باب الشركة العنان من ان الشركة تقتضي الوكالة، ولا يصح أن يقول االرحل بع هذا العبد على ان يكون الربح بيني، وبينك فهكذا المضاربة بالعوض، فأما المروي عن القاسم من إجازته بالعروض فالذي عندي فيه انه أراد أن يكون صاحب المال يدفع العرض إلى المضارب ليبيعه، وتكون المضاربة تقع على الثمن الحاصل، وهذا ليس ببعيد على مذهب يحي عليه السلام بل قد نص عليه في الفنون، فتكون المسألة على هذا، وفاقاً بينهما، والله أعلم.
مسألة:

(84/2)


قال: فإن اشترط صاحب المال على المضارب أن يتجر في بلد بعينه، ولم يكن للمضارب ان يخرج بماله من ذلك البلد، فإن أخرجه وتلف ضمن، وإن لم يتلف وربح كان على أصل المضاربة، وقال أبو حنيفة مثل قولنا في أنه لا يجوز أن يخرجه من ذلك المصر وأنه يضمن إن أخرجه، وقال هو أصحابه ان الربح يكون له، ويؤمر أن يتصدق به في قول أبي حنيفة ولا يؤمر في قول أبي يوسف، ومحمد.
قلنا: إنه يضمن إن أخرجه من ذلك البلد إن تلف لأنه قد تعدى في إخراجه لأن رب المال جعل ذلك البلد بمنزلة الحرز، فإذا أخرجه منه كان بمنزلة من وضعه في موضع ليس بحرز، فإن تلف ضمن، ولأن تخصيصه بمصر بعينه جائز كما يجوز تخصيصه بنوع من التجارات فإن سلم وربح فإنهما على أصل المضاربة، وذلك أن المضاربة كانت في الأصل صحيحة، ولم يخالف المضارب في التجارة، وإنما خالف في موضع الأحراز فلم يجب أن يجعل الربح له، ووجب أن يكون الربح والمضاربة على ما كانا عليه، فإن كان صاحب المال شرآئه جاز، وكان الربح له، وللمضارب أجرة مثله، ولا يجاوز بها ما شرط له من الربح، وإن لم يجزه كان المضارب ضامنااً فإن كان فيه ربح كان لبيت مل المسلمين، وذلك أنه لما أمره أن يتجر في سلعة بعينها فاشترى سواها كان مخالفا في التجارة فجرى مجرى الوكيل يأمره الموكل بشراء شيء فيشتري له غيره في أنه لا يلزم الموكل، ويكون الشراء للوكيل، فإن أجازه الموكل جاز على أصلنا في إجازة الشراء الموقوف ان المشتري له إذا لم يجزه صار الشراء لمن اشترااه، ويجب صرف الربح لبيت مال المسلمين لأنه صار إليه من وجه محظور، والأصل فيه ماا روي عن عاصم بن كليب، عن أبيه، في الشاة المغصوبة التي دعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها، فلم يسغه فسال عن شأنها فأخبر أنها لغيره، وأنها ذبحت بغير أمر صاحبها فأمرهم أن يطعموها الأصرى فدل ذلك على ان ما يصير إلى الإنسان من جهة محظورة يكون سبيل لبيت مال المسلمين، لأن الأسرى يلزم أن

(84/3)


يطعموا من بيت مال المسلمين، وقلنا: لا يجاوز به في أجرة المثل ما شرط مكما نقول في الإجارة الفاسدة لأنه رضي بذلك فلا يعطى أكثر مما رضي به لفساد المضاربة، وبه قال أبو يوسف، وقال محمد يعطي أجته بالغة ما بلغت، وقال أبو يوسف إن لم يكن ربح فلا شيء له، وهو الأشبه بقولنا، قال محمج: له أجره مثله، وقول الشافعي كقول محمد، ومالك مع أبي يوسف قول المخالف في هذا يؤدي إلى أُكل مال الغير بالباطل لأن المضارب إذا أخبر ألا ربح فأكله أجرته بالباطل يُؤدي إلى أن يكون الجاني أحسن حالاً ممن لا جنااية له إذا لم يكن ربح، لأن الجااني يستحق أجرة مثله، وإن لم يجن لا يستحق شيئاً، وهذا خلاف العقل والشرع.
مسألة:
قال: وإن كان صاحب المال نهاه عن بيع السلعة نسية لم يجز له بيعها نسية، فإن فعل ضمن، وذلك ان حكمه في ذلك على ما بينااه حكم الوكيل، ولا خلاف أن الموكل إذا للوكيل بالبيع لا تبع نيسة لم يجز بيعه نسية، وأنه إن فعل ضمن فكذلك االمضاربة إذا خالف في ذلك، قال: فإن كان صاحب المال لم يشترط ذلك جاز له فعله، لأن النسأ قد يدخل في التجارات، وقد جرت به العادة، وكذلك الوكيل بالبيع لو باعه نسيئة جاز بيعه إذا لم يهه صاحب المال الموكل له عن ذلك، فكذلك المضارب.
مسألة:

(84/4)


قال: ولا يجوز له أن يخلط مال المضاربة بماله، ولا أن يدفعه إلى غيره مضااربة إلا أن يكون صاحب المال قال له إفعل فيه برأيك، فإن كان قال له هذا القول جاز له خلطه بمال نفسه، ودفعه إلى غيره مضاربة، ولم يجز له ان يقرض من هذا المال أحداً، ولا أن يأخذ به سفتجة إلا بإذن صاحبه، في هذين المعنيين بعينهما، وجهه أن الخلط ضرب من الإستهلاك، ولأن الوكيل ليس له أن يخلط مال الموكل بمال نفسه، فكذلك المضارب، وكذلك لا يجوز له دفعه إلى غيره مضاربة لأنه إثبات شركة الغير في ماله، وليس له ذلك غلا بإذن صاحبه، لأنه ليس مما يشتمل عليه عقد المضاربة الأولى، فإن قال له اعمل فيه برأيك جاز له االأمر لأنه قد رآه، ولا يزيل الغرض المقصود، وهو معنى التجارة، وطلب الزيادة، وقلنا أنه لا يجوز له أن يقرض منه، ولا أن يأخذ به سفتجة إلا أن يأذن له فيهما بعينهما، وذلك أن القرض والسفتجة يزيلان الغرض المقصود بالمضاربة، وهو التجارة، وطلب الربح والعقد على ذلك وقع، وقوله اعمل فيه برأيك: ظاهره فيما يتعلق بالغرض المقصود من التجاارة، ووجوهها دون ما سواها، ألا ترى أنه لا يجوز له إذا قال: أعمل برأيك أأن ينفقه على نفسه، وعياله، ولا أن يتصدق به، ولا أن يهبه، لأنه مخالف للغرض المقصود، ولأن العقد لم يشتمل عليه، لأنه ليس من جملة االتجارة، واالسفتجة بمعنى االقرض فوجب أن يكون كالقرض.
مسألة:

(84/5)


قال: وما ينفقه المضارب على التجارة فهو من الربح، وإن لم يكن ربح كان من أصل المال وما ينفقه على نفسه من ماله ما دام مقيماً، فإن سافر بالماال كانت نفقته من المال، وبه قال أبو حنيفة وأصحااب الشافعي جعلوا نفقته إذا سافر على قولين، قلنا أنه ما أقام فنفقته على نفسه من ماله، لأنه لا خلاف فيه، ولأنه لم يكن مقيماً بسبب االمضاربة والتجارة بل الأص الإقامة، فأما إذا سافر فنفقته من المال نه سافر تجارة فما يزمه من امؤنة في انفقة، يجري مجرى سائر مؤن اتجارة، كاكرى حم الملتااع، ولملن يحمل التاع، والموضع الذي يوضع فيه، وما جرى مجراه، فإن قيل: هذا يؤدي إلى زيادة العامل لشيء من االربح، وهذا فاسد قيل له: نحن لا نجعل ذلك من الربح وإنم نجعه من املال لأنه يجري مجرى سائر المؤن التي يحتاج إيهاا الماا، وحكي عن بعض العلماء أن له أن ينفق من الماال القدر الزاائد على نفقته في الحضر، وليس ذلك ببعيد، وأظنه عن بعض أصحاب اللشاافعي.
مسألة:
قال: ولو كان المضارب اشترى سلعة قبل أخذ مال المضاربة، أو بعد قبضه يعني مال المضاربة، لم يجز أن يدخله في المضاربة، ووجهه أن المضارب إذا اشتراه على ما بيناه كان ذلك له، ولم يكن لصاحب المال، ولا يجوز أن يدخل في المضاربة، مالم يكن ملكاً لصاحب المال، لأن من شرط المضاربة ان يكون المال لرب المال، دون المضارب.
مسألة:

(84/6)


قال: ولو أن رجلاً دفع إلى رجل دراهم معلومة مضاربة صحيحة، وأذن له في أن يستدين دراهم معلومة لتكون مع التي قبضها مضاربة فاستدانها الرجل كاان جميع ذلك مضاربة، ووجهه أنه وكله باستدانة مال معلوم، وأذن له أن يضمنه إلى الذي أعطاه، فوجب أن يصح ذلك لأن االوكالة في ذلك صحيحة، وشروط المضاربة صحيحة، قال: وإن أذن له أن يستدين دراهم غير معلومة المقدار صحت المضاربة في التي قبض وفسدت فيما استدان المضارب، وما كان فيه من ربح، أاو خسران، فهوا للمضاربن ووجهه: أن قدر ذلك مجهول، ولا بد من أن يكون مال المضاربة معلوماً، وإلا لم تصح المضاربة، فإذا كان التوكيل للمضاربة، وبطلت المضاربة في الذي قبض فيه بطل التوكيل فوجب أن ذلك الذي استدان للمضارب، وإذا كان له كان ربحه له، وخسرانه عليه.
قال: ولو أن مضارباً اشترى سلعة بثمن معلوم، واستزاد بائعها شيئاً فزاده كانت الزيادة على المضارب في خاصة ماله، ووجهه أنه متبرع بها، وليس للمضارب أن يتبرع بشيء من مال رب المال، فوجب أن كيون ذلك لازماً للمضارب، وألا يكون من مال رب المال.
مسألة:
قال: ولو أن صاحب المال أربح المضارب في شيء اشتراه المضارب من مال المضاربة صح ذلك بينهما، وهذا معناه ان يكون في الشيء ربح، فيشتري صاحب المال نصيب المضاارب منه، كأن يكون المضارب اشترى عبداً بخمسمائة، وقيمته سبعمائة، فيكون نصف الربح للمضارب، وهو جزء من سبعة أجزاء فيشتريه صاحب المال، ويأخذ العبد، فإن كان جميع رأس المال كان ذلك فسخاً للمضاربة، وإن كان بعض رأس المال كان ذلك فسخاً لذلك القدر، ولا يجوز أن يشتري غير ما ذكرنا فيكون بمنزلة من اشترى مال نفسه من وكيله، وذلك لا يصح لأن المضارب بمنزلة الوكيل، وإن كان شريكاً في الربح هذا ما يوجبه القياس، إلا أن الإستحسان يوجب صحة ذلك لوجهين:

(84/7)


أحدهما ــ الإجماع، فإنه ممالا خلاف فيه. والثاني ــ أن المضارب قد تعلق له بالماال حق، وليس كالوكالة المحضة، ألا ترى أن صاحب المال ممنوع من التصرف فيه ما دامت الشركة قائمة، إلا بإذن المضارب، فإن حق التصرف للمضارب فسح ان يشتريه كالسيد يشتري من المكاتب ما في يده، قال: وإن اشتراه المضاارب من نفسه كان الشراء فاسداً، ووجهه أن الخصومة تكون بين البائع والمشتري في حقوق القبض والتسليم والرد باالعيب، ولا يجوز أن يكون الإنسان خصم نفسه، قال: ولا بأس لصاحب الماال ان يعين المضارب إن استعان به فيبيع له ويشتري، وتكون المضاربة بينهما صحيحة على ما كانت، ووجهه أنه معونه وإحسان إليه، ولا يوجب ذلك فسخ ما بينهما، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. قال: ولكن يوكل صاحب المال لأن التوكيل فيه إلى المضارب.
مسألة:
قال: وإن اتجر المضارب بالمال دفعه فربح ثم أخرى فخسر، ولم يكونا اقتسما الربح، بل كان في المال وجب أن ينظر إلى رأس المال هل يفضل عنه شيء، فإن فضل كان بين المضارب وصاحب المال، وإن لم يفضل عنه شيء لم يكن للمضارب فيه قسم، هذا وهما على مضاربتهما ولا شيء للمضارب إلا من الربح ولا ربح إلا بعد سلامة رأس المال، وإذا ربح ثم خسر فيجب أن يعتبر حصول رأس الماال، وهذا لا خلاف فيه.
قال: فإن :انا اقتسما الربح الأول كان ما أخذه المضارب له، وكذا القول إن أتجر بالمال دفعات كثيرة يربح في بعضها، ويخسر في بعضها، قال أبو حنيفة هذه كالأولى يجمع الجميع، ويحسب ما أخذه المضارب ثم يرفع رأس المال ثم يقسم الربح بعد ذلك إن كان وكلام يحي في الأحكام على أنه رأى قسمة الربح الذي وقع للمضاربة الأولى، وأن ما بعده مضاربة ثانية ابتدئت فلذلك لم يحسب الربح المتقدم في المضاربة الثانية، ووجهه أن قسمة الربح لا تكون غلا بعد إفراز رأس المال، فإذا رضوا بذلك جرى مجرى التفاسخ، والله أعلم.
مسألة:

(84/8)


قال: وإذا ادعى المضارب ذهاب الماال كان القول قوله مع يمينه، وهذا مالا خلاف فيه لأن يده بالإجماع يد الأمانة والأمين يجب أن يكون القول قوله فيما في يده كالمودع، وقد ذكرنا ما رواه زيد بن علي عليهما السلام أنه قال في المضارب: يضيع منه لا ضمان عليه، وهذا في المضاربة الصحيحة فأما القاسدة فإن المضارب يكون في حكم الأجير المشترك في الإجارة الفاسدة، وقول أبي حنيفة أن هذه كالأولى، لأن من مذهبه أن الأجير المشترك أمين فيجب على قوله ما ذكرنا في المسألة الأولى فأما عندنا، وعند أبي يوسف، ومحمد فهو ضامن لمافي يديه، لأنا نضمن الأجير المشترك بما تلف على يده إلا أن يكون تلف بأمر غالب لا قبل له به، فإن ادعىتلفه بأمر غالب، فعليه البينة فيما ادعى.
قال: ولو أنه ضمن المال كان ضمانه باطلاً إن شاء وفى، وإن شاء لم يف، ووجهه أنه في حكم المودع فيجب أن يبطل ضمانه كما يبطل ضمان المودع.
فإن قيل: فهلا جعلتموه كالمستعير يضمن إذا اشترط الضمان.
قيل له: لأن المستعير إذا شرط الضمان كأنه جعل الحفظ في مقابلة ما يستوفيه من المنافع فاشبه الأجير المشترك، وليس للمضارب منافع معلومة فيجعل الحفظ في مقابلتها، فإن اشترط الحفظ كان متبرعاً به، وليس كذلك المستعير لأنه يستوفي المنافع على لحفظ.
مسسألة:
قاال: وإذا مات المضارب، وقد بين مال المضاربة، فصاحبه أولى به، وإن لم يكن بينه استحقه بالبينة إن جحده الورثة، فإن لم يكن له بينة استحلف الورثة، أما إذا يبين مال المضاربة فلا إشكال أن صاحبه أولى به لأنه لم يخرجه عن ملكه، فإن لم تكن له بينه وأقر الورثة أأنه في جملة تركته فلا خلاف أن صاحب المال يستحق ذلك القدر بمنزلة الدين، وإن جحده الورثة لم يثبت إلا بالبينة كالدين يدعي على الميت ونكره الورثة لا يثبت إلا بالبينة.

(84/9)


قال: وإن كان على المضارب دين، وعنده مال المضاربة لم يفرز فكان صاحب المال أسوة الغرما، وبه قاال أكثر العلمااء، أبو حنيفة وغيره، قال القاسم: االدين أولى، ووجهه إذا لم يكن مفرزاً عن مال المضاربة صاار الجميع إرثاً له يرثه ورثته، ولا يجوز ان يصير مال الغرماء إرثاً له إلا بعوض للغير، فأشبه الدين فوجب أن يكون هو أسوة الغرماء، وهذا إذاا علم أنه كان في جملة ماله بإقرار الورثة، أو البينة، وأيضاً فن المضارب لماا امكنه البيان فلم يبينه حتى يصل رب المال إلى حقه بعينه صار مضيعااً له بمنزلة من جعله في غير حرز فيجب أن يصير ضامناً له، وإذا ضمنه صار ديناً عليه.
ووجه ما ذهب إليه القاسم عليه السلام: من أن الدين أولى لأنه مضمون في الأصل، وليس كذلك مال المضاربة، ويجب أن يكون حااله أقوى، والصحيح ما ذهب إليه يحي، وحكى عليه السلام مثل قوله عن علي عليه السلام.
مسألة:
قال: وإن دفع ماله مضاربة إلى عبد مأذون له في التجارة صحت المضاربة وكان هو والحرُّ فيه سواء فإن أتلف العبد المال أخذ السيد ببيعه وبيع مافي يده من مال السيد حتى يستوفي صاحب المال حقه، والعبد المأذون له في حكم البيع والشراء والتجارة والإجارة كالحر لا خلاف فيه فوجب أن يكحون كذلك في المضاربة، فأما إذاا تعدى وأتلف يلزم يسده إلى قيمته، وقيمة ما في يده من مال التجارة، لأن هذا حكم ما يضمنه في سائر البياعات والأشرية، والإجارات.

(84/10)


قال: وإن دفع إلى عبد غير مأذون له في التجارة كانت المضاربة فاسدة فإن اتحر العبد فيه فربح كان لصاحبه المالا، وللعبد أجرة مثله، وإن تعدى فأتلف كان ديناً عليه يطالب به إذا عتق وذلك ما يعاقد به صاحب المال عبداً غير مأاذون له في عقد المضاربة لا يصح لأن عقوده على نفسه تصح بإذن مولاه، فإذا لم يأذن مولاه فسد العقد فكأنه دفع المال إليه على مضاربة فاسدة فكان الحكم ما ذكرناه فإن تعدى فأتلف المال كان ديناً عليه يطالب به، إذا عتق لأن صاحب المال رضي بتصرفه في المال، ودفعه إليه، ولم يكن لمولاه فيه غذن فوجب ألا يلزم بتعديه مولاه بمنزلة من يقرضه ماالاً فينفقه أنه لا يلزم يسده لأن صاحب المال رضي بذمته.
فإن قيل: صاحب المال لم يرض بتصرفه في الإستهلاك وإنما رضي بتصرفه في التجارة.
قيل له: رضي بذمته لما سلم إليه المال لأنه لم يأمن أن يتحول إليه الماال فوجب ألا يلزم سيده.
قال: وإن دفع ماله مضاربة إلى المراهق بإذن أبيه أأو وليه أأو وصى أبيه صحت المضاربة، وإن أتلف الصبي المال، وجب ذلك عليه في ماله، وذلك أ، المراهق إذا أذن له من يلي عليه في التجارة صح بيعه وشراؤه وعقوده عندناا فلذلك قلنا أن المض اربة صحيحة، فإن أتلف المال كان عليه في ماله كسائر جناياته في الأموال، فإن لم يكن له مال كان ديناً عليه يطالب به إذا أيسر.
قاال: فإن دفع إليه بغير إذن من يلي عليه فسدت المضاربة، وكان للصبي عليه اجرة مثله، لأن عقوده لا تصح فلم يصح عقد االمضاربة كما بينا في االعبد الذي لم يكن مأذوناً له.
فإن قيل: فما تقولون في توكيل الصبي والعبد المحجور عليه.
قيل له: نجوزه ولكن لا عهدة عليهما، والعهدة على الآمر لهما لأنهما كالصغيرين عنده، والله أعلم وأاحكم.

(84/11)


باب شركة الأبدان
لا بأس أن يشترك الصانعان في صناعتهما، ويقتسما ماا رزقهما الله تعالى من كسبهما بينهما نصفين، ويكون الضمان عليهما نصفين، فإن اشترطا في االربح لأحدهما الثلث، وللآخر الثلثين كان الشرط باطلاً، وكان الربح بينهما نصفين لأن االضمان عليهما سواء، وهذه الشركة تسمى شركة الأعمال، ولا يبعد ان يقال شركة الوجوه، وهذه أسمااء والمرجع إلى معنى واحد، قال أبو حنيفة هي صحيحة، وقال الشافعي لا تصح، وأبطلها، وهذه الشركة مثل شركة الوجوه في شراء الأموال، وكل واحدة منهما تتضمن التوكيل هذه في التقبل والعمل من كل واحد منهماا لصاحبه، ويدخل الضمان فيه على سبيل التبع للتقبل وتلك تتضمن التوكيل من كل واحد منهما لصاحبه في شراء الأموال وبيعهاا على سبيل التبع من حيث التمليك، ووجه صحة هذه ما ذكرنا في تلك، وذكر أبو بكر الجصاص ان هذه الشركة معقودة على الضمان، وما ذكرنا أولى بمذهب يحي بن الحسين عليهما السلام، لأنه أشار إلى تقبل الأعمال في العهدة التي ذكر انها تكثر بين هذين الشريكين، قال أبو بكر: ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول تقبل أنت بعمل تعمله على ان يكون الربح بيني وبينك، وليس لهما ما يستحقان عليه الربح فإذا لم يكن هناك وجه يجوز أن يستحق عليه الربح غير الضمان صار عقدهماا للشركة متضمناً للضمان، وموجباً له، يقال له ما تنكر على من قال لك هاهنا وجه غير مااذكرت، وهو أن يوكل صاحبه بتقبل العمل، وبالعمل فيرجع إليه، ويصير العمل إليه فيستحق به الربح، ويدخل الضماان فيه من حيث حصل التقبل كما نقول في مثله في شركة الوجوه في شراء الأموال، وإذا صح ذلك بطل ماا اعتمته ثم يقال له: لو لم يكن هاهنا إلا الضمان لم يستحق الضامن الربح، ألا ترى ان رجلاً لو اشترى سلعة فضمنها عنه آخر لم يستحق الضامن من ربح السلعة شيئاً، كذلك إذا تقبل رجل عملاً وضمنه آخر فلا يستحق شيئاً من الكسب وأجرة العمل فبان به صحة ماا ذكرنا من أأن هذه

(85/1)


الشركة تقتضي التوكيل مثل تلك، فإن الضماان فيهما جميعاً يحصل على سبيل التبع على ما بيناه على أن سائر االشركة تتعلق باالتوكيل دون الضمان فإن دخل الضمان فيها دخل على سبيل التبع إلا المفاوضة فإنها تتعلق بالتوكيل والضمان جميعاً، وذلك نحو شركة العنان، وشركة الوجوه في شراء الأمواال، وشركة المضاربة فوجب أن تكون هذه الشركة كذلك، والعلة أنها من شركة العقود لا على المعاوضة، ويدل على صحة ما ذكرناه أنهم قالواا أن هذه الشركة تصح فيما يصح فيه التوكيل من البيع والإجارة، ولا يجوز فيمالا يجوز فيه التوكييل نحو الصيد والإحتشاش لا يصح فيمها التوكيل، ولكن حكينا ذلك عنهم لتبيين صحة ما ذهبنا إليه.
مسألة:
قال: وإن أرادا تصحيح شرط تفضيل أحدهما في الربح بيناه في أصل الشركة أن أحدهما هو الضامن للثلث والآخر للثلثين، وأنهما يتقبلان العمل على هذاا الشرط، وقد بينا وجه هذا في مسألة شركة الوجوه في مسألة شركة الوجوه في شركة الأموال والكلام في هذه مثل تلك لأن التقبل في هذا يحصل على الثلث والثلثين، والتملك في تلك يحصل على الثلث والثلثين فيكون الضمان والربح بحسب ذلك في الشركتين جميعاً، قال: وإذا اشتركا على ما وصفنا كان لكل واحد منما أن يتقبل العمل ويعمله منفرداً، ومع صاحبه، وذلك أن التقبل نفع لهما جميعاً وكذلك العمل على حسب ما شرطا فلو أن أحدهما عمل ولم يعمل الآخر كان من لم يعمل شريكاً لمن عمل، لأن تقبل كل واحد منهما بينه وبين صااحبه، وكذلك عمله.
مسألة:

(85/2)


قال: ولا بأس بهذه الشركة لصانعين، وإن اختفت صناعتهما، وبه قا أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد، وقال زفر: لا تصح هذه الشركة مع اختلاف الصانعين ذكره الكرخي والصحيح ما ذهبنا إليه من صحتها مع اختلاف الصناعتين لأنها إن كانت معقودة على التوكيل على ما بيناه أو على الضمان على ما حكيناه فهي صحيحة مع اختلاف الصناعتين، ألا ترى أنه يصح من الصانع أن يتقبل الخياطة بنفسه ووكيله ثم يستعملها الخياط، ويصح من الخياط أن يتقبل الصناعة بنفسه ووكيله ثم يستعمها الصانع، وهكذا الضمان يصح من كل واحد منهما، فإذا صح ما ذكرناه على ما بيناه في ذلك، صح أن اختلاف الصناعتين في هذا الباب كاتفاقهما على ما ذهبنا إليه.
مسالة:
قال: وإن اختلف الشريكان بطلت شركتهما وذلك أنها شركة معقودة على الوكالة وليس فيها ماالا يتعلق الحق به فإذا أنكر كل واحد منهما ما يدعيه صاحبه فقد زال ما بينهما، ألا ترى أن رجلاً لو قال لآخر: وكلتك بشراء العبد فقال: بل وكلتني بشراء الفرس، أو من قال وكلتك بشراء هذا العبد بألف فقال بل وكلتني بشرائه بألف وخمسمائة لم يستقر بينهما التوكيل، فكذلك هذه الشركة.
مسألة:
قال: وهذه جائزة بين أهل كل صناعة وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن هذه الشركة لا تصح بين الصياادين والمحتشين والمحتطبين والعاملين في المعادن، قالوا: إن الإستئجار منهم والتوكيل لا يصح وعموم قول الله جائزة بين كل صناعة، يدل على عمومها فيهم وقد نص في الفنون على جواز الشركة في المعادن والإستئجار فيها جائز على مذهب الشافعي ذكره ابن أبي هريره في التعليق والذي يدل على جوازها فيهم أن كل ذلك عمل يصح فيه التوكيل والإستئجار بدلالة أنها كسائر الأعمال فإن لها نفعاً معلوماً.
فإن قيل: كيف يكون للإصطياد نفع معلوم، وهو يتعلق بالغرر، لأنه لا يدري هل يصيد أم لا؟

(85/3)


قيل له: إنما يجوز ذلك في المواضع التي تجد ـ توجد ـ فيها كاصطياد السموك والطيور لأن المواضع والأوقات المعتادة لا يجري فيها من الغرر إلا اليسير الذي يقع مثله في التجارات وإذا ثبت أنه يصح التوكيل صحت الشركة فيه على ما بينا لأنها معقودة على التوكيل.
فإن قيل: فإنها قد يقع فيها غرر لأنه قد يتقدم الأمر فيه ويتأخر، ولا يمكن ضبطه؟.
قيل له: ليس يقع فيه إلا ما يقع في سائر الإستئجار، ألا ترى أن الإستئجار على ضرب اللبن قد يتقدم الأمر، وقد يتأخر، لغرض في ذلك باتصال الأمطار، فإن الغرض في ذلك باتصال الأمطار، ويتقدم لاستمرار الصحو، فيقان أن مثل هذا لا يوجب إبطال الإستئجار، وقد يجوز أيضاً أن يستأجر أجير الخاص على هذه الأعماال، ويستحق الأجرة بمرور الزمان مع تسليم النفس.

(85/4)


باب القول في شركة العلو والسفل والشوارع والأزقة ونحو ذلك
إذا كان لرجل سفل بيت وآخر علوه، فانهدم البيت، وأبى صاحب السفل أن يبني سفله، وأراد صاحب العلو أن يرد مسكنه، قضي له على صاحب السفل ببناء سفله ليبني هو عليه علوه، فإن كان صاحب السفل معسراً أطلق لصاحب العلو أن يبني السفل، ويمنع صاحب السفل من سكنااه حتى يؤدي إلى صاحب العلو ما غرم في بناء السفل، وإن أحب صاحب العلو استغل السفل إلى أن يستوفي ما غرم فيه، قال أبو حنيفة: لا يجبر صاحب السفل على بناء السفل، ولكن صاحب العلو إذا بناه يمنع صاحب السفل من سكناه حتى يوفيه ما غرم فيه، ويكون ذلك في يد صاحب العلو على سبيل الرهن إلى أن يستوفي حقه.
ووجه ما ذهبنا إليه أنه لا خلاف في أن صاحب السفل ليس له أن يبيع نقض سفله لتعلق حق صاحب العلو به، فيجب ان يلزمه اعادته إذا اانتقض لتعلق حق صاحب العلو به، لأن كل من لم يكن له منع الغير من ملكه لتعلق حقه به يلزمه تسليمه إليه، لأن كل من لم يكن له منع االغير من ملكه لتعلق حقه به يلزمه تسليمه إليه، كالدار المستأجرة، وكاالرهن إذا صار في يد الراهن، وما أشبه ذلك.
ويقال لهم: إذا قلتم ـ إنه إذا أعيد السفل كاان في يد صاحب العلو على سبيل الرهن إلى أن يستوفي منه ما غرم، فقد أوجبتم ذلك على صاحب السفل، لأنه إن لم يكن ذلك الغرم لازماً لة، فلا وجه لأن يكون حقه في يد صااحب العلو على سبيل الرهن، وإن كان لازماً له، فلا وجه لقولكم إنه لا يجبر عليه.
وقلنا: إن صاحب العلو إن أحب استغل السفل إلى أن يستوفي ما غرم فيه، لأنه أنفع لهما، وأقرب إلى أن يصل كل ذي حق إلى حقه، من صاحب العلو وصاحب السفل، ولأن من مذهبنا أن الحاكم يبيع على المديون ماله بحق الغريم إذا تقاعد من إيفائه حقه، فالإستغلال أولى بذلك.

(86/1)


قال: وليس لصاحب السفل أن يبيع نقض سفله، وإن كان معسراً، وله أن يبيعه قائماً، غير منقوض، وذلك لأن في نقضه ابطال حق صاحب العلو، وهذا مما لا خلاف فيه، فأما إن باعه قائماً غير منقوض فذلك جائز، ولا ضرر على صاحب العلو فيه إذ حقه ثابت، لا مانع من استيفائه.
قالك وكذلك القول في العين والنهر يكون بين شريكين أو شركاء يعمره أحدهم بالكسح، أو بناء المسناة، أو غير ذلك مما لا بد منه لم يكن لمن لم ينفق فيه شرب حتى يرد على شريكه ما غرم في حصته.
ووجهه ما تقدم في المسألة الأولى فلا معننى لإعادته.
مسألة:
قال: وغذا اختصم الجيراان في عرض الشوارع والأزقة، فأحسن التقدير في الشوارع التي تجتازها المحامل والعماريات أن يكون اثنتي عشر ذراعاً، وأن يكون عرض الطريق التي هي دون ذلك سبعة اذرع، وأن يكون عرض الأزقة التي لا منفذ لها على عرض أوسع باب فيها، هذا الذي ذكره من التقدير هو ضرب من الإجتهاد، وما عرف من جهة العادة اأن فيه دفع ضرر عن المستطرقين، وعن الجيران، وهو على ما ذكره فيه، وهذا التقدير يحتاج إليه في موضعين: إما أن يلتبس حال الطريق، وحال ما حولها، من الأملاك، فيرجع إلى هذا التقدير.
وإما أن يكون حول الطريق أرض موات فيمنع من أراد الإحياء إلا بعد أن يجعل للطريق هذه التقديرات، فأما إذا كان حول الطريق أملاك متميزة عن الطريق لا التباس فيها فحكم الطريق أن يترك على ماهو عليه من الضيق والسعة.
ولتقدير الزقاق على اوسع باب فيه وجه آخر، وهو أن من أراد دخول داره فله أن يدخل من أي موضع شاء من بابه، وكذلك من أراد الخروج فيصير كلما اتصلت طريقاً، ولعلك هذا الوجه في عرض الدار التي في صدر الزقاق أوضح.
مسألة:

(86/2)


قال: ويجب أن يمنع الناس من فتح الكنف إلى الطرق والشوارع، وأن تهدم الصوامع المشترفة على دور المسلمين من المساجد إذا كان تبدو حرمهم لمن ارتقى فيها، ومنع من ذلك كله لأنها أجمع ضرر بالمسلمين، وقال صلى الله عليه وىله وسلم: (لاضرر ولا ضرار في الإسلام).
فإن قيل: ألستم لا تمنعون الجار أن يبني لنفسه ما يمكن الإشراف فيه، على منزل جاره بل تقولون إن جاره هو الذي يعمل لنفسه الستر إن احتاج إليه، فكيف قلتم إن الصوام تهدم إذا أمكن الإشراف منها على دور المسلمين؟
قيل له: لأن الصوامع بنيت لمصالح المسلمين، فإذا حصل فيها الضرر لبعض المسلمين زال الوجه الذي بنيت له فوجب نقضها، والدور والمنازل لم تبن لمصالح المسلمين بل كل إنسان له أن يعمل في ملكه ما يريد، ويبني ما شاء لا يمنع منه، لأن في منعه منه إدخال الضرر عليه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه) ولا يحل هدم بنائه في ملكه، ولا منعه من بنائه.
مسألة:
قال: وإذا كانت مزارع ونخيل بعضها منخفض عن بعض، أمسك صاحب الأعلى الماء للزرع، إلى الشراكين، وللنخل إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى من هو أسفل منه، ثم كذلك يفعل من هو أسفل منه حتى ينتهى إلى آخر الضياع إن كان كثيراً أو ينقطع أن كان يسيراً، هذا ذكره على ما عرف من حادة تلك الأرضين إلى الماء، وعلى ما جرت له عادات أهل تلك الديار، ولعى ما علم من كفاية هذا القدر لمزارعهم، فإن كانت مزارع تكون حاجتها إلى أكثر من هذا القدر أو أقل كان العمل على مقدار الحاجة، وهذا إذا لم يكن الجميع شركاء في المااء وكان حق الأسفل في الصبابات دون أصل النهر، فأما إذا كان للجميع حق في أصل النهر، وكان الكل فيه شركاء أصحاب الأصفل، وأصحاب الأعلى فيجب أن يقسم المائين الجميع على مقادي حقوقهم قل الماء أو كثر ليكون النفع عائداً على الجميع والضرر إن قل الماء لاحقاً للجميع.
مسألة:

(86/3)


قال: وأحسن ما يعمل عليه في حريم رأس العين العظيمة التي يفور ماؤها أن يجعل خمسمائة ذراع من جوانبها الأربع، ولا يدخل على صاحبها غيره في حريمها، ولا يحفر فيه، وإن يجعل حريم البئر الجاهلية خمسين ذراعاً، من كل جانب وأن يجعل حريم البئر الإسلامية الحادثة أربعين ذراعاً، وهذه المقادير على ما مضى ذكرها، بحسب أحوال البئر، وتلك الديار، وما عرف من الحادة إلى ما ذكر، وهذا على ما قدمنا القول فيه يكون على وجهين إذا إذا إلتبس الأمر في الحريم، أو كان حول هذه الآبار والعيون أرضوان مباحة، فيمنع من أراد الإحياء في مقادير حريمها فأما إذا كان حولها أملاك معروفة ثابتة، فلا يمنع الملاك من أملاكهم.
مسألة:
قال: وإذا اشترك رجلان في عين أو بئر كان لكل واحد منهما أن يجري ماله من النصيب في الماء إلى أي أرضه شاء بعد إلا أن يكون مضاراً لصاحبه، وذلك أن الماء إما أن يكون ملكاً له، أو حقاً فأيهما كان فهو أولى به مالم يضار غيره من نحو أن يكون لغيه في صبابته حق يقطع عنه بإجراء الماء إلى غير ذلك الموضع، فلا يجوز أن يحتاج إلى سكر لأخذ الماء يضر بالنهر، أو لا يتم إلا بان يستعمل ملك غيره فإنه لا يجوز، فأما إذا سلم مما ذركنا وما أشبهه فصاحب الماء أولى به يخرجه إلى حيث شاء.

(86/4)


باب القول في القسمة
إذا مات الرجل وخلف تركة، وورثة فيهم غيب وصغار، وطلب الكبار الحاضرون قسمتها كان للحاكم ان يقسمها بينم ويستحب إحضار الغيب فإن لم يفعل جاز.
إعلم أن القسمة كلها في معنى البيع وجارية مجراه لأن حق كل واحد من الشركاء شائع في الجميع فإذا فرز حق أحدهم كان قد جعل غيره عوضاً عما جعل من حقه لذلك الغير، وهذا هو البيع لأنه يملك كل واحد منما صاحبه ما ملك بعوض أخذه منه وذهب أبو بكر إلى أن القسمة فيما يكال أو يوزن ليس فيها معنى البيع، ومعنى البيع في سائر الأشياء التي تقوم للقسمة وليس ذلك كذلك لأن الذي بيناه حاصل فيما يكال ويوزن كحصوله فيما لا يكال ولا يوزن، ودخول التقويم فيما لا يكال ولا يوزن لا يخصصه بالبيع دون مالا يددخله التقويم مما يكال ويوزنه لأنه قد يقوم اشيء لا للبيع، وقد يباع بغير تقويمن وإنما يدخل التقويم في القسمة حيثث يدخل التعديل للأنتصباء فقط، وإما إذا أمكن التعديل بغير التقويم لم يحتج إلى التقويم، فإذا ثبت ذلك فالقياس ألا يجبر أحد على القسمة لأنها بمعنى البيع ولا يجبر أحد على بيع ملكه مع سلامة الأحوال لكن المسلمين أجمعوا على أن القسمة تجب وجيبر عليها من أبى من الشركاء إذا تعلق النفع والصلاح بها ولم يكن على الشركا فيها ضرر فعدلنا عن القياس واتبعنا الإجماع.
(فصل):

(87/1)


فإذا مات الرجل وخلف تركة وورثه وطلب الورثة أو بعضهم القسمة نظر، فإن كان المال ثوباً واحداً أو عبداً واحداً، أو حيواناً واحداً أو فصاً واحداً، أو حانوتاً واحداً صغيراً لا ينتفع به مع القسمة، أو حماماً واحداً لم يقسمه الحاكم لأن الغرض بالقسمة نفع الشركاء وصلاحهم، فإذا أدت القسمة إلى الفساء والضرر لم يقسم الحاكم، وخلى بينم فإن اقتسموا هم على وجه التراضي ما يتأتى القسمة فيه لم يمنعهم، فأما ما عدى ما بيناه وما يجري مجراه مما يتأتى فيه القسمة، ويكون في القسمة نفع فإن الحاكم يقسم إذا طلبوا القسمة، أو طلبها بعضهم لا خلاف في ذلك، وكذلك إن كان فيهم صغار، أو غيب على ما نص عليه، وهذا من مذهبه يدل على أنه يرى الحكم على الغائب لأن القسمة تتضمن معنى البيع والحكم، وقد أجازهما على الغائب.
مسألة:

(87/2)


قال: وإذا وقعت القسمة صحيحة عادلة لم يكن نقضها للغائب إذا حضر ولا للصبي إذا كبر، وإن كانت وقعت غير صحيحة كان لهم أن ينقضوها، فإن كان بعضهم قد باع حصته انتقض البيع، إذا أجمعوا على ان القسمة وقعت غير صحيحة وعلى سبيل الغلط وأقروا بذلك انتقضت القسمة، فإن اختلفوا فالبينة على من يدعي الغلط، لأن الأصل في معاملات المسلمين الصحة، ألا ترى أن أحد المتبايعين إن ادعى فساد البيع، وادعى الآخر صحته كانت البينة على مدعي الفساد، واليمين على مدعي الصحة، وكذلك في القسمة، وما يدعلي من الغلط على سبيل التغابن لم يسمع كما لا يسمع من المتبايعين والقسمة مع التغابن تصح إذا رضي به الشركاء كما يصح البيع، إذا رضي به المتبايعان، إلا أن يكون في القسمة غائب، أو صبي لم يرض بها كما يكون ذلك في البيع، وإنما يكون الغلط فيها أن يدفع الثلث إلى من يستحق السدس، او السدس إلى من يستحق النصف، أو ما أشبه ذلك لو جعل لبعضهم مالا ينتفع به على سبيل الغلط، وما جرى مجراه فإذا كان ذلك نقض الحاكم القسمة كما ينقض البيع، إذا جرى فيه ما يفسده، فإن كان بعض الورثة باع نصيبه نظر في الغلط، فأن كان ثبت بإقرارهم لم ينتقض البيع بل يلزمهم تعديل القسمة فيما في أيديهم من المقسوم والثمن وإن ثبت الغلط بالبينة عند الحاكم انتقض البيع، لأن باقرار من خرج الشيء عن يده، ودعوى شركائه لا تفسد البيع كما أن رجلاً لو باع من أخرتم ادعى أنه كان في يده على سبيل الغصب، وأنه كان ملكاً لفلان، وصدقة فلان يكون المشتري أولى بما اشتراه لا ينظر إلى إقرار البايع ولا دعوى الآخر، وإن ثبت ذلك بالبينة عند الحاكم انتقض البيع، فهكذا القسمة.

(87/3)


قال: وإذا كانت أرضين متفرقة بين جماعة وكان لبعضهم فيها يسير، ولبعضهم فيها كثير، وكانت حصة صاحب اليسير في كل موضع منها مالا ينتفع بها لقلتها كان له ان يقول لشركائه أجمعوا حصتي في موبضع واحد، وحكم له عليهم بذلك، وقال أبو حنيفة: تقسم كل قطعة منها على الإنفراد، وقال أبو يوسف ومحمد مثل قولنا، وقالا هو على ما يراه الحاكم من الصلاح لهم، وبه نقول، ووجه قولنا أن القسمة موضوعة لصلاح الشركاء وتحرِّي منافعهم، فإن ثبت عند الحاكم أن صلاح بعضهم أن يجمع نصيبه في بعض المقسوم دون بعض، ولم يكن في ذلك ضرر على الباقين، وجب أن تمضي القسمة على ذلك، ويحكم بها على الشركاء كما يفعله في الدار الواحدة، والقطعة الواحدة، والحانوت الواحد، لأنها قسمة وقعت على الصلاح ولا ضرر فيها على الشركاء.
فإن قيل: هذا يجري مجرى البيع ولا يجوز الإجبار على البيع.
قيل له: فكل قسمة تتضمن معنى البيع فكان الواجب ألا يجبر على شيء منها.
فإن قيل: فلا يمتنع ان تتفاوت أحوال الدور المتفرقة والأرضين المتفرقة، فلا يصح قسمة بعضها في بعض.
قيل له: يعدل التفاوت بالتقويم، ألا ترى أن العرصة الواحدة إذا كانت واسعة الأطراف يتصل بعض جوانبها بالعمارة، وبعضها في بعض فكذلك ما أنكرتموه.
فإن قيل: إذا ثبت أن الأجناس المختلفة لا يقسم بعضها في بعض لتفاوتها فكذلك ما اختلفتا فيه.
قيل له: قد أجبنا عن التفاوت بما كفى ونحن لا نقول أن الأجناس المختلفة لا تقسم بعضها في بعض على ما سنبينه من بعد.
مسألة:

(87/4)


قال: ولو أن رجلاً كان له نصيب في جربة، أو عبد واضطر إلى بيعه وكان لا يشترى نصيبه منفرداً حكم على شركائه بابتياع نصيبه منهم أو بيع حصصهم معه هذا قول يحي عليه السلام، وإن كان له وجه في النظر فإني لا أقول به لأني لا أعرفه لأحد قبله ولا آمن أن يكون خارجاً عن الإجماع فإن كان له قائل ولم يكن خارجاً عن الإجماع فوجهه من النظر أن يقال أنه إجبار لبعض الشركاء على المعاوضة على ما يملكونه على سبيل الشركة توخياً للصلاح من حيث لا ضرر فيه فأشبه القسمة فوجب أن يلزم الحكم به كما يلزم احكم بالقسمة، ألا ترى أن إزالة الشركة لا ضرر فيها دليله الشفعة، فإنها موضوعه لدفع ضرر المشاركة والمجاورة، والله أعلم.
مسألة:
قال: ولا بأس بقسمة الأرض التي فيها ثمر هذا جائز لأن تعديل الأنصبا فيه بالتقويم، وكلما أمكن تعديل الأنصبا فيه بالتقويم جازت قسمته اختلفت الأجناس، أو اتفقت، ويدل على ذلك ما أجمعوا عليه من جواز قسمة البناء مع الأرض، والبناء مخالف للأرض أكثر من مخالقة الأجناس فيجب أن يكون ما ذكرناه جائزاً.
(فصل)
نص في المنتخب على أن بيع السقوف مزارعة لا يصح لما فيها من الإختلاف فاقتضى ذلك ألا يجوز قسمتها مزارعة كما أجازها أبو حنيفة وأبو يوسف على الإختلاف بينهما في كيفية القسمة، ويجب أن تكون قسمتها على التقويم كما ذهب إليه محمد وذلك ان التقويم أقرب إلى التسوية والتعديل.
مسألة:
قال: ولو أن شريكين اشتركا في كرم أو ما أشبهه فاقتسما الأصول دون الفروع كانت القسمة باطلة لهم ان ينقضوها متى لم يتراضوا بها حتى يقتسموا الفروع مع الأصول، ووجه أن البيع على هذا لا يصح فوجب ألا تصح القسمة لأن القسمة بمعنى البيع على أن لا إلتباس في أن قسمة القوائم من الحيوان دون الأعالي لا تصح كما لا تصح في البيع، وعلى هذا سبيل قسمة الأصول دون الفروع فوجب ألا يصح.
مسألة:

(87/5)


قال: وإذا اعوجت النخلة فصار فرعها في غير أرض صاحبها حتى تسقط فيها ثمرها حكم على صاحب الأرض لصاحب النخلة تسليم ثمرها إليه، وحكم على صاحب النخلة بقطع ما صار في أرض ذلك من فروع النخلة، أو رفعها عنه إن أمكن، ويقتضي على صاحب الأرض بتسليم ما تساقط إليها من ثمر النخيل لأنه يملك أولى بما ملك، ويقضى على صاحب النخلة بقطع ما أشرف على أرضه من فروعها، أو رفعه لأن من ملك أرضاً كان أولى بهوائها إلى حيث انتهى ليس لأحد أن يتصرف فيه ببناء ولا غيره وهذا مالا خلاف فيه.
مسألة:
قال القاسم عليه السلام: ولا بأس ببيع الماء في العيون والأنهار، وقسمته بين الشركاء أما قسمة الماء بين الشركاء فظاهر بين المسلمين لا يتناكرونها، ولا يتدافعونها، فلا وجه لإنكار منكرها على أن التعديل فيه ممكن بالأجزاء كما يمكن فيما يكال ويوزن والعلة أن التسوية والتعديل بالإجراء فيه ممكن من غير أضرار فيه بأحد الشركاء فإذا صحت القسمة فيه بما بيناه، وجب أن يصح البيع، لأنا قد بينا أن القسمة تضمن معنى البيع.
فإن قيل: إنه مجهول فلا يصح بيعه.
قيل له: بل معلوم القدر فيما تمس إليه الحاجة، وما يضبط به مثله لأنه يجوز أن يضبط بالمجرى والأوقات التي يجري فيها، وإن لم يضبط مقادير أجزائه كما أن المكيل والموزون يضبطان بالكيل والوزن، وإن جهلت مقادير حباته، وكذلك الثياب تضبط بالذرع والأرضون بالحدود والمساحةن وإن جهلت مقادير إجرائها، فكذلك الماء مضبوط بما بيناه فيجب ان يصح بيعه، ولا يفسد من هذه الجهة.
فإن قيل: فهو في حكم المباح لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الناس شركاء في ثلاثة، في الماء والنار والكلام، وما كان كذلك لم يجز بيعه).

(87/6)


قيل له: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثبت فيه الحق للناس في مقدار ما يحتاج إليه للمنفعةن والوضوء، وما جرى مجراهماا دون ما سوى ذلك، ألا ترى أن المسلمين قد أجمعوا على أنه لا يجوز لأحد أن يسقي زرعه بماء صاحبه إلا بإذنه فبان أنه مما يصح تملكه، وأنه قد لا يجري مجرى المباح، وإذا صح ذلك صح بيعه قياساً على ماء الأبار، والمعنى أنه ماء مملوك.
مسألة:
قال: ولا اقتسم الشريكان أرضاً بينهما فوقعت بئر حدهما في نصيب صاحبه لم يكن لصاحبه منعه من الدخول إليها، فإن كان يضر به إستأنفا قسمة جديدة بينهما، وللبئر حرمتها، ووجهه أن الذي يستحقه كل واحد من الشريكين بحق ملكه هو تعديل الأنصباء على وجه ينتفعان به يبين ذلك أنه لا يقسم ما قسمته ضرر، فإذا وقعت القسمة على وجه يلحق الضرر أحدهما دون الآخر لم يكن فيها تعديل لأن التعديل هو المساواة فيما استحقاه بالملك ولا تجوز القسمة على هذا فإما أن تبطل، وتقسم قسمة جديدة، او يجعل لصاحب البئر طريقاً إليها لشريكه ليزول اللضرر ولا بد للبئر من الحرمة، لأن منافعها تتم بالحريم، لما بيناه.

(87/7)


كتاب الرهون
باب القول في أحكام الرهن وتوابعه
لا يصح الرهن قبل وجوب الحق نحو أن يرتهن رجل من رجل رهناً على أن يقرضه مالاً، فإن رهنه على ذلك ثم قبض المال صح الرهن تخريجاً.
معنى قولنا أن الرهن لا يصح لأن الراهن يأخذه متى شاء، وليس للمرتهن منعه، وأنه إن تلف في يدا المرتهن لم يضمنه، وإنما قلنا أنه إذا رهنه قبل وجوب الرهن الحق إن الرهن لا يصح، لأنه إنما يجوز إحتباسه للمرتهن لتعلق حقه به، وضمانه لاحتباسه ولا لضمانه إذا لم يكن محتبسا في يده، فأما إذا رهنه على أن يعطيه مالاً قرضاً ثم أقرضه وجب أن يستقر الرهن لأن عقد الرهن كان قد حصل، ولم يكن استقر بل كان موقوفاً على الفسخ، أو التقرير كالبيع الموقوف يكون موقوفاً على الفسخ أو التقرير فكذلك ما ذكرناه من الرهن، فإن أخذه الراهن إنفسخ فإن أقرضه ما شرط له إستقر الرهن إذ قد حصل السبب المقرر له، وهو القرض.
قال: ولا يصح رهن المشاع ولا رهن مالم يقبضه المرتهن، وقال في المنتخب، يجوز رهن المشاع.

(88/1)


أما كون الرهن مقبوضاً فهو قول زيد بن علي عيه السلام، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه والشافعي، ولا أحفظ فيه خلافاً بين العلماء، إلا شيئاً يحكى عن أبي ثور مذكور في تعليق ابن أبي هريرة أنه قال: إن الرهن يصح بمجرد العقد، والديل على ذلك قول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، ونحن لم نعرف حكم الرهن إلا من الآية، والآية وردت بذكر قبض الرهن، فلم يثبت الرهن إلا مقبوضاً، وهذا يبطل قول من يقول أن الآية وردت على سبيل النكرة، فدل على جواز رهن غير مقبوض، إذ قد بينا أن حكم الرهن مأخوذ من الآية، ولم يرد إلا موصوفاً بالقبض على أن المحكي عن من أجازه غير مقبوض، أن الراهن لو مات لم يلزم الورثة تسليمه إلى المرتهن، وتخصيصه بالثمن دون سائر الغرماء، وهذا إزالة معنى الرهن فلم يكن معنى الرهن غير مقبوض فأما رهن المشاع فقد اختلف فيه، فذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى أنه لا يجوز، وهو رواية الأحكام، وهو الصحيح، وذهب الشافعي إلى جوازه، وهو رواية المنتخب، وهو قول الناصر، ووجه قولنا أنه لا يجوز رهن المشاع، أنا قد بينا أنه لا بد من أن يكون مقبوضاً وأن القبض متى لم يكن زال الرهن، لأن معناه الإحتباس وثيقة، ورهن المشاع يوجب استحقاق القبض بامهاياه، وهذا يمنع دوام القبض.
فإن قيل: أليس السلعة تكون في يد البائع على سبيل الوثيقة إلى أن يستوفي الثمن، ومع ذلك يصح في المشاع فما أنكرتم مثله في الرهن.
قيل له: الوثيقة في السلعة يقع التسليم للمشتري، وذلك مستدام، والوثيقة في الرهن أن يقبضه فيجب أن يكون القبض مستداماً، ويمكن أن يجعل هذا ابتداء دليل في المسألة.
فإن قيل: قد يصح عندكم بقاء الرهن مع خروجه عن يد المرتهن، وهو إذا استعاره الراهن فما أنكرتم مثله في رهن المشاع؟

(88/2)


قيل له: يد العارية غير مستحقة على المعير المرتهن، فلم يشبه ذلك رهن المشاع، لأن يد شريكه مستحقة فلم يسلم القبض، ومع الإعادة يكون القبض سليماً إذا لم يكن ما يوجب زواله، ولم ينطوي العقد عليه كما انطوى عليه عقد رهن المشاع.
فإن قيل: فقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع مالم يقبض، ومع هذا يصح بيع المشاع، فبان أن قبض المشاع متأت.
قيل له: لسنا نمنع من تأتي القبض في المشاع، وإنما هذا يصح بيع المشاع، وإنما يمنع إستدامة القبض في المشاع، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع مالم يقبض، اقتضى النهي عن بيع مالم يحصل فيه القبض، فإذا حصل القبض خرج من عهدة الخبر، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل القبض صفة لمبيع، وليس كذلك الرهن، لأن الله تعالى جعل كونه مقبوضاً صفة له فمتى خرج عن القبض خرج عن كونه رهناً، ووجه ما ذكره في المنتخب هو ما أوردناه على سبيل الأسئلة، والصحيح ما تقدم.
مسألة:
قال: وإذا أعار المرتهن الرهن إلى الراهن خرج عن ضمانه، ولم ينفسخ الرهن، كذا أجمع ذلك قول أبي حنيفة وأصحابه خروج المرتهن عن ضمانه، ولأنه لا وجه لأن يضمن شيئاً هو في يد صاحبه مالم ترجع يده عليه، ألا ترى أن الغصب إذا حصل في يد المغصوب منه، وتلف لم يضمنه الغاصب مالم يعد في يده ثانياً، وكذلك الرهن، وأما بقاء الرهن على ما كان عليه، فهو ظاهر على القول الذي قال أنه يجوز رهن المشاع، لأن صحة الرهن على هذا القول يتعلق بحصول القبض دون دوامه، وأما على القول الذي يقول أنه لا يجوز رهن المشاع فوجهه ان يد الراهن غير مستحقة كما يكون في المشاع، بل حكم يد المستعير حكم يد المعير لأنه يمسكه بيده، وينفذ رفع يده شاء.
مسألة:

(88/3)


قال: ولو أن رجلاً كان له على رجل دين فطالبه بالرهن فتبرع آخر ودفع الرهن إلى صاحب الحق كان الرهن فاسداً، وإن ضمن عنه المال ثم دفع إليه الرهن كان صحيحاً، وذلك أن التبرع بالرهن من غير أن يكون على الراهن حق يمنع صحة الرهن على ما بيناه في صدر الكتاب، فإن قال: أرهنه عن فلان يعني المطالب بالدين فيجب أن يصح لأنه إذ ذالك يكون بمنزلة من أعاره حتى رهنه، فأما إذا ضمن المال ثم دفع الرهن فهو صحيح، لا إشكال فيه، لأن الحق قد وجب بالضمان، والرهن بذله على حق لزمه.
قال: ولو تكفل بوجهه ثم أعطاه الرهن كان فاسداً، وذلك أنه لا يلزمه لكفالة الوجه مال، فلا يصح الرهن، لأن الرهن يصح على المال، لأن الله تعالى أمر بالرهن على الدين، لأنه قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، عقيب: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}، وأيضاً لو مات المكفول به لم يلزم الكفيل شيء فيخرج الرهن عن أن يكون هل معنى، والذي يجيء على مذهبه ألا يصح الرهن في كل ما جرى مجراه من أوديعة، ومال المضاربة وأرقبة المستأجرة، وما أشبه ذلك وجه الذي قدمناه، وبه قال أبو حنيفة حكاه أبو بكر الكرخي، وقد بينا في صدر هذا الكتاب معنى قوه: لا يصح الرهن، فلا معنى لإعادته.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً قال لآخر إن لم يعطك فلان حقك عند رأس الشهر فهو عليَّ، وأعطاه الرهن لم يصح الرهن إلا بعد رأس الشهر وحين وجوب الحق عليه، وهذا قد مضى وجهه، وهو أن الرهن يصح بعد وجوب الحق، والحق لم يثبت على الراهن إلا عند رأس الشهر، فلا يكون الرهن صحيحاً، ويصح بعد رأس الشهر، وإن كان العقد متقدماً لأنه يستحق الرهن بحصو وجوب الحق على ما بيناه.
مسألة:

(88/4)


قال: وامرتهن لا يملك شيئاً من الرهن إلا لزومه بحقه، وليس له أن يبيعه، ولا أن يرهنه، ولا أن يعيره، ولا أن يؤجره، ولا أن يزرعه إن كان أرضاً، ولا أن يركبه إن كان مركوباً، إلا بإذن صاحبه، وهذا مالا خلاف فيه، لأن الرهن في يد المرتهن لوثيقة، فقط دون ما سواها، فليس لله أن يتصرف فيه غير الحفظ والإحتباس له.
قال: وإن كان الرهن حيواناً كان علفه وأجرة من يقوم عليه ويرعاه ويحلبه إن كان له لبن، كل ذلك من مال الراهن، وإن كان زرعاً، أو ثمراً كانت أجرة من يحصده ويجذه ويسقه من مال الراهن، وكذلك إن كان مموكاً كانت نفقته من مال الراهن، وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يغلق الرهن لصاحبه غنمه، وعليه غرمه)، فاقتضى عموم قوله: (وعليه غرمه)، أن تكون جميع هذه المؤن عليه، لأنها الغرم كما أن جميع تلك الزيادات له لأنها الغنم، وأيضاً الرهن من ما راهن فيجب أن تكون نفقته عليه، وإن كان في يد امرتهن كالعبد المستأجر، والجمل المستأجر، وهذا ممالا أعرف فيه خلافاً، وليس يشبه هذا العبد المبيع يكون في يد البائع لاستيفاء الثمن لأن ملك المشتري لم يتم بعد.
قال: وإن كان الراهن غائباً وإلتزم ذلك كله امرتهن ضمنه لله الراهن، وذلك أن للمرتهن على الرهن ولاية الحفظ والإصلاح، فأشبه ما ينفقه عليه نفقة الولي على من يلي عليه في أنه يرجع في ماله لأنه أنفق بحق الولاية، فكذلك المرتهن.
قال أبو حنفية إن كان أنفق بإذن القاضي رجع على الراهن، وإلا لم يرجع.
مسألة:

(88/5)


قال: وإن مات الراهن، وعليه دين أو أفلس كان المرتهن أولى بالرهن، وإن كان فيه فضل رده إلى الغرماء، وإن كان له فضل على الرهن، كان في الفضل أسوة الغرماء، لأن حقه قد تعلق بالرهن فصار أولى كامحتا ملا تعلقق جقه بما على المحال عليه صار أولى به من سائر غرماء المحيل على أنه ممالا أحفظ فيه خلافاً عن العلماء، ولأن ذلك لو لم يكن كذلك لم يكن للرهن فائدة، وخرج من أن يكون وثيقة للمرتهن.
مسألة:
قال: ولو أن مرتهناً أرتهن نخلاً أو شجرة من شجر الفواكه أو أمة مملوكة، أو ناقة، أو غيرها من الحيوان، فأغلت النخلة أو الشجرة، أو ولدت المملوكة، أو أنتجت الناقة، كانت الغلة والولد واللبن رهناً مع الأصل، ولم يجز للراهن أن يأخذ شيئاً منه حتى يؤدي جميع ما عليه.
قلنا: أن حق المرتهن سرى إلى الولد والنماء، لأنه حق ثابت في الرقبة كالكتابة، والتدبير والإستيلاد، ألا ترى أن جميع ذلك لما حقاً ثابتاً في الرقبة سرى إلى الأولاد، وكذلك حق المرتهن، ويبين أن حق المرتهن ثابت في الرقبة أنه يستوفي حقه من قيمتها إن تلفت، أو ثمنها إن بيعت ويكون أحق بها من سائر الغرماء.
فإن قيل: يلزمكم ذلك في الجناية.
قيل له: حق الجناية ليس بثابت في الرقبة، فلذلك لم يسر في الولد كما وجب أن يسري حق الرهن إلى الولد والنماء الحادث، وليس يلزم على ذلك أيضاً حق الإجارة، لأنه غير مستقر في الرقبة وإنما هو مستقر في المنافع، وكذلك الموصى بخدمته حقه ثابت في المنافع، وأيضاً لما كان الرهن محبوساً لاستيفاء الحق المتعلق به على وجه الوثيقة وجب أن يثبت حق الحبس في الأولاد والنما.
فإن قيل: السَّرَايَةُ إلى الأولاد تكون في العقود التي تقتضي انتقال الملك كالبيع والهبة والرهن لا يوجب انتقال الملك.
قيل له: عقد المضاربة لا يوجب انتقال الملك، ومع هذا ولد مال المضاربة يكون من مال المضاربة، ويقاس على الزيادة المتصلة بعلة أنها نما حادث من الرهن.

(88/6)


فإن قيل: الزيادة المتصلة لا يمكن إزالتها فلذلك كانت رهناً.
قيل له: كان يجب أن يكون الرهن بمنزلة المشاع وكان يجب أن تكون الزيادة في حكم ماليس برهن على أوضاعكم فلما لم يكن ذلك علم أن العلة ما ذكرنا.
فإن قيل: قد ثبت في الأولاد والنما حق الملك، وحق الوثيقة، فليس لأحد أن يجعله تابعاً للوثيقة ألا وللأخران يجعله تابعاً للملك بل جعله تابعاً للملك أولى لأن الملك أوكد من الوثيقة.
قيل له: الملك والوثيقة لا يتنافيان، وليس يمنع إذا جعل تابعاً لأحدهما أن يجعل تابعاً للأخر، فالأولى ان يجعل تابعاً لهما جميعاً كما قلنا به، ألا ترى أن المدبرة ملا كانت ملكاً ومدبرة صار الولد تابعاً لها في الملك والتدبير جميعاً، فكذلك الرهن، وإذا ثبت بما بيناه أن هذه الحوادث رهن مع الأصول لم يجز للراهن أخذ شيء منها لا من الأصول ولا من الفروع حتى يوفي جميع ما عليه مما تعلق بالرهن.
قال: وإن خشي المرتهن فساد الثمرة أو اللبن وكان الراهن أن يبيعه للراهن، ووجهه ما قدمناه من أن للمرتهن عليه ضرباً من الولاية في الحفظ والصلاح، فجاز كما يجوز لرفقة الميت في السفر أن يبيعوا عليه ما يخشون فساده من مال الميت لما لهم من التعلق والإختصاص في معنى الرفقة، فصح أن ما ذكرناه أولى لأن حال الراهن أوكد من حال الرفقا.

(88/7)


قال: ولو أن رجلاً رهن رجلاً جارية تساوي ألفاً على خمسمائة، ثم قال المرتهن زدني مائة أخرى لتكون رهناً على ستمائة فأعطاه على ذلك ورضي به كانت امة رهنا على ستمائة ولو أنه رهنه عبداً يساوي ألفاً على ستمائة فأعطاه على ذللك ورضي به كانت الأمة رهناً على ستمائة ولو أنه رهنه عبداً يساوي ألفاً على ستمائة ثم أعطاه عبداً أخر يساوي ألفاً على أنه زيادة في الرهن فقبضه المرتهن على ذلك كان العبد الثاني رهناً مع العبد الأول على ستمائة، وتجوز الزيادة في الرهن عند الشافعي، والزايادة في الدين على قولين، وهي جائزة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ومحمد، ولا تجوز الزيادة في الدين في قول أبي حنيفة، ومحمد، وقال أبو يوسف مثل قولنا أن الزيادة في الرهن والدين جميعاً جائزة والوجه في زيادة الرهن أن الزيادة تلحق العقد حتى تصير كأنها كانت موجودة فيه ابتداء كما أن من اشترى عبداً بألف ثم زاده البائع عبداً آخر دخل في العقد بحصة الألف من الثمن، ولا يجوز اعتبار الزيادة على حيالها كأنها رهن مبتدا كما لا يجوز ذلك في البيع لأن عقد البيع لا يجوز بالحصة، وما بيناه يبطل قول من قال: إن الضمان إذا ثبت في الرهن الأول لم يجز أن يرتفع عنه، ويتعلق بالرهن الثاني، لأنا قد بينا أنه لا يعتبر حال الرهن ثبت ما ذهبنا إليه في الرهن الثاني على زيادة الدين، لأن لدين، أعني الزائد منه لا يجب أن يعتبر حاله على حياله، وإنما يلحق العقد الأول حتى يصير كأنه كان فيه، ألا ترى أن الثمن تلحقه الزيادة حتى تصير الزيادة كأنها كانت في أصل العقد، فكذلك زيادة الدين تلحق عقد الزيادة حتى تصير الزيادة كأنها كانت في أصل العقد، فكذلك زيادة الدين تلحق عقد الرهن حتى تكن الزيادة كأنها في أصل العقد، قال: فإن كان المرتهن قبض العبد الثاني لا على أنه رهن كان الأول رهناً على ستمائة دون الثاني، وذلك أنه بنفس القبض لا يصير رهناً، وإنما يصير رهناً بأن يلحقاه بالعقد

(88/8)


الأول، أعني عقد الرهن ويتراضيا بذلك فإما إذا لم يكن فمجرد القبض لا يجعله رهناً.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً استعار من رجل ثوباً، ورهنه عليه خاتماً كان الرهن صحيحاً، وكان أخذ المرتهن للرهن تضميناً للعارية، ولا فصل بين أن يكون الراهن تبرع بالرهن أو طلبه المرتهن، الأصل في هذا أنا نحمل عقود المسلمين على الصحة ما أمكن، ونصرفها إلى وجوه تصح معها كما يجوز بيع المخيض بزبد يعلم أنه أكثر من الزبد الذي فيه بأن يجعل ما فيه يقابل من الزبد بذلك الزبد ويجعل الزايد ثمناً للبن، وكذلك جوزنا أن يبيع ثوباً بدينار إلا مكوك طعام، وحملناه على أنه باع ثوباً ومكوك طعام بدينار ليصح العقد، فإذا ثبت ذلك، وثبت عندنا أن العارية تكون غير مضمونة إذا أطلقت، ومضمونة إذا اشترط ضمانها، وثبت أن الرهن لا يصح إلا بحق واجب، وعقد الرهن بينهما فلم يمكن تصحيحه، إلا بأن يجعل العارية مضمونة، ويجعل تراضيهما للعارية بالرهن تضميناً.
فإن قيل: هب أن ما ذكرتم قد صح فلم صححتم الرهن على حق لم يجب، لأن العارية ما دامت قائمة بعينها فليس على المستعير قيمتها.
قيل له: قد حصل سبب الوجوب، وهو العارية المضمونة فجرى مجرى الوجوب.
فإن قيل: فهلا جوزتم أخذ الرهن على ضمان الدرك.
قيل له: لأن ضمان الدرك أمر لا يعرف له غاير، لأنه لا يدري هل يكون أم لا، ومتى يكون فلو جوزنا أخذ الرهن على ذلك كنا قد أتلفنا الرهن لأن افتكاكه كان لا يصح أبداً، وهذا خلاف قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الرهن لا يغلق)، وليس كذلك في العارية، لأن المستعير متى أأراد افتكاك رهنه رد العارية، فإن تلفت العارية اعطى قيمتها وافتك رهنه، فبان أن هذا خلاف ضمان الدرك، وقلنا لا فصل بين أن يتبرع بالرهن، وبين أن يطلب المعير لأنهما إذا تراضيا به، وتعاقدا عليه كان الأمر واحد جائزاً وجواز أخذ الرهن على الأعيان المضمونه بالقيمة نحو الغصب والرهن والمختلغ عليه، وبه قال أبو حنيفة.
مسألة:

(88/9)


قال: وإذا أذن المرتهن للراهن في بيع رهنه كان ذلك فسخاً لرهن، فإن تلف قبل البيع لم يضمنه المرتهن.
إعلم أن هذا الإذن يكون على وجهين قد يكون له أن يبيعه، ويتصرف في ثمنه كيف شاء، وقد يأذن له ان يبيعه، ويجعل ثمنه رهناً بدلاً من العين، أو يوفي حقه من ثمنه، فإن كان على الوجه الأول فهو الذي أراد في المسألة فيجب أن يكون الرهن منفسخاً، ويسقط ضمانه على المرتهن، وذلك أنهما قد تراضيا بأن لا يتعلق حق المرتهن بالرهن، وليس الفسخ له أكثر من ذلك، وإن كان على الوجه الثاني فهو رهن بحاله إلى يقع البيع.
مسألة:
قال: وإن رهن أرضاً فيها زرع بينه وبين الزارع فأدخل الزرع مع الرهن كان ذلك فاسداً، وهذا على إبطال رهن المشاع وأن الرهن فيه يكون مشاعاً بين صاحب الأرض والزرع، وهو الصحيح الذي نقول به.
قال: وإن رهن الأرض وحدها كان ما يحصد له من الزرع رهناً مع الأصل، وهذا يجب أن يكون المراد به إذا كان الزرع كله لصاحب الأرض فرهن الأرض ولم يذكر الزرع فيدخل الزرع في الرهن كما يدخل سائر النما على ما تقدم القول فيه.
فإن قيل: فإذا لم يدخل الزرع في البيع فكيف يدخل في الرهن.
قيل له: لأن بيع الأرض يصح دون الزرع ولا يصح رهنها دون الزرع فحملنا عقد الرهن على الصحة وأوجبنا الرهن فيه لأنا نحمل عقود المسلمين على الصحة كما بيناه والأولى ان يحمل هذا على أنه رهن الأرض ولا زرع بها ثم زرع.
مسألة:
قال: ولو أنه رهن رجل أرضاً فغلب عليه العدو، وأخرجوا أهل البلد من البلد فلم يقدر الراهن، ولا المرتهن على الأرض بطل الرهن، وكان مال المرتهن على الراهن قلنا إن المرتهن لا يضمنها ويكون حقه على الراهن، لأن الأرض المرهونة لم تتلف، ولم تستهلك، وإنما حيل بينه وبينها مع أنها قائمة بعينها فلا معنى لتضمينها المرتهن، وهي قائمة بعينها لم تستهلك، ولم تتو، وإذا لم يضمنها المرتهن لم يتو حقه الذي كان على الراهن.

(88/10)


وقلنا: إنه قد بطل الرهن لأن من شرط الرهن أن يستمر فيه القبض على ما تقدم القول فيه، ولهذا أبطلنا رهن المشاع فلما حيل بينه وبينها صارت خارجة عن قبضه، فخرجت عن أن تكون رهنا، وقد نص في الفنون على أن الرهن لو كان مما ينقل فغلب عليه العدو أن المرتهن يضمنه، فدل ذلك من مذهبه على أنه لا يوجب ضمان الرهن المغصوب، كما كان إليه أبو حنيفة.
مسألة:
قال: ولو أن ردلاً رهن رجلاً جارية فولدت، وأقر سيدها بالولد انفسخ الرهن، فكلما لم يجز بيعه لم يجز رهنه، لا خلاف بين المسلمين أن مالا يجوز بيعه لا يجوز رهوه، لأنه لا يجوز تعلق الحق برقبته، ومن حكم الرهن أن يتعلق الحق برقبته، فإذا كان ذلك كذلك لم يصح رهن أم الولد، وإذا أقر بعد دفعها إليه أنها أم ولد صح اقراره لأنه أقربها، وهي في ملكه فبطل الرهن، لا على أنه كان رهناً، ثم انفسخ ولكن على معنى أنه انكشف أنه لم يكن رهناً يوم عقد، والذي يقتضيه مذهب يحي أن الراهن إن كان موسراً كان عليه أن يؤدي إلى المرتهن دينه، أو يجعل قيمته رهناً بدلاً منها، فإن كان معسراً لسعت في قيمتها للمرتهن، ولم ترجع به على سيدها، فإن جعلت قيمتها رهناً بدلها سعى الولد أيضاً بقيمته ورجع بها على المقر به، وإن جعلت قيمتها قضاء للدين سعى الولد بالأقل من قيمته.
مسألة:
قال: ولو أن المرتهن اشترط على الراهن أنه لا يضمن الرهن إن تلف، أو لا يضمن بعضه كان الشرط باطلاً، وكذلك إن اشترط الراهن على المرتهن أنه لا يضمن للمرتهن ماله من الفضل عن الرهن إن تلف كان الشرط باطلاً.
إعلم أن عقد الرهن اقتضى الضمانين على ما سنبينه بعد، فإذا شرط اسقاطهما، وعقد الرهن قد اقتضاهما بطل الشرط كالمضارب لو اشترط الضمان بطل شرطه، لأن عقد المضاربة اقتضى أن لا ضمان، وكذلك المودع لو اشترط ضمان الوديعة بطل شرطه، لأن عقد الإيداع اقتضى أن لا ضمان.
على أنه لا خلاف فيما ذكرنا عند من رأى تضمين الرهن.

(88/11)


باب القول في تلف الرهن وانتقاصه وانتفاع المرتهن به
كل رهن كان فاسداص في الأصل فتلف، أو تلف بعضه كان ذلك من مال الراهن، وكل رهن كان صحيحاً فتلف، أو تلف بعضه ضمنه المرتهن.
والمرتهن والراهن يترادان الفضل لا خلاف أن الرهن الفاسد لا يضمن لأن الحق لا يتعلق به فيكون بمنزلة الوديعة.
وأما الرهن الصحيح فقد اختلف فيه، ومذهبنا ما ذكرناه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه أن مقدار الدين منه مضمون، فإن نقص عن الدين رجع المرتهن على الراهن بما نقص، وإن زاد بطل، وكان المرتهن فيه أميناً، وقال الشافعي: هو أمانه، وبه قال الناصر، وقد أجمع الصحابة على ان الرهن مضمون، فروي عن علي عليه السلام: (أن الراهن والمرتهن يترادان الفضل)، وروي عنه عليه السلام مثل قول أبي حنيفة وأصحابه.
وعن شريح: الرهن بما فيه، ولو خاتم من حديد، فحصل منهم الإجماع على الضمان، وإنما اختلفوا في كيفية الضمان، والقول أنه غير مضمون خروج عن اجماعهم.
على أن قول علي عليه السلام عندنا حجة، وقد ثبت عنه التضمين، وإنما اختلفت الرواية في كيفية الضَّمان.
ويدل على ذلك قول الله تعالى: (فرهان مقبوضه فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته)، ففصل بين الرهن والأمانة، فعلم أن الرهن ليس بأمانة، وإذا لم يكن أمانة كان مضموناً.
وروي أن رجلاً رهن رجلاً فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنفق عنده، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال للمرتهن: (ذهب حقك)، دل على أن الرهن مضمون.
فإن قيل: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أراد بقوله: (ذهب حقك)، من الرهن، والوثيقة، فلا يككون لك مطالبة برهن آخر.
قيل له: هذا بعيد لأنه لم يكن له مطالبة برهن آخر مع وجود الرهن، فلو ككان المراد ما قلت لقال: لا يعود حقك، ولم يقل: ذهب حقك، فإن الحق الذي اشترت إليه ككان ذاهباً مع وجود الرهن.

(88/12)


وكذلك إن قيل: لعل الرجل كان معسراً لم يكن يملك شيئاً غير الرهن فلما تلف قال: ذهب حقك، أي لا تصل إليه؟
قيل له: وهذا أيضاً مجاز، لأن حقه ثابت عنده، وإنما منع الإعسار من الإستيفاء، فلما كان الأمر في هذين السؤالين على ما بيناه ثبت أن الصحيح ما ذهبنا إليه من ذهاب حقه من الدين، إذ هو الحقيقة، وخطابه صلى الله عليه وآله وسلم محمول على الحقيقة دون المجاز، فصح ما ذهبنا إليه، ويدل على ذلك أيضاً قوله: (لا يغلق الرهن لصاحبه غنمه، وعليه غرمه)، والغلق الهلاك عند اهل اللغة. قال كثير:
... غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... ... ... غلقت لضحكته رقاب المال
أي هلكت، فأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنها لا تهلك، ولا يخلو المراد من أن يكون لا تهلك عيناً أو حكماً، ومعلوم أنه لم يرد به أن عينه لا تهلك، فيجبأن يكون المراد به لا تهلك حكماً، ولا وجه لذلك غير ضمان قيمته.
فإن قيل: إنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد إبطال حكم كان في الجاهلية، وهو ان الراهن ككان يقول إن لو أوفك حقك إلى يوم كذا فالرهن لك.
قيل له: وهذا التأويل تابع تأويلنا فنقول بهما جميعاً.
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (له غنمه وعليه غرمه)؟
قيل له: ككذلك نقول: إن النماء والفوائد تكون له ملكاً، وإن كان رهناً وما يغرم عليه من المؤن يككون من مال الراهن، ونقول أيضاً: إنه إن نقص الرهن عن ادين كان غرمه على الراهن أي عليه أن يجبر النقصان عن الدين بالإيفاء، فإن كان زائداً على الدين رجع به على المرتهن، فيكون غنمه له، وغرمه عليه، وهذا أحد ما يستدل به على أنهما يترادان الفضل، ونقول إن الغنم مأخوذ من الغنيمة فما زاد من الرهن على الدين فهو غنم للرهن.
فإنت قيل: روي أنه قال: (الرهن من الراهن)، ولا يجوز أن يككون المراد به انه ملك له لأنه مستفاد بالإجماع فيجبأن يكوه المراد تلفه من الراهن أي من عنده.

(88/13)


قيل له: ما يستفاد بالإجماع يجوز ان يكون مستفاداً من الخبر، فيكون الإجماع صادراً عن الخبر فبطل تعلقهم به.
ويدل على ذلك أن المبيع لما كان محتبساً بالثمن كان الرهن محتبساً بالدين، والعلة أن كل واحد منهما محتبس بمال الحابس متعلق برقبته ولا يلزم عليه المستأجر لأنه ليس محتبس بمال.
فإن قيل: المبيع مضمون بالثمن والرهن عندكم مضمون بالقيمة فلا يصح القياس؟
قيل له: نحن إنما عللنا للضمان فقط، فأما كيفية الضمان فهو كلام آخر، وأيضاً احتباس الرهن لما لم يصح إلا بمضمون ككالدين ونحوه وجب أن يكون مضموناً كالمبيع لما لم يصح احتباسه إلا لمضمون وهو الثمن كان مضموناً ويقاس على العبد الجني فيقال إذا تلف العبد تلف الحق لتعلقه بمال، وكذلك إذا تلف الرهن تلف الحق بمال، ولا يلزم عليه تلف الضامن لأنه ليس بمال، ويجوز أن يكون غير مال.
فإن قيل: لو تعلق الرهن بالحق لكان في براءة المرتهن من الرهن ابطال للحق رأساً، كما أن براءة المجني عليه من العبد ابطال للحق.
قيل له: لا يمتنع أن يكون التعلق على وجوه، ألا ترى أن الحق يتعلق بالضامن، وابراؤه لا يسقط الحق، ويتعلق بالمحتال عليه، واراؤه يسقط الحق فبان أن التعلق يختلق، ونحن عللنا للتعلق.
فإن قيل: لو كان صحيح الرهن مضموناً لوجب أن يكون فاسده مضموناً، كالوادئع والغصوب، ومال المضاربة، لأن الصحيح كالفاسد فقي باب الضمان.

(88/14)


قيل له: هذا غلط فاحش، وذلك ان الإعتبار في جميع ذلك بالمعنى الموجب للضمتان، أو المسقط، فإن جمع المعنى بين الصحيح والفاسد اجتمعا في الضمان والسقوط، وإن افترق افترقا، ألا ترى أن صحيح المضاربة لا يقتضي الضمان، وفاسده يقتضي الضمان عندنا وعند أبي يوسف ومحمد، لأنه يصحير في حكم الأجير المشترك، وعندنا وعنهما أنه ضامن، وإذا فسدت الوديعة ضمنت؛ لأنها تكون في حكم الغصب فلم يمتنع أن يكون فاسد الرهن يخالف صحيحه؛ لأنه بالفساد مخرج عن كونه رهناً، كما خرجت الوديعة بالفساد عن كونها وديعة، وكذلك العارية الفاسدة عندهم لا تضمن كعارية الحر.
فإن قيل: اعتلالكم بأنه محبرس بالدين يوجب أن تكون فوائد الرهن مضمونه كالولد والثمر، لأنها عندكم محبوسة كالأصل.
قيل له: كذلك نقول فلا سؤال علينا فيه، وهكذا إن سألوا عن زيادة الرهن على الدين، لأنها عندنا مضمونة، لأنما نوجبأن يترادا الفضل، وأيضاً لما لم يصح الرهن غلا بما يكون مضموناً من الدين ونحوه، ولم يصح بالإعيان كالوديعة ونحوها، إذ بهلاكه لا تهلك الأعيان علم أن بهلاك الرهن يهلك الدين إذ لو لم يهلك به، لم يصح كما لا يصح في الأعيان، وأيضاً الرهن بدل من الدين، والدين مضمون كالثمن، لما كان عوضاً للمبيع، والمبيع مضمون، وجب أن يكون الثمن مضموناً، ولا يصح قول من يقول: إن الرهن بدل من الكتابة والشهود لأنها قد تجتمع، وأيضاً الرهن مقبوض للإستيفاء، فإذا هلك وجبأن يحصل الإستيفاء لأن كل مقبولض على وجه إذا تلف حصل ذلك الوده، ألا ترى أن المقبوض من المبيع والغصب لما كان مقبوضاً على وجه المضان كان تلفهما موجباً للضمان.
فإن قيل: فالمستأجر مقبوض لاستيفاء المنافع، وإن تلف لا يوجب استيفاؤها؟

(88/15)


قيل له: هو مقبوض لاستيفاء المنافع مع بقائه إذ يستحيل ذلك مع تلفه فلا يلزم ما ذكرت، ألا ترى أنه لو تلف على الوده الذي قلت كانت المدافع في حكم المستوفاة مدة بقائه، وإن لم تكن مستوفاة إذا تلف على الوده الذي قبض، ألا ترى أن من استأجر عبداً للخدمة فتسلمه ولم يستخدمه ثم تلف تكون الخدمة في حكم الحاصل مدة بقائه.
فإن قيل: فيما قلناه من حبس المبيع للثمن إن العلة في سقوط الثمن بتلفه أن الثمن مقابل للمبيع فلما لم يحصل المبيع للمشتري لم يحصل الثمن للبائع؟
قيل له: ليس الأمر كما قلتم، وذلك المبيع قد حصل للمشتري بالشراء، واستحق البائع عليه الثمن، ولكنه لما كان محبوساً للإستيفاء، وتلف تلف ما تعلق به، ألا ترى أنه لو سلمه البائع، ولم يحتبسه لم يتلف الثمن بتلفه، على أنا لو لم نضمن المرتهن كنا قد ألزمنا الراهن غرمين غرماً للدين، وغرماً للرهن، ولا يلزم غرمان لحق واحد.
ووجه ما قلناه من أنهما يترادان الفضل قوله: (لصاحبه غنمه وعليه غرمه)، فدل ذلك على انه يغرم النقصان، ويغنم الزيادة، ويتحصل عليها، وأيضاً إذا ثبت بالأدلة التي قدمناها أن الرهن مضمون وجب أن يكون جميعه مضموناً كالغصب والقرض والمبيع والثمن، يوضح ذلك أن مالم يضمن بعضه كالوديعة، ومال المضاربة لم يضمن باقيه، وما ضمنه بعضه مما ذكرناه ضمن باقيه، ولم نجد في الأصول مضموناً يضمن بعضه ولا يضمن باقيه، وإذا ثبت ذلك وثبت أن الرهن يضمن بعضه ثبت ان جميعه مضمونن وأيضاً لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة وأصحابه أن الرهن إذا كان مثل الدين أو دونه، يكون جميعه مضموناً فكذلك إذا زاد على الدين، والعلة أنه رهن صحيح فوجب أن كيون جميعه مضموناً.
او عين حصل فيه الضمان فوجب أن يكون جميعه مضموناً.
فإن قيل: إذا كان مقبوضاً للإستيفاء وجب أن يكون أميناً في الفضل لأنه لا يجوز أن يستوفي من جميعه بل ن مقدار الدين.

(88/16)


قيل له: الجميع مقبوض للإستيفاء ومحبوس به، ألا ترى أنه لا يفك منه شيء إلا بإيفاء الدين فوجب أن يكون الجميع مضموناً لأنه أيضاً محبوس للإستيفاء ومقبوض لذلك، فكذلك الزائد على مقدار الدين يجب ان يكون مضموناً، لأنه أيضاً محبوس للإستيفاء، ومقبوض لذلك، فأما ما حككي عن شريح من قوله: الرهن بما قيه، فهو قول قد أجمع بعده على خلافه فوجب سقوطه، فلا وجه للإشتغال به، وحكى الكرخي هذا القول عن إبراهيم النخعي، وحكى رجوعه إلى قول أبي حنيفة، ويؤكد ما قلناه أنهما يترادان الفضل بأن الراهن لو أفلس أو مات مفلساً كان الحكم في الرهن ما ذهبنا إليه من غير خلاف فيه، وكذلك لو تلف بتعديه، لأن ما كان مضموناً فلا يتغير حكمه بان يتلف بتعدي الضامن، أو بغير تعديه في أن الضمان يتعلق بجميعه، فكذلك الرهن.
مسألة:
قال: والقول في فوائد الرهن كالولد والثمر الذي يصير رهناً مع الأصل إذا تلف كالقول في الأصل قال أبو حنيفة وأصحابه: إذا تلفت الفوائد تلفت بغير ضمان.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أنه لا خلاف بيننا، وبينه أنها رهن مع الأصل محتبسه باحتباسه لا يفك منها شيء إلا بإيفاء جميع الدين، فإذا ثبت ذلك كان جميع ما قدمناه يتضمن الرهن من دلالة الكتاب والسنة والخبر أدلة على وجوب ضمان الفوائد.
فإن قيل: إن النماء دخل في الرهن على سبيل التبع فلا يجب أن تكون مضمونة كولد المبيعة.

(88/17)


قيل له: ليس الإعتبار بكونه تبعاً بل الإعتبار في ان يشارك الأصل فيما أوجب الضمان، أو لا يشار له، وقد علمنا أن ولد المبيعة لم يشارك الأم فيما أوجب الضمان لأن ضمانها بالثمن إنما كان لأن الثمن ثمن لها، والولد لم يشاركها في ذلك، لأن الثمن ليس بثمن له، وفوائد الرهن قد شاركت الرهن في سبب الضمان فوجب أن تكون مضمونة، لأن سبب الضمان هو الإحتباس بالدين، ألا ترى ان ولد المغصوبة إذا لم يشارك الأم في الغصب لم يكن مضموناً، فإن شاركها بأن منع من صاحبه، أو تصرف فيه الغاصب صار مضموناً كالأم.
ومما يوضح الفرق بين ولد المرهونة، وولد المبيعة أن ولد المبيعة لا يصير مبيعاً فلا يجب أن تصير أحكامه أحكام الأم من كل وجه، وولد المرهونة يصير مرهوناً فيجب أن يصير أحكامه أحكام أمه.
على أنا قد علمنا أن للمبيعة والمرهونة حكمين أحدهما: الإحتباس بحق يعلق بهما وهو الحكم الذي اختص ذاتهما، فوجب سرايتهما سرايتهما إلى ولديهما لما بينهما من البعضية.
والثاني: الضمان، وهو أمر منفصل عنهما فيجب أن ينظر في سرايته، فالولد الذي شارك الأم فيما أوجب الضمان يجب أن يكون مضموناً، وضمان المبيعة يتعلق ثمنها بها، والولد لم يشاركها في هذا المعنى، لأنه لا يكون مبيعاً، ولا يكون الثمن ثمنه، فلم يجب أن يكون مضموناً، وولد المرهونة مرهون فقد شارك الأم فيما أوجب الضمان فيجب أن يكون مضموناً.
مسألة:

(88/18)


قال: وليس للراهن ان يزرع الأرض المرهونة بغير إذن المرتهن، فإن زرعها كان الزرع رهناً مع الأصل، فإن تلف لم يضمنه المرتهن، وليس للراهن ذلك لأنه إخراج للرهن من يد المرتهن، ولا يجوز ذلك، فإن فعل الراهن بغير علمه، وزرع واحتمل وجب أن يكون الزرع رهناً مع الأرض، ولا يضمنه المرتهن إن تلف في يد الراهن، لأنه لا وجه لأن يضمن الشيء وهو في يد مالكه على ما بيناه في إعارة المرتهن الراهن رهنه، فغن زرعها المرتهن بإذن الراهن كان الزرع رهناً مع الأصل، ويضمنه المرتهن إن تلف، وهذامعناه أن يزرع للراهن بإذنه فيكون الزرع للراهن فيصير رهناً مع الأصل، ويضمنه لأنه في يد المرتهن، قال: فغن زرعها المرتهن بغير إذن الراهن كان للمرتهن ما للزراع، وما فضل من الزرع عنه كان للراهن فلا يكون رهناً، وهذا معناه ان الزرع يكون للزارع، والمراد بقوله ما فضل هو ما لزم الزارع المرتهن من كراء المثل، قال: ولا يكون رهناً لأنه في ذمة المرتهن، ولم يتحصل عيه.
مسألة:
قال: وإن رهن رجل رجلاً رهناً على دين له مؤجل فتلف الرهن قبل حلوله، وكانت قيمة الرهن دون لم يكن للمرتهن ان يطالب الراهن بالفضل الذي له قبل حلول الأجل، وذلك ان ادين لم يجب توفيره قبل حلول الأجل، وكذلك الباقي حكمه في ذلك حكم سائره.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً رهن رجلاً أكليلاً من ذهب فانشدخ الإكليل بغير جناي لأحد، نحو أن يسقط عليه جدار، أو ما أشبهه، ولم يكن نقص من وزن الذهب شيء، ولا كان فيه جواهر فانكسر لم يكن المرتهن ضماناً لانكساره، فإن كان نقص من وزنه شيء، أو كان فيه جوهر فانكسر ضمن المرتهن ما نقص من وزنه وانكسر من جوهه.
إعلم أن هذا إذا كان أكليل من ذهب مرهوناً على الدنانير، أو أكليل من فضة مروناً على الدارهم، فالأصل فيه أن الفضة إذا لاقت جنسها من الفضة أو الذهب إذا لاقى جنسه من اذهب لم يكن للصنة والجودة قيمة.

(88/19)


يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الذهب بالذهب مثلاُ بمثل وزناً بوزن، والفضة بالفضة مثلاُ بمثل وزناً بوزن)، ألا ترى أن عشرة دنانير مضروبة لا يجوز أن يشترى بها أحد عشر ديناراً تبراً غير مضروب، وإن كانت قيمته عشرة دنانير لضربه وسكته وجودته بل لا يجوز الدينار بالتبر إلا وزناً بوزن، ولا الدرهم بالنقرة إلا وزناً روزن لما قلناه: إن كل واحد منهما إذا لاقى جنسه لم يكن للصنعة والجودة قيمة، فإذا ثبت ذلك فلو ضمن المرتهن مانقص من الإكليل المنشدخ من قيمة كان إنما يضمن بما لاقاة من الدين دون ما سواه، ألا ترى أنه لو كان عنده وديعة لم يضمنه، لأنه لم يلاق الدين، فإذا كان ذلك كذالك لم يجب أن يضمن قيمة الإنشداخ إذا سلم الوزن، وقيل للراهن: أد الدين، وخذ الإكليل المنشدخ، وبه قال أبو حنيفة، ورواه أبو الحسن الكرخي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، وروى محمد أنه قياس قول أبي حنيفة، وقياس قول زفر، ووجهه ما بيناه.
فأما إذا نقص شيء من الوزن، او كان فيه جوهر فانكسر فإنه يضمنه المرتهن لأن نقصان الوزن مضمون على كل حال، ولأن الجوهر كسائر العروض ليس هو من جنس الذهب والفضة فيجب أن يكون مضموناً.

(88/20)


قال: فإن كان انشداخه من المرتهن بجناية منه ضمن المرتهن ما نقصه الهشم من قيمته، وإنما كان ذلك كذلك لأن هذا الضمان هو ضمان الجناية، وليس لملاقاة الرهن الدين، ألا ترى أنه لو كان عنده على سبيل الوديعة لضمنه، فإذا لم يكن الضمان لملاقاة جنسه وجب أن تكون قيمة ما نقصه الهشم مضمونة، وإن كان من الذهب فقيمته من الفضة، وإن كان من الفضة فقيمته من الذهب، لأن الذهب يقوم بالفضة، والفضة تقوم بالذهب، ولا يقوم واحد منهما بجنسه قال: وإن كان بجناية من غيره ضمن الغير ما نقصه هشمه كما بينا أن المرتهن يضمنه، إن كان ذلك بجناية منه، لأنه ضمان الجناية، ولم يلاق الشيء جنسه، قال: ويكون الراهن مطالباً للمرتهن، والمرتهن مطالباً للجاني، لأن الشيء في ضمان المرتهن، فالخصومة فيه بين الراهن والمرتهن، ثم بين المرتهن والجاني، قال: وللراهن الخيار بين أخذ الرهن وقيمة ما نقصه الهشم من غير جنسه، وبين أن يتركه ويأخذ قيمته صحيحاً، وذلك لأنه ضمان الجناية وسبيله سبيل الغاصب، وعند أبي حنيفة ليس له إلا أخذه مهشوماً، أو قيمته من غير جنسه مصنوعاً، وأما إذا كان ألأكليل من ذهب مرهوناً بالدراهم، وأكليل من فضة مرهوناً بالدنانير فيجب أن يضمن المرتهن قيمته مهشوماً سواء كان بجنايته أو بغير جنايته لأن ما ذكرنا من ملاقاة الشيء جنسه قد زال.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً ارتهن ثوباً فقرضه الفار، أو لحقته آفة نقصته ضمن أرش النقصان إن كان له بعد النقصان قيمة، وإن كان لا قيمة له بعد ذلك ضمن قيمة الثوب كله، وهو صحيح، لأن ذلك ضرب من ضروب التلق يضمنه المرتهن.
قال: وكذلك إن ارتهن دار فتهدم بعضها، أو سرق بابها، أو انهدم كلها ضمنه المرتهن، وهذا أيضاً كما مضى يضمنه المرتهن لأنه تلف.

(88/21)


قال: فإن سكن الدار المرتهن سقط عن الراهن مقدار اجرة سكناه، وإن استغرق الأجرة الدين سلمت الدارإلى الراهن، فهذا على قوله: إن الغاصب يضمن كراء المثل إذا انتفع بالمغصوب على ما نبينه في كتاب الغصوب، وهذه الدار وإن كانت رهناً فليس للمرتهن إلا احتباسها عنه، وهو فقي باب ليس له إلا الإمساك ولاحفظ بمنزلة الوديعة فإن تصرف فيه كان بمنزلة الغاصب، فإذا سكنها يلزمه من الكراء ما يلزم الغاصب من ذلك فسقط عن الراهن من الدين بمقداره لأنهما يتقاصان ذلك، فإذا بلغ ما يلزمه من كراء المثل مقدار الدين كله سقط جميعه لأن المرتهن يكون قد استوفاه، وخرجت الدار عن الرهن، لأنها لا تكون رهناً، ولا حق للمرتهن على الراهن لأنا لو قلنا: إن له حقاً، لكنا جعلناها محبسة لِلا شيء، وهذا فاسد بالإجماع، قال: وكذا القول إن أكرى الدار فاستغلها المرتهن، واستهلك غلتها، فإن لم تستهلك غلتها كانت الغلة رهناً مع الأصل على ما بينا من كون الفوائد رهناً كالأصل، فإن تلفت ضمنها المرتهن على ما بيناه من القول بان الفوائد مضمونة كالأصول على ما تقدم القول فيه.
قال: وليس للمرتهن أن ينتفع بالرهن نحو ان يركبه إن كان مركوباً، أو يلبسه إن كان ملبوساً، أو يسكنه إن كان له سكنى أو غير ذلك، فإن قعل شيئاً من ذلك سقط مقدار ذلك من الدين، وكل هذا قد تقدم بيانه، وجملة القول أن الرهن في يد المرتهن ككالوديعة إلا في أمرين أحدهما:ك الضمان، والثاني: أن للمرتهن منع الراهن من أخذه حتى يستوفي دينه، وإلا ففي باقي الأحكام هو بمنزلة الوديعة.
قال: ولا فصل في ضمان المرتهن بين ان يهلك الرهن، او يستهلكه المرتهن، ولا بين الرهن وفوائده في ذلك كله، وهذا كله قد بيناه إلا في رهن الذهب بالذهب، والفضة بالفضة فقد بينا الفصل فيهما بين ضمان التلف وبين ضمان الإستهلاك، وإلا فالأمر في غير هذه المسألة سواء.
مسألة:

(88/22)


قال: ولو أن مرتهناً شج عبداً ارتهنه موضحة ضمن نصف عشر قيمة العبد، وهذا ضمان الجناية، لأنه لو لم يكن رهناً وكان وديعة ضمنه المودع وقال: إنه يضمن نصف عشر القيمة، لأن الحر إذا شج موضحة وجب نصف عشر الدية، والقيمة في العبد كالدية في الحر وهذا مما نستقصيه ونوضح الكلام فيه في باب الديات.
مسألة:
ولو انه رهنه عبداً يساوي الفاً على ألف، ثم جاءه الرهن بجارية تساوي ألفاً، وقال: خذها بدل العبد فرضي المرتهن فماتت قبل رد العبد سلم العبد إلى الراهن، وكانت قيمتها تسقط الدين.
تفصيل المسألة:
أن الرهن هو الثانية، والعبد قد خرج عن كونه رهناً قال أبو حنيفة: الرهن هو الأول والثانية أمانة حتى يقبض الأول، والأصل في هذا أن الرهن لا يككون رهناً إلا بحصول ثلاثة أشياء عقد الرهن على التراضي، ووجوب الحق، وحصول القبض، ويخرج الرهن عن كونه رهناً بزوال كل واحدة من الثلاث.
أما سقوط الدين بالإبراء والإستيفاء فلا خلاف أن الرهن خارج عن كونه رهناً، وكذلك إذا زال القبض خرج عن كونه رهناً كما نص يحي عليه السلام في الأرض المرهونة إذا غلب عليها العدو أنها تخرج عن كونها رهناً، ويدل على صحة هذا انه لا خلاف بيننا في القول الصحيح وبين أبي حنيفة أن رهن المشاع لا يصح، والعلة أن القبض لا يدوم بل يزول، فلولا أن زوال القبض يخرج الرهن عن كونه رهناً لم تصح العلة وصح رهن المشاع، فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون رفع العقد والرضاء بالتفاسخ مخرجاً له من كونه رهناً لأنه أخذ مالا يكون الرهن رهناً إلا به، فإذا صح ما ذكرناه فالرهن الأول قد خرج عن كونه رهناً بحصول رضاهما بالتفاسخ، ورفع العقد وصار الثاني رهناً بحصول العقد والقبض مع وجوب الحق فصح ما ذهبنا إليه من أن الثاني هو الرهن دون الأول.
مسألة:

(88/23)


قال: ولو أن رجلاً غصب عبداً، ورهنه رجلاً، وجاء صاحب العبد قضي له بعبده، وطالب المرتهن الراهن بحقه، فإن جاء صاحب العبد وقد تلف العبد في يد المرتهن، وهو لا يعلم أنه غصب قضى لصاحب العبد على الغاصب بقيمة عبده، وقضي للمرتهن بدينه على الراهن الغاصب لا خلاف انه يقضى لصاحب العبد بعبده، لأنه غصب عليه، وللمرتهن أن يطالب الراهن بحقه، لأن الرهن لم يكن رهناً، وقد أخرج بحق واجبن فإن تلف العبد في يد المرتهن وهو لا يعلم انه غصب قضى لصاحب العبد على الغاصب لقيمة عبده لا خلاف فيه كما يقضى عليه بسائر الغصوب التالفةن ولصاحب العبد إن شاء ان يطالب المرتهن الذي تلف العبد في يده ويرجع هو بقيمته على الراهن، لأنه مغرور وكونه مغروراً مما يجب ان ينظر فيه فضل نظر، ولم يذكره يحي عليه السلام إذا كانت القيمة تلزم الغاصب على الأحوال كلها، ويق ضى للمرتهن بدينه على الغاصب، لأن التالف لم يكن رهناً صحيحاً فلم يجب ان يضمنه المرتهن.
قال: ولو كانت المسألة بحالها، وكان قد علم المرتهن أن الرهن غصب كان المستحق بالخيار إن شاء طالب بقيمة العبد الغاصب الراهن، وإن شاء طالب بها المرتهن فإن طالب الراهن والمرتهن رجع المرتهن بدينه على الغاصب الراهن تخريجاً.
ووجهه أن الراهن والمرتهن غاصبان جميعاً فلصاحب العبد مطالبة من شاء منهما، وأيهما طالب كان حق المرتهن من الدين ثابتاً على الراهن لفساد الرهن، ولأن تلف الرهن الفاسد لا يوجب الضمان.
مسألة:

(88/24)


قال: ولو ان رجلاً ارتهن ثوباً من رجل على عشرة دراهم ثم باعه المرتهن بخمسة عشر درهماً بغير أذن الراهن ففر المرتهن قضي بالثوب للراهن، وقضي للمشتري عليه بعشرة دراهم، وقضي بالفضل على من باعه يقضى للراهن بالثوب لأنه ملكه، وحكم الرهن قد انفسخ عنه بما كان من المرتهن من إخراجه عن قبضه على وجه أوجب القبض لغيره فلا وجه لحبسه عن الراهن، ويفضي الحاكم على المرتهن بما أخذه على المشتري وإن كان غائباً لأن القضاء على الغائب جائز، ويأخذ من الراهن ما عليه وهو عشرة دراهم، ويسلمه إلى المشتري، فإن وجد الحاكم للمرتهن الغائب مالاً وفر منه ما بقي للمشتري وهو خمسة دراهم، وإن لم يجد قضي عليه بذلك وترك إلى حين الإمككان.
قال: وكذلك القول لو كان المرتهن رهنه على خمسة عشر الحكم في هذا الحكم في الأول لاستواء الأحوال.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً استعار من رجل ثوباً يساوي خمسين درهماً، على ا، يرهنه بعشرين درهماً فرهنه على ذلك، فتلف عند المرتهن قضي للراهن بثلاثين درهماً على المرتهن وللمعير على الراهن بقيمة الثوب وهو خمسون درهماً، وذلك أنه حصل للراهن عوضاً من الثوب خمسون درهماً ثلاثون درهماً ما أخذ من المرتهن، وعشرون درهماً من ما سقط من ذمته فوجب ان يرده على المعير، لأنه بمنزلة رجل أذن لآخر في أن يقضي دينه وينتفع بوديعة له على وجه القرض فما حصل له من عوض الوديعة يلزمه رده على المودع، وككذلك إن تصرف فيه وباعه فكذلك العارية.
وكذلك لو أأن رجلاً أتلف عارية عند رجل فما أخذ من قيمتها لزمه ردها على المعير.
قال: فإن كان المستعير لما استعاره لبسه لبساً نقص من قيمته عشرة دراهم، ثم رهنه على عشرين درهماً، لأنه القدر الزائد على دينه.

(88/25)


قال: ولو أنه لما استعاره استأذنه في لبسه مدة قبل أن يرهنه فأذن له فيه فلبس لبساً نقص بعشرة دراهم، ثم رهنه على عشرين، ثم تلف قضى للراهن على المرتهن بعشرين درهماً، وللمعير على المستعير الراهن بأربعين درهماً، وذلك أن عشرة دراهم التي نقصت من الثوب لا ضمان على المستعير فيها، لأنه لبسه بغذن المعير ولم يكن اشترط الضماان.
وباقي المسألة الكلام فيها كالكلام الأول.
قال: وكذلك إن استعار منه شيئاً ولم يستأذنه في رهنه فرهنه فتلف، او نقص قضي للمعير على المستعير بعقيمة ما نقص أو تلف، وكذا القول إن استعاره ثم باعه وتلف عند المشتري.
ولوجه في هذه كله أنه قد تعدى فيه فهو بمنزلة الغاصب يلزمه ما يلزم الغاصب، وهو الذي ذكره وبينه.
مسألة::
قال: ولو أن رجلاً دفع إلى رجل ثوباً فقال: أرهنه عند فلان على عشرة دراهم فاخذه منه فمضى إليه على طريق الرسالة، فأخذ منه الدين، ورهن عنده الثوب على ذلك فتلف عنده الثوب، أو لم يتلف، كانت المعاملة بين المرتهن وصاحب الثوب المرسل دون الرصول إذا أقر صاحب الثوب بذلك، فإن كان الرسول أخذ منه العشرة، ويطالب صاحب الثوب الرسول بما يجب عليه في ذلك.

(88/26)


والأصل في هذا أن الوكيل في الهبة والإستيهاب والقرض والإستقراض والإيداع والرهن والإرتهان وما أشبهه مما لا بدل له كإبدال البيع والشراء والإجارة وما أشبهه تنقطع وكالته بعد ما يفرع من ذلك فلا يتعلق عليه شيء من حقوقه، والوككيل في الإستيهاب والإستقراض والإعارة والإرتهان والرهن يجب ان يضيف إلى موكله، فيقول: أقرض فلاناً، أوهب لفلان، أو أعر فلاناً، أو ما جرى مجراه، فإن لم يفعل ذلك كان ذلك كله له كما يقول: زوج فلاناً، أو طلقتك عن فلان، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه: والفصل بين هذه الأشياء وبين الشراء والبيع أنه في الشراء لا يحتاج إلى أن يضيف الشراء إلى من هو مشتر له، ولا البيع، ولا بد ان يضيف سائر ما ذكرناه إلى الموكل، فإذا ثبت ذلك فالرسول الذي هو الوكيل بان يرهن ويستقرض، عليه إذا اضافه إلى الموكل والمرتهن، وإذا لم يضف ذلك إلى الموكل، وقع ذلك فيكون هو الخصم ويكون القرض له إن شاء أن يقرض الموكل فعل، وإن شاء لم يفعلن ولرب المال أن يطالبه بما أعطاه، والمعاملة بين الوكيل والمرتهن فيما بينهما، وبين الموكل والوكيل فيما بينهما.
مسألة:
قال:: ولو أن رجلاً رهن رجلاً جارية فتلفت عنده قومت على المرتهن يوم ماتت زادت قيمتها أو نقصت لمرض أو نحوه، وتككون القيمة وسط القيم.
إعلم أنه ليس المراد بهذا أنها تقوم يوم التلف زائدة كانت أو ناقصة فيقتصر على قيمتها، ولكن المراد ان وقت التقويم وقت التلف، وإن كانت زائدة قومت زائدة، لأن زيادة الرهن عنده مضمونة كما مضى في فوائد الرهن، وإن كانت ناقصة قومت وقوم أرش النقصان.

(88/27)


قد نص يحي عليه السلام على أن المرتهن ضامن لما تلف من الرهن، أو نقص، وإنما قالك إن التقويم في جميع تلك الوجوه يعتبر في حال التلف لأنه حال الضمان، لأن الضمان يكون على وجهين ضمان التعدي، وضمان التلف، فكما أن ضمان التعدي يجب أن يككون وقت التعدي، ككذلك يجب أن يكون ضمان التلف في وقت التلف، ووجوب التقويم أبداً تابع لوجوب الضمان، وهذا كما قال أبو حنيفة، ومحمد، فيمن استهلك مالاً لغيره ثم انقطع من أيدي الناس، أن قيمته يوم وجوب القيمة، وإن اختلفا في وقت وجوب القيمة فقال أبو حنيفة: هو وقت الخصومة، وقال محمد: هو وقت انقطاعه من أيدي الناس، أن قيمته يوم وجوب القيمة، وإن اختلفا في وقت وجوب القيمة فقال أبو حنيفة: هو وقت الخصومة، وقال محمد: هو وقت انقطاعه من أيدي الناس، فأجمعا على ان القيمة قيمته يوم وجوب القيمة بوجوب الضمان، لأنه لا وجه لاعتبار قيمته، والضمان لم يحصلن وإنما حصل سبب الضمان، والقيمة تابعة للضمان.
باب القول في اختلاف الراهن والمرتهن
قال: وإذا تلف الرهن عند المرتهن فادعى ان قيمته كانت الفا، وادعى الراهن أنهاا كانت ألفين، كانت البينة على الراهن، واليمين على المرتهن، ووجهه أنهما اتفقا في ألف، فاستقر ذلك، وصار الراهن يدعي ألفاً آخر، والمرتهن ينكره، فالبينة على المدعين واليمين على المنكر.
على أنه ممالا خلاف فيه، ولا يجوز ان يكون المرتهن أسوأ حالاً من الغاصب، ولو ككان بدل الرهن غصباً لكان الحكم ما ذكرنا.
قال:: فإن قال المرتهن: ارتهنته على ألف، وقال الراهن: أرتهنته على خمسمائة كانت البينة على المرتهن واليمين على الراهن، لأنهما قد اتفقا على خمسمائة، وادعى المرتهن خمسمائة أخرى، وأنكرها الراهن، فالبينة على مدعي الفضل على ما تقدم بيانه في المسألة الأولى.
مسألة:

(88/28)


قال: وإذا رهن رجل رجلاً شيئاً فظهر به عيب فادعى كل واحد منهما أن العيب حدث عند صاحبه، فغن كان الرهن قائماً بعينه كانت البينة على الراهن، واليمين على المرتهن، وإن كان الرهن قد تلف كانت البينة على المرتهن واليمين على الراهن.
أما وجه المسالة الأولى فظاهر، وذلك أن الراهن يريد أن يلزم المرتهن ضماناً وهو منككر له فوجب أن تكون البينة على الراهن إذ هو المدعي، ألا ترى أنه لو ادعى عليه غصباً أو خيانة في الغصب مع قيام عينه، أو خيانة في الوديعة كاكنت البينة على مدعي الضمان واليمين على المنكر له.
وأما المسألة الثانية فوجهها أن يقع التجاحد بينهما في الدين، والرهن وثيقه الدين، وهو ان يقل المرتهن: كان ديني ألفاً، ورهنك لو ككان صحيحاً يساوي له الراهن بشيء من ذلك، بل يقول:: قد كان لك دين ولي رهن، وليس لكك علي اليوم إلا مائة درهم، فإن أتى المرتهن بالبينة على ما قال ثبت ما ادعاه، وإلا ككان القول قول الراهن مع يمينه، فأما إن تصادقا في الدين وقيمة الرهن صحيحاً ومع العيب واختلفا في العيب أنه كان حادثاً عند الراهن أو المرتهن فيجب أن يكون القول قول المرتهن مع يمينه، وأن تككون البينة على الراهن سواء كان الرهن باقياً، أو تالفاً لما بيناه في المسألة الأولى.
مسألة:
قال: ولو أن مرتهناً قال: رددت الرهن على الراهن، وأنككره الراهن كانت البينة على المرتهن، واليمين على الراهن، وذلك انه قد ثبت بما تقدم أن الرهن مضمون على المرتهن، وككل من كان الشيء في يده على سبيل الضمان فعليه البينة إذا ادعى رده على صاحبه كالمستقرض والغاصب، لأنه يدعي سقوط ضمان ثابت عليه، وعلى الراهن اليمين لأنه منكر.
مسألة:
قال: وإذا خرج المرتهن إلى الراهن ثوباً فقال: هذا رهنك، فأنككره الراهن كانت البينة على المرتهن واليمين على الراهن، فإن ادعى الراهن عنده ثوباً آخر كانت البينة على الراهن، واليمين على المرتهن.

(88/29)


أما في المسألة الأولى فإن القول قول الراهن مع يمينه، لأنه يدعي ان يكون الثوب الذي أخرجه هو الذي يجب إيفاء الدين بقبضه، والبينة على المرتهن، لأنه يدعي عليه أنه يلزمه الخروج من الدين بقبض هذا الثوب، وفي المسألة الثانية القول قول المرتهن مع يمينه، لأن الراهن يدعي عليه ثوباً آخر، وهو منكر له، وهاتان المسالتان مخرجتان على ما فيهما من الإضطراب.
فأما لفظ الأحكام قال: ولو اختلف الراهن والمرتهن فقال المرتهن: رهنت عندي ثوب وشيء، وقال الراهن: رهنت عندك ثوب خز، فالقول قول الراهن مع يمينه، إلا أن ياتي المرتهن ببينة يشهدون على ما ارتهن.
ومعنى هذه المسألة ان يكون للراهن ثوبان ثوب وشيء وثوب خز، وهما حاضران، فيقول الراهن: رهنتك ثوب خز، ويقول المرتهن: رهنتني ثوب وشيء، فيكون المرتهن في ثوب وشيء مدعياً أنه رهنه، ويكون الراهن منكراً ان يكون رهنه، فلهذا قال: القول قول الراهن مع يمينه، لأنه منككر، والمرتهن مدع، فأما قي ثوب خز، فالراهن مقر للمرتهن والمرتهن دافع لإقراره فيبطل اقرار الراهن، ولا يكون فيه على كل واحد منما بينة ولا يمين، لأنهما كرجلين أقر أحدهما بحق صاحبه، وصاحبه دافع لاقراره، ومنككر في أنه يبطل اقراره، ولا يلزم واحداً منهما يمين، ولا بينة.
باب القول في التسليط على الرهن
إذا رهن رجل رجلاً رهناً على دين له، وقال له:: سلطتك على الرهن فبعه إذا جاء وقت كذا، فباعه المرتهن في ذلك الوقت جاز بيعه، وإن كان فيه فضل رده على الراهن، وذلك لأنه توكيل، والمسلط وكيل للراهن في ذلك البيع، فجاز بيعه فيه، وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً، ولا في انه إن كان فيه فضل وجب رده إلى الراهن، لأنه ماله لم يستحقه سواه.

(88/30)


قال: وإن كان الراهن وفي المرتهن بعض دينه نقض به التسليط، فإن باع المرتهن بعد ذلك فعلم به الراهن، وسكت كان ذلك منه رضى ببيع المرتهن، وقوله: إن إيفاء بعض الدين نقض للتسليط، معناه أنه أمارة نقض التسليط لأنه إنما سلطه حين كان جميع دينه قائماً، فكان الإيفاء أمارة للنقض، ويككره له بيعه بحصول الأمارة، فأما النقض الصحيح فلم يقع، فإن رآه الراهن بعد ذلك يبيعه فسكت كان ذلك رضى منه بالبيع لأن سكوته على ذلك يدل على ان الإيفاء لم يكن للنقض ولم يقتضه لأن الإيفاء للبعض لو كان نقضاً لكان السكوت لا يصحح البيع، لأن الغير إذا باع ملكاً لغيره، فلا يصح البيع بسكوت المالك، ولا بد من إجازة تحصل منه زيادة على السكوت.
مسألة:
قال: فإن قال الراهن للمرتهن: إن جئتك بحقك إلى وقت كذا وإلا فالرهن لك كان ذلك باطلاً، وهذا ممالا خلاف فيه، لأنه ليس بتمليك صحيح كالبيع والهبة، وروي أن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يغلق الرهن)، ورد في هذا لأن هذا كان عادة في الجاهلية، فأبطله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لا يغلق الرهن بما فيه).
فإن قيل: فأنتم قد جعلتموه على غير هذا؟
قيل له: ذلك لا ينافي هذا فلا يمتنع ان يكون ورد في هذا وما ذكرناه من انه يفيد ا،ه لا يهلك على صاحبه أيضاً مراد، لأن الغلاق هو الهلاك، ونحن نذهب إلى أن الخبر إذا ورد في سبب لم يجب القصر عليه.
مسألة:

(88/31)


قال: وإن رافع المرتهن الراهن إلى الحاكم كان للحاكم أن يبيع رهنه، ويوفي دين المرتهن، وذلك انه منصوب للولاية على المسلمين وانصاف مظلومهم من الظالم، ولا خلاف أن الولي إذا عضل المرأة ككان الحاكم قائماً مقامه، وإن كانت الولاية حقاً للعاضل، فكذلك إذا امتنع من إيفاء الغريم حقه كان الحاكم قائماً مقامه في بيع ملكه عليه ليوفي الغريم حقه، على أنه لا خلاف أنه يبيع الدراهم للدنانير، والدنانير للدراهم، فكذلك سائر الأملاك، والمعنى انه ولي أمرهم لإنصاف المظلوم من الظالم كما يأخذ الإمام العشور، والصدقات ممن امتنع، أو يجعل أصلاً.
وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي.
قال أبو حنيفة: لا يبيع الحاكم لكنه يحبس الراهن حتى يبيعه.
مسألة:
قال: وإن دفع الحاكم الرهن إلى المنادي ليبيعه فتلف على يديه ضمنه الرمتهن للراهن، وترادا فيه الفضل، وضمنه المنادي للمرتهن.
قلنا: إن المرتهن يضمنه لأنه لم يخرج عن قبضه، لأن الحاكم بإذنه دفعه إلى المنادي، فيد الحاكم فيه يد العدول، فلا يخرج الرهن عن ضمان المرتهن، لأن ولاية الحاكم على الراهن والمرتهن على سواءن والمرتهن متى أراد أخذه من الحاكم أمكنه فبان أن الشيء بعد على قبضه.
وقلنا: إن المنادي يضمن للمرتهن، لأن المنادي أجير مشترك، والأجير المشترك يضمن عندنا ما تلف على يده.
قال: فإن كان الراهن أذن للمرتهن في دفعه إلى من يبيعه فتلف على يده لم يضمنه المرتهن، وضمنه المنادي للراهن لأنه أجير مشترك، وهذا إذا رضي المرتهن على ان يبيعه الراهن لنفسه، وليتصرف في ثمنه على ما يريد، على ما مضى من القول في المرتهن إذا اذن للراهن في بيع رهنه.
مسألة:

(88/32)


قال: وإذا سلط الراهن المرتهن على بيع رهنه فباعه المرتهن ففر المشتري قبل أن يوفيه الثمن كان حق المرتهن على الراهن، وذلك ان المرتهن قد أوجب فيه قبضاً فغيره بغذن البائع فخرج عن قبض المرتهن، وقد قلنا: إن خروجه عن قبه المرتهن يوجب انفساخ الرهن لذلك قلنا: إن حق المرتهن يكون على الراهن.
فإن قيل: الستم قلتم: إن الحاكم لو دفعه للبيع إلى المنادي فضاع من يده يككون على ضمان المرتهن فما الفرق؟
قيل له: لأنا قد بينا في تلك المسألة أن الرهن بعد لم يخرج عن قبض المرتهن، لأنه يملك رده إليه، فلحقه التلف وهو رهن، وفي هذه المسألة قد خرج عن كونه رهناً، لأنه قد خرج عن قبضه بحصول استحقاق قبض الغير، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أيضاً مثل مذهبنا في أن المرتهن متى أوجب فيه حق القبض لغيره خرج عن كونه رهناً.
باب القول في ما يجدث الراهن في الرهن
ليس للراهن أن يحدث في الرهن شيئاً من مكاتبة ولا تدبير ولا بيع، ولا صدقة ولا هبة، ولا نكاح ولا مؤاجرة.
والوجه في هذا ما أجمع عليه من أن الراهن ليس له أخذ الرهن من المرتهن على وجه يخرجه عن كونه رهناً، إلا بإيفاء الدين، أو بإبراء المرتهن له، أو رضاء المرتهن بفسخ الرهن، وقد ثبت بما بيناه أن بطلان قبض المرتهن مخرج للرهن من كونه رهناً، وكل هذه الأشياء مما يبطل قبض المرتهن لاستحقاق قبض غيره، قوجب أن لا يصح ذذلك من الراهن، لأن ف صحته صحة أخذ الرهن من المرتهن على وجه يوجب اخراجه من الرهن، وذلك فاسد، وأيضاً لو أجزنا للراهن لم يكن لأخذ الرهن فائدة، ولم يكن الرهن توثيقة للمرتهن، لأن الراهن إذا جاز له أن يتصرف فيه خرج الرهن عن معناه.

(88/33)


قال: فإن باعه بإذن المرتهن صح البيع، أما إذا باعه بإذن المرتهن فلا خلاف في صحة البيع لأنهما إذا تراضيا فيه بالفسخ، أو البيع أو غيرهما جاز ذلك، وأما إذا باعه بغير أذن المرتهن، فالأقرب على أو ضاعنا أن البع يقف على التسليم، ويكون ذلك كالعيب فيه كما نقول في بيع المغصوب والآبق، وبيع المستأجر، فإن شاء الشتري صبر إلى حين يمكن التسليم، وإن شاء فسخ البيع، وهذا معنى قولهك إن البيع فاسد، أي غير مستقر فللمشتري افساده، وهذا إذا كان ككالعيب في إمكان الرد فهو أوكد من العيب، لأن من اشتراه مع علمه بالعيب لم يكن له رده، ومن اشتراه وهو مغصوب او مرهون، أو آبق وهو يعلم أمكنه الفسخ إذا تعذر التسليم، والفرق بين هذا وبين العيب أن المعيب إذا قبضه المشتري فقد تم له ملكه، والمغصوب ونحوه مما إذا تغذر تسليمه لم يتم فيه ملك المشتري، ولا يجب عليه توفية الثمن إلا مع التسليم فمتى لم يتم ذلك كان له فسخ البيع وإن كان دخل فيه، مع العلم كما أن مشتري المغصوب إن دخل في الشراء مع العلم بانه مغصوب، وأعطى الثمن، له الرجوع في الثمن، لأن استحقاق البائع للثمن لم يحصل، ويبين أن الأقرب من مذهبه في البيع ما ذكرناه انه قال في مسألة العتق: لو أعتق عبداً يساوي ألفاً، وهو رهن بألف لم يعتق حتى يؤدي الراهن ما عليه، ولو أراد بعد العتق وقبل الفك بيعه، أو هبته لم يجز ذلك، فمنع من البيع للعتق، وكذذلك الهبة دون كون الرهن رهناً فدل ذلك على ما قلناه من ان كونه رهناً لا يمنع من البيع، ويكون كالعيب فيه، وكذا يجب أن يكون بيع المستأجر.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً أعتق عبداً رهنه على ألف، وهو يساوي ألفين، والرجل مؤسر عتق العبد، ووجب عيه الخروج من حق المرتهن، أو إبداله رهناً آخر، وإن كان معسراً عتق العبد بمقدار الفاضل من الدين، ونجم على الراهن مال المرتهن على حسب ما يمكنه، فإن أدى ما عليه عتق العبد.

(88/34)


وقول أبي حنيفة: إن عتق الراهن ينفذ على كل حال، ثم ينظر فيما يلزم الراهن للمرتهن من الإيفاء أو الإبدال أو ما يلزم العبد من السعاية، فأما العتق فواقع تام عنده.
وأما الشافعي فحكى ابن أبي هريرة عنه في هذا الباب ما يطول شرحه، وجملته ان همرة يجعل الموسر على قول واحد في نفوذ عتقه، ويجعل المعسر على قولين، ومرة يجمع بين المعسر والمؤسر في أنهما على قولين.
ووجه ما ذهبنا إليه ما بيناه من ان الراهن ممنوع من التصرف في الرهن على وجه يخرجه من كونه رهناً يبطل قبض المرتهن، وكان القياس ا، لا يجوز عتقه لأنه يؤدي إلى ابطال رهنه، إلا أنا وجدنا للعتق مزية قوية على سائر ما ذكرنا جوازه من الأخطار ومع الجهالة، ولنفوذه في نصيب الشريكك بغير رضاه، ولنفوذه في البيع الفاسد، ولأنته لا يرتفع بعد حصوله في دار الإسلام، ثم وجدنا للرهن في تعلق حق المرتهن به مزية قوية، وذلك أن مالكه ممنوع من التصرف فيه.
ولا خلاف أن الموت لا يبطله بمصيره إلى الوارث، فإن المرتهن أولى به من سائر الغرماء، إن مات صاحبه مفلساً، أو فلسه الحاكم وكذلك إن باعه الحاكم عليه ككان المرتهن أولى به من سائر الغرماء، ولم يكن حكمه حكم سائر أملاك المرتهن لهذه المزية التي ذكرناها، فلما أجتمع هذان الأمران أوجبنا تعلق العتق على الفاضل عن الدين لقوة العتق، ولم نوجب تعلقه على ما دونه لقوة حق المرتهن.
ثم قلنا: إن كان الراهن موسراً استقر العتق في ذلك القدر، وسرى لأن حق المرتهن ليس بأقوى من حق الشريك، وألزمنا الراهن الخروج عن حقه، أو ابدال رهن مكانه كما يلزمه أن يغرم حق شريكه لو أعتق ما فيه شركة لغيره، وكما أن الراهن لو قتله لغرم قيمته، ولزمه ان يجعله بدلاً للرهن، وكذلك لو قتله غير الراهن فغرم قيمته تعلق بها حق المرتهن، وهذه المسألة ممالا يختلف فيه قولنا، وقول أ[ي حنيفة وأصحابه، وهو الأظهر عن الشافعي أعني إيجاب العتق دون سائر الشروط.

(88/35)


وحكي للشافعي قول آخر، وهو أنه لا يعتق، فإن سئلنا عن ذلك القول كان تحرير العلة ان يقول: هو مؤسر أولى ببعض المملوك من غيره لككونه مالكاً، فأشبه الشريك المؤسر إذا أعتق نصيبه فقي أن العتق ينفذ.
قال: وإن كان معسراً أعتق العبد بمقدار ما فضل عن الرهن، ونجم على الراهن مال المرتهن على حسب ما يمكنه، فإذا أدى ما عليه عتق العبد.
معنى قولنا: إذا أدى ما عليه عتق العبد انه يرتفع حبس العبد، وإلا فالعتق حاصل لنفوذه في الفاضل عن الرهن فهذه المسالة كالأولى، وولا فرق بينهما إلا في تنجيم ملك المرتهن على الراهن.
ووجهه أنه بالسعاية أولى من العبد، لأن العبد يحتبس بحقه لا بقيمة نفسه، ولأن العبد أيضاً لو سعى لرجع عند أبي حنيفة في وجوب عتقه.
وللشافعي فيه قولان، ونحن إذا بينا أن حكمه حكم الشريك فلنا فيه طريقان ـ أحدهما: أنا ندل على أن الحرية لا تتبعض، وذلك نبينه في كتاب العتق.
والثاني: أنا نقيس المعسر على المؤسر إذ مذهب الشافعي أن المعتق إن كان مؤسراً عتق العبد، وضمن نصيب شريكه، وإن كان معسراً تبعض العتق، فيعتق نصيب المعتق، وسنبين فساده في كتاب العتق.
ووجه بقائه في يد المرتهن إلى أن يستوفي حقه انه اجتمع فيه حقان حق الحرية، وحق الإحتباس، فلم يسقط واحد منهما لقوة كل واحد من الحقين على ما بيناه.
مسألة:

(88/36)


قال: وإن رهنه على ألف، وهو يساوي ألفاً وثمانمائة، ثم أعتقه لم يعتق حتى يؤدي الراهن حق المرتهن، فإن أراد الراهن بعد العتق، وقبل الفك بيعه أو هبته لم يجز ذلك، وهذا لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة وللشافعي فيه قولان، وهذا يشبه المدبر، والمعتق على شرط فينتظر في أن عتقه يقف ولا ينفذ في الحال، وذلك أن تصرفه غير جائز، والمرتهن أولى به وبقيمته إن استهلكه مستهلك، وبثمنه إن باعه الحالكم، والراهن ممنوع منه من كل وجه، فوجب أن لا ينفذ فيه عتقه، ولقوة العتق والحرية أوجبنا ألا يبطل، ويقف على افتكاكه كالمدبر والمعتق على شرط منتظر، وقلنا: إنه يمنع من بيعه وهبته، وإن كنا نجوز بيع المدبر عن ضرورة، لأنه أقوى من التدبير، والعتق على الشرط، لأنه لفظ منع من حصول العتق، وهاهنا المنافع منه لم يقع مع لفظ العتق، وإنما هو حكم منع من حصول العتق مع أن سبب العتق قد حصل فأشبه أم الولد في أن مالكها ممنوع من بيعها وهبتها على كل وجه.
قال: ولا يجوز له أن يؤخر افتكاكه مع القدرة عليه، فإن أخره أجبر على افتكاكه، وذلك لأنه أجتمع عليه حقان يتعلقان بفعله أحدهما: وجوب الدين، والثاني: العتق، فلا يشبه هذا أم الولد لأن عتقها لا يتعلق بفعله، وكذلك املدبر فلا يلزم ذلك على ما قلناه.
قال: وإذا أدى حق المرتهن عتق العبد، لأنا قد بينا أن المانع من استقرار العقت كونه رهناً، فإذا خرج عن كونه رهناً بتوفير الحق على المرتهن وجب أن يعتق إذ المانع قد زال.
باب القول في جناية الرهن
قال: ولو أن رجلاً رهن عبداً فقتل العبد المرتهن انتقض الرهن، وطالب ورثة المرتهن الراهن بما عليه من الحق، وحكم على العبد بما عليه من الحق، وحمك على العقد بما يحكم على العبد القاتل عمداً أو خطأ.

(88/37)


معى قوله: انتقض الرهن ان ورثة المرتهن ااستحقوا رقبته إن كان القتل عمداً، وإن كان خطأ أيضاً استحق الورثة الرقبة إن لم يفده الراهن بالدية فيككون الرهن منتقضاً على الوجهين على ما بيناه، ولا ينتقض إن كان القتل خطأ وفداه الراهن بالدية، ولورثة المرتهن المطالبة بدينهم لأنم لا يضمنهون جناية الرهن على ما نبينه.
مسألة:
قال: وكذلك إن قتل أجنبياً عمداً أو خطأ حكم على العبد بذلك، ولم يضمنه المرتهن.
إعلم أن الوجده في أن المرتهن لا يضمن جناية العبد المرهون هو أن جناية العبد في الحكم كأنها جناية سيده، لأنه يلزمه غرمها، ألا ترى أنه لو قتل كان ذلك تلف ماله، وكذلك إن ساترقه المجني عليه، أو فداه الراهن بالدية، او سرق فقطعت يده كان ذلك غرماً يلحق مال السيد كما يلحقه بجنايته.
ألا ترى أنه لو كان ولده بدلاً منه لم يلحقه شيء من ذلك فبان أن جناية العبد في الحكم كأنها جناية سيده، فإذا كان ذلك كذلك لم يكن لتضمين الراهن لمرتهن ماهو جار مجرى فعله معنى، مكا أن الراهن لو كان المتلف له لم يضمنه المرتهن فلهذا أسقطنا الضمان في ذلك عن المرتهن.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لصاحبه غنمه وعليه غرمه)، وهذا غرم الرهن فيجب أن يكون على يسده، كما أن العبد لو اكتسب لكان ذلك الغنم لسيده، كذلك إذا غرم بالجناية كان الغرم على سيده.
قال: وإذا ككان الراهن معدماً انتظر بالعبد إلى ان يجد الراهن ما يوفر على المرتهن، فإذا وجد ذلك حكم على العبد بما يلزمه من قتل أو غيره.

(88/38)


ووجهه انهما حقان تعلقا به على وجه واحد، لأنهما حقان تعلق برقبته فككان تقديم ما ليس فيه، أفاتة النفس أولى كالحدين إذا اجتمعا على رجل، وكان في أحدهما أفاتة النفس كان تأخيره أولى، كان سرق وزنى وهو محصن، وذلكك أن النفس إذا فاتت بطل الحق بالذذي هو غير أفاتة النفس، وليس يلزم عليه الفقير الذي عليه الدين، ويقتل عمداً فيأن القتل يقدم، لأن الحقين لم يتعلقا به على وجه واحد، لأن القود تعلق برقبته، والدين تعلق بذمته، ونحن إنما قلنا لك في الحقين المتعلقين به على وجه واحد، ألا ترى أن المعدم بعد القتل يجوز ان يظهر له مال يوفي ذمته، وإذا قتل العبد بطل حق المرتهن المتعلق برقبته من الإحتباس والتوثقة، فأما إذا كان القتل خطأ فهو مثله، لأنه لم يفرق بينهما أحد، ولأنه أيضاً في حكم أفاتة النفس في معنى بطلان حق المرتهن من التوثقة والإحتباس بحقه، إلا ان يفيده صاحبه بالدين فله ذلك، ويبقى العبد رهناً، فلا يككون على المرتهن ضرر.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً ارتهن عبداً فاغتصب العبد مالاً لرجل واستهلكه كانت جنايته على الراهن، ولم يضمنها المرتهن.
ووجهه هو ما مضى من أن جنايته في الحكم كأنها جناية سيده لرجوع غرمهاا عليه، كما يرجع بفعله فلا وجه لإعادته، وباقي الباب على هذا فلا معنى لذكر تفاصيله.
مسألة:
قال أيده الله: والذي اختاره في الرهن إذا اعتق عبده المرهون أن العبد يعتق على كل وجه كما ذهب إليه أبو حنيفة، لأن حق المرتهن ليس بأوكد من حق الشريك في ملكه، فإذا نقذ العقت في حق الشريك مع انه حق الملك كان نفوذه في حق المرتهن أولى.
تضمين المرتهن فوائده الرهن يقوى من جهة النظر إن كان به قائل قبل يحي بن الحسين عليه السلام، لككنه يضعف عندي لأني لا أعرف قائلاً به قبله.
معنى قولنا: إن الشيء مضمون على الإنسان أنه إن تلف تلف من ماله، ثم ينظر في الضمان فربما كان ضمان الشيء من الثمن أو الأجرة.

(88/39)


فإن قيل: أن معناه أن عليه غرم تلفه، ثم الغرامات تختلف كانت العبارة اجود لأنه قد يدخل فيه النفس المضمونة بالقصاص والدية، وكذلك الخراج المضمون وغير ذلك.

(88/40)


كتاب الغصوب
باب القول في المغصوب يؤخذ بعينه
لو أن رجلاً غصب عبداً أرضاً فبنى فيها، أو غرس أشجاراً كان صاحب الأرض أولى بأرضه، وحكم على الغاصب بنقض بنائه، أو قلع غرسه، وابعادهما عن الأرض، وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق)، وعن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثله رواه الكرخي.
قال عروة: حدثني صاحب هذا الحديث أنه رأى رجلين من بني بياضة يختصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض لأحدهما، وللآخر فيها نخل، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله عنها، ولقد رأيته يضرب بالفؤس.
وهذا مما لا خلاف فيه بين المسليمن.
مسألة:
قال القاسم عليه السلام: فإن زرعها قضى لصاحب الأرض بالزرع، وللغاصب ما غرم في الزرع، فكان أبو العباس رضي الله عنه يحمل هذا على موافقة ما دلت عليه أصول يحي عليه السلام من ان الزرع للزارع، ولصاحب الأرض عليه كراء المثل.
والمراد بقوله: وللغاصب ما غرم، أي ما فضل عن كراء المثل، وهذا وجه، ويجوز أ، يكون ذهب إلى ظاهر ما روى رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء)، ويرد عليه نفقته، وروي: (له نفقته، وليس له من الزرع شيء)، فهذا يحتمل ان يكون أراد من زرع بذر قزم بغير إذنهم في أرضهم، كماله فيما زرعه في أرضه، أو في أرض أباح صاحبها له زرعها، لأن عليه أن يتصدق بالزرع، ويبعد وجوب التصدق به إذا كان البذر له، لأن ملكه لم يتجدد عليه فيقال: إنه ملكه من وجه محظور، وإنما هو قد زاد على أحوال محظورة، وذلك كجارية صغيرة يربيها بالحرام لا يلزمه التصدق بها، ونظائر ذلك كثيرة.
وقال أبو حنيفة: لا كراء على الغاصب لما استهلك من منافع المغصوب.

(89/1)


ودلت أصول يحي عليه السلام على إيجاب الكراء، وبه قال الشافعي، ووجهه أن المنافع يجوز فيها الإباحة والإستعاضة عليها فوجب أن يلزم العوض باستهلاكها دليله الأصول.
فإن قيل: فيلزمكم أن توجبوا على من وطيء جارية غيره مهر المثل، كما أوجبتم على من سكن دار غيره كراء المثل.
قيل له: هذا لا يلزم على علتنا، لأنا عللنا بأن قلنا تصح فيها الإباحة، لا تصح في الوطء، على ان منفعة البضع لا تشبه سائر المنافع، ألا ترى أن من ملك البضع بعقد صحيح ثم لم يطأ، وبقي مدة، وطلق لا تستحق مهر المثل، وكذلك عندنا لو مات، وليس كذلك سائر المنافع، لأن من استأجر داراً مدة، ولم يسكنها استحق عليه الكراء، فدل ذلك على ان استحقاق عوض الوطء على خلاف استحقاق أعواض سائر المنافع، ألا ترى أن من ملك البضع بملك صحيح، ثم لم يطأ، وبقي مدة وطلق لا تستحق مهر المثل، وكذلك عندنا لو مات، وليس كذلك سائر المنافع، ألا ترى أن المرأة لو رضيت أن تتزوج وتوطأ بغير مهر لم يصح ذلك، ووجب فيه المهر، على أن المهر ليس هو عوض عن الوطء، لأنه سواء وطيء مرة، أو ألف مرة، فإنما يجب مهر واحد، فبان ا،ه عوض الوطء الأول الواقع على الإستباحة.
فإن قيل: فيلزمكم على علتكم الحر إذا احتبس ومنع التصرف أن يلزم له كراء المثل؟
قيل له: لا يلزم ذلك، لأنا قسنا المنافع على أصولها، والحر لا يصح فيه الإباحة بالإعتبار عليه، فلم يجب ان يقيس عليه منافعها، على أن منافع الحر لا يصح فيها الإباحة.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الخراج بالضمان)، فإذا ضمن الغاصب المغصوب فيجب أن تكون مناافعه له.
قيل له: ليس من مذهبكم ا، المنافع تكون للغااصب، وإنما يقولون: إنه لا يضمنها بالإستهلاك، فلم يقولوا بموجب الخبر في هذا الموضع، ولم يقل به أحد من الأمة فبان أن المراد غير ما ذهبتم إليه.
فإن قيل: المنافع ليست مالاً فلا يستحق عيهاا العوض بالإتلاف.

(89/2)


قيل له: فيلزمكم ان لا يستحق عليها العوض بالعقد، على أأن من فتق ثوباً مخيطاً لغيره، أو نقض باباً منحوتاً، فلا خلاف أنه يضمن ما أتلف من المنافع فقد بطل قولكم: إنها لا تستحق عليها الأعواض بالإتلاف، على أ، هذا يمكن أن نجعله أصلاً نقيس عليه با، نقول: إنها منافع أعيان مملوكة فيجب أن يضمن بالإتلاف كفقت الاثوب ونقض الباب، ولا يلزم منافع ولد المغرور، لأنه حر، ومنافع الحر لا تضمن بالإستهلاك لما بيناه، لأن منافعه مخالفة لأصلها، ولا تصح فيها الإباحة.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اغتصب خشبة ثم بنى عليها قضى على الغاصب بتسليم الخشبة إلى صاحبها ونقض ماا بنى عليها إن كان لا يمكن ذلك إلا بنقضه، وبه قال الشافعي.
قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجب تسليمها إذا لم تتم إلا بنقض البناء، ولصاحبها القيمة.
والدليل على ما ذهبنا إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس لعرق ظالم حق)، وقوله: (على اليد رد ما أخذت)، وقول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، وقوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}، وقد يكون ذلك لليتيم، وقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدَقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}، وقد يكون ذلك صداقاً، وهو قياس مالم يبن عليه بعلة أنه ملك الغير لم يجر فيها مغنم ولا هبة ولا بيع ولا أجارة، ولا يؤدي إلأى إتلاف النفس، أو الخوف منه، وبهذا ينفصل عن الخيط يخاط به الجرح، أو اللوح يركب عليه السفينة فيطالب به صاحبه في اللجة، لأن هذين يؤديان إلى تلف الناس، أو يخاف ذلك، أو يقال: إنه مل مغصوب قائم بعينه، لا يؤدي أخذه إلى تلف النفس، أو الخوف منه.
فإن قيل: لو ألزمناه نقض البناء كنا قد أدخلنا عليه الضرر لا يستحق.

(89/3)


قيل له: ليس كذل لأن ذلك القدر من الضرر مستحق عليه، ألا ترى إلى ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقلع النخل عن الأرض المغصوبة، وذلك مما يلزم الغاصب فيه ضرر لكنه مستحق لحق المغصوب منه، ولا خلاف في ان من زرع أرضاً مغصوبة يجب قلع االزرع، وذلك مما يضر بالغاصب، إذا لم يمكنه تخليص المغصوب، إلا بضرر يدخله على نفسه، وهكذا لو بنى في أرض مغصوبة، لزمه نقض بنائه.
فإن قيل: فإنه بناه على ملكه فهو غير متعد فلا يجوز إلزام نقضه.؟
قيل له: بناه على ملكه وملك غيره، وهو الخشبة المغصوبة، فكان قياسه قسياس ما بنى بناء بعضه على ملكه، وبعضه على ملك غيره ـ جارة ـ إذا لم يتم له تسليم أرض جاره إلا بنقضه كله يلزمه نقضه.
قال:ك وكذلك إن كان الغاصب دفعها إلى غيره، فبنى عليها عالماً بأنها مغصوبة، أو غير عالم بذلك، يقضى بالخشبة لربها، وإن كان الثاني لم يعلم أنها غصب، وغره الغاصب، رجع على الغاصب بقيمة ما فسد من بنائه.
أما وجوب رد الخشبة فقد مضى الكلام فيه، فلا وجه لإعادته. والثاني أيضاً غاصب ككالأول علم أو لم يعلم إلا في المأثم، فلا إثم عليه إذا لم يعلم.
وأما رجوعه على الغاصب بقيمة ما فسد إذا لم يعلم بأنه مغصوب فهو ما نذكره في باب ولد المغرور، وقياس عليه.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اغتصب أمة مدبرة، ثم أولدها كان الولد مدبراً كالأم، ولم يلحق نسبه بالواطيء، ولو كانت المغصوبة ام ولد كان الولد في حكم الأم يعتق بعتقها، ولم يلحق نسبه بالواطيء، وعليه حد مثله، ولا عقر عليه، والعقر والحد لا يجتمعان.

(89/4)


قلنا: إن ولد الأمة المدبرة وأم الولد يكون في حكها، لأن الولد يكون في حكم الأم في العتق والحرية، لا خلاف فيه إلا ولد أم الولد من سيدها لأنه يكون حراً، لأن الأب لا يملك ولده، ومنعنا لحوق النسب، لأن الواطيء زان، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، وهو مما لا خلاف فيه، وأوجبنا الد لارتكابه الزنا بغير شبهة، ولم نوجب العقر، لأن العقر لا يجب إلا بوطء يقع في عقد صحيحن أو شبه عقد، لأن ما خلا من ذلك يكون زنى محضاً، ولا خلاف أنه لا مهر في الزنا إذا لم يعرض فيه معنى آخر، ومنعنا إجتماع العقر والحد لهذه العلة، لأن الحد يجب في الزنا المحض، والمهر لا يجب فيه.
مسألة:
قال: ولو أ، رجلاً اغتصب نااقة فنحرهاا، أو بقرة فذبحها، أو غيرهما من الطيور ونحوها، كان صاحبه بالخيار، إن شاء أخذ مذبوحاً، وإن شاء أخذ قيمته، وأخذ قيمة ما نقصه الذبح، وإن شاء ضمن قيمته حياً.
ووجه قول أصحابنا أنه إن شاء أخذه على مابه، وإن شاء ترك وأخذ قيمته حياً، على أن الغاصب لم يتلف عينه، بل العين باقية، ولم يتلف من أاجزائه ما يجوز أن يكون هل قيمة، وإنما استهلك بعض منافعه، فإذا أمكننا أن نعيد الفاائت من المنافع، كأنه لم يفت بأن نعطيه قيمته حياً، إلا أن يرضى بأخذه مذبوحاً.
مسألة:
قال: فإن اغتصب ثوباً فقطعة قميصاً، أو غير قميص كان صاحبه بالخيار إن شاء أخذ الثوب على ما وجده، وإن شاء مخيطاً أو مقطوعاً غير مخيط، وإن شاء أخذ قيمته صحيحاً.

(89/5)


إعلم أن ما مضى من الكلام في المسألة الأولى هو الكلام في هذه المسألة، ونحن نزيده إيضاحاً، فنقول: إن الذبح والقطع ليس بإفساد بل ربما يتعلق الغرض بهما في الأكثر الأعم، فإذا اختار المغصوب منه أخذه فكأنه رضي بالذبح والقطع، فلا وجه لتضمينه للغاصب قيمة النقصان، وأما إذا لم يختر ذلك، فنقول في المسألتين، إنه يسلمها إلى الغاصب، ويأخذ قيمة كل واحد منهما صحيحاً، لأن الغاصب قد أتلف الكثير من منافعهما بالذبح والقطع، والغرض في الغين، هي المنافع، يدل على ذلك أن من غصب عبداً أو فرساً وماتا في يد الغاصب، ضمن القيمة، لفوات عامة منافعا، ولأن المذبوح مع قيمة ما نقصه الذبح، قد لا يسد مسد الحي في المنافع المبتغاة، وكذلك الثوب المقطوع، مع قيمة ما نقصه القطع قد لا يسد مسد الثوب الصحيح، فلا يمتنع أن يكون غرضه قد فات بما حصل فيهما من الذبح والقطع، إذ قد فاتت عظم منافعهما، فوجب أن لا يلزم صاحبهما أحدهما، بل جعلنا له تسليمهماا، إلى الغااصب، وأخذ قيمتهما حياً وصحيحاً، فإن قاسه الشافعي على الشق اليسير في أن صاحب الثوب لا يمكنه أن يدفعه إلى الغاصب، ويضمنه القيمة، وهو صحيح لم يصح ذلك، لأن الشق اليسير لم يفت أكثر منافعه، فإن فات اليسير منها فلم يبطل أكثر الأغراض المتعلقة بالثوب، ألا ترى أن من أخذ عبداً فشجه موضحة أو حيواناً فجرحه لم يكن لصاحبهما إلا ما نقصهما، ولو قتلهما الغاصب كان لصاحبهما القيمة.
فأما ما قال أبو حنيفة من أن الغاصب أن كان خاطيء حين قطعه، يعني الثوب فلا سبيل لصاحبه عليه لفوات أكثر منافعه لا معنى له، وذلك ان الخياطة لم تفت المنافع، إلا ما أفاته القطع، بل زاد، وهو متبرع في الزيادة على ما يجيء القول فيه بعد هذه المسألة.

(89/6)


فأما الشق اليسير فقد ذكر في الأحكام فيما أفسده الصانع أن لصاحب المتاع أخذه، وأخذ قيمته، فقط إن كان الفساد أذهب أقل من النصف من قيمته، فإن كان أذهب أكثر من النصف من قيمته فله أن يسلمه إلى الصانع، ويأخذ قيمته صحيحاً فنبه على ان اليسير من الشق لا سبيل فيه لصاحب الثوب، إلا على أخذ قيمة النقصان، وهذا مالا خلاف فيه.
فإن قيل: فأنتم تقولون إذا قطع الغاصب الثوب، أو ذبح الشاة، فأخذهما لا شيء له غيرهما، وقلتم فيما أفسد الصانع أنه يأخذه، ويأخذ قيمة النقصان. فما الفرق بينهما؟
قيل له: الفرق بينهما أن الفساد لا يتعلق به الأغراض في العادة، فإذا رضي بأخذ الثوب الذي أحرقه القصار، أو الباب الذي كسره النجار لم يدل ذلك على رضاه بالحرق والكسر والقطع، والذبح مما يتعلق به الأغراض في الأغم الأكبر، ومجرى العادات، فإذا رضي صاحبهما بأخذهما دل ذلك على رضاه بالقطع والذبح، ولذلك لم يجعل لهما قيمة النقصان على الغاصب القاطع، والذابح، وجعلناهما على المحرق والكاسر.
مسألة:
قال: فإن اغتصب ثوباً فصبغه أو باعه فصبغه المشتري أخذه صاحبه مصبوغاً، ورجع المشتري على الغاصب بقيمة الصبغ إن كان المشتري لم يعلم ذلك، ولم يكن للغاصب أن يغسل الصبغ عن الثوب.
لا خلاف أن صاحب الثوب ياخذه مصبوغاً، لأنه وجد عين ماله المغصوب لم يجري فيه ما جرى الإستهلاك، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس لعرق ظالم حق)، وقوله: (على اليد رد ما أخذت).
وقلنا: يرجع المشتري على الغاصب البائع بقيمة الصبغ لأنه مغرور إذا لم يكن علم أن الثوب مغصوب كما نقول ذلك في ولد المغرور.

(89/7)


وأما صاحب الثوب فقد اختلف فيما يلزمه للصبغ فحكى ابن أبي هريرة مثل قولنا: إنه لا شيء للصبغ على صاحب الثوب، عن المزني، وكان يحصل مذهب أبي حنيفة وأصحابه أن الصبغ إن كان نقص الثوب فلصاحب الثوب الخيار بين أن يسلمه ويأخذ قيمته أبيض، وبين أن يأخذه ويضمن للمغاصب قيمة صبغه، وقال الشافعي في الزيادة: يكون الغاصب شريكاً في مقدار الصبغ لصاحب الثوب في الثوب، وفي النقصان للغاصب غسله إن الثوب، على أن يضمن نقصان الثوب.
قلنا: لا شيء للغاصب على صاحب الثوب للصبغ زاد أو نقص، وليس للغاصب أخذه عن الثوب، لأن الغاصب كان متبرعاً بذلك، لأنه لم يصبغه بعوض على عقد ما قلناه ما أجمعوا عليه من أن الغاصب لو غصب عبداً مريضاً هزيلاً فأنفق عليه مثل ثمنه حتى اشتفى وبرأ وسمن لم يرجع بما أنفق على صاحب العبد للعلة التي ذكرناها، فكذلك ما اختلفنا فيه.
فإن قيل: لا خلاف أن من غصب سيفاً فحلاه بالذهب أو الفضة، ثم جاء صاحب السيف أن للغاصب أخذ الذهب والفضة عن السيف، فكذلك الصبغ.
قيل له: لا يشبه هذا ما اختلفنا فيه، لأن الصبغ مستهلك في الثوب، ألا ترى أنه لا يجوز بيعه منفرداً عن الثوب، وليس كذلك الذهب والفضة، لأنهما عينان قائمان لم يجر فيهما الإستهلاك، فكان الصبغ لما رددناه إليه من النفقة أشبه وعند أبي حنيفة لو غصب أرضاً فيها زرع، أو نخل أو شجر فسقى وأنفق عليها حتى انتهى، فإن المغصوب منه يأخذ ذلك أجمع، ولا شيء للغاصب، فكذلك ما اختلفنا فيه.
فإن قيل: لم يكن قصد الغاصب التبرع فيما أنفق في الصبغ؟
قيل له: لا معتبر بالمعقود في هذه الأشياء، ألا ترى أنه لم يقصد التبرع فيما أنفق على العليل والأرض والنخيل، ولكن حصل متبرعاً للوجه الذي بيناه.
قال: فإن نقصه الصبغ كان لصاحبه الخيار بين أخذه، وبين أخذ قيمته أبيض تخريجاً، ووجهه ما مضى فيمن ذبح شاة، أو قطع ثوباً ثم جاء المغصوب منه.
مسألة:

(89/8)


قال: ولو اغتصب أديماً فدبغه أخذه صاحبه مذبوغاً، ووجهه ما قدمناه من أنه متبرع بما عمل، وهو أوضح لأنه ليس فيه ما يخيل أنه مال قائم للغاصب، فيكون مثل الإنفاق على العبد العليل، وما أشبه ذلك سواء.
مسألة:
قال: ولو أن مغتصباً زاد في المغصوب ما يمكن أخذه من غير إضرار بالمغصوب، كان للمغتصب أخذه عنه تخريجاً، وهذا مثل أن يحلي السيف بالذهب والفضة، ونحوه من الدواة واللجام، وهذا لا خلاف فيه لأنه عين قائم لم يستهلك، فإن لحق المغصوب بالقلع ضرر ضمنه الغاصب على نحو ما مضى القول في قليل الضرر وكثيره في أن المضرور يأخذ قيمة الضرر إن كان يسيراً إذا كان مما لا تتعلق به الأغراض في الأغلب، وفي الكثير له الخيار في تسليمه وأخذ قيمته صحيحاً.
باب القول في المغصوب يزيد أو ينقص
لو أن رجلاً اغتصب بقرة أو غيرها، من الحيوان من مملوكة، أو غيرها فنتج عنده، أو ولدت أخذها صاحبها، وأخذ نسلها، فإن هلكت الأم وبقي النسل أخذ قيمة النسل، إلا أن يكون النسل هلك بجناية من الغاصب، فتلزمه القيمة، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، والخلاف بيننا وبين الشافعي في الأولاد إن تلفت من غير أن يستحدث فيها الغاصب، أمراً يوجب الضمان، قال الشافعي: هي مغصوبة مضمونة كالأمهات، وقولنا: لا تكون مغصوبة بغصب الأمهات، ولا مضمونة بضمانها.
والوجه في ذلك أن الولد صار في يد الغاصب بغير فعله، وتلف بغير فعله، من غير أن توجهت عليه مطالبة من له الحق في مكالبته، فوجب أن لا يضمن إن تلف.

(89/9)


دليله الثوب تلقيه الريج في داره، أو الطائر يسقط في داره، أو النواة يلقيها فتنبت إذ لا خلاف أن جميع ذلك لا يضمن للعلة التي ذكرناها، فكذلك ولد المغصوبة، وليس يلزم على هذا ما نقوله من أن من صاد ظبية من الحر وأخرجها من الحرم، ثم ولدت، ثم هلكا أنه يضمن الظبية وولدها، وذلك أن الله عز وجل قد أمره بإرسالها وإرسال ولدها، وردهما إلى الحرم فلما امتنع من ذلك مع توجه المطالبة عليه بردهما إلى الحرم حتى تلفا ضمنهما بل مثال هذا أن يطالب ولد المغصوبة صاحبها فيمتنع من ردها، ومتى كان ذلك كذلك ضمنه الغاصب.
على أن ضمان صد الحرم، وصيد المحرم عندنا لا يشبه ضمان الأموال، لأن عندنا أن جماعة لو اشتركوا في صيد ضمن كل واحد منم، وكذلك لو دل عليه غيره فقتل بدلالته ضمنه، وليس كذلك ضمان الأموال فبان أن ضمان صيد الحرم، وصيد المحرم لا يجوز أن يجعل لضمان الأموال أصلاً.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يسري الغصب إلى الولد كالكتابة والتدبير والإستيلاد كما قلتم ذلك في الرهن.
قيل له: نحن قلنا ذلك لأنا وجدنا الكتابة والتدبير حقين ثابتين في الرقبة، وكذلك الإستيلاد ثم وجدنا الرهن أيضاً حقاً ثابتاً في الرقبة فقسناه على ذلك في باب السراية، والغصب ليس بحق ثابت على الرقبة، فكيف نقيسه على ذلك.
على أنا قد بينا في مسألة ضمان فوائد الرهن أن الولد لا يصير مضموناً بضمان الأم حتى يشارك الأم في سبب الضمان، وولد المغصوب لم يشارك المغصوب فيما أوجب ضمانه، لأنه لم يجر عليه الغصب، كما جرى على أمه، ومتى جرى عليه الغصب كان أيضاً مضمونااً.
فإن قيل: إذا كان حفر البئر سبباً لجناية إذا وقع فيه إنسان أنكرتم أن يكون غصب الأم سبباً لغصب الولد.

(89/10)


قيل له: لو لم يكن الحفر كان، لا يجوز أ، يحصل الوقوع فيه، ومع الحفر لا بد من الوقوع إذا لم يحترز، وليس كذلك غصب الأم وغصب الولد، لأن كل واحد منهما يجونز انفراده عن صاحبه فلم يجز في الغصب أن يكون أحدهما سبباً للأخر، ووجب ذلك في الحفر والوقوع.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اغتصب شجراً صغاراً فغرسها وسقاها حتى كبرت، كان صاحب الشجر أولى بقطعها وبأخذها، وهذا مما لا خلاف فيه، لأن الغاصب وجد عين ماله ليستهلك، ولم يجري فيه مجرى الإستهلاك، فكان أولى به على ما مضى القول في أمثاله.
مسألة:
قال: ولو أنه اغتصب شيئاً من الحيوان فسمن عنده، وكبر أخذه صاحبه بزيادته، وكذلك إن هزل ونقص أخذه بنقصانه ولم يرجع على المغتصب بشيء أما إذا وجده صاحبه زائداً فلا خلاف في أنه يأخذه، فأما إذا وجده ناقصاً من الهزال فأكثر العلماء فيما حفظت على أنه يأخذه ويأخذ قيمة النقصان.
وذهب يحي عليه السلام على أنه يأخذه بهزاله.
ووجهه أن الهزال لم يكن بجنايته، ولا هو أمر يختص بحكم، وإنما هو تبع للجملة، ولم يكن من الغاصب في القبض على التعدي، فإذا زال ذلك وجب أن يخرج عن ضمانه كما أنه لا خلاف في أنه لو نقص من جهة السعر أخذه صاحبه ولم يرجع على الغاصب بشيء لنقصان السعر فكذلك ما ذهب إليه.
فإن قيل: أرأيت إن عمي أو ذهبت يده، أكان لا يرجع بالنقصان؟
قيل له: هذه أعضاء يصح أن تفرد بالأحكام، ألا ترى أنها في العبد تختص بجزء معلوم من القيمة، فإذا رده على ما ذكرتم لم يرد العين كما كانت، ونقصان الهزال بنقصان السعر أشبه، والمسألة في الجملة فيها ضعف، ولا أحفظ عن غيره أن قال بها.
مسألة:
قال: ولو أنه اغتصب عبداً أو دابة أو حانوتاً فاستغلها قضي للمالك بالمغصوب وغلته، على ما نذهب إليه من إليجاب كراء المثل على الغاصب، وقد مضى الكلام فيه.

(89/11)


والذي يقتضيه ما ذهبنا أن الغاصب يدفع إلى المغصوب منه كراء المثل، فإن كانت الغلة مثله لم يلزم شيء آخر، وإن كانت دونه كان على الغاصب يبلغه كراء المثل، وإن كانت فوقه دفع كراء المثل إلى المغصوب منه، ورده الباقي إلى بيت المال، لأن صاحب الشيء قد استحق على الغاصب كراء المثل، فعليه توفيره، وما زاد على ذلك مصروف إلى بيت المال.
لأنه ملكه من جهة محظورة.
قال: وكذلك إن استغل الغاصب من العبد بما علمه من الصناعة كانت الغلة لصاحب العبد، وهذا وجهه وتفصيله ما مضى قبله قال: فإن تلف العبد أخذ صاحبه قيمته لو لم يحسن تلك الصناعة.
ووجهه أ،ه لا يضمن الزيادة في جسمه إذا لم يكن تلفه بجنااية من كما قلنا في ولده، فإذا لم يضمن الولد والزيادة في جسمه مالم يكن التلف بجنايته، فأولى ان لا يضمن زيادة الصنعة، فإن كان هو المستهلك له بفعله فقياس قول يحي بن الحسين انه يضمن جميع ذلك.
مسألة:
قال: وكذلك إن أبق العبد ضمنه غاصبه إلى أن يقبضه صاحبه، ومت قبضه صاحبه على أي وجه قبضه عالماً به، أو غير علام فقد خرج الغاصب من ضمانه لأنه لا يجوز أن يكون عليه ضمان شيء هو في يد مالكه، فإن فر من يد المالك، أو خرج عن يده بالغصب لم يضمن الغاصب الأول إلا بأن يغصبه ثانياً.
كل ذلك يقتضيه ظاهر قول يحي عليه السلام، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، ولا أحفظ خلافه عن غيرهم.
باب القول في استهلاك المغصوب
إذا اغتصب الرجل شيئاً ثم استهلكه لزمته قيمته يوم استهلاكه، إن كان المستهلك حيواناً أو عرضاً أو مثلهما، فإن كان مما يكال، أو يوزن، لزم مثل ما اغتصبه.
إعلم أن الغاصب إن استهلك المغصوب لم يخرج المغصوب عن ثلاثة أحوال: إما أن يكون حاله يوم الإستهلاك كحاله يوم الغصب لم يتغير بزيادة ولا نقصان، فهذا قيمته يوم اغتصب، وقيمته يوم استهلك سواء، وعن أيهماا عبرت صحت العبارة، والمعنى في العبارتين سواء.

(89/12)


أو يكون قد زاد جسمه فهذا قيمته يوم استهلكه، لأن الزيادة في جسم المغصوب مضمونة إذا كان تلفه بفعل الغاصب، لا أعرف فيه خلافاً، إلا إختلاف رواية عن أبي حنيفة نفسه.
وأظن أن التضمين أصح الروايتين عندهم، لأنه رواه محمد، عن أبي يوسف عنه، والآخر رواية أصحاب الإملاء، عن أبي يوسف عنه.
ووجهه أنه قد جنى على الزيادة كما جنى على الأصل فيجب أن يضمنها، كما يضمن الأولاد إذا تلفت بجنايته، أو يكون قد نقص جسمه، فالغاصب يضمن قيمته يوم اغتصبه، لأنه ضمن يوم اغتصبه قيمته بشرط أن يعجز عن رد العين لا خلاف فيه، فإذاا استقرت القيمة عليه يوم الغصب لم تنقص القيمة المستقرة عليه لنقصان المغصوب، وليس هذا النقصان كهو مع رد العين، لأنه إذا رد العين لم تلزمه القيمة، لأنها لزمته بشرط العجز عن الرد.
قال يحي بن الحسين عليه السلام: لو نقص لم يجب لنقصانه شيء ما دام حياً قائماً بعينه فجعل ذلك علة سقوط الضمان مع رد العين، فإن تلف المغصوب بغثر جناية ن الغاصب فالجواب واحد، إلا في وجه واحد من هذه الوجوه، وهو إذا تلف زائداً في جسه، فإن هذه الزيادة غير ممضمونة على قياس قول يحي، لأنه علل لسقوط ضمان الأولاد بأنها حدثت في ضمانه، وتلفت لا بجنايته، وهي أيضاً غير مضمونة عند أبي حنيفة، لأن حكم هذه الزيادة حكم الولد، لأنه إذا مات إنما حدث عنده كما حدث الولد فعلى هذا تكون قيمته قيمته يوم إغتصبه.
وما ذكرناه من أن الواجب القيمة في ذوات القيم والمثل في ذوات الأمثال مما لا خلاف فيه، لأنه أقرب إلى الصفة، وإلى ان يكون ذو الحق قد وصل إلى حقه، ولو أن حاملاً حمل قوله: إن القيمة قيمته يوم استهلك على النقصان أيضاً لقوله لا يضمن النقصان إذا كان قائماً بعينه أمكن، لكنه ضعيف، ولأن أصل القول في ذلك أيضاً ضعيف فكرهنا أن يعمل عليه غيره.
مسألة:

(89/13)


ولو أنه اغتصب النوى فزرعه فنبت كان ذلك مستهلكاً، ولم يكن لصاحبه إلا مثله، أو قيمته يوم اغتصبه، فإن اغتصبه وأصلحه للعلف ودقه، أخذه صاحبه، ولو أنه ااغتصبه بيضاً فحضنه، فخرجت فراخ لم يكن لصاحبه إلا قيمته.
ما ذهب إليه أصحابنا في النوى المغتصب إذا زرع فنبت، والبيض المغتصب إذا حضن فخرجت فراخ، به قال أ[و حنيفة وأصحابه.
وقال الشافعي صاحبا النوى أولى بما نبت وصاحب البيض أولى بالفراخ، وبه قال الناصر.
والأصل فيما ذهب إليه أصحابنا حديث عااصم بن كليب يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه زار قوماً من الأنصار فذبحوا له شاة وصنعوا له طعاماً، فأخذ من اللحم شيئاً ليأكله فمضغه ساعة لا يسيغه، فقال: فما شأن هذا اللحم؟ فقالوا: شاة لفلان، قال: دعوه حتى يجي، فرضيه من ثمنها، فقال صلى الله علي وآله وسلم: أطعموها الأسرى، فدل ذلك على أن الغاصب للشاة حين ذبحها وصنع منها طعاماً ملكها بالإستهلاك، لولا ذلك لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بردها على مالكها، فلما لم يأمر بذلك، وأمر بأن يطعم الأسرى دل على انقطاع حقه عنها باستهلاك المغتصب لها، فصار ذلك أصلاً لكل عين أبطل الغاصب أكثر منافعها حتى زال عنها اسمها المطلق في أنه يصير ملكاً للغاصب، ويضمن هو للمغتصب منه قيمته، فعلى هذا قلنا في النوى إذا زرع، ونبت أنه صار للزارع، لأنه لما صار إلى هذه الحال زال أكثر منافعة، وكذلك البيض إذا حضنت، وخرجت فراخ ملكها لزوال أكثر منافعها قياساً على الشاة التي ذبحت فصنعت طعاماً، وهذه المسألة ليست تقوى في نفسي، لأنها لا أصل لها إلا هذا الخبر، وهو يحتمل أن يكون صلى الله علي وآله وسلم ضمنهم إياها وأمرهم أن يطعموها الأصرى لغيبة صاحبها إذ في الخبر ما يدل على ذلك فخشي أ، يفسد عليهم، وللحاكم أن يبيع على الغائب ما يخشى فساده، فإذا احتمل ما ذكرناه، واحتمل أن يكون فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لانقطاع حقه لم يجب صرفه إلى

(89/14)


ما صرف دون غيره، مما يحتمله، ثم الأصول تشهد أن صاحب الملك أولى بملكه والظواهر تنطق به، والله أعلم.
فأما إذا اغتصب النوى وأصلحه للعلف، فإن صاحبه يأخذه، لأنه لم يذهب من منافعه إلا الزرع، فلا يمكن أن يقال: إن أكثر منافعه قد زال ولأن اسمه لم يتغير فلم يكن ذلك استهلاكاً ولذلك قال أصحابنا إن صاحبه يأخذه، نص في الأحكاام على أن قيمتهما يوم اغتصبهما.
قال: وكذلك إن اغتصب شعراً أو وقطنا فنسجهما كان ذلك استهلاكاً، ولم يكن لصاحبه إلا قيمته، وهذا ووجهه ماا تقدم من ان أكثر منافعه قد زال بالنسج، وزال اسمه فصار مستهلكاً، ثم لا فصل بني هذا وبين البيض إذا صارت فراخاً، والنوى إذا نبت في يد الغاصب، لأن أحداً لم يفرق بينهما.
مسألة:
قال: وإذا اغتصب عبد مالاً ثم استهلكه لزم سيده، فإن شاء سلم العبد، وإن شاء سلم ما استهلكه، ووجهه أن سيد العبد مخير في جناية العبد إذا لم يكن فيها قصاص بين ان يسلمه بجنايته، وبين أن يلتزم بما وجب عليه بجنايته.
قال: وإن كان المغتصب مدبراً، أو أأم ولد لزم مولاهما قيمة ما استهلكا إن كان دون قيمتهما، أو مثلها، فإن كان أكثر من قيسمتهما لم يلزمه إلا قيمتهما، وذلك أن تسليمهما لا يجوز، لأن التسليم يتضمن معنى البيع، ولا يجوز بيع أم الولد، ولا بيع المدبر، فلزمته جنايتهما إلى قيمتهما.
قال: وإن كان المغتصب مكاتباً لزمه ما استهلكه يسعى فيه مع الكتابة، وذلك أنه في حكم الحر، في أن جنايته لا تتعلق إلا به ألا ترى أنه في البيع والشراء وسائر التصرف له حكم الحر، فكذلك في الجنايات.
قال: وإن كان المغتصب صبياً لزمته قيمة ما استهلكه في ماله، لأن الحقوق المتعلقة بالأموال الصبي فيها كالبالغ، كالنفقات وأروش الجنايات، على النفس، ولذلك أو جبنا عليه الزكاة في ماله.
مسائل في الغصوب ليست من التجريد

(89/15)


قال في الأحكام: إذا سرق مسلم من ذمي خمراً بحيث يجوز لهم ان يسكنوه قطعت يده إذا سرق ما يساوي عشرة دراهم في الخمر فأمره بالقطع وتقويمه إياها.
دل على انه يضمن المسلم قيمتها، وكذا يجب أن يقال في الخنزير، إذ لم يفرق بينهما أحد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشاافعي: لا يضمن.
قلنا: إنهم عوهدوا على أن تكون أموالهم أموالاً لهم، فلو لم يضمن سارق الخمر كنا قد أخرجنا الخمر عن أن يكون من أموالهم،، وروي عن عمر أنه أمر من يأخذ العشور منهم، ألا يأخذ الخمر منهم، وقال: وتؤهم بيعها، وخذوا اثمانها، وأظن أنه روي عن علي عليه السلام أن رجلاً قتل لنصراني خنزيراً فضمنه قيمته.
مسألة:
قال أيده الله: حكي عن أبي حنيفة أنه من أرسل بهيمة في ملك غيره فإنه يضمن ما أفسده من فوره ويجب أن يكون هذا قولنا تخريجاً، من أرسال الكلب المعلم أن فعله في حال الإرسال يجري مجرى فعله على أن الأظهر على قول أصحابنا إنه يضمن ما أتلفه بعد الغور أيضاً. كما قالوا فيمن ترك الكلب العقور على طريق المسلمين فعقر إنه يكون ضامناً.
مسألة:
قال أيده االله: تنصيصه ي الارهن على أن من ارتهن أرضاً فغصب عليها أنه لا يضمنها للراهن دليل على أنه لا يضمن العقار بالغصب، وبه قال أبو حنيفة.
ووجهه انه لو ضمن لضمن لليد، أو لمنع مالكه، ولا يضمن لمنع مالكه، لأنه لو حبسه لم يضمن املاكه، واليد تقتضي النقل والتحويل، وذلك لا يتأتى في العقار، وليست سبيل اليد في الغصب، سبيل اليد في البيع، لأن التخلية في البيع تسليم، والتخلية والتسليم ليسا بغصب، فلا بد من النقل.

(89/16)


كتاب الهبات والصدقات
باب القول فيما يجوز من الهبة ومالا يجوز
كل ما جاز بيعه جازت هبته، ومالم يجز بيعه لم تجز هبته.
الغرض بهذا بيان أن الهبة تتضمن معنى البيع، إلا أنها لا تتضمن بمجردها العوض فكلما جاز بيعه جازت هبته، وإن كان فيما لم يجز بيعه ما يجوز هبته لأمر يرجع إلى العوض كبيع الكلب، وبيع لحوم الأضاحي.
يبين ما قلنا أن البيع يتضمن نقل الملك عن مالكه، إلى غيره باختيارهما أو اختيار من يقوم مقامهما، وهكذا الهبة لأن الملك ينتقل في البيع بالعوض، وينتقل في الهبة بغير عوض، فما جاز أخذ العوض فيه جازت هبته، كما يجوز بيعه، وجاز بيعه مكا تجوز هبته.
مسألة:
قال: ولا يجوز هبة المجهول، وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً، لأنه تقرير الملك، ونقله عن مالك قبله إلى مالك سواه، كالبيع فما لم يكن معلوماً بحيث لا يلتبس بغيره لا يصح ذلك فيه، كالإجارات والمناكح، وأموال الشركة والبيوع، وهذا واجب في جميع ما ذكرناه ليصح تناول العقد وتقرير الحق فيه ما أوجب انتقال الملك، ومالم يوجب مماا ذكرناه فكذلك الهبة إذ هي مما يوجب انتقال الملك فكان ما ذكرناه من وجوب كونه معلوماً أوكد.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال: (لا تجوز هبة ولا صجقة إلا أن تكون معلومة مقبوضة).
مسألة:
قال: وإذا وهب رجل لرجل شيئاً معلوماً جازت الهبة، وإن لم يقبضه الموهوب له إذا قبله، فإن لم يقبل بطلت الهبة.
وهذا قول القاسم عليه السلام، والمحكي عن مالك، وكذا القول في الصدقة، وحكى أبو الحسن الكرخي، عن ابن أبي ليلى صحة الصدقة، وإن لم تكن مقبوضة، وعند عامة العلماء لا يصحان إلا بالقبض.
ويدل على عدم اشتراط القبض قوله تعالة: (أوفوا بالعقود)، وعقد الهبة إذا جرى من جملة العقود فيجب الوفاء به.
ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (العائد في هبته كالعائد في قيئه)، ولم يشترط القبض، فاستمر ذلك المقبوض عليه وغير المقبوض.

(90/1)


وعن علي عليه السلام،: (الرجل أولى بهبته مالم يثب منها)، ولم يشترط القبض، والأخبار الواردة في العموم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن علي ليس فيها ذكر القبض، فكل ذلك دال على صحة الهبة، وإن لم يجر فيها القبض.
فإن قيل: روي عن البي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت)، فلم يتمم الصدقة إلا بالإمضاء، وهو الإقباض والتسليم.
قيل له: ليس الإمضاء من الإقباض في شيء، لأن الإمضااء هو أن لا يتعقبه بالفسخ، والإرتجاع، ألا ترى أنه لو وهب وأقبض ثم رجع فاسترد ما وهب صح أن يقال: إنه لم يمض هبته، وإن كان الإقباض قد حصل، وهكذا إن باع وااشترط الخيار، ثم أبطل االخيار ثح أن يقال: أمضى بيعه، وإن لم يكن حصل القبض، فبطل تعلقهم بالخبر.
فإن قيل: روي عن أبي بكر أنه قال لعائشة: إني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً، وإنك لم تكوني حزتيه وقبضتيه وإنماا هو ماال الوارث.
قيل له: يجوز أن يكون أراد لم تكوني ملكتيه بالقبول ولا قبضتيه، فعبر عن التمليك بالقبول بالحوز، لأنه لا يمتنع أن يقال لمن ملك الشيء إنه حازه، وإن لم يكن قبضه، يدل على ذلك أن الحوز لو كان المراد به القبض لم يكن لتكرير لفظ القبض معنى، على أن يحي عليه السلام ذكر عن علي أجازته هبة غير مقبوضة.
فإن قيل: روى زيد بن علي، عن علي عليهم السلام: (لا يجوز هبة ولا صدقة حتى تكون معلومة مقبوضة)؟
قيل له: قد أجمعوا على أأن االقبض ليس بصفة للهبة، حتى تبطل ببطلان القبض، كالرهن، فلا بد من تأويل، فنقول: معناه أن تكون معلومة، حتى تكون في حكم المقبوض، كماا قال الله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيْعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقَيَامَةِ}، أي احاط بها علماً وحكماً، حتى يكون موافقاً لما ذكره عن يحي عليه السلام.
ويدل على ذلك أنه عقد تمليك، فيجب أن يصح من غير قبض دليله البيع، والإجارة والنكاح والخلع، واالوصية.

(90/2)


فإن قيل: الوصية لما كانت تبرعاً احتاجت إلى شيء سوى القول، فهكذ الهبة.
قيل له: الوصية صحت بغير القبض، فكذلك الهبة، ومعنى قولهم لا يصح الوصية، أي لا يصح التمليك بها بمجرد القول، على أن الصدقة قد تكون غير تبرع، فأنتم لم تفصلوا بينها وبين ما كاان تبرعاً، في إيجاب االقبض، فبان أن هذه العلة لا معنى لها، فأما القبول فلا خلاف في وجوبه، والعقود لا تتم إلا بالقبول والإجيجاب وابطال أصحابنا الهبة إذا لم تقبل يدل على أنهم يراعون المجلس، لأن المجلس لو لم يراع فيه لم تبطل إلى أن يقع االفسخ.
ووجهه أنه عقد تمليك مفتقر إلى الإيجاب والقبول فوجب أن يراعى في صحته المجلس دليله سائر العقود.
قال: ولا فصل بين أن يكون الموهوب معلوماً بنفسه، أو محدوداً، وهذا يريد به العقار، لأنها يصح بيعها إذا كانت معلومة بعينها، أو بحدودها، وكذلك الهبة، وإنما االغرض صحة تمييزها عما سواها، وذلك يصح، إذا علمت بعينها، أو بحدودها، فأما ما يتأتى فيه النقل فيجب أن يكون معلوماً بعينه، لأنه لا يعرف بذكر الحدود إذ لا حدود له.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً وهب شيئاً لمملوك غيره فقبله المملوك جازت الهبة، وكان الشيء ملكاً لمالك العبد، وإن أبى العبد قبوله بطلت الهبة، ولا معتبر بقبول سيد العبد.
حكى أبو الحسن الكرخي هذا القول مطلقاً، ولم يحك فيه خلافاً، فلا أدري أهو قول جميعهم، أم فيه خلاف.
ووجهه ان الموهوب له هو العبد، وإن أبى العبد قبوله بطلت الهبة فيجب أن يكون الإيجاب والقبول من جهته، وإن كان الملك ينتقل إلى سيده فكذلك الهبة، وهذا كالوكيل، يجب أن يكون الإيجاب والقبول إليه، وإن كان الملك يصير للموكل، والعلة في الجميع أن التصرف للمعقود عليه وإن كان عن غيره.
قال: وكذلك إن أوصى لعبد غيره بوصية فقبلها العبد صحت الوصية، وكان الشيء لمالك العبد، وإن لم يقبلها بطلت، ووجه هذه ما مضى في الأولى.
مسألة:

(90/3)


قال في المنخب: ولا يجوز لرجل أن يهب في دفعه واحدة أكثر من ثلث ماله، وهذا خلاف رواية الأحكام، على ما يجيء في الباب الثاني والمعمول عليه هو رداية الأحكام، لأن هذا قول لا أعلم أحداً قال به قبله، ووجه هذا القول قول الله عز وجل: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُوْلَةً إِلَى عُنُقِكَ}، فنهى عز وجل عن الإسراف في الإمساك، وفي الإعطاء فوجب القصد في ذلك، وهو الثلث ليلحق جواز الوصية به، وعن النبي صلى االله عليه وآله وسلم أنه نهى عن الوصية بأكثر من الثلث، وقال: والثلث كثير، ولأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون االناس فنهى عن إخراج ما زاد عن إخراج ما زاد على الثلث لئلا يلحق الورثة ضرر وسوء حال، ولا فصل بين ان يذهب المال في حياة الإنسان أو بعد وفاته فيما يلحق الورثة من الضرر وسوء الحال، وأيضاً قصرت الوصية على الثلث لحق الورثة بدلالة أن من لا وارث له تنفذ وصيته في جميع المال، فيجب أن تكون الهبة كذلك لحق الورثة، وهذا القو يضعف لأن المسلمين أجمعوا على أن المرء أولى بجميع ماله في هذه الرواية أيضاً إجازة هبة جميع ما يملك، ولكن على التدريج، وذلك واحد فيما يلحق الورثة، قال: فإن وهب ثلث ماله، وسلمه إلى الموهوب كان له بعد ذلك أن يهب الثلث مما بقي، وعلى هذا القول يجب أأن يكون القول في الباقي يعد ذلك كالقول فيما مضى حتى لا يبقى شيء من المال فيعود الأمر إلى أن يكون الجميع موهوباً، فبان أن حكم الهبة ليس حكم الوصية.
قال: أيضاً في المنتخب: وإن وهب أكثر من الثلث كان له أن يرجع حتى هلك هو كان لورثته أن يرجعوا فيه إلا أن يكون وهب ماا وهب على الموصي فليس للواهب ولا لورثته على الموهوب له إلا العوض.
ووجه ما ذكر في الرجوع هو ما مضى، فإذا كانت على العوض فيجب أن تصح الهبة، لأن الهبة على العوض كالبيع على ما سيجيء القول فيه.
مسألة:

(90/4)


قال في المنتخب: لو أن رجلاً وهب ثلث ماله لرجل ثم وهبه لآخر كان المال للأول وذلك كالبيع، إذا باع واحداً بعد واحد كان للأول، فكذلك الهب لأنه تمليك صحيح قال: فإن وهب ماله كله لرجل ثم وهب كله لآخر كانا شريكين في الثلث، وهذا لأن الهبة الأولى لم تقع مقبولة على رواية المنتخب، وكذا الثانية، فلما أراد تصحيح الهبة الأولى لم تقع مقبولة على رواية المنتخب، وكذاا الثانية، فلما أراد تصحيح الهبة جعلهما في الثلث شريكين، ومثل هذا من رواية المنتخب، وهو ضعيف.
مسألة:
قال: فإن وهب ماله كله لرجل على أن ينفق عليه حياً كاانت الهبة باطلة، وللمنفق ما أنفق، وذلك لجهالة العوض كالبيع، وإذا كان العوض مجهولاً وجب فساد الهبة كفساد البيع لجهالة الثمن لأن العوض فيها كالثمن في المبيع، وللمنفق أن يرجع بما أنفق لأنه لم يتبرع كما أن المشتري لو أعطى بعض ثمن مجهول كان له أن يرجع بما أعطى إ ذا بطل البيع.
قال: وكذلك إذا استأجره بماله أو ثلث ماله على أن يخدمه حتى يموت كانت الإجارة باطلة، ولمن خدم أجرة مثله، وذلك أنه استأجره لأمر مجهول ففسدت الإجارة، وكان لمن خدم أجرة مثله، لأن ذلك حكم الأجير في الإجارة الفاسدة على ما سلف القول فيه في كتاب الإجارة.
مسألة:
قال: ولو ان رجلاً ورث آخر فلم يطلب الميراث حتى مات كان لورثته أن يطلبوه إلا أن يكون الذي ورث قد وهب نصيبه من الإرث هبة صحيحة لموهوب بعينه، وهذا مالا خلاف فيه، لأن الإرث صار حقاً للوارث، وملكاً له، وملكه لا يبطل بالكف عن طلبة.
مسألة:

(90/5)


قال: ولو أن رجلاً وهب لرجل هبة لا يجوز له الرجوع فيها ثم باعه كان للموهوب له أن يأخذه من المشتري، ويرجع المشتري بالثمن على البائع، وذلك أن الهبة صارت ملكاً للموهوب مستقراً لا يتأتى فيها الفسخ، فوجب أن يكون حكمها حكم سائر أملاكه في أنهاا إذا بيعت بغير رضاه كان له أن يأخذها من المشتري، وكان للمشتري الرجوع على البائع بالثمن، فإن وهب هبة يجوز له الرجوع فيهاا ثم باعها جاز البيع، وذلك أن الرجوع فيها إذا كان جاائزاً كان بيعه رجوعاً فوجب أن يصح، وهذا يدل على أن الرجوع يصح بغير حكم الحاكم كالرجوع عن الوصية، والرجوع عن التدبير حيث يجوز الرجوع، وعند أبي حنيفة لا يرجع إلا بحكم الحاكم، أو تسليم الموهوب له كالشفعة لأنهما يقتضيان نقل الملك عن مالك إلى مالك، وهذا القول ليس ببعيد بل هو الأقرب عندي، والله أعلم.
قال: وإن استحق الموهوب لم يرجع الموهوب له على الواهب بشيء، إلا أن يكون وهب على عوض فإن يرجع عليه بالعوض وذلك أن الحصة إذا استحقت لم يكن على الواهب سبيل، لأنه لم يأخذ شيئاً في مقابلتها، فإن كانت على عوض رجع بالعوض لأنها كالثمن كما أن المشتري يرجع بالثمن على البائع إذا استحق المبيع.
مسألة:
قال: ويكره ألا يسواي بين أولاده في الهبة، إلا أن يكون فيهم من بره أكثر فتكون الزيادة مكافأة له على بره.
الأصل فيه حديث النعمان بن بشير أن أباه نحله غلاماً فانق به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشهده، فقال له: أكل ولدك نحلته، فقال: لا فامتنع وقال صلى الله علهي وآله وسلم في بعض الأخبار: إرتجعه، وفي بعضها: أردده، وفي بعضها: أشهد عليه غيري، وفي بعضها: إني لا أشهد إلا على حق، فدل ذلك على ما قلناه من أنه لا يجوز إلا التسوية بين الأولاد، إلا على الوجه الذي قلناه، فإن تلك الزيادة لا تكون غبتداء نحلة، وإنما تكون مكافأة على جميل أفعاله.

(90/6)


واختلفوا في التسوية، فذهب أبو يوسف إلى أنه يجب أن يسوي بين الذكر والأنثى في العطية، وقال محمد: يجب أن يسوي بينهم على قدر مواريثهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا نص ليحي عليه السلام في هذا إلا أن مسائله تدل على أن التسوية بحسب المواريث كما ذهب إليه محمد، ووجهه أنه لو مات لاستحقوا المال على هذا السبيل، وكان يكون ذلك هو العدل في القسمة بينهم فكذلك قبل الموت.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ألك سواه، وقوله: أعطيت كلهم مثل الذي أعطيت النعمان من غير السؤال عن الذكر والأنثى يدل على التسوية؟
قيل له: ألك سواه، وفي بعض الأخبار أله إخوة إشارة إلى الذكور، وعليه خرج الكلام، ويحتمل أن يكون صلى الله علي وآله سولم أراد هل أعطيت كُلاً ما يكون تسوية بينهم ثم يكون الرجوع في التسوية إلى الدلالة.
فإن قيل: روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ساووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلاً لفضلت البنات)، فلم يفرق بين الذكر والأنثى في المساواة.
قيل له: الجواب عن هذا ما تقدم من أن هذا يقضي التسوية والمرجع في التسوية إلى الدلالة.
مسألة:
قال: فإن وهب لبعضهم أكثر مما يهبه للأخر لا على طريق المكافأة جاازت الهبة إلى الثلث، ولم يجز فوقها، هذه رواية المنتخب، ومبني على ان الإنسان لا يهب أكثر من الثلث في صحته كما لا يهب في مرضه.
فأما في الأحكام فإنه ذكر أنه لا يجوز إلا التسوية، ولم يذكر كيف يكون حاله لو فاضل بينم إلا أن يكون كلامه هذا يدل على أنه لو فعل لم يجب أن ينقض لأن الرواية التي يعمل بها هي رواية الأحكام في أن الصحيح يهب من مال ما شاء، وأن حكم الثلث وحكم الجميع سواء، فإذا نص هو في المنتخب على أن المفاضلة تصح في الجميع، إذا فعلها، وإنما يكره له ذلك، ويؤمر فيما بينه وبين الله عز وجل بالمساواة بينهم، وبه قال: أبو حنيفة، وأصحابه والشافعي.

(90/7)


وحكي عن قوم متقدمين من أصحاب الحديث مثل ابن راهويه، ومن جرى مجراه ابطال ذلك، فإنهم تعلقوا بالروايات التي وردت في قصة النعمان.
ووجه ما ذهبنا إليه أنه ليس في شيء من هذه الألفاظ المروية ما يدل على أن الهبة على جهة المفاضلة لا تستقر، ولا تقع، وإنما يدل الجميع على كراهة ذلك، والمنع منه، لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ارتجعه)، يدل على أنه أمره بالرجوع فيها، ولا يصح الرجوع فيها، ألا وهي ثابتة مستقرة، وقوله أيضاً: (أردده)، يدل على ذلك، ويحتمل أن يكون أراد أردد هذا الرأي فقد ورد في بعض الأخبار أن بشيراً لم يكن أوقع الهبة، وإنما أراد أيقاعها، فقصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقص عليه فمنعه من ابتدائهاا، وذلك ما رواه الطحاوي في شرح الآثار عن أبي الزبير عن جابر قال: قالت امرأة بشير لبشير: انحل ابني غلامك هذا، وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى النبي وحكى قول زوجته، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أله أخوة؟)، قال نعم، قال: (أفكلهم أعطيته؟) قال: لا، قال: (فإن هذا لا يصلح وإني لا أشهد إلا على حق)، فدل ذلك على أن الهبة لم تكن وقعت بعد، وقوله أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: (أشهد على هذا غيري)، يدل على اجازة ما فعل لأنه لم يقل هذه الهبة باطل، وإنما قال: أشهد على هذه الهبة غيري، فقد كان يأمر غيره بالصلاة على من عليه دين، ولا يصلي هو بنفسه تعظيماً لأمر الدين، كذلك هذه المسالة، وما روي لا أشهد على جور ليس بالكثير في الروايات، فإذا ثبت أن يكون أراد العادل عن الطريقة، كما يقال: جار السهم.

(90/8)


وفي بعض الأخبار أنه قال: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم قال: فأشهد على هذا غيري)، على أن الغرض بما قال أن الغرض بما قال أن يتساووا في البر، إذا ساوى بينهم في العطاء فيكون ذلك ندباً وارشاداً إلى الأجمل، وقد ثبت عن عدة من الصحابة أنهم فاضلوا بين أولادهم في العطايا، ولم ينكر ذلك أحد فدل ذلك على ما قلناه.
باب القول في رجوع الواهب في هبته
من وهب ماله كله جاز له الرجوع في ثلثيه، فإن لم يرجع حتى استهلك الموهوب له ما وهبه لم يرجع الواهب عليه بشيء، هذه رواية المنتخب.
وقال في الأحكام: الصحيح أن يهب من ماله ما يشاء، وهذه المسألة قد مضى الكلام فيها في الباب الأول، وقد ذكرنا أن الصحيح الذي نذهب إليه هو ما ذكره في الأحكام، وبينا وجهه فلا غرض في اعادته.
مسألة:
قال: والمريض الذي يخاف عليه ليس له أن يهب أكثر من الثلث إلا بإجازة الورثة، أما الصحيح فقد بينا حاله في الهبة، وأما المريض فنشرح حاله في كتاب الوصايا، ونبين الفصل بين المرض اليسير وغيره.
مسألة:
قال: ومن وهب شيئاً ابتغاء وجه الله أو صلة للرحم لم يرجع فيه إلا ان يكون الموهوب له ولداً صغيراً فله أن يرجع فيما وهب له، وحكي عن مالك أن للأب أن يرجع فيما وهب لابنه حتى يتزوج، وهذا قريب مما قلناه.
والأصل في هذا قريب مما قلناه.

(90/9)


والأصل في هذا حديث النعمان، لأن الأخبار دلت على أنه قد كان وهب فأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع فيها، وردها بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فارتجعه، وبقوله: فاردده ودل بقوله: (أشهد غيري)، على أن أمره بالرجوع على سبيل الندب، وأن الهبة قد كانت ثابتة، وأن الرجوع فيها يصح، وذلك أنهم قد أجمعوا على أن الرجوع في الصدقة لا يجوز ولا أحفظ في ذلك خلافاً، والصدقة منها تطوع، ومنا واجب، والتطوع هو ما يتقرب به إلى الله عز وجل، ويوصل به الرحم من غير وجوب ذلك، وهذا القبيل من الصدقة يحل للغني ولبني هاشم، والهبة للأولاد من هذه الجملة، فلما ثبت تحريم الرجوع في الصدقة، وإن كانت متطوعاً بها قلنا به عموماً، وخصصنا الصغير برجوع الوالد عليه لحديث النعما، وعلى هذا يحمل ما روي: (لا يحل للواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد فيما وهب لبنه)، ويحتمل أن يكون الوجه في ذلك ما عرف من شفقة الآباء خصوصاً على أصاغر الأبناء، وأنهم لا يتصرفون عليهم مما يضرهم في مجرى العادات إلا فيما لا بد منه، فخصوا ذلك بهذه الأحوال، ولما لهم من الولاية الثابتة عليهم التي هي أقوى الولايات، وما بينا من الهبة لذوي الأرحام في معنى الصدقة دليل على انه لا يجوز الرجوع فيما وهب لهم، ويدل على أن كل عطاء يتقرب به إلى الله تعالى يكون صدقة ما حكى الله عن أولاد يعقوب: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا}، ولم يكونوا فقراء، وإنما اعطى على سبيل التقرب إلى الله عز وجل، وروي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أعطيت أمي حديقة وماتت، ولا وارث لها غيري، فقال: (وجبت صدقتك ورجعت إليك حديقتك).
مسألة:

(90/10)


قال: فإن وهب لغير ما ذكرنا كان له أن يرجع ما دام قائماً بعينه، وحين يعلم باستهلاكه، فإن لم يرجع حين يعلم باستهلاكه فليس له ان يرجع بعد ذلك، والأصل في جواز الرجوع في الهبة تشبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الراجع في هبته بالكلب يقي ثم يرجع فيه، وذلك أنه شبه الرجوع في الهبة بامر مستقبح مستكره وليس بحرام على فاعله، لأن عود الكلب فيه مستقبح، وليس بحرام على الكلب فعلم أن الرجوع في الهبة مستقبح، وليس بحرام على الراجع.
فإن قيل: روي ذلك بغير ذكر الكلب الراجع في هبته كالعائد في قيئه.
قيل له: أكثر الأخبار واردة بذكر الكلب، ولعل بعض لرواة حذف ذكر الكلب اختصاراً على أن الزيادت في الأخباار مقبولة، ومن حكمها أن تضااف إلى غيرها مما ليس فيها تلك الازيادة حتى تكون كالخبر الواحد، والمعنى معنى واحد في مثل هذه المواضع ليصح ألا تشبيه، ولا يشبه الحراام بالحلال، ولا الحلال بالحرام، لأن ذلك يتدافع.
وروى الجصاص حديثاً عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب يقي فيأكل قيأه فإذا استرد الوهب فليوقف وليعرف بما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب)، فدل هذا على صريح ما نذهب إليه، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بين أن الرجوع في الهبة مستبح مكروه، وأن الرجوع مع ذلك صحيح يجب أن يمضى إذا طلبه الواهب.
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: الواهب أولى بهبته مالم يثبت منها.
وروي نحوه عن عمر، وعن فضالة بن عبيد الأنصاري، رواه عنه الطحاوي أنه استقبح الرجوع، وأثبته في حديث ذكره، وهو قول زيد بن علي عليها السلام قاال زيد: (من وهب هبة فله أن يرجع فيها مالم يكافأ عليها وكل هبة لله أو صدقة لله فليس لصاحبها أن يرجع فيها)، قال زيد: (من الهبة لله عز وجل الهبة للأقارب المحارم).

(90/11)


على أنا لو سلمنا أن الرجوع حرام لتشبيهه صلى الله عليه وآله وسلم بالقي كان لايمنع ذلك صحة الرجوع، لأن العائد في قيئه قد صح رجوعه في القيء، وعود القيء إليه، ولا يمتنع أن يكون الفعل حراماً، فإذا وقع موقع الصحيح كالبيع عود أذان الجمعة، والطلاق في الحيض.
ووجه قولنا: إنه يرجع فيها ما دام الشيء قائماً بعينه وحين يعلم باستهلاكه فإن علم باستهلاكه ولم يرجع بطل الرجوع بعد بذلك، لأنه يريد نقل ملك غيره إليه بحق له،، وهو كونه واهباً لذلك الشيء كما أن الشفيع يريد نقل ملك االمشتري إليه بحق له وهو الشركة أو الجاورة، فكما أنه لا بد للشفيع من أمر يضيق عليه الطلب حتى تفوت إن لم يطلب عند ذلك الأمر وهو عمله بحصول البع كذلك الوااهب لا بد من أمر يضيق عليه الاطلب حتى يفوت أن له يطلب عند ذلك الأمر للعلة التي ذكرناها، وهي أنه يريد نقل ملك الغير إلى نفسه بحق هو له، وليس هنا أمر يضيق عليه الطلب إلا العلم بالإستهلاك، فوجب أن يكون هو قياساً على الشفيع.
فإن قيل:: الشفيع لا يمكنه الطلب قبل العلم بالبيع، والواهب أمكنه الرجوع قبل العلم بالإستهلاك.
قيل له: هب أن هذا الفرق صحيح فما فيه ما يمنع قياسنا على أن الشفيع أمكنه الطلب أيضاً بخبر لا يغلب في ظنه أنه صدق، أو بأمارة تظهر من دون خبر يقع عليه، ومع هذا لا يضيق عليه الطلب حتى يحصل العلم بالبيع، أو ما يجري مجراه من الظن فكذلك ما ذهبنا إليه، وعند أبي حنيفة حتى يخبر الشفيع عدل أو عدلان.
(فصل)
أجمعوا على أن ذوي الأرحام المحارم لهم تخصيص بوجوب الصلة، لأن لهم ضرباً من التخصيص من دون غيرهم، وهو التحريم.

(90/12)


وقال يحي في المرأة تهب لزوجها ما أخذته صداقاً منه فليس لها الرجوع فيه إن كانت فعلت ذلكك صلة للرحم، إن كانت بينهما فدل ذلك من مذهبه على أنه لا يقتصر بذلك على ذي الأرحام المحارم، فوجب أن يكون مذهبه مجوازة ذلك إلى الذين يلونهم بدرجة، وهم أولاد الأعمام، وأولاد العمات، وأولاد الأخوال، وأولاد الخالات لأن لهم ضرباً من التخصيص، وليس ذلكك لمن وراءهم، ألا ترى أنا لو اعتبرنا ما ذكرناه في جميع الأقارب من غير تخصيص كان لا ينتهي إلى حد، فإن الناس كلهم أقرباء يلتفون أكثرهم عند سام بن نوح والباقون يلتفون عند نوح ولا شك أنهم يلتفون عند آدم فلا بد من تخصيص ولا تخصيص غير ما ذكرناه.
ووجهه أن الله تعالى خصص هؤلاء ضرباً من التصيص فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الآتِيْ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}، إلى قوله: {وَبَنَاتِ خَالاتِكَ}، ثم قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِ}، فعم الأزواج وخصصهن، ثم قال ما يجري مجرى االعموم: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً}، فأشار إلى النساء أجمع بشرط الإيمان، فجعل لهؤلاء ضرباً من التخصيص ومن طريق العرف حصل لهم ضربااً من التخصيص في الحنو والشفقة، كما لذوي الأرحام المحاارم بالآيات فأما الزوجات.
فليست زوجيَّتها في باب التواهب بينهما جاارية مجرى الرحم عند يحي عليه السلام، وهي تجري مجرى الرحم عند أبي حنيفة.

(90/13)


ووجهه أن ما بينهما من جهة السبب لا من جهة النسب، فأشبه الولاء، والولاء أوكد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب ولأن الولاء لا ينقطع ولا يتبدل، وليست الزوجية ككذلك، فإنها تنقطع وتبدل، وأيضاً قول الله عز وجل: {الَّذِيْنَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}، وقال: {وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَى}، لم يحمل أحد من المفسرين على الزوجين، وكل حملة على ذوي الأرحام، فوجب أن تكون الزوجية في هذا الباب كاولاء في جواز الرجوع في الهبة معها.
قال: فإن وهب على العوض طالب بالعوض، إن كان معلوماً، وإن كان مجهولاً فالهبة فاسدة يرجع فيهاا ما دامت قائمة بعينها، وفي قيمتها بعد استهلاكها، قد ثبت أن الهبة على العوض جارية مجرى البيع، لذلك أوجبناا فيهاا الشفعة، وأن العوض ككالثمن، وكما أن للبائع أن يطالب المشتري بالثمن كان للواهب ن يطالب الموهوب له بالعوض إن كان معلوماً، فإن كان مجهولاً فيجب أن تكون الهبة فاسدة، كفساد البيع بجهالة الثمن، فإذا فسدت الهبة كان للواهب الرجوع فيها إن كانت قائمة، وفي قيمتها إن كانت تالفة، كمكا يجوز للبائع بيعاً فاسداً أن يرجع في المبيع وينقضه إن ككان المبيع قائماً، أو في قيمته إن كان تالفاً.
مسألة:
وككل من وهب ديناً له على رجل لم يجز له الرجوع فيه إلا أن يهبه على عوض مجهول فله الرجوع فيه تخريجاً، وذلك أن الدين في حكم المستهلك لأنه ليس بعين قائمة، وإنماا هو شيء في الذمة فليس له الرجوع فيه، لأن ما صح الرجوع فيه لقيام عينه يبطل الرجوع إذا علم باستهلاككه، ثم لم يطلب في الحال على ما سلف القول فيه، فأولى أن لا يثبت حق الرجوع فيما هو يوم الهبة في حكم المستهلك.
وقلنا: إلا أن يكون على عوض مجهول لأنه يصير في حكم البيع، فكما أن من باع شيئاً في ذمته بثمن مجهول يكون البيع فاسداً، ككذلك من وهب شيئاً في ذمته بعوض مجهول كانت الهبة فااسدة.
مسألة:

(90/14)


قال: وكل من وهب شيئاً فلم يقبله االموهوب له أنت الهبة فاسدة، وجاز للواهب الرجوع فيه، وككذلك الصدقة.
قد بينا فيما سلف ان عقد الهبة يفتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع، ودللنا على صحته بما لا فائدة في إعادته، فكذلك الصدقة، ولا يمتنع أن يككون القبض يجري مجرى القبول خصوصاً في الصدقة، فإن العرف بين المسلمين جار بذلك، والتعالم به دائم.
قال: وما تصدق به على الصغير انتظر بلوغه، فإن قبل بعد البلوغ جاز، وإن لم يقبله لم يكن له، وهذا يجب أن يكون المراد به إذا قبل عنه من ليس بولي، لأنه إذا لم يككن قابل أأصلاً لم تقف الهبة أصلاً، لأن العقد لا يقف كما نقول ذلك في البيع والنكاح، فإذا قبله انعقدت ووقفت، وتكون باقية على ملكك الواهب إلى أن يبلغ الصغير فيجوز االقبول هذا معنى قوله: يقبله أو يفسخه فتبطل الهبة، فإن قبل وليه جاز قبوله عليه، وذلك مكا يجوز قبول سائر العقود كالبيع والإجارة.
مسألة:
قال: ومن وهب شيئاً لا يجوز للواهب الرجوع فيه، ثم مات الموهوب له ككان لورثته، ولم يرجع الواهب ولا ورثته على ورثة الموهوب له، هذا لا خلاف فيه، لأن ملك الموهوب له قد استقر فجرى مجرى سائر أملاكه، قال: وككذلك إن مات قبل أن يقبض ما وهب له لم يرجع االوااهب فيه، وذلك أنا قد بينا أن القبض ليس بشرط لاستقرار الهبة بما كفى فهو جار في هذا الباب مجرى البيع.
قال: ومن تصدق بصدقة لم يجز له الرجوع فيها سوى تصدق بها على صغير أو كبير، قريب أو بعيد، وهذا قد مضى القول فيه، ولا يحتاج إلى إعادته.
تم والله أعلم بالصواب.

(90/15)


باب القول في العمرى والرقبى
العمرى والرقبى يجريان مجرى االهبة إن لم يقيدا بوقت، فإذا قال رجل لرجل قد أأعمرتكك جاريتي هذه، أو دااري هذه او غيرهماا ككان ذلك بمنزلة االهبة.
قول أأبي حنيفة: إن العمرى بمنزلة الهبة، وإن الرقبى بالطلة، وقد قاال: إنها عارية، ولعل المرجع بالعبارتين واحد.
وحكي عن أبي يوسف أن الرجل إذا قال لك: داري هذا رقبى أنها هبة، ويبطل قوله: رقبى.
والشافعي اختلف في قوله، فحككي عنه انه قال في القديم:: إنه يكون حياته له، ثم يرجع إلى المعمر، وحكي ذلك عن مالك.
وحككي أيضاً عن الشافعي في الجديد أن ذلك عطية صحيحة، وذكر أيضاً أن الرقبى صحيحة، وهي أن يقول: هي لك، فإن مت قبلي رجعت إليَّ، وإن مت قبلك كانت لك، فالشرط باطل، والعطية صحيحة.
وهذا قريب من قول أبي يوسف.
وتحصيل مذهب يحي عليه السلام أن العمرى والرقبى بمنزلة واحدة، إذا اطلقنا ولم تقيدا بوقت ككانتا بمنزلة الهبة الصحيحة، وإذا قيدتا لوقت كانتا بمنزلة العارية، ودل كلام االناصر على أنه يجعل العمرى المطلقة رااجعة إلى من ااعتمرها، وأن ذكر العقب كانت بعد المعمر لورثته.
وأعلم أن العمرى في اللغة مشتقة من العمر، ويجوز أن يككون عمر المعمر نفسه ككأنه عبر عن البقاء بالعمر، كأنه قال: هذه الدار أو الجارية ل ما بقيت.

(91/1)


ولفظة الرقبى يجوز أن تكون مشتقة من الترقب، ككأن كل واحد منهما يترقب موت صاحبه، ويجوز أن تكون مشتقة من الرقبة، كأنه يقول: قد جعلت رقته لك، فلما احتمتا هذه الوجوه لم نحملها على اللغة، ورجعنا إلى قضية الشرع فيهما، وقلنا بموجبه من أنهما يقتضيان الهبة، إلا أن الهبة تنصرف تارة إلى الأعيان، وتارة تنصرف إلى المنافع والعين تكون كالعارية، فكان الأصل فيهما الحديث المشهور رواه الطحاوي في شرح الآثار وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئاً أو أرقبه فهو للوارث إذا مات)، فلم يفصل بين العمرى والرقبى، فأجراهما مجرى واحدااً، وهو نفس قول يحي بن الحسين خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة من التفرقة بينهما، وهذا الحديث رواه ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودل هذا الخبر على أنهما إذا أطلقتا كانتا هبة باتة.
وروى الطحاوي عن أبي سلمة عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي يعطاها، لأنه أعطى عطاء أوقعت فيه المواريث)، فدل تعليله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أعطى عطاءً أوقعت فيه المواريث، على أنها قد تككون على غير هذا الوجه، فصح بذلك ما ذهبنا إليه من أنها إذا اطلقت ككانت هبة، وإذا قيدت بوقت كانت عارية لأنهما لو ككانتا هبة على كل وجه وقعتا لم يكن لتعليله معنى، إذ كان يكون وجود العلة وعدمها سواء، ثم سائر الأخبار الوارجة في العمرى وردت ملقة، منها: حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل العمرى ميراثاً، وهذا هو ما نذهب إليه إذا كانت مطلقة.
وعن أبي سلمة عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( العمرى جائزة لمن وهبت له).

(91/2)


فإن قيل: روي عن جاابر بن عبدالله: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في امرأة من الأنصار أعطاها ابنها حديقة نخل فماتت، فقال ابنها: أعطيتها حياتها فقال: هي لهاا حياتها وموتها، قال: فإني كنت تصدقت بها عليها، فقال ابنها:: اعطيتهاا حياتها فقال: فذاك أبعد لَكَ)، فأبطل صلى الله عليه وآله وسلم الشرط.
قيل له: يجوز أن يكون أبطل الشرط، لأن الإبن حاول إثباته بمجرد الدعوى، وكان الظاهر أنه أعطى عطاء مطلقاً، ليككون ذلك موافقاً لقوله المشهور صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون المؤمنون عند شروطهم)، على إنا لا نمنع ان تكون الهبة إذا لم تكن بلفظ العمرى لم يثبت شرط التوقيت فيها.
على أن من قول أبي حنيفة أن الرجل إذا قال داري لك عمرى عارية أو سكنى اكن ذل عارية فنقيس عليه قوله: لك عمرى لوقت ككذاا، والعلة انه لم يتمم العمرى بل عدل بها إلى صفة الهبة قال: ويكره إن كانت العمرى جارية، أو الرقبى أن يطأها المعمر أو المرقب حتى تثبت، ويتيقن أن ذلك غير مؤقت، وذلك لما بينا أنهما مع التوقيت يككونان عارية، فيكره الإقدام على الوطء مع الشبهة حتى يحصل اليقين.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً أعمر رجلاً جارية عمرى مطلقة، ثم ادعى أنه أعمرها إلى وقت وجبت عليه البينة واليمين على المعمر، وذلك أن الظاهر فيها الإطلاق والإبهام، فإن ادعى المعمر وقتاً لم يظهر فعليه البينة، وعلى المنكر اليمين.
قال: وإذا ثبتت العمرى وككانت جارية لم يكره حينئذ وطؤها، وذلك كأنه قد استقر ملكه لها حككماً.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً قال لرجل: قد أعمرتك جاريتي هذه عمرى، أو عمرك كانت العمرى على ما شرطت، لأنها عمرى مؤقتة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون عند شروطهم).

(91/3)


قال: وإن كانت العمرى جارية لم يحل للمعمر له أن يطأها لأن الهبة ليست صحيحة، وذلك لما بينا من أن العمرى المؤقتة عارية، فإن الجارية المعارة لا يحل وطؤها لا خلاف فيه بين المسلمين.
قال: فإن وطئها عالماً بالتحريم لزمه الحد، وإن كان أولدها كان الولد مملوكاً لسيد الجارية، وذلك أن الوطء إذا كان حراماً عنده، وعلم أنه كذلك كان ذلك زنى، إذا لم يعرض هناك شبهة، ولا يجعل الإختلاف فيه شبهة إذ لا يعتبر ذلك أحد، فإن كلا أوجب حداً ما على أمر فيه خلاف فصح بالإجماع أن وقوع الخلاف لا يوجب أن يكون الشيء شبهة إذا كان عند الفاعل أنه حرام، ولم يكن هو ممن اشتبه عليه ذلك فصار الفعل زنى محضاً، وسنزيد شرح هذا في كتاب الحدود.
وقلنا: إن الولد يكون مملوكاً لسيد الجارية، لأن النسب إذا لم يثبت لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وللعاهر الحجر)، كان عن زنى فوجب أن يكون مملوكاً في حكم أمه.
قال: وإن وطئها لشبهة العمرى غير عالم باالتحريم سقط عنه الحد، ولزمه قيمة ولده لسيد الأمة إن كان أولدها، ويلزمه عقرها تخريجاً، لأن الوطء إذا وقع عن شبهة الملك لم يجب الحد، ووجب أن يثبت النسب، ويلزم العقر كما يكون ذلك في الوطء الواقع عن شبهة عقد النكاح لا خلاف فيه، وألزمناه قيمة الولد، لأنه في حكمك المملوك لسيد الأمة، لأن الولد في باب الحرية والرق يكون في حكم الأم، مالم يعرض أمر بغير ذلك، والنسب ثابت، وهو مع ذلك حر لكن لا يسقط حق سيد الأمة فوجب أن يلزمه قيمة الولد كما قلناه في ولد المغرور لا خلاف فيه.
مسألة:
قال: وإذا أعمر رجلا رجلاً جارية عمرى مبهمة صحيحة ومات المعمر قبل أن يطأها كان لولده من بعده أن يطأها، وذلك لأن الملك لا حرمة له مالم يقع معه الوطء كعقد النكاح يكون له حرمة، وإن لم يقع الوطء فلذلك أبحناها للولد، وهذا مما لا خلاف فيه.

(91/4)


قال: ويجوز العمرى والرقبى في الضيعة والنخلة والشاة والجمل وغير ذلك، مبهماً ومقيداً، وذلك أن المبهم من ذلك يكون هبة، وهبة هذه الأشياء تصح بمعنى المنافع، وذلك أيضاً يصح.
باب القول في السكنى
ولو أن رجلاً دفع عرصة إلى رجل ليبني فيهاا، ويسككنا إلى وقت معلوم، فبناها وسكنها إلى ذلك الوقت ثم طالبه الداافع بتفريغ العرصة حكم له عليه بنقض بنائه، وتفريغ العرصة.
وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (العارية مؤدااة)، وقوله: (على اليد ما أخذت حتى ترد)، وصاحب الأرض معير فوجب أن يكون له الرجوع في العارية، كما يرجع في سائر العوااري، لأنه بعد المدة بمنزلة الغاصب، وبمنزلة من وضع شيئاً في أرض غيره فيؤمر برفعه، وتفريغ ملك الغرير.
قال: وإن كان دفع العرصة إليه سكنى، ولم يؤقت له وقتاً فبناها المدفوع إليه فطالبه الدافع بالعرصة، قضي له على المدفوع إليه بذلك، وقضي عليه بقيمة بنائه إن أحب المدفوع إليه.
إعلم أن من دفع عرصة للسكنى، وأذن له في البناء فيهاا فإنه لا يخلو من ان يأذن له في البناء مؤقتاً أو غير مؤقت، ولصاحب العرصة على الوجهين االمطاالبة بتفريغ العرصة، وتسلمها إليه، فإن طالب بتفريغ المؤقت قبل انقضاء المدة، فإنه يغرم قيمة بنائه إن شاء صاحب البناء، وإن طالب بعد انقضاء المدة فلا غرامة عليه، ويأخذ بتفريغ عرصته، وقلع ما عليها، وإن طالب بتفريغ االعرصة، وقد أذن له في البناء مطلقاً غير مؤقت، فإن صاحب العرصة يغرم قيمة البناء إن شاء الباني.
قاال أبو حنيفة: لا يغرم البناء إلا على وجه واحد، وهو أن يأذن له في البنااء إلى وقت معلوم ثم يطالبه برفع البناء قبل ذلك الوقت، ولا يغرم في الوجهين االآخرين.
وعن الشافعي أنه يغرم في الوجوه الثلاثة، إلا أن يكون اشترط عليه القطع والرفع في المؤقت عند انقضاء الوقت.

(91/5)


وحكي مثل قولنا عن المزني أن يضمن في الوجهين من الثلاثة، حصل الوفاق بين الجميع في ضمان وجه واحد، وهو إذا أعارها مؤقتاً ثم طالب برفع البناء قبل مضي الوقت.
ووجهه أنه غرم في البناء والغرسس، وفي تبقيتهما إلى المدة المضروبة، فلما طالبه برفعها وجب أن يغرم ماا لزمه من الضرر لغروره إذا طالب بذلك قبل انقضاء المدة كا يضمن البائع عند الإستحقاق ما دخل بغروره.
وأايضاً لم يكن الباني من حين بنى إلى حين طلبه بالنقض متعدياً فوجب أن يضمن ما غرم فيه، كمككا نقول في المشتري إذا بنى ولا شفيع يطالبه أن الشفيع إذا قام غرم قيمة بنائه، فإذا ثبت ذلكك لزم ذلك من أعار سكنى مطلقة خلافاً لما ذهب إليه أبو حنيفة من أنه لا يغرم، وذلك أن الإطلاق يقتضي التأبيد بظااهره فيكون الدوام حكمه مع الإطلاق حكمك المدة االمضروبة مع التوقيت.

(91/6)


ألا ترى ان من حلف ألا يكلم زيداً شهرااً يلزمه الحنث مع كلامه في الشهر، كما أن من حلف أن لا يكلمه، وأطلق يلزمه االحنث متى كلمه، وإذا ثبت ذلك كان المعير إذا أطلق له البناء غير مؤقت كاان قد غره في البنااءس، وفي بتقيته على الدوام أبدا فمتى طلبه برفع البناء لزمه أن يغرم قيمة بنائه قياساً على المسألة الأولى واستلالاً عليها، كما استدللنا على المسألة الأولى، فإذا طالبه برفع البناء عند انقضاء المدة في الإعارة المؤقتة فإنه لا يضمن قيمة البناء خلافاً لما ذهب إليه الشافعي، لأنه لم يغره حين عرفه الوقت التي تنقضي فيه العارية، ولأنه بعد ذلك يكون متعدياً، وإن لم يطالب صاحب العرصة بالتفريغ، لأن الأذن له وقع إلى غاية معلومة، فليس له أن يسكنها بعد ذلك إلا بإذن ثان، فسبيله سبيل الغاصب في أنه لا يغرم له المغصوب منه قيمة بنائه، وأيضاً حككي عن الشاافعي أنه لا يضمن إن كان شرط له الدفع بعد المدة، وهذا يمككننا أن نقيس عليه ما اختلفنا فيه باانقضاء مدة الأذن، على أن ذلك الشرط لا يفيد أمراً، لأن الأذن له حصل إلى مدة، فبعد المدةيعود الأمر فيه إلى الخطر الذي كان من قبل، وإنما يكون الشرط مؤكداً، لا أنه يفيد أمراً لم يكن في ذلك، كقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}، فوقعت الإباحة إلى هذا الوقت، فكاكن ما بعده عائداً إلى الحظر الأول، وقوله عز وجل: {ثُمَّ اتَمِّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، هو للتأكيد، وعلى هذا: {لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَى يَطْهُرْنَ}، لو خلينا وظاهره قلنا:: إنها تحل عند انقضاء الحيض، لكن دل الدليل على أنه لا بد من التطهر بعد ذلك.
قال: وككذا القول إن أعاره جداراً ليبني عليه مؤقتاً وغير مؤقت.
ووجهه ما ضى في إعارة العرصة فلا غرض في إعادته.
مسألة:

(91/7)


قال: ولو أنه لما دفع إليه العرصة شرط أن لا يبرح منها هو وعقبه لم يجز له أن يخرجهم منا، إلا بحدث يحدثونه في الإسلام، فإن أحدثوا وأراد الدافع أو ورثته أخراجهم غرم لهم قيمة بنائهم.
قوله: لم يجز أن يخرجهم محمول على الكراهة لأنه لا خلاف في الوعد، وتغرير للمعار، وعدول عن الوفاء، فأما من طريق الحكم فله ذلك، لأن المرء أولى بملكه من المعار لا خلاف فيه، والكلام في غرامة قيمته هو ماا مضى فلا معنى لإعاته.
مسألة:
قال: ولو أن لم دفع العرصة قال له: اابنها لك سكنى إلى أن تموت فبناها وسكنها، ثم مات الدافع لم يكن لورثته إخراجه منها ما دام حياً، وإذا مات قضي على ورثة المدفوع إليه لورثة الدافع بتفريغ العرصة، وهذا كالأول المنع لورثة الدافع من اخراجه على سبيل الكراهة بيناه، وذلك أن الوارث يقوم الموروث فيما له وعليه فيستحب لهم ااتمام ما بذله من موروثهم فإذا ماات ارتفع الكراهة، لأن مدة الإعارة قد استوفيت، وهذا فيماا زاد على الثلث، فأماا مقدار الثلث فهو كالوصية له، وليس للورثة أن يمنعوه.
مسألة:
قال: وإن قال له: ابنها وسكنها بالبناء، فبناه ولم يسكنها وماات قضى على ورثة المدفوع إليه بنقض البناء، وكان النقض لهم، وإن كان بنااها وسكنهاا قليلاً أو كثيراً ثم مات كان البناء لصاحب العرصة إن كان حياً، ولورثته إن كان ميتاً، وإن كان الدافع لم يشترط لبنااء كان النقض لورثة المدفوع إليه إذا طولبوا بتفريغ العرصة.
قد مضى االكلام في وجوب تفريغ العرصة، فإذا كان قال للباني اسكن بالبناء فهو عمل استحق عليه أجرة المثل، لأنه يجري مجرى الإجاارة الفاسدة.
وقوله: البناء لصاحب العرص بما سكن الباني متأول على أنه سلمه عن أجرة المثل إن كانت الأجرة بلغته على سبيل الصلح، ليكون ذلك على ما وقع العقد به، وإلا فلا وجه له سواه.

(91/8)


باب القول في الوقف
يجوز للرجل أن يقف ضيعته وداره وما يمكله من الحيوانات وغير ذلك القريب والبعيد مؤبداً وغير مؤبد.
معنى قولنا: مؤبداً وغير مؤبد، هو أن الوقف يصح سواء ذكر لمصرفه وجهاً يتأبد، أولم يذكر، وذكر وجهاً ينقطع، فإن كان ذكر لمصرفه وجهاً يتأبد، فلا خلاف في صحته بين القائلين بصحة الوقف، وإن لم يذكر صح الوقف على ما نبينه، ونبين الكلام في مصرفه.
ومن أصحابنا من ظن أن الشيء يكون وقفااً مدة ثم يرجع إلى المالك ملكاً له، وهذا فغلط، لأن الوقف إذا استقر لم يرجع ملكاً بتة لما نبينه.
وذهب العلماء بأجمعهم إلى صحة الاوقف غير [ي حنيفة فإنه يذهب إلى أنه لا يصح، وأن للواقف الرجوع إن شاء، ولورثته بعده إن شاؤا.
والأصل فيه ما ثبت من الروايات المتظاهرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف.
ويدل على ذلك ما روي عنه: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، فبين أن شريعته وشريعة من مضى من الأنبياء أن الإرث لا يتناول ما تركوه على وجه الصدقة، فدل ذلك على صحة الوقف.
فإن قيل: ما تنكرون أن يكون المراد به لا نورث بتة؟
قيل له: ما ذكرناه هو حقيقة اللفظ، لأن الإنسان الحر لا يورث، وإنما يورث ما تركه، فنفي الإرث عن المتروك على وجه الصدقة، لأن ذلك لو لم يكن كذلك لكان الكلام يتم عند قوله: (لا نورث ما تركناه)، وكن يبقى قوله: (صدقة)، منفرداً لا يتعلق به ما قبله، وذلك أخراج له من الفائدة فصح ما قلناه.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال: إن الكلام تم عند قوله: (لا نورث)، وما بعده ابتداء وخبره.

(92/1)


قيل له: هذا يكون مجازاً، لأن االحر لا يورث على ما بيناه، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم محمول على الحقيقة لا على المجاز، على ا، هذا التأويل ينافي قول الله عز وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}، وقول حاكياً عن زكريا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}، وقوله: {يُوصِيْكُمُ اللهُ فِيْ أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَضَّ الأُنْثَيَيْنِ}، فصار ماا تولنا هو الصحيح، وقد اشتهر أن علياً عليه السلام وقف من ماله بينبع، ووادي القرى وغيرهما، ورواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه تصدق بهاا، وكتب كتاباً فيه، وأشترط فيه لا يباع ولا يوهب، ولا يورث أنا حي أو ميت، إلى آخر ما ذكره.
وروى اابن عمر أن عمر أصصاب أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أصبت أرضاً لم أصب ماالاً قط أحسن منها فكيف تأمرني؟ قال(ص): (إن شئت حبست أصلها لا يباع ولا يوهب)، قال الراوي، وهو أبو عاصم: وأراه قال: ولا يورث، قال: فتصدق بهاا في الفقراء والقرباء، إلى آخر الحديث.
وعن ابن عمر أن عمر استشار رسول الله صلى االله عليه وآله وسلم بمال له ذكر موضعه فقال صلى االله عليه وآله وسلم: (تصدق به يقسم ثمره ويحبس أصله لا يباع ولا يوهب).
وروي أن عثمان ااشترى بئراً ووقفها على جميع المسلمين وجعل دلوه فيها كبعض دلاء المسلمين.
وعن عبد الرحمن بن عوف أنه وقف فصار أنكار الاوقف أنكاراً لأمر مشتهر لا يخفى على من نظر في لاروايات.
فإن قيل: روي عن شريح أنه قال: جاز محمد بمنع الحبس.
قيل له: المراد بذلك حبس الجاهلية من الساائبة والوصلة والحام ونحو ذلك.
فإن قيل: هو على العموم ويدخل ما ذكرتم وما اختلفنا فيه.

(92/2)


قيل له: ما قدمناه من االأدلة يخرج ما اختلفنا فيه من عمومه، لأنه لا يجوز أن يرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحبس، ثم يقول لعمر: (حبس الأصل لا يباع ولا يوهب)، لأن ذلكك يتناقض، فصح ما ذكرناه من التخصيص، وعلى هذا يحمل ما روي عن ابن عباس لا حبس بعد سورة النساء.
فإن قيل: روي أن عبدالله بن زيد الأنصري جعل حاظطااً له صدقة، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى أبواه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعلها لهما ثم ماتا فورثهما.
قيل له: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل غلتهاا لأبويه، ثم صرفها بعد ذلك إلى الواقف، وذلك مماا يجوز عندنا، إذ ليس في الخبر أنه صلى الله عليه وآله وسلم ملكهما، ولا أنه ملكه بعد أبويه الأصل، وأزال حكم الوقف، ليكون ذلك موافقاً لسائر م ذكرناه.
ويجوز أن يكون معناه أنه جعلها صدقة للفقراء لا على وجه الوقف، بل على جهة التمليك، ثم ورثهما بعد موتهما عبدالله بن زيد كما روي أن رجلاً أعطى أمه حديقة ثم ماتت أمه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وجبت صدقتك ورجعت إليك حديقتك)، حين عرفه أنه لا وارث لها غيره، ولا خلاف بين المسلمين أن من جعل أرضه مسجداً يصلي فيه لم يجز له الرجوع فيه، وكذلك من جعل أرضه مقابر للمسلمين، وأبو حنيفة قد أجاز الوقف في الوصية فيقاس على ذلك أجمع ما اختلفنا فيه بعلة أنه حبس للملك على وجه القربة، وذلك يبطل قولهم إن الوقف لا يصح لأنه اخراج الشيء عن ملكه لا إلى مالك سواه، وينقضه العتق أيضاً، لأن العتق إخراج العبد من ملك المالك لا إلى مالك سواه.
فإن قيل: في الأوقاف المروية عن الصحابة نحن لا ننكر أنهم قد وقفوا، وأن الوقف جائز، وليس هذا موضع الخلاف، والخلاف في الملك بحاله، وأن الرجوع فيه صحيح متى شاء الواقف، أو ورثته، وامضاء الجميع ذلك باختيار منهم لا يدل على أنهم كانوا لا يستجيزون الرجوع.

(92/3)


قيل لهم: قد ثبت أنهم اشترطوا لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعمر: (حبس الأصل)، (لا يباع ولا يوهب)، فثبت أن ذلك هو الواجب، وأن ماا قاله من ذلك حكم، لأنه لا يجوز أن يكون خبراً لجواز أن يقع فيه الكذب، ثم قد علمنا أن عامتهم ماتوا عن ورثة صغار، لا تجوز المسامحة في اضاعة املاكهم، فلما لم تقرر حصصهم، وأمضى الجميع على ما كان علم أن الوقف كان قد استقر، وأنهم لم يملكوه، لأنه لو ملكوه ثم ضيع ملكهم، وهم أطفال كاان الذين فعلوا ذلك قد أثمواا فصح بم بيناه أن تلك الأوقاف أمضيت، لأنهم لم يكونوا يستحلون تغييرها، وتبديلها.
فأما ما عداا العقار، فقد اختلف في وقفه، فلم يجزه أبو يوسف ومحمد، إلا في الخيل تحبس في سبيل الله، فإنهما أجاازاه، وكذلك البقر والعبد يوقف مع الضيعة لمصالحها وعمارتها، فيكون ذلك وقفاً على سبيل التبع، وإن كان لا يصح افراده بالوقف.
ويجوز عند الشافعي الوقف في الرقيق والمااشية، وغيرهما مما يمكن الإنتفاع بها مع بقاء عينها، وهو مذهب أصحابنا.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر: (حبس أصلها وسبل ثمرتها* فأمر بتحبيس ما ينتفع به، وأمر بتسبيل مالا يكون الإنتفاع به إلا في الإستهلاك، فصار ذلك أصلاً لما ذهبنا إليه، فأما الخيل وتحبسيسها فهو مما لا يختلف فيه.
وروي ذلك عن علي عليه السلام، وعن ابن عباس، ولا نحفظ فيه خلافاً عن أحد من السلف.
ويدل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الخيل ثلاثة لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى آخر وزر، فأما الذي له أجر فالذي يحمل عليها في سبيل الله)، وعمومة يقتضي جواز حبسها، للحمل عليهاا في سبيل الله، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أما خالد فقد حبس ادراعه وأفراسه في سبيل الله)، فصح الوقف في الدرع والفرس.

(92/4)


وأما وقف المصاحف والكتب فقد اشتهر بين المسلمين لا يتناكرونه، ولا يردون شيئاً منها على الأطفال من ورثة الواقف، فصار ذلك اجماعاً منهم، فثبت بهذه الجملة صحة ما قلناه.
فأما جوازه غير مؤبد فسيجي القول فيه.
مسألة:
قال: فكل من وقف شيئاً من ذلك وقفاً مطلقاً لم يجز له أن يرجع فيه، ولا أن يبيعه، ولا أن يهبه سواء أخرجه من يده، أو لم يخرجه.
قد مضى الكلام في أنه لا يصح الرجوع فيه، ولا البيع، ولا الهبة، فلا معنى لاعادته، وذهب أبو يوسف والشافعي إلى أن الوقف يصح، وإن لم يخرجه الواقف من يده، وهو قول يحي بن الحسين عليه السلام، وقال محمد: لا يصح إلا أن يخرجه من يده، وهو مذهب الإمامية.
ويدل على صحة ما ذه بنا إليه أن الواقفين من الصحابة كعلي عليه السلام، وعمر وغيره كانوا يلون صدقات أأنفسهم، ولم يرو أنهم أخرجوها من أيديهم، فصار ذلك اجماعاً منهم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال لعمر: (حبس أصلها وسبل ثمرها)، ولم يأمره بإخراجها من يده.
وأيضاً الوقاف يخرج ملكه لا إلى مالك، فيجب أن يتم بمجرد القول.
دليله العتق، ويدل على أنه لا معنىى لخروجه من يده، أنه لو أخرجه إلى غيره كان ذلك الغير وكيلاً في القبض ألا تعرى ان يقبضه بإذنه، وأمره لا لنفسه، ولا بأمر غيره، ويد الوكيل يد الموكل، فكأنه لم يخرجه من يدده، وإن أخرجه من يده فبان أنه لا فائدة.
فإن قيل: يقبضه الموقوف عليه لنفسه.
قيل له: قد يكون في الوقت ما هو وقف على المساجد والقناطر، وعلى مساكين لا بأعيانهم، فكيف يصح ذلك، ولم يفرق أحد من المسلمين في هذا الباب بين شيء من هذه الأوقاف، ولا يصح رد من خالفنا في ذلك إلى صجقة الأعيان، لأنا نصححها أيضاً بغير القبض.
مسألة:

(92/5)


قال: ولا فصل في جميع ذلك بين أأن يقول: حبست، وبين أن يقول: وقفت، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر: (حبس الأصل)، فأمره بالتحبيس، فمن قال: حبست، فقد امتثل لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن يجب أن يكون معه من اللفظ ما يدل على القربة، ألا ترى أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: وسبل الثمر، وقال أيضاً: (فأما خاالد فقد حبس ادراعه وأفراسه في سبيل الله)، فلم يخل من لفظ يدل على القربة في الخبرين، وقد نبه القاسم عليه السلام فيما حكيناه عنه في آخر الباب.
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً وقف ماله على أولاده جاز الوقف، وكان وقفاً على ورثة أولاده بعدهم.
اختلفوا في الوقف إذا لم يذكر لمصرفه أمراً يتأبد فأبطله محمد، وأجازه أبو يوسف، وهو قول يحي بن الحسين عليه السلام.
فأما الشافعي فاختلفت أقواله فيه، ثم اختلف المجيزون له في المصرف على ما سنبينه من بعد.
والأصل في جواز ذلك أن الوقف يستقر ويصير وقفاً بقوله:: حبست لله، أو وقفت لله، وإن لم يذكر المصرف فإذا ذكر المصرف فأولى ان يستقر وإن لم يذكره يتأبد.
الدليل على هذا حديث ابن عمر أن عمر أصاب أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعرفه، فقال له: إن شئت حبست أصلها لا يباع ولا يوهب، ولم يذكر له المصرف فلولا أن الوقف يصح من دون ذكر المصرف لعرفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وم يقتصر به عى قوله: (إن شئت حبست أصلها)، وكذا الحديث الآخر الذي قال له فيه: (تصدق به تقسم ثمره، وتحبس أصله لا يباع ولا يوهب)، فيه وجهان من الدلالة.
أحدهما: أنه قال: (تصدق به)، ولم يقل على من، فلولا أنه يصير وقفاً بقوله: تصدقت به لم يقتصر عليه، حتى يقول: على كذا وكذا.

(92/6)


والوجه الثاني: انه قال: (تقسم ثمره، وتحبس أصله)، ولم يقل: تقسم الثمر في باب يدوم، وإنماا أشار إلى قسمة الثمر، وتحبيس الأصل، فدل ذل على ما قلناه، وقفت، لأن كل واحد منهما أخراج لملكه لا إلى مالك قربة إلى الله عز وجل، فإذا ثبت ذلك ثبت أن الوقف يصح إذاا وقفه على رجل بعينه.
ويدل على ذلك ما روي: (أن عبد الله بن زيد الأنصاري جعل حائطاً له صدقة، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعله رسول الله لأبويه، ثم جعله له بعد ذلك)، فدل ذلك على ما قلناه: إنه يصير صدقة، وإن لم يذككر المصرف، وإن ذكره بعد ذلكك جائز.
قال ابن أبي هرية، إذا قال: تصدقت بدااري هذه، ولم يسبلهاا على قوم، على وجهين: أحدهما ـ باطل، والثاني: جائز، ويكون وقفاً على أقرب الناس بالمحبس.
قال ابن سريج: يرجع لورثة الواقف، فإذا وقفه على قوم بأعيانهم، أو رجل بعينه فما توا ومات، فهو لورثة الموقوف عليه مصوفاً إليهم، كما نصفه في هذه المسألة بقوله: إذا وقفه على ومات، فهوا لورثة الموقوف عليه مصروفاً إليهم، كما نصه في هذه المسألة بقوله: إذا وقفه على أولاده، كان وقفاً على ورثة أولاد بعدهم.
قال أبو يوسف: إذا انقرض أهل الوقف رجعت إلى الله مصروفة في وجوه القرب.
وقال الشافعي: ترجع إلى أقرب الناس بالذي تصدق به، وفرق ذلك على أقاربه الغني منهم والفقير، قالوا: وقال ي موضع آخر إلى أقرب الناس به من الفقراء، فكأنه على قولين.

(92/7)


والدليل على صحة ما ذهب إليه يحي بن الحسين عليه السلام حديث عبدالله بن زيد: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما جعل صدته لأبويه وماتا وخلفاه صرفها إليه)، وفي بعض الأحاديث: (لما ماتا قال عبدالله: مات أبواي فهي حل لي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم فكلها وأيضاً وجنا حقوق الأموال وما يتعلق بها إذا مات اربابهاا وجب صرفها إلى ورثتهم)، فكذلكك ما اختلفنا فيه، لأنه من حقوق الأموال، فأما إذا لم يككن ورثة فسيجيء القول فيه.
فإن قيل:: فيما مضى إذا كان أصل الوقف هو القربة، فالأولى أن يصرف إلى وجوه القرب.
قيل له: فيما مضى إذا كان أصل الوقف هو القربة، فالأولى أن يصرف إلى وجوه القرب.
قيل له: والإحسان إلى ذوي الأرحام من جملة القرب، وهم أخص فوجب أن يصرف إليهم، ويؤكد ذلك بقوله: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض).
مسألة:
قال: فإن وقف ماله كله على بعض ورثته دون بعض، كان المال كله وقفاً، فإن أجازه الذين لم يقف عليهم من الورثة ككان وقفاً على الذين وقف عليهم، وإن مل يجيزه كان الثلث وقفاً على الذين وقف عليهم، والثلثان وقفاً على الذين وقف عليهم، والثلثان وقفاً عليهم، وعلى الذين لم يقفه عليهم على حسب موارثهم، هذا إن حمل على ماا قال في المنتخب من أنه لا يهب من ماله أكثر من الثلث في الصحة والمرض جميعاً.
ووجهه ما مضى، وإن حمل على رواية الأحكام من أن للصحيح أن يعمل في ماله ما يشاء فيجب أن يحمل على أنه أرد به إذا وقفه في المرض، وأما إن كان وقفه في الصحة فهو ممضي على ما وقفه على رواية الأحكام، وهو الصحيح الذي نختاره.
ووجهه أ، وقف المال عليهم حسن نظر لهم، لأنه قصد تبقيته عليهم، ومنعهم من استهلاك االأصول، فوجب أن يصح ذلك في المرض والصحة، فأما إذاا وقف على بعضهم وجب أن يصرف الثلث إليم دون ما عداه، إذ ليس له أن يزوي عن ورثته أكثر من الثلث.

(92/8)


ألا ترى أنه لو أوصى لبعض ورثته بجميع ماله كان الثلث له، وكذا الوقف في المرض لأنه يجري مجرى الوصية.
مسألة::
ولو أن رجلاً وقف ضيعة له أو داراً على رجلا عشر سنين كانت وقفاً عليه إن كان حياً، أو على ورثته إن كان ميتاً.
قد مضى الكلام أن ورثة الموقوف عليه أولى بالوقف بعده إذا لم يذكر مصرف الوقف بعده، فأما إذا انقرض االورثة فالواقف أولى به، لتعلقه به، ألا ترى أن صدقة عبدالله بن زيد ردت إليه بعد موت أ[ويه، واحتمل ذلكك أن تككون ردت إليه لونه وارثاً، واحتمل أن تكون لككونه واقفاً، فحملنا الأمر على كل واحد منهما، وقدمنا الوارث لما بيناه، ثم جعلنا الواقف بعده أولى، ويمكن أن يقال: لو لم يجعله للواقف، وجب أن يجعله لسائر الملمين، وهو أولى به لتعلقه به، واختصاصه لولايته، كما نقول في ذي الرحم أولى بالإرث، وفي من غلب العدو على ماله وفي وصية من لا وارث له، وموالاة الحربي.
على أن ذككر المصرف إذا ثبت أ،ه إليه فهو له إن شاء صرفه إلى نفسه، وإن شاء إلى غيره كما كان له ذلك حين وقف، وإذا صار هو الأولى كان ورثته بعده هم الأولى به على ما مضى القول، وإنما جعلناه لورثة الموقوف عليه إلى عشر سنين لأن هذه المدة هي المدة التي يتعلق بها حق الموقوف عليه وهو منقطع بعدها إذا كان ذلك شرط الواقف، وهذا يدل على أن ما عرف من شرط الواقف لا يجوز أن يغير الوقف عنه على مذهبه، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً إذاا كان الشرط مما يجوز أن يشترط.
مسألة:
قال القاسم عليه السلام: ولو أن رجلاً جعل أرضه لمقابر المسلمين لم يجز له أن يرجع فيهاا، إلا أن يكون ذلك أكثر من ثلث ما يملكه، فله أأن يمسك الثلثين على نفسه، ثم يمضي الثلث لما جعل له، وهذا على قوله: إن من علق النذر بجميع ماله كان ذلك راجعاً إلى الثلث.
ووجهه ما مضى في كتاب الحد عند ذكر هذه المسألة، والأصح عندي أنه جائز في جميع ماله إذا كان فعله في حصة منه.
مسألة:

(92/9)


قال: ويكره تقبيل الوقف أكثر من سنة أو سنتين، أو نحو ذلك.
ووجهه أنه إذا طات مدة ككونه في يد إنسان، وطال تصرفه فيه أشتبه بالملك، ولم يؤمن وقوع الإلتباس فيه، فهذا وجه الكراهة، فإن عمل خلافه، صح مع الكراهة.
مسألة:
قال: وكل من وقف أكثر من ثلث ماله على خلاف ما يقتضيه الميراث صح الوقف، وقسم على المواريث،يعني به الزائد على الثلث، وقد بينا شرحه على الروايتين، وبينا الصحيح عندنا في ذلك فلا غرض في اعادته.
قال: وله أن يقف الثلث وما دونه، على ما بيناه، على ما شاء كيف شاء، وما فعل من ذلك وجب امضاؤه، وهذا هو ما مضى.
قال القاسم عليه السلام: يجوز أن يقف الرجل ماله على نفسه، وولده إذا كان في سبيل من سبل الله عز وجل، نحو أن يقف على نفسه عندنا وعند أبي يوسف.
وقال محمد والشافعي: لا يجوز، ويبطل ذلك الوقف، حكى ابن أبي هريرة ذلك عن الشافعي.
ويدل على ذلك ما روي أن عثمان حين ااشترى بئر رؤمة، فوقفها على الناس اشترط أن يكون دلوه كدلاء المسلمين، وكذلك روي عنه أنه لما وقف استثنى نفقته، ومؤنة عامله، وفيما روي من وقف عمر أرض خيبر: لا جناح على من وليها أن يأحل منها غير متمول.
وروي غير متأثل، ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أحد من الصحابة، فجرى مجرى الإجمع من الصحاابة، فكل ذلكك يدل على أن للواقف أن يستثني ما شاء، فجااز أن يستثني لنفسه وولده ما شاء، وأيضاً هو ضيء له أن يضعه في الغني والفقير فوجب أن يجوز وضعه في نفسه وولده.
دليله لحوم الأضاحي. وذا عندنا وعند محمد لحوم هدي القارن والمتمتع.

(92/10)


وقوله: إن كان ذلك في سبيل من سبل الله: معناه ـ أنه إذا كاان في اللفظ ما يدل على القربة، كأن يقول: صدقة أو قربة إلى الله، أو ما يجري مجراه، وهذا دل على أن من مذهبه أنه لا يجوز الوقف على ما يقرب، من مذهبه أنه لا يصح الوقف على ملا يجوز أن يتقرب به، وليس كذلك انفاق المرء على نفسه وولده، لأنه قد يقع موقع القربة.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (الإكتساب من حلال جهااد، وإنفاقك إياه على عيالك وأقاربكس صدقة).
ولا يجوز على هذا الوقف على أبنية القبور وعماارتها، لأن ذلكك مككروه، ولا يجوز لوقف أيضاً على االبيع واالكنائس، وبيوت النار، لأن جميع ذلك من جملة المعاصي.
اختلف في وقف المشاع، فأجازه أبو يوسف، وأبطله محمد، ولا نص فيه لأصحابنا، ولاذي عندي أنه يصح في المشاع، الذي تتأتى فيه القسمة، لأنه ليس فيه إبطال حق الغير.
فإن قيل: ذلك يحط من قيمة نصيب الشريكك.
قيل له: فالجار قد يجعل بيته للمقابر، وللسبل ونحوهما، أو يجلس فيه طحاناً، أو حداداً، وكل ذلك يحط من قيمة دار الجاار، ولا يمنع منه فككذلكك الواقف، فأما في مالا يتأتى فيه القسمة فإنه يصح، وللشريك فيه الخياار في فسخه، لأنه يؤدي إلى اابطال القسمة عليه، وذلك حق له، لأنه إما أن يقال: إنه يجوز أن يقسم فيؤدي إلى أن يجري في الوقف بمعنى البيع وأما أن يقال: أنه لا يجوز أن يقسم فنككون قد أبطلنا حق الشريك.
ألا ترى أن الشفيع يبطل الوقف على المشتري لثبوت حقه، في باب الشفعة، فكذلك يجب أن يكككون حكمك الشريك.
قال أبو يوسف ومحمد: يجوز أن يباع العبد والبقرة، إذا هرما، ولم ينتفع بهما فيما قصدا له، وذلك إذاا وقفا على سبيل التبع لوقف ضيعة، وهو الصحيح عندي، ويجوز بيع كل مالا يجوز الإنتفاع به على الوجه الذي قصد إليه إلا باستهلاك عينه لهذا لم يختلفوا في جواز بيع ثمرة الأموال الموقوفة.

(92/11)


باب القول في العارية
يجوز للرجل أن يعير داره وفرسه وجاريته وثيابه، وغير ذلكك مما يملك من شاء، فإن كنت العارية جارية جاز أن يستخدمها، ولم يجز أن يطأها، والعارية هبة المنافع.
الأصل في جواز العارية ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (العارية مؤداة)، وما روي: أنه استعاار من صفوان بن أمية دروعاً، ولا خلاف فيه بين المسلمين.
فأما الجارية إذا اعيرت حل للمستعير استخدامها دون وطئها، وهذا مما لا خلاف فيه.
ويدل على ذلك قول الله تعالة: {والَّذِيْنَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ..} الآية. فأباح عز وجل الوطء مع عقد النكاح، أو ملك اليمين، وحظر ما سواه، وقوله: إنها هبة المنافع فيه ضرب من التوسع، والتجوز والحقيقة أنها إباحة المنافع عندنا على ما نبينه من بعد.
مسألة:
قال: وإذا تلف العارية عند المستعير لم يضمنها للمعير إلا باحد شيئيين: أن يكون اشترط للمعير الضان على المستعير، والثاني: أن يكون تلفها بتعدي المستعير، وبه قال القاسم والناصر، وهو المروي عن جعفر بن محمد، والأظهر أنه وفاق أل البيت عليهم السلام.
فأما ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أنه قال: لا ضمان على مستعير، إلا أن يخالف، فمعنااه عندنا إذا أطلق الإستعارة، ولم يشترط الضمان، لأن العارية عندنا في الأصل غير مضمونة.
قال أبو حنيفة وأصحابه: هي غير مضمونة إلا بالتعدي، وقال الشافعي: هي مضمونة على كل وجه.
والأصل عندنا على ما بيناه في العارية أنا غير مضمونة إلا بالتعدي، وذلك أن صاحبها سلمها إلى المستعير ليستوفي منا مناافعها، فأشبه الشيء المستأجر أن لما سلمه صاحبه لاستيفاء منافعه لم يضمنه.

(93/1)


فإن قاسوه على القرض بعلة أنه أخذه لمنفعة نفسه على أن القرض يصير ملكاً للمستقرض، ويستحق عليه فضمانه لهذا المعنى دون ما سواه، وأيضاً من استعار ثوباً للبس فبلي لا خلاف أنه لا يضمن المستعير البلى، فكذلك إذا لم يتعد في الأصل، مكا لم يتعد في البلى بدلالة أنه لو تعدى في البلى ضمن.
وإنما قلنا: إنها تضمن إذا اشترط الضمان للأثر، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعار من صفوان، فقال صفوان: أعارية أم غصباً؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بل عارية مضمونة)، فاشترط ضمانا، فلولا أن اشترط الضمان يوجب الضمان لم يشترطه، لأنه يكون كالتغرير.
فإن قيل: فقد روي: (العارية مضمونة).
قيل له: هذه اللفظة ليست بتلك المشهورة، وإن ثبتت حملت على أنها إشارة إلى دروع صفوان، وأنا معهودة، والألف واللام يدلان على الجنس إذا لم يكونا للعهد.
فإن قيل: يحتمل أن يكون المراد به مضمونة الأداء.
قيل له: هذا خلاف الظاهر، ثم لم يكن لهذا القول فائدة، لأن الأداء كان قد علم بقوله صلى اله عليه وآله وسلم: (عارية)، إذ هو الفصل بينها وبين الغصب، فلم يكن لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مضمونة)، معنى إلا اشتراط الضمان.
فإن قيل: لو لم تكن العارية مضمونة في الأصل لم يجب الضمان، باشتراطه كالوديعة.
قيل له: يصحاشتراط الضمان في العارية، لأن فيها ما يقابل الضمان، وهو الإنتفاع، فصار ذلك عوضاً عن الضمان، كأنه قبل الإنتفاع على عوض الحفظ، وليس ذلك في الوديعة، فلم يفد فيها الشرط.
فإن قيل: لو ككان ذلكك كذلك صارت الإعارة بمنزلة الإجارة الفاسدة.
قيل له: لا يمتنع أن تأخذ شبهاً من الإجارة، وإن لم تكن إجارة، حتى يجب فيها كلما يجب في الإجارة، كما أن الإجارة تأخد شبهاً من البيع، ثم لم يجب فيها كلما يجب في البيع.
مسألة:

(93/2)


قال: وإن استعار دابة على أن يركبها إلى موضع فرككبها إلى أبعد منه، أو استعارها على أن يحمل عليها شيئاً فحمل عليها أثقل منه، فتلفت ضمنها.
ووجهه أنه قد تعدى حين ركبها إلى موضع لم يأذن له فيه صاحبها، وحمل عليها مالم يأذن له في حمله، فصار بمنزلة الغاصب، يضمنها كما يضمن الغاصب، وهذا مما لا خلاف فيه.
وهكذا إن استعارها على أن يرككبهاا فأعارها غيره.
قال: وإن استعار ثوباً على أن يلبسه في البلد فسافر به ضمن ووجهه ما مضى.
قال: وكذلك إن أعاره غيره ضمن.
إختلف قول أبي حنيفة، ولم يصادم قولنا هو وأأصحابه في المستعير إذا أعار غيره، لا خلاف بيننا وبينهم أنه إن اشترط هو الإنتفاع بها بنفسه فأعارها أنه يضمن، وإنما الخلاف إذا استعارها مطلقاً، فأعار غيره، فقال أ[و حنيفة:: لا يضمن، لأن له أن يعير، وعندنا أنه يضن، لأنه ليس للمستعير أن يعير.
ووجه ما ذهبناا إليه أن منافع العارية مباحة للمستعير، ولست مملوكة له، وهذاا مما اختلف فيه أصحاب أأ[ي حنيفة، فذكر الاجصص أن الإعارة تقتضي تمليك المنافع، وذكر أبو الحسن الكرخي ـ أنه تقتضي إباحة المنافع.
والذي يدل على أنها تقتضي الإباحة أن له الرجوع في العارية، سواء أعارها ذا الرحم، أو على وجه القربة، فبان أن الإعارة تقتضي إباحة المنافع دون هبتها، وأيضاً لو ملك المنافع كان له أن يؤااجر العارية، كما يكون ذلك للمستأجر، لأنه مالك منافعها، فإذا ثبت ذلك لم يكن للمستعير أن يعير غيره، لأن من أبيح له شيء لا يجوز له أن يبيحه غيره لا خلاف فيه.
مسألة:

(93/3)


قال: وإذاا ستعار الرجل شيئاً فرهنه بإذن صاحبه، أو بغير إذنه فتلف، ضمن المستعير للمعير قيمته، وهذا قد مضى شرحه فيكتاب الرهن، والفرق بين من رهنه بإذن المعير وبين من رهنه بغير إذنه: أنه إذا رهنه بغذن المعير وكانت القيمة للرهن زائدة، على الدين لم يضمن الزيادة، إلا إذاا أخذها من المرتهن، فإذا رهنا بغير إذن المعير ضمنها، أخذ أو لم يأخذ، لأن الراهن بإذن المغير غير متعد، فلا يضمن إلا ما يأخذه أو يحصل له بعوض دونه، والراهن بغير إذنه متعد يضمن على كل حال، وقولنا في الراهن بإذن المعير: إنه يضمن الزيادة، إذا أخذها معناه أنه يرده على المعير، وإلا فهو أمين فيه بمنزلة الوكيل، فذكر الضمان توسع في الكلام.
قال: والمستعير إذا استهلك العاارية على أي وجه استهلكهاا ضمن، وهذ ما لا خلاف فيه، لأنه متعد بمنزلة الغاصب.
مسألة:
قال: وإذا استعار رجل من رجل شيئاً، فأعطاه عليه الرهن، فقبضه المعير، كان ذلك تضميناً، فإن تلفت العارية، ضمنها، وقد بينا في كتاب الرهون أن ذلك يجري مجرى اشترااط الضمان، فلا وجه لإعادته.
مسألة:
قال: وإذا رد المستعير العارية إلى صاحبها مع مملوكه أو خادمه، فتلفت العارية لم يضمنا المستعير، فإن ردها مع الأجنبي فتلفت ضمنا، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه في غالب ظني.
ووجهه أن العارية إذا لم يشترط ضمانها، كانت في يد المستعر بمنزلة الوديعة، سيما على قولنا: إنه ليس له ان يعير غيره إلا بإذن المعير، فإذا ثبت ذلك فمتى ردها على يد مملوكه أو خادمه، أو بعض عياله، فتلفت لم يضمنها وإن ردها مع الأجنبي ضمنا لأن يد الأجنبي غير يد المستعير، فإذا سلمها إلى غيره ممن يده لا تكون في الحكم كيده، لا يكون ضامناً لها، كما يكون في الوديعة.

(93/4)


قال: وإن تلفت بجناية من الحامل لها ضمنا الحامل، وذلك أنه يكون متعدياً، فيضمنها كما يضمن الغاصب، إلا أنه إن ككان الحامل من جملة عيال المستعير، كان المعير مطالباً للجاني دون المستعير إذا المستعير لا خيان له فلا سبل له عليه وأن كان الحامل أجنبياً فالمعير إن شاء طالب المستعير، وإن شاء طالب الحامل، لأن كل واحد منهما قد تعدى، فإن طالب المستعير رجع به على الحامل، وإن طالب به الحامل لم يرجع به على المستعير، لأن الحامل هو المتلف.
إنتهى الجزء الرابع من كتاب شرح التجريد للإمام الأعظم المؤيد بالله عليه السلام يليه الجزء الخامس، وأوله أبواب العتق.
... ... ... تم بحمد الله

(93/5)


القول في العتق على الشرط
قال أيده الله: لو أن رجُلاً قال لعبده وأمته وهما زوجان إن ولدت امرأتك هذه صبية فهي حرَّة، وإن ولدت صبياً فأنت حرٌ فإن ولدت غلاماً عتق أبوه وإن ولدت جارية عتقت أمها، فإن ولدت توأمين غلاماً وجارية معاً في بطن واحد، وكانت ولدت الغلام قبل ثُمَّ الجارية عتق العبد ساعة يولد الغلام والأمة ساعة تولد الجارية ويكون الصبيان مملوكين، فإن ولدت الجارية قبل ثُمَّ ولدت الغلام بعد عتقت الأمة ساعة تلد الجارية ثُمَّ إذا ولدت الغلام عتق العبد وكان الغلام حراً والجارية مملوكة وكلما ولدت الحرة فهو حدٌ.
العتق على الشرط مما لا خلاف فيه إذا قد أجمعوا من قال لعبده إن مت فأنت حرٌ يعتق بعد موته، وكذلك إن قال: إن شفى الله مريضي فأنت حر يعتق إن شفى الله ذلك المريض فهو إجماع، فعلى هذا إذا قال لعبده وأمته ما ذكرناه في صدر المسألة إن ولدت غلاماً عتق العبد لوقوع الشرط الذي تعلق عتقه به، وكذلك إن ولدت جارية عتقت الأمة لوقوع الشرط الذي تعلق العتق به، فإن ولدت توأمين وكان الغلام ولد أولاً ثُمَّ الجارية بعده عتق الأبوان لحصول الشرطين الذي تعلق بهما عتقهما على ما بيناه، وإن ولدت الجارية ثُمَّ الغلام عتق الأبوان بحصول الشرطين وعتق الغلام؛ لأن أمه عتقت حين ولدت الجارية وهو بعد في بطنها ومن جملتها فسرى عتق الأمة في الغلام فعتق الغلام لأن ما تلد الحرة لا يكون إلاَّ حراً لا خلاف فيه بين المسلمين، وتقى الجارية مملوكة ـ أعني المولودة أولاً ـ كما كانت؛ لأنَّه لم يكن أمرٌ يوجب عتقها فهي كما كانت.
مسألة

(94/1)


قال: ولو أن رجلاً قال: أول ولد تلده جاريتي فهو حر فولدت اثنين في بطن معاً عتقا معاً إلاَّ أن يكون نوى الأول من الاثنين إن كان في بطن فله بيته ووجهه إن الإيمان محمولة على العرف، والعرف في هذا أن الإنسان يريد ما تضعه المملوكة في البطن الأول وليس يريد الترتيب إذ ليس في العادة ولادة التوأمين وإنما يقع ذلك في النادر فأما العادة فما ذكرناه وإياها يتناول العرف، فلذلك قال إن العتق يقع على ما يضع في البطن الأول واحداً كان أو اثنين إلاَّ أن يكون نوى الأول منهما في الوضع فإن كان نوى ذلك فله بيته وذلك أن النية أقوى من العرف على ما سنبينه من بعد في كتاب الأيمان والله أعلم.
مسألة
وقال: ولو أن رجلاً من بشرني بكذا فهو حر فبشره به عبدٌ من عبيده ثُمَّ أتاه بعد ذلك عبد آخر فبشره به كان الأول حراً دون الثاني وذلك أن البشارة اسم لما يقع التبشير به أولاً ثُمَّ ما يرد بعده من الأخبار لا يسمى بشارة إذا كان الخبر الأول قد استقرت صحته في النفس يبين ذلك أن الخبر الذي يرد بعد ذلك بمدة طويلة لا يسمى بشارة والعلة فيه أنَّه ورده الخبر المتقدم قد أفاد فائدته، فلذلك الخبر الثاني لا يكون بشارة؛ لأنَّه ورد والخبر الأول قد أفاد فائدة، وإذا كانت البشارة هي الخبر الأول فالمبشر ما أتى به دون ما سواه.
فإن قيل: فالله تعالى قد سمى الرسل مبشرين وإن أتى واحد بعد واحد.
قيل له: هذا لا يشبه ما نحن فيه؛ لأن الرسل صلى الله عليهم أجمعين ورد كل واحد منهم في الأغلب إلى قوم، فكان بشيراً لهم وأيضاً عرف من جهة كل واحد من تفاصيل ما بشر به المؤمنون ما لم يعرف من جهة غيره، فصح أن يكون الجميع منهم مبشرين وليس كذلك مسألتنا؛ لأنا إنَّما قلنا ذلك إذا كان المبشر واحداً، وكان الذي وقعت البشارة به أمراً واحداً على وجهٍ آخر.
فإن قيل: لا يمتنع أن نقول الإنسان أتاني بكذا مبشرٌ بعد مبشر فيسمى الثاني مبشراً.

(94/2)


قيل له: هذا على وجه التوسع والحقيقة ما ذكرناه لما بيناه.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال لعبده: أنت حر إن شاء الله عتق العبد إن كان مسلماً عفيفاً، ولم يعتق إن كان فاسقاً فاجراً وكذا القول إن قال له: أنت حر بعد وفاتي إن شاء الله، الاستثناء عند أكثر العلماء يمنع وقوع العتق ووجهه إن التقدير في هذا إن كان شاء الله ذلك عنده على ما بيناه في الاستثناء في الطلاق ومن مذهبه أنَّه لا قُربةَ في عتق الفاسق ومشيئة الله عز وجل لا تتناول من أفعالنا إلاَّ ما كان قُربة فإذا لم تتعلق مشيئة عز وجل بعتق الفاسق على أصله فهو بمنزلة من علق عتقه على شرط ولم يحصل الشرط في أنَّه لا يقع العتق.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <من قال إن شاء الله فقد استثنى>.
قيل له: حقيقة الاستثناء ما ذهبنا إليه؛ لأن الاستثناء من حقه أن يخرج من الكلام بعض ما يقتضيه اللفظ فأما ما يجعل وجود اللفظ كعدمه فذلك لا يسمى استثناء في الحقيقة دون ما خالفنا على أن أبي حنيفة وأصحابه لا يخالفون في أنَّه إن قال: أنت حر إن شاء الله زيد أنَّه يعتبر فيه مشيئة زيد، فكذلك ما اختلفنا فيه.
مسألة
وقال: ولو أنَّه قال لعبد غيره: أنت حر من مالي لم يفد ذلك القول شيئاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا عتق قبل الملك> وهذا مما لا خلاف فيه، فإن قال: إذا اشتريتك فأنت حر، لم يعتق وإن اشتراه وملكه ـ وهذا عند أبي حنيفة ـ يعتق وقول الشافعي كقولنا، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا عتق قبل الملك>، وهذا عتق قبل الملك.
فإن قيل: ينعقد قبل الملك ثُمَّ يقع بعد الملك.

(94/3)


قيل له: اللفظ يتناول النفي عاماً فيمنع الانعقاد كما منع الوقوع، وأيضاً لا خلاف لو لم يضفه إلى الملك لم يقع العتق، فكذلك إذا أضافه والمعنى أنَّه لفظ بالعتق قبل الملك وأيضاً قوله: أنت حر، هو موجب للعتق وحصول ما علق العتق به هو شرط لوقوعه، كأن يقول: لو دخلت الدار ولا خلاف أن الشرط لو وقع ولا ملك أنَّه لا يعتق وكذلك الموجب لو وقع ولا ملك يجب إلاَّ بعتق والعلة حصول أحد سببي العتق ولا ملك والمسألة مما لا خلافاً بين أهل البيت، وإجماعهم عندنا حجة، قال: فإن قال: إن اشتريتك فلله عليَّ أن أعتقك، وجب عليه أن يعتقه إن اشتراه وملكه وذلك أنَّه نذر أوجبه على نفسه ويجب الوفاء به كما يجب الوفاء بسائر النذور والعتق مما يصح ثبوته في الذمة فيجب أن يصح النذر به.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال لعبده: إن بعتك فأنت حر وجب عليه أن يستقيل صاحبه، فإن أقاله وإلا ابتاعه بما قل أو كثر، ثُمَّ يعتق فإن أبى المشتري بيعه وإقالته اشترى مثله عنه وأعتقه.

(94/4)


واعلم أن جميع ذلك استحباب وليس هو على طريق الوجوب، وذكر الوجوب على جهة التوسع، ألا ترى أنَّه قال يبتاعه ثُمَّ يعتقه فلو كان العتق يكون واقفاً لقال: وإذا ابتاعه عتق عليه وإنما قلنا أنَّه لا يعتق؛ لأن الشرط الذي هو البيع حصل مع زوال ملكه، فكان بمنزلة شروط العتق ولا شك في أنَّه لا يقع العتق ووجه الاستحباب أنَّه في حكم من وعده أن يعتقه عند أمر فيستحب له الوفاء بما وعد لمدح الله عز وجل الموفين بالعهد فإن لم يمكنه ذلك استحب له أن يصرف ثمنه في باب العتق؛ لأن قوله: تضمن وعداً فاته الثمن بسبب فيستحب له الوفاء به على ما يمكن، قال: فإن باعه على أنَّه بالخيار أيام معلومة لم يعتق إن اختار فسخ البيع وذلك أن حقيقة البيع لم تحصل؛ لأن المبيع بعد على ملك بايعه فلم يحصل الشرط، قال: وإن أمضى البيع كان القول فيه كالقول في المسألة الأولى تخريجاً؛ لأن شرط الوعد قد حصل، قال: وكذلك إن قال إن بعت ثوبي هذا فهو صدقة للمساكين ووجهه ما مضى.
مسألة
قال: وكل من أعتق مملوكه بشرط عتق عند حصول الشرط فإن كان الشرط تقدم حصوله وقع العتق عند التلفظ به، وذلك أن اللفظ هو الموجب للعتق على الشرط وحصول الشرط مع الموجب يقتضي وقوع العتق فأيهما تقدم وقع العتق فإذا حصلا جميعاً وقع العتق وأحدهما أن يقول: إن دخلت الدار فأنت حر فمتى دخل الدار وقع العتق حين يقع الدخول.
مسألة

(94/5)


قال: ولو أن رجلاً قال: كل مملوك لي حر، وله مدبر ومكاتب وأم ولد وعبد عتق بعضه عتقوا كلهم ولم يكن للمكاتب أن يرجع عليه بما أخذ منه وذلك أن اللفظ عمهم جميعاً، وإن كان لفظ الذكور؛ لأنَّه يصح أن يعبه عن الذكر والأنثى إذا اجتمعا بلفظ التذكير، وقوله: وعبد عتق بعضه المراد به أحد معنيين، إما أن يكون المراد به مكاتب أدى بعض كتابته، إنَّه يكون بقدر ما أدى في حكم من عتق منه ذلك القدر أو يريد ذلك على مذهب من يصحح تبعيض العتق، فأما على قوله فلا لأن العتق عنده لا يتبعض ولا يرجع بما أخذ من المكاتب المكاتب عليه؛ لأنَّه قد ملكه ونفذ العتق في المكاتب.
باب القول فيمن أعتق الشخص من مملوكه
من أعتق جزءاً من عبده أو عضواً صار العبد كله حراً، قال أبو حنيفة: من أعتق جزءاً من عبده يعتق ذلك الجزء ويسعى له في بقية قيمته، وقال أبو يوسف ومحمد مثل قولنا يعتق كله ولا سعاية عليه وبه قال الشافعي على ما حكى ابن شريح، والأصل فيه حديث قتادة عن ابن المليح، عن أبيه أن رجلاً أعتق شقصاً له في مملوك فأعتقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: <ليس له شريك> ففيه وجهان من الدلالة على أن العتق لا يتبعض وإن عتق البعض يوجب عتق سائره فأحدهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعتقه حين أعتق الرجل شقصاًً له فيه وأوجب عتق جميعه بعتق بعضه والثاني قوله <ليس لله شريك>، فدل ذلك أن بعض العبد إذا أعتق لم يجز أن يبقى شرك فيه لأحد حتى يكون بعضه حراً وبعضه مملوكاً.
فإن قيل: ليس هذا في ظاهر قوله <ليس لله شريك.

(94/6)


قيل له: لا يحتمل أن يكون المراد سواه؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد بيان التوحيد في هذا الموضع، وإنما قصد بيان خال العبد وأنه لا يجوز أن يبقى فيه مع حرية بعضه شرك لأحد، وقد ذكر في بعض الأخبار فهو حر كله وروي عن نافع عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <من أعتق نصيباً له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العبد فهو عتيق فدل ذلك على أنَّه يعتق كله إذا كان صاحبه موسراً وروى الطحاوي بإسناده عن نافع عن ابن عمر من أعتق شركاً له في مملوك فقد عتق كله، فإن كان للذي أعتقه من المال ما يبلغ ثمنه فعليه عتقه كله ففي قوله صلى الله عليه وآله وسلم عتق كله ما يدل على أن عتق البعض عتق لسائره، وقوله فإن كان له مال فعليه عتقه، يجب أن يكون المراد به ضمان كمال العتق؛ لأن حصول العتق في الأول قد حصل غير مشروط فلا بد من أن يكون اللفظ الثاني فائدة وفائدته ما ذكرنا لدلالة سائر الأخبار على ضمان المؤسر نصيب شريكه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما رواه ابن عمر: <من أعتق نصيباً له في عبد كلف عتق ما بقي وفي لفظ آخر كلف أن يتم عتقه>.
قيل له: يحتمل ذلك كله أن يكون المراد به ضمان العتق كله على ما بيناه قبل هذا.
فإن قيل: لا خلاف أن الشريكين في عبد لو أعتقاه عتق وكان ولاه لهما ثبت صحة وقوع العتق عن كل واحد منهما في نصيبه وبان أن العتق يتبعض.
قيل له: ليس معنى قولنا أن العتق لا يتبعض لا يقع من كل واحد من الشريطين في نصيبه، وإنما المراد أنَّه لا يبقى بعضه مملوكاً مع كون بعضه حراً فلا فائدة لما ذكرتم.
فإن قيل: روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا عتق فيما لا يملك ابن آدم> فلم يجب أن يعتق نصيب الشريك لعتق أحد الشريكين نصيبه؛ لأنَّه لا يملك نصيب شريكه.

(94/7)


قيل له: لم يقل صلى الله عليه وآله وسلم: <لا عتق فيما لا يملكه المعتق> وإنما قال: <لا عتق فيما لا يملك ابن آدم> ونصيب شريكه مما يملك ابن آدم ولا متعلق لكم في الظاهر ويحتمل أن يكون المراد أن العتق لا يتأتى إلاَّ في المملوك ليعلم أن من أعتق في دار الحرب قبل أن يملك المعتق لم يقع العتق على أن رجلاً لو أوصى لرجل بما في بطن جاريته ثُمَّ مات فأعتق الوارث جاريته نفذ العتق فيها وفيما في بطنها وما في بطنها ليس بملك للمعتق وإنما عتق لتملكه لتعلقه بملكه، فكذلك الشريك وأيضاً العتق موجب للتحريم من غير أن يكون فيه إباحة للغير، فوجب أن لا يتبعض دليله الطلاق ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أنَّه لو قال: وجهك حرٌ أو فرجك حرٌ أنَّه يوجب عتقه كله كاتب العلة فيه تعليق الحرية بالبعض، فكذلك ما اختلفنا فيه.
فإن قيل: العلة في ذلك أنَّه يعبر بالوجه عن الجملة وكذلك الفرج.
قيل له: هذا غير مسلَّم ولا يعرف في اللغة الفرق، فأما الكلام في العضو فإنه يجيء بعد هذه المسألة.
مسألة
قال: ولا فصل بين أن يقول أنت حر وبين أن يقول رجلك حرة أو يدك حرة أو فخذك حر أو صدرك حراً أو بعضك حراً أو شعرة منك حرة كل ذلك يوجب العتق وأظنه قول الشافعي، قال أبو حنيفة وأصحابه: ذلك في أعضاء مخصوصة وهي الرأس والبدن والنفس والجسد والروح والرقبة والفرج، حكاه أبو الحسن الكرخي، قال: ولا يعتق إذا قال ذلك في غيرهن من الأعضاء ووجهه أنَّه عتق إذا وقع في بعضه فيجب أن يعتق كله بدلالة الأخبار المتقدمة نحو قوله: من أعتق شقصاً له في مملوك ونحوه وأيضاً لا خلاف فيما ذكرناه من الأعضاء نحو الرأس والوجه والفرج أنَّه إذا علق العتق عليه عتق العبد كذلك ما اختلفنا فيه من الأعضاء لعلة أنَّه تعليق العتق على عضو له.
فإن قيل: لأن هذه الأعضاء يعبر بها عن الجملة.
قيل له: لا نسلم في الرقبة خصوصاً؛ لأن النص ورد بذكرها.

(94/8)


فإن قيل: يتأول هذا وجه الرأي يراد به نفس الرأي وهذا باطن الرأي والمرجع في جميع ذلك إلى الرأي وهم لا يوجبون العتق المعلق عليهما.
فإن قيل: فقد يقال عندي كذا رأسا أريد بيعهم.
قيل له: وقد يقال عندي كذا بطناً احتاج أن أسبعهم وكذا ظهر أحتاج أن أكسوهم وكل ذلك على التجوز وعلى أن الغرض به معلوم لا على أنَّه في الحقيقة اسم للجميع على أنَّه إذا قال يدك حرة أو رجلك حرة فقد علق العتق على ما يملك؛ لأنَّه مالك يد عبده ورجله بدلالة أنَّه لو يجني عليهما بالقطع أو غيره لاستحق المولى إرشهما فوجب أن يقع العتق كما أنَّه لو أوقعه على جزء منه معلوم وقع العتق به، والعلة أنَّه علق العتق على ما يملكه إذا استقر فيه، فلا خلاف أنَّه يسري إلى الجميع؛ لأنَّه لم يقل أحد بذلك إلاَّ قال أنَّه يسري في الجميع.
فإن قيل: الفق بينهما أن بيع الجزء منه يصح وبيع الأعضاء لا يصح.
قيل له: لأن العتق يحتمل من الجهالة ما لا يحتمله البيع على أني لا أراهم يصححون البيع، لو قال: بعتك روح أمي أو فرجها أو وجهها ويصححون ذلك في العتق.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال لمملوكته: ما في بطنك حرٌ عتق ما في بطنها وإن قال: أنت حرة وما في بطنك مملوكة كانت وما في بطنها حرين، وهذا مما لا خلاف فيه؛ إذ قد أجمعوا أنَّه يصح من الرجل أن يعتق ما في بطن جاريته وإن عتقه لا يسري لا يسري إلى أمه، وقد أجمعوا أن ما تلده الحرة فهو حرٌ فإذا عتقت الأم وجب أن يعتق ما في بطنها.
مسألة
قال: وإذا كان العبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه بإذن شريكه، كان العبد حراً ولم يضمن المعتق لشريكه شيئاً ووجب على العبد أن يسعى في نصف قيمته لشريك المعتق، وذلك أن شريكه حين أذن له في إعتاق نصيبه نفسه، كان قد أراه من ضمان سرايته، كما أن من أذن له في بط جرحه أو ختان عبده، كان قد أبرأه من ضمان سرايته، فلذلك يسقط عنه الضمان، فإذا سقط ذلك لزم العبد السعاية.

(94/9)


فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك كالأذن في إعتاق نصيبه، كما أعتق نصيب نفسه ولا يجب أن يضمن العبد شيئاً بمنزلة من وكل غيره يعتق عبده.
قيل له: إذا احتمل الأذن ما قلناه وما ذكرتم له نحكم إلاَّ بما تيقناه دون ما احتمل مما لم نتيقنه وضمان السراية قد تقينا أنَّه قد أبرأه منه فقلنا به وما عداه لم نقل به، فإن قال الشريك أذنت له في عتق نصيبي، عتق العبد ولم يبع، وإن ادعى العبد عليه كان القول قوله مع يمينه.
مسألة
قال: وإن أعتقه بغير إذن شريكه ضمن المعتق لشريكه نصف قيمة العبد إن كان موسراً، وإن كان معسراً سعى العبد لشريكه في نصف قيمته غير مشطوط، قال أبو حنيفة: إن كان موسراً فله الخيار بين أن يعتق نصيبه أو يضمنه المعتق ويرجع على العبد بما ضمن من نصف قيمته أو يستسعى العبد فيه وإن كان معسراً فشريكه بالخيار بين أن يعتق نصيبه وبين أن يستسعي العبد فيه، فإذا أدى عتق، قال الشافعي: إن كان موسراً عتق وقوم عليه نصيب شريكه، وإن كان معسراً عتق العبد نصيبه وبقي نصيب صاحبه موقوفاً كما كان فالخلاف بيننا وبينه في المعسر ولا خلاف بيننا وبينه في المؤسر، فأما أبو يوسف ومحمد فقولهما مثل قولنا في المعسر والمؤسر وفي أن العبد لا يرجع عليه المعتق إذا ضمن والأصل في هذا أن العتق لا يبعض وشبهناه بالطلاق ويمكن تشبيهه بالعفو عن دم العمد؛ لأنَّه لا يتبعض، فإذا بينا ذلك بطل ما ذهب إليه أبو حنيفة في المعسر وما ذهب إليه الشافعي في المعسر؛ لأن قولهما مبني على جواز تبعيض العتق، وروى كالنص فيما نذهب إليه، روى هاهنا، وعن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <من أعتق شقصاً أو شركاً له في مملوك فعليه خلاصة في ماله، فإنه لم يكن له مالٌ استسعى العبد غير مسوق عليه.

(94/10)


فإن قيل: فقد روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: يعتق الرجل من عبده ما شاء ويسترق منه ما شاء، وهذا يدل على جواز التبعيض.
قيل له: ليس في الخبر أن ذلك في العبد الواحد يجوز أن يكون المراد به في الغرض أن ذلك لا تكون محاباة مكروهة فقد كرهت المحاباة والتخصيص في كثير من المواضع يبين صحة ما قلناه أن زيداً روى عنه عليه السلام في عبد بين رجلين أعتقه أحدهما أنَّه يقوم عليه بالعد فيضمن لصاحبه حصته فلو صح أن يبعض عتق ما يملكه، كان ذلك فيما لا يملكه من نصيب شريكه أولاً، فكان القياس أن يضمن المعتق نصيب شريكه معسراً كان أو موسراً وحكى ذلك عن عثمان، حكاه أبو بكر الجصاص والأقرب أنَّه مذهب الناصر على ما حكى عنه في الألفاظ وفيه عن الناصر أنَّه لا سعاية على العبد لكنا عدلنا عن القياس فيه لإجماع العلماء على خلافه، وللسنة التي رواها قتادة عن رجاله، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة في إيجاب السعاية على العبد إذا كان المعتق معسراً؛ ولأن الأخبار التي وردت في تضمين المعتق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكثرها وعامتها اشتراط اليسار فنبهت تلك الأخبار على أن تضمين المعتق إنَّما هو بشرط اليسار وخرجت به السنة التي رواها قتادة، فوجب القول به والقياس الذي عدلنا عنه ما ثبت من أنَّه مستهلك نصيب شريكه، فوجب أن يضمنه كما يضمن سائر ما يستهلك من أموال غيره، فصح ما ذهبنا إليه من أن لا ضمان على المعسر ولا يبعد أن يكون الصَّحيح أن الضمان كان عند المعتق لكنه لما كان معسراً انتقل بالسنة إلى العبد كما انتقلت ديته الخطأ إلى العاقلة للسنة الواردة فيه.
فإن قيل:
ففي بعض الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تضمين المعتق من غير شرط اليسار.

(94/11)


قيل له: هذه الأخبار كلها واردة عن طريق ابن عمر وأكثر ما روى فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشتراط اليسار، فلا يبعد أن يكون الرواة حذفوا ذلك اختصاراً على أن الزيادة من حكمها أن تقبل ويضاف إلى الأصل سيما إذا كان أكثر الأخبار واردة مع الزيادة.
مسألة
قال: ولو كان عبد صغير بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه ولم يعتق الآخر وكان المعتق موسراً انتظر بالعبد بلوغه ثُمَّ استسعى في نصف قيمته يوم أعتقه، وهذا قد مضى شرحه وبيانه ولا فضل بين هذه المسألة وبين التي قبلها إلاَّ أن في هذه المسألة إن كان المعتق معسراً انتظر بلوغ الصبي للإستسعاء؛ لأنَّه لا يحكم عليه ما لم يبلغ ويقوم قيمته يوم عتق؛ لأنَّه استهلك يومئذ فهو بمنزلة من يغصب شيئاً، ثُمَّ استهلكه أنَّه يضمن قيمته يوم استهلكه وغصبه.
مسألة، قال: وكذلك إن ملك شقصاً من ذي رحم محرم عتق المملوك وقد مضى في باب الإماء من كتاب النكاح الكلام في عتق من يملكه ذو رحم محرم ونعيد طرفاً منه، وقول أبي حنيفة وأصحابه فيه مثل قولنا، قال الشافعي: لا يعتق إلاَّ آباؤه وأمهاته وأولاده وحجتنا الأخبار الواردة في هذا الباب منها ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من ملك ذا رحم محرم فهو حر>، وروى أبو الحسن الكرخي بإسناده عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله: إني دخلت السوق فوجدت أخي يباع فاشتريته وأنا أريد أن أعتقه، فقال: <فإن الله تعالى قد أعتقه>، وروى الطحاوي فيه أحاديث كثيرة منها عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من ملك ذا رحم محرم فهو حر>، وعن قتادة عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <من ملك ذا رحم محرم فهو حرٌ>.
فإن قيل: فسمرة يروي مرة ذا رحم فقط ومرة ذا رحم محرم فقط.

(94/12)


قيل له: يحتمل أن تكون روايته ذا رحم محرم كما رواه علي وابن عمر، لكنه اقتصر مرة على أحد اللفظين ومرة على الأخرى تعويلاً على أن المقصد فيه معلوم، ورواه أيضاً موقوفاً عن عمر وابن مسعود، وحكى عن بعض الناس أن من ملك أباه لم يعتق عليه حتى يعتقه تعلقاً بحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يجزي ولد عن والده إلاَّ أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه> وهذا معناه فيعتقه بالشراء لدلالة سائر ما رويناه ويقيس مع الشافعي على الولد والأبوين بعلة أن بينهما رحماً محرماً أو بأن التناكح بينهما محرم من أجل النسب ونقيس الأخل على الجد بعلة أنَّه عصبة يدلي بالأب وليس لهم أن يعتبروا الشهادة لأنا نقبل شهادة الابن لأبيه وشهادة الأب لابنه، فإذا ثبت ذلك وثبت ما قلناه من قبل أن العتق لا ينقض ثبت أن من ملك شقصاً من ذي رحم محرم عتق أجمع عليه.
مسألة
قال: وإن اشتراه وهو يعلم أنَّه يعتق إذا ملكه ضمن لشريكه ماله فيه وإن لم يعلم استسعى العبد فيه، أما القول في التضمين على حسب اليسار والإعسار، فقد مضى وهذه أيضاً يجب أن يجرى على ما مضى فيمن أعتق نصيبه من مملوك بينه وبين غيره؛ لأنهما جميعاً معتقان أحدهما بالقول والآخر بالشراء ولا فصل بينهما، فأما اعتبار العلم في هذا الباب فهو ما يضعف جداً على ما بيناه في كتاب الشفعة، وهذه المسألة أبين ضعفاً؛ لأنَّه ضمن ما ضمن لاستهلاك مال الغير ومن استهلك مال غيره فلا فصل في باب الضمان بين أن يستهلك عالماً أو جاهلاً، فكذلك في هذا الموضع فأما وجه اعتبار العلم في هذا فهو أن يقال: إن هذا الباب قد خص من سائر الإستهلاكات، بأن وضع ضمانه على المستهلك الجاهل وينقل إلى العبد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <وضع عن أمتي الخطأ والنسيان> وهذه المسألة جرت في كتاب النكاح من كتاب الأحكام فاعتبر فيها العلم وذكرها في كتاب النكاح ونص فيه الإعسار واليسار على ما سلف القول فيه.

(94/13)


فصل
وهذا إن ملكه بالشراء أو بأن وهب له فقبله؛ لأن الإستهلاك وقع بفعله، فإن اشترياه معاً أو وهب منهما فقبلاه معاً أو غنماه معاً أعني ذا الرحم وشريكه فعند أبي حنيفة لا يضمن ويستسعى العبد في حصة شريكه، وهذا قياس قول يحيى عليه السلام حين نقول: إن كان أحد الشريكين أذن لصاحبه في أن يعتق نصيب نفسه سقط عنه الضمان واستسعى العبد في نصيب الأذن، وذلك أنهما إذا اجتمعا على الشراء والقبول والاغتنام فكان كل واحد منهما راض يفعل صاحبه، أذن له فيه، قال أبو يوسف ومحمد: يضمن وإن كان شراؤهما وقبولهما معاً، فأما إن ملكه بالإرث فلا يضمن نصيب شريكه لا خلاف فيه وذلك أنَّه لا فعل له في استهلالك نصيب شريكه فوجب أن لا يضمن وإذا وهب شقصاً منه من صبي لم يبلغ وهو معدم وقبله له وليه فإنه يعتق عليه ولا ضرر يلحقه، وإن كان موسراً لم يقبله؛ لأنَّه يدخل غرامة الضمان عليه وفي ذلك إتلاف ماله بلا عوض وليس ذلك لولي الصغير إلاَّ أن يرى صلاحه في ذلك.
مسألة

(94/14)


ولو أنَّه قال: أحدٌ مماليكي حرٌ وله ثلاثة مماليك، ثُمَّ مات ولم يبين الحر منهم عتقوا كلهم ولزم كل واحد منهم أن يسعى الورثية في ثلثي قيمته وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: يقرع بينهم لتعيين الحر منهم بالقرعة، أما عتق المجهول فجائز لا أحفظ فيه خلافاً، وذلك أنَّه يجوز أن يعلق على الأحظار على ما بينا القول فيه ف التدبير وما جرى مجراه وليست الجهالة أعظم من تعلقه على الأخطار على أن في تعلقه على الخطر ضرباً من الجهالة فيمكن أن يقاس عليه غيره من الجهالات ويجوز أن تثبت في الذمة رقبة مجهولة كما تثبت في الظهار والقتل والنذر ويجوز أن يعتق كل مملوكٍ له وإن لم تعلم أعيانهم ولا عددهم على أنَّه يجوز أن يعتق كل مملوك في البيع قريب منه وهو أن يبيع فقيراً من صبرة من بر فالبيع صحيح وعلى البائع تعيينه، فإذا صح ذلك ومات المولى قبل أن يبين استحق كل واحد منهم ثلث الحرية؛ لأنَّه يثبت له الحرية في حال ويثبت عليه الرق في حالين، ألا ترى أنَّه إن كان هو المراد فهو حرٌ، وإن كان المراد أحد صاحبيه فهو عبد، وكذلك إن كان المراد صاحبه الآخر فهو عبد فهو حر في حالة وعبد في حالتين، فوجب أن يثبت لكل واحد ثلث الحرية، وكذلك القول في صاحبيه، وقد ثبت اعتبار الأحوال بما روي عن جرير بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمرهم بنصف العقل وذلك أنَّه لما احتمل أن يكون سجودهم لإظهار الإسلام وقبول ما دعوا إليه واحتمل أن يكون ذلك منهم تفادياً من القتل وعلى ما يفعله الشرك بعظمائهم وداهم وأسقط النصف لما استحقوا الدية في حال ولم يستحقوها في حال وثبت عن علي عليه السلام أنَّه راعى الغرقى في الأحوال لما جاز في كل واحد منهم أن يكون مات قبل صاحبه وجاز أن يكون مات بعد صاحبه، ولهذا قلنا في خنثى لبسة أن له نصف نصيب الذكر

(94/15)


ونصف نصيب الأنثى؛ لأنَّه يحتمل أن يكون أنثى ويحتمل أن يكون ذكراً وأيضاً قد ثبت في الأعيان كالدار والدابة أن ثلاثة إذا استووا في ادعاء شيء منها وجب أن يقسم بينهم أثلاثاً، وكذلك الحرية فإنها وإن كانت حكماً فهو في هذا بمعنى العين، فأما القرعة فإنها لا تميز بين الحر والعبد وهو من جنس القمار في هذا الباب، وإنما يجوز استعمالها في تطييب النفوس وما جرى مجرى ذلك من إزالة التهم وعلى هذا لو استعملها في القسمة لا أنها تفرق بين الحق والباطل وعلى هذا ما روي أن رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم أقرع بين نسائه لما أراد أن يسافر بواحدة منهن وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان له أن يخرج من شاء منهن ففعل ذلك تطييباً لأنفسهن وعلى هذا يحمل قول الله عز وجل: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} إن ذلك كان على وجه تطيب النفوس، وكذلك قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَظِيْنَ} يحتمل أن يكون ساهم لتطيب نفوس القوم، وأما إلقاؤه نفسه في البحر فلا يجوز إلاَّ بأمر الله عز وجل إذ لا خلاف أن مثل تلك الحالة إن عرضت في مثل هذا الزمان لم يحمل لأحد أن يلقي نفسه في البحر بالقرعة بل لا يحل تعريض النفس للتلف إلاَّ بإذن شرعي، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى أن لا يفعل ذلك إلاَّ بأمر الله تعالى.

(94/16)


وأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرع بين ستة أعبد وأعتق اثنين، فليس في الحديث كيف كان أمر القرعة ويحتمل أن يكون معنى أقرع بينهم ضرب بينهم السهام؛ لأن القرع هو الضرب، ومنه اسم المقرعة، وقوله: أعتق اثنين، المراد به الثلث من الستة فعبر عنه بالاثنين، فإذا احتمل ذلك لم يكن حمله على مذهبهم بأولى من حمله على مذهبنا بل حمله على ما ذهبنا إليه أولى للأدلة التي ذكرناها، ونذكرها على أن القرعة لو جاز أن نحكم بها في العتاق لجاز أن نحكم بها في الطلاق، كما حكى ذلك عن أبي ثور وحكى عنهم أنهم أجازوا إدخال القرعة في البينات كان يشهد شاهدان أن رجلاً طلق امرأته زينب في حال مات عقيبها وشهد شاهدان آخران أنَّه بعينه في تلك الحال طلق امرأته هنداً، وعلى هذا يلزمهم إدخال القرعة في جميع الأحكام الملتبسة حتى يخرجوا عن دين الإسلام، فإذا بطلت القرعة وثبت ما قلناه وجب أن يسعى كل واحد منهم في ثلثي قيمته؛ لأنَّه استحق ثلث الحرية وحصل الثلثان على وجه السراية فوجبت السعاية بما ذكرناه على أن كل من أبي القرعة، قال فيه بالسعاية وقد بطلت القرعة فوجبت السعاية، قال: فإن لم يمت السيد كان مخيراً في عتق أيهم شاء وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ووجهه أن كل من أوجب حقاً في ماله غير معين فالتعيين إليه مثل أن يقول: نصف ما في هذا الكيس من العين صدقة أو ثلثه أو جزء منه فعليه التعيين، فكذلك من اشترى شيئاً بألف فعليه تعيين الألف من ماله وكذلك من أستلف فيما يكال أو فيما يوزن أو في الثياب فإليه التعيين في ذلك، وكذلك قال أصحابنا فيمن له حق على رجل فتعذر عليه استيفاؤه: أنَّه ليس له أخذ ذلك من ماله إن ظفر به؛ لأن له الخيار في تعيين ذلك وكذلك زكاة الشاء والبقر، فلما ثبتت هذه الأصول وواقع هو العتق في غير معين من ماله كان خيار التعيين إليه، ويدل على ذلك أنَّه من باع فقيراً من صبرة من برٍ كان تعيين الفقير إليه، فكذلك تعيين

(94/17)


العتق الذي ذكرنا.
مسألة
قال: وإن أوصى بثلثه لقوم بأعيانهم وجعل مملوكه كأحدهم في الوصية أو أوصى بثلثه أو دون ذلك لمملوكه عتق المملوك وسقط من قيمته ما يخصه من الوصية ولزمه السعي في باقيها للورثة، فإن كان ما يخصه يستغرق قيمته فلا سعاية عليه وعلى هذا إن زادت الوصية على قيمته عتق هو ولا شيء عليه ودفعت الزيادة إليه ووجهه أنَّه لما أوصى بثلث ماله أو بشيء من ثلث ماله له منفرداً أو مع جماعة بأعيانهم استحق هو من رقبته بمقدار ذلك وملكه فعتق؛ لأنَّه لا يجوز أن يملك نفسه بل ملك نفسه يوجب عتقه إذ لا يجوز أن ينتقل إليه الرق الذي يملكه المولى؛ لأنَّه لو انتقل إليه لقام فيه مقامه فثبت أن تمليكه إياه نفسه إنَّما هو عتقه فله ثلاثة أحوال، أما أن يكون الذي وقعت فيه الوصية له به مثل قيمته سواء، فإنه يعتق كفافاً لا شيء عليه ولا شيء له سوى عتقه أو تكون قيمته زايدة على ما رجعت الوصية به إليه فإنه يعتق سائره بعتق بعضه، ووقع العتق في ملك الورثة؛ لأن ما زاد من قيمته على قدر الثلث كان ملكاً للورثة، وكان المالك بالموت قد بطلت ذمته فصار بمنزلة من لا مال له فلزمه أن يسعى للورثة بمقدار ما زاد من قيمته على الموصي له بمنزلة الشريك الفقير يعتق نصيبه فيجب على العبد أن يسعى للشريك الذي لم يعتق بقيمة نصيبه على ما مضى القول فيه أو تكون قيمته دون ما وقعت الوصية له به فعتق ويذهب مقدار قيمته من الوصية ويستحق ما فضل عن ذلك يدفع إليه لتكون الوصية قد وصلت إليه كملاً، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وعلى هذا إن ظهر على الميت دين يحيط بجميع ماله بطلت الوصية وبقي العبد مملوكاً ويباع ولا شيء له في الدين، وكذلك إن لم يقبل العبد الوصية بطلت الوصية وبقي هو عبداً، قال: وإن أوصى لأقوام لا بأعيانهم وجعل مملوكة كأحدهم في الوصية لم يعتق وذلك كان يجعل ثلثه للفقراء، وقال: اجعلوا مملوكي كأحدهم لا يعتق؛ لأنَّه لا يستحق من رقبته شيئاً

(94/18)


معلوماً ويجب أن تبطل الوصية أيضاً؛ لأنَّه لم يسم شيئاً معلوماً ولا يجوز أن يأخذ بالفقر.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال لعبيده: أثلاثكم أحرارٌ ولا مال له غيرهم عتقوا وسعوا له في ثلثي قيمتهم هذا على رواية المنتخب في منع الإنسان في الهبة والقربة مجاورة الثلث من ماله على ما ذكر، قال بذلك في صحته أو في مرضه، فأما على رواية الأحكام وهو الصَّحيح الذي نأخذ به ونعمل عليه فللصحيح أن يعمل في ماله ما شاء، فهذا يكون على ما قال المريض إذا قال له الذي مات فيه وقد نص على ذلك في الأحكام أنَّه قال فيه: إذا قال في حال مرضه كان كالوصية، والوصية لا تصح إلاَّ في الثلث، فكأنه أوصى بعتقهم ولا مال له سواهم، فإنهم يعتقون ويسعون في ثلثي قيمتهم كل واحد منهم في ثلثي قيمته، ولا فضل عنده بين أن يقول: أثلاثكم أحراراً وإن نقول: أنتم أحرار على ما مضى من أن العتق لا يتبعض، وإن عتق بعض العبد يوجب عتق جميعه، قال: وإن كانت قيمتهم ثلث ماله أو ونه عتقوا ولا سعاية عليهم وذلك أن عتقهم إلى الثلث جائزٌ على الأحوال كلها والرواية جميعها لا خلاف في ذلك.
مسألة

(94/19)


قال: سواء أسلمت أم ولد الذمي سعت له في قيمتها ولم ترد إليه ووجهه مالا خلاف فيه بين المسلمين من أن الذمي لا يجوز أن يملك المسلم، وإن اختلفوا في تفاصيل ذلك، فإذا لم يجز للذمي إمساكها بعد إمساكها بعد إسلامها، وكان لا يجوز بيعها عليه وجب أن تسعى في قيمة نفسها كالمكاتب لتخرج بأداء قيمتها من رقة، قال: فإن أسلمت أمته حكم عليه ببيعها من المسلمين، هذا لا خلاف فيه؛ إذ لا خلاف أنَّه لا يجوز له إمساك المسلمة على سبيل الرق، فإذا لم يكن ذلك حكم عليه ببيعه من المسلمين؛ لأن بيعه من المسلمين جائز لا خلاف فيه، قوله: حكم عليه ببيعه من المسلمين تنبيه على أنَّه لا يجوز بيعه من أهل الذمة خلافاً لأبي حنيفة من أن بيعه من الذمي يجوز ويمنع من إمساكه ويؤخذ ببيعه، وقول الشافعي: إنَّه لا يجوز وأظن أنَّه أحد قوليه، والدليل على ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلُ اللهُ لِلْكَافِرِيْنَ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ سَبِيْلاً} ومن أعظم السبيل يتمكن من تملك رقابهم وامتهانهم بذلك، وروي عن النبي صلى عليه وآله وسلم أنَّه قال: <الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ومن الغلو أن يتملك رقبته باختياره ويتصرف في ذلك>.
فإن قيل: أليس يملكه بالإرث وبأن يسلم عنده ويجوز التصرف فيه بالبيع.

(94/20)


قيل له: يملكه بالإرث بأن يلم عنده لم يقع باختياره، ونحن نمنعه من استدامة الملك عليه وتصرفه في البيع إنَّما هو لإزالة حكمه عنه ورفع تملكه له فلم يقع في شيء له علق عليه وليس كذلك وإن ملكه بالشراء؛ لأنَّه يبتدئ التملك له باختياره وفعله، فلم يتشابه الأمران على أن ما ذكرتموه تخصيص، ونحن استدللنا بالظاهر ولا خلاف أن الظاهر يجوز تخصيصه ولا خلاف أنَّه يجيز على بيعه، فليس يخلو ذلك من أن يكون لمنع ملكه أو لمنع تصرفه فيه بالاستخدام، ولا يجوز أن يكون لمنع تصرفه فيه بالاستخدام؛ لأنَّه لو استخدمه على سبيل الإجارة لجاز، وكذلك لو استأجر الحر المسلم لجاز فثبت أن المنع إنَّما هو من التملك، فوجب أن نمنعه من التملك ابتداءاً.
فإن قيل: فهذا ينتقض بالإرث وبإسلامه عنده.
قلنا: نحن نعلل لما صيح المنع فيه، وذلك مما لا يصح منعه منه؛ لأنَّه لا يحصل بفعله واختياره، والإنسان إنَّما يمنع من فعله دون ما ليس بفعلٍ له وتحرير القياس فيه أن نقول: لا يجوز أن نختار ابتداء تملكه لما فيه من الإعتلاء عليه دليله استدامة تملكه لما فيه من الاعتلاء عليه، على أنا وجدنا الاستدامة للأحوال أخف من الابتداء فيها؛ لأنا وجدنا في الأصول ما يجوز الاستدامة له ولا يجوز الابتداء به، ألا ترى أن المحرم له استدامة النكاح بالإجماع وفي ابتدائه خلاف، ويجوز استدامة نكاح المعتدة بالإجماع ولا يجوز ابتداء نكاحها بالإجماع، ولم نجد ما لا يجوز فيه الإستدامة ويجوز الابتداء، وإن وجدنا مالا يجوز ابتداؤه ولا استدامته كالنكاح مع الرضاع ونحوه.
فإن قيل: إسلامه لا ينافي ملك الذمي.
قيل له: ليس هذا موضع الخلاف وموضع الخلاف ابتداء تملكه له على سبيل الاختيار وعندنا أن إسلامه مانع منه.
مسألة

(94/21)


قال: وإذا كان العبد بين ثلاثة أنفس، فكاتبه أحدهم ثُمَّ دبره الآخر ثُمَّ أعتقه الثالث أو دبره الأول أو أعتقه بطل ما فعل الشريكان بعده ثانياً وثالثاً وضمن الشريك الذي أعتق أولاً أو دبر أو كاتب لشريكين ما لهما في العبد قد مضى الكلام فيمن أعتق نصيبه من عبد بينه وبين شريكه وما يختاره وما فيه من الاختلاف والفرق بين الموسر والمعسر، فلا حاجة إلاَّ إعادته، وأما إذا دبر أحدهم نصيبه فأبو حنيفة يذهب إلى أن لشريكه فيه خمس خيارات إن شاء دبر هو أيضاً نصيبه، وإن شاء ضمن لشريكه قيمة نصيبه، وإن شاء سعى له العبد في قيمة نصيبه، وإن شاء أعتقه، وإن شاء تركه ليكون نصيبه مملوكاً كما كان، قال أبو يوسف ومحمد: يصير مدبراً لمن دبره ويضمن هو لشريكه قيمة نصيبه موسراً كان أو معسراً، وهو ما نذهب إليه؛ لأنَّه إذا صار مدبراً لم يجز فيه تصرف شريكه، ولم يفصل يحيى عليه السلام فيه بين الإعسار واليسار ونكتة الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن التدبير عند أبي حنيفة يتبعض كما يتبعض العتق، وعندنا لا يتبعض كما لا يتبعض العتق؛ أنا وجدنا تبعيض التدبير ومات المدبر وجب أن يكون العبد يعتق منه بمقدار نصيب المدبر، فكان تبعيض العتق وفي فساد ذلك فساد القول بتبعيض التدبير، وإذا ثبت ذلك ثبت أن العبد كله قد صار مدبراً لمن دبره وانتقل إلى نصيب شركيه باستهلاكه إياه فلزمه الضمان معسراً كان أو موسراً؛ لأن العبد في ملكه بعد ولم يحصل في يد نفسه فلم يجب تضمينه السعاية؛ لإعسار المدبر واستوت حالتا إعساره ويساره وبطل عتق شريكه ومكاتبته؛ لأنَّه أعتق أو كاتب والعبد منتقل نصيبه إلى شريكه على ما بيناه، فأما إذا كانت بعض الشركاء فعند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: أن لشركائه فسخ كتابته مالم يقع الأداء والذي يقتضيه مذهبنا أن لهم ذلك مالم يقع شيء من الأداء وذلك أنَّه إذا لم يقع شيء من الأداء فالعبد كما كان وللشريك فسخه؛ لأنَّه يؤدي إلى إبطال حقه من

(94/22)


التصرف فيه، فأما إذا وقع شيء من الأداء فإنه عندنا يصير بمنزلة الحر في ذلك القدر فلا سبيل إلى فسخ الكتابة عنه ما لم يجز المكاتب ذلك ولا يجوز تبعيض الكتابة كما لا يجوز تبعيض التدبير؛ لأنَّه يؤدي إلى تبعيض العتق، وقد ثبت فساده، فوجب أن يضمن هو حصص الشركاء، وإن تنتقل الحصص إليه كما بيناه في التدبير، ويجب أن يستوي فيه إعسار المكاتب وإيساره على ما سلف القول؛ ولأنه مستهلك لحصصهم والعبد لم يعتق بعد فلا وجه للسعاية.

(94/23)


باب القول في التدبير
إذا قال الرجل لمملوكه أنت حر بعدي، كان مدبراً يعتق إذا مات الرجل من ثلث ماله، وليس أن يبيعه في حياته÷ إلاَّ من ضرورة، ولا خلاف أنَّه يعتق بعد موته، وأنه يعتق من الثلث واختلف الناس في بيعه في حياة المدبر، قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز بيعه على وجه، وبه قال الناصر، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن عل عليهم السلام أن رجلاً أتى علياً فقال: إني جعلت عبدي حراً إن حدث بي حدث، أفلي أن أبيعه؟ قال: لا. ومعناه عندنا إذا لم يكن هناك حال ضرورة وحكى عن مالك، قال: لا يباع إلاَّ في الدين ويشبه أن يكون قوله مثل قولنا، ولما روي عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً دبر غلاماً له لا مال له غيره، وروي وعلي دين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من يشتريه. فاشتراه نعيم النخام، وفي بعض الأخبار: <إذا احتاج أحدكم فليبدأ بنفسه>، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنَّه باع مدبراً في دين الذي دبره فإذا ثبتت هذه الأخبار قلنا: طريقان أحدهما ما بيناه مشروحاً في كتاب البيوع، وهو أن التدبير حق غير مستقر قبل الموت، فكانت حال التدبير قبل الموت حال الوصية بعد الموت وأيضاً التدبير يوجب عتقاً من جهة القول سرى إلى الولد فوجب أن لا يجوز بيعه إلاَّ لعجز، ما دليله المكاتب لما كان عتقه من جهة القول، وكان يسري إلى الولد لم يرق إلاَّ بعز ما.
فإن قيل: التدبير لا يسري إلى الولد في أحد قولي الشافعي.

(95/1)


قيل له: أما في أحد قوليه فإنه يسري ونحن ندل على صحة ذلك فنسقط قوله الآخر، فالدليل عليه ما روي عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وعثمان ولد المدبرة بمنزلة أمه لم يرو خلاف ذلك عن أحد من الصحابة فجرى مجرى الإجماع منهم فوجب ما قلناه، وأيضاً هو عتق يحصل مع زوال لك المعتق عنه بموته بسبب أوجبه في حياة فأشبه الكاتب والطريق الثاني أن نقول: أن الدلالة قد دلت على أن المدبر لا يجوز بيعه من جهة الأثر والنظر ثُمَّ ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر ببيع المدر لدين كان على المدبر، وروي أن رجلاً دبر عبداً له مال له ساه فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببيعه فخصصنا بالأثر وعدنا في تلك الحال وهي في حال الضرورة عن القياس.
فإن قيل: ما ذلك الأثر وما ذلك النظر.

(95/2)


قيل له: أما الأثر ما رواه أبو بكر الجصاص بإسناده عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <المدبر لا يباع ولا يشترى وهو حرٌ من الثلث> فنفى عمومه بيع المدبر في جميع الأحوال وما رويناه عن علي عليه السلام من طريق زيد أنَّه سأله رجل، فقال: إني جعلت عبدي حراً إن حدث بي حدث، أفلي أن أبيعه؟ قال: لا. وقوله عندنا حجة، وأما النظر فهو أن عتقه يجب بموت مولاه على الإطلاق، فأشبه أم الولد في أنَّه لا يجوز بيعها وأيضاً قد ثبت أن عتقه ليس يجري مجرى العتق بصفة، وذلك أن من قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حرٌ فدخل العبد الدار مع موت السيد لم يعتق؛ لأن حصول الشرط صادف زوال ملك المعتق، فلو كان التدبير يجري هذا كان يجب أن لا يعتق بموته؛ لأن الشرط وهو الموت يكون مصادفاً زوال ملكه، وكان يجب أن يكون بمنزلة أن يقول: إذا بعتك فأنت حر، فلا يعتق؛ لأن حصول الشرط صادف زوال الملك فثبت أنَّه عتق مستحق قبل الموت كعتق أم الولد، وأنه لا يجري مجرى العتق على الصفة، كعتق المكاتب على ما مضى القول فيه، فأما عتقه من الثلث فقد قلنا: إنَّه لا خلاف فيه وروينا النص فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه أبو بكر، وقال الكرخي: أنَّه من الثلث مروي عن علي عليه السلام وعتق ولد المدبرة، حكى أبو الحسن الكرخي أنَّه من الثلث مروي عن ابن مسعود، وعن شريح، وعن مسروق وعطاء وطاو س ومجاهد وابن جبير والحسن وقتادة.
مسألة

(95/3)


قال: وإن كانت مملوكة جار له وطؤها وله أن يكاتبه ويعتقه في كفارة اليمين وفي الظهار وكل ذلك؛ لأن ملكه باق عليه، وأنه لم يخرج إلى العتق فجاز الوطء وصحة المكاتبة؛ لأنَّه يتوصل بها إلى تحصيل العتق، وكذلك العتق في الكفارات ولست أحفظ في شيء من ذلك خلافاً، وكذلك يجوز استخدامه، والأذن له في التجارة ثُمَّ الحجر عليه وتجوز إجارته وإنكاحه، ويجوز فيه كلما يجوز في العبد البيع، فإنه على ما بيناه، وكذلك الرهن والهبة وإن يجعل مهراً.
قال: ولا فرق بين أن يدبره في صحته أو مرضه؛ لأنَّه يخرج من الثلث فاستوى فيه خال الصحة والمرض؛ لأن ما يكون عتقه على جميع الأحوال من جميع المال كالمكاتب وأم الولد أن يكون عتقه على جميع الأحوال من الثلث فلا فرق بين أن يقع الموجب لعتقه في الصحة والمرض.
مسألة

(95/4)


قال: فلو أن رجلاً بر عبده، ثُمَّ فسق العبد، كان له أن يرده في الرق ويبيعه، ووجب عليه أن يشتي بثمنه رقبة مؤمنة يدبرها، فإن تاب العبد بعدما رد في الق واشترى بثمنه غيره لم يكن مدبراً، وكان تدبير الثاني ماضياً معنى قوله: يجوز أن يرده في الرق ويبيعه: أنَّه يجوز له بيعه لا أنَّه يرده في الق بالقول، ثُمَّ يبيعه بأن يكون البيع هو الرد في الرق؛ لأن أضعف حالة أن يكون عتقاً على صفة ولا يجوز الرجوع عنه بالقول ووجهه أن مذهبه أنَّه لا قربة في عتق الفاسق على وجه من الوجوه، والغرض في العتق وفي إمضاء ما يجوز إمضاؤه هو القربة، فإذا فسق العبد صار مولاه عاجزاً عن التقرب به؛ إذ لا يصح ذلك فيه وصل أيضاً مضطراً إلى أن يكون متقرباً به فيحصل معنى الضرورة فيجوز له بيعه على ما سلف القول فيه، فأما ما صرف ثمنه في آخر وتدبيره مكانه فهو على وجهين: إن كان نذراً قد لزمه فهو واجب وصرف الثمن استحباب؛ لأن له أن يشتري الثاني بغير ذلك الثمن، ووجهه الاستحباب أنَّه ما جعله قربة فيستحب له المضي فيه، وإن لم يكن نذراً فالتدبير استحباب؛ لأنَّه لا قربة في عيوبه الفاسق كل الظهور ولو صح ذلك أيضاً فوقوع التدبير على وجه القربة لا يغيره فسق العبد بعده، وقوله: إن تاب لم يعد في التدبير أراد بعد البيع؛ لأنَّه قبل البيع لا يخرج من التدبير، وأن يخرج منه بالبيع.
مسألة

(95/5)


قال: ولو أن رجلاً قال لعبده: إذا جاء فلان من سفره أو إذا كان رأس السنة أو غير ذلك مما أشبهه فأنت حر، كان حراً إذا كان ذلك وحكمه في أنَّه لا يجوز بيعه قبل ذلك الوقت إلاَّ من ضرورة حكم المدبر، فإن باعه قبل حصول الشرط بيسير أو كثير جاز بيعه ولم يلزمه عتقه قوله: إن حكمه في أنَّه لا يجوز بيعه إلاَّ من ضرورة حكم المدبر الكراهة لبيعه قبل واستحباب تركه إلى حصول الشرط، فأما الإيجاب فلا معنى له وهو خلاف إجماع المسلمين؛ ولأن حكم العتق لم يستقر فيه بدلالة أنَّه لا خلاف في أنَّه لا يسري إلى الولد فإن سيده لو مات قبل الشرط بيسير أو كثير جاز بيعه، يدل على أن البيع يثبت مع الكراهة وفي أصحابنا من أظنه يحمل هذا على ظاهره وهو بعيد جداً لما فيه من مخالفة الإجماع؛ ولأن العتق لم يصر مستحقاً له بقوله قبل الشرط كما يستحقه المدبر على ما بيناه.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال لمملوكه: أخدم أولادي عشر سنين، فإذا مضت هذه السنون فأنت حر وجب عليه أن يخدمهم حيث شاءوا، فإن وهب له بعض الأخوة خدمته خدم الباقين وحاضهم في كل سنة فإذا كان بعد عشر سنين عتق وذلك أنَّه أعتقه بعد عشر سنين فلا يقع العتق قبل ذلك كأن يقول له: إذا كان صف الشهر أو نحوه فأنت حر، فإن العتق لا يقع قبل ذلك الوقت والخدمة واجبة للأولاد؛ لأنَّه قد جعل خدمته لهم فهو جائر بمنزلة العارية وبعض الأولاد إن ترك نصيبه لم يستحقه الباقون ولم يكن لهم إلاَّ خصصهم كما كان في الأصل كمن وهب شيئاً لرجلين فقبل أحدهما ولم يقبل الثاني أن الذي يقبل لا يستحق إلاَّ نصيبه دون نصيب صاحبه، فكذلك ما قلناه.
مسألة

(95/6)


قال: ولو أنَّه قال لعبده: إذا خدمت أولادي أياماً كثيرة فأنت حر، صار حراً إذا مضت سنة واحدة وقد يل في ذلك أسبوع، وقيل عشرة أيام، وقد ذهب عليّ أسامي قائليه من أبي حنيفة وأصحابه، ووجهه ما ذهب إليه يحيى عليه السلام أن الأيام الكثيرة احتمل أيام السنة واحتمل ما دون ذلك فلم يكن العتق إلاَّ مع اليقين؛ لأن الرق المتيقن لا يرتفع إلاَّ بتيقن العتق ولم ير الدليل قام على دون ذلك فجعله حراً؛ لأنَّه أكثر ما قيل فيه هو كما قال أن الغيبة المنقطعة للولي مارد على مسيرة شهر؛ لأنَّه يقين أو ولايته لا حكم لها؛ لأن ذلك أكثر ما قيل فيه، ولا دليل على ما دونه، تمت والله أعلم وأحكم بالصواب.

(95/7)


باب القول في المكاتبة
يستحب مكاتبة من يطلب المكاتبة من المماليك إن علم فيه الخير، والخير هو التقوى والدين والوفاء، ذك لقول الله عز وجل: {وَالَّذِيْنَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ} الآية وحكي عن الظاهري أن ذلك واجب تعلقاً بقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ..}؛ لأن ذلك أمر والأمر يقتضي الإياب، ونبه يحيى عليه السلام على أنها ندب بقوله: والكتابة أن يتراضى العبد والسيد ولو كانت واجبة لصح فيها الإجبار، ولم يعتبر فيها التراضي، ووجه صرفه إلى الاستحباب هو القياس على سائر المعاوضات؛ إذ ليس في شيء منها واجب فخص ظاهر الإيجاب بقوله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ..} وقوله: <لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه> قال يحيى بن الحسين عليه السلام في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيْهِمْ خَيْراً} من جملة الخير إلاَّ بقاء لمن كاتب الإيفاء لا يكون إلاَّ بأن يكون له كسب يرى أنَّه يتوصل به إلى الوفاء فيجري ذلك مجرى الكسب أو غير ذلك مما يغلب على الظن أنَّه يتوصل به إلى أداء مال الكتابة.
فصل

(96/1)


لم يذكر يحيى بن الحسين في الإيتاء نصاً ولم يوجب على مولاه أن يحط شيئاً أو يعطيه شيئاً لا في كتاب المكاتب ولا في كتاب الزكاة في تفسير قوله عز وجل: {وَفِي الرِّقَابِ} فبان أنَّه غير واجب عنده خلافاً لما قال الشافعي: وقد نبه على ذلك عند ذكر مال الكتابة، فإذا أدى ذلك فقد صار حراً فلم يوقع الحرية إلاَّ بأداء ما كوتب عليه، ولو كان الحظ واجباً في شيء منه لم يقل ذلك، ثُمَّ قال بعد ذلك: فإن عجز عن شيء من كتابته كان مكاتباً مردوداً في الرق، وهذا نص في أنَّه لا يجب حط شيء منه؛ لأن ذلك لو وجب لم يصح أن يقول: إن عجز عن شيء منه رد في الرق بل كان يجعل ذلك محططاً عنه ويمضي عتقه وما ذهبنا إليه به قال أبو حنيفة، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ومال الكتابة مال السيد العبد فلا يحل للعبد منه شيء إلاَّ برضاه، ويدل على ذلك قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهِا إِلَى الْحُكَّامِ}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: دلا يحل مال امرء مسلم إلاَّ بطبية من نفسه>.
فإن قيل: فقد أوجبه الله تعالى عز وجل بقوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِيْ آتَاكُمْ}.
قيل له: المراد به عندنا هو أن يعطوا من مال الصدقات يستعينوا به على أداء الكتابة، وهو الذي ذكره الله تعالى في آية الصدقات حيث يقول: {وَفِيْ الرِّقَابِ} وما يطوع به الإنسان عليه من الإعطاء، والدليل على صحة أن ما نذهب إليه هو المراد بالآية، أن الله عز وجل خاطبنا أجمعين بقوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِيْ آتَوكُمْ}.
قيل: هو خطاب للموالي؛ لأنَّه عطف به على قوله فكاتبوهم.

(96/2)


قيل له: لا يجب حمل الخطاب بعضه على بعض إذا كان كل واحد منه يستقل بنفسه بل يجب حمل كل واحد منه على عمومه، ويدل على ذلك قوله من مال الله والدنيا والآخرة كلها وإن كانت لله فإطلاق مال الله متوجه على أموال القرب، فبان أن المراد به الصدقات، الغرض منها والتطوع، ويدل عليه قوله تعالى:{وَآتُوهُم} والإيتاء هو الإعطاء، والحط والإبراء لا يسمى اعطاءاً، فبان أن المراد هو أن يدفع إليهم شيء من أموال القرب ويدل عليه قوله: {مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِيْ آتَاكُمْ} وما في ذمة العبد بعد لم يؤتناه الله عز وجل؛ لأنَّه لم يحصل في قبضنا، والإعطاء لا يكون في الحقيقة إلاَّ ما يصل إلى المعطي، ونحن نجوز أيضاً تلف العبد وسقوط ذلك فكيف يصح أن يكون ذلك من جملة ما أعطانا الله عز وجل، وأيضاً لو كان الحط واجباً لكان الموجب له عقد الكتابة هو الموجب لجميعه، فكيف يجوز أن يكون عقد واجب يوجب شيئاً ويسقطه بعينه وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه كان يستحب أن يحط عن المكاتب ربع الكتابة ويتلو: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِيْ آتَاكُمْ} وفيه دليل على ما قلناه من وجهين: أحدهما على أصله وهو أنَّه قوله، والثاني أنَّه لم يرو عن غيره من الصحابة خلافه فجرى مجرى الإجماع سيما وقد روي عن عمر وعثمان الزبير أنهم لم يكونوا يرون الحط واجباً.
مسألة

(96/3)


وقال: والمكاتبة أن يتراضى السيد والعبد على شيء معروف يدفعه إلهي في أوقات معروفة من سنين أو أشهر وأيام ونحو ما بنجمة في كل نجم. كذا أو كذا على ما يتفقان عليه أنَّه حر متى وفر على يسده ما كوتب عليه على ما شورط فإن عجز فهو مردود في الرق، وكذلك إن كان وفرَّ أكثر ما عليه وإن وفاه ما كاتبه عليه عتق قد بيناه أن قوله المكاتبة أن يتراضى السيد والعبد على شيء معروف فيه تنبيه على أن لا إجبار في الكتابة خلافاً لأصحاب الظاهر بما لا معنى لإعادته وبينا أن قوله إن وفاه ما كاتبه عليه عتق يدل على أنَّه لا يوجب أحط للإيتاء وقوله يتراضيان على شيء معروف يدفعه إليه في أوقات معروفة أو نجوم منجمة على أنَّه يجوز أن ينجما نجماً واحداً وكل من قال ذلك رجع إلى الحال؛ ولأن النجم الواحد لا يقتضي التأجيل بل يجوز أن يكو حالاً خلافاً للشافعي أنها لا تصح على أقل من نجمين والدليل على ذلك قوله فكاتبوهم ولم يشترط فيه الحلول ولا الأجل ولا النجوم ولا النجمين فصح جميعه نحو العموم مثل قوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فدل ظاهره على جواز البيع نقداً أو مؤجلاً بأجل واحد وأجل عدة.
فإن قيل: هذا عقد يتضمن الكتاب في غالب الأحوال والندب بالكتاب من الله تعالى واقع في الحقوق المؤجلة.
قيل له: ومن يسلم لك أن هذا العقد يتضمن الكتاب في غالب الأحوال بل عقد الكتابة عقد نقل بين الناس، فكيف يعتبر فيه العرف وغالب الأحوال قرب ففيه أو عدل أو فاصل لعمر سبعين سنة ولا يكون رأي بعينه مكاتباً واحداً ولا شهد على كتابة ولا أفتى فيها ولا حكم فيها.
فإن قيل: الاسم يدل عليه.
قيل له: لا خلاف أن الكتاب لا يجب فيه، وإنما هو اسم موضوع لهذا الأمر المخصوص، كما أن الدابة اسم للبهيمة المخصوصة، وكما أن الغائط اسم لقضاء الحاجة والعذرة اسم للنجاسة.
فإن قيل: في الكتابة الخال تضيق على العبد وموضع الكتابة توفير حط العبد والنظر له.

(96/4)


قيل له: هو ..... نفسه فربما يعلم أنَّه يمكنه أن يستقرض أو يستوهب أو يؤاجر نفسه مدة طويلة ولا يجوز أن يكاتب قبل غروب الشمس على نجمين أحدهما إذا غابت الشمس والثاني إذا غابت الحمرة من الشفق.
فإن قيل: لا يمكنه الأداء حالاً.
قيل له: يمكنه بالوجوه التي ذكرناها على أن ذلك كمبايعة المعدم بثمن معجل فيجب أن يجوز؛ لأنَّه يتمحل كما يتمحل المعدم؛ ولأنه عقدٌ يتعلق به العتقا فاز معجلاً ومؤجلاً كالعتق على مالٍ ولا عقد لا يجب التعجيل في ثمنه فيجب أن لا يكون التأجيل شرطاً في تمامه دليله عقود البياعات وأيضاً عو عقد يتناول رقبة العبد بمال يثبت في الذمة فوجب أن يكون معجلاً ومؤجلاً كبيع العبد من الأجنبي، وقوله يتراضيان على شيء معروف يدفعه إليه يدل على أنَّه يجوز الكتابة بالورق والعين وغيرهما من العروض والحيوان بعد أن يكون معلوماً وهو صحيح لقول الله عز وجل فكاتبوهم ولم يقل على ماذا فصحت الرواية على جميع ما ذكرنا بحكم العموم، وهذه الجملة لا خلاف فيها، واختلف قول أبي حنيفة والشافعي في المكاتب على ما لا يجوز السلم فيه كنحو الوصيف وبما جرى مجراه فعند أبي حنيفة يصح الكتابة على ذلك كما تصح في المهر وعند الشافعي لا تصح كما لا تصح عنده في المهر ومذهب يحيى عليه السلام أن ذلك صحيح ي المهر قد نص عليه في كتاب النكاح، فكان الأولى أن يصح في الكتابة كما صح في المهر، وقوله على شيء يدفعه إليه معروف وأيضاً يقتضي جواز ذلك؛ لأنَّه لم يحص شيئاً من شيء.
فإن قيل: وقوله: شيء معروف يمنع ذلك؛ لأنَّه مجهول.

(96/5)


قيل له: هو معلوم على الجملة وإن كان فيه ضرب من الجهالة والأصل فيه المهر بل قد دللنا عليه في كتاب النكاح أن دخول الجهالة في المهر لا يفسده وهي أنَّه بدل ما لا يفسد بفساد البدل، ألا ترى أن النكاح لا يفسد بفساد المهر، فكذلك مال الكتابة؛ لأنَّه بدل مالا يفسد بفساد البدل إذ لا خلاف أن العتق لا يفسد بفساد عوضه، فكذلك الخلق عندنا أعلم، قوله على أنَّه حر متى وفر على سيده ما كوتب عليه لم يذكره في الأحكام وأظنه مذكور في المنتخب وترك ذكره في الأحكام يدل على أنَّه يجيز صحة المكاتبة من غير اشتراط هذه اللفظة وإن هذه اللفظة مما استحب شرطها للتأكيد ولإزالة الخلاف كما استحب ذكر ما بعده من الشرط على ما بينه، قال الشافعي: لا بد من ذكر هذا الشرط، وعند أبي حنيفة شرط أو لم يشرط كما دل عليه قول يحيى، ووجهه أن المكاتبة لفظة في الشرع معروفة تفيد عتقاً مخصوصاً، وقد كانت هذه اللفظة أيضاً معروفة عند العرب من جهة لغاتهم قبل الشرع كالبيع أنَّه لفظة معروفة شرعاً ولغة تفيد تمليكاً مخصوصاً وكالهبة والنكاح فكما أن المتبايعين يكفيهما أن يقول البايع بعت ويقول القابل قد اشتريت، ولا يحتاج أن يقول البائع هذا التمليك المخصوص، فكذا في الهبة والنكاح لتكون الفائدة بهذه الألفاظ معلومة مشهورة شرعاً ولغة، فكذلك الكتابة؛ إذ هي لفظة شاركت سائر ما ذكرنا من الألفاظ فيما ذكرنا.
فإن قيل: المكاتبة تحتمل المخارجة التي لا تؤدي إلى العتق فلا بد من لفظ يبني عن العتق.

(96/6)


قيل له: ذلك غير معروف؛ لأن من قال: فلان كاتب عبده أو فلان مكاتب لم يعقل في الشر، واللغة إلاَّ هذا الأمر المخصوص المؤدي إلى العتق، وذلك الإحتمال إنَّما هو بأن يصرف عن ظاهره، وقوله: فإن عجز فهو مردود في الرق، وكذلك إن كان وفر أكثر ما عليه، وبه قال أكثر العلماء مثل أبي حنيفة وأصحابه والشافعي، ولا يحكي فيه الخلاف إلاَّ عن المتقدمين واختلفت فيه أقاويل الصحابة فروي عن عمر مثل قولنا، وروي أنَّه إذا أدى النصف فهو غريم، وروى نحو قولنا عن عائشة وأم سلمة وابن عمر وزيد بن ثابت وروي عن عبد الله أنَّه إذا أدى قيمة رقبة فهو غريم، وروي عنه إذا أدى ثلثاً أ ربعاً فهو غريم، كل ذلك رواه الطحاوي في شرح الآثار عنهم، وحكى غيره عن ابن عباس أنَّه يعتق بالعقد ويكون ماله ديناً والأصل فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: <المكاتب عبدٌ ما بقي كتابته درهم>، رواه الطحاوي بإسناده يرفعه عن نافع عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <المكاتب عبد ما بقي من كتابته درهمٌ>، وروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <أيما رجل كاتب عبداً له على مائة أوقية فأداها إلاَّ عشرا أواقي، وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلاَّ عشرة دنانير فهو عبد> ومن جهة النظر أن المشتري لا يستحق قبض المبيع إلاَّ بتوقية جميع الثمن، وكذلك الراهن لا يستحق أخذ الرهن إلاَّ بقبض جميع ما تعلق به من الدين، فكذلك المكاتب لا يستحق العتق إلاَّ بأداء ميع ما عليه من مال الكتابة والعلة أن كل واحد منهما استحق بالعقد حقاً ولم يجب أن يتم إلاَّ بقبض ما هو عوض عنه، فكذلك المكاتب ويشهد له النكاح أن المرأة لا يلزمها تسليم نفسها إلاَّ باستيفاء مهرها، فكذلك وأيضاً قد حصل الإجماع منهم على أنَّه لا يعتق إلاَّ بأداء شيء إلاَّ ما يحكى عن ابن عباس وهو شاذ غير معروف فثبت

(96/7)


أنَّه لا يعتق بالعقد ولا بد من الأداء فليس أداء بعض أولى من أداء بعه.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: أنَّه يعتق بقدر ما أدى.
قيل له: قد ثبت بما قدمناه أن العتق لا يتبعض فسقط هذا القول.
فإن قيل: فقد روي ذلك عن علي عليه السلام.
قيل له: تأويله عندنا أنَّه يحكم عليه بحكم الحر في ذلك، لا أنَّه يعتق على ما نبينه بعد هذا في موضعه، وقوله إن وفاه ما كاتبه عتق صحيح لا خلاف فيه.
مسألة
قال: ويشترط إن عجز فهو مردود في الرق ويشترط لولا وكل ذلك استحباب، لا أنَّه إن لم يشترط تغير الحكم في ذلك، أو أن اشتراطه شرطٌ في صحة الكتابة على ما بيناه من رده في الرق إن عجز، وعلى ما نبينه في حكم الولاء وجه الاستحباب فيه أنَّه أبعد من التغرير ووقوع الالتباس؛ لأن العبد إذا عرف ذلك دخل فيه على بصيرة.
مسألة
قال: وإن رد في الرق لعجزه كان ما دفع إلى ولاه مما أعانه به الإمام والمسلمون مأخوذاً منه مصروفاً في العون على الرقاب على ما يراه الإمام ، وما كان مما اكتسبه العبد فهو لمولاه المراد بقوله: ما أعانه عليه الإمام والمسلمون مأخوذاً منه هو ما دفع إلهي من جملة الصدقات والزكاة التي جعلها الله للرقاب؛ لأن تملكه لم يستقر على ذلك ولا جاز أن يملكه مولاه من جهته؛ لأنَّه لا قوام لهم صفات مخصوصة، فلما كان ذلك كذلك وجب أن يرد في أهل تلك الصفات، فأما ما أعانه الإمام والمسلمون تبرعاً ووهبوه منه، فذلك له بمنزلة كسبه، ألا ترى أنهم لو تبرعوا به على العبد الذي لم يكاتب كان مملوكاً لمولاه إذا قبله العبد والمكاتب لا يكون أسوأ حالاً منه وقد نبه على ذلك في الأحكام بقوله: هو وما ملك ن شيء لمولاه، وأما ما اكتسبه فلا إشكال أنَّه لمولاه، ولا خلاف فيه.
فصل

(96/8)


قال في الأحكام: وإذا طلب المكاتب الإقالة والرجوع في الرق من غير إضرار من سيده به جاز ذلك، فدل ذلك على أن السيد لا يجوز له أن يضر به وأنه إن أضر به فيعجز لذلك لم يرد في الرق والإضرار به إن يمنعه من التصرف أو يطالبه قبل حلول نجمه، وأما إذا أخل العبد بأداء نجم من نجومه ولم يكن له وجه ينتظر به يومين أو ثلاثة، كما قلناه في حال الشفيع، فذلك عجزٌ ويجب أن يرد في الرق، قال أبو يوسف: لا يكون العجز حتى يتوالى عليه نجمان ما قلناه، فقد روي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: لا يقضي بعجز المكاتب حتى يتوالى عليه نجمان ولا معنى لما قال؛ لأن النجم الثاني كالثالث، والعجز في الأول كالعجز في الثاني، وقال أبو حنيفة مثل قولنا ومحمد، قال الشافعي: لا يجب إمهاله إلاَّ قدر ما يبيع سلعة إن كانت له.
مسألة
قال: ويجوز مكاتبة الأمة كما تجوز مكاتبته العبد وما ولدته المكاتبة في حال كتابتهما فهو مكاتب بكتابة أمه له ما لأمه وعليه ما عليها من الرق والعتق ولا يجب أن يؤدي عنه شيء لا خلاف أن العبد وما ولدته المكاتبة في حال كتابتهما الأمة كالعبد في جواز الكتابة، وقوله واللذين يبتغون الكتاب يشتمل على الذكر والأنثى كسائر الآيات الواردة في الأمر والنهي والإباحة أنها تشمل على الذكر والأنثى لا خلاف أيضاً أن ولد المكاتبة في حكمها وما ينتهي إليه أمرها من الرق والعتق إلاَّ الشافعي ففيه عنه قولان، وذلك أن الولد في حكم الأم في الرق والحرية، فكذلك الكتابة.
مسألة

(96/9)


قال: وإن كان المكاتب أو المكاتبة كاتب عن نفسه وأولاده جاز ذلك فإن أدى ما كوتب عليه عتق وعتقوا وإن عجز استرق واسترقوا، وذلك لقول الله عز وجل: {فَكَاتِبُوهُمْ} ولم يقل كل واحد منهم عن نفسه فاقتضى ظاهره جواز الكتابة عن نفسه وعن غيره وأيضاً الكتابة عقد معاوضه كالبيع فكما جاز أن يعقد الشراء على الأولاد جاز أن يعقد الكتابة وتشهد له الإجازة، فإن أدى الكتابة عن نفسه وعن غيره عتق وعتقوا؛ لأنَّه بمنزلة المشتري إذا أوفى الثمن استحق قبض السلعة، ولأن الأب وجب عتقه لأدائه مال كتابة انعقدت عليه، فكذلك الأولاد لهذه العلة وإن عجز استرق واسترقوا؛ لأن العجز يوجب فسخ الكتابة وفسخ الكتابة يوجب كونهم أرقاء كما كانوا قبل الكتابة.
مسألة
قال: ولو أن مكاتباً اشترى أم ولده مع الولد أو أولدها بعد ذلك، ثُمَّ مات وقد بقي عليه بعض الكتابة كانت الأمة وولدها منه بمنزلته، فإن أدى هي أو بعض أولادها ما بقي من كتابته عتقت وعتقوا وإن عجزوا رد في الق ولا يسترقوا إلاَّ بالعجز عن الإيفاء.
واعلم أن المكاتب إذا اشترى أمه لم يكن له وطؤها؛ لأن المكاتب لم يثبت له الملك بعد، وإنما يثبت حق الملك ولا يحل الوطء إلاَّ في ملك، وتصحيح المسالة قد مضى في كتاب النكاح وهو أن يكون المكاتب قبل كتابته تزوج بأمه ثُمَّ اشتراها بعد الكتابة فله أن يطأها بالنكاح المتقدم؛ لأن الملك لما لم يستقر لم يبطل النكاح، فهذا تفسير قوله أولدها بعد الشراء.

(96/10)


والعم أن الناس اختلفوا في المكاتب إذا مات وعليه مال الكتابة، فقال الشافعي: مات عبداً على كل حالٍ وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن مات ولا وفاء له مات عبداً وإن مات وله وفاء أو ما يجري مجرى الوفاء كان يموت وله ولدٌ دخل معه في الكتابة بالولادة أو بأن تكون انعقدت عليه مع أبيه فيؤدي الولد مات حراً وهو مضي قولنا ما يجري مجراه الوفاء، وروي نحو هذا القول عن علي وابن مسعود ونحو قول الشافعي عن عمر وحكى أبو بكر الجصاص نحو قولنا عن زيد بن ثابت وابن الزبير وحكى ابن أبي هريرة نحو قولهم عن ابن عمر وزيد وعائشة وتحصيل هذا الباب أنَّه يحكم له بحكم من مات وهو حر ولسنا نريد أنَّه يلحقه في نفسه انعتق على التحقيق؛ لأن اختلاف الأحوال عليه بعد الموت مما لا يصح، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فحكم ببقاء الدين بعد الموت ومال الكتابة دين على المكاتب فوجب استيفاؤه بعد موه، وإذا وجب الاستيفاء بالآية ثبت العتق على ما يقوله؛ إذ لم يوجب أحدٌ الاستيفاء ومنع حصول العتق.
فإن قيل: هو في الأحرار؟
قيل له: بل في كل من مات له ذمة وكان له مالٌ وعليه دين من الأحرار والمكاتبين.
فإن قيل: لو كان ديناً لم يصح إسقاطه بالعجز.
قيل له: لا يمتنع ذلك كما أن المشتري إذا كان له خيار الثلث فإنه يمكنه إسقاط ثمن المبيع باختيار الفسيخ وكذلك من له خيار الرؤية عندنا، وهذا لا يمنع من أن يكون الثمن ديناً عليه، فكذلك الزوج سقط بالطلاق نصف المهر للتي لم يدخل بها، وإذا ثبت أنَّه دين فيجب أن لا يسقط بالموت، وإنما يسقط بالعجز مع الموت، ويدل على ذلك أن عتق المكاتب يتعلق بأداء المال من غير اعتبار المؤدي، ألا ترى أنَّه لو وكل بالأداء غيره وكذلك الوادي عنه غيره، وإذا صح ذلك وجب أن يقع العتق متى وقع الأداء سوى أداه المكاتب أو أداه عنه غيره في حياته أو بعد وفاته.

(96/11)


فإن قيل: صح الأداء عنه في حياته لصح تعلق العتق به، والميت لا يصح أن يتعلق العتق به.
قيل له: يصح أن تجري عليه أحكام العتق بعد الموت، وليس العتق سوى الأحكام.
فإن قيل: كيف يصير عتقاً بعد الموت؟
قيل له: كما يصير مولاه معتقاً بعد الموت؛ لأنَّه لا خلاف أن مولاه لو مات قبل استيفاء الكتابة ثُمَّ استوفاها الورثة أن المكاتب يعتق ويكون المولى هو المعتق في الحكم، ويدل على ذلك أن الكتابة عقد معاوضة لا يبطله موت أحد المتعاقدين وهو المولى فوجب أن لا يبطله موت صاحبه دليله عقد البيع وعقد الإجارة عندنا وعند الشافعي وعكسه عقد النكاح لما أبطله موت أحد المتعاقدين أبطله موت الآخر أو يقال: إنَّه عقد معاوضة لا يصح إلاَّ بالعوض ويصح بقاؤه مع الموت، فوجب أن لا يبطله الموت دليله ما ذكرنا من البيع والإجازة واحترزنا بقولنا يصح بقاؤه مع الموت من العبد المستأجر إذا مات وذلك أن منافعه قد بطلت ولم يمكن استيفاؤه مع موته وأيضاً لما أجمعوا أن موت المولى لا يبطل الكتابة لصح إمكان الأداء فوجب أن لا يبطلها موت المكاتب لصحة إمكان الأداء، فإذا ثبت ما بيناه فإن مات عن وفاء أدى عنه وعتق أولاده لدخولهم في الكتابة مع أمهم؛ لأنهم ملكوا أمهم لما عتقوا فوجب أن تعتق وإن لم يكن وفاء وأداه الولد أم الولد عن الولد كان كذلك لما بيناه وإن لم يكن وفاء وعجز من ذكرنا استرقوا ولم يحكم للميت بالعتق لا خلاف فيه.
مسألة
قال: وإن اختار بعض الأولاد الرق واختار بعضهم العتق وأدى الذين اختاروا العتق عتق الجميع ووجهه أن العتق والرق غير موقوفين على الاختيار الذي يكون منهم وإنما هما موقوفان على الأداء والعجز فمتى وقع الأداء وقع العتق، إن لم يختاروا العتق ومتى عجزوا حصل الرق، وإن كرهوا فإذا ثبت ذلك صح ما قال من أن الأداء إذا وقع من بعضهم عتق الجميع لحصول الأداء وحكم على ما بيناه لأمهم بالعتق.
مسألة

(96/12)


قال: ولو أن مكاتباً كاتب عن نفسه وولده، ثُمَّ مات كانت الكتابة لازمة لولده ويستسعى فيها ويرث أباه ووجهه ما مضى فلا معنى لإعادته هذا إن أمكنه البيع واختاره وإن شاء عجز عن نفسه واسترق، قال: وإن كان الولد صغيراً لا يستسعى مثله انتظر به الكبر ثُمَّ استسعي وإن أدى الإمام عنه في حال صغره عتق وإن عجز كان موقوفاً، أما إذا أدى عنه الإمام يجب أن يعتق؛ لأن الإمام وليه كما أنَّه ولي لجميع المسلمين، فصح أداؤه عنه وإن لم يؤد الإمام كان الخيار إلى مولاه إن شاء فسخ به الكتابة وإن شاء انتظر به المولى إلى وقت بلوغه وإمكان سعايته، والمسألة موضوعة على رضى الولي بالانتظار.
مسألة
قال: ولا بأس أن يشتري الرجل مكاتباً بما بقي من مكاتبته رقبه نفسه ليخرج عن أن يكون مكاتباً بفسخ مولاه كتابته فيشتريه المشتري على أن يعتقده ويجعله رقبة، فأما بيعه مع ثبوت الكتابة فلا يجوز وحكى جوازه عن مالك أبي ثور ووجهه أن عقد الكتابة منع السيد عن أن يتصرف فيه بالاستخدام والإجارة لثبوت حتى المكاتب في نفسه فوجب أن يكون منع ذلك تصرفه فيهب البيع؛ لأنَّ التصرف بالبيع أعظم من التصرف في غيره؛ ولأن مولاه استحق عليه عوض نفسه فلا يجوز أن يستحق نفسه مع استحقاق العوض.
فإن قيل: روي أن بريرة كانت مكاتبة لقول وإن عائشة اشترتها.

(96/13)


قيل له: قد رووه ما يدل على أنها كانت قد عجزت نفسها وذلك ما روي أنها أتت عائشة تستعين بها على أداء الكتابة فقال لها عائشة: إني أصب لهم المال صبة واحدة فساومي نفسك فساومت نفسها فهذا هو الرضى بالعجز إذا رضيت بالتعجيز وفسخ مولاها الكتابة فلا خلاف في جواز شرائها إن شاء، إما بما بقي أو أقل من ذلك أو أكثر، فأما شراؤه بشرط العتق فهو جائز على مذهب يحيى عليه السلام وعنده أن البيع مع يثبت والشرط يبطل على ما مضى في كتاب البيوع وحكي عن الشافعي أن جواز البيع مع الربط على قولين، ووجهه إجازة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لعائشة، قال في الأحكام: وإن اشترط الولي له كان ذلك له ومعناه أن المشتري إذا اشترى الولي لا للتبايع كان ذلك للمشتري، روي أن عائشة كانت اشترطت الولاء للبائع كان ذلك للمشتري، روي أن عائشة كانت اشترطت الولاء للبائع فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <الولاء لمن أعتق>.
مسألة

(96/14)


قال: وليس للمكاتب أن يطأ أمته المكاتبة، فإن وطئها جاهلاً لتحريم الوطء درئ عنه الحد بالشبهة وللمكاتبة الخيار إن شاءت أقامت على كتابتها وكان لها على سيدها مهر مثلها، وإن شاءت فسخت مكاتبتها، وليس يلزم سيدها لها شيء، ولا فضل بين أن تلد المكاتبة من ذلك الوطء وبين ألا تلد، تحريم وطء المكاتب للمكاتبة قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي، ولا أحفظ فيه خلافاً وهو أنَّه ممنوع من التصرف فيها، وقد حصلت في يد نفسها بحكم العقد دليله لو باعها ويشهد له وطء المرهونة أن الراهن لما منع التصرف فيها حرم عليه وطؤها والمكاتب اشد منعاً منه سيما على قولنا أنها تصير في حكم الحر بمقدار ما يؤدى على أن المولى لا يملك شيئاً من منافعها ومن منافعها البضع، فوجب أن لا يملكه على أن بضعها قد صار في حكم الملك لها بدلالة أنها هي الذي هي التي تستحق عوضه لو وطأها بشبهة وأيضاً الوطء يجري مجرى إتلاف جزء منها فلا سبيل له إليه كما لا سبيل له إلى تناول شيء من أجزائها ودري عنه الحد إن كان وطأها جاهلاً بالتحريم للشبهة كما قال؛ لأنَّه دق اجتمعت شبهتان شبهة الجهل وشبهة الملك؛ لأن الملك لا ينقطع بعد ووجه إيجابه مهر المثل إن أقامت على الكتابة أنَّه وطء وقع في ملك غير تام فيجب مهر المثل؛ لأن ملك المولى قد تعلق فصار غير تام دليله من وطئ جاريته بينه وبين شريكه وبإيجاب المهر قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه ولها الخيار على ما قال بين الأمة على الكتابة مع استحقاق مهر المثل وبين تعجيز نفسها ليفسخ مولاها كتابتها؛ لأن الوطء لم يوجب الفسخ ولا إتمام العتق، فهي على خيارها، وكذلك إن أولدها فالمسألة بحالها؛ لأن الإبلاج أيضاً لم يوجب فسخاً ولا عتقاً عاجلاً.
مسألة

(96/15)


وقال: وإذا مات المكاتب المولى كان العبد مكاتباً كما كان لورثته، وهذا ما خلاف فيه؛ لأن موت المولى لا يوجب عجزه الفسخ عند أحدٍ وإن اختلفوا في موت العبد المكاتب، وذلك أنَّه قد استحق العتق بالعقد ولا يرتفع حكمه إلاَّ بالعجز وموت المولى لا يوجب عجزه، فذلك لم يغير حكمه في الكتابة.
مسألة
قال: وإذا مات المكاتب وقد أدى كتابته عتق بمقدار ما أدى كتابته عتق بمقدار ما أدى وورث بمقداره، وكان باقي المال لسيده، فكذلك إن قتل أو قطع عضو منه ودي على حساب ما أدى منه مكاتبته وما بقي فعلى حساب قيمته، قال أبو حنيفة والشافعي: هو عبدٌ في جميع أحكامه، إلى أن يؤدي عنه بعد وفاته جميع الكتابة فيكون حراً عند أبي حنيفة على ما مضى القول فيه وهو عند الشافعي عبدٌ كما كان وما قلناه هو قول زيد بن علي عليه السلام.
اعلم أن تحصيل مذهب يحيى بن الحسين عليه السلام في هذا الباب هو أن المكاتب إذا أدى شيئاً من مكاتبته صار في ذلك القدر في حكم الحر حياً وميتاً لا أن ذلك القدر منه يصير حراً لوجهين أحدهما أن قوله: أن العتق لا يتبعض على ما مضى القول فيه والثاني أن من مذهبه أنَّه يرد في الرد ولا يجري على الحر في دار الإسلام، وروي عن علي رواه زيد بن علي عليهم السلام أنَّه لا يقضي بعجز المكاتب حتى يمضي عليه نجمان فنبه على أنَّه يرده في الرق بالعجز ولو صار بعضه حراً على الحقيقة لم يكن لذلك معنىً فدل ذلك على أن مذهبه أيضاً هو ما حصلناه في هذا الباب والأصل في هذا الباب حديث عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يؤدي المكاتب بحصة ما أدى، وروى نحو هذا في المواريث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، فصار ذلك أصلاً في الأحكام التي يصح فيها التبعيض ما يختلف فيه حكم العبد وحكم الحر.
فإن قيل: فكيف يجوز أن يحكم ... بحكم الحر في بعضه وهو عبد عندكم؟

(96/16)


قيل له: لا يمتنع ذلك، ألا ترى أنَّه حين يكاتب يصير في كثير من الأحكام في حكم الحر ويخرج عن أحكام العبد وذلك في الشراء والبيع والتصرف على ما يرد وفي قصور يد صاحبه عن استخدامه ومنعه ن التصرف، فإن كانت أمته لم يحل له وطأها، فإذا جاز أن يصير في حكم جميع ذلك حكمه حكم الأحرار، وإن كان عبد أو لا يكون أدرى من الكتابة شيئاً، فلم لا يجوز أن يصير في الأحكام التي ذكرنا بمنزلة الحر في مقدار ما أدى للسنة الموجبة لذلك.
فإن قيل: إذا كان الخبر ورد في الدية فلم ألحقتم بها سائر الأحكام؟
قيل له: لأن كثيراً من الأحكام قد روي فيها عن علي عليه السلام مثل ما قلناه وقوله عندنا حجة؛ ولأن أحداً من الأمة لم يفرق بين شيء م تلك الأحكام على أنا نقيس على ذلك سائر ا ذهبنا إلهي بعلة أنَّه مما يختلف فيه حكم الحر والعبد ويصح تبعيضه فوجب أن يحكم على المكاتب فيه بحكم الحر على مقدار ما أدى قياساً على الدية.
فإن قيل: فابن عباس هو راوي الحديث ويروي عنه أنَّه قال: يقام على المكاتب حد المملوك.

(96/17)


قيل له: يحتمل أن يكون أراد به قبل أداء شيء من مال الكتابة أو يكو قال ذلك؛ لأنَّه لم يقس كما قسنا في هذا الموضع ويقال لأبي حنيفة: إذا جاز أن يحكم عليه بحكم الحر في مقدار ما أدى فيما ذهبنا إليَّ قال: وكذلك يحد إن لزمه شيء من الحدود، وكذلك إن أوصى جاز من وصيته بمقدار ما أدى من كتابته ووجهه ما مضى، وذكر يحيى بن الحسين عليه السلام في الحدود أن ذلك قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، فأما ما لا يصح فيه التبعض كالقود والنكاح والوطء بالملك فيجب أن يحكم عليه في جميعه بحكم العبد؛ لأن الأثر ورد فيما يصح فيه التبعيض، فالذي يجب فيما أخذه بسبب حكم الحرية من إرث أو زيادة إليه على ما كان يأخذه لو كان عبداً، فإنه يرده إن عجز ورد في الرق على قياس قول يحيى عليه في إيجابه عليه الرد مما أخذه من الزكاة والعشور والصدقات، إذا رد في الرق لعجزه وما فاته من ذلك لعدم كمال الحرية لم يأخذه وإن تم بالأداء عتقه؛ لأنَّه أخذ عام ما استحقه يوم أخذ وهو عبدٌ.
مسألة، قال: ولو أن رجلاً قال للملوكه: إن أعطيتني مائة درينا فأنت حرٌ فأعطاه خمسين ديناراً ثُمَّ مات سيده، كان العبد مملوكاً ولم يكن مكاتباً، وذلك إن قوله إن أعطيتني مائة دينار فأنت حرٌ عتق على مال يدفعه إلهي، وهو عتق على صفة فمتى حصلت الصفة بعد موت السيد لم يجب عتقه ولم يكن حكه حكم المكاتب؛ لأنَّه لم يستحق العتق بقوله: إن أعطيتني كذا فأنت حرٌ كما استحقه المكاتب بالمكاتبة، وهذا مالا خلاف فيه، فإما أعطاه ذلك ي حياته وجب أن يعتق كما أنَّه لو قال: إن قدم فلان من سفره فأنت حر، فإن قدم وهو في ملكه فهو حرٌ، وإن قدم والملك زائل بموت صاحبه أو بالبيع أو الهبة لم يعتق لا خلاف فيه، فأما إذا أعطاه ذلك في حياته وجب أن يعتق كما أنَّه لو قال: إن قدم فلان من سفره فأنت حرٌ، فإن قدم وهو في ملكه فهو حرٌ، وإن قدم.
فصل

(96/18)


قال في كتاب النكاح من كتاب الأحكام: إذا أراد الرجل يعتق أمته ويتزوجها ويجعل عتقها مهرها فراضاها على ذلك ثُمَّ قال لها: قد جعلت عتقك مهرك، فأنت على ذلك حرة فقد عتقت فإن تزوجته وإلا سعت له في قيمتها، فدل ذلك من قوله على أن الرجل إذا قال لعبده: أنت حرٌ على ألف درهم فرضي العبد به وأنه يعتبر حراً ويلزمه لسيده ألف درهم ووجهه إنَّهما تعاقدا عقد معاوضة فوجب أن يحصل العوض لكل واحد من المتعاقدين ويجب أن يكون قبل العبد في المجلس؛ لأنَّه بمنزلة عقد البيع، وإن لم يقبل العبد ذلك بطل ذلك، وكان العبد عبداً، قال يحيى بن الحسين فيه: فإن قال قد أعتقتك وجعلت عتقك مهرك عتقت الجارية ولم يلمها، قال: لأنَّها تعتق بقوله: أعتقك ويكون قوله لها بعد ذلك وجعلت عتقتك مهرك قولاً معلقاً فدل ذلك من قوله على أنَّه لو قال لعبده: أنت حر وعليك ألف درهم أنَّه يعتق بغير شيء، وبه قال أبو حنيفة: قال أبو يوسف ومحمد: إن قبل العبد كان حراً وعليه ألف درهم ووجهه ما ذكره يحيى عليه السلام من أن العتق يحصل بقوله: أنت حرٌ وما بعده كلام مبتدأ غير معلق بالأول يكشف ذلك أن الواو في هذين الموضعين أعني مسألة العبد ومسألة الأمة جعل للاستثناء، فيجري مجرى قوله: أنت حر وأنت مكتسب أو أنت ضعيف في أن شيئاً من ذلك لا يكون شرطاً في العتق؛ لأنَّه كلام مستأنف مستقل بنفسه من حيث هو ابتداء وخبرٌ، وعند أبي يوسف ومحمد بمنزلة أن يقول الرجل للحمال: احمل هذا إلى منزلي ولك درهم في أنَّه أجرة مشروطة والفرق بين ذلك وبين ما اختلفنا فيه أن ذلك عادة جارية في استئجار من ذكر ولم يجر العادة بمثله؛ لأن العتق لم يكثر كما كثرت الإجارات، فلم يحصل له عادة يبنى عليها ما هو شرط فيه وجب الرجوع إلى حكم صريح اللفظ.

(96/19)


باب القول في الشهادة على العتق
إذا كان عبد بين رجلين فشهد أحدهما على صاحبه أنَّه أعتق نصيبه وأنكر ذلك المشهود عليه، كان العبد حراً وسعى العبد لمن شهد بعتقه في حصته إن كان معسراً وضمن الشاهد للمشهود عليه حصته من قيمة العبد إن كان موسراً وإن كان معسراً سعى العبد في حصته كما سعى في حصة الشاهد.
اعلم أن هذه المسألة مبنية على أن يكون العبد مصدقاً للشاهد وتحصيلها أن الشاهد يضمن للمشهود عليه نصيبه إن كان موسراً، وإن كان معسراً سعى العبد عن الشاهد وهذا معنى قوله سعى العبد لمن شهد بعتقه في حصته أي سعى عنه؛ لأن الضمان كان عليه فانتقل إلى العبد لإعساره كما أن العاقلة إذا أدت عن الجاني، وقوله: إن كان المشهود عليه معسراً عسى عنه للشاهد، وقوله: إن كان معسراً في آخر الفصل هو راجح إلى المشهود عليه وإيضاحه أنهما أعني الشاهد والمشهود عليه إن كانا معسرين فعلى العبد أن يسعى لكل واحد منهما وإن كانا موسرين فلا سعاية على العبد والشاهد يضمن نصيب المشهود عليه والمشهود عليه لا يضمن نصيب الشاهد، فإن كان أحدهما معسراً سعى العبد عنه لصاحبه، فإن كان العبد... له فلا شيء للشاهد ولا سعاية على العبد.
مسألة

(97/1)


قال أبو حنيفة وأصحابه: لا شيء على الشاهد، وفي قول أبي يوسف ومحمد وزفر في المشهود عليه ومثل قولنا مع تصديق العبد، ووجهه ما ذهبنا إليه إن شهادة أحد الشريكين بمنزلة قوله: إني جعلت نصيبي حراً؛ لأنَّه لما شهد على صاحبه بالعتق فإن شهادته تضمنت أمرين، أحدهما الشهادة عليه والثاني الإقرار على نصيبه بالعتق الحادث فجاز إقراره وسقطت شهادته فكأنه أحدث عتق نصيبه فوجب أن يضمن نصيب المشهود عليه إن كان موسراً على ما مضى القول في أحد الشريكين إذا عتق نصيبه وإن كان معسراً وجب أن يسعى العبد عنه نصيب المشهود عليه إن كان موسراً على ما مضى القول في أحد الشريكين إذا أعتق نصيبه، وإن كان معسراً وجب أن يسعى العبد عنه نصيب المشهود عليه كما قلنا في الشريك إذا أعتق نصيبه وهو معسر، وإن كان المشهود عليه موسراً فلا ضمان عليه؛ لأنَّه لم يقر بحصول العتق من جهته، ولا حراماً يلزمه ذلك من طري الحكم كما لم الشاهد ولا سعاية أيضاً على العبد؛ لأن العبد لا يسعى عن الشريك المؤسر على ما مضى، فإن كان المشهود عليه معسراً لزم العبد السعاية للشاهد؛ لأنَّه مقر أن المشهود عليه لمه ضمان ما انتقل إليه لإعساره فلزمه إقراره فيما عليه كان يقر رجل لرجل أني قد ضمنت لك ألف درهم عن رجل بحق واجب والمضمون عليه منكر فإن المقر يلزمه المال للمقر له؛ لأن إقراره تضمن لزوم المال له ولزومه المضمون عنه فلزمه إقراره ولم يلزم المضمون عنه ونكتة الباب أن العتق حصل في الظاهر من جهة الشاهد، فعلى هذا بنينا المسألة والله أعلم.
مسألة

(97/2)


قال: وإذا شهد رجلان على رجل بعتق مملوك له وأنكره المملوك والمشهود عليه بطلت الشهادة، وكان العبد مملوكاً بإقراره، وبه قال أبو حنيفة: قال أبو يوسف ومحمد الشهادة مقبولة، ووجه المسألة أنا وجدنا الشهادة على ضربين: شهادة الحسبة وشهادة الحقوق ومعنى قولنا شهادة الحسبة هي الشهادة التي تقع على لأمر يجب على المسلمين المنع منه أو الحمل عليه وشهادة الحقوق هي الشهادة المتعلقة بحقوق بني آدم التي لا يجب فيها غير الإقامة، وقد ثبت أن هذه الشهادة لا يجب أن تسمع إلاَّ إذا كان الخصم يدعي، فإذا كان المشهود عليه وله ينكرانها فيجب أن يبطل، وقد ثبت أن هذه الشهادة هي شهادة الحقوق؛ لأنها شهادة تتعلق بحقوق العبد وليست شهادة الحسب؛ لأن ما يستبيحه السيد إنَّما هو الاستخدام والتصرف في منافعه، وليس في جملته ما يجب على المسلمين على طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنع منه ولا حمل العبد على الامتناع منه، وإن كان؛ لأن جميع ذلك مما يجوز للحر أن يبدله من نفسه لمن شاء.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون التصرف في منافعه على وجه الاسترقاق مما يجب المنع منه.
قيل له: قولكم التصرف على وجه الاسترقاق لا يخلوا من أن يكون المراد هو التصرف في المنافع أو المقصود المضامنة لذلك؛ إذ ليس هاهنا أمرٌ ثالث يعقل والتصرف مما لا يجب المنع منه المقصود مملا يتأتى منا المنع فيها ولا الحمل عليها؛ لأه يصح أن يحمل الإنسان على أن يصلي ولا يصح بل يتعذر أن يحمله على أن يقصد به التقرب إلى الله عز وجل، وأن لا يتقرب به إلى الشيطان فلم يبق تحت هذه العبارة معنى يصح.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يتصرف فيه بالبيع والانتفاع بثمنه وذلك مما يلزم المنع منه.

(97/3)


قيل له: لا يصح التصرف في الحر بالبيع؛ لأن البيع قول يجري بين المتناومين وإنما يقول: أنَّه تصرف في المبيع من جهة الحكم؛ لأنَّه نقل ملك مالكٍ، فأما ما لم يكن ملكاً ولم يصح نقله من مالكٍ إلى مالك لا يكون تصرفاً فيه ولهذا المشهور عليه أن يبذل التمكين من التصرف في منافعه لغيره كما له أن يبذله للأول وأكل الثمن أيضاً كذلك؛ لأنَّه ليس بثمن له؛ لأن الحر لا ثمن له؛ لأنَّه مال الغير، فإذا بت هذه الجملة صح أن الشهادة ليست بشهادة الحسبة، وإنها تبطل إذا تناكرها المشهود عليه، وله على أن شهادة الحقوق أكثرها تدخل فيها على سبيل البيع ما يتعلق به الحسبة لكن لا معتبر بها، وإنما المعتبر بم تناوله الشهادة، قال: وإن كان المشهود عليه يعلم أنَّه قد أعتقه لم يحل له إمساكه، وهذا صحيح؛ لأنَّه إذا عرف من نفسه ذلك إثم في استرقاقه فيما بينه وبين الله وباء بوزر.
قال: وإن شهدا على أمة بالعتق فأنكرته الأمة والمشهود عليه ثبتت الشهادة وعتقت الأمة وهذا ما لا خلاف فيه؛ لأن الشهادة قد تعلقت بالحسبة وهي مما يسمع وإن لم يكن خصم، وذلك أنَّما يستبيحه السيد منها يدخل في جملتها ما يلزم المسلمين المنع منه وحمل المرأة على المنع منه وهو الوطء وما دونه من سائر وجوه الاستماع إذ جميع ذلك محظور أن يجري إلاَّ بين الزوج والزوجة أو بين المالك وما ملكت يمينه، وإذا ثبت أنها شهادة الحسبة قبلت من دون خصم كما تقبل الشهادة على الزنا والشرب وسائر ما يجري مجراه. تمت والله أعلم وأحكم بالصواب.

(97/4)


باب القول في الولاء
الولاء لمن أعتق لا يباع ولا يوهب فإن بيع أ وهب كان باطلاً والأصل فيه قول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوانَكُمْ فِيْ الدِّيْنِ وَمَوالِيْكِمْ وَمَا مَلَكَتْ} روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: <الولاء لحمة كلحمة النسب> وروي: <لا يباع ولا يوهب>، وروي عنه: <الولاء لمن أعتق>، وهذه الجملة لا خلاف فيها.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً باع عبداً أو اشترط الولاء لنفسه فأعتقه المشتري كان الولاء لمن أعتق وبطل الشرط، وذلك لأن عائشة اشترت بريرة واشترطت الولاء للبائع فأبطل رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم شرطها، وقال: الولاء لمن أعتق وقد روى هذا الخبر بألفاظ مختلفة ولم يختلف العلماء في قبوله وإنما اختلفوا في لفظ تفرد بروايته هشام بن عروة عن أبيه وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة: اشترطي لهم الولاء فإن أولا لمن أعتق. فقوله: اشترطي لهم الولاء مما تفرد به هشام ومن العلماء من ينكر هذه اللفظة ويقول: إن هذا يجري مجرى الأمر بالتغرير إذ في الخبر أن عائشة قالت: يا رسول الله: إنهم يلون بيعها إلاَّ أن اشترط لهم الولاء والنبي صلى الله عليه وآله وسلم منزة عن ذلك وقد قيل: إن هشاماً كان خولط في عقله في آخر عمره ومنهم من لم ينكر اللفظ، ولكن تأوله فقال: يجوز أن يكون قال لها ذلك على سبيل التهديد، كقوله عز وجل: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنْ مَصِيْرَكُمْ إِلَى النَّارِ} وكقوله: {وَاجْلُبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرِجْلِكَ} وذلك أن يكون بمعنى النهي، قالوا ويدل على ذلك ما روي أنَّه عليه الصلاة والسلام غضب وصعد على المنبر فقال: ما بال أقوام يشترطون شرطاً ليس في كتاب الله وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ومنهم من قال: إن تأويله اشترطي عليهم الولاء كما قال الله عز وجل لهم اللعنة أي عليهم، وقالوا: إن حروف الحفص كثير منها يقول بعضها مقام بعض لتقارب

(98/1)


معانيها، فأما حمله على الظاهر فمما يجب أن ينزه عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز أين يظن به، وذكر يحيى عليه السلام هذا الخبر في الأحكام، فلم يذكر هذه اللفظة فدل ذلك على أنَّه لم يصححها.
مسألة
قال: وإذا أعتق العبد حرٌ ولا ابنه ومعناه أن يتزوج العبد بإذن سيده فيولد له ولد يبقى بعد موت أبيه فيكون ولاه لمعتق أبيه فيكون أبو هقد جرَّ ولاه وإنما قلنا أن الولاء لمعتق أمه بقوله: <الولاء لحمة كلحمة النسب> أفاد ذلك أن له لحمة من مولى أمه؛ لأن لأمه لحمة من مواليها، قال أبو بكر الرازي: وروى نحوه عن جماعة من الصحابة على أنَّه لم يكن بد من ولاء للصبي، فلما لم يوجد من قبل الأب؛ لأنَّه من فوق جعل ولاه من قبل أمه، فإن أعتق أبوه جرّ ولاه؛ لأن الولاء هو التعصيب والأب أولاً بالتعصيب فصار أولى فجره؛ لأن الضرورة التي ألحقت الولاء بالأم قد زالت؛ ولأن الولاء بالتعصيب قد حصل واللحمة التي ذكرنا من أول المسألة إلى آخرها بها، قال أبو حنيفة والشافعي: وإن كان الأب مات رقيقاً وأعتق الجد أبو أبيه لم يجز ولاه وبه قال أبو حنيفة والشافعي: وذلك أن الجد يجوز التعصيب بالأب الذي هو ابنه فإذا لم يثبت له الولاء لم يجزه أبوه وذلك أن الولاء كالنسب ومعلوم أن نسباً لم يثبت للابن لا يجوز ثبوته لأبيه، فكذلك ولاه لم يثبت لابنه فلا يجوز ثبوته لأبيه وهذا لا نص فيه يحيى بن الحسين وإن كان قد نبه عليه بقوله في الأحكام وهو يعني الولاء لحمة النسب.
مسألة

(98/2)


قال: والولاء للرجال دون النساء وهم العصبة الذي يجوزون الميراث دون من سواهم وتفسيره أن المعتق إذا مات وخلف أولاد مولاه البنين مع البنات أو أخوة مولاه مع الأخوات كان الولاء للبنين دون البنات وللأخوة إن لم يكن بنون دون الأخوات، وهذا مما لا خلاف فيه وجهه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: <الولاء لمن أعتق لحمة كلحمة النسب> شبهه بالنسب، ورأينا ذوي الأنساب على ضربين ضرب منهم الذي يقربون من الميت كالأولاد والأخوة ووجدناهم يعصبون لقوة تعصبهم الإناث إذا كن في منزلهم وضرب يبعدون كالأعمام، ووجدناهم يضعفون عن تعصيب الإناث اللواتي في منزلتهم كالعمات وبنات العم ووجدنا الولاء أضعف من أضعن نسب العصبات؛ لأن الميت لو كان له عم يرث أو ابن عم لم يرثه أهل الولاء فلما ثبت ذلك لم يجز أن يعصب ذكور أهل الولاء إناثهم اللواتي في منزلتهم فصح ما ذكرناه من أنَّه للبنين دون البنات ولبني البنين دون بنات البنين وللأخوة دن الأخوات، وقلنا أنَّه للعصبة دون من سواهم؛ لأنَّه لا خلاف فيه.
فصل
فعلى هذا لو مات المعتق وترك أبا مولاه وابنه يجب أن يكون الولاء لابن تولاه دون كاتبه، وبه قال أبو حنيفة ومحمد، قال أبو يوسف: للأب السدس وما بقي فللابن، وهذا لا معنى له؛ لأن الولاء إذا كان بالتعصيب فلا تعصيب للأب مع الابن وقد نبه عليه يحيى عليه السلام بقوله: إنَّه للعصبة دون من سواهم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: <ما أبقت الفرائض فللأولى عصبة ذكر وعلى هذا يجيء على مذهب يحيى عليه السلام لو ترك جد مولاه وأخاه أن المال بينهما نصفين، وبه قال أبو يوسف ومحمد، قال أبو حنيفة هو للجد وهو بحسب الاختلاف في الجد مع الأخ وحكى عن أصحاب الشافعي أنهم خرجوه على قولين أحدهما أن المال بينهما والآخر أن الأخ أولى، وهذا بعيد جداً.
فصل

(98/3)


قال يحيى بن الحسين عليه السلام: الولاء للكبير وروى ذلك عن علي عليه السلام وغيره، ورواه أبو بكر الجصاص بإسناده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: الولاء للكبير وإن كان غير شهور، ومعناه ما قال يحيى أنهم الأدنون إلى الميت وتفسيره معتق مات وترك ابن ابن مولاه وابن مولاه الولاء لابن مولاه، وكذلك إن ترك ابن مولاه وأخاه الولاء لابن مولاه، فعلى هذا الأصل يجيء الباب.
مسألة
قال: فإن لم يكن للمعتق عصبة، وكان له ذوو السهام أو ذوو الأرحام جعل الولاء لهم، هذا إذا لم يكن للعبد المعتق أحد من ذوي الإنسان، ووجهه ما أجمعنا عليه من أن العبد إذا كانت تحته مولاه الرجل فولدت وماتت الأم ومات الأب رفيقاً ثُمَّ مات الولدان ولا لمعتق أمه، ومعتق الأم أضعف حالاً من أخيها وابنها، ألا ترى أنها لو خلفت أباها أو أخاها أو عمها لم ترث مولاها مع واحد من هؤلاء، وكل واحد من هؤلاء ذو رحم للولد فمن هو أضعف حالاً منهم إذا جاز أن يجوز الولاء للضرورة فأولى أن يجوزه للضرورة من هو أقوى حالاً منه وهم ذوو أرحام الولد فإذا ثبت ذلك فيهم ثبت في سائر ذوي السهام، وذوي الأرحام أنهم يجوزون الولاء عند الضرورة ولعل هذا يجري في كتاب الفرائض بأكثر من هذا الشرح.
مسألة

(98/4)


قال: وليس للنساء من الولاء إلاَّ من أعتقنه أو كاتبنه أو أعتق من أعتقه أو جر ولاء من أعتقه قد مضى معنى قولنا أن النساء لا يدخلن في الولاء وبيانه وقلنا أن لهن الولاء إذا أعتقن لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <الولاء لمن أعتق وهم الرجال والنساء> وروي أن ابنة لحمة بنت عبد المطلب أعتقت عبداً لها فمات وترك ابنته فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصف ميراثه لابنة حمة ونصفه لابنة المعتق، وروي أن عائشة لما اشترطت الولاء لمن باع، قال صلى الله عليه وآله وسلم: <الولاء لمن أعتق فجعل الولاء لها>، وإذا ثبت أنها تستحق الولاء لما ذكرنا وللإجماع صارت بمنزلة العصبة لمن أعتقه فوجب أن يكون لها ولاء من أعتق من أعتقنه وجر ولائه؛ لأنها مع من أعتقنه قد صارت في حكم الرجل في استحقاق ولائه.
مسألة

(98/5)


قال: وإذا أسلم الحربي على يدي مسلم كان المسلم مولاه وورثه دون من سواه إلاَّ أن يكون له ورثة من المسلمين والأصل فيه قول الله عز وجل: {وَالَّذِيْنَ عَقَدَتْ أَيْمَانَكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيْبِهِمْ} فأوجب الولاء بالعقد وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن رجل أسلم على يدي رجل، فقال: هو أولى الناس بمحياه ومماته. والحربي لا ذمة له وليس له بأحد من المسلمين اختصاص، فإذا أسلم على يدي مسلم اختص به وصحت معاقدة ولائه معه إذ هو أولى الناس به إن لم يكن للحربي وارث بسبب سلم؛ لأنَّه لو كان له وارث بسبب مسلم فهو يكون اختص به ممن والاه سواء كان الوارث ذا سهم أو ذا رحم أو عصبة، قال أبو حنيفة: الحربي والذمي سواء في صحة ثبوت ولائهما. وعند الشافعي لا يثبت ولاء واحد منهما، قال: فإن أسلم الذمي على يده لم يستحق أن يرثه ويكون إرثه مصروفاً إلى بيت مال المسلمين وذلك أن نصه للمسلمين بأجمعهم وصار اختصاص من أسلم على يديه كاختصاص غيره من المسلمين فلم يستحق ولاؤه، ألا ترى أنَّه لو مات ولا وارث له كان ماله لبيت مال المسلمين وليس كذلك الحربي؛ لأن ماله في حياته ومماته لم يجوزه الفرق بينهما إن الحربي استنقذه من سبب الاسترقاق، فكان كالمعتق والذمي لا يجوز استرقاقه، فلم يصح أن يستنقذه منه فلم يشبه المعتق فوضح الفرق بينهما.

(98/6)


كتاب الأيمان والكفارات
باب القول في الإيمان
الإيمان تصرف إلى النيات بعد أن يكون اللفظ مطابقاً لها في مجاز أو حقيقة، فإن لم تكن نية وكان اللفظ عرف صرف إلى العرف فإن لم يكن عرف صرف إلى صريح اللغة، قلنا أن الأيمان تصرف إلى النيات؛ لأن النيات هي القصود والإردات ووجدنا الألفاظ تقع مواقعها وتفيد فوائدها بحسب ما يضامها من القصود والقصود لا تتغير أحوالها بحسب الألفاظ بل تتغير أحوال اللفظ بحسب القصود؛ لأن الخبر يتعلق بالمخبر بحسب القصد، وكذلك الأمر يكون أمراً بالقصد ويصير العام خاصاً بالقصد ويصير الخاص عاماً بالقصد، وتصير الحقيقة مجازاً ويفيد المجاز فائدة الحقيقة بالقصد، فلما وجدنا للقصود والإرادات وهي النيات هذا الحكم مع الألفاظ قلنا: إن الألفاظ الأيمان يجب أن تحمل على النيات واشترطنا أن يكون اللفظ مطابقاً لها في حقيقة أو مجاز؛ لأن الإرداة تؤثر في اللفظ إذا كانت الصورة هذه، ألا ترى أنَّه لو قال: شربت الماء وهو يريد دخل زيد الدار لم تؤثر فيه الإرداة ولم يتعلق الخبر بدخول زيد الدار، فوجدنا العرف قوي من أصل اللغة؛ لأن الغائط في أصل اللغة هو اسم المكان المطمئن وصار بالعرف اسماً لقضاء الحاجة المخصوصة، وكذلك الدابة اسم في اللغة لكل ما تدب، ثُمَّ صار اسماً للبهيمة المخصوصة والنزهة اسم للتباعد وصار بالعرف اسماً للحركة التي يطلب الإنسان بها الاستراحة الإنس حتى صار لا يعقل بإطلاق هذه العبارات إلاَّ ما يفيده عرفاً دون ما يفيده لغة، وصار ما يفيده لغة فيحكم المجاز؛ لأنَّه لا يعرف إلاَّ بدليل يقارنها ولا يعرف بالإطلاق إلاَّ ما يفيده عرفاً، فلذلك قلنا: إن ألفاظ الأيمان إذا لم تكن معها نية وجب صرفها إلى العرف لما بيناه قد قام مقام الحقيقة ولا إشكال في أنها يجب صرفها إلى الحقيقة دون المجاز، فإذا لم يكن عرف ولا نية وجب حملها على صريح اللغة؛ لأنَّه موضوع الإفادة، فيجب أن تجعل فائدة ما أفادته في

(99/1)


الموضع، قال ويعتبر فيها عرف القوم الذي يكون الحالف منهم وذلك أن العرف ربما لم يكن للجميع واختلف فيه الناس فوجب أن يحمل المخالف على عرفه دون عرف غيره، وعرفه هو عرف قومه دون من سواهم ولسنا نريد بقولنا قومه أهل ننسبه أو جاريه، وإنما نريد القوم الذي نشاء قبلهم، وأخذ عاداهم ونطق بلغتهم؛ لأن اللغات ليست بحسب المواليد والانتساب، وإنما هي بحسب النشوء العرف يتعلق بالنشوء لا بالنسب، وهذه الجملة لا أعرف فيها خلافاً وإن اختلفت في تفاصيلها.
مسألة
قال: وإذا حلف رجل لرجل بحق يلزمه كانت النية نية المحلف، وإن حلف من غير حق يلزمه فالنية نية الحالف، حكى نحوه أبو الحسن الكرخي، عن أصحابه وجه قولنا: أن من حلف بحق يلزمه فالنية نية المحلف أنا لو جعلنا النية فيه نية الحالف أمكن ك ن حلف على حق يلزمه أن ينوي غير ما يظهره فلا يحنث، وإن كان كاذباً في قوله، فكان يؤدي ذلك أن تبطل الحقوق من غير أن يحنث في يمينه، وكأن لا تكون فائدة في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم واليمين على المدعي عليه، فلما كان ذلك كذلك قلنا: إن النية نية المحلف، وأنه متى حلف على باطل لزمه الحنث، وأن نوى خلاف الظاهر، فأما إذا حلف من غير حق يلزمه فلهنيته؛ لأن المؤثر في لفظه هو قصده دون قصد غيره.
مسألة

(99/2)


قال: ولو أن رجلاً حلف أن لا يأكل لحماً، فأكل كبداً أو كرشاً أو لحم قنفذ كان حانثاً إن نوى ذلك وإن كانت يمينه مهمة لم يحنث، قال الشافعي مثل قولنا في الكبد والكرش، وقال أبو حنيفة: يحنث فيهما، ولا أدري قوله في القنفذ ووجهه قولنا أنَّه لا يحنث أن بهم يمينه أن هذه الأشياء على الإطلاق بدلالة أن من دفع إلى عبده درهماً فأمره أن يشتري به لحماً لم يجز أن يشتري به كبداً ولا كرشاً ولا لحم قنفذ، فإذا كان الإطلاق على ما ذكرنا ووصفنا وجب أن تحمل اليمين عليه على أن أبا حنيفة لا يخالف أن من قال: والله لا آكل الرؤوس فأكل رؤوس العصافير أنَّه لا يحنث؛ لأن الإطلاق لا يتناوله، فأما إذا قصد ذلك بنيته فإن هذه الأشياء من جنس اللحم، فإذا صح قصده بالنية واللفظ محتمل له ولزمه؛ لأن الإطلاق وإن لم يتناولهما فليس يمتنع أن يعبر عنها باللحم.
مسألة
قال: وإن حلف أن لا يشتري لحماً فاشترى له بأمره أو بغير أمره، وكان الحالف ممن لا يشتري اللحم بنفسه حنث، قال الشافعي: لا يحنث ما لم يتولى ذلك بنفسه سوى كان ممن يفعل ذلك بنفسه أو بغيره، وإن كان ممن يشتري بنفسه كان الأمر فيه على ما نوى، وذلك أن من عادته ألا يشتري اللحم بنفسه، فإن يمينه تناولت حصول الشراء له؛ لأن قوله اشتريت أو لم أشتر يوجب العرف أو يكون مراده حصول الشراء له فمتى حصل الشراء له حنث وإن اشترى له بغير أمره فلم يجز الشراء يجب أن لا يحنث ويحتمل أن يحنث أيضاً؛ لأن يمينه يحتمل أن تتناول أيضاً أن لا يشتري له من جهة العرف، والأول هو الأصح، فأما إذا كان من يشتري بنفسه فإنه لا يحنث إن اشتهى له؛ لأن عرفه أن لا يقول اشتريت إلاَّ إذا تولى ذلك بنفسه إلاَّ أن يكون نوى أن لا يحصل له الشراء فيلزمه نيته.
مسألة

(99/3)


قال: وإن حلف أن لا يشتري لأهله لحماً وعنده شاه اشتراها قبل اليمين فذبحها، أكل منها أهله أو كان عنده لحمٌ اشتراه قبل أن يحلف فأكلوا منه لم يحنث إلاَّ أن يكون نوى ألا يأكلوا لحماً، وذلك أن ظاهر يمينه تتناول الشراء، فإذا لم يقع الشراء لم يحنث إلاَّ أن يكون نوى أن لا يحصل لهم اللحم أو لا يطعمهم، فإنه يحنث؛ لأنَّه لا يستحيل أن يريد ذلك بقوله: لا يشتري على سبيل المجاز، وإن كان المجاز بعيداً بعد أن يكون محتملاً.
مسألة

(99/4)


قال: وإن حلف أن لا يتأدم بأدام فأكل الخبز بشواء أو دهن أو خل أو مرق أو بصل أو ما أشبه ذلك مما يؤكل به الخبز حنث، وإن أكل بالملح والماء لم يحنث، قال أبو حنيفة وأبو يوسف: الإدام ما يصطنع به، والملح أدام واللحم والشوى ليس بإدام، قال محمد: كل شيء الغالب عليه أن يؤكل بالخبز فهو إدام مثل قولنا، ووجه ما ذهبنا إليه أن العرف بين الناس في الإدام هو ما يؤكل به الخبز ما عدى الماء والملح؛ لأن من قال: اشتر لي إداماً فاشترى له ماء وملحاً كان مخالفاً للعرف، وإذا اشترى ما يؤكل به الخبز غالباً كان ممتثلاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما روي عنه: <سيد الإدام اللحم> وروي عنه أنَّه وضع تمرة على لقمة وقال: <هذه إدام لهذه> والاسم قد صح أنَّه يتناول ما ذهبنا إليه والعرف مقصور عليه فلا وجه لمخالفته، قالوا: الإدام في اللغة هو الجمع، يقال: أدم الله بينكما أن جمع بينكما وليس كل جمع يكون إداماً؛ لأنَّه لو جمعت لقمة إلى لقمة لم يكن إداماً والإدام هو ما يجمع إلى الخبز فيصير مستهلكاً في الخبز؛ لأنَّه متميز عنه، ويمكن أن يفرق بينهما بالنقص والمسح على أن ما ذكرتم تحكم وليس من حكم اليمين أن يحمل على الاستنشاق، وإنما يحمل على العرف لا خلاف فيه بيننا وبينهم، فإذا كان العرف ما بيننا سقط جميع ما تعلقوا به وما تبين العرف فيما ذكرنا أن من يبيع البيض والخبز وما أشبههما يسمى إداماً فصح ما ذهبنا إليه.
مسألة
قال: ومن حلف ألا يأكل من هذا اللبن فصير شبراراً أو قطا أو جبناً أ مصلاً، ثُمَّ أكل حنث، فكذلك إن حلف أن لا يأكل لبناً فأكل إقطاً أو شبرازاً أو مصلاً أو جبناً لم يحنث أو أكل زبداً لم يحنث.

(99/5)


واعلم أن الذي يجب أن يحصل في هذا هو أن ينظر إلى متعلق اليمين، فإن كان لليمين متعلق بمسمى لكونه على صفة فاليمين تعلق به ما دام على تلك الصفة، وذلك مسمى على تلك الصفة، ومتى خرج عن تلك الصفة لم تتعلق اليمين به، ولا يقع الحنيث، وذلك نحو أن يقول: والله لا أكلم شاباً، فإنه يحنث إذا كلم كل شاب، ومتى خرج عن كونه شاباً لم يحنث إن لكمه؛ لأن الصفة التي لها تعلق باليمين به قد زالت، فكذلك لو قال: لا أهب للرضيع شيئاً فأي رضيع وهب له شيئاً حنث، ومن خرج عن حد الرضاع لم يحنث إذا وهب ل؛ لأنَّه يكون قد خرج عن الصفة التي تعلقت اليمن بها فإذا ثبت ما بينا صح ما ذهبنا إليه من أنَّه إذا قال: والله لا آكل لبناً فأكل إقطاً أو شبرازاً أو مصلاً أو جبناً لم يحنث؛ لأن اللبن إذا جعل هذه الأشياء فقد خرج عن كونه لبناً وزالت الصفة التي بها تعلقت اليمين، وكذلك إذا حلف أن لا يأكل سمناً فأكل زبداً لم يحنث؛ لأن الزبد ليس بصفة السمن واليمين بالسمن تعلقت، فأما إذا تعلقت اليمين على عين ووصفت العين بصفة ودخلت الصفة للتعريف القائم مقام الإشارة ولم تتعلق اليمين بالصفة، فإن اليمين متعلقة بتلك العين أبداً أو يقع الحنيث فيها، وذلك كأن يحلف أنَّه لا يكلم هذا الشاب لشاب بعينه، ألا ترى أن اليمين تعلقت بعيه وذكر الشاب دخل فيه على سبيل التعريف، لا لأن تتعلق اليمين، فمتى كلمه حنث في حال شبابه أو بعد شيخوخته، وكذلك إذا حلف أن لا يهب لهذا الرضيع شيئاً وأشار إلى رضيع بعينه؛ لأنَّه علق اليمين على شخصه وأدخل الوصف له بالرضاع للتعريف، فمتى وهب له شيئاً في حال رضاعه أو بعد فطامة أو في حال شيخوخته حنث، فإذا ثبت هذه الجملة صح ما قلنا من أنَّه إذا حلف أن لا يأكل هذا اللبن أو من هذا اللبن شيئاً فصير شيرازاً أو إقطاً أو مصلاً أو جبناً، ثُمَّ أكل حنث؛ لأن يمينه تعلقت على تلك العين، والعين هي هو وإنما تغيرت صفاته، وهكذا إن حلف إن لا

(99/6)


يأكل هذا التمر فصير خلاف أو ربا حنث للوجه الذي بيناه.
مسألة
قال: وإن حلف أن لا يأكل التمر فأكل الزهر أو الرطب حنيث إلاَّ أن يكون نوى التمر اليانع اليابس، فلا يحنث ووجهه أن النية أقوى في هذا الباب، وإن اللفظ يجب أن يحمل عليها على ما سلف القول فيه.
مسألة
قال: وإن حلف أن لا أكل اللحم فأكل الشحم حنث إن كانت اليمين مبهمة، فإن استثنى الشحم بنيته لم يحنث وذلك أن إطلاق اللحم يشتمل على اللحم والشحم بدلالة أن من اشترى اللحم لم يمكنه أن يرد منه الشحم، وكذلك وكيله إذا اشترى الشحم على اللحم صح ذلك والعرف جار في أن يعد الشحم من اللحم والإطلاق يتناولهما إلاَّ أن يكون استثنى بنية الشحم فإنه لا يحنث؛ لأنَّه لا يكون تخصيصاً فتقع اليمين خاصة للحم دون الشحم، وعند الشافعي لا يحنث، وعند أبي حنيفة يحنث مثل قولنا إلاَّ في الإلية وشحم البطن.
مسألة: قال: وإن حلف أن لا يأكل الرؤوس، فأكل رؤوس الطير أو ما أشبهها لم يحنث إلاَّ أن يكون نواها الحالف ما قلناه من أنَّه لا يحنث بأكل رؤوس الطبر وما أشبهها، قال به أبو حنيفة وأصحابه والشافعي ولا خلاف أنَّه يقع على رؤوس الغنم واختلفوا في رؤوس البقر والإبل، فقال أبو حنيفة: يقع على رؤوس البقر، قال أبو يسف ومحمد لا يقع إلاَّ على رؤوس الغنم خاصة، قال الشافعي: يقع على رؤوس البقر والإبل ووجه ما ذهبنا إليه أن العرف في أكل الرؤوس لا يقع على رؤوس العصافير والسموات ونحوها والإيمان تتبع العرف على ما بينا، فإن كان نواها تناولها اللفظ للنية فيحنث، فأما رؤوس البقر والإبل فلا نص فيه عن أصحابنا، لكن الواجب فيها أن يحمل كل قوم على عرفهم وعادهم.
مسألة

(99/7)


قال: وإن حلف أن لا يأكل الخبز فأكل فتيتاً حنيث، فإن شرب سويقاً أو استف دقيقاً أو أكل عصيدة لم يحنث، قلنا: إنَّه يحنث بأكل الفتيت؛ لأن الفتيت هو الخبر المدقوق واسم الخر يتناوله، فأما السويق والدقيق والعصيدة فإن اسم الخبر لا يقع على شيء منه، فوجب أن لا يقع الحنث في أكل شيء منه.
مسألة
قال: وإن حلف أن لا يأكل طعاماً فشربت من السويق أو غيره مما له ثقل يغذو حنث وإن شرب نحو الحلاب والسكنجبين لم يحنث معنى قوله: ثقل يغذوا أراد به أن يكون ثخيناً يحتاج إلى ضرب من تقليه في الفم ومعالجته ليبلعه؛ لأنَّه إذ ذلك يكون طعاماً فيكون ما فعله أكلاً، فإن كان السويق يسيراً كأن يكون كالمستهلك في الماء لا يجب أن يحنث، ألا ترى أن من حلف أن لا يأكل الطين فشربت ماء المدود لم يحنث، فأما الجلالب والسكنجبين إذا شربهما فإنه لا يحنث لوجهين أحدهما أنهما شرابٌ وليسا بطعام، والثاني أنَّه شربهما ولم يأكلهما ويمينه وقعت على أكل الطعام.
مسألة
قال: فإن حلف أن لا يأكل رماة فأكل نصف رمانة فإنه لا يحنث وذلك أن عرف الناس في مثل هذا أنهم يقصدون المقادير دون ما عداها، فإن أطلق اليمين فهو على مقدار رمانة سواء كان ذلك من رمانة واحدة أو أكثر، فإن كان ما نوى ورمانة بعيها فهو على ما نوى.
مسألة
قال: وإن حلف أن لا يأكل الفاكهة فأكل عنباً أو رماناً أو قثاءاً أو لوزاً أو فخريزاً أو بطيخاً أو مشمشاً أو خوخاً أو تيناً أو ليتيا أو عناباً أو جوزاً أو عنبروداً حنث سواء أكل ما أكله من ذلك رطباً أو يابساً وكذا القول فيما أشبه ذلك مما يتأتى في الأوقات ويستطرفها الناس ويتفكهون بها.
مسألة

(99/8)


اعلم أن الفاكهة اسم لكل ثمرة جرت العادة بأن تؤكل على سبيل القتل على غالب الأحوال دون نادرها وإلى هذا أشار يحيى بن الحسين عليه السلام بقوله: تأتي في الأوقات فيستطرفها الناس ويتفكهون بها، ورأى هذه الأشياء التي ذكرناها هذه حكمها فحكم بأنها فواكه وليس يبعد أن تكون أموال البلدان تختلف في ذلك، فرب شيء يكون فاكهة عند قوم إداماً عند آخرين، فيجب أن يحمل على خالف على عرف قومه في بلدانه، وقد نص على ذلك يحيى بعد هذه المسألة عند ذكر الفاسد، فأما ما يستدل به من يريد نصرة أبي حنيفة في قوله أن العنب والرمان ليسا بفاكهة لقول الله تعالى حين عطف الفاكهة على العنب بقوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيْهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبَّا} وعطف الرمان على الفاكهة في قوله: {فِيْهَمَا فَاكِهَةً وَنَخْلٌ وَرُمَّانِ} والشي لا يعطف على نفسه، وإنما يعطف على غيره، فقد أبعد على طريقه أبي حنيفة؛ لأنَّه لا يحمل الإيمان على ألفاظ القرآن، وإنما يعملها على العرف، ألا ترى أنَّه يقول: من حلف أن لا يأكل لحماً فأكل سمكاً لم يحنث، وقد قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِيْ سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} فلم يعتبر ذلك ولا اعتبر العرف، وكذلك يقول: إن اللؤلؤ ليس من الحلية، وقد قال الله سبحانه: {وَتَسْتَخْرِجُونَ مِنْهُ حُلِيَّةً تَلْبَسُونَهَا} فلم يعتبر ذلك واعتبر العرف وهو الصحيح، ألا ترى أنَّه لا خلاف أن من حلف أن لا يشتري دابة فاشترى هر لم يحنث، وإن كان الله عز وجل سمى كل ما يدب دابة بقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِيْ الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا}، لما كان الاسم قد صار من جهة العرف لهذه البهيمة المخصوصة، فكذلك ما اختلفنا على أن أكثر ما في ذلك أن نصرف الآية عن ظاهرها ونقول: إن فيها إضماراً وتقديره كأنه عز وجل قال: {وَحَدَائِقَ غُلْباً}

(99/9)


وغير ذلك مما يكون فاكهة وتقدير قوله فيهما فاكهة نخل ورمان فيهما فاكهة ومنها نخل ورمان ويستدل على ذلك بالعرف، ومثله قد ورد في ذكر الملائكة والأنبياء ما هو مشهور، قال: وإن أكل التمر والرطب والباقلاء لم يحنث، وإن أكل الفانيد والسكر، وكان الحالف من أهل اليمن حنث لأنهما عندهم من الفواكه، أما الباقلاء فلا إشكال أنَّه ليس من الفواكه، والأقرب أنهم رجعوا في ذلك إلى العرف الذي عرفوه من عادات بلدانهم وعرف أوطانهم ويجب أن يعتبر عرف الحالف في ذلك إذ العرف فيه مما يختلف وعلى هذا يجري الكلام في الفانيد والسكر، فقد ذكر أنهما عند أهل اليمن، كذلك لما عرف من عاداتهم وعرفهم ولا فرق بين الرطب واليابس في جميع ذلك؛ لأن الرطب يعد في الفواكه الرطبة واليابس يعد في الفواكه اليابسة، والذي نعرف من عادات ديارنا أن الفاكهة اسم لثمار الأشجار يعد فاكهة وشيء معمول يحمل من خراسان يقال له قرابة يعد من الفاكهة اليابسة.
مسألة

(99/10)


قال: وإن حلف أن لا يلبس أهله حلياً فلبست الخاتم لم يحنثوا إن لبست اللؤلؤ والدر والزبرجد والياقوت وما أشبه ذلك يحنث، وجهه أن الحلي محرم على الرجال، والخاتم حل لهم فثبت أنَّه ليس من الحلي على أنَّه لا يسمى حلياً على وجه من الوجوه، فوجب أن لا يقع به الحنث، قال أبو حنيفة: الخاتم إذا كان من فضة لا يكون حلياً، فأما اللؤلؤ فإنه يكون ذهب إلى أنَّه ليس بحلي ولا أعرف لقوله وجهاً، فإنه إن كان من طريق الاسم فالله عز وجل قد سماه حلياً بقوله عز وجل: {وَتَسْتَخْرِجُونَ مِنْهُ حُلِيَةً تَلْبَسُونَهَا} وقال: {يُحَلَّونَ فِيْهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} وإن كان من جهة العرف فلا نعرف قوماً لا يعدون اللؤلؤ والياقوت والزبرجد من أشرف الحلي وأعلا طبقة حلا ما يكون من الياقوت فصاً، قال أبو يوسف ومحمد: اللؤلؤ حلي. قال: وإن لبست الجزع وما يعمل من القوابر والحجارة أو ما أشبه ذلك لم يحنث إن كان الحالف من أهل المدن، وإن كان الحالف من أهل الباردة والسواد حنث؛ لأنهم يعدون ذلك من الحلي، وذلك للعرف؛ لأن عرف أهل المدن أنهم لا يعدون ذل من الحلي، وعرف أهل السواد والبادية يعدونه من الحلي والأيمان محمولة على العرف على ما بيناه.
مسألة

(99/11)


قال: ولو أن امرأة توجهت للخروج من دارها فحلف زوجها أن لا تخرج فرجعت وجلست ساعة ثُمَّ خرجت حنث الرجل إن كان عادته معها المنع لها من الخروج من الدار وإن كانت عادته معها بخلاف ذلك لم يحنث، وذلك أن عادته إذا جرت أن يكون منعها عن الخروج إذا احتاج إليها بعد ساعة أو نحوها وجب أن تحمل اليمين عليها؛ لأنَّ العرف والعادة في اليمين كالمنطوق به فيجري ذلك مجرى أن يكون حلف أن لا تخرج في ساعتها تلك وإذا قعدت ولم تخرج في تلك الساعة لم يحنث إن خرجت بعد ذلك، ألا ترى أن من حلف أن لا يخرج ضيفه من داره لم يحمل ذلك على التأبيد، وإنما يحمل على ما جرت به العادة من ذلك الضيف أن يختص عند ذلك المضيف، كذلك ما ذكرناه فإن كانت عادة الرجل أن يمنعها على الدوام عن الخروج، وكان خروجها ذلك نذراًً فحلف أن لا تخرج فجلست ساعة ثُمَّ خرجت حنث؛ لأن ذلك يقتضي التأبيد وليست هناك عادة يجب قصر اليمين عليها.
مسألة

(99/12)


قال: ولو أن رجلاً قال لامرأته وهي راكبة أنت طالق إن ركبت هذه الدابة فنزلت في الحال فلا حنث عليه إن لبثت قليلاً عليها وهي في أهبة النزول وحركة ثُمَّ نزلت فلا حنث عليه فإن لبثت بعد ذلك حنث، وكان كذا القول إن قال لها وهي لابسة ثوباً: أنت طالق إن لبست هذا الثوب، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: وحكى أبو بكر الجصاص عن زفر قد حنث في يمينه عقيبها؛ لأنها حصلت لابثة بعد عقد اليمين إلى أن حصل النزع والأصل فيه أن الركوب أصل للابتداء والاستمرار، وكذلك نقول: لبس إذا ابتدأ اللبس، وإذا استمر، وكذلك نقول فلان ركب من الغداة إلى العشي، وركب من موضع كذا إلى موضع كذا، وإن كان الابتداء مرة واحدة، ونقول: لبس فلان قميصه كذا يوماً وإن كان اللبس مرة واحدة، فإذا ثبت هذه الجملة فمن قال لامرأته أنت طالق على ركوبها، وهكذا اللبس، فإذا نزلت في الحال أو أخذت في أهبة النزول لا تكون استمرت على الركوب، فيجب أن لا يقع الحنث وإذا لبثت فقد استمرت على الركوب، فيجب أن يقع الحنث، وهكذا القول في اللبس، وهذه التحصيل تبطل ما ذهب إليه زفر؛ لأنها وهي أخذت في أهبة النزول أو نازلة لا تكون مستمرة على الركوب واليمين تتناول الاستمرار، وعلى هذا يجب أن يكون الكلام في من قال لزوجته وهي ساكنة دار: أنت طالق إن سكنتها؛ لأنَّه يقال: إذا سكن إذا ابتداء السكنى فإذا اسم عليها، فأما الدخول فهو مخالف لهذا عند أبي حنيفة وأصحابه وهو الصحيح؛ لأن الدخول ... للابتداء فقط، وإذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت هذه الدار، فأقامت لم تحنث؛ لأن المقام لا يسمى دخولاً، وإنما يقع الحنث إذا خرجت ثُمَّ دخلت بعد ذلك، وهذا ذكر لأصحاب الشافعي على قولين.
مسألة

(99/13)


قال: ولو أن رجلاً حلف أن لا يدخل هذه الدار ودخلها بعد ما هدمت وجعلت صخراً أو بستاناً أو حماماً أو مسجداً أو غير ذلك لم يحنث إن كانت يمينه مبهمة، وإن كان أوى العرة حنث، قال أبو حنيفة: إن دخل وقد صارت عرضة حنث، وإن دخل وقد جعلت بستاناً أو حماماً أو مسجداً أو غير ذلك لم يحنث، قال الشافعي: لا يحنث إن دخلها وهي عرضة والأصل في هذا أن تعلق اليمين ليس هو بالعرضة على الإطلاق، وإنما هو العرضة إذا كانت على صفة وهي صفة الدار، فإذا انهدمت وزالت حوائطها وصارت عرضة خرجت عن أن تكون بصفة الدار، وزال الاسم لزوال الصفة فلم يتناولها اليمين فلم يجب أن يحنث بدخولها.
فإن قيل: الاسم باق وإن تهدمت.
قيل له: هذا غير مسلم ولو سميت العرضة داراً لكانت خيام بني أسد كلها تسمى دوراً، وهذا لا معنى له.
فإن قيل: فالعرب قد سمت الدور التي تهدمت وعفت رسومها دوراً ودياراً وقد كثر ذلك في أشعارها وأخبارها.
فإن قيل: له ذلك على ضرب من التوسع والمجاز وعلى معنى أنا كانت دياراً ومنازل والأيمان لا تحمل على إتساعات أهل اللغة إلاَّ أن يكون ذلك مقصوداً بالنية يبين ما قلناه أن الله تعالى قال: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} وهم لا يخالفون في أن البيت لا يكون بيتاً مع أنَّه خاوٍ منهدم ويحملون ذلك على المجاز، وعلى أنها كانت بيوتاً، فكذلك القول في الدار، فأما إذا قصد العرضة بنيته فيحنث؛ لأن اللفظ يتعلق بمتعلقة بحسب النية على ما مضى، وإذا جعلت بستاناً أو حماماً أو مسجداً فلا خلاف أنَّه لا يحنث، ووجهه أن معلق اليمين قد أزال الصفة التي بها تعلقت اليمين على ما مضى.
فإن قيل: فأنتم تقولون: إذا حلف أن لا يأكل هذا اللبن فصير شبرازاً وأكل حنث فما الفرق بين ذلك وبين هذا؟

(99/14)


قيل له: لأن اليمين تعلقت بعين اللبن وعين اللبن هي هي، وإن كانت تغيرت صفاتها فجعلت شبرازاً وهاهنا لم تعلق اليمين بالعرضة وإنما تعلقت بجملة الدار التي العرضة منها، فإذا صارت عرضة فقد زال متعلق اليمين.
مسألة
قال: وإن حلف أن لا يسكن أهله في هذه الدار فدخلها وأكل فيها وشرب وجامع وعمل غير ذلك مما يعمل مثله الزائر ثُمَّ خرج منها لم يحنث، فإن نام فيها بالليل والنهار حنث؛ لأنَّه يكون مساكناً لهم فيها، وهذا معناه أن يكون دخل فيها وما يحتاج الساكن إليه، فإذا كان ذلك كذلك، فالقدر الذي يفعله مما قد بفعله المنتاب والزائر إذا دخله لم يحنث؛ لأنه لا يسمى مساكناً لهم في ذلك القدر؛ لأن الناس من طريق العرف يفصلون بين من يكون ساكناً للدار وبين من يكون به مساكناً لهم حنث على ما ذكره، وذلك بأن يمتد حتى يكون بالليل والنهار.
مسألة
قال: وإن حلف أن لا يلبس هذا الثوب فباعه واشترى بثمنه ثوباً غيره أو غزلاً فنسج ثوباً فلبسه لم يحنث إلاَّ أن يكون نوى ألا ينتفع من ثمنه بشيء؛ وذلك أن اليمين وقعت على لبس الثوب، فإذا باعه واشترى بثمنه غيره فلبسه لم يكن لبس الثوب الذي تعلقت اليمين به فوجب أن لا يحنث، فإن كان نوى ذلك حنث؛ لأنه في حكم من حلف أن لا يكون لابساً له ولما يكون به.
مسألة

(99/15)


قال: وإن حلف ألا يلبس ثيابه، وكانت له أثواب فلبس بعضها حنث، وكذلك إن كانت له عشر جوار فحلف أن لا يطأهن يميناً مطلقة مبهمة فوطئ واحدة منهن حث، وكذلك إن حلف أن لا تلبس امرأته هذه الخلخالين، فلبست أحدهما حنث، قال أبو حنيفة والشافعي: لا يحنث حتى يلبس الجميع ويطأ الجميع وحكى مثل قولنا عن مالك ذكره ابن أبي هريرة فيما علقه عنه، والأصل في هذا أن كل جملة معينة يصح تعلق حكم عليا يصح تعلقه على أبعاضها، فمتى تعلق ذلك الحكم على تلك الجملة فقد تعلق على كل بعضٍ من أبعاضها، ألا ترى أن من أباح لغيره التصرف في جميع أمواله، ثُمَّ قال: قد حضرت عليك التصرف في أثوابي العشرة هذه، تناول الحضر آحاد الأثواب وأبعاض آحاد، كما تناول جملتها، وكذلك لو وكل رجل رجلاً ببيع جميع أمواله ثُمَّ قال له: عزلتك عن بيع جواري العشر صار معزولاً عن بيع آحادهن وعن بيع أبعاض أبعاضهن، كما صار معزولاً عن بيع جملتهن ونظائرهن، هذا أكثر من أن تعد وتحصى ، فإذا ثبت ما بيناه وعلق يمينه على أثواب له معيبة لا يلبسها، فكأنه حلف ألا يلبس هذا الثوب، ثُمَّ حلف ألا يلبس هذا حتى أتى على آخرها، فكذلك الحكم في الجواري والخلخالين، فمتى لبس وواحداً من ذلك أو وطئ واحدة منهن حنث؛ لأن اليمين تعلقت على جملة معينة، وكان يصح تعلقها على كل واحدة منها على ما بينا، يدل على ذلك أنه لو حلف أن يلبس ثيابه العشرة في هذا اليوم أو يطأ جواريه العشر في هذا اليوم، فمتى ترك واحداً منها أو واحدة منهنّ لزمه الحنث في ذلك الواحد أو الواحدة كما كان يلزمه لو ترك الجميع للعلة التي ذكرناها وهي تعلق اليمين على حكم جملة معينة، كان يصح تعلقها على حكم واحد من أبعاضها على أن المحفوظ من أبي حنيفة وأصحابه أنهم قالوا: لو حلف على أن لا يكلم الناس فلكم واحداً منهم حنث تناقصوا ويمكننا أن نجعل هذا أصلاً نقيس عليه، وكذلك عندهم لو حلف ألا يشرب ماء هذا النهر فشرب شيئاً منه حنث،

(99/16)


وهم فصلوا بين هذا وبين ما اختلفنا فيه بأن قال: إن هذا مما لا يقدر عليه فشرب ميع ماء النهر لا يقدر عليه.
قيل له: وهذا الفصل لا يمنع من المناقضة إذا قد صح الجمع بينه وبين ما اختلفنا فيه بالعلة التي ذكرنا على أنهم لا يفصلون في باب الحنث بين ما يقدر عليه وبين ما لا يقدر عليه فلا معنى لالتجائهم إلى ما قالوا: وكذلك الشافعي لا يفصل بين ذلك؛ لأنَّهم جميعاً قالوا: لو حلف أن يصعد السماء أو يحيى ميتاً يحنث.
فإن قيل: أليس لو حلف أن لا يعطي زيداً اليوم عشرة دراهم فأعطاه درهماً لم يحنث، فكذلك ما اختلفنا فيه.
قيل له: نحن اشترطنا أن تكون الجملة التي تتعلق عليها معينة لتكون اليمين متعلقة على أبعاضها، فإذا كانت العشرة غير معينة فكل درهم يعطى لا يكون من جملة تلك العشرة فلهذا لم يتعلق الحنث به.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه أنَّه قال لرجل من أصحابه لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة لم تنزل على أحد قبلي إلاَّ على أخي سليمان،، قال: وأخرج إحدى رجليه من المسجد، وقال: بم تفتتح صلواتك؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. فقال: هيه هيه إنها السبع المثاني والقرآن العظيم وروي أيضاً أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن آية من كتاب الله عز وجل فقال: لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بها فقام صلى الله عليه وآله وسلم فلما أخرج إحدى رجليه من المسجد أخبر بالآية قبل أن يخرج الرجل الأخرى قالوا: فلو كان يقع بعض ما وقع عليه اليمين لكان صلى الله عليه وآله وسلم قد خالف ما تقدم من وعده.

(99/17)


قيل له: نحن اشترطنا أن يكون الحكم الذي تعلق بالجملة يصح تعلقه على أبعضاها، ولذلك أوجبناه في الأبعاض كما أوجبناه في الجملة والخروج فعل يصح تعلقه بجملة الحي، ولا يصح تعلقه بأبعاضه، ولهذا لا يجوز أن يكون بعض الحي ضارباً وبعضه غير ضارب؛ لأن الضرب فعل يتعلق بجملة الحي، وكذلك ما جرى مجراه من سائر أفعاله فلم يجب أن يكون أراد بذلك أن لا يخر ما أودعوه مثل ما اختلفنا فيه على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجوز أن يكون أراد بذلك ألا يخرج الخروج التام فكانت نيته له ونحن لا ننكر أنَّه لو قال: والله لا ألبس ثيابي هذه ونوى لبسها بأجمعها أن له نيته ومما ناقض فيه أبو حنيفة، قالوا: لو حلف ألا يصوم فأصبح صائماً حنث، وإن كان ما فعله بعض الصوم، وكذلك إن حلف أن لا يصل فصلى ركعة بسجدتيها أنَّه يحنث وإن كان ذلك بعض الصلاة، فكذلك ما اختلفنا فيه.
مسألة
قال: وإن حلف أن لا يلبس ثوبه أحدٌ فسرقه ولبسه حنث إن كانت يمينه مبهمة وإن كان نوى أن لا يلبسه أحدٌ بإذنه فلبسه السارق لم يحنث قلنا في الأول: إنَّه يحنث؛ لأنَّه أطلق اليمين ولم يكن الأذن منوياً ولا منطوقاً، وقلنا في الثاني: أنَّه لا يحنث؛ لأن منوي الإذن كمنطوقه للوجه الذي تقدم في معاني حكم النية.
مسألة

(99/18)


قال: ومن حلف أن لا يفارق غريمة حتى يأخذ حقه منه ففر غريمة أو قام هو لحاجة وكان نوى ألا يزايله ويراصده حنث، قال أبو حنيفة: إذا فر غريمة لم يحنث، وقيل أنَّه للشافعي على قولين، وذلك أنَّه لو حلف ألا يفارقه فتعلق اليمين بالمفارقة فإذا جرى ما ذكر فقد وقعت المفارقة التي حلف أن لا يفارقه فتعلقت اليمين ما تقع فوجب أن يحنث، وقوله: وكان نوى أن لا يزايله أو يراصده، فعلى التأكيد وإلا فالحنث واقع باللفظ، قال: كان حلف ألا يفارقه حتى يأخذ حقه، وكان عليه عين فأخذ عرضاً بقيمته لم يحنث وإن أخذ رهناً أو قبل ضامناً ثُمَّ فارقه على ذلك لم يحنث أيضاً إلاَّ أن يكون نوى ألا يقبل رهناً لا ضماناً، أما إذا أخذ عرضاً بقيمة فلا إشكال في أنَّه لم يحنث؛ لأه إذا رضي بالعرض فقد انتقل حقه إليه، فإذا أخذه فقد استوفي حقه، ألا ترى أنَّه لا يبقى بينهما معاملة بسبب ذلك الحق للاستيفاء الواقع، وأما الرهن الضمان فإنهما ليسا بحقه وإنما تعلق حقه بهما فإن كان نواهما لم يحنث وإن كان لم ينوهما أو نوى ألا يقبلهما، فالواجب أن يحنث وعلى يجب أن يحمل ما قال.
مسألة
ولو أن رجلاً كان عليه لرجل ألف درهم فحلف أنَّه يقضيه في هذا اليوم فأعطاه فيها زيوفاً أو مزيفة وأخذ صاحب الحق لم يحنث وإن أعطاه فيها حديداً أو رصاصاً حنث، وإنما قلنا في الزيوف والمزية أنَّه لم يحنث؛ لأنهما من الدراهم وهو قصد إلى أن يوفيه ألف درهم ولم يقصد إلى صفة الدراهم، فذا قضاه ألف درهم على أي صفة كانت الدراهم لم يحنث، فأما إذا أعطاه فيها حديداً أو رصاصاً وجب أن يحنث؛ لأنَّه لم يوفه تمام ألف درهم أو بعض ما أوفاه ليس من الدراهم.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً حلف أن يبيع عبده أو جاريته فأعتقهما أو كاتبهما حنث؛ لأنَّه حلف أن يبيعهما والعتق والكتابة ليس واحد منهما بيعاً فوجب أن يحنث.
فإن قيل: الكتابة فيها معنى البيع.

(99/19)


قيل له: هو كذلك ولكن ليس ببيع على الحقيقة ولا اسم البيع يتناول له لغة ولا عرفاً، فذلك حنث وليس هذا مما نقول فيه لا يحنث حتى يموت؛ لأن ذلك إنَّما يقال فيما يصح فعله إلى ذلك الوقت والعبد إذا أعتق أو كوتب فقد فات البيع فيجب أن يحنث.
مسألة
وقال: ولو أن رجلاً قال لامرأته: أنت طالق إن ابتدأتك بكلام، فقال له المرأة جاريتي حرة إن ابتدأتك بكلام لا جزيت خيراً لم فعلت كذا ثُمَّ كلم كل واحد منهما صاحبه بعد ذلك فلا حنث على واحد منهما؛ وذلك أن الرجل ما عقد اليمين على أن لا يبتدئها بكلام ابتدأته بقولها: جاريتي حرة إن ابتدأتك بكلام فخرج الرجل من عهده ما عقده من اليمين، ولما قال لها بعد ذلك: لا جزيت خيراً فقد ابتدأها بكلام فخرجت المرأة أيضاً من عهده ما عقدته من اليمين فأيهما كلم بعد ذلك صاحبه لم يحنث؛ لأن يمين كل واحد منهما قد برت على ما بيناه، وإن كانت المسألة بحالها وكانت المرأة قال: إن ابتدأت زوجي كلام غير مباله إليه ولا مخاطبة له طلقت المرأة وذلك لأن المرأة فاتحته بكلام بعد عقده اليمين، فإذا قال: لا جزيت خيراً لم فعلت فقد ابتدأها بكلام وقد كانت يمينه على أن لا يبتدئها بكلام فحنث ووقع الطلاق، فإن لم يبتدئها بكلام بعد عقده كل واحدٍ منهما اليمين لكن هي ابتدأته عتقت جاريتها، فإن كلمها بعد ذلك لم تطلق؛ لأن الرجل يكون خارجاً من عقدة يمينه.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال لآخر: والله لا لمتك يومين والله لا كلمتك ثلاثة أيم كانت يميناً واحدة لثلاثة أيام إن كانت اليمين مبهمة مذهبه أن الأيمان وإن تكررت إذا كانت أيماناً بالله فإنها تكون يميناً واحدة وسيجيء القول فيه في الباب الذي يلي هذا الباب.

(99/20)


ووجهه قوله: إنها لثلاثة أيام هو أن اليمين تنعقد من حيث تلفظ بها فإذا قال لا كلمتك يوماً انعقدت من حين تلفظ بها إلى تمام اليوم، ثُمَّ قال: لا كلمتك يومين انعقدت أيضاً منحين لفظ بها إلى عام يومين ثُمَّ إذا قال: لا كلمتك ثلاثة أيم انعقدت منحين لفظ بها إلى تمام ثلاثة أيم، فكان عدد ما قال وقعت عليه اليمين في جميع ذلك ثلاثة أيام على ما بيناه، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه: إلاَّ إنهم قالوا لليوم الأول ثلاث أيمان وللثالث يمين واحد على مذهبه في تكرر الأيمان، إن كان نوى ستة أيام كأنه لما قال: لا كلمتك يومين نوى أنهما بعد اليوم الأولون ولما قال: لا كلمتك ثلاثة أيام نوى بعد الأيام الثلاث، فصارت ستة على ما نوى، ويجب أن تكون الليالي تدخل في اليمين.
مسألة
قال: وإذا حلف أن لا يبيع ولا يشتري فاشترى أو باع بيعاً فاسداً يجوز فيه الهبة والعتق حنث، معنى قوله: تجوز فيه الهبة والعتق هو للتفرقة بين البيع الفساد الذي يجري بين الناس مما يقع به الملك للمشتري إذا قبضه بإذن صاحبه وبين البيع الباطل الذي يستوي عدمه ووجوده وهو كبيع الحر وكبيع سمك في بحر فإن الحنث في مثل هذا لا يقع؛ لأنَّه ليس مما يسمى بيعاً في العرف؛ ولأن شيئاً من أحكام البيع لا يتعلق له ولا يجري مثله في تعالم الناس، فأما البيع الفاسد الذي ذكره فإنه يحنث فيه عنده وند أبي حنيفة ووجهه أن اسم البيع يتناوله في العرف؛ لأن الناس من عاداتهم أن يبتاعوا البياعات الفاسدة كما يبتاعون البياعات الصحيحة، ولعل ما يجري في أسواق المسلمين من البياعات الفاسدة أكثر مما يجري من البياعات الصحيحة؛ ولأن أيضاً قد يفيد بعض فائدة البيع الصَّحيح إذا ضامه القبض، وكذلك قلنا يحنث؛ لأن اليمين تابعة للأسماء على ما بينا في غير موضع.

(99/21)


قال: وإن حلف ألا يتزوج فتزوج تزويجاً فاسداً لم يحنث؛ لأن من فعل ذلك لم يكن متزوجاً ولم يتعلق به شيء من أحكام الزوجية فهو يجري مجرى البيع الباطل الذي هو بيع الحر أو بيع الكعبة أو ما جرى مجراه، ألا ترى أنَّه لا يقع به استباحة البضع على وجه من الوجوه كما يقع الملك بالشراء الفاسد إذا ضامه القبض عندنا؛ ولأن المسلمين ليس في عاداتهم أن يتزوجوا التزويج الفاسد فلم يتناوله الاسم فلهذا قلنا: إنَّه لا يحنث.
فصل

(99/22)


قال يحيى في الفنون: إن حلف أن لا يهب لفلان شيئاً ولا يتصدق عليه ولا يعيره ولا يقرضه فوهب أو تصدق أو أعار أو أقرض ولم يقبل الموهوب له إذا ضربنه مجتمعات، فدل هذا من مذهبه على أنَّه تخصيص بالنية فيما لا نطق له؛ لأنَّه ليس للإجماع هاهنا لفظ يتناوله على العموم ولا على وجه الخصوص فعلى هذا لو قال: والله لا آكل ونوى طعاماً دون طعام فله نيته وهو قول الشافعي: ويدين فيما بينه وبين الله وفي الحكم يحمل على ما يقتضيه ظاهرٌ الإطلاق، قال أبو حنيفة في مثله نيته لغوٌ لا يدين لا فيما بينه وبين الله عز وجل ولا في الحكم، قال: لأنَّه ليس هناك لفظ يقصد بالتعميم والتخصيص والدليل على ما ذهبنا إليه من أن التخصيص والتعميم يصح فيما لا نطق له إذا كان هو المقصود بالخطاب قول الله تعالى: {حَرِّمَتْ عَلِيْكُمْ أُمُّهَاتِكُمْ} وقد علمنا أن المراد بالتحريم ليس هو أعيان الأمهات؛ لأن ذلك يستحيل عقلاً، فكيف يخاطب به سمعاً، فوجب أن يكون المراد بالتحريم بظاهره تصرفنا فيهنَّ بالوطئ والبيع والاستماع والخدمة والاستخدام والاسترقاق والضرب، وكلما صح التصرف به منافي الغير ولا لفظ لشيء من ذلك ثُمَّ ورد التخصيص عليه؛ لأنا قد علمنا أن لم نمنع ن خدمها وإطعامها والنظر إلى وجهها وذراعيها وقدميها وما أشبه ذلك، فإذا ثبت ذلك ثبت أن التخصيص تجوز أن يرد على ما لا نطق له بالإرادة فصح ما ذهبنا إليه ولهذه الآية نظائر كثيرة منها ما ورد التحريم على التعميم ومنها ما ورد على التخصيص على أنا لو قلنا في جميع ذلك أن التخصيص راجعٌ إلى اللفظ لصح، وذل أنَّه لما قال عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلِيْكُمْ أُمُّهَاتِكُمْ} جمع التخصيص إلى التحريم، فكأنه قال: حرم الوطء ولم يحرم الإطعام، وكذلك في قول الرجل لا أكل يرجع التخصيص إلى أكل دون أكل، كأنه قال: لا آكل الفاكهة وأكل الخبر، وإذا قال: لا أكلم زيداً رجع التخصيص إلى التكلم، كأنه قال: لا أكلمه في زمان

(99/23)


وأكلمه في زمان، وإذا قال: أنتن طوالق إن ضربتن رجع التخصيص إلى الضرب، كأنه قال: إن ضربتن على وجه دون وجه فصح ما ذهبنا إليه من الوجوه كلها، ونقول في مثل هذا وما جرى مجراه أنَّه يدين فيما بينه وبين الله عز وجل دون الحكم؛ لأن ما ذكره باطن محتمل لا دليل عليه، فجاز أن يكون كذلك وجاز ألا يكون كذلك فدين فيما بينه وبين الله عز وجل لجواز أن يكون صادقاً يه ولم يدين في الحكم؛ لأن الظاهر بخلافه.

(99/24)


باب القول فيما يوجب الكفار
لو أن رجلاً حلف ببيت الله عز وجل أو بسورة من كتاب الله أو بقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بحق نبي من أنبياء الله ألا يفعل شيئاً ففعله فلا كفارة عليه وإنما تجب الكفارة في اليمين بالله وحده وبه قال أبو حنيفة والشافعي ولا أحفظ فيه خلافاً إلاَّ شيئاً ذكره الناصر عليه السلام وهو أنَّه قال: الحلف بملائكة الله وكتبه ورسله يمين وفي تعليق ابن أبي هريرة أن القسم بالقرآن يصح حكاه نصاً عن الشافعي، والدليل على ما قلناه أن جميع ذلك غير الله عز وجل ومما خلقه الله عز وجل، فلو جاز أن يكون الحلف بشيء من ذلك يميناً أو أن يكون الحلف بجميع ما خلق الله يميناً كالنجم والشجر والثلج والمطر والسماء والأرض والنجوم والكواكب والشمس والقمر، فلما بطل الحلف بجميع ذلك؛ لأنَّه حلف بغير الله، فكذلك ما قدمناه، وهذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى الإطناب، قال: وعلى الرجل أن يفيء بما حلف عليه بسائر ما ذكرناه، ألا يرى غيره خيراً منه وأقرب إلى الله عز وجل، وذلك استحباب كما أن الوفاء بالمواعيد استحباب فإذا قرنه بذكر ما فضله الله كان أكد للاستحباب على أن اليمين بجميع ذلك مكروه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: <من فليحلف بالله أو يصمت>، وروي عن أبي عمر أنَّه رأى رجلاً يحلف بالكعبة فقال له ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا تحلفوا بآبائكم ولا أمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلاَّ بالله>.
فإن قيل: روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال للأعرابي وقد سأله عن الفرائض فأجابه فقال: لا أزيد عليها شيئاً ولا أنقص منها <أفلح وأبيه إن صدق دخل الجنة>.

(100/1)


قيل له: لم يكن مخرج هذا مخرج اليمين؛ لأنَّه معلم أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم يم يقصد تعظيم الأعرابي وإنما قال ذلك على ما جرت العادة من مخاطبة العرف على أنَّه لو أراد به القاسم والأخبار التي ذكرناها قصد حصرت عليه اليمين بغير الله فهو أولى على أن أحداً لا يقول: إن هذا الخبر يمينٌ فلا وجه للاشتغال به.
فإن قيل: فقد أقسم الله تعالى بالسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب والتين والزيتون والطور والذاريات وما أشبه ذلك.
قيل له: ذلك كثير من العلماء ذهب على أن التقدير في ذلك ورب كذا واليمين وقعت بالله ومنهم من قال: إن له عز وجل أن يقسم بما شاء، وهذه الأشياء مما خلقها وأعظم المنة بها علينا؛ لأن لنا فيها منافع ووجوهاً من الاعتبار ولا يمتنع أن يحسن الشيء من الله عز وجل ويقبح منا؛ لأنا لا نوقعه على الوجه الذي وقع من القديم عز وجل، قال القاسم عليه السلام: لا تلزم الكفارة في الحلف بالقرآن وبالبيت الحرام وبالبراءة من الإسلام، قال زيد بن علي عليهما السلام: الحلف بالبراءة من الإسلام واليهودي والنصراني ليس بيمين ولا حنث فيه، وقد مضى الكلام في الحلف بالقرآن والبيت الحرام، فأما البراءة من الإسلام فد ذهب أبو حنيفة إلى أنَّه يمين، وكذا قال في قول الرجل أنا يهود أو نصراني إن فعلت كذا وكلما مضى من الأثر والنظر يدل على فساد هذا القول؛ لأنَّه يمين بغير الله.
فإن قيل: روى أبو بريدة عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <من حلف فقال أنا بريء من الإسلام فإن كان كاذباً فهو كما قال وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً> فأثبت اليمين بالبراءة من الإسلام.

(100/2)


قيل له: لو لم يكن لنا دليل على أن هذا ليس بيمين غير هذا الخبر لكان فيه كفاية وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توعد عليه الصادق والكاذب والتوعد عن النبي أوكد من النهي عنه فثبت أنَّه ليس بيمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينهي عن اليمين صادقاً بل كان يحلف ويحلف، فلو كان هذا يميناً لم ينه عنه.
فإن قيل: اليمين بالبراءة من الإسلام معقودة على تعظيم الله تعلى، فهو يجري مجرى اليمين بالله عز وجل.
قيل له: فاجرٌ على هذا اليمين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبجبريل وميكائيل وسائر رسله عليهم السلام وملائكته وكتبه ورسله، فإن اليمين بذلك أجمع معقودة على تعظيم الله؛ لأن تعظيم هؤلاء إنَّما هو بتعظيم الله عز وجل كما أن تعظيم البراءة من الإسلام لتعظيم الله عز وجل فإذا ثبت أنَّه لا يمين بملائكة الله وكتبه ورسله؛ لأنهم عباد الله، فكذلك لا يمين بالبراءة من الإسلام لهذه العلة.
مسألة

(100/3)


قال: واليمين التي تلزم بها الكفارة أن تقول: والله لا فعلت كذا أو بالله أو تالله أو قال: وبحق الله ربي أو ربي أو حق ربي أو ورب شيء مما خلقه الله تعالى أو يقول على عهد الله وميثاقه أو قال: وأيم الله أو وهيم الله، أو قال: أقسم بالله، فكل ذلك يمين تلزم فيه الكفارة من حلف بها ثُمَّ حنث أما الواو والباء والتاء فإنها حروف القسم لا خلاف فيه، قال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ}، وعن ابن عمر قال: كثير ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحلف بهذه اليمين لا ومقلب القلوب، وعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا اجتهد في اليمين قال والذي نفس أبي القاسم بيده وأما الباء فقد قال الله عز وجل: {فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهُمَا} وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في يمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو الخبرين إلاَّ أنَّه قال: والذي نفس محمد بيده. وقال أيضاً: {إِنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} وأما التاء فقد حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام، وعن أولاد يعقوب {وَتَاللهِ لأَكِيْدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} {تَاللهِ تَفْتَؤُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} وأما وحق الله فهو يمين عندنا وعند أبي يوسف والشافعي، قال أبو بكر: قول أبي حنيفة في حق الله مثل قول محمد: ليس بيمين ولا كفارة فيه ووجهه أن الله تعالى قد سمى نفسه بحق بقوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِيْنِ} فإذا حلف به فقد حلف بالله عز وجل، وقول: وحق الله أو والله الحق، كما قالوا في قولنا: وعظمه الله وجلال الله تقديرهما والله العظيم والله الجليل، كذلك وحق الله؛ لأنا لا نرجع إلى غير الله، وهذا يسقط قول من يقول: إن ... حق الله تعالى علينا هو عبادته من الصلاة والصيام واليمين بها عين بغير الله عز وجل، فأما قوله وربي وحق ربي أو بحق رب شيء مما خلقه الله

(100/4)


فيكون يميناً، لقول الله عز وجل: {فَوَرَبَّكَ} {فَلا وَرَبِّكَ} والرب هو الله عز وجل، ومنه قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِيْ الدُّنْيَا حَسَنَةً} {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} وأما قوله على عهد الله وميثاقه فلقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} ثُمَّ عقب بتعظيم الخلاف فيه بقوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِيْ قُلُوبِهِمْ} وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ} وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} وقال أبو حنيفة: هو يمين والميثاق هو بمعنى العهد وقد قال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيْيِّنَ مِيْثَاقَهُمْ} وقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيْثَاقَ بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ} {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيْثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} وذكره ي القرآن كثير، قال الشافعي: قول الرجل علي عهد الله وميثاقه ليس بيمين، إلاَّ أن يريد به اليمين وقد بينا صحة ما قلناه، قال: هو لأنَّه يحتمل أن أراد به اليمين وفيما بيناه ما يدل على أنَّه موضوع اليمين كما نقول في الطلاق والعتاق إنَّه لا يرجع في الظاهر فيهما إلى الاحتمال، وأما أيم الله وهيم فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: حين طعن بعض الناس في أمر أسامة بن زيد وأيم الله إن كان لحليفاً بالأمارة والقاسم بأيم الله كثير في خطب علي عليه السلام وكلامه وهو في اللغة كثير كقولهم: أرقت الماء وهرقته، وقاله قسم بالله هو يمين عند أبي حنيفة وأصحابه والقاسم هو اليمين، فكأنه قال: أحلف بالله وقد قال الله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ} وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} وذكره في القرآن كثير، قال: فإن قال: أقسم لا فعلت، ثُمَّ فعله لزمته الكفارة إن أراد القاسم بالله، وإن أراد القاسم بغيره لم تلزمه الكفارة، وذلك أن قوله: أقسم يحتمل ما قال: وليس له ظاهرٌ يدل على قسم بالله

(100/5)


فردونا الأمر فيه إلى نيته، قال أبو حنيفة: هو يمين واستدل أصحابه بقوله عز وجل: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِيْنَ}.
قيل له: يحتمل أن يكون أراد القاسم بالله، فليس فيهما يمنع مما ذكرناه وما ذكرناه في قوله: علي عهد الله وميثاقه وأقسم بالله وتالله وأيم الله وهيم الله كلها قول القسم وجميع ما ذكرناه أنَّه يمين هو قول الناصر عليه السلام، قال: وإذا حلف الحاف ثُمَّ استثنى قبل انقطاع كلامه، فله ما استثنى وإن استثنى بعد انقطاع كلامه لزمته اليمين وبطل الاستثناء، وهو القسم وقول أبي حنيفة والشافعي، ولا أحفظ فيه خلافاً إلاَّ ما يحكى عن ابن عباس أنَّه قال له أن يستثني ولو بعد سنة، وقيل: إنَّه لم يرد التحديد وإنما أراد أن طويل المدة فيه كقصيرها، أما الاستثناء فقد بينا في كتاب الطلاق والعتاق ما نذهب إليه في قول الرجل إن شاء الله فلا معنى لإعادته وهاهنا الغرض هو تبيين موضع الاستثناء وفي وجوب الكفارة دليل على بسقوط قوله؛ لأن الاستثناء بعد حين لو أجزأ لكان يستثنى ويستغني عن الكفار، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <من حلف على أمر ثُمَّ رأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خيرٌ وليكفر عن يمينه بحجة؛ لأن الاستثناء لو جاز على التراخي لكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: <ليستثن وليأت الذي هو خير إن شاء الله> والاستثناء يؤثر في الكلام للإيصال، ألا ترى أن جميع ما يؤثر كالشروط والإرادات والنيات لا يؤثر شيء منها بعد إنقطاع كلامه، فكذلك الاستثناء.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال: حلفت في كذا أو علي يمين في كذا فلم يكن حلف كان ما قاله كذباً ولم يلزمه فيه شيء، ووجهه أنَّه اخبر عن أمرٍ فإن كان ما قال على ما قال فهو صاد، وإن كان غيره فيجب أن يكون كاذباً، ولا يجب أن تلزمه الكفارة؛ لأنَّه لم يعقد اليمين وإنما أخبر أنَّه قد عقد فيجري مجرى الإقرار بأمر لم يكن أنَّه لا شيء عليه فيما بينه وبين الله تعالى.
مسألة

(100/6)


قال: ومن أكره على يمين فحلف لمكرهِ لم يلزمه الحنث إلاَّ أن يكون ظالماً في يمينه وهو قول القاسم وأحمد بن عيسى والناصر وكثير من أهل البيت عليهم السلام، وبه قال الشافعي، قال أبو حنيفة: تلزمه يمينه وإن حلف كرهاً وقد استقصينا هذا في كتاب الطلاق وأذكر هاهنا شيئاً منه على سبيل الإختصار، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِيْ الدِّيْنِ} معناه لا حكم له، وقال: {إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مِطْمَئِنٌ بِالإِيْمَانِ} فلم يجعل للكفر الواقع على سبيل الإكراه حكماً، فكذلك اليمين إذ ليست اليمين أعظم من الكفر، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه>، ويشبه الصغير والمعتوه؛ لأن عقده كلاً عقد، وأيضاً من أتيت بالزنا وهي مكرهة ومن أتى بكلمة الكفر وهو مكره في حكم من لم يأت بالزنا ومن لم يأت بكلمة الكفر، فكذلك من أتى باليمين وهو مكره فهو في حكم من لم يأت بها والعلة أنَّه مكره على ما أتى من القول مما لا يتعلق بحقوق بني آدم ويمكن أن يقاس على كلمة الكفر خصوصاً بعلة أنَّه مكره على ما أتى من القول وتشهد له البيوع والهبات وغيرها من العقود والإبراء من الحقوق؛ لأن شيئاً منها لا يقع وهو مكره فبان به صحة ما ذهبنا إليه، وقوله: إلاَّ أن يكون ظالماً، أراد إذا كان المكره حاكماً أو الممتنع من اليمين ظالماً، وقد مضى في صدر الكتاب أن النية في مثله نية المحلف.
مسألة
قال: ولو أن صبياً حلف في صغره ثُمَّ حنث في صغره أو كبره لم يلزمه الكفارة، وكذلك إن حلف بالطلاق والعتاق في حال صغره ثُمَّ حنث لم يلمه شيء، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأنَّه ممن يستيقظ، وعن المجنون لا عقود له ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم>.
مسألة

(100/7)


قال: ولو أن رجلاً حلف أن يقتل فلاناً وفلان ميت ولم يعلم به الحالف لم يلزمه شيء، قال القاسم عليه السلام: من حلف أن يزن الفيل وما أشبهه لم يلزمه شيء، وقول أبي حنيفة فيمن حلف أن قتل فلاناً وهو ميت ولا يعلم به مثل قولنا، فإن كان يعلم به حنث ولا نص لأصحابنا فيمن يحلف مع علمه بأنه ميت والصحيح عندي أنَّه لا فضل بينهما وللمسألة طريقان:
أحدهما أن هذه اليمين لم تتعلق بشيء؛ لأنها يمين على نقض بنية معه إفاتة الحياة، وليس للميت حياة يصح إفاتها فلم تتعلق اليمين على شيء منها واشبهت قول الرجل: والله ثُمَّ يسكت، أو يقول: والله قد خرج ولا يقول من خرج في أنها يمين لا متعلق لها فوجب أن لا يقع بها حنث، وقالوا على هذه الطريقة فيمن حلف ليشربن الماء الذي في هذا الكوز، وليس في الكوز ماء، وبه قال أبو حنيفة ومحمد، قال أبو يوسف إنَّه يحنث في جميعه، وهذه الطريقة فيها بعض النظر؛ لأن اليمين يصح تعلقها بها تعلقت به؛ لأنَّه حلف أن ينقض بنيه على وجهٍ تفوت معه الحياة واليمين يصح تعلقها بما يتعذر فله، وكذلك أشب الماء الذي في هذا الكوز تقديره أي أصير شارباً لما في هذا الكوز من الماء، والدليل على أنها قد تعلقت أن اليمين تتعلق بمتعلق الخبر، هذا الخبر لو تعرى عن اليمين كان كذباً ولم يصر كذباً إلاَّ لتعلقه بمتعلقه، فإذا كان كذلك فارق قوله: والله أو قد خرج؛ لأنَّه لا يدخل فيه الكذب والصدق لما لم يصح أن يتعلق بمتعلق والطريقة الثانية أنا نشبهها باليمين الغموس وعامة ما يدل على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها يدل على أن هذه اليمين لا كفارة فيها.

(100/8)


ونكتة الباب أن الغموس لم تلزم فيها الكفارة؛ لأنها وقعت والحالف حانثٌ ولم يصح أن يرى فيها أن يبرّ أو يحنث، فكل يمين وقعت والحالف حانث يجب أن يكون سبيلها سبيل الغموس في أن لا كفارة فيها ومن حلف أن يقتل ميتاً يعلم أنَّه حين حلف حانثٌ وذلك أنا نعتبر الحنث بالكذب، فكل من حلف على أمر أو خبر عنه من دون اليمين كان كاذباً، فمتى حلف عليه كان حانثاً كأن يحلف أنَّه يصعد السماء أو يحيى ميتاً أو يشرب ماء البحر كله، ألا ترى أنَّه لو أخبر عن جميع ذلك يكون كاذباً، فإذا حلف عليه يجب أن يكون حانثاً ومما يبين أنَّه حين يحلف يكون حانثاً أن من حلف أن يعتق عبده فحنثه عند الموت في آخر جر من الحياة وهي الحالة التي تحقق معها عجزه عن العتق، فإذا كان أمر الحالف معلوماً أنَّه يعجز عن فعله ما حلف عليه كان حانثاً فأشبه الغموس وأيضاً فإن الله عز وجل قسم الأيمان على ثلاثة فجعل منها قسماً هو اللغو الذي لا يؤاخذ به وجعل منها ما كسبت القلوب إثمها وجعل منها ما عقد من اليمين وجعل الكفارة في قسم واحد وهو ما عقدها وهذه اليمين مما كسبت القلوب إثمها؛ لأنَّه حلف حين حلف مع علمه بأنه كاذبٌ فلم يجب أن يدخل فيما عقدنا من الأيمان؛ لأنَّه لا يصح منا حفظها، قال الشافعي مثل قول أبي حنيفة فينم حلف أن يصعد السماء أو ما جرى مجراه أنَّه يحنث وتلزمه فيه الكفارة بناء على إجابة الكفارة في الغموس، وإذا بينا فيما بعد أنَّه لا كفارة في الغموس بأنه لا كفارة في هذه الأيمان إذ لا فرق بينه وبين الغموس، فأما ما قال القاسم من أن من حلف أن يزن الفيل فلا شيء عليه، فإنما يريد نفي الكفارة وإلا فالإثم لا زم له لاشك فيه؛ لأنَّه حلف بالكذب كمن حلف الغموس والذي يجب في هذا أن ينظر فيه فإن كان وزن الفيل مما يتعذر على القطع حتى يكون بمنزلة شرب الواحد ماء البحر أجمع أو صعوده السماء فما قاله صحيح لا كفارة فيه للوجه الذي بيناه فإن كان مما يجوز التوصل

(100/9)


إليه بإنفاق الأموال العظيمة، فيجب أن تلزم فيه الكفارة إذا مضى الوقت الذي حلف عليه ورأى القاسم عليه السلام أن ذلك مما يتعذر ولا يصح فعله منا على ما نحن عليه من مقدار قواناً وآلاتنا، فلذلك أسقط الكفارة وليس ما رآن من ذلك ببعيد.
فصل
قال أبو حنيفة ومحمد فيمن حلف ألا يكلم فلاناً حتى يأذن زيد فمات زيد قبل أن يأذن أن يمينه قد سقطت، وله أن يكلمه، قال أبو يوسف: صارت يمينه مطلقة ويحنث متى كله والأقرب على مذهب يحيى بن الحسين عليه السلام أن اليمين تسقط كما قال أبو حنيفة ومحمد، والوجه الذي اعتمد أصحابه أن هذه يمين مؤقتة؛ لأن حتى توفيت فتعلق انعقادها بآخر الوقت، فإذا أوجد آخر وقت وهو عند موت زيد واستحال وجود الإذن سقطت اليمين وهذا يضعف جداً؛ لأنَّه علق به يمينه على شرط، فإذا استحال حصول الشرط استحال أن يبر ووجب أن يحنث، كما أنَّه لو حلف أن لا يكلم زيداً حتى يسيب الغراب أو يبيض القار حنث متى كلمه والصحيح عندي في هذا أن يقال: إن العرف في الأيمان بمنزلة النطق، والعرف أن الإنسان إذا قال: لا أكلم حتى يأذن لي زيد إنَّما يريد ما دام زيد حياً يصح منه الأذن أو ترجى صحته إن عرضت حالة منعت منه، فكأنه لا قال: لا أكلمه حتى يأذن لي زيد ما دام على هذه الصفة وإن لم ينطق به فإذا زالت الصفة سقطت اليمين وهذا الوجه يمكن أن يقال: ومن حلف أن يقتل فلاناً وفلان ميت وهو لا يعلم بموته.
مسألة
قال: وإذا ردد أيمان عدة في شيء واحد ثم حنث لم تلزمه إلاَّ كفارة واحدة، وهو قول القاسم عليه السلام، قال أبو حنيفة يكفر بعدد الأيمان وأظنه قول الشافعي، والدليل على ما ذهبنا إليه قول الله تعلى بعد انقطاع ذكر الكفارة {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فجعل بظاهر الآية الكفارة الواحد كفارة الأيمان عدة.

(100/10)


فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكْمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ} وَالْمؤاخذة على الأيمان المعقودة عندكم هي مؤاخذة بالكفارة، فإذا عقد أيمان عدة فيجب أن يأخذه بكفارات عدة.
قيل له: لا يسلم أنَّه عقدٌ على الحقيقة إلى يميناً واحدة؛ لأن الثانية إذا لم تفد إلاَّ ما أفادته الأولى لا يكون لها انعقاد على أن ذلك لو كان مسلماً لم يكن له في محجة؛ لأنَّه تعالى أوجب بنظاره الآية على عقد الأيمان كفارة واحدة حين قال: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ} وأيضاً الموجب للكفارة هو الحنث والحنث هو واحد ولم يهتك إلاَّ حرمة واحدة فوجب أن لا تلزم إلاَّ كفارة واحدة؛ لأن اليمين الثانية والثالثة لم يفيد غير ما أفادته الأولى فلم يجتمع هناك حرمات بل ليس إلاَّ حرمة واحدة الأولى دليله سائر العقود؛ لان كل من عقد عقداً أوجب حكماً فتكرير ذلك العقد لا يوجب غير الحكم الأول مثل عقد الإحرام وعقد النكاح وعقد البيع وعقد الإجارة.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الموجب للكفارة هو اليمين فيجب أن تكون الكفارات بحسبها.
قيل له: عندنا أن اليمين التي انعقدت عليه إنَّما هي يمين واحدة والباقي لا حكم لها بمنزلة اللغو كما بيناه في سائر العقود، وعلى أن ذلك لو لم يكن كذلك لم يصح أن يكون الموجب للكفارة هي اليمين؛ لأن اليمين توجد ولا يجب الكفارة ولا يوجد الحنث إلاَّ وتجب الكفارة فالأولى أن يكون الموجب هو الحنث كما نقول ذلك في قتل الصيد وقتل المؤمن.
فإن قيل: ألستم تقولون أن على القارن إذا قتل صيداً جزأين فما أنكرتم بمثله في كفارة اليمين.

(100/11)


قيل له: لأن القارن هتك حرمة إحرامين مختلفين، ألا ترى أن المحرم بحجة لو عقد على نفسه إحراماً بعد إحرام لتلك الحجة بعينها ثُمَّ قتل صيداً لم يلزمه إلا جزاء واحداً ومثال ما سألتم من جزاء القران أن يحلف فيقول: إن دخلت الدار فعلي صدقة درهم وصيام يوم، فإنه يلمزه إذا حنث لزمه الأمران جميعاً؛ لأنَّه حصل عليه عقدان مختلفان والله أعلم وأحكم بالصواب.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً حلف أن لا يفعل بعض الطاعات كان له أن يفعلها فإن فعلها لزمته الكفارة وإن كانت من الواجبات لزمه أن يفعلها، فإذا فعلها لزمته الكفارة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي: وحكى عن قوم أنَّه لا كفارة، وبه قال الناصر والدليل على لزوم الكفارة فيما ذكرناه قول الله عز وجل{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ باللغو في أيمانكم} فبين أنَّه لا مؤاخذة علينا في اللغو وإنما يؤاخذ فيما عقدنا الأيمان بالكفارة ولا خلاف أن هذه الأيمان ليست من اللغو وإنها مما عقدنا الإيمان بالكفارة، فوجب فيها الكفارة بظاهر الآية وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <من حلف على أمرٍ فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه>.
فإن قيل: فقد روي من حلف بيمين على شيء، ثُمَّ رأى غيره خيراً منه فليأت فإنه كفارته.

(100/12)


قيل له: معناه كفارته في الإثم لئلا يسقط الخبر الذي ذكرناه ولئلا تسقط دلالة الآية على أن خبرنا أولى؛ لأنَّه يحظر ترك الكفارة خبرهم يبيح تركها بالحاضر أولى من المبيح وهو قياس على غيرها من الأيمان بعلة أنها يمين على أمرٍ مستقبل، فمتى دفع الحنث فيها لزمت الكفارة، وهذا أن الخبران يدلان على ما ذكرناه من أن الحنث فيما ذكرناه أولى، وقد دل على ذلك قول الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} الآية، وروي أنها نزلت في أبي بكر، وكان حلف أن لا يبر مسطحاً بشيء من إحسانه لما روي عنه في باب الإفك في حديث عائشة فنهاه الله عز وجل من الاستمرار على ما حلف عليه من ترك الإحسان إلى مسطح بقوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ..} إلى آخر الآية وأيضاً ما ذكرناه من ذلك إجماع لا خلاف فيه.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً حلف على أمر ماضٍ كاذباً وهو لا يعلم أنَّه كاذب بل يظن أنَّه صادق فلا كفارة عليه ولا إثم، وعنه لغو وإن حلف عليه وهو يعلم أنَّه كاذب فهو آثم ولا كفارة عليه ويمينه غموس وعليه التوبة الاستغفار وإن حلف على أمر مستقبل فحنث لزمته الكفارة ويمينه معقودة وهذه الجملة هي قول زيد بن علي والقاسم عليهما السلام، وبها قال أبو حنيفة وأصحابه وهو الذي حصله الناصر من مذهب نفسه وحكى عن مالك، قال الشافعي في الغموس الكفارة وحكى عنه في اللغو أنَّه على قولين.

(100/13)


قال يحيى عليه السلام في الأحكام: الأيمان ثلاث فمنهن اللغو كسب القلب وما عقدت عليه الأيمان ثُمَّ فسر ذلك على ما بيناه والأصل فيه قول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيْ أَيْمَانِكُمْ..} الآية، فبين عز وجل أن الأيمان ثلاث، فمنها اللغو الذي وعد عز وجل ألا يؤاخذنا بها ومنها ما يؤاخذنا بما كسبت قلوبنا من القصد إلى الكذب على وجه التعمد ولم يوجب فيها الكفارة ومنها اليمين المعقودة التي أوجب فيها الكفارة وهذا صريح ما ذهبنا إليه والذي يدل على أن الغموس لا كفارة فيها قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانِكُمْ} فعلق الكفارة على الأيمان التي أمرنا بحفظها ولا يصح الحفظ في الغموس؛ لأنها تقع والحالف حانث.
فإن قيل: يصح الحفظ في اليمين بتركها.
قيل له: هذا لا معنى له عند التحقيق؛ لأن الإنسان يحفظ الشيء مع حصوله قبل ضياعه، فأما قبل حصوله أو بعد ضياعه فلا معنى للحفظ هذا هو المعروف من الحفظ وأيضاً قد ثبت أنا لا نؤاخذ على اللغو في الماضي بنص الآية فدل ذلك على أن لا كفارة فيها، فكذلك الغموس؛ لأنها جميعاً على أمر ماض على أن سقوط الكفارة عن اللغو الماضي لا يخلو من أن يكون لسقوط الماثم أو لأنها في أمر ماض ولا يجوز أن يكون لسقوط المأثم؛ لأنَّ اليمين على المستقبل لا تسقط عنها الكفارة فيما يأثم فيها وما لا يأثم بل سقوط الإثم وثبوته لا يغيران حكم الكفارة فثبت أن الكفارة سقطت عنها؛ لأنها على أمر ماض فوجب أن يكون الغموس كذلك.
فإن قيل: الكفارة وجبت لحرمة اللفظ، والغموس قد شاركت المعقودة في حرمة اللفظ.
قيل له: يكون وجوب الكفارة لحرمة اللفظ؛ لان ذلك لو كان كذلك لوجب أن تلزم الكفارة في اللغو لوجود حرمة اللفظ في قول الرجل: والله وإن لم يعلقه على شيء.

(100/14)


فإن قيل: قوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} يقتضي إيجاب الكفارة في الغموس؛ لأن المؤاخذة التي تتعلق بكسب القلب إنما يكون بالقصد إلى ما لا يجوز الحلف عليه.
قيل له: الله تعالى ذكر أنَّه يؤاخذ بكسب القلب ولم يقل أن المؤاخذة بالكفارة فليس فيظاهر الآية إيجاب الكفارة ونحن نقول: إنَّه يؤاخذكم ولكن المراد به العقوبة يبين ذلك أنَّه لا ذكر فيه للكفارة وأيضاً لا خلاف أن وجوب الكفارة ترجع إلى اللفظ دون كسب القلب فلا وجه لتعلقهم بالآية وأيضاً الكفارة لا يختلف حكمها بين أن يكون الحالف آثماً في حلمه أو غير آثم فعلم أنها لم تتعلق بكسب القلب ولا يصح تعلقهم بظاهر قوله ذلك كفارة أيمانكم ذا حلفتم؛ لأن فيه ضميراً بالإجماع؛ لأن؛ لأن المراد به إذا حلفتم وحنثتم فالآية لا ظاهر لها فنقول: تأويلها إذا خلفتم ثُمَّ حنثتم وهذا لا يكون إلاَّ في المستقبل ومما يدل على أن المعقودة التي تعلقت الكفارة بها ما ذهبنا إليه أن المعقودة هي التي يصح فيها المضي عليه معقوداً أو يصح .... الغموس لا يصح فيها لا المضي على عقدها ولا حلها؛ لأنها تقع محلولة مقاربة للحنث فلا تكون يمين تحل؛ لأن حلها ليس أكثر من الحنث حتى يصير وجودها وعدمها سواء في أنها لا حرمة لها على أن ذلك لو كان ذلك كذلك كان لا كفارة فيها؛ لأن اليمين لا تبقى مع الحنث يجب أن تكون وقعت وقد هتكت حرمتها فيجب أن لا يلزم فيها الكفارة لعدم الحرمة وهذه النكتة من أقوى ما يبين هذه المسألة والله أعلم، فإذا ثبت أن الغموس لا حرمة لها يمكن أن تقاس على يمين الصبي بعلة أنَّه لا حرمة لها فوجب أن لا تلزم فيه الكفارة، ويمكن أن قاس الغموس على اللغو بثلاث علل أحدها ما مضى من أنها يمين على أمرٍ ماض فلا تجب فيها الكفارة، والثانية أنها لا تقع إلاَّ مع الحنث فلا تجب فيها الكفارة والثالث أنها تقع ولا يمكن حفظها ولا خلها ويمكن بعلة رابعة أنها تقع وحرمتها

(100/15)


بالحنث مهتوكة والله أعلم.
مسألة
قال القاسم عليه السلام فيمن قال: مالي للمسلمين إن لم أفعل، ثُمَّ لم يفعل أن عليه أن يخرج ثلث ماله إلى المساكين ويمسك باقية على نفسه وهذه المسألة تشتمل على مسألتين:
إحداهما: من حلف بجميع الله يزيله إخراج الثالث وهذه قد تكلمنا عليه في كتاب الحج بما أغنى والثاني أنَّه يلزمه الوفاء بما نذر به إن حنث، وهذا مما اختلف فيه فذهب أبو حنيفة إلى أنَّه يلزمه الوفاء بما ألزم نفسه مثل قولنا: وذهب الشافعي إلى أنَّه مخيرٌ بين أن يفيء بذلك وبين أن يلزم كفارة يمين ووجهه أن لزوم الوفاء لا خلاف فيه، وقد أوجبه قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <المؤمنون عند شروطهم>، وقوله: أوفوا بالعقود وإنما الخلاف في هل تقوم الكفارة مقامه أو لا؟ ولا يصح إثبات بدل ولا دليل عليه فوجب سقوطه.
فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وهذا ضرب من اليمين؛ ولأن الناذر أخرجه مخرج اليمين.
قيل له: ليس بيمين في الحقيقة، وإن كان الناذر أخرجه خرج اليمين، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال: واليمين على المدعي عليه لم يقل يدخل فيها هذا القبيل، فعلم أنَّه ليس بيمين في الحقيقة، فلا يجب أن يحمل ظاهر الآية عليه وأيضاً لا خلاف أن الكفارة لا مدخل لها في الأيمان بالطلاق والعتاق، فكذلك في الصدقات والحج والصيام، والعلة أنها أيمانٌ بغير الله ولا خلاف أن الكفارة لا يدخلها في قول الرجل أن شفى الله مريضي فلله علي صدقة درهم أو صيام يوم كذلك إن قال: إن دخلت الدار والمعنى أن كل واحد منه ما قربة معلقة بشرط فمتى حصل الشرط وجب القربة ولم يكن للكفارة فيه مدخل.

(100/16)


فإن قيل: قد أخذ ذلك بشيئين أحدهما من النذر والآخر من اليمين فليس من قصره على أحدهما بأولى ممن قصره على الآخر فوجب أن يخيره بينهما بين أن يجعله نذراً اقتضاء وبين أن يجعله يميناً فيكفر.
قيل: قولك ليس من قصره على أحدهما بأولى من قصره على الآخر خطأ وذلك أن من قصره على النذر فقد قصره على أمر أجمع المسلمون على صحته؛ لأنَّه لا خلاف في أنَّه لو أجراه مجرى النذر ووفا به أجزاه وصح منه ودلت عليه أدلة الأثر والنظر على ما بيناه، وليس كذلك من قصره على اليمين، فإنه يكون قاصراً به على أمر لا دليل عليه، فكيف يستوي حكمهما وأيضاً الاحتياط يوجب ما ذهبنا إليه وأيضاً الحظر يشهد لنا؛ لأنا نحظر العدول عن الوفاء ويبيحون العدول عنه إلى الكفارة.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال: له علي ثلاثون أو عشرون نذراً أو أقل أو أكثر ولم يسم شيئاً معلوماً وجب عليه أن يكفر عن كل نذر كفارة يمين وبه قال أبو حنيفة، والأصل فيهما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين فأوجب فيه كفارة يمين؛ لأنَّه نذر لم يتعلق بالقربة، وروي أيضاً عن عقبة بن عامر قال: أشهد أني سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <من نذر نذراً لم يسمه فعليه كفارة يمين>، وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رواه محمد بن منصور، وهذا نص فيما قلنا هو أيضاً قد أوجب على نفسه لله عز وجل أمراً لم يسمه ولم يقل أحد فيه بشيء سوى كفارة يمين فقلنا به؛ لأنا لو لم نقل به كنا أغلينا الإيجاب وقد حصل.
مسألة
قال القاسم: إذا اجتمع رجلان على قتل رجل خطأ لزم كل واحد منهما كفارة عن نفسه، وذلك أن كل واحد منهما قاتل فالكفارة لزمته لكونه قاتلاً.
فإن قيل: فهلا قلتم أن على كل واحد دية كاملة.

(100/17)


قلنا: لأن الدية في مقابلة الدم والدم دم واحد والكفارة ليست بعوض في مقابلة عن الدم والكفارة الجناية، فإذا ثبتت الجناية في من كل واحد منهما لزمته في نفسه كفارة كما قلنا في المحرمين إذا اشتركا في قتل صيد أن على كل واحد منهما جزاءاً كاملاً؛ لأن الجزاء ليس في مقابلة الصيد، ولأنما هو في مقابلة الجناية، ألا ترى أن الصيد لو كان ملكاً لإنسان لزمهما معاً لمالكه قيمة واحدة؛ لأن القيمة عوض للصيد وفي مقابلته وهكذا نقول في السراق إذا اجتمعوا على سرقة مال كان على الجميع ضمان واحد وكل واحد منهم استحق القطع.
مسألة

(100/18)


قال: ويجب الكفارة على كل من قتل مسلماً أو ذمياً خطأ أو عمداً أيجاب إيجاب الكفارة في قتل العمد نص عليه في المنتخب ودل كلامه في الأحكام على أن لا شيء على العامد غير القود أو الدية إلاَّ أن نصه أولى أن يكون قولاً له من دلالة كلامه، وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه، وقال الشافعي: عليه الكفارة، قال أيده الله: والأصح عندي إيجاب الكفارة على ما نص عليه في المنتخب، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٌ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيْثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ} فلم يشترط في هذين أن يكون القتل خطأ وأوجب الكفارة، فاقتضى حكم العموم أن تجب الكفارة في قتلهما خطأ كان أو عمداً، ولا يمكن أن قال: إن صدر الآية لما كان خاصاً وجب أن يكون وسطها وعجزها كذلك؛ لأنَّه يمتنع أن يكون الخصر عاماً والعجز خاصاً والصدر خاصاً والعجز عاماً، ألا ترى أنَّه خص المؤمن في الأول والثاني وفي الثلث عم الذمي والملي بقوله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيْثَاقٌ} وأيضاً روي عن ابن الأسقع قال: آتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <اعتقوا عنه رقبة يعتق الله عنه بكل عضو منها عضواً من النار>، وإيجاب النار يكون في العمد من القتل ويدل على ذلك أن العامة قد شارك المخطئ في الجناية وزاد العمد فازدادت الجناية، ولا يجوز أن يكون عظم الجناية سبباً للتخفيف توجب أن لا يكون العامد أحسن حالاً من المخطئ، ولا فصل بينهما إلاَّ العمد فقط، الذي هو سبب لتعظيم الجناية ثُمَّ الأصول كلها شاهدة لما قلنا، ألا ترى أن من لزمته الفدية لحق الإمام معه لعذر كان من حلف على وجه يأثم بها أولى، وكذلك من لزمته قضاء صلاة

(100/19)


فاتته ناسياً أو ناعياً كان من تركها عامداً بذلك أولى وهكذا قضاء الصوم، فإذا استوى العامد والمخطئ في قتل الصيد مع الإحرام في باب الجزاء كان قاتل الآدمي بذلك أولى؛ لأنَّه أراق دماً محقوناً على التأبيد، فوجب أن تلزمه الكفارة قياساً عليه لو قتله خطأ، وأيضاً هو دم آدمي لا بد فيه من عوض، فوجب أن تلزم فيه الكفارة قياساً عليه لو قتله خطأ وأيضاً هو دم آدمي لا بد فيه من عوض فوجب أن تلزم فيه الكفارة دليله الخطأ من القتل.
فإن قيل: المنصوص لا يقاس على المنصوص عليه، وقد نص الله على حكم العامد، وكذلك نص على حكم المخطئ فلا وجه لقياس أحدهما على صاحبه.
قيل له: إن أردت أن الحكم الذي ورد النص فيه لا يقاس على حكم آخر ورد النص فيه فهو صحيح، وإن أردت أن المنصوص عليه في جملة من أحكامه إذا كان له حكم آخر لم يرد فيه النص لا يجوز أن يقاس على منصوص آخر ورد النص في جملة أحكامه، وفي ذلك الحكم بعينه، فهذا غير مسلم والكفارة أمر ورد النص بها في حكم المخطئ ولم يجر حكمها في حكم العامد، فلا يمتنع أن نقيسه عليه في هذا الحكم؛ إذ النص تناوله في أحد الأصلين ولم يتناوله في الأصل الثاني، فأما المنع في ذلك فهو وأن نقيس السلم على بيع العين فنقول: لا يصح السلم إلاَّ أن يكون المسلم فيه في ملك المسلم إليه كالبيع؛ لأن كل واحد من قد ثبت من طريق النص في كل واحد من الأصلين، وإن نقيس الصرف على سائر البيوع فيبطل التأجيل في سائر البيوع وأن يصححه في الصرف قياساً لبعضه على بعض، فأما على الوجه الذي قدمناه فلا يمتنع.
فإن قيل: لو جاز ذلك جاز أن يقاس التيمم على الوضوء، فيوجب تيمم الرأس والرجلين.

(100/20)


قيل له: ليس الامتناع من هذا الوجه الذي ذكرتم، بل لأن المسلمين أجمعوا على ترك القياس فيه لما مر عرفوا من حكم التيمم وسمعوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويوضح ذلك أن هاهنا كثيراً من القياس يصح في نفسه، لكن المسلمين لما أجمعوا على تركه تركناه وسبب وجوه الترك تكثر وتختلف وعلى هذا يجب أن يجري الكلام إن قالوا: لا يجوز قياس السارق على قاطع الطريق في قطع الرجل، وما جرى هذا المجرى من المسائل وحكى عن أبي حنيفة أنَّه قال: إذا قتل الأب أبيه عامداً لزمته الكفار، وهذا يعتبر من عامة ما تعلقوا به، ويكون أصلاً يصح لنا القياس عليه، وأما الذمي فلا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة والشافعي في أن على قاتله الكفارة مثل ما على قاتل المسلم، وحكى عن قوم أنهم نفوها وعموم قوله، فإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق يحجهم؛ لأنَّه يجب ذلك بأن يكون على أي وجه كان عمداً أو نسياناً وكثيرٌ من القياس الذي ذكرناه في العامد يصح أن يذكرها هنا، ويقاس على المسلم نحو قولنا هو محقون الدم على التأبيد ولا بد له من عوض، وأنه أعلم وأحكم بالصواب.

(100/21)


باب القول في كفارة اليمين
كفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين من فقراء المسلمين ومساكينهم الذين توضع فيهم زكوات المسلمين وأعشارهم دون فقراء أهل الذمة أو كسوتهم أو تحرير رقبة هذه الجملة لا خلاف فيها بيننا وبين أبي حنيفة وأصحابه والشافعي ولا أحفظ فيه أيضاً عن عرفهم خلافاً إلاَّ في موضع واحد وهو جواز صرفها إلى فقراء أهل المذهب، فإن أبا حنيفة وأصحابه أجازوه ومنع زيد بن علي عليهما السلام من ذلك، وكذلك الشافعي منع منه، والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنِ} ولا خلاف بين المسلمين أن المراد بالفقراء والمساكين في هذه الآية فقراء المسلمين ومساكينهم والألف واللام الداخلان في الصدقات هما للجنس، فكأنه قال عز وجل: جميع الصدقات لفقراء المسلمين ومساكينهم، فلم يجز أن يصرف شيء من الصدقات إلى غيرهم.
فإن قيل: فهل تنكرون جواز صرف الصدقات المتطوع بها إلى أهل الذمة.
قيل له: لا تنكر ذلك، وإن كانت اقتضت المنع من ذلك لكن خصصنا الآية لوجوه ليس هذا موضع ذكرها ويدل على ذلك أيضاً قول الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولُهُ}، والبذل والإعطاء من المودة فلا يجوز منه إلاَّ ما قام دليله ويدل على ذلك قوله عليه السلام: أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائم وأردها في فقرائكم.
فإن قيل: وهذا مما لا نؤمر بأخذه.
قيل له: ذلك غير مسلم، فإن الإمام يأخذ كل ويجب على المسلم إذا امتنع من أدائه ونقيسها على الزكاة والعشور فنقول: كل ما وجب على المسلم إذا امتنع من أدائه قد أجمعنا على أنَّه لا يجوز أن يدفع إلى أهل الذمة شيء من الزكاة والعشور، فكذلك صدقات الكفارات والعلة أنها صدقة واجبة وأيضاً قد أجمعنا أن هذه الصدقات لا يجوز دفعها إلى الحربي، فكذلك إلى الذمي.

(101/1)


فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيْناً وَيَتِيْماً وَأَسِيْراً} والأسير في أيدي المسلمين لم يكن يومئذ إلاَّ كافراً.
قيل له: يجوز أن يكون المراد به الإطعام على سبيل التطوع، ونحن لا ننكر ذلك ويدل على صحة هذا التأويل أن الأسير إذ ذاك لم يكن ذمياً ولم يكن إلاَّ حربياً، ولا خلاف أنَّه لا يدفع إلى الحربي إلاَّ ما يتطوع به.
فإن قيل: روي أن الناس يجنبوا دفع الصدقة إلى غير أهل دينهم، فأنزل الله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <تصدقوا على أهل الأديان>.
قيل له: مضاه التطوع بالأدلة التي تقدمت.
فإن قيل: نحن نقيسها على صدقة التطوع بعلة أن أخذها ليس إلى الإمام لم نسلم لهم العلة ومعنا الحظر والاحتياط.
مسألة

(101/2)


والمكفر بالخيار بين هذه الكفارات الثلاث يفعل أيها شاء والكسوة أفضل من الإطعام والعتق أفضل من الكسوة فمن لم يجد شيئاً من ذلك فعليه أن يصوم ثلاثة أيام متتابعات لا يفرق بينه من، وهذه الجملة لا خلاف فيها إلاَّ في موضع واحد وهو التتابع في الصيام، فإن الشافعي جوزه غير متتابع في أحد قوليه، وقال أبو حنيفة: لا بد من التتابع مثل قولنا، وهو قول زيد بن علي عليه السلام، والأصل في ذلك قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ..} الآية ففصل بين الكفارات الثلاث بالواو في الأمر موضوع عند العرب للخير لا خلاف فيه بينهم ولا إشكال فدل ذلك على أن المكفر فيها بالخيار، وأما الصيام فلا يجوز إلاَّ مع ضرورة الفقر؛ لأنَّه عز وجل قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} وقلنا إن العتق أفضلها؛ لأنَّه أعلاها ثُمَّ الكسوة؛ لأنها دونه، ثُمَّ الإطعام؛ لأنَّه دونها، وجميع ذلك لا خلاف فيه، فأما تتابع الصوم فالأصل فيه قراءة عبد الله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مَتَتَابِعَاتٍ} وقد قيل أن قراءته كانت مشهورة مستفيضة في تلك الأيام، وهذه القراءة وإن لم يبلغ شهرتها واستفاضتها ما نجعلها تلاوة وزيادة في القرآن، إنها تجري مجرى خبر الواحد وتوجب العمل، وإن لم توجب العلم فيجب الانتهاء إلى العمل بموجبها ومن ريق النظر هو كفارة فيها فأشبه صوم الظهار، وإن شئت قلت: هو كفارة لفظ، فأشبه صوم الظهار، وأيضاً وجدنا صيام الكفارات وما جرى مجراها على ضربين، ضرب هو مرتب على غيره فلا بد فيه من التتابع أو التتابع التفريق، فلا تخيير فيه بين التفريق والتتابع، وذلك كصيام المتمتع الذي هو بدل الهدي ومرتب عليه، ألا ترى أنَّه يجب فيه التفريق، ولا يجوز فيه التتابع؛ لأن ثلاثة منها في الحج وسبعة إذا رجعتم، وصم الظهار وصوم كفارة القتل، ألا ترى أنَّه يجب فيه التتابع؛ إذ هو مرتبان على العتق، وضرب لا ترتيب فيه

(101/3)


فلا يجب فيه التتابع ولا التفريق كصوم جزاء الصيد وفدية الأذاء ثُمَّ وجدنا صيام كفارة اليمين مرتباً على العتق والكسوة والإطعام، قلنا: يجب فيه التفريق أو التتابع فلما أجمعوا على أن التفريق فيه غير واجب علمنا أن التتابع فيه واجب.
مسألة
ومن أراد الإطعام أطعم عشرة مساكين غداهم وعشاهم، ويكون ذلك نصف صاع من دقيق أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير مما يأكله هو وأهله من الذرة أو غيرها ويأدمهم بأوسط الإدام، ويجب أن يكون المراد بقوله نصف صاع من دقيق البر؛ لأنَّه لا يجوز أن يوجب صاعاً من الشعير ونصف صاع من دقيق، وقال أبو حنيفة نصف صاعٍ من بر أو صاع من شعير أو تمر وهو قريب من قولنا إلاَّ في مقدار الصاع، ففيه بيننا وبينه خلاف، وقد مضى ذكره في زكاة والفطرة، قال الشافعي: يجري مدٌ، والأصل في هذا حديث أوس بن الصامت حين ظاهر من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعانه بعرقين من تمر وأعانته هي بعرق آخر، وذلك ستون صاعاًن فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تصدق به، وقال: اتق الله وارجع إلى زوجتك، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتصدق بستين صاعاً من تمر على ستين مسكيناً ثبت أن لكل مسكين صاعاً من تمر.
فإن قيل: فقد روي في من أفطر في شهر رمضان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعانه بخمسة عشر صاعاً من تمر، وذلك يكون لكل مسكين مد.

(101/4)


قيل له: كفارة الصوم عندنا ليست بواجبة بل مستحبة والمستحب يجوز أن يعطى فيه ما يتسهل على أنها لو ثبت وجوبها لم يكن في ذلك دليل على أنَّه ذلك جميع الواجب إذ جاز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعانه بما حضر على أن يكون الباقي في ذمته وفي الخبر ما يدل على أن ذلك لم يكن واجباً وهو أنَّه لما أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتصدق بذلك، قال: علي أحوج مني ومن أهل بيتي، قال: فكله مع أهل بيتك وصم يوماً مكانه واستغفر الله، ويدل على ذلك ما روي من حديث كعب بن عجزة حين أمره أن يحلق رأسه أنسك نسيكة أو صام ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة وفي بعضها أطعم فرقاً في ستة مساكين وذلك لكل مسكين نصف صاع، وروي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: يغذيهم ويعشيهم نصف صاعٍ من بر أو سويق أو دقيق أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، وقلنا أنَّه يجوز أن يطعم من غير ذلك مما يأكله ووقاية من الذرة وغيرها؛ لأن الله عز وجل قال: {مَنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيْكُمْ}، فأشار إلى ما نطعمه أهلنا وهذا التقدير كاف للطعام على جاري العادة في الأكل والله أعلم وأحكم.
مسألة

(101/5)


ومن أراد الكسوة كسى عشرة مساكين كسوة سابغة مثل قميص سابغ أو ملحفة سابغة أو كساء سابغ، ولا تجزي عمامة وحدها ولا سراويل وحده، وبه قال أبو حنيفة: وحكى عنه إجازة السراويل وحده، قال أبو بكر: الصَّحيح أنَّه لا يجزي، قال الشافعي: يجزي من الكسوة سراويل أو عمامة؛ الأصل فيه أن الكسوة هي التي يكون الإنسان يلبسها مكتسياً على الإطلاق، وذلك لا يكون إلاَّ ما يكسوا عامة بدنه، وقد علمنا أن ما ذكرناه إذا لبسه الإنسان قيل أنَّه إكتسى، فأما السراويل وحده والعمامة وحدها، فإن لابس كل واحد منهما لا يسمى مكتسياً ولا خلاف أنَّه لا يجري فيه جورب ولا خف ولا قلنسوة، فكذلك السراويل والعمامة والعلة أن كل واحد من ذلك لا يستر إلاَّ الأقل من بدنه، وإن اسم المكتسي لا يتناوله على الإطلاق على أن من أعطى غيره سراويل أو عمامة لا يقال أنَّه كساه كما لا يقال ذلك في الخف والجورب، فلذلك قلنا أنهما لا يجزيان.
مسألة

(101/6)


قال: ومن أراد العتق أعتق رقبة ليست بكافرة صغيرة أو كبيرة لا بأس أن يكون مكفوفاً أو أعرج أو أشل أو أخرس أو مجنوناً فإن كان مسلماً سالماً فهو أفضل، فأما في كفارة القتل فلا يجوز إلاَّ صحيح بالغ، وأما في النذور فهو ما يوجبه الإنسان على نفسه، قال أبو حنيفة يجزي الكافر ولا يجزي المأووف، وله في ذلك تفاصيل تطول، قال الشافعي: لا يجزي إلاَّ المؤمن ولا يجزي من المأووف ما تبين آفته حتى يصير بالعمل ضرراً بيناً، والأصل في هذا أن الله عز وجل عمَّ لو يخص فوجب أن يجزي كلما يسمى به وكل ما ذكرنا يسمى رقبة فوجب أن يجزي، فإن قاسه الشافعي على رقبة القتل بعلة أنها رقبة وجبت في كفارة، فوجب أن تكون مؤمنة وقياسهم معارض بأن نقيسها على الكسوة بعلة أن كل واحد منهما كفارة يمين بما يجوز فيه الإعارة والإجازة، فوجب أن يجزي منها ما يحصل الاسم من اعتبار صفاته وذكرنا الإعارة لئلا يلزم الإطعام؛ لأنَّه مما يقل الانتفاع به، ومتى لم تراع صفاته زال الانتفاع أو صار يسيراً على أن في تخليص من ذكرنا من المأووفين من الرق مثوبة عظيمة فيجب أن يجزي، فأما الكافر فإنه منع منه ؛ لأن من أصله ألا قربة في عتق الكافر والكفارة تتعلق بالقربة، فأما في القتل فلا يجزي عنده إلاَّ صحيح بالغ مؤمن؛ لأن الله سبحانه غلظ الأمر فيه، ولم يطلق الرقبة بل اشترط فيها الإيمان واشترط البلوغ؛ لأن الأيمان لا يتم حقيقة إلاَّ مع البلوغ وأيضاً كونه غير بالغ نقصه في السن كما أن كون غير مؤمن نقص في الدين، وكما أن كون خأووفاً نقص في الجسم، فلما وجب أن يراعى النقص والتمام في الدين وجب أن يراعى في الجنس والسن؛ لأنا أجمع من أعظم صفاته، قال: والأفضل في الجميع أن يكون بالغاً صحيحاً مؤمناً؛ لأن ذلك أعظم ثمناً؛ ولأنه لا خلاف فيه، وأما النذر فلا خلاف أنَّه يحسب ما أوجبه إن أطلق فهو كما قلنا في كفارة اليمين والظهار، وإن نوى أمراً فله نيته.
مسألة

(101/7)


قال: ولا بأس أن يعتق ولد الزنا في الكفارات كلها، ولا يجوز عتق المكاتبة ولا ولدها، ولا عتق أم الولد وأكره عتق المدبر في القتل، ولا بأس به في الظهار واليمين، ولد الزنا، فليس يؤثر في شيء من أحواله لا دينه ولا عمله ولا سنة ولا جسمه، فوجب أن يجزي كما يجزي من هو لرشده والمكاتبة فقد بطل تصرف مولاها فيها وحصل لها كثير من أحكام الحرية بالكتابة، فلم تجز، وكذلك ولدها؛ لأنَّه في حكمها وأم الولد فقد استحقت العتق على التحقيق ن حيث لا يجوز أن يرد ما يبطل استحقاقها عليها، فأشبهت الحر والعبد بين الشريكين في أن ملكه غير تام، وأما المدبر فإنه وإن كان قد استحق العتق فإنه استحقه عندنا على وجه يجوز عليه البطلان ويصف مولاه باقي ملته، فلا هو في حكم المكاتب ولا في حكم أم الولد، فوجب أن يجزي وكرهه في كفارة القتل؛ لأن الأمر فيها مغلظ وليست كسائر الكفارات.
مسألة

(101/8)


قال القاسم عليه السلام: ولا بأس أن يخرج إلى الفقراء في كفارة اليمين قيمة الطعام بدل الطعام وقيمة الكسوة بدل الكسوة وأجاز أبو حنيفة وأصحابه القيمة في هذا وفي الزكاة والعشور ومنع الشافعي من القيمة في الجميع، وأجاز الشافعي أصحابنا القيمة في هذا دون الزكاة والعشور، ووجه ما ذهبنا إليه أن الله تعالى أمر بالإطعام والكسوة وقد علمنا أن من أعطى غير قيمة الطعام فيطعم قيل له أطعم، وكذلك من أعطاه قيمة الكسوة ليكتسي يقال إنَّه كساه ويقال: فلان في إطعام فلان وفي كسوته إذا كان طعامه وكسوته ما يصل إليه من جهته، وإن كان الواصل إلهي ورقاص أو غير ذلك من القيم، ألا ترى أن رجلاً لو دفع مالاً له إلى رجل، وقال: يجب أن يكسو هذا غلامي ويطعمه جاز أن يوليه شراء طعامهم وكسوته، وإن يدفع الورق إليه، ألا ترى أن الكسوة لو حملت على حقيقة اللغة دون العرف كان يجب أن لا يجزي حتى يكسوه بيده، وكذلك الإطعام، فلما لم يجب ذلك علم أن لا طعام، والكسوة لا يجب التمليك، فأما العشور والزكوات فلا يشبه هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمى الواجب ونص عليه، فقال: <في أربعين شاة شاه، وفي مأتي درهم خمسة دراهم>، وقال: <أعطوا الحب من الحب> وغير ذلك مما يطول شرحه، فعين حقوق الفقراء فلم يجز العدول عنها، وليس كذلك الإطعام والكسوة في الكفارة لما بيناه.
فإن قيل: <فيجوز أن يدفع نصف صاع من تعمر جيد وصاع من تمر رديء.
قيل له: لا يجوز ذلك غير ما ورد به النص، لكنا نجوز نصف صاع من الأرز عن صاع من شعير أو ثوباً عن صاع أو صاعين إذا كانت قيمة ذلك ونوى المعطي ما ذكرناه.
مسألة

(101/9)


قال: ومن لم يجد عشرة مساكين لم يجز له أن يرد، وعلى من وجده منهم الإطعام، وكذلك القول في كفارة الظهار لا بد فيها من إطعام ستين مسكيناً لمن أراد الإطعام كما لم يكن بد في كفارة اليمين من إطعام عشرة مساكين ولم يجز فيها الترديد، قال زيد بن علي: يجزيه إلى مسكين واحد معناه هل يجزيه، وقال أبو حنيفة: ذلك جائز، وبه قال الناصر، وقال الشافعي وزفر مثل قولنا، وقال محمد مثل قول أبي حنيفة واختلفت الرواية عن أبي يوسف، والأصل فيه قول الله عز وجل: {إِطْعَامُ عَشَرَةَ مَسَاكِيْنَ} فنص على عد المساكين فلم يجز الاقتصار على ما دونه، وكذلك قال في الظهار: {فَإِطْعَامُ سِتِّيْنَ مِسْكِيْناً} فنص على العدد في حديث سلمة بن صخر أنَّه حين واقع أهله في شهر رمضان أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان مظاهراً، فذكر إلى أن ذكر عجزه عن الرقبة وعن صيام شهرين فقال صلى الله عليه وآله وسلم فأطعم وسقاً من تمر ستين مسكيناً ثُمَّ ذكر فقره، فقال: انطلق إلى صاحب صدقة بني رزيق فيدفعها إليك فأطعم ستينً مسكيناً وسقاً من تمر، وكل أنت وعيالك بقيتها، وفي حديث خولة بنت مالك حين ظاهر منها زوجها وقصت حالها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر بعتق رقبة، فقالت: لا يجد، قال فيصوم شهرين متتابعين، قالت: شيخ كبير، قال: فليطعم ستين مسكيناً إلى أن قال: فإن أعينه بعرقٍ من تمر، فقالت: وأنا أعنيه بعرق آخر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم أحسنت اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكيناً وأرجعي إلى ابن عمك، فهذه الأخبار دلت على أن الواجب أن يطعم ستين مسكيناً لكل مسكين صاعاً من تمر ومن أطعم مسكيناً واحداً في ستين يوماً لم يكن أطعم ستين مسكيناً يبين ذلك أن رجلاً لو قال لوكيله: فرق هذا المال على عشرة مساكين لم يجز له أن يضعه في مسكين واحد في عشرة أيام، فكذلك ما اختلفنا فيه والعلة أنَّه اشترط عليه عدد المساكين على أنَّه لا يخلو من أن يكون

(101/10)


المراد به إيصال القدر إلى المساكين، فيجب أو يكون المراد مع القدر عدد المساكين، فإن كان المراد إيصال القدر إلى المساكين فيجب أن يكون دفع ذلك المقدار إلى مسكين أو مسكينين أو ثلاثة دفعة واحدة، ألا ترى أن الزكوات والعشور لما لم يكن عدد الفقراء دونها معتبراً جاز أن يدفعه إلى الواحد والاثنين والثلاثة دفعة واحدة، فلا أجمعوا أن ذلك يا يجوز في الكفارات؛ لأن أبا حنيفة وإن أجاز دفعها إلى واحد إنَّما يجيز دفعه إليه في عشرة أيام وفي الظهار في ستين يوماً ثبت أن حال الكفارة مخالف لحال الزكوات والعشور في أن يعلق المراد بمقدار المدفوع، وإذا بطل ذلك ثبت أن المراد يتعلق مع المقدار بعدد الفقراء، فصح ما ذهبنا إليه من أنَّه لا بد من استيفاء العدد.
فإن قيل: فقد أمر بسبع حصيات رمية واحدة لم يجز كما أنَّه لو أطعم ستين مسكيناً في وقت واحد أجزى.
فإن قيل: فقد سمى الله عز وجل هلالاً واحداً أهلة لتكرار الأوقات فيه.
قيل له: ذلك جائز إذا أقام دليله وها هنا لم يقم دليل على ما قلتم بل قام على خلاف ذلك، فلا وجه لصرف الآية والآثار عن ظواهرها.
فإن قيل: إذا جاز ترديد صاع واحد على عشرة مساكين بأن يتملك كالواحد منهم بعد ما يفع فهلا جاز أن يرد عشرة أصواع على مساكين واحد.
قيل له: لأنا قد بينا أن عدد المساكين معتبر مع مقدار مع يخرج من ملكة فيجب أن يخرج من ملكه عشرة أصواع على عشرة مساكين، وقد فرق بينهما.
فإن قيل: إن الصاع لا حرمة له ولا حق، فلم يكن لعدده معتبر، وكذلك في الحصيات.

(101/11)


قيل له: لا حق للحصاة ولا حرمة، فلم يكن تعددها معتبر والمساكين لكل واحد نهم حق فوجب أن يعتبر إعدادهم وأيضاً لا خلاف لو أعطى مسكيناً واحداً في يوم واحد ستين صاعاً عن كفارة الظهار أو عشرة أصواع عن كفارة اليمين لم يجز، وكذلك إذا أعطي في ستين يوماً أو عشرة أيام، والعلة أن المعطي مسكين واحد، ويقال: إنَّه لم يستوف عدد المساكين، الدليل على هذا أنَّه لو استوفى عدد المساكين والنص ورد في استيفاء عدد المساكين دون الأيام، فلا يجوز أن يجعل بدل فرض ثابت ما لا دليل على أنَّه بدل له.
فإن قيل: إذا أعطينا المسكين اليوم الثاني كنا عيّنا الباقي في بعض المساكين.
قيل له: ذلك لا يتعين في البعض، وإنما هو لإخراج واحد من الجملة؛ لأنا إذا قلنا لا ندفع إلى هذا الواحد وادفع إلى من شئت لا يكون ذلك تعيناً إليه، هذا يلزمهم في الأول إذا دفع صاعاً إلى مسكين؛ لأن عندهم أن التكرير يجوز عليه ولم يكن ذلك تعيينا، قال: ومن تصدق على بعض الفقراء بذلك ولم يجد تمام العدد، كان عليه أن ينتظر حتى يجد وله أن يبعثها إلى غير بلده الذي هو فيه، وذلك لما بيناه من أنه لا بد من اعتبار العدد في الفقراء، فلا مضى لإعادته، قال: ولا يستحب أن يدفع كفارات أيمان عدة إلى عشرة مساكين، إلاَّ أن لا يوجد غيرهم، وذلك ليشبعوا وليصيب غيرهم النفع الذي أصابهم، وليكون أبعد من الحالة، وكما أنا لا نحب أن نقصر بالزكاة والعشر على الاثنين والثلاثة مع حضور غيرهم، فكذلك في الكفارات للوجوه التي بيناها.
مسألة
قال: ويستحب لمن أراد الإطعام أن يجمع الفقراء في منزله ليأكلوا فيه إن أمكن أو يبعث إليهم الطعام مأدوماً مفروعاً، وقد أجازه أبو حنيفة وحكى عن الشافعي إن استدعاهم وإطعامهم لا يجوز؛ لأنَّه ليس بتلك لهم ووجه أجازه ذلك أن الله تعالى قال: {إِطْعَامُ عَشَرَةَ مَسَاكِيْنَ} ومن استدعاهم وأطعمهم فقد امتثل الظاهر؛ إذ ليس في الظاهر أنَّه يجب تمليكهم.

(101/12)


فإن قيل: فهلا جوزتم في الكسوة ألا يكن على وجه التمليك.
قيل له: لأن الكسوة ليس لها غاية تنتهي غليها، ولو لم يملكه صح رجوعه فيها، وليس كذلك الطعام؛ لأنَّه إذا أكله فقد خرج عن مالك الملك ولم يصح الرجوع فيه فيجري مجرى التمليك ووجه الاستحباب فيه أنَّه أشد ملامة لظاهر الآية، وما روي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: لئن أخرج إلى سوق فأشتري صاعاً من طعام وذراعاً من لحم ثُمَّ أدعو نفراً من إخواني أحب إلى من أعتق رقبة؛ ولأنه قد يكون قد كفى الفقراء مؤنة الصنعة فيصل إليهم ما يصل وهو أهنى لهم.
مسألة
قال: ولا يجزي العبد في كفارة يمينه إلاَّ صيام ثلاثة أيام متتابعة، ولا في كفارة القتل والظهار إلاَّ صيام شهرين متتابعين، وذلك أنَّه لا ملك له فهو أبداً غير واجد، فوجب أن يكن حكمه الصوم ولا أعرف في هذا خلافاً بين من لم يجعل للعبد ملكاً ومن خالف في هذا كان الكلام بيننا وبين ه في ملك العبد.
مسألة

(101/13)


قال: ولا تجزي الكفارة إلاَّ بعد الحنث، وبه قال أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي يجزي قبل الحنث، وفصل بين الكفارات الثلا وبين الصوم، فلم يجز الصوم وأجاز البواقي والدليل على صحته ما ذهبنا إليَّ قول الله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ} فبين عز وجل أنَّه يؤاخذنا بها وبين أن المؤاخذة هي المؤاخذة بالكفارة، فدلت الآية على وجوب الكفارة، فليس يخلوا الوجوب من أن يكون متعلقاً باليمين أو بالحنث أو بهما جميعاً، فلو كان متعلقاً باليمين لوجبت الكفارة عقيب اللفظ باليمين، وهذا فاسدٌ بالإجماع، فلم يبق إلاَّ أنهما تتعلق بالحنث منفرداً أو مع اليمين وأيهما كان فقد وجب أن يكون للآية ضمير كأنه عز وجل قال: فكفارته إذا حنثتم إطعام عشرة مساكين، كما أن التقدير في قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ} وفي قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أْوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ}، فحلق ففدية من صيام وإذا ثبت ذلك فاته، قال عز وجل من قائل: {فَكَفَّارَتُهُ ـ إِذا حنثتم ـ إِطْعَامُ عَشَرَةَ مَسَاكِيْنَ}، فأوجب الكفارة بعد الحنث، فإذا ثبت ذلك فسواء تقدمت الكفارة على الحنث أو لم تقدم فهي واجبة بعد الحنث، فصح ما ذهبنا إليه، وأيضاً روي من حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير، ثُمَّ ليكفر عن يمينه، وثم توجب الترتيب في أصل موضوعه ما لم يقتض الدليل على خلاف ذلك فدل ظاهره على أن الكفارة تلزمه متى حنث سواء تقدمته كفارة أخرى أو لم تتقدم.
فإن قيل: فقد روي <فليكفر عن يمينه ثُمَّ ليأت الذي هو خير>.

(101/14)


قيل له: يجوز أن يقوم الدليل على أن ثُمَّ لا توجب الترتيب يبين ذلك قول الله عز وجل ثُمَّ كان من الذين آمنوا ولا خلاف أنَّه لم يرد الترتيب وقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} تماماً إلاَّ أن هذا يكون فيه خلاف الحقيقة ويكون ضرباً من المجاز، فلا بد على هذا من أحد الأمرين، إما أن يجعل ثُمَّ فينا مجازاً أو في خبرهم أو فيهما جميعاً؛ إذ لا يجوز أن يجعلها في الموضعين حقيقة؛ لأن ذلك يؤدي إلى التناقض؛ ولأن ذلك يؤدي إلى وجوب وقوع كل واحد منهما بعد صاحبه، فهذا يستحيل عقلاً فكيف سمعاً ولا يجوز أن نجعلها مجازاً في الموضعين؛ إذاً لا ضرورة تدعوا إلى ذلك؛ لأن الحقيقة إنَّما يجعل مجازاً إذا اضطرت الدلالة إليه فلا يجوز أن يكون أن يكون حقيقة في خبرهم؛ لأنَّه يوجب تقدم الكفارة على الحنث، وهذا باطل بالإجماع، فلم يبق إلا أن يكون مجازاً فيخبرهم حقيقة في خبرنا فإذا ثبت أنَّه مجازٌ في خبرهم سقط الترتيب عن خبرهم ، وثبت في خبرنا، فصح ما ذهبنا إليه، وعلى هذا يجري الكلام يما روي عن الخبرين بالواو؛ لأن الواو عندنا توجب الترتيب إذا جاء في الشرع، وإن لم يوجب في أصل اللغة، ولا خلاف بيننا وبينهم أن الصوم لا يجوز تقدمه على الحنث، فكذلك ما عداه؛ والعلة أنَّه كفارة يمين فلا يصح فعلها قبل الحنث، وأيضاً قد حلف وحنث، فيجب أن تلزمه الكفارة، وإن كانت كفارة تقدمت الحنث قياساً عليه لو لم يقدمها قبل الحنث، والعلة أنَّه حلف وحنث ولم يكف بعد الحنث.

(101/15)


فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} وقد صح أن الصدقة وجبت بالمناجاة، ثُمَّ أجاز الله تقدمها على المناجاة، فثبت تقدم الكفارة على الحنث وزعموا أنهم أكدوا استدلالاتهم بأن قالوا: إن الصدقة وجبت بالمناجاة لا بالإرادة للمناجاة؛ لأنها لو وجبت بإرادة المناجاة لوجبت على من أراد أن يناجي تهديداً له في هذا الكلام يسقط لأنا نقول: إن الله تعالى أوجب أن يكون من يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم متصدقاً كما أوجب أن يكون من يصلي متطهراً فوجب تقدم الصدقة على المناجاة كما وجب تقدم الطهارة على الصلاة، وليس هذا من الكفارة في شيء؛ لأنَّه يجوز تخيير الكفار عندهم، والكفارة إذا فعلت بعد الحنث، فعلت على الوجوب، وليس كذلك الصدقة؛ لأنها واجبة قبل المناجاة كالطهارة.
فإن قيل: قد ثبت جواز تقدم الزكاة عند حصول النصاب قبل الحلول؛ لأنَّه أحد سببيها وهو اليمين.

(101/16)


قيل له: لسنا نسلم أن اليمين أحد سببي الكفارة بل سببها الحنث فقط؛ لأن الشيء إنَّما يكون سبباً لغيره إذا كان موجباً له أو موجباً لما أوجبه أو جرى مجرى الموجب وإن كان شرطاً؛ إذ يعتبر عن الشرط بالسبب واليمين لا توجب الكفارة لا خلاف بيننا وبينهم في ذلك؛ لأن الكفارة تجب لزوال حكمها، وما يكون وجوبها لعدمها لا يجوز أن يكون مسبباً له، ألا ترى أن القضاء عندنا والكفارة عند مخالفنا على من أفطر في شهر رمضان لا يجوز أن يكون سببها الصوم؛ لأنهما لا يجبان إلاَّ لزوال الصوم بل سببهما الإفطار، فكذلك لا يجوز أن يكون سببهما اليمين، ولا يجوز أن يكون استثناءاً لسبب الكفارة؛ لأن سبب الكفارة الحنث، وهو مناف للإيمان وما ينافيه لا يجوز أن يكون مسبباً له، كما أن الصوم لا يجوز أن يكون سبباً للردة ولا للقتل، كذلك اليمين، فإذا ثبت ذلك بطل أحد سببي الكفارة، قد حصل وليس كذلك النصاب والحول؛ لأن الزكاة تتعلق بالمال وهما سببان لوجوبها؛ لأنَّه ليس بينها تناف، وذلك جرح الصيد سبب لقتله وقتله سبب لوجوب الكفارة فحصول الجرح حصول أحد سببي الكفارة ، ألا ترى أنَّه لا تنافي بين شيء منها وحكم الكفارة حكم القتل وحكم الحنث حكم الردة وحكم الأيمان، فكما أن الأيمان لا تكون سبباً للقتل كذلك اليمين لا يكون سبباً للكفارة على أن بقاء حكم اليمين عندنا أو عندهم بالإجماع مانع لوجوب الكفارة فكيف يكون سبباً لوجوبها والله أعلم وأحكم بالصواب.

(101/17)


كتاب الحدود
ينبغي للإمام أن يجرد المحدود من وجميع ثيابه بل ويترك عليه ثوباً واحداً ولا ينبغي أن يشد يده إلى عنقه، ويجب أن يكون السوط بين الدقيق والغليظ، وينبغي أن يكون إيجاب المحدود بحسب إطاقته له ولا بد فيه من المبالغة على قدر احتماله، ولا ينبغي، فصار ذلك أصلاً لكل مقتول بحق؛ لأنَّه لا دية له ولا قود وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام: من مات في حد الزنا والقذف فلا دية له، كتاب الله قتله> فأما التغرير فذهب الشافعي إلى من مات في فكت ديته، وشببه بمن رمى صيداً فأصاب غيره إن رميه لما كان مباحاً ولم يكن واجباً ضمن الرامي ما يتولد عنه، وذلك لا معنى له؛ لأن التعزير ليس بمباح، بلهو واجب؛ لأن شيئاً من الواجبات لا يكون مباحاً؛ لأنها إذا لم تجب قبحت فلو لم يكن التغرير واجباً لكان ظلماً وقبيحاً فبطل ما اعتمدوه على أن الإصابة يضمنها، وإن لم يتعمد في سببها والسراية ليست فعله فلم يجب أن يضمنها إلاَّ أن يتعدى في سببها، والأصل فيه ما بيناه في الحدود من أنَّه قتل بحق والتغرير حق، والفرق بينه وبين الحد أن الحد لا اجتهاد في عدده وموضعه أعني ما يجتهده الإمام بحسب ما يراه صلاحاً في الحد ولا مشرح فيه للعفو والتغرير فيه هذا القبيل من الاجتهاد، فأما أن يكون مباحاً فذلك لا معنى له.
فإن قيل: التعزيز مباح بدلالة ما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعدل، وفي بعض الأخبار أنَّه قال: ما عدلت، فقال: <فمن يعدل إذا لم أعدل> ولم يعزره.

(102/1)


قيل: هذا لا يدل على أن التعزير غير واجب بل يدل على أنَّه يجوز فيه العفو، ألا ترى أن الحقوق الواجبة يصح فيها العفو كالقصاص والديون وما أشبهها وجواز العفو في الشيء لا يدل على أنَّه لم يكن واجباً في الأصل، فأما إذا أخطأ الإمام فالدية أن بلغ ذلك القتل والأرش إن لم يبلغ القتل يجب أن تكون في بيت المال عند أبي حنيفة مثل قولنا: وهو أحد قولي الشافعي وقوله الثاني أنَّه على عاقلة الإمام ووجه ما ذهبنا إليه من أنَّه يجب في بيت المال أن المسلمين له كالعاقلة فيما يتعلق بالدين والمصالح والأمور التي تعلق بالإمامة؛ لأنَّه هو على النصرة والإمام ينضر المسلمون في هذا الوجوه كنضرة العاقلة وهو عليهم يعتمد وإليهم يلتجئ وهم عليه يعتمدون وإليه يلتجئون في الأحول التي ذكرناها، فصاروا له في حكم العاقلة فوجب أن يكون خطأه فيما يتعلق بإقامة ماله نصب من الإصلاح والحدود وما جرى مجرى ذلك يكون في بيت مال المسلمين لما بيناه، وما روي أن عمر جعل ما لزمه الدية على عاقلته، فيجوز أن يكون رأياً رآه، ولا ننكر أن هذا مما للرأي والإجهاد فيه مشرح، وإن كان الأصح عندما ما ذكرناه، ولعله فعل ذلك؛ لأنَّه الحدود، ولأنا قد بينا أنها لم تكن واجبة قبل ولاية الإمام، فلا تجب بولاية الإمام، وإذا لم تجب لم يجز له أن يستوفيها.
مسألة

(102/2)


قال: والأصل في الحدود كلها أنها تدرأ بالشبهات، فكل من فعل فعلاً يوجب الحد لشبهة دخلت عليه درئ عنه الحد، وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ادرؤوا الحدود بالشبهات>، ولأن الواجب في الحدود والدرء ما أمكن للروايات الواردة في ذلك منها ما ورد أن ماعزاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقر على نفسه بالزنا، فكان يعرض عنه وفي بعض الأخبار أنَّه كان يطرده كلما حضره معترفاً إلى أن تم إقراره أربع مرات وفي بعضها أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال في الرابعة: أبك جنونٌ، فأخبر أنَّه ليس بمجنون، فقال له: أشربت خمراً فقام رجل فاستنكهه فلم يجد معه ريح خمر، وروي أن امرأة جاءته صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني زنيت فأقم علي الحد، قال ارجعي فاستتري بستر الله، فعاودته مراراً، فلما كان في الباعة أمرها أن ترجع فتضع ما في بطنها ثُمَّ تركها حتى طهرت فعند ذلك أمر بها فرجمت وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي بسارق فقال له: ما أخالك سرقت، كأنه يدرأ عنه الحد، قال: نعم. قال اذهبوا فاقطعوا يده، وهكذا فعل أمير المؤمنين عليه السلام بمن أته تقر على نفسها بالزناء، وروى زيداً بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه أتته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي وقع على وليدتي، فقال: إن تكوني صادقة رجمناه، وإن تكوني كاذبة جلدناكِ، قال: ثُمَّ أقيمت الصلاة فذهبت، وروى الكرخي بإسناده أن رجلاً زنا بربة منزله، فكتب إلى عمر فكتب فيه عمر إن كان يعلم أن الله تبارك وتعالى حرم الزنا فاجلدوه، وإن كان لا يعلم فعلموه، وإن عاد فاجلدوه، فدل كل ذلك على أن الواجب درء الحدود بالشبهات بما أمكن، ولا خلاف في هذه الجملة وإن اختلفت في أعيان المسائل وما يجوز أن يكون شبهة، وما لا يجوز، وري عن علي عليه السلام: لأن أخطي في العفو أحب إليَّ من أن أخطئ في العقوبة.
مسألة

(102/3)


قال: ومن أقام عليه الإمام حداً أو تعزيراً فتلف فلا دية له إلاَّ أن يكن الإمام أخطأ في إقامة الحد أو التغرير عليه فيكون ديته من بيت المال إن مات أو أرشه إن لم يمت ولا أحفظ خلافاً في أن من مات في الحد لا دية له، ولا قود؛ لأن الحق قتله كما أن أهل العدل إذا قتلوا أهل البغي أو قطاع الطريق لم يكن لهم قود ولا دية؛ لأنهم قتلوا بالحق، وكذلك المرجوم للوجه الثاني، فأقامهم للشهادة بعد السكوت عنها يدل على أنهم يقيمونها للضغن والحقد.
قيل له: كل ذلك إساءة للظن بالعدول، وذلك محرم؛ لأنَّه يجوز خلاف ما ذهبتم إليه؛ لأنَّه يجوز أن يكون تركوها في الأول استهانة بالجد ومحاباة ثُمَّ تابوا من بعد ذلك وأنابوا والشهادة تعتبر فيها العدالة في حال الأداء لا في حال التحمل ويجوز أن يكونوا تركوها ويجوز أن يكونوا تركوها خوفاً من فساد أعظم من ذلك يجري من ظالم أو متغلب ونحوه، ويجوز أن يكونوا تركوها ستراً عليه حتى ظنوا أنَّه يزداد عتواً ونفوراً وضلالاً، فأقاموها إذا لم يرو الصلاح في الستر فإذا احتمل ذلك لكه لم يجز إسقاط الشهادة وترك الحد، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِيْ دِيْنِ اللهِ} وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ما ينبغي لوالٍ أن يؤتى بحد الإقامة، وروي عنه تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغي من حد وجب، فأما من كانت جنايته قبل ولاية الإمام، فإن الإمام إذا تولى لم يجده؛ لأنَّه جنى جناية لم يجب فيها حد حين جنى لفقد الإمام ولا ينبغي أن يحصل الوجوب، إلاَّ إذا وجد الإمام كالمعتوه إذا جنى ولم يجب في جناية الحد لفقده العقل إذا عقل لم يحصل وجوب الحد، وكالصغير إذا جنى كذلك، والمجوسي إذا لم يجب أن يحد لشربة الخمر لفقد الإمام لم يلزمه؛ لأن جنايته وقعت يوم وقعت ولا يجب فيها الحد قياساً على ما ذكرناه.
فإن قيل: ولم قلتم أن الحد لا يجب إذا جنى.

(102/4)


قيل له: لأن الواجب لا يصير واجباً إلاَّ وهناك من يجب ذلك عليه فلو وجب الحد لم يحل من أن يجب على الجاني نفسه أو على المسلمين أو على الإمام ولا يجوز أن تقول إنَّه يجب إقامتها على الجاني نفسه؛ لأن الإنسان لم يجب عليه أن يقيم الحد على نفسه بل لا يجوز ذلك ولا يجب إقامتها على المسلمين لا خلاف في ذلك، ولا يجوز أن يجب على الإمام إذ لا إمام، فإذا صح ذلك صح أنَّه لم يجب على وجه من الوجوه يوم وقعت الجناية، ألا ترى أن واحداً مما ذكرنا لا يحسن منه أن يقيم عليه الحد، الوجوب صفة زائدة على الحسن فكيف يجوز أن يجب ما لا يجوز أن يحسن.
فإن قيل: فهل تقولون في الزكوات والعشور إذا لم تؤد قبل ولاية الإمام أن للإمام أن يستوفيها إذا تولى أوليس له ذلك كما قلتم في الحدود.

(102/5)


قيل له: نقول إنَّه للإمام أن يستوفيها؛ لأن الزكوات والعشور قد ثبت وجوبها على أرباب الأموال؛ لان أرباب الأموال يجب عليهم أداؤها إلى الفقراء إذا لم يكن إمام فقد كان ذلك واجباً عليهم قبل ظهور الإمام، فلما وجبت كأن له أن يستوفيها عليهم وليس كذلك تجريده من جميع ثيابه؛ لأن ذلك يبدي عورته، ولا يحل ذلك إلاَّ عند الضرورة ولا ضرورة هنا؛ لأن الثوب الواحد لا يخفف من الألم شيئاً، فلا فائدة في تجريده من جميع ثيابه، فوجب أن يكون ذلك محرماً، وروى زيد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: يجلد القاذف وعليه ثيابه، وتنزع عنه الحشو والجلد ولا ينبغي أن تشده يده إلى عنقه؛ لأن ذلك تعذيب لم يجب وما زاد من الإيلام على الواجب أذى لم يتعلق به غرض صحيح يكون ظلماً، ولهذا قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشَرَ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} فنبه على أن الزيادة من الألم في العقاب على المستح لا يجوز كما يجوز ذلك في اللذة والنعمة، ويجب أن يكون السوط بين الدقيق والغليظ؛ لأن الغليظ ربما أدى إلى التلف وذلك ما لا يجوز فيجب أن يتوقى سببه، ويحترز منه، والدقيق لا يؤلم كما يجب، فاختار الوسط، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: <خير الأمور أوسطها> ولابد من المبالغة على قدر احتماله، وذلك لما بيناه من أنَّه يجب أن يوصل إليه الألم الشديد، ولا يجوز أن يبلغ ما يغلب في الظن أنَّه يتلفه أو يتلف عضواً منه، أما مقدار ما يحتمله فلا بد منه وقد نبه الله عز وجل على ذلك بقوله: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِيْ دِيْنِ اللهِ} وقال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ} ولا يسمى عذاباً حتى يكون شديداً.
مسألة

(102/6)


قال: وإذا رفع إلى الإمام من وجب عليه الحد أقامه، وإن كان قد تقادم عهد جنايته بعد أن تكون جنايته وقعت في ولاية الإمام، وإن كانت جناية وقعت في غير ولايته لم يقم عليه الحد، قال أبو حنيفة في الحد: إذا تقادم عهده لا يقام ولم يحد في ذلك حداً وحد أبو يوسف ومحمد شهراً وذلك إذا أقيم بالشهادة دون الإقرار، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِيْ فَاجْلُدُوا كَلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ولم يشترط فيه قرب العهد، وكذلك في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} فوجب أن يستوفي الحد قرب عهد أم بعد وأيضاً لا خلاف في أن الحد إذا ثبت بالإقرار يقام مع تقادم عهده، فكذلك إذا ثبت بالشهادة، والمعنى أنَّه يثبت عليه فعل أوجب الحد وأيضاً، كما أن الحقوق تثبت بالشهادة كما تثبت بالإقرار.
فإن قيل: إذا لم يؤدوا الشهادة حين عرفوا أدى ذلك إلى التهمة؛ لأنهم إذا لم يقيموها لم يحل أمرهم من شيئين، إما أن يكونوا تركوا أقامتها استهانة بالحد وإضاعة للشهادة؛ ولأنهم اختاروا الستر على الجاني، فإن كانوا تركوا إقامتها للوجه الأول أوجب ذلك سقوط شهادتهم، وإن تركوا لم يكن في ذلك الوقت بيت مال، على أنا لو ألزمنا ذلك عاقلة الإمام لأدى الإجحاف فيه؛ لأنَّه يجوز أن يكثر ذلك، فإن من يباشر مثل الإقامة لم يبعد أن يكثر خطأه؛ لأن كثرته بحسب كثرة الأعمال التي ينظر فيها ولأدى ذلك عواقله، وهذا يؤدي إلى الضرر بالمسلمين، فلا يجوز على أن أفعال الإمام في هذا الباب كأنها تقع عن المسلمين؛ لأنهما تقع لمصالحهم، فكأنها في الكم أفعال جميعهم، وكان الأولى أن يكون ما يضمنه في بيت مالهم.
مسألة
قال: وإذا زنا المملوك كانت إقامة الحد على الحر إليه للعلة التي ذكرنا، فأما إذا لم يكن إمام فليجلدها، فدل ذلك على أن له أن يجلد.
فإن قيل: فالجد يعبر به عن التعزير.

(102/7)


قيل له: الجلد وإن كان في اللغة مصدر جلد، فإنه من طريق العرف، بل عرف الشرع قد صار عبارة عن الحد، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <الثيب تجلد وترجم>، وروي: <أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم على أن يحيى بن الحسين عليه السلام استضعف هذا الحديث ولم يعتمده وأيضاً هو ما له يجب أن يجوز له التصرف فيه فيما كان حقاً لله عز وجل إذا لم يكن إمام كما أن له أن يزكي ماله، العلة أنَّه يتصرف فيه بحقوق نفسه الجارية هذا المجرى، ألا ترى أنَّه يعزرها بحقوق نفسه، كما أنَّه يتصرف في المال بالهبة بحقوق نفسه، فكذلك بحقوق الله عز وجل، وإذا لم يكن إمام فلا يبعد أن يحمل القطع في السرقة عليه؛ لأن مولاه قطع يده بحق نفسه، كما أنَّه يتصرف في المال بالهبة بحقوق نفسه، فكذلك بحقوق الله عز وجل، وإذا لم يكن إمام فلا يبعد أن يحمل القطع في السرقة عليه؛ لأن مولاه قطع يده بحق نفسه، كما ظهرت به الأكلة لا بد منه، وما روي أن رجلاً أتى أمير المؤمنين، فقال: إن أمتي زنت، فقال: أجلدها نصف الحد خمسين، إن عادت فعد، فقال: أدفعها إلى السلطان، فقال: أنت سلطان فإن يحيى بن الحسين توقف في تصحيحه أيضاً فيحتمل أن يكون ذلك كان أمراً له بإقامة الحد عليها؛ لأن للإمام أن يأمر بإقامة الحد من يراه.
مسألة
قال القاسم عليه السلام: فيمن سرق وشرب الخمر، وقتل يقام عليه حد السارق والشارب الخمر، ثُمَّ يقتل أوجب عليه تأخير القتل؛ لأن القتل يؤدي إلى إبطال الحدود، وإقامة سائر الحدود من القتل، فأما حد السارق والشارب، فإنه يبدأ بأيهما شاء؛ أن أحدهما لا يمنع من الآخر والأولى أن يبدأ عباداً الجاني بجنايته.
فصل

(102/8)


والذي يجيء على مذهب يحيى عليه السلام بظاهر قوله: إن لسيد العبد إن يقطع عبده إذا سرق كما يجوز له أن يحد إذا زنى وأصحاب الشافعي يختلفون فيه ووجهه أن لمولاه أن يتصرف بذلك لحق نفسه، ألا ترى أنَّه يقطع يده إذا وقعت فيها الآكلة أو مرض يوجب ذلك فكذلك يجب أن يتصرف فيه في ذلك بحق الله إذا لم يكن إمام كالزكاة والختان، والله أعلم.

(102/9)


باب القول في حد الزنا
يجب الحد على من زنا من المسلمين والذميين إذا كان عاقلاً بالغاص سواء كانت المزني بها عاقلة أو غير عاقلة بالغة أو غير بالغة، وكذلك يجب الحد على من زنت من المسلمات والذميات إذا كانت بالغة عاقلة سواء كان الذمي زنى بها عاقلاً أو غير عاقل بالغاً أو غير بالغ، وذلك لقول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِيْ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ولم يخص ذمياً من ملي على أن ذلك لا خلاف فيه واشترطنا أن يكون من يلزمه الحد عاقلاً وبالغاص لقوله: <رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيقن وعن النائم حتى يستيقظ> وذلك مما لا خلاف فيه.
مسألة
قال: فإن كان الذي زنى من رجل أو امرأة بكر كان حده جلد مائة، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي وتغريب عام والدليل على أن التغريب ليس بحد حديثه زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سئل عن الأمة إذا زنت فقال: إذا زنت فاجلدوها ثُمَّ إن زنت فاجلدوها، ثُمَّ إن زنت فاجلدوها، ثُمَّ بيعوها، وروى ذلك عبد الله بن مالك الأوسي وأبو هريرة، ورواه عباد بن ... عن عمه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمة فجرت فأرسلني إليها، فقال اذهب فأقم عليها الحد فإن طلقت فوجدتها لم تجف من دمها فعرفت ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال إذا هي جفت من دمها فاجلدها فاقتصر بها على الحد دون التغريب، فدل ذلك على صحة قولنا على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر ببيعها، وليس البيع من جملة الحد، فلا يمتنع أن يكون النفي كذلك.

(103/1)


فإن قيل: ففي حديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر والثيب بالثيب تجلد وتنفى، والثيب تجلد وترجم، وفي حديث من جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: ابني كان عشيقاً على هذا فزنى بامرأته، فقال: على ابنك مائة جلدة وتغريب عام، فاغد يا أني على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدى عليها فاعترفت فرجمها.
قيل له: التغريب يجوز أن يكون النبي صلى اله عليه وآله وسلم أمر به على طريق التأديب؛ لأنَّه لو كان من جملة الحد لم يسقط على الأمة، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال فيه جلد مائة وحبس سنة، فبان على هذا أن ما زاد على المائة من التغريب والحبس على جهة التأديب على أنَّه حد موظف وهو قياس على المحصن أنَّه لا تغريب عليه وقياس على سائر الحقوق ن القذف والسرقة والشرب في أنَّه لا تغريب في شيء منه، وروي أن عمر غرب في الشرب، فإن إنَّه تأديب، ولو كان حداً لوجب أن تكون المسافة فيه مقدرة؛ إذ الحد لا يجوز أن يكون مجهول القدر فيما يصح ضبطه دليله سائر الحدود، وروي أن عمر لما نفى ربيعة في الحد لحق بالقوم فقال: لا أنفي بعه أحداً ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة صح أنهم لم يكن نوى يرونه حداً، وروي عن علي عليه السلام، قال: كفى بالنفي فتنة، فجرى مجرى الإجماع من الصحابة أه ليس من الحد، وأن الإمام يأتيه على سبيل التأديب بحسب اجتهاده.
مسألة

(103/2)


قال: فإن كان محصناً فإنه يجلد مائة جلدة، ثُمَّ يرجم، أما الرجم فثابت بالإجماع، وأما الجلد فإنه واجب لقول الله عز وجل:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِيْ فَاجْلُدُوا كُلَّ وَاحَدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فعم ولم يخص بكراً من ثيب، فوجب أن يكون ثابتاً على البكر والمحصن ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} فبين أن على المحصنات عذاباً يتنصف، وليس ذلك إلاَّ الجلد؛ لأن الرجم لا يتنصف فثبت أن المحصن يجلد ويدل على ذلك حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <الثيب تجلد مائة والرجم والبرك بالبكر جلد مائة وحبس سنة>، وروي عن أبي الزبير عن جابر أن رجلاً زنى فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجلد ثُمَّ أخبر أنَّه قد كان أحصن فأمر به فرجم، فدل ذلك على أن الجلد كان واجباً عليه مع الرجم؛ لأن ذلك لو لم يكن لكان سهواً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والسهو على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يجوز فيما يؤديه عن الله، وهذا يجري مجرى الأداء عن الله؛ لأنَّه يؤخذ عنه على أنَّه لو كان السهو يجوز منه لوجب أن يعرف المسلمين أن ذلك كان سهواً، ولوجب أن يلتزم أرشه؛ لأنَّه لا خلاف في أن الإمام إذا سهى فأخطأ ضرب من لم يستحق الضرب، كان الأرش إما على عاقلته، وإما على بيت المال.
فإن قيل: فلم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنيساً بالجلد حين قال: أغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يرو أنَّه جلدها.

(103/3)


قيل له: أما قوله وارجمها فيجوز أن يكون اقتصر على ذلك القدر لعلم المخاطب أن الرجم من شرطه أن يتقدمه الجلد فأجمل، ألا ترى أن للإقرار شرائط من صحتها العقل واستفسار الزنا، وعندنا وعند أبي حنيفة لا بد من التكرير أربع مرات، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر شيئاً من ذلك, واقتصر على قوله: <فإن اعترفت فارجمها>، تعويلاً على ما ذكرت من علم أنيس بذلك، فكذلك الجلد وقولهم أنَّه لم يرو أنَّه جلد فهو كالمرير وكيف تثبته وسؤاله وكيف وقع الرجم وأين وقع وعلى هذا النحو يجري الكلام فيما روي من رجم ماعز أنَّه لم يرو أنَّه جلد والشافعي يوجب النفي على الأمة إذا زنت ستة أشهر، وإن لم يرو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر به تعويلاً على أنَّه معلوم، فليس له أن ينكر ما ذهبنا إليه ويدل على ذلك ما ما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى أن شراحة الهمدانية جاءت إلى علي عليه السلام، فقالت: إني زنيت فردها حتى شهدت على نفسها أربع مرات فأمر بها فجلدت فأمر بها فرجمت، وروى الرضراض بن سعيد هذا الحديث إلاَّ أنَّه لم يذكر فيه أنَّه ردها حتى شهدت على نفسها أربع مرات، وروى ذلك حبة عن علي ولم يذكر الترديد وزاد أنَّه عليه السلام قال لها: لعلك غضبت نفسك فقالت: أتيت طائفة غير مكرهة فأخرجا حتى ولدت وفطمت، ثُمَّ جلدها الحد، ثُمَّ دفنها في الرحبة إلى منكبها ثُمَّ رماها هو أول الناس ثُمَّ قال: ارموا ثُمَّ قال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الشعبي أن علياً عليه السلام جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله، وهذا يدل على صحة ما ذهبنا غليه من وجوه أحدها على أصلنا أن قوله حجة والثاني أن الجلد لو كان نسخ عن المحصن وجرى أمر الامرأة التي قال صلى الله عليه وآله وسلم لأنيس أعد عليها فإن اعترفت فارجمها وأمر ماعز على ما يدعيه المخالف من أنهما لم

(103/4)


يجلدا، لم يكن يجوز أن يخفي عليه من شهرتهما ولو عرف ذلك لم يكن يخالف حاشاه من ذلك عليه السلام، والثالث أنَّه لم ينكر ذلك ولم يرو عن أحد أنَّه قال: لأجلد على المحصن فصار ذلك إجماعاً.
فإن قيل: روي عن عمر أن رجلاً أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، إن امرأتي زنت فهي هذه تعترف بذلك فأمرني عمر يقول ذلك راوي الحديث وهو أبو واقد الليثي ثُمَّ الأشجعي في رهط نسألها عن ذلك فجئناها فاعترفت بذلك فأمر عمر برجمها.
قيل له: الكلام في هذا كما قلناه في رجم ما عز وفعل أنيس يجوز أن يكون ذكر الرجم ولم يذكر الجلد فلا يمكن أن يجعل ذلك خلافاً لقول علي وأيضاً هو قياس على البكر بعلة أنَّه زنا فوجب أن يجلد وأيضاً شارك البكر في فعله، فيجب أن يشاركه في حده، دليله العبد المحصن لما شارك العبد البكر في الزنا شاركه في الحد، قال مالك مثل قولنا: وحكى ذلك عن صاحب الظاهر وعند أبي حنيفة والشافعي لا جلد عليه.
مسألة

(103/5)


قال: والمملوك لا رجم عليه محصناً كان أو غير محصن، وعلي خمسون جلدة، وكذا القول في المدبر وأم الولد، وهذا ما لا خلاف فيه، وقد دل عليه قول الله عز وجل: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وحكى عن صاحب الظاهر أنَّه فرق بين العبد والأمة فأوجب على العبد تمام الحد مائة ويحجه ما روي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في عبد عتق نصفه فجلد خمساً وسبعين جلدة نصف حد الحر ونصف حد العبد، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: حد العبد نصف حد الحر ولم يرد خلافه عن أحد فجرى ذلك جرى الإجماع وأيضاً لا خلاف في الحدود بين الرجال والنساء فوجب أن لا يفرق فيها بين العبد والإماء، قال: والمكاتب إذا زنى يقام عليه الحد بحساب ما أدى من مكاتبة وإن لم يكن أدى شيئاً كان حده حد العبد وهذا قد مضى الكلام فيه في باب المكاتب فلا يحتاج إلى إعادته، وحديث علي عليه السلام أنَّه حد عبداً عتق نصفه خمساً وسبعين جلدة حجة فيه، وروى محمد بن منصور بإسناده عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: <إذا أصاب المكاتب ميراثاً أو حداً فإنه يرث على قدر ما عتق منه، ويقام عليه على مقدار ما عتق منه>.
قلنا: إنَّه لم يكن أدَّى من مكاتبته شيئاً فحده حد المملوك؛ لأنَّه لا خلاف في أن عقد الكتابة لا يتغير أحكام الحدود فيه.
مسألة

(103/6)


قال: ولا فصل بين أن يكون زنا بالمرأة في قبلها أو في دبرها في جميع ما ذكرناه إذا كان قد أولج، وكذلك لا فصل بين أن تكون مكنت من دبرها أو من قبلها لمن زنا بها في جميع ذلك، والقول في الرجلين إذا أدعى أحدهما صاحبه في دبره أو من كالقول في الزانيين، وبه قال أبو يوسف ومحمد، قال أبو حنيفة: ليس في إتيان الدبر على الفاعل والمفعول إلاَّ التعزير، وللشافعي في إتيان الذكران قولان أحدهما أن ذلك بمنزلة الزناء مثل قولنا، والثاني أنهما يقتلان على كل حال، قال الحاكم فيه الرجم، وكذى ذلك عن مالك والأصل في ذلك أن الصحابة أجمعوا على قتل الذكرين إذا أتى أحدهما، وإنما اختلفوا في كبقية القتل، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في الذكرين ينكح أحدهما صاحبه، أن حدهما حد الزاني إن كان أحصنا رجما وإن كان لم يحصنا جلدا، وروى محمد بن منصور بإسناده عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن شبرة، عن علي عليه السلام اللوطي بمنزلة الزاني وهو أعظمهما جرماً، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <اقتلوا الفاعل والمفعول به>، وروى بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: أتى عمر بفاعل أو مفعول به فاستشار علياً وأمره أن يضرب عنقه، ثُمَّ قال: قد بقي عليه حد آخر، قال: وما هو؟ قال: نحرقه بالنار. وقد روي عن محمد بن المنكدر فيما ذكره الجصاص في شرحه أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر: وجدت رجلاً في بعض ضواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فجمع أبو بكر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يحرقوه فأمر به أبو بكر فأحرق بالنار، وروي عن ابن عباس أنَّه قال: يلقى عليه من أعلى بناء في القرية، وعن علي أنَّه يلقى عليه الحائط، وذكر عن عثمان أنَّه يلقى عليه حائط، فصار القتل إجماعاً من الصحابة، فسقط بذلك ما ذهب إليه أبو حنيفة من القول بالتعزير؛ لأنَّه خلاف قول الصحابة؛ لأنهم أجمعوا على القتل واختلفوا في كيفية

(103/7)


القتل، وهذا كما قلنا نحن وأصحاب أبي حنيفة أن الصحابة أجمعوا على تضمين الرهن واختلفوا في كيفية التضمين، فوجب أن يسقط قول من جعله أمانة وأسقط التضمين؛ لمخالفته الإجماع، فكذلك قول أبي حنيفة في التعزير في هذه المسألة، فإذا ثبت القتل قلنا به حيث أجمعوا عليه وهو المحصن ولم يقل به في غير المحصن للاختلاف فيه؛ لأن الذي روى فيه فتوى وقولاً على جهة التفصيل وهو ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، ورواه ابن سبرة، فأما ما عداهما مما روي عن أبي بكر وعمر فهو فعل ويجوز أن يكون صحيحاً عندهم في ذلك الشخص أنَّه لو كان محصناً، فلذلك اتفقوا فيه على القتل، ومما يدل على ما قلناه قوله: {وَاللاتِيْ يَأْتِيْنَ الْفَاحِشَةَ مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} ثُمَّ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر والثيب بالثيب> فكأنه قال: من أتى الفاحشة فسبيله البكر بالبكر والثيب بالثيب، وبعد فبين الله أن أيان الذكران فاحشة في غير موضع من القرآن، فمن أتاها فسبيله البكر بالبكر والثيب بالثيب، وما روي عن عثمان وابن عباس فيجوز أن يكون أيضاً أراد به المحصن، فثبت وجوب القتل في المحصن بما بيناه، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: <اقتلوا الفاعل والمفعول به> وذلك إذا كانا محصنين، والقتل هو بالرجم ولم يثبت في غيره، فلذلك لم نقل به، وقلنا: إنَّما صح عن علي عليه السلام من طريق زيد بن علي عليهما السلام، وما رواه عن ابن سبرة؛ لأنَّه مفسر، وأما إلقاء الحائظ فيجوز أن يكون القوم اتفقوا على القتل لدلالة دلتهم عليه من توقيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما جرى مجراه فأطبقوا على القول به، ولم يكن ثبت عندهم كيفية القتل فاختلفوا فيها فمن قال بإلقاء الحائظ أي أنَّه من جنس الرجم؛ لأن الرجم هو قتله بالحجر والمدر وإلقاء الحائظ عليه من ذلك الجنس؛ لأنهم راد الفعل من جنس الزنا،

(103/8)


فأوجبوا يه ما هو من جنس الرجم، إلاَّ أن الرجم بعينه هو أولى؛ لأن إلقاء الحائظ وجهه أنَّه مشبهة به، فكان الأصل أولى سما وقد روي مفصلاً ومفسراً عن بعضهم وهو علي عليه السلام، وأما ضرب العنق فيجوز أن يكون على عرف النص أو ما يجري مجراه في القتل ولم يعرف في كيفية القتل فيجوز أن يعدل الإمام في كيفية القتل عن رأي إلى رأي إلاَّ أن الأولى هو الرحم لما بيناه ولأنه قد صح عنه ذلك وثبت من طريق زيد بن علي عليهم السلام، وأما الإحراق فيجوز أن يكون أراد به بعد القتل في حديث أبي بكر وما كتب إليه خالد إذ فسر ذلك في حديث عمر حسين استشاره فيه، ووجه أن الفاسق قد ثبت عندنا أنَّه لا يصلي عليه ولا يغسل، وإنما يواري جسمه، فكان للإمام أن يحرقه إذا رأى أنَّه أودع للناس وأزجر؛ لأنَّه لم يلزم فيه الغسل والتكفين والصلاة فأشبه جثة البهيمة هذا إذا كان قتل وهو على غير التوبة، وإن كان قتل تائباً لم يجز ذلك ووجب غسله ودفنه والصلاة عليه، ويدل على أن ما ذهبنا إليه من الرجم هو الأولى أنا وجدنا القتل في الشرع على ضربين قتلٌ بالسيف وهو قتل المرتد والمقتص منه وقاطع الطريق، وقتل هو الرجم وهو قتل من زنى محصناً، ووجدنا فعل الذكرين إذا أتى أحدهما صاحبه من جنس الزنا أو هو الزنا بعينه، فكان الأولى أن يكون القتل المستحق عليه رجماً، سيما وقد نقل عن علي عليه السلام وثبت عنه فصح بهذه الجملة ما ذهبنا إليه، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحد قولي الشافعي، وحكاه أبو بكر الجصاص عن الحسن بن صالح، قال: وروي مثله عن الحسن وعطاء وبطل ما ذهب إليه أبو حنيفة لإجماع الصحاب على خلافه، قال أبو بكر: هو قول إبراهيم والحكم، وكذلك ما ذهب إليه القاسم من إيجاب الرجم على كل حال؛ لأنا قد بينا أنَّه لا وجه له، ولا يصح لاختلاف الصحابة فيه مع أنَّه لا دليل عليه، قال أبو بكر: وهو قول مالك والليث، وبه قال الناصر عليه السلام: ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه

(103/9)


أنَّه وطئ في فرج له حرمة ويتعلق به الغسل، فأشبه وطئ المرأة في قبلها، فوجب أن يجري على فاعله رجمه محصناً أو غير محصن، ويدل على ذلك قول الله: {والَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ولم يفصل بين أن يكون الزنا في القبل أو الدبر، فصار الحكم عاماً، فإذا دخل الزنا في الدين تحت ذلك وجب أن يكون الزنا في القبل حكم القبل والدبر فيذلك سواء، أعني في باب القذف وجه إقامة الشهود الأربعة، ولم يجعله أحدٌ قاذفاً إلاَّ وأوجب في المقذوف به الحد.
مسألة
قال القاسم عليه السلام: ومن أتى البهيمة فحكمه حكم من أتى الرجل، وللشافعي فيه ثلاثة أقوال: لأنَّه يوجب في أحدهما القتل، والثاني: أنَّه كالزنا، والثالث التعزيز، وحكى الطحاوي أنَّه يعزر ولم يحك فيه خلافاً ولا نص فيه ليحيى عليه السلام، ووجه ما ذهب إليه القاسم أنَّه روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بقتله وإن صح الخبر، وثبت القتل كان الرجم أولى؛ لأن الفعل من جنس الزنا على ما ذهب إليه القاسم وإن لم يصح الخبر كان الأولى التعزيز؛ لأن فرج البهيمة لا حرمة له، ولا تتعلق به دواعي النفس، فتكون الحال فيه دون الحال فيمن أتى ذكراً أو أنثى دون الفرجين، كان الأولى التعزيز؛ لأن فرج البهيمة.......، ولفظ الحديث فيه: <من أتى البهيمة فاقتلوه واقتلوها> والله أعلم.
مسألة
قال: وإحصان الرجل إن يكون متزوج امرأة حرة أو مملوكة عاقلة يجوز أن يجامع مثلها في الفرج تزويجاً صحيحاً، ويكون وجامعها أو خلا بها خلوة توجب المهر، فإن كانت المرأة مجنونة أو صغيرة لا يجامع مثلها أو كان التزويج فاسداً سواء كان فساده من طريق الاجتهاد أو غيره أو لم يكن الرجل جامعها ولا خلا بها لم يكن محصناً.

(103/10)


واعلم أن الإحصان اسم يقع من وجوه شتى، قد الإحصان بمعنى التزويج لقول الله تعالى: {الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ} أراد ذوات الزواج وقد يكون بمعنى الإسلام والعفاف عن الزنا والحرية لقول الله عز وجل: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} يعني الحرائر المسلمات العفائف عن الزنا فيكون بمعنى العفاف والدين لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} يريد المسلمات العفائف، ويكون بمعنى الصفة التي إذا كان عليها الزاني استحق الرجم، وهنا الأثر هو الذي نقصده في هذا الفصل، وله شرائط منها ما يتعلق بالمحصن، فهو الحرية والبلوغ والعقل والتزويج، اشترطنا الحرية لا خلاف بين المسلمين أن الرجم لا يجب إلاَّ على الحر وأن المملوك على أي وجه زنى فلا رجم عليه واشترطنا البلوغ والعقل ليصح استحقاقه العقاب؛ لأن من فاتته أحد الصفتين البلوغ أو العقل يم جز أن يستحق العقاب واشترطنا التزويج؛ لأنَّه لا خلاف فيه أنَّه شرط في استحقاق الرجم وما يتعلق بما يكون به محصناً فالتزويج والعقل وصحة الجماع منه أو منها؛ لأن الإحصان لا يتم إلاَّ بالجماع لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <البكر تجلد والثيب ترجم، فأوجب الرجم على الثيب والثيبوبة لا تصح إلاَّ بالجماع، وما يتعلق بالنكاح أن يكون النكاح نكاحاً صحيحاً يحصل معه الجماع، أما الجماغ فقد بينا أنَّه لا بد منه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <الثيب ترجم> والثيبوبة لا تكون إلاَّ بجماع، واشترطنا صحة النكاح؛ لأنَّه لا خلاف أنَّه لا يكون بملك اليمين، فأولى أن لا يصير محصناً بالنكاح الفاسد واشترط أبو حنيفة أن تكون المرأة التي يصيرها الرجل محصناً حرة بالغة، وذلك لا دليل عليه؛ لأن شرائط الإحصان التي دلت الدلالة عليها يتم مع كونها مملوكة وممن يجامع مثلها في الفرج وإن لم تكن بلغت مبلغ النساء فلم يكن لذلك

(103/11)


معنى وصح أن الشرط هو ما شرطناه.
فإن قيل: إذا فقد ما ذكرناه من الشروط فإن الاسم يكون مختلفاً فيه فلا يجب أن ننقله عن الجلد إلى الرجم.
قيل له: إنَّما يجب أن يثبت الاسم بحسب الصفات الموجبة لذلك، والاسم تابعٌ للصفات لا الصفات تابعة للاسم، ولا يمكن إثبات صفات لا دليل عليه، والرجم وجب بظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <والثيب ترجم>، فكل ما أثبتناه من الصفات سوى الثيبوبة، فهو لقيام الدليل، فما لم يقم دليله من الصفات لا يثبت؛ لأنا لو خلينا فظاهر الخير لم يجب أن يطلب مع الثبوت صفة أخرى، وكان الرجم يجب على كل ثيب لعموم اللفظ فبطل ما تعلقوا به، قال أبو حنيفة: لا يرجم إلاَّ المسلم، وبه قال محمد: فجعل الإسلام شرطاً للإحصان، وعندنا أهل الذمة يرجمون ولا يكون الإسلام عندنا من شرائط الإحصان، وبه قال أبو يوسف والشافعي: والدليل على صحة ما ذهبنا إليه من وجوب الرجم على أهل الذمة، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <خذوا عني فقد جعل الله لهنَّ سبيلاً البكر بالبكر تجلد وتنفى والثيب بالثيب تجلد وترجم، فلم يشترط الإسلام، فوجب الرجم على كل ثيب، فوجب الرجم على كل ثيب، فوجب ذلك لعمومه على أهل الذمة والملة، يؤكد ذلك قول الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}، فإذا كان من الحكم الرجم فيجب أن يحكم به على الذميين، ويدل على ذلك أيضاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، والرجم من القسط، فيجب أن يحكم به بينهم، وهذه الآية نزلت في الذميين، يدل على ذلك صدر الآية، ويدل على صحة ذلك ما ثبت بالأخبار المتظاهرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجم يهوديين زنيا محصين، فثبت بذلك أجمع أن الإسلام لا يكون شرطاً في الإحصان.
فإن قيل: إنَّه لم يثبت أن الإحصان كان من شرائط الرجم حين رجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اليهوديين.

(103/12)


قيل له: هذا يسقط من وجهين، أحدهما ما بينا أن الاسم يتبع الصفات أعني اسم الإحصان، فإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم اليهوديين ولم يثبت نسخه، فقد ثبت أن الصفة التي معها استحق الرجم حاصلة لليهود، فوجب أن يكون الاسم تابعاً لها، فبطل قولكم أن الإحصان لم يكن شرطاً فيه، والثاني ما روي أن اليهود لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه عن حد الزاني، فقال: الرجم إن كان محصناً فأوجب الرجم بشرط الإحسان، وفي بعض الأخبار أنهم سألوا عن حد المحصن إذا زنا فبطل قولهم أن الإحصان لم يكن شرطاً إذ ذاك.
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم اليهوديين بحكم التورية وإن لم يكن ذاك من شريعة له.
قيل له: يجوز أن يكون أراد غير الإحصان للدلة التي بيناها، فقد بينا فيما تقدم أن الإحصان ينصرف على وجوه.
فإن قيل: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لكعب بن مالك حين استأذن وفي نكاح الكتابية أنها لا تحصنك.
قيل له: المراد عندنا هو تحريم نكاحهن على المسلمين، قال: ولا يكون الرجل محصناً بملك اليمين، وهذا إجماعٌ لا خلاف فيه بين المسلمين، والقول في إحصان المرأة كالقول في إحصان الرجل، لا فصل بينهما في ذلك، وهذا أيضاً لا خلاف فيه.
مسألة

(103/13)


قال: وإذا زنا المريض، وكان محصناً جلد ورجم، وإن لم يكن محصناً انتظر برئة، ثُمَّ جلد وإن رأى الإمام أن يجمع بين عشرة أسواط ويجمعها ويضربه بها في حال .... دفنه عشر ضربات، كان ذلك له ولا خلاف عرفته أن المحصن الذي من سبيله أن يرجم إذا كان مريضاً أقيم عليه الحد؛ لأن الذي يوجب ترك إقامة الحد عليه وتأخيره إلى حيز برئه إنَّما هو خشية التلف، فإذا كان الحد للتلف فالمبتغى به هو القتل، فلا وجه للتربص فيه وانتظار برئه، وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أنهم قالوا: يرجم بإقراره وإن كان مريضاً انتظر البرء، ولعله يرجع عن إقراره إذا أخذته الحجارة، وهذا بعيداً؛ لأن هذا يوجب في من يرجم بالشهود؛ لأن الشهود أيضاً يجوز منهم الرجوع، لو وجب ذلك في المريض وجب في الصَّحيح لمثل ما عللوا، فأما إن كان المريض غير محصن، وكان حده الجلد فلا خلاف أنَّه يجب أن ينتظر به البرء لئلا يؤدي ذلك إلى التلف؛ لأن إتلافه غير مقصود إليه، وما رويناه عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى جارية زنت ليقيم عليها الحد، فوجدها لم يجف دمها فرجع وعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: <دعها حتى ينقطع دمها، ثُمَّ أقم عليها، فأمر بتأخيرها لما خشي عليها لنفاسها، وعلى هذا لو كان زمان شديد الحر أو شديد البرد وخيف على المضروب وجب تأخير حده إلى أن يخف ذلك لا خلاف في ذلك، ومما يؤكد ما قلناه من طريق النظر أن للعقاب الذي يستحقه قدراً معلوماً، وإذا كان حاله يخشى معه يتلفها والتلف مما لم يستحق لم يجز أن يقدم فيها على الجلد لئلا يؤدي إلى ما لا يكون مستحقاً له.
فإن قيل: فذلك يخشى مع سلامة الأحوال أيضاً.

(103/14)


قيل له: تلك خشية لا أمارة معها، فلا يكون لها حكم، وروي أن مريضاً زنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذوا عثكولاً فيه مائة شمراخ فضربه بها ضربة واحدة، وهذا الحديث ذكرها يحيى في الأحكام، وذكره الجصاص في شرحه وقوله إن رأى الإمام أن يفعل ذلك بالمريض فعل، وهذا معناه إذا كان المريض لا يُرجى برؤه وخيف عليه أن يموت ولم يقم عليه حد الله فللإمام أن يفعل ذلك، وبه قال أصحاب الشافعي ذكره ابن أبي هريرة.
مسألة
قال: وإذا زنت المرأة وجب أن يستبرئ زوجها هل هي حامل أو حائل، فإن كانت حائلاً أقيم عليها الحد، وإن كانت حاملاً انتظر وضعها، فإن كانت المرأة محصنة لم ترجع حتى يستغني عنها ولدها، إلاَّ أن يكون للولد من يكفله ولا أعرف في ذلك خلافاً، والأصل في ذلك حديث الغامدية أنها لما أقرت بالزنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ردها إلى أن تصنع ما في بطنها، ثُمَّ جاءت إليه بعد ذلك فردها إلى أن تكفل ولدها، وروي نحوه عن علي عليه السلام، وأنه حين ردها إلى أن تكفل ولدها، قال رجل: يا أمي المؤمنين، أنا أكفل ولدها فتغير وجه علي وظهر عليه الكراهة لذلك، فقال الرجل: أما إذا كرهت فلا، فقال بعد أن بذلت ذلك من نفسك فلا، فكفله إياه وأقام عليها حكم الله، وروي أن عمر اعترفت عنده امرأة بالزنا وهي حامل، فأمر بها أن ترجم، فقال له علي عليه السلام: هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها فتركها عمر، وقال: لو لا علي لهلك عمر، وقال: لا أبقاني الله لمعضلة لا أرى فيها ابن أبي طالب، وروي أيضاً أن معاذاً قال له ذلك وأنه قال: لو لا معاذ لهلك عمر.
مسألة

(103/15)


قال: ويحفر للمرجوم إلى سرته وللمرجومة إلى ثدييها، ويترك لهما أيديهما يتوقيان بهما، والأصل في ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم امرأة فحفر لها إلى الشدوة، ثُمَّ رماها بحصاة مثل الحمصة، ثُمَّ قال: ارموا واتقوا الوجه، وروي عن أبي ذر، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعترف رجل عنده بالزنا فرده أربع مرات ثُمَّ أمر فحفر له حفرة ليست بالطويلة فرجم، وروي إنَّه صلى الله عليه وآله وسلم حفر للغامدية حين رجمها ويترك لهما أيديهما؛ لأن الوثاق لم يؤمر به فيكون ذلك زيادة في العقاب غير مستحقه، قال يحيى بن الحسين: وتضرب الأعضاء كلها إلاَّ الوجه فيكون ترك اليدين ليبقي الوجه بهما، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: <ارموا واتقوا الوجه> فدل ذلك على أن الوجه لا يضرب في شيء من الحدود، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن امرأة أتته فاعترفت بالزنا فردها حتى فعلت ذلك أربع مرات ثُمَّ حبسها حتى وضعت ما في بطنها فلما وضعت لم يرجمها حتى وجد من يكفل ولدها ثُمَّ أمر بها فجلدت، ثُمَّ حفر لها بئراً إلى ثدييها، ثُمَّ رجم ثُمَّ أمر الناس فرجموا.
مسألة
قال والمرحوم بالإقرار يبتدئه الإمام بالرجم، ثُمَّ المسلمون والمرجوم بالشهادة يبتدئه الشهود بالرجم، ثُمَّ الإمام ثُمَّ المسلمون، وذلك لما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه لما رجم المرأة قال: أيما حد أقامه الإمام بالإقرار رجم الإمام ورجم الناس وأيما حد أقامه الإمام بالشهود فالشهود يرجمون ثُمَّ يرجم الإمام ثُمَّ المسلمون؛ ولأن ذلك أبعد من التهمة، ولا أحفظ في ذلك خلافاً وذكره الطحاوي في مختصره.
مسألة

(103/16)


قال: ومن وطئ مستأجرة أو مستعارة وجب عليه الحد، وكذلك من وطئ امرأة تزوج بها وهي ممن لا يجوز له التزوج بها عالماً بالتحريم لزمه الحد، أما المستعارة والمستأجرة إذا وطئها المستعير والمستأجر، فإنا نوجب عليه الحد؛ لأنَّه زنا محصن، ألا ترى أنَّه لم يقع مع عقد نكاح ولا شبهة من عقد ولا مع ملك ولا شبهة ملك فلم يكن وجه لدفع الحد عنه، فأما من تزوج عن لا يحل له التزويج بها بالإجماع، كذات رحم محرم أو ما أشبهه، فإن أبا حنيفة يقول لأحد أو لم يعلم وعندنا وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي يلزمه الحد إن علم أنَّه حرام، والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما أجمع المسلمون عليه أن ما جرى بينهما من الإيجاب والقبول لا حكم له وإن وجودهما كدمهما فكان سبيله سبيل من وطئها بغير عقد في وجوب الحد عليه؛ لأنَّه يجز بينهما حد عقد له حرمة، فأشبه أن يجزي هذا الحد بين الذكرين أو بين الانثيين؛ لأنَّه عقد مجمع على أنَّه لا يقع، فوجب أن لا يكون له حكم درء الحد عقد؛ لأنَّه عقدٌ مجمع على أنَّه لا يقع عنه، وأيضاً يدل على ذلك قول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِيْ} وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر تجلد وتنفى والثيب بالثيب تجلد وترجم> فأجمعوا أن قوله: <خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا> أراد به السبيل الذي قال الله عز وجل: {اللاتِيْ يَأْتِيْنَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِّسَاءِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ..} إلى قوله: {سَبِيْلاً}، فجعل ذلك صلى الله عليه وآله وسلم من أتى الفاحشة وقد سمى الله نكاح ذات المحرم فاحشة بقوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلاَّ ما قد سلف إنَّه كان فاحشة} فبين أن وطئهن فاحشة على كل حال فوجب أن يثبت الحد.
فإن قيل: استدلالكم بالآية لا يصح؛ لأنا لا نسلم أنَّه يسمى زنا؛ لأن العرب لم تكن تعرفه بالزنا.

(103/17)


قيل له: العرب كانت تسمي الزنا كل وطئ جرى بين الرجل والمرأة من غير أمر يبيحه في الأصل فإذا علمنا أن هذا الوطء جرى وليس هناك أمرٌ يبيحه في الأصل علمنا أنَّه زنا فإن غلطوا هم في بعض الأمور، فاعتقدوا أنها مبيحة فالخلاف بيننا وبينهم يكون في المعنى لا في الاسم ومثال هذا أنهم سموا الأصنام آلهة حين اعتقدوا أن الإله اسم لمن يستحق العبادة، فكانوا مصيبين، ثُمَّ لما اعتقدوا أن الأصنام نستحق العبادة فأخطئوا في هذا الاعتقاد الثاني وحصل الخلاف بيننا وبينهم في المعنى والقصد لا في الاسم، فإذا ثبت ذلك وعرفنا حال هذا الوطء أنَّه لم يعرض أمر يبيحه في الأصل علمنا أنَّه زنا.
فإن قيل: روي أن رجلاً تزوج على عهد عمر بامرأة وهي في عدة فأوجب فيه المهر هو وعلي ولم يوجب الحد واختلفنا في المهر فجعله علي عليه السلام لها وجعله عمر لبيت مال المسلمين.
قيل له: لأن ذلك وقع والرجل غير عالم بالتحريم، ونحن لا ننكر أنَّه لو لم يعلم التحريم لم يلزمه الحد، فلا حجة لكم فيه.
فإن قيل: هو وطء وقع عن نكاح فاسد فأشبه النكاح بغير شهود.

(103/18)


قيل له: هذا الأقرب على أصولنا أنَّه إذا تزوج بغير شهود مع العلم بتحريمه أنَّه نكاح باطلٌ وفرق عندنا بين الباطل والفاسد؛ لأن النكاح الفاسد هو الذي يجوز أن يصح على وجه من الوجوه، فأما الذي لا يجوز ذلك فيه بتة فهو نكاح باطل مثل نكاح الذكرين أو نكاح الانثيين، ويوضح ذلك ما حكيناه عن العرب في باب الاسم أنهم لا يسمون المأخوذ من الجواري في الغارات إذا وطئن زنا؛ لأنهم اعتقدوا أن ذلك سببٌ يبيح ونحن نعلم أنَّه زنا، وكذلك ما اختلفنا فيه على أن هذا الوطء عندهم حرام، وإنما يدرؤون الحد للشبهة، والشبهة، أما أن يكون داخله على الواطئ أو يكون الشيء من رجمه أن تكون فيه شبهة ولم يحصل واحد من الأمرين فيه؛ لأن الواطئ لا شبهة عليه في أنه حرام والوطء الذي فيه شبهة كالوطء يقع في ملك غير تام أو في نكاح فاسد مختلف فيه يجوز أن يصححه حاكم من الحكام، أو في ملك فاسد.
مسألة
قال: وإذا أقامت الشهادة بالزنا على امرأة فادعت الإكراه ولم تقم الشهادة بالمطاوعة درئ عنها الحد، وذلك أن الحد لا يجب مع كونها مكرهة على الزنا، لا خلاف فيه قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفَوْرٌ رَحِيْمٌ}، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: <رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه>، فإذا لم تقم البينة على المطاوعة فالقول قولها في أنها لم ترض.
مسألة

(103/19)


قال: ومن زنا بذات رحم محرم أقيم عليه حد مثله، ثُمَّ كان للإمام تأديبه بحسب رأيه، وهكذا القول في الذمي إذا زنا بمسلمة سواء كانت مستكرهة أو مطاوعة، الأصل في هذا ما روى محمد بن منصور بإسناده عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن علي أنَّه أتى برجل سكران من الخمر في شهر رمضان فتركه حتى صحى، ثُمَّ ضربه ثمانين جلدة، ثُمَّ أمر به إلى السجن، ثُمَّ أخرجه من الحد فضربه عشرين، فقال: ثمانون للخمر وعشرون لجرأتك على الله في رمضان، فمن زنا بذات رحم حرم لزمه حد الزنا، ثُمَّ لزمه من التعزير ما يراه الإمام لهتكه حرمة الرحم التي عظمها الله بقوله: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِيْ تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}، فكما فعل أمير المؤمنين بمن هتك حرمة شهر رمضان في شرب الخمر فيه، وكذا الذمي إذا زنا بمسلمة أقيم عليه حد مثله وعزره الإمام لاستحقاقه بتعظيم الإسلام.
فإن قيل: روي عن علي عليه السلام إذا زنا الذمي بالمسلمين قتلناه.
قيل له: لم يثبت ذلك عن علي؛ لأن زيداً روى عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام: من شتم نبياً قتلناه، ثُمَّ قال: ومن زنا من الذميين بمسلمة قتلناه. فيحتمل أن يكون ذلك قول زيد أدرجه في الكلام، فلم يثبت عن علي وإن كان المستحق هو الرجم قدم التعزير لئلا يفوت بتقديم الرجم.
مسألة

(103/20)


قال: ولو أن رجلاً زنا بنساء عدة ثُمَّ رفع إلى الإمام أقام عليه حداً واحداً، فإن عاود الزنا بعد الحد أعيد عليه الحد، وكذلك إن زنا بامرأة واحدة فعادت ثُمَّ رفع إلى الإمام لم يكن عليه إلاَّ حد واحد، وذلك لقول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِيْ فَاجْلُدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}، ولم يشترط أن يكون الزنا مرة واحدة أو مراراً والمزني بها واحدة أو أكثر، فوجب بحكم الظاهر أن على كل زانٍ وزانية مائة جلدة من غير اعتبار ما ذكرناه، أيضاً لزمه الحد لكونه زنياً كما لزمت الطهارة لكون الإنسان محدثاً، فلم يجب أن يكون تعدد الزنا معتبراً كما لم يجب أن يكون تعدد الأحداث معتبراً؛ لأن الحكم تعلق بالصفة في الموضعين لا تعدد الأفعال، فإن عاد توجه الحكم عليه. ثانياً كما يتوجه في الحد، وهكذا القول في كفارة الظهار وكفارة اليمين.
مسألة
قال: وأقل من يحضر الحد الإمام والجلاد وثلاثة وذلك لقول الله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ}، وأقلهم خمسة، الإمام أو من يقوم مقامه والشهود الأربعة ويجلد أحدهم.
باب القول في الشهادة على الزنا

(103/21)


لا يجب الحد على من لم يعترف بالزنا حتى يشهد عليه أربعة بالإيلاج، وهذا ما لا خلاف فيه، لقول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتُ} الآية، فلم يثبت صحة ما رمي إلاَّ بأربعة شهداء، وقال الله تعالى: {وَاللائِيْ يَأْتِيْنَ الفَاحِشَةَ مِنْ نَسَائِكُمْ} إلى قوله: {فَامْسِكُوهُنَّ فِيْ الْبُيُوتِ} فنسخ الإمساك بالجلد والرجم وبقي حكم الشهادة على ما كان لا ناسخ له، ويجب أن يشهدوا على المعاينة للإيلاج لا خلاف فيه لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه استفسر المقر بالزنا على هذا الحد وعلى مذهب يحيى عليه السلام وما نبه عليه في المنتخب يجب أن تكون الشهادة على إتيان الذكران أربعة كالشهادة على الزنا، وكذلك على تمكين المرأة من دبرها، وذلك أنَّه عز وجل لما قال: {وَاللاتِيْ يَأْتِيْنَ الْفَاحِشَةَ} وقد ثبت أن التمكين من الدبر من الفاحشة؛ لأن الله عز وجل سماه فاحشة في غير موضع من القرآن عند ذكر قوم لوط ولم يستثن عز وجل فاحشة من فاحشة فوجب أن يكون الجميع لا يصح إثباته إلاَّ بأربعة، وكذا لما قال الله: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتُ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ}، فكذلك إتيان الذكران، والعلة أن كل واحد منهما فاحشة لا تتم إلاَّ بنفسين، وقد نبه على هذا في المنتخب إن تقول، قد ثبت عندنا أن للرجم مدخلاً في إتيان الذكران، فأشبه الزنا في هذا فوجب أن لا يثبت إلاَّ بشهادة أربعة، وبه قال الشافعي.
مسألة

(103/22)


قال: وإذا شهد أربعة بذلك وجب على الإمام أن يسأل عن إسلام الشهود وعدالتهم وعقولهم وحصة أبصارهم، وذلك لأن الشهادة لا تتم إلاَّ بذلك؛ لان من ليس بعدل ولا بعاقل لا تقبل شهادته في شيء من الحقوق، فأولى أن لا يقبل في الحدود، كذلك من كان في بصره آفة تمنعه من الإدراك لا يصح أن يشهد على المعاينة، قال: وإذا ثبت عنده وجب أن يسأل هل بينهم وبين المشهود عليه عداوة، فإن لم يعرف بينهم عداوة وجب أن يسأل عن المشهود عليه هل هو عاقل، ثُمَّ يسأل عنه، هل هو حر أو عبد محسن أو غير محصن، فإذا ابن له جميع ذلك أقام عليه حد مثله وجب أن يسأل هبل بين الشهود والمشهود عليه عداوة؛ لأن العداوة توجب أشبهه لما يعرض فيها من التهمة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: <ادرؤوا الحدود بالشبهات، وكذلك يسأل عن الحرية الرق والإحصان؛ لأن الحكم في جميع ذلك يتغير وعلى الإمام أن لا يجاوز في الحد ما أمر به ولا يقصر دونه وذلك لا يتم إلاَّ بما ذكرنا.
مسألة
قال: وتثبت العدالة والحرية بشاهدين ويجيء على قوله برجل وامرأتين؛ لأنها كسائر الحقوق من النكاح والطلاق والديون وما أشبه ذلك، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأظن أن قول الشافعي أنهما يثبتان بشاهدين فقط.
مسألة

(103/23)


قالوا: ولو أن أربعة شهدوا على رجل بالزنا عند الإمام ثُمَّ رجع بعضهم، كان على الراجع حد القاذف، ولم يجب الحد على باقي الشهود ولا على المشهود عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف أنَّه رجع قبل أن يضرب، وقبل أن يكمل الحد حد الجميع حد القاذف، وإن رجع بعد تكميل الحد حد الراجع وحده، وعند زفر لأحد على الراجع، وعند محمد إن رجع قبل الحكم حدوا جميعاً وإن رجع بعد الحكم حد الراجع وحده ووجه ما ذهبنا إليه أن الشهادة بالوقوع قد تمت فرجع من يرجع لا يمنع من صحة وقوعها فيجب أن يدرأ عنهم الحد؛ لأن الله تعالى أوجب حد القاذف بشرط أن لا يشهد أربعة على ذلك، فإذا شهدوا لم يجب الحد وأيضاً لا خلاف بيننا وبينهم أن بعد تكميل الحد لا يحد من لم يرجع، فكذلك قبل ذلك، والمعنى أن شهادة الأربعة قد حصلت فلا معتبر برجوع من يرجع بعد ذلك.
فإن قيل: الشهادة ما لم يقع بها الحكم أو يقع بها الحد في حكم ما لم يكن.
قيل له: ليس ذلك كذلك؛ لأن الشهادة إذا حصلت لو كانت في حكم ما لم تحصل لم تجب أن تقع بها حكم ولا أن يقام بها حد وفي صحة ذلك دليل على أنها إذا حصلت كانت حاصلة وسقط حكم القذف على أن الحدود تدرأ بالشبهات، وحصل شهادة الأربعة أقل ما فيها أن تكون شبهة في درء الحد، فأما الراجع فيلزمه الحد خلافاً لما ذهب إليه زفر؛ لأنَّه أقر على نفسه بالقذف، ولا ينفعه حصول الشهادة؛ لأنَّه مكذب بها، وقلنا: لا شيء على المشهود عليه؛ لأن الشهادة قد اختلت وصارت غير تامة؛ لأنَّه لا خلاف فيه؛ لأنا لو حددناه لحددناه شهادة ثلاثة، وذلك خلاف ما أمرنا به.
مسألة

(103/24)


قال: وإن رجع بعد أن أقيم الحد على المشهود عليه لزمه بقسط شهادته من أرش الضرب وإن كان رجماً لزمه من الدية بقسطها وهو الربع، فإن كان جلد ورجم في دفعة فالواجب أن يضمن ربع الدية؛ لأن الأرش يدخل في الدية، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: لا أرش عليه ولا دية، والدليل على ما قلناه أنَّه أقر بإتلاف العضو والنفس، فوجب أن يضمن؛ لأن ما فعله الإمام بشهادته في حكم ما فعله دليله لو شهد بمال فحكم بشهادته وسلم المال إلى المدعي ثُمَّ رجع أنها يضمن؛ لأنَّه أقر بإتلاف ما تلف بشهادته، ويدل على ذلك ما رواه زيد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهما السلام أن شاهدين شهدا عنده على رجل أنَّه سرق فقطع يده ثُمَّ جاء بالآخر فقالا: يا أمير المؤمنين غلطنا هذا الذي سرق، والأول بريء، فقال عليه السلام عليكما دية الأول ولا أصدقكما على هذا الآخر، ولو أعلم أنكما تعمدتما قطع يديه لقطعت أيديكما ولم يرو عن غيره من الصحابة خلاف فجرى مجرى أجملهم على أن قوله عندنا حجة.
مسألة
قال: وإن ادعى الراجع خطأ كان ذلك عالته، وإن ادعى التعمد قتله به، وذلك أن الخطأ في الجناية على بني آدم يلزم العاقلة لا خلاف فيه.
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا تعقل العاقلة عمداً إلى قوله: <ولا اعترافاً، وهذا أقرب بالخطأ، فيجب أن لا يلزم العاقلة.

(103/25)


قيل له: هذا غلط وذلك أن الجناية لم تثبت باعترافه؛ لأن جنايته قد عرفها الإمام والمسلمون؛ لأن جنايته كانت هي الشهادة، وتلك لم تعرف من جهته، والرجوع ليس بجناية، وادعاء الخطأ ليس بجناية، فصح ما قلناه، فأما إذا قال: تعمدت لزمه القود؛ لأنَّه أقر بإتلاف النفس على وجه العمد على وجه يوجب القتل؛ لأن القتل بالرجم يوجب القود إذا وقع ظلماً؛ لأن رجوعه عن الشهادة مع قوله تعمدت وقد نفذ الفعل يجري مجرى إقراره بأنه فعل الفعل الذي فعله الحاكم على سبيل العمد، فكأنه قال: رجمته متعمداً، فوجب أن يقتل ويدل عليه قول أمير المؤمنين، ولو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما، فبين أنَّما ثبت عليه أنَّه تعمد بشهادته مما يؤدي إلى التلف يلزمه فيه العمد، قال: أو صالح أو لياء الميت من خاصة ماله لا خلاف فيه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم <لا تعقل العاقلة عمداً>.
مسألة
قال: وإذا شهد بالزنا شاهدٌ واحد ثُمَّ نكل الثاني أو شهد شاهدان ثُمَّ نكل الثالث أو شهد ثلاثة ثُمَّ نكل الرابع وجب على من شهد حد القاذف ولم يلزم المشهود عليه ولا الناكل شيء، وبه قال أبو حنيفة وأحد قولي الشافعي لزمهم الحد؛ لأنهم لما لم تعم شهادتهم صاروا قذفه فلزم كل واحد حداً يقذف، وروي أن ثلاثة منهم أبو بكرة شهدوا عند عمر على المغيرة بن شعبة بالزنا ونكل زياد بن أبيه فحد عمر الثلاثة ولم يلزم زياداً في نكوله ولا المغيرة بشهادة الثلاثة عليه شيئاً وذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد، فجرى مجرى الإجماع، وإنما لم يلزم المشهود عليه شيء؛ لأن الشهادة عليه لم تتم ولم يلزم الناكل شيء؛ لأنَّه لم يدخل في أمره فهو كسائر الأجانب.
مسألة

(103/26)


قال: ولا تثبت الشهادة على الزنا حتى يشهدوا أنهم رأوه يزني في وقت واحد ومكان واحدٍ فإذا اختلفت الشهود في الموضع الذي وقع فيه الزنا درئ عنه الحد، وعنهم جميعاً، وهذه الجملة لا خلاف فيها إلاَّ في موضع أذكره؛ لأن الشهادة على الإيلاج لا تتم إلاَّ بالرؤية والمعاينة، وإذا اختلفوا في المكان أو الوقت لم تثبت شهادتهم؛ لأن شهادة كل واحد منهم تكون على غير ما شهد به الآخر؛ لأن الأفعال تتغاير بتغاير الأزمنة والأمكنة، فلا تكون شهادتهم متناولة أمراً واحداً، قال أبو حنيفة: إن اختلف الشهود في زوايا البيت قبلت شهادتهم وبه قال أبو يوسف ومحمد، قال: والقياس يوجب ألا تقبل لكنها قبلت استحساناً، وعن زفر والشافعي أنها لا تقبل وهو الصَّحيح للوجه الذي بينا أن تغاير الأمكنة يقتضي تغاير الأفعال وإن شهادتهم لا تكون واقعة على أمر واحد، ألا ترى أنهم لو اختلفوا في البيوت لبطلت شهادتهم، فكذلك إذا اختلفوا في الزوايا للعلة التي ذكرناها وأصحابه خرجوا ذلك على البيت الصغير الذي تتقارب زواياه فيراه بعض الشهود فيقدر أنَّه أقرب إلى بعض الزوايا وبعضهم يقدره إلى الزوايا الأخرى أو الحركات تقضي به من زاوية إلى زاوية، وكل ذلك بعيد وأقل ما فيه أن شبهه، ويدرا بها الحدود، وأما الشهود لا يحدون؛ لأن عدد الشهادة قد حصل فيدرأ عنهم الحد لذلك أو لأن أقل ما فيه أنَّه شبهة فيدرأ بها عنهم حد القذف، وهذا مما لست أحفظ عن غير أصحابنا.
فصل

(103/27)


كلامه في الأحكام يقتضي أن الشهود لو حضروا الحاكم مفترقين بطلت شهادتهم وبه قال الشافعي: وقال أبو حنيفة إن حضروا مفترقين بطلت شهادتهم وكانوا قذفه، ويدل على صحة قولنا قول الله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةٌ مِنْكُمْ}، وقال: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتُ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ}، فعلق الحكم على عدد الشهود ولم يشترط فيه الاجتماع ولا الافتراق فعلى أي وجه حضروا وأدوا الشهادة تكون شهادتهم ثابتة، وروي أن هلال بن أمية لما رمى زوجته بالزنا، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك> ولم يشترط أن يكونوا مجتمعين وأيضاً لا خلاف بيننا وبينهم أنهم إذا اجتمعوا عند الحاكم، ثم شهدوا مفترقين؛ لأن شهادة الأربعة قد تمت، وأيضاً سائر الشهادات لا فرق بين اجتماع الشهود عليها أو افتراقهم إذا تم العدد، فكذلك شهود الزنا إذا تم العدد، إن قالوا: إذا جاء واحداً في الشهادة على أنا لا نسلم لهم أنهم يصيرون قذفه بعد أن تم الشهادة أربع.
فإن قيل: لو جاز انتظار الواحد بعد الواحد لم يجب إقامة حد القاذف على الشاهدين أو الثلاثة لجواز أن يجيء من تتم بهم الشهادة.
قيل له: هذا يلزمكم فيما لتزمتموه؛ لأنَّه كان يجب ألا يقام الحد لجواز أن لا يحضروا أربعة مجتمعين.
مسألة

(103/28)


قال: ولو أن شاهدين شهدا بالإحسان على الزاني ثُمَّ رجع أحدهما قبل إمضاء الحد لم يلزم الذي لم يرجع شيء، وكان للإمام أن يؤدب الراجع أن بأن له منه تخليط وإذا رجع أحدهما بطل الإحصان؛ لأن الحد لم يمض والمقيم على الشهادة لا شيء عليه؛ لأنَّه لم يكذب نفسه وللإمام أن يرى رأيه في تأديب الراجع أن بأن له منه ما يجري مجرى الخيانة في إقامة الشهادة أو الرجوع عنها لجنايته في أمر يتعلق بذم المسلم أو بإبطال حد لله عز وجل، قال، فإن رجع بعدما مضى الحد أن القول في إلزامه الدية أو القتل كالقول فيمن شهد بالزنا ثُمَّ رجع، قال أبو حنيفة: أن الشهود إذا شهدوا بالزناء والإحسان ثُمَّ زكاهم المزكون حتى أمضى الحد ورجع المزكون عن التزكية أنهم يضمنون قال أبو يوسف ومحمد لا يضمنون ووجه ما ذهبنا إليه أن الرجم ثبت بشهادة شهود الإحصان مع شهود الزنا، ألا ترى أن شهود الزنا شهدوا لم تشهد شهود الإحصان، كان لا يرجم، فإذا ثبت ذلك جرى مجرى شهود الزنا في انهم يضمنون إذا رجعوا، وليس كذلك المزكون؛ لأنهم لم يشهدوا على محصن بالزنا فرجم ثُمَّ علم الإمام أنَّه كان مجنوناً لزم الإمام أن يؤدي ديته من بيت مال المسلمين، وذلك أنَّه خطأ وقع من جهة الإمام، فوجب أن يكون ضمانه راجعاً إلى بيت مال المسلمين على ما سلف القول فيه، قال: وإن وجده الإمام مملوكاً عبد الرجم وجب عليه إخراج قيمته من بيت المال، فإن كان الشهود شهدوا بحريته ثُمَّ وجد مملوكاًً كانت قيمته لمولاه على الشهود والوجه في هذا ما تقدم، فلا معنى لإعادته.
مسألة

(103/29)


قال: ولو أن امرأة قامت عليها الشهادة بالزنا، وأقيم عليها الحد ثُمَّ شهد نسوة أنها رتقاً لم يكن على الإمام ولا على الشهود شيء، وذلك أن الأموال لا تضمن بشهادة النساء وحدهن، وأما الحدود فلا تقبل فيها شهادة النساء أصلاً ولو لزم الشهود شيئاً لكان هو الأرش أو حد القاذف وأيضاً لا يجب أن ينقض حكم قد أمضي بشهادة لشهادة مثلها، كما أن الحكم إذا مضى بشيء من الاجتهاد مل ينقض باجتهاد مثله هذا لو تساوت الشهادتان، فكيف وقد بينا أن هذه الشهادة الأخيرة لا تقع موقعها، قال: وإن شهد نسوة بذلك قبل إقامة الحد سقط عن الشهود عليها أيضاً الحد، وذلك أن شهادتهن وإن لم توجب حد القذف على الشهود فأقل ما فيها أن تصير شبهة في درء الحد عن التي قامت عليها الشاهدة بالزنا فسقط عنها الحد، وروى محمد بن منصور بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي عليهم السلام أنه أتى بامرأة بكر زعموا أنها زنت فأمر النساء فنظرت إليها قلنا هي عذراء، فقال علي عليه السلام: ما كنت لأضرب من عليها خاتم الله، وكان يجيز شهادة النساء في مثل هذا فأجاز شهادتهن لإسقاط الحد ووجهه أنَّه جعلها شبهة في الحديث.
مسألة

(103/30)


قال: وإذا شهدوا بالإحصان ثُمَّ تبين للإمام خلاف ذلك، كان القول فيه كالقول فيمن شهد بالحرية ثُمَّ تبين للإمام خلاف ذلك، وذلك أن الحرية في هذا الباب كالإحصان، وتعلق الحد به كتعلقها، فلذلك قلنا أن حكمها في هذا الباب واحدٌ، وقال: ولو أن أربعة شهدوا على رجل بالزنا فوجد أحدهم ذمياً أو .... أو مجنوناً، وروي عنه الحد، وعن الشهود جميعاً، أما درء الحد عن المشهود عليه، فإن الشهادة لم تحصل على وجه يوجب الحد؛ لأن الشهادة مفتقرة إلى العدالة والإسلام، ثُمَّ إلى صحة البصر؛ لأن هذه شهادة عن معانيه وأوجبنا سقوط الحد عن الشهود؛ لأن الشهادة قد تمت من جهة العدد، فصار ذلك شبهة في درء الحد عن الشهود، قال: وإن كان الإمام قد أمضى الحد بشهادتهم ثُمَّ عرف ذلك من حالهم كان عليه إخراج ما يجب فيه من بيت مال المسلمين، وذلك أن هذا من خطأ الإمام وقد بينا أن الإمام إذا أخطأ فيما هذا سبيله فيجب أن يكون ضمانه من بيت مال المسلمين.
مسألة
قال: ولا تجوز شهادة النساء في شيء من الحدود وسواء كن وحدهن أو كان معهن رجال، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً، وروى الزهري قال: قد مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود، ولا في القصاص.
مسألة

(103/31)


قال: ومن اعترف بالزنا من رجل أو امرأة فلا حد عليه حتى يقر عند الإمام أربع مرات، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه قال الشافعي: يحد بإقراره مرة واحدة، والأصل فيه ما روي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن رجلاً من أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع مرات فلما أن جاء في الخامسة، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <أتدري ما الزنا>؟ قال: نعم أتيتها حراماً حتى غاب ذاك منني في ذاك منها كما تغيب المرود في المكحلة والرشا في البئر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجمه فرجم، وعن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جاء ماعز إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاعترف بالزنا مرتين، فقال: شهدت نفسك أربع مرات، فاذهبوا فارجموه، وروى نحوه عن سماك، عن جابر بن سمرة، وعن يزيد بن نعيم بن هزال، عن أبيه ذكر قصة ماعز، وأنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأقم علي حد الله، فأعرض عنه فعاد حتى قال أربع مرات، وذكر الحديث، وعن جابر بن عبد الله أن رجلاً من أسلم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد فناداه فحدثه أنَّه زنا فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتنحا لشقه الذي أعرض فأخبره أنَّه زنا وشهد على نفسه أنَّه زنا أربع مرات، فقال: هل بك جنونٌ؟ قال: لا. قال: فهل حصنت؟ قال: نعم: فأمر به أن يرجم بالمصلى، وعن ابن شداد عن أبي ذر، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأتاه رجل فأقر عنده بالزنا فرده أربعاً، ثُمَّ نزل فأمرنا فحضرنا له حفرة ليست بالطويلة، فأمر به فرجم، وروي عن الشعبي، عن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رد ماعزاً أربع مرات، وروي نحوه عن هريرة فدل طاهر هذه الأخبار على أن الحد وجب بعد الرابع.

(103/32)


فإن قيل: إنَّما كان الترديد لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم استراب بعقله ولم يصرح بالزنا، وروي أنَّه جاء كاسر الرأس محمر العينين.
قيل له: كل ذلك كان ممكناً في دفعة واحدة لولا أن الحد وجب بعد الرابع على أن علياً ذكر أن رجلاً من أشلح جاء فشهد على نفسه بالزنا وفيما روي عن ابن عباس أنَّه صلى الله عليه آله وسلم قال: شهدت على نفسك أربع مرات، فدل ذلك على أن إقراره كان قد صح في كل مرة، فلو كان الحد يجب بإقراره مرة واحدة لم يجز أن يردده، ألا ترى إلى ما روى عنه أنَّه قال: ما ينبغي لوالٍ أن يؤتى بحدٍ إلاَّ أقامه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: <تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد> ويدل على ذلك ما روي أن أبا بكر، قال له: إنك إن اعترفت الرابعة رجمك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وروي عن بريدة أنا كنا نتحدث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الغامدية وماعز بن مالك لو ارجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما وإنما رجمهما بعد الرابعة، فدل ذلك على أن حكم الإقرار كان معلوماً عندهم وإن الحد لا يجب إلاَّ بعد الرابع.
فإن قيل: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <اغد يا أنيس على امرأته فإن أقرت فارجمها> دليلٌ على أن الرجم يجب بإقراره من مرة واحدة.

(103/33)


قيل له: ليس في ذلك بيان عدا الإقرار، هذا كما يقول إن أقام البينة فافعل لا يفعل من هذا عدد البينة ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أطلق ذلك القول لأنيس؛ لأنَّه كان عرف حكم عدد الإقرار، ألا ترى أنَّه لم يقل له سئل عن عقلها، وإن كان لابد منه، وروي عن علي رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن امرأة أتته فاعترفت عنده بالزنا، فرددها حتى فعلت ذلك أربع مرات ثُمَّ رجم ولا يحفظ عن أحد من الصحابة أنَّه خالفه، فجرى مجرى الإجماع منهم، ويؤكد ذلك أن الحدود لا يجب إقامتها إلاَّ توقيفاً لا توقيف في الإقرار دون أربع مرات؛ لأن معنىً يثبت به حد هو حق لله خالصاً، فوجب أن يعتبر فيه العدد .... الشهادة أكد حكماً من الإقرار لإمكان أن يسقط الحد عن نفسه بعد الإقرار، فلما روعي في الشهادة من التأكيد ما لم يراع في سائر الشهادات كان الإقرار أولى بذلك.
فإن قيل: فقد روي يبدلنا صفحته نقم عليه حد الله.

(103/34)


قيل له: الخلاف فيما تبدأ به الصفحة وعلي الإمام أن يزجره عند كل إقرارةٍ زجرة خفيفة، وذلك لما روي أن ابن عباس قال: إن ماعزاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقر بالزنا مرتين فطرده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي غيره من الأحاديث أنَّه أعرض عنه، قال: وإذا أقر أربع مرات سأله عن الزنا ماهو؟ وكيف هو؟ فإن عرف سأل عن عقله، إذا أصح له عقله عرفه أنَّه إن يثبت على إقراره أقام عليه حد مثله لما روي عن علي عليه السلام أنَّه قال في الخامسة أتدري ما الزنا؟ فقال: نعم أتيتها حراماً حتى غاب ذلك مني في ذاك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشا في البئر، وروي أنَّه قال لما عز إنك مجنون، قال: لا. ولما روي عن أبي بكر أنَّه قال: إن أقررت الرابعة رجمك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويكون إقامه في الثبات على الإقرار على بصيرة، قال: فإن وقع في إقراره شيء يوجب درء الحد درأه عنه؛ لأن الإقرار لا يكون قدتم ووقع على وجه يوجب الحد وبقوله، ادرؤوا الحد بالشبهات، ولما روي عن علي عليه السلام أنَّه قال: لأن أخطئ في العفو أحب إليَّ من أن أخطي في العقوبة.
مسألة
قال: فإن رجع عن إقراره بعد ذلك كله قبل الإمام رجوعه ودرأ عنه الحد، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك وصاحب الظاهري أنَّه لا يقبل رجوعه، والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه ما روي عن أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه عليه وآله وسلم أتي بلص قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاعاً فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <ما أخالك شرقت> قال: بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً فأمر به فقطع، فدل هذا الحديث على أن الرجوع بعد الاعتراف صحيح لو لا ذلك لم يكن في تلقين النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياه فائدة.
فإن قيل: عندكم القطع لا يجب إلاَّ بعد إقرار مرتين، فما أنكرتم أن يكون لفن؛ لأن الإقرار لم يكن استقر بعد.

(103/35)


قيل له: في الحديث ما يبطل هذا التأويل؛ لأن فيه أنَّه اعترف ثُمَّ قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين أو ثلاثاً، ولو كان الأمر على ما قلتم لكان يقول ذلك مرة واحدة، وقد روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لماعز حين أقر بالرابعة: لعلك لمست، لعلك قبلت، فلقنه ما يجوز أن يكون رجوعاً، وكذلك قوله: أتدري ما الزنا، قال: نعم، يدل على ذلك، وروي عن علي عليه السلام أنَّه قال للتي أقرت عنده بالزنا، لعلك اعتصبت لعلك زوجك من عدونا، فكان ذلك كله تلقين الرجوع، فلو لا أن رجوع المقر كان صحيحاً كان لا معنى لذلك، وروي في قصة ماعز بن مالك أنَّه لما أخذه حر الحجارة واشتد فهرب فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز.... فرماه بلحي جمل فقتله فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هلا تركتموه، وكذلك فيما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في قصة المعترف بالزنا لما أمر برجمه فرَّ فأخذه حر الحجارة

، ثُمَّ مؤخر صلى عليه، فلما منع نفسه من بذله ن القول، قال صلى الله عليه وآله وسلم: <هلا مقدم تركتموه> فلقيه رجلبلحي جمل فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <صلى الله عليه وآله وسلم: <هلا ترتموه إلى..> إذا ثبت أن هربه يوجب تركه مع احتماله ألا يكون الهرب للرجوع بل لأغراض كثيرة كان الرجوع عن الأقوال بذلك أولى.
فإن قيل: كيف يجوز أن يقول لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وهم لو تركوه لكانوا عصاة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أمرهم به.

(103/36)


قيل له: لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرفهم أن الرجوع عن الإقرار يوجب سقوط الحد، فهلا اعتبروا أمر الهرب وهلا ردوه إلى الرجوع فيتركوه إلى أن يعود أولى إن ارتابوا به، فإن هذا القدر من الإجتهاد جائز في حال غيبتهم عن مشاهدة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <من أبدا لنا صفحته أقمنا عليه حد الله>.
قيل له: معناه من أقام على ذلك، فأما من رجع فليس هو في تلك الحال مبدياً صفحته.
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لأنيس: <إن اعترفت فارجمها>.
قيل له: معناه أن إقامت على الإعتراف كما تقول إن أقام البينة فاحكم له معناه إن ثبت الشهود على الشهادة، ألا ترى أنَّه لو رجمها وقد رجعت عن الإعتراف يكون قد رجمها وهي غير معترفة.
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <فما بلغني من حد وجب>.
قيل له: لا يختلف في الوجوب، وإنما اختلفنا في السقوط إذا رجع عن الإقرار، ألا ترى أنَّه قد يجب بالشهادة، ثُمَّ يسقط برجوع الشهود، قال الجصاص: روي عن علي عليه السلام أنَّه أمر بضرب عبد أقر عنده بالزنا، وقال: للضارب أضربه حتى يقول أمسكه ولا يحتمل ذلك إلاَّ معنى الرجوع عن الإقرار، وأيضاً هو معنى يثبت ........... الزنا، فيجب أن يسقطه الرجوع كالشهادة على أن الحود مبنية على التسهيل، على أنها تدرأ بالشبهات وعلى أنَّه يستحب للإمام طلب وجه موصل إلى إسقاطها، فخالف في ذكر القصاص وحد القاذف وحقوق الأموال؛ لأن هذه الأشياء من حقوق بني آدم، فكان ذلك شاهداً لما هبنا إليه ومؤكداً له، قال: وإن أقام على اعترافه أقام عليه حد مثله، وذلك مما لا خلاف فيه؛ لأن إقراره جائز عليه، وإنما الخلاف في الرجوع منه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم من أقام على إقراع وقع، وكذا فعل أمير المؤمنين.
مسألة

(103/37)


قال: ويقام على المملوك الحد إذا قر على نفسه بالزنا أربع مرات وعمل في أمره ما وصفنا وذلك أن حكم المملوك حكم الحر إلاَّ في الرجم وفي عدد الجلد، فأما في غير ذلك من اعترافه والشهادة عليه فحكمه حكم الحر.

(103/38)


باب القول في حد القاذف
أيما رجل مسلم بالغ عاقل قذفه بالغ عاقل كان بالخيارين العفو عن القاذف ورفعه إلى الإمام، فإن .... إلى الإمام وثبت عند الإمام قذفه بإقرار القاذف وبينة المقذوف، سأل الإمام القاذف عن بينته بصحة ما قذفه، فإن أقام بينة أقيم على المقذوف حد مثله ولم يجب على القاذف شيء، وإن لم يقم بينة ضربه الإمام ثمانين جلدة إن كانحراً، وإن كان عبداً ضربه ثمانين جلدة، الأصل في ذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتُ..}الآية، وهذه الجملة لا خلاف فيها بين المسلمين، وقلنا إن المقذوف يجب أن يكون حراً مسلما؛ لأنهلا خلاف أحفظ في أن من قذف ذمياً أو عبداص فلا حدَّ عليه، ويجب أن يكون عاقلاً عفيفاً في الظاهر عن الزنا؛ لأنَّه لا خلاف في أن من قذف مجنوناً فهو في حكم من قذف صبياً في أنَّه لا حد عليه، كذلك ويجب أن يكون عفيفاً؛ أن من ظهر عليه الزنا فلا خلاف أنَّه لا حد على قاذفه، وقد قال الله عز وجل: {وَلَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ} فبان أنَّه إن أقام البينة على صحة ما قذفه به لم يلزمه الحد، فثبت أنَّه لابد من العفاف، فصار معنى الإحصان الذي يلزم به القاذف الحد إن يكون حراً مسلماً بالغاً عاقلاً عفيفاً عن الزنا والقاذف يجب أن يكون بالغاً عاقلاً؛ لأن العقوبة لا تلزم إلاَّ البالغ العاقل، فإن كان حراً قذف جلد ثمانين جلدة، كما نطق به ظاهر القرآن وإن كان عبداً جلد أربعين جلدة؛ إذ الدلالة قد دلت على أن حد العبد على النصف ن حد الحر فيما هو أعظم منالقذف وهو الزنا، فكذلك في حد القذف، والمعنى أنَّه حد يمكن تنصيفه، ولا خلاف أن للمقذوف أن يعفو قبل رفعه إلى الإمام، وأنه ليس له ذلك بعد رفعه؛ لأنَّه ليس كالقصاص في أنَّه حق محض للآدمي.
مسألة

(104/1)


قال: ولا يجوز قبول شهادة القاذف بعد ما حد أو لزمه الحد إلاأن يتوب من قذفه، وذلك لقول الله عز وجل: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِيْنَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، وبه قال: ولست أحفظ فيه خلافاً بين أهل اليبت، قال أبو حنيفة وأصحابه: لا تقبل شهادته ابداً تاب أو لم يتب، فظاهر الآية يدلعلى صحة ما ذهبنا إليه؛ لأن من حكم الإستثناء يصح رجوعه إلى جميع ما تقدم، فإذا صح رجوعه إلى الجميع وجب ذلك ولم يجز تخصيص بواحدة منه دون غيره إلاَّ بالدلالة، ألا ترى أن الشرط يجب أن يرجع إلى جميع ما تقدم؛ لأن قائلاً لو قال: علي صدقة درهم وصيام يوم وإطعام مسكين إن دخلت الدار، كان ذلك راجعاً إلى الجميع، فكذلك الإستثناء؛ لأن صحة رجوع كلواحد منهما إلى الجميع على سواء.
فإنقيل:قول الله تعالى:{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} يدلعلى ما قلناه، وإلا لم يكن لذكر التأبيد معنى؛ لأن المنع من قبول شهادتهم قد علم بقوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} فلا بد من أن يكون لذكر التأبيد فائدة أخرى.
قيل له: ذكرالتأبيد يدخل في الكلام للتأكيد، لا لأن يفيده فائدة أكثر من التأكيد، ألا ترى أن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِيْنَ فِيْهَا أَبَداً} ولم نستفد {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ نُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيْهَا}، وقال تعالى في موضع آخر: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَّ خَالِدِيْنَ فِيْهَا أَبَداً} فلم نستفد بإحدى الآيتين إلاَّ ما استفدناه بالأحرى ولميكن لذكر التأبيد فائدة أكثر من التأكيد، فكذلك في آية القاذفين.

(104/2)


فإن قيل: الآية اشتملت على أمرين أحدهما إبطال الشهادة، والثاني إثبات اسم الاسق، وقد علمنا ،ن الفسق مبطل للشهادة، فلو لا أن ذكر إبطال الشهادة أفاد معنى آخر وهو أن الشهادة غير مقبولة أبداً قبل التوبة وبعدها لم يكن لذلك إبطال الشهادة معنىً مع ذكر الفسق.
قيل له: بل لذكر الأمرين فائدة، تواد مذهبك وهو أنَّه تعالى كما قال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} لم لم يقل مع هذا التأكيد {وَأُلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} نبه على أن المنع من قبل الشهادة لفسقه ليعلم أن فسقه منع أن تقع شهادته مقبولة.
فإن قيل: رد شهادته تعلق بجلدة، وكما أن جلده لا يرتفع كذلك رد شهادته لا ترتفع.
قيل له: هذا غير مسلم لكم، بل نقول: إن رد شهادته تعلق بفسقه كما نقول في المحدود في الزنا والخمر والسريقة،ألا ترى أن شهادة هؤلاء كلهم تتعلق بأفعالهم التي استحقوا بها دون الحد، فكذلك القاذف على أن الحد لا يخلوا من أن يكوهن عقوبة أو تكفيراً ,أيهما كان لم يتعلق بطلان الشهادة به، فيجب أن يكون تعلقه بارتكاب ما ارتكب من المحظور على أن الأصول شاهدة لنا؛ لأن الشهادات يتعلق بطلانها بارتكاب ما يوجب العقوبات.
فإن قيل: إذا قلتم إن الإستثناء راجع إلى جميع ما تقدم فيجب أن يرجع إلى الحد فيسقط الجلد بالتوبة.
قيل له: الظاه يقتضي ذلك، وحكي عن الشعبي وهو أحد قولي الشافعي ونحن نخرجه من حكم الإستثناء بالدلالة وإلا فحكم الإستثناء يوجب ذلك، ووجه دليلنا أن الجلد حق لبني آدم، فلا يجب أن يسقط بالتوبة، وليس كذلك الشهادة؛ لأنها ليست حقاً ثابتاً لأحد؛ لأن حق الشهادة إنَّما هو للمشهود له وإبطال الشهادة هو إسقاط الحق دون قبولها.
فإن قيل: إذا قيل لفلان على عشرة دراهم إلاَّ ثلاثة دراهم إلاَّ درهم، فيكون الإستثناء الأخير يرجع إلى الذي يليه دون ما تقدم.

(104/3)


قيل له: ليس هذا عروض لما ذهبنا إليه، وذلك أن قوله إلاَّ درهما أمرٌ منفصل عن الجملة الأولى حكماً ولفظاً، ألا ترى أنَّه بقي ما ثبت بالجملة الأولى وما ذهبنا إليه هو أن الإستثناء إذا جاز رجوعه إلى جملة مسماه ولم يكن رجوعه إلى بعضها أولى من رجوعه إلى .... فيجب أن يرجع إلى الجميع وشبهنا بها الشرط، ولو كان ما ذكرتم في الشرط أيضاً لكان كذلك، وإن كان من حكم الشرط أن يرجع إىل الجميع، ألا ترى أن قائلاً لو قال: علي صدقة درهم ويام يوم إن دخلت الدار، فإذا جاء المطر فالشرط الثاني يرجع إلى الشرط الأول دون المشروط؛ لأن الشرط منفصل عن المشروط لفظاص وحكماً، فكذلك الإستثناء.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يجوز في افسلام شهادة محرب عليه شهادة الزور ولا شهادة مجلود حداً ولا ذي غمرٍ على أخيه>.
قيل له: المراد قبل التوبة، ألا ترى أن ذا الغمر على أخيه إذا ظهرت توبته قبلت شهادته، وكذلك المحرب عليه شهادة زور، وكذلك المجلود حداً علىأن من مذهب أبي حنيفة أن المجلود حداً تقبل شهادته إلاَّ في القذف ويشرط أن يكون جلد في حال الإسلام، فلناأيضاً أن نتأوله على ما دلت الدلالة عليه، ورى سعيد بن المسيب عن عمرأنه قال لأبي بكرة إن إن تبت قبلت شهادتك ولم ينكر ذلك أحد عليه وعلى أن جميع ما تعلقوا به ينقض بقولهم إن الذمي إذا حد في القذف ثُمَّ أسلم قبلت شهادته، ويمكن أنيجعل ذلك أصلاً، ويقاس عليه إذا حد ثُمَّ تاب بأن يقال: إنَّه تاب من قذفه بعد ما أقيم عليه حده فيجب أن يكون مقبول الشهادة كالذمي إذا أسلم وتاب من قذفه بعد حده.
فإن قالوا: اليهود والنصارى عندنا لم يدخل في حكم الآية من جهة اللفظ؛ لأن الله تبارك وتعالى إنَّما حكم بهذا فيمن لزمه اسم الفسق لوقوع حده فالأولى كانوا مستحين اسم الفسق قبل ذلك لكفرهم.

(104/4)


قيل له: هذا يوجب عليكم أن يجيزوا قبول شهادة التائب من القذف بعد الجلد إذاكان في حال قذفه، وقيل: ..... مرتكباً للكبائر؛ لأنَّه يكون مستحقاًاسم الفسق لارتكابه الكبائر قبل القذف، وقيل: الحدود هذا لهدم ما اعتمدتموه؛ لأنَّه نكتة التي بها تقولون.
فإن قيل: الشاهد يجب أن يكون عدلاً في دينه وعدلاً فيفعله لهذا ترد شهادة الفاسق، فإنه كان من أهل الإسلام، فإقامة الحد عليه تبطل عدالته من جهة الدين والفعل جميعاً، فإذا تاب فأن توبته أوجبت عدالته من جهة الفعل؛ لأن دينه هو الذي كان من قبل، واليهودي إذا حد فإنما بطلت عدالته من جهة الفعل ومنجهة الدين، فإذاأسلم وتاب حصلت له عدالة من جهة الدين الفعل، فوجب أن تقبل شهادته.

(104/5)


قيل له: هذا كله تمويه وتحكم، فأول ذلك أنا لا نسلم أن المطبل لعدالته هو إقامة الحد؛ لأن المبطل لعدالته هو القذف متى تعرى عن إكمال الشهادة، وبه استحق الجلد، وإذا كان ذلك كذلك فتعليلهم يوجب أن لا تبل شهادته وإن تاب قبل الجلد وشهادته إذا تاب قبل الحد عندهم مقبولة، ومنها أن القذف أو إقامة الحد عليه لم تسقط عدالته من جهة الدين وإنما أسقط عدالته من جهة الفعل، وإنما لا يطلق عليه اسم العدالة؛ لأن العدالة التامة تكون من جهة الإعتقاد ومن جهة الفعل، فنقول: إه عدل من جهة الإعتقاد كما نقول في الذمي هو عدل من جهة الأفعال يكشف ذلك أن المحدود في القذف عدل في اعتقاده؛ لأن تكلمها يتعلق بالإعتقاد، فهو والعدل سواء كمناكحتة وأكل ذبيحته وإجزاء صلاته وصيامه زكاته وحجه إلى غير ذلك مما يكثر عده، فبان أنعدالته من جهة الدين ثابتة، فإذا وافقتمونا على أن توبته تعيد إليه عدالته من جهة الفعل فقد صار عدلاً مطلقاص، فيجب أن يصح قبول شهادته يكشف ذلك أن العدالة ليست غير صحة الإعتقاد، فإذا كان الإنسان صحيح الإعتقاد وجب أن يكون عدلاً في اعتقاده، كما أنَّه إذا كان صحيح الأفعال كان عدلاً في أفعاله على أن الجلد لو اسقط عدالة الدين لكان الواجب على ما أصلتموه أن يكون كل من فسق لا تقبل شهادته أبداً أي فسق كان؛ لأن فسقه عندكم يكون قد أزال عدلة دنه وفعله وتوبته إنَّما تحصل عندكم عدالة فعله دون عدالة دينه، وهذا ظاهر البطلان.
فإن قيل: رد الشهادة لا يتعلق بالقذف بل يتعلق بالجلد؛ لأن القاذف يحتمل أن يكون صادقاً ويحتمل أن يكون كاذباً.
قيل له: فمن أقيم عليه الشهادة أنَّه زنا بجارية غيره يجوز أن يكون ملكها على صاحبها فاحتمل أن يكون وطئه حلالاً، واحتمل أن يكون زناً، فلا يجب أن يتعلق رد شهادته بالزنا.

(104/6)


فإن قيل: فالحكم إذا حكم برد شهادة فاسق قد حكم الحاكم بإطبالها يعينها فلم يجز أن تقبل وليس كذلك وشهادة القاذف بعد التوبة؛ لأن الحاكم لم يحكم بإبطالها بعينها وعلى أن الفاسق إذا أعاد شهادته بعد التوبة كان متهماً أنَّه أراد بها تصديق نفسه، وليس كذلك القاذف.
قيل له: لسي الأمر الأمر كذلك؛ لأنَّه ليست هناك شهداة تبطلها بعينها، فأما إن كان الحاكم من يرى إبطال شهادة القاذف بعد التوبة فحكم عليه بذلك ففيه نظر وليس هو منصوصاً عن أصحابنا ولا يبعد عندي أن لا تقبل شهادته هذا إن صح الحكم به والقرب أن لا يصح الحكم به؛ لأنَّه لا يصح أن تكون هناك دعوى مدع وجملة الأمر فيه نظر.
فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {فَأُلَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ومن ثبت عند الله من الكاذبين لم تقبل شهادته.

(104/7)


قيل له: هذا معناه على أحد الوجهين: أحدهما أنَّه نزلت في أصحاب الإفك على عائشة وسياق الآية علىذلك يدل لأنها في جملة القصة، والثاني أنها لو كانت عامة فالمراد أنهم في الحكم عند الله كذل إلاَّ أن يتوبوا، ألا ترى أنَّه جائز أن يكن فيهم من هو صادق في الحقيقة على أن من شهد الله عليه بالكذب إذا تاب قبلت شهادته؛ لأنَّه عز وجل قال في قصة الذي باهلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {فَنَجْعَلْ لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِيْنَ} يعني الذين باهلوا ولو أسلموا وتابوا قبلت شهادته، وكذلك الذي قال الله فيهم: {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَاذِبُونَ} والقياس فيه على وجوه نقيسه على سائر الفسقة في جواز قبول شهادتهم إذا تابوا ونقيسه على سائر المجلودين إذا تابوا ونقيسه على النصراني إذا حد في القذف ثُمَّ أسلم وتاب، وحكى أبو بكر الجصاص مثل قولنا عن مالك وعثمان البتي، حكى عن الأوزاعي وأظنه عن الحسن بن صالح بن حي أن كل من حد في الإسلام في قذف أو غيره لم تقبل شهادته، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن كل محدود تقبل شهادته غير المحدود في القذف، قال: ولا فصل بين أن يكون القاذف مسلماً أو ذمياً، وهذا لا خلاف فيه لعموم قوله: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فعم ولم يخص؛ ولأن سائر الحدود لا تخصيص فيه بين أهل الملة.
مسألة

(104/8)


قال القاسم عليه السلام: إذا ادعى القاذف بينة غيباً على صحة قذفه انتظر أجل مثله، قال: أجل مثله ولم يذكر شيئاً معيناً، قال يحيى بن الحيسن عليه السلام: يؤجل أجلاً يمكنه فيه المجيء ببينة وحكي عن أبي حنيفة أنَّه يؤجل إلى قيام القاضي، وروي عن أبي يوسف أنَّه قال: أحبسه وإيائي به ولا أعجل، وعن محمد مقدار جلوس القاضي، وعن محمد فيمن ادعى على آخر أنَّه قذفه فادعى بكينة حاضر كفلناه ثلاثة أيام كل ذلك حكاه أبو الحسن الكرخي في المخصتر والولى عندي والله أعلم أن أضيق الآجال بعد أجل المجلس الذي يكون بين المتعاقدين إنَّما هو ثلاثة أيام الذي جعل للشفيع وهو أجل حسن على ما بيناه في الشفعة، فلا يبعد أن يحمل أجل القاذف عليه ويتأول عليه قول القاسم عليه السلام: والله أعلم، وذلك أنَّه لا خلاف أن أجله أوسع منأجل المتعاقدين، وليس يبعد أني قال أيضاً بقول أبي حنيفة قياساً على أجل المتصارفين وهو إلى التفرق عن المجلس، قال: ولا فصل في جميع ذلك بين أن يكون القاذف والمقذوف ذكراً أو أنثى، وذلك مما لا خلاف فيه؛ لأن الذكوة والأنوثة سواء فيما يجب له أو عليه في باب الحدود لا خلاف فيه.
مسألة

(104/9)


قال: ولا فصل بين أن يصرح القول فيقول: يا زاني أو يكنى عنه في لزوم الحد الكناية نحو أن يقول: لست ابن فلان ـ يعني من نسب إليه، أو يقول: يا فاعل بأمه، جميع ذلك وما جرى مجراه كناية عن الزنا، فيجب فيه الحد، ولا أحفظ فيه خلافاً، لقوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وهذا قد رمي، فأما التعريض فلا حد فيه، والفصل بينه وبين الكناية أن الكناية هي التي تكون موضوعة للرمي بالزنا وإن احتمل غيره، والتعريض ما يكون موضوعه لغير الرمي بالزنا وإن احتمل ذلك، فأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم قالوا: لا حد في الكناية والتعريض، ويشبه أن يكون خلافهم لنا في العبارة دون المعنى؛ لأنهم قد نصوا على من قال: لست ابن فلان ـ يعني من ينسب إليه ـ وهذا الجنس يعني بالكناية، فأما التعريض فكقول الرجل: إني لست ابن زنا أو يقول: نتبين من الزاني مني ومنك وما أشبه ذلك، وحكي عن مالك أن في جميعه حد القاذف، وذلك لا معنى له؛ لأنَّه لم يأتي بلفظ موضوع الزنا، قلنا في قوله: لست ابن فلان، أنَّه كان كناية؛ لأنَّه يحتمل أن يكون أراد الإستفهام وأراد بذلك لست بشبهة في حال كذا، ويبطل قول مالك أن الله تعالى فرق بين التعريض والتصريح بقوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيْمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} ثُمَّ قال: {وَلَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِراً}.
فإن قيل: روي أن عمر أتي برجلين تسابا، فقال أحدهما للآخر: ما أنا بزان ولا أمي بزانية. واستشار عمر في ذلك فقال قائل: مدح نفسه وأباه. وقال آخرون: قد كان لأبيه مدح. غير هذا يرى أن عليه الجلد فجلده عمر ثمانين.
قيل له: في المخر أنهم اختلفوا، فإذا اختلفوا وجب علينا أن نتبع الأصح، والأصح ما بيناه، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه كان يعزر في التعريض.
مسألة

(104/10)


قال: ولو أن رجلاً قال لرجل: يا فاسق يا فاجر، سئل عما أراد بقوله، فإن أراد الزنا حد وإن أراد غير ذلك من الفسق أدبن فإنه قال له: لست ابن فلان يعني لست من ينسب إليه كان قاذفاً لم يوجب الحد في قوله: يا فاسق يا فاجر؛ لأنهما لم يوضحا عبارة عن الزنا، وإن كان كل زان فاسقاً فاجراً.
مسألة
قال: ولو قذف ذمياً أو ذمية أو عبداً أو أمة أو صبياً أو صبية لم يلزم الحد، وذلك لما بيناه أنهم غير محصنين؛ لان من شرطالإحصان الحرية والإسلام والبلوغ، قال: وإن بلغ الصبي أو أسلم الذمي أو عتق العبد بعد أن قذف لم يلزم الحد، وذلك أن المراعى فيه حال القذف والقذف لم يصادف محصناً فلم يجب الحد، قال: وأما المدبر وأم الولد فإنهما من جملة الأرقاء في جميع أحكامهم؛ لأنهم لم تثبت الحرية، وإنما استحقاها، وأما المكاتب فإن لم يكن أدَّى شيئاً من مكاتبته فهو كما قال: لا خلاف فيه وغياه عني في هذا الموضع؛ لأنَّه قد نص على ما مضى القول في أنَّه إن كان أدَّى شيئاً من الكتابة لزمه الحد بقدر ما أدَّى شيئاً من مكاتبته، إن كان مقذوف فقياس قوله: أن يحد له بمقدار ما أدَّى على ما سلف القول فيه، قال: وإن قذف مجنوناً أو مجنونة لم يلزمه الحد لما بيناه أن العقل من شرائط الإحصان، لا خلاف فيه، قال: ويلزم في ذلك كله التعزيز، وذلك موكول إلى رأي الإمام إن رأى أن يعزر عزر.
مسألة

(104/11)


قال: وإذا قذف الرجل أباه أو انه لزمه الحد كما يلزمه لو قذف الأجنبي، أما إذا قذف أباه فلا خلاف في أنَّه يلزمه الحد، وأما إذا قذف الإبن فقول أبي حنيفة: لا حد عليه، وبه قال كثير من العلماء، وقال القاسم عليه السلام بإيجاب الحد فيه لقول الله عز وجل: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتُ} فعم ولم يخص، وليس يمن أن يرد ذلك إلى القصاص؛ لأنَّه حق محض للإبن يقوم فيه وإرثه بعده، ألا ترى أنَّه يصح فيه العفو بعد رفعه إلى الإمام والقذف حق لله عز وجل، وإن تعلق به حق الآدمي لذلك لا يصح فيه العفو بعد المرافعة، لا يصح رده إلى من سرق من مال ابنه؛ لأن القطع ها هنا درئ لشبهة الملك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <أنت ومالك لإبيك>، ألا ترى أنا ندرأ القطع عمن سرق منشريكه بشبهة الملك، وليس في قذف الابن شبهة،فلا يجب أن يدرأ عنه الحد.
فإن قيل: أليس قال في المنتخب أن رجلاً لو قذف أم ابنه وهي ميتة أن الابن لا يطالب أباه بحدها، فكذلك لا يطالب بحد نفسه.
قيل له: لأن هناك من يطالب به، وإن ترك الإبن المطالبة يقوم غيره من أوليائها والإمام والابن لا يجوز أن يطالب بحده إذا ترك فلم يجز للابن الإقدام على مطالبة أبيه بحدغيره يجوز أن يقوم مقامه.

(104/12)


مسألة قال: ولو أنَّه قال لجماعة: يا بني الزواني. لزمه لكل واحدة من أمهات المشتومين حد إن طالبن به، وإن كان بعضهن ميتة كان أولياؤها الطالبين بما يجب لها، قال أبو حنيفة: من قذف جماعة بكلمة واحدة فعليه حد واحد لجماعتهم، وهذا أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنَّه يحد بعدد المقذوفين مثل قولنا، ووجه ما ذهبنا إليه أن الله تعالى أوجب على كل من قذف محصنة حداً، فإذا قذف عدة من المحصنات لزمه لكل واحدة منهم حد، كما أنَّه تعالى لما أوجب الدية على كل من قتل مسلماً خطأ لو قتل عدة من المسلمين خطأ فعليه لكل واحد منهم؛ لأن الحد حق للمقذوفين، وإن كان حقاً لله فلا يجب أن يتداخل كما لا تتداخل سائر الحقوق، لعله أنَّه حق للآدمي، يدل على ذلك أن له أن يعفو عنه، وأن له أن يطالبه كسائر الحقوق.
فإن قيل: قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فكان الواجب بظاهر الآية على قاذف المحصنات ثمانين جلدة، فصح قولنا.
قيل له: إنك تأملت شطر الآية ولم تتأمل كلها؛ لأن الله تعالى قال: روالذي يرمون} فجعل الرماة عدة، ثُمَّ قال: المحصنات، فجعل الرميات عدة، ثُمَّ حقق الرماة عدة بقوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ} فجعلهم جماعة، فبان أن الآية لم ترد في قاذف واحد، وأنها وردت في جماعتهم، فلا بد من أن يكون تقدير الآية فاجلدوا كل كاذف.
فإن قيل: تقدير الآية الذي يرمي كل واحد منهم المحصنات.
قيل له: ليس ذلك كذلك، لكنا لا نحد بظاهر الآية من قذف محصنة حتى تقذف المحصنات، وهذا خلاف الإجماع.
فإن قيل:روي أن هلال بن أمية لما قذف امرأته برشيك بن سمحا قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <ائت بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك>، فأوجب لهما جميعاً حداً واحداً.

(104/13)


قيل له: ليس هذا الكلام على ظاهره بل تقديره، وإلا فحد في ظهرك لمن طلب منهما، ألا ترى أنهما لو أقرا لم يلزمه حد، وكذلك إن لم يطلبا لم يجب، فكشف بذلك على أن الغرض ما ذكرناه.
فإن قيل: إذا كان عندكم أنَّه لو قذف واحداً مراراً فليس عليه إلاَّ حد واحد، فما تنكرون أن يكون ذلك كذلك وإن قذف جماعة.
قيل له: الفرق بينهما أن من قذف رجلاً واحداً مراراً فعفى عنه سقط بعفو واحد جميع ما لزمه بقذفه، ومن قذف عدة من الناس فعفى عنه بعض المقوذف فإن لم يسقط عنه جميع ما لزمه بقذفه، فثبت أن لكل واحد منهم حقاً على القاذف في الحد، وإذا ثبت ذلك ثبت أنَّه يجب أن يحد بعددهم؛ وذلك كأن يكون المقوذف الواحد يقذفه عدة من القاذفين أنَّه يلزم كل واحد منهم له حد؛ لأنَّه لو عفى عن واحد منهم لم يسقط حقه من الباقين بالعفو الواحد، فبان أنَّه حدودٌ شتى، كذلك ما اختلفنا فيه بعلة أنَّه لا يسقط بالعفو الواحد وأيضاً قد ثبت أن اللعان يجري مجرى الحد وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال في امرأة هلال بن أمية حين جاءت بالولد على الصفة المكروهة: <لولا ما مضى من الحد لكان لي ولها شأن> يعني صلى الله عليه وآله وسلم بالحد اللعان، وقد علمنا أن رجلاً لو قذف أربع نسوة له بلفظة واحدة لزمه لكل واحدة منهم لعان، فكذلك إذا قذف الأجنبيات، والعلة أنَّه تعلق القذف بمقذوفين شتى، فأما المقذوف فلا خلاف أنها المطالبة بحقها من الحد إن كانت حية وإن كانت ميتة، فقد اختلفت فيه، قال أبو حنيفة: هو إلى الوالد والحد أبي الأب والولد، ولد الابن دون الخوة والأخوات، واختلفت أصحاب الشافعي فمنهم من قال: إنَّه إلى الورثة، منهم من قال: إنَّه إلى الولياء النكاح، هذا قول يحيى عليه السلام؛ لأنَّه ذكر الأولياء ولم يذكر غيرهم، والدليل على أنَّه ليس إلى الورثة: أنَّه لا يدخل فيه الزوج والزوجة، لو كان ذلك بحسب المواريث كان الزوج والزوجة فيه لسائر الورثة.

(104/14)


فإن قال: سببهما ينقطع ولا يلحقهما العان.
قيل له: فهذا الذي يدل على أنَّه لا يجري مجرى المواريث على أنا لو جعلناه للورثة كان يجب أن يقسم بحسب المواريث، ولا خلاف أن الولد والوالد لهما حق المطالبة به، فوجب أن يكون ذلك مقصوراً على التعصيب كالنكاح بدلالة أنَّه حق لا يدخله المال والمقصد به دفع العار وتحصين الفرح.
فإن قيل: هو لمن يقدح القذف في نسبه من الوالد والولد.
قيل له: وأي قدح يلحق نسب الرجل إذا قذف ابنه بالزنا، وكذلك إذا قذف أبوه، وذلك أن زنا الرجل لا يغير نسب أبيه، فبان أن اعتبار أصحاب أبي حنيفة بالقدح في النسب لا معنى له، وأن الولى أن يجري مجرى ولاية الإنكاح.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال لجماعة: يا بني الزانية، وكانت أمهم واحدة أقيم عليه الحد، وإن كانت أمهاتهم متفرقات لم يلزمه الحد؛ وذلك أنها إذا كانت واحدة كانت معينة، فوجب عليه لها الحد كالقاذف لامرأة بعينها، وإن كن متفرقات لم يكن قذف واحة بعينها، ولا يصح أن يقال: أنَّه يحد لأم كل واحد من الجماعة؛ لأنَّه قذف احدة، والواحدة لا تكون جماعة، فيكون ذلك قذفاً لا مقذوف له كمن يقول: يا زاني. غير مخاطب به أحداً يقول: هو زان غير مشير به إلى حد، فوجب ألا يلزمه الحد.
مسألة
قال: ولو أنَّه قال لرجل: يابن الزواني لزمه الحد لأم المقذوف وجداته يلزمه الحد لأمه يطالب به إن كانت حية أو وليها إن كاتن ميتة يطالب عنها أو لياؤها إن كان يمكن الحاكم أن يعرف حالها في الإحصان وشرائطه؛ لأنهن أجمع أمها، ألا ترى أنَّه تعالى قال: {حُرِّمَتْ عَلِيْكُمْ عَلَيْكُمْ أمُّهَاتِكُمْ} دخلت الحدات في التحريم، كما دخلن الأمهات؛ ولأنهم قد ولدنه فهن له أمهات.
فإن قيل: الأم في الحقيقة من ولدته وتسمية الجدة في الأم على ضرب من التوسع كما قلتم ذلك في الجد أن تسمته بالأب توسع.

(104/15)


قيل له: هذا وإن كان كذلك فإنه إذا قال: ياابن الزواني، فقد علمنا أنَّه لم يقتصر بالقذف على من ولدته على الحقيقة بل قصد بالقذف م ولدته حقيقة ومجازاً؛ لأن الولادة على التحقيق لا تكون إلاَّ من واحدة، فإاذ صح قصده اليمين وجب ما قلناه، ولا يجب أن يدخل فيه الأمهات من الرضاع؛ لأن إطلاق الأمهات لا يتناولهن لا حقيقة ولا مجازاً، وإنما يقال لها أم من الرضاعة، فأما من غير تقييد بالرضاع فالاسم لا يتناولها والله أعلم.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال لذمي أسلمت أمه: يا ابن الزانية. لزمه الحد، وهذا ما لا خلاف فيه؛ لأن أمه هي المقذوفة وهي مسلمة فصح أن يتناولها اسم الإحصان لا معتبر بكون ابنها ذمياً.
مسألة
قال: وإذا قال الرجل للمرأة أو قالت الرأة للرجل: يا زاني. فقال: زنيت بك فلا حد على واحد منهما، وإنما ذلك إقرار منه على نفسه بالزنا ولسي فيه قذف؛ لأنَّه نسب الزنا إلى نفسه ويجوز أن يزني بها وهي نائةم أو مكرهة فلا يجري عليها حكم الزنا.
مسألة

(104/16)


قال: ولو أن رجلاً قال لامرأة: يا زانية فقالت: زنيت بي، لزم كل واحد منهما الحد لصاحبه، وذلك أن كل واحد منهما قذف صاحبه بالزنا، فوجب أن يلزم كلواحد منهما لصاحبه الحد، قال: وإن قال لها: يا ابنة الزانية، فقال: زنت بك، لم كل واد منهما ولم يجب الحد لأم المشتومة، وذلك أنهما جميعاً قاذفين لأم المرأة، فلزم كلواحد منهما ولم يجبعلى المرأة ولم يجب للقاذف حد؛ لأنها لم تنسب الزنا إليه وإنما نسبته إلى أمها بقولها زنت بك، وإن قالت: .... له صدقت، لزمه الحد لأم المرأة ولم يلزم المرأة؛ وذلك لأن الرجل قاذف فعليه ما على القاذف والمرأة قالت له: صدقت ولم يتبين فيم ذا صدق، فلم يلزمها شيء، فإن قالت: صدقت إنها زانية لزها أيضاً لأمها ايضاً، وذلك أنهأ ايضاً قد صارت قاذفة لأمها، فلزمها لها الحد أو ذلك أنَّه قال: صار قاذفاً لأبويها فلزمه لكل واحد منهما حدٌ ولم يلزم المرأة شيء؛ لأنها لم تقذف أبوي الرجل قذفاً مطلقاً بل علقته بشرط لا يعلم حصوله وهو كون أبويها زانيين، فلم يحصل القذف فلذلك قلنا إنَّه لا حد عليهما لأبوي الرجل.
مسألة

(104/17)


قال: ولو أن رجلاً قال لعبد من اشتراك زانٍ أو قال أم من اشتراك زانية أو أم من باعك زانية لزمه الحد للمقذوف، وذلك إذا كان العبد قد جرى عليه الشراء من المسلمين، فإن كان لم يجز عليه لك بأن يكون صاحبه سباه أو وهبه له من سباه أو ورثه فلا حد على أحد؛ لأنَّه قذف لا مقذوف له، فأما إذا كان اشتراه جماعة من المسلمين من جماعة من المسلمين فالأقرب أن يجب الحد لأقربهم شراءا وبيعاً؛ لأن من هاهنا هو بمعنى الذمي وليس بمعنى المجاداة الذي يكون للعموم، فلم يجز أن يحد إلاَّ لواحد، فكان الأولى هو الأخير؛ لأن شراؤف هو القائم في الحال، وإذا ثبت ذلك في المشتري ثبت في البائع؛ لأن الأخير هو البائع له، إن قال: من يشتريك زانٍ، أو أم من يشتريك، أو أم من يبيحك زانية، لم يلزم الحد؛ لأنَّه ليس هناك مقذوف يشار إليه فقذفه قذف لا مقذوف له.
مسألة

(104/18)


قال: ولو أنرجلاً قال لابن أم ولد من غير سيدها يا زاني أو قال: يا ابن الزانية لم يلزمه الحد، وذلك لأنهما جميعاً مملوكان ولا حد للمملوك، قال: وإن قال له: يا زاني يا ابن الزانية وأمه قد عتقت لزمه لها الحد ولم يلزمه لابنها، وذلك إذا كانت عتقت بإعتقا مولاها لها ولم يكن عتقها بموه إذا عتقت بموته فيجب أن يعتق معها ابنها، وإذا كانت عتقت بإعتقا مولاها أباها فهي حرة، فوجب لها على القاذف الحد ولم يجب لابنها؛ لأنَّه مملوك بعد، فإن كان الإبن أيضاً عتق لزمه أيضاً حد، قال: وكذلك إذا قال الصبي هو ابن أم ولد من سيدها يا ابن الزانية لزمه الحد؛ لأم الصبي إذا كانت الأم قد عتقت فإن لم تكن قد عتقت لا حد لها، وذلك لما بيناه من أن الحد لا يجب إلاَّ للحر، قال: فإن كان الصبي قد بلغ والأم قد عتقت فقال له: يا زاني يا ابن الزانية لزمه لكل واحد منهما حد؛ وذلك أنهما حران بالغان فقد فهما قاذفٌ فلزم لكل واحد منهما حدٌ قال: ولو أن رجلاً قال لرجل: يا زاني يابن الزانيين لزمه ثلاثة حدود؛ وذلك أنَّه قذف ثلاثة فلزم لكل واحد منهم حد.
مسألة
قال: ولو أن رجلاص قال لابن الملاعنة لست ابن فلان ـ يعني الملاعن ـ لزمه الحد لأن الصبي؛ وذلك أن قوله: لست ابن فلان الملاعن تحقيق أنها زنت ولم يثبت عليها الزنا فوجب أن يحد لها إلاَّ أن يكون أراد لست ابنه حكماً فيجب أن لا يلزمه شيء؛ لأنَّه لم يقذفها بالزنا والله أعلم.
مسألة
قال: وإذا قذف العبد زوجته وهي مملوكة حد لها أربعين جلدة.

(104/19)


اعلم أن يحيى بن الحسين عليه السلام ذكر حكم العبد إذا قذف زوجته وهي حرة وجب بينهما اللعان، وذكر حكمه إذا قذف زوجته وهي مملوكة ونفي اللعان بينهما ثُمَّ قال: ويحد لها أربعين جلدة واحتمل أن يكون المراد به إذا قذف زوجته الحرة ونكل عن اللعان؛ لأنَّه يحتمل أن يكون رجع به إلى أول الكلام؛ لأنَّه قد نص على جواز أن الحر إذا قذف زوجته المملوكة لم يلاعنها؛ لأنَّه لو أكذب نفسه لم يحد لها، فدل ذلك من مذهبه على أنَّه إذا لميوجب اللعان لم يوجب الحد، فكان الأولى ما قلنا وعليه دل قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}؛ لأنَّه لا خلاف أن الحرية من شرط الإحصان فلا يلزم الحد للمملوكة.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال لامرأته: لم أجدك عذراء لم يلزمه في ذلك حدٌ، فإن كونها في ذلك زنا كان قاذفاً، وذلك أن العذرة قد تذهب بالوثبة والعلة وغيرها فلم يكن ذلك قذفاً، فإن صرح بذكر الزنا لزمه حد القاذف.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قذف رجلاً فضرب بعض الحد فثنى قذفه وهو في العقاب لم يلزمه حد آخر وإن قذف في تلك الحال غيره لزمه حد آخر وذلك لما بينا من أنَّه إذا قذف رجلاص واحداً مراراً لم يلزمه إلاَّ حد واحد؛ لأن ما يلزمه سقط بعفو واحد؛ ولأن الله أوجب على من قذف حداً للمقذوف ولم يشترط أن يكون القذف مرة أو مرتين، فإذا ثبت ذلك فإذا قذفه وهو بعد لم يستكمل الحد فإنه قذف وهو بعد لم يحد، فإذا أكمل الحد صار محدوداً لما بينا أنَّه لو قذف رجلين أو ثلاثة لزمه لكل واحد منهم حد، فلا فصل بين أن يقذف غيره في حال الجلد أو قبله أو بعد.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قال لعبده: يابن الزانية وأم العبدكانت قد ماتت وهي حرة كان الأمر في ذلك إلى الإمام ولم يكن للعبد أن يطالب مولاه بحدها، وذلك أن مولاه يملك جميع تصرفه، فلا يصح له أن يطالبه بحد أمه.
فإن قيل: أليس له أن يطالبه بنفقته وكسوته؟

(104/20)


قيل له: إنَّما ينتهي إلى الحاكم حاله والحاكم هو الذي يلزمه ذلك وله أيضاً أن ينهى حال قذفه إلى الإمام ليطالب به الإمام يكشف ما قلناه أن الإمام لو رأى أن يؤاجره وينفق عليه من كسبه كان ذلك له، وأيضاً قد بينا أن المطالبة بالحد تكون إلى الوالي الذي يليه ولاية طلب الحد، فأما الإمام فهو ولي من لا ولي له، فلذلك قلنا أن ذلك إلى الإمام كما قلناه في باب النكاح، ألا ترى أن أمه لو أرادت أن تتزوج كان وليها الإمام وعلى هذا يجيء أن يكون من يقتل ولا ولي له أن دمه يكون إلى الإمام، قال: ولو قال لابنه: يا ابن الزانية، وقد ماتت الأم كان الأمر فيه إلى الإمام إذا لم يكن لها ولي غير الإبن، وذلك أن الابن ممنوعٌ من إدخال الضرر على أبيه لقول الله عز وجل: {وَلا تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ} ولأنه لما وجد من يطالب عنها وهو ولي سواه، أو الإمام لم تترك مطالبة، وليس كمطالبته إياه بحد قذفه إن قذفه؛ لأنَّه لو لم يطالب لضك حقه وليس كذلك خدامه.

(104/21)


مسألة وحد الشارب الخمر والمسكر
مثل حد القاذف، وقول أبي حنيفة واصحابه مثل قولنا أن حه ثمانون جلدة، وقال قوم: أربعون، وقال قوم:فيه العزير بدون الحد، والأصل فيه ما رواه ابن لهيعة يرفعه إلى محمد بن علي عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه جلد رجلاً في الخمر ثمانين وأيضاً عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه جلد رجلاً في الخمر ثمانين وأيضاً عن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فيمن شرب الخمر: <اجلدوه ثمانين>، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب في الخمر بنعلين أربعين أربعين فجعل عمر لكل نعمل سوطاً، وذلك يكون ثمانين.
فإن قيل: روي عن علي أنَّه قال: جلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر أبعين وأبوبكر أربعين وكمل عمر ثمانين وكل سنة.
قيل له: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب شارباً أربعين سوطاً له رأسان فيكون ذلك ثمانين، وقولهكملها عمر ثمانين يجوز أن يكون لفظ راوي الحديث عن علي دون لفظ علي عليه السلام.
فإن قيل: فقد روي عن علي عليه السلام أنَّه قال: ما حددت أحداً فوجدت في نفسي منه شيئاً إلاَّ الخمر فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يبين لنا فيها شيئاً،وروي فإنه شيء صنعناه، وروي ورأي رأيناه.

(105/1)


قيل له: يحتمل أن يكون عليه السلام أراد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبين لنا شيئاً في سقوط الضمان، فإن إسقاط الضمان رأي رأيناه وشيء صنعناه؛ إذ من الجائز أن يكون عليه السلام أراد يحفظ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سقوط الضمان لمن مات في حد الزنا وحدالقذف، ولم يحفظ ذلك في حد الخمر؛ لأن حد الخمر قد روي فلأن يحمل قوله لم يبين لنا شيئاًعلى ما لم يرو أولى من أن نحمله على ماروي عنه فيه النص، ويدل على صحة تأويلنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب فيها أربعين أنَّه كان بسوط له طرفانن ما روى عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، عن علي أنَّه ضرب الوليد بن عقبة أربعين سوطاً بسوط له مطرفان، وذلك حين كان شرب الوليد بالكوفة وصلى بالناس سكراناً، وقال أزيدكم؟
فإن قيل: فقد روي أنَّه حين جلده أربعين قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلد أربعين وجلد عمر ثمانين، وكل سنة.
قيل له: يحتمل أن يكون عليه السلام ضرب أربعين بسوط له رأسان وضرب ثمانين بسوط له رأس واحد أيضاً سنة.
فإن قيل: روي أن يوم حنين أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل قد شرب الخمر فقال للناس: <اضربوه> فمنهم من ضربه بالنعال ومنهم من ضبه بالعصي، ومنهم من ضربه بالحديد ثُمَّ أخذ رسولاله صلى الله عليه وآله وسلم تراباً من الأرض فرمى به في وجهه.
قيل له: يحتمل أن يكون بلغ غاية ضرب الجميع ثمانين فلا يكون فيه خلاف لسائر ما روي عنه، ويحتمل أن يكون ذلك قبل نزول حده، على هذا يحتمل ما روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أتي بشارب فقال: <اضربوه> فمنهم من ضبه بثوبه وبيده ومنهم من ضربه بنعليه، ويدل على ذلك أيضاً أن عمر حين استشار أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأشار علي وعبد الرحمن بن عوف بحد المفتري، وروي أن عمر حين استشار كان في الجماعة علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف، وكانوا في المسجد فجرى ذلك منهم على سبيل الإجماع.

(105/2)


فإن قيل: لو كان ما ذكرتموه مبنياً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجمح عمر إلى الإستشارة.
قيل له: يجوز أن يكون عمر لم يرفعه أولاً يكون ظهر عنده ظهوراً تاماً ولا عند أكثر الصحابة فاعملوا الرأي، فأداهم ذلك إلى موافقة ما حفظ عن رسول الله صلىالله عليه وآله وسلم فأجمعوا عليه فتأكد النقل بما يضاف إليه من إجماع الصحابة، ويؤكد ما ذهبنا غليه ما روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وىله وسلم أتي برجل شرب الخمر فأمر به فضرب بحد أبين نحواً من أربعين، فدل ذلك أيضاً على ثمانين، ويدل على ذلك ما رواه عطاء بن مروان، عن أبيه، أن علياً أتي بالنجاسي قد ضرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين ثُمَّ أمر به إلىالسجن، ثُمَّ أخرجه من الغد فضربه عشرين ثمقال له: إنَّما جلدتك هذه العشرين لإفطارك في شهر رمضان وجرأتك على الله عز وجل، ويقال فيه أنَّه حد مقدر على الحر، فوجب ألا يقدر بأقل من ثمانين قياساً على سائر الحدود، ويقال لا يجب أن يقتصر به على أربعين وأيضاً وجدنا الأربعين حدالً للعبيد فوجب أن لا يكون ذلك حد الخمر والمسكر؛ لأنَّه لا يفق أحد بين حديهما؛ ولأن المسكر عندنا حرام كالخمر والمسكر لا يفرق؛ ولأناسم الخر يتناوله عندنا؛ لأنَّه أيضاً يخامر العقل، وروي عن بعض الصحابة أنَّه قال: لا أشرب نبيذ الخر بعد أن أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسكران، فقال: يا رسول الله، ما شربت الخمر إنَّما شربت نبيذ التمر والزبيب في وعاء، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهن بالأيدي وخصف بالنعال، قال: وسواء شرب منه قليلاً أو كثيراً، أما قليل الخمر فلا خلاف فيه وأما قليل المسكر فهو عندنا مثل قليل الخمر؛ إذ قد دل الدليل على تحريم المسكر على ما نبينه في كتاب الأشربة على أن كل من قال تحريم قليل ما أسكر كثيره أوجب الحد وقد صح ذلك وثبت فوجب أن يحد في قليلهكما يحد في كثيره، وذكر يحيى أنَّه بلغه أن علياً عليه السلام كان يجلد

(105/3)


في قليل ما أسكر كثيره كما يجلد في الكثير، وذكر عنه أنَّه كان يقول لا أحد أحداً يشرب الخمر والنبيذ والمسكر إلاَّ جلدته الحد.
فصل
قال يحيى بن الحسين عليه السلام: ويحد إذا شمت رائحتها من نكهته وحكى ذلك عن مالك وعند أبي حنيفة والشافعي لا يحد، وكذلك إن كان قاء خمراً لم يحد عند أبي حنيفة ووجهه ما ذهبنا إليه أنها لا تحصل الرائحة في نكهته إلاَّ من شربها فجرى ذلك مجرى المعاينة لشربها فإن قيل في بعض الفواكه والأشب المحللة ما يكون رائحتها مثل رائحة الخمر.
قيل له: لا يمتنع أن يتحامل ذلك ومتى كان ذلك كذلك لم يوجب الحد وإنما يحد إذا حصل اليقين بأنه رائحة الخمر، ويدل على صحة ذلك أنا نعلم بالرئاحة أن العين خمراً فنأمر بإراقتها فبان أنالرائحة يفصل بينها وبين غيرها، كذلك يفصل بالرئاحة بين شاربها وشارب غيرها، ويدل على ذلك ما روي أن عثمان أتى بالوليد بن عقبة وقد صلى بأهل الكوفة أربعاً، قال: أزيدكم، فشهد رجل أنَّه رآه يشربها وشهد آخر أنَّه رآه يقيئها، قال: عثمان أنَّه لم يقيئها حتى شربها، فقال عثمان لعلي: أقم عليه الحد، فقال علي لابنه الحسن: اقم عليه الحد، فقال الحسن ولي حارها من تولى قارها، فقال علي لعبد الله بن جعفر: أقم عليه الحد، فأخذ السوط فجلده، فقول عثمان لم يقيئها حتى شربها، يدل علىأنه أجرى ما لا يكون إلامع الشرب، فجرى مجرى الشرب، وذلك بمحضرمن علي والحسن عليهما السلام وغيرهما فلم ينكر عليه، وجرى مجرى الإجماع، فثبت ما قلناه من أن اشتمام الرائحة منهيجري مجرى الرائحة المعاينة لشربها؛ لأن الرائحة لا تكون إلاَّ مع الشرب كما أن القيء لا يكون إلاَّ من الشبن لذلك أقام معاينة القيء مقام معاينة الشرب.
فإن قيل: يحتمل أن يكون شرب غلطاً أو مكرهاً.

(105/4)


قيل له: ذلك له حجة يدلي بها أن ذكرها سمعت منه كما أن المرأة إذا ادعت الإكراه ي الزناء سمع ذلك منها، ودرئ الحد، وعلى هذا يجب أن يحد من وجد سكراناً، وروي أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما استراب بماء عرام أن يستهلك فأكد ذلك ما ذهبنا إليه، وروي أن أبا بكر أتي بسكران فأمر به ضرب ولم ينكره أحد من الصحابة، فدل هذا على ما ذهبنا إليه وذكر الجصاص في شرحه حديث عمرو بن الرشيد، عن أبيه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: <إذا سكرأحدكم فاضربوه فإن عاد فاضربوه ثُمَّ إن عاد فاضربوه ثُمَّ إن عاد الرابعة فاقتلوه>، وذكر عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: <إذا سكر أحدكم فاجلدوه ثُمَّ إن سكر فاجلدوه إلى أن قال الرابعة فاضربوا عنقه، يقول ذلك كله على أن السكران إذا وجد كذلك أقيم عليه الحد للعلم بأن السكر لا يكون إلاَّ عن الشرب، وذكلك الرائحة والقي.
فصل
اختلفوا في السكران، قال أبو حنيفة: السكر هو الذي لا يعقل صاحبه السماء من الأرض والرجل من المرأة، قال أبو يوسف ومحمد: إذا كان أكثر كلامه الإختلاط فهو سكر، وقال القاسم عليه السلام في السكران: يجوز بيعه وشراؤه، فدل قوله ذلك على أن قوله في السكر مثل قول أبي حنيفة، ووجه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بسكران، فقال يا رسول الله ما شربت الخمر وإنما شربت نبيذ التمر والزبيب فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهز بالأيدي وخصف، فدل ذكل علىأن السكر يكن سكراً ,إن كان لا يبلغ إلى حيث لا يعرف السماء من الأرض والناس أيضاً لا يمتنعون من تسمية من يتغير كلامه وحاله للشرب بالسكران عرفاً ولغة، فوجب أن يكون السكرا ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: كل اسم جاء على فعلان لا يكاد يسمى به إلاَّ إذا غلبت الصفة أو تنقلت كما يقال في الإناء أنَّه ملآن حتى يمتلي بما فيه، فكذلك السكران.
فصل

(105/5)


قال يحيى يمد يداه في الجلد، قال أبو حنيفة لا يمد، ووجه ما ذهبنا إليه أن هذا كيفية في الحد فيجب أن يكون موكولاً إلى رأي الإمام؛ ولأن مد يديه أصلح له؛ لأنَّه لا يؤمن إن حرك يده من أن يقع الضرب بها فتكسر أصابعه ولا يؤمن أن يتناول السوط بيده فلا يصل إليه الحد.

(105/6)


باب القول في حد السارق
أي بالغ عاقل سرق عشرة دراهم أو ما تكون قيمته عشرة دراهم وأخرجه من الحرز وجب عليه القطع، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، قال الشافعي: يقطع في ربع دينار ولا يقطع في أقل منه، وعن قوم في ثلاثة دراهم، وعن أحمد بن عيسى في ربع دينار، وحكى عن قوم القطع فيما قل وكثر، أما القول بإيجاب القطع في القليل والكثير فهو محكي عن الحسن البصري والخلاف فيه منقوض لا يعرف به قائلاً والذي نجح القائل به والشافعي ما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا قطع فيما دون عشرة دراهم> وقد كثرت الأخبار في ذكر قيمة المخن فمنها ما روي عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا تقطع يد السارق إلاَّ في ثمن المخن فما فوقه>، وعن عطاء، عن أيمن الحبشي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن مخن>، وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <لا تقطع يد السارق في دون ثمن مخن>، وكل ذلك يبين أنَّه لا بد فيه من المقدار وسقط قول من أوجب القطع في القليل والكثير، فأما ما يدل على أنَّه لا يقطع يما دون عشرة دراهم فحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحديث زفر، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحديث زيد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، ويدل على ذلك أنهم اختلفوا في قيمة المخن، فمنهم من قال: قيمته ثلاثة دراهم، وهو قول ابن عمر، قال: قطع رسول الله صلى الله عليه وآله في مخن قيمته ثلاثة دراهم، وبه احتج من قال: يقطع في ثلاثة دراهم، وهذا لا دليل فيه؛ لأنَّه تقويم ابن عمر، وقد خولف فيه ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروي عن ابن عباس، قال: كان قيمة المخن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرة دراهم،

(106/1)


وروي عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده مثله، وعن أيمن الحبشي، قال: كان يقوم المخن يومئذ دينار، وروى محمد بن منصور بإسناده عن الحكم، عن أبي جعفر، قال: قيمة المخن الذي يقطع فيه دينار، وعن أم أيمن قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تقطع يد السارق إلاَّ في جحفة وقومت يؤمئذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وىله وسلم ديناراً أو عشرة دراهم، وذكر الجصاص أنَّه روى عن أنس وعروة والزهري أن قيمته خمسة دراهم، وعن عائشة أن يمة المخن ربعدينار، فلما ثبت أنهم اختلفوا في ثمن المخن كان ذلك الإختلاف أحوال المخان؛ إذ فيها الأعلى والأوسط والأدنى لاختلاف اجتهادهم، فكان تقويمه بعشرة دراهم إذ لا تعلق القطع به على اليقين على أنَّه قد ثبت بما أجمعوا عليه أن القطع لا يكون إلاَّ في مقدار من المال والتقدير له أحد الطريقين إما الإجماع وإما النص ما وجدا ووجدنا النص قد اختلف فيه؛ لأنَّه روي عن عائشة بألفاظ مختلفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن السارق يقطع في ربع دينار على أن ما روي عنها يحتمل أن يكون قالت بتقويمها وعرفت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوجب القطع في المخن وقومت هي المخن؛ لأن كثيراً من الأخبار جاءت منوقوفة عليها غير مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروي أن يحيى بن سعيد كان يرفع حتى قال له عبد الرحمن بن القاسم أنها لم تكن ترفعه فترك يحيى الرفع بعد ذلك على أنَّه إن صح ذلك فأكثر ما فيه يعارض ما رويناه من النص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو حديث عمرو وحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيعدل عنه إلى الإتفاق وهو القطع في عشرة ويؤكد به ما رويناه من النص على أن دون العشرة قد حصل فيه الإشتباه، فوجب ألا نقيم به الحد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ادرؤا الحدود بالشبهات>.

(106/2)


فإن قيل: فظاهر قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيْهِمَا} يوجب القطع في القليل والكثير فيخص منه ما ثبت تخصيصه ويجري الباقي على عمومه.
قيل له: قد أجمع الجميع وتظاهرت الآثار علىأن القطع لا بد فيه من التقيدر فصارت الأخبار مع الإجماع النص إلى الآية، فكأنه قال عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيْهِمَا} في المقادر الذي يدل الشرع عليه فوجب أن يطلب المقدار في غير الآية على أن في العلماء من قال فيها إنَّه امجملة لا يصح التعلق بظاهرها، وإن كان في ذلك عندنا نظرٌ؛ لأنها تحج بعمومها على إيجاب القطع على سائر الأحوال، وإنام قلنا إنَّه لا يصح معرفة التقدير فيها.
فإن قيل: فأنتم قلتم في الصاع بأقل ما قيل فيه، فهلا قلتم فيما يوجب القطع بذلك.

(106/3)


قيل له: لأن الناس قد أجمعوا على أن إخراج الأقل واجبٌ واختلفوا فيما وراء ذلك فأخذنا بالإجماع، وهذه المسألة بالعكس من تلك لأنهم أجمعوا على وجوب القطع في عشرة واختلفوا فيما دون ذلك، فأخذنا بما اتفقوا عليه في هذه المسالة كما أخذنا في تلك فاستوى الأمران ومما يؤكد ما ذكرناه من أن عائشة لم تكن ترفع القطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربع دينار ما رواه الزهري عن عروة عن عائشة أن يد السارق لم تكن تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أدنى من ثمن المخن، وكان المخن له يؤمئذ ثمن ولم يقطع في الشيء التافه، فهذا يدل على أنها لم تحفظ فيه نصاً، فأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لعن الله السارق يسرق الحبل فيقطع فيه والبيضة فيقطع فيها> فالمراد بالبيضة بيضة الحديد وهي بيضة المغفرة وقد تساوي عشرة دراهم، وأكثر، وروي عن علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع في بيضة من حديد قيمتها أحد وعشرون درهماً، وأما الحبل ففيه ما يساوي عشرة وعشرين وثلاثين وأكثر وأقل، ولعل المراد بذلك أنَّه يسرق كلها يجد حتى يقطع واشترط أن يكون السارق بالغغاً عاقلاً؛ لأن القطع عقوبة نكالاً من الله، والعقوبة لا يستحقها إلاَّ البالغ العاقل، وهذا ما لا خلاف فيه، وما روي عن علي عليه السلام أنَّه كان يقرض أنامل الصبي إذا صرق، فلسنا نصححه عنه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: <رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى ينتبه> وأما الحرز فلا بد من اعتباره عند العلماء منأهل البيت عليهم السلام وغيرهم، وحكي عن قوم ترك اعتباره، والأصل فيه ما روى الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليس على الخائن ولا على المختلس ولا المنتهب قطع، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عهليم السلام أنَّه قال: لا قطع على خائن ولا مختلس، فقوله: لا قطع على

(106/4)


الخائن يدل على نفي كل ما اؤتمن الإنسان فيه كالرجل يأتمن غيره على دخول منزل ولم يجز رميه لم يلزمه القطع إذا سرق من ماله، ومن يؤمن على الودائع والبضائع وانعواري وأموال المضاربة إذا جحدها وخان فيها لم يلزمه القطع لعموم اللفظ، وكذلك من طر أو اغتصب مجاهرة أو مخالسة فلا قطع عليه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا على مختلس ولا على منتهب، وأما ما روي عن عائشة أن امرأة كانت تستعيره الحلي، فلا ترده فأمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقطعت يدها، فحكى عن قوم أنهم تعلقوا بهذا الخبر، وأوجبوا القطع على من جحد العارية ولا حجة لهم في ذلك؛ لأنَّه يحتمل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم طعها؛ لأنها سرقت مع ذلك وإن ذكر استعارة الحلي لتعريفها فلعلها كانت مشهورة بذلك، ويحتمل أن يكون ذلك منسوخاً بقوله: ليس على الخائن قطع وأن ذلك كان قبل وجوب مراعاة الحرز؛ لأن آية القطع لم تتضمن ذكر الحرز فيجوز أن يكون ذلك متأخراً عنها وقد روي ما يؤكد ذلك عن عائشة أنها قالت: إن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت إلى أن روت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطعها وأيضاً روي عن عمر بن شعيب، عنأبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن التمر المعلق، قال: لا قطع فيه إلاَّ ما أواه الحرين وبلغ ثمن المخن، ففيه القطع وما لم يبلغ ثمن المخن ففيه غرامة وجلدات نكال.
مسألة

(106/5)


قال: وإذا ثبت عند الإمام بإقراره على نفسه مرتين أو بشهادة شاهدين أما إذا ثبت بالشهادة فلا خلاف أنَّه أنَّه لا يثبت إلاَّ بشهادة شاهدين، وأما الإقرار فقد اختلف في، قال أبو حنيفة ومحمد يقطع إذا أقر مرة واحدة، وقال أبو يوسف مثل قولنا لا يقطع حتى يقر مرتين، وحكاه أبو الحسن عن ابن أبي ليلى، وحكي عن أبي يوسف الرجوع إلى قول أبي حنيفة، والأصل يه ما روي عن أبي أمية المخزومي أن رسول الله صلى الله عليه وآله ولم أتى بلص اعترف اعترافاً ولم يوجد معه المتاع فقالصلى الله عليه وآله وسلم: ما أخالك سرقت، قال: بلى يا رسول الله، فأعادها عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين أو ثلاثاً، فأمر به فقطع فثبت بهذا الحديث أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقطع بإقراره مرة واحدة حتى أتي بها ثانية، وروى أيضاً الطحاوي بإسناده عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن علي لعيه لاسلام أن رجلاً أقر عنده بسرقة مرتين، فقال: شهدت على نفسك شهادتين، فأمر به يقطع.
فإن قيل: فقد روي عن أبي هريرة أنَّه أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسارق، فقالوا: يا رسول الله، هذا سرق، فقال: ما أخاله سرق، فقالوا: بلى يا رسول الله، قال: اذهبوا به فاقطعواه فقطعه بإقراره مرة واحدة.

(106/6)


قيل له: يحتمل أن يكون الراوي اختصر ولم يذكره بحد الإقرار والأقرب أنهما حديث واحد فيهما أنرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما أخاله سرق وأنه قال صلى الله عليه وآله له: تب إلى الله، فقال: أنا تائب إلى الله، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم دعا لهبقبول التوبة وعلى هذا يتأول ما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال يا رسول الله، إني سرقت جملاً لبني فلان فأرسل إلهيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: فقدنا جملاً لنا، فأمر به فقطعت يده على أن هذا الخبر مما يؤكد مذهبنا؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقطعه بإقراره أول مرة، وليس يمكن للمخالف أن يقول: انتظر دعوى من يدعيه؛ لأنَّه أمر به فقطع من غير دعوى كانت؛ لئن القوم ما زادوا على أن قالوا: فقدنا جملنا، وذلك القدر ليس بدعى،ويدل على ذلك أنَّه قدثبت فيالإقرار بالزنا أنَّه لا يوجب الحد حتى ينكر رابع مرات، فيجب أن يكونالإقرار بالسرقة لا يوجب الحد حتى يتكرر مرتين، والعلة أن كل واحد منالحدين حقلله لا يتعلق به حق الآدميين، فوجب أن يكون عده اقرار به معتبراً بعده الشهادة عليه، وليس يلزم عليه الردة؛ لأنَّه يرتد بنفس الإقرار؛ لأنَّه لو قال: إنَّه كافر بالله لكفر بهذا القول، وليس كذلك في قوله: سرقت أو زنيت؛ لأنَّه بالقول لا يصير زانياً ولا سارقاً وإنما يبني هو عن فعل قد وقعهذا اقرار عليه وإن شئت زدت في العلة فقلت والإقرار ليس سبباً له، وإنما هو دلالة عليه، فأما الإقرار بشرب الخمر فلا أحفظ فيه نصاً عن أصحابنا لكن قياس قوله أنَّه لا يحد حتى يتكرر مرتين، وأما القذف فهو حق لله تعالى متعلق بالآدمي، فهو بالقصاص أشبه،وذكر أبو بكر الجصاص عن أبي الحسن الكرخي على غالب ظن أبي بكر أنَّه قال: وجد عن أبي يوسف في شرب الخمر أنَّه قال: لا يحد حتى يقر مرتين.
مسألة

(106/7)


قال: وعلى الإمام أن يقطع يده اليمين من مفصل الكف من الساعد، أما وجوب قطع اليمين أول ما سرقت فلا خلاف بين الأمة، وروي أن عبد الله كان يقرأ {فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا} وأما موضع القطع فالظاهر الذي عليه المسلمون أنَّه المفصل، وحكي عن قوم من الخوارج أنَّه من الإبط، وعن بعض أهل البيت منهم أحمد بن عيسى أنَّه من أصول الأصابع، وكل ذلك فاسدٌ بما ظهر من تعامل المسلمين؛ لأن اليد إذا أطلقت فهم إلى الرسغ، وذكر محمد بن منصور، عن عباد بن يعقوب، عن عمرو بن ثابت، قال: رأيت أبا فلان رجلاً كان قطعه علي عليه لاسلام من رأس الكوع ولم يذكر عن أحد من الصحابة خلافه فثبت ذلك.
فإن قيل: فقد روي عن علي قطع الأصابع.
قيل له: ذلك من روايات الإمامية التي لا نثبتها ولا نعمل بها لما ثبت عنهم من التساهل في الحديث وانقل بالوهم وبحسب الإعتقاد على أن كل من قطعت أصابعه لا يقال إنَّه قطعت يده ولا أحفظ خلافاً أن الرجل تقطع من المفصل، فكذلك اليد؛ والعلة أنها عضو تقطع للسرقة فوجب أن يكون قطعه من المفصل ويريد بالمفصل المفصل الذي يلي مفصل الأصابع.
مسألة
قال: ويجب على الإمام أن يتثبت في إقراره، والشهادة عليه فإن جرى فيها ما يوجب درء القطع درأه وضمنه ما سرق، وذلك لقول: <ادرأوا الحدود بالشبهات> ولئن يخطي الإمام في العفو خير من أن يخطئ ي العقوبة، فأما تضمين المال فلا يجب فيه ذلك؛ لأن الضمان لا يسقط بالشبهة ولا يسقطه الرجوع بل يحكم فيه بما يحكم في سائر الأموال والحقوق.
مسألة
قال: ولو أنَّه أقر على نفسه إقراراً يوجب القطع ثُمَّ رجع عنه وأكذب نفسه سقط عنه القطع الوجه فيه ما مضى في رجوع المقر بالزنا، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن اعترف بالسرقة: ما أخالك سرقت، فلقنه بالرجوع، فدل ذلك علىأن الرجوع يسقط بالسرقة القطع؛ ولأنه حق من حقوق الله لا حق فيه لآدمي فوجب أن يقبل الرجوع فيه كحد الزنا.
مسألة

(106/8)


قال: فإن عاد بعد ما قطعت يده فسرق ثانية وثبت ذلك عند الإمام قطع رجله اليسرى من مفصل القدم من الساق، فإن عاد بعد ذلك حبسه الإمام إلاَّ أن يظهر توبته ولم يقطع يده اليسرى ولا رجله اليمنى، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وهو قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، قال الشافعي يقطع في الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى وحكى أنَّه قول أبي بكر، وقال الشافعي: إن عاد بعد الرابعةحبس وحكي عن أبي بكر مثل قولنا، فأما كون ما ذهبنا إليه أولى فهو قول علي عليه السلام، روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه كان يقطع يمين السارق، فإن عاد قطع رجله اليسرى فإن عاد يسرق واستوعه السجن، وقال: إني أستحي من الله أن أتركه ليس له شيء يأكل به، ولا يشرب ولا يستنجي إن أراد أن يستنجي، وروى أبو الحسن الكرخي بإسناده عن شعبة عن عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن مسلمة يحدث أن علياً أتي بسارق فقطع يده ثُمَّ ساق الحديث، وروى أيضاً بإسناده عنعبد الرحمن بن عابد، قال: أتي عمر برجل أقطع يد ورجل فحبسه عمر ولم يقطعه، وروي عن مكحول أنعمر قال: لا تقطعوا يده بعد اليد والرجل، وروي أن عمر استشارهم في السارق فأجمعوا أنها تقطع يده اليمنى فإن عاد فرجله اليسرى ثُمَّ لا يقطع أكثر من ذلك، وروي نحوه عن ابن عباس فدل ما ذكرناه على أن الصحابة مجمعة على ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: عموم قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} يدل على خلاف ذلك؛ لأن الآية تقتضي قطع يده اليسرى.
قيل له: قد اشتهر أن ابن مسعود قرأ: {فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا} وأقل ما فيه أن يكونذلك يجري مجرى الرواية وإن لم تثبت قرآءته، روي عن ابن عباس والحسن في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا} بلفظ الجمع ثبت أن المراد به من كل واحد اليدين.

(106/9)


قيل له: لا يمتنع العرب من إضافة العضو الواحد إلى شخصين بلفظ الجمعكأنه عبارة بلفظ الجمع عن عضوين، وقد قال الله عز وجل: {إِنْ تَتَوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبَكُمَا} وإنما لكل واحد منهما قلب واحد.
فإن قيل: فكيف تدعون الإجماع من الصحابة وقد روي عن أبي بكر أنَّه قطع اليد والرجل في قصةالأسود الذي نزل بأبي بكر ثُمَّ سرق حلي أسماء رواه سفين عن عبد الرحمن بن القاسم.
قيل له: هذا الحديث معارض بما روي عنابن شهاب عن عروة أن رجلاً خدم أبا بكر فبعثه مع مصدق وأوصاه به فلبث قريباً من شهر ثُمَّ جاء وقد قطعه المصدق، فلما رآه أبو بكر قال: ما لك؟ قال: وجدني خنت فريضة فقطع يدي، فقال أبو بكر لأراه يجوز أكثر من ثلاثين فريضة والذي نفسي بيده لئن كنت صادقاً لأقيدنك منه ثُمَّ سرق حلي أسماء بنت عميس فقطعه أبو بكر فأخبرت عائشة أنَّه قطع بعد قطع المصدق ولايكون ذلك إلاقطع الرجل اليسرى.
فإن قيل:روي أن أبا بكر قطع يداً بعد يدٍ ورجل بعد رجل.
قيل له: لميثبت أنَّه قطع في السرقة، ويجوز أن يكون قطع قصاصاً، وفي الحديث أنَّه ضب عنقه والسرقة لا يستحق بها ضرب العنق.
فإن قيل: روي في سارق أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بطقع أربعة في أربع مرات.

(106/10)


قيل له: هذا الحديث روي مفسراً وفيه ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعل ذلك للسرقة فقط، وروي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: جيء بسارق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنَّما سرق، قال: فقاطعوه، قال: فقطع على هذا إلى أن أتي به في الخامسة، فقال: اقتلوه، قال جابر فانطلقنا به فقتلناه، وروي فخرجنا به إلى مربدالنعم فحملنا عليه النعم فأشار بيده ورجليه فتنافرت الإقبل عنا قال: فلقيناه بالحجارة حتى قتلناه، فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرف منه حالاً استحق بها ذلك، فإنه لم يكن للسرقة وأنه كان في حال لم يكن ورد النهي عن المثلة فقصد به صلى الله عليه وآله وسلم تغليظ العقوبة؛ لأنحمل النعم ليس في شيء من الحدود، وهذا كما روي عنالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة العرنين أنَّه قطع أيديهم وأرجلهم وسملهم وألقاهم في الشمس، وذلك ليس في شيء من الحدود، فلما نهى عن المثلة صار مثل ذلك أجمع منسوخاص وأيضاً لا خلاف بين المسلمين أنَّه لا يقطع في الثانية يده اليسرى بل يعدل عنها إلىالرجل اليسرى فلو كان إليه اليسرى تقطع بعد قطع اليمنى لكانت تقطع في الثانية ومجرد العلة في ذلك بأن يقال: لا خلاف أن اليد اليسرى لا تقطع في الثانية، فكذلك في الثالثة؛ والعلة أنَّه يؤدي إلى إبطال منافع اليدين لحد السرقة وايضاً لا خلاف أن الرجل اليمنى لا تقطع في الثالثة، فكذلك في الرابعة، والعلة أنَّه يبطل منافع الرجلين بحد السرقة، وكذل كأن الله تعالى لما غلظ حكم المحاربين لم يأمر إلاَّ بقطع يد ورجل منخلاف فلم تفته منافع يديه ولا منافع رجليه؛ لوأنما ذهبنا إليه أدفع لمعرفة المسلمين؛ لأنا إذا حبسناه الثالثة فقد كففنا عن المسلمين في الثالثة والرابعة، وأن لا نجعل حداً ما لا دليل عليه من النص والإتفاق أنَّه حدٌ وقطع اليد اليسرى واليد اليمنى لم يرد

(106/11)


بكونه حداً نص ولا حصل عليه إجماع، فصار فعله محظوراً كقطع الأذن والأنف وغيرها من الأعضاء على سبيل الحد، وهذا عهد الله ظاهر على أن الشيء إذا ثبت أنَّه حد فيجوز أن يختلف في موضع ويختلف في موضع دون موضع بالإجتهاد، فأما ما لم يثبت فيه أنَّه حد بتة فكيف يثبت من طريق الإجتهاد بكونه حداً، وهذا خلاف دين المسلمين وقطع الرجل اليمنى من ذلك، وكذلك قطع اليد اليسرى إلاَّ أنَّه في الرجل اليمنى أظهر.
مسألة
قال: ولو أن جلاً قطعت أصابع يده فسرق قطع ما بقي من يده إلى الكوع، وذلك أنَّه يستحق بالسرقة إتلاف يمينه إلى المفصل، فتلف ما تلف منها لا يمنع من إفاتة الباقي المستحق ويشهد لذلك سائر الحقوق، الا ترى أن رجلاً لو قتل رجلاً فقطعت يدالقاتل قبل القصاص أو قبل الجناية لم يمنع ذلك من استيفاء القود في الباقي، وكذلك من باع عبدين في صفقة فتلف أحدهما قبل التسليم لم يمنع ذلك من تسليم الباقي، ولا فصل في هذا بين أن تكون أصابعه قطعت قبل السرقة أو بعدها للوجه الذي بيناه.
مسألة

(106/12)


قال: ولو أن سارقاً قطعت يده اليسرى غلطاً لم تقطع يده اليمنى، وكلك إن قطعت رجله اليمنى غلطاً؛ وذلك لما بيناه من أنَّه لا يجوز أن تفوت منافع يديه جميعاً لحد السارقة، فلو قطعنا يمناه كنا فوتنا منافع يديه، لهذا قلنا إنَّه لا تقطع رجله اليسرى؛ لأنَّه يؤدي إلى تفويته منافع رجليه لحد السرقة، وذلك مما لا يجوز على ما مضى، وليس على السارق بعد ذلك شيء، هذا معنى قوله في الأحكام، ولا يلحق في ذلك شيء، ومعنى قوله فيه مضى الحد بما فيه أنَّه في حكم المضي وإلا فليس ذلك حداً؛ لان الحد لا يتعلق بقطع السيار من اليد، ومعنى قوله في الأحكام أن الله لم يذكر يميناً ولا يساراً هو لتجويز صحة ما يديعه القاطع من الغلط ليسقط عنه القصاص، وقله في المنتخب فمن قطع سارقاً أدخل عليه ظناً منه أن يجوز له ذلك أن عليه الدية يقتضي قياسه على أن من قطع يساره غلطاً الدية يتحمل عنه عائلته.
فإن قيل: فهلا قطعتم.... اليسرى.
قيل له: لأنَّه لم يستحق السرقة إلاَّ قطع يده اليمى، فلما عرض ما يمنع من قطعها لم يجز أن يقطع مالا يستحق قطعه.
مسألة

(106/13)


قال:ولو أن جماعة اجتمعوا على سرق ما قيمته عشرة دراهم وإخراجه من الحرز قطعوا كلهم، قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقطعون حتى يخص كل واحد منهم المقدار الذي يجب فييه القطع، وبه قال الشافعي وحكي عن مالك مثل قولنا، والدليل على ما ذهبنا إليه أنَّه قد حصل السرق لمقدار يجب فيه القطع، فوجبأن يحصل القطع دليله لو كان السارق واحداً أو كان المسروق ما يخص كل واحد منهم المقدار الذي يتعلق به، وقد الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فوجب قطعهم بظاهر الآية؛ لكونهم سارقين بمقدار يجب به القطع، فكل واحد منهم سرق ذلك المقدار؛ لأن الجميع إذا سرقوا عشرة فكل واحد سارق لجميعه، كما أن جماعة لو قتلوا واحداً كان كل واحد منم قاتلاً له، فكما يجب أن يقاد من جميعهم، كذلك يجب أن يقطع الجميع.
فإن قيل: إذا كان ذكلك لزم كل واحد منهم الجميع.
قيل له: يلزم ذلك على طريق التخيير؛ لأن صاحب الشيء مخير في تضمين من يشاء منهم إلاَّ أن لهم أن يوزعوا ذلك بينهم على أن ذلك لوكان ذكلك لم يمنع ما قلناه أن عشرة لو قتلوا خطأ لمتهم دية واحد، ولو قتلوا عمداً قتلوا جميعاً.
فإن قيل: أفلستم تقولون أن ثلاثة لو اشتركوا في أربعين شاة لم يلزمهم شيء، فكذلك يلزمهم السرق على ذلك.
قيل له: الفرق بين ذلك وبين السرقة أن كل واحد من الشركاء غير مالك للجميع وكل واحد من السراق سارق للجميع، فيجب أن يلزم كلواحد منهم القطع.
فإن قيل: فقد قال: لا قطع فيما دون عشرة دراهم.

(106/14)


قيل له: كذلك يقول وهو صلى الله عليه وآله وسلم لميقل لا قطع حتى يكون ما يسرقه جماعة السراق بحيث يخص كل واحد منهم بعشرة دراهم، وإنما قال: لا قطع فيما دون عشرة ونحن لا نقطع حتى يكون المسروق عشرة دراهم، وهذا جوابنا لمن قال: روي لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشيء التافه؛ لأن القطع لم يحصل في الشيء التافه على ان القطع إنَّما يتعلق بهتك الحرز لمقدار مخصوص، فإذا حصلا وجب القطع، ولا يجب أن يعتبر عدد السراق؛ لأنالطقع لا يتعلق بهم ولأنهم لا حق لهم في المسروق.
مسألة
قال: ولو أن جماعة اجتمعوا في دار المسرق فكور المتاع أحدهم وحمله بعضهم وأخجه من الحرز بعضهم لكان القطع على الذي أخرجوه من الحرز، وأدب الباقون، وبه قال الشافعي: قال أبو حنيفة: يقطع الجميع، ويدل على ما ذهبنا إليه قول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقوله عز وجل: {وَلا تَكْسِبُ كُلَّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وقال: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ولا سارق في جملتهم إلاَّ من أخرج المسروق من الحرز فوجب أن لا يلزمهم القطع لازماً غيره، وأيضاً الباقون لم يخرجوا المسروق من الحرز، فوجب أن لا يلزمهم القطع دليله لو لم يكونوا دخلوا الحرز يوضح ذلك أن جميعهم لو دخلوا الحز ولم يخرجوا شيئاً لم يلزمهم القطع، والعلة أنهم لن يهتكوا الحرز بإخراج المتاع يكشف ذلك أن جماعة لو اجتمعوا على قتل رجل فولي القتل بعضهم لم يلزم القود إلامن تولى القتل، وكذلك لو اجتمعوا على الزنا بامرأة فزنا بعضهم لم يستحق الحد إلاَّ من زنا، فكذلك في مسألتنا لا يستحق القطع إلاَّ من أخرج ن الحرز والعلة أنَّه هو المتولي للجناية الموجبة للحد.
فإن قيل: إنهم اشتركوا في السب وهو دخول الحرز فوجب أن يشتركوا في القطع.

(106/15)


قيل له: دخول الحرز ليس بسبب عندنا للقطع؛ لأن سارقاً لوأدخل يده إلى الحرز فأخرج منه المال لزمه القطع، علىأنه لو كان سبباً كان بعض السبب والقطع لا يتعلق إلاَّ بمجموع السبب، ألا ترى أن رجلين لواشتركا في مال فكان لأحدهما نصاب وللآخر دون ذلك أوحال الحول على مال أحدهما ولم يحلعلى مال الآخر لم تلزمه الزكاة كما لزمت شريكه؛ لأنَّه يشاركه في بعض السبب، كذلك ما اختلفنا فيه وقلنا يؤدب الباقون؛ لأن جنايتهم عظمت فاستحقوا التعزير.
مسألة

(106/16)


قال: ولو أن رجلين اجتمعا على سرق شيء، فدخل أحدهما ووقف الآخر عند الباب فتناول المسروق من يد من في الدار نظر في أمرهما، فإن كان الداخل خرج المتاع من الباب ثُمَّ تناوله الخارج كان القطع على الداخل دون الخاج، وإن كان الخارج أدخل يده إلى الداخل فأخرج المتاع من الداخل وأخرجه من الباب كان القطع على الخارج دون الداخل، وعلى من لا قطع عليه منهما الأدب، الأصل في هذا أن القطع يتعلق بهتك الحرز بمقدار معلوم من المال، ومعنا تناوله مال الغير على وجه الظلم إذا كان له قدر مخصوص وأخرجه من الحرز يبين ذلك أنَّه لو دخل الحرز وخرج من دون تناول المال لم يلزم القطع، وكذلك لو دخل وأخذ المال ثُمَّ تركه اضطراراً أو اختياراً بعد أن لا يكون مخرجاً له من الحرز لم يلزمه القطع، وكذلك لو أخذه من غير الحرز أو أخرج وأخذ من الحرز وحمله في الطريق غيره لم يلزم الحامل القطع فبان بهذه الأصول التي بيناها ما قلنا من أن القطع يجب بهتك الحرز على الوجه الذي بيناه، وإذا ثبت ذلك صح ماقلناه فيالرجلين إذا ثبت أحدهمابالباب ودخل الآخر، أن القطع منهما على من تولى إخراجذلك من الحرز داخلاً كان المخرج أو خارجاً وجه التأديب ما بيناه من من عظم جرمه وإن لم يستحق القطع، قال: ولو أن الداخل كور المتاع ثُمَّ حمله إلى الباب ثُمَّ تناول جانباً منه، وتناول الخارج الجانب الآخر فأخرجاه لزمهما جميعاً القطع، وذلك أن كل واحد منهما هاتك للحرز بإخراج ما أخرجناه على الوجه الذي بينا، فوجب أن يلزم كل واحد منهما القطع، قال: ولا فصل في وجوب القطع بين من يخرج لمتاع من الباب أو يرميه من فوق الجدار أو يخرجه من الثقب، وذلك لما بيناه منأن القطع يتعلق بإخراجه من الحرز، وكل من ذكرناه مخرج له من الحرز، فوجب أن يستوي الأمر في جميعهم في لزوم القطع.
مسألة

(106/17)


قال: ولو أن سارقاً دخل الدار ومعه صبي أو مجنون وأخذ المتاع ودفعه إلى الصبي أو المجنون فأخذه وأخرجه من الحرز ثُمَّ تناول السارق منه المتاع خارج الدار وحمله فلا قطع على واحد منهما، وذلك أن المخرج للمتاع من الحرز هو المجنون أو الصبي وهما لا قطع عليهما؛ لأن القطع عقاب ولا خلاف أنَّه لا يلزم من لم يبلغ أو لم يعقل، والسارق لم يخرجه من الحرز، فلذلك قلنا إنَّه لا قطع على واحد منهما.
مسألة
قال: وإذا أخذ السارق وقد تناول المتاع ولم يخرجه من الحرز فلا قطع عليه وإن أخرجه ثُمَّ رده إلى الحرز فعليه القطع، قال أبو حنيفة: إذا رده لم يقطع والذي يدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وهذا سارق، فوجب أن يقطع وأيضاً قد ثبت فيمن شرب خمراً ثُمَّ قاءها أو غصب جارية ثُمَّ زنا بها ثُمَّ ردها على ما لكها أنَّه لا يسقط عنهما الحدن كانت العلة فيه أن كل ما فعل بعد ذلك لم يخرج الجناية من أن تكون وقعت كذلكمن سرق شيئاً ثُمَّ رده لم يسقط عنه القطع؛ لأن رده لم يخرج الجناية عن أن تكون قد وقعت، والأصلو كلها شاهدة لنا؛ لأن الجناية التي تقع ما يحصل بعدها لا يغير حكمها ما لم يكن ذلك توبة إلى الله عز وجل.
فإن قيل: فما تقولون فيمن قذف رجلاً فأقر المقذوف عليه أليس يسقط عنه الحد.
قيل له: لأن ذلك يكشف لنا عن أن يكون القذف لم يكن جناية، مثاله أن يقر المسروق منه أنَّه ملك للسارق أو يقر أنَّه كان إذن له في أخذه فسقط عنه القطع لأن ذلك يكشف لنا أن ما فعله لم يكن جناية.
فإن قيل: فالقطع لا يجب إلاَّ بخصومة المسروق منه، وإذا رده عليه لم يثبت له خصومة.

(106/18)


قيل له: لسنا نسلم نسلم ذلك بل عندنا يجب القطع بحصول السرقة خوصم أو لم يخاصم؛ لأنَّه حق لله عز وجل كحد الزنا والشرب وليس هو كحد القذفن يدل على ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع من اعترف عند بالسرقة بعد قوله: <ما أخالك سرقت> مرتين أو ثلاثاً ولم يرو أنَّه كان هناك مخاصم، وكذلك ما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إني سرقت جملاً لبني فلان فبعث إليهم، فقالوا: فقدنا جملاً لنا فقطعه وقولهم، فقدنا جملاً لنا ليس بدعوى ولا خصومة فثبت أن القطع يجب من غير خصومة مثل حد الخمر والزنا.
مسألة
قال: ولو أن صاحب السرقة والشهود عفوا عن السارق ولم يرفعوه إلى الإمام كان ذلك لهم ولم يكن للإمام أن يتبعهم وإن وهب صاحب السرقة من السارق ما سرقه بعد ما رفعه إلى الإمام لم يسقط القطع، أما عفوهم وسترهم عليه قبل رفعهم إلى الإمام فلا خلاف في أنَّه جائز ومندوب إليه، ويدل عليه ما روي في من سرق رداء صفوان فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما أراد قطعه، قال: وهبته له، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هلا كان قبل أن يرفعه إليَّ،وهذا يدل على أن هبته له بعد ما رفع لا يسقط عنه القطع، وبه قال الشافعي: وروي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لهزال، لو سترته بثوبك كان خيراً لك مما صنعت، وكان هزال أمر ما عزاً أن يعترف، وقوله من أتى شيئاً من هذه القاذورات فليستر بستر الله إلى آخر الحديث، قال أبو حنيفة: يسقط عنه القطع ووجهه ما قد بينا أن الجناية قد حصلت واليست هبته له مما يزيل الجناية كمن زنا بجارية ثُمَّ ملكها أو بامرأة ثُمَّ نكحها أن ذلك لا يسقط عنه الزنا، كذلك من سرق ثُمَّ وهبت منه السرقة وإن كان هذا لا يلزم أبا يوسف فإنه يذهب إلى أن يسقط حد الزنا عن الرجلين ويلزمه سائر ما قدمنا.
مسألة

(106/19)


قال: والنباش إذا نبش القبر وأخرج من أكفان الميت ما يبلغ قيمته عشرة دراهم لزمه القطع، وبه قال أبو يوسف والشافعي: ليس بحرز وأنه يحتاج إلى ما يجوز به، قال: والكم لا يكون حرزاً، وهذا قد مضى الكلام فيه، قال: وكذلك الخيمة وما أشبهها لا يكون حرزاً تخريجاً.
كنا قلنا أن الخيمة ليس بحرز ثُمَّ رأينا الأقر على أصوله أن يكن حرزاً؛ لأنها تشبه بيت الشعر عموم قوله: الحرز بيت الرجل يوجب أن يكون بيت السعر عنده حرزاً والخيمة تشبهه.
فإن قيل: فقد قال الحرز ما يمنع الدخول والخروج والخيمة لا تمنع.
قيل له: لا يمكن الدخول في المنازل والقصور على أن أمر الخيمة فيه نظر، ولا نص فيه، وقد قلنا ما رأيناه، قال: والبيادر التي يكون عليها شرائح القصب تكون حرزاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أواه الحرس ففيه القطع.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً سرق باب دار في درب لم يكن عليه القطع، وإن سرق باب حجرة في دار وجب عليه القطع، قلنا إنَّه إذا سرق باب دار في درب فلا قطع عليه؛ لأن الباب لم يكن في حرز؛ لأن الحرز ينتهي إلى الباب، والباب ليس في حرزه، وقلنا: إنَّه إن سرق باب حجرة في دار قطع؛ لأن الدار كلها حرز، وباب الحجرة فيها فصار سارقها سارقاً من الحرز، فلذلك أوجب فيه القطع.
مسألة

(106/20)


قال: ولو أن قصراً كان فيه حجرٌ متفرقة لأقوام متفرقين فسرق سارق من بعض الحجر متاعاً وأخرجه إلى وسط القصر لزمه القطع، وذلك أن كل حجرة حرزاً لواحد على حالها، فإذا سرق منها وأخرج المسروق إلى القصر كان هاتكاً للحرز فلزمه القطع، قال: فإن كانت الحجر كلها مع القصر في يد إنسان واحد فسرق وسارق من بعض الحجر شيئاً وأخرجه إلى وسط القصر لم يلزمه القطع وإن أخرجه من القصر لزمه القطع، وذلك أن اغلحجر كلها مع القصر حرز واحدٌ فما لم يخرج من القصر فلا قطع عليه؛ لأنَّه لا يكون أخرجه من الحرز فإن أخرجه من القصر لزمه القطع؛ لأن يكون قد أخرجه من الحرز، قال: ولو أن سارقاً دخل بيتاً ليس عليه باب، فأخرج المتاع منه لزمه القطع؛ لأن البيت حرزٌ كان عليه الباب أو لم يكن، قال: ومراحات الإبل والغنم التي عليها حصائر يكون حرزاً وما سرق منها من الحيوان لزم فيه القطع، وهذا قد مضى كلامنا فيه.
قال: فأما المراتع والمسارح فلا تكون حرزاً؛ لأنها صحاري، وذلك مما لا خلاف فيه.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً كان له على آخر دراهم فسرق منه مقدار ماله عليه أو دونه لزمه القطع إذا كان المسروق مقداراً يلزم فيه القطع، وذلك أنَّه سارق فلزمه القطع لقول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فكون حقه عليه لا يخرجه من كونه سارقاً.
فإن قيل: ألستم قلتم أن العبد لو سرق من شريك سيده مقدار ما لسيده فيه فلا قطع عليه فكيف أوجبتم القطع على هذا الذي سرق من غريمه.
قيل له: لأنَّه ذلك العين كان فيها حق لسيده ونصيب، وهذا السارق لا حق له في العين المسروقة، وحقه ثابت في ذمة غيريمه، فلم يشبهها ووجب الطقع على هذا السار؛ لأنَّه سرق مال غيره على وجه الظلم وأخرجه من الحرز.
مسألة

(106/21)


قال: وإذا سرق مملوكاً صغيراً من حرزه وجب عليه القطع ومن سرق مملوكاً كبيراً فأخرجه من الحرز طوعاً فلا قطع عليه وإن أخرجه كرهاً فعليه القطع والصغير هو الذي لا يعمل ولا ينبئ عن نفسه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي؛ لأنَّه بمنزلة البهيمة، قال أبو يوسف: لا يقطع إذا كان الصغير كذلك فأما إذا كان كبيراً ومعناه أن يكون بحيث يعقل وينبئ عن نفسه سواء كان بالغاً أو غير بالغ، فلا قطع فيه عند أبي حنيفة والشافعي، والدليل على لزوم القطع في قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وسارق الكبير أيضاً سارق فلزمه القطع.
فإن قيل: هو مباهت ولسي بسارق.
قيل له: كونه مباهتاً لا يخرجه أن يكون سرقه من صاحبه، ألا ترى أن البهيمة لو امتنعت عليه وأكرهها على الخروج من الحرز كان سارقاً، فكذلك إذا أكره العبد وأيضاً هو مالٌ أخرجه من الحرز على وجه الإستخفاء من صاحبه، فوجب أن يلزمه القطع دليله البهيمة والمملوك الصغير الذي لا ينبئ عن نفسه، فأما أن خرج طوعاً فلا خلاف في أنَّه لا قطع عليه؛ لأنَّه خرج باختياره وليس السارق مخرجاً له.
قال: ويجب أن يلبث بشهادة شاهدين أو إقرار السارق مرتين، فإن رجع عن الإقرار قبل رجوعه، وذلك أن معنى السرق في هذه المسألة هو الإكراه على الخروج، فلا يثبت ذلك إلاَّ بما تثبت به السرقة من شهادة شاهدين أو إقرار السارق مرتين على ما سلف القول فيه، ويقبل رجوعه بعد الإقرار على ما مضى القول فيه، وذلك لدرء القطع دون ضمان العبد إن كان أقر بإخراجه، وإن لم يقر بالإكراه؛ لأنَّه يكون غاصباً فعليه ضمانه.
مسألة

(106/22)


قال: ولا قطع على من سرق الحر، وقال في المنتخب: عليه القطع، قال مالك مثل رواية المنتخب، والصحيح ما في الأحكام، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا قطع فيما دون عشرة دراهم>، وقوله عليه السلام فيما رواه عنه ابن مسعود: لا تقطع اليد إلاَّ في دينار أو عشرة دراهم، وعن علي عليه السلام: لا قطع في أقل من عشرة دراهم، والأخبار في هذا المعنى كثيرة، فإذا ثبت ذلك وثبت أن الحن لا يصح تقويمه، ثبت أنَّه لا قطع على سارقه، وإذا ثبت أن المال لا قطع فيه حتى تكون له صفة زائدة على كونه مالاً فما ليس بمالٍ أولى أن لا يقطع فيه، فأما وجه ما في المنتخب فهو التعلق بظاهر الآية ولا يمتنع أن يقال فيه أن الدية تجري مجرى القيمة.
مسألة

(106/23)


قال: ولو أن رجلاً سرق فاكه من أشجارها أو ثمر زروق قبل حدادها لم يلزمه القطع، وإن سرقها من حرزها، وكذلك إن قطع غصناً من شجرة فلا قطع عليه فيه، وذلك كله يقول به أبو حنيفة، قال الشافعي في جميعة القطع: إذا كان في حرز ووجهه ما ذهبنا إيه ما رواه رافع بن خديج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا قطع في ثمرٍ ولا كثر والكثر الجمار، وقيل النخل، وما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن الثمر المعلق، قال: لا قطع فيه إلاَّ ما أواه الجرين وبلغ ثمن المخن ففيه القطع فصار ذلك أصلاً في كل ما كان من الثمر معلقاً على شجرة أو قائماً على منبته ومن رعيه أنَّه لا قطع في سواء كان في حرز أو غير حرز؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير نفي القطع عنه، قال: فإن سرق من فواكه قد قطعت ووضعت في الحرز ففيها القطع وال فصل بين أن تكون الفواكه رطبة أو يابسة، وكذلك إذا كان زرعاً سرق منه بعد ما حصد أ جذعاً أو حطباً بعد ما قطع، ووضع في الحرز لزم فيه القطع، ويجب القطع في اللحم إذا سرق وفي كلما يجوز للمسلمين تملكه إذا سرق القطع إلاَّ ما بيناه من الثمار وما كان في حكمهما من الجمار ووغيره من البصل والجزر والقثاء والبطيخ وما أشبه ذلك ما دام في مزرعة، ذهب اشافعي إلى غيجاب القطع في كل ما قلنا إنَّه يقطع فيه، فأما أبو حنيفة فإنه منع القطع في الفواكه الرطبة واللحم وكل ما يسرع إليه الفساد لم يكن معداً للتبعية وفي الخشب إلاَّ الساج، وروي عنه أيضاً أنَّه قال: لا قطع في النورة والزرنيخ وما أشبهها، والدليل على وجوب القطع في كل ما ذكرناه قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} فلم يخص جنساً من جنس، فاقتضى عموم الآية قطع جميع ما قلنا أن فيه القطع، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لا تقطع يد إلاَّ فيما بلغ ثمن المخن، وروي إلاَّ في ثمن المخن، فاعتبر صلى الله

(106/24)


عليه وآله وسلم المقدار ولم يعتبر الأجناس، وقال: فإذا أواه الجرين وبلغ ثمن المخن فيه القطع فاعتبر المقدار والحرز، وأن لا يكون مأخوذاً عن شجرة ولم يعتبر كونه رطباً أو يابساً ولم يعتبر الجنس فكل ذلك يدل على صحة ما قلناه من إيجاب القطع في ذلك أجمع.
فإن قيل: روي عن عائشة أنها قالت: لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشيء التافه اليسير.
قيل له: كذلك تقول ويعتبر أن تكون قيمته عشرة دراهم وما بلغت قيمته عشرة دراهم، فليس بتافه على أن الفواكه الرطبة وسائر ما اختلفنا فيه مما يتمول ويتنافس عليه ويرغب فيه فلا وجه لقول من قال: إنها من الأشياء التافهة وأيضاً لا يختلف في أن القطع يجب في الفواكه اليابسة وفي خشب الساج إذا بلغت قيمته عشرة دراهم، فكذلك سائر ما اختلفنا فيه؛ والعلة أنَّه مما يصح للمسلمين تملكه وبلغت قيمتهعشرة دراهم، وأيضاً لا خلاف بيننا وبينهم في أنالفواكه الرطبة إذا بلغت قيمتها عشرة دراهم يجوز أن يجعل مهراً، فكذلك يجب القطع بها، والعلة أن كل واحد منهما استباحة عضو يتعلق بمال.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا قطع في طعام>.
قيل له: إن ثبت الخبر كان مخصوصاً بما ذكرناه وكان محمولاً على الثمار المعلقة على الأشجار وعلى اليسير منه وحكى أبو بكر عن أبي يوسف أنَّه يقطع في كل شيء إلاَّ التراب والسرقين والطين والذي على أصولنا أن يكون الطين الذي يعد مالاً كالطين الأرضي والطين المختومالذي يتداوى به، والخراساني منه يجب فيه القطع؛ لأن كل ذلك مما يتمول ويعد ديباج وزناً.
مسألة

(106/25)


قال: ولو أن مسلماً سرق من ذمي خمراً في بلد يجوز للذمي أن يسكن فيه لزمه القطع، إن سرق ذلك منه في بلد لا يجوز للذمي أن يسكن فيه يلزمه القطع، قال أبو حنيفة: لا قطع فيها وأظنه تحول الشافعي ووجه ما ذهبنا إليه عموم قوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وأيضاً هو مال لهم ونحن قبلنا عهدهم على أن لا يمنعوا من أموالهم، فالسارق لها سارق مال يلزمه القطع.
فإن قيل: هي وإن كانت مالاً لهم فليست مالاً لنا.
قيل له: إنَّما نعتبر أن يكون المال مالاً للمسروق منه دون السارق فلا معنى لهذا الإعتبار، فأما إذا سرق في بلد لا يجوز لهم أن يسكنوه فلا قطع؛ لأنَّه متعدٍ بإدخال الخمر إليه وللمسلم أن يتناولها أو يريقها، فصار بمنزلة من سرقها من مسلم في أنَّه لا قطع عليه فيها؛ لأن له فيها حق الأخذ للإراقة، قال: والمواضع التي لا يجوز لأهل الذمة يسكنونها ويبنوا فيها البيع والكنائس هي المواضع التي اختطها المسلمون وابتدعوها، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب ومنعهم من دخول الحرم صار ذلك أصلاً في منعهم من كل بلد تختص بالمسلمين والإختصاص على وجهين قد يكون بأن يخصصهم الشرع كالحرم وجزيرة العرب، وقد تكون الخطة للمسلمين دون من سواهم فأي بلد اختص بالمسلمين بواحد من الوجهين يمنع أهل الذمة أن يسكنوه ويبنوا فيه البيع والكنائس.
مسألة
قال: وفي الطيور إذا سرقت من حرزها القطع سواء كانت مقصوصة أو طيارة، قال أبو حنيفة: لا قطع فيها لنا قوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وأن الطيور من جملة الأموال التي تتمول وتباع وتشترى تدخر فأشبهت سائر الأموال من الأنعام والأغنام وغيرها.
فإن قيل: روي عن علي عليه السلام وعثمان لا قطع في طير ولا صيد.

(106/26)


قيل له: لم يثبت الخبر ولو ثبت كان معناه قبل أن يملك، كأن تكون طيراً أو صيداً يأوي إلى دار إنسان فيدخل السارق فيأخذها منها.

(106/27)


مسألة قال وحكم من قطع الطريق في المصر
حكم السارق ولا يكون حكمه حكم المحارب، وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً؛ لأن حكم المحاربين إنَّما هو في الذين يقطعون الطريق بحيث لا يمكن الإستغاثة بالمسلمين، فأما المكابرون في المصر فإنهم يجري عليهم أحكام السراق إن سرقوا أو أحكام المختلسين إن اختلسوا أو المنتهبين إذا انتهبوا.
مسألة
قال: ولا قطع على الأب فيما سرق من مال ابنه ولا على الابن فيما سرق من مال أبيه، أما الأب إذا سرق ابنه فلا أعرف خلافاً في أنَّه لا قطع عليه ووجهه حصول الشبهة فيما تناول، لقوله <أنت ومالك لأبيك> فأضاف المال إلى أبيه فصار ذلك أقل ما فيه شبهة تدرأ بها فيه القطع، وأما الابن فقد قال أبو حنيفة: إنَّه لا يقطع إذا سرق مال أبيه، وكذا قوله في كل ذي رحم محرم، وذلك لا معنى له عندنا؛ لأنَّه سارق ولا شبهة فيما سرق، ألا ترى أن الأب لو زنى بجارية ابنه سقط عنه الحد للشبهة، لو زنا الابن بجارية أبيه لم يسقطالحد عنه، فكذلك القطع.
فإن قيل: فقد قالالله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بِيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} فصار ذلك شبهة توجب درء القطع، فكذلك ما ذكرتموه.
قيل له: فقد قال الله في آخر الآية: {أَوْ صَدِيْقِكُمْ} وهم لا يجعلونه شبهة ولا يقولون به.

(107/1)


باب القول في التعزيز
لا يبلغ بالتعزير حد صاحبه حراً كان أو عبداً بل يكون دوه بسوط أو سوطين على ما يراه الإمام تحصيل المذهب عندي والله أعلم أن تنظر إلى الجناية، والجاني فإن كانت الجناية من جنس الوطء وكان الجاني حراً ضرب أكثر ما يضرب دون المائة بسوط أو سوطين، وإن كان عبداً فأكثره دون الخميسن بسوط أو سوطين وإن كانت الجناية من جنس الشتم للمسلمين والتعريض لهم باللفظ القبيح فأكثره دون الثمانين إن كان حراً ودون الأربعين إن كان عبداً وإن كان من جنس الشرقة فقياس قوله أن يكون دون المائة إن كان ح حراً؛ لأن القطع أعظم من جلد مائة والله أعلم، واختلف العلماء في التعزير، فروي عن مالك وأبي يوسف أنَّه على ما يراه الإمام بالغاً ما بلغ، وروي أيضاً عن أبي يوسف وهو الأشهر خمس وسبعون وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة ومحمد دون الأربعين وأظنه قول الشافعي، والأصل فيه ما روي أن علياً عليه السلام جلد رجلاً وجد مع امرأة ولم تقم الشهادة بالزناء دون المائة بسوط أو سوطين، وروي أنَّه أفتى بذلك أيضاً وروى نحوه عن عمر ولم يحفظ عن غيرهما خلاف ذلك، فجرى مجرى الإجماع على أن قول أمير المؤمنين عندنا حجة، كذلك فعله.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله>.
قيل له: إن صح هذا الخبر فيجب أن يكون منسوخاً فجماع المسلمين على خلافه على أن خبر الواحد يجب قبوله إذا لم يدفعه أقوى منه فإذا دفعه الإجماع لم يجب قبوله.
فإن قيل: روي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ضرب حداً في غير حدٍ فهو من المعتدين.

(108/1)


قيل له: يحتمل أن يكون أراد به من ضرب حداً كاملاً للجنس الذي هو يضرب من غير حد وهو مما نأباه ولا نقول به على أن الحد لا يكون حداً لا أن يقصد إليه، فظاهر الخبر أنَّه لا يجوز أن يقصد الحد في غير حد، وهذا مما نقول به ونذهب إليه؛ لأن الواجب أن يقصد التعزير ويقصر على حد مثله، قال: وللإمام أن يحبس من وجب عليه التعزير بعد إقامته إن رآه وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس قوماً بالتهمة، وروي أن علياً عليه السلام كان يقيد الدعار بقيود لها أقفال ويوكل بها من يحلها في أوقات الصلوات من جانب، وروي عنه أن السارق يحبس في الثالث، والروايات في هذا الباب كثيرة فثبتت أن الحبس من جملة التعزير.
مسألة
قال: وإذا وجد رجل مع امرأته في لحاف واحد لزمهما التعزير وغاية تعزيرهما دون المائة بسوط أو سوطين إن كانا حرين وإن كانا مملوكين دون الخمسين، وذلك لما روى محمد بن منصور بإسناده عن جعفر، عن أبيه أن علياً عليه السلام قال: إذا وجد الرجل مع امرأة في لحاف واحد جلد كل واحد منهما مائة جلدة غير سوط، وإنما فعل ذلك؛ لأن الزنا لم يثبت عليهما مع تعرضهما له، وقلنا إن كانا مملوكين فدون الخمسين؛ لأن الزنا لو ثبت عليهما لكان حدهما خمسين، فإذا لم يثبت فيجب أن يكون تعزيرهما دون حدهما كالحر، قال: وكذلك في الرجلين إذا أتى أحدهما صاحبه فيما دون الدبر ووجهه ما قدمنا ذكره فلا وجه لإعادته، قال: وإذا وقعت المرأة على المرأة لزمهما التعزير، وذلك لتعرضهما للفاحشة ولم نوجب عليهما الحد؛ لأنَّه لا يصح منهما الإيلاج، قال: وأي سارق أو قاذف درئ عنه الحد للشبهة وجب تأديبه؛ لأنَّه تعرض لما يوجب الحد فلا أقل من التعزير كما مضى القول فيه.
مسألة

(108/2)


قال: ولا يجوز اللعب بالشطرنج ولا النرد ولا شيء من الميسر ومن فعل شيئاً من ذلك لزم من تأديبه ما يراه الإمام، أما الميسر فلقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..} الآية، وأما النرد فللأخبار الواردة في النهي عنه وفي تحريمه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروي أنَّه ميسر العجم، ولا أعرف خلافاً في تحريمهما، وأما الشطرنج فلما روي عن أمير المؤمنين من النهي ومعاقبة من فعله وتحريق رقعته، ذكر يحيى بن الحسين عليه السلام عن علي عليه السلام أنَّه جاز بقوم يلعبون بالشطرنج فلم يسلم عليهم ثُمَّ أمر رجلاً من فرسانه فنزل فكسرها وحرق رقعتها وعقل من كل واحد ممن لعب بها رجلاً وأقامه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لا نعود، فقال: إن عدتم عدنا.
مسألة
قال: ويجوز كسر الطنبور والشطرنج وتحريق رقعته وما أشبه ذلك، وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي، والأصل فيه أن كل شيء موضوعه المعصية يجوز كسره وإن أمكن الإنتفاع به في غير المعصية، وذلك كالطنبور والعود والمزمار والدف وما أشبه ذلك، والحجة فيه ما حكى الله عن إبراهيم عليه السلام في قوله: {وَتَاللهِ لأَكِيْدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تَوَلَّوا فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أي كسرها فصار ذلك أصلاً الكسر لكل ما موضوعه المعصية، ألا ترى أن الأصنام يجوز أن يقعد عليها ويجعل عليها الثياب وما يخشى عفنه إن وضع على الأرض لكنها لما كانت موضوعة لمعصية استجاز إبراهيم كسرها، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <بعثت بكسر المعزاف والمزمار>، وروي أن علياً عليه السلام حرق رقعة الشطرنج وكسر الشطرنج.
إلى نهاية صفحة (165). بعد هذا كتاب الديات.

(108/3)


باب القول فيمن يقتل حداً
من ارتد عن دين الإسلام لزمه القتل رجلاً كان أو امرأة بعد أن يستتاب، فإن تاب خلي سبيله، وإن أصر على الردة ضربت عنقه، أما الرجل إذا ارتد عن الإسلام فلا خلاف بين المسلمين في لزوم القتل له، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يحل دم امرء مسلم إلاَّ في ثلاث: كفر بعد إيمان أو زناً بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس> فأما المرءة إذا ارتدت فقد اختلف فيها، قال الشافعي مثل قولنا أنها تقتل، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا تقتل، واختلفت الرواية عن أبي يوسف، وقال القاسم عليه السلام: لا تقتل والدليل على أنها تقتل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <من بدل دينه فاقتلوه ومن ..> للذكر والأنثى فعمومه يوجب ما قلناه، وكذلك قوله: <لا يحل دم امرء مسلم إلاَّ في إحدى ثلاث: كفر بعد إيمان..> وذلك عام في الرجال والنساء، وكذلك قوله أو زناً بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس يشترك فيه الرجال والنساء، وكذلك قوله أو كفر بعد أيمان يبين أن من الرجال والنساء قوله عز وجل: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنُّ بِفَاحِشَةٍ} {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ}.
فإن قيل: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <من بدل دينه فاقتلوه> ولا عموم له؛ لأنالقتل لا يجب بالتبديل، ألا ترى أنَّه لو عاد إلى الإسلام لم يقتل،وأنه يجب القتل للمقام على الكفر والإصرار به.

(109/1)


قيل له: هذا غلط يبين ذلك أن القتل يلزمه لكن التوبة تسقطه كما تسقط ما يلزم المحارب إذا تاب من قبل أن تقدر عليه، وإن كان قد استحقه بالمحاربة المخصوصة، ألا ترى أنَّه لو ارتد عن الإسلام ثُمَّ أقام على الردة وأصر عليها وانفلت من يد الإمام ثُمَّ جاء مسلماً تائباً لم يجب قتله، فلو دل ما قلتم على أنَّه لم يستحق القتل بنفس الردة لوجب أن يدل على أنَّه لم يستحقه بالمقام على الكفر أيضاً فبان أن الصَّحيح ما قلناه من أنَّه يستحق القتل على نفس الردة التي هي التبديل، وإن كانت التوبة تسقطه كما أن توبة المحارب تسقط ما استحقه من القتل والصلب وقطع اليد والرجل من خلاف، فإذا ثبت ذلك صح التعلق بعموم الخبر، وثبت ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه نهى عن قتل النساء والولدان وذلك عام في جميعهن.

(109/2)


قيل له: ذلك وارد في نساء أهل الحرب لم تختلف الرواة فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في بعض المعازي فوجدت امرأة مقتولة فنهاهم عن قتل النساء والصبيان، وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى الذي قتلوا ابن أبي الحقيق حين خرجوا إليه عن قتل النساء والولدان، وعن ابن بريدة، عن أبيه، قال: كان إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية، قال لهم: <لا تقتلوا وليداً ولا امرأة>، وعن ابن أبي سعيد الخدري، قال: نهى رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والولدان، وقال: هما ملن غلب، وعن حنظلة الكاتب، قال: كمنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمر بامرأة لها خلق وقد اجتمعوا عليها، فلما جاء أفرجوا له، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <ما كانت هذه تقاتل ثُمَّ ابتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا تقتلوا امرأة ولا عسيفاً فوضح بما بيناه أن ذلك وارد في نساء أهل الحرب، وذلك مما لا يخالف فيه أحد، ولا يجوز أن يعترض به على عموم قوله: <من بدل دينه فاقتلوه>.
فإن قيل: نحن لا نرى قصر الحديث على السبب الوارد فيه إذا كان له عموم، قيل له: لا ننكر ذلك لكن لا يعارض العموم به الوارد لا على السبب بل يكون العموم الوالد على الإطلاق أولى في غير السبب، ألا ترى أنا جميعاً يتنجس الماء الذي وقعت فيه النجاسة لعموم قوله عز وجل، ولا يعترض عليه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <الماء طهورٌ لا ينجسه شيء لوروده على سبب خاص.
فإن قيل: فابن عباس هو الذي روى <من بدل دينه فاقتلوه> وهو لا يرى قتل المرتدة.

(109/3)


قيل له: يجوز أن يكون خصه بضرب من الإجتهاد ولا يلزمنا أننقلده في اجتهاده، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الشيخ الفاني وهذا لا يدل علىأنه إذا ارتد لم يتقل، وكذا نهى عن قتل العسفا، فعلى هذا يجب أن يجري نهيه عن قتل النساء وأيضاً قد ثبت أن الرجل لزمه القتل بخروجه من الإسلام إلى الكفر وأيضاً قتل المرتد حد من الحدود بدلالة أنَّه عقاب خصوص على فعل مخصوص لا يستوفيه إلاَّ الإمام فيجب أن يستوي فيه الرجال والنساء دليله الرجم ويؤكد ذلك أن الشرع لم يفصل في شيء من العقوبات في دار الإسلام وبين الرجال والنساء.
فإنق قيل: الرجل إنَّما حقن دمه بالإسلام، فإذا ارتفع الإسلام عنه عاد دية مباحاً بارتفاع الإسلام كما كان في الأصل، ولسي كذلك المرأة؛ لأن حقن دمها لم يكن بالإسلام فلا يجب أن يصير دمها مباحاً بارتفاع الإسلام عنها.
قيل له: هذا غلط، وذلك أن في الرجال من لم تكن دماؤهم محقونة بالإسلام كالرهبان والشيخ الفاني والعسفا ومن أسلم من هؤلاء، ثُمَّ ارتد لزم قتله على أن المرتد والمرتدة لا تكون دماؤهم مباحة، ألا ترى أنَّه لا يريقها إلاَّ الإمام فقتلهم إذاً يجر يمجرى الرجم.
فإن قيل: الشيخ الفاني إما أن يكون ذا رأي مثل دريد بن ال..... أو يكون زائل العقل، فإن كان ذا رأي تقل، وإن كان زائل العقل لم يقتل في الردة.
قيل له: هاهنا ثالث وهو أن يكون ممن لا رأي له ينتفع به في الحرب والقتال ويكون له من العقل ما يثبت معه التكليف ولا خلاف بين المسلمين أن الشيخ الفاني إذا كان بهذه الصفة لا يقتل في دار الحرب ويقتل في الردة.
فإن قيل: الراهب إذا أسلم زالت رهبانيته فبطل تعلقكم به.
قيل له: لا يمتنع أن يسلم ثُمَّ يرتد ويعودإلى رهبانيته، فلا تمنعه رهبانيته عن قتله في الردة ,غن منعت عن قتله في دار الحرب.
مسألة

(109/4)


قال: والقول في الزنديق والساحر والديوث كالقول في المرتد، أما الزنديق فه مرتد؛ لأنَّه جاحد لله عز وجل وكتبه ورسله فيجب أن يقتل كما يقتل المرتد لا خلاف في ذلك بين المسلمين، ومنهم الباطنية؛ لأن فيهم من يبطل الشريعة ويتأول لها تأويلات وذلك منهم ردة ومنهم من ينكر الصانع وعامتهم على إنكار الرسل، فكلهم مرتدون يجب على الإمام قتلهم كما يجب قتل سائر المرتدين لا خلاف في ذلك بين المسلمين، ويدل على ذلك <من بدل دينه فاقتلوه>، وروي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أنَّه حرق زنادقة من السواد بالنار، وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ حَيْثُ وَجَدْتُّمُوهُمْ} ولا خلاف بين المسلمين ف أنهم مشركون، وأما الساحر فقد روى محمد بن منصور بإسناده عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن الساحر فقال: <إذا جاء رجلان فشهدا عليه فقد حل دمه>، وروى زيد بن علي، عن أيبه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: حد الساحر القتل.

(109/5)


اعلم أن السحر إنَّما هي حيل وتمويهات من جنس الشعبذة، وربما أوهموا أنهم يحيون الميت وأنهم يبدلون الخلق، وأنهم يخرجون بعض الحيوان في صور البعض وأنهم يركبون الجمادات إنساناً، وروي أن سحرة فرعون كانوا خرزوا جلوداً على هيئات الحيات وحشوها بالزئبق وطرحوها في الشمس فجعلت تلتوي فخيل إلى العامة أنها صارت حياتن فمن فعل ذلك أو شيئاً منه مظهراًأن له حقيقة فهو الساحر المرتد الذي يحل دمه ويجب قتله على الإمام كما يجب قتل المرتد؛ لأن أكثر ذلك مما لا شبهة في أنَّه لا يقدر عليه إال الله عز وجل، ومن ادعى أنَّه يفعل شيئاً من ذلك أعني إحياء الميت وتبديل الخلق وإخراج الإنسان في بعضالحيوان فقد ادعى الربوبية وكفر بالله العظيم وصار مرتداً يلزم قتله، فأما من أوهم فعل تلك الأشياء وأقر مع فعله أنَّه تمويه وحيلة وخفة اليد فهو مشعبذ وليس بساحر ولا يحل قتله، وللإمام أن يؤدبه إن رأى ذلك، وقد رأيت مستعبداً دقيق الشعبذة فكان كل ما فعل فعلاً من ذلك قال هو مليح ولكنه ربح، فكان يقرأه حيلة وخفة يد وأنه لا حقيقة له، فمن كان كذلك لم يكن ساحراً ولم يحل قتله، وأما الديوث فهو الذي يمكن الرجال من حرمته فيجب قتله لما روى محمد بن مسطور بإسناده عن عبد الله بن حسن، عن أبيه حسن بن الحسن، عن علي بن أب طالب عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <اقتلوا الديوث حيث وجدتموه>.
مسألة

(109/6)


والقول فيمن استحل الخمر أو لحم الخنزير أو غيرهما مما يجري مجراهما أو سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالقول في المرتد، أما من استحل الخمر أو لحم الخنزير فإنه مرتد يلزم قتله لا خلاف فيه بين المسلمين وذلك أن تحريم هذين يعلم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة أو حلل ما عرف تحريمه من دينه ضرورة يكون مكذباً والمكذب له كافر بإجماع المسلمين، فكذلك قلنا: إذا قال: ذلك بعد الإسلام فهو مرتد يجب قتله، والمراد بقولنا: أو ما يجري مجراهما كل شيء عرف تحليله أو تحريمه ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمنكر له مرتد، وأما من سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيجب قتله ويكون مرتداً إذا سبه بعد الإسلام لما روي عنه من سبني فاقتلوه، وروي أن رجلاً كانت له أم تشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقتلها فأهدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم دمها، فدل ذلك على أن شتمه يوجب الردة، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: من شتم نبيئاً قتلناه. وروي أن رجلاً اعترض أبا كر فقال له أبو بردة: دعني أضرب عنقه يا خليفة رسول الله فقال: ما كان ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرو خلاف ذلك عن أحد من الصحابة، فصار ذلك إجماعاً وتثبت ردة من سبه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ويستحب أن يستتاب كل واحد منهم ثلاثة أيام فإن أبى التوبة قتل بعد الثلاثة، وعند أبي حنيفة والشافعي أيضاً يستتاب وحكي عن الإمامية أنَّه إن كان مسلمٌ بن مسلم لم يستتب وإن كان أسلم هو بنفسه استيب، وعن قوم من أصحاب الحديث إن ردته إن ثبتت بالشهادة لم يستتب وإن ثبتت بإقراره استتيب، وقال قوم في الباطنية إنهم لا يستتابون؛ لأنهم أبداً على إظهار الإسلام، والدليل على وجوب الإستتابة قول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِيْنَ كَفَرُوا إِنَّ يَنْتَهُوا يَغْفِرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} فأمر عز وجل نبيئه أن يقول لهم

(109/7)


ذلك، وهذا معنى الاستتابة ولم يخص كافراً من كافر، فكان عاماً في جميع الكفار ووجهه استتابته ثلاثة أيام، والمراد بالاستحباب هو تكرارالاستتابة ثلاثة أيام أن الله جعل ذلك في القريب بقوله في قصة صالح: {وَلا تَمُسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذكُمْ عَذَابٌ قَرِيْبٌ} ثُمَّ قال عز وجل: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِيْ دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} وذلك أيضاً بمعنى الاستتابة، وقال موسى صلى الله عليه لصاحبه في الثالثة قد بلغت من لدني عذراً، فدل ذلك على أن العذر في الثالث، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عهليم السلام أنَّه كان يستتيب المرتد ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتله وقسم ماله بين ذريته من المسلمين، فعم ولم يخص وروي عن عمر وابن عباس أنَّه يستتاب ثلاثة أيام ويحبس، وروي عن عمر أنَّه قال في مرتد: هلا حبستموه في بيت ثلاثاً فأطعمتموه كل يوم رغيفاً لعله يرجع أو يتوب، اللهم إني لم أشهد ولم أرض، وأما الباطنية فالأقب عندي أنهم يستتابون؛ لأنَّه أحوالهم مثل أحوال المنافقين الذي كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنهم كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وكانت كلمة الكفر تبدر منهم في الوقت بعد الوقت كما يبدر من الباطنية، فكانوا إذا أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبرأوا من ذلك وتستروا بالإسلام فأجرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم على الظاهر ولم يأمر بقتلهم فالأقرب عندي أن يجري أمر الباطنية على هذا والله أعلم، فإن اتفق منهم من يظهر مافي نفسه ويصر عليه فإنه يقتل كما يقتل المرتد.
مسألة

(109/8)


قال: والمحارب الذي يحمل السلاح ويخيف المسلمين ويعزم على قطع الطريق ينفى من الأرض ومعنى النفي الطرد من بلد إلى بلد وإن أخذ من قبل أن يحدث حدثاً عزر على ما يراه الإمام وإن أخذه.... أخذ المال قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى وإن ظفر به وقد قتل قتل ثُمَّ صلب حياً، والأصل في ذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِيْنَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ..} الآية، واختلف الناس في هذه الآية فمنهم من قال: إنها نزلت في المشركين ومنهم من قال إنها نزلت في أهل الإسلام، وبه قال يحيى عليه السلام وأبو حنيفة والشافعي، قال يحيى بن الحسين: إنها نزلت في شأن قوم من نحيلة، وذكر أنهم كانوا آخر العرب إسلاماً ولم يقل إنها نزلت فيهم، قال: وإنما نزلت فيمن فعل مثل فعهلم؛ لأنَّه ذكر أنها نزلت بعد ما كان منهم ما كان من قتل الرعاء واستياق الإبل وبعدما عاقبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن قطع أيديهم وأرجلهم وسلم أعينهم وطرحهم في الشمس فماتوا فكان هذه الآية نزلت في من فعل مثل أفعالهم ناسخة لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله بهم والمسلم والذمي في ذلك على سواء كما أنهم يتساوون في سائر الحدود.
فإن قيل: اسم للجارية لله وروسوله لا تتناول الذمة.

(109/9)


قيل له: ذلك غير ممتنع؛ لأن الله عز وجل لا يحارب في الحقيقة والمحاربة له عز وجل هو محاربة المسلمين، وروي عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <من عاد أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة> وروى زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام: <أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم> ولم يشترط في شيء من لك الردة والكفر، وقال الله تعالى في الربا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسولِهِ> على أنَّه إذا ثبت أن المحاربة يجوز أن تتناول الذمي والملي والمشرك وجب أن يكون عامة في الجميع وتحصيل مذهب يحيى عليه السلام أن من حملالسلاح وأخاف المسلمين في غير المصر وحاول قطع الطريق إذا أخذه الإمام أدبه ثُمَّ طرده وغربه من بلد إلى بلد حتى يبعد وإن لم يوجد اتبع بالخيل والرجال حتى يبعد والفرق بين أن يؤخذ أو أن لا يؤخذ إنَّما هو في الأدب والتغرير، فأما الطرد والإبعاد فهو في الحالينإذا لم يحدث حدثاً غير الإخافة والمجادلة لقطع الطريق، وهذا عنده معنى قوله {أَوْ يُنْفَوا مِنَ الأَرْضِ} ومن الناس من رأى أن النفي هو الحبس، وبه قال أبو حنيفة: وظاهر الآية يقتضي قول يحيى عليه السلام؛ لأن الحبس لايسمى نفياً، والمحبوس لا يكون منفياً وإنما النفي هو الطرد والتغريب فياللغة والشرع؛ لأن أحداً لم يتأول قواهي البكر تجلد وتنفى على الحبس، وكل تأوله على التغريب والطرد من قال أه من جملة الحد أو قال: إنَّه ليس من جملته ولا أعرف بين العلماء أن قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوا مِنَ الأَرْضِ} أنَّه لمن لم يحدث غير إخافة الطريق وحمل السلاح، فإن ظفر به وقد أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وبه قال العلماء وروي عن علي وابن عباس وسعيد بن جبير على أن قطع اليد والرجل في الشرع لم يجعل حد الشيء إلاَّ لأخذ المال فوجب أن يكون ذلك حد من أخذ المال منهم ويجب أن يكون المأخوذ عشرة دراهم

(109/10)


أو ما قيمته عشرة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا قطع إلاَّ في عشرة دراهم> أو ما جرى مجراه من الأخبار ولما روي لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشيء التافه، وروى محمد بن منصور، عن القاسم إيجاب القطع إذا كان المأخذو ما يجب فيه القطع، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، فإن ظفر به وقد أخذ المال وقتل قتل وصلب بعد القتل وذلك أن القتل لا يستحق إلاَّ بالقتل وذلك لقوله: <لا يحل دم امرء مسلم إلاَّ في إحدى ثلاث> وصلب بعد القتل تغليظاً لأخذه المال مع القتل ولم تقطع يده ورجله؛ لانه لا يجمع عليه بين التغليظين وأيضاً يدل على ذلك ظاهر قوله عز وجل: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيَهِمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلافٍ}.
فإن قيل: فقد قال الله عز وجل أن يقتلوا أو يصلبوا، وقد قلتم إنَّه يجمع بين القتل والصلب.

(109/11)


قيل له: قد أجابه يحيى عليه السلام عن هذا بأن قال:أو هاهنا بمعنى الواو ذكر أنَّه شائع في اللغة، وذكر له شواهدٌ ووجهه أن الصلب لسي هو حد قائم بنفسه بالإجماع؛ لأنَّه لا يجوز أن يكون حداً إلاَّ خافه الطريق، ولا لأخذ الماء ولا للقتل؛ لأنَّه لم يقل أحدٌ إنَّه يصلب ثُمَّ يترك الشيء من هذه الأشياء فثبت أنَّه تابع للقتل وإذا ثبت ذلك ثبت أن أو هاهنا بمعنى الواو للدلالة التي ذكرناها ولم يقم مثل هذه الدلالة في قوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ} ومن الناس من رأى أن يصلب ثُمَّ يقتل بالرمح أو نحوه وعندنا يقتل ثُمَّ يصب، وذلك لوجوه منها أن القتل يجوز أن لا يكون تابعاً للصلب بل الصلب هو التابع للقتل؛ لأن القتل واجبٌ في الشرع في مواضع وهو حكم مستقل بنفسه، والصلب المعرى عن القتل لا معنى له ولا يجب في شيء من الموضع، فوجب أن يكون تابعاً للقتل، ووجب أنيكون القتل مقدماً عليه وأيضاً إذا ثبت أن أو عند ذكر الصلب بمعنى الواو ثبت عندنا الترتيب؛ لأن الواو عندنا يوجب الترتيب شرعاً وإن لم يوجبه لغة على ما بينا في ترتيب الوضوء، فصار تقدير الكلام أن يقتلوا ثُمَّ يصلبوا وأيضاً ما قلناه أولى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا تجعلوا ذا الروح عرضاً>، ولقوله: <إذا قلتم فأحسنوا القتل وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ولا تعذبوا خلقالله>.
فإن قيل: لا معنى لصلب الميت.
قيل له: ليس كذلك بل فيه ردع لغيره وهو أكبر الغرض كما قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أي رادع عن القتل، قال في المنتخب: تضرب رقبته، ووجهه أن القتل في الشرع إذا كان على أمر مستحق ولم يكن على سبيل القتال على وجهين القتل أو الرجم، فلما أجمعوا على أنَّه لا رجم على المحارب ثبت أن الواجب ضرب عنقه.
فصل

(109/12)


قال أبو حنيفة: وإذا قتل بعضهم أجرى حكمهعلى الباقين، وهكذا في جماعة السراق إذا دخلوا الحرز وأخذوا المتاع بعضهم، قال الشافعي: يعاقب كل ذم جرم بحسب جرمه، والأقرب أن هذا قول يحيى لتنصيصه في السراق على أن القطع يلزم من بينهم من أخرج المتاع من الحرز، وقد استقصينا هذه المسألة ي موضعها، وما ذكرناه هناك يمكن أن يعتمد في مسألة المحاربين وهو الصَّحيح لقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} ولا يجوز أن يعاقب من لم يقتل بالقتل؛ لأن صاحبه قتل وأن لا يعاقب بالقطع من لم يسرق؛ لأن صاحبه سرق على أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يحل دم أمر مسلم إلاَّ في إحدى ثلاث} يوجب منع القتل من لم يكن منه واحدة من الثلاث.
مسألة

(109/13)


قال: فإن أتى الإمام تائباً من قبل أن يظفر به، وقد كان أخذ المال وأخاف الطريق وقتل وجب على الإمام أن يقبل توبته ويسقط عنه جميع ما ذكرنا من القتل والقطع والنفي ولم يكن لأحد أن يطالبه بشيء مما كان منه في حال محاربته، ولو أن إنساناً قتله بعد ذلك لقتل كان منه قتل الإمام قاتله ووجهه أن الله تعالى بين بقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِيْنَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ..} الآية أن جزاءهم على أفعالهم التي اكتسبوها بالمحاربة هو ما ذكرناه وبين أنَّه جميع جزائهم إنَّما لأن إنَّما إذا دخل في الكلام دل إنَّما عداه بخلافه، فدل على أن ما عدى ما ذكره ليس بجزاء لهم، وإذا ثبت ذلك ثبت أنَّه هو الذي يلزمهم في جميع ما فعلوه وأوه ثُمَّ استثنى من تاب من قبل أن قدر عليه فمن تاب منهم من قبل أن قدر عليه سقط عنه جميع ما لزمه من الحدود، وقد كان سقط عنه جميع ما لزمه وانتقل إلى الحدود بحكم الآية فدلت هذه الجملة على أن جميع ما لزمهم بالمحاربة قد سقط عنهم بتوبتهم قبل القدرة عليهم على أنا قد بينا أن ما لزمهم من القصاص والضمان قد سقط عنهم بما لزمهم من الحدود المغلظة ثُمَّ أجمع الجميع أنهم إذا تابوا من قبل أن نقدر عليهم قد سقطت عنهم الحدود، فثبت أنَّه قد سقط عنهم جميع ما لزمهم بالمحاربة، ويدل على أن القصاص والضمان قد سقط عنهم وصارت الحدود بلالا لها أن الإمام إذا ظفربه لم يكن لأولياء الدم الخيار بين الدية والعفو والقصاص بل لم يكن لهم واحد منهما وأنهم إن عفوا قلتهم الإمام وإن طلبوا الدية لم يجبهم إليا فبان أن حكم القصاص قد سقط منهم وإذا سقط حكم القصاص وصار الحد مبدلاً منه، فكذلك ضمان ما أخذوه إذ لم يفرق أحدٌ بين الضمان والقصاص فثبت ما ذهب إليه يحيى وإذا ثبت ذلك صح ماقاله من أن أحداً لا يطالبه بشيء مما استهلكه؛ لأن ضمانه قد سقط عنه وثبت أن قاتلاً لو قتله على سبيل القصاص استقاد له منه الإمام؛ ولأنه قد حقن دمه

(109/14)


وسقط عنه القصاص، قال الجصاص: وروي عن الشعبي أن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله وسعى في الأرض بالفساد ثُمَّ تاب من قبل أن يقدر عليه فلم يعرض له إلاَّ بخير، قال أيده الله: هذا وجه ما قاله يحيى، والذي أقول به ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنهم إن تابوا قبل أن يؤخذوا ضمنوا الأموال واقتصوا منه ولم يحدوا، وبه قال العلماء الذي حفظت أقوالهم مثل أبو حنيفة والشافعي وأصحاب أبي حنيفة وغيرهم لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِيْ الْقَتْلَى} ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اليدر رد ما أخذت وقوله: <لا يحل مال امرء مسلم إلاَّ بطيبة من نفسه>.
مسألة
قال: ولو أن المحارب راسل الإمام وكاتبه بتوبة وسأل الأمان لزم الإمام أن يقبل توبته إن رأى ذلك صلاحاً للمسلمين؛ وذلك أن الإمام الناظر في أمور المسلمين والمتحري في مصالحهم، فإن رأى ذلك صلالحاً لزمه فعله، وإن رأى ذلك ضرباً في الخديعة من المحارب أو مؤدياً إلى تجرية غيره على مثل ما فعله، فله أن لا يجيب إليه.
فإن قيل: هل يجوز أن تكون التوبة غير مقبولة.

(109/15)


قيل له: أما ما بينه وبين الله تعالى فهي مقبولة إن كان قد أخلص النية وإنما للإمام أن يمتنع من أمانه إن رأى ذلك ضرباً من الفساد، فإن هو تائب على البعد ومن غير أن نقدر عليه حتى ظهر ذلك وعرف منه كان آمناً وإن لم يؤمنه الإمام لقوله عز وجل: {إِلاَّ الَّذِيْنَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}، قال: فإن امنه الإمام وقبل توبته سقط جميع ذلك، ووجههما تقدم فلا غرض في إعادته، قال: وإن تاب المحارب بعد ما ظفر به الإمام أقيم عليه جميع ما ذكرنا من الحدود، وذلك لأن الله تعالى قال: {إِلاَّ الَّذِيْنَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فبين أن المسقط لتلك الحدود هو توبته قبل القدرة عليه، فمن لم يتب قبل القدرة عليه لزمته تلكالحدود بظاهر الآية، وكانت توبته فيما بينه وبين الله مقبولة إن أتى بها بعد القدرة عليه وأقيمت الحدود عليه كما يقام الرجمعلى التائب، وكذلك القصاص.
مسألة
قال:ومن انتقل من بعض ملك الكفر إلى بعض لم يجب قتله، ووجب تعزيره وأخذت منه الجزية كما أخذت على الملة الولى، وذلك أن القتل إنَّما لزم للخروج عن الإيمان إلى الكفر، وهذا قد خرج من كفر إلى كفر فلا وجه لقتله.
فإم قيل: هلا قتلتموه لعموم قوله: <من بدل دينه فاقتلوه>.

(109/16)


قيل له: لأن المراد ما قلنا من الخروج عن الإيمان إلى الكفر، ألا ترى أنَّه لو خرج عن الكفر إلى الأيمان لم يجب قتله، فكذلك من خرج من كفر إلى كفر، والمعنى أنَّه لم يخرج عن الإيمان، فكل تبديل لا يكون خروجاً من الأيمان لا يجب فيه القتل على أنَّه لو استحقالقتل لكان لا يخلوا من أن يستحقه لخروجه عن الكفر أو لدخوله في الكفر ولم يكن معه خروج عن الإيمان، وقد ثبت أن الخروج عن الكفر لا يوجب القتل ولا شبهة فيه، ولا يجوز أن يوجب القتل دخوله في الكفر؛ إذ لم يكن معه خروج عن الأيمان؛ لأن ذلك لو أوجب التل لأوجب ابتداء بدخوله فيه، ألا ترى أنَّه لم يولد على الكفر وإنما دخل فيه باختياره لقوله: < كل مولود على الفطرة>.
فإن قيل: أليس الكفر عندكم ملل مختلفة فكيف قلتم ما قلتم؟
قيل له: مللاً مختلفة لا يوجب قتل من انتقل من بعضها إلى بعض للوجه الذي بيناه، وبهذا القول قال أبو حنيفة وأصحابه، وعللوا أن الكفر ملة احدة، والإمام يعزره إن رأى أنَّه تلعب منه بالإعتقادات، ورأى ذلك صلاحاً والجزية تؤخذ منه كما أخذت من قبل؛ لأنَّه لم يفارق الكفر الذي به تعلقت الجزية.

(109/17)


كتاب الديات
باب القول فيما يوجب الدية أو بعضها
يجب للمسلم والذمي إذا قُتل كل واحد منهما دية كاملة، فأما المسلم فلا خلاف فيه أن له إذا قتل دية كاملة، وأما أهل الذمة فقد اختلف فيهم، قال أبو حنيفة وأصحابه مثل قولنا للذمي دية كاملة مثل دية المسلم، وقال مالك: دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم، وقال الشافعي: ثلث دية المسلم، وقالا: دية المجوسي ثمانمائة درهم. والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان بياناً لمجمل واجب كان على الوجوب، وقد ثبت أن قوله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيْثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} مجملٌ؛ لأنَّه لم يبين عز وجل مقدار الدية، وروي عن ابن عباس أن عمرو بن أمية الضمري قتل رجلين من المشركين لهما أمان ولم يعلم ذلك فوداهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دية المسلمين الحرين فجرى فعله مجرى البيان فوجب أن يحمل على الوجوب، وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <في النفس مائة من الإبل> وهو عام في جميع النفوس مسلمهم وكافرهم إلاَّ ما خصه الدليل، وعن الزهري قال: كانت دية المسلمين والمعاهدين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان واحدة حتى جاء معاوية فجعل لهم النصف، وروي أن رفاعة ابن السموك اليهودي قتل بالشام فجعل عمر ديته ألف دينار، وروى محمد بن منصور بإسناده عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام، قال: دية اليهودي والنصراني مثل دية المسلم، وروي بإسناده عن موسى بن حبيب، عن علي بن الحسين عليهما السلام، قال: دية المعاهد مثل دية المسلم.

(110/1)


فإن قيل: روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقل أهل الكتاب على النصف من عقل المسلمين، وروي أنَّه قضى في الكافر بثلث دية المسلم، وروي عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <دية المجوسي ثمانمائة درهم>.
قيل له: هذه الأخبار قد قيل أنها ضعيفة، مع هذا معارضة وإن صحت فيحتمل أن يكون كل واحد منهما ود في عبد كافر قيمته ما ذكر، فكان عبدٌ كتابي قيمته خمسة آلاف درهم وعبدٌ كافر قيمته ما ذكر، فكان عبدٌ كتابي قيمته خمسة آلاف درهم وعبد كافر قيمته ثلث دية المسلم وعبد مجوسي قيمته ثمانمائة درهم لا وجه لتصحيح هذه الأخبار غير هذا وإلا تدافعت؛ لأن اسم الكافر ينطلق على المجوسي واليهودي والنصراني وما اعتمدناه من الأخبار مفسره لا يحتمل هذا التأويل، فكان المصير إليها أولى.
فإن قيل: روي عن عمر وعثمان أنهما قالا: فيهم ثلث الدية.
قيل له: نتاول ذلك كما تأولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الزهري أوثق ممن رووا ذلك، وقد قال خلاف ذلك مما لا يحتمل التأويل فصار ما قلناه أولى بما بيناه وأيضاً هم محقون الدم على التأبيد في ذات الإسلام فوجب أن تلزم له دية كاملة دليله المسلم وأيضاً الدية بدل المجيء عليه، فوجب ألا يعتبر بالكفر والإسلام دليله العبد إذا قتلن الا ترى أن قيمته لا تتغير بالكفر والإيمان يؤكد ذلك أن حقوق الآدميين كالديون والبياعات وحقوقهما لا يتغير فيها حكم الملي والذمي، فكذلك الدية؛ لأنها من حقوق الآدمين.
فإن قيل: المرأة لما تنقص ديتها عن دية الرجل؛ لقوله صلى الله عليه وآله: <ما رأيت ناقصات عقل ودين أملك العقول ذوي الألباب منهنَّ> وجب أن تكمون دينها على النصف من دية الرجل فوجب أن يكون الذمي ديته دون دية المرأة لنقصان دينه.

(110/2)


قيل له: لو كانت الدية تعتبر بالدين كان يجب أن لا يكون لهم شيء من الدية؛ لأنهم لا دين لهم، قال الله عز وجل: {إِنَّ الدِّيْنَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامَ} لكن الدية لم توضع على الأديان.
فإن قيل: الثلث أقل ما قيل فيه وهو مجمع عليه، ولا يجوز أن يزاد عليه إلاَّ بدليل.
قيل له: بالدليل قلنا بالدية الكاملة وهو ما سلف، فوجب المصير إليه على أن الاعتبار ل كان بالدين كان لا يجب أن تكون ديتهم على الثلث من دية المسلم؛ إذ ليس يجوز أن يقال إن دينهم على الثلث من دين المسلمين.
مسألة

(110/3)


قال: وفي بصر العينين الدية إذا ذهب وفي سمع الأذنين إذا ذهب الدية وفي الخرس الدية وفي الصوت الدية إذا القطع وفي اللسان إذا قطع الدية، وفي لسان الآخرس إذا قطع حكومة، وفي العقل الدية وفي الأنف إذا قطع من أصله الدية، وفي العينين الدية إذا فقئتا أو أعميتا، وفي كل واحد منهما نصف الدية، فإن كاتن العين عمياء ففقأها فاق كانت فيها حكومة وفي الأذنين إذا استؤصلتا قطعاً الدية وفي كل واحدة منهما نصف الدية، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: ولا أحفظ عن غيرهم خلافاً، والأصل في هذا الباب ما روى الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حرم، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الأنف: <إذا أوعب جدعه الدية وفي العيني الدية وفي الشفتين الدية وفي اللسان وفي السن خمس من الإبل وفي كلاصبع من اليد والرجل عشر من الإبل وفي البيضتين الدية> وعن الزهري قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ي الذكر إذا استؤصل أو قطعت الحشفة الدية، وقضى في الصلب الدية، وعن أبي بكر بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه، عن عمر في الأنف إذا استوعب جدعه الدية، وعن رجل من آل عمر قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الذكر الدية وفي الأنف الدية إذا استوعب مارنه وفي اللسان الدية وفي الرجل خمسون وفي اليد خمسون وفي الجائفة ثلث الدية وفي الآمة الثلث وفي المنقلة خمس عشرة وفي الموضحة خمس وفي كل أصبح مما هنالك عشر عشر، ورى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في اللسان إذا استؤصل الدية وفي الذكر إذا استؤصل الدية وفي الحشفة الدية وفي العين نصف الدية وفي الأذن نصف الدية وفي الرجل نصف الدية وفي إحدى الأنثيين نصف الدية وفي إحدى الشفتين نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وفي الهاشمة عشرٌ من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل وفي كل سن خمسٌ من الإبل وفي كل

(110/4)


أصبع عشرٌ من الإبل، وروي نحو ذلك عن أبي إسحاق، عن عصام بن ضمرة، عن علي عليه السلام فصارت هذه الآثار أصلاً في أن كل عضو كان في الإنسان واحداً نحو الأنف والذكر ففيه الدية وما كان منه اثنين كالعينين واليدين والرجلين ففيهما الدية وفي كل واحد منهما نصف الدية، وهكذا المعاني وإن لم تكن أعضاء كالصوت والعقل والسمع والبصر، فعلى هذا يجب ان يجري الباب؛ لأن بعضه منصوص عليه على ما بيناه، بعضه قياس على المنصوص عليه، وقلنا: إن في لسان الأخرس حكومة؛ لأنَّه لا نفع له، هذه الديات تجب الأعضاء لما فيها من المنافع، وهذا ما لا خلاف فيه، وكذا القول في العين العمياء إذا فقئت، وقلنا أن المعاني كالأعضاء لما فيها من المنافع بدلالة أن منافعها إذا ذهبت رجعت الديات إلى الحكومات.
مسألة
قال: وفي الشفتين إذا قطعتا الدية، وتفضل السفلى على العليا بشيء على ما يراه الحاكم، وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عمرو بن حزم <في الشفتين الدية>، وقد بينا الوجه فيه وفي نظائره، وأما ما قال أن السفلى تفضل على العلياء بشيء؛ لأنَّه قد ثبت أن الديات إنَّما هي للمنافع، وقد علمنا أن الانتفاع بالسفلى أكثر وليس ما بينهما في باب النفع ما بين اليمنى واليسرى بل هو أكثر وأظهر؛ لأن الطعام بها يمسك.
فإن قيل: فيما رويتم عن علي عليه السلام في إحدى الشفتين نصف الدية، وذها يمنع التفاضل.
قيل له: روى عاصم بن ضمرة عنه في الشفتين الدية وفي اليدين الدية وفي الرجلين الدية، فمن روى في إحدى العينين نصف الدية يجوز أن يكون قال في إحدى الشفتين نصف الدية فيكون ذلك من قول الراوي رآه عليه السلام قال في موضع في العينين الدية وفي موضع في إحدى العينين نصف الدية ثُمَّ رآه قال في الشفتين الدية فظن أن حكمهما حكم العينين، فقال في أحدهما نصف الدية ويمكن أن يحمل قوله في إحدى الشفتين نصف الدية على ما يقارب نصف الدية.
مسألة

(110/5)


قال: وفي الأسنان إذا قلعت كلها الدية ونصف الدية وعشر الدية وفي كل سنٍ منها نصف عشر الدية ولا تفاضل فيها، وذلك لما في حديث عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم <وفي السن خمس من الإبل>، وكذلك زيد بن علي، عن أيه، عليهما السلام، وفي كلسن خمس من الإبل، وهذا ما لا خلاف فيه، وفي فم الإنسان اثنتان وثلاثون سناً ففي العشرين منها الدية على هذا، وفي عشرٍ منها نصف الدية وفي اثنتين منها عشر الدية، فلذلك قلنا: إن في الجميع دية ونصف دية وعشر ديات، وبه قال أبو حنيفة وهو القول الأصح عن الشافعي: وحكى عنه قول آخر أن في كل سن خمس من الإبل، وعن علي وفي كل سن خمس من الإبل، قال: وفي سن الصبي حكومة يعني إذا لم يكن ثغرٌ؛ لأن منافعها لم تتم؛ لأنها تسقط ثُمَّ تخرج السن التي تكون منفعتها تامة، وبه قال أبو يوسف: قال أبو حنيفة : لا شيء فيها.
مسألة
قال: وإذا سودت السن ففيها ما في الساقطة نصف عشر الدية، فإن انكسرت ففيها حكومة على قدر ما تقص منها، قال في المنتخب: إذا اسودت السن ففيها حكومة، قال أبو حنيفة وأصحابه: إذا استودت السن كانت كالساقطة ووجب الأرش تاماً وللشافعي فيها قولان كما أن لأصحابنا فيها روايتان، قال ابن أبي هريرة: نحن نحملها على اختلاف الأحوال ولا نجعل فيها قولين وهو الصَّحيح عندنا والله أعلم وأحكم.

(110/6)


والواجب أن ننظر في أمرها، فإن كانت حين اسودت ذهب جمالها دون منافعها فالصحيح رواية المنتخب، قال أبو حنيفة: الاحمرار والاخضرار كالاسوداد، وقال في الاصفرار حكومة، قال زفر في الاصفرار عقل تام والاعتبار فيه ما ذكرناه، وعليه يجب أن تبتنى المسألة، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن علي عليه السلام، قال: إذا اسودت السن وسلمت اليد وابيضت العين فقد تم عقلها، فإن انكسر منها شيء والباقي منها على حالة فيه حكومة على قدر الذاهب إن كان ثلثاً فثلث ديتها وإكان رابعاً فربع ديتها، فهذا طريق حكومتها،قال وفي السن الزائدة إذا قلعت حكومة؛ لأنها في حكم سن الصبي أو دفنها في النفع ولا جمال فيها فلم يجب أن تجري مجرى سائر الأسنان، ووجب فيها حكومة للألم على ما تقوله في مثله.
مسألة
قال: وفي الظهر إذا كسر ولم يتجبر الدية، فإن انجبر ففيه حكومة، قال أبو حنيفة إذا لم يبرأ ففيه الدية ووجه ما ذهبنا إليه أن الظهر عضوٌ واحدٌ وله منافع عظيمة، فإذا كسر فلم ينجبر وجبت فيه الدية كما قلناه في اللسان وفي الأنف، ألا ترى أن اللسان إذا خرس فهو في حكم الذاهب في وجوب الدية،وذكلك العين إذا ذهب بصرها فكذلك الظهير يسما ولا يبقى جماله كما لا يبقى منافعه، وعن الزهري قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلب بالدية، فلذلكأوجبنا الدية، فأما إذا انجبر وعاد كما كان فقد عادت زائدة هذا هو القياس.
مسألة

(110/7)


قال: وفي اللحية وشعر الرأس إذا لم يجرحا لسبب عملٍ بصاحبهما حكومة غليظة تقارب الدية وفي أشفار العينين وشعر الحاجبين حكومة دون نصف الدية ومعنى الأشفار هي الأهذاب دون الأجفان ها هنا قال أبو حنيفة في شعر الرأس واللحية دية دية، وفي أشفار العين الدية وفي كل شفر ربع الدية وفي الحاجبين الدية، قال الشافعي: في جميع ذلك حكومة ووجه ما ذهبنا غليه أن هذه الأشياء ليس لها منافع عظيمة، بل لا منفعة في بعضها وفي بعضها منافع يسيرة وقد ثبت في الديات أن معظم ما يراعى لإيجابها المنافع وإن روعي معها الجمال، فأما الجمال على الانفراد فلا تجب له الدية، والدليل على صحة هذا أن العين القائمة التي لا يبصر بها إذا فقئت فلا خلاف في أن الواجب فيها حكومة، كذلك لسان الأخرس واليد الشلاء التي تكون قد ذهبت منافعها وإن بقي جمالها، فإذا ثبت ذلك وثبت أن اللحية وشعر الرأس ليست لهما منافع وإنما لهما الجمال، وكذلك الأهذاب وشعر الحاجبين وجب أن يكون الواجب في جميع ذلك حكومة، ألا ترى أن أبا حنيفة جعل في ثدي الرجل حكومة لما لم يكن فيه إلاَّ الجمال وجعل في ثدي المرأة الدية لما فيهما من المنافع وغلظ الحكومة في اللحية وشعر الرأس؛ لأن الشين فيها أعظم ويجب أن يكون معنى قوله: تقارب الدية ما زاد على نصف الدية وخفف في الأهذاب وشعر الحاجبين لقلة الشين فيهما فجعل دون نصف الدية.
فإن قيل: روي عن علي عيه السلام في الحاجبين الدية.
قيل له: يجوز أن يكون أراد ما يقارب الدية ويجوز أن يكون أراد ما يقارب الدية ويجوز أن يكون عبر عن الإرش المغلظ بالدية للدلالة التي ذكرناها.
فإن قيل: أليس روى محمد بن منصور أن رجلاً على رأس رجل ماءاً حاراً فذهب شعره فرافعه إلى علي علهي السلام فضمنه الدية.

(110/8)


قيل له: ليس فيه أنَّه عليه السلام ضمنه الدية لذهاب شعر رأسه فقط ومن المعلوم أن الماء الحار الذي يؤثر هذا التأثير في شعر الرأس يكون قد أثر في الجلد وأحرقه وربما أثر فيما حول الرأس فيجوز أن يكون أرش الجميع لما ضم بعضه إلى بعض بلغ الدية، هذا مملا لا ننكره، فأما الأجفان فالقياس أن فيها الدية في كل جفن ربع الدية؛ لأن لها منافع حفظ العين مع الجمال.
مسألة
قال: وشجاج الرأس يجب في الآمة فيها ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وفي الهاشمة عشر من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل وفي السمحاق أربع ن الإبل وفيما دون ذلك حكومة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: ولا أحفظ عن غيرهم فيه خلافاً إلاَّ السمحاق ففيها عندهم جميعاً حكومة، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآمة ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وفي الموضحة خمس، وقد تقدم ذكره، ولما ورد في الموضحة والمنقلة ووجدنا الهاشمة بينهما وجب أن تكون ديتها فوق دية الموضحة دون دية المنقلة، فقيل: أنها عشر من الإبل.
فإن قيل: فهلا قلتم فيها بدية الموضحة وحكومة كما قلتم في اليد إذا قطعت من المرفق.
قيل له: لأنَّه لا دية بعد الكف فرجعنا فيما زاد إلى الحكومة والهاشمة وقعت بين ديتين منصوص عليهما، فاحتيج لها إلى مقدار معلوم على أنَّه روي عن علي عليه السلام على ما قدمناه ي الهاشمة عش من الإبل، فوجب القول به، وقلنا في السمحاق أربع من الإبل لما ثبت ذلك عن علي عليه السلام أنَّه جعله مقداراً، فإن كان قال توقفا فلا يجوز خلافه، وإن كان قاله قياساً واجتهاداً فقياسه أولى بالاتباع سيما ولم يرو عن غيره من الصحابة خلافه مع انتشاره عنه، فأما ما دون ذلك فلا خلاف في أنَّه يجب فيه حكومة إلاَّ رواية شاذة يرويها الإمامية ولا معتبر بها لضعف رواتهم.
مسألة

(110/9)


قال: والجائفة في سائر البدن مثل الآمة في الرأس وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء؛ لأنها تصل إلى جوف البدن كما تصل الآمة إلى جوف الرأس، وقد قدمنا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في الجائفة بثلث الدية، وقد روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده في الجائفة ثلث الدية على ما تقدم، قال: والموضحة إذا كات في سائرالبدن ففيها حكومة، وهذا مما لا خلاف فيه إذ لم يرد تقدير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أحد من الصحابة، قال: وكذلك ي سائر الجراح حكومة، وهذا أيضاً مملا خلاف فيه، قال: والموضحة في الوجه كالموضحة في الرأس في أن الشين فيه يعظم.
مسألة

(110/10)


قال: وفي الكفين إذا قطعتا الدية في كل كف منهما نصف الدية وفي كل أصبع عشر الدية وفي كل مفصل منها نصف دية الإبهام ولا تفاضل بين الأصابع، وبجميع ذلك قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي، كذلك ولا أعرف فيه خلافاً، وذلك لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في اليد بخمسين من الإبل، وفي الحديث: <وفي كل إصبع مما هنالك عشر عشر من الإبل> وقد تقدم ذكر الحديث، وعن علي فيما رواه عنه زيد بن علي عليهم السلام على ما تقدم ذكره في اليد نصف الدية وفي كل إصبع عشر من الإبل، وروى نحوه عنه عاصم بن ضمرة واليد إذا أطلقت كان المفهوم إلى لرسغ ووجه ما قلنا في المفاصل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جعل في اليدين الدية قسمها عليهما فجعل في كل يد نصف الدية، وكذلك قسم دية اليدين على الأصابع فقلنا قياساً على ذلك، فجعل في كل واحدة منها عشر الدية لما اكنت الأصابع عشراً فقلنا قياساً على ذلك أن دية الأصبع مقسومة على مفاصلها ففي مفصل كل إصبع إلاَّ الإبهام ثلث ديتها؛ لأن كل أصبع ثلاثة مفاصل وقسمنا دية الإبهام على مفصلين لكل واحد منهما نصف ديتها؛ لأن لها مفصلين، وقلنا: لا تفاضل بين الأصابع لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <في كل إصبع مما هنالك عشر عشر من الإبل> وفي حديث عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <في كل إصبع ن اليد والرجل عشر من الإبل> وهكذا روى زيد بن علي، وروى أن عمر كان يفاصل بين الأصابع ثُمَّ رجع عنه فلم يبق فيه خلاف.
مسألة

(110/11)


قال: وفي الأصبع الزائدة حكومة وفي اليد الشلاء حكومة إذا قطعت، كذلك اليد المقطوعة إذا قطع ما بقي منها إلى المرافق أو العضد أو المنكب حكومة وفي الظفر إن اسودت حكومة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم دية اليدين على الأصابع العشر ولم يجعل للزائدة فيها نصيباً، وأيضاً ليس للأصبع الزائدة نفعٌ ولا فيها جمال فلم يجرها مجرى سائر الأصابع وجعلنا فيها حكومة، وقلنا: إذا قطع ما بقي عن اليد المقطوعة ففيه حكومة، وقلنا في اليد الشلاء حكومة لفوات منافعا وجمالها جميعها وعامها، وقلنا: إذا قطع ما بقي عن اليد المقطوعة ففيه حكومة؛ لأنَّه ليس له تقدير معين ولا يمكن قياسه على مقدر، وقلنا في الظفر إذا اسود حكومة؛ لأن اسوداده لم يزل إلاَّ جماله دون منافعه وقد قلنا إن الجمال وحد إذا لم يزال لم يجب الدية وجبت الحكومة.
مسألة
قال: وفي اليد إذا شلت حكومة سنته بالنصف من ديتها، وهذا إن كان الشلل يسيراً لم يسلب اليد والإصبع منافعهما وجمالهما بواحدة وإن كان سلبهما جميع منافعهما وجمالهما فهو في حكم القطع يوجب الدية؛ لأنا قد بينا فيما تقدم أن المعتبر في الدية هو ذهاب المنافع والجمال والمنافع فقط، ألا ترى أن ذهاب البصر يوجب الدية وإن كانت العين باقية فكذلك ما قلناه.
مسألة
قال: وفي الرجلين الدية في كل واحدة منهما نصف الدية، وهذا مالا خلاف فيه لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في الرجل بخمسين ـ يعني من الإبل وما رواه زيد بن علي عن علي علهيم السلام في الرجل نصف الدية، قال: وفي الرجل الشلاء إذا قطعت حكومة، وذلك لبطلان منافعها وجمالها جميعه أو أكثره، قال: وكذلك في الرجل المقطوعةغذا قطع ما بقي منها إل الركبة أو فوقها حكومة، ووجهه ما بيناه فيما قطع ما بقي من اليد المقطوعة.
مسألة

(110/12)


قال: وفي الذكر إذا قطع الدية وفي الانثيين إذا قطعنا الدية وفي كل واحدة منهما نصف الدية، وهذا أيضاً مما أجمعوا عليه، وروي عن الزهري، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الذكر إذا استؤصل أو قطعت الحشفة الدية، وفي حديث عمرو بن حزم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم <وفي البيضتين الدية>، وفي إحداهما نصف الدية، قال: وإذا ضرب الرجل فلم يستمسك بوله كان فيه الدية، وكذلك إن لم يستمسك الغائط به، قال أبو حنيفة وأصحابه: ووجهه ما بيناه من أن المعاني في هذا الباب كالأعضاء في لزوم الدية، كما قلناه في العقل والسمع والبصر، وذهاب الصوت، فيجب أن يجري سلس البول ذلك المجرى، ويجب فيه الدية؛ لأنَّه معنى احد في البدن، وكذلك سلس الغائط معنى واحد في البدن؛ لأنَّه معنى يعظم نفعه ويبلغ ما فيه من النفع مبلغ ما ذكرنا، وربما أوفى على بعضه، وذكلك سلس الغائط للوجه الذي ذكرناه على أن هذا يوجب أن يكون العضو المخصوص بإمساك البول قد فسد وفسدت منافعه، وكذلك العضو المخصوص بإمساك الغائط، فأكد ما قلناه من إيجاب الدية في كل واحد منهما، وذلك في الرجال والنساء في كل واحد منهما على قدر ديتهما، وروى محمد بن منصور بإسناده عن جعفر، عن أبيه، عن علي علهي السلام أنَّه قضى بالدية لمن ضرب حتى سلس البول.
مسألة
قال: وفتق المثانة إن وصل إلى الجوف فهو جائفة وفيه ثلث الدية وإن لم يصل إلى الجوف ففيه حكومة، ولك لما بيناه من أن الجائفة فيها ثلث الدية بالنص الوارد فيها، والجائفة هي الجراحة الواصلة إلى الجوف من أي موضع كان، فإن لم تبلغ أن تكون جائفة ففيها حكومة؛ لأنها تجري جرى سائر الجراحات اتي لا تقدير لها.
مسألة

(110/13)


قال: وفي حلمتي ثدي المرأة حكومة تشبه ثلثي الدية وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن في حلمتي المرأة الدية في كل واحد منهما نصف الدية وأجمعوا على أن في حلمتي ثدي الرجل حكومة؛ لأن قطعهما لم يسلبه إلى الجمال، والذي يجب أن ننظر إلى حلمتي ثدي المرأة فإن كان قطعهما يذهب الثديين ومنافعهما أعني في حفظ اللبن وينتفي الولد فتجب فيهما الدية الكاملة؛ لأنهما عضوان يعظم نفعهما ولهما جمالٌ وإن كان قطعهما لا يزيل تلك المنافع وباحدة فيجب أن تلزم فيه الحكومة وتغلظ بقدر ما نقص من المنفعة والجمال بقطع الحلمتين ويجب أن ننظر في ذلك ونعتبر.
مسألة

(110/14)


قال: ولو أن رجلاً ضرب رجلاً خطأً فقطع أنفه وشفتيه وذهب عيناه نظر في أمره فإن مات لزمت دية واحدة وإن عاش وبرئ من علته لزمت فيه ثلاث ديات، وكذلك القول إن جنى عليه جنايات أخر، وذلك أن الجنايات إذا كانت عنها الموت سقطت الجنايات وكان الحكم للنفس، ألا ترى أن من قتل رجلاً خطأ فلا فرق بين أن يقتله ويجرجه واحدة أو بجراحات عدة في أن الواجب هو الدية، فأما إذا برئ منها فله من كل جراحة أرشها، فكذلك ما ذكرناه على أن حكم الجناية موقوف على ما تؤول إليه، والدليل على ذلك أن من شج آمتة أو منقلة أو جرح جائفة أو قطع ذراعه من الزندد عمداً لم يكن في شيء منه قصاص ثُمَّ لو مات من ذلك لاقتص من الجاني فبان أن الجناية معتبرة بما تؤول إليه وإذا صارت نفساً صار الحكم لها وبطلت أحكام الجنايات على أنا لو أوجبنا في مسألتنا دية الأنف والشفتين والبصر واقتصرنا عليها كنا قد أهملنا دية النفس وذلك لا معنى له ولو أخذنا مع تلك الديات دية النفس كنا أخذنا أرش تلك الأعضاء مرتين مرة على الإنفراد ومرة في جملة دية النفس، وهذا لا يجوز؛ لأنَّه لا خلاف أنَّه لا يجوز أخذ جناية واحدة مرتين، فلما بطل ذلك بان أن الجنايات إذا أدت إلى النفس بطلت أحكامها وصار الحكم للنفس على أنَّه لا إشكال لو أن رجلاً أصاب عين أخذ فعميت ثُمَّ مات أن ديته دية النفس وأنه لا يجب نصف الدية للعين، كذلك إن كثرت الجناية إذا أدت إلى النفس.
مسألة

(110/15)