الكتاب : شرح التجريد |
أحدها: أنَّه قياس الشيء على جنسه؛ لأنهما شهادة رؤية الهلال على شهادة رؤية الهلال، وليس كذلك قياسهم؛ ولأن قياسنا مَنَع الوجوب بغير واسطة، وقياسهم اقتضى الوجوب بالواسطة، ألا ترى أنهم أثبتوا الجواز ثم قالوا لا قول بعده إلاَّ القول بالوجوب؟ على أن قياسنا نفى الأمرين ـ أعني الجواز والوجوب ـ فهو أعم من قياسهم، على أن قياسنا اقتضى الحظر؛ لأنَّه يمنع الصيام على أنه من رمضان، وقياسهم اقتضى الجواز، ثم /107/ تطرقوا إلى إثبات الوجوب، على أن المانع الذي ذكروه لا يحصل بشهادة الواحد بالاتفاق، ألا ترى أن الإفطار لا بد فيه من شهادة عدلين؟ والمانع من أداء الصلاة ـ وهو النجاسة ـ يُحكم بحصوله بشهادة الواحد، فدل ذلك على أن موضوع رؤية الأهلة طريقه طريق الشهادات، وأنه لا يقبل فيه قول الواحد، وأن موضوع حصول النجاسة وزوالها طريق الأخبار، فقبل فيه خبر الواحد، يحقق ذلك أنما ذكرناه أولى. (35/3)
فإن قيل: إنما وجب في هلال الفطر، وهلال ذي الحجة أن لا يقبل فيهما إلاَّ شهادة عدلين؛ لأن حقوق المال تتعلق بهما، وهي زكاة الفطر، والأضحية.
قيل له: ويتعلق بالصوم أيضاً، ألا ترى أن زكاة الفطر تتعلق باليوم الواحد والثلاثين من يوم الصوم؟ ولا فصل بين الرؤيتين(1)، إلاَّ أن الزمان بين إحدى الرؤيتين(2) وبين وقت زكاة الفطر أكثر من الزمان الذي بين الرؤية الأخرى، وبين وقت زكاة الفطر، وكثرة الزمان في هذا الباب لا تأثير له.
فإن قيل: إن هذه الشهادة تُلزِم مقيمها ـ نفسه ـ من الفرض ما يَلزم غيره، فوجب أن يكون طريقها الخبر، وأن يقبل فيها الواحد.
قيل له: هذا منتقض بشهادة الفطر؛ لأنه يُلزم نفسه زكاة الفطر كما يُلزم غيره، ولا خلاف أن أحد الورثة إذا شهد بحق على الموروث أنَّه لا يحكم به، وإن كان يلزمه بشهادة نفسه من الفرض ما يلزم غيره.
__________
(1) ـ في (أ): الروايتين. والصواب ما أثبتناه.
(2) ـ في (أ): الروايتين.
فإن قيل: الاحتياط يقتضي الصوم بشهادة الواحد. (35/4)
قيل له: لا احتياط في ذلك؛ لأن الخلاف ما وقع في الصوم، ألا ترى أنا نختار صيام يوم الشك، وإن لم يكن شهادة؟ وإنما الخلاف في صيامه على طريق الوجوب، وليس من الاحتياط إيجاب ما ليس بواجب، على أنَّه يؤدي إلى أن يكون الإفطار بشهادة الواحد، أو بصيام أكثر من شهر، وكلاهما فاسد، فكيف يدعى فيه الاحتياط؟ على أن كونه مؤدياً إلى أن يفطر بشهادة الواحد، أو بصيام أكثر من شهر يرجح قياسنا.
وقلنا: إنَّه إذا كان في السماء علة، يُعَدُّ الشهر ثلاثين يوماً لما:
رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن(1) سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته، فإن حالت دونه غيابة، فأكملوا ثلاثين)) (2).
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الهلال، فقال: ((إذا رأيتموه، فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا، فإن غم(3) عليكم، فعدوا ثلاثين )) (4).
وروى أبو داود في السنن ـ بإسنادهـ عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه، عَدَّ ثلاثين يوماً، ثم صام.
وفي بعض الأخبار ((فإن غم عليكم، فعدوا شعبان ثلاثين يوماً)).
وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النهي عن الصوم في يوم الشك يحقق ذلك.
__________
(1) ـ في (ب): عما، والصواب ما أثبتناه.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المنصف 2/284، ولعله لا تصوموا قبل رمضان.. الخ.
(3) ـ في (أ): أغمى.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/284 وفيه حدثنا محمد بن بشر، حدثنا عبيد الله بن عمر عن أبي الزنادية.
ومعنى إكمال شعبان عندنا هو أن لا يصوم يوم الشك على أنَّه من رمضان قطعاً، لأنَّه لم يصمه كذلك بكون اليوم معدوداً من شعبان، وإلا فالمستحب عندنا هو الصوم في ذلك اليوم على ما يجيء القول فيه. (35/5)
فصل [ولا فرق في قبول الشهادة بين صحو السماء وغيمها]
الهادي عليه السلام لم يفصل في قبول الشهادة بين أن تكون السماء /108/ مصحية لا علة فيها، وبين أن تكون السماء مغيمة، فاقتضى ظاهر قوله جواز قبولها مع الصحو، خلافاً لأبي حنيفة في منعه قبولها مع الصحو.
والأصل في ذلك:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه أمرنا أن ننسك ـ إذا لم يكن رؤية ـ إذا شهد ذوا عدل،[و] ليس فيه ذكر الغيم، وعمومه يسوي بين حال الصحو، وحال الغيم.
وكذلك ما روي عن الأعرابيين اللذين وفدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألهما: ((أمسلمان أنتما ))؟ فقالا: نعم فقال: (( أهللتما ))؟ قالا: نعم، ليس فيه ذكر الغيم والصحو.
وكذلك حديث ابن عمر، وحديث الأعرابي، فكل ذلك يبين أن لا فرق بين الصحو، والغيم.
وما روي عن علي عليه السلام: ((إذا شهد ذوا عدل، فصوموا، وأفطروا)) يقتضي التسوية بين الصحو والغيم.
وفيه من جهة النظر أنَّه لا خلاف في جواز قبول الشهادة إذا كانت السماء مغيمة، فكذلك إذا كانت مصحية، والمعنى أنها شهادة على الأهلة، فيجب أن يستوي فيها حال الغيم، وحال الصحو.
فإن قيل: يمتنع ذلك من قِبَل أنها إذا كانت مصحية، فلا يجوز أن تقع الرؤية للواحد والاثنين والثلاثة، دون أن تحصل للجماعات الكثيرة؛ لأن الدواعي تدعو إلى طلب الرؤية، وإذا(1) طلبوها، وجب أن يروا، فإذا لم يروا، كان ذلك كالتهمة في قول الواحد والاثنين.
__________
(1) ـ في (أ): فإذا.
قيل له: هذا الذي ادعيتموه في أن الواحد إذا ـ رأى ولا علة ـ يجب أن يراه الجماعة غير صحيح؛ لأنَّه لا يمتنع أن يعرض الخطأ في السماء، أو يكون الواحد أحَدَّ بصراً من غيره، وإنما تصح تلك الطريقة في المرئي، إذا لم يكن هناك منع، وهاهنا مانع ظاهر، وهو البعد، فلا يمتنع ما ذكرناه، وإذا لم يمتنع، لم يجب أن يصير ما ذكرتموه تهمة. (35/6)
فصل [هل يتقدم الصوم والإفطار على الرؤية أم لا؟]
ذهب بعض الجهال من الشيعة إلى أنَّه لا اعتبار بالرؤية، وأن الهلال إذا رؤي عشية، كان ذلك اليوم من الشهر الجديد، وقالوا: في قوله: ((صُومُوا لِرؤيته، وافطروا لرؤيته))، أن الصوم والإفطار يجب أن يتقدما على الرؤية، كما أن القائل إذا قال: تسلح للحرب، يجب أن يكون التسلح قبل الحرب، وإذا قال: تطهر للصلاة، يجب أن يكون التطهر قبل الصلاة، وهذا قول خارج عن(1) إجماع المسلمين، وليس يُحفظ عن أحد من السلف، ولم يكن سبيل مثل هذا أن يُذكر في هذا الكتاب، إلاَّ أن قوماً من الجهال قد اغتروا به، ويحجهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالصوم بعد ما شهدوا عنده على الرؤية في حديث الأعرابيين، وحديث ابن عمر، وحديث الأعرابي. وأما قولهم: إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته)) يوجب أن يكون الصوم قبل الرؤية، وكذلك الإفطار، وضربهم المثل لمن(2) قيل له: تسلح للحرب، وتطهر للصلاة، فقول فاسد؛ لأن قوله: ((صوموا لرؤيته)) كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، ولا خلاف أن الصلاة بعد الدلوك، وذلك(3) أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم جعل أمارة وجوب الصوم والإفطار الرؤية، كما جعل تعالى أمارة وجوب الصلاة دلوك الشمس، ومن شأن ما هو أمارة للشيء أن يتقدمه، فيحصل العلم به، ثم يُعلم الحكم بعدها، وليس كذلك التسلح للحرب؛ لأنَّه كالآلة
__________
(1) ـ في (أ): من.
(2) ـ في (ب): لمن.
(3) ـ في (ب): وذكر وظنن في الهامش أنها ما أثبناه.
للحرب، وليس يمتنع في الآلات أن يكون فيها ما يجب تقدمه على ما هو آلته، وإن كان فيها ما لا يجب فيه، والتطهر أمر به /109/ يتوصل إلى الصلاة، فوجب أن يكون قبلها، وليس كذلك الصوم؛ لأنَّه لا يصح أن يقال فيه: إنَّه يتوصل به إلى الرؤية، فبطل ذلك. (35/7)
مسألة [في عدة شهر رمضان]
قال: وقد يكون شهر رمضان تسعة وعشرين يوماً، وقد يكون ثلاثين يوماً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
وهو قول عامة الفقهاء من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، وحكي عن شرذمة أنهم قالوا: لا يكون أقل من ثلاثين يوماً.
والأصل في ذلك:
ما روى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((كم قد مضى من الشهر ))؟ قلنا: مضى اثنان وعشرون يوماً، وبقيت ثمان. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((بل مضى اثنان وعشرون يوماً، وبقيت سبع، التمسوها الليلة ))، ثم قال: ((الشهر هكذا، والشهر هكذا ))، ثلاث مرات، وأمسك بواحدة(2).
وروي عن أبي هريرة، ونقص في الثالثة أصبعاً.
وروى أبو داود في (السنن)، عن ابن مسعود، قال: ((صمنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم تسعاً وعشرين أكثر مما صمنا معه ثلاثين)).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/230 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ) و (ب): واحدة. أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/332 وإسناده حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح، به.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا علي بن الحسين بن مروان، قال: حدثنا الحسن(1) بن عمر بن أبي الأحوص الثقفي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا إبراهيم بن هراشة، عن عمر بن موسى بن الوجيه، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه(2) صلى الله عليه وآله وسلم: ((الشهر تسعة وعشرون يوماً، والشهر ثلاثون يوماً، صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين يوماً)) وهو قياس سائر الشهور في جواز دخول النقص والزيادة عليها وعلى العدد، والمعنى أنَّه من شهور الأهلة. (35/8)
فإن استدلوا بقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} لم يصح ذلك؛ لأن إكمال العدة هو استيفاء [عدة](3) عدد أيام الشهر، وإذا كان الشهر تسعة وعشرين يوماً، كان استيفاء هذه الأيام إكمال عدته، ألا ترى أن صلاة المغرب في نفسها كاملة، وكذلك صلاة العشاء، وكذلك صلاة الفجر، وإن كان عدد بعضها أزيد من غيره.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((اطلبوها في العشر الأواخر)) فدل ذلك على أن ما بعد العشرين منه عشر كوامل.
قيل له: أكثر ما في هذا أن له عشراً أخيراً(4)، ولا يجب أن يكون قد تقدمته عشر، وعشر، بل لا يمتنع أن يكون المتقدم له عشراً وتسع، على أنَّه لا يمتنع(5) أن يطلق اسم العشر الأواخر على التسع على سبيل التوسع، كما أُجري اسم الأشهر على شهرين، وعشرة أيام حيث يقول تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٍ}، وكما سمت العرب عِشراً وعِشراً، ويومين عشرين؛ لأن العشر عندهم من إظماء الإبل، وهو اسم لتسعة أيام.
فإن قيل: روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((شهرا عيد لا ينقصان، رمضان، وذو الحجة)).
__________
(1) ـ في هامش (ب): الحسين.
(2) ـ في (أ): النبي. نخ
(3) ـ سقط من (أ) و (ب).
(4) ـ في هامش (ب): أواخر. نخ
(5) ـ في (أ): غير ممتنع.
قيل له: ليس في الحديث أن عدد أيامهما لا ينقص، ويحتمل أن يراد أن أحكامهما لا تتناقص، وإن كانا ثلاثين، أو تسعاً وعشرين؛ لأن في أحدهما الصوم، وفي الآخر الحج. (35/9)
مسألة [فيمن رأى هلال شوال قبل الزوال]
قال القاسم عليه السلام في من رأى هلال شوال قبل الزوال أن الأولى أن يتم الصوم، ويؤخر الإفطار إلى الغد.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي) وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي.
وقال الناصر عليه السلام، والإمامية، وأبو يوسف/110/: إن رؤي قبل الزوال، أفطر، وإن رؤي بعد الزوال، أُخِّر الإفطار إلى الغد.
ووجه ما ذهبنا إليه قول اللّه تعالى: {ثُمَّ أَتَمُّوا الصَّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فلا يجوز الإفطار في بعض النهار؛ لإيجاب اللّه تعالى علينا الإتمام إلى الليل.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته))، فجعل صلى الله عليه وآله وسلم الرؤيةَ علماً للصوم والإفطار، فيجب أن يكون قبلهما، كما أن اللّه تعالى جعل الدلوك عَلماً لوجوب الصلاة بقوله عزَّ من قائل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىْ غَسَقِ الْلَّيْلِ} فوجب أن يكون الدلوك قبل وجوب الصلاة، ولا خلاف أنَّه إذا رؤي بعد الزوال، كان لِلَيلة مستقبلة، وكذلك إذا رؤي قبل الزوال، والعلة أن رؤيته حصلت في بعض ذلك اليوم، أو يقال: إن رؤيته لم تثبت ليلة ذلك اليوم، على أنَّه غير ممتنع أن يكون رؤي لكبره، لا لأنَّه لِلَيلة الماضية؛ لأن الأهِلَّة تكبر، وتصغر بحسب الأوقات التي تفارق الشمس فيها.
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه ـ من أنَّه لا اعتبار برؤيته نهاراً ـ أن ذلك لو وجب، لوجب أن يكون الصوم يجب ـ وكذلك الفطر ـ من وقت الرؤية، وذلك يؤدي إلى أن يكون يوم واحد بعضه من شعبان، وبعضه من رمضان، أو بعضه من رمضان، وبعضه من شوال، وهذا خلاف الإجماع.
مسألة [في صوم يوم الشك]
قال: والصوم في يوم الشك أولى من الإفطار.
وقد نص عليه في (الأحكام) (1). (35/10)
ووجهه حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، قالا: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن اللّه تعالى يقول: الصوم لي، وأنا أجزي به، وإن للصائم فرحتين: فرحة إذا أفطر، وفرحة إذا لقي اللّه سبحانه فعموم قوله: ((الصوم لي)) يوجب أن يكون كل صوم مستحباً؛ لأن دخول الألف واللام عليه توجب استغراق الجنس، وكذلك قوله: ((للصائم فرحتان))، يوجب أن ذلك لكل صائم، إلاَّ ما منع منه الدليل.
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم)) (2) وهذا عام في كل صوم إلاَّ ما قام دليله، فصار عموم هذه الظواهر يقتضي أن صوم يوم الشك مستحب.
ومن المعتمد في هذا الباب ما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله: ((لأن أصوم يوماً من شعبان، أحب إليَّ من أفطر يوماً من رمضان)) (3).
وروى ابن أبي شيبة، عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [كان يصل شعبان برمضان. وذلك لا يكون إلا بصوم يوم الشك.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/239 وهو بالمعنى.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/274 وإسناده حدثنا ابن مبارك، عن موسى بن عبيدة، عن جمهان، به.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/285 وإسناده: حدثنا زيد بن الحباب، عن شعبة، عن منصور، عن سالم، عن أبي سلمة، به.
ولا خلاف أن صوم الشك جائز ومستحب، وإنما الخلاف في جهة صومه، فإن الشافعي يستحبه إذا صام شعبان كله، أو وافق ذلك صوما](1) كان يصومه، وأبو حنيفة يستحبه بنية شعبان، فصار استحباب صومه مجمَعاً عليه، فإذا ثبت ذلك، لم يلزمنا إلاَّ بيان تأويل النهي الوارد فيه، فنقول: هو نهي عن صومه على أنَّه من رمضان، وعندنا أن صومه على هذا الوجه غير جائز. وهو قياس على أول شعبان في أن صومه مستحب، فكذلك يوم الشك، والمعنى أنَّه يوم من شعبان، فإذا(2) جاز أن يصومه الإنسان موصولاً بما قبله، جاز أن يصومه مبتدئاً؛ بعلة أنَّه يوم من شعبان. (35/11)
ويقوي هذه العلة ما وجدنا في الأصول أن الأيام التي مُنعنا من صومها، لم ينفصل حالها بين أن يتقدمها الصوم، أو لا يتقدمها، فوجب أن يكون يوم الشك ـ أيضاً ـ بهذه المثابة، فلا يكره صيامه ابتداء، كما لا يكره استمراراً.
ومما يؤكد قولنا أنَّه احتياط، /111/ والاحتياط مستحب في جميع العبادات، فوجب أن يستمر في يوم الشك، ويمكن أن يقاس على آخر يوم من رمضان [إذا شك فيه في أنَّه لا يكره صومه؛ والعلة أنَّه يوم يشك فيه من رمضان] (3).
فإن قيل: منعنا من قصد يوم الجمعة بالصيام؛ لأنه يوم عظيم الحرمة، فلم يؤمَن أن يعتقد وجوب صومه، فكذلك يجب أن يكون صوم يوم الشك ممنوعاً منه، لئلا يُعتقد فيه الإيجاب.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين نقص من (أ) و (ب).
(2) ـ في (أ): وإذا.
(3) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ) و (ب).
قيل له: إنما ساغ ذلك يوم الجمعة؛ لأنه لم يتعلق به احتياط للفرض، وصيام(1) يوم الشك قد تعلق به احتياط للفرض، فوجب أن يكون الاحتياط الذي ذكرناه أولى من الاحتياط الذي ذكرتموه؛ لأنه يمكن أن يثبت غير واجب، ولا يمكن مع إفطاره ـ إن كان من رمضان ـ إزالة الإفطار فيه، على أن المسألة إجماع أهل البيت عليهم السلام، ومشهور(2) عن علي عليه السلام، وما كان من المسائل هذه سبيله، لم يستجز خلافه. (35/12)
مسألة [فيمن صام يوم الشك كيف ينوي؟]
قال: وينبغي لمن صامه أن ينوي فرضه إن كان من رمضان، أو تطوعه إن كان من شعبان حتى تقع النية مشروطة.
وهذه الجملة منصوص عليها في (الأحكام) (3)، وتشتمل على ثلاث مسائل منها:
[المسألة الأولى]: أن الصوم لا بد له من النية، وقد حقق ذلك يحيى عليه السلام بقوله في آخر هذه المسألة في (الأحكام)(4): فإن كان ذلك اليوم من رمضان، فقد أدى صومه بما عقد من نيته، فنبه على أن عقد النية به يؤدى الصوم.
المسألة الثانية(5): أن فرضه لا يؤدى بنية التطوع، بل لا بد من نية الفرض.
والمسألة الثالثة: أن النية يجب أن تقع لصوم(6) يوم الشك، فشروطه:
المسالة الأولى [في وجوب النية]
قول عامة العلماء أنَّه لا بد في الصوم من النية، وقول زفر لا يحتاج إليها.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّيْنَ} فأخبر تعالى أنهم أمروا بالعبادة مع الإخلاص، والإخلاص من عمل القلب، وهو النية.
__________
(1) ـ في (أ): صوم.
(2) ـ في هامش (ب): فروي.
(3) ـ انظر الأحكام 1/239 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر الأحكام نفس الصفحة.
(5) ـ في (أ): جعل المسألة الثانية الثالثة وأسقط المسألة الثالثة.
(6) ـ في (ب) و (أ): لصوم الشك.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الأعمال بالنيات، وإنما لامرئٍ ما نوى)) فأخبر أن جميع الأعمال بالنيات؛ لأن دخول الألف واللام يقتضي التعميم، إلاَّ ما خص منه الدليل، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما لامرئ ما نوى)) دليل على أنَّه إذا لم ينوِ، لم يكن له شيء؛ لأن (إنما) تدخل في الكلام لتفيد ما ذكرناه. (35/13)
وقوله: ((لا صيام لمن لم يُبَيِّت الصيام من الليل)) يدل على وجوب النية.
فإن قيل: فأنتم تجوزون نية صوم رمضان في بعض النهار، فكيف تعلقتم بهذا الحديث؟
قيل له: هذا الحديث دل على وجوب النية، ونحن بدلالة أخرى أجزناها في بعض النهار، ولو خُلِّينا وظاهر هذا الحديث، كنا لا نجيز الصوم إلاَّ بنية من الليل.
وهو قياس على الصلاة، والزكاة، والحج، والمعنى أنَّه عبادة مقصودة في نفسها، فكل عبادة مقصودة في نفسها يجب أن تكون النية شرطاً في صحتها، على أن الصوم قربة، والقربة لا بد فيها من النية، والأصول تشهد بصحة ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يوجب الصيام، وهو الإمساك، فمن أمسك فقد امتثل، وإن لم يكن له نية.
قيل له: لسنا نسلم أن الإمساك المتجرد من النية صوم، والصوم /112/ اسم شرعي منقول عما كان عليه في اللغة، فليس يمكنهم التعلق بما ذكروه.
فإن قيل: إن صوم شهر رمضان يستحق العين، فاكْتُفى باستحقاق عينه عن النية، كرد الوديعة، والغصب.
قيل له: لا يشتبه الأمران؛ لأن رد الوديعة يحصل، وإن لم تكن معه النية، ولسنا نسلم أن الصوم يحصل بغير نية، فلا يمكن لهم رده إلى ما ذكروه؛ لأن الرد حاصل، والصوم غير حاصل، وكذلك الجواب إن سألوا عمن أعتق بغير نية، هذا إن سلمنا أن العتق يقع بغير نية.
المسألة الثانية [في أن القرض لا يؤدي بنية التطوع]
الخلاف في هذه المسألة مع أبي حنيفة وأصحابه؛ لأن الشافعي يوافقنا على أن صوم رمضان لا يؤدَى بنية التطوع.
والدليل على ذلك قوله: ((الأعمال بالنيات، وإنما لامرئٍ ما نوى)) فمن نوى التطوع، لم يحصل له الفرض بهذا الظاهر. (35/14)
فإن قيل: فخبركم يقتضي أن يحصل له النفل.
قيل له: قد منع منه دليل الإجماع، والخبر منع حصول الفرض، فلا يحصل له لا الفرض، ولا النفل، وهو مقيس على قضائه، وعلى الكفارات؛ بعلة أنَّه صوم مفروض، فلا يسقط فرضه بنية التطوع، أو يقال: إنه صوم مفروض، فلا بد من تعيين النية فيه، أو لا بد من نية الفرض، ويقاس ـ أيضاً ـ على الصلاة المفروضة؛ بعلة أنها عبادة على البدن لا يتعلق وجوبها بالمال من شرطها النية، فلا يؤدى فرضها بنية التطوع.
فإن قاسوه على رد الوديعة، ورد الغصب؛ بعلة أنَّه مستحَق العين، كان قياسنا أولى؛ لأنا رددنا العبادات بعضها إلى بعض، وهم ردوا العبادة إلى المعاملة؛ ولأن النية لا تأثير لها في رد الوديعة، ألا ترى أنه لو ردها بغير نية أصلاً، أو ساهياً، لوقع الرد موقعه؟ فنحن رددنا ما للنية فيه تأثير إلى ما للنية فيه تأثيرٌ، وهم ردوا ما للنية فيه تأثير إلى ما لا(1) تأثير فيه للنية، ألا ترى أنهم لا يخالفون في أن الصوم لا بد فيه من النية؟ فبان أن قياسنا أولى من قياسهم ـ وأيضاً ـ قياسنا يقتضي الإيجاب، وما اقتضى الإيجاب أولى مما بقَّاه على الأصل.
فإن قيل: قد ثبت أن من أمسك في غير رمضان بنية الصوم من غير أن ينوي فرضه أو نفله، يكون صائماً، فكذلك(2) من أمسك في رمضان بنية الصوم يجب أن يكون صائماً، صوماً شرعياً، فإذا حصل صائماً، لم يخل صومه من أن يكون تطوعاً، أو عن(3) فرض سوى رمضان، أو عن رمضان، وإذا قد ثبت أنَّه لا يقع تطوعاً، ولا عن فرض غير رمضان، صح أنَّه يقع عن رمضان.
__________
(1) ـ في (أ): للنية نية تأثير.
(2) ـ في (ب): كذلك.
(3) ـ في (أ): عين، وفي (ب): غير مظنن فيهما على ما أثبتناه.
قيل له: لسنا نسلم أن من صام رمضان على نحو ما ذكرت يكون صائماً صوماً شرعياً، بل قياسكم الإمساك في رمضان على الحد الذي ذكرتم [على] (1) الإمساك في غير رمضان نقلبه عليكم، فنقول: لا خلاف أن من أمسك في غير رمضان على الحد الذي ذكرتم، لا يكون ذلك واقعاً عن شيء من الفرض، فكذلك إذا أمسك في رمضان على هذا الحد، لا يجب أن يقع شيء من الفرض، وإذا صح ذلك، لم يجب أن يكون صائماً بتة؛ لأنَّه لا خلاف أن الإمساك الذي لا يقع عن فرض رمضان ـ في رمضان ـ لا يكون صياماً، وإذا ثبت هذا، بطل ما بنوا عليه كلامهم في هذا الباب، وإذا بطل أن يكون من ذكرناه صائماً، بطل عامة استدلالهم؛ لأنهم إن استدلوا بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} منعناهم من ذلك، وإن قالوا: إنَّه أُخذ علينا صيام هذا اليوم، فعلى أي وجه صامه، فقد /113/ امتثله لم يصح ذلك؛ إذ لا نسلم أنَّه صامه، على أن قلبنا القياس عليهم أسعد من ابتداءهم به، وذلك أنا بالقلب ثبتنا مذهبنا من غير واسطة؛ لأنا منعنا به صحة الفرض به، وهم أثبتوا بابتداء قياسهم الفرض بواسطة، وذلك أن قياسهم أفاد أنَّه صائم فقط، ثم تطرقوا بذلك إلى أن قالوا: إذا ثبت كونه صائماً، فلا قول بعد ذلك إلاَّ القول بأنه واقع عن فرضه، ثم الأصول تشهد لنا؛ لأن حكم النية في الأصول أن يكون مطابقاً للمنوي في الوجوب والندب. (35/15)
المسألة الثالثة [في أن صوم الشك يكون بنية مشروطة]
ذهب أبو حنيفة إلى أن يوم الشك يجب أن يكون بنية شعبان، وعندنا أنه يجب أن ينوي الفرض إن كان من رمضان، والتطوع إن كان من شعبان، وحكي أنَّه مذهب أبي هاشم.
__________
(1) ـ سقط من (أ) و (ب): وظنن عليها في اللهامش.
ووجه المسألة أنا قد بينا ـ فيما تقدم ـ أن صوم رمضان لا يجزي بنية التطوع، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن يوم الشك يصام احتياطاً لرمضان، وثبت أنَّه لا يجوز قطعاً من رمضان، لم يبق إلاَّ أن يصام على ما ذكرنا، على أنَّه لا خلاف بيننا وبين المستحبين لصيامه أنَّه يصام ويُنْوَى التطوع، وإنما الخلاف في نية الفرض [وقد اتفقنا على أنَّه إذا شهد شاهد واحد بالرؤية، فيجوز أن يُنْوَى الفرض](1)، فكذلك إذا لم يشهد، والمعنى أنَّه يحتاط فيه لرمضان، أو يقاس بهذه العلة على آخر يوم من رمضان إذا شك فيه، وتقوَّى العلة بشهادة الأصول؛ لأن الأصول تشهد أن النية يجب أن تكون في حكم المنوي في الوجوب، والندب، في العبادات التي يقصد إليها نفسها، كالصلاة، والحج، والعمرة، والزكاة، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن اليوم يوم مشكوك فيه، [كان صومه مشكوكاً فيه](2)، فوجب أن تكون النية مشروطة. (35/16)
فصل [هل يجب تجديد النية لكل يوم من رمضان؟]
قول يحيى عليه السلام في صوم يوم الشك: إذا نوى الفرض، يكون قد أدى صومه إن كان من رمضان بما عقد من نيته، إذا تضمن أن أداء الصوم بعقد النية، وجب تجديد النية لكل يوم من رمضان.
وقد حكى ذلك على هذا الوجه أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ في (النصوص). وخالف في ذلك مالك.
ودليلنا الظواهر التي احتججنا بها على زُفَر في إيجاب النية، ونقيس كل يوم من رمضان على أول يوم منه؛ إذ لا خلاف في أن النية تجب له، والمعنى أنَّه صوم يوم منفرد، ونقيس صوم أيام رمضان على صوم أيام الكفارات، والمعنى أنَّه صوم أيام، فوجب أن لا يصح صوم كل يوم إلاَّ بنية تختصه(3).
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و (ب)، وذكره في الهامش عن نسخة القاضي زيد.
(2) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (ب).
(3) ـ في (أ): مختصة.
ونقيس كل يوم [منه](1) على صلاة منفردة بعلة أنَّه عبادة منفردة، لها حكم يختصها في الصحة والفساد، فوجب أن لا يجزي بغير نية تخصه. (35/17)
فإن قيل: الشهر كله قياس على صلاة واحدة في أن نية واحدة تجزي فيه؛ والعلة أنَّه عبادة لا يتخللها فرضٌ غيرها من جنسها.
قيل له: هذا منتقض بصيام الظهار؛ لأنَّه لا يتخلله فرضٌ غيره من جنسه، على أن قياسهم لو صح، كان قياسنا أولى؛ لأنه يتضمن الإيجاب، والاحتياط، والأصول تشهد له؛ لأنا وجدنا العبادات المتميزات لا تنوب نية بعضها عن بعض.
مسألة [هل يجزي صيام يوم الشك، أم يلزم القضاء؟]
قال: وإذا صام يوم الشك على ذلك، واتفق كونه من رمضان، لم يلزمه القضاء.
قد نص عليه في (الأحكام) (2) بقوله: (فإذا فعل ذلك فقد أدى صومه). وهو مذهب المزني.
وقال الشافعي: عليه القضاء، وحجتنا قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهذا قد شهد، وصام، فصار ممتثلاً للظاهر.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وإنما لامرئ ما نوى)) وهو قد /114/ نوى الفرض، فوجب أن يصح له فرضه، وهو قياس على من صام عن رؤية؛ بعلة أنَّه صام، ونوى فرضه، فيجب(3) أن يجزئه، وقياس على الأسير في دار الحرب إذا تحرى، وصام، فوافق ذلك رمضان، أنَّه يجزئ(4)؛ لأنَّه صام رمضان بنية الفرض، وقياس على من زكى [عن] (5) المال، فقال: إن كان سالماً، كان عن فرضه، وإلا فهو تطوع، فكان سالماً، أجزئه، فكذلك ما اختلفنا فيه، والمعنى أنَّه أدى الفرض بنية الفرض، ومضى وقته.
فإن قيل: إنَّه دخل فيه عن(6) غير أصل، فوجب أن لا يجزئه، كمن دخل في الصلاة شاكاً في وقتها، فوافق الوقت، أو توجه شاكاً في القبلة من غير تحرٍ، فوافق القبلة.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ انظر الأحكام 1/239.
(3) ـ في (أ): فوجب.
(4) ـ في (أ): يجزئه.
(5) ـ سقط من (أ).
(6) ـ في (أ): من.
قيل له: إنَّه دخل فيه عن أصل، وهو أن اجتهاده أداه إلى ذلك، على أنَّه لم يُمْكِنَه في الاحتياط أكثر مما فعل، والداخل في الصلاة، والمتوجه على الوجه الذي ذكرتموه فرَّط، ولم يحتط، فلا يمتنع أن لا يقع فعله موقع الصحيح، يؤكد ذلك من كان عليه صوم، وشك أنه مِن قتلٍ، أو ظهار أجزئه أن يصوم ناوياً للفرض؛ إذ لا يمكنه غير ذلك، كذلك من صام يوم الشك على الوجه الذي ذهبنا إليه. (35/18)
مسألة [في وقت النية]
قال: وتجزي النية لصيام رمضان من أول الليل إلى أن يبقى من النهار بعضه.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1) في مسألة المسافر يقدم قبل الزوال، أو بعده.
وهذه المسألة فيها خلاف للشافعي من وجه، ولأبي حنيفة من وجه، فإن الشافعي لا يجيز صيام رمضان إلاَّ أن ينويه من الليل، وأبو حنيفة لا يجيزه إلاَّ أن ينويه قبل الزوال.
فما يدل على أن تبيت النية ليس بشرط في صحة صومه:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء، فقال: ((من أكل، فليمسك بقية يومه، ومن لم يأكل، فليصم))، فأمر الآكلين بالإمساك، ومن لم يأكل بالصوم، فدل ذلك على أنهم أجزتهم النية في بعض النهار، ولم يلزمهم تبييتها من الليل، ألا ترى أنه صلى الله عليه وآله وسلم فصَل بين من أكل، وبين من لم يأكل، فقال: (( من أكل، فليمسك بقية يومه، ومن لم يأكل، فليصم ))، فلو كان الآكل، وغير الآكل سواء، إذا لم يكن نوى من الليل، لم يكن لتفرقته صلى الله عليه وآله وسلم معنى.
فإن قيل: كان صوم عاشوراء تطوعاً، فلذلك جاز ما ذكرتم.
قيل له: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أمر الناس بصيام يوم عاشوراء أول ما قدم المدينة، ثم نسخ برمضان ولا خلاف أن صومه جائز، بل مستحب، فبان أن النسخ تناول الوجوب، فثبت بذلك أنَّه كان واجباً إذ ذاك، ولم يكن تطوعاً.
__________
(1) ـ انظر المنتخب 92 وهو بالمعنى فقط.
يؤكد ذلك أن في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الآكلين منهم بالقضاء، على أن الأمر يقتضي الإيجاب، ويدل عليه. (35/19)
فإن قيل: فقد روي ((من أكل، فليصم بقية يومه)) ومعلوم أن الصوم مع الأكل لا يصح، فكذلك يجب أن يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ومن لم يأكل، فليصم)).
قيل له: قد روي بلفظ الإمساك، وبلفظ الصوم، ويحتمل أن يكون الراوي بلفظ الصوم، رواه على المعنى، والصوم إذا أطلق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمول على الصوم الشرعي، ووجب أن يُحمل [115/ ذلك في الذين أكلوا على الصوم اللغوي، الذي هو الإمساك؛ إذ لا خلاف أن الآكل على وجه تَرْكِ الصوم لا يكون صائماً، وليس إذا وجب حمل اللفظة الثانية على التوسع، لدلالةٍ اقتضته، وجب حمل اللفظة الأولى عليه بلا دليل، سيما وقد فصَل بينهما.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: أجزأهم الصوم، وإن لم يكونوا بيتوا النية فيه؛ لأنَّه ابتدأ إيجابه من بعض اليوم؟
قيل له: لو كان تبييت النية شرطاً في صحته، لجرى تركه تبييتها مجرى الأكل، في أنَّه يفسد الصوم، فكان يجب أن لا يصح صوم من لم(1) يبيت، كما لا يصح صوم من أكل في بعض النهار.
فإن قيل: فكيف يصح لكم الاعتماد على حكم صوم عاشوراء، وهو عندكم منسوخ؟
قيل له: إنما نسخ الإيجاب، وليس يجب بنسخ الإيجاب، نسخ سائر أحكامه، بل يجب أن يكون سائر أحكامه ثابتاً على ما كان عليه، يكشف ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دل على حكمين:
أحدهما: على وجوب صومه.
والثاني: على جواز ترك التبييت للنية فيه. فإذا ورد النسخ على أحد الحكمين، لم يقتض ذلك نسخ الآخر، فصح ما اعتمدناه، يكشف ذلك ما روي من نسخ فرض صلاة الليل، ولم تنسخ سائر أحكامها.
فإن استدلوا بحديث حفصه ((لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)).
__________
(1) ـ في (أ): لا.
قيل له: هو محمول على نفي الفضل، والكمال، للدلالة التي قلنا، [أو] (1) أنَّه محمول على ما يجب من صومٍ دَين. (35/20)
وهو قياس على صوم التطوع بعلة أنَّه نوى له من وقت لا يصلح إلاَّ لما نوى له، ألا ترى أن المتطوع في بعض النهار لا يصح أن يجعل صومه لغير التطوع؟ أو يقال: إنَّه صوم متعلق بالعين، لا بالذمة، فيشابه التطوع في أن النية في بعض النهار تجزي.
ويقاس على التبييت؛ بعلة حصول النية قبل غروب الشمس، وقياسنا أولى من قياسهم له على ما يجب في الذمة من الصيام، بمعنى أنَّه فرض؛ [لأنَّه](2) يستند إلى نص لا يحتمل، وقياسهم مدفوع به، على أن قياسهم شاهد على العكس لقياسنا الثاني، ألا ترى أن ما قاسوه عليه، لَمَّا تعلق بالذمة، لم تجز النية فيه في بعض النهار، فدل ذلك على وجوب الحكم الذي ذكرناه بوجود علتنا الثانية، وعدمه بعدمها.
فأما أبو حنيفة، فلا خلاف بيننا وبينه فيما ذكرناه، وإنما الخلاف في جوازها بعد الزوال، وهي عندنا مقيسة على النية قبل الزوال، والمعنى حصول النية في بعض النهار، والأقيسة الثلاثة يمكننا أن نستدل بها على أبي حنيفة.
فإن قيل: العلة في جواز النية قبل الزوال أنها حصلت لأكثر النهار.
قيل له: هذه علة مقتصرة لا تتعدى، وعندكم أن العلل المقتصرة، لا تصح، على أنها لو صحت، لقلنا بالعلتين، على أن أصول الصوم تشهد لقياسنا؛ لأنا وجدنا كلما أفسد الصوم، لا ينفصل بين أن يكون قبل الزوال، أو بعده، وهذا مما يمكن أن يجعل قياساً؛ إذ قد ثبت بأن تأخيرها عن الفجر، لا يفسد الصوم، فكذلك تأخيرها عن الزوال قياساً على سائر ما لا يفسد، والرؤية ـ أيضاً ـ تشهد لنا أنَّه لا فصل بين حصولها قبل الزوال وبعده.
وروي نحو قولنا عن علي، وعبد الله، /116/ وحذيفة.
__________
(1) ـ ظن في هامش (ب).
(2) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و (ب).
أخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: ((متى أصبحت يوماً، فأنت بأحد النظرين، ما لم تطعم، فإن شئت فصم، وإن شئت فافطر)) (1). (35/21)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن أبي بكرة، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا أبو إسحاق(2)، عن الحارث الأعور، عن علي عليه السلام، مثله(3).
فدل ذلك على قولنا، ألا ترى أنه قال: ((متى أصبحت يوماً))، فاقتضى ذلك شهر رمضان، وغيره، ثم قال: ((ما لم تطعم))، فاستوى في ذلك قبل الزوال، وبعده.
فإن قيل: كيف يجوز أن يحمل ذلك على صوم رمضان، وقد قال: إن شئت فصم، وإن شئت فافطر؟
قيل له: لا يمتنع أن يكون المراد به إن(4) عرض ما يوجب رخصة الإفطار، أو يكون المراد أن الصائم ممكن ما لم يقع الأكل.
وأخبرنا المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن طلحة بن مصرف، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن أن حذيفة بدا له الصوم بعد ما زالت الشمس فصام. فقد حقق عن حذيفة النية بعد الزوال(5).
مسألة [في وقت وجوب الصوم]
قال: ووجوب الصوم أول طلوع الفجر.
قال: ويستحب التوقي من كل ما يفسد الصوم مع الشك في أول الفجر.
وقد نص على ذلك في (الأحكام) (6).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/56 وفيه فأتت على أحد وكذلك ما لم تطعم أو تشرب.
(2) ـ في (أ): حدثنا إسحاق ونبه على خطأه في الهامش.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/56 وفيه حدثنا أبو داود، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق.
(4) ـ في (أ) و (ب): أن الفرض، وما أثبتناه نبه عليه في الهامش.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/56.
(6) ـ انظر الأحكام 1/248 وهو بالمعنى. انظر الأحكام أيضاً 250 وهو بلفظ قريب.
أما وجوب الصيام على ما ذكرنا، فمما لا خلاف فيه، إلا ما يحكى عن بعض المتقدمين أنه كان يرى أن وجوبه أول طلوع الشمس، وهذا قول قد قضى الإجماع بسقوطه. (35/22)
وقد نص القرآن على ذلك حيث يقول تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضِ(1)..} الآية، وقلنا: إنه يستحب التوقي مما يفسد الصوم مع الشك في أول الفجر، للاحتياط، وليسلم صومه، كما استحب لهذه العلة صوم يوم الشك.
مسألة: [في وقت الإفطار]
قال: فأما وقت الإفطار، فأن تغرب الشمس، ويُعرَف ذلك أن يظهر كوكب من كواكب الليل(2).
قال: ويلزم الصيام بالإطاقة، أو الإحتلام، أو بلوغ خمس عشرة سنة، وإنما يكون مطيقاً إذا أطاق صيام ثلاثة أيام(3).
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام). لا خلاف أن وقت الإفطار، ووقت المغرب واحد، وقد مضى في باب المواقيت في ذكر وقت المغرب ما يغني عن إعادته.
وعن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( إذا أقبل الليل من هاهنا ـ وأشار بأصبعه إلى المشرق ـ فقد أفطر الصائم ))، فنبه بذلك على أن حكم الظلام مراعى. ولا خلاف أن الصوم يجب بالبلوغ، وكذلك جميع الشرائع والعبادات.
وخرَّج أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ قوله: ويلزم بالإطاقة، أنه لزوم التأديب والتعويد(4)، لا على أنه فرض يلزمهم، وحَكى ذلك عن محمد بن يحيى عليهما السلام، وذلك صحيح؛ لأنه حين لم يكلَّف سائر الشرائع والعبادات، لم يجز أن يكلف الصوم.
قال: أما الاحتلام، فلا خلاف فيه أنه بلوغ.
وأما خمس عشرة سنة، فقد اختلف في أنها بلوغ، أو ليس ببلوغ. وسيأتي القول فيه من بعد إن شاء اللّه تعالى.
__________
(1) ـ في (أ): من الخيط الأسود.
(2) ـ انظر الأحكام 1/240.
(3) ـ انظر الأحكام 1/261 إلا أنه لم يذكر الاحتلام.
(4) ـ في (أ): التعويل.
باب القول في ما يستحب أو يكره للصائم (36/1)
[مسألة في مضاجعة الصائم أهله، وأنه يحترز من دخول ماء المضمضة والاستنشاق إلى حلقه، ويستحب له القراءة والذكر]
يجب على الصائم أن يتحفظ عند تمضمضه(1) واستنشاقه من دخول الماء ـ في فيه وخياشيمه ـ إلى حلقه، ويجب أن يتيقظ في نهاره من النسيان، لئلا /117/ يصيب ما لا يجوز له إصابته مما يفسد الصيام.
ويستحب له توقي مضاجعة أهله، وكل ما جرى مجراها من القبلة والضمة(2)؛ مخافة أن تغلبه الشهوة.
ويستحب له أن يزيد في القراءة، والتسبيحُ والاستغفار، في البُكَر، والآصال.
وإذا استاك نهاراً، توقى أن يدخل حلقَه شيء مما جمعه السواك من خلاف ريقه، ويكره له السعوط.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(3).
قلنا: إنه يتحفظ عند تمضمضه واستنشاقه من دخول الماء إلى حلقه، وأنه يتيقظ في نهاره من النسيان؛ لئلا يصيب ما يفسد الصوم؛ لأنه قد ثبت أن دخول الماء إلى الجوف عند المضمضة والاستنشاق(4) جميعاً في مواضعهما من هذا الكتاب، وإذا ثبت ذلك، استحببنا له التحفظ؛ للاحتياط لأن(5) كل ما يفسد الصوم، يجب أن يحترز منه احتياطاً، كما قلنا: إن صوم يوم الشك يستحب للإحتياط، وكما استحببنا ترك الأكل والشرب مع الشك في الفجر، وقد نبه صلى اللّه عليه وآله وسلم على ذلك بقوله: (( بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )) .
وقلنا(6): إنه يستحب له توقي مضاجعة أهله، وكذلك القبلة [والضمة] (7)؛ مخافة أن تغلبه الشهوة، وإن أيقن من نفسه بالثقة والامتناع، فلا بأس بها.
__________
(1) ـ في (أ): مضمضته.
(2) ـ في (أ): أو الضمة.
(3) ـ انظر الأحكام 1/237 ـ 238 وهو بلفظ قريب، وأما كرهة السعوط فنص عليه ص251.
(4) ـ يفسد الصوم، وكذلك الأكل والشرب ناسياً يفسد الصوم وسيأتي الكلام في المسألتين.
(5) ـ في (أ): أن.
(6) ـ في (أ): قلنا.
(7) ـ سقط من (أ) و (ب).
وقد روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يُقَبِّل، وهو صائم، وكان أملككم لإربه. (36/2)
وروى أبو داود في (السنن) يرفعه إلى أبي هريرة أن رجلاً سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن المباشرة للصائم، فرخص له، وأتاه آخر، فسأله، فنهاه(1)، فالذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب، فحقق ذلك ما ذكرنا.
وقلنا: إنه يستحب له أن يزيد من القراءة، والذكر، والاستغفار؛ لأن العبادة في شهر رمضان أفضل، ولذلك روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يعتكف العشر الأواخر، ولذلك زِيد في قيام الليل، وما ذكرناه عادة صالحي المسلمين، توارثها الخلف عن السلف.
وقلنا: إنه يتحرز عند السواك؛ لئلا يدخل حلقه شيء من غير ريقه؛ لأنه يؤدي إلى إفساد الصوم، وكان القياس أن يكون الريق ـ أيضاً ـ يفطر؛ لأن حكم الفم حكم الخارج، بدلالة أن وصول المطعوم والمشروب إليه لا يفسد الصوم، لكنه سومح فيه، لتعذر الاحتراز منه، فما عدا الريق مما يصل إلى الفم من خارجه مفسد.
وكرهنا السعوط؛ لأنه ربما يصير إلى الحلق، ويجري إلى الجوف، وما وصل إلى الحلق، وجرى إلى الجوف، أفسد الصوم، فيجب على هذا أن يكون سبيل السعوط سبيل المبالغة في الاستنشاق الذي نهى عنه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
مسألة: [في المسافر يقدم على أهله، والحائض تطهر أثناء النهار]
قال: ويستحب للمسافر إذا قدم على(2) أهله، وكذلك الحائض إذا طهرت، وقد أكلا في بعض النهار، أن يمسكا باقي يومهما.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
وقال في (المنتخب) (4): من أكل ناسياً، أو جامع ناسياً، ثم أكل باقي يومه متعمداً، لسنا نرى إلا القضاء، والتوبة، والناسي لا توبة عليه، فإذاً وجوب التوبة لأكله باقي يومه متعمداً.
__________
(1) ـ في (أ): ونهاه.
(2) ـ في (أ): إلى.
(3) ـ انظر الأحكام 1/255 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر المنتخب 91.
وفي (الأحكام) (1) عن القاسم عليه السلام: من تسحر، ثم بان له أنه صادف الفجر، يتم صومه، /118/ ويقضي. (36/3)
وقال القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي): من نظر، فأمنى، قضى يوماً، ولم يفطر يومه.
فكان تحصيل المذهب: أن من أبيح له الإفطار، فأفطر، ثم زال المعنى الذي لأجله أبيح الإفطار، فالإمساك مستحب له باقي يومه، ولا يجب، ومن أفسد صومه عمداً، أو سهواً، مع وجوبه عليه، فإمساك باقي يومه واجب عليه.
قلنا: إنه إذا أبيح له الإفطار، فأفطر، لم يجب عليه الإمساك؛ لأن الإمساك لو وجب، لوجب لوجوب الصوم عليه، وقد علمنا أن وجوب الصوم لا يتبعض، فإذا لم يجب عليه في أول النهار، لم يجب عليه في آخره، وكذلك الحائض إن طهرت، وكمن رأى هلال رمضان نهاراً، إنه لما لم يجب عليه الصوم قبلها، لم يجب عليه الإمساك بعدها؛ بعلة أن الصوم لم يجب عليه في أول النهار، فإن قاسوه على من أكل على أنه من شعبان، ثم بان له أنه من رمضان؛ بعلة أنه صار إلى حالةٍ لو كان عليها في الابتداء، لم يحل له الإفطار، كان ذلك منتقضاً بالحائض تطهر في آخر النهار، ثم قياسنا أولى؛ إذ قد ثبت أن الصوم لايتبعض وجوبه في شيء من المواضع، وما ذكروه وجب من حيث وجب اليوم كله.
فإن قيل: قد أمر صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم عاشوراء من أكل بالإمساك بقية يومه.
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما: أن الصوم كان لزمهم من أوله، فلما أفسدوا أوله، لزمهم الإمساك في باقيه.
والجواب الثاني: أنهم ابتدأوا به من ذلك الوقت، فكان الإمساك مستحباً.
والجواب الأول هو الأوضح.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/248 وهو بلفظ قريب.
ووجه استحبابه ما ذكروه ـ هم ـ في باب الوجوب، وليس يمتنع في الاستحباب أن يتبعض حكم اليوم، ألا ترى أنه يستحب الإمساك يوم الأضحى إلى أن يصلي الإمام؟ فأما إذا كان إفساد الصوم في أول النهار مع وجوبه، فالإمساك واجب بقية اليوم؛ لأن كل جزء محرَّم عليه ترك الإمساك فيه، إذا ترك في بعضه عمداً، أو سهواً، أو ماجرى مجراه، وكان وجوب الإمساك لباقي الأجزاء على ما كان عليه، قياساً عليه لو لم يكن أفسد أوله؛ لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر الآكلين يوم عاشوراء بالإمساك بقية يومهم. (36/4)
وروى ابن أبي شيبة أن(1) النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لرجل وقع على امرأته في شهر رمضان: (( إن فجر ظهرك، فلا يفجر بطنك ))، فنهاه عن الأكل مع إفساد الصوم، فصح ما قلناه(2).
مسألة: [في التحرز من دخول الغبار والذباب والدخان إلى الحلق، وفي السواك الرطب، وبل الثوب والمضمضة من العطش وفي الوصال]
قال: ويستحب للصائم أن يتحرز من دخول الغبار والذباب والدخان حلقه.
قال القاسم عليه السلام: ولا بأس بالسواك الرطب للصائم.
قال: ولا بأس أن يبل ثوبه، أو يرش الماء على نفسه، أو يتمضمض من العطش ما لم يدخل شيء(3) من الماء جوفه، ويكره للرجل أن يواصل بين يومين في الصيام.
ما ذكرنا من الاحتراز من الغبار والذباب والدخان منصوص عليه في (الأحكام) (4).
وما ذكرناه عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
وكراهة الوصال منصوص عليها في (الأحكام)(5)، وجه ما قلناه من استحباب الاحتراز من الغبار، ونحوه، أنهما ربما اجتمعا، فصارا بحيث يمكنه إخراجهما من فيه، فيصل مع ذلك إلى جوفه، فيفسد صومه.
فإن قيل: ألستم تقولون أن الغبار لا يفطر؟
__________
(1) ـ في (أ): عن.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 20/ 310.
(3) ـ في (أ): يُدخِل شيئاً.
(4) ـ انظر الأحكام 1/253 ونص على الإمضاء فيه.
(5) ـ انظر الأحكام 1/267 وهو بلفظ قريب.
قيل له: نقول ذلك إذا كان يسيراً لا يمكن الاحتراز منه، فأما(1) إذا كثر حتى يصير مقداراً يمكن الاحتراز منه، فإنه يفسد الصوم؛ لأنه وسائر الطين على سواء. (36/5)
وأما السواك، وبل الثوب، والمضمضة، فقلنا في /119/ جميعه: [أنه](2) لا بأس به؛ لأن شيئاً من ذلك لا يصل به شيء إلى الحلق، ويجب عليه في جميع ذلك أن يحترز من وصول شيء إلى الجوف.
وروى أبو داود في (السنن) يرفعه إلى أبي بكر قال: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالعرج يصب الماء على رأسه ـ وهو صائم ـ من العطش، أو من الحر.
وروى ابن أبي شيبة يرفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، أنه استاك وهو صائم(3).
وكرهنا الوصال، للنهي الوارد فيه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حيث يقول: (( لا وصال في صيام)). عن علي عليه لسلام مثله.
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ إلى(4) النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم [أنه](5) نهى عن الوصال، قال: فقالوا: يارسول اللّه، إنك تواصل.
فقال: (( إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي، ويسقيني، فإن أبيتم، فمن السحر إلى السحر))، ولأنه إدخال الضرر على النفس، وذلك مما لا يحسن، متى لم يؤمر به.
__________
(1) ـ في (أ): وأما.
(2) ـ زيادة في (أ).
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/294.
(4) ـ في (أ): عن.
(5) ـ سقط من (أ).
باب القول فيما يستحب أو يكره من الصيام(1) (37/1)
[مسألة في صيام عاشوراء ويوم عرفة، والدهر، وأيام البيض، والمحرَّم، ورجب، وشعبان، والاثنين، والخميس، والعيدين، والتشريف]
يستحب صيام عاشوراء.
قال القاسم عليه السلام: وهو العاشر من المحرَّم. وكذلك صيام عرفة للحاج، ولمن كان في سائر الأمصار.
ويستحب صيام الدهر لمن أطاقه، ولم يضر بجسمه، بعد أن يفطر العيدين، وأيام التشريق، فإنه لا يجوز صيامها، ويستحب صيام أيام البيض، وهي ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر من الهلال، وفي صيامها فضل كبير.
قال القاسم عليه السلام: ويستحب صيام المحرَّم، ورجب، وشعبان، والإثنين، والخميس.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (2).
وما حكيناه عن القاسم عليه السلام قد رواه يحيى عنه في (الأحكام) (3)، والنيروسي في مسائله، خلا صيام المحرم، فإن النيروسي رواه دون يحيى عليه السلام، قلنا: إن صوم عاشوراء يستحب(4) لأنه كان واجباً، ثم نسخ الوجوب، فبقي كونه ندباً؛ إذ لم يرو نسخه، والوجوب صفة زائدة على الندب.
وروي في عدة من الأخبار أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يصومه.
وعن ابن عباس رحمه اللّه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( ليس ليوم على يوم فضل في الصيام، إلا شهر رمضان، ويوم عاشوراء )) .
وذهب بعض الإمامية إلى كراهة الصوم فيه؛ لأنه يوم حزن، لقتل الحسين بن علي عليهما السلام، وذلك لا معنى له؛ لأن الحزن لا يمنع من الصوم، على أن الحادثة كانت بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا يجوز أن يتغير بعده حكم الشرع.
__________
(1) ـ في (أ): للصائم.
(2) ـ انظر الأحكام 1/540 ـ 241 ـ 243 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر نفس الصفحات السابقة.
(4) ـ في (ب): مستحب.
وقلنا: إنه العاشر من المحرم؛ لأنه رأي أهل البيت عليهم السلام لا يختلفون فيه، وإن روي أنه التاسع، وقد قيل فيما روي من صوم يوم التاسع، هو لئلا يكون يوم عاشوراء مقصوداً للصوم، ويُضَم إليه التاسع، يبين ذلك: (37/2)
ما روى أبو داود في (السنن) بإسناده عمن قال: سمعت أبا عطفان يقول: سمعت عبد اللّه بن عباس، يقول: حين صام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم عاشوراء، وأَمر بصيامه، قالوا(1): يارسول اللّه، إنه يوم يعظمه اليهود، والنصارى. فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( فإذا كان العام المقبل، صمنا اليوم التاسع )).
فدل هذا الخبر على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان صام يوم العاشر، ثم لما قيل له ما قيل، قال: (( إذا كان العام المقبل، صمنا اليوم التاسع ))، فبان أن صيامه يوم عاشوراء كان في غير التاسع، وأن صيام التاسع عزم عليه لمخالفة /120/ اليهود.
واستحببنا صوم يوم عرفة لما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا سعيد، قال: سمعت غيلان بن جرير يحدث، عن عبد اللّه بن معبد، عن أبي قتادة الأنصاري أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة فقال: (( يكفر السنة الماضية، والباقية )).
فإن قيل: روي عن عقبة، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( إن أيام الأضاحي، وأيام التشريق، ويوم عرفة عيدنا أهل الإسلام، أيام أكل، وشرب )).
قيل له: هذا لا يوجب أن صيامه مكروه، وإنما فيه أن له فضل العيد، وقوله: ((أيام أكل وشرب ))، محمول على أن الصوم غير واجب فيه؛ لأن الصوم إذا لم يجب في يومٍ، كان ذلك اليوم يوم أكل وشرب، فيكون ذلك جمعاً بين الخبرين.
فإن قيل: روي عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن صيام عرفة بعرفة.
__________
(1) ـ في (أ): فقالوا.
قيل له: يحتمل أن يكون النهي خاصاً لمن كان مجهوداً في ذلك اليوم، فكره له ذلك؛ لئلا ينقطع به عما هو واجب عليه من المناسك، وهكذا نقول في كل مستحب؛ حتى أنْ لا يؤدي إلى الإخلال بالواجب أنه يصير مكروهاً. (37/3)
وقلنا: إن صوم الدهر مستحب لمن قدر عليه ولم يضر بجسمه، إذا أفطر العيدين وأيام التشريق حديث ابن عمرو(1)، رواه أبو داود في (السنن) قال: لقيني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقال: (( ألم(2) أحدث عنك أنك تقول: لأقومنَّ الليل ولأصومنَّ النهار )). قال الراوي: أحسبه قال نعم، قد قلت ذلك. قال: (( فقم، ونم، وافطر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام، وذلك مثل صيام الدهر )). فلما شبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صيام ثلاثة أيام من كل شهر ـ إخباراً عن فضله ـ بصيام الدهر، ثبت أن صوم الدهر مستحب.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن العباس الطبري، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن شعيب بن عثمان بن سعيد، قال: حدثنا أبو الحسين أحمد بن هارون، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، قال: صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر وهن يذهبن وحر الصدر(3).
وفي غير هذا الإسناد قيل: وما وحر الصدر؟ قال: ((إثمه وغلّه)) فهو ـ أيضاً ـ عليه السلام شبهه بصيام الدهر، فدل ذلك على أن صيام الدهر كان عنده مستحباً.
__________
(1) ـ في (ب): بـ .
(2) ـ في (ب): أفلم.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الصنف بإسناد غير هذا. انظر 2/328.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، قال: حدثنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن المطوس، [عن المطوس](1)، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة، لم يجزه صيام الدهر )) (2). (37/4)
فدل ذلك على تعظيمه صلى اللّه عليه وآله وسلم فضل صيام الدهر.
فأما النهي الوارد عن صيام الدهر، فهو محمول على أحد الوجهين: إما أن يكون المراد به إذا صام العيدين، وأيام التشريق، أو يكون المراد بالنهي مَن خشي أن يضر بجسمه، ويؤديه إلى الإخلال بسائر الواجبات، ومن كان كذلك، فإنا نكره صيام الدهر له؛ إذ قد بينا فيما تقدم أن كل مستحب يُخشَى منه أن يؤدي إلى الإخلال بالواجب، مكروهٌ، ولأن أيام الدهر ـ خلا ما ذكرناه من العيدين وأيام التشريق ـ إذا ثبت أنه مستحب على الانفراد، وجب أن يكون مستحباً على الجمع، كأيام شعبان وغيره.
وقلنا: لا يجوز صيام أيام العيدين وأيام التشريق، لما:
روي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن صيام يومين، يوم الفطر، ويوم /121/ الأضحى. ولما:
روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من النهي عن صيام أيام التشريق وقوله: (( إنها أيام أكل وشرب )).
وقلنا: يستحب صوم أيام البيض، لما:
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/347.
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن ابن مرزوق، قال: حدثنا حبان، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن قتادة القيسي، عن أبيه، قال: كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يأمرنا أن نصوم ليالي(1) البيض، ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر. معناه: أيام ليالي البيض. وقال(2): ((هن كهيئة الدهر))(3). (37/5)
وأخبرنا أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، قال: حدثنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن يحيى بن بسام، عن موسى بن طلحة، عن أبي ذر، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، قال: (( من كان صائماً من الشهر ثلاثاً، فليصم أيام العشر، وأيام البيض )).
وقلنا: يستحب صيام المحرَّم، لِما:
رواه أبو داود في (السنن) بإسناده عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر اللّه المحرَّم، وإن أفضل الصلاة بعد المكتوبة، صلاة الليل )).
وقلنا: يستحب صيام رجب، وشعبان، لما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام: ((شعبان شهري، ورجب شهرك، ورمضان شهر اللّه )) (4).
ولما روى ابن أبي شيبة بإسناده، عن أنس قال: سئل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن أفضل الصيام فقال: (( صيام شعبان تعظيماً لرمضان )).
وروى أبو داود في (السنن) عن عائشة قالت: ((كان أحب الشهور إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان)*).
وقلنا: يستحب صيام يوم الإثنين والخميس لما:
__________
(1) ـ في (أ): أيام.
(2) ـ في (أ): قال.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/81 وفيه حمام بدل همام.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/346 وإسناده:ـ يزيد بن هارون، حدثنا صدقة موسى، أنبأنا ثابت البناني، به.
رواه أبو داود في (السنن) يرفعه إلى أسامة بن زيد أنه انطلق مع أسامة إلى وادي القرى في طلب مالٍ له، فكان يصوم الإثنين، والخميس، فقال له مولاه: لِمَ تصوم يوم الإثنين والخميس، وأنت شيخ كبير؟ قال: إن نبي اللّه كان يصوم الإثنين والخميس، فسئل عن ذلك فقال: ((إن أعمال الناس تعرض يوم الإثنين ويوم الخميس)). (37/6)
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن ابن المسيب، عن أبيه أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يصوم الإثنين والخميس(1).
وروى هو ـ أيضاً ـ بإسناده عن خلاس، عن علي عليه السلام أنه كان يصوم الإثنين والخميس(2).
مسألة: [في الصوم والإفطار في السفر أيهما أفضل؟]
قال: والصيام في السفر أفضل من الإفطار لمن أطاقه، ويجوز الإفطار، وجواز الإفطار في السفر مع وجوب القصر.
قال القاسم عليه السلام: ما روي (( ليس من البر الصيام في السفر )) معناه التطوع.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام) (3).
وماحكيناه عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، ومروي عنه في (الأحكام) (4).
والأصل فيه ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن علي بن شيبة(5)، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا سعيد، عن عبد الرحمن، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يصوم في السفر ويفطر(6).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/300 وإسناده: حدثنا حفص بن غياث، به.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/301 وإسناده: حدثنا أبو أسامة عن سعيد عن قتادة عن خلاس أن علياً كان يصوم.
(3) ـ انظر الأحكام 1/242 وأما ملازمة جواز الإفطار لوجوب القصر فنص عليه في الأحكام 1/245 بقوله: ((فإذا وجب القصر جاز الإفطار)).
(4) ـ انظر الأحكام 1/243 وهو بلفظ قريب.
(5) ـ في (أ): أبي شيبة.
(6) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/69 وفيه عن عبد السلام منزلاً عن عبد الرحمن.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن مالكاً أخبره عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال: يا رسول اللّه، أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام. فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إن شئت فصم، وإن شئت فافطر، والفطر لمن /122/ شاء ذلك )) (1). فنبه بقوله: (( والفطر لمن شاء ذلك ))، أن الأصل فيه الصوم، وأن الفطر له إن شاء. (37/7)
فدل الخبر على أن للمسافر أن يصوم، وأن الصوم أفضل؛ إذ قد نبه على أنه هو الأفضل(2).
وروي عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم فتح مكة تسع عشرة أو سبع عشرة من رمضان، فصام الصائمون، وأفطر المفطرون، فلم يعب هؤلاء على هؤلاء ولا هؤلاء على هؤلاء. وروي نحوه عن جابر.
وأخبرنا أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا أبو القاسم البغوي، قال: حدثنا علي بن الجعد، قال: أخبرنا شعبة، عن منصور، قال: سمعت مجاهداً يحدث عن ابن عباس قال: لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مكة صام حتى أتى عسفان، ثم أتي بقدح من لبن فأفطر، قال ابن عباس: فمن شاء صام ومن شاء أفطر.
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن أبي سعيد الخدري، قال: خرجنا مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من مكة إلى حنين في اثنتي عشرة بقيت من رمضان، فصام طائفة من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأفطر الآخرون، فلم يعب ذلك. فأخبر(3) أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يعب على واحد من الفريقين(4).
فثبت بهذه الأخبار أن الصوم في السفر جائز، وإذا ثبت الجواز، ثبت أنه أفضل لما:
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/69.
(2) ـ في نسخة: هو الأصل.
(3) ـ في (أ): فأخبرنا.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/281 وإسناده حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي نضره، به.
روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه لما سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الصوم في السفر قال: (( إنما هي رخصة من اللّه تعالى لعباده، فمن قبلها، فحسن جميل، ومن تركها، فلا جناح عليه )). وقد رواه الطحاوي بإسناده(1). (37/8)
فلما أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الإفطار رخصة، ثبت أن العدول عنها أفضل؛ إذ ذلك حكم جميع الرخص، ما لم تؤد إلى الإضرار بالنفس.
وروى أبو جعفر بإسناده عن أنس أنه سئل عن الصوم في شهر رمضان في السفر. فقال: ((إن أفطرت، فرخصة، وإن صمت، فالصوم أفضل)) (2). وهو قياس على سائر الأيام التي لا يكون فيها الصيام؛ بعلة أنها أيام يجوز فيها الصوم والإفطار، ولا يكره فيها الصيام، فوجب أن يكون الصوم أفضل من الإفطار.
فإن قيل: روي عنه صلى(3) اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( ليس من البر الصيام في السفر )) . قيل له: ليس يمتنع أن يكون المراد به التطوع كما حكيناه عن القاسم عليه السلام، إذا كان يضر بجسمه، ويمنعه عما هو أولى منه. فقد روي ما يدل على ذلك:ـ
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/71، وإسناده: ربيع الجيزي، حدثنا أبو زرعة، حدثنا حيوة، حدثنا أبو الأسود أنه سمع عروة يحدث عن أبي مرواح عن حمزة.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/67 وإسناده حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا الحسن بن صالح، عن عاصم، به.
(3) ـ في (أ): عن النبي.
أخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة، قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر، قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في سفر، فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظلل، فقال: (( ما هذا ))؟ فقالوا: صائم. فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ليس من البر الصيام في السفر )) (1). على أنا لا نمنع أن يكره الصيام في السفر في شهر رمضان إذا أضر ذلك بجسم الصائم، وخُشي أن يؤدي ذلك إلى الإخلال بسائر الواجبات المضيقة. (37/9)
فإن قيل: روي أن /123/ قوماً صاموا في السفر حين أفطر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقال: ((أولئك هم العصاة)).
قيل له: هو محمول على أن القوم أضروا بذلك أجسادهم حتى قعدوا عما هو أضيق وجوباً منه.
فإن قيل: روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( إن اللّه تعالى وضع عن أمتي الصوم في السفر؛ وشطر الصلاة )).
قيل له: هو محمول على أن الموضوع عنهم تضييق وجوبه، بالأدلة التي ذكرناها.
وقلنا(2): إن وجوب القصر، وجواز الفطر معاً؛ إذ قد ثبت أنهما جميعاً حكم السفر، فإذا حصل الإنسان مسافراً، حصل الحكمان؛ ولأنه لا خلاف في هذه الجملة، وإنما الخلاف في حد السفر، وفي وجوب القصر، وفي جواز الإفطار، وقد مضى في الجميع ما يغني عن إعادته.
مسألة: [فيمن يدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر]
قال: وإن أدركه الصوم وهو مقيم فإنه يصوم ما أقام، ويفطر إن شاء إذا سافر.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3)، وظاهره يقتضي أنه لا فصل بين أن يبتدئ السفر في شهر رمضان قبل الفجر أو بعده.
وقول أبي حنيفة، والشافعي: إنه يفطر إن خرج قبل الفجر، وإن خرج بعد الفجر صام، ولم يفطر.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/62.
(2) ـ في (أ): وقد قلنا.
(3) ـ انظر الأحكام 1/244 وهو بلفظ قريب.
ودليلنا في ذلك قول اللّه تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} فمن حصل مسافراً، جاز له الإفطار؛ لأنه تعالى لم يستثن للسفر وقتاً من وقت، ولأن حمزة الأسلمي لما سأله عن الصوم في السفر، قال له: (( إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر ))، ولم يشترط صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يكون ابتدأه قبل الفجر، فاقتضى ظاهره جواز الإفطار لكل مسافر. (37/10)
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، فأوجب الصيام.
قيل له: قد استثنى المسافر بما عقبه من قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}، ومن خرج بعد الفجر فأفطر(1)، يكون مبطلاً للجزء الذي حصل صائماً فيه.
قيل له: المراد في هذا الموضع أن يكون الثواب، للأدلة التي تقدمت، وثوابه لا يبطل، وهو قياس على من خرج قبل الفجر؛ بعلة أنه حصل مسافراً في شهر رمضان، والسفر قياس [على] (2) المرض؛ بعلة أنه عذر في الإفطار، وفي أي وقت حصل، جاز الإفطار، وقياس على الحيض؛ بعلة أنه معنى لو حصل في أول جزء من النهار، جاز له الأكل، فكذلك إن حصل بعده.
فإن قيل: إذا أصبح في منزله، فقد وجب عليه الصيام وجوباً لا خيار له فيه، ثم حدثت حادثة باختيار منه، وهو السفر، فلو قلنا: إنه مخير فيه، لأدى إلى إبطال ما لا خيار فيه لأجل ما فيه الخيار.
قيل له: هذا منتقض بمن دخل عليه شهر رمضان، وهو مقيم، فإن الصوم قد وجب عليه وجوباً لا خيار له فيه، ومع ذلك له الإفطار إذا سافر.
فإن قيل: بدخول شهر رمضان لا يجب عليه الشهر كله.
قيل له: فكذلك بدخول أول جزء من اليوم لا يجب اليوم كله. وهذا ما لا فرق فيه.
مسألة: [في صيام الحائض، والنفساء، والحامل، والمرضع، والمستعطش، والهرم]
__________
(1) ـ في (أ): وأفطر.
(2) ـ سقط من (أ).
قال: ولا يجوز صيام الحائض، والنفساء، فأما الحامل، والمرضع، فإنه يجب عليهما الإفطار متى خافتا على الجنين، والمرضَع، وكل من خاف على نفسه من الأعِلاَّء فإنه يكره له الصيام، وإن صام أجزأه، وكذلك الحامل والمرضع، ويجوز الإفطار لمن لا يصبر على(1) /124/ العطش من الرجال والنساء، وكذلك القول في الهرِم منهما، فأما من لا يصبر على العطش، فإنه متى خرج من علته هذه، لزمه القضاء لِما أفطر من الصيام، وكذلك غيره ممن ذكرنا. (37/11)
نص في (الأحكام) (2) على أن جميع هؤلاء يفطرون.
وقلنا في الأعِلاء: إن صامو كُره، وأجزأهم، تخريجاً، أما الكراهة فعلى أصوله من أن إدخال الرجل الضرر على نفسه مكروهٌ بقوله: ((يستحب صيام الدهر لمن لم يضر بجسمه))، وليس بعد الاستحباب إلا الكراهة، فوجب أن يكون كَرِه صيام الدهر إذا أدى إلى الضرر، فكذلك صيام هؤلاء.
وقلنا: يجزي؛ إذ لم نجد في أصوله ما يوجب القضاء، هذا ما لم تكن العلة شديدة، فأما إذا اشتدت، وبلغت إلى حيث يعلم أن الصوم لا يَحِلّ، وأن الإفطار واجب، فأصول أصحابنا تقتضي أنه لا يجزي، كما ذكروا في الصلاة في الأرض المغصوبة، والوضوء بالماء المغصوب، أن المعصية لا يجوز أن تكون قربة.
والأصل فيما قلناه أن الحائض، والنفساء لا يجوز صيامهما: أنه لا خلاف في أن الحيض والنفاس معنيان ينافيان الصوم، فكان في معنى هجوم الليل في أنه لا يصح معه الصيام؛ إذ هو معنى ينافيه.
والأصل فيما قلناه في الأعلاّء قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعَدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}، والمسألة وفاق.
وما قلناه في الحامل، والمرض، والهرم، والمستعطش، فالأصل فيه ما رواه يحيى عليه السلام. وهو:
__________
(1) ـ في (أ): عن.
(2) ـ انظر الأحكام 1/255 إلا أنه قال في الحامل والمرضع يجوز لهما متى خافتا على الجنين والمرضع.
ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: لما أنزل اللّه تعالى فريضة شهر رمضان، أتت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم امرأة حبلى فقالت: يا رسول اللّه، إني امرأة حبلى، وهذا شهر مفروض، وأنا أخاف على ما في بطني إن صمت. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( انطلقي، فافطري، فإذا أطقت فصومي ))، [وأتته امرأة مرضع فقالت: يا رسول اللّه، هذا شهر مفروض ـ وهي تخاف أن ينقطع لبنها، فيهلك ولدها ـ فقال لها: (( انطلقي، فافطري، فإذا أطقت فصومي ))] (1). وأتاه صاحب العطش فقال: يا رسول اللّه، هذا شهر مفروض ولا أصبر عن الماء ساعة واحدة، وأخاف على نفسي إن صمت. فقال: (( انطلق، فأفطر، وإذا أطقت، فصم ))، وأتاه شيخ يتوكأ بين رجلين فقال: يا رسول اللّه، هذا شهر مفروض، ولا أطيق الصيام. فقال: (( اذهب، فأطعم عن كل يوم مسكيناً نصف صاع )). (37/12)
وروى ابن أبي شيبة بإسناده قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إن اللّه وضع عن المسافر الصوم، وعن الحبلى، والمرضع )).
مسألة: [في الفصل بين رمضان وشعبان لمن صام شعبان وفي اعتماد يوم الجمعة]
قال القاسم عليه السلام: ويستحب لمن صام شعبان أن يفصل بينه وبين رمضان بيوم، ويكره للرجل أن يعتمد يوم الجمعة بالصيام، إلا أن يوافق ذلك اليوم صيامه.
ما حكيناه عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
وما ذكرناه من كراهة اعتماد يوم الجمعة بالصيام ذكره يحيى عليه السلام في (الأحكام) (2)، [و](3) أنه بلغه عن علي عليه السلام.
واستحباب الفصل بين شعبان ورمضان ما لم تدع الحاجة إلى خلافه، فإذا كان ذلك، فالاحتياط لشهر رمضان أولى من ذلك؛ لما بيناه في(4) صوم يوم الشك.
ووجه ما ذكرنا في صوم يوم الجمعة ما:
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(2) ـ انظر الأحكام 1/268.
(3) ـ سقط من (أ) و (ب).
(4) ـ في (أ): من.
روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( لا تصومن يوم الجمعة، إلا أن تصوم يوماً قبله، أو /125/ بعده )). (37/13)
وذكر يحيى عليه السلام الحديث الذي أخبرنا به أبو بكر محمد بن العباس الطبري، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمران بن ظبيان، عن حكيم بن سعد، عن علي عليه السلام، قال: ((من كان منكم متطوعاً من الشهر أياماً، فليكن صومه الخميس، ولا يصم يوم الجمعة، فإنه يوم طعام وشراب، وذكر فيجمع اللّه له بين يومين صالحين، يوماً صياماً، ويوماً نسكاً وعيداً مع المسلمين)) (1). فأما إذا وافق الجمعة صياماً(2) يصومه، فلا خلاف أنه جائز لا يكره.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/302 باختلاف في السند.
(2) ـ في (أ): صائم.
باب القول فيما يفسد الصيام وما(1) لا يفسده وفيما يلزم فيه الفدية (38/1)
[مسألة فيمن أكل أو جامع في شهر رمضان]
من جامع في شهر رمضان، فقد أفسد صومه، وعليه القضاء، ناسياً كان، أو معتمداً، ومن تعمد ذلك، لزمته التوبة، وكذلك القول فيمن أكل.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
أما من تعمد الإفطار، فلا خلاف فيه أن عليه القضاء، والتوبة، والخلاف فيمن أكل، أو جامع ناسياً.
والدليل على ذلك قول اللّه تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} والصوم هو إمساك مخصوص، فمن ترك الإمساك، يكون تاركاً للصوم، وتارك الصوم في رمضان يلزمه القضاء.
ويدل على ذلك ما:
رواه ابن أبي شيبة يرفعه إلى أبي هريرة قال: قال رسول(3) اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من أكل ناسياً، وهو صائم، فليتم صومه، فإن اللّه أطعمه، وسقاه ))، فلما أمره عليه السلام بإتمام صومه، دل ذلك على وجوب القضاء؛ لأن إتمامه لا يكون إلا بأن يقضيه؛ لأن من ترك الإمساك في بعض النهار لا يكون أتم صومه حتى يقضي بدله، ووجوب بدله قضاء لوجوب استكمال اليوم قضاء؛ إذ الصوم لا يصح فيه التبعيض سواء كان عيناً، أو ديناً(4)، وهذا كما قال اللّه سبحانه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} يعني بقضاء ما فات، ألا ترى إلى قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}، ثم قال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}؟.
فإن قيل: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( فإن اللّه أطعمه، وسقاه ))، يوجب أن لا شيء عليه.
__________
(1) ـ في نسخة: وفيما.
(2) ـ انظر الأحكام 1/242 ـ 243 إلا أنه قال في الناسي: (لا شيء عليه أكثر من الاستغفار وقضاء يوم مكان يومه).
(3) ـ في (أ): النبي.
(4) ـ في (أ): ديناً أو عيناً.
قيل له: إنه يقتضي أن لا إثم عليه، فأما سقوط القضاء، فلا دليل عليه، والإثم قد يسقط(1) وإن لم يسقط القضاء، ألا ترى أن من أكل وهو يحسب أن الفجر لم يطلع، ثم علم أن أكله بعد طلوع الفجر، فإنه يسقط عنه الإثم، ولا يسقط القضاء؟ وعلى هذا يحمل قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( لا شيء عليه )). أي لا إثم عليه. (38/2)
فإن قيل: فقد روي: لا قضاء عليه.
قيل له: أكثر الأخبار فيها: (اللّه أطعمه، وسقاه)، وفي بعضها: (لا شيء عليه)، فأما لا قضاء عليه، فهو لم يرو إلا في خبر واحد، ويحتمل أن يكون الراوي زاد هذا اللفظ على طريق المعنى، حيث اعتقد أن قوله: ([اللّه] (2) أطعمه وسقاه)، وقوله: (لا شيء عليه) يفيد أن لا قضاء عليه، فإذا احتمل ذلك، لم يعترض استدلالنا، على أن من أصحابنا من تأول ذلك على من سبق الشيء إلى حلقه، وهو ساهٍ عنه، وادَعى أنه هو الظاهر؛ لأن قوله: (( من أكل ساهياً ))، كقول من يقول: من أحدث ساهياً، في أنه يفيد أن الحدث سبقه، وعلى هذا لا يصح تعلقهم به.
فإن قيل: روي عنه عليه السلام: (( رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرهوا عليه )).
قيل /126/ له: ظاهر الخبر لا يفيد مذهبك(3)، وإنما يفيد أنهم لا يخطئون، ولا ينسون، وخلاف هذا معلوم، فلا بد من تأويل الخبر، وتأويله عندنا رفع الإثم فيما أخطأوا، أو نسوا، أو استُكرهوا عليه، يبين ذلك أن من أكل بعد طلوع الفجر، أو قبل غروب الشمس، وهو غير عالم بذلك، لا يسقط عنه القضاء، وإنما يسقط عنه الإثم.
__________
(1) ـ في (أ): سقط.
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ في (أ): مذهبكم.
ومما يدل على ذلك قياساً ما أجمعنا عليه من أن الآكل متعمداً يفسد صومه، فكذلك الآكل ناسياً، والمعنى أنه حصل آكلاً(1) في نهار رمضان، أو في نهار صومه، ويقاس على من أكل بعد طلوع الفجر، أو قبل غروب الشمس بهذه العلة، ولا يمكنهم أن يقولوا أن العلة فيما ذكرتم أنه قصد [إلى] (2) الأكل مع ذكره للصوم، وذلك أن الحكم إنما تعلق بالأكل، بدلالة أنه لو قصد إلى الأكل مع ذكره للصوم، ثم لم يأكل، لم يفسد صومه، وإنما يفسد إذا حصل الأكل، فعلمنا أن الحكم ـ الذي هو فساد الصوم ـ وجد بوجود الأكل، وعدم بعدمه، وأصول العبادات تشهد لقياسنا؛ إذ لاخلاف أن الجماع لما كان عمده مفسداً للحج، كان خطأه كذلك، وكذلك الوقوف لما كان تركه عمداً يفسد الحج، كان خطأه كذلك، وكذلك القول في الإحرام، وفي الطهارة. (38/3)
ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن الكلام سهوه وعمده سيان في إفساد الصلاة، وـ أيضاً ـ قد ثبت أن الإنسان مأمور بالإمساك عن الأكل في جميع أجزاء النهار، كما أنه مأمور بإتيان عدد الركعات في الصلاة، فإذا ترك الإمساك في بعض النهار، فسد صومه، كما أنه إذا ترك بعض الركعات، فسدت صلاته، والمعنى أنه ترك بعض عبادة، فساد بعضها فساد كلها، لو تركها عامداً، بطلت تلك العبادة، فوجب أن يستوي فيه السهو والعمد.
فإن قاسوه على من دخل جوفَه ذبابة، أو غبار؛ بعلة أنه غير قاصد إلى إبطال صومه، كان ذلك منتقضاً بمن أكل بعد طلوع الفجر وعنده أن الفجر لم يطلع، أو قبل غروب الشمس، وعنده أن الشمس قد غربت.
فإن قيل: نزيد في العلة بأن نقول وهو غير منسوب إلى التقصير.
__________
(1) ـ في (ب): آكلاً ناسياً.
(2) ـ سقط من (أ).
قيل له: هذا لا يعصم من النقض؛ لأن من أداه اجتهاده إلى أن الفجر لم يطلع، وأكل، لم يكن منسوباً إلى التقصير، غير أن من أكل ناسياً، لا يعرى من ضرب من التقصير، وإن كان معفواً؛ لأن الاحتراز من النسيان ليس بالمستحيل، إذا أخذ الإنسان به نفسه، واستمر على التذكر، وهو ـ أيضاً ـ منتقض بالمكرَه، إذا أكل، وكذلك إن قاسوه على المحتلم بعلتهم، كان الكلام فيه على نحو مامضى، ويقال العلة في أن المحتلم، ومن دخل في حلقه ذباب، أو غبار، لم يفسد صومه؛ لأنه حصل من غير اختيار له، أو لسببه، ويكشف صحة هذه العلة أنه لو حصل مع الاختيار، أفسد صومه، على أن قياسهم لو استنتب(1) لكانت قياساتنا أولى بشهادة الأصول التي ذكرناها، ولأنها تتضمن الاحتياط، والإيجاب. (38/4)
مسألة: [في حكم الكفارة على المفطر عامداً]
فأما ما روي من وجوب العتق، وغيره، على المتعمد لذلك، فهو استحباب، والتوبة مجزئة له.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
ونص ـ أيضاً ـ في (المنتخب) (3) على أن الكفارة غير واجبة، وأن الواجب هو القضاء، والتوبة.
والشافعي /127/ يوافقنا في الآكل متعمداً، وفي الوطء دون الفرجين، ويخالفنا في المجامع.
وأبو حنيفة يخالفنا في المجامع في الفرجين، وفي أكل ما يصلح به الجسم، ويغتذي به، ويوافق في الوطء ما دون الفرجين، وفيمن بلع حصاة، أو نحوها.
ومالك يخالفنا في جميع ذلك، وهو مذهب الإمامية.
وأوجب القاسم عليه السلام الكفارة في المجامع خاصة.
وقول الناصر عليه السلام مثل قول يحيى عليه السلام، وهو قول ابن علية، وابن المسيب، وابن جبير، والنخعي. والأصل فيه براءة الذمة، والكفارات طريقها الشرع، ولم يرد الشرع بوجوبها على ما نبينه، ويدل على ذلك ما:
__________
(1) ـ في (أ) هكذا.
(2) ـ انظر الأحكام 243، 251، 252.
(3) ـ انظر المنتخب 91 وهو بلفظ قريب.
أخبرنا به أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، قال: حدثنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن محمد بن عجلان، عن المطلب بن أبي وداعة، عن ابن المسيب، قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: إني أفطرت يوماً من رمضان. فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( تصدق، واستغفر، وصم يوماً مكانه )) (1). فدل ذلك على أن الواجب فيه هو القضاء، والاستغفار. (38/5)
فإن قيل: ليس في الخبر أنه أفطر متعمداً.
قيل له: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( استغفر ))، يدل على أنه كان متعمداً؛ لأن الاستغفار لا يجب إلا من العمد، فأما الخطأ والسهو، فيكفي فيه القضاء بالإجماع.
فإن قيل: فقد أمره بالصدقة، وأنتم لا توجبونها.
قيل له: الخبر يقتضي وجوب ما يسمى صدقة من قليل أو كثير، وقد أجمع الجميع أن ذلك غير واجب، فوجب أن يكون استحباباً، وهذا مثل ما روي أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه، إني وجدت امرأة، ففعلت بها كل شيء إلا أني لم أجامعها. فقال له: (( توضأ، وصل.. )) إلى آخر الحديث، فلم تكن الصلاة من موجَب ما فعل، وإنما كان حثاً على الخير والطاعة.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في إيجاب الكفارة أخبار كثيرة منها:
حديث أبي هريرة أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً. فقال: لا أجد، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعرق من(2) تمر فقال: (( خذ هذا، فتصدق به )). فقال: يا رسول اللّه، إني لا أجد أحداً أحوج مني إليه. فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى بدت أنيابه، فقال: (( كُلْهُ )).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/340.
(2) ـ في (أ): فيه.
وروي ـ أيضاً ـ عن أبي هريرة أنه قال: بينا نحن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول اللّه، هلكت؟ فقال: ((ويلك ما لك ))؟. قال: وقعت على أهلي، وأنا صائم في رمضان. فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( هل تجد رقبة تعتقها ))؟ قال: لا. قال(1): (( فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ))؟ قال: لا. قال: (( فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً ))؟ قال: لا. قال: فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى أتى بعرق فيه تمر فقال: ((خذ هذا، فتصدق به)). فقال: ما بين لابتيها أفقر من أهل بيتي، فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم قال: ((أطعمه أهلك )). (38/6)
وروي عن مجاهد أنه قال: أَمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الذي أفطر يوماً من رمضان بمثل كفارة الظهار.
قيل له: الكلام في هذه الأخبار من ثلاثة أوجه: أحدها: أن /128/ الأخبار الواردة في هذا الباب تتعارض، وإذا تعارضت، سقطت، وسقط الوجوب المثبَت بها.
والثاني: أنها تقتضي الاستحباب، دون الإيجاب، والوجه الأول ـ أيضاً ـ يفضي إلى هذا الوجه الثاني.
الثالث: أن ذلك حكم المظاهِر، وأن الرجل المأمور بالكفارة كان مظاهراً. ونبين التعارض الذي ذكرناه [في الوجه الول] بوجهين:
أحدهما: أن بعض الأخبار يقتضي التخيير، وبعضها يقتضي الترتيب، وهما متنافيان على ما نبينه:ـ
__________
(1) ـ في في (أ): فقال.
أخبرنا(1) أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يونس:، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رجلاً أفطر في رمضان، في زمن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فأمره النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يُكَفِّر بعتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً. فقال: لا أجد، فأُتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعرق فيه تمر، فقال: (( خذ هذا، فتصدق به )) (2). فقال: يارسول اللّه، إني لا أجد أحداً أحوج إليه مني، فضحك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: (( كُلَّه )). فهذا الخبر قد جعل للمفطر التخيير. (38/7)
أخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الحديدي، قال: أخبرنا أبو زرعة الرازي، قال: حدثنا ابن أبي بكير، قال: حدثنا مالك، عن ابن شهاب.. الحديث إلى قوله: (( بدت أنيابه )).
__________
(1) ـ في (ب): وأخبرنا.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/60.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن حميد، عن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بينا نحن عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول اللّه، هلكت. فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ويلك، ما لك ))؟ فقال: وقعت على امرأتي، وأنا صائم في رمضان. فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( هل تجد رقبة تعتقها ))؟ قال: لا. فقال(1): ((هل(2) تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ))؟ فقال: لا. قال: (( فهل تجد أن تطعم ستين مسكيناً))؟ فقال: لا. فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فبينا نحن كذلك إذ أُتِي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعرق فيه تمر والعرق الْمِكْتَل فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أين السائل آنفاً، خذ هذا، وتصدق به )) (3)ا. فقال الرجل: ما على وجه الأرض أفقر مني يا رسول اللّه، فوالله ما بين لابتيها أفقر من أهل بيتي، فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: ((أطعمه أهلك )). فصار هذا الخبر يقتضي الترتيب، ويوجبه، فلما كان أحد الخبرين موجباً للترتيب، ووجوبه مانع(4) من التخيير، والخبر الثاني موجباً للتخيير، ووجوبه مانع من الترتيب، وكان لا يصح أن يجامع التخييرُ المنَع منه، ولا أن يجامع الترتيب، المنعَ منه، حصل التعارض. (38/8)
__________
(1) ـ في (أ): قال.
(2) ـ في (أ): فهل.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/60 ـ 61، وفيه عن حميد بن عبد الرحمن وهو الصواب، وقد تقدم في الحديث السابق، هكذا، وفي متنه، فهل تجد إطعام، وأيضاً فقال الرجل أعلى أهلٍ أفقر مني يا رسول الله فوالله، وأيضاً يجيب بقوله؛ لا والله يا رسول الله.
(4) ـ في (أ): مانعاً.
فإن قيل: حصول التعارض في أوصاف الحكم لا يوجب(1) حصوله في الحكم. (38/9)
قيل له: إذا لم يصح حصول الحكم إلا مع تلك الأوصاف، فما منع حصولَها، منع حصول الحكم بحصول التعارض في الأوصاف التي ذكرناها كحصوله في الحكم.
والوجه الآخر الموجب للتعارض هو أن المنقول إليه عن(2) العتق هو الصيام في الخبر الذي ذكرناه، وقد روي خلاف ذلك:ـ
أخبرنا أبو العباس الحسني قال: أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، قال: أخبرنا علي بن عبدالعزيز، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا /129/ حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب، أن أعرابياً أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو ينتف شعره ويضرب بصدره ويقول: هلكت. قال: (( ما أهلكك ))؟ قال: وقعت على أهلي، وأنا صائم. قال: ((اعتق رقبة )). قال: لا أجد. قال: (( اهدِ هدياً )). قال: لا أجد. قال: (( اجلس، فجلس، فجاء أعرابي بِمكْتَل فيه نحو عشرين صاعاً من تمر فقال: هذه صدقة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( خذه، فتصدق به )). فقال الأعرابي: ما لأهلي من طعام. فقال: (( خذه، وأطعمه أهلك )).
__________
(1) ـ في (ب): يجب.
(2) ـ في (أ) و (ب): على، وما أثبتناه ظنن عليه في الهامش.
وأخبرنا أبو العباس الحسني قال: أخبرنا ابن سدوسان، قال: حدثنا [أبو] (1) حاتم الرازي، قال: حدثنا ابن نفيل، وعبد الله بن مروان، قالا: حدثنا موسى بن أعين، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إني أتيت أهلي في رمضان، من غير سفر، ولا مرض. قال: (( بئس ما صنعت، أعتق رقبة )). قال: لا أجد رقبة. قال: (( انحر بدنة )). قال: لا أجد. قال: (( تصدق بعشرين صاعاً من تمر )). قال: ما هو عندي. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( هو عندنا، فنحن نعطيك، فأمر له بعشرين صاعاً من تمر، أو بواحد وعشرين صاعاً من تمر )). وقال(2): ((تصدق بهذا)) قال: <على مَن يا رسول اللّه؟ ما بين لابتيها أفقر مني، ومن أهل بيتي. قال: (( فاذهب، فهو لك، ولأهل بيتك )). فصار المنقول إليه عن العتق في هذين الخبرين هو النحر، وليس فيهما ذكر الصيام، ولا إطعام ستين مسكيناً، وقد علمنا أن النقل عن العتق إلى الصيام يمانع النقل إلى النحر، فصح ـ أيضاً ـ بهذا ما ذكرناه من التعارض. (38/10)
فإن قيل: فالأخبار متفقة على وجوب الرقبة.
قيل له: لا خلاف بيننا وبين الفقهاء في أن وجوب الرقبة على من قدر عليها، كوجوب الصيام على من لم يقدر على الرقبة، وقدر على الصيام؛ لأن من مذهبهم إثبات وجوبهما(3)، ومن مذهبنا نفيه، فإذا سقط وجوب الصيام لتعارض الأخبار، سقط وجوب الرقبة؛ لأنه كوجوب الصيام، على أنه قد روي الصدقة بغير ذكر الرقبة، ولا البدنة.
__________
(1) ـ سقط من (أ) و (ب): ولكن سيأتي ذكره هكذا قريباً.
(2) ـ في (أ): فقال.
(3) ـ في هامش (ب): وجوبها.
أخبرنا بذلك أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن علي بن شيبه، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عباد بن عبد اللّه بن الزبير، عن عائشة أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وذكر أنه احترق، فسأله عن أمره فقال: وقعت على امرأتي في رمضان. فأُتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بمكيل ـ يدعى العرق ـ وفيه تمر، فقال: (( أين المحترق ))؟ قال: (( تصدق بهذا )) (1) . (38/11)
فكل ذلك يكشف حصول التعارض، والتنافي في الموجب.
فإن قيل: فقد أجمعوا على ترك الخبر الذي فيه الانتقال عن العتق إلى البدنة، وترك الخبر الذي يوجب الاقتصار على الصدقة.
قيل له: ليس الأمر على ما ذكرت، فقد روي عن الحسن أنه كان يأخذ بالخبر الذي فيه العدول إلى البدنة.
وذكر الطحاوي(2) في (شرح الآثار) أن قوماً قالوا: لا يجب من الكفارة غير الصدقة، وأخذوا بالخبر الذي رويناه أخيراً، ونحن لا نسقط شيئاً من هذه الأخبار، ونحملها على الاستحباب؛ لما بيناه من امتناع حصول الوجوب، للتعارض وغير ذلك مما نبينه(3) من بعد.
والوجه الثاني: ماذكرناه مِن أن في الأخبار ما يدل على أن المذكور فيها طريقه الاستحباب، دون الإيجاب، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي الذي أتاه:/130/ ((كله أنت، وعيالك ))، وفي بعض الأخبار: (( كلْه ))، وفي بعضها: (( كله، واستغفر الله )).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/95.
(2) ـ انظر شرح معاني الآثار 2/60.
(3) ـ في (أ): يثبت.
ولاخلاف أن من وجب عليه إخراج حق إلى الفقراء، لا يجوز له أكله، فلما أذن له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في أكل ما كان أَمَره أن يتصدق به، عُلم أنه لم يكن واجباً، وأنه كان مستحباً و ـ أيضاً ـ لما قال: (( كله، واستغفر اللّه ))، كان ذلك أمراً بالاستغفار، وأذناً بالأكل لِمَا كان أمَره بالتصدق به، فدل ذلك على أنه لم يجب عليه [إلا] (1) الاستغفار. (38/12)
فإن قيل: وقد روي في الظهار مثل هذا، ولم يدل ذلك على أن كفارة الظهار غير واجبة.
قيل له: لو خُلينا وظاهر ما روي فيه، لقلنا أن الكفارة فيه استحباب، كما قلنا فيمن أفطر في شهر رمضان، لَكِنَّا قلنا بإيجابها؛ للدلالة التي دلت عليه من غير ذلك الخبر.
والوجه الثالث: من الكلام فيها ما روي أن الرجل كان مظاهراً، وأن الكفارة كانت كفارة الظهار؛ بدلالة ما:
روي عن سلمة بن صخر قال: كنت امرء أصيب(2) من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان، ظاهرت من امرأتي إلى انسلاخه، فبينا هي تخدمني؛ إذ انكشف ساقها، فلم ألبث أن نزوت عليها، فجئت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال لي: ((حرر رقبة.. )) الحديث.
ويدل على ذلك ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى قال: أخبرني ابن سدوسان، قال: حدثنا أبو حاتم الرازي، قال: حدثنا يحيى الحماني، قال: حدثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر الذي أفطر في رمضان بكفارة الظهار، فدل ذلك على أن الكفارة كانت للظهار، وأن الرجل كان مظاهراً؛ إذ لا يؤمر بكفارة الظهار إلا المظاهر، وفيه دلالة على أن الكفارة لا تجب بإفساد الصوم، ولو وجبت، لأمر بكفارة أخرى، ولم يقتصر على كفارة واحدة، التي كانت للظهار.
فإن قيل: ففي الحديث على أن الكفارة وجبت للوقوع على أهله.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ في (أ): أصيبت.
قيل له: لسنا ننكر ذلك، وإنما الخلاف أنه كان هتك حرمة الصوم بالوقوع على أهله، أو لأنه حنث فيما ألزم نفسه بالظهار بوقوعه على أهله، وإذ قد روي ذلك، فما ذهبنا إليه أولى؛ لأنا لا نخرجه من أن يكون وطئاً صادف رمضان، وعلى ما يذهبون إليه، قد منعتم أن يكون وطئاً صادف الظهار، وقد روي ذلك. (38/13)
وـ أيضاً ـ ليس يخلو ما روي من الكفارة ـ إن لم يكن للظهار ـ من أن يكون على طريق الاستحبابُ أو طريق القضاءُ أو طريق الكفارة، ولا يجوز أن يكون على طريق القضاء؛ إذ القضاء هو يوم مكان يوم بالإجماع، ولا يجوز أن يكون على سبيل الكفارة لما روى أبو هريرة ـ وقد مضى إسناده ـ عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من أفطر يوماً من شهر رمضان من غير رخصة، لم يجزه صيام الدهر )) فإذا بطل الوجهان، ثبت الثالث، وهو ما ذكرنا من الاستحباب.
وأيضاً ما قالو ليس يخلو من أن يكون موجَب الإفطار، أو موجب الهتك، فلا يجوز أن يكون موجَب الإفطار؛ إذ لاخلاف أن المعذور بالإفطار لا يلزمه ذلك، ولا يجوز أن يكون موجَب الهتك على مذهب الجميع؛ لأن أبا حنيفة لا يوجبه لو هتك بابتلاع الحجر، وما أشبهه، أو بإتيان البهيمة، أو بإتيان بني آدم فيما دون الفرجين، والشافعي لا يوجبه لو هتك بالأكل، والإنزال باللمس، ومالك لا يوجبه لو هتك بتكرير النظر إلى أن ينزل، فإذا فسد الأمران، ثبت أنه استحباب، على أن كل هتك لم يوجبوا به الكفارة، يمكن أن يجعل /131/ أصلاً يقاس عليه ما أوجبوا فيه؛ بعلة أنه هتك لحرمة الصوم لغير عذر، فوجب أن لا يلزمه غير التوبة مع القضاء، وـ أيضاً ـ قد ثبت أن الصوم عبادة لا يختص بالحرم، فوجب أن لا يكون على من تركه متعمداً غير القضاء، والتوبة قياساً على الصلوات.
ويمكن أن يقال: إنه فرض، ليس على من أفسده ناسياً كفارة، فكذلك من أفسده متعمداً، قياساً على الصلوات والزكوات.
مسألة: [فيمن يقبل أو ينظر أو يلمس فيمني أو يمذي]
قال: ومن قَبَّل، أو نظر، أو لمس، فأمنى، فليس عليه أكثر من القضاء، والتوبة، وإن أمذى، استحب له القضاء. (38/14)
قال(1) في (الأحكام) (2): من قبل، أو نظر، أو لمس، فأمنى، فليس عليه أكثر من القضاء، والتوبة.
ونص في (المنتخب) (3) على إيجاب القضاء على من أمنى من النظر.
فدل ذلك على إيجابه القضاء على من قبل أو لمس فأمنى؛ إذ اللمس والقبلة ألذُّ في ذلك من النظر. وقلنا: فسد صومه؛ لأن إيجاب القضاء لا يكون إلا مع إفساد الصوم.
ونص ـ أيضاً ـ في (المنتخب) (4) على أن القضاء مستحب لمن أمذى.
و[ذهب] (5) عامة الفقهاء على(6) أن الإنزال بالقبلة، واللمس، يفسد الصوم.
ووجهه ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ قال: حدثنا الطحاوي، عن علي بن معبد، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا إسرائيل، عن زيد بن حصين، عن أبي يزيد الضبي، عن ميمونة بنت سعيد، قالت: سئل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن القبلة للصائم، فقال: (( أفطرا جميعاً )) (7)ا.
__________
(1) ـ في (أ): وقال.
(2) ـ انظر الأحكام 1/252 كما ذكره فيه 1/243 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 92 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ 92 والذي فيه: (وقد قال غير أنه لا يجب القضاء في المذي، وأما أنا فأحب له أن يقضي).
(5) ـ سقط من (ب).
(6) ـ في (أ): إلى.
(7) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/88 وفيه زيد بن جيد، ميمونة بنت سعد.
فدل الخبر على فساد الصوم من كل قبلة، فلما ثبت بالأخبار المستفيضة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان يقبِّل، وهو صائم، وأنه أباحها لمن لم يَخَفْ إفساد صومه، خَصت القبلة التي لا إنزال معها، وبقيت القبلة التي معها الإنزال، فوجب أن يقع بها الإفطار، وأيضاً قد نبه على ذلك، نهيه صلى اللّه عليه وآله وسلم الشاب عنها، وأباحها للشيخ؛ لأنا لو لم نقل ذلك، كان الخبر لا فائدة له، ألا ترى أن من كان الغالب من أمره أنه لا ينزل من القبلة أباحها له وحظرها على الشاب إذ لم يأمن أن يقع الإنزال بها، ولم يفصل أحد في هذا الباب بين اللمس والقبلة، فيجب أن يكون حكمها حكمه. (38/15)
ومما يعتمد في فساد صوم من أمنى عن قبلة، أو نظر(1) أو لمس، ما أجمعنا عليه فيمن أتى أهله فيما دون الفرجين، فأنزل أنه يفطر، فكذلك يفطر من أنزل من قبلة، أو نظر، أو لمس، قياساً عليه، والمعنى أنه أنزل مختاراً، فعل سببه، فإن ألزموا عليه من فكر، فأنزل، فلا نص عليه لأصحابنا، وليس يبعد(2) أن يقول أنه إذا فكر مختاراً للفكر حتى أنزل، فسد صومه، على أنا لو أردنا الاحتراز منه لقلنا: أنزل مختاراً، بسبب من أفعال الجوارح، ولا يبعد أن يقال إن أفعال القلوب لا تأثير لها في إفساد العبادات، وإن كان لها تأثير في صحتها في بعض المواضع، كالنية فيما هي شرط في صحته، على أن الحسن، ومالكاً، يوافقان في الإنزال بالنظر، والخلاف فيه بيننا وبين أبي حنيفة، والشافعي.
ويؤكد علتنا للنظر ما:
روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( العينان تزنيان، واليدان تزنيان )) ويصدق ذلك، ويكذبه الفرج، فنبه على أن حكم العينين حكم اليدين في استدعاء الشهوة.
فإن قال من خالف في الإنزال عن النظر أن العلة في القبلة واللمس وإتيان ما دون الفرجين أنه استدعاء الإنزال بالمباشرة.
__________
(1) ـ في (أ): نظرة.
(2) ـ في (أ): ببعيد.
قيل له: علتكم لا تنافي علتنا، فنقول /132/ بهما(1)، وتكون علتنا أعم وأرجح؛ لأن اختيار السبب مراعى عندهم؛ لأنه لو وقع ذلك في النوم لم يفسد صومه. (38/16)
ووجه قولنا أن القضاء مستحب في المذي ما:
روي من نهي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الشاب عن القبلة، والأغلب في الشاب أنه إذا قبل أمذى، فأما الإمناء، فهو نادر، فلولا أن للمذي تأثيراً ما في الصوم لم ينهه صلى اللّه عليه وآله وسلم من غير تقييد بالأمر النادر، وهو الإمناء.
فإن قيل: فمن الجائز أن لا يمذي، ومع ذلك فلم يقيده بالمذي.
قيل له: الأغلب من حال الشاب أنه يمذي، فكان العرف الغالب مغنياً عن التقييد، وـ أيضاً ـ وجدنا للعبادات التي يؤثر فيها المذي تأثيراً دون ذلك التأثير من جنسه، ألا ترى أن خروج المني لما أوجب الاغتسال، كان خروج المذي موجباً للوضوء؟
وقال أصحابنا في المحرِم إذا قبل، فأمنى أن عليه بقرة، وإن(2) أمذى، ولم يمنِ، فعليه شاة، فلما كان ذلك كذلك، وكان خروج المني من القبلة يوجب القضاء، قلنا: إن خروج المذي يجعل القضاء مستحباً؛ ليكون له تأثير دون تأثير المني في الصوم.
فإن قيل: لا يخلو صوم الذي يمذي من أن يكون صحيحاً، أو فاسداً، فإن كان فاسداً أوجب(3) القضاء، وإن كان صحيحاً فلا معنى للقضاء، ولا مساغ إذاً لاستحباب القضاء فيه.
قيل له: لا يمتنع أن يكون الصوم صحيحاً، ويكون قد عرض فيه ما أوجب النقض، فيجبر بالقضاء، كما تجبر الصلاة بسجدتي السهو، وكما يجبر حج المتمتع بالهدي، وإن كان صحيحاً، وليس لأحد أن يقول: إن جبر الحج واجب، فيقولوا في جبر الصوم: أنه واجب، وذلك [أنه] (4) لا يمتنع أن يختلف حال الجبر، وإنما كان غرضنا أن نبين أن الصحيح قد يجبر(5) لأمر يعرض فيه.
مسألة: [في من يصبح جنباً في رمضان]
__________
(1) ـ في (أ): فقول لهما وتكون علتنا.
(2) ـ في (أ): فإن.
(3) ـ في (أ): وجب.
(4) ـ سقط من (أ).
(5) ـ في (ب): انجبر.
قال: ومن أصبح جنباً، لم يفسد صومه، سواء أصبح ناسياً، أو متعمداً، من جماع، أو احتلام. (38/17)
نص في (الأحكام) (1) على أن من أصبح جنباً في شهر رمضان، فلا شيء عليه، وروى عن جده القاسم عليه السلام أنه يجزئه صومه، واحتج بحديث أم سلمة رضي الله عنها.
وقلنا: يستوي فيه النسيان، والتعمد؛ لأن عموم قوله يقتضيه، ولأن أصوله تدل على ذلك؛ لأنه لا يفصل فيما يفسد الصوم بين العمد والخطأ، وكذلك الجماع، والاحتلام، يستويان بعموم(2) قوله، سيما واستشهاده بحديث أم سلمة، وفيه الجماع. وهو قول عامة الفقهاء، والإمامية تخالف فيها.
ووجه قولنا أنه تعالى أباح الجماع في جميع الليل بقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ..} إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ومن استوفى الليل جماعاً، حصل اغتساله في بياض النهار، فلو كان تأخير الغسل إلى الصباح يمنع من جواز الصوم، لم يصح أن يكون الجماع مباحاً في الليل كله أجمع، وفي كونه مباحاً في الليل كله أجمع دلالة على أن تأخير الغسل إلى الصباح لا يفسد الصوم.
ويدل على [صحته](3) الحديث الذي استدل به يحيى عليه السلام وهو ما:
رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه /133/ عليه وآله وسلم ورأسه يقطر، فصلى بنا الفجر في شهر رمضان، وكانت ليلة أم سلمة، فأتيتها، فسألتها، فقالت: نعم، كان جمعاعاً من غير احتلام، فأتم صوم ذلك اليوم، ولم يقضه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/245 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): لعموم.
(3) ـ في (أ) و (ب): صحة، وما أثبتناه في هاش (أ) و (ب).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا ابن وهب أن مالكاً أخبره عن عبد اللّه بن معمر الأنصاري، عن أبي يونس ـ مولى عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ـ أن رجلاً قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو واقف على الباب، وأنا أسمع ـ: يا رسول اللّه، إني أصبح جنباً، وأنا أريد الصوم. فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( وأنا أصبح جنباً، وأنا أريد الصوم، فَأَغْتَسِلُ، وأصوم )). فقال: يارسول اللّه، لست كمثلنا، قد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر! فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: (( والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتَّقِي )). فدل ذلك على صحة ما ذهبنا إليه(1). (38/18)
فإن قيل: روي عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( من أصبح جنباً، فلا صوم له )) .
قيل له: قد قال بعض الناس أن الاحتجاج بهذا الخبر لا يصح، وذلك أن في الحديث أن عائشة أنكرت ذلك لما بلغها، وقالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يصبح جنباً من غير احتلام، ثم يصوم يومه، فلما سمعه أبو هريرة، قال: كنت أسمع من الفضل بن العباس، فأحال الخبر على الميت بعد ما رواه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وهذا الطعن غير سديد ولا واقع؛لأن أكثر ما فيه أنه أسنده بعد الإرسال، والصحيح أن يقال في تأويله أن المراد بقوله: من أصبح جنباً؛ من أصبح مخالطاً بدلالة سائر ما اعتمدناه.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أن الجنابة من حيث كانت جنابة لا تنافي الصوم،ألا ترى أن من احتلم في نهار الصوم لا يفسد صومه؟ مع حصول الجنابة، فإذا كان ذلك كذلك، وكان [من] (2) أخر الغسل إلى حين الصبح، لم يكن أكثر من حصول الجنابة له في نهار الصوم، فوجب أن لا يفسد صومه.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/106.
(2) ـ سقط من (أ).
ويمكن أن يورد ذلك على طريق القياس بأن يقال: إنه حصول جنابة من غير اختيار فِعلِ سببها في حال الصوم، فوجب أن لا يفسد صومه؛ قياساً على الاحتلام نهاراً. (38/19)
أو يقاس على من بدره القيء، بمعنى أن طروه على الصوم لا يفسده، فوجب أن لا يفسد الصوم بطروه عليه، وكذلك الجنابة، ويمكن أن يقاس على الحيض؛ بعلة أنه موجب للغسل، فوجب أن يستوي حكم طروه على الصوم، وطرو الصوم عليه، فكذلك الاجتناب.
مسألة: [فيمن أفطر وهو شاك في غيببوبة الشمس أو تسحر وهو شاك في طلوع الفجر]
قال: ومن أفطر وهو شاك في غيبوبة الشمس، فقد أفسد صومه، ويلزمه القضاء إلا أن ينكشف [له] (1) أن إفطاره كان بعد غيبوبة الشمس، ومن تسحَّر وهو شاك في طلوع الفجر، لم يفسد صومه إلا أن يتبين له أن تسحره كان بعد طلوع الفجر.
قد نص في (الأحكام) (2) أن القضاء يلزم من أفطر، ولم يتحقق غروب الشمس، وأن من تسحر وعنده أن الفجر لم يطلع ثم استبان له أن الفجر كان طلع وقت تسحره، فعليه القضاء.
وروى عن جده القاسم عليه السلام أن من تسحر وهو شاك في طلوع الفجر، فلا قضاء عليه، ما لم يعلم أن الفجر /134/ صادف تسحره.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ انظر الأحكام 1/248 وهو بلفظ قريب.
والأصل في ذلك أن من أكل شاكاً في غروب الشمس، فإن كان حصل له يقين بأنه نهار، فاليقين(1) لا يزول حكمه بالشك، ويكون سبيله سبيل من شك في انسلاخ شهر رمضان، ودخول العيد، في أن عليه أن يصوم حتى يتحقق ذلك، وإذا وجب عليه الصوم، فأفطر، يكون عليه القضاء، ولأنه أكل في وقت يلزمه الصوم فيه، فوجب أن يكون مفسداً للصوم، قياساً على من أكل قبل ذلك، وليس لأحد أن يقول إنه لم يجب عليه في ذلك الوقت للشك؛ لأن الشك إذا طرأ على اليقين لم يُزِل حكم اليقين، ألا ترى أن المحدث إذا شك في الطهارة، يكون محدثاً، والمتطهر إذا شك في الحدث، يكون متطهراً، وكذلك القول في النكاح، والطلاق، والعتاق، وغير ذلك، فوجب أن يكون كذلك حكم الشاك في غيبوبة الشمس، فإن بان له بعدما أكل أن الشمس كانت غابت حين أكل لم يفسد صومه؛ لأن سبيله سبيل من أفطر وهو شاك في العيد، ثم بان له أنه أفطر يوم العيد، في أنه لا قضاء عليه، ولأنه يتبين أنه أكل ليلاً، وأنه قد أتم صومه. (38/20)
فأما من تسحر وهو شاك في الفجر، فلا يفسد صومه؛ لأن الليل متيقن، والفجر مشكوك فيه، وقد بينا أن الشك لا يزيل حكم اليقين، وأن سبيله سبيل من أكل في يوم الشك، في أنه لا يلزمه القضاء مالم يتبين أنه كان يوم الصوم، فإن بان له أنه كان الفجر قد طلع، لزمه القضاء؛ لأنه يكون قد أكل نهاراً، أو يكون سبيله سبيل من أكل في يوم الشك، ثم بان له أنه كان من رمضان، في أن عليه القضاء.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إن القضاء لا يلزمه؛ لأنه تسحر، وهو لا يعلم بطلوع الفجر، وهو غير مخاطَب بالصوم فيه، وذلك أن اللّه تعالى أمر بالصوم مَن عَلِم طلوع الفجر، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخِيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ومن لم يتبين له ذلك، لا يكون مخاطباً بالصوم؟
__________
(1) ـ في (أ): واليقين.
قيل له: ليس المراد أن يتبين ذلك لكل أحد على الانفراد، ألا ترى أن المحبوس في الظلمة قد لا يتبين له ذلك، ولا يزول عنه حكم الفرض، أداء، أو قضاء، وكذلك الضرير وإنما المراد أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في نفسه. (38/21)
كما روي عن عدي بن حاتم أنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: إني وضعت عند رأسي عقالاً أبيض، وعقالاً أسود، فآكل حتى يتبين لي الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فعرَّفه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن المراد بذلك حتى يتبين الليل من النهار، على أن زوال الخطاب بالصوم، لا يمنع وجوب القضاء، ألا ترى أن الحائض غير مخاطبة بالصوم وكذلك العاجز عنه بالمرض، ومع ذلك فعليهما القضاء، وكذلك الإنسان غير مخاطب بالصوم في يوم الشك، ما لم يتبين له أنه من رمضان، فإن بان له ذلك بعد، كان عليه القضاء، وكذلك المتسحر مع طلوع الفجر؛ لأنه لم يكن مخاطباً بالصوم، مالم يتبين له طلوع الفجر، فإن عليه القضاء إذا بان له أنه تسحر مع طلوع الفجر؛ لأنه حصل آكلاً في نهار شهر رمضان.
مسألة: [في الحجامة للصائم]
قال: (ولا بأس بالحجامة للصائم إذا أمن على نفسه ضعفها).
وهذا منصوص عليه في /135/ (الأحكام) (1).
والأصل فيه ما:
روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ثلاث لا يفطرن الصائم، القيء، والحجامة، والاحتلام )) .
وأخبرنا محمد بن العباس الطبري، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا محمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد اللّه بن إدريس، عن يزيد بن(2) مقسم، عن ابن عباس، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم احتجم بين مكة والمدينة صائماً مُحرِماً(3).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/242.
(2) ـ في (أ): عن.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/307 وفيه يزيد عن مقسم.
وروى الطحاوي ـ بإسناده ـ عن الشعبي أن الحسين بن علي عليهما السلام احتجم، وهو صائم(1). (38/22)
فإن قيل: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه رأى رجلاً، وهو يحتجم في شهر رمضان، فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم له)).
قيل له: يحتمل أن يكون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ذلك في حاجم ومحتجم بعينهما، ويكون ذكر الحجامة للتعريف، لا لتعلق الحكم بها، كما قال للراكب، والجالس، وما جرى مجراه.
وكما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( ولد الزنا شر الثلاثة )) وهذا للتعريف، لا لأن كونه ولد الزنا يوجب أن يكون شر الثلاثة، وكذلك الحاجم والمحجوم يحتمل أن يكون وقع منهما ما أوجب الإفطار. فقال: أفطر الحاجم والمحجوم.
وقد قيل: إنهما كانا يغتابان، فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم فيهما ذلك، رواه الطحاوي يرفعه إلى أبي الأشعث الصنعاني(2).
وروى أبو بكر الجصاص في (شرحه) بإسناده ما دل على أنه منسوخ، وذلك أنه قال: مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صبيحة ثماني عشرة من رمضان برجل، وهو يحتجم، فقال: (( أفطر الحاجم والمحجوم [له] (3) )). .... فقال: إذا تَبَيَّغ أحدكم الدم فليحتجم.
وروي عن أبان بن أبي عياش، عن أنس، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( أفطر الحاجم والمحجوم[له] (4) )) فشكى الناس الدم، فرخص للصائم أن يحتجم.
فإن قيل: وقوع الرخصة للعذر لا توجب سقوط القضاء، وأن الصوم لم يفسد.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/101 وفيه أن الحسن بن علي (ع): وليس الحسين.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/99.
(3) ـ زيادة في (أ).
(4) ـ زيادة في (أ).
قيل له: إطلاقه القول بأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم رخص للصائم أن يحتجم من غير ذكر القضاء يدل على أن الحجامة لا تفسد الصوم؛ لأن إفساد الصوم للعذر، كان معلوماً قبل ذلك، فكانت فائدة الترخيص إسقاط القضاء، وبيان أنها لا تفسد الصوم، ولا خلاف أن الفصد لا يفسد الصيام، فكذلك الحجامة، والعلة أنه خروج دم لا يوجب الاغتسال، أو خروج دم لا يختص النساء، ويقاس بهذه(1) العلة على الرعاف، ويرجح بسائر(2) ما يخرج من البدن من النجاسات وغيرها في أنها لا تفطر الصائم. (38/23)
وقلنا: إنه إذا لم يَخَفْ الضعف، لما روي عن ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأنس أنهم قالوا: إنما كرهت الحجامة للصائم من أجل الضعف.
وروى ذلك عنهم الطحاوي(3) بأسانيده. ولأن على الإنسان أن يوقي نفسه المضار ما أمكن، قال اللّه تعالى: {وَلا تُلْقُوا بَأَيْدِيْكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
مسألة: [في الكحل، والذرورة، والحقنة، وصب الدهن في الأذن، والأهليل، والسعوط]
قال: ولا بأس للصائم بالكحل، والذرورة، والحقنة، وصب الدهن في الإحليل والأذن، ويكره السعوط؛ لأنه ربما صار إلى الحلق.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (4).
والأصل عند يحيى عليه السلام في الصيام أنه لا يفسد إلا بالجماع، أو بالإنزال إذا فُعِل سببه مختاراً له، وبالأكل، والشرب، وما جرى مجراهما، فعلى هذا إن كل واصل إلى الجوف من جهة الحلق مفسد للصوم إذا فعله الصائم مختاراً له، أو لسببه، وما عداه لا يفسد الصوم.
ومذهب أبي حنيفة على ما حصله أبو بكر الجصاص أن كل واصل إلى الجوف /136/ يفسد الصوم، وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة: صب الدهن في الإحليل لا يفسد الصوم؛ لأنه لا يصل إلى الجوف.
__________
(1) ـ في (أ): لهذه.
(2) ـ في (أ): سائر.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/100.
(4) ـ انظر الأحكام 1/251 ـ 252 وهو بلفظ قريب.
وقول أبي يوسف ومحمد: أنه لا يفسده إلا ما وصل إلى الجوف من المجاري المعهودة، والحجة لذلك قول اللّه تعالى: {عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُوْنَ أَنْفُسَكُمْ..} الآية، فنبه بالآية على إباحة ما كان محظوراً إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وَذكَر المباح، وهو الجماع، والأكلُ والشرب، فدل على أن الممنوع بالصوم هو ما أباحه ليلاً بالآية، دون ما سواه، ثم قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصَّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} والصيام هو الإمساك المخصوص، فكان الإمساك المراد، هو الإمساك عما تقدم ذكره. (38/24)
فأما الكحل فقد روى أبو بكر الجصاص بإسناده في (الشرح) يرفعه إلى محمد بن عبد اللّه بن رافع، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يكتحل بالإثمد، وهو صائم. وهو مما لا خلاف فيه بين الفقهاء.
فإن قيل: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( بالغ في الإستنشاق، إلا أن تكون صائماً )) يدل على أن وصول الماء إلى الدماغ يفسد الصوم، لولا ذلك لم يكن فيه فائدة.
قيل له: هذا لو لم يكن للأنف مجرى إلى الحلق، فأما وقد علمنا أن له مجرى إلى الحلق، كما أن له مجرى إلى الدماغ، فلا يمتنع أن يكون صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ذلك؛ لئلا يصل الماء إلى الحلق، ثم إلى الجوف، فيكون ذلك فائدة الخبر، ونحن نقول: إن ما وصل من الحلق إلى الجوف على هذا الوجه يفطر، ولا خلاف أن الكحل لا يفطر، وعند أبي حنيفة صب الدهن في الإحليل لا يفطر، فنجعل ذلك أصلاً، ونقيس عليه سائر ما اختلفنا فيه؛ بعلة أنه واصل إلى باطن الجسد لم يجر في(1) الحلق، ولا أوجب الاغتسال، فيجب أن لا يكون له مسرح في إفساد الصوم، ولا خلاف أن الفصد لا يوجب الإفطار، فيقاس عليه ما اختلفنا فيه بالعلة التي ذكرناها.
__________
(1) ـ في (أ): إلى.
وذكر أبو عبد اللّه البصري في شرحه (مختصر الكرخي) أن من طعن بالرمح، حتى وصل إلى جوفه متى لم يفارق الزج الرمح، لم يوجب الفطر، ويمكن أن يجعل ذلك أصلاً، فيقاس عليه إذا كان الكلام معهم، وهو ينقض اعتلالهم بالوصول إلى الجوف علينا، وعلى أبي يوسف، ومحمد. (38/25)
إذا كان كلامنا مع أبي يوسف ومحمد، يكون كلامنا أظهر؛ لأنهم يسلمون أن ما وصل إلى الجوف من غير المخارق التي هي خلقة، لم يفطر، فيقيس تلك المخارق على غيرها من المنافذ؛ بعلة أنها ليست مجرى الطعام والشراب.
ووجه كراهة السعوط، هو أنه صار إلى الحلق، ووصل إلى الجوف، فأفسد الصوم، ويدل على ذلك قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )).
مسألة [في الصائم يقئ]
قال: ومن قاء، أو بدره قيئه، لم يفسد صومه، إلا أن يرجع من فيه شيء إلى جوفه، فإن ذلك يفسده.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
أما من بدره القيء، فلا خلاف أن صومه لا يفسد، ومن تقيأ، ورجع منه شيء إلى جوفه، فلا خلاف في فساد صومه. وإنما الخلاف إذا تقيأ ولم يرجع منه شيء، فإنه عندنا لا يفسد صومه، وذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يفسد صومه، وروي عن عكرمة نحو قولنا.
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عنه أنه قال: ((الإفطار مما دخل وليس مما خرج)) (2).
والأصل في ذلك قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء، والحجامة، والاحتلام ))، فكان ذلك عاماً في كل قيء، سواء بدره، أو تعمده.
فإن قيل: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( من بدره القيء، وهو صائم، فليس عليه قضاء، وإن استقاء، فليقض )). وروي نحوه عن علي عليه السلام.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 12/253 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/298 وإسناده حدثنا هشيم عن حصين، به.
قيل له: ظاهر الخبر لا دلالة فيه على موضع الخلاف؛ لأن الاستقاء هو /137/ استدعاء القيء، ولا خلاف أن استدعاء القيء لا يفسد الصوم، وإنما الخلاف في القيء الذي يخرج بالاستدعاء، وهو لا ذكر له في الخبر، فلم يصح لكم التعلق بظاهر الخبر. (38/26)
فإن قيل: مذهبكم يخرج الخبر عن أن يكون له فائدة.
قيل له: لا يجب ذلك؛ لأنا نذكر للخبر فائدة، وهي أنا نقول أن القيء إذا خرج بالاستدعاء، وإكراه النفس عليه، فالأغلب أن لا يسلم(1) من رجوع بعضه في الحلق، وذلك عندنا يوجب القضاء، وتقدير الكلام أن نقول: من استقاء، ورجع شيء من القيء إلى جوفه، فسد صومه، على أن الذي تقتضيه أصولنا أن من بدره القيء، ثم رجع منه شيء إلى جوفه، من غير أن يكون اختاره الصائم، أو اختار سببه، أنه لا يفسد صومه، فيكون وجه التفرقة بين من قاء وبين من استقاء من هذا الوجه.
فإن قيل: فكيف صار استعمالكم لخبرنا على الوجه الذي ذكرتموه أولى من استعمالنا خبركم؟
قيل له: خبركم لا ذكر فيه، للمختلف فيه ولا بد من ضمير فيه، فصار استعمالنا أولى من استعمالكم.
فإن قيل: روى معدان بن طلحة، أن أبا الدرداء حدثه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قاء، فأفطر، قال: فلقيت ثوبان مولى رسول اللّه(2) صلى اللّه عليه وآله وسلم في مسجد دمشق، فذكرت له ذلك، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه.
قيل له: ليس في الحديث ما يدل على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم صار مفطراً بالقيء، ولا يمتنع أن يكون قاء، ثم ضعف، فأفطر، وهذا كما يقال: فلان سافر، فأفطر، ومرض، فأفطر، يراد أنه اختار الفطر عند هذه الأمور. فكذلك ما روي أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قاء، فأفطر.
ويقاس على ما يخرج من البدن من الدم، واللبن، ونحوهما، والمعنى أنه خارج من البدن لا يوجب الغسل، فوجب أن لا يفسد الصوم.
__________
(1) ـ في (أ): أنا لا نسلم.
(2) ـ في (أ): النبي.
ويقاس ـ أيضاً ـ على ما ذكرناه من الأصل بعلة أنه خارج من البدن لا عن شهوة، فوجب أن يستوي خروجه ابتداءً، واستدعاء، ويقاس على ما يخرج منه ابتداء بعلة أنه قيء، فوجب أن لا يفسد الصوم. (38/27)
ووجه ما ذكرنا من أنه إذا رجع منه شيء إلى الجوف بعدما صار إلى الفم يفسد الصوم، هو أنه كسائر ما يدخل حلقه مع اختيار سببه، في أنه يفسد الصوم، ولا يكون سبيله سبيل البزاق؛ لأن البزاق مما لا يمكن الاحتراز منه، فصار عفواً.
مسألة: [في الصائم يبلغ ما لا يؤكل كالدنانير ونحوها]
قال: ومن ابتلع ديناراً، أو درهماً، أو فلساً، أو زجاجاً، أو حصاً، أو غير ذلك، متعمداً، أفسد(1) صومه، وعليه القضاء والتوبة، وإن دخل شيء من ذلك حلقه من غير تعمد، لم يفسد صومه.
إيجاب القضاء على من تعمد ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (2) و (المنتخب) (3).
ونص في (المنتخب) (4) على أن من دخل شيء من ذلك حلقه من غير تعمد فلا قضاء عليه، ودل كلامه في (الأحكام) على ذلك.
وتحصيل المذهب في ذلك أن حكم هذه الأشياء حكم غيرها من الطعام والشراب، فإن تعمد الصائم ابتلاع شيء من ذلك ذاكراً للصوم فسد صومه، وعليه القضاء والتوبة، وإن تعمد ابتلاعه ناسياً للصوم، فسد صومه، ولزمه القضاء، ولا توبة عليه، وإن سبق شيء منه إلى حلقه وصار إلى(5) جوفه من غير اختيار الصائم له، أو لسببه، لم يفسد صومه، ووجه ما ذكرنا من أنه إذا تعمد فسد صومه، أنه مأمور بالإمساك، فإذا ابتلع شيئاً من ذلك، لم يكن ممسكاً، وإذا /138/ لم يكن ممسكاً، لم يكن صائماً، وإذا لم يكن صائماً، كان مفطراً، ولزمه القضاء.
وهو قياس على الطعام والشراب؛ بعلة أنه واصل إلى الجوف من مجرى الطعام والشراب بفعل الصائم، فوجب أن يفسد الصوم.
__________
(1) ـ في (أ): فسد.
(2) ـ انظر الأحكام 1/253 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 92 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر المنتخب 9.
(5) ـ في (أ): في.
ووجه ما قلناه من أن الناسي للصوم فيه كالذاكر في فساد الصوم ما مضى في مسألة الأكل ناسياً. (38/28)
وقلنا: إن شيئاً منه لو دخل إلى جوفه من غير اختيار منه ولا فعل من قبله كنحو أن يكون نائماً مفتوح الفم، أو يفتح فمه في حال اليقظة غير قاصد به إلى تناول شيء، فيقع [شيء] (1) منه في فيه حتى يصل إلى جوفه أنه لا يفسد صومه، قياساً على الغبار والذباب، والمعنى أنه وصل إلى جوفه بغير اختيار كان منه له، أو لسببه.
مسألة: [في الصائم يتمضمض ويستنشق فيدخل الماء جوفه]
قال: وكذلك إن تمضمض، واستنشق، فدخل الماء إلى جوفه من مضمضته واستنشاقه، فسد صومه، ولزمه القضاء.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2). وهو قول أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي.
وروي عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنه إن كان فعل ذلك متلذذاً بالماء، فعليه القضاء، وإن كان فعله للوضوء، فلا قضاء عليه.
ووجه ما ذهبنا إليه:
قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( بالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً ))، فاستثنى المبالغة في الاستنشاق في حال الصوم، مع الأمر بها في سائر الأحوال.
فإن تعلقوا بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرِهوا عليه ))، لم يصح تعلقهم به؛ لما بيناه فيما تقدم أن التعلق بظاهره لا يصح، فإنه(3) متأول على رفع المآثم، دون فساد الصوم، ألا ترى أنه لا خلاف فيمن أُكره على الطعام والشراب، فتناولهما مكرَهاً، أنه يفسد صومه؟ وأن الذي سقط(4) عنه هو المآثم.
وهو قياس على من شرب الماء؛ بعلة أنه وصل المشروب إلى جوفه بفعله، فوجب أن يفسد صومه، وقياس على سائر ما يفسد الصوم؛ بعلة أنه وقع باختيار الصائم لسببه.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم أنه لا يفسد صومه، قياساً على الغبار والذباب إذا وصل إلى جوفه؛ لتعذر الاحتراز منه؟
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ انظر الأحكام 1/253 وهو بلفظ مقارب.
(3) ـ في (أ): فإنه.
(4) ـ في (أ): يسقط.
قيل له: الوصف غير مسلَّم؛ لأن الاحتراز منه ممكن للمتمضمض، والمتنشق، على أن الغبار والذباب لا(1) يفسدان الصوم؛ لأنهما وصلا إلى الجوف بغير اختيار الصائم للوصول أو سببه. (38/29)
فإن قيل: إذا كان ذلك متَولِّداً عن فعل مباح، أو مندوب إليه، أو واجب، لم يفسد صومه.
قيل له: هذا فاسد بمن قبّل امرأته، أو ضمها، ثم أنزل، ألا ترى أن المفسد للصوم متولد عن فعل مباح؟ وكذلك من أُكره على الطعام، فأكل، أو مرض مرضاً مخوفاً، فأفطر، ألا ترى أن المفسد للصوم متولد عن أمر واجب؟ وهو زائد على المندوب، والمسافر مباح له الأكل، ومع ذلك يفسد صومه إذا أكل.
مسألة: [في الغبار والذباب وغيره مما لا يضبط إذا دخل الحلق]
قال: فأما الغبار والذباب والدخان وغير ذلك مما لا يضبط، فإن دخوله الحلق لا يفسد الصوم، ولا يلزم القضاء، وكذلك ذوق الشيء بطرف اللسان مثل المضمضة، ولا يفسده ما دخل الفم، ما لم يجر إلى الحلق، من عسل، أو خل، أو غيرهما.
جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2).
والذباب /139/ والغبار ونحوهما لا يفسد بهما الصوم لوجهين:
أحدهما: تعذر الاحتراز منه(3)، فأشبهت الريق.
والثاني: أنها تصل إلى الجوف بغير اختيار الصائم لها، أو لسببها، وعندنا أن ما كان هذا سبيله، لم يفسد الصوم.
مسألة: [في الصائمة إذا جومعت وهي نائمة]
ولو أن صائمة جومعت وهي نائمة، فعلمت، وطاوعت، فسد صومها، ولزمها القضاء، وكذلك القول في المجنونة.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (4). وهو قول الشافعي، وحكي عن زفر.
وقال أبو حنيفة: يفسد صومها.
__________
(1) ـ في (ب): لم يفسدا.
(2) ـ انظر الأحكام 1/253 ـ 254 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (أ): منها.
(4) ـ انظر المنتخب 92 وهو بلفظ قريب.
أما إذا علمت، وطاوعت، فلا خلاف في فساد صومها، فأما إذا لم تعلم، ولم يحصل منها مطاوعة، فالذي يدل على أن صومها لا يفسد، أنها قد أمسكت على ما أُمرت، فلم يجب أن يفسد صومها، قياساً عليها لو احتلمت، والمعنى أنها اجتنبت بغير اختيار منها. (38/30)
ويقاس على الذباب إذا دخل الحلق، وصار إلى الجوف، في أنه لا يفسد الصوم، والمعنى أنه أمر للاختيار فيه مسرح، فوجب أن لا يفسد الصوم؛ بعلة أنه ليس باختيار من الصائمله، أو لسببه.
فإن قيل: الجماع ينافي الصوم، فوجب أن يستوي حصوله باختيار، أو بغير اختيار، في أنه يفسد الصوم.
قيل له: لا نسلم أن الجماع ينافي الصوم، وهو الأمر الذي اختلفنا فيه، وعلى هذا لو جومعت مكرهة من غير أن كانت منها مطاوعة، أو تمكين، لم يفسد صومها، وكذلك إن أُوجِرت الطعام مكرهة، لم يجب أن يفسد صومها، فإن أكرهت حتى طاوعته اتقاءً على نفسها، أو أكلت على هذا الوجه، فسد الصيام، لا خلاف فيه.
مسألة: [في من أفطر، هل يمسك باقي يومه؟]
قال: ومن أفسد صومه من رمضان لعارض، أمسك بقية يومه، إذا زال ذلك العارض، ولزمه القضاء، وهذه المسألة قد بينا ما يجب فيها، وفصلنا بين الموضع الذي الإمساك فيه مستحب، وبين ما يكون فيه واجباً، واستوفينا ذلك فيما تقدم، فلا وجه لإعادته.
مسألة: [في الرجل يقبل رمضان عليه قبل أن يقضي ما عليه]
قال: ولو أن رجلاً أفطر أياماً من شهر رمضان، ثم لم يقضها حتى دخل عليه شهر رمضان من قابل، لزمه إطعام مسكين لكل يوم أفطره، والقضاء بعد الخروج من شهر رمضان، وإن كان تَرْكُه القضاء إلى هذا الوقت لعلته، والإطعام نصف صاع من بر.
وقال في (المنتخب) (1): إن كان أفطره لعلة، ثم لم يقضه حتى دخل شهر رمضان من قابل، فليس عليه إلا القضاء.
ماذكرناه أولاً منصوص عليه في (الأحكام) (2).
__________
(1) ـ انظر المنتخب 93 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/257 وهو بلفظ قريب، إلا أنه قال: وإن صام ولم يطعم أجزأه.
وما عزيناه(1) إلى (المنتخب) منصوص عليه. وكان أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ يجعل الروايتين رواية واحدة ويقول: إن الذي ذكره في (الأحكام) من إيجاب الفدية إنما هو حكم من أفطر لغير علة ولا عذر؛ إذ لم يذكر أن ذلك حكمه لو أفطر لعذر، وما ذكره في (المنتخب) هو حكم من أفطر لعلة، وقد ذكر ذلك، فكان يحصل من ذلك أن أصل الإفطار إذا كان لعلة، فلا فدية، وإن تأخر القضاء إلى أن يدخل شهر رمضان من قابل، وإن كان لغير علة وعذر، ففيه الفدية مع القضاء. (38/31)
وهذا عندي مما يبعد؛ لأنه خلاف الإجماع؛ إذ لا يحفظ عن أحد أنه فرق في هذا /140/ الباب بين من أفطر في الأصل لعذر، أو لغير عذر، لأن الناس فيه على قولين، فقائل يقول: إن عليه الفدية، وإن كان أفطر لعذر، وقائل يقول: لا فدية، وإن كان أفطر لا لعذر، ولأن إطلاق لفظ (الأحكام) يقتضي بعمومه المعذور، وغير المعذور، والصحيح عندي أنهما روايتان مختلفتان، وما في (المنتخب) من تخصيص(2) المعذور بالذكر، فالسب فيه أنه جواب صدر على حسب السؤال، والسائل سأل عن المعذور؛ لأنه أراد الفصل بين المعذور، وغير المعذور.
فوجه ما في (الأحكام) قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِيْنَ يُطِيْقُونَهُ فِدْيَةٌ} فالكناية(3) في قوله يطيقونه لا يخلو إما أن يكون راجعاً إلى الصيام، أو الإطعام، وأي ذلك كان مراداً، فعمومه يوجب الفدية على كل من أفطر، وهو مطيق لأيهما كان، سواء قضى ما فاته قبل رمضان آخر أو لم يقضه، فلما خُص من قضى قبله بالإجماع، لزم من سواه الفدية بحكم العموم.
وقد روي هذا القول عن ابن عباس، وأبي هريرة.
__________
(1) ـ في (أ): عزينا.
(2) ـ في (أ): من غير تخصيص.
(3) ـ في (أ): والكناية.
وأخبرنا محمد بن العباس قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان، عن حسين، عن أبي علي الرحبي، عن عكرمة، قال: سُئل الحسن بن علي عليهما السلام مقدمه من الشام عن رجل مرض في رمضان، فلم يصم حتى أدركه رمضان آخر، قال: ((يصوم هذا، ويقضي ذلك، ويطعم عن كل يوم مسكيناً)). (38/32)
ولا خلاف أن من دخل في الحج، وأحصر، وتحلل، أن عليه الفدية مع القضاء، فكذلك من عليه صوم رمضان، ثم لم يقضه حتى دخل عليه رمضان آخر، والمعنى أنه عبادة يدخل في جبرانها المال، فتأخر عن وقتها المخصوص(1).
فإن قيل: لسنا نسلم أن لقضائه وقتاً محصوراً يتضيق.
قيل له: ندل على ذلك، ولا يمتنع القياس بوصفٍ مدلول عليه، كما لا يمتنع بوصفٍ متفق عليه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ}، فاقتضى قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ} إيجاب القضاء عقيب الإفطار لوجهين:
أحدهما: أنه بمعنى الأمر، والأمر على الفور.
والثاني: أنه قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}، والفاء توجب التعقيب، فلما أجمعوا أن له تأخير القضاء إلى أن يدخل شهر رمضان من قابل، قلنا به، وبقي ما بعده على حكم الفوات.
وروي عن عائشة أنها قالت: كان يكون عليَّ القضاء من رمضان، فلا أقضيه حتى يدخل شعبان اشتغالاً برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ففيه دليل على أن شعبان آخر وقت القضاء، وأنها أخبرت بذلك، فيَعلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بقولها: كنت أفعل ذلك اشتغالاً برسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ومثل ذلك لا يخفى عليه.
وأقوى ما في هذا أنه مروي عن ابن عباس، وأبي هريرة، روى(2) ذلك عنهما ابن أبي شيبة.
__________
(1) ـ في (أ): المحصور.
(2) ـ في (أ): وروى.
ويروى عن الحسن بن علي عليهما السلام، وقيل: عن ابن عمر، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة خلافه، فجرى [ذلك] (1) مجرى الإجماع. (38/33)
وجعل الإطعام نصف صاع لما في /141/ حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن شيخاً كبيراً [أتى](2) إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه، هذا شهر مفروض، ولا أطيق الصيام، فقال: (( اذهب، فتصدق عن كل يوم بنصف صاع للمساكين )) .
وروي عن ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( من مات، وعليه صوم من شهر رمضان، فإن وليه يطعم عنه نصف صاع من بر )) ولأن ذلك القدر هو الذي يُتَقَوَّتَ به غالباً.
ووجه رواية (المنتخب) براءة الذمة، ولا دليل على إيجاب الفدية، وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِيْنَ يُطِيْقُونَهُ فِدْيَةٌ} قيل: إنه منسوخ، وقيل: إنه في الشيخ الهرم إذا لم يطق الصيام، وأطاق الإطعام.
وما قيل: إن وقت القضاء يتضيق في شعبان لا دليل عليه، وإنما أخبرت عائشة عن فعلها، واختيارها، وحكم القضاء قبل دخول شهر رمضان وبعده على أمر واحد، فلا خلاف فيمن قضى ما فاته قبل دخول شهر رمضان آخر، لم يلزمه الفدية، فكذلك من قضاه بعد ذلك، والمعنى أنه قضى ما فاته من الصوم، ولا خلاف أن من فاتته(3) صلاة، فقضاها في أي وقت كان، فليس عليه شيء سواه، فكذلك الصوم، والمعنى أن كل واحد منهما فرض يتكرر ابتداء.
وجملة الأمر أن الإجماع إن حصل على رواية (الأحكام) فهي أولى، وإلا فرواية (المنتخب) أقوى.
مسألة:[في المستعطش والهرم إذا لم يقدرا على الصيام، ما يلزمهما؟]
ومن لم يصبر على العطش من الرجال والنساء، يلزمه إطعام مسكين عن كل يوم أفطره، وكذلك الهرم الذي لا يطيق الصيام.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4).
والأصل فيه:
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ في (أ): فاته.
(4) ـ انظر الأحكام 1/255 وهو بلفظ قريب.
حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: لما أنزل اللّه تعالى فريضة شهر رمضان أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صاحب العطش فقال: يارسول اللّه، هذا شهر مفروض، ولا أصبر عن الماء ساعة واحدة. فقال: (( انطلق، فأفطر، فإذا أطقت، فصم )). (38/34)
وأتاه شيخ كبير يتوكأ بين رجلين فقال: يا رسول اللّه، هذا شهر مفترض، ولا أطيق الصيام. فقال: ((انطلق، فافطر، وأطعم عن كل يوم مسكيناً، نصفَ صاع )) .
وروي عن ابن عباس أنه كان يقول ذلك في الهرم ويقرأ: {وَعَلَى الَّذِيْنَ يُطِيْقُونَهُ(1)}(2) ويتأوله في الشيخ الهم ويقول: إن معناه لا يطيقه، وهذه القراءة وإن لم تكن في الشهرة بحيث يجوز أن يُقرأ بها، فإنه يجوز أن يؤخذ بحكمها؛ لأنها تجري مجرى خبر الواحد.
وأخبرنا محمد بن العباس قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص، عن حجاج، عن أبي(3) إسحاق، عن الحارث، عن علي عليهم السلام، قال: ((الشيخ الكبير إذا عجز عن الصيام، أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكيناً)).
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وهو غير قادر على الصوم، فكيف يُكَلَّفه؟
__________
(1) ـ في (أ): لا يطيقونه.
(2) ـ وفي الكشاف: وقرأ ابن عباس {يطوَّقونه} تفصيل من الطوق، إما بمعنى الطاقة، أو القلادة أي يكلفونه أو يقلدونه، ويقال لهم: صوموا، وعنه يتطوقونه بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه، إلى أن قال: وفيه وجهان: أحدهما معنى يطيقونه، والثاني: يكلفونه أو يتكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية. انظر الكشاف 1/266.
(3) ـ في (أ): ابن.
قيل له: إنه لم يكلَّف الصوم، وإنما كلف الفدية بدلاً منه، وهو مستطيع لها، وإن لم يستطع الصوم، وهذا كالمظاهر إذا لم يقدر على العتق /142/ جاز أن يكلَّف الصوم، فإن لم يقدر على الصيام، جاز أن يكلف الإطعام، وكالمريض الذي لا يستطيع على الصيام، يكلف القضاء إذا قدر عليه، فإذا ثبت ذلك في الشيخ الهم،كان من به عطش لازم قياساً عليه، بمعنى أن المانع له من الصوم مأيوس من زواله في غالب الأحوال، فوجب أن تلزمه الفدية. (38/35)
فإن قيل: فقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( فإذا أطقت، فصم )) دليل على أن العارض غير مأيوس من زواله.
قيل له: يجوز أن يكون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قصد إلى تعريفه الحكم في زوال العارض، وكان ذلك المستعطش بعينه ممن يرى زوال علته.
ونحن نقول فيمن يكون كذلك: أنه لا فدية عليه، وأن سبيله سبيل سائر المرضى، وإنما نوجب الفدية على من كان الغالب في علته أنها لا تزول.
وقد روي مثل قولنا في الشيخ الهم عن أنس، وابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء. وقيل: إنه لا يحفظ فيه خلاف بين الصحابة، وهو قول عامة الفقهاء.
وحكي خلافه عن مالك، وأبي ثور، وصاحب الظاهر.
[مسألة: فيمن عزم على إفطار يومه ثم استمر على الصيام]
نص الهادي عليه السلام في (المنتخب) (1) على أن من عزم على الإفطار، فصام، ولم يفطر، واستمر على صومه، لا يكون بذلك مفطراً.
والأصل في ذلك أن النية لا تؤثر في إفساد الصحيح، ألا ترى أنه لو نوى فساد الصلاة، لم تفسد صلاته، وإنما تأثيرها في إيقاع الفعل على وجه دون وجه، فأما مجردها، فلا تأثير لها.
__________
(1) ـ انظر المنتخب 91 وهو بلفظ مقارب.
باب القول في صيام النذور، والظهار، وقتل الخطأ (39/1)
[مسألة فيمن تنذر بصيام أيام، هل يصومها مجتمعة أم متفرقة؟]
ولو أن رجلاً قال: لله علي أن أصوم عشرين يوماً، لزمه صيامها، فإن نواها مجتمعة، لزمه صيامها مجتمعة، وإن لم يكن نواها مجتمعة، صامها كيف شاء، مجتمعةً، أو متفرقة، ولا يكون الإيجاب إلا بالأقاويل.
ما ذكرناه أولاً منصوص عليه في (الأحكام) (1).
وقولنا أن الإيجاب لا يكون إلا بالأقاويل، رواية يحيى عليه السلام(2) في (الأحكام) (3) عن جده القاسم عليه السلام، ودل عليه أيضاً كلامه، أما إذا لم ينوِ التتابع، أو لم يشترطه لفظاً، فله الخيار بين أن يصومها متتابعة، أو متفرقة؛ لأن التتابع صفة زائدة على العدد، فإذا أتى بالعدد متعرياً عن تلك الصفة التي لم ينوها، ولم يشترطها لفظاً، فقد أدى ما ألزم نفسه، وهذا مما لا خلاف فيه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/254 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): عن جده القاسم. نخ في الأحكام.
(3) ـ انظر الأحكام 1/247 ـ 248 وهو فيه بلفظ قريب.
فأما إذا نوى التتابع، فلا يجزي إلا متتابعاً؛ لأن النية ضرب من الإرادة، وللإرادة مسرح في إيقاع الفعل والقول على وجه دون وجه، إذا كان يصح وقوعه عليه، كما أن العموم لما صلح للاستغراق، وصلح للخصوص، فمتى أريد به الخصوص، وقع خاصاً، وكذلك اللفظ المحتمِل كقولنا قُرء، لما احتمل الطهر، واحتمل الحيض، كان اللفظ لفظاً لِمَا هو مرادٌ به من الطهر والحيض، وكذلك القول في المجاز، والحقيقة، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن قول القائل: لله عليَّ أن أصوم عشرين يوماً، يحتمل أن يكون عشرين يوماً متتابعة، وعشرين يوماً متفرقة، وجب أن تُصْرَف النية إلى أحدهما؛ لاحتمالهما جميعاً، ولهذا قال أصحابنا: إن النية /143/ في باب الأيمان أوكد من العرف؛ لأنه يقع بها القول على أحد المحتملين(1) على ما بيناه، فإذا قال: لله علي أن أصوم عشرين يوماً، ونوى التتابع، صار التتابع كالمنطوق به، كما أنه تعالى لما قال: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ} وأراد الحربيين، صار ذلك كالمنطوق به. (39/2)
فإن قيل: إذا كان الصوم لا يجب بالنية إذا انفردت عن القول، فيجب أن لا يجب بها التتابع.
قيل له: النية لا مسرح لها في الإيجاب إذا انفردت، ولها مدخل في إيقاع اللفظ على أحد الوجهين الذي يحتملهما على ما بيناه، فلم يمنع أن يقع اللفظ بها على الصوم المتتابع، فيكون الإيجاب في الحقيقة راجعاً إلى القول، ويكون تأثير النية في صرفه من وجه إلى وجه.
وقلنا: إن الإيجاب لا يكون إلا بالأقاويل؛ لأن إيجاب ما لم يوجبه اللّه ابتداءً من العبادات، لا يخلو إما أن يكون بالدخول(2) أو بالنية، أو باللفظ الموجب، وقد دللنا أن الصوم لا يجب بالدخول فيه في كتاب الصلاة، ولا خلاف أنه لا يجب بالنية، فلم يَبق إلا أنه يجب بالقول، على أنه لا خلاف أن النذر لا يكون إلا بالأقوال.
__________
(1) ـ في (أ): الاحتمالين.
(2) ـ في (أ): بالنية أو بالدخول.
والذي يدل على وجوب الوفاء بالنذور قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} وقوله سبحانه: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}. (39/3)
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال لعمر ـ حين قال: كنت نذرت اعتكاف يوم ـ: (( أُوفِ بنذرك )). وقال للتي نذرت أن تحج ماشية: (( لتحج، وتركب، وتهدي )) ، والمسألة وفاق لا خلاف فيها.
مسألة: [فيمن جعل على نفسه صيام سنة]
قال: وإن جعل على نفسه صيام سنة، صامها، وأفطر العيدين، وأيام التشريق، ثم قضاها، وقضى شهر رمضان، إلا أن يكون استثنى ما ذكرنا، أو بعضه، بنيته.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
قلنا: إذا أوجب على نفسه صيام سنة، صامها، وأفطر العيدين، وأيام التشريق، ثم قضاها، وقضى شهر رمضان؛ لأنه إذا أوجب على نفسه صيام سنة، فقد أوجب صيام اثني عشر شهراً؛ لأن السنة إذا أُطلقت، كانت عبارة عن اثني عشر شهراً، وليس يجوز أن يصوم العيدين، وأيام التشريق؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن صيامها، وصيام شهر رمضان لا يقع عن النذر، فجعل صومه أحد عشر شهراً إلا خمسة أيام، فعليه أن يقضي شهراً وخمسة أيام ليكون قد تم له صيام اثني عشر شهراً عن النذر الذي أوجبه على نفسه.
وقلنا: إنه إذا استثنى بعض ذلك، أو جميعه، بنِيَّتِه، لم يلزمه قضاء ما استثنى؛ لأنا قد بيَّنا قبل هذه المسألة أن للنية مدخلاً في إيقاع اللفظ على وجه دون وجه، وفي أن يُجعل العام خاصاً، والحقيقة مجازاً، فإذا أوجب على نفسه صيام سنة، ونوى سنة. قد استثنى منها ما ذكرنا، كان ذلك في حكم المنطوق به، كما نقول(2) ذلك في العام إذا أريد به الخاص، ولفظ الحقيقة إذا أريد به المجاز، فكان الإيجاب يتناول أحد عشر شهراً إلا خمسة أيام.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/254 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): يقول.
فإن قيل: إن ذلك جائز في لفظ العموم، ولفظ الحقيقة؛ لأن لفظ العموم يُستعمل في الخصوص، ولفظ الحقيقة يستعمل في المجاز، ولا يستعمل لفظ السنة في أحد عشر شهراً إلا خمسة أيام. (39/4)
قيل له: ليس /144/ يمتنع ذلك إذا أريد به المجاز، وإن لم يكن استعماله على هذا الحد في الشهرة كاستعمال لفظ العموم في الخصوص، وكثير من ألفاظ الحقيقة في المجاز، ونظير ذلك أن اللّه(1) تعالى قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فسمى شهرين وعشرة أيام أشهراً، وإن كان أقل ما يجوز أن يطلق عليه اسم الأشهر ـ على الحقيقة ـ ثلاثة أشهر، فأجرى اسم الأشهر على ما ذكرناه على سبيل التوسيع(2)، وعلى ذلك يجري مجرى أن يواضع نفسه على أن يعبر عن أحد عشر شهراً إلا خمسة أيام باسم السنة، فوجب أن يصح ذلك، كما لو واضع غيره على ذلك، صح أن يخاطبه به.
مسألة: [في القضاء هل يكون متصلاً أم مفرقاً؟]
قال: ولو أن رجلاً أوجب على نفسه صيام شهر كامل، أو شهرين متتابعين، أو أكثر من ذلك، فإنه يجب عليه أن يصومها كما أوجبها، وإن قطع بين ذلك بإفطار يوم، وجب عليه أن يستأنف الصيام، إلا أن يكون رجلاً لا يفارقه السُقم أبداً ،و(3)لا يطمع من نفسه بمواصلة؛ لضعف بدنه، ودوام سقمه، فإن كان كذلك، جاز له البناء على ما صام.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (4).
وقال في (المنتخب) (5): إذا أفطر لعذر من مرض، أو سفر، فله البناء، وأما(6) إذا أفطر لغير عذر، فإن عليه الاستئناف.
ولا خلاف في أن المرأة إذا كان عليها صيام شهرين متتابعين، فحاضت أن لها البناء. وللشافعي في المريض، والمسافر، قولان، في البناء، والاستئناف.
__________
(1) ـ في (أ): قول الله تعالى.
(2) ـ في (أ): التوسع.
(3) ـ في (أ): أو.
(4) ـ انظر الأحكام 1/263 وهو بلفظ قريب جداً.
(5) ـ انظر المنتخب 92 وهو بلفظ قريب.
(6) ـ في (أ): أما.
ووجه(1) ما ذكره في (الأحكام) أنهم أجمعوا(2) على أن الحيض إذا عرض، لم يوجب الاستئناف، وجاز معه البناء، وكذلك من لزمه السقم، وكان الغالب من أمره أنه لا تستمر الصحة به شهرين، والمعنى أنه عذر لا يرجى زواله في غالب الأحوال، فوجب أن لا يمنع من البناء، قياساً على الحيض. (39/5)
والسقم أولى أن يجعل عذراً من الحيض؛ لأن الحيض يرجى زواله إذا طعنت المرأة في السن، والمرض كلما علَتِ السِّن، كان أقوى في العرف، على أن انقطاع الحيض لعارض يعرض أقرب في العاداتِ من عود مَنْ وصفنا إلى الصحة.
فإن قاسوه على المرض الذي يعرضْ ويزول، ففيه عن يحيى عليه السلام روايتان على ما ذكرناه، على أنا قد بينا أن استكمال شهرين في حكم المتعذر على ما وصفنا، فرد حاله إلى الحيض لإسقاط الاستئناف، وإجازة البناء، أولى من رده إلى المرض الذي يزول؛ لأن أصول الشرع واردة بالتخفيف على من يتعذر عليه الأمر، بل لا يكلَّف إذا صح التعذر، والعقل ـ أيضاً ـ يوجبه، ويقضي به. قال اللّه تعالى: {مَا جَعَلَ عَلِيْكُمْ فِيْ الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}. وقال سبحانه: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فكل ذلك يرجِّح قياسنا، ويعضده.
فأما المرض العارض، فإن الاستئناف، واجب متى أفطر من أجله؛ لأن حاله كحال الصحيح في أن استكمال شهرين مع التتابع ممكن له، فوجب أن يلزمه الاستئناف قياساً على من أفطر لغير عذر، وهذا القياس أولى من قياس من رده إلى الحيض بعلة أنه أفطر معذوراً، وذلك أنا وجدنا ما يفسد الصوم لا يتغير عن حكمه بين أن يكون معذوراً فيه، أو غير معذور، ألا ترى أنه لو أُكْره على الإفطار، وأفطر [أو أفطر] (3) لمرض، أو سفر، كان معذوراً، ولم يخرجه ذلك من أن يكون مفسداً للصوم، وكذلك التتابع، وما يتعذر.
__________
(1) ـ في (أ): ووجهه.
(2) ـ في (ب): لما أجمعوا.
(3) ـ سقط من (أ).
والأصل فيه أنه /145/ معفو، ألا ترى أن دخول الغبار، والذباب، الحلقَ صار معفواً عنه، وكذلك ابتلاع الريق؛ لتعذر الاحتراز منه، ويفسده ما يمكن الاحتراز منه، لأنه من أحكام الصوم، أعني التتابع. (39/6)
فإن قيل: فالحيض يفسد الصوم، وإن لم يمكن الاحتراز منه، ولا يفسد التتابع.
قيل له: الحيض يفسد الصوم، لأنه لا يتعذر قضاء ما أفسد به؛ ولأنه ليس مما يعرض في جميع الأحوال، أو عامتها، فكان في حكم الممكن احترازه، ولا يفسد التتابع؛ لأنه لا يمكن التتابع من غير أن يعرض، فبان أن المعتبر في ذلك هو التعذر.
ووجه ما ذكره في (المنتخب): أنه أفطر معذوراً، فوجب أن يجوز له البناء، قياساً على الحائض.
والأقوى ما ذكره في (الأحكام) على ما شرحناه، والذي يقتضيه قوله في (الأحكام): إن النفاس يفسد التتابع، وأن الحيض يفسد تتابع كفارة اليمين؛ لأن النفاس مما يمكن الاحتراز منه في التتابع، والحيض مما يمكن الاحتراز منه في تتابع الثلاثة الأيام، وما جرى مجراها من العدد الذي لا يجب من طريق العادة أن يقطع فيه الحيض.
فأما على رواية (المنتخب) فيجب أن يكون جميع ذلك لا يفسد التتابع، ويجوز معه البناء؛ لأن الإفطار وقع لعذر.
مسألة: [فيمن نذر بصيام شهر مشروط، ثم وقع الشرط في آخر شعبان]
قال: ولو أن رجلاً قال: لله عليَّ(1) أن أصوم شهراً من يوم أتخلص فيه من كذا، أو قال: لله عليَّ(2) أن أعتكف، فتخلص منه في آخر شعبان، أخر صيامه إلى اليوم الثاني من شوال، ثم يصوم ثلاثين يوماً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
__________
(1) ـ في (أ): عليَّ لله.
(2) ـ في (أ): عليَّ لله.
(3) ـ انظر الأحكام 1/265 وهو في ذكر الاعتكاف.
ووجهه أنه قد أوجب على نفسه صيام شهر، بإيجابه إياه لفظاً، أو بإيجاب الاعتكاف؛ إذ إيجاب الاعتكاف عندنا يتضمن إيجاب الصوم، فإذا صادف ذلك الوقت شهر رمضان، لم يصح منه إيقاع ما أوجبه بالنذر فيه، كما لو صادف ذلك من المرأة حيضاً، أو نفاساً، لم يصح إيقاعها إياه فيها، فوجب تأخيره إلى انقضاء الوقت الذي [لا] (1) يصح إيقاع ما لزمه من الصوم بالنذر فيه، فكذلك قلنا إنه يؤخره إلى ثاني شوال، ليوقعه في وقت يصح وقوعه فيه. (39/7)
مسألة: [فيمن نذر بصيام أو اعتكاف العيدين]
قال: وكذلك إن قال: لله عليَّ أن أصوم يوم الفطر، أو يوم النحر، أفطرهما، وقضاهما، وكذلك إن قال: عليَّ أن أعتكفهما.
نص في (المنتخب) (2) على أن من قال: لله عليَّ أن أصوم يوم الفطر، أو يوم النحر، يفطرهما، ويقضيهما.
ونص في (الأحكام) (3) على أن من أوجب على نفسه اعتكاف يوم الفطر، يفطره، ويعتكف بعده.
فقلنا ذلك في يوم النحر.
والأصل فيه قول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودُ}، وقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِيْ قُلُوبِهِمْ..} الآية، فذم الذين يخلفون بما وعدوا، فوجب أن يكون الخلف كله مذموماً، إلا ما منع منه الدليل.
وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمر: (( أوف بنذرك ))، فأوجب الوفاء بالنذر، فكذلك إذا نذر صوم يوم الفطر، أو يوم النحر.
فإن قيل: لا نذر في معصية.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ انظر المنتخب 91 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر الأحكام 1/267 وهو بالمعنى.
قيل له: كذلك نقول إن نذره قد انطوى على قربة، ومحظور، فألزمناه القربة، وأسقطنا عنه المحظور؛ لأن الصوم قربة، وإيقاعه في يوم الفطر، ويوم النحر، محظورٌ، فألزمناه الصوم، ومنعنا إيقاعه في الزمان المحظور فيه، فنكون قد استعملنا الظواهر كلها، ومما يدل على ذلك أنه لا خلاف فيمن قال: لله علي أن أصوم يوماً، أو يوم الخميسُ أو يوم /146/ كذا، فإنه يلزمه نذره، فكذلك إذا قال: لله علي أن أصوم يوم الفطر، أو يوم النحر، والمعنى أنه نذر صوم يوم يصح الصوم فيه. (39/8)
فإن قيل: لِمَ قلتم أن الصوم فيه يصح؟
قيل له: لأنه لا خلاف أن صوم أيام التشريق يصح، فوجب أن يكون يوم النحر ويوم الفطر كذلك؛ لأنها لا تتميز عن سائر الأيام إلا بالنهي عن الصوم فيه، وقد ثبت أن النهي عن الصوم فيه لا يبطل الصوم، فثبت أن الصوم يصح فيهما.
ويمكن أن يقاس يوم الفطر، ويوم الأضحى، على سائر أيام السنة في أن إيجاب النذر يصح فيها، والمعنى أنه علق إيجاب الصوم بالنهار، ولا ينتقض ذلك بمن قال: عليَّ لله(1) أن أصوم يوم الحيض أو يوم آكل فيه؛ لأن غرضنا بالتعليل أن نسوي بين يوم الفطر، ويوم النحر، وبين سائر الأيام.
ومما يدل على ذلك أن قربة الوقت لا يتعلق بها الإيجاب، فكان ذكر الوقت ووجوده كعدمه فيما يتعلق به حكم إيجاب الصوم، ويبين أن قربة الوقت لا يتعلق بها الإيجاب أنه لو قال: لله علي صوم يوم عاشوراء وصوم يوم عرفة، ثم أفطرهما، جاز قضاؤهما في غير يوم عاشوراء، ويوم عرفة، ولم يلزمه أن ينتظر للقضاء يوم عاشوراء، ويوم عرفة، في العام القابل، ومع ذلك أن الصوم في يوم عاشوراء ويوم عرفة أفضل من الصوم في غيرهما، فثبت بذلك أن قربة الوقت لا يتعلق بها الإيجاب، وصار النذر المعلق بالوقت كالنذر المطلق في هذا الباب.
__________
(1) ـ في (أ): لله عليَّ.
ومما يدل على ذلك أن من نذر صيام يوم بعينه، ففاته الصيام في ذلك اليوم، فعليه أن يصوم يوماً مكانه، فبان أن الوقت لا معتبر به؛ إذ الصيام يُقضى مع فواته، وليس كذلك سائر ما هو شرط في صحة الصوم؛ إذ الصوم لا يصح دونه، فجرى ذلك مجرى أن يقول: لله علي أن أصلي ركعتين في موضع بعينه، أن الموضع لا يصير شرطاً في صحة أدائهما، فبان أن كون الوقت ممنوعاً من الصيام فيه لا يخل بالنذر. (39/9)
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال للتي نذرت أن تحج حافية غير مختمرة: (( مروها، فلتختمر، ولتركب ))، فأثبت ما كان قربة، ونفى ما كان محظوراً، فكذلك ما ذهبنا إليه.
مسألة: [في المظاهر والقتل خطأ إذا عجزا عن العتق ما يجب عليهما؟ وهل يجب عليهما الاستئناف إذا أفطرا]
قال: والمظاهر إذا عجز عن العتق، صام شهرين متتابعين، فإن أفطر منهما يوماً واحداً، استأنفهما، إلا أن يكون إفطاره لعلة لا يرجى زوالها، فيجوز له البناء، وكذلك القول فيمن قتل خطأ، إذا عجز عن العتق.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وقد مضى الكلام فيما يجب معه الاستئناف إذا أفطر وما يجوز معه البناء، مستقصى، فلا وجه للإعادة فيه.
فإن قيل: فهلاَّ جعلتم في المظاهر إذا عجز عن استيفاء شهرين متتابعين لأي علة كانت، أنه يعدل إلى الإطعام، لأنه تعالى(2) قال: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِيْنَ مِسْكِيْناً}.
قيل له: لما ثبت في غير المظاهر إذا كان عليه صوم شهرين متتابعين، أنه إذا صام، وفرَّق على نحو ما بيناه أنه يجوز معه البناء، أنه يكون في حكم من صام شهرين متتابعين، وأن ذلك التفريق لا يبطل /148/ حكم التتابع.
قلنا: إن المظاهر إذا صام على ذلك الحد، كان في حكم من صام متتابعاً، فلذلك قلنا: إن عليه الصوم، ولم نأمره بالعدول عنه إلى الإطعام.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/258 وهو بلفظ قريب، وأما القائل خطأ فنص عليه فيه 1/268.
(2) ـ في (أ): قال تعالى.
مسألة: [في المظاهر والقاتل إذا قدرا على العتق قبل تمام الصيام] (39/10)
قال: ولو أنهما صاما بعض الصيام، ثم قدرا على العتق، تركا الصيام، وأعتقا، وإن قدرا على العتق بعد إتمام الصيام، لم يلزمهما العتق، وكذلك إذا عجز المظاهر عن الصيام، وأطعم بعض المساكين، ثم قدر على الصيام، رجع إلى الصيام، ولا(1) يعتد بما كان منه من الإطعام، فإن قدر على الصيام بعد إتمام الإطعام، لم يلزمه الصوم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2). وخالف الشافعي في ذلك فقال: إذا دخل في الصوم، لم يلزمه العتق، وإن أمكن.
والأصل فيه قول اللّه تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٌ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ..} الآية، وقوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ..} الآية، فأجاز تعالى له العدول إلى الصيام بشرط أن لا يجد الرقبة، وأجاز العدول إلى الإطعام في كفارة الظهار بشرط أن لا يستطيع الصيام، فمن وجد السبيل إلى الرقبة، لم يجزه(3) الصيام، ومن أمكنه الصيام، لم يجزه(4) الإطعام، فوجب أن يكون من وجد الرقبة، وقد صام بعض الشهرين ألا يجزيه ما بقي من الصيام، وإذا لم يجزه باقيه، لم يجزه ماضيه، لأن بعضه معلق ببعض.
فإن قيل: لا يخلو فرض الرقبة من أن يكون قائماً عليه قبل الدخول فقط، أو يكون قائماً عليه قبل الدخول وبعده، فإن كان قائماً عليه قبل الدخول وبعده، فالواجب أن لا يتناهى صومه؛ لأنه كلما مضى يوم، وعَدِم الرقبة، وجب أن يلزم صوم شهرين.
__________
(1) ـ في (أ): لم.
(2) ـ انظر الأحكام 1/260 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (أ): يجز له.
(4) ـ في (أ): يجز له.
قيل له: فرض الرقبة ساقط عنه مع عجزه عنه، سواء دخل في الصيام، أو لم يدخل؛ لأنه لا يجوز بقاء الفرض على الإنسان مع جزه عنه، لكنه متى وجدها، عاد الفرض عليه، ما لم يخرج من الكفارة، ألا ترى أن المحدث إذا لزمته الصلاة، لزمه فرض الطهارة، ثم إن عجز عنها، سقط فرضها، ومتى قدر عليها، عاد عليه فرضها، فكذلك فرض الرقبة، ولا خلاف أن الابتداء بالصوم لا يجزئه عن كفارته، إذا كان واجداً للسبيل إلى الرقبة، فكذلك البناء على الصوم، والمعنى أنه مظاهر واجد للسبيل إلى الرقبة، فوجب أن لا يجزئه أن يصوم عن كفارته. (39/11)
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أن التيمم لما كان بدلاً عن الطهارة بالماء، لم يجز البناء عليه مع التمكن من الماء، وبقاء حكم الأصل، كما لم يجزه الابتداء، فكذلك الصيام الذي هو بدل من العتق، لما لم يجزه الابتداء به، لم يجز البناء عليه مع التمكن من المبدَل، وبقاء حكم الأصل.
ويمكن أن يقاس بهذه العلة على القعود الذي هو بدل من القيام في الصلاة للمعذور.
ويمكن أن يقاس على الاعتداد بالشهور للتي لم تَحِضْ إذا حاضت قبل استكمال العدة بالشهور.
فإن قيل: المتمتع إذا لم يجد الهدي، وصام ثلاثة أيام في الحج، إذا وجد الهدي، لم يلزمه الهدي.
قيل له: نحن نوجب عليه الهدي إذا وجده في أيام الذبح، وإنما لم نوجب الهدي عليه بعد أيام الذبح؛ لأنه في الحكم مستكمل للكفارة؛ لأنه لم يبقَ /148/ عليه حكم ترفعه الكفارة، ألا ترى أن الإحلال قد جاز له، وليس كذلك سائر ما ذكرناه؛ لأن(1) حكم الأصل باقٍ في جميعه، ألا ترى أن المتيمم حكم الحدث باقٍ عليه، ما لم يستكمل الصلاة، والمعتدة بالشهور حكم المنع من التزويج باقٍ عليها، ما لم تستكمل العدة، وليس كذلك من صام ثلاثة أيام، ومضت أيام الذبح؛ لأن التحلل جاز له، فلم يبق عليه حكم الأصل، فكانت الكفارة مستكملة حكماً، على أن أيام الذبح إن فاتت، فالذبح(2) إن فعل، كان قضاءً، لا أداءً، فهو في حكم من لم يجد البدل، فإن قاسوا من صام بعض الشهرين على من استكملهما؛ بسقوط فرض العتق عنه؛ بعلة أنه قد صام عن كفارته مع عدم الرقبة كانت هذه العلة غير مؤثرة؛ لأن من استكمل شهرين فقد استكمل الكفارة، ولم يبق عليه حكم الأصل، وهو حكم الظهار، فلا معنى لشيء من الكفارات في هذه الحال، على أنه يمكن أن يعارَضوا بما هو من جنس هذا القياس الذي لا تأثير لعلته، وهو أن يقال لهم: لا خلاف أن من استكمل الشهرين إذا وجد الرقبة، فلا مساغ معها للتكفير بالصيام، فكذلك إذا صام بعض الشهرين، وهذه المعارضة لم نذكرها على أنها مؤثرة، لكنا أردنا أن نبين أن قياسهم مع فساده مقابل بمثله، فوجب سقوطه من كل وجه. (39/12)
وجميع ما استدللنا به على أنه لا يجوز الصيام مع وجود الرقبة دلالة على أنه لا يجوز الإطعام في كفارة الظهار مع استطاعة الصيام على الوجه الذي مضى الكلام فيه، فلا غرض في إعادته.
باب القول في قضاء الصيام
[مسألة في كيفية قضاء رمضان]
من أفطر من(3) شهر رمضان أياماً مجتمعة، قضاها مجتمعة، وإن أفطرها مفترقة، قضاها مفترقة، وإن أفطرها متفرقة، فقضاها مجتمعة، كان أفضل.
__________
(1) ـ في (أ): لأنه.
(2) ـ في (أ): والذبح.
(3) ـ في (أ): في.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1). (39/13)
ونص ـ أيضاً ـ في (المنتخب) (2) على أنه يقضي كما أفطر.
وتحصيل المذهب أن التتابع مستحب، وتركه يجزئ، وإن كان مكروهاً؛ لأن القاسم عليه السلام قال في (مسائل النيروسي): فإن قضى متفرقاً، فقد أساء وقصَّر، ولم يوجب الإعادة.
وقال يحيى عليه السلام في (الأحكام) (3) في القضاء متتابعاً: (هذا أحسن ما في هذا وأقربه).
فدل ذلك على الاستحباب، وأجزأ ما عداه، والأصل في ذلك ما:
أخبرنا به أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن سليم الطائفي، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، قال: بلغني أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن تقطيع قضاء شهر رمضان، فقال: (( ذلك إليه، أرأيتَ أحدكم لو كان عليه دين، فقضى الدرهم والدرهمين، ألم يكن قضاء الدين؟ والله أحق أن يعفو، ويغفر)) (4) . ففي هذا الخبر دليل على أنه يكره، وأنه يجزئ وقوله: ذلك إليه، وتشبيهه بقضاء الدين، يدل على أنه يجزي، وقوله: (( اللّه أحق أن يعفو ويغفر ))، يدل على التقصير والإساءة؛ لأن العفو والغفران يكونان للإساءة والتقصير، وكذلك تشبيهه بقضاء الدرهم والدرهمين، يدل على ذلك؛ /149/ لأنه يكره للرجل أن يقضي ما عليه، الدرهم والدرهمين، مع القدرة على القضاء جملة، وتَوجُه المطالبة عليه بالجميع، ويكون مسيئاً بفعله ذلك.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/248 ـ 249 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر الأحكام 1/249.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/292.
وأخبرنا محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، قال: ((من كان عليه صوم من رمضان، فليصمه متصلاً، ولا يفرقه)) (1). فيدل ذلك على الاستحباب. (39/14)
فإن قيل: هلا استدللت به على الإيجاب؟
قيل له: ليكون ذلك جمعاً بينه وبين ما رويناه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ}، وقرأ أُبي: فعدة من أيام أخرَ متتابعات، وهذه القراءة، وإن لم يرد الخبر بها وروداً يوجب العلم، فإنه يوجب العمل، فدل ذلك على التتابع على ما ذكرناه، على أنه قد ثبت أن القضاء للفرض والنفل يوجب أن يكون سبيله سبيل المقضي في جميع أصول العبادات، وقد ثبت أن التتابع ليس بشرط في صحة الصوم؛ بدلالة أن من أفسد يوماً منه، لم يفسد سائره، وإذا ثبت أن التتابع ليس بشرط في صحة أداء صوم شهر رمضان، لم يجب أن يكون شرطاً في صحة القضاء، وإذا لم يكن شرطاً في الصحة، دلت الآية، والخبر المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام على أن تركه مكروه مع الإجزاء، فأما إذا أفطر أياماً مفترقة، وقضاها مجتمعة، فهو أفضل، لدلالة الآية والخبر عليه، إذ ليس فيهما أن ذلك إذا كان ما فات مجتمعاً؛ ولأنه مبادرة إلى رد(2) الواجب، ومسارعة إليه، فهو أولى.
مسألة: [هي المتطوع إذا أفطر، هل يقضي؟]
قال: ومن دخل في صيام متطوعاً، ثم أفطر، لم يجب عليه قضاؤه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3). وقد استقصينا هذا الكلام في هذا الباب في مسألة من دخل في صلاة التطوع، ثم أفسدها، من(4) كتاب الصلاة، فلا غرض في إعادته.
مسألة: [في من يجن في رمضان يفيق، هل يقضي؟]
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/294.
(2) ـ في (ب): أداء.
(3) ـ انظر الأحكام 1/247 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ في (أ): في.
قال: ولو أن رجلاً جُنَّ شهر رمضان كله، ثم أفاق، لزمه القضاء، وكذلك إن جُن بعض الشهر، قضاه. (39/15)
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1)، وقال فيه: (إنما هو علة عرضت)، فدل على أن المراد به الجنون الطارئ بعد التكليف. وعلى ذلك حمله أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ تعالى في (النصوص)، وهو صحيح؛ لأن الجنون إذا لم يكن طارئاً على التكليف، يكون سبيل صاحبه سبيل من لم يبلغ، فلا يلزمه قضاء ما فاته من الصوم. والأصل في ذلك قول اللّه تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فأوجب القضاء على المريض، والمسافر، والجنون مرض، فلزمه القضاء.
فإن قيل: روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( رفع القلم عن ثلاثة، عن المجنون حتى يفيق..)).
قيل له: كذلك نقول، ولا نوجب عليه القضاء، إلا بعد الإفاقة، وسقوط وجوب الصوم عنه في حال الجنون لا يدل على سقوط القضاء، كالمريض، والحائض، والنفساء.
ولا خلاف أن من أغمي عليه الشهر كله، يقضيه إذا أفاق، فكذلك إذا جُنَّ، والمعنى جواز(2) الصوم بزوال العقل، وليس ينتقض ذلك بمن لا يكون زوال عقله طارئاً؛ لأنا عللنا لأن نجعل حكم الجنون /150/ حكم الإغماء، ونسوّي بينهما.
فإن قيل: لا نسلم؛ لأن المغمى عليه زائل العقل.
قيل له: ذلك جهل لمعنى العقل؛ لأن العقل ليس هو أكثر من حصول العلوم الضرورية(3)، وقد علمنا أن المغمى عليه داخل في هذا الباب من الجنون، على أنا لو جعلنا العلة في ذلك زوال العلوم الضرورية، جاز، فلا وجه لتعلقهم بذلك.
__________
(1) ـ انظر المنتخب 91.
(2) ـ في هامش (ب): فوات ظنن عليها.
(3) ـ في (أ): العلم الضروري.
وأبو حنيفة يوافقنا على أنه إذا جن، ثم أفاق في بعض الشهر، لزمه قضاء ما جُنَّ فيه، فكذلك إذا أفاق بعد مضيه، والمعنى أنه فاته الصوم بجنون عارض. فإن قاسوه على الصبي؛ بعلة أنه يستحق به الولاية، كان منتقضاً بمن أفاق في بعض الشهر، على أن قياس الجنون، على الجنون وعلى الإغماء، أولى من قياسه على الصبي؛ لأن الجنون، والإغماء، لا ينافيان الصوم، وليس كذلك الطفولية؛ لأنها تنافي الصوم، على أن الإغماء عندنا إذا طال، كان مثل الجنون في استحقاق الولاية، فلا وجه للتفرقة به، على أن إيجاب القضاء لا ينفصل في شيء من المواضع بين الكل والبعض؛ لأن الصبا، والكفر، إذا زالا، فلا يجب قضاء بعض الشهر، ولا كله، والحيض، والنفاس، والإغماء، والمرض، إذا زالت، وجب قضاء البعض والكل من الشهر، فكان ما قلناه من التسوية بين زوال الجنون في بعض الشهر، أو(1) آخره. (39/16)
مسألة: [في المرتد إذا أسلم مرة أخرى، هل يقضي ما فاته من رمضان]
قال: ولو أن رجلاً ارتد عن الإسلام سنين، فلم يصُم، ثم رجع إلى الإسلام، لم يلزمه قضاء ما أفطر في حال ردته.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2). وقد استقصينا الكلام فيه في كتاب الصلاة في مسألة المرتد، إذا رجع إلى الإسلام أنه لا يقضي ما فاته من الصلاة بما يغني عن إعادته.
مسألة: [في وجوب قضاء رمضان على المسافر، والمريض، والحائض، والنفساء، والمرضع، والحامل]
قال: ومن أفطر من الرجال والنساء لعلة من العلل، كنحو السفر، والمرض، وكنحو الحيض والنفاس في النساء، وكالحامل والمرضع إذا خافتا على الجنين والمرضَع، لزمهم القضاء إذا خرجوا من عللهم.
قال: وللمستحاضة أن تصلي، وتصوم، وتقضي ما فاتها من الصوم، إذا خرجت من أيام حيضها.
__________
(1) ـ في (أ): و.
(2) ـ انظر المنتخب 91 وهو بلفظ قريب.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (1). (39/17)
قلنا: إن المسافر والمريض يقضيان ما أفطرا؛ لقول اللّه تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ}.
وقلنا ذلك في الحائض، والنفساء، لما(2):
ذكره يحيى عليه السلام عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: كان أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يرين ما ترى(3) النساء، فيقضين الصوم، ولا يقضين الصلاة، وقد كانت فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ترى ما يرى النساء، فتقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة.
وقلنا: إن المستحاضة تصوم، وتصلي، لما:
روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمرها أن تتوضأ وتصلي بعد مضي أيام أقرائها، فلما جازت الصلاة لها، جاز صيامها، وجميع هذه المسائل وفاق، لا خلاف فيها، فلا وجه للإطالة.
__________
(1) ـ نص على وجوب قضاء الحائض والمستحاضة والمريض في الأحكام 1/246 ـ 247 ونص على ذلك كله في الأحكام 1/255 ـ 256 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): كما.
(3) ـ في (أ): يرين.
باب القول في الاعتكاف والقول في ليلة القدر (40/1)
[مسألة في شروط الاعتكاف]
لا اعتكاف إلا بالصيام، واعتزال النساء ليلاً ونهاراً ما دام معتكفاً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
قلنا: إنه لا اعتكاف إلا بالصيام لما:
أخبرنا به أبو /151/ العباس الحسني قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن حبيب، قال: حدثنا محمد بن سليمان الواسطي، قال: حدثنا محمد بن هاشم البعلبكي، قال: حدثنا سويد بن عبد العزيز، عن سفيان، عن حسين، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( لا اعتكاف إلا بصيام )). وهذا نص في موضع الخلاف.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (لا اعتكاف إلا بصوم) (2).
وأخبرنا محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: لا اعتكاف إلا بصوم(3).
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (لا اعتكاف إلا بصوم).
وروي نحوه عن عائشة، وابن عمر. فصار ذلك كالإجماع من الصحابة.
وروي عن ابن عمر أن عمر قال للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: إني نذرت أن أعتكف يوماً. قال: (( اعتكف، وصم )). على أنه رأى أهل البيت عليهم السلام لا أحفظ عنهم فيه خلافاً، وما كان كذلك، لم يجز عندنا خلافه، وكذلك ما يروى عن علي عليه السلام.
فإن قيل: روي عن علي عليه السلام أنه قال: لا صوم على المعتكف، إلا أن يوجبه على نفسه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/249 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/333.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/334.
قيل له: معناه أن المعتكف إذا لم يوجب الاعتكاف على نفسه لا يجب عليه الصيام، وفائدته التنبيه، على أنه لا يجب بالدخول ما لم يكن معه إيجاب، ويدل على ذلك أن الاعتكاف لفظ مجمَل مفتقر إلى البيان؛ لأنه من طريق اللغة يفيد اللبث فقط، ولا خلاف أنه يفيد في الشرع سوى اللبث، ألا ترى أن قائلاً لو قال: لله عليَّ أن أعتكف، لزمه الاعتكاف، وإذا قال: لله عليَّ أن ألبث، لم يلزمه شيء، فإذا ثبت ذلك، ووجدنا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اعتكف صائماً، كان فعله بياناً له، وهو محمول على الوجوب؛ لكونه بياناً للواجب، فوجب الصيام في الاعتكاف. (40/2)
فإن قيل: فقد اعتكف صلى اللّه عليه وآله وسلم في مسجده، في(1) شهر رمضان، في العشر الأواخر منه، كما اعتكف صائماً، وشيء من ذلك لم يكن شرطاً في الاعتكاف، فكذلك الصيام.
قيل له: لولا قيام الدليل على أن ما ذكرت ليس بشرط في الاعتكاف، لوجب أن يكون الجميع شرطاً فيه.
فإن قيل: فقد روي عن عمر أنه قال [للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم] (2): إني كنت نذرت في الجاهلية إعتكاف ليلة. فقال له: (( أوف بنذرك ))، واعتكاف ليلة لا يكون فيه الصيام، فثبت أن الصيام ليس شرطاً فيه.
__________
(1) ـ في (أ): وفي.
(2) ـ سقط من (أ).
قيل له: ألفاظ هذا الحديث مختلفة. فقد روي أنه قال: إني نذرت اعتكاف ليلة، وروي: إعتكاف يوم، وروي: إعتكاف يوم وليلة، ويجوز أن يكون قال: إعتكاف يوم وليلة. فروى راوٍ: إعتكاف ليلة، وروى راوٍ: إعتكاف يوم؛ إذ من الجائز أن يعبَّر عن الزمان المشتمل على الليل واليوم بكل واحد منهما، كما قال اللّه تعالى لزكريا: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ}، وقال في سورة أخرى: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} فإذا احتمل، ذلك وجب حمله عليه؛ للأدلة التي ذكرناها، على أنه قد ثبت أن الاعتكاف حكم شرعي، فلا خلاف أن المعتكف يكون معتكفاً مع الصيام، فثبت أنه معتكف للإجماع، ولا دليل على حصول الاعتكاف بغير صيام، فلم يثبت اعتكافاً، ولا خلاف أن من قال: لله عليَّ أن ألبث، لم يلزمه شيء، ومن قال: لله عليَّ أن أعتكف، لزمه الاعتكاف، فلولا أن /152/ الاعتكاف يقتضي معنى سوى اللبث، لاستوى حكم اللفظين في النذر، فإذا ثبت ذلك، فلم يقل أحد بانضمام معنى إلى الاعتكاف إلا الصوم، فوجب أن يكون الصوم شرطاً فيه. (40/3)
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المعنى المضموم إليه هو النية؟
قيل له: النذر لا يتناول النية؛ لأن النية تجب بوجوب الْمَنوي، فيجب أن يحصل الوجوب للمَنوي حتى تجب النية له، ولا خلاف أن اللبث بعرفه لا يكون قربة إلا بانضمام معنى آخر إليه، فأوجب أن لا يكون اللبث في المساجد قربة إلا بمعنى آخر يُضم إليه، والمعنى أنه إقامة في موضع مخصوص، ولم يوجب أحد ذلك إلا أوجب الصيام.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المعنى المنضم إليه انتظار الصلاة؟
قيل له: لم يقل أحد بذلك، فوجب سقوطه، على أن الشافعي وهو المخالف في هذه المسألة يُجَوِّز اعتكاف أقل من يوم، ويُجَوِّز أن [لا] (1) يكون [فيه] (2) منتظر للصلاة.
فإن قيل: لو كان الصوم شرطاً فيه، لوجب أن لا يصح الاعتكاف ليلاً.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ سقط من (أ).
قيل له: يدخل فيه على سبيل التبع بحصول التتابع، ألا ترى أن المعتكف قد جُوز له الخروج من المسجد لحاجة لابد منها، وهذا لا يدل على أن اللبث في المسجد ليس شرطاً في صحته، وكذلك المبيت بمنى يكون قربة؛ لما يتعلق على الإنسان من حكم الرمي، ولا رمي بالليل(1)، فيدخل الليل تبعاً. (40/4)
فإن قيل: لو كان الصوم شرطاً فيه، لما صح [أن] (2) يدخل في رمضان؛ لأن صوم(3) رمضان لا يقع عن غيره.
قيل له: نحن لا نوجب عليه صوماً مستأنفاً للإعتكاف وإنما نقول: أن المعتكف لا يكون معتكفاً إلا أن يكون صائماً، فإذا حصل صائماً من أي وجه كان صومه، صح اعتكافه، وهذا كما نقول(4) أن من تطهر للصلاة، جاز له أن يصلي غيرها، ولم يمنع ذلك من كون الطهارة شرطاً في صحة الصلاة، وكذلك نقول أن الإحرام شرط لجواز دخول مكة، وهذا لا نوجب له إحراماً مجدداً، بل إذا كان محرماً لأي شيء كان من حجة، أو عمرة، أو حجة الإسلام، أو حجة نذر، جاز له ذلك، وكذلك الصوم في الاعتكاف.
واشترطنا اعتزال النساء ما دام معتكفاً ليلاً ونهاراً، والمراد به المجامعة، وما جرى مجراها؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِيْ الْمَسَاجِدْ}، على أنه لا خلاف في ذلك.
مسألة: [في أقل الاعتكاف]
قال: وأقل الاعتكاف يوم، ويجب على من اعتكف أن يدخل المسجد قبل طلوع الفجر إلى العشاء، وينوي الاعتكاف، أو يتلفظ به، إن أحب أن يوجبه على نفسه. فيقول: لله عليَّ اعتكاف يوم، أو أيام.
وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (5).
وروي أن أقل الاعتكاف يوم عن أبي حنيفة، وخالف فيه أبو يوسف، ومحمد، والشافعي.
__________
(1) ـ في (أ): في الليل.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ في (أ): صيام.
(4) ـ في (أ): يقول.
(5) ـ انظر الأحكام 1/249، 263 ، 264 وهو بلفظ قريب.
والوجه في أن بعض اليوم لا يصح الإعتكاف فيه أنه زمان لا يكون ما يختصه من الإمساك صوماً شرعياً، فوجب أن لا يكون ما يختصه من اللبث إعتكافاً شرعياً، قياساً على زمان الحيض والنفاس، وزمان الليل، على أن ما ذهبوا إليه يقتضي أحد أمرين قد ثبت فسادهما وهو أن من نوى اعتكاف نصف النهار إذا اعتكف إلى الظهر صائماً، ثم خرج من اعتكافه، وأفسد صومه، فلا بد من أن يكون اعتكافه بغير صوم، وقد قدمنا(1) الدليل على فساده، على أن /153/ أبا يوسف، ومحمد، لا يخالفان فيه. أو يفسد ما مضى من اعتكافه كاملاً صحيحاً، وهذا لا يجوز؛ لأنه يمتنع في جميع العبادات إذا وقعت صحيحة كاملة أن(2) تفسد بعد الفراغ منها بما يعرض بعدها، وكذلك الصيام، والحج، فلما ثبت بما بيناه أنه يؤدي إلى أحد أمرين فاسدين، ثبت فساده. (40/5)
فإن قيل: روي عن عائشة أنها قالت: كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه. وفي هذا أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يعتكف في بعض النهار.
قيل له: هذا لا يدل على ما ذكرت؛ لأنه يجوز أن تكون أرادت بقولها: ((معتَكَفَه))، الموضع الذي اتَّخَذَ للجلوس من جملة المسجد، يؤكد ذلك أنه من المعلوم أنه كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يصلي الفجر، في المسجد، فلا بد من أن يكون دخوله المسجد قبل أن يصلي الفجر والمسجد كله معتكَف، إلا أنه يجوز أن تكون خصت بالذكر مجلسه صلى اللّه عليه وآله وسلم من جملة المسجد، يؤكد ذلك ما:
__________
(1) ـ في (أ): عرَّفنا.
(2) ـ في (أ): ولايجوز أن تفزع.
رواه أبو داود في (السنن)، عن نافع أنه قال: أراني عبد اللّه ـ يعني ابن عمر ـ المكان الذي كان يعتكف فيه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من المسجد. فإذا ثبت ذلك، صح ما قلناه من أن المعتكِف يدخل المسجد قبل الفجر إلى العشاء، ليكون مستوفياً للنهار أجمع؛ لأنه لو دخل المسجد بعد طلوع الفجر، أو خرج منه قبل وقت العشاء، حصل اعتكافه في بعض النهار. (40/6)
وقلنا: إنه ينوي الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف لا يصح إلا بالنية كسائر العبادات؛ ولأنه لا خلاف فيه، ويدل عليه قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الأعمال بالنيات )) وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((وإنما لامرئ ما نوى )) .
وقلنا: إنه إن أحب أن يوجبه على نفسه تلفظ به وقال: لله عليَّ(1) اعتكاف يوم أو أيام؛ لأن الإيجاب طريقه اللفظ والنطق على ما بيناه في إيجاب الصوم بما يغني عن إعادته.
مسألة: [ومكان الاعتكاف المساجد]
قال: (والاعتكاف جائز في كل مسجد).
__________
(1) ـ في (أ): عليَّ لله.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وقال فيه: الاعتكاف هو إقامة الرجل في المسجد، فدل على أنه لا يجوز في غير المسجد. ويدل على ذلك قوله تعالى(2): {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِيْ الْمَسَاجِدِ}، فمنع من المباشرة العاكفين في المساجد أجمع من غير تخصيص، فدل ذلك على أن الاعتكاف يصح في جميع المساجد، ولما كان الاعتكاف حكماً شرعياً، وكان ورد في من يكون عاكفاً في المساجد، قلنا: إنه معتكِف، ومنعنا أن يكون المعتكف في غير المساجد معتكفاً؛ إذ لا دليل عليه، على أنا قد بينا أن الاعتكاف لفظ مجمل يفتقر إلى البيان، وأن ما هذا سبيله يجب(3) أن يكون فعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بياناً له، وقد ثبت أنه اعتكف في المسجد، فوجب أن يكون ذلك شرطاً في صحة الاعتكاف، كما قلناه في الصوم، ولا خلاف أن الاعتكاف في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جائز، فوجب أن يكون في سائر المساجد، قياساً عليه، والمعنى أنه مسجد على الإطلاق، ولا خلاف أنه لا يجوز في مكان لا يكون له بالصلاة ضرب من الاختصاص، فوجب أن لا يجوز في غير المساجد؛ بعلة أنه ليس بمسجد على الإطلاق،أو بعلة أنه لا يُمنع الحائض والجنب، وتقاس سائر المساجد على مسجد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم؛ بعلة أنه يمنع الحائض والجنب. (40/7)
مسألة: [في جواز خروج المعتكف من المسجد لحاجة أو قربة]
قال: ولا بأس أن يخرج المعتكف من مسجد اعتكافه لحاجة، أو لشهادة /154/ جنازة أو عيادة مريض.
قال: وإن احتاج إلى أن يأمر أهله، أو ينهاهم، وقف عليهم، وأمرهم، ونهاهم، وهو قائم، لا يجلس حتى يعود إلى المسجد.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (4).
والأصل فيه ما:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/249.
(2) ـ في (أ): قول الله تعالى.
(3) ـ في (أ): فيجب.
(4) ـ انظر الأحكام 1/264 وهو بلفظ قريب.
أخبرنا به أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام، قال: إذا اعتكف الرجل، فليشهد الجمعة، وليعد المريض، وليشهد الجنائز، وليأت أهله، فليأمرهم بالحاجة، وهو قائم(1). (40/8)
وروي عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعود المريض، وهو معتكف. فإذا ثبت جواز العيادة، ثبت جواز شهود الجنازة؛ إذ لم يفرق أحد بينهما.
فإن قيل: روي عن عائشة أنها قالت: كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يمر بالمريض، وهو معتكف، فيمر كما هو، لا يُعرِّج يسأل عنه. فصار هذا الخبر منافياً لخبركم، ودافعاً له.
قيل له: لا يمتنع أن يكون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عاد في بعض الأوقات في حال اعتكافه، وترك العيادة في بعضها، فلا يلزمنا شيء، ولا ينتفي خبرنا؛ إذ نحن لا نقول أن العيادة واجبة لا يجوز تركها، وإنما الخلاف في الجواز، فإذا ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان يفعلها، ثبت الجواز، ولم يَنْفِهِ ما روي أنه كان لا يفعلها.
وروى ـ أيضاً ـ زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: إذا اعتكف الرجل، فلا يرفث، ولا يجهل، ولا يقاتل، ولا يساب، ولا يمار، ويعود المريض، ويشيّع الجنازة، ويأتي الجمعة، ولا يأتي أهله إلا لغائط، أو لحاجة، فيأمرهم بها، وهو قائم لا يجلس.
وأيضاً لا خلاف أنه يخرج لصلاة الجمعة، فوجب أن يجوز خروجه لصلاة الجنازة، قياساً عليها؛ والعلة أنها صلاة واجبة لا يصح فعلها في معتكفه، وإذا ثبت ذلك في الصلاة على الجنازة، ثبت في عيادة المريض؛ إذ لم يفرق أحد بينهما.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/334.
ولا خلاف بيننا وبين أصحاب أبي حنيفة أن الاعتكاف إذا كان تطوعاً، جاز للمعتكف أن يعود المريض، ويشهد الجنازة، فكذلك إذا كان الاعتكاف واجباً، والمعنى أن كل واحد منهما اعتكاف صحيح، فوجب أن لا يفسد بهما. (40/9)
ومما يؤكد هذا القياس أنا وجدنا كل ما يفسد الاعتكاف إذا كان واجباً، أفسده إذا كان تطوعاً، وهذا مما يمكن أن يحرر، ويجعل قياساً.
فأما الخروج من المسجد لقضاء الحاجة على الوجه الذي ذكرنا فمما لا اختلاف فيه.
مسألة: [فيما يجوز للمكلف فعله]
قال: ولا بأس للمعتكف أن يتزوج، ويزوج غيره، ويشهد على التزويج، ولكن لا يدخل بأهله، ولا بأس أن يكتحل، ويدهن، ويتطيب بأي طيب شاء، من مسك أو غيره، ويستحب له أن لا يبيع، ولا يشتري، ولا يشتغل عن ذكر اللّه، وله أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، بلسانه، ويده.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ووجه ما ذكرنا من جواز هذه الأمور للمعتكف أنها أمور أبيحت له قبل الاعتكاف، ولم يدل الدليل [على] (2) أنها صارت محظورة بالاعتكاف، فهي على ما كانت عليه.
وقلنا: لا يدخل بأهله؛ لأن الدخول بأهله، إما أن يكون جماعاً، وهو مفسد للاعتكاف بالإجماع ونَصَّ التنزيل، أو يكون خلوه معها في بيت على وجه /155/ المكث، وهو ينافي اللبث، الذي هو الاعتكاف.
واستحببنا له أن لا يبيع، ولا يشتري؛ لأن موضع الاعتكاف للتفرغ للعبادة، فاستحببنا له أن يتوفر عليها، ويقل اشتغاله بأمر الدنيا.
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهما من أعظم الطاعات، والفروض، والتوفر عليهما(3) من أعظم القرب إلى اللّه تعالى، فلذلك قلنا إن للمعتكف أن يأتي منهما ما أمكنه.
مسألة: [في من جعل على نفسه ألا يكلم أحداً في اعتكافه، ما عليه؟]
قال: ومن جعل على نفسه أن لا يكلم أحداً في اعتكافه، فينبغي له أن يحنث، ويطعم عشرة مساكين.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/255 ـ 256 وهو بلفظ قريب جداً.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ في (أ): عليها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1). (40/10)
وهذا ينظر فيه، فإن عرض له أمر يلزمه بأن يُكلم أحداً، فإنه يحنث كما ذكر، وإن لم يعرض له، مضى على ما ألزم نفسه إن أحب، ولم تلزمه الكفارة.
ووجه لزومه الكفارة على الوجه الأول ما:
روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين، فإن كان نذره يؤديه إلى المعصية، سقط، ولزمته كفارة يمين على ما ذكره )).
مسألة: [في مفسدات الاعتكاف]
قال: وكل ما أفسد الصوم أفسد الاعتكاف.
نص في (الأحكام) (2) على ذلك فقال: (يفسد الاعتكاف ما يفسد الصوم، ويجوز فيه ما يجوز في الصوم) عاطفاً على قوله: (ولا يجوز للمعتكف غشيان النساء في ليل ولانهار)، فبان أنه أراد به الجماع، وما جرى مجراه، دون الأكل والشرب، وما جرى مجراهما؛ إذ من المعلوم أن الأكل والشرب ليلاً لا يفسدان الاعتكاف؛ إذ لو أفسداه، لم يصح اعتكاف أيام كثيرة فأما إذا أفسد الصوم بالأكل ونحوه نهاراً، فسد اعتكافه؛ إذ لا اعتكاف إلا بالصوم، فتحصيل المذهب في الجماع ونحوه: أن الجماع في الفرج، وإن كان ليلاً يفسد الاعتكاف، أنزل، أو لم ينزل، كما أنه يفسد الصيام إذا وقع نهاراً، وما عدا ذلك من المباشرة في غير الفرج، والقبلة، واللمس، أو النظر إن كان معه إنزال، فسد به الاعتكاف، كما يفسد الصوم، وإن لم يكن معه إنزال، لم يفسد الاعتكاف كما لا يفسد الصوم.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/263 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/264.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ..} الآية(1)، فكانت المباشرة التي أريدت بالآية هي المباشرة التي يفسد الصيام؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}؛ لأن ما عداها من المباشرة التي لا تفسد الصوم مباح له بعد الفجر، ولأن ذلك مما لا خلاف فيه، فبان بما ذكرناه من الإجماعُ ومقتضى الآية، أن الإباحة ليلاً كانت للمباشرة للصوم، قال تعالى بعد ذلك عاطفاً: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِيْ الْمَسَاجِدِ} فمنع المعتكف ما كان سبحانه أباح للصائم ليلاً من المباشرة، فكانت المباشرة المحظورة على المعتكف هي المباشرة التي تفسد الصيام، فصح بذلك ما ذهب إليه يحيى عليه السلام، على أنه لا خلاف أن المجامعة في الفرج تفسد الاعتكاف، فيجب أن يكون جميع ذلك مفسداً له إذا وقع على الوجه الذي بيناه، قياساً على الجماع، والمعنى [أنه] (2) حصول جنابة تفسد الصوم إذا وقع فيه، ولا خلاف أن اللمس بغير شهوة لا يفسد الاعتكاف، فوجب أن لا تفسده القبلة، والضمة /156/ والمباشرة فيما دون الفرج إذا لم يكن معه إنزال، قياساً عليه، والمعنى أنه مسيس لم تحصل معه جنابة. (40/11)
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون سائر المعاصي تفسد الاعتكاف؛ لأن المعتكف منهي عنها، كما قلتم أن الجماع يفسده؛ لكون المعتكف منهياً عنه.
قيل له: لسنا نقول ذلك على الإطلاق الذي ذكرت، وإنما نقول أنه يفسد الاعتكاف؛ لأن المعتكف منهي عنه لأمر يختص الاعتكاف، فلا يجب أن يفسده، كما أن ما نهي عنه الصائم لأمر يختص الصيام لا يوجب فساد الصيام.
مسألة: [في من يوجب على نفسه اعتكاف جمعة ولم يسمها]
__________
(1) ـ في نسخة: {فالآن باشروهنَّ}.
(2) ـ ظنن عليها في الهامش.
قال: ولو أن رجلاً أوجب على نفسه اعتكاف جمعة، ولم يسم أي جمعة هي، ولا في أي شهر هي، ولم ينو ذلك، فإنه يعتكف أي جمعة شاء، وإن سمى جمعة بعينها، لزمه اعتكافها، إلا أن يمنعه منه مانع، فإنه يعتكف جمعة مكانها إذا زال المانع. (40/12)
جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ووجهه أنه إذا أوجب على نفسه اعتكاف جمعة على الإطلاق لم يكن فيه تعيين، فكان سبيله سبيل من أوجب على نفسه اعتكاف يوم على الإطلاق، أنه يجزي(2) أي يوم اعتكفه بعد أن يكون يوماً(3) يصح فيه الاعتكاف، فكذلك الجمعة، فأما إذا عيّن جمعة، بأن سمّاها، أو نواها، فإنه يلزمه اعتكافها بعينها، وقد بينا فيما تقدم أن النية توقع اللفظ على وجه دون وجه، وتَجري مجرى النطق، فأما إذا سمى جمعة بعينها، فلا خلاف فيه، فإن منعه مانع من اعتكافها، تركه، وقضاه إذا زال المانع، لا خلاف فيه.
مسألة: [في من ألزم نفسه؟ اعتكاف أيام ونوى نهارها]
قال: ومن قال: لله علي أن أعتكف عشرين يوماً، ونوى نهار تلك الأيام دون لياليها، فله نيته، ولزمه أن يدخل المسجد قبل طلوع الفجر في تلك الأيام، ولا يخرج حتى يدخل وقت الإفطار، إلا لما ذكرنا من الأمور التي يجوز للمعتكف الخروج لها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4).
وهذا ـ أيضاً ـ قد مضى الكلام فيه؛ لأنا قد بينا أن للنية تأثيراً في إخراج بعض ما اقتضاه الإطلاق من جملته، وشبهناه بالعموم، واللفظ المحتمل، فلا فائدة في إعادته.
مسألة: [في المرأة إذا أوجب عليها اعتكاف أيام ثم أتاها الحيض]
قال: وإذا أوجبت المرأة على نفسها اعتكاف أيام، ثم حاضت في تلك الأيام، خرجت من مسجدها، فإذا طهرت، عادت إلى المسجد، وقضت ما فاتها من الاعتكاف، وأي معتكف أو معتكفة خافا على أنفسهما في مسجد معتكفهما، فلهما أن يخرجا إلى مسجد غيره.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/264 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): يجزيه.
(3) ـ في (أ): أي يوم.
(4) ـ انظر الأحكام 1/264 ـ 265 وهو بلفظ قريب.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1). (40/13)
قلنا: إنها إذا حاضت خرجت من اعتكافها؛ لأن(2) الاعتكاف مع الحيض لا يصح لوجهين:
أحدهما: أن الحائض ممنوعة من المسجد، فلا بد من خروجها منه، والاعتكاف لا يكون إلا في المسجد.
والثاني: أنه لا اعتكاف إلا بالصوم، والحيض مناف للصوم، والاعتكاف، فإذا خرجت من الحيض، عادت إلى الاعتكاف، وقضت ما فاتها، كما تقضي ما يفوتها من الصيام بالحيض، وكما تقضي ما يفوتها من الطواف بالحيض.
وقلنا: إنه إذا خاف على نفسه خرج إلى غير ذلك الموضع(3)، ويصير الموضع الذي انتقل إليه في حكم الموضع الذي انتقل عنه، والمعنى أن كل واحد منهما، لزمه لبث في مكان مخصوص، فانتقل عنه ضرورة إلى مكان يصح أن يكون فيه ابتداء، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِيْ الْمَسَاجِدِ}، فإذا انتقل إلى مسجد غير /157/ الأول يجب أن يكون على اعتكافه بحكم الظاهر.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم أنه بالخروج يكون قد أفسد اعتكافه؟
قيل له: الخروج لِما لا بد منه من الحاجة لا يفسد الاعتكاف، وكذلك هذا الخروج لأنه لا بد منه، ويجيء على هذا أن مسجده لو انهدم، أو أخرجه ظالم كُرهاً منه، فصار في مسجد سواه، أنه يكون على اعتكافه، وقد ذكر ذلك أبو العباس الحسني(4) رضي اللّه عنه في (النصوص).
مسألة: [في الإيصاء بالاعتكاف]
قال: ومن كان عليه اعتكاف أوجبه على نفسه، فحضرته الوفاة، فأوصى أن يعتكف عنه، أُخرج من ثلثه ما يستأجر به رجل من المسلمين يعتكف عنه ما كان عليه، ويلزم الأولياء إجازة هذه الوصية.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (5).
قلنا: إنه يُعتَكف عن الميت لما:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/266 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): مع.
(3) ـ في (أ): من المواضع.
(4) ـ في (أ): رضي الله تعالى.
(5) ـ انظر الأحكام 1/266 وهو بلفظ قريب.
رواه هناد بن السري في كتاب (المناسك)، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أتت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم امرأة فقالت: يا رسول اللّه، إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: (( أرأيتِ لو كان على أمك دين، أكنت تقضينه ))؟ قالت: بلى(1). قال: (( فدين اللّه أحق أن يقضى )). (40/14)
وأخبرنا أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد بن سلمة، عن حجاج، عن عبد اللّه بن عبيد الله بن عتبة، أن أمه نذرت أن تعتكف عشرة أيام، فماتت، ولم تعتكف، فقال ابن عباس: اعتكف عن أمك(2).
وأخبرنا محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، عن ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن إبراهيم بن المهاجر، عن عامر بن مصعب، أن عائشة اعتكفت عن أخيها بعدما مات فلما روي ذلك عن ابن عباس، وعن عائشة، ولم يرو عن غيرهما خلافه، جرى ذلك مجرى إجماع الصحابة.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن عباس أنه يصام عن الميت للنذر. (3) ولا خلاف في أن الميت قد يُحج عنه، فوجب أن يكون الاعتكاف كذلك؛ إذ هو مشتمل على عبادة يدخل المال فيه على بعض الوجوه، وهو الصوم، فإذا ثبت أنه يعتكف عنه، جاز أن يستأجر من يعتكف عنه؛ لأن ما صحت النيابة فيه، صح أن يستأجر من ينوب عنه، وكونه قربة لا يمنع من الاستئجار لها، كبناء المسجد، والقنطرة، وحفر السقاية، والقبر.
__________
(1) ـ الصواب: نعم.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/339.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/113 وإسناده: حدثنا ابن علية عن علي بن الحكم، عن ميمون، به.
وقلنا: يستأجر من الثلث؛ لأنه مما لا يختص المال، فلم يجب أن يكون حكمه حكم الزكوات إذا مات وهي عليه، ويجب أن يكون سبيله سبيل الحج، ويلزم الورثة إجازته، كما يلزمهم إجازة سائر وصاياه، ما لم يتجاوز الثلث. (40/15)
[مسألة: في العبد والمدبر وأم الولد والمكاتب يوجبون على أنفسهم الاعتكاف، هل يمنعهم سيدهم؟]
نص في (الأحكام)(1) على أن العبد، والمدبر، وأم الولد، والمكاتب، إذا أوجبوا الاعتكاف على أنفسهم، لزمهم، ولسيدهم أن يمنعهم غير المكاتب؛ لأن تصرفهم مستحق عليهم، فأما المكاتب، فلا يجوز له منعه منه؛ لأنه قد ملك تصرفه.
مسألة: [في ليلة القدر]
قال القاسم عليه السلام: ليلة القدر من أولها إلى آخرها في الفضل سواء، وهي ليلة ثلاث وعشرين، أو سبع وعشرين من شهر رمضان.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي). وذلك قول اللّه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِيْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ..} الآية.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كوكبة من الملائكة(2) يسلمون على كل قائم، وقاعد، يدعون اللّه، إلا لمدمنٍ على خمر، أو قاطع رحم)).
وروي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( هي في العشر الأواخر في الوتر /158/ منها، وهي ليلة طلقة، لا حارة، ولا باردة، تصبح الشمس [فيها](3) من يومها حمراء ضعيفة)).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/267 وهو بلفظ مقارب.
(2) ـ في (أ): عليهم السلام.
(3) ـ سقط من (ب).
وروي عن أبي ذر قال: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال: (( بل هي في رمضان )). قلت: تكون مع الأنبياء إذا كانوا، فإذا مضوا رفعت؟ قال: (( بل هي إلى يوم القيامة )). قال: قلت: في أي رمضان هي؟ قال: (( التمسوها في العشر الواخر )). قال: ثم كررت السؤال. فقال: (( التمسوها في السبع البواقي ))، لا تسألني عن شيء بعدها. فدل ذلك على بطلان ما يحكى عن أبي حنيفة أنه قال: إنها رفعت. (40/16)
وقلنا: إن أولها وآخرها في الفضل سواء، لأن تفضيل أحوالها لم يرد، ووردت(1) ما يدل على فضلها جملة.
وقلنا: ليلة ثلاث وعشرين، أو سبع وعشرين؛ لأن الأخبار وردت فيها أكثر.
__________
(1) ـ في (أ) و (ب): ورود وظنن في الهامش على ما أثبتناه.
باب القول في كيفية وجوب الحج وذكر فروضه (41/1)
[مسألة في شروط وجوب الحد وبيان ما هي الاستطاعة]
يجب على كل بالغ، حر، مسلم، استطاع إليه سبيلاً، والاستطاعة هي الزاد، والراحلة، وصحة، البدن والأمان على النفس.
نص في (الأحكام) على أن من لم يبلغ لايجب عليه الحج. ودل على أنه لايجب على العبد بقوله: إن أحرم بغير أذن سيده، فله أن يحله(1).
ونص على أن الذمي سبيله سبيلهما في وجوب الحج عليه إذا أسلم، حيث ذكر أن الصبي إذا بلغ، والعبد إذا عتق، والذمي إذا أسلم في وقت يمكنهم لحوق الوقوف بعرفة، وقفوا، وأدوا ما وجب عليهم(2).
فثبت بذلك من مذهبه ما ذكرنا من وجوب الحج على كل بالغ، حر، مسلم، مستطيع.
ونص في (الأحكام) (3) على أن الاستطاعة هي الزاد، والراحلة، والأمان على النفس، وروى(4) فيه عن جده القاسم عليه السلام صحة البدن.
قال أبو العباس الحسني: وذكر محمد بن القاسم عيه السلام فيما جمعه عن أبيه القاسم أن الحج يجب بوجود القوة والزاد، والمراد به عندي من كانت داره بمكة، أو قريباً منها؛ ليوافق ذلك ما اشتهر عنه من رواية يحيى عنه في (الأحكام)(5) ورواية النيروسي عنه في مسائله.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/334 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/303 ـ 304 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر الأحكام 1/273 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر الأحكام 1/313.
(5) ـ انظر الأحكام 1/313 وهو بلفظ قريب.
ووجه قولنا أن الحج يجب على كل بالغ، حر، مسلم، استطاع إليه سبيلاً قول اللّه تعالى: {وَلِلَّه عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبِيْتِ مِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً}. وثبت أن حج الصبي، والعبد والذمي(1) لايقع عن حجة الإسلام، أما العبد، والصبي فما روي عن ابن عباس، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( أيما صبي حج، ثم أدرك(2) الحلم، فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج، ثم عتق، فعليه أن يحج حجة أخرى )) . (41/2)
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام نحوه. على أن الصبي لايصح إحرامه عندنا على ما نبينه من بعد، فيجب أن لايجزئه حجه عن حجة الإسلام.
والعبد ـ أيضاً ـ ليس بمخاطب بالحج؛ لأنه ممن لايملِك، والحج فلابد من المال(3) فيه، وتصرفه ـ أيضاً ـ مستحَق عليه، والذمي لايصح حجه؛ لأن الإسلام شرط في صحة الإحرام، فإذا ثبت ذلك، صح ما ذكرناه من وجوب الحج على كل بالغ، مسلم حر، مستطيع.
وأما الزاد والراحلة فالأصل فيه ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن استطاعة الحج فقال: ((هي الزاد، والراحلة)).
ووجه الاستدلال منه أن اللّه تعالى أوجب الحج بشرط الاستطاعة، وبين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنها الزاد /159/ والراحلة، فدل ذلك على أن وجودهما شرط في وجوب الحج.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في قوله تعالى: {وَلِلَّه عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبِيْتِ مِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً} قال السبيل: الزاد، والراحلة.
__________
(1) ـ في (أ): والذمي والعبد.
(2) ـ في (أ): أدركه.
(3) ـ في (أ): أن يملك المال فيه.
فإن قيل: حقيقة الاستطاعة هي القوة، وعندكم أن كون المجاز مراداً باللفظ لايمنع كون الحقيقة مراداً(1) بها فما أنكرتم على من قال بأن الزاد والراحلة، وإن كانا مرادين، فلا يجب أن لاتكون القوة مراداً(2) بالآية، فيجب على القوي الحج، كما يجب على واجد الزاد والراحلة؟ (41/3)
قيل له: لسنا نمنع أن تكون القوة مراداً بالآية، إلا أنا نقول لابد من حصولها، وحصول الزاد، والراحلة، وقد ثبت أن الزاد، والراحلة مرادان كالقوة، على أن الاستطاعة إذا ثبت أنها تستعمل في اللغة في وجوه كثيرة، افتقر اللفظ إلى البيان، فإذا كان ذلك كذلك، كان قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( هي الزاد والراحلة )) بياناً لها، فوجب أن يكون المراد بها ما كان قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بياناً له.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: الحج بعرفة، (3) والعج به والثج. فما تنكرون على من قال لكم إن ذلك لايدل على أن الاستطاعة غير والزاد والراحلة؟
قيل له: عن هذا أجوبة:
أحدها: أن الظاهر أوجب أن لا حج غير الوقوف، وغير العج والثج، لكن اقتضى الدليل خلافه.
والثاني: أن الظاهر أوجب أن لايتم إلا بذلك، ولابد منه، فكذلك يوجب(4) أن تكون الاستطاعة لاتتم إلا بالزاد والراحلة، ولاتتم عندنا إلا بهما.
والثالث: أن قوله هي الزاد والراحلة خرج مخرج البيان، وقوله: ((الحج بعرفة والعج [به] والثج))، خرج مخرج التعظيم للوقوف والعج والثج، فلا يجب أن يستوي حكمهما، على أن المشهور في الرواية: ((أفضل الحج العج والثج))، وعلى هذا سقط(5) السؤال في هذه اللفظة.
__________
(1) ـ الصواب: مرادة به.
(2) ـ الصواب: مراده.
(3) ـ في هامش (ب): الحج بعرفة غير العج والثج هكذا في بعض النسخ، ثم قال: ينظر.
(4) ـ في (أ): وجب.
(5) ـ في (أ): يسقط.
فإن قيل: فالمحرَم شرط للمرأة في لزوم الحج، وهو لم يُذكر في خبر الاستطاعة، فما أنكرتم أن يكون ذلك سبيل القوة؟ قيل له: نحن لم نوجب عليها الحج بوجود المحرم إذا لم يكن زاد وراحلة، فكذلك لانوجب الحج بوجود القوة إذا لم يكن زاد وراحلة. (41/4)
فإن قيل: قد قال اللّه تعالى لإبراهيم عليه السلام: {وَأّذَّنْ فِيْ النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً..} الآية، وأنتم تقولون أن شرائع الأنبياء عليهم السلام تلزمنا مالم يثبت فيها النسخ، على أنه تعالى قال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلِيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيْمَ}.
قيل له: ليس فيه إيجاب الحج بغير الزاد والراحلة على الإطلاق، وإنما أخبر تعالى أنهم يأتون رجالاً، وليس في الآية أن ذلك واجب عليهم، على أنه يحتمل أن يكون المراد أن من قَرُب من مكة يأتي راجلاً، فأما من كان من الفجاج العميقة، فإنه يأتي راكباً، وهذا نص مذهبنا، ولاخلاف أن من أمكنه المشي الضعيف، وإن كان يصل به إلى مكة بزمان طويل، ومشقة شديدة، لايلزمه الحج إذا عدم الزاد والراحلة، فكذلك من أمكنه المشي القوي، والعلة أنه قَطْع مسافة بعيدة لقضاء نسك الحج، والراحلة قياس على الزاد، والعلة أنها بعض استطاعة الحج، وقياسنا أولى من قياسهم أهلَ الفجاج العميقة على سكان الحرم بعلة أنه مستطيع لقوَّته؛ لأن قياسنا مستند إلى قوله تعالى: {وَعَلَى كِلِّ ضَامِرٍ يَأَتِيْنَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيْقٍ} وإلى /160/ قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( هي الزاد، والراحلة )) لأن القول بخلافه يؤدي إلى أن لايتعلق الحج بالزاد والراحلة إلا لمن لايستطيع الحج بنفسه؛ لأن كل من استطاع الحج بنفسه أمكنه المشي إلى مكة، ولو بزمان بعيد، وهذا خلاف الإجماع، على أن موضوع العبادات على غير الحرج، وإلزام ما فيه المشقة العظيمة، ألا ترى أن المريض، والمسافر أبيح لهما الإفطار، وكذلك المريض أبيح له ترك القيام إلى القعود في الصلاة، والمسافر وُضع عنه بعض الصلاة، فوجب أن يكون سبيل الحج هذه السبيل. (41/5)
فأما الأمان على النفس، فإنه شرط في الحج. قال اللّه تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيْكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} والأمر يبنى على غالب الأحوال، فإذا كانت الحال حالاً يغلب معها التلف، لم يكن معها للسلامة المجوزة حكم [سقط وجوب الحج] (1).
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين زيادة لتوضيح المعنى.
قال أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه: والبحر فيه كالبر، وحكى عن محمد بن يحيى عليه السلام أنه احتج بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِيْ يُسَيِّرُكُمْ فِيْ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، وقوله تعالى: {وَالْفُلْكُ تَجْرِي فِيْ الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}، والاعتبار فيه بغالب الأحوال في السلامة والهلاك كما بيناه في البر، وأما صحة البدن، فسنذكر فيها ما يجب في مسألة من لايستقر على الراحلة. (41/6)
مسألة: [في حكم تأخير الحد إذا وجب، وهل يقتص الأمر القوي أم التراخي]
ولا يجوز تأخير الحج لمن يجب عليه، إلا لعذر مانع. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
والأصل فيه قول اللّه تعالى: {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً} فأوجب الحج، وتوعد على تركه.
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا الناصر، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من أراد دنيا وآخرة، فليؤم هذا البيت، أيها الناس عليكم بالحج والعمرة، فتابعوا بينهما )) .
وأخبرنا أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عمر الدينوري، قال: حدثنا عبد اللّه بن أحمد بن أبي مرة، قال: حدثنا عثمان بن اليمان، عن زمعة بن صالح، عن ابن طاووس، قال: سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاووساً، أنه سمع عبد اللّه بن عمرو بن العاص يحدث عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لاإله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم شهر رمضان )) .
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/312 وهو بلفظ قريب.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( حجوا قبل أن لاتحجوا )) فكل ذلك يدل على الأمر به، والإيجاب والأمر يقتضي الفور، فوجب ألا يجوز تأخير الحج. فإن قيل: فلم قلتم أن الأمر على الفور، والبدار دون أن تقولوا على التراخي؟ (41/7)
قيل له: لأن الأمر قد ثبت أنه يقتضي الإيجاب، فلو قلنا: إن للمأمور أن يفعل المأمور به، وأن لايفعل، وجعلنا له التخيير بين فعله وتركه عقيب الأمر، كنا قد أخرجناه من أن يكون واجباً، وألحقناه بالمباح، أو النفل، وفي هذا إن ورد الأمر وأن لايرد سواء في أنه لايقتضي الإيجاب، وفي هذا صرف الأمر عن جهته، وفساد ذلك يقتضي أن الأمر يقتضي البدار.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الأمر لايقتضي تعجيل فعل المأمور به، ومع هذا لايجب أن يصير في حكم الإباحة، ولا في حكم الندب؟
قيل له: لأن المباح هو ما يكون الإنسان مخيراً بين أن يفعله، وأن لايفعله على الإطلاق، ونحن نخير المأمور بالفعل بين أن يفعله، وأن لايفعله في ذلك الوقت.
قيل له: لو قلنا إن له تركه إلى وقت آخر، لخيرناه في ذلك الوقت بين فعله وتركه، فقد أخرجناه عن أن يكون ذلك واجباً عليه، وهذا هو صورة المباح في ذلك الوقت.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال /161/ لكم أنه لايكون بصورة المباح، ولا النفل؛ لأن المأمور مخير بين فعله، وفعل بدله في ذلك الوقت ـ وهو العزم على فعله في الثاني، أو ما بعده ـ كما يقولون إن كفارات اليمين تكون واجبة على البدل.
قيل له: إنما قلنا في كفارات اليمين أنها واجبة على البدل؛ لأن النص ورد به، وههنا لاسبيل إلى إثبات العزم بدلاً منه؛ لأن السمع لم يرد به، وإذا لم يجز إثباته بدلاً منه عاد(1) الأمر إلى ما قلناه بدئاً من أن الواجب يصير بصفة المباح، أو المندوب.
فإن قيل: إنه لايصير بصفة المباح لأن المباح هو ما يستوي فعله وتركه ونحن لانقول ذلك في المأمور به عقيب الأمر بل نقول إنه إذا فعله استحق الثواب.
__________
(1) ـ في (ب): أعاد.
قيل له: كان غرضنا أن نبين أن الفعل المأمور به على أوضاعكم خارج عن حد الوجوب، ولم يكن الغرض أن يثبت أنه على التحقيق يكون مباحاً، وأكثر ما في هذا الذي أوردتموه أن يكون بصورة التطوع، وهذا لايعصمه من فساد مذهبكم. (41/8)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إن الواجب على ضربين: مخير فيه، ومضيق، فإذا ثبت ذلك، احتاج التضيق إلى الدليل؟
قيل له: قد قدمنا نحن في دليلنا أن الإيجاب يقتضي التضييق، فصار التخيير هو المفتقر إلى الدليل، على أن التخيير إذا احتاج إلى إثبات وجود بدل لم يقتضه لفظ الإيجاب، يكون أولى بالافتقار إلى الدليل من التضييق الذي لايقتضي إلا إيجاب ما أوجبه اللفظ.
ومما يدل على أن وجوب الحج على التضييق ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( من مات، ولم يحج، مات ميتة جاهلية )) ، وفي بعض الأخبار: (( فليمت إن شاء يهودياً، أو نصرانياً )) فثبت بذلك أنه يكون عاصياً إذا مات، ولم يحج، فليس يخلو كونه عاصياً من أحد أمرين، إما أن يكون بالموت، وذلك لايجوز؛ لأنه فعل اللّه في العبد، والعبد لايجوز أن يصير عاصياً بفعل اللّه تعالى، أو يكون عاصياً بالتأخير، فلما لم يجز أن يصير عاصياً بالموت، لم يبقَ إلا أن يكون عاصياً بالتأخير، وهذا يقتضي إيجابه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه أمر مناديه بأن ينادي أَلا إن رسول اللّه حاج، فمن أراد الحج، فليحج، فعلقه بالإرادة، فدل ذلك على جواز التأخير.
قيل له: لايمتنع أن يكون المراد به من أراد الحج لوجوبه، وتعليقه بالإرادة لايمنع تضيق الوجوب، كما لايمنع الوجوب.
فإن قيل: لو كان وجوب الحج مضيقاً، لم يؤخره النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى سنة عشر، وفي تأخيره وتأخير أصحابه إياه دليل على أن وجوبه على التخيير.
قيل له: هذا لو ثبت أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أخره لا لعذر، فأما إذا لم يثبت، ذلك فلا يصح ما ادعيتموه؛ لأنا لانمنع من جواز تأخيره لعذر، وليس علينا أن نعرف عذره صلى اللّه عليه وآله وسلم، على أنه يحتمل أن يكون وجه العذر ما علم من الصلاح في مقامه في المدينة؛ لإظهار كلمة الحق، ودعاء ما حولها، ويجوز أن يكون غير ذلك. (41/9)
وقد قيل: إنه امتنع من الحج لأن المشركين كانوا يطوفون عراة، فلم يجز أن يراهم على تلك الحال، فامتنع لذلك، وجملة الأمر أن معرفة العذر بعينه لايجب علينا، ويكفي أن يكون ذلك مجوَّزاً.
فإن قيل: فإن المسلمين يتركون النكير على من أخره لغير عذر، فكان ذلك جارياً مجرى الاتفاق بينهم على جواز تأخيره.
قيل له: ترك النكير يجوز أن يكون لأنهم لايعرفون أن من أخره، أخره لغير عذر، ويجوز أن يكون لأن المسألة فيها للاجتهاد، مسرح وما /162/ جرى هذا المجرى فلا يجب النكير، فيه على أن المسلمين قد تركوا النكير على أكثر المنكرات لا لرضى، بل لمعاذير يطول ذكرها، فهذا كان دأبهم مذ قبض النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا.
وهو قياس على الصيام؛ لأنه عبادة للمال فيها مدخل، وعلى الزكوات بعلة أنها عبادة يتعلق فرضها بالمال، فوجب أن لايجوز تأخيره عن وقت وجوبه مع القدرة عليه، وزوال العذر، وهذا القياس أولى من قياسهم جواز تأخير الخروج إلى مدة يمكن فيها لحوق الحج؛ لأن هذا ليس بتأخير للحج على التحقيق، على أن قياسنا يتضمن الحظر، فهو أولى، وفيه الاحتياط، والمسارعة إلى أداء الواجب، واستناد إلى قوله تعالى: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقوله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}.
مسألة: [في الصبي يبلغ، والعبد يعتق، والذمي يسلم، ليلة عرفة]
قال: ولو أن صبياً بلغ، أو عبداً عتق، أو ذمياً أسلم ليلة عرفة، وأمكنه أن يحرم تلك الليلة بمكة في مسجدها، ثم يلحق بالحجاج، فعل ذلك، إن كان بمكة أحرم فيها، وإن كان في بعض جهات المواقيت، أحرم من موضعه، وكذلك إن كان بمنى، أو عرفات، رجع إلى مكة إن أمكنه ذلك، فإن لم يمكنه، أحرم من موضعه، وكذلك لو كان ذلك يوم عرفة، أو ليلة النحر، أجزأهم بعد أن يلحقوا الموقف قبل طلوع الفجر من يوم النحر. (41/10)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
والأصل فيه أن الحج يدرَك بإدراك الموقف بعرفة قبل طلوع الفجر من يوم النحر على ما نبينه في موضعه، فإذا أحرم هؤلاء، ثم لحقوا الموقف، فقد أدركوا الحج.
واستحب لهم الرجوع إلى مكة من منى وعرفات، وابتداء الإحرام منها؛ لتكون الحجة مكية ،فإنها أقل ما جرت به السنة لأهل الأمصار، وهي حجة المتمتع، فإن تعذر ذلك، أجزى الإحرام من سائر المواضع بعد أن يلحقوا الموقف.
وذكر أبو العباس الحسني أن الذمي والصبي يجددان الإحرَام ـ إن أسلم الذمي، أو بلغ الصبي ـ لأن إحرامهما ليس بإحرام، وأما العبد فإن كان أحرم، ثم عتق، مضى في حجته، فإن إحرامه منعقد، ولم يجزه عن حجة الإسلام؛ لأنه وقع مع الرق، فجرى مجرى أن يقع كمال الحج مع الرق في أنه لايجزئه عن حجة الإسلام بعلة أن كمال الحج لم يحصل في حال الحرية.
مسألة: [في فرض الحج عن الشيخ والعجوز وهل يصح الحج عنهما؟]
قال القاسم عليه السلام: (فرض الحج زائل عن الشيخ الكبير، والعجوز اللذين لايثبتان على الدابة والراحلة، فلا يقدران [أن] يسافَر بهما في محمل؛ لأنهما للحج غير مستطيعَين، فإن حجا عن أنفسهما، أو حج عنهما أحد، فحسن)(2). وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، ورواه يحيى في (الأحكام) (3).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/303 ـ 304.
(2) ـ ما بين القوسين في الأحكام.
(3) ـ انظر الأحكام 1/313.
والأصل فيه أن الصحة شرط في وجوب الحج لقوله تعالى: {وَلِلَّه عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبِيْتِ مِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً} ومن يكون مفارقاً لحال الصحة بحيث لايثبت على الراحلة، لايكون مستطيعاً، فوجب أن لايلزمه الحج. (41/11)
فإن قيل: فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة.
قيل له: كونهما مرادين بالآية لايمنع كون الصحة مرادة بها.
فإن قيل: فقد قلتم أن قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم جرى مجرى البيان لها، فلايجب أن يكون مقصوراً على بعض المراد.
قيل له: إذا كان الإشكال حصل في بعض المراد، فلايمتنع أن يكون البيان بياناً له، وكون الصحة من جملة الاستطاعة مما لايقع فيه إشكال، إذ هو معلوم من طريقة /163/ اللغة، والعرف، فكأنه قصد صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بيان ما أشكل، دون ما ظهر واتضح.
فإن قيل: من يمكنه فعل الشيء بغيره لايمتنع أن يقال أنه مستطيع له، ألا ترى أن القائل يقول فلان يستطيع البناء، وهو يريد أنه يستطيعه بغيره؟
قيل له: هذا ضرب من المجاز، والمجاز لا يُثبت مراداً إلا بالدليل، ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} والوسع هو الطاقة، فمن لم يطق الحج، لم يجز أن يكلَّفه.
ويدل على ذلك ما رواه ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: يارسول اللّه، إن فريضة اللّه سبحانه في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لايستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم. فدل ذلك على أن الحج لم يجب عليه، إذ لو وجب عليه، لم يجز أن تحج هي عنه، وإجازته صلى اللّه عليه وآله وسلم لها أن تحج عنه دليل على أنه لم يجب عليه.
فإن قيل: ففي هذا الخبر ما يدل على أن الحج وجب عليه، وهو أنها لما قالت فريضة اللّه على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لايستطيع أن يثبت على الراحلة، فلم ينكر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قولها وقارَّها فدل ذلك على وجوب الحج عليه.
قيل له: يجوز أن تكون أرادت الحال التي معها يجب الحج أدركت، كما تقول الحائض أدركتنا الصلاة في موضع كذا، ومرادها وقت الصلاة، وأن يكون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عرف ذلك من مرادها، فلم ينكر عليها. (41/12)
فإن قيل: فهذا صرف لكلامها عن ظاهره.
قيل له: لايمتنع من ذلك للأدلة التي قدمناها، على أن كلامها لا ظاهر له؛ لأنها قالت: فريضة اللّه على عباده في الحج أدركت أبي، ومن فريضة اللّه في الحج، أمور مخصوصة من جملة الحج وقد علمنا أنه لايصح أن يقال أنها أدركته، ولاكانت تلك مرادها، فلا بد من التأويل لما ذكرناه، ولاخلاف أن القوي إذا لم يجد الزاد والراحلة، لم يلزمه الحج، فكذلك إذا عدم الصحة، والمعنى أنه عادم كمال الاستطاعة، فوجب أن لايلزمه الحج، وأيضاً لاخلاف أن الصبي والمجنون لاحج في مالهما، فكذلك من لايستقر على الراحلة، والعلة أنه لايلزم الحج في نفسه، وكل من لم يلزمه الحج في نفسه، لم يلزمه في ماله، وليس لأحد أن يقول إن الصبي والمجنون لما سقط عنهما التكليف جملة، سقط الحج، فلا يكون لعلتكم تأثير، وذلك أنه متعلق بأموالهما الحقوقُ، فهذا الحق ـ أعني وجوب الحج ـ لم يسقط عنهما إلا لأنه لم يلزمهما في أنفسهما، واستحسن أن يحج عن نفسه، أو يحج عنه غيره؛ لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أذن للخثعمية أن تحج عن أبيها بعدما ذكرت حاله.
مسألة: [في فروض الحج التي لا بدل لها، ماهي؟]
قال: وفروض الحج التي لابدل لها الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الزيارة.
نص في (الأحكام) (1) على أن الدخول في الحج هو الإحرام فلا يكون داخلاً فيه بغير الإحرام. ونص في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3) على أن من فاته الوقوف بعرفة، بطلت حجته.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/273 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/295 وهو بالمعنى.
(3) ـ انظر المنتخب 105 وهو بالمعنى.
ونص في (الأحكام) (1) على أن من فاته طواف الزيارة وخرج لزمه الرجوع له وأنه في حكم المحصر حتى يرجع ويطوف. فهذه النصوص تفيد الجملة التي ذكرناها، وهذه الجملة لاخلاف فيها، لأنه لاخلاف أن من قضى نسكه غير محرم، لايكون حاجاً، وكذلك لاخلاف أن من فاته الوقوف بعرفة، بطل /164/ حجه وأنه لايجبر بغيره إلا شيئاً. يحكى عن بعض الإمامية أن الوقوف بالمشعر يجزئ، والإجماع يحجهم، وكذلك قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الحج عرفة )) . (41/13)
وروى أبو الحسن الكرخي في (المختصر) ـ بإسناده ـ يرفعه إلى عبد الرحمن بن يعمر الديلي، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (( الحج عرفات، الحج عرفات ـ ثلاثاً ـ فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك)) .
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، وإسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: سمعت عروة بن مُضَرِّس بن أويس الطائي، يقول: أتيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالمزدلفة فقلت: يارسول اللّه، جئت من طيء، ووالله ما جئت حتى أتعبت نفسي، وأنضيت راحلتي، وما تركت جبلاً من الجبال إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من شهد معنا هذه الصلاة ـ صلاة الفجر ـ بمزدلفة وقد كان وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه ))(2) .
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/327 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/207 ـ 208 ولكنه قال: ((يا رسول الله، هل لي من حج وقد أنضيت راحلتي)) أما هذا الحديث المذكور فذكره بسند آخر في نفس الصفحة فليرجع إليه.
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن عطاء أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك الحج، ومن فاتته عرفة فاته الحج )) (1). (41/14)
على أن الإمامية رووا أنه لايجوز الوقوف بعرفة عند الأراك، ورووا أن أصحاب الأراك لاحج لهم، فإذا كان العدول في الوقوف بعرفة من موضع إلى موضع يبطل الحج، فالأولى أن يبطل حج من لم يقف أصلاً.
وكذلك لا خلاف أن طواف الزيارة لايجبر بدم، وأن الإتيان به واجب، ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبِيْتِ الْعَتِيْقِ}.
وقد اختلف في غير ما ذكرنا هل له جبر إذا فات؟ وعند يحيى ما عدا هذه الثلاثة يُجبر، وسنذكر ما يجب في ذلك في مواضعه.
مسألة: [في حكم الوقوف بالمشعر الحرام، والعمرة]
وأشار القاسم إلى وجوب الوقوف بالمشعر الحرام، وإلى أن العمرة غير واجبة.
المسئلتان على ما ذكرناه مذكورتان في (مسائل النيروسي).
وإذا قلنا بوجوب الوقوف بالمشعر، فلسنا نريد أن الحج يفوت بفواته كالوقوف بعرفة، وإنما المراد أنه يجب وجوب الرمي، والبيتوتة بمنى، ونحوه، والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}، والذكر هناك لايكون إلا مع الكون فيه.
ويدل على ذلك أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقف فيه وقال: (( خذوا عني مناسككم )). وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من شهد معنا هذه الصلاة ـ صلاة الفجر ـ بالمزدلفة، وقد كان وقف بعرفة ليلاً، أو نهاراً، فقد تم حجه )) .
فأما ما يدل على أن الحج يتم دونه، فقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الحج عرفات، فمن أدرك عرفة قبل الفجر، فقد أدرك الحج )) ، وفيه دليل من وجهين:
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/225، وإسناده حدثنا أبو بكر، حدثا حفص بن غياث، عن ابن أبي ليلى، وابن جريح، به.
أحدهما أن قوله: (( الحج عرفات )) لايخلو من أن يريد به كمال الحج، أو يريد به استكمال الأركان التي لايتم الحج دونها، أو يريد امتناع طرو الفساد على الحج، وقد علمنا أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يرد كمال /165/ الحج؛ إذ قد ثبت أن الرمي، والكون بمزدلفة، والبيتوتة بمنى من الحج، فلم يبقَ إلا أن يريد استكمال الأركان التي لايتم الحج دونها، أو يريد امتناع طرو الفساد عليه، وأيَهما أراد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ففيه دليل على أن الحج يتم دونه. (41/15)
والوجه الثاني: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من أدرك عرفة قبل الفجر، فقد أدرك )) فجعل الوقوف إلى آخر جزء من الليل مجزئاً، وقد علمنا أن من وقف في ذلك الوقت، لم يلحق المشعر في وقته، فدل ـ أيضاً ـ أن الحج يتم دون الوقوف بالمشعر، ويدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ((كانت سودة امرأة ثبطة، ثقيلة، فاستأذنت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تفيض من جمع قبل أن تقف بالمشعر، فأذن لها ولوددت أني كنت استأذنت فأذن لي)) (1) فلما أذن لها في ترك الوقوف بالمشعر، علمنا أن الحج يتم دونه؛ لأن ما لايتم الحج دونه لارخصة في تركه للمعذور، وغير المعذور، ويدل على ذلك أيضاً: ما روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قدَّم النساء، والصبيان، وضَعَّفة أهله في السحر، ثم أقام هو حتى وقف بعد الفجر.
فصل: [في الاستدلال على عدم وجوب العمرة]
والذي يدل على أن العمرة غير واجبة [هو]:ـ حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قيل يارسول اللّه، العمرة واجبة مثل الحج؟ قال: لا. ولكن أن تعتمر خير لك )).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/210 وفيه سورة المرأة.
وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال: سأل رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الصلاة، والحج، أواجب؟ قال: ((نعم)). وسأله عن العمرة أواجبة هي؟ قال: ((لا، ولأن تعتمر خير لك)). (41/16)
وروى أبو بكر الجصاص في (شرح المختصر) بإسناده يرفعه إلى طلحة بن عبيدالله أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (( الحج جهاد، والعمرة تطوع )) .
وروى ـ أيضاً ـ في هذا الكتاب ـ بإسناده ـ عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الحج جهاد، والعمرة تطوع )) .
وروي في هذا الحديث ـ بإسناده ـ عن أبي صالح مرسلاً عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وذكر أنه قد روي عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
فإن قيل: روى ابن لهيعة، عن عطاء، عن جابر، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الحج والعمرة فريضتان واجبتان )).
قيل له: ابن لهيعة قد قيل إنه ضعيف، كثير الخطأ، وما رُوى عن جابر من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم حين سئل عن العمرة أواجبة قال: لا، أحسن سنداً منه. ويحتمل أن يكون المراد بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ـ إن صح الحديث ـ أنهما قد يكونان فريضتين واجبتين بالنذر، على أن أكثر ما في هذا أن يعارض حديثنا حديث جابر، فيسقط ويسلم لنا سائر ما ذكرناه من الأحاديث.
فإن قيل: فقد روي عن سمرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا، واعتمروا )) والأمر يدل على الوجوب.
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( أيها الناس /166/ عليكم بالحج والعمرة )) وذلك أيضاً يقتضي الوجوب.
قيل له: الخبران محمولان على أن المراد بالأمر الندب؛ للأدلة التي ذكرناها. فإن قيل: روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن الإسلام، فذكر الصلاة، وغيرها، ثم قال: (( وأن تحج، وتعتمر )).
قيل له: لايمتنع كثير من العلماء من القول بأن النوافل من جملة الإسلام ولايمتنع ذلك عندنا، ولاحجة للقوم فيه. (41/17)
فإن قيل: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ((دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)). فدل ذلك على وجوبها.
قيل له: هذا لأن نستدل به، أولى من أن تستدلوا به؛ لأن المراد أن الحج ينوب عنها، ألا ترى أن أفعال العمرة كلها موجودة في الحج، ولايجوز أن يكون المراد أن العمرة واجبة كالحج؛ لأن ذلك لا يَجعل دخول الحج في العمرة بأولى من دخول العمرة في الحج، يكشف ذلك أنه لايصح أن يقال: دخلت الصلاة في الحج، أو دخل الصيام في الحج، وليس يمتنع أن يقال: دخل الوضوء في الغسل، يُراد به أن الغسل ناب عنه على مذهب من يرى ذلك، ويقال: إن أحد الحدين دخل في الآخر، إذا ناب أحدهما عن صاحبه، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن من حج لم تلزمه العمرة، ولاقول بعد ذلك إلا القول بأنها سنة، وليست بواجبة.
فإن قيل: قول اللّه تعالى: {وَأَتِمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} يدل على وجوب العمرة.
قيل له: هو أمر بالإتمام وليس فيه دليل على وجوب الابتداء؛ لأنه يصح أن يقال: أتم الحج النفل، وأتم العمرة النافلة، وأتم الصلاة النافلة، فالأمر بالاتمام لايقتضي إيجاب الابتداء، فتكون الفائدة في ذلك إيجاب الإتمام بالدخول فيهما.
فإن قيل: فالأمر بالشيء يقتضي أنه أمر بما لايصح إلا به والاتمام لا يصح(1) إلا بالابتداء، فالأمر به يتضمن الأمر بالابتداء، فيحصل الابتداء بالعمرة واجباً.
قيل له: هذا كان يجب، لو ثبت أن من لم يدخل في العمرة مخاطب بالإتمام، فأما وذلك لم يثبت، وإنما خاطب من دخل فيها. فلا يجب ما ذكرتم، وهذا كما تقول: أوف بالنذر، أنه يوجب الوفاء إذا تقدم النذر، ولايوجب ابتداء النذر، وإن كان الوفاء بالنذر، لايصح إلا بتقدم النذر.
فإن قيل: ولم قلتم أنه خطاب يختص من دخل فيها؟
__________
(1) ـ في (ب): ولا تمام يصح.
قيل له: لأن الظاهر في الأمر بالإتمام أنه لايستعمل إلا فيمن ابتدأ، أو بشرط أن يبتدئ، كما لايقال: أوف بالنذر، إلا لمن نذر، أو مع إضمار ابتداء النذر، فيكون تقديره إذا نذرت، فأوف بالنذر، فعلى أحد هذين الوجهين يجب أن تحمل الآية. (41/18)
فإن قيل: روي عن ابن مسعود أنه قرأ: {وَأَقِيْمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ}.
قيل له: هذه قراءة ليست بمشهورة، فإن صحت حمل على أن المراد بها الندب، كما قلنا فيما روي في معناه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم؛ للأدلة التي ذكرناها.
فإن قيل: روي أن سراقة بن مالك قال: يارسول اللّه، عمرتنا هذه لعامنا هذا، أم للأبد؟ فقال: (( لو قلت لعامكم لوجبت، ولو وجبت، لم يطيقوها )) ولولا أنها واجبة في الأصل لم يكن لقوله هذا معنى، بل كان يقول: هي غير واجبة في الأصل، وكان لايشك في وجوب تكرارها.
قيل له: المشهور من سؤال سراقة على خلاف هذا، وهو: ما رواه أبو داود في السنن يرفعه إلى عطاء ابن أبي رباح، قال: حدثني جابر، قال: أهللنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالحج، فقدمنا مكة لأربع خلون من ذي الحجة، فطفنا، وسعينا، فأمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نُحِل وقال: (( لولا هديي، لحللت )). فقام سراقة فقال: يارسول اللّه، أرأيت متعتنا هذه، لعامنا /167/ هذا، أم للأبد؟ فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( بل هي للأبد )) فلم يكن ذلك سؤالاً عن العمرة وحدها، بل كان سؤالاً عن التمتع بالعمرة إلى الحج، والمراد به السؤال عن الحج، كما روي من سؤال الأقرع بن حابس في غيره، ويحتمل أن يكون بعض الرواة روى ذلك بلفظ العمرة، على أن ظاهر قوله: ((لو قلت لعامكم لوجبت)) يدل على أنها غير واجبة؛ لأن لو في كلام العرب موضوع لنفي الشيء لانتفاء غيره، وإذا كان هذا هكذا، فيحتمل أن يكون المراد به لو حضضت بها لهذا العام، لوجبت ووجب التكرار.
ويدل على ذلك من طريق النظر أنها عبادة مبتدأة لم يوقت شيء منها، فوجب أن تكون نفلاً، قياساً على الطواف النفل، واشترطنا كونها مبتدأة؛ لئلا تنتقض بالنذور؛ والكفارات. وقلنا لم يوقت شيء منها؛ لئلا يعترض عليها الإحرام للحج؛ لأنه من الحج، وعامته مؤقتة، ويشهد له سائر الفرائض؛ لأن كل فرض ابتدئ، فلا بد أن يكون مؤقتاً، ويؤكده سائر ما يتطوع به من الصلاة والصيام، لَمَّا لم تكن واجبة، لم تكن مؤقتة. (41/19)
فصل: [كم مرة يجب الحج؟]
حكى أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ عن القاسم عليه السلام أنه ذكر في مسألة النفي لوجوب العمرة أن الحج يجب مرة واحدة، واستدل بقوله تعالى: {وَلِلَّه عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبِيْتِ مِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً} فاقتضى فعل مرة واحدة، وهو صحيح؛ لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وإنما يقتضي فعل مرة واحدة؛ لأنه هو المعقول في الشاهد، ألا ترى أن من أمر عبده بفعلٍ، إنما يعقل منه وجوب الفعل مرة واحدة، وليس يجب أن يحمل الأمر على النهي؛ لأن النهي عن الشيء في الشاهد يعقل منه استدامة الانتهاء، ويدل على ذلك: ما رواه ابن عباس ـ رحمه اللّه تعالى ـ عن الأقرع بن حابس، أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الحج فقال: ألعامنا هذا، أم للأبد؟ فقال: (( للأبد، ولو قلت نعم، لوجب )) فدل ذلك على أنه يجب في العمر مرة واحدة.
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن ابن عباس أن الأقرع سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، الحج في كل عام، أو مرة واحدة؟ فقال: ((لا، بل مرة واحدة، فمن أراد فليتطوع)) وروى أيضاً بإسناده عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نحوه(1).
وفي حديث زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نحوه.
__________
(1) ـ أخرجهما ابن أبي شيبة في المصنف 3/430.
باب القول في الدخول في الحج والعمرة (42/1)
[مسألة: في بيان أشهر الحج]
لاينبغي للحاج أن يهل بالحج في غير أشهره، وأشهر الحج شوال، وذو القعدة، والعشر الأُوَل من ذي الحجة، ومن أهلَّ بالحج في غير هذه الأشهر، فقد أخطأ، ولزمه ما دخل فيه. وهذا كله منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ما ذهبنا إليه من أن أشهر الحج شوال، وذو القعدة، والعشر الأُوَل من ذي الحجة قد رواه أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ بإسناده في (النصوص) عن علي عليه السلام. [و] لاخلاف فيه بين الفقهاء إلا في اليوم العاشر من في الحجة ما فمن الناس من ذهب إلى أنه ليس من أشهر الحج، وجعل آخرها التاسع من ذي الحجة، والصحيح ما ذهبنا إليه؛ لأنه لاخلاف أن ليلة النحر يجوز الوقوف فيها، والوقوف معظم الحج بالإجماع، وطواف الزيارة وقته يوم النحر، فصح بذلك أن اليوم العاشر من ذي الحجة معدود في أشهر الحج، على أن العشر عبارة عن الليالي، ولا إشكال في أن ليلة النحر من أشهر الحج لما بينا.
وقلنا: إن من أهلَّ بالحج قبل أشهره، يكون /168/ قد أخطأ وأساء، لقول اللّه تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٍ} ومعلوم أن المراد به أن وقت الحج أشهر معلومات؛ لأن الحج لايكون أشهراً، وإذا ثبت ذلك، لم تخل أشهر الحج من أن تكون وقت الاختيار للحج، أو وقت الإجزاء، ولايجوز أن يكون وقت الإجزاء؛ إذ قد دل الدليل على أنه يجزي في سائر الشهور، على ما نذكره بعد هذا، فوجب أن يكون ذلك وقت الاختيار، فإذا ثبت أنه وقت الاختيار، كان العدول عنه مكروهاً، كما ثبت أن العدول عن أوقات الصلوات ـ التي هي أوقات الاختيار ـ لغير عذر مكروهٌ، على أني لست اعرف في هذا خلافاً، فلا وجه للاستقصاء فيه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/273 كما ذكره فيه ص 4 ـ 3 ـ 305 مفصلاً.
ويدل على أن من أهل بالحج قبل أشهر الحج، يلزمه ما دخل فيه قول اللّه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيْتُ لِلَّنَاسِ وَالْحَجّ} فجعل جميع الأهلة مواقيت للناس، والحج، فوجب أن يصح الإحرام له في جميع الشهور. (42/2)
فإن قيل: هو مخصوص بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٍ}.
قيل له: بل يحتمل قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٍ} على أنها وقت الاختيار، ويجري قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} على عمومه.
فإن قيل: كيف صرتم أنتم باستعمالكم أولى منا باستعمالنا؟
قيل له: لأن الآية التي تعلقنا بها حقيقة فيما ادعيناه، ومفيدة له بظاهرها، والآية التي تعلقتم بها لابد من أن يدخل فيها الضمير، ويقدر بوقت الحج أشهر معلومات، فيصير مجازاً، ولايفيد بظاهرها ما ادعيتموه، فكان استعمالنا أولى من استعمالكم؛ لأنا قضينا بما هو حقيقة على المجاز، وأنتم قضيتم بالمجاز على الحقيقة.
فإن قيل: قوله تعالى: {مَوَاقِيْتُ لِلَّنَاسِ وَالْحَجّ} محمول على العمرة؛ لأن العمرة يقال لها الحج.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( العمرة هي الحجة الصغرى )) فتكون الأهلَّة كلها مواقيت للعمرة.
قيل له: لو ثبت أن العمرة مرادة بالآية، كان حق العموم يقتضي أن تكون الأهلة كلها مواقيت للحج، والعمرة؛ لأن دخول الألف واللام على الحج يقتضي استغراق الجنس، كما اقتضى دخولهما على الأهلة استغراق الجنس، على أن إطلاق الحج يقتضي في عرف الشرع، وعرف اللغة، الحج المعهود، دون العمرة، وإن كان يجوز إطلاقه على العمرة، فلا يجب إذاً أن تكون العمرة مرادة بها؛ إذ الإطلاق لايتناولها.
فإن قيل: فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أهل بالحج في أشهر الحج وقال: (( خذوا عني مناسككم )) .
قيل له: إنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أهل في آخر ذي القعدة، فقد روى أبو داود في السنن ـ بإسناده ـ عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مراقبين هلال ذي الحجة، فلما كان بذي الحليفة، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من شاء أن يهل بحجة، فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة، فليهل )) ومع هذا فلا يجب أن يكون الإهلال بالحج في ذي القعدة. (42/3)
فإن قيل: أجزنا العدول عن هذا الوقت للدلالة التي قلنا.
قلنا: وكذلك أجزنا العدول عن أشهر الحج للدلالة، على أن فعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لايتناول موضع الخلاف؛ لوقوعه في وقت مخصوص من أشهر الحج، فإذاً نحن وأنتم سواء، ونقيس الأهلة التي قبل أشهر الحج على أشهر الحج في جواز /169/ الإهلال بالحج فيها، والعلة أنه زمان يصح أن يهل فيه بالعمرة، ولاخلاف أن من أهل بالحج في أشهر الحج، جاز، فكذلك إذا أهل قبله، والمعنى أنه أحرم بالحج مَن يصح منه عقد الإحرام، فوجب أن يجوز إحرامه به.
فإن قيل: أليس لايجوز الإحرام بالظهر قبل الزوال؛ لأنه إحرام به قبل وقته، فما أنكرتم أن لايجوز الإحرام بالحج قبل أشهره؟
قيل له: لسنا نسلم أن قبل أشهر الحج ليس بوقت للحج، فلا يلزم ما سألت، ونظير ما قلنا في ذلك من أحرم للظهر عند اصفرار الشمس لغير عذر، فإنه يكون مسيئاً، ويجزيه، فكذلك من أحرم بالحج قبل أشهره؛ لأنه عدول عن وقت الاختيار، أما قبل الزوال فليس بوقت للظهر على وجه من الوجوه، لا للإحرام، ولا للإختيار، على أنه لاخلاف أن الإحرام بالحج يصح في وقت لايصح أن يؤتى فيه بسائر أفعاله متصلاً به وليس كذلك الصلاة لأنه لايصح أن يفعل إحرامها إلا في وقت يصح أن يفعل فيه سائر أفعاله متصلاً بها، وجميع ما ذكرناه في هذا الباب يحج من زعم أن إحرامه لاينعقد، ويكون وجوده كعدمه، ومن زعم أنه ينعقد، وأنه لايجزي عن الحج، ويتحلل منه بعمل عمرة، على أن من قال أنه يكون للعمرة، فلا معنى لقوله؛ لأنه قد عقد الإحرام للحج، وقد قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( وإنما لكل(1) امرئ ما نوى )) ، وقال: (( الأعمال بالنيات )) على أن ذلك الوقت وقت لاينافي الإحرام بالإجماع، لأن المحصَر لو بقي على إحرامه إلى ذلك الوقت، لم يَنفِ ذلك إحرامه بالحج، فإذا صح أن يبقى فيه، صح أن يبتديه فيه. (42/4)
مسألة: [في ذكر المواقيت]
قال: والمواقيت التي وقَّتَها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خمسة، وهي مواقيت لأهل الآفاق، وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل نجد قرناً، ولأهل اليمن يلملم، فهذه مواقيت لأهلهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ومن كان منزله أقرب إلى مكة من هذه المواقيت، أحرم من منزله. جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2) إلا ما ذكرناه من حكم من يكون منزله أقرب إلى مكة من هذه المواقيت فإنه منصوص عليه في (المنتخب)(3).
__________
(1) ـ في (أ) و (ب): لامرءٍ ما نوى.
(2) ـ انظر الأحكام 1/273 وهو بلفظ قريب جداً.
(3) ـ انظر المنتخب 95.
والأصل فيه ما أخبرنا به أبو العباس الحسني قال: أخبرنا علي بن الحسن بن شيبه المروزي، قال: حدثنا موسى بن عمر بن علي الجرجاني، قال: حدثنا عمر بن يحيى النيسابوري، قال: حدثنا محمد بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: وقَّت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل اليمن يلملم. (42/5)
وأخبرنا أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا سفيان بن هارون القاضي، قال: حدثنا الزعفراني، قال: حدثنا سفيان، عن ابن طاووس، عن أبيه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرناً، وهذه المواقيت لأهلها ولمن أتى عليها من غير أهلها لمن حج(1)، أو اعتمر، ومن كان أهله دون الميقات فمن ثَم ينشئ الحج حتى يأتي مكة، فهذه الأخبار نصوص فيما ذهب إليه يحيى عليه السلام. /170/ وذهبت الإمامية إلى أن ميقات أهل العراق قبل ذات عرق، وذلك لا معنى له، للأخبار التي تقدمت ولما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه اللّه قال: أخبرنا علي بن الهيثم السعدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن دكين، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن عبدالأعلى، عن سويد بن غفلة، قال: خرجت مع علي عليه السلام، فأحرم من ذات عرق.
مسألة: [في مجاورة الميقات دون إحرام]
قال: ومن جاز بعض هذه المواقيت من غير أن يحرم فيها، وجب عليه أن يرجع إليها، ويحرم فيها، فإن لم يمكنه الرجوع إليها لعذر قاطع، أحرم وراءها قبل أن ينتهي إلى الحرم، ويستحب له أن يهريق دماً؛ لمجاوزة الميقات غير محرم. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2).
__________
(1) ـ في (ب): اعتمر أو حج.
(2) ـ انظر المنتخب 96 وهو بلفظ قريب، إلا أنه قال: إذا جاوزه متعمداً استحب له أن يهريق دماً.
وحكى أبو العباس الحسني عن يحيى بن الحسين عليه السلام في (كتاب الإبانة) القول بإيجاب الدم لمجاوزة الميقات، فيكون تحصيل المذهب فيه على الروايتين أنه إن جاوز الميقات، وأحرم، ولم يعد إليه، فالدم واجب، وإن رجع إليه، وأحرم فيه، فيكون قد ترك نسكاً واجباً، فأما إذا عاوده، وأحرم فيه، فلا يجب عليه دم؛ لأن المأخوذ عليه أن يقطع الميقات محرماً، بدلالة أنه لو أحرم قبل الميقات، وجاوزه محرماً، فلا شيء عليه، فكذلك إذا عاد، فأحرم فيه، أو قد حصل محرماً في الميقات، واستحببنا له أن يهريق دماً؛ لأن النقص قد لزمه، وإن لم يلزم حجة؛ لأن حجه قد انجبر لما كان من إحرامه في الميقات، فكونه ممن قد جاوزه غير محرم لا يرتفع، على أن أبا العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ ذكره في (النصوص) خلاف ما ذكره في (كتاب الإبانة). تحصيل المذهب فيه على أن مجاوزة الميقات لايوجب عند يحيى عليه السلام دماً، وذكر أن القاسم عليه السلام روى عن أمير المؤمنين عليه السلام فيمن جاوزه، لاشيء عليه، فإن صحت هذه الرواية لم يعدل عنها، وإلا فالأولى ما ذكرناه. (42/6)
مسألة: [في غسل الإحرام، ولباسه]
قال: ومن انتهى إلى بعض هذه المواقيت، وأراد الإحرام، اغتسل.
قال القاسم عليه السلام: والغسل سنة، ولو كان جنباً، أو محدثاً، فلم يجد الماء، أجزأه تيمم واحد لصلاته وإحرامه(1) ثم لبس ثوبيه، رداءً ومئزراً، والمرأة تلبس القميص، والسراويل، والمقنعة وجميع(2) ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (3)، في مواضع متفرقة(4) ، ونص في (المنتخب) (5) أيضاً على أنه لو ترك الغسل، أجزأه تحقيقاً لما رَوى عن جده أنه سنة، وقال في (المنتخب) (6): (يلبس ثوبين جديدين أو غسيلين). قد مضى في (كتاب الطهارة) الكلام في أن غسل الإحرام سنة. (42/7)
وروى عن الناصر عليه السلام أنه قال بوجوبه، وهو غير صحيح؛ إذ لادليل عليه، ولأنه غسل اقتضاه أمر مستَقبل، فأشبه غسل الجمعة والعيدين، فوجب أن يكون نفلاً.
وقلنا: إنه إن كان جنباً، وأعوزه الماء، أجزأه التيمم؛ لأن التيمم إذا قام مقام الغسل من الجنابة ـ وهو أوكد لأنه فرض ـ كان لأن يقوم مقام غسل الإحرام أولى.
وقلنا: إنه يلبس رداءً ومئزراً؛ لأنه لاخلاف أن الرجل إذا أحرم فلا يجوز أن يلبس المخيط.
روى أبو داود في (السنن) بإسناده يرفعه إلى الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: سأل رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ما يترك المحرم من الثياب فقال: (( لايلبس القميص، ولا /171/، البرنس، ولا السراويل، ولا العمامة، ولا ثوباً مسه ورس، ولازعفران، ولا الخفين، إلا أن لايجد النعلين، فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين )) .
__________
(1) ـ في (أ): ولإحرامه.
(2) ـ في (ب): جميع.
(3) ـ انظر الأحكام 1/273 حيث ذكر الغسل. وأما التيمم فذكره فيه ص 297 ولباس المرأة نص عليه في ص 303 والجميع بألفاظ مقاربة لما هنا.
(4) ـ في (أ): مفترقة.
(5) ـ انظر المنتخب 95.
(6) ـ انظر المنتخب 95.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يزيد بن سنان، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، عن عمرو بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر أن رجلاً سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟ قال: (( لاتلبسوا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أن يكون أحد ليست له نعلان، فليلبس الخفين أسفل من الكعبين )) (1) . (42/8)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن لبيبة عن عبدالملك بن جابر، عن جابر بن عبدالله، قال: كنت جالساً عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في المسجد، فَقَدَّ قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: (( إني أمرت ببدنتي(2) التي بعثت بها أن تقلد اليوم، وتشعر، فلبست قميصي، ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي )) وكان بعث ببدنته، وأقام بالمدينة(3).
وقلنا: إن المحرمة تلبس القميص، والسراويل، وَالمِقْنَعة؛ لأنه لاخلاف في جواز ذلك لها، وأن حكمها في هذا الباب مخالف لحكم الرجال.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/134 وفيه عمر بن نافع.
(2) ـ في (أ): بهذبي.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/138 وفيه عن عبد الرحمن بن عطاء بن لبيبة، وفيه متنه ويشعر على كذا وكذا.
وروى أبو داود في (السنن) وابن أبي شيبة ـ بإسنادهما جميعاً ـ عن ابن عمر أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى النساء في إحرامهن من القفازين، والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب. وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب، معصفراً، أو حذاء، أو سراويلاً، أو قميصاً، أو خفاً(1). (42/9)
وقوله(2): يلبس ثوبين جديدين، أو غسيلين، تنبيهاً على أن الجديد لا يكره، فقد حكى ذلك عن بعض الناس فلا معنى له؛ لأن المأخوذ عليه في الثوب هو الطهارة، فالجديد إذاً كالغسيل.
مسألة: [في كيفية الإهلال بالإفراد والقران، وفي صلاة ركعتين بعد الإحرام، وفي شرط القران]
فإن كان في وقت صلاة فريضة، صلاها، ثم قال: اللهم إني أريد الحج، إن كان مفرداً، وإن كان معتمراً، قال: اللهم إني أريد العمرة، وإن كان قارناً قال: اللهم إني أريد الحج والعمرة، ولايجوز القران إلا أن يسوق بدنة من موضع الإحرام، يجب أن ينيخها في الميقات، ثم يغتسل، ويلبس ثوبي إحرامه، ثم يشعرها بشَق في شِق سنامها الأيمن حتى يدميها، ويقلدها فرد نعل، ويجللها، ثم يصلي الفريضة إن كان في وقتها، وإن كان في غير وقت فريضة صلى ركعتين للإحرام، ثم يقول: اللهم إني أريد الحج والعمرة معاً. جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (3).
استحببنا أن يكون الإحرام بعقب صلاة مكتوبة، أو نافلة لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صلى الظهر بذي الحليفة حين أراد الإحرام، روى ذلك أبو داود في (السنن) عنه.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/284 وإسناده أبو بكر حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى وسعيد وعبد الله، عن نافع، به.
(2) ـ في (أ): فقوله.
(3) ـ صلاة ركعتين أن تصلي الفريضة، نص عليها في الأحكام 1/274 بلفظ مقارب. والإهلال بحج الإفراد، نص عليه فيه ص 282. والإهلال بالقران وشروطه نص عليه في الأحكام 1/291 ـ 292 بلفظ قريب جداً.
واستحببنا أن ينطق بما ينعقد الإحرام به؛ لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نطق بما أهَلَّ، به وليكون ذلك أقرب إلى أن تُواطِئ النيةُ الإهلال. (42/10)
فأما سوق البدنة للقارن، فقد قال أبو العباس الحسني(1) أنه إن قرن جاهلاً، ولم يسق، نحر بدنة بمنى، وحكى نحوه عن محمد بن يحيى عليه(2) السلام، ولم يذكر إيجاب دم لترك السوق، فاقتضى تحصيل المذهب أن يكون السوق للقارن مستحباً؛ لأن لو كان شرطاً في صحة الإحرام للقران، لكان /172/ الإحرام لاينعقد مع تركه، جاهلاً أو عالماً؛ لأن ما يكون شرطاً في صحته لاينفصل بين أن يترك مع العلم، أو الجهل، ولايجب أن يكون نسكاً واجباً؛ لأن النسك الواجب إذا تُرك، وجب جبره بإراقة دم، ولم يُذكر إيجاب الدم على من ترك السوق جاهلاً، فجعل المذهب أنه مؤكَد في باب الاستحباب.
والأصل فيه ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قرن، وساق.
وروى ابن أبي حاتم في (كتاب المناسك) عن عطاء، أن ابن عباس كان يأمر القارن أن يجعلها عمرة إذا لم يسق.
وروى في هذا الكتاب عن إسحاق بن راهويه أنه قال: مضت السُّنة عن(3) النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في القران بالسوق، والتمتع لمن لايقدر على السوق.
وروى عنه، عن مجاهد، والزهري أنهم كانوا لايرون القران إلا بسوق.
وقد روي نحوه عن علي بن الحسين، ومحمد بن علي عليهم السلام.
وأما الإشعار، والتقليد فالأصل فيه: ما أخبرني به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا أبو مطر(4) عن هشام الدستوائي، عن أبي قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أشعر في الجانب الأيمن، وساق.
__________
(1) ـ في (أ): رحمه الله تعالى.
(2) ـ في (أ): عليهم.
(3) ـ في (أ): من.
(4) ـ في (ب): أبو مطر.
وأخبرنا أبو الحسين قال: حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن المسور، ومروان أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عام الحديبية قلد الهدي، وأشعر، وأحرم. (42/11)
ويدل على أن التقليد نسك، قول اللّه تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللّهِ} إلى قوله: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ}. والتقليد وجهه ما روى أبو داود في (السنن) يرفعه إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي عليه السلام قال: أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أقوم على بُدْنِه، وأقْسِم جلودها، وجلالها، فدل على أنها كانت مجللة، وأن الجلال كانت في حكمها في تعلق النسك بها.
وكره أبو حنيفة الإشعار وقال: إنه منسوخ بما ثبت من النهي عن المثلة، ولأنه قياس على سائر البدن التي للجزاء، والكفارة؛ لأنها لا تشعر، وذلك غير صحيح؛ لأن المثلة هو الفعل الذي يقع على وجه العبث، أو شفاء الغيظ، ألا ترى أن قطع اليد، والرجل، وفقأ العين، وقطع الأذن من أعظم المثل، ثم السارق تقطع يده، وقاطع الطريق تقطع يده ورجله من خلاف، وتفقأ العين، وتقطع الأذن على وجه القصاص، ولايكون شيء من ذلك بمثلة(1)، فكذلك إشعار البُدَن؛ لأنه مفعول على وجه التأسي بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولايقصد به العبث، وشفاء الغيظ، فلا يجب أن يكون مثلة، وأما قياسهم فمدفوع بالنص، وكل قياس يرفع(2) النص، فهو باطل، ولامعنى له.
مسألة: [في دعاء الدخول في الحج، وهل يجب الشرط في الحج]
قال: ثم يقول الحاج، والمعتمر، بعد ذكر ما أراد الدخول فيه، واستحضاره النية: فيسره لي، وتقبله مني، ومحلي حيث حبستني، أحرم لك ـ بكذا(3) وكذا، ثم يسمي حجته، أو عمرته أو هما جميعاً ـ شعري، وبشري، ولحمي، ودمي، وما أقلته الأرض مني.
__________
(1) ـ في (أ): مثله.
(2) ـ في (أ): يدفع.
(3) ـ في (أ): كذا.
وهذا منصوص /173/ عليه في (الأحكام) (1). (42/12)
أما الاشتراط، فوجهه: ما رواه ابن عباس، وغيره أن صباغة بنت الزبير بن عبدالمطلب أتت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت: يارسول اللّه، إني أريد الحج أشترط؟ قال: نعم. قالت: فكيف أقول؟ قال: (( قولي لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث حبستني )) .
روى ذلك أبو داود في (السنن) ورواه ابن أبي حاتم في (المناسك)، قال ابن أبي حاتم: وروي عن علي عليه السلام، وعمر، وعثمان، وابن مسعود، وعمار، وابن عباس، وأم سلمة، وعائشة، أنهم كانوا يرون الشرط في الحج. قال: و[هو] (2) قول الليث بن سعد، وأما سائر الألفاظ فإنه استحبها لما ورد بها من الأخبار.
مسألة: [في لفظ التلبية]
قال: ثم يقول: لبيك، اللهم لبيك لبيك لاشريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك، والملك، لا شريك لك، لبيك ذا المعارج لبيك، لبيك بكذا وكذا، ويذكر ما دخل فيه، لبيك، ثم يسير ويسبح في طريقه، ويهلل، ويكبر، ويقرأ، ويستغفر، فإذا استوى بظهر البيداء، ابتدأ التلبية، وليرفع صوته بالتلبية رفعاً متوسطاً، وكلما علا نشزاً، كبر، وكلما انحدر، لبى، ولايغفل التلبية الفينة بعد الفينة.
وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (3) أما التلبية الأربع فهي التلبية المشهورة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/274 لفظه: اللهم إني أريد ـ ويسمى ما أراد ـ رغبة مني فيما رغبت فيه ولطلب ثوابك وتحسرياً لرضاك فيسره لي وبلغني فيه أملي في دنياي وآخرتي، واغفر لي ذنوبي وامح عني سيئاتي وقني شر سفري واخلفني بأحسن الخلافة في أهلي وولدي ومالي ومحلي حيث حبستني أحرم لك شعري.. الخ.
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ انظر الأحكام 1/274 ـ 275 وهو بلفظ مقارب.
أخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا المقدمي، قال: حدثني حماد بن زيد، عن أبان بن تغلب، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبدالله، قال: كانت تلبية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لبيك إن الحمد والنعمة لك(1). (42/13)
وأخبرنا المقرئ قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالكاً حدثه عن نافع، عن ابن عمر، أن تلبية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كانت كذلك، وزاد: ((والملك لاشريك لك)) (2).
وأخبرنا المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل المديني، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لبى في حجته كذلك(3).
وروى لنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي بإسناده عن الأعرج عن أبي هريرة أنه كان يقول: كان من تلبية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: لبيك إله الحق لبيك(4).
وروى أبو داود في (السنن) يرفعه إلى جابر قال: أَهلَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فذكر تلبيته الأربع قال: والناس يزيدون: ذا المعارج، ونحوه من الكلام، والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يسمع، ولايقول لهم شيئاً، فدلت مقارته صلى اللّه عليه وآله وسلم لهم على ذلك على أنه إن زيد كان حسناً.
وروي عن كثير من أهل البيت عليهم السلام لبيك ذا المعارج.
وأما رفع الصوت بها فلما روي: (( أفضل الحج العج والثج )) والعج من العجيج، وهو الصوت.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/124.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/124.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/124.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/124.
وروى أبو داود في (السنن) بإسناده إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( أتاني جبريل عليه السلام، وأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال )) أو قال: بالتلبية. (42/14)
وقلنا: يبتدئ التلبية إذا استوى بظهر البيداء، لما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا /174/ حاتم بن إسماعيل، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: إن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في حجة الوداع ركب ناقته فلما استوت به على البيداء أهل(1).
[وأخبرنا أبو بكر المقرئ قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا وهب، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن حسان، عن ابن عباس، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صلى بذي الحليفة ثم أُتي براحلته فلما استوت به على البيداء أهل](2).
وأخبرنا المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا وهب، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن ابن حسان، عن ابن عباس، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صلى بذي الحليفة ثم أتى براحلته فلما استوت به على البيداء أهل.
فإن قيل: يجوز أن يكون فعل ذلك على سبيل الإتفاق، لا على أن يكون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قصد إلى ذلك.
قيل له: نحن نستحب الاقتداء به صلى اللّه عليه وآله وسلم في العبادات حتى يثبت ما ذكرت وذلك مما لادليل عليه.
فإن قيل: روي عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه، أنه قال: ما أهل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلا من المسجد. يعني من مسجد ذي الحليفة.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/120 أنه قال: ناقته القصوى.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/120 إلا أنه قال: أبي حسان.
قيل له: نحن نقول بالخبرين جميعاً فنقول أنه يحرم في المسجد إذا صلى، ثم يلبي، ثم يأخذ في غيره من الذكر حتى يستوي على ظهر البيداء، ثم يبتدئ التلبية منها، فنكون قد استعملنا الأخبار كلها. (42/15)
وقلنا: كلما علا نشزاً، كبر، وكلما انحدر، لبى، ولايغفل التلبية الوقت بعد الوقت؛ لما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان يفعل ذلك، ويستحبه، واستحبه العلماء بعده؛ ولأن التلبية جارية في الإحرام مجرى التكبير من الصلاة، فكما استحب التكبير عند التنقل في الأحوال في الصلاة، فكذلك تستحب التلبية عند التنقل في الأحوال في الإحرام.
مسألة: [في المرأة تحرم للحج تطوعاً بغير إذن زوجها]
قال: ولو أن امرأة أحرمت بغير أذن زوجها بعد حجة الإسلام، فهو في أمرها بالخيار، إن أحب أن يمضي(1) بها حتى تقضي(2) ما اوجبته على نفسها، فعل، وإن أحب أن يمنعها من ذلك، وينقض إحرامها إن كان لايقدر على الذهاب بها، نقضه، وبعث عنها ببدنة، فتُنحر عنها، ويعتزلها إلى اليوم الذي أمر بنحرها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3). ووجه قولنا أن للزوج أن يمنعها من الإحرام ـ إذا لم تكن حجتها حجة الإسلام ـ قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( لايحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم تطوعاً إلا بأذن زوجها)) فإذاً يثبت(4) بهذا الخبر أنها ممنوعة من حج التطوع؛ لأن كل واحد منهما تطوع يمنع الزوجَ عن استيفاء حقه منها ـ وأيضاً ـ لو لم يجز منعها من الإحرام، لجاز أن تستديم الإحرام حاجَّة، أو معتمرة، وذلك يؤدي إلى إبطال حقه رأساً، فإذا ثبت، كان له أن يحل إحرامها، وينقضه؛ لأنا لو لم نقل ذلك، عاد الأمر إلى أن لايمكنه استيفاء حقه منها، فعلى هذا يجب أن يكون ما ذكرناه من اعتزالها استحباباً إلى أن تُنحر البدنة، لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان لما بعث ببدنته من المدينة كف عما يكف عنه المحرم، وأما إن لم يبعث ببدنته، وأمر أن يشترى هناك، وينحر، فلا وجه لهذا الاستحباب. (42/16)
وقلنا: إن الزوج ينحر عنها؛ لأن إفساد الحج تعلق به، ووقع من جهته، فوجب أن يتضمن ما لزمها من ذلك.
فإن قيل: فأنت لاتوجبون على السيد أن ينحر عن عبده إذا نقض إحرامه.
قيل له: [لأن] (5) العبد متعدٍ في إحرامه بغير إذن سيده/175/.
فإن قيل: إن الزوج استوفى حقه بنقض إحرامها، فوجب أن لايلزمه ضمان الدم.
__________
(1) ـ في (أ): تمضي.
(2) ـ في (أ): يقضى.
(3) ـ انظر الأحكام 1/334 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ في (ب): فإذاً ثبت.
(5) ـ سقط من (أ).
قيل له: والمحصر ـ أيضاً ـ يستوفي حقه بالإحلال، وذلك لايمنعه من لزوم الدم، ألا ترى أنه يستوفي حقه بالبرء إن كان مريضاً، أو بالتماس الأمن إن كان خائفاً من عدو، ومع ذلك يلزمه الدم، فكذلك لايمتنع أن يلزم الزوج الدم بنقض إحرامها، وإن كان مستوفياً حقه بذلك. (42/17)
مسألة: [في المرأة تحرم حجة الإسلام بغير إذن وليها]
قال: فإن كان إحرامها بحجة الإسلام، فلا ينبغي له أن يمنعها، إلا لعلة قاطعة لها، أو لمن يكون مَحرماً لها من ولد، أو غيره، فإنه يمنعها ويهدي عنها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
قلنا: إن كان إحرامها بحجة الإسلام لم يكن له منعها منها؛ لأن ذلك فرض من اللّه تعالى عليها ابتداءً، وكان مثل صوم شهر رمضان، والصلاة المكتوبة؛ لأن ذلك مستثنى من حقه عليها، والمسألة وفاق، وسائر ما ذكرناه في جواز فسخ إحرامها ـ إذا لم تكن أحرمت بحجة الإسلام لزوجها ـ لا يِعترض ما قلناه؛ لأنه ليس بتطوع ولأنه لايؤدي إلى استدامة إبطال حق الزوج؛ لأن حجة الإسلام لاتتكرر.
وقلنا: إنه يمنعها إن لم يكن لها مَحرم، لأن المحرم شرط في وجوب الحج عليها، والأصل فيه قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( لاتسافر المرأة بريداً فما فوقه إلا مع ذي محرم )) وقد مضى إسناده في باب قصر الصلاة. وروي: (( لاتسافر المرأة يوماً )). وروي: ثلاثة أيام. فدل ذلك على أن المرأة لايلزمها الحج إلا مع محرم.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/334 وهو بلفظ قريب.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، أنه سمع أبا معبد ـ مولى ابن عباس ـ يقول: قال ابن عباس: خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالناس فقال: (( لاتسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم )) (1). فقام رجل فقال: يارسول اللّه، إني اكتُتِبت في غزوة كذا وكذا، وقد أردت أن احج بامرأتي. فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( احجج مع امرأتك )). فدل هذا الخبر من وجهين على أن المرأة لاتحج إلا مع مَحرم: (42/18)
أحدهما: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( لاتسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم )) فنهى عن السفر من غير محرم، والحج سفر، فصارت منهية عنه إلا مع محرم. والثاني: أن الرجل لما قال له صلى اللّه عليه وآله وسلم ما قال حين سمع ذلك، قال له: (( احجج مع امرأتك )) وأمره بترك الغزو الذي هو مفروض، ولم يقل له: إنها تحج وحدها، أو مع المسلمين، ولم يقل إن مرادي كان السفر الذي ليس بحج.
وروى أبو بكر الجصاص في (شرح المختصر) بإسناده عن نافع، عن ابن عمر، قال: جاءت امرأة اإلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت: يارسول اللّه، إن ابنتي تريد الحج، فقال: (( ألها محرم؟ )) قالت: لا. قال: (( فزوجيها، ثم لتحج )) فدل ذلك على أنها لاتحج إلا مع ذي محرم.
فإن قيل: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه سئل عن الاستطاعة، فقال: (( الزاد، والراحلة )) ولم يذكر المحرم.
قيل له: يُجمع بين خبر الاستطاعة، وخبر المحرم، ويجوز أن يكون قال ذلك صلى اللّه عليه وآله وسلم لأن السائل كان رجلاً، وكان سأل عما يكون استطاعةً للرجل، على أنه لم يشترط الصحة، وهذا لم يمنع من كونها شرطاً، ألا ترى أن المفلوج، والْمُقْعَد لا يلزمهما الحج بأنفسهما.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/112 وفيه: ولا يدخل عليها رجل إلا معها ذو محرم.
فإن قيل: روي أن عائشة لما قيل لها أن أبا سعيد الخدري يفتي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( لايصلح للمرأة أن تسافر إلا ومعها محرم )) فقالت: ما لكلهن محرم. (42/19)
قيل له: ذلك رأيٌ من عائشة لم /176/ ترفعه، فلا معتبر به، ـ وأيضاً ـ لاخلاف أنها لا تسافر للتجارة، والنزهة إلا مع محرم، فكذلك الحج، والمعنى أنه سفر تمنع العدة ابتداؤه، وهذا لاينتقض بالمهاجِرة، أو الخائفة، أو التي يموت المحرم عنها، وهي في موضع لايمكنها الإقامة فيه.
فإن قيل: فعائشة سافرت بغير محرم.
قيل له: لسنا نرى الاقتداء بها مع مخالفتها قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، على أن سفرها كان لمحاربة علي عليه السلام، وذلك مما يوجب لها الفسوق، والضلال، ولاخلاف أن هذا الجنس من السفر محظور، فكيف يحتج به؟ أو للتحريض على عثمان حين سافرت إلى مكة، وذلك عند مخالفينا يوجب شق عصا المسلمين، وقد قيل: إنها كانت أم المؤمنين، وكل من كان معها كان في حكم الإبن لها.
مسألة: [في العبد والأمة يحرمان بغير أذن سيدهما]
قال: وأما العبد، والأمة، فمتى أحرما بغير أذن سيدهما، فله أن يحل إحرامهما، وينقضه، ولايجب عليه لهما هدي، ومتى عُتقا، أهديا ما عليهما من الهدي، ومضيا لما كانا أوجبا على أنفسهما من حجهما.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1). ولاخلاف أن للسيد نقض إحرامهما(2) وإلا كنا قد جعلنا لهما السبيل إلى إبطال حق السيد بأن يستديما الإحرام، على ما بيناه في إحرام المرأة، ولم نوجب عليهما الدم في الحال؛ لأنهما لا يَملكان، ولم نوجب الضمان على سيدهما؛ لأن السيد لم يكن أذن لهما في الإحرام، فصارا فيه متعديين، فلا مسرح لضمان السيد ما كان من جنياتهما التي لاتختص بآدمي بعينه، أوجبان عليهما [الدم] (3) بعد العتق كما يجب على غيرهما من الأحرار، لدخولهما فيما دخلا فيه، وقد ملكا أنفسهما، فسبيلهما سبيل الأحرار في جميع ما يلزمهم، وقد كان إحرامهما منعقداً بدلالة قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِيْ الْحَجِّ} فلم يخص عبداً من حر، وكون السيد مالكاً لفسخه لا يدل على أنه لم يكن منعقداً، كما أنْ ليس لكون الزوج مالكاً لفسخ إحرام زوجته دلالة على أنه لم ينعقد، ويقاس على الحر بعلة أنه مسلم، مكلف، عقد الإحرام على نفسه، فوجب أن ينعقد، فإذا ثبت أنه كان منعقداً، ثبت ما قلناه من أن حكمهما حكم سائر المسلمين في ذلك. (42/20)
مسألة: [في اللفظ بغير النية عند التلبية]
قال: ولو أن رجلاً أراد الحج، فغلط، ولبى بعمرة، لم يلزمه مالفظ به، ووجب عليه أن يعود، ويلبي بما نوى من حجته، وكذلك لو أراد التمتع بالعمرة إلى الحج، فغلط، ولبى بالحج، لم يلزمه ما لفظ به مخطئاً، ولزمه ما عقد عليه من العمرة، وكذلك لو أهل بحجتين ناسياً، وكانت نيته حجة واحدة، لم يلزمه غير ما نوى من الحجة الواحدة.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/334 ـ 335 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في هامش (أ) وهامش (ب): لأنا لو لم نجعل له ذلك كنا.
(3) ـ سقطت من (ب).
وجميعه منصوص عليه في (الأحكام)(1). والأصل فيه أن الإحرام منعقد بالنية، وإن تجردت عن التلبية، كما لا ينعقد [ما قاله الرجل] حاكياً أو قارئاً كتاب المناسك، وإذا ثبت ذلك، وجب فيمن عقد الإحرام بالحج، ناوياً له، ولبى بعمرة غلطاً منه، أن يلزمه الحج؛ لأن النية توجبه على ما بيناه، وسبيله سبيل من عقد الإحرام بالحج بالنية من غير تلبية تقارنه، في أن الحج يلزمه، ويكون سبيل تلبيته سبيل التلبية المجردة عن النية، في أنها لاتوجب إحراماً، فيلزمه ـ على هذا ـ ما نواه من حج، أو عمرة، ولايعتبر باللفظ غلطاً مما خالف عقده، وعلى هذه الطريقة يجري الكلام فيمن أحرم بحجتين ناسياً، وهو ناوٍ لحجة واحدة. وقد كان شيخنا أبو الحسين بن /177/ إسماعيل ـ رضي اللّه عنه ـ يذكر فيه وجهاً آخر، وهو أنه كان يقول: إن العمرة عبارة عن القصد كالحج، ويستدل بقول كُثير عزَّة: (42/21)
ومعتمرٍ في ركْب عزة لم يكن ... يريد اعتمار البيت إلا اعتمارها
فإذا ثبت أنهما في أصل اللغة عبارتان عن أصل واحد، فأيهما أطلقت، أفادت ما تقارنها النية، وعقدته، كما أنه لو لبى بحجة ناوياً لها، لزمته، وكذلك لو لبى بعمرة ناوياً لها لزمته.
مسألة: [في الإهلال بحجتين عمداً]
قال: ولو أنه أهل بحجتين معاً ذاكراً لهما، وعقد عليهما، كان عليه أن يمضي في إحداهما، ويرفض الثانية إلى السنة المقبلة، ووجب عليه لرفضها دم، وعليه أن يؤدي ما كان رفضه في السنة المقبلة، وكذلك لو أهل بعمرتين معاً، وعقد عليهما، لزمه المضي في إحديهما(2) ورفض الأخرى، ووجب عليه لرفضها دم، وقضى التي رفضها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/305 ـ 306 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): إحداهما.
(3) ـ انظر الأحكام 1/305 ـ 306 وهو بلفظ قريب جداً.
والدليل على ذلك قول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وهذا قد عقد على نفسه حجتين، فيلزمه الوفاء بهما حسب الإمكان. (42/22)
فإن قيل: لسنا نسلم أنه قد عقد حجتين.
قيل له: ليس عقدهما بأكثر من أن يحرم ناوياً لهما، مُهِلاً بهما، وهذا مما لاخلاف فيه، وإنما الخلاف في انعقادهما، وإذا ثبت أن العقد قد حصل من جهته، لزمه الوفاء بظاهر الآية.
ويدل على ذلك قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إنما لامرئٍ ما نوى )) وهذا قد نوى حجتين فيجب أن يكون له حجتان ـ وأيضاً ـ لاخلاف أنه يصح أن يعقد على نفسه الإحرام بحجة وعمرة معاً، فوجب أن يصح منه أن يعقد الإحرام بحجتين، والمعنى أن كل واحدة منهما عبادة تشتمل على الطواف، فوجب أن يصح الجمع بينهما في إحرام واحد، ويقال إن كل واحدة منهما عبادة يجب المضي في فاسدها، فوجب أن يصح الجمع بينهما في إحرام واحد، على أنه إذا صح الجمع بين الحج والعمرة للشَبه الذي بين أفعالهما، كان الأولى أن يصح الجمع بين الحجتين، لأن الشبه بينهما أقوى، وكذلك الجمع بين العمرتين، يبين ذلك أن الجمع بين إحرامي الصلاتين لَمَّا لم يصح، لم يختلف بين أن تكون الصلاتان من جنس واحد، أو من جنسين، فكذلك الجمع بين الإحرامين لما صح، وجب أن لايكون فرقاً بين أن يكونا بجنس واحد، أو بجنسين.
فإن قيل: يصح الجمع بين العمرة والحج؛ لأنه يصح المضي فيهما ولايصح الجمع بين الحجتين ولابين العمرتين لأنه لايصح المضي فيهما.
قيل له: تعذر المضي لايمنع صحة العقد ألا ترى أن الإنسان قد يجرم بالحج، وإن علم أنه يتعذر المضي فيه لعذر يصده، أو مرض يصدفه، ومع ذلك يصح العقد، وكذلك لو أحرم بالحج في زمان يعلم أنه لايلحق الحج فيه، ينعقد إحرامه، ولايمنع من صحته تعذر المضي، فيه فإذا ثبت ذلك لم يقدح فيما ذكرنا من انعقاد إحرامه بحجتين أو عمرتين تعذر المضي فيهما، يبين ذلك أن الإنسان قد يتمتع بالعمرة إلى الحج ثم يتعذر عليه المضي لضيق الوقت، ولا يمنع ذلك صحة الإحرام. (42/23)
فإن قيل: فإنه مندوب إلى الجمع بين الحج والعمرة، وليس بمندوب إلى الجمع بين الحجتين، أو(1) /178/ العمرتين.
قيل له: كونه غير مندوب إلى الجمع بين الحجتين، أو العمرتين، لايمنع ذلك صحة الإحرام بهما عندنا؛ لأنا نذهب إلى أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج، يكون قد فعل مالم يُندب إليه، ويكره له، ومع هذا فإن إحرامه ينعقد بالحج.
فإن قيل: لَمَّا لم يصح أن يكون الوقوف بعرفة عن حجتين، لم يصح أن يكون الإحرام إحراماً بحجتين.
قيل له: الوقوف قد ثبت أنه لايكون في السنة الواحدة إلا بحجة واحدة دون ما سواها، فلم يصح أن يكون بحجة أخرى، والإحرام الواحد يصح أن يكون بحجة وعمرة، فلم يمتنع أن يكون بحجتين.
فإن قاسوا الدخول في حجتين في أنه لايصح، على الدخول في الصلاتين، والصيامين، قُلِب ذلك عليهم بأن يقال لهم: إن الدخول في الصلاتين، والصيامين، لايختلف بين أن تكون الصلاتان من جنس واحد، أو من جنسين، وكذلك الصيامان، فوجب أن لايختلف حكم الإحرام بين أن يكون إحراماً بجنس واحد، وبين أن يكون إحراماً بجنسين ـ وأيضاً ـ لاخلاف أن الإحرام بالحج يوجبه، كالنذر به، فوجب أن يصح وجوب حجتين بالإحرام، كما صح وجوبهما بالنذر، والعلة أن كل واحد منهما يوجب الحج.
فإن قيل: النذر يوجبهما في الذمة، فكذلك(2) جاز أن يجتمع وجوب الحجتين.
__________
(1) ـ في (أ): و.
(2) ـ فلذلك ظ.
قيل له: فالدخول أيضاً يوجبهما في الذمة، ثم يمضي في إحداهما بعد الأخرى، كما أنه إذا أوجب على نفسه حجتين، وجبتا، ثم يمضي(1) في إحداهما بعد الأخرى وعلى هذا النحو يجري الكلام في العمرتين فإذا ثبت ما ذكرناه فلا خلاف في أن عليه رفض إحداهما وأنه يجب عليه بعد ذلك قضاؤها، ودم لرفضها، كالمحصر الذي قد رفض ما دخل فيه لتعذر المضي في عمله. (42/24)
مسألة: [في التلبية عن الأخرس]
قال القاسم عليه السلام في الأخرس الذي لايقدر على التلبية أنه لايجب أن يُلَبَي عنه.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
والأصل فيه ما نذكره من بعد مِن أَنَّ تركها لايوجب شيئاً، فإذا ثبت، كان الأخرس أولى أن يكون معذوراً فيه، وأن لا تجب التلبية عنه.
مسألة: [في العمرة أهي للشهر الذي أهل بها فيه، أم للذي تحل فيه؟]
قال: والعمرة تكون للشهر الذي عقدت فيه، دون الشهر الذي يحل منها فيه، فلو اعتمر رجل من بعض البلدان في شهر رمضان، ودخل مكة في شوال، فطاف، وسعى، ورحل، وأقام بها إلى وقت الحج، لم يكن متمتعاً، وكذلك إن اعتمر بعد تلك العمرة، فإن أراد الحج، كان حكمه حكم أهل مكة، ولم يجب عليه دم. جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2)، وروي نحو قولنا عن عطاء، وأبي ثور.
والدليل على أن عقد العمرة إذا كان قبل أشهر الحج، لم يكن تمتعاً، ما روي أن أهل الجاهلية كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور فأنزل اللّه تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فدل ذلك على أن المراد إيقاع العمرة في أشهر الحج؛ لما فيه من الرد على أهل الجاهلية على ما روي، تقديره: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج في أشهر الحج، ومن أوقع الإحرام بالعمرة قبل أشهر الحج، لم يكن موقعاً في أشهر الحج، وإنما يكون موقعاً بعضها فيها، فوجب أن لايلزمه حكم الآية، وأن لايجب عليه دم.
__________
(1) ـ في (أ) مضى.
(2) ـ انظر الأحكام 1/306 ـ 307 وهو بلفظ قريب.
وأيضاً لاخلاف أن من استوفى جميع أعمال عمرته قبل أشهر الحج أنه لايكون متمتعاً، فكذلك إذا ابتدأها قبل أشهر الحج، والمعنى أنه عقد /179/ إحرامها قبل أشهر الحج، ـ وأيضاً ـ اليسير من أعمالها لو فعل في أشهر الحج، والأكثر منها فعل قبلها، لم يكن متمتعاً، فكذلك وإن فعل الكثير(1) منها بعد أشهر الحج، والعلة أن بعض عمرته حصل قبل أشهر الحج. (42/25)
فإن قاسوا من أوقع أكثر أعمال عمرته في أشهر الحج على من أوقع جميعها فيها، بعلة أن أكثر أعمالها في أشهر الحج، لم يصح ذلك، وذلك أن من استوفى جميع الأفعال، لايقال أنه فعل أكثرها، ألا ترى أنه لايقال صام أكثر شهر رمضان لمن صام جميعه، ولايقال: صلى أكثر صلاة يومه لمن صلى جميعها؟ ونظائرها اكثر من أن تعد، فإذا صح ذلك، لم يؤخذ وصفهم في الأصل، على أن قياسهم لو صح، لوجب أن يكون قياسنا أولى، وذلك أنا وجدنا كل زمان كان فيه لانتهاء(2) العمرة حكم، كان فيه لابتدائها مثل ذلك الحكم؛ لأن الأوقات التي تكره فيها العمرة، حكم انتهائه(3) حكم ابتدائها، وكذلك الأوقات التي لاتكره فيها، فإذا ثبت ذلك، فالواجب أن يكون ابتداء العمرة في أشهر الحج.
فإن قيل: التمتع هو الإحلال من العمرة في أشهر الحج، فمتى وقع الإحلال منها، حصل التمتع.
قيل له: [هذا] فاسد، وذلك أنه لو صادف آخر جزء من العمرة آخر شهر رمضان، لم يكن متمتعاً وإن كان الإحلال يقع في شوال، فبان أن الذي ذكروه لامعتبر به، على أنه لايصح لأبي حنيفة من وجه آخر، وهو أن المتمتع(4) عنده ليس من الإحلال في شيء؛ لأنه يذهب إلى أن المتمتع لو ساق هدياً، لم يكن له أن يُحل، ويكون مع ذلك متمتعاً.
__________
(1) ـ في هامش (ب): الأكثر نخ.
(2) ـ في (أ): لابتداء العمرة حكم كان فيه لانتهائنا.
(3) ـ في (أ) وهامش (ب): ابتدائها حكم انتهائها.
(4) ـ في (أ): التمتع.
وقلان: إنه إن اعتمر بعد ذلك لم يخرج عن حكم أهل مكة ولم يكن له تمتع لن عقد الإحرام بالعمرة في غير أشهر الحج إذا كان يسقط حكم التمتع الموجب للدم فالاعتمار بعده وهو بمكة لايعيده. (42/26)
وهذا يدل على أن يحيى عليه السلام يذهب إلى أن أهل مكة لهم أن يتمتعوا، ولكن لادم عليهم، وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة: يكون من فعل ذلك من أهل مكة مسيئاً، وعليه للإساءة دم.
والذي يدل على ما ذكرناه قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} وقوله سحانه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ}، ولم يختص مكياً من غيره، فاقتضى العموم أن لهم أن يحجوا، أو يعتمروا كما لغيرهم ذلك.
وفي حديث زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( أيها الناس عليكم بالحج والعمرة، فتابعوا بينهما )) فكان ذلك خطابا طعاماً لجميع الناس، المكي منهم، وغير المكي.
وعن سمرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا، واعتمروا )) .
فإن قال: قال اللّه تعالى: {ذَلك لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
قيل: الخطاب مما يدل على التمتع الموجب للدم، وكذلك نقول أن التمتع الموجب للدم لا يكون لأهل مكة وإنما اختلفنا في التمتع الذي لايوجب الدم وقد قيل في هذا أن قوله ذلك راجع إلى الهدي، دون /180/ التمتع، فإذا قيل لهم: لو كان المراد به الهدي، لقال: ((ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)) ولم يقل: ((ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)). قالوا: لايمتنع أن يقال وجوب ذلك لهم، ويراد عليهم، كما يقال وجوب الحج للأغنياء، ولزوم الحج للمطيقين، ونحوه، و ـ أيضاً ـ فإن المكي قياس على غيره في أنه يصح له أن يعقد الإحرام بالحج بعد العمرة في أشهر الحج، بمعنى أنه ممن يصح أن يخاطب بالحج على أن صحة إحرامه لا يخالف فيه أبو حنيفة، وإنما يخالف في أنه يكون مسيئاً، والإساءة لادليل عليها، وهذا القياس يمكن أن يجعل قياساً على نفي الإساءة. (42/27)
فإن قيل: كيف تقولون ذلك وقد قال يحيى عليه السلام في (الأحكام) (1) بعد هذه المسألة: (وحكمه حكم أهل مكة، وليس هو من المتمتعين)؟.
قيل له: مراده أنه ليس من المتمتعين الذين يلزمهم الهدي، فقد بين ذلك في آخر المسألة.
مسألة: [في الرجل يعتمر ثم يجاوز ميقات بلده، ثم يحرم بعمرة، هل يكون متمتعاً ويلزمه دم؟]
قال: فإن خرج هذا الرجل إلى ميقات بلده، فجاوزه، ثم عاود(2) محرماً بعمرة، أو عاد، وأحرم بها بمكة، أو فيما بين ذلك، صار من المتمتعين، ولزمه الدم. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
قال أبو حنيفة: لايكون متمتعاً إلا أن يرجع إلى أهله. وقال أبو يوسف، ومحمد مثل قولنا. ووجه ما ذهبنا إليه قول اللّه تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وهو قد حصلت له العمرة، والحج في أشهر الحج، فاقتضى الظاهر أنه متمتع، وأنه يلزمه الدم.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/307.
(2) ـ في (أ): عاد.
(3) ـ انظر الأحكام 1/307 ـ 308 وهو بلفظ قريب.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِيْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، وهذا أهله غير حاضري المسجد الحرام، فوجب أن يكون متمتعاً، وأن يلزمه الدم، و ـ أيضاً ـ لاخلاف أنه لو لم يكن بمكة، فاعتمر من الميقات في أشهر الحج، ثم حج، لكان حكمه حكم المتمتع، فكذلك وإن حصل بمكة، والعلة أنه اعتمر من الميقات في أشهر الحج، ثم حج سنته، ولايخالفنا أبو حنيفة في أنه لو كان رجع إلى أهله، ثم عاد، لكان متمتعاً، فكذلك إذا جاوز الميقات، ثم عاد، قياساً عليه بعلة أنه قد أنشأ العمرة من الميقات، فاعتبار الميقات في هذا الباب أولى من اعتبار الوطن؛ لأن تأثير الميقات في الحج والعمرة أوكد من تأثير الوطن، فالاعتبار به أولى من الاعتبار بالوطن؛ لأن تعلق أحكام الإحرام به أقوى. (42/28)
مسألة: [فيمن أهل بعمرة وهو محرم بحجة أو هل تدخل العمرة على الحج؟]
قال: ومن جهل، فأهل بعمرة ـ وهو محرم بحجة ـ رفض العمرة، وقضاها بعد الحج، وعليه لرفضها دم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و (المنتخب) (2).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/308 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 106 وهو بلفظ قريب.
إدخال العمرة على الحج مكروه على ما ذكره يحيى عليه السلام من قوله: ((من جهل فأهل)) وقال أيضاً في آخر هذه المسألة: ((العمرة لاتدخل على الحج)) فلم يكن لهذا الكلام مع تنصيصه على انعقادها وجه إلا الكراهة. فأما مالك فإنه يذهب إلى أنها لا تنعقد، فالذي يدل على أنها تنعقد ما قدمناه من الكلام في الإهلال بحجتين، أو عمرتين من أن الإحرام بهما يصح، وتعذر المضي في إحداهما لايمنع صحة انعقاده، على ما بيناه، ولاخلاف أن إدخال الحج على العمرة صحيح، فوجب أن يصح إدخال العمرة على الحج؛ لأنهما نسكان يصح الجمع بينهما، أو يقال يصح إدخال إحداهما على الأخرى. فأما كونه مكروهاً، فهو مما لا أحفظ فيه خلافاً، ونهيُ عمر عنها بقوله: ((متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما، وأعاقب على فعلهما)) في وفور من الصحابة، ومحضر منهم، يدل على /181/ ذلك؛ لأن إحدى المتعتين المذكورتين هي إدخال العمرة على الحج؛ إذ لاخلاف أن التمتع بالعمرة إلى الحج غير منهي عنه، وإذا ثبت بما بينا أنها تنعقد، فيجب رفضها؛ لأن المهل بالحج، قد لزمته أعمال الحج واستغرقته، ولايصح منه المضي في العمرة. (42/29)
فإن قيل: أليس القارن تلزمه أعمال الحج، ويلزمه مع ذلك المضي في أعمال العمرة؟
قيل له: إن القارن يلزمه أعمال الحج، وأعمال العمرة معاً، فلا تكون أعمال الحج مستحَقة عليه على طريق الانفراد، والتعيين، وليس المهل بالحج كذلك، لأنه مستحق عليه أعمال الحج على الانفراد والتعيين، فلم يجز له المضي في أعمال العمرة على أنه لاخلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن المهل بالحج لو طاف، ثم أدخل عليه عمرة، بعد الطواف أنه يلزمه رفضها، فكذلك إذا ادخل عليها قبل الطواف، والمعنى أنه ادخل عمرة على حجة، فكل من أدخل عمرة على حجة، فيجب أن يلزمه رفضها، على أنه لايخالف في أن ذلك يكره، فلو كان سبيل من أدخل العمرة على الحج قبل الطواف على ما ذهب إليه سبيل القارن، لم يكن ذلك مكروهاً، ولم يكن الفاعل له مسيئاً، على أن نهي عمر عن ذلك لايفرق بين إدخال العمرة قبل الطواف، أو بعده، فهو على الحالين فدخل عمرة على حجة، وإذا ثبت ذلك صح ما ذكرناه من أن المضي في عمل العمرة لايصح على الحالين؛ إذ لاوجه للنهي عن ذلك، ألا ترى أن القران الذي يصح معه المضي في عمل العمرة صح، والحج غير مكروه، ولامنهي عنه؟ وإذا ثبت أنه يلزمه رفضها، فلا خلاف في لزوم قضائها؛ لأن العمرة تجب بالدخول فيها بالإجماع، كالحج، وإذا رُفضت، أو فَسدت، لزم قضاؤها، ولا خلاف في لزومه الدم لذلك، ولأنه كالمحصر؛ لأنه ممنوع من المضي فيما دخل فيه فيلزمه دم، كما لزم المحصر. (42/30)
مسألة: [هي العمرة أيام التشريق]
قال: ومن كان عليه قضاء عمرة رفضها، لم يجز له قضاؤها حتى تمضي أيام التشريق، وكذلك من أراد أن يتطوع بعمرة، فلا يتطوع بها حتى يمضي هذه الأيام. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و (المنتخب) (2). وذكر يحيى عليه السلام أنه مروي عن أمير المؤمنين ـ صلوات اللّه عليه ـ وقد روي ذلك عن عائشة، فإذا روي ذلك عنهما، ولم يرو خلافه عن احد من الصحابة، جرى مجرى الإجماع، على أنا لانتعدى ما ثبت عن أمير المؤمنين عليه السلام، وقد روى ابن أبي شيبة عن طاووس نحو قولهما. (42/31)
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/308 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 106 .
باب القول فيما ينبغي أن يفعله المفرد والقارن والمتمتع (43/1)
[مسألة في الاغتسال لدخول الحرم]
يستحب للحاج والمعتمر إذا انتهى إلى الحرم أن يغتسل. وهو منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2). ووجهه ما ذكره أبو العباس الحسني رضي الله عنه في (النصوص) أنَّه روي أن علياً، والحسن، والحسين، ومحمد بن علي عليهم السلام، كانوا يغتسلون بذي طوى. وروى نحوه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولأنه لما أراد دخول ذلك الموضع الذي عظمت حرمته، كان الغسل مستحباً [لما] (3) فيه من التطهر وإماطة الروائح الكريهة، كغسل الجمعات، والعيدين، ونحو ذلك.
مسألة: [في كيفية طواف القدوم وجواز تأخيره]
قال: والمفرد للحج إذا دخل مكة، إن شاء طاف، وسعى قبل الخروج إلى منى، وإن شاء ترك ذلك حتَّى يرجع، فإن أحب الطواف، دخل المسجد متطهراً، فإن(4) اغتسل كان أولى، ثُمَّ ابتدأ الطواف من الحجَر الأسود حتَّى يأتي باب الكعبة، ثُمَّ يأتي الحجر، ثم يأتي الركن اليماني، ثُمَّ يعود إلى الحَجَر، فيفعل ذلك حتَّى يطوف سبعاً، يرمل في ثلاثة، ويمشي في الرابعة الباقية، ويستلم الأركان كلها، وما لم يقدر عليه /182/ منها، أشار بيده إليه. وجميعه(5) منصوص عليه في (الأحكام)(6).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/278 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 106 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ ما بين المعكوفين في هامش (ب).
(4) ـ في (ب): وإن.
(5) ـ في (ب): جميعه.
(6) ـ انظر الأحكام 1/278 ـ 279، وما ذكره من وقت الطواف والسعي فنص عليه فيه 1/282 ، 287 إلا أنه لم يذكر أنه يأتي الحجر.
قلنا: إنَّه إذا دخل مكة، طاف، وسعى إن شاء قبل الخروج إلى منى لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله. وروى عن جابر أنَّه قال: أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأهللْتُ معه بالحج خالصاً حتَّى قدمنا مكة، فطفنا بالبيت، وبين الصفا والمروة. وعن طاووس(1) بن شهاب، عن أبي موسى الأشعري قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: بما أهللت؟ فقلت: إهلالاً كإهلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: ((أحسنت، طف بالبيت، وبين الصفا والمروة)). ولا خلاف في ذلك، وإنَّما الخلاف في وجوبه، وسيأتي الكلام فيه من بعد. (43/2)
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: أول ما يدخل مكة، فيأتي(2) الكعبة، فيمسح بالحجر الأسود، ويكبر، ويذكر الله، ويطوف، فإذا انتهى إلى الحجر الأسود، فذلك شوط، فليطف، كذلك سبع مرات.
ولا خلاف أن الطواف يبدأ من الحجر الأسود إلى جانب الباب، ثُمَّ الحجر، وعلى ذلك فعل الخلف والسلف.
وقلنا: إنَّه يرمل في ثلاثة، ويمشي في أربعة. لما: أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة وفهد قالا: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني(3) الليث، حدثني بن الهاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طاف في حجة الوداع سبعة، يرمل في ثلاثاه، ويمشي في أربعة(4).
وروى أبو جعفر(5) ـ بإسناده ـ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سعى ثلاثة، ومشى أربعة، حين قدم في الحج والعمرة حين كان اعتمر. فكثرت الروايات في ذلك.
__________
(1) ـ في (ب): وعن طارق.
(2) ـ في (ب): يأتي.
(3) ـ في (ب): حدثنا.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/181 وفيه حدثني الهاد.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في معاني الآثار 2/181.
وذهب قوم إلى أن الرمل ليس بمسنون، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فعل ذلك، وأمر به أصحابه ليُرِى المشركين جلَدهم، و[هذا لا معنى له] (1)؛ إذ قد روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد فعل ذلك في حجة الوداع، فمعلوم أنَّه سنة؛ لأنَّه لم يكن يحتاج يومئذٍ إلى أن يُظهر ذلك للمشركين؛ إذ كانوا قد ذلوا، وتبددوا، و ـ أيضاً ـ لو كان الغرض ذلك، لم يكن يقتصر بالرمل ابتداءً على ثلاثة أشواط، بل [و] (2) كان يزداد تارة، وينقص أخرى، فلما أطلقت الروايات بأنه رمل في ثلاثة، ومشى في أربعة، عُلم أنَّه مسنون. (43/3)
وقلنا: يستلم الأركان كلها لما: أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير بن معاوية، حدثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: كنا نستلم الأركان كلها(3).
وروى أبو داود في (السنن) بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طاف في حجة الوداع على بعير، يستلم الركن بمحجن.
وروى مثله عن صفية بنت شيب. وذلك يقتضي العموم. وروى(4) ابن أبي شيبة عن سويد بن غفلة أنَّه كان يستلم الأركان. وروى مثله عن عطاء، عن يعلى بن أمية. وقلنا: إن لم يقدر على الاستلام أشار بيده، لما روى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم استلم بمحجن. وذلك يجري مجرى أن يشير.
وقد روى ابن أبي شيبة بإسناده، عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طاف بالبيت على بعير، فكان إذا أتى الحجر الأسود، أشار إليه.
مسألة [فيماذا يقال عند استلام الأركان، وفي كيفية صلاة ركعتي الطواف]
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ زيادة في (أ).
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/183.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/366.
قال: ويقول عند استلامه: {رَبَّنَا آتِنَا فِيْ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِيْ الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، ويسبح الله، ويهلله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الطواف، فإذا فرغ منه، صلى ركعتين إزاء(1) مقام إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، وقرأ في الأولى بالحمد، وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية بالحمد، وقل هو الله أحد، وإن شاء قرأ في الأولى بقل هو الله أحد، وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون، أو بغيرهما من مُفَصَّل السور. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام)(2). (43/4)
وروى أبو داود في (السنن) بإسناده عن عبد الله بن السائب، قال: سمعت النبي(3) صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما بين الركنين {رَبَّنَا آتِنَا فِيْ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِيْ الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
وروى ابن أبي شيبة ـ أيضاً ـ بإسناده، عن رجل من خزاعة كان أميراً على الحاج، أنَّه خطب، وقال: إن النبي صلى الله عليه آله وسلم قال: ((يا عمر إنك رجل شديد، تؤذي الضعيف، فإذا طفت بالبيت، فرأيت خلوة، فادن منه، وإلاَّ فكبر، وهلل)) (4).
وروى ابن أبي شيبة(5) ـ أيضاً ـ بإسناده، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إذا حاذيت به، فكبر، فاذكر الله، وادع، وصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) ـ في (ب): وراء.
(2) ـ انظر الأحكام 1/279 ـ 280 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ رسول الله في (ب).
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/171 وفيه فرأيت من الحجر خلوة، وزاد في آخره: وامض، وإسناده حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي يعفور، به.
(5) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/171 وإسناده: حدثنا أبو بكر، حدثنا ابن فضيل، عن حجاج، عن عطاء، به.
وقلنا: يصلي ركعتين عند المقام لما روى ابن أبي شيبة(1)، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما طاف تقدم إلى المقام مقام إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيْمَ مُصَلَّى}. (43/5)
عن الزهري قال: ما طاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسبوعاً إلاَّ صلى هاهنا ركعتين ـ يعني عند المقام ـ.
وعن الحسن: مضت السنة أن مع كل أسبوع ركعتين. وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه(2) السلام، قال: إذا قضى طوافه، فليأت مقام إبراهيم عليه السلام، فليصل ركعتين.
وقلنا يقرأ فيهما بقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون، لما: روى هناد بن السري، حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن يعقوب بن زيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في ركعتي الطواف قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد.
وروى هناد، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهم السلام، قال: يستحب أن يقرأ فيهما قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد.
وروى ابن أبي شيبة، عن حفص، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ بهما في ركعتي الطواف. وقلنا: أو بغيرهما من المفصل؛ إذ لا خلاف في جوازه(3).
مسألة [في استقبال الكعبة بعد الركعتين، والدعاء عندها، ودخول زمزم]
قال: ثُمَّ ينهض، ويستقبل الكعبة، ويدعوا بما أحب، ثُمَّ يدخل زمزم إن أحب، ويشرب من مائها.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/370.
(2) ـ في (ب): عليهم.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/444.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب)(2). وقلنا: يعود إلى الكعبة بعدهما؛ لما جاء في حديث زيد بن علي، عن علي عليه السلام قال: يستلم الحجر حين يخرج إلى الصفاء(3). (43/6)
وفيما روى ابن أبي شيبة، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجع إلى الركن فاستلمه. وقلنا يشرب من زمزم؛ لأنَّه لا خلاف أنَّه يبترك به(4) وأنَّه مستحب.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((لولا أن أشق على أمتي لنزعت منها ذنوباً، أو ذنوبين)).
وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ماء زمزم لما شرب له)).
وفي حديث جعفر، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرب منه(5).
مسألة [في كيفية السعي بن الصفا والمروة]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/280 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 108 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه ابن ابن أبي شيبة في المصنف 3/335.
(4) ـ في (أ): يتبركه.
(5) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/273، وإسناده حدثنا أبو بكر حدثنا سعيد بن زكريا وزيد بن الحباب، عن عبد الله بن المؤمل، به.
قال: ثُمَّ يخرج إلى الصفا، فإذا استوى على الصفا، فليستقبل الكعبة بوجهه، /184/ ويدعو بما حضره، ويسبح، ويهلل، ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ينزل من الصفا، ويمضي حتَّى إذا حاذى الميل الأخضر المعلوم في الجدار، هرول حتَّى يحاذي الميل المنصوب في أول السراجين، ثُمَّ يمشي حتَّى ينتهي إلى المروة، ثُمَّ يصعد عليها حتَّى تواجهه الكعبة، ثُمَّ يدعو بمثل(1) ما دعاه على الصفا، ويسبح، ويهلل، وكذلك يفعل في سعيه بين الصفاء والمروة، ثُمَّ ينحد (عنها، ويعود إلى الصفا، ثُمَّ يعود إلى المروة حتَّى سعى سبعة أشواط، ثُمَّ ينصرف من المروة. جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب)(3). (43/7)
والأصل فيه ما روى ابن أبي شيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر قال: ثُمَّ خرج ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد ما رجع إلى الركن، فاستلمه، وخرج من باب الصفا، إلى الصفا، فلما دنا منه، قرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدءوا بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقى عليه حتَّى(4) يرى البيت، فاستقبل القبلة، ووحد الله، وكبره، ثُمَّ دعا، ثُمَّ نزل إلى المروة حتَّى انصب(5) قدماه إلى بطن الوادي(6) حتَّى إذا صعدتا منه، مشى حتَّى أتى إلى المروة، ففعل على المروة، كما فعل على الصفا(7).
وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعى في بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة(8).
__________
(1) ـ في (أ): بما دعا به على الصفا.
(2) ـ انظر الأحكام 1/280 ـ 281 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 108 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ في (أ): حيث.
(5) ـ في (ب): انصبت.
(6) ـ في (ب) زيادة: رمل في بعض الوادي.
(7) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/335.
(8) ـ أخرجه أن أبي شيبة في المنصف 3/251.
وهكذا روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام. فلا(1) خلاف أن السعي بينهما سبعة، يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة. (43/8)
مسألة [في وقت قطع التلبية]
قال: ولا يزال ملبياً إلى أول ما يرمي جمرة العقبة، وكذلك القارن لا يزال ملبياً إلى ذلك الوقت. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2) و(المنتخب)(3). وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي. وقال مالك: تقطع يوم عرفة، وهو مذهب الإمامية.
والأصل فيه: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثناالطحاوي، حدثنا علي بن معبد، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام، حدثنا محمد بن إسحاق، عن إبان بن صالح، عن عكرمة، قال: وقفت مع الحسين بن علي عليهم السلام، فكان يهل حتَّى رمى جمرة العقبة، فقلت: يا أبا عبد الله ما هذا؟ قال: كان أبي يفعل ذلك، فأخبرني(4) أن النبي صلى الله علي وآله وسلم كان يفعل ذلك، ثُمَّ قال: فرجعت إلى ابن عباس، فأخبرته، فقال: صدق، أخبرني أخي الفضل بن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبى حتَّى انتهى إليها، وكان رديفه(5).
وأخبرنا المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا علي، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبى حتَّى رمى جمرة العقبة(6). وروى مثله عن عبد الله بن مسعود، وأسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: فقد روي عن أسامة أني كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشية عرفة فلم يكن يزيد على التكبير(7) والتهليل.
__________
(1) ـ في (ب): ولا.
(2) ـ انظر الأحكام 1/286، 282 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 109.
(4) ـ في (ب): وأخبرني.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/224 وفيه: فكان يلبي وكذلك حتى انتهى أولاها بدل إليها.
(6) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/224 ـ 225.
(7) ـ في (ب): التهليل والتكبير.
قيل له: روي هذا، وروي ما ذكرناه، فأما أن يحتمل أنَّه لم يزد على التكبير، والتهليل، والتلبية؛ ليكون جمعاً بين الأخبار(1)، ويكون الغرض أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يشتغل عن الذكر، أو يحمل على أنَّه عليه السلام لم يُلَبِّ في ذلك الوقت، وهذا لا يقدح فيما ذهبناإليه، فإن التلبية لا يجب استدامتها، أو يتعارض الخبران ويبقى لنا سائر ما رويناه. (43/9)
فإن قيل: روي عن ابن /185/ عمر، وأنس، أنهما قالا في يوم عرفة: كان يهل المهل منا، ويُكبر المكبر منا ولا ينكر عليه.
قلنا: هو كذلك، ولسنا نقول أن التكبير في أثناء الإهلال لا يجوز، فلا حجة فيه، على أن التلبية شعار الإحرام، فالأولى أن تستدام ما بقي الإحرام، أو يمنع منه الدليل، ولا دليل على قطعها قبل الوقت الذي ذكرنا أنَّه انقطع بانقطاع الإحرام.
مسألة [في القارن كيف يطوف ويسعى؟]
قال: والقارن إذا دخل مكة، فعل ما يفعله المفرد، وطاف، وسعى على ما وصفناه، ونوى في طوافه، وسعيه، أنَّه لعمرته، فإن أحب تعجيل طواف حجة(2)، عاد أيضاً إلى الكعبة، فطاف بها، وإلى الصفا والمروة، فسعى بينهما على ما بينا، ونوى أنهما لحجته.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (3) و(الأحكام)(4).
__________
(1) ـ في (ب): الحديثين.
(2) ـ في (ب): حجته.
(3) ـ انظر المنتخب 109 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر الأحكام 1/292 ـ 293 وهو بلفظ قريب.
وقال الشافعي: يجزيه طواف واحد. والأصل فيه قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} وتمام الحج أن يطاف ويسعى له، وتمام العمرة أن يطاف ويسعى لها، فوجب على من جمع بينهما لكل واحدة منها طواف وسعى بحكم الظاهر، ويدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني ـ رضي الله عنه ـ حدثنا علي بن هارون بن إبان، حدثنا عمر بن أيوب، حدثنا محمد بن بكار بن ريان، عن حفص بن أبي داود، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي عليه السلام أنَّه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين وسعى سعيين، ثُمَّ قال له: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل. (43/10)
وروى ابن أبي شيبة ـ أيضاً بإسناده ـ عن عمرو بن الأسود، عن الحسين بن علي، عليهما السلام، قال: إذا قرنت بين الحج والعمرة فطف طوافين، واسع سعيين(1).
فإن قيل: فكيف استدللتم بما رويتم عن علي عليه السلام على أنَّه طاف لهما طوافين وسعى سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل، وقد روي(2) أنَّه كان عليه السلام متمتعاً، وروي أنَّه كان مفرداً، فكيف يستقيم لكم هذا الاستدلال؟
قيل له: هو محمول على أحد الوجهين، إما أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة قارناً، كما روي فرآه أمير المؤمنين علي عليه السلام يطوف طوافين، ويسعى سعيين، وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر الخبر، أو يكون دخل مفرداً، أو متمتعاً فيكون معنى قوله: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل، الأمر بذلك، وأي الوجهين ثبت، حصل ما ذهبنا إليه من أن القارن عليه طوافان وسعيان.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم هو محمول على أنَّه تطوع بأحدهما؟
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/291 وإسناده حدثا أبو بكر حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن حكم عن عمرو بن الحسن بن علي.
(2) ـ في (أ): وقد روى عليه السلام أنه كان.8
قيل له: السعي لا يُتطوع به، فبطل هذا التأويل. (43/11)
فإن قيل: روي عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من جمع بين الحج والعمرة، كفاه لهما طواف واحد، وسعي واحد.
قيل له: ذكر الطحاوي(1) أن الحفاظين رووه موقوفاً على ابن عمر، وأن من رفعه، فقد أخطأ، على أنه يحتمل أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله: ((طواف واحد)) نصفه واحدة إن صح الخبر، وهذا أولى لأن أمير المؤمنين عليه السلام إذا روى خلافه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو أولى بالإتباع، أما على أصولنا، فإنا نوجب إتباعه ولا نجيز مخالفته، وأما على أصول مخالفينا، فلأنه كان أحفظ وأشد إيقاناً من ابن عمر، وكان عليه السلام أعرف بأحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبمقاصده من ابن /186/ عمر.
فإن قيل: روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((طوافك يجزيك لحجك وعمرتك)).
قيل له: إن عائشة لم تكن قارنة، وإنها أفردت الحج، ثُمَّ أفردت العمرة من التنعيم، فكيف يصح ذلك، على أنَّه إن ثبت، كان محمولاً على ما تأولنا عليه خبر ابن عمر، أن المراد به طوافك على صفة واحدة يجزيك لحجك وعمرتك.
ومما يدل على ذلك أنَّه لو أفرد الإحرام لكل واحد لزمه لكل واحد منهما طواف وسعى، فكذلك إذا جمع، والمعنى أنَّه محرم بهما جميعاً، وأيضاً لا خلاف أن الوقوف الواحد بعرفه لا يقع إلاَّ عن حجة فقط، فوجب أن يكون الطواف الواحد كذلك، والمعنى أنَّه ركن من أركان الحج، فوجب أن لا يقع واحده إلاَّ عن حجة فقط.
فإن قيل: هذا يعترضكم في الإحرام؛ لأنَّه إحرام واحد يقع عن الحج والعمرة.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/197.
قيل له: لسنا نسلم أنَّه إحرام واحد، بل نقول إنهما إحرامان، أحدهما عن الحج، والآخر عن العمرة، ولهذا نوجب على القارن إذا قتل صيداً جزاءين، على أنَّه لا خلاف أنَّه يحتاج إلى نيتين، نية العمرة ونية الحجة، فبان بذلك أنهما إحرامان؛ لأنَّه لو كان إحراماً واحداً لم يحتج إلى نيتين؛ لأن العبادة الواحدة لا تحتاج إلى نيتين إذا كانت تقع على وجه واحد، فإذا ثبت هذا لم يمكنهم أن يجعلوا الإحرام أصلاً يقيسون عليه الطواف. (43/12)
فإن قيل: ليس يصير محرماً بهما جميعاً بتلبية واحدة، فهلا دل على أنَّه إحرام واحد؟
قيل له: لا يجب ذلك لأن التلبية ليست هي الموجبة للإحرام ألا ترى أنا نجيز الإحرام بغير التلبية فليس في الإجتزاء بالتلبية دليل على أن الإحرام واحد، بل الاعتبار إنَّما هو بالنية؛ لأن الإحرام لا ينعقد إلاَّ بالنية، وفي إجماع الجميع على أنَّه لا بد من نيتين يبين صحة ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: أليس الحلق الواحد يوجب الخروج منهما؟
[قيل له](1): ليس هو من أعمالهما، وفي الخروج لا يمتنع ما يمتنع في العمل، ألا ترى أن الإنسان يصح(2) أن يخرج عن الصيام والصلاة بفعل واحد، وإن كان عمل أحدهما لا ينوب مناب عمل الآخر، يبين ذلك أنَّه لو خرج بغير الحلق، لكان خروجاً منهما، فبان بذلك أنَّه لا يجب أن يكون سبيل الحلق سبيل الطواف والسعي، ومما يزيد قياسنا قوة وترجيحاً أنا وجدنا أفعال الحج لا تتداخل، ألا ترى أن من طاف أسبوعاً بعد إسبوع، لزمه لكل واحد منهما ركعتان؟ ولم تتداخل الصلاة، وكذلك الطواف يجب فيه التكرار، ولا يتداخل، ألا ترى أن أصل الوضوء لما كان موضوعاً على التداخل، كان التكرار فيه غير واجب؟ فدل وجوب التكرار في الطواف على أن موضوعه لا يتداخل، كالصلاة لما وجب تكرير ركعاتها لم نكن موضوعاً على التداخل.
__________
(1) ـ سقط من (أ) و (ب): وظنن عليه في الهامش.
(2) ـ في (ب): قد يصح له.
ومما يبين ذلك أيضاً أن طواف الدخول، وطواف النساء، وطواف الوداع، لا يتداخل بل يجب إفراد كل واحد منهما، فوجب أن يكون طواف الحج والعمرة كذلك، وقلنا إنَّه يطوف أولاً، ويسعى، وينوي أنهما لعمرته، ثُمَّ يطوف لحجته، ويسعى؛ لأن عمل العمرة مقدم على عمل الحج؛ لأن كل من أوجب عليه طوافين وسعيين، قال في /187/ ذلك: على ما قلناه، على أنَّه لا خلاف أنَّه يجوز تاخير طواف الحج والسعي إلى حين الإنصراف من منى، ولا يجوز ذلك في طواف العمرة وسعيه، فصح بذلك ما ذهبنا إليه من أن عمل العمرة مقدم على عمل الحج. (43/13)
مسألة [في تأخير الطواف والسعي]
قال: فإن(1) أحب المفرد تأخير طوافه وسعيه، والقارن تأخير طوافه وسعيه إلى أن ينصرفا من منى، جاز ذلك. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) للمفرد، ودل فيه عليه للقارن. واختلفوا في طواف القدوم، فقال: مالك، وأبو ثور بوجوبه، وقال أبو حنيفة: هو سنة، وليس بواجب، وحكي عن الشافعي أنَّه قال: ليس بنسك، وإنه كالتحية للمسجد.
والدليل على وجوبه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعَلَه حين قدم، وفعلُه كان بياناً لمحمل لأن قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً} مجملٌ، مثل قوله: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ} وفعله صلى الله عليه وآله وسلم إذا وقع بياناً لمجمل [واجب](3)، دل على الوجوب، ويدل على ذلك قوله: ((خذوا عني مناسككم)). وفي حديث طارق بن شهاب، عن أبي موسى الأشعري قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال: ((بم أهللت))؟ قلت(4): إهلالاً كإهلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((أحسنت، طف بالبيت، وبالصفا والمروة)). والأمر يقتضي الوجوب على الفور.
__________
(1) ـ في (ب): وإن.
(2) ـ انظر الأحكام 1/282، 287 وهو بالمعنى.
(3) ـ سقط من (أ).
(4) ـ في (ب): فقلت.
فدل ذلك على وجوب طواف القدوم. وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: أول مناسك الحج أول ما يدخل مكة، يأتي الكعبة، فيمسح(1) بالحجر الأسود، ويكبر، ويذكر الله، ويطوف، فدل ذلك على أنَّه من النسك، على أنه رأي أهل البيت عليهم السلام لا أحفظ فيه بينهم خلافاً، على أنَّه لا خلاف أن المعتمر يلزمه طواف القدوم، فكذلك الحاج، والمعنى أنَّه محرم، فكل محرم يلزمه طواف القدوم، ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أنَّه مفعول للإحرام، فوجب أن يكون لازماً، قياساً على طواف العمرة، وعلى طواف الزيارة؛ لأنَّه مفعول للإحرام. (43/14)
فإن قيل: لو كان طواف القدوم واجباً، لم يسقط عن الحائض؟
قيل له: كذلك نقول إنَّه لا يسقط عن الحائض، وإنَّما يجوز تأخيره كما يجوز تأخير طواف الزيارة، وقياسنا في هذا الباب يقوى بالإيجاب، وبأنه يفيد شرعاً مجدداً، أو بالاحتياط، وبالاستناد إلى فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفعل الكافة.
فإن قيل: الإحرام لا يوجب سعيين، وقد ثبت وجوب السعي بعد طواف الزيارة، فلا يجب القدوم؛ إذ السعي لا يجب إلاَّ بعد طواف واجب؛ لأنَّه يجب بعد طواف الزيارة، وإن أجيز فعله بعد طواف القدوم.
قيل له: لسنا نُسَلِّم ما ادعيتم من وجوب السعي بعد طواف النسا؛ لأنه يجب عندنا بعد طواف القدوم، فكذلك السعي بعده، على أن إحرام القارن يوجب طوافين وسعيين، فوصف عليهم غير مسلم، قالوا: المكي ليس عليه طواف القدوم، فيجب أن يكون سعيه بعد طواف النسا.
__________
(1) ـ في (ب): فيتمسح.
قيل لهم(1): الذي يجيء على مذهبنا أن المكي عليه طواف القدوم بعد الانصراف من منى، /188/ كما نص أصحابنا على ذلك في المتمتع الذي تكون حجته مكية، فيسقط هذا السؤال أيضاً، فأما تأخيره إلى حين الإنصراف من منى، فالذي يدل على جوازه أنَّه لا خلاف في جواز تأخيره عن ساعة القدوم، ويوم القدوم، فعُلم أن وقته غير مضيق، فيجب(2) 0أن يكون ممتداً كوقت السعي، ولا خلاف أيضاً أنَّه لا شيءَ على من أخره لخوف فوات الوقوف، فدل ذلك على أن تأخيره جائز؛ لأن الأصل فيما لا يجوز من الحج إذا رخص فيه للعذر أن يجب جبره بالدم، فإذا ثبت أن تأخيره جائز للمعذور وإنه لا شيء عليه فيه، يثبت(3) ذلك للمختار. (43/15)
مسألة [في المتمتع كيف يفعل؟]
قال: والمتمتع يفعل ما يفعله الحاج المفرد، والقارن، عند دخول الحرم، والمسجد، إلاَّ أنَّه يقطع التلبية إذا نظر إلى الكعبة، ثُمَّ يطوف بها سبعاً، ويسعى بين الصفا المروة وسبعاً، على ما ذكرناه، ويكون ذلك الطواف والسعي لعمرته، ثُمَّ يقصر من شعر رأسه، ولا يحلقه، وقد حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام من النساء، والطيب، والثياب. جميعه منصوص عليه في (الأحكام)(4).
__________
(1) ـ في (أ) و (ب): قيل له: والصواب ما أثبتناه ليوافق السؤال.
(2) ـ في (ب): فوجب.
(3) ـ في (ب): ثبت.
(4) ـ انظر الأحكام 1/294، 281 وهو بلفظ قريب.
وما ذكرناه من أن المعتمر إذا سعى، قصر، ولم يحلق، مروي في (الأحكام) (1) أيضاً عن القاسم عليه السلام. وقلنا: إن المتمتع يفعل ما يفعله الحاج المفرد عند دخول المسجد والحرم؛ لأنها استحبابات تتعلق بدخول الحرم، ودخول المسجد، ويستوي فيها الحاج، والمعتمر، فأما قطعه التلبية إذا نظر إلى الكعبة، فقد نص عليه أيضاً في مواضع، وقال أيضاً في (الأحكام) (2)، يقطع التلبية المعتمر إذا انتهى إلى الكعبة، ورآها عند مصيره إليها، ولا يلبي لكي يطوف بالبيت، فكان تحصيل المذهب أنَّه إذا أراد الابتداء في الطواف، لتنصيصه على أنَّه يقطعها إذا رأى الكعبة صائراً إليها للطواف، وهذا قول أكثر العلماء. وذهب قوم إلى أنَّه يقطع التليبة إذا دخل الحرم، وقوم إلى أنَّه يقطعها إذا رأى البيت على أي حال رآه، وعن عائشة أنَّها كانت إذا نظرت إلى خيام مكة، قطعت. (43/16)
والأصل فيه: ما رواه ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عمر، كل ذلك لا يقطع التليبة حتَّى يستلم الحجر. (3)
وكان القياس لا يقطع التلبية حتَّى ينقضي الإحرام، ولكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطعها عند استلام الحجر، ولا خلاف، فاتبعنا الأثر والوفاق، فأما قطعها قبل ذلك، فلا وجه له. وقلنا: إنَّه يطوف سبعة، ويسعى سبعة، والمراد به على ما ذكرناه من الرمل في الطواف، والركعتين بعده، والابتداء بالحجر الأسود، والاختتام به، والهرولة في السعي، والابتداء بالصفا، والاختتام بالمروة، وكل ذلك لا خلاف فيه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/318 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/278 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/259 وإسناده، حدثنا أبو بكر، حدثنا حفص، عن حجاج، به.
وقلنا: يقصر، ولا يحلق؛ لحديث جعفر، عن أبيه، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما فرغ من السعي، من كان منكم ليس معه هدي، فليُحل، وليجعلها عمرة، فحل الناس، وقصروا إلاَّ من كان معه هدي. ولأنا استحببنا أن يكون الحلق بمنى، ولا خلاف أنَّه إذا فعل ذلك /189/ صار حلالاً، وفي الحديث: ((إنهم حلوا وقصروا)). (43/17)
مسألة [في المتمتع كيف ومتى يهل بحجته؟ والقول في المبيت بمنى للمتمتع والقارن والمفرد]
قال: وإذا كان يوم التروية، فليهل بالحج من المسجد الحرام، وليفعل ما فعله في ابتداء إحرامه، ويقول: اللهم إني أريد الحج فيسره لي، وينوي أن إحرامه هذا لحجته، ثُمَّ ينهض ملبياً، ويسير إلى منى ويستحب له أن يصلي بها الظهر والعصر يوم التروية، والمغرب والعشاء ليلة عرفة، وصلاة الفجر يوم عرفة، وأما الإمام فينبغي له أن لا يترك ذلك، وكذلك القول في المفرد، والقارن، ويستحب لهم إن أتوا منى في آخر ليلة عرفة أن يعرسوا بها ساعة، ويصلوا الصبح، ثُمَّ يسيروا إلى عرفة. وذلك منصوص عليه في (الأحكام) (1). وقلنا: إنَّه يهل بالحج يوم التروية، ويتوجه إلى منى، ويصلي بها خمس صلوات لحديث جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام، عن جابر، رواه ابن أبي شيبة، وأبو داود، وغيرهما، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والصبح، ثُمَّ مكث قليلاً، ثُمَّ سار(2).
وقلنا: يستحب لمن أتى منى من ليلة عرفة أن يعرس بها ويصلي الصبح؛ لأن يكون قد صلى بها من الصلوات الخمس ما أمكنه؛ إن لم يكن أمكنه أن يصليها بها أجمع، وهذه الجملة ما لا أعرف فيها خلافاً.
مسألة [في الوقف بعرفة]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/281 ـ282 ـ 283 وهو بلفظ مقارب.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف في حديث طويل 3/334 وإسناده حدثا أبو بكر، عن حاتم، به.
قال: ثُمَّ يتوجه إلى عرفة، متمتعاً كان، أو مفرداً، أو قارناً، فإذا انتهى إليها نزل، وأقام حتَّى يصلي الظهر والعصر بها إن شاء، وإن شاء صلى الظهر، وارتحل إلى الموقف، وعرفة كلها موقف ما خلا بطن عرنة، ويستحب أن يدنو من موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الجبال، فإذا وقف ذكر الله كثيراً، وسبحه، وهلله، وصلى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات إلى أن تجب الشمس. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2) في كتاب الحج غير التخيير في الجمع بين الظهر والعصر، فإنه منصوص عليه في كتاب الصلاة على سبيل العموم في ذكر الوقت، وقد مضى وجهه فيه، ولا خلاف في ذلك. (43/18)
وقلنا: أنَّه يرتحل إلى الموقف بعد ما يصلي؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك، وعليه المسلمون إلى يومنا هذا. وقلنا: عرفة كلها موقف غير عرنة، وروي(3) عن ابن عباس موقوفاً ((من وقف ببطن عرنة، فلا حج له)).
واستحببنا له الدنو من موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبركاً، واقتداءاً. وقلنا أنَّه يقف بها داعياً، ومهللاً إلى أن تجب الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك.
وفي رواية ابن أبي شيبة، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتَّى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً(4).
مسألة [في الإفاضة إلى مزدلفة والعمل فيها، والوقوف بالمشعر، والعودة إلى منى ورمي جمرة العقبة بها]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/284 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 110 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ لما روى ظنن عليها في الهامش.
(4) ـ أخرجه ابن ابي شيبة المصنف 3/334.
قال: فإذا وجبت الشمس، أفاض ملبياً نحو مزدلفة، بالسكينة، والوقار، والذكر، والاستغفار، ولا يصلي المغرب ولا العتمة حتَّى يرد مزدلفة، ثُمَّ يجمع بها بينهما بأذان واحد وإقامتين، ثُمَّ يقف بها حتَّى يطلع الفجر، فإذا صلى الفجر مضى، ووقف عند المشعر الحرام ساعة، ودعا، وذكر الله سبحانه، وسبحه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ يفيض راجعاً إلى منى ملبياً بالخشوع، والوقار والقراءة والتهليل،/190/ ويستحب له الإسراع في السير إذا انتهى إلى وادي محسر حتَّى يتجاوزه، فإذا انتهى إلى منى، حط بها رحله، ثُمَّ أتى [بها] (1) جمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات، يهلل، ويكبر، ويقطع التلبية مع أول حصاة يرميها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2). قلنا: إنَّه يفيض ملبياً إذا غابت الشمس بالسكينة والوقار لما: روي عن جعفر، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفاض من بعد ما غابت الشمس، وذهبت الحمرة قليلاً، ودل على ذلك قول الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيْضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}. وقلنا: إنَّه يذكر الله لما: روى الطحاوي بإسناده عن ابن مسعود أنَّه قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبي إلى أن أتى جمرة العقبة إلاَّ أن يخلط ذلك تكبيراً أو تهليلاً(3). وقلنا: إنَّه لا يصلي المغرب ولا العتمة حتَّى يأتي مزدلفة، فيصليهما بأذان وإقامتين، لما رواه جعفر، عن أبيه، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاهما بمزدلفة بأذان واحد، وإقامتين. (43/19)
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ انظر الأحكام 1/284 ـ 285 ـ 286 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/235.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده أن أسامة قال: فضت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عرفات، فلما كان ببعض الطريق قلت: الصلاة قال: الصلاة أمامك(1). فدل بقوله: الصلاة أمامك على أنَّها تجب أن تقام بجمع. (43/20)
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام جمع بينهما بجَمْع.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: لا يصلى المغرب والعتمة حتَّى يأتي مزدلفة.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/262 وإسناده، حدثنا أبو بكر حدثنا ابن مبارك، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، به.
يدل على أنَّه لو صلاها دونها لم تجز، كما ذهب إليه أبو حنيفة، ومحمد، ووجه ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأسامة الصلاة أمامك، وقول أمير المؤمنين علي عليه السلام لا يصلي الإمام المغرب والعشاء إلاَّ بجمع. وقلنا: إنَّه يقف بها حتَّى يطلع الفجر. لما رواه جابر من أن النبي اضطجع بها حتَّى صلى الفجر، وقلنا: إنَّه يقف عند المشعر الحرام بعد ما يصلي الفجر لما ذكر جابر من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صلى الفجر، ركب ناقته حتَّى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا، وكبر، وهلل، فلم يزل واقفاً حتَّى أسفر، ثُمَّ دفع قبل طلوع الشمس، وقد دل على ذلك قول الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ..} الآية. وقلنا: إنَّه يفيض إلى منى لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفع إلى منى حين أسفر وقلنا: إنَّه يستحب الإسراع في وادي مُحسِّر؛ لأن ذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث جابر وغيره. وقلنا: إنَّه إذا انتهى إلى منى أتى جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات يهلل، ويكبر؛ لئن النبي صلى الله عليه وآله /191/ وسلم فعل ذلك في حديث جابر وغيره، ولا خلاف فيه. وقلنا: إنَّه يقطع التلبية عند أول حصاة يرميها؛ لأنَّه مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما مضى من القول فيه؛ ولأنه لا خلاف فيه، وإنَّما الخلاف في قطعها قبل ذلك. (43/21)
مسألة [في نحر الهدي]
قال: ثُمَّ يعود إلى رحله ثُمَّ ينحر، أو يذبح ما يريد نحره أو ذبحه، والقارن ينحر ما كان ساقه، والمتمتع عليه أن يريق دماً، بدنة، أو بقرة، أو شاة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1). ووجه ذلك ما في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انصرف إلى المنحر، فنحر، ولا خلاف في ذلك، وعليه خلف المسلمين، وسلفهم. وقلنا على المتمتع أن يريق دماً، بدنة، أو بقرة، أو شاة، لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بَالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَدِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيَ} واسم الهدي يتناول البدنة، والبقرة، والشاة، فأيما أهدى، فقد أجزى، ولا خلاف في ذلك. (43/22)
مسألة [في أكل الحاج من لحم الهدي وجزاء الصيد]
قال: ثُمَّ يأكلان بعضه، ويطعمان بعضه، ويتصدقان ببعضه على المساكين، وأولى المساكين من قرب من منزله ورحله. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) في القارن والمتمتع، والمضحي، قال فيهما: ولا يجوز له الأكل من جزاء الصيد وفدية الأذى وما أشبه ذلك وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي: لا يأكل إلاَّ من الأضحية، والهدي، والتطوع.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/286 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/287 وكذلك 1/326 وهو بلفظ قريب.
ولا خلاف أنَّه لا يجوز الأكل من جزاء الصيد. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه من جواز أكل القارن والمتمتع من هديهما قول الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} إلى قوله سبحانه: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبِهَا فُكُلُوا مِنْهَا} فاقتضى ظاهر الآية جواز الأكل من البدن أجمع، واجبها، وتطوعها؛ لأن اسم البدن عام في التطوع والواجب، فوجب ما ذكرنا في الجميع إلاَّ ما منع منه الدليل، ويدل على ذلك قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ..} الآية، والهدي الذي يجب أن يقضى التفث بعده لا يكون إلاَّ واجباً؛ لأن التطوع لا يختص بهذه الصفة، فلما أباح الله لنا الأكل من الهدي الذي يجب أن يقضي التفث بعده، عُلِم أن الأكل من الهدي الواجب جائز، ويدل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرن، وساق مائة بدنة، وأنه أشرك فيها علياً عليه السلام. وروى جعفر، عن أبيه، عن جابر، أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم نحر بيده ثلاثاً وستين بدنة، ونحر علي عليه السلام سبعاً وثلاثين بدنة، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يقطع من كل واحدة منها قطعة، فجمعت، وطبخت له، وأكل من اللحم، وحسا من المرق، فإذا ثبت بذلك أن للقارن الأكل من هديه، ثبت ذلك في المتمتع؛ إذ لم يفصل أحد بينهما. (43/23)
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن قارناً، وأنه كان مفرداً، وأن الهدي كان تطوعاً؛ إذ الناس مختلفون في كيفية حجه، والأخبار في ذلك مختلفة؟
قيل له: الذي يصح عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن ذلك ما مضى ـ بإسناده ـ عن علي عليه السلام أنَّه قرن، فطاف طوافين، وسعى سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل.
وروى أبو داود في (السنن) عن البراء بن عازب قال: كنت /192/ مع علي عليه السلام حين أمَّرَه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على اليمن، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقبلتُ إليه، فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف صنعت؟ قال: قلت: أهللت بإهلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: فإني سقت الهدي، وقرنت(1). (43/24)
وروى ابن شيبة ـ بإسناده ـ أن عثمان سمع رجلاً يلبي بهما جميعاً، فقال عثمان: من هذا؟ فقالوا: علي عليه السلام، فأتاه عثمان فقال: ألم تعلم أني نهيت عن هذا؟ قال: بلى، ولكن لا أدع فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقولك.
وروي عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال ـ وهو بالعقيق ـ: ((أتاني آتٍ من ربي، فقال صلِ في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة وحجة)).
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا يحيى بن كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالعقيق وسرد الحديث(2).
وأخبرنا المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا الحماني، حدثنا أبو خالد وأبو معاوية، عن الحجاج، عن الحسن بن سعد، عن ابن عباس، عن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرن بين الحج، والعمرة(3).
وعن أنس رواه أبو داود وغيره أنَّه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً يقول: لبيك حجة(4) وعمرة، لبيك عمرة وحجاً.
فإن قيل: روي خلاف ذلك عن عائشة، وجابر، وغيرهما.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/289 وإسناده حدثنا وكيع عن مسلم البطين عن علي بن حسين، عن مرداف، به.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/146 وفيه يحيى بن أبي كثير.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/154.
(4) ـ في (ب): عمرة وحجة.
قيل له: أما عائشة فقد روي عنها أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أفرد الحج. (43/25)
وروى الطحاوي(1) عنها أنَّه تمتع وروى أبو بكر ابن أبي شيبة(2)، عن أبي معاوية، عن حجاج، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرن بين الحج والعمرة.
وروي نحوه عن عمران بن حصين. فحصل فيما روي عنهما التعارض، فيكون ما روي عن علي عليه السلام وعمر، وأنس، وأبى طلحة، وعمران بن حصين؛ أولى لوجوه: أما على أصلنا فلأن رواية عليه السلام أولى من رواية غيره، كما أن اجتهاده عندنا أولى من اجتهاد غيره، وأما على أصول الجميع، فيجب أن يكون روايته أولى من رواية غيره في هذا الباب؛ إذ لا خلاف أنَّه كان مهلاً بإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا بد مِنْ أن يكون يعرف حقيقة إهلاله صلى الله عليه وآله وسلم للإقتداء به، فهذه المزية ليست لغيره ممَّن روى هذا الباب؛ ولأنه نوى لفظه صلى الله عليه وآله وسلم: ((قد سقت، وقرنت))، وفي حديث عمر: ((قل عمرة وحجة)) على أننا يمكننا أن نتأول أخبارهم، فنقول: يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم لبى في بعض الأوقات بالحج فقط، وفي بعضها بالعمرة فقط، وفي بعضها بهما جميعاً، فروَى مَن سمع إهلاله بالحج أنَّه أهلَّ به، ورَوى من سمع إهلاله بالعمرة أنَّه أهل بها متمتعاً، ورَوى من سمع إهلاله بهما أنَّه قرن، فيحصل من ذلك أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان قارناً، على أنَّه من روى عنه القران في روايته زيادة، فهي أولى، ألا ترى أن غيره يروي حجة، أو عمرة، وهو يرويهما، فإذا ثبت بما بيناه أنَّه كان قارناً، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أكل من الهدي الذي كان ساقه، ثبت جواز الأكل منه.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/142.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/289 وزاد فيه وطاف بهما طواف واحد.
فإن قيل: فلا إشكال أن الواجب عليه كان /193/، واحداً وأن الباقي كان تطوعاً، فيجوز أن يكون أكل من الباقي. (43/26)
قيل له: في الحديث أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يُقطع من كل بدنة منها قطعة، ثُمَّ جمعت، وطبخت، وهذا يوجب أن الواجب، والتطوع، في جواز الأكل سواء؛ لأن الواجب لو كان محَّرماً، لحرم الجميع بالخلط؛ لأن وجه الحظر، ووجه الإباحة، إذا اجتمعا، كان الحظر أولى، ولا خلاف أن هدي الأضحية(1) والتطوع يجوز الأكل منهما، فكذلك هدي القارن والمتمتع، والمعنى أنَّه لم يجبر به نقص محظور، ولم يجعله الْمُهدي للفقراء فوجب أن يكون الأكل منه جائزاً، ويعضد قياسنا قول الله تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةٌ وَفَرْشاً} إلى قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجِ}.
فإن قيل فقد قال القاسم عليه السلام، ويحيى عليه السلام، في دم التمتع أنَّه جبران للنقص، فكان ذلك جارياً مجرى الكفارة(2).
قيل له: المراد به أنَّه جبران نقص بزيادة في النسك، وهي إراقة دم؛ لأن إراقة الدم جارية مجرى الكفارات؛ لأن الكفارات في الحج إنما تكون للأمور المحظورة، والقارن، والمتمتع، لم يرتكب محظوراً بالإحرام، ولا أبيح لهما التمتع والقران لحال العذر، فلم يجب أن يكون حكم هديهما حكم هدي سائر الكفارات، بل كانا بالأضحية والتطوع أشبه؛ لأنَّه زيادة نسك. وقلنا: يتصدق ببعضه لقول الله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيْرَ} وقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَ} ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك. وقلنا: إن أولى المساكين من قرب من رحله ومنزله؛ لقول الله تعالى: {وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَ}، وقد قيل: إن المعتر من يَعترَّ رحلك؛ ولأن الصدقة على من يقرب تكون أولى، ألا ترى أن المستَحب في العشور، والصدقات، ألاَّ يخرج عن بلدهم، وفيهم من يحتاج إليها؟
__________
(1) ـ في (ب): التطوع والأضحية.
(2) ـ في (ب): الكفارات.
مسألة [فيما يُحِل به الحاج إحرامه] (43/27)
قال: ثُمَّ يحلق رأسه، أو يقصر، وقد حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، من الطيب، والثياب، وغيرهما، إلاَّ النساء. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب)(2). قلنا: إنَّه يحلق، أو يقصر بعد الذبح، والنحر؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الْفَقِيْرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} فقرن(3) قضاء التفث بإراقة الدم ـ دم الهديـ ولأنه لا خلاف في ذلك. وقلنا: يحلق، أو يقصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا للمحلقين، ثُمَّ دعا للمقصرين بعده(4). وقلنا: قد حل له كل شيء إلاَّ النساء؛ لأن قضاء التفث مما كان مُحرَّماً عليه، كسائر الأشياء، فلما أمر به، علمنا أنَّه قد أحل، وأن سائر الأشياء قد حل له، ولا خلاف في ذلك. وأما النساء فلا خلاف [في] (5) أنَّها لا تحل له حتَّى يطوف طواف النساء.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا علي بن معبد، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا الحجاج بن أرطأة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا رميتم، وحلقتم، فقد حل لكم الطيب، والثياب، وكل شيء، إلاَّ النساء)) (6). وروى زيد بن علين عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام نحوه.
مسألة [في وقت العودة إلى مكة للطواف والسعي لمن لم يطف ولم يسعى، وفي وقت وكيفية طواف الزيارة]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/287، 293 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب ص 111 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): قرن.
(4) ـ في (ب): بعده للمقصرين.
(5) ـ ساقطة من (ب).
(6) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/228.
قال: ثُمَّ يرجع إلى مكة يومه، أو أي يوم شاء من أيام منى، ثُمَّ يدخل المسجد، ويطوف المتمتع، وسعى لحجه(1)، وكذلك القارن /194/ المفرد والمقرر إن لم يكونا طافا، وسعيا للحج، ثُمَّ يطوف طواف الزيارة بعد ذلك كله، مفرداً كان، أو قارناً، أو متمتعاً، وهو الطواف الفرض، ولا يَرمُل فيه، ثُمَّ قد حل له النساء. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب)(3). وحقق في المنتخب أن وقت الزيارة موسع إلى آخر أيام منى، فيكون وقته أربعة أيام، مثل وقت الرمي. وقال أبو حنيفة: وقته ثلاثة أيام، مثل وقت الأضحية، ونحن نعتبر بالرمي؛ بعلة أنَّه عبادة تختص بالحج، وآخر وقتها في أيام التشريق، فوجب أن يكون أربعة أيام، كوقت الرمي. (43/28)
ويمكن أن يقاس على التكبير بعلة أنَّها عبادة لا تتعلق بالمال، تختص أيام التشريق، فوجب أن يكون آخر أيام منى من وقته، واعتبارنا بالرجى أولى من اعتبارهما بالأضحية؛ لأن الأضحية لا تختص بالحجج؛ لأن الحاج وغيره فيها سواء، واعتبارنا يفيد شرعاً؛ لأنَّه يجعل اليوم الرابع في حكم ما قبله، في أنَّه وقت للطواف.
ويمكن أن يقاس آخر يوم من أيام منى على أولها، بعلة أنَّه من أيام منى، فوجب أن يكون وقتاً لطواف الزيارة. وقلنا إنَّه إذا دخل المسجد، طاف، وسعى إن كان متمتعاً، أو كان مفرداً، أو قارناً لم يكن طاف عند القدوم؛ لأن طواف القدوم واجب عندنا، وقد دللنا على ذلك فيما مضى، ويجب أن يرمل فيه.
__________
(1) ـ في (أ): لحجته.
(2) ـ انظر الأحكام 1/287، 293 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 111 وهو بلفظ قريب.
وقلنا: إنَّه يطوف بعد ذلك طواف الزيارة لقول الله تعالى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلِيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيْقِ}، ولا خلاف في أن المراد به طواف النساء، ولا خلاف ـ أيضاً ـ في أنَّه فرض، ولا يُخير بغيره، ولا خلاف أنَّه لا رمل فيه؛ إذ لا سعي بعده. وقلنا: إنَّه يحل له النساء بعده؛ لأنه لا خلاف فيه، وفي أن جميع أحكام الإحرام تنقطع به، ومن أجل ذلك سُمي طواف النساء. وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده عليهم السلام، في قوله تعالى: {وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبيت العتيق}، قال: ((هو طواف الزيارة، وهو الطواف الواجب، فإذا طاف الرجل طواف الزيارة، حلَّ له النساء)). (43/29)
مسألة [في البينونة بمكة أيام منى، هل تجوز؟]
قال: وإذا خرج إلى مكة قبل النفر الأولُ فلَيعُد منها إلى منى، فى يومه، إن دخلها نهاراً، أو ليلته إن دخلها ليلاً، وإن دخلها ليلاً، وأصبح بها، أو دخلها نهاراً، وأمسى بها، وجب عليه دم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/287 وهو بلفظ قريب جداً.
(2) ـ انظر المنتخب 111 وهو بلفظ قريب.
ونص في (الأحكام) أن من دخلها ليلاً، وأصبح بها، يجب عليه دم، إذا كان دخلها أول الليل، فكان تحصيل المذهب أن من حصل أكثر ليلته، أو أكثر نهاره في مكة، يلزمه هدي. ورُوي نحو قولنا عن إبراهيم، رواه ابن أبي شيبة وهناد، عن ابن عياش، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: من بات دون العقبة أيام منى، فعليه دم(1). والأصل فيه حديث ابن عباس، رواه هناد بإسناده، قال: لم يرخص رسول صلى الله عليه وآله وسلم لأحد أن يبيت ليالي منى بمكة إلاَّ للعباس من أجل السقاية. فدل ذلك على أن المبيت بها نسك. وروى هناد بإسناده عن ابن عمر حين سُئل عن ذلك فقال: أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبات بمنى، وظل. وفعله في الحج على [سبيل] (2) الوجوب؛ لما بيناه آنفاً. قال أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى: وروى القاسم، عن أبي إدريس، عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أنَّه كان ينهى /195/ عن المبيت وراء الجمرة إلى مكة. (43/30)
وروى ابن أبي شيبة(3) ـ بإسناده ـ عن ابن عباس أنَّه قال: لا يبيتن أحدكم من وراء العقبة ليلاً أيام التشريق.
وروي(4) ـ بإسناده ـ عن ابن عمر، عن عمر، أنَّه كان: ينهى أن يبيت أحد من وراء العقبة، وكان يأمرهم أن يرحلوا إلى منى.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/297 وإسناده، حدثنا أبو بكر، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن مغيرة، به، وقال: فليهرق دماً.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ أخرجه ابن أبي شبة في المصنف 3/297 وإسناده حدثنا أبو بكر حدثنا ابن فضيل عن ليث عن عطاء، به.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصن 3/297 وإسناده أبو بكر، حدثنا ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، ولم يذكر فيه عمر.
وروى هناد ـ بإسناده ـ عن عمر نحوه، وزاد ((وبعث إلى أناس نزلوا خلف العقبة، فأدخلهم، فإنه كان يبعث رجالاً يدخلون الناس من وراء العقبة، ولا يتركهم يبيتون خلفها)). وكل ذلك يوجب أن المبيت بمنى من النسك الواجب، فإذا ثبت ذلك، فعلى تاركه دم. وأبو حنيفة يذهب إلى أنَّ تاركه مسيء، ولا شيء عليه. وذهب الشافعي إلى أن من بات بغيرها ثلاث ليالٍ، لزمه دم على أن الكون بمنى أقوى من الرمي، ولا خلاف أن من ترك الرمي، يلزمه دم، فوجب أن يلزم تارك المبيت، وإنَّما قلنا: أن الكون بمنى، أقوى من الرمي؛ لأنا وجدنا الرمي في الرابع يتعلق وجوبه بالمقام والمقام لا يتعلق وجوبه بالرمي على وجه من الوجوه، فيصير حكم الرمي بحكم التبع أشبه، فيجب أن يكون المقام أقوى منه في معنى النسك. (43/31)
مسألة [في وقت وكيفية رمي الجمار الثلاث]
قال: فإذا عاد إلى منى، نهض في غد يوم النحر متطهراً بعد زوال الشمس، ويحمل معه إحدى وعشرين حصاة حتَّى يأتي الجمرة الَّتِي في وسط منى، وهي أقرب إلى مسجد الخيف، فيرميها بسبع حصيات من بطن الوادي، يهلل، ويكبر مع كل حصاة، ثُمَّ يأتي الجمرة الَّتِي تليها، فيرميها كذلك بسبع حصيات، ثُمَّ يأتي جمرة العقبة، فيرميها كذلك بسبع حصيات، ثُمَّ ينصرف إلى رحله بمنى. ثُمَّ إذا كان من الغد أتى الجمرات بعد زوال الشمس، ورماها بإحدى وعشرين حصاة، كما في اليوم الأول. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب) (2). ونص فيهما على أنَّه يقف ويدعو عند الجمرة الأولى والثانية ولا يقف عند جمرة العقبة. وقلنا: أنَّه ينهض متطهراً؛ لأنَّه مؤدي نسك، واستُحب له أن يكون متطهراً، كما استحب له ذلك عند السعي، والوقوف. وقلنا: أنَّه يفعل ذلك بعد زوال الشمس؛ لأن المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه فعل ذلك. وروى أبو داود في (السنن) بإسناده عن أبي الزبير قال: سمعت جابر يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ضُحىً، فأما بعد ذلك، فبعد زوال الشمس. (43/32)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي(3)، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحًى، وما سواها بعد زوال الشمس.
وروى أبو داود ـ بإسناده ـ عن سليمان، عن عمرو بن الأحوص، عن أمه، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي، وهو راكب، يكبر مع كل حصاة.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/288 ـ 289 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 111 ـ 112 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/220.
وروى أبو داود ـ بإسناده ـ عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث بمنى ليالي أيام التشريق يرمي الجمار إذا زالت الشمسُ كلَّ جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، والثانية، فيطيل القيام، ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها. وروى ابن أبي شيبة(1) ـ بإسناده ـ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن /196/ جده، قال: وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الجمرة الثانية أطول مما وقف عند الجمرة الأولى، ثُمَّ أتى جمرة العقبة، فرماها، ولم يقف عندها. (43/33)
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: (أيام الرمي: يوم النحر، وهو يوم العاشر، يرمى فيه جمرة العقبة بعد طلوع الشمس بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ولا يرمي من الجمار يومئذ غيرها، وثلاثة أيام بعد يوم النحر، يوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، يرمى فيهن الجمار الثلاث(2) بعد الزوال، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الجمرتين، ولا يقف عند جمرة العقبة.
مسألة [في الفقر الأول والثاني]
قال: ثُمَّ إن أحب الرجوع إلى مكة في هذا اليوم، نفر، ورجع إليها بعد زوال الشمس، وبعد الرمي(3).
وقال القاسم عليه السلام: ويترك باقي الحصى، وهو إحدى وعشرون حصاة؛ لأن الحصا كلها سبعون حصاة. وإن أحب الخروج إلى النفر الثاني، أقام إلى الغد، فإذا ارتفع النهار، أتى الجمرات، ورماها بباقي الحصا كما رماها في الأول، والثاني، وعاد إلى مكة.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/293 وإسناده، حدثنا: أبو بكر حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، به.
(2) ـ في (ب): الثلاث الجمار.
(3) ـ انظر الأحكام 1/299 ـ291 وهو بلفظ قريب.
جميعه منصوص عليه (الأحكام) و (المنتخب) إلا ما حكياه عن القاسم عليه السلام فإنه منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، ومروي عنه في (الأحكام) (1)، ونص في (الأحكام) و(المنتخب) (2) على أنَّه بالخيار إذا نفر في النفر الثاني بين أن يكون رمية ونفره قبل الزوال، وبين أن يكونا بعده. وهو قول أبو حنيفة، وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي: لا يرمي إلا بعد زوال الشمس. قلنا: أن له أن ينفر في النفر الأول إن شاء، وينفر في الثاني إن شاء؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِيْ يَوْمَيَنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}. وقلنا: إنَّه إن نفر في النفر الأول ترك باقي الحصا؛ لأن الرمي في اليوم الثالث يجب بالمقام، فإذا لم يقم، وخرج في النفر الأول، لم يلزمه الرمي، وإذا لم يلزمه الرمي، لم يكن للحصى حكم، فلذلك قلنا أنَّه يتركها؛ لأن سبيلها سبيل سائر الحصى، وقلنا: أن من نفر في النفر الثاني، إن شاء نفر ورمى قبل الزوال، وإن شاء بعده؛ لأن المقام لما كان موقوفاً على اختياره، جعلنا له الخيار في مقداره، وأيضاً لا خلاف أن من أصبح في منى اليوم الثالث، لم يجز له النفر إلاَّ بعد الرمي، فلولا أن الوقت وقت للرمي، لم يلزمه؛ لكونه فيه بمنى، كما لم يلزمه هذا الرمي إذا أقام في اليوم الأول، والثاني؛ لأنهما ليسا بوقت لهذا الرمي، فأما قبل طلوع الشمس، فلم يستحب لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: ((أينىَّ(3) ترموا جمرة العقبة حتَّى تطلع الشمس)). وقد روي عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ترموا حتَّى تصبحوا)). (43/34)
مسألة [في طواف الوداع]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/316 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 112 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ كلمة غامضة أظنها أينىَّ كما أثبتناه. وفي المصنف قال: أبينى.
قال: ثُمَّ أقام بها ـ يعني بمكة ـ ما أقام، فإذا أتى الرحيل أتى الكعبة وطاف بها طواف الوداع. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2). ذكر أبو العباس الحسني ـ رضي الله /197/ عنه ـ أن على من تركه دماً، فدل ذلك على وجوبه، والأصل فيه: ما رواه هناد، عن عطاء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من حج، ليكن آخر عهده بالبيت))،. (43/35)
وروي أيضاً عن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يَصْدُرَنَّ أحدكم حتَّى يكون آخر عهده بالبيت)).
وروى ـ أيضاً ـ هناد ـ بإسناده ـ عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون على كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ينفر أحدكم حتَّى يكون آخر عهده بالبيت)). فدلت هذه الأخبار على وجوبه؛ لأن الأمر يقتضي الوجوب، وكذلك النَّهي عن الصدر إلاَّ بعد الطواف يدل على وجوبه.
فإن قيل: فليس في الخبر ذكر الطواف.
قيل له: لا خلاف أن المراد به الطواف، على أنَّه لا خلاف في أنَّه ليس عبادة تختص بالبيت إلاَّ الطواف، فثبت أن المراد به الطواف.
مسألة [في الحصى من أين تؤخذ؟ وكيف ترمى؟ وماذا يستحب للرامي؟ وما يلزم من ترك الرمي؟]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/290 ـ 291 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ المنتخب 112 وهو بلفظ قريب.
قال: ويستحب للحاج أن يأخذ حصى الرمي من مزدلفة، وأن يغسلها، وإن أخذها من بعض جبال منى وأوديتها، أجزأه، ولا بأس بالرمي راكباً، ويفرق بين الحصى في الرمي، فإن نسي، ورماها مجتمعة، عاد(1)، ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر، إلاَّ للنساء لضعفهن، ويستحب أن يكون الرمي على الطهر. قال القاسم عليه السلام: والمريض الذي لا يستطيع الرمي يُرمى عنه، ويهريق دماً، ورمي الماشي أفضل. جميعه منصوص عليه في (الأحكام)(2)، وما حكيناه عن القاسم عليه السلام مروي عنه في (الأحكام). وقلنا: أنَّه يستحب أن يؤخذ الحصى من مزدلفة لما: روى ابن أبي(3) شيبة ـ بإسناده ـ عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما بلغنا وادي محسر قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((خذوا حصى الجمار من وادي محسر)). وهذا الموضع هو من مزدلفة. وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن أبي جعفر عليه السلام قال: حصى الجمار قدر أنملة، وكان يستحب أن يؤخذ من مزدلفة. قال أبو خالد: رأيت عبد الله بن الحسن يأخذ الحصى من منى. وقلنا: يجوز أخذ الحصى من جبال منى؛ لأنَّه لا خلاف في ذلك. وقلنا: يجوز أن يرميها راكباً؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمى على راحلته؛ وقلنا: يفرق الحصى وإن رماها مجتمعة أعاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمى بها مفترقة، وقال: ((خذوا عني مناسككم))، ولا خلاف بيننا، وبين أبي حنيفة، والشافعي، ومالك، وأبي ثور، أنَّه إن رمى سبعاً مجتمعات، أعاد منها ستاً، فكذلك السابعة، والمعنى أن الرمي وقع مجتمعاً، فوجب أن لا يُعتد به. (43/36)
__________
(1) ـ في (أ): أعاد.
(2) ـ انظر الأحكام 1/ 314 ـ 315 ـ 316 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/202 وبإسناده حدثنا أبو بكر حدثنا محبوب القواريري عن عبد الله بن عامر، به.
فإن قيل: المأخوذ عليه هو عدد الحصى، وعدد الرمي، فإذا أعاد رمى الست، وجب أن يجزئ رميه الأول عن رمية حصاة واحدة. (43/37)
قيل له: لسنا نسلم أن المأخوذ عليه ما ذكرتم فقط، بل المأخوذ عليه مع ما ذكرتم /198/ التفريق بين الحصيات، فإن كان هذا هكذا، وجب أن لا يعتد بالرمية الأولى؛ لكون الحصى فيها مجتمعة. وقلنا: إن غير النساء لا يجوز لهم الرمي قبل طلوع الفجر؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ترموا حتَّى تطلع الشمس)) (1).
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا الحجاج قال: حدثنا حماد، حدثنا الحجاج، عن حكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه في الثَّقَل، وقال: ((لا ترموا حتَّى تصبحوا)) (2). وجوزنا ذلك للنساء لما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، أخبرنا عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر أنَّها قالت: ليله جمع، هل غاب القمر؟ قلت: لا، ثُمَّ تمت ساعة، ثُمَّ قالت: يابني، هل غاب القمر؟ قلت: نعم، فارتحلتُا وارتحلنا، ثُمَّ مضينا بها حتَّى رمت الجمرة، ثُمَّ رجعت، فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: لقد غلَّسْنا. فقالت: كلا يا بني، إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن للظُعُن.
__________
(1) ـ أخرطه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/217 وسقط فيه حدثنا حماد.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/216 وفيه فصلت ساعة مع اختلاف يسير في اللفظ.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أحمد بن داود، حدثنا عبيد الله بن محمد(1) التيمي، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة، أن يوم أم سلمة دار إلى يوم النحر، فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة جمع أن تفيض، فرمت جمرة العقبة، وصلت الفجر. وروي عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص في نحو من ذلك. وقلنا: يستحب أن يكون الرمي على طهر؛ لأنَّه نسك، فكان كالسعي والوقوف، ووجه ما ذكره القاسم عليه السلام أن المريض يرمى عنه ويهريق دماً أن الرمي لا خلاف فيه أنَّه يجهر بالدم إذا فات، فلما لم يمكنه الرمي، وَفَاتَه، قلنا: أنَّه يهريق لذلك دماً، ولما كان الرمي يصح فيه النيابة استحببنا أن يرمى عنه؛ ليكون الرمي قد حصل ـ أيضاً ـ كما قلنا في المعضوب أن غيره إن حج عنه، كان مستحباً. (43/38)
ووجه قولنا: أن رمي الماشي أفضل، أن المشي له مسرح في فضيلة الحج، بدلالة ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أمر من نذرت أن تمشي إلى مكة بالركوب، وأن تهدي لترك المشي.
مسألة [في أفضل أنواع الحج]
__________
(1) ـ في (أ): أحمد. أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/218.
قال: وأفضل الحج الإفراد لمن حج، ولمن لم يحج. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وجدتُ ليحيى عليه السلام لفظة في (الأحكام)(2) تقتضي أن القران أفضل، فاختلف لذلك أصحابنا، وكان أبو العباس الحسني رحمه الله يذهب إلى أن الإفراد أفضَلُ للضَّرُورَة، والقران لمن قد حج. والصحيح على المذهب ما ذكرناه أنَّه صريح قول الهادي عليه السلام؛ ولأن تعليله وتعليل القاسم عليه السلام [يكون] (3) المتمتع أنقص حالاً بوجوب الدم فيه، فوجب أن يكون القران كذلك، ولا يختلف أصحابنا أن المتمتع دونهما. وقال أبو حنيفة وأصحابه: القران أفضل. ومذهب الإمامية، وأكثر أصحاب الحديث، أن المتمتع أفضل، وهو قول الناصر، وقول الشافعي الإفراد أحب إليَّ قد /199/ وذكره المزني، وقد قيل عنه خلاف ذلك أفضل. (43/39)
ووجه قولنا: أن الإفراد أفضل إن كل عبادة تختص البدن، خيِّر الإنسان بين فعلها، وفعل غيرها من جنسها، كان أفضلهما أكبرهما عملاً، دليله التطوع بإحياء ساعة من الليل، أو ساعتين، والتطوع بصيام يوم، أو يومين، وكذلك لا خلاف أن التطوع قائماً أفضل من التطوع جالساً، فإذا ثبت ذلك، وكان الإفراد بالحج، والإفراد بالعمرة، أكثر عملاً. [كان الإفراد أفضل]
فإن قيل: كيف وأنتم تذهبون إلى أن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، والمتمتع لا خلاف أنَّه يطوف ويسعى لعمرته ثُمَّ لحجه؟
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/310 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ الذي في الأحكام، ومن أطاق أن يقرن ويسوق معه بدنه فذلك فضل كبير وهو أفضلها للحج.
(3) ـ سقط من (ب).
قيل له: إنه وإن كان كذلك، فمن المعلوم أن الإفراد أكثر عملاً؛ لأنَّه محرم للحج من الميقات، ثُمَّ محرم للعمرة بعد ذلك من ميقاته، والمتمتع تكون حجته مكية، والقارن لا يلزمه إلاَّ عقد واحد، وإحرام واحد من جهة الفعل، وإن كان ذلك من طريق الحكم إحرامين، فبان بذلك أنَّه أكثر عملاً، والإفراد بالحج والعمرة يكون فيهما حلاقان، وليس للقارن إلاَّ حلاق واحد، وأيضاً لا خلاف أن أدا الصلاتين كل واحدة منهما في وقتها المختار أفضل من الجمع بينهما مع السلامة، فكذلك الحج والعمرة، والمعنى أنهما عبادتان من جنس واحد تختص الأبدان، فوجب أن يكون كل واحد منهما أفضل من الجمع بينهما. يؤكد ما ذهبنا إليه أن التمتع، والقران يجريان مجرى الترفيه والرخصة، ألا ترى أن المتمتع رُخص له التمتع بما يتمتع به الحلال في وقت، وهو محظور على الحاج، والقارن رخص له في أن يعقد العمرة والحج بإحرام واحد في دفعة واحدة، وهو محظور على المفرد ، فإذا كان ذلك كذلك، لم يجز أن تكون الرخصة أعلى حالاً من الأصل، والعبادات حكمها كلها على ما ذكرنا. (43/40)
ومما يبين أن ما ذكرناه ضرب من الترفيه أن كثيراً من العلماء يكرهون لأهل مكة فعله، لَمَّا كانوا عن الترفيه أغنى، ولم يكره لأهل الآفاق، لَمَّا كانوا إلى الترفيه أحوج، فكان ذلك كالوِتر على الراحلة لما كان ترفيهاً خُصَّ به المسافر، إذ هو أحوج إلى الترفيه، دون المقيم الذي هو أغنى عنه. ويؤكد ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} وعندنا أن الواو توجب الترتيب شرعاً على ما بيناه في مسألة ترتيب الوضوء من كتاب الطهارة، فكأنه قال تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله، وذلك لا يكون، إلاَّ إفراداً، وأقل أحوال الأمر أن يقتضي الندب، فأوجبت الآية أن الإفراد مندوب إليه ندباً زائداً على غيره. ومما يدل على ذلك أنا وجدنا الدم لا يدخل في الحج إلاَّ لجبر النقص، دليله جزاء الصيد، وفدية الأذى، ونحوهما، فوجب أن يكون كذلك دم القران، والتمتع، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن فيهما نقصاً عن الإفراد، وهذا الدليل الذي اعتمده القاسم ويحيى عليهم السلام. (43/41)
فإن قيل: فأنتم مجوزون الأكل من هدي القارن، والمتمتع للمهدي، فهلا دَلَّكم ذلك على أنَّه ليس للنقص، بل لزيادة النسك؟
قيل له: لا يمنع عندنا أن يكون ذلك زيادة نسك، وإذا كان مع ذلك جبراً للنقص، كما أن سجدتي السهو لم تجب من حيث كانتا جبراً للنقص ألا تكون عبادة زايدة، وكونه جبراً للنقص لا يمنع الأكل منه، ويكون ذلك بحسب قيام الدلالة عليه، ولا يمتنع أن يكون النقص على ضربين، ضرب منه محظور بالإحرام، فيكون ما يجبر به لا يجوز أكله للمهدي، وضرب منه نقص مفسوخ له في الإتيان به، وإن لم يكن له عذر، فيكون ما يجبر به مباحاً أكله.
فإن قيل: لو كان ذلك خيراً للنقص لكان يكون على المكي الدم إذا تمتع، فإنه مع /200/ النقص إتيان لما كره له، فإذا لم يلزمه، فقد ثبت أنَّه لم يكن للجبر.
قيل له: لا يمتنع أن يكون هذا الجبر لم يجعل لأهل مكة تشديداً عليهم، وليس يلزمنا ما ذكرت في قولنا إنَّه جبر للنقص فيما ذكرتموه، إلاَّ ويلزمكم مثله في قولكم إنَّه زيادة نسك فقط؛ لأن المكي إلى زيادة النسك أحوج متى تمتع للوجه الذي ذكرتموه، على أنا لسنا نقول أن ذلك يكره لأهل مكة، وقد مضى الكلام فيه، ونقول أن الدم يسقط عنه؛ لأن حجه حصل من ميقاته؛ لأن مكة ميقات لأهل مكة. (43/42)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن القران فيه مبادرة إلى فعل الحج والعمرة، فوجب أن يكون أفضل؟
قيل له: المبادرة لا تدل على أنَّها أفضل في كل موضع، ألا ترى أن أهل العراق يرون أن تأخير العصر أفضل من تقديمه، وكذلك الإسفار بالفجر أفضل من التغليس به، ولا خلاف أن تأخير الوتر أفضل من تقديمه، ونحن نذهب إلى تأخير العصر إلى وقته أفضل من تقديمه في أول وقت الظهر على سبيل الجمع للمعذور، فكل ذلك يبين فساد تعلقهم بما تعلقوا به.
فإن قيل: قوله ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي)) يدل على أن التأسف على التمتع، وهذا يدل على أن التمتع أفضل.
قيل له: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ذلك تطبيباً لأنفسهم)) لما رآهم قد شق عليهم الإحلال مع بقائه عليه السلام على الإحرام، وهذا كما يقول الإنسان لمن رُخِّص له في غدر عرض له، لو كنت مثلك، لترخصت ، وإن لم يدل ذلك على أنَّه رغبة في حصول العذر والعدول إلى الرخصة، فكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي)).
فإن قيل: كيف تقولون أن الإفراد أفضل مع قولكم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرن؟
قيل له: فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل حال لا يدل على أنَّه هو الأفضل، بل يدل على أنَّه جائز، ألا ترى أنَّه أفطر في السفر، وقد دل الدليل على أن الصوم فيه أفضل، وكذلك أوتر على الراحلة، وقد دل الدليل على أن الإتيان على الأرض أفضل.، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه طاف راكباً، ورمى راكباً، ولا خلاف أنهما على القدمين أفضل، على أنَّه لا يكون الأخذ بالرخصة أفضل خصوصاً له من حيث كان ذلك بياناً للناس، ولا يوجب أن يكون الرخصة أفضل للكافة، فلا تعلق بها على وجه من الوجوه. (43/43)
ويدل على أن القران أفضل من التمتع، وهو المراد بقوله في (الأحكام) (1): (والقران أفضلها) أن القارن(2) حجته ميقاتية وحجة التمتع مكية، ويكون سفر المتمتع إلى مكة للعمرة، ويكون سفر القارن للحج والعمرة إلى منى، وأيضاً الرخصة للمتمتع أكثر منها للقارن، ألا ترى أن المتمتع ينتفع بالنساء، والطيب، والثياب، وغيرها، مع كونها أجمع محظورة على القارن، وإذا ثبت ذلك، ثبت بما قدمناه أن العدول عن الرخصة أفضل، كان الأمر الذي فيه الرخص أقل أفضل من الذي فيه الرخص أكثر، فوجب بذلك أن يكون القران أفضل من التمتع. فأما ما كان يميل إليه أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى من الفرق بين من حج ومن لم /201/ يحج، في أن الإفراد أفضل لمن لم يحج، والقران أفضل لمن قد حج، فهو بعيد؛ لأن جميع الوجوه الَّتِي ذكرناها لا فصل فيها بين من حج وبين من لم يحج، وتصريح يحيى عليه السلام أن الإفراد أفضل لمن حج ولمن لم يحج في (الأحكام)، يوضح ما ذكرناه، وأنه لم يذكر الحال مفصلاً ولم يترك الاقتصار على قوله: الإفراد أفضل إلاَّ لإزالة هذه الشبهة.
مسألة [في أعمال العمرة]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 310.
(2) ـ في (أ): القران.
قال: والمعتمر يفعل ما يفعله المتمتع في عمرته من الإحرام، والتلبية، وقطعها، والطواف، والسعي، وغيرها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) وهو مما لا خلاف فيه، وبه وردت الأخبار، فلا وجه للإطالة فيه. (43/44)
مسألة [فيمن دخل الحجر في طوافه]
قال: والطائف لا يدخل الحجر في طوافه، فإذا دخله ناسياً، أو جاهلاً، فلا شيء عليه، وإن دخله معتمداً عالماً بالكراهة، وجب عليه دم. وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(2). والوجه في ذلك أن الحِجْرَ من الكعبة لما: أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي(3)، حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحجر، فقال: هو من البيت. فإذا ثبت أنَّه من البيت فيجب على الطائف أن يطوف حوله لقول الله تعالى: {وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيْقِ} فمن دخله، يكون قد قطع طوافه، ويكون سبيله سبيل من خرج من المسجد وهو في الطواف، في أنَّه يكون قاطعاً للطواف، فلذلك قلنا أنَّه إذا فعل ذلك معتمداً، فعليه دم؛ لأنَّه قد أخل بالمتابعة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم تابع بين الطواف، وقال: ((خذوا عني مناسككم)) ولأن ذلك هو المأخوذ به عند المسلمين، فإذا ثبت ذلك، لزمه دم لإخلاله بما هو نسك واجب من المتابعة بين الطواف. وقلنا: إن فعل ذلك ناسياً، أو جاهلاً، فلا شيء عليه؛ لأنَّه يكون في حكم المعذور، ولا خلاف أن من قطع الطواف لإقامة الصلاة لا شيء عليه؛ لأنَّه يكون في حكم المعذور، فكذلك ما ذكرناه، وهذا يجب أن يكون في الطواف الواجب إذا لم يعد، فأما الطواف الذي ليس بواجب، والطواف الواجب إذا عاد، فليس عليه شيء؛ لأن دخول الحجر في الطواف ليس بأكثر من
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/293 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 107 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/184.
أن لا يفعله. (43/45)
فإن قيل: فكيف قلتم أنَّه إن أعاد الطواف أجزاه، وقد حكى يحيى عليه السلام عن قوم أنهم قالوا: يعيد، ويذبح إن أمكن ذلك؟
قيل له: إنه أنكر قول من قال بوجوب إعادة الطواف، والذبح، وذلك كما قال لا معنى له، وإنَّما يقول: إنَّه إن عاد فلا ذبح عليه، فوجب عليه أحد الأمرين الإعادة أو الدم.
مسألة [فيمن طاف أكثر من سبعة أشواط]
قال: ولو أن رجلاً غلط، فطاف ثمانية أشواط، رفض الثامن إن شاء، ولم يكن عليه شيء. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1).
ووجهه أن الدخول في الثامن لا يوجبه عليه، كما يقول فيمن دخل في صلاة غير واجبة، ثُمَّ قطعها، أو في صوم غير واجب، فقطعه، أنَّه لا شيء عليه، والمعنى أنَّه عبادة ليس من شرط صحتها الإحرام. المحفوظ على أنَّه إذا دخل في الطواف /202/ ونوى طوافاً واحداً، فإن نيته تكون لسبعة أشواط، فإذا طاف الثامن بغير عقد نية له، فيجب أن لا يكون له حكم، ويكون بمنزلة من سعى في موضع الطواف لحاجته في أنَّه لا يكون طائفاً، فوجب أن يكون وجوده كعدمه.
مسألة [في تقديم الحلق على الذبح]
قال: ولو أنَّه نسي، فحلق قبل الذبح، فليس عليه شيء.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2). وهو قول أبي يوسف، ومحمد، والشافعي، والأصل فيه ما: أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا المعلى بن منصور، أخبرنا هشيم، عن منصور، عن عطاء، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئل عمن حلق قبل أن يذبح، ونحو ذلك، فجعل يقول: ((لا حرج)) (3).
__________
(1) ـ انظر المنتخب 108 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 111 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/235.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، عن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ريبعة، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي عليه السلام، قال: جاء(1) رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله: إني أفضت قبل أن أحلق، قال: ((أحلق ولا حرج)) قال: وجاءه رجل آخر، فقال: يا رسول الله: إني ذبحت قبل أن أرمي، قال: ((ارم، ولا حرج)). والحرج الضيق، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم يفيد جوازه، ويجري مجرى قول القائل: لا حرج في تأخير الظهر إلى وقته. يريد أنَّه جائز ويجري مجرى قوله: ((لا حرج في تأخير الحج)) أي أنَّه جائز، فإذا ثبت جوازه، فيجب أن لا يكون على من فعله شيء، خلافاً لأبي حنيفة في إلزامه إياه دماً. (43/46)
فإن قيل: فقد روي عن ابن عباس أنَّه قال: من قَدَّم من حجه شيئاً، أو أَخَّر، فليهرق دماً.
قيل له: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بأن يستعمل، ونبني عليه قول ابن عباس، حتَّى يكون خاصاً في غير ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: فهذا يوجب أن يكون ذلك جائز للمتعمد والناسي، وقد قال في (المنتخب)(2): إن ذلك يجب أن يتعمد، وكرهه.
قيل له: أما التعمد فلا خلاف في أنَّه يكره له ذلك، ويدل(3) عليه قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يبلغ الهدي محله} فصار الخبر متناولاً للناسي وللجاهل، وقد روي ما يدل على أن المراد هو الناسي والجاهل.
__________
(1) ـ في (ب): أتى.
(2) ـ انظر المنتخب 111.
(3) ـ في (ب): دل.
أخبرنا المقرئ، حدثنا الطحاوي(1)، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا أبو ثابت محمد بن عبد الله، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن أبيه، عن عبيد الله بين أبي رافع، عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأله رجل في حجته، قال: إني رميت، وأفضت، ونسيت ولم أحلق، قال: ((احلق ولا حرج))، ثُمَّ جاء رجل آخر فقال: إني رميت، وحلقت، ونسيت أن أنحر، قال: ((انحر، ولا حرج)). (43/47)
وروي عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو ذلك، وفيه ثُمَّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((عباد الله، وضع الله الحرج والضيق، فتعلموا مناسككم)) فدل ذلك على أن الخطاب ورد في الجاهل والناسي.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المراد في ذلك من يكون هديه تطوعاً.
قيل له: ابن عباس روى في الحديث الأول أنَّه قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من حلق قبل أن يذبح، فلا حرج)) وهذا عام لا /203/ يُخص إلاَّ بالدليل، وجوابه صلى الله عليه وآله وسلم للسائل من غير أن يتعرف(2) حال هديه. قال زيد بن علي: الواجب والتطوع في ذلك سواء.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك على رفع الإثم؟
قيل له: لا تختص هذه المسألة؛ لأن الناسي لا إثم عليه في شيء مما يقع منه على جهة النسيان، فلا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أنَّه من قدم الحلق على الذبح الذي للتطوع، لا يلزمه دم، وكذلك إذا قدمه على ذبح الواجب، والمعنى أنَّه تقديم الحلق على الذبح، ولا خلاف أنَّه إن فعلهما مرتباً، فلا شيء عليه، فكذلك إن قدم الحلق، والمعنى أنَّه وقع كل واحد من هذين النسكين في زمان هو زمانه.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/237 وفيه: أبو ثابت محمد بن عبيد الله، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أراه، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي عليه السلام.
(2) ـ في (ب): يعرف.
مسألة [فيمن يطوف طواف الزيارة جنباً، أو حائضاً أو ينسى الطواف جنباً ناسياً] (43/48)
ولو أنَّه طاف طواف النساء، أو طافت امرأة حائضاً، فعليهما إعادته إن كانا بمكة، وإن كانا قد لحقا بأهلهما، فعلى كل واحد منهما بدنة، ومتى رجعا قضيا ذلك الطواف، ولو أنَّه نسي طواف النساء، فعليه الرجوع من حيث كان، ويكون حاله حال المحصر، فإن جامع قبل أن يعود فيقضيه، كانت عليه بدنة، ولا يجزي الطواف إلاَّ بالطهور. ما ذكرناه فيمن طاف طواف النساء جنباً منصوص عليه في (الأحكام) (1)، ونص أيضاً فيه أنَّه إن طاف من غير أن يستكمل الطهارة، استكملها، وأعاد الطواف.
وتحصيل المذهب على أن من طاف من(2) غير طهور يكون طوافه ناقصاً نقصاً لا بد معه من الإعادة، أو الجبر بالدم، وهذا هو المراد بقولنا: لا يجزي الطواف إلاَّ بطهور؛ لا أن الطهور شرط فيه كالصلاة، وهذا هو مذهب أبي حنيفة. قال الشافعي: هو شرط في الطواف. والدليل على ذلك قول الله تعالى: {ثُمَّ لِيُقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلِيُوفُوا نُذُورَهُمْ..} الآية، فأمر بالطواف، ولم يشترط الطهارة، ولا خلاف أن الوقوف، والإحرام، لم تُجعل الطهارة شرطاً فيهما، فكذلك الطواف، والمعنى أنَّه ركن من أركان الحج، وهو قياس سائر العبادات، بمعنى أن الكلام لا يجزم فيه، فوجب(3) أن لا تكون الطهارة شرطاً فيه، ويقوي علتنا هذه سائر ما يختص الحج من الذكر وغيره.
فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمى الطواف صلاة لقوله: ((الطواف بالبيت صلاة إلاَّ أن الله عز وجل أباح لكم أن تتكلموا فيه)) ثُمَّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا صلاة إلاَّ بطهور)) فوجب أن ينتف الطواف بغير طهور.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/327 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): على.
(3) ـ في (أ): فيجب.
قيل له: اسم الصلاة يتناول الطواف على سبيل المجاز، بدلالة أنَّه إذا أطلق لم يعقل في الشريعة إلاَّ العبادة المخصوصة ذات الركعات والسجدات، والمجاز لا يدخل في الخطاب إلاَّ بالدليل، فلم يجب أن يكون الطواف مراداً بقوله: ((لا صلاة إلاَّ بطهور)). (43/49)
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طاف على طهارة، وقال: ((خذوا عني مناسككم)) فدل ذلك على وجوب الطهارة للطواف.
قيل له: نحن لا ننكر أنَّها تجب للطواف، وإنَّما اختلفنا في أنَّه شرط فيه أم لا، وأنه يجبر بالدم إذا ترك، أم لا، وما تعلقتم به إنَّما يقتضي وجوب الطهارة، وذلك مما لا نختلف فيه، فأما موضع الخلاف، فإن هذا الاستدلال لم يتناوله.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة: ((افعلي ما يفعله الحاج غير أن لا تطوفي /204/ بالبيت))، يدل على أن الطهارة شرط فيه.
قيل له: لا يدل ذلك على ما ذكرتم، وإنَّما منعها من الطواف وهي حائض؛ لأن الطواف لا يكون إلاَّ في المسجد، والحائض ممنوعة من دخول المسجد، على أنا لا نختلف في أن غير المتطهر ممنوع من الطواف، وإنَّما الخلاف في كونه شرطاً، وفي أنَّه يجبر بالدم.
فإن قيل: فإن الطواف مُضمن بالطهارة، وكل عبادة مضمنة بالطهارة، فإنها تبطل إذا فعلت بغير طهارة، دليلنا الصلاة.
قيل له: لا نسلم أن الطواف مضمن بها؛ لأن ذلك يفيد كونها شرطاً فيه، وفيه اختلفنا، وأما وجوبها، فلا خلاف فيه، وقوله صلى الله عليه آله وسلم: ((خذوا عني مناسككم)) مع أنَّه طاف متطهراً يدل على ذلك، وكل من ذهب إلى أنَّه ليس شرطاً فيه، يذهب إلى أنَّه يجبر بالدم إذا كان الطائف قد لحق بأهله، وأنه إذا كان بمكة يعيد؛ فلذلك قلنا به، على أنه إذا كان بمكة يمكنه الإتيان به من غير مشقة، فلا وجه؛ لأن يُجْبَر بالدم مع إمكان الإتيان به ثانياً. وألزمنا من طاف طواف الزيارة جنباً، ثُمَّ لحق بأهله، بدنةً؛ لأن البدنة موضوعة في الحج لكل ما كان أغلظ في جنسه، ثُمَّ كان طواف الزيارة فرضه آكد، وكان لا يجبر بالدم عند أحد، فعلمنا أن حكمه أغلظ، فكذلك الجنابة، فلذلك أوجبنا في جبره البدنة. وقلنا: إن من خرج، ولم يطف طواف النساء، لزمه العود، وأنه يكون في حكم المحصر إلى أن يعود، فيطوف؛ لأنَّه لا خلاف فيه، ومعنى قولنا: إنَّه يكون محصراً، أنَّه يكون ممنوعاً من النساء فقط دون سائر الأشياء. وقلنا: إنَّه إن جامع قبل ذلك لزمته بدنة؛ لأنَّه لا خلاف في أنَّه يلزمه دم، وسبيله سبيل من جامع بعد ما رمى جمرة العقبة قبل طواف النسا في أنَّه يلزمه البدنة. (43/50)
مسألة [في الكلام حال الطواف]
قال القاسم عليه السلام: ويكره الكلام في الطواف، فإن تكلم، لم يفسد. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي). ووجهه أنَّه موقف عظيم، وعبادة تشتمل على الذكر فاستحببنا ترك الكلام فيها. وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن ابن عباس أنَّه قال: ((الطواف بالبيت صلاة، فأقلوا الكلام فيه)) (1).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/137 وإسناده أبو بكر حدثنا ابن عيينة، عن ابن طاووس عن أبيه، به.
وروي أيضاً ـ بإسناده ـ عن طاووس أنَّه قال: ((إني لأعدها(1) غنيمة أن أطوف بالبيت أسبوعاً، لا يكلمني أحد)) ولا خلاف في أن الكلام لا يفسده. (43/51)
مسألة [في من نسي السعي بين الصفا والمروة ما عليه؟]
من نسي السعي بين الصفا والمروة استحب له الرجوع ليقضيه، فإن لم يمكنه، أجزأه دم، ومتى عاود الحج، قضاه، ومن طاف بينهما من غير وضوء، لم يكن عليه شيء.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2). وهو قول زيد بن علي عليهما السلام؛ لتنصيصه على أن فروض الحج ثلاثة. ورواه ابن أبي(3) شيبة عن الحسن، وعطاء، أنهما أوجبا على تاركه دماً فقط، وإليه ذهب أبو حنيفة. وقال الشافعي هو شرط في الحج مثل طواف الزيارة.
والذي يدل على ذلك قوله [صلى الله عليه وآله وسلم] (4): ((الحج عرفة، فمن أدركها أدرك الحج))، فظاهره يدل على أن الحج هو الوقوف بعرفة فقط، وأن من أدركه، فقد أدرك /205/ الحج، وهو يوجب أن ترك السعي لا يمنع تمام الحج، ويدل على ذلك أن السعي تابع للطواف، فوجب أن يكون من فروض الحج كالمبيت بمزدلفة، وكالمبيت بمنى، والعلة أنه تابع لغيره.
فإن قيل: لسنا نسلم أنَّه تابع للطواف، وإن كان مرتباً عليه، كما لا نقول في صلاة العصر أنَّها تابعة للظهر، وإن كانت مرتبة عليه، ولا نقول في طواف النساء أنه تابع للوقوف، وإن كان مرتباً عليه.
__________
(1) ـ في (أ): ألا أعدها غنيمة، وفي هامشها غنية، وفي (ب): إني لأعدها غيية. والصواب: ما أثبتناه وهو في المصنف هكذا.
(2) ـ انظر الأحكام 1/328 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/281.
(4) ـ سقط من (ب).
قيل له: صلاة العصر لها وقت يجب أن تفعل فيه إذا انتهى الإنسان إليه، وإن لم يكن فعل الظهر، وقد تجب صلاة العصر على الإنسان مفردة عن الظهر، فلم يصح أن يقال: إنها تابعة، ووجب أن يقال: إنَّها مرتبة عليه، وطواف النساء لا يتعلق بالوقوف؛ لأن وقت كل واحد منهما غير وقت صاحبه، وليس كذلك السعي؛ لأنَّه لا يفعل إلاَّ عقيب الطواف، ويكره أن يفرق بينهما بزمان طويل، وهو عند مخالفينا لا يختص بطواف بعينه؛ إذ قد يفعل عقيب طواف القدوم، وقد يفعل عقيب طواف الزيارة، فبان أنَّه تابع له على ما ذكرناه، على أنَّه عندنا لا يكون إلاَّ تابعاً لطواف القدوم، ولا يجوز أن يكون التابع أوكد حالاً مما هو تابع له، فوجب أن لا يكون شرطاً في صحة الحج، كطواف القدوم، وأيضاً قد ثبت أنهما من الشعائر بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله}، فوجب أن لا يكون شرطاً في الحج، كسائر الشعائر الَّتِي هي البُدن، والمشعر الحرام، ونحوها. (43/52)
فإن قيل: فقد سعى بينهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: ((خذوا عني مناسككم))، وقال ـ أيضاً ـ ((إن الله كتب عليكم السعي، فاسعوا)) وهذا يقتضي الوجوب.
قيل له: لَعمري، إن ذلك يقتضي الوجوب، ونحن لا ننكره، ولا نخالف فيه؛ لأن السعي بينهما عندنا واجب، وإنَّما نقول إنَّه إذا فات ناب الدم عنه، وليس شرط في الحج، وما استدللتم به، لا يدل على موضع الخلاف.
فإن قاسوه على الطواف بعلة أنَّها عبادة يوجبها الإحرام في موضع مخصوص، فوجب أن لا ينوب عنها الدم، كان ذلك منتقضاً بالرمي. وحكي عن قوم أنهم قالوا: غير واجب، وذلك غير صحيح، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((خذوا عني مناسككم)) مع سعيه بينهما، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله كتب عليكم السعي، فاسعوا)) فإذا ثبت وجوبه، وثبت أنَّه ليس بشرط في صحة الحج، ثبت أنَّه يجب أن يجبر بالدم إذا فات؛ إذ لم يخالف أحد فيه مع إثبات هذين القولين؛ فلذلك قلنا به. وقلنا: إنَّه إن عاد إلى مكة بعد ذلك، قضاه استحباباً؛ ليكون قد حصل له الأصل؛ ولأنه أحوط. وأما جواز السعي بغير طهور، فلا خلاف فيه، فلذلك قلناه. (43/53)
مسألة [في البناء على السعي والطواف إذا قطعه عارض]
قال: وإن(1) عرض عارض، فقطع سعيه، ثُمَّ عاد، بنى على سعيه، وكذلك القول في الطواف: إن عرض عارض فقطعه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2). وقد بينا أن من قطع طوافه لعذر، جاز له البناء، ولم يلزمه شيء في مسألة دخول الحِجْر في الطواف، فوجب أن يكون السعي بذلك أولى؛ لأن الأمر فيه أخف.
مسألة [فيمن نسي رمى الجمار]
قال: وإن نسي رمي الجمار، ثُمَّ ذكره في آخر أيام التشريق، فليرمها لما ترك من الأيام، وليُرِقْ دماً، وإن لم يذكره حتَّى مضت أيام التشريق، أراق دماً، ولم يكن /206/ عليه رمي. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3) وهو قول أبي حنيفة.
__________
(1) ـ في (ب): فإن.
(2) ـ انظر الأحكام 1/328 حيث ذكر فيه البناء على السعي، وأما البناء على الطواف، فنص عليه فيه 1/319.
(3) ـ انظر الأحكام 1/328 وهو بلفظ قريب.
ووجه ما ذهبنا إليه من إيجاب الدم على من تركه، أنَّه نسك لا خلاف فيه، وإذا تركه، وجب فيه [دم] (1)، ولا خلاف أنَّه إذا تركه حتَّى تمضي أيام التشريق أن عليه دماً، فكذلك إذا تركه إلى آخر أيام التشريق، والمعنى أنَّه ترك الرمي حتَّى مضى وقت أدائه. وقلنا إنَّه يقضي إن ذكره في أيام التشريق مع إراقة الدم؛ لأن ما بقي من أيام التشريق وقت قضائه، وإن لم يكن وقت لأدائه، لا خلاف فيه، فأما إذا مضت الأيام كلها، فلا رمي عليه، ويجزيه إراقة الدم؛ لأن ما بعدها ليس بوقت للأداء، أو القضاء. (43/54)
فإن قيل: لا معنى للدم مع القضاء.
قيل له: هذا غير ممتنع، ألا ترى أن من أفسد حجه، أو عمرته، فعليه الدم مع القضاء، وعندنا أن المتمتع إذا أخر الذبح، لزمه مع الذبح دم للتأخير، وعند مخالفينا من أفسد صوم رمضان بجماع، لزمه كفارة مع القضاء.
مسالة [فيمن نسي أن يرمي بحصاة أو حصاتين إلى أربع]
قال: وإن نسي أن يرمي بحصاة، أو بحصاتين، أو ثلاث، أو أربع، ثُمَّ ذكر في أيام التشريق، رمى ما نسيه، وأطعم عن كل حصاة مسكيناً مسكيناً، لكل مسكين مُدَّين من طعام، وإن نسي أن يرمي كل جمرة بأربع حصيات، ورماهن بثلاث، أراق دماً، ورمى إن ذكره في أيام الرمي، وإن ذكره بعد، أجزأه الدم. جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2).
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ انظر الأحكام 1/328 ـ 329 وهو بلفظ قريب.
ووجهه أنَّه لا خلاف فيمن حلق بعض رأسه، وهو محرم، أنَّه يلزمه دم، وأنه لو حلق من رأسه شعرة، أو شعرتين، لزمه أن يتصدق، فصار ذلك أصلاً في جملة من الأفعال، يوجب تركها الدم، ويوجب ترك اليسير منه صدقة، وكذلك لا خلاف في أن قتل الصيد يوجب دماً، وإن أخذه، ونتف شيئاً يسيراً من ريشه ووبره، وجبت صدقة، فلما ثبت ذلك، وثبت فيمن ترك الرمي جملة أن يلزمه الدم، قلنا: إن مَن ترك حصاة، أو حصاتين، إلى أن يصير المتروك أقل من أربع، يلزمه عن كل حصاة صدقة، وإذا صار المتروك أكثر، لزمه دم؛ لأن الأكثر في حكم الكل في الحلق وغيره. (43/55)
مسالة [في أي وقت يكره الطواف]
قال: ولا يكره الطواف في شيء من الأوقات، إلاَّ في الأوقات الثلاثة الَّتِي تكره فيها الصلاة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ووجهه أن من السنة أن يصلي عقيب كل أسبوع ركعتين، وهذه الأوقات نهى عن الصلاة فيها على ما ذكرناه في باب الصلاة والطائف في هذه الأوقات لا بد له من الدخول في أحد الأمرين اللذين ذكرنا، إما أن يطوف ويصلي، وقد كرهت الصلاة فيها، أو يطوف ولا يصلي عقيب الطواف، وقد كره أيضاً ذلك؛ فلذلك قلنا: إن الطواف فيها مكروه، فأما [في] (2) غيرها من الأوقات، فلا يكره الطواف في شيء منها؛ لأنها لا تكره الصلاة فيها، وفي ذلك: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن عبد الله بن باباه(3)، عن جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((يا بني عبد مناف لا /207/ تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى، أي ساعة من ليل، أو نهار)).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/319 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ في (أ): ماتاه.
وروى ابن أبي شيبة(1) ـ بإسنادهـ عن أبي سعيد أنَّه رأى الحسن، والحسين، عليهم السلام قدما مكة، فطافا بالبيت بعد العصر، وصليا. وروي أيضاً ـ بإسناده(2) ـ عن ابن عباس وابن عمر، نحوه. وروي أيضاً(3) عن ابن عمر، وابن الزبير، أنهما طافا بعد العصر، وصليا. (43/56)
فإن قيل: فإن هذا يحجكم في الأوقات الثلاثة.
قيل له: هو مخصوص بالدليل الذي ذكرنا، يؤكد ذلك أن النَّهي عن الصيام يوم الفطر، ويوم الأضحى، لما ثبت استوت البقاع في ذلك، فكذلك الصلاة في الأوقات الثلاثة، والمعنى أنَّها عبادة، نُهى عن إيقاعها في زمن مخصوص، فوجب أن يستوي فيها البقاع.
مسألة [فيمن يطوف أسبوعين فأكثر، هل يصلى ركعتين لكل أسبوع؟]
قال القاسم عليه السلام فيمن أراد أن يطوف إسبوعين، أو ثلاثة، أو أكثر، أنَّه يصلي ركعتين لكل إسبوع عند فراغه منه. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
ووجهه الأخبار المروية في هذا الباب، قد ذكرناها في مسألة ركعتي الطواف في أول المناسك، فلا غرض في إعادتها.
مسألة [في نسيان التلبية]
قال القاسم عليه السلام: ولو أن رجلاً نسي التلبية حتَّى يقضي المناسك كلها، لم يكن عليه شيء، ولا ينبغي أن يتركها متعمداً. وهذا ما رواه يحيى عليه السلام في (الأحكام)(4). وعند أبي حنيفة يلزمه دم.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/180 وإسناده: أبو بكر حدثنا محمد بن فضيل عن ليث عن شعبة أنه رأى.. الخ ولم يذكر أبا سعيد.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/180 وإسناده: حدثنا أبو بكر، حدثنا أبو الأحوص، عن ليث، عن عطاء.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/181، وإسناده حدثنا يعلى عن الأجلح عن عطاء.
(4) ـ انظر الأحكام 1/320 وهو بلفظ قريب.
ووجهه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: ((الحج عرفة، فمن أدرك عرفة، فقد أدرك الحج)) ودخول الألف واللام يدل على أنَّه هو الواجب فقط، كأنه قال: الحج عرفة، ولا خلاف أن تكرارها مسنون، فكذلك الابتداء، والمعنى أنَّها ذكر(1) وسائر أذكار الحج تؤكد ما ذكرنا، أو يقال لأنَّه من أذكار(2) الحج، و ـ أيضاً ـ الحج عبادة للمال فيها مدخل، فوجب أن لا يجب الذكر فيها قياساً على الصيام، أو يقال: عبادة تجب بالمال، فهي قياس الزكاة. (43/57)
فإن قيل: هو قياس الصلاة؛ بعلة أنَّها عبادة يرتبط بعضها ببعض.
قيل له: فترك أركانها(3) لا يوجب الدم، فنقيس الحج عليها بعلتكم هذه، نقول: كل ذكر لا يفسد الفعل تركه متعمداً، فلا يجبر إذا ترك متعمداً، قياساً على أذكار الصلاة.
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أتاني جبريل عليه السلام، وأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية)).
قيل له: ظاهره يوجب رفع الصوت، وهو غير واجب بالإجماع، والأمر به يجب أن يكون ندباً. وقال: لا ينبغي أن يتركها متعمداً؛ لأنَّه لا خلاف فيه، ولأنها إن لم تكن واجبة، فلا خلاف في أنَّها مسنونة.
__________
(1) ـ في (ب): تلبية.
(2) ـ في (أ): أركان.
(3) ـ في (ب): أذكارها.
باب القول فيما يجب على المحرم توقيه (44/1)
[مسألة في بيان الرفث، والفسوق، والجدال]
يجب على المحرم أن يتوقى الرفث، والفسوق، والجدال. والرفث هو: الجماع، واللفظ بالقبيح. والفسوق هو: الفسق.
والجدال هو: المجادلة بالباطل. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب). وذلك لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِيْ الْحَجِّ} [وهذا منصوص عليه في الأحكام](1).
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن ابن عباس، قال: (لا رَفَثَ) الجماع، و(لا فسوق)، المعاصي، (ولا جدال في الحج)، لا /208/ تمار صاحبك حتَّى تُغضبَه.
ولا خلاف أن الجدال بالحق مأمور به؛ لقول الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بَالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فإذاً الجدال المنهي عنه هو المجادلة بالباطل. ويبين ـ أيضاً ـ أن الرفث هو الجماع قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصَّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ويبين أن الرفث هو اللفظ بالقبيح قول الراجز: عن الخنا ورفث التكلم.
مسألة [في لبس المحرم الثوب المصبوغ أو القميص]
قال: ولا يلبس ثوباً مصبوغاً، ولا يلبس قميصاً بعد اغتساله لإحرامه، فإن فعله ناسياً، أو جاهلاً، شقه، وخرج منه. [وهذا منصوص عليه في الأحكام] (2)
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/275 ـ276 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/299 وأما الثوب المصبوغ فنص عليه فيه 1/276.
وروي هناد ونحوه، عن محمد بن الحنفية، وإبراهيم، والحسن، والشعبي. وليس لقائل أن يقول: إنَّه يؤدي إلى إضاعة المال، وقد نهى عنه؛ لأنَّه لا معنى لذلك مع ورود الأثر، على أنَّه لا خلاف أن من لم يجد النعلين يقطع الخفين، ويلبسهما، فكان شق القميص مثل ذلك. وقلنا ذلك أن لبسه بعد اغتساله لإحرامه؛ لأنَّه إذا اغتسل ناوياً للإحرام، يحصل محرماً؛ لأنا قد بينا فيما مضى أن عقد الإحرام لا يفتقر إلى اللفظ، وإنَّما ينعقد بالنية إذا ضامت فعلاً يختص الإحرام، كالاغتسال، أو تقليد البدن، ونحوهما. (44/2)
وأوجبنا الدم على من لبس الثوب متعمداً؛ لأنَّه لا خلاف في ذلك؛ إذ لبس ثوباً، فكذلك إذا لبس دونه، فأما الناسي، فلم نوجب عليه شيئاً، وهو قول الشافعي، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما لبس الثوب ناسياً، شقه، وخرج منه، ولم يُرو أنَّه فدى. وكذلك رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعرابياً محرماً عليه جبة، فأمره بنزعها(1)، فلم(2) يأمره بالفدية.
مسألة [في جز شعر المحرم]
قال: ولا يجز من شعره بنفسه، ولا بغيره. قال القاسم عليه السلام: ولا بأس إن يجز من شعر الحلال. وقد نص في (الأحكام)(3) على ما ذكرناه، ورَوى عن القاسم عليه السلام فيه ما حكيناه عنه. أما جَزُّ شعر المحرم، فلا خلاف في أنَّه لا يجوز، وجَزُّ المحرم شعر الحلال قد اختُلف فيه، قال الشافعي فيه مثل قولنا: وقال أبو حنيفة فيه صدقة.
__________
(1) ـ في (أ): ينزعها.
(2) ـ في (ب): ولم.
(3) ـ انظر الأحكام 1/276، 287 و 320، 321 وهو بلفظ قريب.
ووجه قولنا فيما ذهبنا إليه أن شعر الحلال لا حرمة له، فجرى مجرى الطير الأهلي، والأنعام، في أن قتلها لا يوجب شيئاً ، والعلة فيه أنَّه استهلك ما لا حرمة له، فوجب أن لا يكون فيه فرق بين الحلال والحرام، ولا خلاف أن الحلال إذا جَزَّه، لم يلزمه فيه شيء، فكذلك إذا جزَّه المحرم، والمعنى أنَّه شعر الحلال، ولا يشبه ذلك صيد الحلال؛ لأن للصيد حرمة، وإن كان ملكاً للحلال، ألا ترى أن الحلال لا يجوز له ذبحه في الحرم؟ وليس كذلك شعر الحلال؛ لأنه يحلقه في الحرم، يوضح ذلك أنَّه لو ألبسه قميصاً، لم يلزمه شيء، لما لم يكن الحلال ممنوعاً من لبسه، فكذلك قص شعره. (44/3)
فإن قيل: هو منهي عن قص شعر نفسه وشعر، غيره.
قيل له: لسنا نسلم أنَّه منهي عن قص شعر غيره.
مسألة [في محظورات الإحرام من الطيب والكحل وقتل القمل]
قال: ولا يتداوى بدواء فيه طيب، ولا يكتحل، ولا يقتل من القمل شيئاً، وإن أراد تحويله(1) من مكان إلى مكان، فعل، وإن قتلها، تصدق بشيء من الطعام. جميعه منصوص عليه في (الأحكام)(2). أما الطيب، فلا خلاف في أن المحرم ممنوع منه، فوجب أن يمتنع منه، وإن كان في الدواء؛ لأن كونه في الدواء لا يخرجه من أن يكون طيباً. /209/ وأما الكحل، فإنه منع منه؛ لأنَّه زينة، والمحرم قد أُخذ عليه ترك الزينة. وأما القمل، فقلنا: لا يلقيه عن نفسه ولا يقتله؛ لأنَّه جار مجرى أخذ الشعر، والظفر من جسده؛ لأنَّه منه، وفي أخذه إماطة الأذى عن نفسه، ولا خلاف أن المحرم لا يغلي ثوبه، ولو كان له قتل القمل، لكان له فَلْيُه، كما له غسله. وقلنا أنَّه إذا نقله من موضع، من جسده إلى موضع فليس عليه فيه شيء؛ لأنَّه لم يقتله، ولم يُمط الأذى عن نفسه. وقلنا: أنَّه إذا قتله تصدق بشيء من الطعام؛ لأنَّه إذا ثبت أنَّه ممنوع منه لإحرامه، فلا يلزمه(3) إذا قتله دم بالإجماع، ولزمه التصدق، كما نقول ذلك فيمن قصر ظفراً، أو حلق شعرة، أو شعرتين، أو نسي رمي حصاة، أو حصاتين. (44/4)
وروى ابن أبي شيبة(4) في القمل نحو قولنا، عن ابن عمر، وسعيد بن جبير. وهو المروي عن جعفر بن محمد عليهما السلام.
مسألة [في التزوج والتزويج للمحرم]
__________
(1) ـ في (ب): تحويل قملة.
(2) ـ انظر الأحكام 1/276 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): الفدية إذا قتله وهو دم بالإجماع.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/426.
قال: (ولا يُزَوِّج، ولا يَتزوج، فإن فعل، كان النكاح باطلاً)، وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)، وهو مذهب الإمامية، وقول الشافعي. قال أبو يوسف: لا بأس بذلك. والأصل في ذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أن مالكاً، وابن أبي ذئب(3) حدثاه، عن نافع، عن نبيه بن وهب، عن إبان بن عثمان بن عفان، قال سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لاَ ينكح المحرم، ولا يُنكِح، ولا يخطب)) (4). وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا جعفر بن محمد، حدثنا يوسف القطان، حدثنا سلمة بن الفضل، عن إسحاق بن راشد، عن زيد بن علي، عن إبان بن عثمان بن عفان، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((المحرم لاَ ينكح، ولا يُنكِح))(5). (44/5)
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن علياً عليهم السلام، وعمر، قالا: ((لاَ ينكح المحرم، ولا يُنكِح، فإن نكح، فنكاحه باطل)) (6). وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن ابن عمر، قال:((لا يتزوج المحرم ولا يزوج))، فلما نهى صلى الله عليه وآله وسلم المحرم عن النكاح، والإنكاح، دل ذلك على فساد النكاح.
فإن قيل : هو محمول على الوطء.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/276، 299.
(2) ـ انظر المنتخب 97 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): فؤيب.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/268 وفيه محمد بن جعفر، وكذلك حدثنا أبو سلمة.
(6) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/152 وإسناده: حدثنا عبدة بن سليمان، عن يحيى، عن نافع.
قيل له: النكاح عندنا هو حقيقة في العقد، ومجاز في الوطء، فوجب أن يحمل الحديث على العقد وإن حمل على الوطء، على أن قول علي عليه السلام، وعمر، ((فإن نكح، فنكاحه باطل)) يمنع من هذا التأويل؛ لأن سمة الباطل تقع على العقد دون الوطء، وكذلك ما في الحديث الأول من وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ولا يخطب)) يمنع التأويل. (44/6)
فإن تعلقوا بظواهر الكتاب نحو قوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} {وَأَنْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} {وَلا تَعْظُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}.
قيل له: هذه الظواهر كلها مبنية على قوله: ((المحرم لا يَنكح، ولا يُنكح، ولا يخطب)).
فإن قيل: فقد(1) صرتم أولى بتخصيص هذه الظواهر، وبنائها على الخبر، منا بتأويل الخبر على ما ذكرناه من الوطء، بنائه على الظواهر.
قيل له: نحن أولى باستعمالكم(2) من جهتين: إحداهما أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح، ولا يخطب))، فذكر الخطبة، فدل على أن المراد به العقد؛ إذ الخطبة لا /210/ تتعلق بالوطء.
والثاني: أن الخبر أخص بموضع الخلاف، والمقصد به(3) بيان ما اختلفنا فيه، وليس كذلك حال الظواهر، فصار استعمالنا بما ذكرنا أولى.
فإن قيل: فقد روي عن ابن عباس أنَّه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بميمونة، وهو محرم.
قيل له: قد عارض ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا حماد بن زيد، عن مطر، عن ربيعة بن عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة حلالاً، وبنى بها حلالاً، وكُنتُ الرسول بينهما(4).
__________
(1) ـ في (ب): فكيف.
(2) ـ في (ب): باستعمالنا.
(3) ـ في (ب): فيه.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/270 وفيه ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ربيع المؤذن، وربيع الجيزي، قالا: حدثنا أسد، حدثنا حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد الأصم، عن ميمونة بنت الحارث، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بسَرِف ـ ونحن حلالان بعد أن رجع من مكة(1). (44/7)
وروي في هذا ـ أيضاً ـ ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أن مالكاً حدثه عن ريبعة بن أبي(2) عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا رافع ـ مولاه ـ ورجلاً من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث، وهي بالمدينة قبل أن يخرج. قلنا: في هذه الأخبار ثلاث طرق: إما أن نقول أنَّها تعارضتُ فسقطتُ ووجب الرجوع إلى قوله: ((المحرم لا ينكح، ولا ينكح)). وأما أن نقول: إن حديث ميمونة، وحديث أبي رافع، أولى أن يعمل به؛ لأن أبا رافع ذكر أنَّه كان الرسول بينهما، وهو أولى أن يكون تَحقَق الحال، وعرف الصورة، وكذلك ميمونة هي المعقود عليها، فقولها أولى بذلك؛ لأنها عرفت من الحال ما لم يعرف غيرها، ألا ترى أنَّها ذكرت الموضع، والوقت. وإما أن نقول: ذلك كان يجوز أن يكون خاصاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله أولى أن يعمل به؛ لأنه يتناول غيره، وفعله يخصه.
ويعضد هذه التأويلات قول علي عليه السلام، وقول عمر على ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عنهما.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/270.
(2) ـ في (أ): بن عبد الرحمن.
والإحرام مقيس على عدة المتوفى عنها زوجها، والمعنى أنَّه عبادة يجب معها ترك الطيب، والزينة، فوجب أن لا يصح معها عقد النكاح، كعدة المتوفى عنها زوجها، وهذا القياس لا ينتقض بعدة المختلعة؛ لأنها عندنا لا يلزمها ترك الزينة، وأيضاً عقد النكاح سبب يختص بتعديه الحرمة إلى غير من خصه، فوجب أن يمنع منه الإحرام قياساً على الوطء، وليس يعترض ما ذكرناه من الرضاع؛ لأنَّه يوجب الحرمة لمن يخصه، وإن كان يعد بها إلى غيره. وأيضاً وجدنا المحرم ممنوعاً من الاستمتاع بالمرأة من كل وجه، فوجب أن لا يصح له عقد النكاح عليها، قياساً على ذي الرحم المحرم، وما يذكره المخالف من القياس في هذا الباب يشهد لقياسنا، ألا ترى أنهم إن قاسوا الإحرام على الحيض، والنفاس، لما لم يكونا مما يصح أن يقال فيهما أنهما عبادة، ولما كان الاعتكاف عبادة، لا يلزم معها ترك الطيب والزينة، لم يمنع من عقد النكاح. وكذلك إن قاسوا النكاح على شراء الأمة، كان ذلك شاهداً لقياسنا النكاح على الوطء، ألا ترى أنَّه لما لم يُعَدّ الحرمة، لم يمنع منه الإحرام، ولا نختلف في المحرم، إذا طلق زوجته طلاقاً بائناً أنَّه لا يجوز له العقد على /211/ أختها، فكذلك الأجنبية، والمعنى أنَّه محرم، فوجب أن لا يصح عقد نكاحها، ولا يمكنهم دفع هذا القياس بعدم التأثير؛ إذ هو مؤثر على أصولنا: يؤكد ذلك، ويوضحه، أنا وجدنا المحرم ممنوعاً من القبلة، والضمة، والمباشرة، لَمَّا كانت أسباباً تختص بأن تدعو إلى الجماع، فوجب أن يكون ممنوعاً من عقد النكاح؛ لأنَّه سبب يختص بالدعاء إلى الجماع، ولا يمكنهم أن يدعوا ذلك في شراء الجواري؛ لأن الشراء للجواري(1) لا يختص بأن يكون سبباً داعياً إلى الجماع، ألا ترى أن الإنسان يجوز أن يشتري ذوات المحارم الَّتِي لا يطأهن، وقد يشتريهن للتجارة، والخدمة، ولا يريد وطئهن، وليس كذلك عقد النكاح؛ لأنَّه يختص بأن يكون (44/8)
__________
(1) ـ في (ب): شراء الجواري.
سبباً داعياً إلى الجماع، كما ذكرناه في القبلة، والضمة، من الشهوة. وأيضاً وجدنا الجماع أغلظ في باب الحج من سائر مَا منع منه الإحرام، كحلق الرأس، ولبس الثياب، واستعمال الطيب، وقتل الصيد؛ لأن شيئاً من ذلك لا يفسد الحج إذا أتى به المحرم، والجماع يفسده، وكذلك هو ممنوع منه ما بقي للإحرام حكم، وإن أبيح له سائر هذه الأشياء، ألا ترى أنَّه إن رمى جمرة العقبة، فإن جميع هذه الأشياء تحل له قبل طواف النساء، فلما حصل للجماع هذا التغليظ، وجب أن يجعل لسببه المختص به ضرب من التغليظ، وليس هو إلاَّ المنع منه. (44/9)
مسألة [في أكل المحرم للصيد]
قال: ولا يأكل صيداً صيد له، ولا لغيره، مُحِلٌ اصطاده، أو محرم. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب)، وهو قول القاسم عليه السلام. ويجوز ذلك عند أبي حنيفة إذا لم يكن المحرم اصطاده، و لا دل عليه، ولا أشار إليه. وعند الشافعي إذا لم يصطاد، ولم يُصطَد له.
والأصل في ذلك قول الله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلِيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وهذا نص في أن تحريمه كتحريم الميتة ولحم الخنزير وكتحريم الأخوات والأمهات، ويدل على ذلك قول الله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيْمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلِيْكُمْ}.
وأخبرنا أبو الحسين عبد الله بن سعيد البروجردي، حدثنا سفيان بن هارون القاضي، حدثنا أحمد بن يحيى الجلال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيدالله(2) بن أبي عياش، عن الصعب بن جثامة، قال: مر بي رسول(3) الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأبواء، أو بِوَدَّان فأهديت له لحم حمار وحش، فرده علي، فلما رأى في وجهي الكراهة قال: إنه ليس بنا ردّ عليك ولكنا حُرُم.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/276 ونص على الققرة الأخيرة فيه 1/299.
(2) ـ في مصنف ابن أبي شيبة، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن الصعب، انظر 3/307.
(3) ـ في (أ): النبي.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا معاوية، عن الأعمش، عن حبيب(1)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أهدى الصعب بن جثامة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حمار وحش، فقال: لولا أنا محرمون لقبلنا منك. ففيما رويناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رده؛ لكونه محرماً فقط، من غير استعلام وجه اصطياد الصعب بن جثامة، فدل ذلك على أن التحريم تعلق بالإحرام فقط على أن رده صلى الله عليه وآله وسلم لا يجوز أن يكون لكونه مشيراً إليه، أو دالاً عليه، أو آمراً به لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يفعل ذلك، وقول الصعب: أهديت له، يدل على أنَّه لم ين اصطاده له؛ إذ لو كان اصطاده له، لقال: كنت اصطدت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا، /212/ فحملته ولم يقل ذلك، فدل على أن الرد لم يكن إلاَّ لكونه محرماً فقط على ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم، وتحقيق ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن الحسين الصواف، أخبرنا عمار بن رجاء، أخبرنا هدبة، عن همام بن يحيى، عن علي بن زيد بن جدعان، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن أباه ولى طعام عثمان، قال: فكأني أنظر إلى الحِجَل حول الحفان، فجاءه رجل فقال: إن علي عليه السلام يكره هذا، فأرسل إلى علي عليه السلام، فجاءه وذراعاه ملطخان بالخبط، فقال: إنك رجل كثير الخلاف علينا، فقال علي عليه السلام: أُذَكِّرُ الله رجلاً شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أُتى بعجز حمار وحش فقال: ((إنا محرمون، فأطعموه أهل الحل)) فقام عدة رجال، فشهدوا، ثُمَّ قال: أُشْهِدُ الله رجلاً شهد النبي صلى الله عليه (44/10)
__________
(1) ـ في (أ) و (ب): حلب، وفي الهامش: الأعمش يروي عن سعيد بلا واسطة، فينظر في توسط حلب هنا، ولم نجد في أسماء الرجال من يسمى الاسم. وما أثبتناه نبه عليه في الهامش، وهو كذلك في المصنف لابن أبي شيبة انظره 3/308 حيث أخرجه فيه.
وآله وسلم أتي بخمس بيضات من بيض النعام، فقال: ((إنا محرمون، فأطعموها أهل الحل)). يدل على أن التحريم تعلق بالإحرام دون وجه الاصطياد، ولأن الأمر لو كان على ما ذهبوا إليه، لقال صلى الله عليه وآله وسلم: أطعموه من لم يأمر بصيده، ولم يدل عليه، ولم يُصطَد له. (44/11)
فإن قيل: روي عن أبي الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((صيد البر حلال لكم، وأنتم محرمون، ما لم تصطادوا، أو يصد لكم)).
قيل له: يحتمل أن يكون المراد صيد البر، وأنتم حرم، حلال لكم إذا حللتم، ما لم تصطادوه، أو يصاد لكم، فيكون الغرض بياناً أن وقوع الإصطياد في حال إحرامهم لا يستديم التحريم عليهم بعد إحلالهم إذا لم يكونوا اصطادوه، وذبحوه، أو صِيدَ لهم في حال إحرامهم.
فإن قيل: فقد روي عن عبد الله بن أبي قتادة، قال: كان أبو قتادة في نفر محرمين، وأبو قتادة مُحل، فرأى أصحابه حمار وحشُ فلم يره كلهم حتَّى أبصره، فاختلس من بعضهم سوطاً، فصرعه، فأكلوا منه، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسألوه عنه فقال: ((هل أشار أحدكم إليه؟ قالوا: لا. قال: ((فكلوا)).
قيل له: يحتمل أن يكون صلى الله عليه آله وسلم أباح لهم ذلك لكونهم مضطرين، وليس يمكن ادعاء العموم فيه؛ لأنَّه قضية في قوم بأعيانهم، وحالة بعينها.
فإن قيل: فما معنى قوله: هل أشار إليه أحدٌ منكم(1)؟
قيل له: يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يعلمهم ما يلزمهم من الجزاء بالإشارة، أو الدلالة لو كانوا فعلوها.
__________
(1) ـ في (ب): أحدكم.
وقد أخبرنا أيضاً أبو الحسين ابن إسماعيل، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي، حدثنا إبراهيم بن محمد، عن محمد بن فضيل، عن زيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن أبيه، قال: خرجت مع علي عليه السلام، وعثمان حتَّى إذا كنا بمكان كذا وكذا، قُرِّبت المائدة وعليها يُعاقَب، وحِجَل، فلما رأى علي عليه السلام ذلك قام، وقام معه أناس، فقيل لعثمان ما قام هذا إلاَّ كراهة لطعامك، فأرسل إليه، فقال: ما كرهَت من هذا، فوالله ما أشرنا، ولا أمرنا، ولا صدنا. فقال علي عليه السلام: أُحِل لكم /213/ صيد البحر إلى قوله: وحُرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً. فقيامه عليه السلام على وجه الاستنكار يدل على أنَّه كان عنده من التحريم نص، فإنه لم يكن يجريه مجرى ما يجوز الاجتهاد فيه؛ لأن ما يجري هذا المجرى أكثر ما عليه أن يكف عنه دون أن يظهر الإنكار والكراهة له، على أن ما يرويه أمير المؤمنين عليه السلام، ويفتي به، لا يجوز عندنا أن يُخَالف، ويجب أن يتبع. (44/12)
وقد روي نحو ذلك عن ابن عباس، وابن جبير، ولا خلاف أنَّه إذا صيد للمحرم، وبأمره، لم يحل له أكله، فكذلك إذا صيد لغيره، وبغير أمره، والمعنى أنَّه صيد، فيجب أن يحرم على المحرم أكله، على أن الصيد محرم على المحرم، فوجب أن لا يؤثر في تحريمها اختلاف وجوه التمليك له، كالطبيب لما كانت عينه محرمة على المحرم، لم يؤثر في تحريمها اختلاف وجوه التمليك لها، وأيضاً هو قياس على الجماع، واستعمال الطيب، والعلة أنَّه معنى محرم على المحرم، فوجب أن يعم التحريم جنسه، فيجب أن يكون جميع الأكل للصيد محرماً مع سلامة الحال، وكذلك كل حيوان يمنع المسلم من تذكيته لا لحق الآدمي، فإنه لا يحل أكله، وإن ذكاه غيره، كالخنزير، وسائر ما لا يؤكل لحمه، فوجب أن يكون ذلك حكم الصيد للمحرم. ومما يؤكد قياساتنا هذه أنا وجدنا التحريم إذا تعلق بمعنى، وبالسبب المؤدي إليه في باب الحج، لم يجز أن يكون حكم السبب أغلظ من حكم ما يؤدي السبب إليه كالجماع لم يجز أن يكون حكم ما يؤدى إليه من المباشرة أو عقد النكاح؛ لأن المباشرة وإن كانت محرمة بالإجماع فلا خلاف أن الجماع أغلظ من حكمها والعقد قد اختلف في جوازه، ولا خلاف عند أي القائلين بالمنع منه أن الجماع أغلظ حكماً منه، وكذلك طرد الصيد وإفزاعه أخف حكماً من قتله، لمَّا كان الطرد، والإفزاع، كالسببين للقتل، فإذا ثبت ذلك لم يجز أن يكون ذبح الصيد أغلظ حكماً من أكله؛ لأن الذبح هو المؤدي إلى الأكل، فإذا ثبت أن الذبح محرم عليه على كل وجه، لم يجز أن يكون الأكل أخف حكماً منه، وجب أن يكون الأكل أيضاً محرماً على كل وجه. (44/13)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم أن الأكل أخف حكماً من الذبح، بدلالة أن الحلال يأكل من الصيد في الحرم، ولا يذبحه؟
قيل له: هذا السؤال لا يصح، وذلك يصح أن يقال في شيئين أن أحدهما أخف حكماً، أو أغلظ حكماً إذا كان الحكم فاصلاً لهما جميعاً، فأما إذا حصل الحكم لأحدهما، ولم يحصل للآخر رأساً استحال أن يقال ذلك فيهما، ووجدنا الحلال قد أبيح له أكل الصيد في الحرم، ولم يُمنع منه، وإنَّما منع من الاصطياد، والذبح، فلم يصح أن يقال في ذبحه وأكله أن أحدهما أغلظ حكماً من الآخر، إذ أحدهما مباح له، والآخر محظور عليه، ألا ترى أنا لا نقول أن الخمر أغلظ حكماً من الماء، لما كان أحدهما حلالاً، والآخر حراماً، وإنَّما يقول من يحرم الأنبذة إن الخمر أغلظ حكماً من الأنبذة لحصول التحريم والمنع منهما جميعاً. (44/14)
وهذا الترجيح مما اعمتده يحيى بن الحسين صلوات الله عليهما في (الأحكام) في باب جزاء الصيد، ويوضح أيضاً ما ذهبنا إليه أنا وجدنا سائر ما مُنع منه /214/ المحرم لا يباح له منه شيء إلاَّ عند الضرورة، فأما غير الضرورة، فلا تأثير لها، فوجب أن يكون أكل لحم الصيد كذلك، وقياسنا يقتضي الحظر، ويستند إلى ظاهر كتاب الله عز وجل، وهو أذهبُ في الباب الذي وُضع للإحرام عليه، فوجب أن يكون أولى.
مسألة [في الصيد هل يحل للمحرم إمساكه؟]
قال: ولا يمسك شيئاً من الصيد. وهو منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب) (2) ،قال أبو حنيفة: إن كان في يده، لزمه إرساله، وإن كان في منزله، لم يلزمه ذلك. والمسألة للشافعي على قولين، ولا يفصل بين أن يكون في يده، أو في منزلة، في(3) كلا القولين وفاقاً لإطلاق يحيى عليه السلام في (المنتخب) و(الأحكام) (4) أنَّه لا يجوز للمحرم أن يحبس شيئاً من الصيد. يدل على أنَّه لا يفصل يبن أن يكون في يده، أو في منزله، في أنَّه يلزمه إرساله، ويؤكد ذلك تنصيصه على أن الحلال لو أخذه، منه فأرسله/ لم يكن عليه شيء، يؤكد ذلك، ويبين أنَّه يرى أن ملكه يزول عنه. (44/15)
والدليل على صحة ذلك قول الله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلِيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وقوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فاقتضى ظاهر ذلك تحريم جميع التصرف في الصيد على المحرم، وحبسه من التصرف، فإذا حرم ذلك، ثبت وجوب(5) إرساله، ولا فرق(6) بين أن يكون حبسه في سفره، أو بيته.
فإن قيل: إذا كان الصيد في بيته، لم يكن هو المتصرف فيه، فلم يجب أن يكون ممنوعاً منه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/299 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 100 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (أ): على.
(4) ـ في (ب): الأحكام والمنتخب.
(5) ـ في (ب): وجب.
(6) ـ في (ب): فضل.
قيل له: إذا كان هو الذي حصَّلَه في بيته، ثُمَّ تصرف فيه أهله، كان ذلك التصرف في الحكم كأنه واقع منه؛ لأن المتصرف عنه يجري مجرى الآلة له، ولا خلاف أنَّه لو اصطاده في حال الإحرام، لزمه إرساله، فكذلك إذا اصطاده قبل ذلك، والعلة أنَّه محرم أمسك صيداً، فوجب أن يلزمه إرساله، وأن لا يؤثر فيه كونه معه، أو في منزله. وأبو حنيفة يوافقنا على أنَّه إن كان في يديه، لزمه إرساله، وإن كان اصطياده له متقدماً، فكذلك إذا كان في منزله، بالعلة الَّتِي ذكرناها، وأيضاً لا خلاف أنَّه ممنوع من ابتداء أخذه مع الإحرام، وكذلك يجب أن يكون ممنوعاً من الاستمرار عليه، دليله الغاصب، لَمَّا كان ممنوعاً من ابتداء أخذ المغصوب، كان ممنوعاً من الاستمرار على أخذه. (44/16)
فإن قيل: كونه غاصباً ليس بضارٍ على المغصوب بعد كونه في يديه، فكذلك لم يفترق حال ابتداء الحج والاستمرار عليه؛ لأن الابتداء لم يقع إلاَّ وهو غاصب، وهذا نظيره أن يأخذه وهو محرم، ثُمَّ يستمر عليه، أنَّه لا يكون فرق بين ابتداء الأخذ، والاستمرار عليه، وليس هذا موضع الخلاف، وإنَّما الخلاف إذا أخذه وهو غير ممنوع من أخذه ثُمَّ طرأ الإحرام عليه.
قيل له: أما أصحاب أبي حنيفة، فلا يصح لهم هذا السؤال؛ لأن أبا حنيفة يوجب إرساله إذا كان في يديه، سواء طرأ الإحرام على الأخذ، أو طرأ الأخذ على الإحرام، وأما أصحاب الشافعي فيقال لهم: لا فرق بين أن يقع الأخذ ابتداءً على وجه الغصب، وبين أن يطرو الغصب عليه، ألا ترى أن الشيء يكون في يد الإنسان عارية، أو وديعة، ويكون أخذه، له من حيث جاز له أخذه ثُمَّ يَحصُل غاصباً، فيمنع [من] (1) إمساكه حتَّى يكون طرو الغصب عليه كوقوع أخذه على وجه الغصب، فإذا صح ذلك بطل،/215/ الفرق الذي اعتمدوه.
فإن قيل: الإحرام لا يوجب إزالة سائر الأملاك، فوجب أن لا يزيل ملك الصيد.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
قيل له: لأنَّه لم(1) يمنع ابتداءً التمليك(2) لسائر الأشياء، فلم يزل ملكه خاصاً، ولما منع ابتداء الملك للصيد، وجب أن يزيل التمليك الحاصل له. (44/17)
فإن قيل: فهذا يعترض نكاح المحرم؛ لأن المحرم يُمنع ابتداءً العقد عندكم، ولا يمنع البقاء.
قيل له: النكاح لا يكون تملكاً للعين، وإنَّما هو تمليك المنافع، وكلامنا في تملك الأعيان فلا يصح الاعتراض الذي ذكرتم.
ويدل على ذلك أنا وجدنا المخيط لما كان المحرم ممنوعاً من إمساكه، لم يكن فرق بين أن يطرو الإحرام عليه، وبين أن يطرو هو على الإحرام، فوجب أن يكون الصيد كذلك، والمعنى أن المحرم ممنوع من إمساكه.
فإن قيل: فإن الذي تذهبون إليه يؤدي إلى الضرر بالمحرم.
قيل له: قد كان يمكنه إخراجه قبل الإحرام من ملكه على وجه لا يضره، فإذا لم يفعل، فهو الذي ضر نفسه.
مسألة [فيما يجوز للمحرم قتله]
قال: ولا بأس أن يقتل المحرم الحِدأة، والغراب، والفأرة، والحية، والعقرب، والسبع العادي، إذا عدى عليه، والكلب العقور إذا خشي عقره، والبرغوث، والبَقَّ، والدبر، وكل دابة خشي ضررها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3) و(المنتخب) (4).
وتحصيل المذهب أن الخمس المذكورات يقتلها المحرم على كل حال، وهي الحدأة، والغراب، والفأرة، والحية، والعقرب. وما عداها من سائر المذكورات، وما أشبهها، لا تقتل إلاَّ إذا خشي ضررها. نص على ذلك في الضبع(5) في (المنتخب) والقاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) على النملة، والبعوض، واشترط في السبع إن عدا عليه، وفي الكلب إن خشي عقره، وأطلق القول في تلك الخمسة. فيحصل(6) المذهب على ما رتبناه، أما تخصيص تلك الخمسة، بأن تُقتل على كل حال، فلما ورد فيها من الأثر.
__________
(1) ـ في (ب): لا.
(2) ـ في (ب): التملك.
(3) ـ انظر الأحكام 1/277 وهو بلفظ قريب جداً.
(4) ـ انظر المنتخب 98 وهو بلفظ قريب.
(5) ـ في هامش النسختين: السبع.
(6) ـ في (ب): فتحصيل.
أخبرنا أبو الحسين البروجردي، حدثنا عبد الله بن محمد البغوي حدثني علي بن الجعد، حدثنا عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((لا جُناح في قتل خمس من الدواب: العقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب، والحدأة)). (44/18)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا علي بن معبد، حدثنا موسى بن أعين، عن يزيد بن أبي زياد، عن زيد بن أبي نعيم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يقتل المحرم الحية، والعقرب، والفأرة الفويسقة)). قال يزيد: عَدَّ غير هذا، فلم أحفظه(1).
وروى ابن أبي(2) شيبة، حدثنا ابن فضيل، عن زيد بن أبي زياد، عن ابن أبي نعيم، عن أبي سعيد الخدري أنَّه قال: يقتل المحرم الحية والعقرب والسبع العادي والكلب العقور والفأرة.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/166 وفيه حدثنا محمد بن حميد.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/351 وفيه عن ابن أبي نعم، وقال فيه: والفأرة الفويسقة فقيل له: لم قيل الفويسقة؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استيقظ بها وقد أخذت فتيلة تحر بها البيت.
وروى ابن أبي(1) شيبة حدثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((خمس من الدواب، لا جُناح على من قتلهن، وهو محرم: الفأرة والعقرب، والغراب، والحدأة، والكلب العقور)). فلما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إباحة قتل هذه الخمسة، قلنا: إن للمحرم قتلهن على كل حال. وأما الكلب، فلم يذكر في شيء من الأخبار /216/ مطلقاً، وإنَّما ذكر مقيداً بالعقر، فلذلك قلنا: إن قتله يجوز إذا خشي عقره، وليس هو شيء يختص المحرم به؛ لأن المحرم، وغير المحرم فيه سواء؛ لأنَّه ليس من الصيد، ولا يبعد أن يكون المراد به الذئب، فإن الذئب قد يقال فيه(2): إنَّه كلب، هذا إن حصل للمحرم بإباحة قتله ضرب من الاختصاص. فإن قيل: فكيف قلتم أن الغراب يقتله المحرم، وروى أبو داود يرفعه إلى يزيد بن أبي زياد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عما يقتل المحرم، فقال: ((الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب، ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي)). (44/19)
قيل له: روي في أخبار كثيرة قتل الغراب، فيجوز أن يكون وجه الجمع بين هذين الخبرين، وبين غيره، أن المحرم مخير بين أن يرميه ولا يقتله، وبين أن يقتله، كأنه قال صلى الله عليه وآله وسلم إن شئت، فارمه، ولا تقتله، وإن شئت، فاقتله؛ ليكون ذلك جمعاً بين الأخبار، ولتصير الأخبار كلها كاللفظة الواحدة، فأما سائر السباع فلا خلاف أن للمحرم قتلها إذا عَدَتْ، وخشي ضررها وإنَّما الخلاف إذا لم يخش ضررها. قال الشافعي: يجوز قتل مالا يؤكل لحمه. وقال أبو حنيفة: لا يجوز قتلها إلاَّ أن تعدو عليه.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/349 وفيه عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن جبير، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله...
(2) ـ في (ب): له.
ووجه ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وقوله تعالى: { غَيْرَ مُحِلِّي اْلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} والصيد اسم كل متوحش، الأصل الذي لا يؤخذ إلاَّ على وجه الصيد، ولا يتميز المأكول من ذلك من غير المأكول. (44/20)
فإن قيل: في الآية ما يدل على أن المراد به المأكول؛ لأنَّه تعالى قال: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ..} الآية، فكان التحريم من صيد البر، كمثل ما أحل من صيد البحر.
قيل له: هذا لا يجب، وذلك أنَّه لا يمتنع أن يكون المراد بآية التحليل المأكول من صيد البحر، ويكون المراد بالتحريم من صيد البر ما يتناوله الاسم على طريق العموم، بل هذا هو الواجب؛ لأنَّه لا يجب أن تحمل بعض، الآيات على بعض إذا كان الكل منها يصح أن يستقل بنفسه.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((والكلب العقور)) يشتمل الأسد، والذئب، ونحوهما.
قيل له: اسم الكلب لا يتناول هذه السباع إلاَّ على ضرب من المجاز، فلا يجوز حمل الحديث عليه، على أن وصفه بالعقور يقتضي جواز قتله لصفة زائدة.
وروى ابن أبي(1) شيبةّ، حدثنا نمير بن حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن علي عليه السلام قال في الضبع: ((إذا عدا على المحرم، فله قتله، فإن قتله من قبل أن يعدو عليه، فعليه شاة مسنة)) ولا خلاف أن المحرم لا يجوز له قتل بقر الوحش، والظبي، وكانت العلة فيهما أنهما متوحشان في الأصل، لم يَخْشَ المحرم ضررهما، والذي يدل على أن الحكم تعلق في الأصل بالتوحش أنا وجدنا بقر الوحش قد شارك البقر الأهلي في صفاته إلاَّ لتوحش، وكذلك الضبي شارك المعز في صفاته إلاَّ لتوحش، فبان بذلك صحة ما ادعيناه من تعلق الحكم به.
فإن قيل: علتكم تنتقض بالغراب والحدأة.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/425 وفيه حدثنا ابن نمير عن حجاج.
قيل له: إن شئنا، قلنا أن الاحتراز قد وقع منها إن كان المحرم لم يخش الضرر، وهما مما نبه الشرع على أنَّه خشي ضررهما على كل حال، وإن /217/ شئنا قلنا: تخصيص العلة، فإنه ليس يبعد على أصولنا، فنقول: إن النص خصهما من جملة القياس. (44/21)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم أن سائر ما لا يؤكل لحمه يقاس على الحدأة، والكلب العقور؟
قيل له: المخصوص من القياس لا يجوز القياس عليه؛ لأنَّه يؤدي إلى إبطال القياس الذي وقع التخصيص منه، على أنَّه إن قيس عليه، كان قياسنا أولى؛ للحظر، والاستناد إلى الظواهر الَّتِي ذكرناها؛ ولأنه أذهب في الباب الذي وضع الإحرام عليه من توقي القتل. وحُكي عن قوم أن السبع فيه الجزاء، وإن عدا، وهذا لا معنى له؛ لأن الله تعالى قرن إيجاب الجزاء بالمنع من القتل، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ..} الآية، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن السبع إذا عدا على المحرم أن له قتله، ولم يلزمه الجزاء. وهو قياس على الجزور، والبقر الأهلي، أنَّه غير منهي عن قتله للإحرام، وهذا قياس أولى من القياس من قاسه على الحلق للأذى في إيجابه الفدية؛ لأن القتل بالقتل أشبه ولا خلاف في أن رجلاً لو أراد قتله، فقتله دافعاً له عن نفسه، لم يضمن له شيئاً، وكذلك نقول فيمن صال عليه جمل، فقتله، أنَّه لا يضمنه، فصارت هذه الأصول شاهدة لنا.
وأما سائر هوام الأرض، فقلنا أنَّه يقتلها إذا خشي ضررها؛ لأنَّه لا خلاف فيه، وأما إذا لم يخش ضررها، وقتلها، فيجب أن يتصدق عنها بطعام على ما نص عليه القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) في النملة، والبعوضة، ووجه ذلك أنَّه مما توحش، ولا يستأنس.
وروى ابن أبي(1) شيبة ـ بإسناده ـ عن ابن عمر أنَّه كان يقول في الجرادة قبضة من طعام.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/425 وإسناده حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن سفيان، عن علي بن عبد الله، به.
وروي(1) عن محمد بن علي عليهما السلام، وعطاء، ومجاهد، وطاووس، أنهم كانوا يقولون في الجنادب والقطة(2) والجراد، والذر، إن قتله عمداً، أطعم شيئاً، وعن عمر تمرة خير من جرادة. (44/22)
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن الضحاك، عن ابن عباس قال: ((في الجرادة قبضة من الطعام)) (3).
مسألة [في عصر الدماميل، ونزع الشوك، وقلع الضرس، للمحرم]
قال: ولا بأس أن يعصر الدماميل، إذا آذاه وعيها وأن يخرج من رجله الشوك، وإن احتاج لإخراجه إلى قطع شيء من جلده حتَّى يدمي الموضع، فعليه دم، وإن دمىلأثر الشوكة وإخراجها،لا للقطع، فلا شيء عليه، وإن ضرب عليه ضرسه، قَلعه وعليه دم. نص في (الإحكام) (4) على أن للمحرم أن يعصر الدماميل، ويخرج من رجله الشوك. ونص في (المنتخب) (5) على سائر ما ذكرنا إلى آخر الفصل.
قلنا: إن للمحرم(6) يعصر الدماميل، لما ثبت أن النبي صلى الله عليه آله وسلم احتجم، وهو محرم، وسنذكر ما ورد فيه بعد هذا، فإذا ثبت ذلك، ثبت ما ذكرناه من جواز عصر الدماميل؛ لأن عصرها ليس أكثر من الاحتجام، وليست المدة فيها غير دم متعين، فإذا جاز إخراج الدم جاز إخراج ما فيها.
وكذلك الشوك هو دون الدم؛ لأنه شيء حصل فيه من خارج، وليس هو من جملته، فهو أولى بأن يجوز إخراجه، على أنَّه لا أحفظ في ذلك خلافاً، فأما قطع الجلد على الوجه الذي ذكر فيه، فوجه وجوب الفدية فيه ما ثبت من وجوبها في حلق الشعر، فوجب أن يثبت في قطع الجلد؛ لأن جلد المحرم قد ثبت له حرمة، كما ثبت لشعره؛ لأن كونه من جملة المحرم أوكد من كون الشعر من جملته.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/426.
(2) ـ في (أ): العظا.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/426، ولكن أخرجه عن الضحاك بإسناد، وعن ابن عباس بآخر، ولم يذكر في سند عن الضحاك، عن ابن عباس.
(4) ـ انظر الأحكام 1/297 وهو بلفظ قريب.
(5) ـ انظر المنتخب 101 وهو بلفظ قريب.
(6) ـ في (أ): للمحرم.
فإن قيل: حلق الشعر، وجب فيه ما وجب؛ لأنَّه قضاء التفث، وإماطة الأذى. (44/23)
قيل له: هذا المعنى قد يحصل في الجلد، على أن من /218/ الشعر ما إذا حلقه لم يكن فيه مميطاً للأذى، ومع هذا يلزمه الفداء، فبان أن الحكم قد نطق بحرمته، وإن تعلق بإماطة الأذى، فصح ما ذهبنا إليه. وأما قلع الضرس، فقد روى ابن أبي شيبة، عن الشعبي فيه مثل قولنا(1).
ووجهه ما ذكرنا في قطع الجلد من ثبوت الحرمة له، وتنبه أيضاً بتقليم الظفر للوجه الذي ذكرناه.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: ((لا ينزع المحرم ضرسه، ولا ظفره، إلاَّ أن يؤذياه))، فدل ذلك على أن له حرمة، وأنه كالظفر والشعر.
مسألة [[في لبس المحرم الخفين والسراويل والقمصان إذا لم يحد غيرها]
(وإن أضر برجليه الحفا، ولم يجد نعلين، فلا بأس أن يقطع الخف من تحت الكعبين، ويلبس، ولا بأس له إذا لم يجد مئزراً أن يحرم في السراويل، يحترم به احتراماً، وإن لم يجد رداءً، ارتدى بكمي القميص، أو بجانبيه معترضاً).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/133.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1). وعن القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) في المحرم إذا لم يجد رداءً ولا نعلين، قال: يقطع الخف أسفل من الكعبين، وينكس السراويل، ويئتز به ائتزاراً. أما ما ذكرناه من قطع الخف لمن لم يجد النعلين، فوجهه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بذلك، وقد ذكرنا ما ورد فيه في أول مسألة الإحرام. وقلنا: إنَّه يحترم بالسراويل إن لم يجد إزاراً يكسيه، على ما روي عن القاسم عليه السلام؛ لأنَّه نهى عن لبس السراويل، وما وردمنه فيه فقد مضى، ولا خلاف فيه مع الإمكان، وكذلك وجه قولنا: إنَّه إن لم يجد رداءً ارتدى بكمي قميصه، أو بجانبيه معترضاً، ولم يلبسه للنهي الوارد في ذلك؛ ولأنه لا خلاف فيه، وأما السراويل فإن لم يمكنه أن يئتزر به لضيقه، فإن عليه أن يفتقه، كما روي ذلك في شق القميص إذا لبسه المحرم، وقطع الخف لمن لم يجد النعلين، فإن علم أن مع الفتق لا يمكنه ذلك لضيق السراويل، فتحصيل المذهب أنَّه يلبس، ويفدي، كما ذهب إليه أبو حنيفة، خلافاً للشافعي؛ لأن أصحابنا لما ذكروا عوز الإزار، قالوا: يلبس السراويل محترماً، ومئتزراً ؛ ولأن يحيى عليه السلام لما ذكر في (الأحكام) لبس السراويل أوجب فيه الفدية، ولم يستثن لابسه لعدم الإزار. والأصل فيه: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، يذكر عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عما يلبس المحرم قال: ((لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا البُرنُس، ولا السراويل، ولا الخفين)). فلما نهى عن لبس السراويل كما نهى عن لبس الخفين، وأمر بقطع الخفين عند الضرورة، وجب أن يفتق السراويل عند الضرورة، قياساً عليه؛ لأنَّه لباسٌ منهي عنه لما هو به، فوجب أن يُرد إلى الصفة الَّتِي يزول النَّهي معها، فإذا ثبت وجوب الفتق، (44/24)
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/297.
ثبت وجوب الفداء إذا لم يمكن الفتو؛ إذ لا أحد فصل بينهما. (44/25)
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إباحة لبس السراويل لمن لم يجد الإزار من غير ذكر الفدية، فبان أن الفدية لا تجب إذا لبسه عند الضرورة.
قيل له: قد روى مثل ذلك في الخفين، ولم يمنع ذلك من وجوب الفدية، أو القطع إن لبسها للضرورة، فوجب أن يكون حكم السراويل كذلك.
أخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع حدثني محمد بن بكر، حدثني ابن /219/ جريج، حدثني عمرو بن دينار، أن أبا الشعثاء حدثه، حدثني ابن عباس أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول وهو يخطب: ((من لم يجد إزاراً، ووجد سراويل، فليلبسه، ومن لم يجد نعلين، ووجد خفين، فليلبسهما)).
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا ابن اليمان، حدثنا ابن شجاع، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من لم يجد إزاراً، فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين، فليلبس خفين)). ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك في السراويل على نحو ما قال في الخفين، فلم يجب سقوط حكم الفدية للفتق عن عادم الإزار، كما لم يجب سقوط حكم الفدية في القطع عن عادم النعلين، فلا خلاف أن لبس القميص للعذر، يوجب الفدية، والعلة أنَّه استعمال منهيٌ عنه لغير عذر، فوجب أن يبيحه لعذر مع إيجاب الفدية، فإن قاسوه على لبس المرأة بمعنى أنَّه ستر العورة، جعلنا علتهم شاهداً لنا، بأن نقول، لَمَّا لم يمنع المرأة من لبس القميص مع حال الرفاهية، فلم يجب الفدية فيه، فبان أن الفدية تعلقت بكون لبسه محظوراً في حال الرفاهية، وجب أن يستوي في لبس الرجل السراويل حال العذر، وحال الرفاهية ولا يمكنهم أن يقيسوه على من لبس ساعة؛ لأن الفدية عندنا تتعلق بنفس اللبس دون مضي اليوم وتشهد لنا الأصول لئن كل ما منع منه الإحرام لأمر يخصه ولا يتعلق بحرمة الغير(1) إذا أبيح له العذر، لزمته الكفارة، والفدية، كقص الشعر، وتقليم الظفر، ولبس المخيط، ولا يلزم عليه قتل الصيد إذا صال؛ لأن المنع من قتله يتعلق بحرمته، فإذا صال، زالت حرمته. وأيضاً وجدنا الأصل فيما يجب من جميع المناسك أنَّه إذا تُرك منه شيء لعذر، وجب أن يجبر، فكذلك لبس السراويل؛ لأن ترك لبسه من النسك، أو جارٍ مجرى النسك، وقياسنا فيه زيادة شرع، وإيجاب، وفيه الاحتياط، فهو أولى. (44/26)
مسألة [في فيمن أخذ صيداً، ما يجب عليه]
__________
(1) ـ في (ب): العين.
قال: (ولا يجوز أن يأخذ صيداً(1) فإذا، أخذه وجب عليه إرساله، ويتصدق بشيء من الطعام بقدر إفزاعه). هذا منصوص عليه في (الأحكام)(2) و(المنتخب) (3). أما أخذ الصيد للمحرم، فلا خلاف في أنَّه لا يجوز، وقد استقصينا ما تعلق بهذه المسألة، وأوضحناه بما لا غرض في إعادته، وقلنا: يتصدق بشيء من الطعام بقدر إفزاعه؛ لأنَّه منهي عن الإضرار بالصيد، فإذا أضر به في الإفزاع، تصدق بقدره، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يُنَفَّرُ صيدها)) وليست حرمة الإحرام دون حرمة الحرم. (44/27)
وروى هناد بإسناده، عن عطاء، وابن أبي ليلى، مثل قولنا في إفزاع الصيد.
مسألة [في قطع المحرم الشجر الأخضر في الحرم]
__________
(1) ـ في (ب): فإن.
(2) ـ انظر الأحكام 1/299، 327.
(3) ـ انظر المنتخب 100 ـ 101وهو فيه بلفظ قريب.
قال: (ولا يجوز أن يقطع الشجر الأخضر، إلاَّ أن يكون شيئاً يأكله، أو يعلفه راحلته). وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وقال في (المنتخب) (2): لا بأس للمحرم أن يحش حشيشاً لناقته، أو يختلى لها بقلاً، أو يقطع لنفسه مسواكاً من الأراك، وغيره. فدلت هذه الجملة على أن ما ذكره في (الأحكام) أراد به شجر الحرم دون ما يكون في سائر المواضع. وقال القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي): ويحش المحرم لدابته إلاَّ في الحرم. فأكد ما ذكرناه وهو الأولى؛ لأن المحرم ممنوع من استهلاك ما يثبت له حرمة، دون ما لم يثبت له حرمة، والأشجار لا حرمة لها إلاَّ ما نبت في الحرم، وفيها ورد المشهور من قوله /220/ صلى الله عليه وآله وسلم: ((هي حرام إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شجرها، ولا يُنَفَّر صيدها، ولا تَحِل لُقَطَتُها))، وفي بعض الأخبار ((لا يختلى خلاؤها)) فقال العباس: يا رسول الله، الأذخر، فإنه لقبورنا وبيوتنا. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إلا الأذخر فقط)). وقول يحيى بن الحسين عليهم السلام: إلاَّ أن يكون شيئاً يأكله، أو يعلفه راحلته، يحتمل أن يكون المراد به ما يزرعه الناس لذلك ويحتمل أن يكون المراد أن ذلك القدر عفو قياساً على الأذخر؛ لمساس الحاجة إليه، على أن القاسم عليه السلام قال في (مسائل النيروسي): يحتش المحرم لدابته إلاَّ في الحرم، وأقوى الوجهين اللَّذَين ذكرناهما أن يكون المراد به ما يزرعه الناس. (44/28)
مسألة [في المحرم إذا اضطر، يأكل من الصيد أم من الميتة؟]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/299.
(2) ـ انظر المنتخب 101 وهو بلفظ قريب.
قال: ولو أن محرماً اضطر إلى أكل صيد ذبحه محرم، أو إلى ميتة، أكل من الميتة دون الصيد، وإن اضطر حلال إليهما، لكان فيهما بالخيار. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1). ونص في (المنتخب) (2) على أن المحرم المضطر يأكل من الميتة دون الصيد. ونص(3) فيهما جميعاً على أن ما ذبحه المحرم من الصيد ميتة، لا يحل أكلها للذابح، ولا غيره، وأن ذبحه ليس بذكاه. ونص فيهما ـ أيضاً ـ على أن الحلال إذا ذبح صيداً في الحرم، لم يحل له أكله، ولم يكن ذبحه ذكاه. وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي في المحرم، فأما الحلال إذا ذبحه في الحرم فهو عنده جائزٌ. (44/29)
والدليل على أن ذبح المحرم لا يكون ذكاةً قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} والنَّهي يدل على فساد المنهي عنه، وعلى أنَّه لا يقع موقع الصحيح، فاقتضى ظاهر الآية أن قتل المحرم للصيد لا يقع موقع الصحيح، فوجب أن يكون غير مذكىً.
ويُستَدل من الآية من وجه آخر، وهو أن القتل في الشرع، والعرف، عبارة عما لا يكون ذكاةً، وقد ثبت أن المراد بالآية الذبح وغيره من أنواع القتل، فوجب أن لا يكون شيء منه ذكاة، ولا خلاف أن المحرم ممنوع من ذبح الصيد، فوجب أن لا يكون ذبحه له ذكاة؛ قياساً على ذبح المجوس، والمعنى أنَّه ممنوع من ذبحه منعاً يختصه على الإطلاق، لا لنحو الآدمي، فوجب ألا يكون ذبحه ذكاة، ويمكن أن يقاس بهذه العلة على ذبح المسلم حماراً، أو بغلاً، أو على الذبح بالسن والظفر واعتمد يحيى عليه السلام هذه العلة، وقاس ذبح المحرم بها على من قتل البهيمة بغير الذبح.
__________
(1) ـ انظر الأحكام إلى 300 ـ 301، ولكنه أجازه إن خافه على نفسه من أكل الميتة وأوجب عليه الفدية.
(2) ـ انظر المنتخب 103 ولكنه ذكر أيضاً مثل ما في الأحكام.
(3) ـ انظر الأحكام 1/300 والمنتخب 100 ـ 101 وهو بلفظ قريب.
فإن استدلوا بظواهر قوله تعالى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل إذا نهر(1) الدم)) كانت مخصوصة بقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ومبنية عليه؛ لأنَّه أخص، ويستفاد منه الحكم المختلَف فيه على سبيل التعيين، ونخصها أيضاً بالقياسات الَّتِي ذكرناها، وليس يمكنهم أن يناقضوا علتنا بالهدي، أنَّه ممنوع من ذبحه قبل يوم النحر، ولو ذبحه جاز أكله؛ لأنَّه غير ممنوع من ذبحه على الإطلاق، ألا ترى أنَّه إن خاف تلفه، جاز له ذبحه؟ وليس كذلك الصيد، وليس يلزم عليه ـ أيضاً ـ ذَبْحُ من صادف وقت الصلاة عليه مضيقاً في أنَّه ممنوع منه، ولو فعل، جاز أكل المذبوح؛ لأن المنع لا يختص الذبح، بل هو ممنوع من سائر التصرف الذي ينافي الصلاة. (44/30)
__________
(1) ـ في (ب): كل ما أنهر الدم.
وكذلك /221/ الجواب إن(1) ألزمنا عليه القطع بالسكين المغصوب؛ لأن المنع لا يختص الذبح، بل هو ممنوع من سائر التصرف في السكين، على أن المانع فيه حق الآدمي، فلا تلزم على علتنا، وقياساتنا تقوى وتَرجُح على قياسهم المحرم على من ليس بمحرم من المسلمين بعلة أنه ذَبْح ما يحل أكل لحمه، وقياسهم الصيد على الشاة بعلة أنَّه ذبيحة مسلم، أو بالعلة الأولى؛ لأن قياساتنا تتضمن الحظر، والاحتياط؛ ولأنا وجدنا كل ذبح منهي عنه إذا لم يراع فيه حق الآدمي وتغير الأزمنة، فإنه لا يكون ذكاة، فصارت الأصول شاهدة لما ذكرناه في ذبيحة المحرم، فإذا ثبت ما ذكرناه، قلنا: إن المحرم إذا(2) اضطر إلى الميتة، أو الصيد الذي ذبحه المحرم، أكل من الميتة دون الصيد؛ لأن الصيد حصل فيه وجهان من التحريم عليه: أحدهما أنَّه ميتة. الثاني أنَّه صيد، والصيد مُحرَّم عليه، فقد ساوى الميتة، وصارت له مزية في باب التحريم عليه. وقلنا أن الحلال إذا اضطر إليهما، فهو فيهما بالخيار؛ لأن تلك المزية في باب التحريم لم يحصل عليه فهو وسائر الميتة عليه سواء. (44/31)
فصل [الاستدلال على عدم شرعية ذبيحة الحلال للصيد في الحرم]
فأما ذبح الحلال الصيد في الحرم، فالذي يدل على أنَّه لا يكون ذكاة أنَّه منهي عنه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ولا يُنَفر صيدها)) والنَّهي عن تنفيره يقتضي النَّهي عما فوقه من الذبح، وهذا كما نقول: إن قوله تعالى: {وَلا تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} يقتضي النَّهي عن شتمهما، وضربهما، فإذا ثبت أنَّه منهي عنه، ثبت أنَّه لا يقع موقع الصحيح، وأنه لا يكون ذكاه، ولا خلاف أنَّه لو اصطاده في الحرم، لم يحل له ذبحه فيه، فكذلك إذا ملكه في الحل، ثُمَّ أدخله الحرم، والمعنى أنَّه صيد في الحرم، فوجب ألا يحل ذبحه.
__________
(1) ـ في (أ): أن ألزمها عليه بالسكين المغصوب.
(2) ـ في (ب): إن.
فإذا ثبت بما ذكرناه من أنَّه ممنوع من ذبحه، استمر فيه سائر ما ذكرناه في تحريم ذبيحة المحرم. (44/32)
وروي ابن أبي(1) شيبة ـ بإسناده ـ عن عطاء أنَّه سُئل عن الصيد يوجد في الحل، فيُذبح في الحرم، فقال: كان الحسين بن علي عليهما السلام، وعائشة، وابن عمر، يكرهونه.
مسألة [في الحجامة للمحرم]
قال: ولا بأس للمحرم بالحجامة، فإن حلق شيئاً من الشعر، أو قطعه، وكان سيراً، ففيه صدقه، وإن بان أثره، ففيه الفدية. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
قلنا: إنَّه يحتجم للحديث الذي اعتمده يحيى بن الحسين عليهم السلام وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم، بلحي جمل. وروى ابن أبي(3) شيبة ـ بإسناده ـ عن طاووس، عن ابن عباس، وعن أبي الزبير، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم.
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: يحتجم المحرم إن شاء.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/348 وإسناده حدثنا وكيع عن ابن أبي ليلى، وقال فيه: كان الحسن بن علي.
(2) ـ انظر الأحكام 1/311 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 30/ 320 عن عطاء، عن طاووس، عن ابن عباس، ولم يذكر عن أبي الزبير، عن جابر.
وأما الفدية، فأوجبناها في الحلق لقول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضَاً أَو بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} ولا خلاف أن المراد به فحلق [رأسه](1) ففدية، ولحديث كعب بن عجرة، على ما نثبته من بعد إن شاء الله تعالى. وقلنا :إن اليسير منه يجب فيه الصدقة؛ لأنَّه لا خلاف في قطع الشعرة، والشعرتين، أنَّه لا يجب فيه الفدية، والأصل فيه: ما وجب في جملة منه الدم أنَّه يجب في اليسير منه صدقة. فلذلك قلنا: إن فيه صدقة، وقلنا: إنَّه إذا حلق ما يبين أثره، ففيه الفدية؛ لأنه ينطلق عليه اسم الحلق، ولا خلاف فيمن حلق الأكثر من رأسه أنَّه يلزمه الفدية، فكذلك إذا حلق ما بان أثره، /222/ والمعنى أنَّه حلق بعض رأسه، وأتى ما سُمى حلقاً، وهذا أولى من اعتبار من اعتبر الأكثر من رأسه، أو الربع؛ لأنَّه يؤدي إلى أن الأصلح، الذي يكن صلعه قد صار في أكثر رأسه أو أكثر من ثلاثة أرباعه لو حلق رأسه لم تلزمه الفدية، وهذا أولى ممَّن اعتبر ثلاث شعرات؛ لأن نسبة ثلاث شعرات إلى شعرتين ـ المتفق على أن لا دم فيهما ـ أقوى من نسبته إلى حلق أكثر الرأس المتفق عليه أن فيه دماً. (44/33)
مسألة [في القبلة، ومس المرأة، والظلال، يأتيها المحرم]
__________
(1) ـ سقط من (ب).
قال: ولا يُقبِّل المرأة، ولا يمسها، إلاَّ من ضرورة، ولا بأس أن يستظل بظل العماريات، والمحامل، والمظال، والمنازل، ويجب أن لا يصيب رأسه شيء من ذلك. قال القاسم عليه السلام ويستحب له التكشف إن أمكن. ما ذكرناه في هذا الفصل منصوص عليه في (الأحكام) (1). قلنا: إن المحرم لا يقبل امرأته؛ لأنَّه لا خلاف أنَّه محظور عليه أن يقبلها لشهوة، فإنه إذا قبلها، كان عليه دم، سنذكر ما ورد فيه في موضعه. وقلنا: إلاَّ أن يمسها من ضرورة؛ لأن المسيس لا يُؤْمَن أن تضامه الشهوة، وإذا ضامته الشهوة، كان حكمه حكم القبلة، والضمة. وأما الاستضلال بظلال العماريات، والمحامل، فهو مذهب أكثر العلماء، وروي عن ابن عمر أنَّه كره ذلك، والإمامية يذهبون إلى أنَّه لا يجوز. (44/34)
والدليل على أنَّه يجوز: ما رواه أبو داود في (السنن) بإسناده عن يحيى بن الحصين، عن أم الحصين قالت: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة، وبلال، أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتَّى رمى جمرة العقبة. وقد أجمعوا أن له أن يستظل بظلال المنازل، فوجب أن يكون ظلال العماريات كذلك، والمعنى أنَّه محرم لم يغط رأسه، فكل استظلال لم يغط المحرم به رأسه، فهو جايز.
ووجه استحباب التكشف أنَّه مستحب للحاج أن يكون أغبر أشعث، والتكشف أقرب إلى ذلك، روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال في أهل عرفة: ((إن الله تعالى يباهي بكم الملائكة، يقول عبادي أتوني شُعْثاً غُبْراً)) وعن عمر: ((إنَّما الحاج الأغبر الأذفر)).
مسألة [فيما لا يجوز للمحرم فعله من لباس وغيره]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/311، 309 وهو بلفظ مقارب.
قال: (ولا تلبس المحرمة ثوباً مصبوغاً بزعفران، ولا ورس، ولا غيره مما كان مشبعاً ظاهر الزينة، ولا تتنقب، ولا تبرقع؛ لأن إحرامها في وجهها، ولا بأس أن ترخي بثوب على وجهها ، ولا تلبس الحلي، وتتجنب سائر ما يتجنبه المحرم، ولا تزاحم الرجال في الطواف والسعي وغيرهما، وليس عليها أن تهرول في السعي والطواف). (44/35)
وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (1). قلنا: إن المحرمة لا تلبس ثوباً مصبوغاً بورس، أو زعفران؛ لحديث ابن عمر الذي ذكرناه في أول باب الإحرام أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب، وما مس الورس، والزعفران، من الثياب؛ ولأنهما طيب وزينة. وقلنا: لا تنتقب؛ إذ في الحديث النَّهي عن النقاب، ولا خلاف أن إحرامها في وجهها. وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: ((إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها)).
وروى ابن أبي(2) شيبة، عن حفص بن غياث، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: ((كان يكره أن تتلثم المرأة المحرمة تلثماً، ولا [باس](3) أن تسدله على وجهها)) فكذلك قلنا: إنه لا بأس به أن ترخي /223/ الثوب على وجهها من حيث لا تمسه، على أن التغطية مما يمس الوجه الَّتِي منعت منها، كما نقول في الرجل أن الممنوع منه أن(4) يغطي رأسه بما يمسه. وأما البرقع، فمنعنا منه؛ لأنه بمنزلة النقاب يمس الوجه، كما يمس النقاب. وقلنا: إنها لا تلبس الحلي، وما كان من الثياب ظاهر الزينة؛ لأنهما خلاف الشعث والغبرة.
وروى ابن أبي(5) شيبة نحوه، عن عطاء.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/303.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/283.
(3) ـ سقط من (أ) و (ب)، ونبه عليه في هامش (ب) وهو كذلك في مصنف ابن أبي شيبة.
(4) ـ في (أ): مما.
(5) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/282.
وروى أبو العباس الحسني ـ رحمه الله ـ في (النصوص)، عن زيد بن علي عليه السلام نحو ما ذكرناه في المحرمة. وقلنا: تتجنب سائر ما يتجنبه المحرم؛ لأنَّه لا خلاف فيه؛ ولأن حكم الإحرام في الرجال والنساء سواء إلا فيما ذكرناه. وقلنا: لا تزاحم الرجال في الطواف والسعي؛ لأن الواجب عليهن التحفظ من مماسة الرجال. وقلنا: ليس عليها أن تهرول في السعي في الطواف، لذلك؛ ولأن أصل الهرولة على ما روي كان لإظهار القوة والْجَلَد، وليس ذلك على النساء. وروى ابن أبي شيبة عن وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: ليس على النساء رمل بالبيت ولا بين الصفا والمروة(1). (44/36)
مسألة [في استعمال المحرم للطيب أو الرياحين ومسهما ومسهما]
قال: ولا يجوز للمحرم استعمال شيء من الطيب، ولا أن يمسه، ولا يشم شيئاً من الرياحين والفواكه، ولا بأس بمسها. ما ذكرناه في الطيب منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب)(3)، وما ذكرناه في الرياحين والفواكه منصوص عليه في (المنتخب)(4).
أما الطيب، فلا خلاف في أنَّه لا يجوز للمحرم استعماله في حال إحرامه، وإنَّما الخلاف في التطيب للإحرام، وسيأتي الكلام فيه في موضعه. وقلنا في الرياحين: إنها في حكم الطيب، وإنها لا تحل للمحرم؛ لأن المقصد مع ذكاء رائحتها هو الشم، فكان بمعنى الطيب، على أن كثيراً من الرياحين إذا جَفَّ، كان طيباً، وقد علمنا أن الجفاف لا يغير حكمه، وكذلك يؤخذ من كثير من الرياحين ماءٌ فيكون الماء طيباً، فوجب لما ذكرناه أن يجري مجرى الطيب.
وروى ابن أبي(5) شيبة، عن معاوية، عن حجاج، عن ابن الزبير، عن جابر، قال: ((إذا شم المحرم ريحاناً، أو مس طيباً، أهراق لذلك دماً)).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/151.
(2) ـ انظر الأحكام 1/276 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 97 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر المنتخب 101 وهو بالمعنى.
(5) ـ أخرجه ابن ابي شيبة في المصنف 3/322.
وروى(1) ـ بإسناده ـ عن ابن عمر أنَّه كان يكره شم الريحان للمحرم.فأما الفاكهة،فلا خلاف أنَّها لا تجري مجرى الطيب؛ لأن المقصد بها ليس التشمم؛ ولا لها ذكاه رائحة الطيب، ولا يصير منها شيء طيباً. (44/37)
مسألة [في ذبح المحرم للبهائم والطيور الأهلية ولو تحشت، وفي المتوحش فيها إذا استأنس]
قال: ولا بأس للمحرم أن يذبح الشاة، والإبل، والبقر، والطيور الأهلية، وكذلك إن توحش شيء منها، فلا بأس بأخذه، وذبحه، وما كان في الأصل متوحشاً مثل حمار الوحش والظبي، والوعل، والنعامة وما جرى مجراها، فلا يجوز للمحرم أن يتعرض لها، وإن استأنست. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3). وهو مما لا خلاف فيه؛ لأن الحرمة تعلقت بتوحش الأصل، فما كان منها متوحشاً في الأصل، فاستئناسه لا يزيل حرمته، وما كان منها مستأنساً في الأصل، فاستيحاشه لا يجعل له حرمة، وهكذا(4) حكمها في الصدقات، والجزاء، والأضاحي، وإنَّما يعمل في جميع هذه الأحكام على حالها في الأصل.
مسألة [في غسل المحرم واستياكه، وقتل الجراد، والقراد، والقملة، والبعوضة، وفي المحرم المصدع يعصب جبينه]
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/322، وإسناده حدثنا ابن علية عن أيوب عن نافع، به.
(2) ـ انظر الأحكام 1/326 ـ 327 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 103 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ في (ب): وهذا هو.
قال القاسم عليه السلام: ولا بأس للمحرم أن يغتسل، ويستاك، ولكن لا يغمس رأسه في الماء. وقال في الجراد، والقراد لا يقتلهما، فإن قتلهما، تصدق بشيء من الطعام، كفاً، أو أقل، أو أكثر. وقال في القملة، والبعوضة: إن قتلهما لضررهما، فلا /224/ شيء عليه، وإن قتلهما لغير ذلك تصدق بشيء من الطعام. قال: ولا بأس للمحرم الْمُصَدِّع أن يعصب جبينه بخرقة. جميعه منصوص عليه في (مسائل النيروسي). قلنا: لا بأس للمحرم بالإغتسال، والإستياك؛ لأنَّه لا خلاف فيه، والإغتسال قد يكون فرضاً، وقد يكون سنة مؤكدة، فلا يجوز تركه، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} فلم يخص حالاً من حال، والإستياك أيضاً منه، ولم يَرِد فيه كراهة للمحرم. (44/38)
وروى ابن أبي(1) شيبة، عن وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، قال: سألت محمد بن علي عليهما السلام، وعامراً، وعطاء، وطاووساً، ومجاهداً، وسالماً، والقاسم، وعبد الرحمن بن الأسود، فلم يروا به بأساً. وقلنا: لا يغمس رأسه في الماء؛ لأنَّه يكون قد غطاه بما مسه، وقد مُنِع المحرم عن ذلك. وقتل الحرشات قد مضى الكلام فيه. وقلنا: لا بأس للمحرم أن يعصب جبينه؛ لأن الجبين من الوجه حكماً، والمأخوذ عليه كشف الرأس على ما نص عليه في (المنتخب) (2) خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن إحرام الرجل في وجهه ورأسه، وقال الشافعي فيه مثل قولنا.
والأصل فيه حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ((إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها)).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/133.
(2) ـ انظر المنتخب 97 وهو بلفظ قريب.
وروى ابن أبي(1) شيبة بإسناده عن الفرافصة بن عمير، قال: رأيت عثمان وزيداً، وابن الزبير يغطون وجوههم، وهم محرمون، إلى قصاص الشعر. وقد روى(2) أيضاً ـ بإسناده ـ عن ابن طاووس، عن أبيه، أنَّه كان إذا نام غطى وجهه إلى أطراف شعره. فهذه الأخبار كلها تدل على ما ذهبنا إليه؛ لأن هولاء النفر من الصحابة، إذا رُوى عنهم، ولم يُحفظ عن غيرهم خلافه، جرى مجرى الإجماع منهم، على أنا نذهب إلى أن علياً عليه السلام إذا قال قولاً، وجب اتباعه، على أني وجدت في تعليق ابن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها))، فإن ثبت ذلك، فلا قول إلاَّ ما ذهبنا إليه، والمشهور أن المحرم الذي وقصته ناقته أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يغطى رأسه. (44/39)
فإن قيل: فقد روي ((ولا وجهه)).
قيل له: الأول أشهر، فإن ثبتت الرواية الثانية، فيجوز أن يكون المراد بها ما يتصل من الوجه بالرأس.
فإن قاسوا وجه الرجل على وجه المرأة، بعلة أنَّه وجه محرم، فوجب أن يتعلق عليه الإحرام.
قيل له: والرجل شخص محرم، فوجب أن لا يتعلق الإحرام على عضوين منه، دليله سائر البدن، والمعنى أنَّه عضو لا يتعلق عليه حكم الخلاف ممَّن يلزمه حكم الخلاف.
فإن قيل: هو إذا عصب جبينه، عصب معه مؤخر رأسه.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/285 وإسناده حدثنا أبو معاوية، عن ابن جريج، عن عبد الرحمن بن القاسم، به.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/285 وإسناده حدثنا وكيع عن إبراهيم، به.
قيل له: عليه أن ينزل العصابة عن رأسه إلى قفاه؛ لئلا يكون قد عصب رأسه، وقد نص على ذلك القاسم عليه السلام، فقال: ويكره له عصب الجمجمة لما يغطي العصابة من رأسه وشعره. وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن عطاء أنَّه سئل عن المحرم يصدع رأسه فقال: يعصب رأسه إن شاء(1). (44/40)
مسألة [في التطيب عند الإحرام]
قال القاسم عليه السلام: ولا يتطيب عند الإحرام. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي). وخالف في ذلك أبو حنيفة، والشافعي، وحكي عن مالك، ومحمد، مثل قولنا.
والأصل في ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، قال: سمعت قيس بن سعد، يحدث عن عطاء، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه، أن رجلاً أتى /225/ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجعرانة، وعليه جبة، وهو مُصْفَرُّ اللحية والرأس، فقال يا رسول الله: إني قد أحرمت وأنا كما ترى. قال: ((أنزع عنك الجبة، وأغسل عنك الصفرة، وما كنتَ صانعاً في حجتك؛ فاصنعه في عمرتك)) وفي بعض الأخبار: ((اغسل عنك اثر الخلوق، والصفرة)) (2).
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون أمره صلى الله عليه وآله وسلم بغسله؛ لأنَّه كان صفرة، لا لأنَّه كان طيباً، والصفرة تكره للمحرم والمحل(3)، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن التزعف للرجال.
وعن أنس: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التزعفر.
__________
(1) ـ أخرجه ابن ابي شيبة في المصنف 3/184 وإسناده حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الملك، به.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/126 وفيه زيادة: وعليه جبة صوف.
(3) ـ في (ب): للمحل والمحرم.
قيل له: ظاهر الخبر يدل على أنَّه أمره بغسله للإحرام؛ لأن الرجل أتاه، فقال له: أنا محرم، وأنا كما ترى، فقال له: افعل كذا وكذا، وما كنتَ صانعاً في حجتك، فاصنعه في عمرتك، فصار الكلام على أحكام الإحرام، ولو كان ذلك لغير الإحرام، لَبيَّن ذلك صلى الله عليه وآله وسلم، ودل عليهـ على أن الصفرة قد ورد فيها ما يدل على خلاف ما ذكروا. (44/41)
[و](1) روى أبو داود في (السنن)، حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنهي، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم، أن ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة، حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة، فقيل له: لم تصبغ بالصفرة؟ فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبغ بها [لحيته] (2) كلها حتَّى عمامته. ويحتمل النَّهي الوارد عن التزعفر أن يكون المراد به في حال الإحرام، فإذا ثبت ما ذكرناه في الصفرة، ثبت أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الرجل بغسل ما كان على لحيته وثيابه لأجل الإحرام، فدل ذلك على أن الطيب عند الإحرام غير جائز.
وروى أن عمر وجد ريح طيب، وهو بذي الحليفة، فقال: ممَّن هذا؟ فقال معاوية: مني. فقال عمر: منك لعَمري، فقال: لا تعجل علي، فإن أم حبيبة طيبتني، وأقسمت علي، قال: ((أنا أقسم عليك، فلترجع إليها، فلتغسله عنك)) فرجع إليها، فغسلته. فدل إنكاره على معاوية، وإقسامه عليه ليغسله علىأمنه قال: ذلك توقيفاً ؛ لأن ما طريقه الإجتهاد لا يجوز أن يُنكَر على من خالفه. وعن عثمان أنَّه رأى رجلاً بذي الخليفة يريد أن يحرم، وقد دهن رأسه، فأمر به، فغسل رأسه بالطين.
فإن قيل: روي عن عاشة أنَّها قالت: كأني أنظر إلي وبيض الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو محرم.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ سقط من (أ) و (ب).
قيل له: يحتمل ذلك أن تكون رأته بعد ما رمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمرة العقبة، فأرادت بقولها: ((هو محرم)) أن حكم الإحرام كان باقياً عليه، فقد روي ما يوضح هذا التأويل: عن ابن عباس رضي الله عنه أنَّه قال: ((إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم كل شيء إلاَّ النساء))، فقال له رجل: والطيب. فقال: أما أنا، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضمخ رأسه بالمسك، أو طيب(1) هو؟ ويحتمل أيضاً أن يكون أجزاء بقيت من الطيب في رأسه بعدما غسل، وذهبت رائحته. ويحتمل أيضاً أن تكون تلك الأجزاء بقيت وهو لا يعلم ذلك كما روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم اغتسل، فبقيت لمعة من جسده، ولا شك أنَّها بقيت وهو لا يعلم ذلك. (44/42)
فإن قيل: روي عن عائشة أنَّها قالت: طيبت، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعالية. وروي طيبته لإحرامه.
قيل له: ليس في الحديث أنَّها فعلت ذلك بأمره صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أنَّه استيقن ذلك، ولم يمطه، ويجوز أن تكون طيبته /226/ قبل إحرامه، ثُمَّ لما أراد صلى الله عليه وآله وسلم الإحرام، غسله عن نفسه، فقد روي أيضاً أنها قالت: طيبته قبل أن يحرم.
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي(2)، حدثنا علي بن معبد، حدثنا شجاع بن الوليد، حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثني القاسم، عن عائشة أنَّها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي لإحرامه قبل أن يحرم.
__________
(1) ـ في (ب): أفطيب.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/130.
فيكون ما روي من قولها عند إحرامه، وحين إحرامه، محمولاً عند قرب إحرام، وحين قرب إحرامه. يؤكد هذا التأويل ويوضحه: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أبو غسان، حدثنا أبو عوانة، عن إبراهيم بن المنتصر، عن أبيه، قال: سألت ابن عمر عن الطيب عند الإحرام فقال: ((ما أحب أن أصبح محرماً ينضح مني ريح المسك)) (1)، فأرسل ابن عمر بعض بنيه إلى عائشة ليسمع ما قالت: فقال: قالت عائشة: ((أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ طاف بنسائه، فأصبح محرماً)) فدل هذا الجبر على أن التطيب كان قبل الإحرام، والاغتسال توسط بينه وبين الإحرام؛ لأنَّه لا يجوز أن يكون طاف على نسائه ولم يغتسل، ولا خلاف أنَّه لو أحرم، وعليه قميص، فالواجب عليه إزالته، وكذلك الطيب، والمعنى انه إذا استعمله في الإحرام على الوجه المحظور، وجبت إزالته، أو يقال: إن إماطته تجب إذ طرأ على الإحرام، فكذلك إذا طرأ عليه الإحرام، دليله اللباس. (44/43)
فإن شبهوه بالحلق في أنَّه يجوز طرو الإحرام عليه، وإن لم يجز طروه على الإحرام، كان الطيب باللباس أشبه؛ لأنَّه مما يَتَأَتَّى الإزالة فيه، والحلق مما لا يتأتى الإزالة فيه، كذلك إذا طرأ على الإحرام لم يكن للإزالة فيه حكم، على أن الشعر إزالته محظورة في الإحرام، والطيب مثل اللباس استعماله هو المحظور، فكان حكم الشعر على الضد من حكم الطيب، فكان ما ذكرناه أولى، على أن المحرم غير ممنوع من جميع التصرف في الطيب من نحو الشراء، والبيع، والإمساك، وما جرى مجراه، وإنَّما المحظور(2) كالقميص، والسراويل، والقلنسوة، والخف.
مسألة [في الخاتم هل هو من لاحلي؟ وفي المحرم يغسل ثيابه، أو يحك رأسه، أو يلبس الهميان]
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/132 وفيه إبراهيم بن محمد المنتشر.
(2) ـ هو التنعم فقط سواءً طرأ الإحرام عليه أو طرأ هو على الإحرام، فيجب أن يكون التنعم به محظوراً.
قال القاسم عليه السلام: وليس الخاتم من الحلي، ولا بأس للمحرم بغسل ثيابه، وإن أيقن أن فيها دواب تلفت لغسله، يصدق بقدر ما يرى. قال: ويجوز له أن يحك رأسه، وبدنه، ولكن برفق؛ لكيلا يقطع شعراً، ولا بأس بلبس الهميان له. وجميعه منصوص عليه في (مسائل النيروسي). (44/44)
وجه ما قال أن الخاتم ليس من الحلي، أن الحلي لا يجوز لبسه للرجال، ولا بأس لهم بلبس الخواتيم.
وروى ابن أبي شيبة، عن ابن عباس، قال: لا بأس بالخاتم للمحرم(1).
وروى نحوه، عن عطاء، ومجاهد، وسالم بن عبد الله. وقلنا: لا بأس للمحرم بغسل ثيابه؛ لأنَّه من الطهارة، ولا خلاف فيه.
وقد رواه(2) ابن أبي شيبة، عن ابن عباس، وابن عمر، وجابر، وعطاء، وإبراهيم.
فأما وجه ما ذكرنا من أن الدواب لو تلفت بغسله، تصدق، فقد مضى من قتل المحرم للقمل ما لا غرض في إعادته. ولا خلاف أن المحرم غير ممنوع من حك جسده، وقلنا: برفق، لئلا يقطع شعراً؛ لأن قطع /227/ الشعر قد منع المحرم منه، وقد مضى القول فيه. وقلنا: لا بأس له بلبس الهميان؛ لأن عقده ليس بأكثر من عقد الإزار.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن حجاج، قال: سألت أبا جعفر، وعطاء، عن الهميان للمحرم فقالا: لا بأس به.
وروي نحوه عن عائشة، وعن طاووس، وعن سالم، والقاسم، وسعيد بن جبير(3).
__________
(1) ـ أخرجه عنهم ابن أبي شيبة في المصنف 3/283.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة عنهم في المصنف 3/352.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة عنهم في المصنف 3/410.
باب القول فيما يجب على المحرم من الكفارات (45/1)
[مسألة: في المحرم يلبس ولا يجوز له، وفي مقدار الفدية، وفي استعمال المحرم لدواء فيه طيب]
إذا احتاج المحرم إلى لبس ثياب لا يجوز له لِبسُها لعلة من العلل، لَبِسَها، وعليه الفدية، والفدية صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مدان من الطعام، أو دم يريقه، وأقل ذلك شاة، وكذلك إن(1) احتاج إلى دواء فيه مسك ساطع الريح، أو نحوه، وكذلك إن احتاج إلى لبس العمامة أو(2) الخف. وهذا جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (3) غير تقدير الإطعام فإنه منصوص عليه في (المنتخب) (4)، ونص ـ أيضاً ـ فيه على ما ذكرنا من حكم اللباس.
والأصل في ذلك قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ..} الآية، وحديث كعب بن عجرة في رواية بن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم(5) قال له حين آذاه [هوام] (6) رأسه فقال: أذبح شاةً نسكاً، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، بين كل مسكينين صاع من بر.
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام فيمن أصابه أذى من رأسه، فحلقه، يصوم ثلاثة أيام، وإن شاء أطعم ستة مساكين لكل مسكين من نصف صاع من بر، وإن شاء نسك بشاة يذبحها.
وقد ذكر ذلك أبو حنيفة بيوم، وحكي عنه أكثر اليوم، وذلك لا معنى له؛ لأن الحكم تعلق باللبس، والطيب، دون زمان بقائهما، فاليوم فيه كالساعة، وإذا اتفقنا على إيجاب الفدية على من لبس، أو تطيب يوماً، كان ما دونه قياساً عليه، والمعنى أنَّه حصل لابساً أو متطيباً على سبيل العمد في الإحرام، على أن ما ذهبوا إليه تقدير لم يرد توقيف به، فوجب سقوطه.
__________
(1) ـ في (ب): إذا.
(2) ـ في (ب): و.
(3) ـ انظر الأحكام 1/277 ـ 278 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر المنتخب 97 وهو بلفظ قريب.
(5) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/235، وقال فيه: صاعاً من تمر.
(6) ـ سقط من (ب).
مسألة [في المحرم يلبس أكثر من محظور من اللباس في وقت واحد، أو أوقات متفرقة، وفي حلق الرأس] (45/2)
قال: وإن احتاج إلى لبس جميع ما ذكرنا في وقت واحد، لزمته فدية واحدة، وإن احتاج إلى لبسهما جميعاً(1) في أوقاتٍ متفرقة، فعليه للبس الرأس فدية، وللبس البدن فدية، وللبس القدمين فدية، وكذلك إن احتاج إلى حلق رأسه، فحلق، ففيه فدية. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3). قلنا: إنَّه إذا جمع لباس البدن كله في وقت واحد، كان عليه فدية واحدة؛ لأنَّه لا خلاف أنَّه لو طيب جسده كله، أو أزال التفث كله عن جسده في وقت واحد، فليس عليه إلاَّ فدية واحدة، وكذلك لا خلاف أنَّه إذا حلق رأسه كله، فعليه فدية واحدة، وإن كان حلق في وقت بعضه، وفي وقت آخر بعضه، لزمه لكل حلق فدية، وإنَّما كان ذلك كذلك؛ لأنَّه جنس واحد مجموع في وقت واحد، فوجب أن يكون لو غطى رأسه، وبدنه(4) ورجليه، في وقت واحد لا يلزمه إلاَّ فدية واحدة، وهذا مما يوافقنا عليه أبو حنيفة، والشافعي، ويؤكد ذلك أن الجسد كله فيما يختص من الحكم في وقت واحد يصير بمنزلة عضو واحد في الإتلاف، وفي الاغتسال، ألا ترى أنَّه لو أتلف، كانت له دية واحدة، ولو أتلفت له أعضاء متفرقة، كانت لكل عضو دية، وكذلك الغسل لا ترتيب فيه كالعضو الواحد، والماء /228/ لا يصير مستعملاً إلاَّ إذا كان ذلك في الوضوء(5) الذي يختص بعض الأعضاء. فأما إذا لبس هذه الملابس في أوقات متفرقة، فحكي عن الشافعي فيه قولان:
أحدهما أن عليه كفارة واحدة. والآخر مثل قولنا.
__________
(1) ـ في (أ): إلى لبسها أوقات.
(2) ـ انظر المنتخب 96 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر الأحكام 1/278، 308، 309 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ في (أ): ويديه.
(5) ـ في (ب): العضو.
والأصل فيه: أن لبس الرأس له حكم على الإنفراد، وكذلك لبس البدن، ولبس القدمين؛ لأنَّه إذا أتى بكل واحدٍ فيه على الانفراد، لزمت له فدية، وهذا مما لا خلاف فيه، فإذا أتى بكل واحد منفرداً في وقت واحد، فإتيانه بالآخر في وقت آخر، لا يمنع أن يجب لكل واحد منهما فدية، دليله: إذا كان ما توجبه الفدية من جنسين، وليس يعترض على ذلك إذا فعل ذلك أجمع في وقت؛ لأن ذلك يكون لبسة واحدة، ألا ترى أن من حلف ألا يلبس في هذا اليوم إلاَّ لبسة واحدة، فلبس لباس الرأس، والبدن، والقدمين أجمع في وقت واحد، لم يحنث، وإن لبس لباس البدن، ثُمَّ لبس في وقت آخر منفصل عنه لباس اليدين، أو لباس القدمين، حنث، وكذلك من حلف ألا يأكل إلاَّ أكلة واحدة، فأكل ما شاء في وقت واحد، فإنه لا يحنث، ولو أنَّه فرق ذلك المأكول بعينه، فأكل بعضه في وقت، ثُمَّ أكل الباقي في وقت آخر، حنث، فبان أن الأفعال إذا وقعت في حالة واحدة، ووقت واحد، تصير كالشيء الواحد، إذا كانت من جنس واحد، وإذا فُرِّقت في الأوقات الكثيرة، لم يكن لها ذلك الحكم. (45/3)
فإن قيل: أليس كفارة اليمين عندكم تتداخل إذا كانت من جنس واحد، وإن وقعت الإيمان في أوقات متفرقة.
قيل له: الكفارات عندنا لا تتداخل، وإنما الواجب فيما ذكرت كفارة واحدة؛ لأن الموجب للكفارة عندنا الحنث، والحنث حنث واحد، فلم يجب فيه إلاَّ كفارة واحدة.وما ذكرناه من إيجاب الفدية في حلق الرأس، فلا خلاف فيه، والأصل فيه ما قدمناه من الآية والخبر.
مسألة [في المحرم يلبس أنواع لباس البدن، أو أنواع لباس الرأس، أو أنواع لباس القدمين، سواء في وقت واحد أو متفرق]
قال: وإذا لبس المحرم قميصاً، ثُمَّ لبس بعد ذلك جبة، أو سراويل، أو قباء، أو درعاً، أو غير ذلك، أجزته كفارة واحدة، لبس ذلك معاً، أو متفرقاً.
وكذلك القول إن لبس قلنسوة، ثُمَّ لبس عمامة، أو مغفراً، أو غيرهما. وكذلك القول في الخف، والجورب، وإن لبس شيئاً من ذلك لعلة، أو سبب، فله أن يلبس إلى أن يخرج عنه، ولا يلزمه(1) إلاَّ فدية واحدة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2). قلنا: إنَّه إن لبس ثوباً بعد ثوب، لم يلزمه للثاني فدية؛ لأنَّه لا يكون مغطَياً به، والمأخوذ عليه ترك التغطية، فإذا غطى رأسه، أو بدنه، أو قدميه بالأول، لم يكن للثاني حكم. وقلنا: إنَّه إن لبس شيئاً من ذلك لعلة، فله لبسه إلاَّ(3) أن يخرج منها، ولا يلزمه له إلاَّ فدية؛ لأنَّه أبيح له اللبس بشرط الفدية عند العلة، فيحصل اللبس مباحاً له على الوجه الذي بيناه، على أنا لو قلنا خلاف ذلك، لأوجبنا عليه للبّس في كل ساعة فدية، بل في كل لحظة، وذلك لا يُضبط، ويؤدي إلى المشقة العظيمة. (45/4)
مسألة [في المحرم بجامع أهله]
(فإن جامع المحرم أهله، فقد أبطل(4) إحرامه، وأفسد حجه، وعليه أن ينحر بدنة بمنى، وأن يمضي في حجة الفاسد، وعليه الحج من قابل، وعليه أن يحج بامرأته الَّتِي أفسد عليها حجها).
/229/ وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (5) و(المنتخب) (6) غير ما قلنا به من أنَّه يحج بامرأته، فإنه منصوص عليه في (الأحكام) دون (المنتخب).
__________
(1) ـ في (ب): تلزمه.
(2) ـ انظر الأحكام 1/308 ، 809 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): إلى.
(4) ـ في (أ): بطل.
(5) ـ انظر الأحكام 1/299.
(6) ـ انظر المنتخب 103 وهو بلفظ قريب.
والأصل في ذلك أنَّه مروي عن غير واحد من الصحابة من ذلك: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: ((إذا وقع الرجل على امرأته، وهما محرمان، تفرقا حتَّى يقضيا مناسكهما، وعليهما الحج من قابل، ولا ينتهيا إلى ذلك المكان الذي أصابا الحدث(1) فيه إلاَّ وهما محرمان، فإذا انتهيا إليه، تفرقا حتَّى يقضيا مناسكهما، وينحرا عن كل واحد منهما هدياً))، وفي كتاب أبي خالد الحديث على وجهة، إلا أنه قال: وينحر كل واحد منهما هدياً. (45/5)
وروى ابن أبي(2) شيبة، حدثنا حفص، عن أشعت، عن الحكم، عن علي عليه السلام قال: ((على كل واحد منهما بدنة، فإذا حجا من قابل، تفرقا من المكان الذي أصابها فيه.
وروى ابن أبي(3) شيبة ـ بإسناده ـ عن مجاهد أنَّه سئل عن المحرم يقع على امرأته فقال: كان ذلك على عهد عمر فقال: ((يقضيان حجهما، والله أعلم بحجهما، ثُمَّ يرجعان حلالان كل واحد منهما لصاحبه، فإذا كان من قابل، حجا، وأهديا، وتفرقا من المكان الذي أصابها فيه)). وروى ابن أبي شيبة(4) ـ بإسناده ـ عن ابن عباس أنَّه قال: ((الله أعلم بحجكما، امضيا لوجهكما، وعليكما الحج من قابل، فإذا انتهيت إلى المكان الذي واقعت فيه، فتفرقا، ثُمَّ لا تجتمعا حتَّى تقضيا حجكما.
__________
(1) ـ في (ب): فيه الحدث.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/164.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/164 وإسناده: حدثنا ابن عيينة، عن يزيد بن يزيد، به.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/164 وإسناده: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز، عن عبد الله بن وهبان، به.
وروي أيضا(1) ـ بإسناده ـ عن ابن عباس وابن عمر، في محرم وقع على امرأته أنَّه قد أبطل حجه، ويخرج مع الناس، فيصنع ما يصنعون. وأن عبد الله بن عمرو قال: مثل قولهما. فلما روى ذلك عن هولاء الجماعة من الصحابة، ولم يرو خلافه، عن أحد منهم، كان إجماعاً، فلذلك قلنا: قد أفسد حجه، وعليه الحج من قابل. (45/6)
فإن قيل: ففي حديث عمر، وإحدى الروايتين، عن ابن عباس: ((الله أعلم بحجكما))، فلم يحكما بفساده.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد بذلك الله اعلم بثوابه، وحكمه في الآخرة، وقد أطبقا على إيجاب الحج عليه، فدل ذلك على أن الأول لم يقع موقع الصَّحيح، على أنه لا خلاف أنَّه إذا جامع قبل الوقوف أن حجه فاسد، وعليه الحج من قابل، واختلفوا إذا جامع بعد، ذلك، فمذهب أبو حنيفة إلى أن حجه قد تم، وعليه بدنة، وعند يحيى عليه السلام أنَّه إذا جامع قبل أن يرمي جمرة العقبة، بطل حجه، وهو مذهب الشافعي.
والأصل في ذلك أن الصحابة الذين أفتوا بفساد حجه، وإيجاب الحج عليه من قابل، لم يفصلوا بين أن يكون ذلك قبل الوقوف، أو بعده، فوجب أن يستوي الحكم فيه، كما يستوي لو كان ذلك قبل طواف القدوم، والسعي، أو بعدها.
ومما يعتمد في هذا الباب ما(2) أجمعنا عليه من أنَّه لو جامع قبل الوقوف بطل حجه، وكذلك(3) إذا جامع قبل الرمي، والمعنى أن جماعه صادف إحراماً مطلقاً، ولا خلاف أن قتل الصيد، والتطيب، واللمس، لما مُنع منه، وجب أن /230/ يستوي حكم فِعلهما قبل الوقوف، وبعده إلى أن يرمي، فوجب أن يكون الجماع كذلك، أو بعلة أنَّه محظور بالإحرام.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/164.
(2) ـ في (ب): مما.
(3) ـ في (ب): فكذلك.
فإن قاسوا الوطء قبل الرمي، عليه بعد الرمي بعلة أنَّه وطء بعد الوقوف، كان قياسنا أولى؛ لأن الأصل الذي رددنا إليه أصلٌ متفق عليه بين الأمة، والأصل الذي ردوا إليه فيه خلاف على ما نبينه من بعد [إن شاء الله تعالى] (1)، فكان القياس المستنِد إلى النص، أو ما يجري مجراه من الإجماع، أولى من القياس المستند إلى الاجتهاد، على أن قياسنا موجِب، فهو أولى، كالخاص، وتشهد العبادات لقياسنا، ألا ترى أن الجماع لما كان مبطلاً للصيام، والاعتكاف، كان لا فصل يبن وقوع الجماع في أولهما وآخرها. فإن ادعوا أن قياسهم مستند إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحج عرفة، فمن أدرك عرفة، فقد أدرك الحج)). (45/7)
قيل له: هذا لا يمنع من طرو الفساد عليه، كما أن قوله: ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر)) لا يمنع من طرو الفساد عليه، وإنَّما المراد [به] (2) لا تفوت من جهة الوقت على شرط السلامة، على أن قياسنا مستند إلى قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} فما يحصل فيه الرفث، لا يكون حجاً.
فإن قيل: إذا أمن فواته من جهة الوقت، فيجب أن يأمن من فواته من جهة الفساد.
قيل له: لا يمتنع أن يأمن الفوات من جهة الوقت، وإن لم يأمن الفوات من جهة الفساد كالعمرة؛ لأنها لا تفوت من جهة الوقت [وتبطل بالفساد] (3).
فإن قيل: قد علمنا أن النسك الذي بين الوقوف وطواف الزيارة لو عدم، لم يبطل الحج، فوجب أن لا يبطل بطرو الفساد عليه؛ لأن ما لا يبطل الحج عدمه، ففساده أولى ألا يبطله.
قيل له: لسنا نسلم ما ادعيت من الأصل، وذلك أن بقاء الإحرام إلى أن يرمي جمرة العقبة من النسك الذي ذكرت، وعندنا أن ما أبطله، أبطل الحج، فكيف يصح ما اعتمدته.؟
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ سقط من (أ).
فإن قيل: أليس إذا فات الرمي بفوات وقته، ثُمَّ جامع، لم يبطل حجه، فما أنكرتم أن يكون الجماع قبل الرمي لا يبطله؟ (45/8)
قيل له: لا يستوي الوقتان؛ لأن الوقت الذي يفوت فيه الرمي يكون الإحرام قد انحل فيه، فيكون سبيله سبيل من رمى، ألا ترى أن له أن يتطيب، ويلبس، ويصيد، وقبل وقت الرمي الأول يكون على كمال إحرامه، فكذلك وجب أن يكون الجماع فيه مبطلاً للحج، وهذا مما يقوي ما ذكرناه من القياس، ألا ترى أن الجماع لما لم يصادف إحراماً مطلقاً عند فوات الرمي، لم يبطل الحج. فأما إيجاب البدنة، فهو قول الشافعي. وأبو حنيفة يقول: إن جامع قبل الوقوف أجزأه دم شاة، وإن جامع بعد الوقوف، لزمته بدنة.
والأصل فيما ذهبنا إليه قول علي عليه السلام على كل واحد منهما بدنة، ولا مخالف له فيه من الصحابة، ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أنَّه إذا جامع بعد الوقوف، لزمته بدنة، فكذلك إذا جامع قبل الوقوف، والمعنى أنَّه جماع صادف إحراماً مطلقاً، وهو قياس سائر ما حضرة الإحرام من الطيب وغيره من أن كفارته لا تتغير بوقوعه قبل الوقوف، أو بعده.
فإن قيل: لا يجتمع عليه تغليظ في الدم، وتغليظ في الإفساد.
قيل له: لم قلت ذلك؛ وما تنكر من ذلك إذا دلت الدلالة عليه؟ على أن الأصل في الجنايات أنَّها إذا عظمت، كان تغليظ كفاراتها أولى، فكان الواجب على هذا أن يكون الوطء الذي يبطل الحج بالتغليظ أولى؛ لأنَّه في باب الجنايات أعظم، على أنَّه لا فصل عندنا على ما بيناه بين الجماع قبل الوقوف /231/ وبعده، في إفساد الحج، فلا سؤال علينا فيه. وأما ما قلناه من أنَّه يحج بامرأته الَّتِي أفسد عليها حجها، فالمراد به إذا(1) كانت مكرَهة، فأما إذا طاوعت فهي الَّتِي أفسدت على نفسها الحج دون الزوج. وما ذهبنا إليه في المكرهة قول عطاء.
__________
(1) ـ في (ب): إن.
وروى ابن أبي(1) شيبة ـ بإسناده ـ عنه أنَّه قال في المكرهة يستكرهها زوجها حتَّى يواقعها، فحجها من ماله. (45/9)
وحكى نحو ذلك أبو بكر الجصاص (في شرح المناسك) لمحمد، عن الأوزاعي. وروي نحوه هناد بإسناده، عن الحسن، وهو إطلاق المزني، عن الشافعي، وحكى أبو علي بن أبي هريرة أن أصحاب الشافعي اختلفوا في تفسير ذلك الإطلاق، فذهب بعضهم إلى أنَّه يغرم نفقتها، وذهب بعضهم إلى أنَّه يُصَيِّر لها محرماً لتحج.
ووجه ذلك أن الزوج هو الْمُتلِف عليها حين اكرهها، فوجب أن يضمن كما(2) لو أتلف عليها غير ذلك من مالها، أو غَرَّمها بالشهادة عليها ما لا يلزمها، ضمن.
فإن قيل: منفعة الوطء قد حصل لها، فلا يجب للزوج أن يضمن غرامته.
قيل له: هذا ينتقض بالرجل يحرق للمرأة مالاً ثميناً بحضرتها مع كراهتها، فإن(3) حصل لها بذلك بعض الترفيه، على أن وطئها لو كان نفعاً لها حكماً، ما كان يجوز أن يستحق عليه العوض؛ لأن الإنسان لا يستحق العوض على ما يناله من النفع.
فإن قيل: أليس الزوج لو وطء امرأته في شهر رمضان، ثُمَّ عجزت عن القضاء، لم يلزمه أن يغرم عنها الفدية، فما أنكرتم أن لا يغرم نفقة الحج.
قيل له: إن الفدية هي بدل القضاء، وهو لم يتلف الفدية نفسها، ولا هي بدل من فساد صومها، فلم يجب أن يغرمها الزوج، وليس كذلك النفقة؛ لأنَّه بالوطء قد أتلف نفقتها، فيجب أن يَغرَمها، ويقال لمن أنكر ذلك من أصحاب الشافعي قد اتفقنا على أن للزوج أن يغرم عنها ما يلزمها من البدنة، فكذلك النفقة، والمعنى أن كل واحد منهما غُرْمٌ، لزم بسبب ذلك الوطء، وليس للمخالف أن يقيس الإكراه في ذلك على الطوع؛ لأنها إذا طاوعت، فقد رضيت بأن يتلف عليها، فلا يضمن المتلف.
مسألة [في المحرم يجامع أهله طوعاً، أو كرهاً]
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/186، وإسناده: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا حماد، عن حجاج، به.
(2) ـ في (ب): كما أنه.
(3) ـ في (ب): وإن.
قال: وإن كانت طاوعته، فعليها ـ أيضاً ـ بدنة، وإن كان الزوج غلبها على نفسها، لم يلزمها البدنة، ولزمت زوجها [عنها] (1). نص في (الأحكام)(2) على أنَّها إن كانت تطاوعته، فعليها من الكفارة مثل ما عليه. ونص في (المنتخب)(3) ـ أيضاً ـ على أنَّها إن كانت طاوعته، فعليها البدنة، ونص فيه على أنَّها إن لم تكن طاوعته، وكان زوجها أكرهها، كان على الزوج بدنتان، بدنة عنها، وبدنة عن نفسه. أما إيجاب البدنتين، فهو قول أبي حنيفة. قال الشافعي: ويجزي عنهما بدنة واحدة. (45/10)
والأصل فيما ذهبنا إليه قول أمير المؤمنين عليه السلام ((على كل واحد منهما بدنة)).
ولا خلاف أن الزوج يلزمه بدنة بدلالة أنَّه لو جامع من ليست بمُحْرمة، كان(4) البدنة لازمة له، فكانت العلة فيه مصادفة جماعه إحراماً مطلقاً، فوجب أن يلزم المرأة أيضاً بدنة لمشاركتها إياه في العلة الموجِبة، ولا خلاف(5) أن المرأة ـ أيضاً ـ لو كانت محرمة، ولم يكن الزوج محرماً، فوطئها لكان يلزمها دم، فكذلك إذا كان الزوج محرماً، والعلة ما ذكرناه، يوضح ذلك، ويؤكده، أن الدم تعلق بهتك حرمة الإحرام، فوجب أن يستوي فيه حال الاجتماع، وحال الانفراد، ألا ترى أنهما لو تطيبا، أو لبسا، لزم كل واحد منها جزاءً على الانفراد؟ فكذلك إذا جامع /232/ على أنا وجدنا سائر أحكام الوطء يلزم كل واحد منهما على الانفراد، من(6) فساد الحج، ووجوب قضائه، وكذلك الاغتسال، والحد إذا كان الوطء زنىً، فوجب أن تكون الكفارة كذلك.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون سبيل الكفارة سبيل النفقة(7) والمهرة في أنَّها تلزم الزوج دونها؛ لأنها حق في مال؟
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ انظر الأحكام 1/299 وهو بلفظ قريب، ونص فيه أن لا كفارة على المكرهة.
(3) ـ انظر المنتخب 104 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ في (أ): كانت.
(5) ـ في (ب): ولا خلاف أيضاً أن المرأة لو.
(6) ـ في (أ): عن.
(7) ـ في (ب): المهر والنفقة.
قيل له: إنَّما كان ذلك كذلك؛ لأنهما حق للمرأة، ولا يصح أن يلزمها حق نفسها، وما ذكرناه حق الله تعالى فأشبه سائر ما ذكرناه في أنَّه يلزم كل واحد منهما على الانفراد. (45/11)
فأما ما ذهبنا إليه من أن الزوج إذا استكرهها لزمته بدنة عن نفسه، وبدنة عنها، فهو(1) قول الشعبي، وعطاء، روى ذلك عنهما ابن أبي شيبة ، وقالا: إن كانت مطاوعة فعلى كل واحد منهما بدنة، وإن كانت مستكرهة، فعلى الزوج بدنتان، بدنة عنها، وبدنة عن نفسه. وهو أيضاً تحصيل مذهب الشافعي في النيابة؛ لأنَّه وإن أوجب بدنة واحدة، جعلها عنهما وألزمها الزوج دونها، إلاَّ أنَّه لا يفصل بين المطاوِعة والمستكرَهة. وقال أبو بكر الجصاص في (شرحه المناسك) لمحمد: رأى بعض أصحابنا أن المرأة ترجع على الزوج بما لزمها من الدم.
ووجه هذه المسألة ما تقدم في إيجابنا على الزوج نفقة زوجته إذا أفسد بالوطء حجتها، فلا غرض في إعادته.
مسألة
قال: فإذا حجا في السنة الثانية، لزمهما الافتراق إذا صارا إلى الموضع الذي أفسدا فيه الإحرام، والافتراق ألاَّ يركب معها في مَحمَل، ولا يخلو معها في بيت، ولا بأس أن يكون بعيرها قاطراً إليه، أو يكون بغيره قاطراً إليها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2) و(المنتخب)(3). وهو قول أمير المؤمنين [علي](4) عليه السلام، وقول عمر، وابن عباس، ولم يرو عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، فجرى مجرى الإجماع، وهو قول ابن المسيب، وعطاء، والحكم، وحماد، وهو أحد قولي الشافعي، ولا وجه لإبطال اجتهاد إذا ثبت عن عدة من الصحابة من غير أن روي عن أحد خلافه منهم سيَّما وعندنا أنَّما ثبت عن علي عليه السلام، وجب القول به، على أنَّه لا يمنع(5) أن يكون ذلك ضرباً من العقاب؛ إذ هو من جنس التغريب.
__________
(1) ـ في (ب): وهو.
(2) ـ انظر الأحكام 1/99م وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 104 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ سقط من (ب).
(5) ـ في (ب): منع.
فإن قيل: وأنتم توجبون ذلك، وإن جامعا ناسيين. (45/12)
قيل له: لا يمتنع أن يثبت ذلك في الأصل على سبيل العقوبة، ثم يلزم من لا يلزمه العقوبة، كما نقول في إيجاب الحد على التائب، على أنه لا يمتنع، أن يكون ذلك يجب للإحتياط وخشية أن يقع منهما المعاودة.
فإن قيل: هذه الخشية قائمة وإن لم يكن وقع منهما جماع.
قيل له: إلاَّ أنَّها خشية لا أمارة عليها، وإذا(1) فعلا ذلك مرة، حصلت هذه الخشية أمارة، كشهادة الزور، إذا لم تقع ممَّن ظاهره الستر، لم تتوجه التهمة بها عليه، وإذا وقعت مرة، وجهت التهمة إليه، فأما قولهم إن التفرق ليس بنسك، فلا وجه لإلزامه، فمما لا معنى له؛ لأنَّه لا يمتنع أن يلزم وإن لم يكن نسكاً على أنَّه لا يمتنع أن يكون نسكاً في حال دون حال، وعلى وجه دون وجه، وكذلك الرمي والحلاق.
مسألة [في المحرم يُقبل فيمي، أو يمذي، أو يلتذ]
قال: ولو أن محرماً قَبَّل، فأمنى فعليه بدنة، وإن أمذى، فعليه بقرة، وإن لم يكن من ذلك شيء، وكان مع القبلة شهوة، وحركة لذة فعليه شاة، وإن قبل لغير شهوة، لم يلزمه شيء، وإن حمل المحرم امرأته وكان منه لحملها حركة لذة، فسبيلها سبيل القبلة في المني، والمذي، وغيرهما. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2) و (المنتخب) (3). ولا خلاف أن المحرم إذا قبل لشهوة، فعليه دم.
وروى ابن أبي شيبة(4) عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر، عن علي عليهم السلام، قال: إذا /233/ قبَّل المحرم امرأته، فعليه دم.
وروى نحوه بإسناده، عن ابن المسيب [و] (5) وعن ابن سيرين والشعبي، وعبد الرحمن بن الأسود.
__________
(1) ـ في (أ): فإذا.
(2) ـ انظر الأحكام 1/311 ـ 312 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 103 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/138.
(5) ـ ما بين المعكوفين سقط من (ب).
فإذا ثبت ذلك في القبلة بالإجماع، كان الغمز، واللمس مثلها؛ إذ الحكم في ذلك لا يتغير في سائر المواضع؛ ولأن العلة فيها أنَّها لمس بالشهوة، فلما ثبت أن في القبلة، والغمز ـ إذا كانا عن شهوة ـ دماً، وكان أقل الدم شاة، أوجبناها فيهما. (45/13)
وقلنا: إن في المذي بقرة؛ لأن القبلة الَّتِي تؤدي إلى خروج المذي أغلظ حكماً من القبلة الَّتِي لا تؤدي إليه، ووجدنا الكفارات في الحج مبنية على أن الجناية كلما كانت أغلظ، كانت الكفارة أغلظ، وكذلك، عامة العبادات، فلما كان ذلك كذلك أوجبنا في القبلة الَّتِي تؤدي إلى خروج المذي بقرة؛ لنكون قد غلظنا الكفارة بحسب غلظ الجناية، ولهذه الطريقة قلنا: إن من أمنى وجبت(1) عليه بدنة؛ لأن خروج المني أغلظ حكماً في جميع الأحكام من خروج المذي، ولم يوجب فساد الحج بالإمناء على ما حكي عن مالك وعطاء؛ لأن فساد الحج أقصى غاية التغليظ، فلم نوجبه إلاَّ بما يكون أقصى غاية الجناية في بابه، ووجدنا الجماع أغلظ من الإمناء؛ لأنَّه يتعلق بالجماع أحكام لا تتعلق بالإمناء، نحو الحدود، والصداق، فلم يلحق حكم الإمناء به، ولا فصل في جميع ما ذكرناه بين القبلة واللمس على ما بيناه. وقلنا: إن القبلة، واللمس، إذا لم يكونا لشهوة، فليس على المحرم لهما شيء؛ لأنه مُنِع من فعلهما على سبيل الشهوة؛ ولأنهما إذا لم يكن معهما شهوة، كان ذلك كلمس الجمادات، والبهائم، أو نحوها، فلا يلزمه شيء.
مسألة [في المحرمة تخضب يديها ورجليها، أو أصبعاً، وفي المحرم يقص ظفراً]
__________
(1) ـ في (ب): وجب.
قال: ولو أن محرمة خضبت يديها ورجليها في وقت واحد، فعليها فدية واحدة، وإن خضبت يديها، ثُمَّ خضبت رجليها، فعليها فديتان، وإن خضبت إصبعاً من أصابعها، فعليها في خضابها صدقة، نصف صاع من بر، وإن طَرَّفت أُنملة من أناملها، تصدقت بمقدار نصف مد، وكذلك إن طرفت أنامل يديها، أو بعضها، فعليها عن(1) كل أنملة خضبتها نصف مد. وإذا قصر(2) المحرم ظفراً، استُحِب له أن يتصدق بنصف صاع من طعام. جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (3). (45/14)
__________
(1) ـ في (ب): في.
(2) ـ في (ب): قص.
(3) ـ انظر الأحكام 1/321 وهو بلفظ قريب.
ووجه إيجاب الفدية في الخضاب أن الحناء طيب يُستَلذ رائحته، كما يستلذ برائحة الزعفران، ولا خلاف أن المحرم ممنوع من الطيب، وقد مضى القول فيه، وأيضاً أن الخضاب زينة، وعندنا أن المحرم ممنوع من الزينة بدلالة أنَّه ممنوع من اللباس، والمرأة ممنوعة من القفازين، ولما روي أن النبي صلى الله عليه آله وسلم قال في أهل عرفة: ((إن الله يباهي بكم الملائكة يقول عبادي أتوني شعثاً غبراً)) والشعث والغبرة خلاف الزينة، فإذا ثبت ذلك، جرى الخضاب مجرى قص الأظفار، ومجرى اللباس، واستعزال الطيب، فقلنا: أنَّها إذا خضبت يديها، ورجليها، في وقت واحد، فعليها فدية واحدة، كما قلناه فيمن لبس لباس البدن كله في وقت واحد على ما بيناه. وقلنا: إن خضبت يديها، ثُمَّ خضبت رجليها، فعليها فديتان؛ لأن اليدين في حكم العضو الواحد، وكذلك الرجلين، ألا ترى أن حكم الرجلين في لبس الخف حكم عضو واحد، فكذلك قلنا إن خضاب اليدين، وخضاب الرجلين، إذا كانا في وقتين، وجب لهما فديتان. وقلنا: إن خضبت إصبعاً، فعليها صدقة، نصف صاع من بر؛ لأن نصف صاع قائم مقام عُشْر شاة في الجزاء، والأصبع الواحدة حكمها حكم عشر اليدين، وقدرنا تطريف الأنملة بربع الإصبع، فإذا زاد الخضاب، أو نقص، كان التقدير بحسابه. وقلنا في الظفر: إذا قصه المحرم نصف صاع لما بيناه في الخطاب، وليس ذكر الاستحباب فيه لنفى /234/ الوجوب، وإنَّما هو إشارة إلى أن التقدير فيه طريقه الاجتهاد، ويجب على هذا أن يكون حكم قص الأظفار كلها، اليدين، والرجلين ـ في وقت واحد، أو وقتين، حكم الخضاب على ما بيناه. (45/15)
مسألة [في المحرم يتعمد قتل الصيد، وهو ذاكراً للإحرام أو ناسٍ له]
قال: ولو أن محرماً تعمد قتل صيد، ناسياً لإحرامه، أو ذاكراً له، فعليه الجزاء، والجزاء دم يريقه، أو إطعام، أو صيام. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2). (45/16)
والأصل فيه قول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ..} الآية.. وهذا مما لا خلاف فيه. وجعلنا له الخيار بين الكفارات الثلاث؛ لأن الآية تضمنت التخيير؛ إذ نسق بعضها على بعض بأو، مثل كفارات اليمين الثلاث. وقد اختُلف فيه إذا قتله خطأ، فذهب القاسم إلى أنَّه لا جزاء فيه، وعليه يدل كلام يحيى عليه السلام، وحُكِى أنَّه مذهب صاحب الظاهر، وحكاه ابن جرير في (الاختلاف) عن أبي شور.
ووجهه أنَّه قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلُهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ} فأوجب الجزاء بشرط التعمد، فكان ذلك دليلاً على أنَّه لا جزاء مع فقد التعمد الذي هو شرط فيه.
فإن قيل: ألستم توجبون الكفارة على قاتل العمد، وإن كان النص ورد في قاتل الخطأ، فما تنكرون على من أوجب الجزاء على قاتل الصيد خطأ، وإن كان النص ورد في العامد؟
قيل له: لا يمتنع أن يَرِد النص في الأدنى، فيُعرَفُ به حال الأعلى، وليس كذلك إذا ورد في الأعلى؛ لأنَّه لا يقتضي التنبيه على الأدنى؛ ولأنه قَتلٌ يصدر عنه حكم يختص نفس القاتل، فوجب أن لا يستوي عمده وخطؤه، فيما يقتضيه القتل، دليله قتل المسلم.
فإن قيل: قتل العبد يعترضه؛ لأنَّه يستوي [فيه](3) خطؤه وعمده، لأنكم لا توجبون فيه القصاص، وإنَّما توجبون فيه القيمة، وهو يستوي فيه العمد والخطأ؟
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/322 وفيه أن المتعمد وهو ذاكر للإحرام يجب عليه التوبة مع الجزاء.
(2) ـ انظر المنتخب 98 ـ 99 وفيه أيضاً ما في الأحكام.
(3) ـ سقط من (أ).
قيل له: تحصيل(1) الافتراق من وجه آخر، وهو أن القيمة في العمد من ماله، وفي الخطأ على عاقلته، فلم يحصل الاستواء. (45/17)
فإن قيل: فنحن ـ أيضاً ـ نقول أن حكم العمد والخطأ في قتل الصيد لا يستوي؛ لأن التوبة تلزم مع العمد، ولا تلزم مع الخطأ؟
قيل له: نحن إنَّما أوجبنا ألا يحصل التساوي فيما يوجبه القتل، والتوبة لا تجب للقتل، وإنَّما تجب لوقوعه على وجه قبيح مع أوصاف مخصوصة، ألا ترى أن كل فعل وقع على وجه يقبح، اقتضى التوبة؟ والقتل إذا تعرى من ذلك، لم يوجب التوبة، فبان أنَّها ليست مما يقتضيه القتل. ويقال لأصحاب الشافعي: هو قياس على من لبس مخيطاً، أو تطيب، بمعنى أنَّه فِعْلٌ حظره الإحرام، ولا يقع به فساد الحج، فوجب ألا يلزمه فيه الجزاء إذا وقع على وجه الخطأ، على أنَّه قد حكي عن الشافعي أن المسألة عنده على قولين، وحكى القطبي في (مسائل الخلاف) أن الشافعي عَلَّق القول فيه، وقياسهم في هذا الباب يضعف؛ لأنَّه يرفع حكم النص؛ لأن النص جعل العمد شرطاً فيه، وهم يرفعون ذلك قياساً.
فإن قيل: ألستم تقيسون قاتل العمد على قاتل الخطأ في إيجاب الكفارة، وإن كانت الآية وردت في قتل(2) الخطأ فما تنكرون مِنْ قياسنا قاتل الخطأ في جزاء الصيد على قاتل العمد؟
__________
(1) ـ في (ب): يحصل.
(2) ـ في (ب): قاتل.
قيل له: مِن أصحابنا مَن منع ذلك، ولم يوجب على قاتل العمد الكفارة، فيسقط(1) عنه هذا السؤال، فأما نحن فنرى الكفارة تلزم قاتل العمد، وقاتل الخطأ، ونفصل بين الموضعين بما مضى آنفاً في صدر هذه المسألة، وهو أن النص الوارد في حكم أدنى الأمرين من جنس واحد يكون منبهاً على حكم الأعلى منهما، إذا تضمن /235/ التغليظ، وما جرى مجراه، كما أن قوله تعالى: {وَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} يقتضي النَّهي عن الضرب والشتم لهما، وكما(2) أن نهيه عن البول في الماء الراكد، يقتضي النَّهي عن التغوط فيه، وإذا كان ذلك كذلك، لم يجب أن يضعف القياس الموجب لإلحاق حكم الأعلى بالأدنى، وليس كذلك النص الوارد في حكم أعلى الأمرين؛ لأنَّه لا يقتضي التنبيه على حكم الأدنى منهما، على أن قياسنا يستند إلى قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلِيْكُمْ فِيْمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وحكي عن مجاهد أنَّه كان يقول: لا جزاء على العامد؛ لأن جرمه أعظم من أن يُكَفِّر، وذلك ساقط فجميع(3) ما ذكرناه، ورتبناه، من مقتضى الآية. ولم يفصل يحيى ـ عليه السلام ـ بين العائد ـ والمبتدئ، فاقتضى ظاهر كلامه أنهما نسِيَّان في الجزاء، وحكى ذلك أبو العباس الحسني، عن محمد بن يحيى عليهم السلام، وهو الصحيح. (45/18)
__________
(1) ـ في (ب): فسقط.
(2) ـ في (ب): كما.
(3) ـ في (أ): لجميع.
وذهبت الإمامية إلى أَنْ لا جزاء على العائد؛ لأن الله تعالى ذكر الإنتقام [من العائد] (1) ولم يذكر الجزاء، وهو مذهب داود. والذي يدل على ما ذهبنا إليه عموم قوله سبحانه {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}، وهذا عموم في العائد والمبتدئ، وتخصيصه سبحانه العائد وبالانتقام لا يمنع هذا العموم من الاستغراق، وهو ـ أيضاً ـ قياس على المبتدئ، بعلة أنَّه مُحْرِمٌ قتل الصيد متعمداً، والأصول شاهدة لقياسنا؛ لأن الجنايات لا تختلف أحكامها بالابتداء والعود، وهذا أكثر من أن يحصى. (45/19)
مسألة [في الاستدلال على أن الاعتبار في الجزاء مماثلة الخلقة دون القيمة]
قال: فمن وجبت عليه بدنة، وأحب العدول عنها إلى الطعام، أطعم مائة مسكين، وإن اختار الصيام، صام مائة يوم، ومن وجبت عليه بقرة، واختار الإطعام، أطعم سبعين مسكيناً، وإن اختار الصيام، صام سبعين يوماً، ومن وجبت عليه شاة، واختار الإطعام، أطعم عشرة مساكين، وإن اختار الصيام، صام عشرة أيام. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3).
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ انظر الأحكام 1/322، 323، 324 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 99 وهو بلفظ قريب.
وهذه الجملة مبنية على أن المماثلة المطلوبة في جزاء الصيد مماثلة الخلقة دون القيمة، فنبدأ الكلام فيه، فنقول الدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فجعل سبحانه جزاء الصيد المقتول ما كان مثلاً له، فالمثل إذا أطلق في اللغة والعرف، جميعاً أراد ما ماثل الشيء، وسدَّ مسدَّه فيما يختصه من هيئته، أو خلقةٍ، أو نحوهما، ولم يرد به الإستواء في القيمة، يكشف ذلك أن القيمة ليست مما يختص(1) المقوم، وإنَّما هو تقدير الْمُقدَّر، وفعله، واختباره، ولذلك(2) تختلف أحوالها بحسب اختلاف الناس في أنفسهم، وأمكنتهم، وأزمنتهم، وأيضاً قد فصل العلماء بين ذوات الأمثال، وذوات القيم لفظاً، كما فصلوا بينها معنىً، وحكماً، فبان أن المماثلة إذا أطلقت، لم تفد المساواة في القيمة، وبمثله نطق لسان الشرع حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((البر بالبر مِثلاً بمثل)) والمراد به المماثلة من جهة القلة والكثرة اللتين يختصانه دون القيمة، فإذا ثبت ما بيناه لغة، وشرعاً، وعرفاً، وجب أن يُحمل قوله تعالى: {فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} على ما ذكرناه في(3) الخلقة، وما جرى مجراها، دون القيمة. (45/20)
فإن قيل: فقد قال كثير ممَّن ذهب إلى مذهبكم أن الْحَمَام مثل الشاة في العب(4) والهدير(5) وهما ليسا بخلقة، بل هما من جملة عاداتهما وأفعالهما، وإذا جاز أن يراد بالمماثلة ذلك، فَلِمَ لم يجز أن يراد بهما القيمة؟
__________
(1) ـ في (أ): يختص في المقوم.
(2) ـ في (ب): فلذلك.
(3) ـ في (ب): من.
(4) ـ العَبُّ: شرب الماء من غير مص كشرب الحمام والدواب. تمت قاموس
(5) ـ هدر الحمام: صوَّت، وهدر البعير ردد صوته في حنجرته. تمت قاموس.
قيل له: قد بينا أن المماثلة بين الشيئين إنَّما تستعمل إذا سد أحدهما مسد صاحبه بأمر يختصه، وأن القيمة لا تختص من جُعلت له /236/ لأنها اختبار المقوِّم، وتقديره، وليس كذلك العب والهدير؛ لأنهما يختصان الحمام والشاء، وليس يمتنع أن نقول(1): فلان مثل فلان في عمله، وإقدامه، وكثرة فضله وبذله، وكل ذلك من جملة الأفعال والعادات، ولسنا نمنع أن المماثلة تفيدها، ولكن امتنعنا من أن تفيد القيمة؛ لما بيناه ، فإن استعملت في شيء من المواضع على معنى المساواة في القيمة، فهو على سبيل المجاز، والاستعارة. (45/21)
فإن قيل: والمماثلة إن استعملت على الوجه الذي تذهبون إليه، وجب أن يدخلها التخصص(2)؛ إذ في الصيد ما لا مثل له في الخلقة، وما جرى مجراها، فإذا حملناها على التقويم، لم يجب أن يدخلها التخصيص؛ لأن التقويم ممكن، ومتأتٍ، في كل صيد، وحمل الآية على ما لا يوجب تخصيصها أولى من حملها على ما يوجب تخصيصها.
قيل له: وأنتم أيضاً فلا بد لكم من تخصيصها(3)؛ لأن من الصيد ما لا يبلغ قيمته قيمة شيء من النَعم، فلا بد من أن تخصوه، فإذا ساوينا في التخصيص لها على بعض الوجوه، كان ما ذهبنا إليه أولى؛ لأنَّه حقيقة المماثلة.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم المماثلة يجوز أن يراد بها في السِمَن، والعجف، والسن، وأنتم لا تقولون بذلك؟
قيل(4) له: خصصناه بدلالة الوفاق.
فإن قيل: فأنتم ترجعون فيما لا مثل له من جهة الخلقة ونحوها إلى التقويم، فثبت أن التقويم مراد بالمماثلة، فإذا(5) ثبت ذلك، لم يجب أن يكون غيرها مراداً بالآية، سيما على ما ذكرتموه من أن التساوي في القيمة يطلق عليه لفظة المثل مجازاً.
__________
(1) ـ في (أ): يقال.
(2) ـ في (ب): التخصيص.
(3) ـ في (أ) و (ب): تخصيصاً، والصواب ما أبتناه.
(4) ـ في (ب): قيل.
(5) ـ في (ب): وإذا.
قيل له: هذا السؤال ساقط عنا؛ لأنا نُجَوِّز أن يراد باللفظة الواحدة المجاز، والحقيقة معاً، وقد ذكرنا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا، على أنا لا نمنع أن يقال: إن حكم ما لا مِثل له من الأنعام من جملة الصيد في التقويم غير مأخوذ من الآية، فسقط السؤال. (45/22)
فإن قيل: وأنتم تبطلون حكم ذوي عدل، وقد أمر الله تعالى به؛ لأن الاعتبار إذا كان بالخلقة، وما جرى مجراها، لم يحتج إلى الحكم.
قيل له: لسنا نخرج في شيء من ذلك عن حكم ذوي عدل؛ لأن الصيد ينقسم ثلاثة أقسام: إما أن يكون له مثل قد حكم به السلف، فيُرجع إلى حكمهم أو يكون له مثل، ولا يُحفظ عن السلف فيه شيء، فيرجع في طلب المماثلة فيه إلى حكم ذوي عدل في الزمان. أو يكون مما لا مثل له، فيرجع في التقويم إلى حكم ذوي عدل. فلم نخرج عنه في شيء من الأحوال.
فإن قيل: المماثلة الَّتِي تذهبون(1) إليه طريقها الحس وما جرى مجراه(2)، فلا يُحتاج فيها إلى حكم ذوي عدل.
قيل له: لهذا تفاصيل ودقائق لا يمتنع أن يحتاج لها إلى اجتهاد مجتهد، وحكم حاكم، على أنَّه لو كان الأمر على ما تقولون، كان لا يمتنع أن يَرِد الشرع به، كما أنَّه لم يمتنع إن ورد الشرع بأن لا يحكم الحاكم بكثير مما يعلمه، حتَّى تقَع الشهادة به عنده.
فإن قيل: فإنه جعل للمساكين، ولا حظ لهم في إعتبار الخلق.
__________
(1) ـ في (ب): ترحبون.
(2) ـ في (أ): مجراها.
قيل له: لا يمتنع ذلك، ألا ترى إلى ما اشترط في الهدايا والأضاحي، من سلامه العين والأذن، وأن يكون من الأزواج الثمانية، وأن يكون لها سن دون سن، ولا حظ في شيء من ذلك للمساكين، ومما يدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا الحجاج بن المنهال، حدثنا جرير بن حازم، حدثنا عبيد الله بن عبيد بن عمير، حدثنا ابن أبي عمار، عن جابر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الضبع، فقال: ((هي من الصيد)) (1)، وجَعَل فيها كبشاً إذا أصابها المحرم. فلما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الضبع كبشاً من غير اعتبار قيمتها، ولا اعتبار الأحوال في الأزمنة والأمكنة، دل على أنَّه صلى الله عليه وآله لم /237/ يعتبر فيها القيمة، وإنَّما اعتبر فيها الخلقة. (45/23)
فإن قيل: فإن بينه وبين الشاة في الخلقة فرقاً.
قيل له: من المعلوم أنَّه بالشاة أشبه منه بالبعير، والبقر، ألا ترى أنَّه مع بعض الالتباس يشتبهان عليه و[ليس](2) كذلك الضبع والبقر.
ومما نعتمده(3) في هذا الباب أنَّه إجماع الصحابة، يدل على ذلك: ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أنَّه قال في النعامة: بدنة.
وروى ابن أبي(4) شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن ابن جريج، عن عطاء، أن عمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، قالوا في النعامة بدنة.
وفي حديث زيد بن علي عليه السلام أن علياً عليه السلام قال في الظبي شاة.
وروى ابن أبي شيبة ـ بأسانيده ـ أن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، حكما في الظبي بشاة. وروى بإسناده أن عبد الرحمن، وسعداً، حكما في الظبي بشاة(5).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/164 وفيه عبد الله بن عبيد.
(2) ـ سقطت من (ب) وظنن عليها في الهامش.
(3) ـ في (ب): يعتمد.
(4) ـ أخرجه ابن ابي شيبة في المصنف 3/302 وزاد فيه ومعاوية.
(5) ـ في (ب): تيساً.
وقضى علي، وابن عباس، وعمر، في الضبع بكبش(1). وقضى عمر، وعبد الله، في اليربوع بجفزة. (45/24)
وروى هناد بإسناده، عن عمر، أنَّه قضى في الضب بجدي. وروى ـ بإسناده ـ عن عمر، وابن عباس، وعثمان، في الحمام بشاة، وروى نحوه، عن ابن عمر، وروى هناد بإسناده، عن عطاء، عن ابن عباس، كل حمامة سمتها(2) العرب حمامة، ففيها شاة. وروى ـ أيضاً بإسناده ـ عن عطاء، عن ابن عباس، قال في القمري، والدبسي، والحجل، واليعقوب، والحمام الأخضر، شاةً شاة، فلما وجدنا الصحابة حكموا في هذه الأشياء بما ذكرنا حكماً واحداً، ولم يراعوا اختلاف الأحوال، والأزمنة، والأمكنة، مع علمنا أن القيم تختلف باختلاف ما ذكرنا، علمنا أنهم لم يراعوا التقويم بتة، فإذا بطلت مراعاة التقويم، صح ما ذهبنا إليه من أن الواجب مراعاة الخلقة، وما جرى مجراها، ومما يكشف أنهم لم يراعوا التقويم، أنَّه لم يُروَ عن أحد منهم أنَّه حين سُئل عن قتل شيء منها، تَعرَّفَ حاله، في صغره، وكبره، وسمنه، وهزاله، ومكانه، بل أطلق القول والجواب، وكل ذلك مما يتغير به القيم، فلو كانت القيم تراعى، لكانوا يسألون عن أحولها الموجبة لتغيير قيمتها، وفي إغراضهم عن ذلك دلالة على أنهم راعوا الخلقة، وما جرى مجراها.
ومما يدل على أنَّه لا يجب أن يراعى فيها القيم، أنَّه إتلاف حيوان، أوجب إتلاف حيوان فوجب أن لا تراعى فيه التقويم، دليله القصاص بين العبدين، ويدل على ذلك أنَّها كفارة قتل يدخل فيها الحيوان، فوجب أن لا يراعى فيها القيمة، دليله كفارة القتل.
فإن قاسوا ما اختلفنا فيه على ما استُهلك من سائر الحيوان في باب الضمان، كان ذلك شاهداً لقياسنا؛ لأنَّه لما لم يكن إتلاف حيوان وجب عليه إتلاف حيوان، وجب أن يراعى فيه القيمة، وكذلك لما لم يكن الضمان ضمان الكفارة(3) وجب أن يراعى فيه القيمة.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/254 ولم يذكر عمر.
(2) ـ في (ب): تسميها.
(3) ـ في (أ): الكفارة.
فصل [في من لزمته شاة وأحب العدول إلى الإطعام والصيام] (45/25)
فإذا ثبت ما ذكرناه من أن الاعتبار في الجزاء مماثلة الخلقة، قلنا: من لزمته شاة، وأراد العدول عنها إلى الصيام، صيام عشرة أيام، وإن أراد العدول عنه إلى الإطعام، أطعم عشرة مساكين؛ لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَىْ الْحَجِّ مِمَّا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وقد عُلم أن أدناه شاة، لا خلاف في ذلك، ثم قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِيْ الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، وقيل في التفسير كاملة في معادلة الشاة، ثُمَّ جعل تعالى في كفار الظهار بدل كل يوم من الصيام إطعام مسكين بقوله تعالى: {فَمَنْ لَّمْ /238/ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مَتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِيْنَ مِسْكِيْناً}، وهكذا ورد، والسنة في كفارة شهر رمضان، ولا خلاف في فدية صوم رمضان إن إطعام مسكين يقوم مقام صيام يوم، فلذلك قلنا: أنَّه إن عدل عن الصيام إلى الإطعام، أطعم عشرة مساكين.
فإن قيل: فهلا اعتبرتم بصيام فدية الأذى، وإطعامه(1)؟
قيل له: أما الإطعام، فلا خلاف أنَّ الاعتبار فيه ما اعتبرناه؛ لأن الجميع على اختلافهم في أحكام الجزاء، لم يختلفوا أن صيام يوم، وإطعام مسكين، يقوم كل واحد منهما مقام صاحبه، فلا سؤال علينا فيه، وأما صيام الفدية فهو أيضاً، مما لم يعتبره أحد في بدل الشاة إلاَّ في الموضع الذي ورد فيه النص على أن فدية الأذى ورد حكمها مخالفاً المأصول؛ لأنا لم نجد في شيء من الأصول إطعام مسكين مقام صوم يوم واحد، فلما كان حكمه وارداً بخلاف حكم الأصول، كان الاعتبار الذي اعتبرناه أولى من الاعتبار بحكمها.
__________
(1) ـ في (ب): طعامه.
فإن قيل: فما الدليل على أن الاعتبار الذي ذكرتم أولى من اعتبار قيمة الشاة والطعام، أو اعتبار قيمة الصيد والطعام؟ (45/26)
قيل له: الدليل على ذلك أنا وجدنا الجزاء الذي هو الهدي(1) لا يدخله التقويم [فكذلك الإطعام] (2) قياساً عليه، والمعنى أنَّه جزاء صيد له مَثل مطلوب، فكل جزاء صيد له مثل مطلوب لا يدخله التقويم، وأيضاً وجدنا كفارة الأذى متى عدل فيها من جنس إلى جنس، عدل بغير تقويم، فوجب أن تكون كذلك كفارة قتل الصيد؛ والعلة أنَّها كفارة [قتل](3).
فإن قيل: فكيف قستم على فدية الأذى، وقد قلتم أن حكمها ورد مخالفاً لحكم الأصول؟
__________
(1) ـ في (أ): الإطعام.
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ سقط من (ب).
قيل له: إنَّما أردنا بذلك حكماً واحداً، وهو تقدير الصيام، بالإطعام، والنسك ، فأما في الوجه الذي قسنا عليه، فلم نقل ذلك، كيف والكفارة كلها شاهدة لما ذكرناه ألا ترى أن كفارة القتل، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين، وكفارة صيام شهر رمضان، متى عُدِل في شيء منها إلى جنس، لم نعتبر فيه القيمة. ومما يؤكد ما ذهبنا إليه أن اعتبارنا يستند إلى النص، واعتبارهم يستند إلى اجتهاد بعد اجتهاد، والاعتبار المستند إلى النص يجب أن يكون أقوى من الاعتبار المستند إلى الاجتهاد، كما(1) أن النص أقوى من الاجتهاد، يكشف ذلك أنا رجعنا في اعتبارنا إلى الصيام المنصوص عليه في بدل الشاة، وهم رجعوا في اعتبارهم إلى تقويم الجزاء أو الصيد على حسب الخلاف فيه، والتقويم ضرب من الاجتهاد، ثُمَّ رجعوا بعد هذا التقويم إلى اجتهاد آخر وهو تقويم الإطعام، ثُمَّ أسندوه إلى تقديره بالصيام الذي هو المنصوص عليه، فبان أن اعتبارنا وليه النص، وأن اعتبارهم وليه الاجتهاد بعد اجتهاد وليه النص، فوضح ما ادعيناه من قوة اجتهادنا، وترجيحه على اجتهادهم، ووجه آخر وهو أنا اعتبرنا الإطعام، وهو أضعف رتبة في الكفارات، بالصيام الذي هو أقوى رتبة فيها، وهم اعتبروا الصيام الذي هو الأقوى، بالإطعام الذي هو الأضعف، وهذا خلاف موضوع الاعتبار؛ لأن لاعتبار موضوع على أن يُرد الأضعف إلى الأقوى. (45/27)
فإن قيل: ولم ادعيتم أن الإطعام أضعف رتبة في الكفارة من الصيام؟
قيل له: لأنا وجدنا الصيام ثبت في أغلظ الكفارات دون الإطعام وهو كفارة القتل، ووجدنا كفارة الظهار رُتب فيها الصيام على الإطعام، وكذلك كفارة الصيام عند أكثر العلماء، فدل ذلك على ما ذكرناه من قوة /239/ رتبة الصيام في الكفارات.
فإن قيل: فقد أُخِرت رتبه الصيام في كفارة اليمين عن(2) رتبة الإطعام؟
__________
(1) ـ في (أ): كما.
(2) ـ في (ب): على.
قيل له: قد حصلت له قوة أخرى، وهي أنَّه جعل صيام ثلاثة أيام بدل إطعام عشرة مساكين، ووجدنا أيضاً في فدية الأذى قد حصلت له هذه المزية، ولا مزية إلاَّ ما ذهبنا إليه من استيفاء تقدير الإطعام منه، فصح ما ذكرناه. (45/28)
فصل [فيمن لزمته بدنة أو بقرة، وأحب العدول إلى الصيام أو الإطعام]
فإذا ثبت في الشاة ما ذكرناه، وجب أن يَعدل عن البقرة ـ من أراد الصيام ـ إلى صيام سبعين يوماً؛ لأنَّه لا خلاف أن البقرة تقوم مقام سبع شياة في الهدايا عند عامة العلماء، وقد دلت الدلالة على ذلك على ما نبينه في موضعه. وجب(1) أن يَعدل عن البدنة من أراد الصيام إلى صيام مائة يوم؛ لأن الدلالة عندنا قد دلت على أن البدنة تقوم مقام عشر شياة في الهدايا نستقصي الكلام فيه في مواضعه(2) إذا أتينا إليه إن شاء الله تعالى، فإذا ثبت أن من أراد العدول في المسلمين عن الصيام إلى الإطعام، أطعم المساكين بعدد الأيام، إذ لا خلاف أن الإطعام يجب أن يكون بعدد الصيام، وقد دلت الدلالة على ذلك على ما بيناه.
مسألة [في جزاء قتل النعامة، وحمار الوحش، وبقرة الوحش، والظبي، والوعل، والثعلب، والحمام، والدبس، والقمري، والرحمة، واليربوع، والضب، والضبع].
قال: ومن قتل نعامة، فعليه بدنة. وفي حمار الوحش بقرة، وكذلك في بقرة الوحش، وفي الظبي شاة، وكذلك في الوعل، والثعلب، والحمام، وكذلك في الدبسي، والقمري، والرحمة شاة شاة. وفي اليربوع، والضب، عناق من المعز. ومن قتل ضبعاً، فعليه شاة إن قتله في موضع لا يفترس فيه، فإن(3) قتله في موضع يفترس فيه، فليس عليه فيه شيء. وهذه الجملة منصوص على بعضها في (الأحكام)(4) وعلى بعضها في (المنتخب) (5).
__________
(1) ـ في (أ): فوجب.
(2) ـ في (ب): موضعه.
(3) ـ في (ب): وإن.
(4) ـ انظر الأحكام 1/234.
(5) ـ انظر المنتخب 150 وهو بلفظ قريب.
أما النعامة فأوجبنا فيها البدنة، لما رويناه فيما مضى عن أمير المؤمنين عليه السلام، وعمر، وغيرهما، ولم يختلفوا فيه. وأوجبنا في بقرة الوحش بقرة؛ لأنها أشبه الحيوان بها خلقةً وهيئة، وروى ذلك عن كثير من العلماء. وقلنا: إن في حمار الوحش بقرة؛ لأن خلقه بخلق البقرة أشبه منه بخلق البعير، والناس فيه على أحد القولين(1) ـ أعني الذين اعتبروا الخلقة ـ فقائل قال فيه بدنة، وقائل قال: فيه بقرة، ووجدنا البقرة أشبه، فأوجبنا فيه بقرة، على أنا وجدنا بقرة وحش، خيراً من حمار وحش، فلم نوجب فيه أفضل مما أوجبنا في البقرة [الوحشية] (2)، وليس يعترض علينا إيجابنا البدنة في النعامة؛ لأن النعامة لم(3) يختلف فيها، وليس يتجاذبها في الشبة البدنة والبقرة، بل كانت بالبدنة أشبه، فلذلك أوجبنا فيها البدنة، على أن القائلين فيه بالبدنة يجوز أن يكونوا أرادوا بذلك البقرة؛ إذ البقرة يعبر عنها باسم البدنة، إذ روى في بقر الوحش بدنة، ومن البعيد أن يكون المراد به الجزور مع القول باعتبار الخلقة في الجزاء وظهور الشبه بين البقر، وبقر الوحش. وقلنا في الظبي شاة، لما رويناه عن السلف فيه؛ ولأنه أشبه الصيد بالشاة، خلقة وهيئة، وكذلك قلنا في الوعل للشبه الذي ذكرناه، والثعلب ـ أيضاً ـ فقد روي فيه ذلك. وأما الحمام، فقد روي عن عدة من الصحابة أن فيه شاة، وروي ذلك عن أمير المؤمنين كرم(4) الله وجه ولا خلاف فيه يبن القائلين باعتبار الخلقة، والقمري والدبسي ونحوهما، فقد(5) روي ذلك عن ابن عباس على ما سلف القول فيه، وروي عن عمر وعبد الله في اليربوع ما ذكرناه، وروي /240/ عن عمر في الضب مثله على ما قدمناه، والضبع قد ذكرنا فيما مضى ما ورد فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن أمير المؤمنين، ثُمَّ عن سائر الصحابة، واعتبرنا فيه (45/29)
__________
(1) ـ في (ب): قولين.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ في (أ): لا.
(4) ـ في (ب): عليه السلام.
(5) ـ في (ب): قد.
الفَرْس لما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام فيما مضى؛ ولأنه لا خلاف أن الضبع وغيره من السباع إذا عدا على المحرم، وخشي المحرم ذلك، فلا شيء عليه في قتله. (45/30)
مسألة [في حكم دلالة المحرم على الصيد]
قال: وإذا دل المحرم غيره على الصيد، فقتله بدلالته، فعليه الجزاء. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب)(2). وهو قول سعيد بن جبير، وعطاء، والشعبي.
والدليل على ذلك: ما رواه هناد ـ بإسناده ـ أن امرأة جاءت إلى ابن عباس رضي(3) الله عنه فقالت: إني رأيت أرنباً، وأنا محرمة، فأشرت إلى الكِرَي، فقتلها، فحكم ابن عباس عليها بالجزاء.
وروى ـ بإسناده ـ أن محرَمين أحاش أحدهما ضبياً، قتله وقلته الآخر، فحكم عليهما عمر، وعبد الرحمن بن عوف، بشاة شاة.
وروى ـ بإسناده ـ عن نافع، عن ابن عمر قال: ((المحرم لا يشير [إلى الصيد](4) ولا يصيد ولا يدل عليه)) وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: ((لا يقتل المحرم الصيد، ولا يشير إليه، ولا يدل عليه)). فلما ثبت ذلك عنهم، ولم يُروَ عن أحد من الصحابة خلافه، كان إجماعاً، ويؤكد ذلك ما في حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: هل أشرتم؟، هل أعنتم؟ ولا وجه إلاَّ إيجاب الجزاء عندنا، إذ قد ثبت انه لا تأثير لعدم الإشارة والإعانة في جواز الأكل، فكل ذلك يدل على وجوب الجزاء على الدال، ومما يدل على ذلك أنا لا نختلف أن مُحرِماً لو أمسك الصيد حتَّى يقتله الحلال، أن عليه الجزاء، فكذلك الدال؛ لأن كل واحد منهما قد فعل السبب المؤدي إلى قتله.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/325 وزاد وقيمته.
(2) ـ انظر المنتخب 100 وهو بلفظ مقارب.
(3) ـ في (ب): رحمه الله.
(4) ـ سقط من (ب).
فإن قاسوه على من دل آخر على قتل رجل حتَّى قتله، أن الضمان على القاتل دون الدال؛ بعلة أنَّه لم يفعل إلاَّ الدلالة، كان قياسنا أولى؛ لأن موضوع جزاء الصيد أن يلزم بالسبب والإعانة، ألا ترى أن المحرِم لو طرد صيداً مع الحلال، وقتله الحلال، أنَّه يلزم(1)؟ الجزاء، وليس كذلك حال الإنسان، فإن رجلين لو تعاونا على قتل رجل، وباشر القتل أحدهما، كان الضمان على المباشر دون من أعانه، وليس كذلك الحال في الصيد، فلما كان الأمر على ما وصفنا، وكان قياسنا أذهب في الباب الذي وضع عليه جزاء الصيد، فكان أولى، ومما يؤكد ما ذهبنا إليه: ما أخبرنا به أبو الحسين البروجردي، حدثنا أبو بكر الدينوري، حدثنا أبو بكر محمد بن الفرج، ومحمد بن غالب بن حرب، قالا: حدثنا عازم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن إبان بن تغلب، عن الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي مسعود الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الدال على الخير كفاعله)). فجعل حكمَ الدال حكمَ الفاعل، فوجب أن يكون الدال على قتل الصيد كقاتله. (45/31)
مسألة [في الصيد في الحرم ما يوجب؟ وهل يسقط الجزاء القيمة؟]
قال: وإن(2) كان في الحرم، فعليه القيمة مع الجزاء، فإن أُفزع بدلالته، أو إشارته، فعليه الصدقة بقدر ذلك، ولو أن محرماً قتل شيئاً مما ذكرناه في الحرم، فعليه قيمة ما قتل، مع الجزاء. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3) و(المنتخب) (4).
اعلم أن هذه الجملة تشتمل على أن المحرم إذا قتل صيداً، فعليه الجزاء، وهذا مما لا خلاف فيه، ونطق به نص القرآن، وقد مضى الكلام /241/ فيه، وعلى أن قتل الصيد في الحرم يوجب القيمة، وهو الذي يخص هذا الموضع، وعلى أن وجوب الجزاء لا يسقط وجوب القيمة، وسنبينه من بعد إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ـ في (ب): ويلزمه.
(2) ـ في (ب): فإن.
(3) ـ انظر الأحكام 1/324 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر المنتخب 99 ـ 100 وهو بلفظ مقارب.
والذي يدل على أنَّه لابد فيه من الضمان ـ خلافاً على ما حكي من قول داود أنَّه لا شيء عليه ـ ما رواه هناد بإسناده، عن عطاء، عن ابن عباس أنَّه قال في بيضتين من بيض حمام مكة درهم، ولا مخالف له في الصحابة، وـ أيضاً ـ وجدنا صيد الحرم قد مُنع من قتله لحق الغير منفرداً به عن المقتول، فوجب أن يكون مضموناً. (45/32)
دليله الحيوانات الَّتِي لا يؤكل لحمها إذا لم يكن منها على أحد ضرر، سواء كانت ملكاً لأحد، أو لم تكن ملكاً، وذلك أن المنع من قتلها لا من شيء يرجع إلينا، وهو أنَّه لأمر يُفعل بها لا لعوض، فيكون ظلماً، وليس كذلك حال الصيد في الحرم؛ لأنَّه لو كان في غير الحرم، لجاز ذبحه، فالمانع من قتله ليس هو لأمر يرجع إليه، وإنَّما هو لأمر(1) يرجع إلى الحرم، فوجب أن يكون تعليلنا صحيحاً.
فإن قيل: ولِم قلتم إنَّه ممنوع من قتله في الحرم إذا كان القاتل حلالاً؟
قيل له: لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((هي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا يُنَفَّرُ صيدها)).
فإن قيل: أليس أصحابكم يقولون في الجمل إذا صال على إنسان، فقتله، لا يضمن، فكيف تصح علتكم؟
قيل له: نحن شرطنا في علتنا أن يكون المقتول ممنوعاً من قتله، وفي الحال الذي(2) ذكرتم لا منع من قتل الجمل، بل يصير قتله واجباً، فكيف يعترض ذلك على علتنا؟ فثبت بما ذكرنا، وجوب الضمان فيه.
__________
(1) ـ في (ب): أمر.
(2) ـ في (ب): التي.
واختلفوا في ماهية ضمانه، فذهب الشافعي إلى أن ضمانه ضمان الصيد إذا قتله المحرم سواء، وهو قول مالك. وعن أبي حنيفة فيه روايتان، أحدهما الرواية المشهورة أنَّه مخير بين الهدي، والإطعام، وهو قول أبي يوسف. والرواية الثانية: ذكرها أبو بكر الجصاص في (شرحه المناسك) لمحمد، ذكر أن الحسن بن زياد، روى عن أبي حنيفة أن عليه الصدقة(1)، وأن الهدي لا يجزيه، إلاَّ أن يكون قيمته مذبوحاً حين تصدق به(2) قيمة الصيد. قال: وهو قول زفر، ولا خلاف عنه أنَّه(3) لا يجزي الصيام وهو قريب مما نص عليه يحيى عليه السلام. (45/33)
والدليل على صحته أنَّه منع من ذبحه(4) واستهلاكه لحق الغير من دون أمر يختص القاتل، فوجب أن يُشهد لهذا الاعتبار بسائر الأموال الَّتِي تستهلك على أربابها في أن الواجب فيها هو القيمة.
فإن قيل: إن القياس إنما يسوغ ما لم يرفع النص، وهاهنا نص مخالف مذهبكم، وهو قول الله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية.
قيل له: إن المحرم إذا أطلق في عرف الشرع، عُقِل به من انعقد عليه الإحرام دون من يدخل الحرم، وإن كان لا يبعد أن يقال لمن أتي الحرم محرم من جهة اللغة، كما يقال: مُنَجِّد، ومُتَهِّم، لمن أتى نجد، أو تهامة، إلاَّ أن الخطاب الوارد عن الله تعالى يجب حمله على عرف الشرع، فإذا ثبت ذلك، لم يجب أن يكون من دخل الحرم مراداً بالآية، على أن الاسم لو كان يتناولهما على التحقيق، كان لا يمتنع أن يخصى منه الحلال إذا قتل صيداً في الحرم بالقياس الذي ذكرناه، ويقال لأصحاب أبي حنيفة: إذا قالوا بالرواية عنه المشهورة ـ في هذا الباب ـ لا نختلف أنَّه لا يجزي في جزائه الصوم، فوجب أن لا يجزي فيه غير القيمة، دليله صيد المملوك.
فإن قيل: فهلا قستموه على الكفارة بعلة أن المانع من قتله ليس بحق الآدمي؟
__________
(1) ـ في (ب): لصدقه.
(2) ـ في (أ): فيلزمه قيمة.
(3) ـ في (ب): أن الصيام لا يجزي.
(4) ـ في (ب): قتله.
قيل له: لأنا وجدنا الكفارات إنَّما تلزم فيما يكون المنع منه حقاً للمقتول، أو أمراً يختص القاتل، وقيم المتلفات تجب على غير هذين الوجهين، فوجدنا استهلاك الصيد في الحرم أشبه بالاستهلاك(1) الواجب للقيمة منه بالاستهلاك للكفارة، على أن القياس المجمع على صحته أولى من القياس المختلف في صحته، ولا خلاف [في] (2) أن إثبات القيم قياس /242/ جائز، واختلفوا في إثبات الكفارة قياسنا، فصار قياساً متفقاً على جوازه، فكان أولى، على أن الأصل في الضمانات، والاستهلاكات، القيم دون ما سواها، فكان ما ذهبنا إليه أجرى على الأصول، فوجب أن تكون القيمة هي اللازمة فيه، وإن جزاء الصيد الذي يقتله المحرم ليس بعوض له، بل هو كفارة فعله؛ لأن قتل الصيد في غير الحرم مباح، وإنَّما حُظِر على المحرم لإحرامه، وليس كذلك الصيد في الحرم؛ لأنَّه غير مباح فيه على وجه من الوجوه. (45/34)
فإن قيل: [لم] (3) أجزتم جزاءه في باب اللزوم، والأذى، مجرى الكفارات، فأوجبتموه على الدال، وأوجبتموه تاماً على كل واحد من المشتركين فيه على ما ذهب إليه مالك؟
__________
(1) ـ في (ب): باستهلاك الموجب.
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ سقط من (أ).
قيل له: لأنا وجدناه في باب الأذى، واللزوم، بالكفارات أشبه منه بالضمانات؛ لأنا وجدناه لا يتوجه على القاتل المطالبة، فلا مساغ فيه للأبراء والصفح، فوجب أن يكون سبيله سبيل الكفارات، على أنه لا خلاف أن في الأذى يجري مجرى الكفارات؛ لأن الشافعي يجعله كفارة في التقدير واللزوم والأذى، وأبو حنيفة يجعله في حيز الكفارة أيضاً؛ لأنَّه يجوز فيه الهدي، وإن اختلفت الرواية عنه في حكم الهدي، فلا معتبر بامتناع من إجراء سمة الكفارة عليه إذا جعل حكمه حكمها، على أنا وجدنا الأذى فيه في حكم أذى سائر الحقوق الَّتِي هي لله تعالى، فذلك أجريناه مجرى الكفارات. وقلنا: إن المحرم إذا قتل صيداً في الحرم لا يسقط عنه القيمة؛ لوجوب الجزاء، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي، وموافقة لزيد بن علي عليهما السلام؛ لأنا وجدنا جهتي وجوبهما مختلفتين على ما بيناه، فوجب أن تلزمه القيمة مع الجزاء، قياساً على المحرم إذا قتل صيداً مملوكاً في أنَّه يلزمه القيمة مع الجزاء، وقياساً على من قتل عبداً لغيره في أنَّه يلزمه القيمة مع الكفارة، والعلة أنَّه اختلاف الوجهين ووجوبهما(1)، ويقال لأبي حنيفة: قد اتفقنا أن القارن إذا قتل صيداً، فعليه جزاءان، فكذلك إذا قتله المحرم في الحرم، والمعنى أنَّه هتك حرمتين، على أن أبا بكر حكى في (شرح الناسك) لمحمد، عن أصحابهم، أنهم قالوا: إن القياس أوجب(2) أن القيمة لا تسقط الجزاء، لكنهم أسقطوه استحساناً، على أنا وجدنا الأصل في حقوق الأموال لا تداخل فيها، وإن بعضها لا يسقط بعضاً، فكان ما ذهبنا إليه أولى، وفيه إيجاب، واحتياط، فهو أولى، وقد مضى الكلام فيما يجب بالإفزاع. (45/35)
مسألة [في المفرد، والقارن، والحلال يشتركون في قتل صيد في الحرم]
__________
(1) ـ في (ب): في وجوبهما.
(2) ـ في (ب): يوجب.
قال: ولو اشترك مفرد، وقارن، وحلال، في قتل صيد في الحرم، فعلى القارن جزاءان، وقيمة الصيد، وعلى المفرد جزاء واحد، والقيمة، وعلى الحلال القيمة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب)(2). (45/36)
وقد بينا أن الذي يلزم لحرمة الحرم هي القيمة، وأن سبيلها في باب اللزوم، والأذى، سبيل الكفارات، وسنبين الكلام بعد هذه المسألة في أن على القارن جزاءين، والذي يجب أن يُبين في هذا الباب هو أن الجماعة من المحرمين لو اشتركوا في قتل صيد، فعلى كل واحد منهم جزاء واحد، وهو قول الشافعي.
والدليل على ذلك قول الله(3) تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ} و((من)) من ألفاظ العموم الموجبة للاستغراق، فاقتضى العموم إيجاب الجزاء على كل من يحصل قاتلاً للصيد وهو محرم، اجتمعوا، أو تفرقوا.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/ 325 وهو بلفظ قريب، ونصه في الظبي.
(2) ـ انظر المنتخب 100 وهو بلفظ قريب كالأحكام.
(3) ـ في (ب): قوله تعالى.
فإن قيل: فإن الله تعالى أوجب فيه جزاء واحداً بقوله: {فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ}، فوجب أن يكون الذي يلزم لقتل كل صيد جزاء واحداً على كل قاتل صيد، بقوله: {فَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءُ}، كما أوجب على كل قاتل مؤمن رقبة، بقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ} فكان الحكم راجعاً إلى كل واحد من القاتلين، فكذلك المذكور في آية الصيد، يبين ذلك أن قائلاً لو قال: من دخل الدار، ألبسته ثوباً، كان الثوب المذكور ـ وإن كان واحداً ـ راجعاً إلى كل من دخل الدار، ولم يجب أن يشترك جماعة الداخلين في الثوب الواحد، فكذلك يجب أن يكون جزاء الصيد، على أن الجزاء مصدر، وهو لا يختص بعدد، فلا معنى لقولهم أنَّه أوجب مِثلاً واحداً، ومما يدل على ذلك أنَّه كفارة قتل، فوجب أن لا يقع فيها الاشتراك، دليله كفارة قتل المؤمن. (45/37)
فإن امتنعوا من إطلاق اسم الكفارة عليه، كان ذلك باطلاً، لقوله تعالى: {أَوْ كَفَارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِيْنَ} ولا خلاف أن عِدةً من المحرمين لو اجتمعوا على عدة من الصيد، فقتل كل واحد منهم صيداً، أنَّه يلزم كل واحد منهم جزاء، فكذلك لو اجتمعوا، والصيد واحد، والعلة أن كل واحد منهم أدخل نقص الصيد على إحرامه، فوجب(1) أن يلزمه جزاء كامل، ومما يبين صحة هذا العلة، أنا قد علمنا أن الاعتبار إنَّما هو بالنقص الداخل على الإحرام، ألا ترى أن المانع من القتل هو حرمة الإحرام. وأن حلالاً لو شارك المحرم في القتل، لم يكن على الحلال شيء؟
فإن قيل: على القياس الأول، ما أنكرتم أن ذلك لا يجوز أن يكون كفارة؛ لأنَّه يزيد وينقص بحسب المقتول، ولا يستقر على أمر واحد؟
__________
(1) ـ في (أ): وجب.
قيل له: هذا الاعتبار يرده النص، على أنَّه لا يمتنع أن تكون الكفارة تزيد وتنقص، وإن كان فيها ما لا يزيد، ولا ينقص، كما أن في غير الكفارة ما لا يزيد، ولا ينقص، وقياسنا يقتضي الإيجاب، والاحتياط، ومزية القرب، فكان أولى. (45/38)
مسألة [في القارن إذا فعل شيئاً من محظورات الإحرام، كم عليه من الجزاء؟]
قال: والقارن إذا قتل صيداً في غير الحرم، فعليه جزاءان، وكذلك إن لبس ما لا يجوز له لبسه، أو تداوى بدواء فيه طيب، فعليه في كل ذلك جزاءان.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب) (2). وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وقال مالك، والشافعي، عليه جزاء واحد.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/321، 325 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 100 وذكر فيه جزاء الصيد فقط.
ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه هتك حرمة إحرامين بقتل الصيد، فوجب أن يلزمه جزاءان، كما إنه لو كان مفرداً لكل واحد من الاحرامين، لزمه ذلك، لهتك كل واحد منهما، وقد بينا في مسألة وجوب الطوافين على القارن أنَّه محرم بإحرامين، واستدللنا عليه بافتقاره إلى تبيين نية الحج، ونية العمرة، ومما يبين ذلك أن الإحرام جزءٌ من العمرة، وجزءٌ من الحج، والقول بأن القارن ليس له إلاَّ إحرام واحد، يؤدي إلى القول بأن الحج والعمرة شيء واحد، وفي هذا إخراج له من أن يكون قارناً إلى أن يكون مفرداً، على أن قولهم هذا، يؤدي إلى أن لا يكون بين القارن وبين المفرد فرقٌ بوجه من الوجوه؛ لأنهم لا يوجبون على القارن إلاَّ ما يجب على المفرد، وعلى هذا لا معنى لوجوب الدم على القارن، على(1) أنا نعبر عن الفرض بعبارة لا يمكنهم الممانعة فيها، وإن كانت ممانعتهم ظاهرة الفساد فنقول: لَمَّا ثبت أنَّه قد /244/ أدخل النقص بذلك على الحج والعمرة، وجب أن يلزمه لكل واحد منهما جزاء، كما في حال الانفراد، ولا خلاف أن القارن إذا جامع، أدخل الفساد على الحج والعمرة جميعاً، بدلالة أنَّه يلزمه قضاؤهما، فكذلك إذا قتل صيداً، يجب أن يكون قد أدخل النقص على كل واحد منهما، فصح بذلك ما عبرنا، واطرد قياسناً. (45/39)
فإن قاسوه على المفرد؛ بعلة أن الصيد المقتول واحد، فوجب أن يلزمه جزاء واحد، كان قياسنا أولى؛ لأنا قد بينا ـ في المسألة الَّتِي تقدمت هذه ـ أن الاعتبار إنَّما هو بالنقص الحادث في الإحرام، دون الصيد، يكشف ذلك أنَّه لا نقص يطرو على الإحرام إلاَّ ويوجب حكماً، وليس كذلك قتل الصيد؛ لأن الصيد قد يقتله الحلال، ولا يلزمه شيء، فإذا صح أن الاعتبار هو بإدخال النقص على الإحرام على ما بيناه، أن قياسنا أولى من قياسهم.
__________
(1) ـ في (ب): على ما نعبر على الفرص ولا يمكنهم الممانعة فيها. ونبه في الهامش على ما ذكرناه نقلاً عن شرح القاضي زيد.
فإن قيل: أليس القارن لا يلزمه إلاَّ حلق واحد، أو تقصير واحد، ولو كان مفرداً بالحج، أو العمرة، لزمه لكل واحد منهما حلق، أو تقصير، فما أنكرتم أن يكون لا يلزمه إذا قتل الصيد [لا يلزمه] (1) إلاَّ جزاء واحد، [وإن كان مفرداً لزمه جزاءان] (2). (45/40)
قيل له: لأن الحلق، أو التقصير، خروج من الإحرام، فإذا خرج بواحد منهما لم يتأتَ الخروج بالثاني؛ لأن الثاني يقع وهو خارج من الإحرام، ولذلك(3) لم يصح أن يلزمه حلقان، أو تقصيران، وليس كذلك الجزاء في قتل الصيد؛ لأنَّه قد أدخل النقص به عليهما، فعليه أن يجبر كل واحد منهما بما بيناه؛ إذ هو متأت، وممكن.
فإن قيل: فقد قال(4) تعالى: {فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ولم يشترط أن يكون مفرداً، فوجب أن لا يلزم القارن، والمفرد، إلاَّ جزاء واحد.
قيل له: قد بينا أن الجزاء مصدر لا يختص بعدد، على أنَّه لو أوجب جزاء واحد، فلا يمتنع أن يوجب الجزاء(5) على ما ذكرناه من الاعتبار، على أن اعتبارنا يقتضي الإيجاب، والاحتياط، فهو أولى، وجميع ما ذكرناه في إيجاب الجزاءين على القارن إذا قتل الصيد في الحرم، لم(6) يلزمه إلاَّ جزاء واحد، لا يوجب عليه جزاءين، ولا يسقط أحدهما بالآخر على ما سلف القول فيه.
مسألة [في المحرم يقتل صغار الطيور]
قال: وعلى المحرم في صغار الطيور، كالعصفور، والقنبرة، والصعوة، أن يتصدق بمدين من الطعام(7)، إلاَّ أن يكون قيمته أكثر من ذلك، فيبلغ به القيمة.
__________
(1) ـ زيادة في (أ).
(2) ـ زيادة في (أ).
(3) ـ في (ب): فلذلك.
(4) ـ في (ب): الله عز وجل.
(5) ـ في (ب): أن يوجب الجزاء الثاني ما ذكرناه.
(6) ـ في الهامش ((لم يلزمه إلا قيمة واحدة، ولا يوجب عليه قيمتين)) ظن.
(7) ـ في (أ): طعام.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1)، وذكْرُ الْمُديَّن إنَّما هو على سبيل التقويم، فقد نبه عليه بقوله إلاَّ أن يكون قيمته أكثر من ذلك، فيبلغ به القيمة، وهو قول عامة الفقهاء من إبراهيم، وأبي حنيفة وأصحابه، والشافعي، وغيرهم(2)، وهو قول عامر. (45/41)
والأصل فيه ما روى الصحابة، من ذلك: حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال في الجرادة قبضة من طعام. ورواه ابن أبي شيبة(3) بإسناده أن مروان بن الحكم سأل ابن عباس فقال: الصيد يصيده المحرم لا يجد له نداً من النَّعم، فقال ابن عباس: ثمنه يهديه إلى مكة وروى أيضاً بإسناده، عن ابن عباس وابن عمر،قالا: في محرم قتل قطاة ((ثلثاً مد)) وثلثاً مد أخرى في بطن مسكين خير من قطاة(4).
وروى أيضاً بإسناده، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، وعن إبراهيم، عن عمر أنهما قالا ((في بيض النعام قيمته)) (5)، وعن عمر(6) تمرة خير من جرادة، فكل ذلك يبين صحة ما ذهبنا إليه من أنَّه يطعَم عما لا ند له من الصيد ما يقارب قيمته. وحكى عن داود أنَّه قال: لا شيء عليه، وهو باطل؛ لما حكيناه عن الصحابة ؛ ولأنه استهلك ما منع من استهلاكه لحرمة الإحرام، فلا بدمن الجزاء قياساً على ما له /245/ من الصيد، مثل أو لأنَّه أتى في الإحرام بما هو محظور به، فلا بد من الجزاء، قياساً على اللبس، والطيب.
مسألة [في المحرم يشتري الصيد، أو يحمله إلى بلده، ما عليه؟]
__________
(1) ـ انظر المنتخب 100 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): غيرهما.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/309 وإسناده: حدثنا أبو الأحوص عن سماك، عن عكرمة، به.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/344، وإسناده: حماد بن خالد، عن عبد الله بن مؤمل، عن ابن أبي مليكة، به، ولفظه: ((ثلثاً مد وثلثاً مد خير من قطاة)).
(5) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف.
(6) ـ تقدم تخريجه.
قال: ولو أن محرماً أخذ صيداً شراءً، أو اصطياداً، ثُمَّ لم يرسله حتَّى مات في يديه(1)، فعليه الجزاء، ولو أنَّه اصطاده، ثم حمله إلى بلده، فعليه أن يرده إلى حيث أخذه، ثُمَّ يرسله، ويتصدق بصدقة لحصره وإفزاعه، فإن لم يرسله حتَّى مات، فعليه الجزاء. (45/42)
وجميعه منصوص عليه في (المنتخب)(2). ولا خلاف أن ما أخذه المحرم من الصيد على سبيل المباشرة، فهو ضامن له وإنه مات في يده فعليه الجزاء؛ لأنَّه يكون سبب تلفه وهلاكه، فكأنه قتله. وقلنا: إن عليه أن يرده إلى حيث أخذه منه؛ ليكون قد رده إلى مأمنه، وليكون قد أزال الضر ر عنه، ألا ترى أنا نوجب الصدق في إفزاعه وحصره لما فيه من إدخال لضرر عليه، ولا خلاف أنَّه إذا نفره لزمه جزاء إن لم يعد إلى ما كان عليه.
والأصل في جميع ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ينفر صيدها)) وليس في التنفير إلاَّ إدخال الضرر عليه.
مسألة [هل يجزي ذبح الجزاء في غير مكة؟]
قال: وعليه أن يبعث الجزاء إلى مكة، ولا يجزيه ذبحه في بلده. وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3). ونص أيضاً فيه على أنَّه يتصدق بمكة. ونص في (الأحكام) (4) على أن من خاف تلف هديه في الطريق، باعه، واشترى بدله، فإن فَضُل من ثمنه شيء، اشترى بثمنه طعاماً، وتصدق به في منى. فدل على أنَّه يوجب التصدق(5) به في الحرم، كما ذهب إليه الشافعي. قال أبو حنيفة: يذبحه بمكة وإن تصدق به في غير مكة، أجزأه.
__________
(1) ـ في (ب): يده.
(2) ـ انظر المنتخب 101، 102 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 102 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر الأحكام 1/330 وهو بلفظ قريب.
(5) ـ في (ب): المتصدق.
والأصل في هذا قول الله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فوجب أن يكون بالغ الكعبة من جميع وجوهه، فيجب(1) أن يكون التفرقة [بها] (2) وعندها، وأيضاً قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذبح عن القران، وأمر علياً بالذبح، وفرَّق على المساكين لحم الهدي بالحرام، وقد قال [صلى الله عليه وآله وسلم] (3): ((خذوا عني مناسككم)) فأوجب الإقتداء به في المناسك، فوجب أن تكون التفرقة حيث فرَّق صلى الله عليه وآله وسلم. (45/43)
فإن قيل : قوله سبحانه: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} يقتضي بلوغه الكعبة فقط دون ما سواها.
قيل له: بل يجب أن يكون بالغها من جميع الوجوه، ألا ترى أنَّه لا خلاف أن الآية أوجبت ذبحه عند الكعبة؟ ولم يقل أحد إن بلوغه الكعبة هو المراد وأن نحره بعد ذلك خارج الحرم جائز.
وأيضاً لا خلاف في الأضاحي أن حكم نحرها وتفرقة لحمها في باب البقاع واحد، فوجب أن يكون الهدي كذلك، والمعنى أنَّه حيوان تعلقت القربة بنحره، على أن الغرض بالنحر نفع المساكين، فإذا خص النحر بموضع، علم أن المقصد به نفع المساكين في ذلك الموضع؛ لأن الغرض لو لم يكن كذلك، كان مقصوراً على تنجيس الموضع فقط، وهذا بعيد، وليس لهم أن يقيسوا مساكين غير الحرم على مساكين الحرم؛ لأنَّه قد صار حقاً لمساكين الحرم على ما بيناه.
فإن قيل: لو كان ذلك حقاً لهم، لكان لهم أن يطالبوا به.
قيل له: هذا لا يمنع أن يكون حقاً لهم، على أنَّه لا خلاف أن نحره في غير الحرم لا يجزي، فوجب أن تكون تفرقته كذلك، والمعنى أن كل واحد منهما تعلق بالهدي من حيث كان هدياً بعد بلوغه الحرم، ويقوي ما ذهبنا إليه أنَّه يقتضي إيجاباً، وحظراً، واحتياطاً، وفيه أنا رددنا حكم /245/ الهدي إلى حكم الهدي، وهم ردوا حكمه إلى غيره، فما ذهبنا إليه أولى.
مسألة [في المحرم ينتف ريش الصيد أو يقصه]
__________
(1) ـ في (ب): فوجب.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ سقط من (ب).
قال: ولو أنَّه اشترى صيداً، أو أخذه، فنتفه، أو قصه، فالواجب عليه أن يعلفه، ويقوم عليه(1) حتَّى ينبت جناحاه، ثُمَّ يرسله، وعليه لما نتف صدقة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2) و(المنتخب)(3). قلنا: إنَّه إنه نتفه، أو قصه، فالواجب عليه أن يعلفه، ويقوم عليه حتَّى ينبت جناحاه، ثُمَّ يرسله؛ لأن الواجب عليه أن لا يضر به؛ بدلالة أنَّه يحرم عليه صيده، ويجب عليه أن يدفع عنه الضر الذي فعله به، بدلالة ما أُجمع عليه من وجوب إرساله عليه إن اصطاده، وإعادته إلى ما كان عليه. وقلنا إنَّه يتصدق بشيء لنتفه على مقدار ما كان من ضرره، وهو قول أبي يوسف؛ لأن عِظَم ذلك الضرر الذي فعل، قد لزمه، بدلالة أنَّه إن لم يعد إلى ما كان عليه، فلا خلاف أنَّه يضمنه، وكذلك إذا عاد خلافاً لأبي حنيفة؛ ولأنا إذا أوجبنا لإفزاعه صدقة على ما مضى، فالأولى أن توجب للنتف والقص؛ إذ هما أعظم ضرراً من الإفزاع، وقد بينا أن الأصل في جميع هذا المجرى قوله صلى الله عليه وآله وسلم ((لا يُنَفَّرُ صيدها)). (45/44)
مسألة [في المحرم يصطاد صيداً ثم يرسله الحلال)
قال: ولو أن محرماً اصطاد صيداً، ثُمَّ أخذه منه حلال، فأرسله، لم يكن عليه فيه شيء، ولكن عليه صدقة بقدر إفزاعه. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (4).
وتحصيل المذهب أنَّه لا جزاء على المحرم، ولا ضمان على المرسل.
__________
(1) ـ في (ب): به.
(2) ـ انظر الأحكام 1/327 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 101 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر المنتخب 102 وهو بلفظ قريب.
ووجه قولنا أنَّه لا جزاء على المحرم؛ لأنَّه قد عاد ـ أعني الصيد ـ على(1) ما كان عليه، ولم يستهلكه، فيجب ألا يكون عليه الجزاء، كما أنَّه لو كان هو المرسل [وأما ظمانه] (2) فقد اختلف فيه؛ فقال أبو حنيفة: إن كان اصطاده وهو محرم، فأخذه حلال، فأرسله، فلا ضمان عليه، وإن كان اصطاده وهو حلال، فأرسله، ضمن. وقال الشافعي: لا يضمن المرسل على القول الذي تقول أن إرساله واجب على المحرم، وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يضمن في شيء من الأحوال، مثل قولنا. (45/45)
ووجه ما ذهبنا إليه ما بيناه فيما مضى من أنَّه لا يجوز إمساكه بوجه من الوجوه، وأن سبيله في إمساكه سبيل الغاصب، فإذا ثبت ذلك، لم يلزم المرسل ضمانه؛ لأنَّه بمنزلة من أخرج الغصب من يد غاصبه، ورده إلى حيث استحق، وإذا لم يخالف أبو حنيفة أن المحرم إذا اصطاده في حال إحرامه، فلا ضمان على مرسله، وجب ألا يضمنه المرسل، وإن كان المحرم اصطاده قبل الإحرام، والمعنى أنَّه أزال يداً ظالمة عن الشيء، ورده إلى حيث استحق، وليس يمكنهم أن يقولوا: إنَّه أبطل ملكه؛ لأن الصَّحيح عندنا أن ملك المحرم زائل عن الصيد على ما بيناه فيما تقدم، فسبيله عندنا سبيل المسلم إذا كان في يده الخمر فأراقه غيره أنَّه لا يضمنه؛ لأنَّه فعل ما كان يلزم مَنْ كان في يديه(3) فعله بعينه، من غير أن يكون صحة فعله من شرطها النية.
فإن قيل(4): أليس لو جاء رجل فأخذ زكاة مال غيره، فأخرجها إلى الفقراء بغير إذنه، ضمنها لصاحب المال، فما أنكرتم على من قال: إن ذلك حكم المرسل للصيد؟
__________
(1) ـ في (أ): إلى.
(2) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ) و (ب): وظنن عليه في الهامش.
(3) ـ في (ب): يده.
(4) ـ في (أ): قال.
قيل له: وجب الضمان في الزكاة؛ لأن عين ما أخرجه إلى الغير لم يلزم صاحب المال، بل كان له الخيار في أن يخرجه، أو يخرج غيره إن شاء، وليس كذلك حال الصيد، فإن المحرم قد تعين عليه فرض إرساله، فكان حكمه حكم الخمر التي يريقها الغير، وحكم الغصب إذا أخرجه غير الغاصب من يد الغاصب، ورده إلى حيث استحق، على أن الزكاة تفتقر إلى النية؛ ليكون بها قربة وزكاة، وليس كذلك حكم إرسال الصيد؛ لأن المحرم لا يحتاج لإرساله إلى نية، ألا ترى لو انفلت من /247/ يده وطار، أجزأه، فهو بحكم إراقة الخمر، وإخراج الغصب من يد الغاصب أشبه، على أنا إذا دللنا على أن ملك المحرم يزول عنه، فلا كلام بعده في المسألة. وأما الصدقة بقدر إفزاعه، فقد تكرر الكلام فيه في مواضع، فلا حاجة لنا إلى إعادته. (45/46)
مسألة [في حكم الجماع بعد رمي جمرة العقبة والحلق، وفي حكم جماع المتمتع قبل التقصير]
قال: وإن جامع الحاج بعد ما رمى جمرة العقبة، وحلق، لم يفسد حجه، ووجب عليه دم، وكذلك المتمتع إذا جامع قبل أن يقصر، وقد طاف وسعى، فأكثر ما عليه دم.
وقال القاسم عليه السلام في المتمتع الذي يجامع بعد الطواف والسعي، وقبل التقصير، إن لم يرق دماً، فأرجو ألا يكون عليه بأس.
قال: وإراقته أحب إليَّ. ما ذكرناه أولاً منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وما حكيناه عن القاسم عليه السلام مروي عنه في (الأحكام)(2) وروي نحوه عن النيروسي.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/313 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/313 وهو بلفظ قريب.
و(1) تحصيل المذهب أنَّه إذا جامع بعد الرمي لا يفسد حجه، وإن لم يكن حلق، وقد ذكره أبو العباس الحسني في (النصوص)، ودل عليه كلام يحيى عليه السلام أن المتمتع إذا جامع قبل أن يقصر، وقد طاف، وسعى، فأكثر ما عليه دم؛ لأن التقصير والحلق للمعتمر بعد السعي، كالتقصير والحلق للحاج بعد الرمي، فتصريحه بأن حصول الجماع للمعتمر قبل التقصير لا يفسد عمرته، أبانه أن حصوله للحاج قبل الحلق لا يفسد حجه، وهو قول عامة الفقهاء. (45/47)
وروى ذلك(2) ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن ابن عباس. وذهب محمد، وزيد، ابنا علي عليهم السلام إلى أن من جامع قبل طواف الزيارة، كان عليه الحج من قابل. وروى ابن أبي شيبة ذلك عن محمد بن الحنفية، وابن عمر(3).
__________
(1) ـ في (أ): وعند تحصيل.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/238.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/360 ـ 361.
ووجه ما ذهبنا إليه أن هذا الوطء لم يصادف إحراماً صحيحاً، فكان حكمه كحكمه لو وقع بعد طواف الزيارة، أو يقال: هو وطء صادف حالاً يجوز فيها اللبس والطيب، فوجب أن لا يفسد الحجْ قياساً عليه إن جامع بعد طواف الزيارة، وليس لهم أن يقولوا: إن بعد طواف الزيارة لم يبق شيء من الحج؛ لأن من طاف طواف الزيارة يوم النحر يكون قد بقي عليه رمي في باقي أيام التشريق، ويكون قد بقي عليه طواف الوداع، على أن الجماع إنَّما كان مفسداً للحج من حيث أفسد الإحرام المقتضى، وكذلك إذا وقع بعد الاعتكاف، لم يجب أن يفسد الاعتكاف المقتضى كما أن من أحد تعبد الخروج من الصلاة لم تفسد صلاته، وإن صادف ذلك حال بقاء حرمة الصلاة ووجوب سجدتي السهو، وكذلك الجماع قبل فعله وإن كان لو جامع لم يفسد صلاته إذا حصل الجماع بعد الخروج من الصلاة. فأما(1) المتمتع إذا جامع قبل التقصير بعد الطواف والسعي فإن عمرته لا تفسد لما بيناه من قبل، وهو أن إحرامه قد انقضى بالطواف والسعي، والجماع إذاً لم يصادف حال الإحرام، إلاَّ أنَّه لما بقي عليه نسك وهو التقصير، أو الحلق، قلنا أنَّه يريق دماً. (45/48)
ووجه ما ذكره القاسم عليه السلام من أن هذا الدم مستحب، وأنه ليس بواجب، أنَّه لم يبقَ عليه ما هو ركن للعمرة كما بقي على الحاج ما هو ركن للحج، وهو طواف الزيارة ، ويعني بالركن ما لم يتم الحج والعمرة دونه، فلما كان هذا هكذا، رأى أن الأمر في الجماع بعد سعي العمرة قبل التقصير أخف، فجعل الدم فيه استحباباً.
مسألة [في المحرم يكسر بيض النعام]
وقال: وفي بيض النعام إذا كسره المحرم، أو وطأته راحلته، في كل بيضة صيام يوم، أو طعام مسكين. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2). وقد روى ابن(3) أبي شيبة /248/ مثل قولنا، عن ابن مسعود، وابن سيرين.
__________
(1) ـ في (ب): وأما.
(2) ـ انظر الأحكام 1/325 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/389 ـ 390.
وذكر أبو العباس الحسني رحمه الله في كتاب الإبانة(1) أنَّه قول الشعبي. وروى هناد في (المناسك) نحو ذلك عن أبي موسى. (45/49)
والعمدة فيه: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه(2) الله تعالى، أخبرنا علي بن الهيثم السعدي، حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة، حدثنا محمد بن آدم المصصي(3)، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن جريج عن أبي الزناد(4)، عن ابن الزبير أو أبي الزبير ـ الشك مني ـ عن عائشة أن رجلاً وطئ بعيرُه بيضَ نعام، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإطعام مسكين، أو صيام يوم.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، أخبرنا علي بن محمد السعدي، أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال فرات علي دحيم: حدثكم الوليد بن مسلم، عن ابن جريج، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه آله وسلم قال في بيضة نعام يكسرها المحرم صيام يوم، أو إطعام مسكين. وروى ابن أبي شيبة(5)، عن حفص، عن ابن جريج، عن عبد الله بن ذكوان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن محرم أصاب بيض نعام، فرأى عليه في كل بيضة صيام يوم، أو إطعام مسكين.
فإن قيل: روى ابن أبي (6) شيبة وهناد جميعاً، عن عبيدة، عن أبي عروبة، عن مطر الوراق، عن معاوية بن قرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قضى في بيض النعام يصيبه المحرم بقيمته.
قيل له: يحتمل أن يكون قضى بذلك على المحرم إذا أصابه في الحرم لحرمة الحرم، ولم يذكر الجزاء الذي هو لهتك حرمة الإحرام تعويلاً على أن المقضى عليه قد عرف ذلك، ليكون جمعاً بين الأخبار.
فإن قيل: فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال عليه في كل يبضة ضراب ناقة، فما نتجت، أهداه إلى الكعبة.
__________
(1) ـ في (أ): الإمامة.
(2) ـ في (ب): رضي الله عنه.
(3) ـ في (ب): المصيصي.
(4) ـ في (أ): الزياد.
(5) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/389.
(6) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/389.
قيل له: ذكر يحيى عليه السلام هذا الحديث واستضعفه، وعدل عنه إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّه أكثر وأشهر على ما بيناه؛ ولأن أحد من روى ذلك معاوية بن قرة، وقال في حديثه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن أفتى له علي عليه السلام بذلك: ((هلم إلى الرخصة، عليك بكل بيضة صيام يوم، أو إطعام مسكين))، فيحتمل أن يكون ما قاله عليه السلام قد صار منسوخاً؛ إذ السائل سأله قبل، ثُمَّ جاء بعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما رواه معاوية بن قرة. (45/50)
فإن قيل: فقد روي أن علياً عليه السلام أفتى به في ايام عمر، فلو كان منسوخاً، لم يفتِ به.
قيل له: يحتمل أن يكون نسخ تعيين الوجوب فيه، فإنه لو أخذ به، كان قد فعل أحد الواجبين، وينبه عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((هلم إلى الرخصة))، ويحتمل أن يكون أيضاً حكى الحكم فيه قبل أن ينسخ، فظن السامع أنَّه أفتى به، كما نقول ذلك فيما روى عنه علي عليه السلام أنَّه قال: ((لو كان الدين بالرأي لرأيت أن باطن الخفين أولى بالمسح من ظاهرهما، لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح ظاهرهما))، على أن ما ذهب إليه يحيى عليه السلام أولى؛ لأن البيض مما له نفع عاجل، فاعتبار جزائه لما له نفع عاجل أولى من اعتباره بما لا نفع فيه عاجلاً، ولعله ألا يحصل آجلاً، وعلى أنَّه قياس سائر الأجزاء؛ بعلة أنَّه يجب أن يكون بما لَه نفع فيه حاصل، وهو أولى أيضاً من اعتبار القيمة؛ لأنه(1) الجزاء المنصوص عليه، وهو(2) أولى من اعتبار القيمة على ما سلف القول فيه من تقديم النص على الاجتهاد في مسألة العدول عن النهي.
مسألة [في المحرم يأكل لحم الصيد ما عليه؟]
__________
(1) ـ في (أ): لأن الجزاء منصوص.
(2) ـ في (ب): فهو.
قال: وإذا أكل المحرم لحم صيد فعليه قيمته، والفدية(1)، وهو(2) صيام ثلاثة /249/ أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو دم يريقه، فإن كان هو الذي ذبحه، أو أمر بذبحه، لزمه مع ذلك الجزاء. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (3). (45/51)
وتحصيل المذهب: أن القيمة تجب إذا أكله في الحرم؛ لتنصيص يحيى عليه السلام في غير موضع من (الأحكام) و(المنتخب) على أن القيمة تجب لحرمة الحرم دون حرمة الإحرام، فأما إذا أكله خارج الحرم وهو محرم، فالذي يلزمه الكفارة الَّتِي ذكرها(4).
ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه انتفع بما حظر الإحرام الانتفاع به، فوجب أن يلزمه الفدية، قياساً على من انتفع باللبس، والطيب.
فإن قيل: إن ذلك من ذبيحة المحرم، وهي عندكم ميتة، فكيف قلتم أنَّه محظور بالإحرام، وهو محظور على غير المحرم أيضاً؟
__________
(1) ـ في (ب): مع الفدية.
(2) ـ في (ب): هي.
(3) ـ انظر المنتخب 103 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ في (ب): ذكرناها.
قيل له: يمكننا أن نجعل الدليل في الصيد الذي ذبحه الحلال خارج الحرم، ثُمَّ يلحق به غيره باعتبار ثانٍ، أو لأن أحداً لم يفصل بينهما، على أن الذي ذكروه لا يمنع أن يكون محظوراً بالإحرام، وأن يلزم فيه الفدية؛ لأن الشيء الواحد قد يحصل له وجهان من الحظر، ألا ترى أنَّه لو لبس مخيطاً من جلد خنزير، أو كلب، أو ميتة، لم يخرج من أن يكون قد أتى ما حظره الإحرام، وكانت الفدية لازمة، وإن كان لبس هذه الأشياء محظوراً على غير المحرم، وكذلك لو تطيب بطيب معجون بخمر، فبان سقوط اعتراضهم، وصحة قياسنا. وأما وجه إيجاب القيمة إذا أكله في الحرم فهو(1) أنه استهلك ما منع استهلاكه لحرمة الحرم، فوجب أن يضمن قيمته، دليله الصيد إذا قتله في الحرم، والشجر إذا عضده فيه، وهذا مما قد مضى القول فيه. ووجه إيجاب الجزاء عليه إذا كان قتله، أو أمر بقتله وهو محرم ما سلف القول فيه، فلا وجه لإعادته، على [أن] (2) إيجاب الجزاء لا خلاف فيه. (45/52)
مسألة [في المحرم يرمي صيداً في الحل فيموت في الحرم، والعكس]
قال: ولو أن محرماً رمى صيداً في الحل، فأصابه، فطار حتَّى مات في الحرم، كان عليه الجزاء دون القيمة، وإن أصابه في الحرم، فطار حتَّى مات في الحل، فعليه الجزاء والقيمة معاً. وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3).
__________
(1) ـ في (أ): أن.
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ انظر المنتخب 104 وهو بلفظ قريب.
أما إلزامه الجزاء لكونه محرماً على الوجهين جميعاً فلا إشكال فيه. وأما القيمة، فالمراعى لإيجابها وقوع القتل وهو في الحرم فمتى حصل أحد الأمرين، لزمت القيمة؛ لأنَّه يكون قد قتل صيداً في الحرم، أو جنى عليه وهو في الحرم جناية أدت إلى القتل، والجنايات الواقعة على الصيد في الحرم إذا أدته إلى القتل، كان سبيلها سبيل القتل كما بيناه في الحلال والحرام إذا دل غيره على قتل صيد في الحرم، فأما إذا لم يقع القتل، ولا الجناية المؤدية للصيد إلى القتل وهو في الحرم، وإنَّما وقعا، والصيد خارج الحرم، فيجب أن لا تلزمه القيمة؛ لأنَّه يكون قتل صيداً في غير الحرم، فإذا ثبتت هذه الجملة على الأصول المتقدمة المبينة في كتابنا هذا، وجب ما ذكرناه من أنَّه إذا رمى صيداً في الحل، فأصابه ثُمَّ طار، ومات في الحرم، فلا قيمة عليه؛ لأن الجناية وقعت في الحل، وطيرانه بعد ذلك حتَّى يحصل في الحرم ليس من فعل الرامي، وكذلك موته فيه، ويجب ـ أيضاً ـ ما ذكرناه بعد ذلك من أنَّه إذا أصابه في الحرم، فطار حتَّى مات في الحل، فعليه القيمة؛ لأن الجناية المؤدية إلى التلف وقعت والطير في الحرم، فوجب أن يلزمه القيمة. (45/53)
مسألة [في المحرم يخلى كلبه فيقتل صيداً في الحرم]
قال: ولو أنَّه خلى كلبه على ظبي في الحرم، فلحقه الكلب خارج الحرم، وقتله، فعليه القيمة مع الجزاء، وكذلك(1) إن خلى كلبه عليه في الحل، فلحقه في الحرم، وقتله، فعليه القيمة مع الجزاء. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2).
__________
(1) ـ في (أ): وكذلك إذا.
(2) ـ انظر المنتخب 100 وهو بلفظ مقارب.
المراد بقولنا: إذا خلى كلبه على ظبي في الحرم: هو أن يكون الظبي في الحرم حين الإغراء حتَّى يكون الكلب هو الذي /250/ يطرده حتَّى يخرج عن الحرم، فإذا كان هذا هكذا، فيجب أن تلزمه القيمة؛ لأن الجنايات المؤديات إلى تلف الصيد وقعت والصيد في الحرم. يبين ذلك أن إغراء الكلب مثل الرمي؛ بدلالة أنَّه إذا أغراه من لا تؤكل ذبيحته، لم يجز أكل ما قتله، وإن أغراه من تؤكل ذبيحته، جاز أكله، فبان أن الإغراء مثل الرمي، على أن الإغراء أوكد من الدلالة، فإذا قلنا إنَّه يلزمه القيمة إذا دل، كان إذا أغرى الكلب أولى أن يلزمه. وكذلك إذا خلى الكلب في الحل، فلحق الصيد في الحرم، وقتله؛ لأن القتل وقع والصيد في الحرم، فوجب أن يلزمه قيمته؛ لأن قتل الكلب الذي أغراه بمنزلة ما يتولاه هو من القتل، على ما أوضحناه من أن الإغراء كالرمي. وأبو حنيفة فصل في هذه المسألة الأخيرة بين الرمي والإغراء فقال: إذا رمى وهو في الحل، فأصاب صيداً، وهو في الحرم، فعليه الجزاء، وإن أغرى كلباً في الحل، على صيد في الحل، فلحقه في الحرم، وقتله فيه، أنَّه لا جزاء عليه، وفصل أصحابه فيهما بأن مرور السهم من فعله، ومرور الكلب في الحرم ليس من فعله، وهذا لا معنى له؛ لأن الذي أوجب ضمانه في الرمي، أن الصيد حصل مقتولاً في الحرم بسبب من جهته، على أنا قد بينا أن قتل الكلب المغرى يقوم مقام قتل المغري، ألا ترى أنَّه إذا كان المغري ممَّن لا تؤكل ذبيحته، لا يؤكل ما قتل كلبه، وإذا كان ممَّن تؤكل ذبيحته، أُكِل ما قتله كلبه، وكذلك إن ترك التسمية معتمداً عند الاعزاء، لم يؤكل ما قتله كلبه، كما لا يؤكل إذا تركها عمداً عند ذبحه، فوضح بذلك أن قتل الكلب المغرى قائم في الحكم مقام قتل المغري بنفسه(1)، فوجب أن يضمن، على أنه لا خلاف أنه إذا أغرى كلبه على بهيمة غيره، فقتلها، أنَّه يضمن، فكذلك ما اختلفنا فيه؛ لأن قتله يجري مجرى فعل المغري. (45/54)
__________
(1) ـ في (ب): نفسه.
مسألة [في المملوك يحرم بإذن سيده هل يجب عليه ما لزمه من كفارات؟] (45/55)
قال: وإذا أحرم العبد، أو الأمة، بإذن سيدهما، فما لزمهما من كفارة، أو فدية، فعلى سيدهما متى لم يفعلاه تمرداً، فإن كان فعله ناسياً، أو مضطراً، فلا شيء عليه، وما فعله تمرداً، فكفارته دين عليهما يؤديانها إذ عتقا(1)، فإن كانا أحرما بغير إذن سيدهما، فليس على سيدهما من فعلهما شيء، فعلا ما فعلا، على طريق النسيان، أو الضرورة، أو على سبيل التعمد والتمرد، بل هو دين عليهما يخرجان منه إذا عتقا. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2)، وذكر فيه أن سيده إن شاء أطعم عنه، وإن شاء أهدى، وإن شاء أمره بالصوم.
ووجهه: أنَّه مما طريقه المال المحض مضمون عليه بالجناية لا يتضمن ما يجري مجرى السبب، يلزم العبد، فجاز أن يكون لوجوب حمل السيد عنه مسرح، قياساً على سائر الجنايات الَّتِي يضمنها السيد، ولا يعترضه ما يلزم العبد مما يفعله على سبيل العمد والتمرد، أنا لم نعلل لأعيان المسائل، وإنَّما عللنا لأن نبين أن لوجوب حمل السيد مسرحاً فيه، وـ أيضاً ـ فهو مال لزم بسبب عبد يراعى(3) فيه إذن السيد من غير أن أثم العبد فيه، فوجب أن يلزم السيد ضمانة، دليله المهر، والنفقة في النكاح.
فإن قيل: فهذا يلزمكم في كفارة الظهار، وقد نص يحيى عليه السلام في (الأحكام) على أنَّه لا يجزي العبد فيها إلاَّ الصيام.
قيل له: أما العتق، فليس يجوز أن يلزم العبد على وجه، ولا يصح أن يعتق السيد عنه؛ لأن العتق يوجب الولاء لمن أعتق، فامتناع حصول الولاء للعبد يمنع حصول العتق عنه؛ لأن ما منع حصول الحكم، منع حصول العلة الموجبة له، وقد احترزنا من ذلك في قياسنا بقولنا: إنه لا يتضمن ما يجري مجرى السبب، والولاء جارٍ مجراه.
__________
(1) ـ في (ب): أعتقا.
(2) ـ انظر الأحكام 1/333 وهو بلفظ مقارب.
(3) ـ في (ب): مراعى.
وأما /251/ الإطعام فلم يجوزه؛ لأن العبد قادر على الصيام، ولا يجزي الإطعام في كفارة الظهار إلاَّ بعد العجز عن الصيام. (45/56)
فإن قيل: فيلزمكم هذا في العبد الذي يعجز عن الصيام(1)، فلا يمتنع أن يقول: إنَّه يجوز أن يحمل عنه السيد الإطعام، إن عجز عن الصيام. وأما كفارة اليمين فلا يعترض على ما قلناه؛ لأن الكفارات الثلاث لا تلزم إلاَّ مع التخيير، ولا يصح تخيير العبد فيها؛ لما بيناه من أن العتق يمتنع وقوعه منه، وليس بعد الكفارات الثلاث إلاَّ الصيام، يؤكد ما ذهبنا إليه أن أذن السيد له بالإحرام جارٍ مجرى تظمن ما يجري بسببه، كما قلنا ذلك في المهر، والمتعة، والنفقة، ألا ترى أن أذنه له بالنكاح يجرى مجرى تضمنهما؟ وكذلك الأذن له في البيع والشراء يجري مجرى تضمن ما يجب بسببهما.
فإن قيل: فلِمَ فرقتم بين ما يفعل من ذلك تمرداً أو بين ما يفعله على وجه لا يأثم فيه؟
قيل له: لأن الأصل فيما يرتكبه العبد من المحظورات الَّتِي لا يتعلق بها حق آدمي بعينه إنَّه لا يضمنه السيد عنه، وليس يمتنع من باب التحمل أن يفرق بين الجناية الواقعة على وجه يستحق بها المآثم، والجناية الواقعة على وجه لا يستحق المآثم بها، ألا ترى أن العاقلة تتحمل جناية الخطأ، ولا تتحمل جناية العمد؟ وليس يمتنع أن يقول في وجه الفرق بينهما أنا لو أوجبنا التحمل في العدوان والتمرد، كان ذلك إغراءً للعبد بمثله، وهذا ممتنع لا يحسن، ويشهد لصحة هذه التفرقة بحمل العاقلة دية الخطأ، ولا يجب أن يستبعد ما ذهبنا إليه من تحمل المولى عنه الكفارة؛ لأنا وكثيراً من العلماء قلنا: إن المحرم إذا أكره زوجته على الجماع يحمل البدنة عنها، وهو قول الشافعي في غير الإكراه ـ أيضاً ـ وبه قال في كفارة الجماع في رمضان.
مسألة [في الصبيان إذا أحرموا هل تلزمهم الجزاءات؟]
__________
(1) ـ في الهامش لعل صدر الجواب ساقط.
قال: والصبيان إذا أحرموا، فليس عليهم فداء، ولا كفارة في شيء مما يفعلونه، وإن حماهم أولياءهم عن ذلك، كان حسناً، ولا يلزم ذلك. وهو منصوص عليه في (الأحكام) (1). (45/57)
والأصل في هذا أن الصبي لا ينعقد إحرامه، فلم يحصل له حرمة الإحرام، فلهذا قلنا: إنَّه لا يلزمه شيء فيما يأتيه من ذلك.
ووجه استحبابنا أن يمنعهم عنه أولياؤهم: أنَّه مستحب للرجل أن يأخذ ابنه إذا صار له سبع سنين ونحوه، ويحثه بالصلاة، وأن يأخذه بالصيام إذا أطاق، على وجه التأديب، ليتعود على ذلك، ويستمر عليه، فكذلك أدب الإحرام.
فإن قيل: ولم قلتم إن إحرامهم لا ينعقد؟
قيل له: لأنهم ليسوا من أهل العبادات، فوجب أن لا ينعقد إحرامهم، كالذمي، ألا ترى أنهم لا يؤاخذون بصوم، ولا صلاة، ولا يلزمهم القضاء لما فات منها.
فإن قيل: أليس قد قلتم الزكاة لازمة لهم؟
قيل له: الزكاة حق لازم في المال(2) ولا يمتنع في الحقوق الَّتِي تلزم في المال أن تثبت في أموال من لم يكن من أهل العبادات، يكشف ذلك أن الحج لا يلزمه على وجه من الوجوه، لا في نفسه، ولا في ماله، فبان أن إلحاق حكم إحرامهم بحكم إحرام الذمي أولى من إلحاق حكمه بحكم زكواتهم.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن امرأة رفعت إليه صبياً فقالت: ألهذا حج؟ فقال: ((نعم، ولك أجر)).
قيل له: المراد أنَّه مستحب أخذه به على ما ذكرناه من طريق التأديب والتعويد، ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم نبه على ذلك بقوله: ((ولك اجرٌ)) فبان أن لها الأجر بأخذه بذلك.
فإن قيل: فقد أثبت له النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجاً، وأنتم لا تثبتون له الحج على وجه من /252/ الوجوه، فيبقى كلامه صلى الله عليه وآله وسلم على مذهبكم معرى عن الفائدة؟
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/333 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (ب): فلا.
قيل له: معناه أنَّه يحسن أن يؤخذ بأعمال الحج، وهذا وجه الفائدة؛ لأنَّه لولا قوله صلى الله عليه وآله وسلم، لم نكن نعلم أنَّه يحسن منا إلزامهم تلك المشاق. (45/58)
باب القول في الاحصار وفي من يأتي الميقات عليلاً (46/1)
[مسألة: فيما يجب على المحصر، وبم يكون الإحصار؟]
إذا أحصر المحرم لمرض مانع من السير أو عدوٍ يخافه، أو حبس من ظالم، بعث بما استيسر من الهدي، والهدي أقله شاة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب)(2). وروى النيروسي، عن القاسم عليه السلام: أقل الهدي شاة. ولا خلاف أن الاحصار يكون بالعدو.
واختلفوا في المرض، فكان ما ذهبنا إليه من أنَّه يوجب الاحصار قول زيد بن علي عليهم(3) السلام، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: لا حصر إلاَّ بالعدو. وروي نحو قولنا عن عطاء، وابن مسعود، وابن عباس، رواه عنهم(4) الطحاوي. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيَ} ولا خلاف عند أهل اللغة أن الاحصار يستعمل في المرض، والحصر في العدو، وقد قال تعالى: {فَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} فإذا ثبت ذلك، وجب أن يكون المرض المانع مراداً بالآية، فأما حصر العدو، فإذا أثبتناه مراداً بالآية، فإنما يثبت بالدلالة، والظاهر يوجب أن يكون المراد به منع المرض، فصح ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم أن الآية وردت في سبب، وذلك أنها إنما نزلت في حصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في الحديبية، وكان ذلك حصر العدو، فيجب حمل الآية على ذلك؟
قيل له: لسنا نذهب إلى أن الآية إذا وردت بسبب، وجب قصرها عليه، بل يجب أن تكون محمولة على عمومها؛ إذ لا يمتنع أن يخاطبنا الله تعالى خطاباً يشتمل على السبب وغيره، ويكون الجميع مراداً، وإن كان ورودها صادف حال السبب.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/294 وهو قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 105 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): عليهما.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/249 ـ 252.
فإن قيل: ففي سياق الآية ما دل على أن المراد به حصر العدو، وهو أنَّه تعالى استأنف بعد حكم المرض، فقال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ}. (46/2)
قيل له: [هذا] (1) لا نمنع من أن يكون المرض مراداً بالآية الأولى؛ إذ لا يمتنع أن يَرِدَذ عمومٌ يشتمل على أمور، ثُمَّ يذكر بعض تلك الأمور، ويذكر له بعدُ أحكاماً لم تقتضيها اللفظة الأولى، فإذا ثبت هذا، لم يمتنع أن يكون الله تعالى ذكر في الآية الأولى حكم المنع الواقع من جهة المرض، وجهة العدو، ثُمَّ علم تعالى أن في المرض مع كونه مانعاً ما يُحتاج معه إلى أمور محظورة بالإحرام، وإن كان في المرض مالا يحتاج معه إلى ذلك، فبين حكمه، يكشف ذلك أنَّه سبحانه في الآية الثانية لم يذكر حكم المرض المطلق، وإنَّما ذكر حكم مرض خاص يُحتاج معه إلى أمور يحظرها الإحرام، ونظير هذا أن يقول القائل: ((مَنْ كان من أهل هذه الدار، فليصم غداً تطوعاً))، ثُمَّ يقول: ومن كان منهم امرأة ذات زوج فلتستأذن زوجها في التطوع. إن قولهم من كانت منهم امرأة ذات زوج لا يدل على أن قوله من كان من أهل هذه الدار لم يشتمل على النساء مع الرجال، فكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} /253/ لا يدل على أن المرض غير مراد بقوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيَ}.
فإن قيل: فقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} يدل على أن المراد بقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} حصر العدو؛ لأن الأمن لا يكون إلاَّ من الخوف.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ).
قيل له: هذا السؤال ساقط؛ لأن الأمن كما زعمت ينبه على زوال الخوف، إلاَّ أن الخوف قد يكون من المرض كما يكون من العدو، ولأن(1) الإنسان قد يخاف من أن يتلفه مرضه إن سار، كما يخاف أن يتلفه عدوه، فقد بان أن الأمن قد يكون من خوف المرض، كما قد يكون من خوف العدو، وهذا يسقط تعلقهم بما تعلقوا به، على أن الأمن لو كان على(2) ما ادعوا مقصوراً على مقابلة خوف العدو، كان(3) لا يمتنع أن يكون خص تعالى بالذكر، والحكم، بعضَ ما يتناوله العموم. (46/3)
فإن قيل: لا تعلق لكم بالظاهر؛ لأن الظاهر هو الإحصار والحكم غير متعلقاً به، وإنَّما يتعلق بالمضمر فيه.
قيل له: الحكم لم يتعلق إلاَّ بالاحصار، وهو المنع والحبس، وإن اختلفت وجوههما، و(4) خص منه بعضه، فقد بان أن التعلق به صحيح.
فإن قيل: فإن الاحصار ظاهر لأحدهما عند أهل اللغة؛ إذ قد فصلوا بين الاحصار والحصر، فلا يمكنكم ادعاء العموم فيه.
قيل له: نحن لا ننكر أن ظاهره لأحدهما، وهو المرض، كما حكى عن أهل اللغة، وإن قلنا العدو مراداً به للدلالة، وهذا لا يمنع أن يكونا مرادين جميعاً بالآية، وأن تكون الآية عامة فيهما، وإن عرفنا كون أحدهما مراداً بالظاهر، وكون الآخر مراداً بالدلالة، ومما يدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا روح بن عبادة، أخبرنا الحجاج بن دينار، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني عكرمة، حدثني الحجاج بن عمر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من كُسر، أو عرج، فقد حل، وعليه حجة أخرى)). فأوجب الخبر أن الإحلال يتعلق بالكسر والعرج، وهو نص مذهبنا.
فإن قيل: فأنتم لا تقولون أن الإحلال يقع بالمرض نفسه؛ إذ لا خلاف في أنَّه لا يتحلل إلاَّ(5) أنَّه يُنحر الهدي عنه.
__________
(1) ـ في (ب): لأن.
(2) ـ في (ب): كما.
(3) ـ في (أ): وكان.
(4) ـ في (ب): أو.
(5) ـ في (ب): إلى.
قيل له: معناه قد جاز له أن يحل كما يقول القائل: قد حلت للأزواح إذا خرجت من عدتها، والمراد قد جاز لها أن يحل للأزواج بالنكاح، ولا خلاف أن المنع الواقع من جهة العدو يجيز التحلل، فكذلك المنع الواقع من جهة المرض، والمعنى اعتراض منع يؤدي المقام معه على الإحرام إلى المشقة العظيمة. وأيضاً وجدنا التيمم لما كان بدلالة لا يجوز إلاَّ لعذر، واستوى فيه عذر العدو، وعذر المرض، فوجب أن يكون إحلال المحصر كذلك؛ لأنَّه بدل لا يجوز إلاَّ مع العذر، والأصول شاهدة معنا؛ لأنا وجدنا كل عذر له حكم، إذا كان من جهة العدو، يكون له ذلك الحكم إذا كان من جهة المرض، نحو الإخلال بأركان الصلاة، وترك الحج، وإفساد الصوم، على أن عذر المرض يجب أن يكون أقوى من عذر العدو، ولأن الخائف للعدو قد يمكنه أن يأتي(1) مما يلزمه في بعض الأحوال، مع ضرب من الاحتراز، والاستخفاء، ولا حيلة في المرض. (46/4)
فإن قيل: قد حصل للمريض أحد الترفيهين، وهو الطيب، واللباس، إذا احتاج إليهما، فلا يجب أن يحصل له الترفيه الآخر وهو الإحلال.
قيل له: والخائف من العدو قد يحصل له هذا الضرب من الترفيه، وهو أنَّه يلبس الدرع، والمغفر، إذا احتاج إليهما، كما /254/ يحصل للمريض، ولم يمنع ذلك من أن يحصل له الترفيه بالإحلال، فكذلك المريض. وقلنا: إن أقل الهدي شاة؛ لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيَ} ولا خلاف أن اسم الهدي يتناول الشاة. وروى ابن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام قال: ((ما استيسر من الهدي، شاة)) (2).
وروى ابن أبي (3) شيبة، عن ابن عباس، وابن عمر، ذلك، وهو مما لا خلاف فيه.
مسألة [هل يواعد المحصر الرسول يوماً منه أيام النحر لنحر الهدي أم لا؟]
__________
(1) ـ في (ب): ما.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/135 وفيه سقط جعفر من السند.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/134 ـ 135.
قال: ويواعد الرسول يوماً من أيام النحر، ويأمره بنحره عنه بمنى. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1). (46/5)
والمراد به أنَّه إذا كان المحرم حاجاً، فإن كان معتمراً، فيجزيه إذا بلغ الحرم. ووجه ما ذكرناه من نحر الهدي بمنى يوم النحر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذبح هديه بمنى يوم النحر، وقال: ((خذوا عني مناسككم}، فيجب أن يكون ذلك حكم هدي المحصر؛ لأنَّه هدي منع الحلاق قبله للحاج، وأبو يوسف، ومحمد، يوافقان على أنه ينحر يوم النحر.
وروى هناد بن السري نحوه عن عطاء. وفيه الاحتياط؛ لأنَّه لا خلاف أنَّما ذكرناه يجزي، واختلف في غيره. وأبو حنيفة يوافق في هدي التمتع أنَّه لا يجزي قبل يوم النحر، فوجب أن يكون كذلك هدي المحصر؛ لأنَّه هدي يتوصل به إلى الإحلال من الحج.
مسألة [في تحديد المحصر لوقت نحر هديه من يوم النحر]
قال: ويذكر له وقتاً من ذلك اليوم بعينه، فإذا كان بعد ذلك الوقت بقليل أو كثير، حلق رأسَه المحصرُ، وأَحلَّ من إحرامه، ويستحب له أن يحتاط في تأخير الحلق عن الوقت الذي واعد رسوله أن ينحر فيه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب)(3) غير ما ذكرناه من الاستحباب، فإنه منصوص عليه في (الأحكام). وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وروى نحو قولنا عن عطاء، رواه هناد بإسناده، وعند غيرنا لا يُحل حتَّى يعلم أنَّه قد نحره.
ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه لم يؤخذ عليه العلم في ذلك؛ لأنَّه لا خلاف أنَّه لا يلزمه مشاهدته، وإن لا يراعى تواتر الأخبار عنه، وهذان هما طريقا العلم، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن المأخوذ عليه فيه غالب الظن، فإذا كان ذلك كذلك، وغلب في ظنه أن النحر قد وقع، جاز له أن يحل.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/294 وهو بلفظ قريب جداً.
(2) ـ انظر الأحكام 1/294 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 105 وهو بلفظ قريب.
فإن قيل: أنتم تقولون أن الظن لا يكون له حكم حتَّى يكون حصوله عن أمارة، ووقوع النحر لا أمارة له عليه. (46/6)
قيل له: نحن لا نجوز الإحلال إلاَّ إذا كان هناك أمارة، والأمارة تكون سلامة الطريق، وأن لا يكون بلغة، عائق عرض للرسول مع جريان العادة أنَّه إذا عرض له، نُقِل، وَحُدِّثَ به، وأن يكون من واعده موثوقاً به، فإذا حصلت هذه الأمارات جاز أن يحصل له ظن يتعلق به الحكم، ويمكن أن تحرر العلة بأن يقال: لا خلاف أنَّه إذا بلغه أن النحر قد وقع عن نفسين، أو ثلاثة، جاز له الإحلال، فكذلك ما ذكرناه، والمعنى حصول غالب الظن بوقوع النحر عن أمارة صحيحة، ومعنى قولنا صحيحة أن العادة جارية بكون مثلها أمارة للعقلاء.
مسألة [في المحصر إذا تخلص من إحصاره قبل فجر يوم النحر أو بعده]
قال: فإن هو تخلص من إحصاره، وأمكنه أن يلحق الموقف قبل طلوع الفجر يوم النحر، فقد أدرك الحج، ولم يلزمه نحر هديه، وجاز له الانتفاع به، وإن لحق بعد ذلك الوقت، وفاته الحج، نحر هديه، وأهل بعمرة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب)(2). أما إذا لحق الموقف قبل طلوع الفجر من يوم النحر، فلا خلاف في أنَّه يكون مدركاً للحج، وقد مضى ما ورد فيه عن النبي صلى الله عليه وآله /255/ وسلم، وكذلك لا خلاف في أنَّه يلزمه نحر هديه؛ لأن الهدي جار مجرى الكفارة لإحلاله قبل استكمال ما أحرم له، وأما إذا استكمل ما أحرم له، ولم يحل قبله، فلا معنى للكفارة، فأما إذا لحق مكة، وقد فاته الوقوف، فعليه أن يأتي بعمل العمرة، وعليه دم للفوات، وإن كان الاحصار قد زال.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/294 ـ 295 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 105 وهو بلفظ قريب.
وهذه الجملة قول القاسم بن محمد، والزهري، روى عنهما ابن أبي(1) شيبة. وقال أبو حنيفة، والشافعي، مثل قولنا، في أن عليه أن يأتي بعمل العمرة إلاَّ أنهما لم يوجبا عليه مع ذلك الهدى، وحكي عن بعض الناس أنَّه قال: يأتي بباقي عمل الحج. (46/7)
والأصل في ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء أن النبي صلى الله عليه آله وسلم قال: ((من لم يدرك عرفة، فعليه دم، ويجعلها عمرة، وعليه الحج من قابل)) (2).
وروى ابن أبي(3) شيبة بإسناده، عن نافع، عن ابن عمر ما رواه عن النبي صلى الله عليه آله وسلم، فلم(4) يرو عن أحد من الصحابة خلاف ما روي عن هؤلاء، فصار كالإجماع، ولا معنى لقول من قال أنَّه يأتي بباقي عمل الحج؛ لورود النص بخلافه.
فإن احتج بقوله تعالى: {وَأَتِمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ}.
قيل له: من فاته الحج لا يصح أن يكون مخاطباً به؛ لأنَّه يؤدي إلى تكليف ما لا يطاق، على أنَّه إن ثبت ما ادعاه، كان مبنياً على النص الذي روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما لزوم الدم، فالأصل فيه الخبر الذي ذكرناه، ولا خلاف أن المحصر يلزمه دم، فكذلك من فاته الحج، والمعنى أن كل واحد منهما فاته إتمام أركان ما دخل فيه بالإحرام، ويبين أن العلة في الأصل ما ذكرناه وجود الحكم بوجوده، وعدمه، بعدمه ويؤيد قياسنا الاحتياط، وأنه يوجب نسكاً زائداً، وهو مستند إلى النص الذي لا يحتمل.
فصل [في المحصر إذا فاته الحج هل يجب عليه القضاء]
__________
(1) ـ أخرجه عنهما ابن أبي شيبة في المصنف 3/217.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/227 إلا أنه قال: من لم يدرك فعليه.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المنصف 3/227.
(4) ـ في (ب): ولم.
ذكر الهادي عليه السلام في (المنتخب) (1) حال المحصر، وحكمه، وما يلزمه إن تخلص من إحصاره، وحكمه إن لم يلحق الحج، ثُمَّ قال بعد ذلك وعليه الحج من قابل، فدل ذلك على أنَّه يوجب القضاء على المحصر. وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا قضاء عليه. (46/8)
والأصل في ذلك قول الله تعالى: {وَأَتِمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} والمحصر قد دخل فيهما، أو في أحدهما، فعليه أن يتم، ولا يمكن الإتمام إلاَّ بالقضاء.
وروى هناد ـ بإسناده ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج معتمراً من العام المقبل في الشهر الذي صُد فيه(2)، فكانت عمرة القضاء. وروى هناد ـ بإسناده ـ عن عطاء أنَّه قال في قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} أنها نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية، فعمرة بعمرة في الشهر الذي صُد فيه، فدل بقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} أن العمرة كانت منه صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم على سبيل القضاء، واشتهار تلك العمرة بعمرة القضاء يدل على ما ذهبنا إليه. ولا خلاف أن من فاته الحج، فعليه القضاء، فكذلك المحصر، والمعنى أنَّه يخرج من إحرامه قبل إتمام ما أحرم له، يؤكد ذلك أنا وجدنا الدخول في الحج والعمرة يوجب المضي فيهما، لا خلاف فيه، وفي أنَّه يصير بمنزلة ما كان واجباً في الأصل في باب الوجوب، فوجب(3) أن يلزمه القضاء منه متى خرج منه قبل تمامه لعذر، أو لغير عذر، كسائر الفرائض اللازمة من الصلاة والصيام.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيَ} ولم يذكر القضاء.
قيل له: وجب القضاء بسائر الأدلة الَّتِي ذكرناها، فصار ذلك كالمنطوق به في الآية.
فإن قيل: فقد /256/ جعل الدم فيه يدل ما فات، فلا وجه للقضاء.
__________
(1) ـ انظر المنتخب 105 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (ب): عنه.
(3) ـ في (ب): فيجب.
قيل له: ليس وجوب الدم عندنا على وجه البدل لما فات؛ لأن الدم يجب لخروجه من الإحرام قبل استكمال ما وجب فيه، فأما الفائت، فبدله القضاء لا غير، ألا ترى أنا نقول بوجوب الدم على من فاته الحج، وأن تحلل بعمرة؟ (46/9)
فأما أبو حنيفة فإنه كان يقول: إنَّه إن كان مفرداً للحج، فعليه حجة، وعمرة، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر من فاته الحج بعمرة، وحجة؛ لأنَّه أمره أن يتحلل بعمرة وألزمه مع ذلك قضاء الحج.
قيل لهم هذا الاستدلال على أصولكم لا يصح؛ لأن دم الإحصار عندكم يجب أن يكون نائباً مناب عمل العمرة، فلا يجب أن تلزمه إعادته؛ لحصول بدله، فأما نحن، فلا نسلم أن الذي لزمه من الطواف والسعي عمرة مبتدأه؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لوجب أن يكون إحرامه قد انقلب، وصار إحراماً لعمرة حكماً، ولو كان كذلك، لم يلزمه قضاء الحج؛ لأنَّه يكون قد أتى بما أوجب إحرامه، وإنَّما نقول: إنَّه أمرٌ ينافي أعمال الحج، وأسقط عنه من جملته الرمي، والكون بمنى، فعلى هذا لا يلزمنا إيجاب حجة وعمرة عليه، على أنا لا نختلف أنَّه إذا أحصر المتمتع، فليس عليه إلاَّ قضاء العمرة فقط، كذلك إذا أحصر المفرد بالحج، والمعنى أن كل واحد منهما لم يلزم نفسه بإحرامه غيره، فوجب أن لا يلزمه سواه إذا خرج من إحرامه قبل أن يتمه.
مسألة [هل يجب شراء مركوب على المحصر ليلحق الحج؟]
قال: ولو أن محصراً تخلص من إحصاره في وقت ضيق، ووجد مركوباً سريعاً يعلم أنَّه يلحق عليه الحج، لزمه اكتراؤه بالغاً ما بلغ الكرى بعد أن لا يجحف بنفقته، فإن خاف ذلك، لم يلزمه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/295 وهو بلفظ قريب.
ووجهه قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} فإذا تمكن من الإتمام على وجه لا يلزمه فيه مشقة عظيمة، ولا يجحف بحاله إجحافاً مؤدياً إلى الضرر العظيم، وجب عليه الإتيان به، ولا خلاف أنَّه إذا وجده بثمن مثله، لزمه التوصل به، فكذلك إذا لم يجد إلاَّ بإضعافه، والمعنى أن إخراجه لا يجحف به. (46/10)
وهذه الطريقة قد استقصيناها بأكثر من هذا في باب التيمم في مسألة من لم يجد الماء إلاَّ بثمن غال.
مسألة [في الرجل يحج ببعض حرمه ثم يحصر ولا محرم لهن غيره]
قال: ولو أن رجلاً حج ببعض حرمه، ولا محرم لهن غيره، فأحصر، فهن بإحصاره محصرات، فإذا كان معهن محرم غيره، وجب عليهن الخروج معه، وإن لم يكن لهذا المحصر من يقوم به غيرهن، وخُشي عليه التلف إن خرجن، أقام معه منهن من يقوم بأمره، وكانت محصرة بإحصاره. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) والأصل فيه ما بيناه فيما تقدم من أن المرأة لا يجوز لها السفر إلا مع محرم، وأن المحرم شرط في وجوب الحج عليها، فإذا ثبت ما بيناه أن عدم المحرم لها يمنع(2)، جرى ذلك مجرى الإحصار، وكذلك إن وجدت محرماً وخافت على المحصر عنتاً، أو تلفاً إن هي خرجت، جرى ذلك مجرى الاحصار؛ لأن حكم الاحصار يتعلق بأن يحصل عائق عن الحج يعذر معه المحرم عن التأخر من أي وجه كان؛ لأنَّه لا فرق بين سائر العوائق، وبين المرض، وخوف العدو، وفي الوجه الذي جعل للمحصر معه الإحلال، وبعثه الهدي، ويجب أن تكون أحكامهن في جميع ما يلزم المحصر كحكم المحصر، قد نص عليه في (الأحكام).
مسألة [في حكم من أتى الميقات عليلاً لا يعقل إحراماً ولا يطيق عملاً]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/296 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (ب): مانع.
قال: ومن أتى الميقات عليلاً لا يعقل، يُهلّ بالحج عنه، ويجرد من ثيابه، ويصب عليه الماء إن أمكن، ثُمَّ يقال: اللهم إن عبدك خرج قاصداً إلى الحج، وقد أحرم لك شعره، وبشره، ولحمه، ودمه، ثُمَّ يُلبى عنه، ويسار به، ويجنب ما يتجنبه المحرم من طيب وغيره، فإن احتاج إلى لبس الثياب، أو التداوي بدواء فيه طيبُ، فُعل به ذلك، ولزمته الفدية، فإن أفاق من علته، قضى ما يجب عليه من أعمال حجته، وإن امتدَّ به ذلك، طِيفَ به في المحفه، وحُمل إلى /257/ الموقف ووُقف به فيه، ثُمَّ يُفاض به منه، ويوقف عند المشعر الحرام، ثُمَّ يسار به إلى الجمرة، فيُرمى عنه بسبع، ثُمَّ يرد إلى الكعبة، فيطاف به طواف الزيارة. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام)(1). (46/11)
وهو قول أبي حنيفة، وحكي أنَّه قول الأوزاعي، وروى نحوه عن الحسن، وعطاء، وطاووس، ذكر ذلك أبو بكر الجصاص في (شرح المناسك) لمحمد. وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يجزيه [ذلك] (2) في الإحرام، فإن أحرم، ثُمَّ أغمي عليه، جاز أن يطاف به، ويوقف. وحكي عن الشافعي أنَّه لا يجزيه في الإحرام، ولا الطواف، ولا الوقوف، وسمعت بعض أصحاب الشافعي يقول: إنَّه يجزي في الوقوف فقط عند الشافعي، ، فإن صح هذا عن الشافعي، إلا دل عليه ما أجمعتما عليه من أن كونه في الموقف على أي وجه حصل يجزي؛ لأنا لا نختلف أنَّه لو وقف، ولم ينوِ، أو مُرَّ به مروراً، أو حصل فيه نائماً، أجزأه، وسواء عرف المكان، أو لم يعرف(3)، فإذا ثبت ذلك، وجب أن يجزيه إذا وقف فيه مغمىً عليه.
فإن قيل: إن الوقوف لم يفتقر إلى النية، فإذا حصل المغمى عليه في الموقف، وجب أن(4) يجزي، وليس كذلك الإحرام؛ لأنَّه يفتقر إلى النية، فحصوله بصفة المحرم لا يوجب له الإحرام إن لم تقارنه النية.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/297 ـ 298 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ في (ب): يعرفه.
(4) ـ (ب): إذا.
قيل له: الإحرام مع افتقاره إلى النية عنه مما تصح النيابة فيه بالإجماع، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن نية الغير تقوم مقام نية الذي وقعت النيابة عنه، حتَّى يكون في الحكم كأنه قد نوى، وإذا صح ذلك، وقعت نية الذين يخرجونه ويعقدون عليه الإحرام عنه كأنه هو اذي نوى، على أن من يخالفنا في هذا لا يمنع أن يعقد الرجل على ابنه الصغير، وتكون قائمة مقام نية الابن، فلا يصح منهم إفساد ما ذكرناه لعقد نية من عقد عليه [نية] (1) الإحرام. (46/12)
فإن قيل: كيف يصح لكم الاعتماد على عقد الرجل الإحرام على [عقد](2) ابنه الصغير، وأنتم لا تقولون به؟
قيل له: غرضنا أن نبين أنَّه لا يمتنع الاتفاق أن يقع نية عاقد الإحرام عن المعقود عنه(3)، ونحن لم نمنع عقد الرجل الإحرام على ابنه الصغير لأمر يرجع إلى النية، وإنَّما منعنا منه لأمر سواه، على أن الوقوف إنَّما صح على الوجه الذي بيناه للنية المتقدمة؛ لأن الوقوف لا خلاف في أنَّه عبادة، والعبادة لا بد فيها من النية، إلاَّ أن النية ربما أجزت، وإن تقدمت، ولم تكن مقارنة، كما أجمعنا عليه أن الصوم يقع صحيحاً بنية متقدمة له، وإذا ثبت هذا، لم يمنع أن يصح إحرام من ذكرناه لنيته المتقدمة. ويقال: لأبي يوسف، ومحمد، وأصحابهما: لا خلاف أنَّه إذا طيف به مغمى عليه أنَّه يجزي، فكذلك الإحرام، بالعلة الَّتِي مضت، ولا يمكن الفصل بينهما بذكر النية؛ لأن الطواف مفتقر إلى النية كالإحرام، ألا ترى أن رجلاً لو دار حول الكعبة، وهو يطلب شيئاً غير قاصدٍ للطواف، لم يُجِز ذلك عن طوافه؟ على أن حصول الإجماع على أن الحج من الميت يصح، وإن لم يكن يصح أن يكون له نية في حال الحج؛ لنيته المتقدمة، يؤكد ما ذهبنا إليه، ويوضحه.
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ في (ب): عليه.
فإن قيل: أليس قد قال في (المنتخب)(1) أن ذلك يتولاه زميله أو بعض رفقائه، فإذا لم يُجز ذلك للطائف، فما أنكرتم أن لا يجوز ذلك للرفقاء؟ (46/13)
قيل له: الفرق بينهم أن رفقاه لما كانوا أخص به في حال حياته في تمريضه، والقيام بأسبابه من غيرهم، وكانوا أخص به من غيرهم في دفنه وتجهيزه، ثبت لهم ضرْبٌ من الولاية، ولهذا كانوا [هم](2) أولى ببيع بعض ما يجب بيعه من أسبابه إن مست الحاجة إليه من غيرهم، فإذا ثبت هذا الضرب من الولاية، قلنا: إنهم هم الذين يحرمون عنه، فأما الأجانب، فلم يثبت لهم شيء من الولاية، فلهذا خصصنا رفقاه بذلك.
فإن قيل: ألستم تقولون أنَّه لا يجوز لهم أن يفعلوا ذلك إلاَّ إذا صاروا إلى آخر المواقيت، فما أنكرتم ألا يجوز ذلك، وإن صاروا إلى آخر المواقيت، كما لم يجز لهم أن يفعلوه قبل ذلك؟
قيل له: لأن الولاية الَّتِي أشرنا إليها إنما نجعلها لهم في حال الضرورة وعند ما يُخاف تلفه، أو تلف ماله، ألا ترى أنا نجيز لهم بيع ما تمس الحاجة إليه من ماله، ولا يجوز لهم أن ينفقوا عليه إلاَّ ما لا بد له، فلما كان ذلك كذلك، لم يجز لهم أن يحرموا له إلاَّ عند الضرورة [وخوف فساد نفقته وفوات حجه، فأما إذا لم تعرض الضرورة، فلا يجوز لهم التصرف عليه](3) كما لا /258/ يجوز التصرف على سائر أسبابه، وإذا ثبت بما بيناه وجوب انعقاد الإحرام عليه، ثبت أنَّه محرم، وثبت سائر ما ذكرناه من أنَّه يتجنب ما يتجنبه المحرم، وأنه إذا أُلبس، أو طُيب لحاجة إليه، لزمته الفدية، وتجزيه حجته.
مسألة [في تكفين المحرم]
قال: وإن مات وهو محرم، لم يُغطَّ رأسه، ولم يخيط بخيوط فيه طيب. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(4) و(المنتخب)(5).
__________
(1) ـ انظر المنتخب 101 ـ 102 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ).
(4) ـ انظر الأحكام 1/298.
(5) ـ انظر المنتخب 102 وهو بلفظ مقارب.
والأصل فيه: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا ابن اليمان، حدثنا ابن شجاع، حدثنا الحسين الجعفي، عن ابن عيينة، أن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فَخرَّ رجل من بعيره، فوُقص، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، فإن الله سبحانه يبعثه يوم القيامة مُهلاً)) وفي بعض الأخبار ((لا تقربوه طيباً)). (46/14)
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا هشيم بن بشير، عن ابن بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو محرم، فوقصته ناقته، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تغطوا رأسه، ولا تمسوه بطيب، فإن الله سبحانه يبعثه يوم القيامة ملبياً)) (1).
ووجه الاستدلال من الخبر أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قضى في المحرم الذي مات بأن لا يغطى رأسه، ولا يُقرب طيباً، وقضاؤه على الواحد قضاء على الجماعة، فيجب أن يكون ذلك قضاءٌ على كل محرم، وحكمه إذا مات.
فإن قيل: كان هذا يجب لو لم يكن صلى الله عليه وآله وسلم علل وبَيَّن أن ذلك لأنَّه يبعث ملبياً، وإذا بَيَّن ذلك، فهذا حكم في كل محرم يُعلم أنَّه يبعث يوم القيامة ملبياً، ولما لم يكن لنا سبيل إلى أن نعلم ذلك من حال أحدٍ من المحرمين، لم يجب أن يفعل ذلك بأحد منهم.
قيل له: الخبر مشتمل على شيئين:
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/303 إلا أنه قال: أبي بشر.
أحدهما: ما قضى به في المحرم الذي مات. والثاني: أنَّه يبعث يوم القيامة ملبياً، وقد علمنا أن الخبر هو من أخبار الآحاد، وأنه يقبل فيما طريقه العمل والحكم ولا يقبل فيما طريقه العلم، وقد علمنا أن كون ذلك المحرم ممن يبعث يوم القيامة ملبياً مما طريقه العلم(1)، وأنه لا يجب أن يقبل في مثله خبر الواحد، وأن وروده بخلاف وروده، فصارت هذه الزيادة كأنها لم تَرِد، وإذا كان ذلك كذلك، تجرد قضاؤه في المحرم عن هذه الزيادة حكماً، فيجب(2) أن يحكم بأنه قضاء على كل محرم، على أن هذه الزيادة قد رويت على وجهين مختلفين، رويت يبعث مهلاً ورويت يبعث ملبياً، وهذا كالاضطراب، فأوجب ضعفها ـ يعني الزيادة ـ على أنَّه قد روي في شهداء أحد أنَّه قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا شهيد عليكم اليوم)) ولم يمنع هذا أن يكون حكم الشهداء في ترك غسلهم حكماً واحداً، وإن لم يُعلم في جميعهم أنَّه شهيد عليهم، فكذلك ما اختلفنا فيه. (46/15)
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كُسر، أو عرج، فقد حل)) فأولى أن يكون من مات قد حل، وهذا يوجب أن لا يكون محرماً، إذا مات، وإذا لم يكن محرماً وجب أن يفعل به ما يفعل بسائر الموتى.
قيل له: لا خلاف أن هذا الخبر لا ظاهر له، وأن المحرم لا يصير حلالاً بنفس الكسر والعرج، ومعناه أن من كسر، أو عرج، فقد جاز له أن /259/ يحل، فإذا كان هذا هكذا، لم يكن لكم تعلق.
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((خمروا رؤوس موتاكم، لا تشبهوا باليهود)).
قيل له: المحرِم مخصوص منه بالدليل.
فإن قيل: روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: ((يغطى رأسه، ويعمل به ما يعلم بسائر الموتى)).
قيل له: قد روينا عنه خلاف ذلك:ـ
__________
(1) ـ في (أ): العام.
(2) ـ في (ب): فوجب.
أخبرنا محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، عن محمد بن منصور، عن إسماعيل بن موسى، عن شريك، عن جابر، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: ((إذا مات المحرم، لم يغط وجهه)) فيجب أن يحمل ما ذكرتموه على أنه أراد إذا مات بعد الرمي، ويدل على ذلك أنَّه شخص أحرم ولم يتحلل، فوجب أن لا يكون لنا تغطية رأسه، وتطييبه من غير ضرورة، قياساً على الحي، ونقيسه ـ أيضاً ـ على المحرم الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا يُغطى رأسه، ولا يُقَرَّب طيباً، بعلة أنَّه مات وهو محرم، وليس لهم أن يعترضوا هذا القياس بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين العلة في ذلك؛ لأنا قد تكلمنا في ذلك بما وجب، على أنَّه إن ثبت، لم يتنافَ علينا، وجاز القول بهما جميعاً، يؤكد ذلك أن وجدنا العبادات الَّتِي تختص الأبدان على ضربين: ضرب لا يثبت حكمه لأحد إلاَّ بنفسه كالصلاة والصيام، ولا يصح أن تستمر عليه الأيام والليالي تباعاً ولا(1) يثبت حكمه بعد الموت. وضرب يثبت حكمه لإنسان بنفسه وبغيره، ويصح أن تستمر عليه الأيام والليالي تباعاً، ويثبت حكمه بعد الموت، وهو الإيمان، ثُمَّ وجدنا الإحرام مما يثبت للإنسان(2) حكمه بنفسه وبغيره؛ لأنَّه يثبت على المغمى عليه عندنا، وعند أبي حنيفة برفقته، ويثبت عند الشافعي بالرجل لابنه الصغير، فوجب أن يكون حكمه حكم الإيمان، في أنَّه يثبت حكمه بعد الموت، وهو أيضاً مما لا يبطل حكمه باستمرار الجنون والإغماء عليه، كالإيمان، فوجب أن لا يبطل بالموت. (46/16)
__________
(1) ـ في (أ): ويثبت.
(2) ـ في (ب): حكمه للإنسان.
باب القول في الحج عن الميت (47/1)
[مسألة في الإيصاء بالحج]
إذا أوصى الميت أن يُحَجَّ عنه، لزم الوصي ذلك، ويكون من ثلث ماله، وإن حج عنه من غير أن يكون أوصى به، فالحج لمن حج.
نص في كتاب الوصايا من (الأحكام)(1) أن الحج لا يجزي عن الميت، إلاَّ أن يكون أوصى به، وإن حُجَّ عنه من غير أن يكون أوصى، فالحج لمن حج، ونص فيه على أن كل من أوصى بأكثر من ثلث ماله، فالأمر في الزائد إلى الورثة. فدل بظاهر قوله أن يكون الحج في ذلك وغيره سواء، على أنه نص في (الفنون) (2) على أن الحج من الثلث.
وإنَّما قلنا أن من حج عن الغير بغير أمره، لا يقع عنه؛ لقول الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، فإذا لم يكن له سعيٌ في الحج، فيجب أن لا يكون الحج له، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( وإنَّما لامرءٍ ما نوى)) وهو لم ينوِ الحج، فوجب أن لا يكون الحج له. وروي عنه صلى الله عليه وآله سلم أنَّه قال: ((من مات، ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً)) وقد علمنا أن الحج لا يقع عمن مات يهودياً، أو نصرانياً، فكذلك من لم يحج، ولم يوصِ به.
فإن قيل: إنَّه(3) صلى الله عليه وآله وسلم لم يستثن من أوصى.
قيل له: قد حصل ذلك مستثنى بالإجماع.
فإن قيل: إن(4) رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله [إن] (5)، أبي مات، ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال: (( نعم حج عن أبيك، أرأيت لو كان على أبيك /260/ دين فقضيته، كان نافعه))؟ قال: قلت نعم. قال: ((فدين الله أولى)).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 2/421 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الفنون ص 446، 449. وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): فإنه.
(4) ـ في (ب): فقد روي أن رجلاً.
(5) ـ سقط من (أ).
قيل له: نحن لا نختلف أنَّه يصح الحج عن الميت، وإنَّما الخلاف في الشرط الذي معه يصح، فجمع بين الآية والخبر، فنقول: يصح الحج عنه إذا كان قد أوصى به؛ لأنَّه قد يكون قد حصل فيه السعي والنية. (47/2)
فإن قيل: تشبيهه إياه بالدين، يدل على أنه يجزي وإن لم يكن الميت أوصى به. قيل له: تشبيهه إياه بالدين من الوجه الذي قصد لا يوجب كونه مثل الدين من جميع الوجوه، ألا ترى أنَّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم حين سئل عن القبلة للصائم، أرأيت لو تمضمضت؟ لم يوجب أن حكم القبلة حكم المضمضة من جميع الوجوه، فلما كان حكمها [حكم المضمضة] (1) في أنَّها لا تفسد الصيام، فكذلك الحج يجب أن يكون حكمه حكم الدين في أن النيابة تصح فيه دون ما سواه؛ لأنَّه هو المقصد بالكلام، ولا يصح تعلقهم بقوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٌ}، لأن الحج لا يتناوله اسم الدين على الإطلاق، ولا خلاف أن الصيام(2) والصلاة إذا فاتا، لم يلزما الورثة، فكذلك الحج، والمعنى أنَّه عبادة تتعلق بالأبدان، وتختص المكلف، وليس يعترض عليه الزكاة؛ لأنها لا تتعلق بالأبدان؛ ولأنها لا تختص المكلف؛ لوجوبها في مال اليتيم، ومال المجنون، وقولنا: تختص المكلف يجوز أن تكون عليه برأسه، وقياسهم الحج على الدين والزكاة يشهد لقياسنا، ألا ترى أن الدين لما لم يكن عبادة، ولم يتعلق بالأبدان، لزمت(3) الورثة، فإذا ثبت بما بيناه أنَّه لا يلزم الورثة من الإرث، وأنه لا يقع عن الميت إلاَّ بالإيصاء، ثبت أنَّه يخرج من الثلث؛ لأن ما لم يلزم الورثة إخراجه إلاَّ بالوصية، فلا خلاف في أنَّه من الثلث.
فإن قيل: أليس المغمى عليه ينعقد عليه الإحرام بالغير، ويقع عنه، فما أنكرتم مثله في الحج عن الميت؟
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ في (ب): الصلاة والصيام.
(3) ـ في (ب): لزم.
قلنا: أنكرنا ذلك؛ لأن الميت لا سعي له في الحج، والمعمي عليه إنَّما يجوز للغير أن يعقد عليه بالإحرام إذا كان قد خرج من بيته، قاصداً للحج، عازماً عليه، وعُلِم ذلك من حاله، ألا ترى أن المغمي عليه في داره لا ينعقد عليه الإحرام؟ وكذلك نقول: إن الميت إن كان قد أوصى، فإن الحج يقع عنه؛ لأنَّه قد حصل فيه سعي ما، فلا يعترض على ما قلناه. (47/3)
مسألة [في الإجازة للحج]
قال: وتصح الإجارة فيه تخريجاً على قوله فيمن مات، وعليه اعتكاف، أنَّه يُستَأجر من يَعتكف عنه.
كنا خرَّجنا من الموضع الذي ذكرناه، ثُمَّ وجدنا الهادي إلى الحق عليه السلام قد نص على ذلك في (كتاب الفنون) (1)، فأغنى النص عن التخريج.
وحكى أبو العباس الحسني ـ رحمه الله تعالى ـ قريباً من معناه عن القاسم عليه السلام. وحكى نحوه عن محمد بن يحيى عليه السلام.
والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن لبى عن شبرمة ((حُجّ عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)). وقوله للخثعمية: ((حجي عن أبيك))، ولم يستثنِ إلاَّ أن يكون ذلك بأجرة، فكل من حج عن الغير يكون ممتثلاً لظاهر سواء حج بأجرة أو بغير أجرة. ومما يدل على ذلك أن الحج يقع للمحجوج عنه بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن لبى عن شبرمة حج عن نفسك، ثُمَّ حج عن شبرمة، وقوله للخثعمية حين قالت: فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم /261/ وروى ابن أبي(2) شيبة ـ بإسناده ـ عن ابن الزبير قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي مات، ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم، حُج عن أبيك، أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته))؟
__________
(1) ـ انظر كتاب الفنون 446 ـ 447.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/380، وإسناده: حدثنا وكيع، عن منصور، عن مجاهد، عن يوسف، به. وفيه زيادة: أأنت أكبر ولده.
وروى هناد ـ بإسناده ـ عن ابن الزبير العقيلي قال: أتى النبي صلى الله عليه آله وسلم: رجل، فقال: يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الضعن قال: ((حج عن أبيك، واعتمر)). فكل هذه الأخبار دالة على أن الحج يقع عن المحجوج عنه؛ لأنَّه قال صلى الله عليه وآله وسلم في كل ذلك حُجَّ عنه ـ يعني المحجوج عنه ـ ولا يصح قول من يقول: إن الحج للحاج، وللمحجوج عنه أجر النفقة، والأجرة، وثوابها؛ لأنَّه لا خلاف أنَّه لو أنفق عن المحجوج عنه أضعاف تلك النفقة في معونة الحج، لم يُجزِه عن الحج، وكذلك لو أوصى هو بأن ينفق أضعاف تلك النفقة في معونة الحاج، لم يجزه عن الحج، فبان بذلك أن الحج يقع عنه. ولا خلاف ـ أيضاً ـ أن الحاج يلزمه أن ينوي الإحرام للمحجوج عنه، فإنه(1) يستحب أن يتلفظ بذلك، ويلبي عنه، ولولا(2) أن الحج يقع عن المحجوج عنه، لم يقع(3) عنه ذلك، ولا خلاف أن الحاج لو خالف [فيه] (4) ضمن النفقة، والأجرة، فلو لا أن عمله لغيره، لم يجب ذلك. (47/4)
فإن قيل: لولا أن الحج يقع عن الحاج، لم يلزمه أن يحج إذا أفسد حجه، أو فات.
قيل له: إن الحج، وإن وقع عن المحجوج عنه دون الحاج، فلا يمتنع أن يلزمه ذلك؛ لأنه يجري مجرى ضمان الجنايات؛ لأنَّه حكم يلزم من اتفق ذلك عليه وهو محرم، فإذا ثبت ذلك، ثبت أنه مما يصح النيابة فيه، وإذا(5) صح ذلك، صح أن يفعله النائب بأجرة، وغير أجرة، دليله أداء الزكاة، ألا ترى أنَّه لما جازت النيابة في تفرقة الزكاة، جاز أن يُستأجر من يفرقها عن المزكي، وسائر الأفعال الَّتِي صح الإجارة عليها دليله وأصله.
فإن قيل: لا خلاف أنَّه لا يجوز أن يستأجر من يصلي للغير، وعندكم لا يجوز أن يستأجر من يؤذن، ومن يُعلم القرآن، فما أنكرتم على من قال لكم لا يجوز أن يستأجر من يحج عن الغير؟
__________
(1) ـ في (ب): وإنه.
(2) ـ في (ب): فلولا.
(3) ـ في (ب): يجب.
(4) ـ سقط من (أ).
(5) ـ في (ب): فإذا.
قيل له: ليست العلة فيما ذكرتم ما أشرتم إليه، بل العلة أنَّ الأذان والصلاة(1) والتعليم مما لا يصح فيه النيابة، ولا يقع عن الغير، فلم يجز أن يستحق الإنسان الأجرة على ما يفعله لنفسه، ألا ترى أن كثيراً من القرب لما صحت النيابة فيه، جاز أن يستحق عليه الأجرة، كنحو كتب المصاحف، وبناء المساجد، وحفر القبور، على أن قياسهم هذا يشهد لقياسنا، ألا ترى أنَّما ذكروه لما لم يصح النيابة فيه، لم يصح أن يُستأجر فيه من يفعله. (47/5)
فإن قيل: فكيف تقولون أن الأذان لا تصح النيابة فيه، وعندكم أن أذان الواحد يكفي الجماعة؟
قيل له : لسنا نقول أنَّه يجزي على وجه النيابة، ولكن نقول: إن الأذان فرض من فروض الكفايات، فإذا قام به البعض، سقط عن البعض الباقين، لا على طريق النيابة، ألا ترى انه لا يجب للمؤذن أن يؤذن بأجرة؟ فبان أنَّه لا تصح النيابة فيه.
فإن قيل: فما تنكرون على من قال: إن الحج لا يصح ممَّن يحج، ولو كان يحج لغيره، إلاَّ إذا أوقعه على وجه تكون قربة بدلالة أن لا يصح ذلك من الذمي، وإذا ثبت ذلك لم يجز أن يستحق عليه الأجرة؛ لأن الإنسان لا /262/ يجوز أن يستحق الأجرة على ما يتقرب به إلى الله تعالى، ألا ترى أن مما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لعثمان بن أبي العاص الثقفي: ((واتخذ مؤذناً لا يتخذ(2) على أذانه أجراً))، وإلى ما روي عنه عليه السلام أنَّه قال لمن علم رجلاً سورة من القرآن، فأهدى إليه قوساً: ((إن أردت أن يقلدك الله قوساً من نار، فاقبلها))، وإلى ما يروى عن علي عليه السلام أنَّه قال لرجل: ((إني أبغضك لأنك تبتغي على الأذان أجراً، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً))؟
__________
(1) ـ في (ب): الصلاة والأذان.
(2) ـ في (ب): تتخذ.
قيل له: لسنا نسلم أن الحج لا يصح من الحاج عن المحجوج عنه إلاَّ إذا قصد به القربة؛ لأنه لو(1) لم يقصد به إلاَّ الانتفاع بالأجرة، لصح حجه عن المحجوج عنه، ولم يُمنع ذلك في الذمي لما ذكرت، وإنَّما امتنع لأنَّه مما لا يصح إحرامه، فكان استئجاره على الحج بمنزلة أن يستأجر الإنسان على ما لا يصح فعله منه، على أنَّه لا يستحق الأجرة، وتكون الأجرة باطلة، يكشف ذلك أن كثيراً من القرب تصح من الذمي نحو الصدقة على المسلمين، وحفر البيار، وبناء القناطر، ومعونة المسلمين على الجهاد، وإنَّما لا يصح منه القرب الَّتِي لا يكون شرط صحتها الإسلام، يبين ذلك أن نكاح الذمي المسلمة لا يصح، وإن لم يكن ذلك لأمر يرجع إلى القربة، على أنَّه لا يمتنع أن يستحق الإنسان الأجرة على ما يتقرب به إلى الله تعالى بأن يشغل نفسه بكتب المصاحف للأجرة، ليكون شغله، بالقرآن، وليَعود ما يحصل له من الأجرة على عياله، أو يصرفها في وجوه البر، ولهذا قال أصحابنا من المتكلمين: إن الإنسان يجوز له أن يفعل الواجب لو جوبه عليه، وليصل به إلى الثواب، فلم يخرج القربة من أن تكون قربة، وإن حصل به فيه غرض آخر، فأما إذا اعتمدوها في الأذان، وتعليم القرآن، فهي عندنا صحيحة، وإنَّما لم يجز أخذ الأجرة عليهما؛ لأن النيابة فيهما لا تصح على ما بيناه، على أن من خالفنا في هذه المسألة يصح المعنى، ويمنع اللفظ؛ لأنهم يجوزوا أن يدفع إلى الحاج ما يحج به، ثُمَّ يضمنونه إن خالف، وهذا هو حكم الأجرة، مما زادوا على أن أوجبوا أجرة مجهولة. (47/6)
فإن قيل: فإنه لا يضمن إن خالف تضمين الأجرة، وإنَّما يضمن كما يضمن من دُفع إليه شيء ليصرفه في وجه، فصرفه في غيره.
__________
(1) ـ في (أ): إذا.
قيل له: هذا الذي ذكرتم لا يصح عند التحصيل؛ لأنَّه إذا أُعطى نفقة على أن يخرج، ويحج، فقرن، ضمن عند أبي حنيفة، وإن تمتع، ضمن في قول أبي حنيفة، ومحمد وأبي يوسف، ويكون الضمان لجميع المال، فلو كان ضمانه على ما ذكرتم، لوجب ألا يضمن ما(1) أنفقه في الطريق إلى أن أحرم؛ لأنَّه صرفه إلى ذلك الوقت في الوجه الذي أمر بصرفه فيه، وفي قولهم أنَّه ضامن جميع المال، دليل على أن ضمانه ضمان الأجير الأجرة إذا خالف، على أن ما يدفع إلى الحاج لا يخلو إما أن يكون هبة، أو إباحة، أو أجرة، ولا يجوز أن يكون هبة؛ لأن الحاج يكون إذاً بذلك حاجاً لنفسه، ولا يجوز أن يكون إباحة، ولا هبة أيضاً؛ لكونه ضامناً إذا خالف، فلم يبق إلاَّ أنَّه يكون أجرة، فصح ما ذهبنا إليه. (47/7)
فصل [في المستأجر للحج إذا مرض في بعض الطريق فانصرف]
نص يحيى بن الحسين عليه السلام في كتاب (الفنون)(2) على أن المستأجَر إن مرض في بعض الطريق، فانصرف، لم يستحق شيئاً من الأجرة.
ووجه ذلك أن الإجارة وقعت على الحج وأن السير إلى حيث يحرم دخل فيه على سبيل التبع، فلم يجب أن يكون له قسط في الأجير، وهو كما يقول في الأخير المشترك إذا سُلم إليه ما /263/ يعمله كثوب يخيطه، أو كتاب ينسخه أنَّه إذا بقي عنده مدة، ثُمَّ رده من غير أن يعمل، أنَّه لا يستحق شيئاً للحفظ؛ لأن الحفظ دخل فيه على سبيل التبع، فلم يجب [أن يكون] (3) له قسط في الأجرة، وهكذا قال فيمن استؤجر لكتاب يوصله إلى إنسان بعينه في بلد، فمضى إلى ذلك البلد، ولم يظفر بذلك الإنسان، أنَّه لا يستحق شيئاً من الأجرة للوجه الذي ذكرناه.
مسألة [في الرجل الصرورة هل يحج عن الميت إذا كان فقيراً؟]
__________
(1) ـ في (أ): كما.
(2) ـ انظر المنتخب والفنون 446 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ سقط من (أ).
قال القاسم عليه السلام في الحج عن الميت لمن لم يحج عن نفسه أنَّه يجوز إن كان فقيراً لا يمكنه أن يحج عن نفسه، وكان مُجَمِّعاً على تأدية حجة متى وجد السبيل إليه، ويكون له رغبة ورهبة في مناسكه ومواقفه. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي). (47/8)
والأصل فيه: ما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك، عن شبرمة، فقال من شبرمة؟ فقال: أخٌ لي، أو قريبٌ لي، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة. فمنعه صلى الله عليه آله وسلم أن يحج عن غيره إلاَّ بعد أن يحج عن نفسه. ثُمَّ روى ـ أيضاً ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلاً يلبي عن نُبيشة فقال: أيها الملبي عن نُبيشه أحججت عن نفسك؟ قال لا. قال: ((فهذه عن نُبيشتك، وحج عن نفسك)) فأجاز له صلى الله عليه وآله وسلم أن يحج عن نُبيشه وإن لم يكن حج عن نفسه. وروى ابن أبي(1) شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حميد بن الأسود، عن جعفر، عن أبيه، أن علياً عليهم السلام كان لا يرى بأساً أن يحج الصرورة عن الرجل. فكان فيه مثل ما في الحديث الذي ذكر فيه نُبيشه. فلما ثبت أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم نهى واحداً أن يحج عن غيره إلاَّ بعد أن يحج لنفسه(2)، وأباح لآخر أن يحج لغيره، وإن لم يحج لنفسه، كان الاختلاف الواقع فيه لا يخلو من أن يكون راجعاً إلى اختلاف حال المحجوج عنه، أو إلى اختلاف أحوال الحاج، ولا خلاف أن أحوال المحجوج عنه، لا تؤثر في ذلك، فلا بد من أن يكون المؤثر فيه اختلاف أحوال الحاج، ولا حال للحاج يؤثر فيه غير كون أحدهما ممَّن يلزمه الحج لوجود الزاد والراحلة، وكون الآخر ممن لا يلزمه الحج لعدم الزاد والراحلة، فبان أن المؤثر فيه هو ما ذهبنا إليه؛ إذ لم يقل أحد أن التأثير لغير ذلك. ولا خلاف أن الجهاد لا يقع عن الغير مع
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/194.
(2) ـ في (أ): عن نفسه.
وجوبه على الفاعل، فكذلك الحج، والمعنى أن كل واحدة منهما عبادة تتعلق بالمال، وفيهما قطع مسافة. ولا خلاف أيضاً أن من كان عليه طواف مفروض، لم يقع الطواف لغير ما لزمه، فكذلك الإحرام، والمعنى أنه ركن من أركان الحج، فوجب ألا يصح وقوعه إلاَّ على الوجه الذي لزمه. (47/9)
فإن قيل: فهلا يصح على أصلكم؛ لأن عندكم أن من كان فقيراً غير واجدٍ للاستطاعة يجوز له أن يحج عن غيره، وإن لم يكن حج عن نفسه، وهو وإن لم يلزمه الحج، فهو في منزلة من لزمه إذا حضر الحرم والميقات.
قيل له: عندنا إذا خرج لغيره بماله، لم يلزمه فرض نفسه، ويكون حاله كما كان وهو في منزله، فلا يعترض ذلك قياسَنا، ويكون الكلام بيننا وبين أصحاب الشافعي في بيان أن الفقير الذي لا يجد الزاد والراحلة إذا حضر الميقات لغيره بمال الغير لا يلزمه الحج، ويُبَيَّنُ ذلك بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً} وقد ثبت أن الاستطاعة منها الزاد والراحلة، وهذا لم يستطع إليه سبيلاً، فوجب أن لا يلزمه، وأيضاً لا خلاف /264/ بيننا وبينهم أن من قد حج يصح أن يُستأجر للحج عن الغير، وهو في منزله، فكذلك الفقير الذي لم يحج، والمعنى أنَّه مسلم، لا حج عليه، مع صحته منه، فإذا ثبت ذلك، فلا قول بعده إلاَّ قولنا.
ويجوز ـ أيضاً ـ أن نقول: إن ذلك إذا ثبت أنَّه ورد الميقات، فقد لزمه الحج عن الغير بحكم الإجارة، فلا يصح أن يلزمه إذاً الحج عن نفسه، لاستحالة أداء حجتين في سنة واحدة، فإذا لم يلزمه ذلك، حج، مضيه في حج غيره، كما صح ممَّن قد حج، على أنَّه لا خلاف أن من كان من أهل الميقات والحرم، لا يلزمه الحج، إلاَّ بوجود الزاد والراحلة، فلو عينا المسألة فيمن لا يملك شيئاً، كان لا إشكال في أنَّه لا يلزمه الحج عن نفسه، وإذا صح ذلك فيمن ذكرناه، فلا فصل بينه وبين الفقير الذي لا يجد ذلك القدر إذا حضر الحج عن الغير في قول أحد من الناس.
واشترط أن يكون ممَّن له رهبة(1) ورغبة في مناسكه؛ لأن الفاسق لا يُؤمَن على أداء ما يلزمه في ذلك، فكان ذلك وجهاً لكارهه، ذلك، ألا ترى أن في جملة ما يؤديه النية؟ وهي مما لا يُوقف عليها من غير جهته، على أن ما ذكرنا لو جعل وجهاً للمنع من جواز حجه عن الغير لم يتعذر، وإن كان ذلك غير محفوظاً عن أصحابنا. (47/10)
__________
(1) ـ في (ب): رغبة ورهبة .
باب القول في المرأة الَّتِي تحيض عند الميقات، أو عند دخولها مكة (48/1)
إذا حاضت المرأة عند الميقات، أو وردته حائضاً، تحرم كما يحرم غيرها، فتغتسل(1)، وتَطَّهَر وتلبس ثياباً نظيفة، ثُمَّ تهل بالحج، وتحرم على ما بيناه، فإن طهرت قبل دخولها مكة، تَطهرت، ودخلت مكة، وقضت مناسكها، وإن دخلت مكة وهي في حيضها، لم تدخل المسجد، فإن طهرت قبل الخروج إلى منى، تطهرت، وطافت، ثُمَّ خرجت إلى منى، وإن بقيت حائضاً إلى وقت الخروج إلى منى خرجت وأجرت الطواف إلى حين انصرافها من منى، ولا ضير فيه. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2)، وهو مما لا خلاف فيه.
والأصل فيه حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، قال: لما بلغنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذا الحليفة، ولدت أسماء بنت عميس محمدَ بن أبي بكر، فأرسلتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف أصنع؟ قال: ((اغتسلي، واستثفري بثوب، واحرمي. وروى ابن أبي شيبة(3) ـ بإسناده ـ عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرها وهي حائض أن تقضي المناسك كلها، غير أنَّها لا تطوف بالبيت.
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في الحائض أنَّها تُعْرِّف، وتنسك مع الناس المناسك كلها، وتأتي المشعر الحرام، ترمي الجمار، و تسعى بين الصفا والمروة، ولا تطوف بالبيت حتَّى تطهر. وروى ابن أبي(4) شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن يزيد بن هارون، عن الحسين بن علي عليهم السلام، قال: تقضي الحائض المناسك كلها إلاَّ الطواف بالبيت.
مسألة [في المرأة تهل بعمرة تمتعاً إلى الحج، فلم تطهر حتى وقت الخروج إلى منى]
__________
(1) ـ في (ب): تغتسل.
(2) ـ انظر الأحكام 1/301 ـ 302 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/296 وإسناده: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، به.
قال: وإن دخلت متمتعة بالعمرة إلى الحج، فلم تطهر إلى حين الخروج إلى منى، رفضت عمرتها،ورفضها لها أن تنوي أنَّها قد رفضتها، وتفرغت منها لغيرها، ثُمَّ تغتسل، وتلبس ثياب إحرامها ، ثُمَّ تهل بالحج، وتسير إلى منى، فتؤدي فرض/265/ حجتها(1)، فإذا تطهرت بعد انصرافها من منى، طافتـ وسعت لحجها، ثُمَّ طافت طواف الزيارة، وقد كمل حجها، وعليها دم تريقه بمنى لما كان من رفضها لعمرتها. (48/2)
وهذه الجملة منصوص عليها في (الأحكام) (2).
والأصل فيه: ما روي من أن عائشة وردت مكة حائضاً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي معتمرة، فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله وآله وسلم، فقال: ((دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج)) ففعلت. وقلنا: أنَّها تنوي رفضها، والانصراف عنها، لقوله عليه السلام: ((دعي عمرتك)) وأقل ذلك أن تنوي الانصراف عنها، وتأخذ في عمل الحج. وقلنا: إنها تؤخر السعي إلى أن تطهر؛ لأن السعي مرتب على الطواف، وليس لها أن تطوف وهي حائض، فأما إذا كانت طافت، ثُمَّ حاضت، كان لها أن تسعى وهي حائض، لا خلاف في ذلك. وأوجبنا عليها الدم؛ لرفضها العمرة؛ لأنها(3)لم تتم ما أحرمت له فلزمها الدم، دليله المحصر.
مسألة [في المرأة ترفض العمرة لحيضها هل عليها قضاء؟]
__________
(1) ـ في (أ): حجتها.
(2) ـ انظر الأحكام 1/302 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (أ): لأنها لو لم.
قال: وعليها أن تقضي تلك العمرة الَّتِي رفضتها، ثُمَّ تحرم بها(1) من أدنى الميقات من الشجرة، وإن أحبت فمن الجعرانة، ثُمَّ تطوف، وتسعى لعمرتها، ثُمَّ تقصر ثانياً من شعرها في كل مرة قدر أنملة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2). وقلنا: إن عليها قضاء تلك العمرة؛ لأنها قد لزمتها بإحرامها بها، لا خلاف فيه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر عائشة أن تقضي ما كانت رفضته، وقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العمرة الَّتِي(3) أحصر فيها، وسُميت تلك عمرة القضاء. وقلنا: تقضي من بعض هذه المواضع؛ لأنها أجمع خارج الحرم، خلافاً للشافعي حين قال: تحرم من حيث كانت ابتدأت. (48/3)
ووجهه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر عائشة، فاعتمرت من التنعيم، وكانت أحرمت(4) من الميقات؛ ولأن عليها أن تأتي بالعمرة، فإذا أتت بها من بعض مواقيتها، أجزتها، قياساً عليها لو كانت أوجبتها على نفسها بالنذر، أو يقال: أحرمت خارج الحرم، فوجب أن يجزيها، قياساً عليها لو أحرمت من حيث ابتدأت، وقياساً على الحج بعلة أنَّها أحرمت من بعض مواقيته. وقلنا: ثُمَّ تطوف وتسعى لعمرتها؛ إذ بهما تتم العمرة. وقلنا: تقصر ثانياً؛ لأن التقصير نسك، وقدرنا ما يقصر بقدر أنملة؛ ليكون له تأثير. وروى هناد بإسناده، عن ابن عمر أنَّه قدره بأنملة، وروى نحوه عن إبراهيم.
__________
(1) ـ في (ب): لها.
(2) ـ انظر الأحكام 1/302 ـ 303 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): حين.
(4) ـ في (ب): اعتمدت.
باب القول في الهدي (49/1)
[مسألة كم تجزي البدنة والبقرة والشاة عنه]
(تجزي البدنة عن عشرة من المتمتعين، والبقرة عن سبعة إذا كانوا من أهل بيت واحد، والشاة عن واحد)، وهو قول القاسم عليه السلام، وكذلك القول في الأضحية إلاَّ في الشاة، فإنها تجزي عن ثلاثة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2).
والأصل فيما قلنا في الجزور والبقرة: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، حدثنا(3) إسحاق بن إبراهيم الحديدي، أو الحريري، حدثنا أبو حاتم الرازي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثنا الليث بن سعد، عن إسحاق بن برزخ، عن الحسين بن علي عليهما السلام، قال: أمرنا رسول(4) الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نلبس أجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد، والبقرة عن سبعة، والجزور عن عشرة، وأن نظهر /266/ التكبير (5)، وعلينا السكينة والوقار.
وأخبرنا أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا (6) يوسف، عن بهلول، حدثنا عبد الله بن إدريس، حدثنا محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن محزمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديبية يريد زيارة البيت، وساق معه الهدي، وكان سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة.
فإن قيل: فقد روي عن جابر أنَّه قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين بدنة، البدنة عن سبعة. وروي عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الجزور عن سبعة.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/301.
(2) ـ انظر المنتخب 99، 105 وهو بالمعنى.
(3) ـ في (ب): أخبرنا.
(4) ـ في (ب): النبي.
(5) ـ في (أ): يظهر التكبير وعليه.
(6) ـ في (ب): أبو يوسف بن بهلول.
قيل له: نأخذ بالأخبار جميعاً، فنقول: إن البدنة عن سبعة على سبيل الفضل، والأخذ بالزيادة، كما أنَّها لو كانت عن واحد؛ لكان أفضل، ونقول هي عن عشرة في باب الإجزاء، وما رواه مسور، ومروان، على ما عرفا من اشتراك كل عشرة في جزور، وهذا أولى من طرح بعض الأخبار ببعض. (49/2)
فإن قيل: فما فائدة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((البدنة عن سبعة))؟
قيل له: فائدتان، إحداهما: بيان ما أجزأ عن عدد أجزأ عن دون ذلك العدد؛ إذ قد أنكره بعض أهل العلم، وهو زفر، فذهب إلى أن البقرة لا تجزي عن ستة.
والفائدة الثانية: التنبيه على الأفضل.
فإن قيل: فما فائدة ذكر السبعة دون ما فوقها أو [ما] (1) تحتها؟
قيل له: هذا السؤال ساقط؛لأنه يتوجه على كل عدد يشار إليه.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
ومن طريق النظر أنا وجدنا البقرة أعلى من الشاة، فأجزت عما لا تجزي عنه الشاة، فوجب أن تجزي البدنة عما لا تجزي عنه البقرة؛ لأنَّه أعلى منها، ويكشف أن البدنة أعلى من البقرة، كما أن البقرة أعلى من الشاة: ما أخبرنا به المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة، وفهد، قالا: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، حدثنا ابن الهاد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: مثل المهجر إلى الصلاة كمثل الذي يهدي بدنة، ثُمَّ الذي أثره كمثل الذي يهدي بقرة، ثُمَّ الذي على أثره كالذي يهدي كبشاً ثم الذي لا على أثره كالذي يهدي بيضة. ولا خلاف بيننا وبين كل من أجاز البقر في الدية أن عدد البقر ضعف عدد الإبل، ولا خلاف أن البُدن أعلى من البقر في كفارة قتل الصيد، فثبت ما بيناه. وروى هناد بإسناده أن رجلاً جاء إلى ابن المسيب فقال: إن عليَّ بدنة، فأردت أن أقدم عنها صدراً أربعاً من الغنم، وأدخر ثلاثاً، فقال سعيد: ما شأن سبع؟ إنَّما هي عشر. فقال إن الناس يقولون ذلك، فقال: بيني وبين من يقول هذا مَقاسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للجيوش، جعل لكل عشرة شاة، ولكل مائة جزوراً. فأما بيان أن الشاة تجزي عن ثلاثة، فسيجيء في كتاب الأضاحي إن شاء الله تعالى. وأما قوله إذا كانوا من أهل بيت واحد، فالأقرب عندي أنَّه قال ذلك ليكون بعضهم أقرب إلى المعرفة بأحوال البعض، فنحيط العلم بأن مقصد الجميع مقصد واحد في باب القربة، وأنه /267/ ليس فيهم من غرضه اللحم، والله أعلم. (49/3)
مسألة [في سبعة اشتركوا في بدنة فضلت، ثم وجدوها]
قال: ولو أن سبعة اشتركوا في بدنة واجبة، فضلت، فعليهم أن يبدلوا بدلها، فإن وجدوها قبل أن ينحروا الثانية، فلينحروا أيهما شاءوا، وينتفعوا بثمن الأخرى، وإن اشتركوا في هدي تطوعاً، فضَلَّ عنهم، ثم وجدوه بعدما اخلفوا مكانه غيره، وجب عليهم أن ينحروهما جميعاً. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1). (49/4)
ووجه الفرق بين المسألتين هو أن البدنة إذا كانت واجبة، فضلت، كانت الثانية بدلاً عنها، فإذا وجدت الأولى، لم يجب نحرهما؛ لأنَّه لا يجب البدل، والمبدل معاً، في شيء من الأصول، بل أحدهما يجزي عن الآخر، وإذا كانت تطوعاً، فالثانية ليست بدلاً له؛ إذ هو مما لا يجب أن يكون له بدل، فكأنهم تطوعوا بالثانية ابتداءاً، فيجب أن لا يرجعوا فيما جعلوه لله تعالى، فاستوى فيه حكم الأولى والثانية.
مسألة [في أفضل الهدي]
قال: وأفضل الهدي البدنة، ثُمَّ البقرة، ثُمَّ الشاة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، ومروي فيه عن القاسم عليه السلام، وقد ذكرنا ما دل عليه من الأثر، والنظر في المسألة الأولى، فلا طائل في إعادته، على أني لا أحفظ فيه خلافاً عن أحد من العلماء.
مسألة [فيمن لم يجد الهدي ما يلزمه؟]
قال: والمتمتع إذا لم يجد الهدي، صام قبل التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله، ومن خشي أن يفوته صيام(3) الثلاثة، فلا بأس أن يصوم ثلاثة أيام قبل دخوله مكة في إحرامه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/301 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الأحكام 1/317 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (أ): صوم الأيام.
(4) ـ انظر الأحكام 1/318 وهو بلفظ قريب.
والأصل فيه قول الله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعْ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ..} الآية. فأما الأيام الثلاثة فرَوى فيها: ما أخبرني به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر إلى الحق عليه السلام، عن محمد بن منصور، عن محمد بن عبيد، عن محمد بن ميمون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن علياً عليه السلام كان يقول: ((صيام صام ثلاثة أيام في الحج قبل التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، فإن فات تسخر ليلة الحصية، وصام ثلاثة أيام بعد، وسبعة إذا رجع. وروى ابن أبي(1)، شيبة عن جابر بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام مثله. (49/5)
وفي حديث زيد بن علي، عن أيبه، عن جده، عن علي عليه السلام في المتمتع لا يجد الهدي يصوم ثلاثة أيام في الحج آخرهن يوم عرفة، وسبعة إذا رجع إلى أهله، ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. وروى ابن أبي شيبة(2) آخر الأيام الثلاثة يوم عرفة. وروى نحوه عن عطاء والشعبي، وسعيد بن جبير، ومجاهد وطاووس، والحسن، وعلقمة، وعمرو بن شعيب. وقلنا: إنَّه يصوم الثلاثة إن خشي فوتها قبل دخول مكة في إحرامه، وفاقاً لأبي حنيفة، وخلافاً للشافعي؛ إذ قال: لا يصومها إلاَّ بعد أن يحرم للحج، لما رويناه عن علي عليه السلام، وابن عمر، أنَّه يصوم يوماً قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، ولم يشترطا الإحرام للحج، بل الظاهر أنَّه يكون قبل يوم التروية غير محرم إذ السنة للمتمتع أن يحرم بالحج يوم التروية، ولا مخالف لهما في الصحابة، فدل ذلك على أنَّه يجزي قبل الإحرام بالحج.
فإن قيل: فقد قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِيْ الْحَجِّ}.
قيل له: معناه في زمان الحج، والمتمتع محرم في زمان الحج لعمرته، فوجب أن يجزيه صيامها، والإحرام.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/154 وأخرجه فيه 3/384، وقال فيه: حاتم بن إسماعيل.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة عنهم في المصنف 3/384.
فإن قيل: فهذا يوجب أن يجزيه قبل أن يحرم. (49/6)
قيل له: هذا لا يجب من وجوه/268/:
أحدها: أنَّه لا يكون متمتعاً قبل الإحرام، والله سبحانه أوجب ذلك على من تمتع. والثاني: أنَّه لم يوجد سبب ذلك على وجه من الوجوه، فكان كمن يزكي، ولا نصاب عنده، في أنَّه لا يجزيه إذا حصل النصاب والحول.
والثالث: أن الظاهر لو اقتضاه، لصار مخصوصاً بدلالة الإجماع، على أنا لو استدللنا بالآية، لكان وجهاً؛ لأن الله تعالى أوجبه على المتمتع الذي لا يجد الهدي، وهو إذا أحرم بعمرته، لزمه اسم المتمتع عرفاً وشرعاً، ومما يدل على ذلك أنَّه حال ثبت فيها هدي المتمتع حكماً بدلالة أنَّه لا يجوز بيعه، فوجب أن يجزي فيها صوم الثلاثة الأيام قياساً على حال إحرامه بالحج، وأيضاً هو حق وجب بسبب المال، وقد وجد أحد سببيه وهو الإحرام بالعمرة، فوجب أن يجوز فعله قياساً على جواز أداء الزكاة عند وجود النصاب الذي هو أحد سببيه.
فإن قيل: لو جاز تقديمه، جاز تقديم المبدل؛ لأن البدل لا يجوز فعله في حال لا يجوز فيها فعل المبدل.
قيل له: أما تقديم الهدي، فجائز، ألا ترى أنَّه يسوق الهدي إذا أحرم بالعمرة، وإنَّما لا يجوز نحره إلاَّ في يوم النحر لدلالته، والنحر ليس هو الهدي، وإنَّما هو حكم من أحكامه، على أنَّه لا يمتنع أن يصير(1) في حال لا يصح فيها فعل المبدل، ألا ترى أن العبد يصح منه الصيام في كفارة القتل، وكفارة الظهار؟ وإن لم يصح منه العتق، وكذلك من يحضر الجمعة لا يصح منه فعل الظهر، وإن صح منه فعل الجمعة الَّتِي هي بدل منه.
فإن قيل: هو قياس النحر في أنَّه لا يجزي قبل الإحرام بالحج بمعنى أنَّه وجب بسبب التمتع، كان ذلك منتقضاً بالهدي؛ لأن الهدي يكون هدياً قبل ذلك، وإن وجب بسبب التمتع.
__________
(1) ـ في (أ): يصح.
فإن قاسوه على صوم شهر رمضان بأنه لا يجزي قبل وقته، كان الوصف غير مسلم لهم؛ لأن المتمتع إذا أحرم، كان ذلك وقتاً عندنا للصيام، ويعضد قياسنا استناده إلى قول علي عليه السلام، ومعه قول ابن عمر، ولا مخالف في الصحابة، وأنه مبادرة إلى الحسني ومسارعة إليها. (49/7)
مسألة [في المحرم يصوم بدلاً عن الهدي تم يجده]
قال: فإن صامها ثُمَّ وجد السبيل إلى الهدي، أهدى. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، ونص فيه أنَّه يلزمه إن وجده يوماً من أيام النحر، فأما إن وجده بعد أيام النحر، فلا خلاف أنَّه لا يلزمه الهدي، وأن الصوم يجزيه. قال أبو حنيفة: يلزمه الهدي إن وجده قبل أيام النحر قبل التحليل.
وقال الشافعي: لا يلزمه بحال. وأصحابنا لم يشترطوا التحليل، وإنَّما أوجبوه بوجوده في يوم من أيام النحر.
ووجهه أنَّه وجد المبدل قبل إتمام البدَل مع بقاء حكم الأصل، وهو بقاء أحكام الحج من الرمي، وطواف الزيارة، إن كان أخره، فكان كمن وجد الماء وهو في التيمم، أو في الصلاة، أنَّه لا يجوز له البناء عليه كما لا يجوز له الابتداء، ولا يجب أن يكون سبيله سبيل من وجد الهدي بعد أيام النحر بوجهين: أحدهما ما ذكرناه. والثاني : إن الذبح الذي يكون بعد أيام النحر يكون عندنا قضاءً لا أداءً، ألا ترى أن من أخر دم المتعة إلى أن تفوت أيام الذبح، فإنا نوجب عليه دماً آخر للكفارة؟ فإذا ثبت ذلك، فالواجد له بعد أيام الذبح غير واجد للمبدل حكماً، فلم يجب أن نبطل به حكم الصوم.
وهذه الطريقة قد استقصيناها بأكثر من هذا في كتاب الصوم في مسألة المظاهر إذا وجد الرقبة، وقد صام بعض الشهرين/269/.
مسألة [في وقت صيام السبعة الأيام المبدلة عن الهدي]
__________
(1) ـ انظر الأ؛كام 1/318 وهو بلفظ قريب.
قال القاسم عليه السلام: فإن صام الأيام السبعة في منصرفه إلى أهله، أجزأه. قال: وإذا صامها في أهله، وصلها، ولم يفرقها. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي) ومروي عنه في (الأحكام) (1). أما جواز صيامها في (2) قبل انصرافه إلى أهله، فهو قول أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي. (49/8)
ووجهه أن الله تعالى قال: {وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ} بعد قوله: {ثَلاثَةُ أَيَّامٍ فِيْ الْحَجِّ} فكان ظاهره يقتضي الرجوع من الحج على أنَّه لا ذكر في الآية للأهل فوجب أن يكون الحكم متعلق بأول ما سمى رجوعاً، وهو الرجوع من الحج.
فإن قيل: لو كان كذلك، لوجب أن يكون هذا متعلقاً بالرجوع من عرفة.
قيل له: لا خلاف أنَّه غير مراد، على أن ذكر عرفة لم يجر في أول الكلام، وإنما جرى ذكر الحج جملة، فيجب أن يتعلق الحكم بأول ما يسمى رجوعاً من الحج، وذلك لا يكون إلاَّ بعد الفراغ منه، وهو قياس على صوم الأيام الثلاثة، أو على سائر الصيام في أنَّه لا يتخصص بمكان دون مكان، ولا خلاف أنَّه يصح فعلها إذا رجع إلى أهله، فكذلك قبل ذلك، والمعنى أنَّه فعلها بعد الفراغ من الحج.
فإن قيل: فقد رويتم عن علي عليه السلام أنَّه قال: وسبعة إذا رجع إلى أهله.
قيل له: قد روى ذلك، وقد روي إذا رجع مطلقاً، فيجوز كلا الأمرين. وكذلك إن قالوا: إن ذلك قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل له: لا يمتنع من جواز ذلك.
فإن قيل: فما الفائدة في قوله عليه السلام إذا رجع إلى أهله؟
قيل له: تكون الفائدة أن يعلم أن وجوبه موسع، وله تأخيره إلى حين الإنصراف إلى الأهل. وقوله أنَّه يصلها، ولا يفرقها، على الاستحباب؛ إذ لا وجه لإيجاب التتابع فيه.
ووجه الاستحباب ما روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وابن عمر، الصوم في الأيام الثلاثة على جهة التتابع، فاستحب أن تكون السبعة مثلها.
مسألة [في المحصر إذا لم يجد الهدي]
__________
(1) ـ في الأحكام 1/319 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (ب): بعد.
قال: ولو أن محصراً لم يجد الهدي، صام ثلاثة أيام قبل الحج، وسبعة بعد أيام التشريق. وهو منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2). قال في (الأحكام): ثُمَّ يُحل، يعني بعد استكمال صيام عشرة أيام. قال أبو حنيفة: لا يجزيه الصيام، ويبقى حراماً إلى أن يجد ويطوف ويسعى ويحل، وأحد قولي الشافعي أنه يجزيه صيام عشرة أيام إذا لم يجد الهدي، وهي إحدى الروايتين عن أبي يوسف. (49/9)
ووجهه: أنَّه دم وجب لاستباحة محظور، فوجب أن يكون للعدول عنه إلى الصوم فيه مسرح؛ قياساً على دم الحلق، واللبس، والطيب، و ـ أيضاً ـ هو دم وجب للتَرفُّه، فوجب أن يجوز العدول عنه إلى الصوم عند العجز، دليله دليل التمتع، ثُمَّ أصول الجزاءات في الحج تشهد لنا؛ لأن للصوم فيها مساغاً، إما على طريق التخيير، وإما على طريق الترتيب.
فإن قيل: فإن الله تعالى ذكر الهدي للمحصر، ولم يذكر الصيام.
قيل له: لهذا احتجنا إلى القياس فيه.
فإن قيل: فالقياس في مثله لا يسوغ؛ لأنَّه رفع النص في الموضع الذي يقع العجز فيه، أو لأنَّه زيادة في النص، وهو نسخ، أو لأنه ابتداء شرع.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/295 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 105 وهو بلفظ قريب.
قيل له: عندنا أن القياس فيه جائز، وقولكم أنَّه رفع النص في موضع من المواضع، فبكذا يكون التخصيص، ولا خلاف أن تخصيص(1) القرآن بالقياس جائز بيننا وبين /270/ المخالف في هذه المسألة، وإنَّما يبطل القياس إذا كان رافعاً للنص جملة، وقولهم أنَّه زيادة في النص لا معنى له؛ لأن هذا القبيل من الزيادة عندنا يجوز بيانه(2) بالقياس، ولا يكون نسخاً. وقولهم: إن هذا شرع مبتدأ لا معنى له؛ لأنا لم نُشرع ابتداء، وإنَّما قسنا موضعاً على موضع؛ ولأن صح أن يقال في مثله أنه ابتداء شرع، لصح مثله في جميع القياس، وهذا يؤدي إلى إبطال القياس جملة؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا جَعَلَ عَلِيْكُمْ فِيْ الدِّيْنِ مِن حَرَجٍ} ومذاهبهم تؤدي إلى ذلك، فوجب أن يكون ما قلناه أولى. وقال: ثلاثة في الحج، وسبعة بعده، قياساً على صوم التمتع. (49/10)
مسألة [في المتمتع يفوته وقت صيام الثلاثة الأيام؟]
قال القاسم عليه السلام: وإذا فات المتمتع صيام ثلاثة أيام قبل الحج، صامها أيام منى. قال: فإن فاته صومها، فعليه دم. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
ووجه ما ذهبنا إليه من أنَّه يصوم أيام منى إن لم يكن صامها قبلها: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا يحيى بن سلام، حدثنا شعبة، عن ابن أبي ليلى، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في المتمتع إذا لم يجد الهدي، ولم يصم في العشر، أنَّه يصوم أيام التشريق. وقد قال الله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ فِيْ الْحَجِّ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ}، وهذه الأيام من أيام الحج لبقاء أعمال الحج فيها.
__________
(1) ـ في (أ): تخصص.
(2) ـ في (أ): اتيانه.
وروى أبو(1) جعفر ـ بإسناده ـ عن عائشة، وابن عمر، أنهما كانا يرخصان للمتمتع إذا لم يجد هدياً، ولم يكن صام قبل عرفة، أن يصوم أيام التشريق. وقد مضى عن علي عليه السلام أنَّه قال: ((فإن فاتت(2) تسحر ليلة الحصبة وصام ثلاثة أيام))، فصار كالإجماع من الصحابة أنَّه يجوز إذا فات صيام الثلاثة قبل الحج أن يصومها بعد النحر. (49/11)
فإن قيل: فقد رويت أخبار كثيرة في النَّهي عن الصوم في أيام التشريق.
قيل له: نخص تلك الأخبار بخبرنا؛ لأنَّه أخص، ومن مذهبنا بناء العام على الخاص، ولا خلاف في جوازها قبل يوم النحر، فكذلك أيام التشريق، والمعنى أنَّها وقت لبعض أعمال الحج.
ووجه قولنا إنَّه إذا فاته، فعليه دم، وفاقاً لأبي حنيفة، وخلافاً للشافعي، وهو أن الله تعالى أجاز العدول عن الدم إلى بدل منه ـ صيام ثلاثة أيام في الحج ـ فإذا فات البدل، بقي حكم المبدل على ما كان عليه، مثل كفارة القتل؛ لأنه العجز إذا وقع عن الصيام، بقي في الذمة وجوب العتق، ولا خلاف أن صيام السبعة لا يجزي قبل زمان الفراغ من الحج، فوجب أن لا يجوز صيام الثلاثة بعده؛ قياساً عليه، والمعنى أنَّه صوم مرتب على الحج، فوجب أن لا يصح فعله على خلاف ما رتب عليه، و ـ أيضاً ـ هو عبادة مؤقته مفعولة بدلاً عن أصل، فإذا فات، وجب أن لا يقضي، ويُرجع إلى الأصل، دليله الجمعة إذا فاتت، لم تقضَ ووجب الرجوع إلى الأصل الذي هو الطهر.
فإن قيل: لسنا نسلم أن الجمعة بدل من الظهر، بل هي أصل.
قيل له: هذا خلاف في العبارة: لأنا لا نريد أكثر من أنَّه إذا فعل الجمعة بشروطها، سقط الظهر، وأنه لا يسقط الظهر إلاَّ بفعلها، وعلتنا تترجح بالحظر، والاحتياط، وقياسنا في رد حكم(3) الثلاثة إلى السبعة أولى من قياسهم؛ لأنَّه رد الشيء إلى جنسه.
مسألة [في نتاج الهدي هل يلحق به؟]
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/243.
(2) ـ في (ب): فات.
(3) ـ في (أ): في حكم رد.
قال: وإن ساق /271/، فنتجت بدنة فيجب في الطريق، فهي وما نتجت هدي، ولا يجوز أن يشرب من لبنها، بل يترك في ضرعها ما فصل عن ولدها، فإن خشي من تركه في الضرع ضرراً، حلبه، وتصدق به على المساكين، وإن شرب هو، أو بعض خدمه منه تصدق بقيمة ما شرب على المساكين، وكذلك القول في البقرة والشاة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1). (49/12)
ووجه قولنا أن البدنة إذا نتجت صار ولدها هدياً: أن القربة إذا تعلقت بالرقبة تسري إليه؛ لأن العقود والقرب الَّتِي تتعلق بالرقاب تسري إلى الأولاد، كما نقول ذلك في ولد المبيعة، وولد المرهونة، وكذلك(2) المعتقة. وروى ابن أبي(3) شيبة بإسناده عن ابن عمر أنَّه كان يحمل ولداً لبدنة عليها.
ووجه منعنا له من الانتفاع بلبنها أن اللبن منها وتابع لها في حكمها، فلم يجز له أن يستهلكه منتفعاً به، والأحب إلينا أن يترك في ضرعها إن فضل عن ولدها ليبلغ معها المحل، فإن خشي أن يضر بها ذلك، تصدق به على المساكين؛ ليكون قد دفع الضرر عنها، فإن انتفع هو به، تصدق بقيمته، كما قلنا ذلك في من أكل لحم صيد في الحرم.
فإن قيل: فأنتم تجوزون الأكل من لحم هدي المتعة للمتمتع، وهكذا هدي القرآن، فهلا أجزتم شرب لبنها؟
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/329 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (ب): وولد.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/390.
قيل له: نحن إنَّما نجوز ذلك إذا بلغ محله، ونُحر؛ للدلالة الَّتِي مضت، فأما قبل ذلك، فلا نجيز، ألا ترى إلى ما رواه ابن عباس وهو: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا ابن اليمان، حدثنا ابن شجاع، حدثنا محمد بن بشير العبدي، حدثنا سعيد بن عروة، عن قتادة، عن سنان بن سلمة، عن ابن عباس، أن ذؤيباً الخزاعي حدثه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث معه البدن فيقول: ((إذا عطب منها شيء، فخشيت عليها موتاً، فانحرها، ثُمَّ أغمس بعلها في دمها، واضرب صفحتها، ولا تطعم منها أنت ولا أحد من رفقتك))، فكان ذلك حكماً في جميع الهدي، وإن كان فيه التطوع الذي يجوز الأكل منه بعد أن يبلغ محله، فقد بان أن الانتفاع به قبل المحل ودونه(1) لا يجوز للمهدي، ومن كان قائماً مقامه، فكذلك قلنا في لبنها. وقلنا: إن حكم البقرة والشاة في ذلك حكم البدنة؛ لأن الأدلة الَّتِي ذكرناها لا تختص البدن دون غيرها. (49/13)
مسألة [في المتمتع أم القارن يؤخر ذبح هديها حتى تخرج أيام النحر، وهل يأكلا من لحم الهدي والكفارة؟]
قال: وإذا أخر المتمتع، أو القارن، ذَبْحَ هديه حتَّى تخرج أيام النحر، فعليه أن يذبح هديه الذي كان عليه، وعليه دم لتأخير ذبح هديه، ولهما أن يأكلا من الهدي، وليس لهما أن يأكلا من الكفارة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
__________
(1) ـ في (أ): دونه.
(2) ـ انظر الأحكام 1/326، 330 وهو بلفظ قريب.
ووجهه أنَّه ترك نسكاًً واجباً حتَّى مضى وقت أدائه، فوجب أن يلزمه الدم، كما ذكرنا فيمن ترك الرمي إلى آخر أيام التشريق، ولا يمتنع أن تلزم الكفارة مع القضاء كما قلناه، فيمن أخر الرمي، وقاله المخالف فيمن أفسد يوماً من رمضان أنَّه يجمع بين القضاء والكفارة. وكذلك المفسد للحج لا خلاف أن عليه القضاء مع الكفارة وقلنا: إنَّه يأكل من الهدي، ولا يأكل من الكفارة؛ لأن هدي القارن والمتمتع قد ثبت أنَّه يجوز الأكل منه إذا ذُبح في وقته على ما بيناه فيما تقدم، فكذلك إذا أخر؛ لأن التأخير لا يغير حكمه، فأما الكفارة فلا يجوز الأكل منها؛ لأنها جبران لنقص محظور بالإحرام، فأشبه جزاء الصيد، وفدية الأذى. (49/14)
مسألة [في حكم الهدي عرض في الطريق]
قال: ولو أن /272/ رجلاً ساق هدياً، فمرض في الطريق، وخاف صاحبه من تلفه، فله أن يبيعه، ويشتري بثمنه هدياً سواه من الموضع الذي باع الهدي فيه، فإن كان ثمنه لا يبلغ ثمن هدي يستأنفه، وجب على صاحبه أن يثمنه، وإن كان ثمنه فوق ثمن الهدي الثاني، ابتاع بالفاضل هدياً آخر، وإن كان شاة، وإن لم يبلغ الفاضل ثمن شاة، اشترى به طعاماً وتصدق به على المساكين بمنى بعد نحره لهديه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/330 وهو بلفظ قريب.
ووجهه: أنَّه وإن جعله هدياً، فهو بعد على ملكه؛ بدلالة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساق الهدي عام الحديبية، ثُمَّ لما أحصر، جعله هدي الاحصار، وقد سماه الله تعالى هدياً بقوله سبحانه: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} ثُمَّ جعله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك عن الاحصار، وقد أشرك علياً عليه السلام في الهدي الذي ساق عام حجة الوداع، ولو كان قد خرج عن ملكه، لم يجز أن يشرك فيه غيره، وأيضاً قد علمنا أن الْمُهدي يلزمه نحر الهدي الذي يملكه، بدلالة أنَّه لو نحر هدي غيره، لم يجزه، فلو كان قد خرج عن ملكه لم يجزه نحره على أنَّه لو كان قد خرج [عن ملكه](1) لجاز له أيضاً أن يتصرف فيه بالولاية الَّتِي له، ألا ترى أنَّه يسوقها، ويبلغها المحل، ويتولى مصالحها، وله الخيار في الموضع الذي ينحره فيه، وفي الوقت الذي ينحره فيه، وفي قسمة لحمه، فإذا كانت هذه الولاية باقية، فيجب أن يجوز بيعه، الاستبدال به إذا خشي تلفه. (49/15)
فإن قيل: هلا كان حكمه حكم أم الولد في أنَّه لا يجوز بيعها؟
قيل له: لأن أم الولد قد حصل لها جزء من العتق، وهذا لم يحصل له شيء يمنع البيع؟
وقلنا: يشتري بثمنه غيره؛ لئلا يكون صرفه عن جهته. وقلنا: يزيد في ثمنه إذا أحوج إليه؛ لأنَّه ببيعه واستبداله قد تضمن ذلك. وقلنا: إن فضل شيء عنه، اشترى به هدياً(2) آخر إن أمكن، وإلاَّ تصدق به، فيكون جهة الفاضل جهة الأصل، ولئلا يكون قد رجع في شيء قد جعله لله تعالى.
مسألة [في حكم هدي العمرة يبلغ الحرم فيخاف تلفه فينحر]
وكل هدي لعمرة إذا بلغ الحرم، فخيف عطبه، فنحر، أجزى، ولا غرم على صاحبه، وكل هدي كان للحج، فهو مضمون إلى يوم النحر، إن تلف قبله، لزم صاحبه غرمه. ومكة محل المعتمرين، كما [أن](3) منى محل الحاجين.
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ في (أ): هدايا.
(3) ـ سقط من (أ).
الفصل الأول منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وقال في (المنتخب) (2) مكة محل المعتمرين كما منى محل الحاجين. لا خلاف أن هدي(3) العمرة إذا بلغ الحرم جاز ذبحه، أو نحره. (49/16)
وروى هناد بإسناده عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه نحروا الهدي، وحلوا بالحديبية حين أحصروا، فقال لهم(4): حلوا في الحرم، ثُمَّ تلا قوله تعالى: {ثُمَّ مَحلهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيْقِ} فالحرم محلها.
وروى بإسناده، عن عطاء، قال: كل هدي دخل الحرم، فعطب، فقد وفى عن صاحبه، إلاَّ هدي المتعة، فإنه لا بد من نسيكة يحل بها يوم النحر. فأما هدي الحج، فقد قلنا فيما مضى في مسألة هدي الحاج إذا أحصر ما هو الوجه لما ذهبنا إليه.
وأيضاً روى هناد ـ بإسناده ـ عن عطاء، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منى كلها منحر، وفجاج مكة طريق ومنحر. وروى ـ بإسناده ـ عن زيد بن أسلم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((منى من مكة)). فلما ثبت أن منى من مكة، وأفرد صلى الله عليه وآله وسلم منى عن مكة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((منى كلها منحر))، دل ذلك على أن منى منحر على الانفراد على وجه؛ إذ لو لم يكن كذلك، لم يكن لتخصيصه بالذكر وجه، وإذا(5) /273/ ثبت ذلك، ثبت أن منى منحر الهدي الذي يختص الحج.
مسألة [في بدنة القارن هل يقف بها جميع المواقف؟]
ويستحب للقارن أن يقف ببدنته المواقف كلها، ولا يحمل عليها شيئاً، إلاَّ أن تنتج فيحمل ولدها عليها، ولا يركبها هو ولا أحد من خدمة إلاَّ من ضرورة شديدة، فيركبها ركوباً لا يتعبها ولا يعيرها، فإن رأى رجلاً من المسلمين ضعيفاً قد فدحه المشي، جاز له أن يحمله عليها الليلة بعد الليلة.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/330 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 106 ولفظه: الجزارين من مكة محل المعتمرين.. الخ.
(3) ـ في (ب): دم.
(4) ـ في (ب): إنهم.
(5) ـ في (ب): فإذا.
جميعه منصوص عليه في (المنتخب) (1)، وما ذكرناه من أنَّه لا يركبها إلى آخر الفصل منصوص عليه في (الأحكام)(2). وقلنا: إنَّه يستحب له أن يقف بها المواقف كلها، لما: روى ابن أبي(3) شيبة، حدثنا ابن نمير، عن الحجاج، عن عطاء قال: عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبدن الَّتِي كان أهدى. وروى بإسناده(4) عن ابن عمر لا هدي إلاَّ ما قُلد، وأشعر، ووقف بعرفة. وقلنا: إنَّه لا يركبها. ولا يُركبها أحداً من خدمه، ولا يحمل عليها شيئاً؛ لأنَّه قد جعلها لله تعالى، فلا يحب الانتفاع بها إلاَّ من ضرورة، فإن ركبها من ضرورة، ركبها ركوباً لا يَضُر بها. (49/17)
__________
(1) ـ انظر المنتخب 109، وذكر فيه جميع الفصل.
(2) ـ انظر الأحكام 1/292 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/363.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/364.
والأصل فيه: ما أخبرنا به علي بن إسماعيل، حدثنا ابن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، أخبرنا أبو الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يسأل عن ركوب البدنة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((اركبها بالمعروف إذا ألجيت إليها حتَّى تجد ظهراً)). وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا محمد بن بكر الشهرستاني(1)، حدثنا ابن جريج، حدثني عبد الكريم بن مالك بن عكرمة ـ مولى ابن عباس ـ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يسوق بدنة قد التاث، فقال: ((اركبها)) فقال: إنها بدنة فقال: اركبها غير مفدوحة. فدل ذلك على ما ذهبنا إليه، وأما ولدها فعلتنا أنَّه يحمل عليها لأنَّه منها، وفي حكم البعض منها، هدي معها على ما بيناه. وروى ابن أبي شيبة(2) بإسناده، عن ابن عمر أنَّه كان يحمل ولد البدنة عليها. وقلنا: إنَّه إذا رأى من المسلمين من قد فدحه المشي حمله عليها الليلة بعد الليلة؛ لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك على ما رويناه؛ لأنَّه لم يفصل بين المهدي وبين غيره في ذلك؛ ولأنه ما جاز للمهدي(3) كان في غيره أجوز، إذ هو قربة وطاعه. وقلنا الليلة بعد الليلة؛ لئلا يتبعها، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم اركبها غير مفدوحة. (49/18)
مسألة [في مكان إراقة دم نسيان السعي]
قال: ومن وجب عليه دم لنسيانه السعي، أراقه حيث أحب. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (4).
ووجهه: أن وجوب الدم بمجرده لا يقتضي تخصيصه بمكان دون مكان، فقد روى هناد بإسناده، عن نافع، عن ابن عمر، قال: من نذر بدنة، فلا ينحرها إلاَّ بمنى، أو بمكة، ومن نذر جزوراً فلينحرها حيث شاء.
__________
(1) ـ في (ب): الترساني.
(2) ـ تقدم تخريجه.
(3) ـ في (ب): في المهدي.
(4) ـ انظر المنتخب 113 وهو بلفظ قريب.
والوجوه الَّتِي توجب كون النحر بمنى أو بمكة وجوه مخصوصة كلها مرتفعة عن الدم الذي يجب لنسيان السعي؛ لأن الذي يجب إراقته بمنى، أو بمكة، هو الذي يجبر نقص الإحرام، أو يقع فيه الخلل، أو يرفع به بعض أحكام الإحرام، أو يكون الإيجاب قد تضمن أن يكون ذلك بمنى ومكة، نحو أن يجعلها هدياً، وكل ذلك غير حاصل في الدم الذي ذكرناه، فوجب أن لا يتخصص بموضع دون موضع. (49/19)
وإن شئت حررت القياس فيه، فقلت هو دم لم يخصصه الموجب بمكان، ولم يخص(1) به الإحرام ولم يقع به /274/ التحليل، فأشبه واجب الأضحية، ويمكن أن يقال أنَّه لم يقف عليه شيء من أمر الإحرام، ولم يعلق بمكان، فأشبه الأضحية، يؤكد ما ذهبنا إليه أنَّه دم قصد به التخفيف، فكان ما ذهبنا إليه أذهب في الطريقة الَّتِي وضع عليها، فكان أولى.
فإن قيل: فدم الاحصار ـ أيضاً ـ موضع للتخفيف؛ لأنَّه يتحلل به، ومع هذا لا تجوزونه في غير الحرم.
قيل له: نحن لم نجعل ما ذكرناه علة فتناقض هذا بما سألت عنه، وإنَّما أوردناه ترجيحاً وبياناً؛ لأنَّه أذهب في طريقته، فلا معتَرض بما ذكرت علينا.
مسألة [فيمن يبعث بهديه ثم يتأخر عن اليوم الذي حدد لتقليده]
قال: فلو(2) أن قارناً أو متمتعاً بعث بهدي مع قوم، وأمرهم بتقليده في يوم بعينه، وتأخر هو، لزمه الإحرام في ذلك اليوم بتقليدهم بدنته. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
والأصل فيه: الحديث الذي ذكرناه بإسناده في صدر هذا الكتاب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً في المسجد فَقدَّ قميصه من جنبيه، حتَّى أخرجه من رجليه، فنظر القوم إليه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((إني أمرت ببدنتي الَّتِي بعثت بها أن تقلد اليوم، وتشعر، فلبست قميصي، ونسيت)).
__________
(1) ـ في هامش (ب): يجبر.
(2) ـ في (ب): فلو.
(3) ـ انظر الأحكام 1/3340 وهو بلفظ قريب.
وروى ابن أبي(1) شيبة، حدثنا ابن عبد الوهاب الثقفي، عن جعفر، عن أبيه، أن علياً عليه السلام وعمر، وابن عباس كانوا يقولون في الرجل يرسل ببدنته أنه يمسك عما يمسك عنه المحرم. (49/20)
فإن قيل: فقد روى عن عائشة قالت: كنت أفتل القلائد لهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقلد هديه، ثُمَّ يبعث به، ثُمَّ يقيم، ولا يجتنب شيئاً مما يتجنبه المحرم.
قيل له: يجوز أن يكون ذلك إذا لم يكن أراد الاحرام به، وأن يكون ما ذكرناه إذا بعث الهدي وهو عازم على الإحرام؛ ليكون جمعاً بين الأخبار يؤكد ما ذكرناه: ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إذا قلد الهدي صاحبه يريد العمرة أو الحج فقد أحرم(2).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/128.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/126.
باب القول في النذور بالحج وما يتعلق به (50/1)
[مسألة:ـ فيمن جعل على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام]
من جعل على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام، فعليه أن يخرج متوجهاً إليه، يمشي ما أطاق، ويركب إذا لم يطق، فإن كان ركوبه أقل من مشيه، أهدى شاة، وإن كان مشيه أقل من ركوبه، أحببنا له أن يهدي بدنة، وإن استوى مشيه وركوبه، احببنا له أن يهدي بقرة، وإن تعذر(1) عليه البدنة والبقرة، أجزته شاة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
والأصل فيه: حديث ابن عباس أن أخت عقبة ابن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تركب، وتهدي، وتحج.
وروى ابن أبي(3) شيبة ـ بإسناده ـ عن علي عليه السلام قال: ((إذا جعل عليه المشي فلم يستطع فليهدِ بدنة وليركب)).
__________
(1) ـ في (ب): تعذرت.
(2) ـ انظر الأحكام 1/318 ـ 319 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/317، وإسناده: حدثنا حفص، عن حجاج، عن الحكم، به.
وأخبرنا علي بن إسماعيل، حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتته امرأة فقالت: إني جعلت على نفسي مشياً(1) إلى بيت الله الحرام، وإني لست أطيق ذلك، قال: تجدين ما تستخصين به؟ قالت: نعم قال: فامشي طاقتك، واركبي إذا(2) لم تطيقي، واهدي لذلك هدياً)) ففي هذا أنَّه إذا جعل على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الإحرام بحجة(3) أو عمرة؛ لأنَّه لو لم يلزمه ذلك، لكان صلى الله عليه وآله وسلم يسألها هل نؤت أمراً(4) سوى /275/ المشي، فلما لم يسألها عن ذلك، وأمرها أن تركب، وتهدي، علم أن اللفظ يقتضي ما ذكرناه، وكذلك قول علي عليه السلام: إذا جعل عليه المشي، فلم يستطع، فليركب، وليهدِ، يدل على ذلك؛ لأنَّه لم يشترط أن يكون جعله المشي عليه يتضمنه الإحرام، ولا خلاف أن المشي إذا لم يتضمن الإحرام لا يلزمه الوفاء به، فبان أن من جعل على نفسه المشي إلى بيت الله، فقد أوجب على نفسه أن يحرم، وأيضاً فقد ثبت أن الأأيمان والنذور طريق الإيجاب بها العرف، وقد صار العرف في أن من أوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام يكون موجباً للإحرام، فبان بما بيناه أنَّه يلزمه الخروج متوجهاً لما ألزم نفسه. (50/2)
__________
(1) ـ في (ب): المشي.
(2) ـ في (أ): إن.
(3) ـ في (ب): بحج.
(4) ـ في (ب): شيئاً.
ووجه إيجاب الدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألزمه، وكذلك أمير المؤمنين عليه السلام فإنما(1) ألزمه ذلك؛ لأن المشي في الحج والعمرة قربة، فتعلق به النذر، فلما لم يمكنه [في النذر] (2) الوفاء به، لزمه جبره، والذي يدل على أن المشي في الحج والعمرة قربة قوله صلى الله عليه آله وسلم في أخت عقبة ((لتركب، ولتهدي)) فجعل الهدي عوضاً من المشي، فدل ذلك على أن القربة تعلقت بالمشي. (50/3)
وأيضاً روي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنَّه قال: لبنيه اخرجوا إلى مكة حاجين مشاة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن للحاج الماشي بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم. قلت: يا رسول الله، وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة مائة ألف حسنة)). وروى هناد بإسناده أن الحسن بن علي عليهم السلام كان يمشي والنحايب تقاد معه.
وروى بإسناده أن الحسين بن علي عليهما السلام كان يمشي في الحج ودوابه تقاد. روى هناد بإسناده إلى ابن عباس أنَّه قال بعد ما ذهب بصره: ما آسى على شيء من الدنيا إلا على شيء واحد: أن أكون مشيت إلى بيت الله الحرام، فإني سمعت الله تعالى يقول: {يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر}.
__________
(1) ـ في (ب): وإنما.
(2) ـ سقط من (ب).
ووجه استحبابنا إن كان الركوب أكثر من المشي أن يهدي بدنة،وإن كان مثله أن يهدي بقرة؛ لأن دم لما كان جبراً للمشي، وكان ما يجب أن يجبر أكثر، أحببنا أن يكون الجبر أعظم؛ لأن هذا هو الأصل في أعمال الحج والعمرة الَّتِي تجبر، ألا ترى أن المفسد لإحرامه بالوطء يلزمه بدنة، ومن قتل من الصيد ما هو أعظم، كان جزاؤه أعظم، وكذلك سائر ما يجبر منه. وقلنا: إن الشاة تجزي؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرها أن تركب، وتهدي، ولم يراعِ كثرة الركوب وقلته، وما روي عن أمير المؤمنين من قوله: فليهد بدنة، محمول على الاستحباب فيمن كان مشيه أقل؛ إذ لا أحد قال في ذلك بالإيجاب(1)، وكذلك حديث زيد بن علي عليهم السلام يدل على ذلك، وبه قال أبو حنيفة. (50/4)
مسألة [في نية من نذر على نفسه المشي إلى بيت الله]
قال القاسم عليه السلام فيمن قال لله على المشي إلى بيت الله الحرام له نيته إن نوى حجاً أو عمرة، فإن لم يكن له نية. أجزته عمرة واحدة. وهذا منصوص عليه في باب الأيمان من (مسائل النيروسي). وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
__________
(1) ـ في (أ): بالاستحباب.
ووجهه ما قد بيناه أنَّه إذا قال على المشي إلى بيت الله الحرام فقد تضمن إيجابه الإحرام بحجة أوعمرة، فإن كانت له نية في إحداهما، فكان اللفظ أوجب إحراماً على صفة، فإن /276/ لم تكن له نية، فهو بمنزلة من أوجب إحراماً بحجة أو عمرة؛ لأن اللفظ أوجبهما على التخيير، فله أن يأتي بأيهما شياء لا يجابه إياهما على نفسه على طريق التخيير، يبين ذلك ويكشفه أن ما أوجبه الله علينا من طريق التخيير نحو الكفارات الثلاث في كفارة اليمين، ونحو ما أوجب سبحانه في جزاء الصيد، قلنا(1): أن يختار واحداً منهما، فكذلك ما نوجبه من طريق النذر على أنفسنا؛ إذ ليس إيجابنا بأوكد من إيجاباً لله تعالى، ولا(2) فرق بين أن يوجب لفظاً أو معنى؛ إذ حكم الإيجاب لا يتغير في ذلك، فصح ماذهبنا إليه. (50/5)
مسألة [فيمن جعل على نفسه ذبحها أو ذبح ولده أو أخيه أو عبده أو أمته]
قال: ولو أن رجلاً قال لله علي أن أذبح نفسي، أو ولدي، أو أخي بمكة، وجب عليه ذبح كبش فيها، وإن قال: بمنى ذبحه بمنى. وإن قال: علي أن أذبح عبدي، أو أمتي، فعليه أن يبيعه ويهدي بثمنه ذبائح في الموضع الذي ذكره من مكة أو منى. وكذلك إن قال: علي أن أذبح فرسي، باعه، وأهدى بثمنه ذبائح، أو قال: أذبح أم ولدي، أو مكاتبي، فالقول فيه كالقول إذا قال: أذبح نفسي، أو أخي. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (3).
والأصل فيه أن مذهب يحيى عليه السلام أن شرائع الأنبياء عليهم السلام الماضين يلزمنا، ما لم يثبت نسخها، وقد ثبت أن الله تعالى أمر نبيه إبراهيم عليه السلام أن يفتدي ابنه إسماعيل صلوات الله عليهما بذبح الكبش بدلاً له، قوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} فثبت أن افتداء الابن من الذبح شرع له، ولم يثبت نسخه، فوجب أن يلزمنا ذلك.
__________
(1) ـ في (ب): فلنا أن نختار واحداً منها.
(2) ـ في (ب): فلا.
(3) ـ انظر الأحكام 1/331 وهو بلفظ قريب.
فإن قيل: كيف يصح لكم الاستدلال بهذا، وأنتم تقولون أن إبراهيم عليه السلام كان أمر بمقدمات الذبح، ولم يكن أُمر بالذبح؛ لامتناع نسخ الشيء قبل وقت فعله عندكم، على أنَّه إن صح أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أُمر بالذبح ومقدماته، فشيء من ذلك لا يثبت الآن؛ لأنَّه لا خلاف أن من قال عليَّ(1) لله أن أذبح ابني، لا يلزمه مقدمات الذبح، ولا الذبح، فكيف يستمر هذا؟ (50/6)
قيل له: لسنا نعلم عن أئمتنا عليهم السلام تفاصيل ما سألت عنه من تكليف إبراهيم صلوات الله عليه وآله وسلم، وإن كان الأصح عندنا وعند شيوخنا المتكلمين ما ذكرته في سؤالك من أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان مأموراً بمقدمات الذبح، إلاَّ أن استدلالنا بذلك على تفاصيل تلك الأحوال.
ووجه الاستدلال منه أنَّه قد ثبت أن إبراهيم عليه السلام أمر بالافتداء بذبح الكبش عن ابنه إسماعيل عليهما السلام، فصار الذبح الكبش مسرح في الإفتداء الذبح الابن في شريعته، ولم يثبت نسخه، فيجب أن يكون لنا مسرح في أن نفتدي ذبح الابن بذبح الكبش، وإذا ثبت ذلك، فلم يثبته أحد إلاَّ على الوجه الذي ذهبنا إليه، فصح ذلك، وروى هناد، حدثنا أبو الأحوص، عن ليث، عن عطاء، قال: نذر رجل أن ينحر ابنه، فأتى ابن عباس، فسأله، فأمره أن يفديه بكبش، ثُمَّ قرأ ابن عباس هذه الآية: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظَيْمٍ}.
__________
(1) ـ في (ب): لله عليَّ.
فكان في ذلك تنبيه على طريق الاستدلال به. وروى هناد، حدثنا وكيع، عن سفيان بن منصور، عن الحكم، عن علي عليه السلام في رجل نذر أن يذبح ابنه قال عليه بدنة. فدلت هذه الأخبار على أن الصحابة أجمعت على أن هذا نذر يتعلق به الحكم، وأنه ليس بهدر، ثمَّ حصل الإجماع بعدهم على أن لا حكم إلاَّ ما /277/ ذهبنا إليه؛ لأن الناس فيه على أحد قولين: إما القول بأنه هدر لا حكم له، وأما القول بإيجاب الذبح. فأما ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله: ((عليه بدنة)). وما روي عن ابن عمر، وأحد الروايتين عن ابن عباس من قولهما : ((عليه الجزور))، فيجوز أن يكون ذلك على الاستحباب في الزائد على الشاة، ألا ترى أنا نستحب لكل من لزمه دم أن يجعله جزوراً، وإن قلنا إن الشاة تجزي؟ (50/7)
وروى هناد، عن ابن عباس ـ بأسانيد ـ من طرق شتى إيجاب الكبش. وروى نحو قولنا عن مسروق، وأبي حنيفة، ويحيى بن أبي زائد، وروى عن إبراهيم ينحر بدنة، وعن عطاء فيمن حلف لينحرن نفسه ينحر بدنة، فإذا ثبت ذلك في قوله لله على أن أذبح ابني، ثبت في قوله: عليَّ أن أذبح نفسي، أو أخي؛ لأنَّه علق الذبح بمن لا يصح ذبحه، ولا بيعه، وكذلك المكاتب، وأم الولد، للعلة الَّتِي ذكرناها. فأما إذا قال علي لله أن أذبح عبدي، أو أمتي، فإنما أوجبنا عليه [أن يجعل] (1) أثمانهما في الذبائح؛ لأن البيع يصح فيهما، ولما صح أن يقول القائل إذا باع عبده، أو فرسه، فاشترى ذبائح بثمنهما، أنى جعلتهما ذبائح، وجرى ذلك القول مجرى قوله إني صرفت ثمنهما في ذبائح، كان قوله عليَّ أن أذبحهما جارياً مجرى قوله عليَّ أن أجعل ثمنهما ذبائح، فلذلك قلنا: إنه يبيع العبد والأمة والفرس، ويشتري بأثمانهما(2) ذبائح. وقلنا: إن حكم الفرس في ذلك حكم العبد والأمة لوجهين:
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ بأثمانهما في (أ) و (ب): وما أثبتناه ظنن عليه في الهامش.
[الأول] أنَّه عنده عليه السلام لا يؤكل لحمه، فجرى مجرى العبد والأمة في أنَّه لا يهدي به. (50/8)
والثاني أن من يرى أكل لحمه ـ أيضاً ـ لا يجعله مما يهدي، أو يضحى به.
مسألة [فيمن جعل ماله في سبيل الله أو هدايا إلى بيت الله، كم يصرف منه]
قال: فإذا(1) قال جعلت مالي في سبيل الله، أو هدايا إلى بيت الله، وجب عليه تصريف ثلث ماله في الوجه الذي ذكره له، وله أن يمسك ثلثيه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، ومروي فيه عن القاسم عليه السلام.
ووجهه أنَّه لا خلاف في أن النذر لا يتعلق بما لا يكون قربة، فقد ثبت أن إخراج الرجل جميع ما يملكه لا يكون قربة، بل يكون محظوراً؛ لأنا نعلم من دين المسلمين أنهم لا يختلفون فيمن تصدق بجميع ماله حتَّى لا يتبقى ما يكسو به عورته، ويسد جوعته، ويكفي عيلته، أنَّه لا يحمد على ذلك، بل يذم، يُعرف ذلك من حال العقلاء أجمع، وقد نبه الله تعالى نبيه على الانفاق من غير إسراف، ونهاه عن الإقتار، وقد مدح [الله] (3) سبحانه من وقف بين ذلك فقال: {وَالَّذِيْنَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} ولا يجوز أن يمدح الله سبحانه أحداً على الانصراف عن فعل القرب، فعلم أن الإفراط في إخراج ما يملك لا يكون قربة.
__________
(1) ـ في (ب): فإن.
(2) ـ انظر الأحكام 1/332 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ سقط من (ب).
وروى أبو بكر الجصاص ـ بإسناده ـ عن جابر قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل بمثل البيضة ذهباً، فقال يا رسول الله، أصبت هذا من معدن، فخذه، فهو صدقة، ما أملك غيرها، فأعرض عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ أتاه من قِبَل يمينه، فقال: مثل ذلك، فأعرض عنه، ثُمَّ أتاه مرة، فأخذها صلى الله عليه وآله وسلم فخذف بها، ثُمَّ قال صلى الله عليه وآله وسلم يأتي أحدكم بما يملك، فيقول: هذا صدقة، ثُمَّ يقعد يتكفف الناس خير صدقة ما كان عن طهر عني، ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم رده علمه بعد ما جعله صدقة فبان أن ذلك لم يكن قربة، وإذا لم يكن قربة للوجوه الَّتِي ذكرناها، لم يتعلق النذر بجميع ما يملكه، ويتعلق ببعضه، فوجب أن ينصرف إلى الثلث مثل الوصية، وقياساً عليها فالعلة(1) أنَّه أمر إذا علق بجميع المال /278/ تعلق ببعضه، فوجب أن ينصرف إلى الثلث، أو يقال: إنَّه إخراج مال موضوعة للقرب، ولا يلزم إلاَّ بإلزام رب المال، فوجب أن يقصر على الثلث، دليله الوصية، وليس لهم أن يمتنعوا من الوصف للأصل بأنه موضوع للقرب، لجواز الوصية وإن لم يتعلق بها القربة، وذلك أنا قلنا: إن موضوعه للقرب، وإن لم نقل إنَّه قربة، وموضوع الوصايا للقرب، وإن جاز فيها ما ليس بقربة. (50/9)
__________
(1) ـ في (ب): والعلة.
فإن قاسوه على الإقرار، كان ذلك شاهداً لنا؛ لأن الإقرار لما لم يجب انصرافه عن الكل إلى البعض، لم يجب تعلقه بالثلث، وكذلك لما لم يكن موضوعه موضوع القرب، لم يتعلق بالثلث، على أن الإقرار ليس هو ابتداء إيجاب، فلم يجب أن يكون حكم النذر حكمه، ألا ترى أن الإقرار إنما هو إخبار عن وجوب(1) متقدم، والنذر إيجاب مبتدأ وهو بالوصية أشبه منه بالإقرار، على أنَّه قد حكي عن أبي حنيفة أنَّه لو(2) قال: مالي في المساكين صدقة، انصرف ذلك إلى ماله الذي يجب فيه الزكاة، وقد حكى عنه أنَّه يتصدق بماله كله، ويمسك منه مقدار قوته، فإذا أفاد مالاً تصدق بمثل ما كان أمسك، وأي ذلك صح، ثبت تعليلنا أنَّه أمرء ذا علق بجميع المال، تعلق ببعضه(3) فوجب أن ينصرف إلى الثلث؛ قياساً على الوصية. (50/10)
مسألة [فيمن نذر أن يهدي أخاه أو ولده أو رجلاً أجنبياً إلى بيت الله]
قال: ولو أن رجلاً نذر أن يهدي ولده، أو أخاه، أو أباه، أو رجلاً أجنبياً، إلى بيت الله سبحانه، وجب عليه حمله إليه حتَّى يغرم عنه، ويحج به، ويرده إلى أهله، فإن قال: أهدي عبدي، أو أمتي، أو فرسي، باعه، واشترى بثمنه هدايا يتصدق بها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4). إذا قال الرجل إني(5) أهدي فلاناً لرجل حر فلا شيء فيه عند أبي حنيفة، والشافعي، وفي قول مالك أنَّه يهدي عنه هدايا، وحكى ذلك عن الزهري، وحكي عن الحسن بن صالح مثل قولنا.
ووجه ما ذهبنا إليه أن قول الرجل(6) أهديت كذا إلى كذا يقتضي إيصال الْمَهدي إلى الْمُهدى إليه من جهة اللغة، فلما كان ذلك كذلك، كان قول القائل عليَّ أن أهدي فلاناً إلى بيت الله يقتضي إيجاب إيصاله إلى يبت الله تعالى، وذلك مما يتعلق به القربة، لا خلاف فيه.
__________
(1) ـ في (ب): حق.
(2) ـ في (ب): إن.
(3) ـ في (أ): ببعض.
(4) ـ انظر الأحكام 1/332، 333.
(5) ـ في (ب): أنا.
(6) ـ في (ب): القائل.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((من جهز حاجاً، أو خلفه في أهله، كان له أجر مثله)) فلما كان ذلك على ما بيناه، لزمه الوفاء به، ولا وجه لأن نجعل هذه اللفظة هدراً؛ لأنه قد أفاد معنى تتعلق القربة به، دليله سائر النذور، ولا وجه أيضاً لحمله على الهدي عنه؛ لأن اللفظ لا يقضي به، وإنَّما يقتضي حكماً في نفس من قيل فيه إنَّه يهدى، وليس قوله أنَّه يحج به على إيجاب ذلك فقط، إذ الواجب عليه أن يوصله إلى البيت الحرام بحج أو عمرة، على ما بيناه في قول القائل عليَّ المشي إلى بيت الله، وإنَّما ذكر الحج؛ لأنَّه المقصود في الأغلب، فأما إذا قال ذلك في الفرس والعبد وما يملكه، فوجه قولنا أنه يبيعها، ويشتري بثمنها هدايا، ويتصدق بها أن العرف في قول القائل: جعلت فرسي، وعبدي، هدايا: أنه يفيد أنَّه جعل ثمنه هدايا على ما بيناه في قول القائل: عليَّ أن أذبح عبدي، أو فرسي، أو أمتي، فصح ما قلناه. (50/11)
تم الجزء الثاني من شرح التجريد بحمد الله، ومنه وإعانته
[وذلك من ستة أجزاء والحمد لله رب /279/ العالمين] (1)
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في (أ).
كتاب النكاح (51/1)
باب القول في اللواتي يحل أو يحرم نكاحهن
بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله
مسألة: [في نكاح ذات الرحم المحرم]
قال قدس اللّه روحه: يحرم على الرجل نكاح اللواتي ذكر اللّه تعالى تحريمهن في كتابه بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلِيْكُمْ أُمُّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}، إلى آخر الآية، وهن: الأمهات، والجدات، وإن علون، والبنات، وبنات البنات، وإن سفلن، والأخوات، وبنات الأخوات، وبنات الأخوة، وبنات بناتهن، وإن سفلن، والعمات، وعمات العمات، وإن بعدن، والخالات، وخالات الخالات، وإن بعدن.
ويحرم من الرضاع جميع اللواتي ذكرنا كما يحرم من النسب. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والأصل في جميع ما ذكرنا قول اللّه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلِيْكُمْ أُمُّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمُّهَاتُكُمْ اللاَّتِيْ أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمُّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِيْ فِيْ حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِيْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلِيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِيْنَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} فدخل في قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمُّهَاتُكُمْ}، الجدات وجدات الجدات وإن علون؛ لأن اسم الأمهات يتناولهن.
ودخل في قوله: {وَبَنَاتُكُمْ} بنات البنات وبناتهن، وبنات البنين وبناتهن وإن سفلن؛ لأن اسم البنات يتناولهن، لا خلاف في ذلك.
ودخل في قوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ} عمات العمات، وإن بعدن.
ودخل في قوله تعالى: {وَخَالاتُكُمْ} خالات الخالات، وإن بعدن؛ لتناول الاسم لهن.
__________
(1) انظر الأحكام 1/342 ـ 343.
ودخل في قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} بناتهم وبنات بنيهم وبناتهن، وإن نزلن، وكذلك في قوله: {وَبَنَاتُ الأُخْتِ}، لما ذكرناه تناول الاسم لهن. (51/2)
وحرم بقوله سبحانه: {وَأُمُّهَاتُكُمْ اللاتِيْ أَرْضَعْنَكُمْ} الأمهات المرضِعات، والأخوات من الرضاعة، على ما يجيء تفصيله في كتاب الرضاع.
وقلنا: يحرم من الرضاع جميع اللواتي ذكرنا كما يحرم من النسب؛ لما أخبرنا به أبو سعيد عبدالرحمن بن محمد بن حمزة الأبهري، قال: أخبرنا أبو زيد محمد بن بشر بن عبدالله الزبيري، قال: حدثنا يحيى بن نصر بن سابق الخولاني، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنا عبدالله بن لهيعه، والليث بن سعد، عن زيد بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، عن عروة بن الزبير، أن عائشة أخبرته أن عمها من الرضاعة ـ يسمى أفلح ـ استأذن عليها، فحجبته، فأخبرت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: <لا تحتجبي منه؛ فإنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب>..
وأخبرنا أبو سعيد الأبهري، قال: أخبرنا أبو زيد محمد بن بشر، قال: حدثنا يحيى بن نصر، قال: حدثنا عبدالله بن مسلم القرشي، قال: أخبرنا مخرمة، عن أبيه، قال: سمعت حميد بن عبدالرحمن بن عوف يقول: سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقول: قيل لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أين أنت يا رسول اللّه عن ابنة حمزة ـ أو قيل: ألا تخطب ابنة حمزة بن عبدالمطلب؟ قال: <إن حمزة أخي من الرضاعة>.
وفي حديث زيد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: عرضت على رسول اللّه تزويج ابنة حمزة، قال: <إنها ابنة أخي من الرضاعة يا علي، أما علمت أن اللّه عزَّ وجل حرم من الرضاعة ما حرم من النسب>.
فدلت هذه الأخبار على أن الرضاع في باب التحريم كالنسب، ووجب أن يخص بها قول اللّه تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}، لوجهين /7/ أحدهما أن الخبر خاص، والآية عامة، وعندنا أن العام يجب أن يبني على الخاص. والثاني أن الخبر حاظر، والآية مبيحة، ومن حكم الحاظر أن يقدَّم على المبيح، ويُجعل أولى. (51/3)
مسألة [في نكاح أم الزوجة وبنتها]
قال: ويحرم على الرجل نكاح أم امرأته، دخل بها، أو لم يدخل، وكذلك حكم جداتها، وإن علون، ويحرم عليه ابنة امرأته إن كان دخل بها، وكذلك بناتها، وبنات بناتها، وإن سفلن؛ وكذلك بنات بنيها، وإن لم يكن دخل بها لم يحرمن عليه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
فإن قيل: أليس قد قال الهادي عليه السلام في أول كتاب النكاح من (الأحكام)(2): (ثم حرم سبحانه أمهات النساء على أزواج بناتهن إذا كانوا قد دخلوا بالبنات) فكيف حكيتم عنه تحريم أم المرأة على الزوج دخل بابنتها أو لم يدخل؟
قيل له: إنَّه عليه السلام ذكر أمهات النساء في (الأحكام) في موضعين، فقال في أول الموضعين(3) ما حكيت عنه، ولم يذكر حالهن في تحليل أو تحريم، إذا لم يكن الأزواج دخلوا ببناتهن، ولم يكن في هذا نقض لما حكيناه، وقال حين توسط الكتاب لا يجوز أن تنكح أم امرأة ملك عقد نكاحها دخل بها، أو لم يدخل(4)، لأنها محرمة مبهمة التحريم، فقطع في هذا الموضع ما كان توقف فيه في الموضع الأول، ونص عليه، وهذا يدل على أنَّه حين ذكر المسألة أولاً كان متوقفاً، وحين ذكرها ثانياً كان قاطعاً، فكان المذهب ما قطع به دون ما توقف فيه وإلى هذا ذهب عامة الفقهاء.
وحكي عن بعض الصحابة أن أم المرأة لا تحرم إلاَّ بالدخول على ابنتها، وإليه ذهبت الإمامية؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/344.
(2) انظر الأحكام 1/344 وزاد فيه: أو لم يدخلوا.
(3) ينظر ففيه التحريم سواء دخل بها أم لم يدخل انظر الأحكام 1/344.
(4) انظر الأحكام 1/362.
والأصل في ذلك قول اللّه عزَّ وجل في ذكر التحريم: {وَأُمُّهَاتُ نِسَائِكُمْ..} الآية، فأطلق التحريم في أمهات النساء، وجعله في بناتهن بشرط الدخول. (51/4)
فإن قيل: إن من حكم الشرط إذا ورد عقيب جملة من الكلام أن يرجع إلى جميعها، وإذا كان كذلك، فالواجب أن يكون الشرط راجعاً إلى أمهات النساء كرجوعه إلى بناتهن.
قيل له: يجب رجوع الشرط إلى جميع ما تقدم إذا كان مما يصح رجوعه إليه، فأما إذا استحال ذلك، فلا يجب، ويجب رجوعه إلى ما يصح من الجملة، وقد علمنا أن قوله: {مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِيْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فلا يجوز أن يرجع إلى أمهات النساء، بل يستحيل ذلك؛ لأن الأمهات لا يكن منهن فلا يصح ذلك، وإنما يكن بناتهن منهن، لأن ((مِن)) هاهنا لابتداء الغاية؛ لأن ((من)) مبني على ثلاثة أوجه:ـ
(1) للصلة كما قال تعالى: {يَغفِرْ لَّكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}. والمعنى ذنوبكم.
(2) و((من)) لابتداء الغاية كما قال: {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ}.
(3) و((من)) للتبعيض والتمييز ـ كما تقول: هذا ثوب من خز.
فإذا ثبت ذلك، صح ما قلنا من أن رجوع هذا الشرط إلى الأمهات لا يصح، فوجب إبهام تحريمهن على ما اقتضته الآية.
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون ((مِن)) هاهنا دخلت للتبعيض، فكأنه تعالى قال من جملة نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فلا يستحيل أن يكون راجعاً إلى الأمهات.
قيل له: هذا لا يصح، لأن ((مِن)) إذا كان دخولها هاهنا للتبعيض، فتقدير الكلام وأمهات نسائكم من /8/ نسائكم اللاتي دخلتم بهن على سبيل التقديم والتأخير، ولو كان ذلك كذلك، لوجب أن يرجع الشرط إلى أمهات النساء فقط دون الربائب؛ لأن ((مِن)) إذا كانت للتبعيض فيجب أن يكون الذي دخل عليه من جملة ما تناوله الاسم، ألا ترى أنا إذا قلنا هذا البيت من شِعر فلان، فيجب أن يكون شعر فلان مشتملاً على ذلك البيت، وقد أجمع الجميع على أن الشرط راجع إلى الربائب، وإن اختلفوا في الأمهات، ولا يصح ذلك إلاَّ بأن تكون ((من)) لابتداء الغاية، فصح ما قلناه. (51/5)
فإن قيل: فقد روي عن علي عليه السلام أنَّه جعل أمهات النساء في هذا الباب بمنزلة بناتهن.
قيل له: إن الأصح عندنا عنه عليه السلام خلافه، إذ قد روى عنه زيد بن علي عليهما السلام ما نذكره بعد هذه المسألة، ويدل على ذلك: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <إذا تزوج الرجل بالمرأة، ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فله أن يتزوج ابنتها، وليس له أن يتزوج أمها> ـ وأيضاً ـ تحريمها لسبب لم يتعلق بأمها، فأشبهت أزواج الأب، وحلائل الأبناء، فإن الدخول لا يجب أن يكون شرطاً فيه، وهذا الاعتبار أولى من اعتبار حالها بحال الابنة؛ لأن الأصول تشهد له؛ لأن كل موضع تعلق التحريم بالعقد فيه لا يراعى فيه الدخول، ألا ترى أن تحريم الأختين يتعلق بالعقد، ولا يراعى فيه الدخول(1)، ولأن اعتبارنا يقتضي أن تحريم الأختين يتعلق بالعقد، ولا يراعى فيه الدخول، ولأن اعتبارنا حظر العقد، وينقل عن الأصل؛ إذ الأصل جواز نكاحها.
مسألة [في نكاح حليلة الابن والأب]
قال: ويحرم على الرجل حليلة ابنه، وبني ابنه، وإن سفلوا، وكذلك حليلة أبيه، وأجداده، وإن علوا.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2).
__________
(1) وكذلك تحريم تزويج الخامسة تعلق بالعقد ولا يراعى فيه الدخول.
(2) انظر الأحكام 1/344.
والأصل في حليلة الابن قوله تعالى في ذكر التحريم: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِيْنَ مِنْ أَصْلابِكُمْ}، وفي حليلة الأب قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، والمسألة لا خلاف فيها. (51/6)
وقد روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: <حرم اللّه من النسب سبعاً، ومن الصهر سبعاً، فأما السبع من النسب، فهي الأم، والبنت، والأخت، وبنت الأخت، وبنت الأخ، والعمة، والخالة. وأما السبع من الصهر، فامرأة الأب، وامرأة الابن، وأم المرأة دخل بالبنت أم لم يدخل بها، وابنتها إن كان دخل بها، وإن لم يكن دخل بها فهي حلال، والجمع بين الأختين، والأم من الرضاعة، والأخت من الرضاعة>. فكان ذلك موافقاً لما نطق به القرآن.
مسألة [في الجمع بين امرأتين بينهما رحم محرم]
قال: ويحرم على الرجل الجمع بين الأختين، وبين كل امرأتين لو كانت إحداهما رجلاً حرم التناكح بينهما؛ للنسب، أو للرضاع، دون النسب(1).
نص في (الأحكام)(2) على تحريم الجمع بين الأختين ونبه على تحريم الجمع بين كل امرأتين بينهما رحم محرم؛ إذ علل تحريم الجمع بني الأختين بالتباغض المعهود بين الضرائر المؤدي إلى قطيعة الأرحام، فقلنا ذلك تخريجاً، وقلنا ذلك في الرضاع، لأنَّه عليه السلام أجرى الرضاع في هذا الباب مجرى النسب.
والأصل في تحريم الجمع بين الأختين قول اللّه تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}.
__________
(1) في (أ): يحرم التناكح بينهما للسبب أو الرضاع دون النسب. فظنن عليه. والنسب بالسبب وفي هامش (ب) حاشية عليها: أي دون النسب فقط، فليتأمل.
(2) انظر الأحكام 1/344.
وقلنا: بتحريم الجمع بين الامرأتين إذا كان بينهما رحم محرم: لما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول /9/ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يتزوج الرجل المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا على ابنة أخيها، ولا على ابنة أختها، لا الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى>. (51/7)
وأخبرنا أبو الحسين عبدالله بن سعيد البروجردي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عمر الدينوري، قال: حدثنا أبو قلابة الرقاشي، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، عن همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها.
وروى أبو داود في (السنن)(1) بإسناده، عن عامر، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: <لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على ابنة أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على ابنة أختها، لا تنكح الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى>.
وقلنا ذلك في الرضاع، لقوله: <يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب>.
مسألة [فيمن أراد الزواج بامرأة لا تحل له مع زوجته]
قال: وأيما رجل كانت عنده امرأة، وأراد أن يتزوج بأخرى لا يحل الجمع بينهما، لم يكن له أن يتزوجها حتى يطلق التي عنده، وتنقضي عدتها إن كانت التطليقة رجعية، وإن كانت بائنة، جاز له أن يتزوج الأخرى وهي في عدته.
وكذلك القول في من له أربع نسوة، وأراد أن يتزوج أخرى.
نص في (الأحكام) (2) على ما ذكرنا في الأربع، ورواه عن جده القاسم عليه السلام، روى(3) ذلك عنه فيمن كانت عنده امرأة فطلقها، وأراد أن يتزوج أختها، فقلنا بذلك في كل امرأتين لا يحل الجمع بينهما؛ إذ لا فصل بين المرأتين. وهو قول الشافعي.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/231 وفيه: ولا تنكح الكبرى.
(2) انظر الأحكام 1/359 ـ 360.
(3) في (أ): وروى.
قال أبو حنيفة: العدة في هذا الباب كالنكاح، يمنع ما يمنع فيه النكاح. (51/8)
والدليل على ذلك قول اللّه تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ}، وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى}، وقوله: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}، فأباحت هذه الظواهر عقد النكاح لما ذكرنا.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى في التحريم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}.
قيل له(1): ما ذكرناه لا يكون جامعاً بينهما، لأنَّه لا يملك المطلقة، ولم يبق عقد نكاحه عليها، فكيف يكون بينهما جامعاً؟
فإن قيل: يحصل هناك ضرب من الجمع بينهما، لأنَّه يستحق ولدها، وتلزمه نفقتها.
قيل له: المراد بقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}، إنما هو في النكاح دون سائر الأحوال، وإذا كان هذا هكذا، فليس الذي ذكرتم من الجمع المراد بالآية في شيء، على أن قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} لا يمكن إدعاء العموم في الجمع، لأنَّه يقتضي جمعاً واحداً، وكذلك قال أصحابنا من المتكلمين في قوله عزَّ وجل: {يُضِلُّ مَنْ يَّشَاءُ}، أنه لا يمكن ادعاء العموم في الإضلال، وأنه في حكم المجمل، وإذا كان هذا هكذا، وجب أن يحمل على ما ثبت أنَّه هو المراد بالدلالة وهو النكاح في الحرائر.
فإن قيل: قد نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها.
__________
(1) في (ب): لهما.
قيل له: النهي لا يتناول ما اختلفنا فيه، لأنَّه لا يقال نكحها على عمتها إلاَّ إذا كانت عمتها في نكاحه، فأما إذا ارتفع النكاح بينهما، فاللفظ لا يتناوله، ولا خلاف أنها إذا انقضت عدتها، جاز التزوج بأختها، فكذلك إذا كانت في العدة، والعلة أنها لا تحل إلاَّ بعد عقد جديد، وهذا القياس أولى من قياسهم لها عليها لو كانت في عدة تطليقة رجعية؛ لأن التي تكون في عدة تطليقة رجعية في حكم الزوجة، لأنَّه يملك وطأها ويجري بينهما توارث /10/ الزوجية، وليس كذلك البائن، بل هي بالأجنبية أشبه، بل أبعد حالاً من الأجنبية، لأن المطللقة ثلاثاً لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، والأجنبية تحل له دون ذلك، والمختلعة ليس له أن يتزوجها أكثر من مرتين، وليس كذلك الأجنبية، فإن له أن يتزوجها ثلاث مرات. (51/9)
فإن قيل: العدة تمنع المرأة مما يمنعه النكاح.
قيل له: منعت المرأة من ذلك، لأنها معتدة وليس على الرجل عدة، وإنما المانع للزوج هو النكاح فقط، كما أن المانع للمرأة هو النكاح والعدة، فكما أن المرأة إذا ارتفع عنها النكاح والعدة جاز لها التزوج، فكذلك الزوج إذا ارتفع عنه النكاح جاز له التزوج، وأيضاً وجدنا الرجل يحل له نكاح الأخرى إذا انقضت عدة هذه، وإن لم يكن تزوج بها، فكذلك إذا بانت منه وإن كانت في العدة.
والعلة أنَّه لم يملك بضعها بعقد النكاح ولا خلاف أن الإعتداد من غيره لا يمنعه من النكاح، فكذلك اعتداد البائن منه، والمعنى أنَّه اعتداد لا يملك إبطاله مع صحة تصرفه، وليس لهم أن يجعلوا بقاء بعض أحكام النكاح من استحقاق الولد ووجوب النفقة عليه علة؛ لأنَّ كثيراً من أحكام النكاح تبقى بعد انقضاء العدة، ثم لا يكون بقاؤه منعاً من النكاح بالإجماع، ألا ترى أنها تصح أن تصير له على أقل من ثلاث إن كانت البينونة بغير الثلاث، وإن كانت للثلاث، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ولا تحل لأبيه ولا ابنه، ولا تحل أمها له ولا ابنتها، إن كانت مدخولاً بها، وشيء من ذلك لا يجب في الأجنبية، فعُلم أنَّه كله من بقايا أحكام النكاح وإن لم يمنع الزوج من النكاح، فبان أن الاعتبار إنما هو ببقاء معظم أحكام النكاح الذي هو تملكه البضع دون سائر أحكامه، على أن ما يختص بالنكاح نحو الظهار والإيلاء والتوارث لا يتعلق على البائن وإن كانت في العدة، والأحكام التي ذكروها فهي استحقاق النسب ووجوب النفقة، ونحو كونها محبوسة بسبب تعلق به كلها مما يثبت على بعض الوجوه مع عدم النكاح أصلاً، فكل ذلك يكشف أن البائن وإن كانت في العدة، فهي بالأجنبية أشبه منها بالتي تحت العقد، فصح ما ذهبنا إليه. (51/10)
مسألة [في الجمع بين المرأة وبنت زوجها]
قال: ولا بأس أن يجمع الرجل بين امرأة وبنت زوجها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وهو مما لا خلاف فيه اليوم، وإن كان قد حكى الخلاف فيه عن بعض السلف.
وروى يحيى، عن أبيه، عن جده القاسم عليه السلام أن عبدالله بن جعفر جمع بين ابنة أمير المؤمنين عليه السلام وزوجة له.
ووجهه أنَّه ليس بينهما حرمة نسب ولا رضاع، فأشبهتا الأجنبيتين.
مسألة [في نكاح المطلقة ثلاثاً]
__________
(1) انظر الأحكام 1/357.
ومن طلق امرأته ثلاثاً لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ويجامعها في فرجها، ثم يطلقها، أو يموت عنها، وتنقضي عدتها، إذا تزوجها رغبة فيها. (51/11)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
والأصل فيه قول اللّه تعالى فيمن طلق الثالثة: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}، ولا خلاف فيه.
وقلنا: ويجامعها في فرجها لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال للتي طلقها رفاعة ثلاثاً: <أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك>، يعني الذي تزوج بها بعد رفاعة.
وروى نحوه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن عليه السلام.
وقلنا: /11/ إذا تزوجها رغبة فيها لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لعن المحلِل والمحلَل له، ويجب أن يكون المراد إذا عقد عقداً غير صحيح للتحلل، وفي هذا فساد قول من قال: إنَّه إن وطأها في عقد نكاح فاسد، حلت للزوج الأول.
مسألة [في نكاح أهل الذمة]
قال: ولا يحل للمسلم(2) نكاح الذمية، ولا للذمي نكاح المسلمة.
نص في (الأحكام) (3) على تحريم نكاح الذميات على المسلمين، ونبه على ما ذكرناه من تحريم نكاح المسلمة على الذمي.
فأما تحريم نكاح المسلمة على الذمي، فهو مما لا خلاف فيه بين المسلمين، فلا وجه للإستقصاء فيه.
وأما تحريم الذميات على المسلمين، فهو قول القاسم، والناصر عليهما السلام، واختلفت الرواية في ذلك عن زيد بن علي عليهما السلام، وحكاه أبو العباس الحسني(4)، عن محمد بن عبدالله عليهما السلام، وعن ابن عمر في مسائل الخلاف.
والذي يدل على صحة ما يذهب(5) إليه الهادي عليه السلام من تحريمهن قول اللّه سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ..} الآية، فحرم سبحانه علينا نكاح المشركات، وإنكاح المشركين.
__________
(1) انظر الأحكام 1/365.
(2) في (أ): ويحل للرجل المسلم.
(3) انظر الأحكام 1/381 ـ 389.
(4) في (أ): رحمه الله.
(5) في (أ): ذهب.
فإن قيل: فظاهر القرآن إنما أوجب النهي عن نكاحهن، فمن أين لكم أن النكاح إذا وقع(1) منهياً عنه، فهو غير صحيح؟ (51/12)
قيل له: هذا يفسد من وجهين:
أحدهما ـ أن الأظهر عند أصحابنا أن النهي يدل على فساد المنهي عنه، وأنه لا يقع موقع الصحيح، فعلى هذا الوجه يسقط هذا السؤال، ويوضح هذه الطريقة ما عرف من أحوال الصحابة والتابعين ومَن بعدهم إلى يومنا هذا أنهم كانوا يفزعون لإفساد العقود والعبادات بوقوعها على وجه قد نُهي عنه، كما روي ذلك في الربا، وبيع الغرر، ونكاح المحِرم، والإغتسال بما قد بيل فيه.
والوجه الثاني ـ لا خلاف في أن وقوع المنهي عنه إذا كان على وجه أخل بشرط جعله الشرع شرطاً في صحة ذلك الأمر أنَّه لا يقع موقع الصحيح، والآية قد دلت على أن إيمانها شرط في صحة نكاح المسلم إياها، بقوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمِشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}، فنبه سبحانه على أن الإيمان شرط في صحة نكاحهن، فإذا لم يحصل الشرط يجب أن يقع فاسداً.
فإن قيل: فهذا وارد في المشركات فمن أين لكم أن حكم الذميات حكمهن؟
__________
(1) في (ب): إذا وقع وإن وقع منهي عنه.
قيل له: اسم الشرك لا يستعمل في الشرع على ما تفيده اللغة، لأن ذلك لو كان كذلك، لجاز أن يقال للمؤمن أنَّه مشرك إذا أشرك غيره في سلعة أو عمل أو نحوهما، ولَمَّا لم يجز ذلك، عُلم أنَّه قد جعل في الشرع اسماً لكل من جحد النبؤة، فكل من كان كذلك فاسم الشرك يتناوله بإطلاق الشرع، على أن اللّه تعالى قد وصفهم بأنهم مشركون بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُوْنِ اللهِ} على أنَّه لا خلاف في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً} أنَّه ليس المراد به مقصوراً على أن لا يثبتن لله سبحانه شريكاً، بل كان المراد أن يؤمِنَّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبجميع ما جاء به، فبان أن الجحد به وبما جاء به من الشرك، على أنَّه لا خلاف بين المسلمين أنا لو تمكنا من بلاد الروم لقتلناهم لعموم قوله: ؟{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ}، مع كونهم نصارى كما نقتل أهل الأوثان، فبان أن اسم الشرك يتناولهم، على أن الدلالة لو رتبت في وثنية تهودت، لسقط هذا الإعتراض، لأن اللّه سبحانه قال: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وهذه مشركة لم تؤمن، بل تهودت، فالتحريم باق على حاله، وإذا ثبت ذلك في اليهودية التي كانت من قبل وثنية فلم يفرق أحد من المسلمين بينها وبين التي لم تزل يهودية. (51/13)
ويدل على ذلك ما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا ابن اليمان، قال: حدثنا(1) /12/ بن شجاع، قال: حدثنا معلى(2) بن عيسى بن يونس، عن أبي بكر، عن عبدالله بن أبي مريم، عن علي بن أبي طلحة، عن كعب بن مالك أنَّه أراد أن يتزوج يهودية، أو نصرانية، فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: <إنها لا تُحصنك>.
__________
(1) في (أ): محمد بن شجاع.
(2) في (أ): يعلى عن عيسى بن يونس.
وروى أبو العابس الحسني(1) في (النصوص) بإسناده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى كعب بن مالك، وفي بعض الأخبار<دع فإنها لاتحصنك>. فليس يخلو المراد بالإحصان من أحد أمرين، إما أن يكون الإحصان الذي يستحق الزاني معه الرجم، أو إحصان العفاف، ولا يجوز أن يكون [المراد به] (2) الإحصان الذي يستحق معه الرجم، لأن القول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج مخرج التنفير عن هذا النكاح والتزهيد، ولا يجوز أن يزهد الإنسان في فعل إذا فعله كان معه أبعد من استحقاق القتل، لأن التنفير بمثله لا يصح من عاقل، فثبت أن [ليس](3) المراد به لا تكسبك العفاف؛ لأن المسلمة والكتابية في هذا سواء، فلم يبق إلاَّ أن يكون المراد [به] (4) لا تبقيك على العفاف، ولا يجوز أن يكون فعل من الأفعال يمنع بقاء فاعله على العفاف إلاَّ إذا كان محرماً، فثبت بذلك تحريم نكاحهن على المسلمين، على أن الدلالة عندنا قد دلت على أن أهل الذمة يكون لهم الإحصان الذي يستحق معه الرجم، فلو كان المراد أيضاً ذلك(5) الإحصان، لكان يفيد أن النكاح [أيضاً] (6) لا يصح؛ لأن كعباً كان قد حصل له جميع الشرائط الموجبة للإحصان من الإسلام والبلوغ والعقل، ولا يجوز أن يكون نفى إلاَّ النكاح لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <إنها لاتحصنك> يفيد أن النكاح بينك وبينها لا يصح، إذ لا يصح حمله علىأن الإحصان يمنع منه كونها من أهل الذمة؛ لقيام الدلالة على خلافه، ويمكن أن يستدل بقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَولاً أَنْ يَّنْكِحَ الْمُحْصَنَاتُ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}، فشرط الإيمان في الحرائر والمملوكات، فثبت أنَّه شرط في صحة نكاحنا، ومما يمكن (51/14)
__________
(1) في (أ): رحمه الله.
(2) سقط من (أ).
(3) ما بين المعكوفين سقط من (أ) و (ب): فظنن عليه في هامش (ب).
(4) سقط من (أ).
(5) في (أ) بذلك.
(6) سقط من (ب).
أن يعتمد عليه في هذا الباب قوله عزَّ وجل: {الْخَبِيْثَاتُ لِلْخَبِيْثِيْنَ وَالْخَبِيْثُونَ لِلْخَبِيْثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِيْنَ وَالْطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} فجعل جنس الخبيثين والخبيثات بعضهم لبعض، وجعل جنس الطيبين والطيبات بعضهم لبعض، فدل ذلك على ما قلناه. (51/15)
فإن استدلوا بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
قيل له: المراد به اللواتي أسلمن والذين أسلموا منهم.
فإن قيل: كيف ينطلق عليهم سمة أهل الكتاب بعد الإسلام؟
قيل له: لا يمتنع ذلك، وقد قال اللّه تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُّؤْمِنُ بِاللهِ} فأجرى سبحانه اسم أهل الكتاب مع الإيمان والخشوع عليهم، وقال سبحانه: [{وَلَو آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ..} الآية، وقال أيضاً:] (1) {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوا..} إلى قوله: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيْرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} فجعل منهم مؤمنين وجعل منهم أمة مقتصدة.
فإن قيل: هذا وإن ثبت في بعض المواضع، فليس هو الظاهر في الشرع، فمن أين لكم أن المراد في هذه الآية ما ذكرتم؟
قيل له: يدل على ذلك أمران ـ /13/ أحدهما: ترتيب(2) الآية على وجه يدل عليه.
والثاني الخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(2) في (أ): ترتب.
فأما ترتيب(1) الآية، فهو أن اللّه خاطبنا، فقال: {الْيَومَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ}، ثم قال: {وَطَعَامُ الَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ثم ابتدأ بعد ذلك تحليلاً آخر فقال: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهَمْ} ثم عطف عليه{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} فدل ذلك على أن المحصنات من المؤمنات حل لهم؛ لكون(2) تحليلهن معطوفاً على تحليل طعامنا لهم، فوجب كون الممؤنات حلالاً له وهذا لا يصح إلاَّ بعد إسلامهم، لأنَّه لا خلاف أن نكاح المؤمنات لا يحل لهم مع بقائهم على الكفر، فدل ذلك على أن المراد بقوله تعالى أهل الكتاب في هذا الآية هم الذين أسلموا منهم فكذلك(3) قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اللواتي أسلمن منهم(4) أو لم يفرق أحد بين الموضعين. (51/16)
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتُ} راجعاً إلى أول الآية حيث يقول: {وَطَعَامُ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} دون الذي يليه؟
قيل له: إن جاز لكم ما ادعيتموه ـ مع أنَّه صرف لترتيب الآية عن ظاهره ـ جاز لنا أن نقول: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوْتُوا الْكِتَابَ} راجع إلى الكتابيين حتى يكون تقدير الكلام وطعامكم حل لهم والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، فتكون المحصنات من المؤمنات حل للمؤمنين، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب حل للذين أوتوا الكتاب، وجملة الأمر قد ساويناهم في استعمال هذه الآية؛ لأنا قد جعلنا قوله للذين أوتوا الكتاب وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، في حكم المصروف عن الظاهر وهم جعلوا الترتيب والنظام في حكم المصروف عن الظاهر، وسلم لنا سائر الأدلة، وسقط تعلقهم بالآية.
__________
(1) في (أ): ترتب.
(2) في (أ): ليكون.
(3) في (أ): كذلك.
(4) في (أ): منهن، وفي هامش (ب).
والوجه الثاني: الذي يدل على أن المراد بقوله: {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اللواتي أسلمن منهن دون المقيمات على الشرك ما رواه نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: <من أشرك بالله، فليس بمحصن> فدل ذلك على أن اطلاق اسم الإحصان عليهن يوجب أنهم غير مشركات بالله وأنهن مسلمات. (51/17)
فإن قيل: فإذا كان المراد بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اللواتي أسلمن منهن فما الفائدة بذلك، فإنهن وسائر المسلمات سواء؟
قيل له: إن العرب الذين كانوا بمكة، ولم يكن إسلامهم عن التهود والتنصر، كانوا يأنفون من اللواتي تُبن عن التهود والتنصر ويعافونهن، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وأراد ذلك الذي كان في نفوسهم.
فإن قيل: فقد روي عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <أحل لنا ذبائح أهل الكتاب، وأحل لنا نساؤهم، وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا>.
قيل له: هذ حديث ضعيف لا نعرفه؛ مع أنه مع ضعفه يمكن أن يتأول(1) فيقال: أحل لنا ذبائحهم ونساؤهم إذا أسلموا، وحرم عليهم نساؤنا ما داموا على الكفر، وتكون الفائدة فيه ما ذكرناه في الآية، وأجمع أكثر هل العلم على أن المسلم لا يجوز له نكاح المجوسية، ولا خلاف أنَّه لا يجوز له نكاح الوثنية، فكذلك نكاح الكتابية قياساً عليهما، والعلة أنها كافرة، ولا خلاف أيضاً أن الذمي لا يجوز له نكاح المسلمة فكذلك المسلم لا يجوز له نكاح الذمية قياساً عليه، /14/ والعلة أنهما على ملتين مختلفتين، أو يقال: أنهما لا يتوارثان مع صحة كون كل واحد منهما وارثاً وموروث، وأيضاً وجدنا الرضاع لما كان طرؤه على النكاح مفسداً له، وجب أن يمنع الصحة مما يطرأ عليه من النكاح، فوجب أن يكون الكفر يمنع من صحة ما يطرأ عليه من نكاح المسلم قياساً على الرضاع؛ لأن طرؤه على نكاح المسلم يفسده، ولا خلاف بيننا وبين الشافعي في أن المسلم لا يجوز له نكاح الأمة الكتابية والعلة أنها كافرة، ويكشف أن العلل التي ذكرناها أنه(2) تتعلق الحكم في الأصول التي قسنا عليه أنه يوجد بوجوده ويعدم بعدمها، وكل قد اعتبر الكفر على بعض الوجوه لإبطال النكاح. (51/18)
فإن قيل: وجدنا الكفر على ثلاث طبقات، منها أغلظ، وأوسط، وأخف، فأما الأغلظ كفراً فهم عبدة الأوثان، ألا ترى أنهم لا تؤخذ الجزية منهم، ولا يقرون على دينهم، والأوسط كفراً فهم المجوس؛ لأنهم مقرون على دينهم، وتؤخذ الجزية منهم، والأخف كفراً هم أهل الكتاب، فيجب أن يميزوا على المجوس ولا تميز إلاَّ ما ذكرناه من استباحة نسائهم وذبائحهم.
__________
(1) في (أ): من ضعَّفه يمكن أن يتناوله.
(2) في (أ): ذكرناها بها يتعلق.
قيل له: هذا اعتبار يبطله النص وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <سنوا بهم ـ يعني المجوس ـ سنة أهل الكتاب> فوجب أن لا يفرق بينهم وبين المجوس، على ان المسلمين أجمعوا على أنَّه لا يفرق بينهم، فإن المسلمة لا تحل لأحد منهم، فكذلك لا يمتنع ألا يفرق بينهم وأن واحدة منهم لا يجوز أن يتزوجها وهو مسلم إذ التمييز بينهم في كل وجه لا يجب، ولا معنى لدعوى من يدعي الإجماع في إباحة نكاحهن، فقد ذكر أبو العباس الحسني [في](1) النصوص في ذلك عن عدة من أهل البيت عليهم السلام بأسانيده. (51/19)
مسألة [في نكاح أهل ملتين مختلفتين]
قال: وكذلك القول في كل أهل(2) ملتين مختلفتين، لا يتزوج اليهودي نصرانية، ولا النصراني يهودية ولا مجوسية، ولا المجوسي يهودية ولا نصرانية.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(3).
ووجه هذه المسألة بيان تحريم الكتابيات على المسلمين؛ إذ لا خلاف في أن تحريم المسلمات على الكتابيين، وقد مضى في تحريم الكتابيات على المسلمين ما فيه كفاية، ثم بيان أن ملل الكفر مختلفة، ووجه بيان القياس فيه، والذي يدل على أن الكفر ملل مختلفة أنا وجدنا ما يتمسك به كل فريق منهم من دين وشريفة يخالف بعضه بعضاً في أصله وفرعه موردة ومصدره يكون مللاً مختلفة، ألا ترى أنا لا نقول أن موسى وهارون وداود وسليمان عليهم السلام مللهم مختلفة بل نقول: إنهم (كانوا) (4) على ملة واحدة لما(5) كانت شريعتهم شريعة واحدة لم تكن يخالف بعضها بعضاً عى الوجه الذي ذكرناه، ولا يمتنع أن نقول أن موسى وعيسى ومحمداً عليهم السلام مللهم(6) مختلفة لما كان في شرائعهم الاختلاف على الوجه الذي ذكرناه، وإن كان الجميع يجمعه [اسم] (7) الإيمان والهدى.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): أهل كل.
(3) انظر الأحكام 1/394 ـ 395.
(4) زيادة في (أ).
(5) في (أ): كما.
(6) في (ب): ملتهم.
(7) سقط من (أ).
فإن قيل: فيلزمكم على هذا أن يكون المسلمون على ملل مختلفة، لأنهم قد اختلفوا في الأصول والفروع. (51/20)
قيل له: معاذ اللّه من ذلك فإنهم لم يختلفوا في أصول الشريعة، ولسنا نعني بالأصول ما قدرته، ألا ترى أنهم لا يختلفون في أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينسخه، حق، وكلما ثبت من شريعته هو الذي يجب التمسك به، وإنما اختلفوا في تأويل ما صح عنه، أو في صحة الشيء عنه، /15/ وليس كذلك حال اليهود والنصارى فإن مخالفة بعضهم لبعض على حد مخالفة المسلمين لهم ولكل واحد منهم ومخالفتهم ومخالفة كل واحد منهم للمسلمين، فبان ما ادعيناه من أن مللهم مختلفة، وقد نبه اللّه تعالى(1) على ذلك بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} ولا يجوز أن نحمله على أنه تعالى نبهنا على ما علمنا ضرورة، فإذاً هو تنبيه على اختلاف أحكامههم التي لا تعرف إلاَّ شرعاً.
فإن قيل: وقد قال اللّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ..} إلى قوله: {لَكُمْ دِيْنُكُمْ وَلِيَ دَيْنِ} فجعل ما هم عليه ديناً واحداً، فدل على أنَّه ملة واحدة.
__________
(1) في (أ): سبحانه.
قيل له: تسمية جميع ذلك بما ذكرتموه لا يدل على ما ذكرتموه، وعلى أنَّه ملة واحدة، ألا ترى أنه قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما عدَّ أنبياءه الماضين: {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، فأجرى سبحانه ما كانوا هم عليه مجرى هدي واحد، ولم يمنع ذلك من أن يكون لهم ملل مختلفة، فلا وجه لامتناع من يمتنع من أن مللهم عليهم السلام يجوز أن تختلف؛ لأن الملة اسم للشريعة، وهي(1) مأخوذة من الإملال الذي هو الإملاء، ولا خلاف أن شرائع كثير منهم قد اختلفت، ولهذا لم يمتنع كثير من أصحابنا المتكلمين من إطلاق القول في المجبرة والمشبهة مع ثبوت كفرهم أنهم من أهل ملتنا لانتحالهم شريعتنا، ولا أحفظ خلافاً في أن الفاسق يقال له من أهل ملتنا، وإن كان لا يجري عليه اسم الإيمان، ومما يدل على ذلك ما رواه أبو بكر الجصاص في شرحه (مختصر الطحاوي) بإسناده عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تجوز شهادة ملة على ملة إلاَّ ملة الإسلام فإنها تجوز على الملل كلها) فأثبت [النبي] (2) صلى الله عليه وآله وسلم، بظاهر قوله ثلاث ملل، لأن الملل جمع ملة، وأقل الجمع يجب أن يكون ثلاثة، وهذا نص ما ذهبنا إليه، لأن من يخالفنا يقول: إنَّه ليس غير(3) ملتين ملة الإسلام، وملة الكفر، فإذا وجب اثبات ملة ثالثة لظاهر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثبت أن الكفر ملل. (51/21)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إنَّه أطلق لفظ الملل، وأراد ملتين، فعبر عن الإثنين بلفظ الجمع؟
قيل له: حقيقة الجمع لا تكون لأقل من ثلاثة، وإنما يجري لفظ الجمع على الاثنين على طريق(4) المجاز، فإذا كان هذا هكذا، لم يصح ما قالوه، لأنَّه يؤدي إلى صرف قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحقيقة إلى المجاز.
__________
(1) في (أ): هو.
(2) سقط من (ب).
(3) في (أ): إلا.
(4) في (أ): سبيل.
فإن قيل: ألستم تقولون إن من انتقل إلى التهود أو التنصر أو التمجس خُلِّي بينه وبين ما صار إليه، فكيف تقولون: إن الكفر ملل مختلفة؟ (51/22)
قيل له: إن الإكراه والقتل لا يتعلق بالانتقال من ملة إلى ملة فقط حتى يكون للملة(1) التي انتقل عنها صفة، والملة التي انتقل إليها صفة، وأن تكون التي انتقل عنها ملة الإسلام، ألا ترى أن من انتقل من ملة الكفر إلى ملة الإسلام لا يمنع منه، فإذا ثبت ذلك فنحن خلينا بين من سألت عنه وبين ما صار إليه، لأنَّه لم ينتقل عن ملة الإسلام، وإنما انتقل عن ملة كفر إلى ملة كفر، فإذا ثبت ما بيناه من اختلاف مللهم، ثبت أن مناكحة بعضهم لبعض لا تصح؛ لاختلاف مللهم، دليله أن المناكحة بين المسلمين والذميين لا تجوز، ويمكن ألاَّ نبين أن لا توارث بينهم؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا توارث بين أهل ملل شتّى)، ثُمَّ يقال: لهم لم يثبت بينهم التوارث مع كون كل واحد منهم وارثاً وموروثاً، فوجب أن لا يصح التناكح قياساً على الذمي والمسلمة؛ إذ لا خلاف فيه، أو قياساً على أهل الملل /16/ وأهل الذمة؛ إذ قد دللنا عليه.
مسألة [في نكاح الحر للأمة]
قال: ولا يحل للرجل أن يتزوج أمة إلاَّ أن لا يجد السبيل إلى الحرة.
وهذا مما قد نبه عليه يحيى عليه السلام في (الأحكام) (2) و(المنتخب).
وذكر أبو العباس الحسني(3) أن ابن جهشيار روى عن القاسم عليه السلام حظرَ نكاحهن على الحر إلاَّ باجتماع معنيين. عدم الطول، وخشية العنت، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك إذا(4) لم يكن عنده حرة.
__________
(1) في (ب): الملة.
(2) انظر الأحكام 1/342.
(3) في (أ): رضي الله عنه.
(4) في (أ): إن.
والدليل على هذا قوله تعالى: {وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَولاً أَن يَّنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}، فليس يخلو المراد به من أن يكون إباحة نكاحهن، أو جعل عدم الطول شرطاً في استباحة نكاحهن، وحمله على أن عدم الطول شرط في نكاحهن واستباحته أولى من حمله على الاستباحة(1)؛ لأنا قد علمنا وعقلنا الإباحة من سائر الظواهر، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، وقوله عز وجل: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}، وقوله: {فَانْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}، ومتى ما حملنا ما ذكرناه على الإباحة، حملناه على التكرير، ولم نجعل له فائدة، وإذا حملناه على الوجه الذي ذكرنا، جعلنا له فائدة، وحمل الآية على وجه يفيد أولى من حملها على التكرير، وإذا ثبت أن حملها على هذا الوجه أولى، ثبت أن عدم الطول شرط في استباحة نكاحهن، وعلى هذه الطريقة يستدل بقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}. (51/23)
فإن قيل: فقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ}، يدل على التخيير بين الحرة والمملوكة في عقد النكاح، وفي هذا صحة ما ذهبنا إليه، وفساد مذهبكم.
__________
(1) في (أ): الإباحة.
قيل له: الاية لا ظاهر لها، فلا يصح التعلق بها، وذلك أن التخيير لا يصح بين واحدة وبين ما ملكت اليمين؛ لأن التخيير لا يصح بين الشيئين إلاَّ إذا لم يكن أحدهما داخلاً في الآخر، ألا ترى أنَّه لا يصح أن يقال رأيت اليوم رجلاً أو شيخاً؛ لأن قولنا شيخاً ينطوي على قولنا رجل، وإنما يصح أن يقال رأيت رجلاً أو امرأة، فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى: {أَوَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يتضمن قوله: {وَاحِدَةٌ} فلا يصح التخيير، فلا بد من أن نقدر فواحدة حرة حتى يستوي ما ادعوه، وإذا ثبت ذلك، قلنا: إن القول أن تقديره فواحدة أو وطء ما ملكت أيمانكم، وإذا حصل في جنب كل واحد ما مر من التأويل، حصل التساوي، وبطل تعلقهم بالآية، على أنَّه لا يمتنع، أن يكون تعالى أراد بقوله جل ذكره: {فَانْكِحُوا} العقد في الحرائر، والوطء في الإماء، فيحمل في الإماء على الوطء، وفي الحرائر على العقد، فيبطل التخيير الذي ادعوه، وهكذا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِيْ السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِيْ الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ}، فأراد بقوله (يسجد) ظهور آثار الذل والخضوع فيما ذكره من الجمادات والبهائم، والسجود المخصوص فيما ذكره كثير من الناس؛ لأنه لا يجوز أن يكون أراد السجود والمخصوص فيما ذكر من من الجمادات والبهائم؛ لأن ذلك لا يتأتَّى منها، ويستحيل، ولا يجوز أن يكون أراد ظهور آثار الذل والخضوع من كثير من الناس، لأنَّه لو أراد ذلك تعالى(1) من الناس ولم يقل: {وَكَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ} لأن آثار الذل والخضوع ظاهر من جميع الخلائق، والناس وغيرهم في ذلك سواء. (51/24)
__________
(1) في (أ): والناس لم يقل ومن مات لقال والناس.
فإن قيل: فنحن نحمل قوله تعالى: {وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَولاً أَنْ يَّنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} على الوطء، فكأنه سبحانه قال: ومن لم يستطع منكم وطء الحرائر؛ لأنَّه لا يملك بضع واحدة منهن فما ملكت أيمانكم. (51/25)
قيل له: هذا صرف الآية(1) عن ظاهرها، لأن /17/ النكاح عندنا حقيقة في العقد، فلا يصح التعلق به، ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أنَّه إذا كان تحته حرة لم يجز له التزويج بالأمة، فكذلك إذا تمكن من نكاحها، والعلة أنَّه قادر على الحرة، فوجب أن لا يجوز له نكاح الأمة، والأصول تشهد لصحة علتنا؛ لأن القدرة على تحصيل الشيء تجري مجرى حصوله، ألا ترى أن التيمم لما لم يجز مع وجود الماء، لم يجز مع التمكن من الوصول إليه، وكذلك الصيام لَمَّالم يجز في كفارة القتل والظهار مع وجود الرقبة، لم يجز مع تمكن الوصول إليها، ويمكن أن يقال: هو حر غني عن استرقاق ولده، فوجب أن لا يجوز له ابتداء نكاح الأمة، دليله لو كانت عنده حرة، وقياسنا أولى من قياسهم واجد الطول على من لم يجده بعلة أنَّه غير مالك لفراش حرة؛ لأن قياسنا مما نبه النص عليه، وقياسهم على ضد ما نبه النص عليه، وقياسنا يفيد شرطاً طريقة اتباعه الشرع، وقياسهم ينفيه، وقياسنا يقتضي الحظر، وقياسهم يقتضي الإباحة.
مسألة [فيمن وجد الحرة بعد نكاحه الأمة]
قال: فإن(2) تزوج الأمة ثُمَّ وجد السبيل إلى الحرة، استحب له فراقها، وكره له إمساكها.
__________
(1) في (أ): للآية.
(2) في (أ): وإن.
قد نص في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2) أن نكاح الأمة لا يفسد بوجود(3) السبيل إلى الحرة، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً إلاَّ ما ذكر عن المزني أنَّه كان يقول: إن نكاح الأمَّة يفسد بوجود السبيل [إلى الحرة] (4) لزوال الشرط المبيح له وحكى نحوه ابن جرير(5) عن مسروق وهذا فاسد؛ لأن أحد الشرطين: هو خوف العنت، ولا خلاف أنَّه إذا زال، لم يبطل نكاح الأمة، وإن كان لا بد منه في ابتداء العقد. (51/26)
فكذلك الشرط الآخر الذي هو عدم الطول، والعلة أنَّه أحد شرطي جواز نكاح الأمة.
فإن قيل: خوف العنت يعود بفسخ النكاح، لأنَّه به ارتفع.
قيل له: إذا ارتفع، فلا معتبر بجهة ارتفاعه، وصح قياسنا، على أن الذي ادعوه من ارتفاعه لوجود النكاح لا معنى له، فقد يجوز أن يرتفع(6) بعارض غير وجود النكاح، ولا خلاف أن العلة وإن منعت ابتداء عقد النكاح فإن طروها على النكاح لا يفسده، فكذلك وجود الطول إلى الحرة يجب أن لا يفسد نكاح الأمة، والعلة أنَّه معنى له مدخل في المنع من النكاح، ويختص بأحد الزوجين، ويبين صحة هذه العلة وإن كان يمنع ابتداء النكاح أن الرضاع والردة لما منعتا ابتداء النكاح، وأبطل طروهما النكاح، لم يختصا أحد الزوجين، بل كان حصول كل واحد منهما من جهة كل واحد من الزوجين على سواء، وأيضاً وجدنا الإحرام لا يفسد طروه على النكاح، وإن كان يمنع(7) ابتداء النكاح، فكذلك ما اختلفنا فيه من وجود الطول، والمعنى أنَّه سبب لا يتأبد حكمه، ولا هو معصية، والأصول شاهدة لنا؛ لأن شيئاً منها لا يوجب فسخ شيء من العقود الثابتة بطرو اليسار.
__________
(1) انظر الأحكام 1/342.
(2) انظر المنتخب 133.
(3) في (أ): في وجود.
(4) سقط من (ب).
(5) سقط من (ب).
(6) يرفع في (ب).
(7) في (ب): منع.
ووجه استحبابنا لفراقها(1) لئلا يحصل به استرقاق الولد، فإنه يستحب للرجل استنقاذ ولده من الرق إذا أمكنه، فكان أولى من ذلك أن يستحب له توقي(2) استرقاقه، وهذا الذي ذكرناه من الإستحباب منصوص عليه في (المنتخب)(3). (51/27)
مسألة [في نكاح العبد للحرة]
قال: ولا بأس للعبد أن تتزوج الحرة إذا(4) رضي سيده وعرفت /18/ الحرة أنَّه عبد.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (5) لا خلاف أن نكاح العبد لا يثبت إلاَّ بإذن سيده فقد روى أبو داود في السنن بإسناده عن جابر أنَّه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر) وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو زان) واشترطنا أن تعرف الحرة أنَّه عبد لأنها لو لم تعرف ذلك كانت مغرورة، وكان لها فسخ النكاح على ما نبينه من بعد على أنَّه لا خلاف في جواز النكاح الذي ذكرناه ووصفناه، وإنما الخلاف فيه إذا لم يقع على هذا الوجه وسنبينه فيما بعد في موضعه إن شاء الله تعالى.
مسألة
قال: ولا بأس أن تزوج المرأة غير كفؤ إذا رضيت ورضي الولي تخريجاً، وإن أبى ذلك الولي لم يجز، قال في الأحكام في ذكر الأكفاء (والأولياء وهم(6) الناظرون في أمرهن المتخيرون لحرماتهم)، فنبه على أن لهم الخيار في ذلك، فلا يكون ذلك إلاَّ بموافقة المرأة؛ فلذلك قلنا: إنهم إذا رضوا بغير كفؤ، ورضيت المرأة، جاز النكاح، ثُمَّ قال: (وإن كرهوا أحداً لم يلزموا)، فكان ذلك نصاً في أن لهم منعها من أن تنكح غير كفؤ.
__________
(1) في (ب): لفراقه.
(2) في (أ): أن يتوقى.
(3) انظر المنتخب 133.
(4) في (أ): أن.
(5) انظر الأحكام 1/366.
(6) في (أ): هم.
وروى أبو العباس الحسني(1) عن محمد بن منصور، قال: سمعت القاسم عليه السلام يقول: ولو أن رجلاً كان من أبناء الفرس من يرضي دينه رأيت أن أزوجه عربية. فكان ذلك نصاً فيما ذكرناه من أن المرأة والأولياء إذا تراضوا بمن ليس بكفؤ جاز النكاح، وهو قول عامة العلماء، وحكي عن قوم أنَّه لا يجوز. (51/28)
والذي يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقوله سبحانه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فلم يستثنِ ذات حسب من غيرها.
وروى أبو داود في (السنن) بإسناده عن أبي هريرة أن أبا هند حجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليافوخ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا بني بياضة، انكحوا أبا هند، وانكحوا إليه) (2).
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج ضباعه بنت عمرو بن الزبير بن عبد المطلب المقداد بن عمرو [هو ابن الأسود الكندي] (3).
وروى أن زيد بن حارثة ـ تزوج وهو مولى ـ زينب بنت جحش وهي قرشية، وتزوج بلال هالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف، وزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنتيه من عثمان، وأخرى من أبي العاص، وزوج أمير المؤمنين عليه السلام ابنته عمر بن الخطاب.
وروى أن سلمان خطب إلى عمر ابنته، فأنعم له، فشق ذلك على ابنه عبدالله، فذكر ذلك لعمرو بن العاص، وسأله أن يدبر، فأتى عمرو سلمان فقال: هنيئاً لك يا سلمان، تواضع لك عمر، فقال: ألي(4) تواضع، والله لا تزوجتها.
فدلت هذه الأخبار على صحة النكاح على الوجه الذي ذكرناه؛ ولأن ذلك حق لهم فإذا(5) تركوه، جاز، كالمهر لما كان حقاً للمرأة، جاز أن ترضى بدون مهر مثلها.
__________
(1) في (أ): رحمه الله تعالى.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 2/240.
(3) زياة في (ب).
(4) في (ب): لي.
(5) في (ب): إذا.ف
ووجه قولنا: أن الولي إذا أبى ممن(1) ليس بكفؤ لم يجز النكاح؛ [إذ] (2) أن الكفؤ قد ثبت أنَّه يراعى في النكاح(3)؛ لما نبينه من بعد، فإذا ثبت ذلك، كان للولي أن يمنعها من النكاح لمن ليس بكفؤ؛ إذ ذلك حط للولي لما يدخل عليه من /19/ الغضاضة، فله(4) أن يمنعها من ذلك، لأنَّه حق له، وله أن يستوفي حقه في ذلك، كما لها استيفاء سائر حقوقها. (51/29)
وروي أن أم سلمة لما خطبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: إنَّه لم يحضر أحد من أوليائي، فقال [النبي] (5) صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس أحد من أوليائك ـ حضر أو غاب ـ إلاَّ وهو يرضاني) فبين أن الأحوال التي هو عليها صلى الله عليه وآله وسلم مما يجب معها على الأولياء الرضى به، فلو لم يكن لرضائهم معتبر، لم يقل ذلك، ولقال، وما في حضورهم وغيبتهم؟
ويدل على ذلك قول الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقُتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضُوا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} وليس هاهنا(6) معروف يتعلق في المناكحة بالأولياء إلاَّ النظر في الأكفاء، فدلت الآية على أن الأولياء لا يمنعوهن أن ينكحن بشرط أن يضعن أنفسهن في الأكْفَاء على أنَّه ليس من المعروف أن تضع الشريفة نفسها في دَعيّ وما أشبهه.
وروي عن سلمان أنَّه قال: أمرنا أن ننكحكم ولا ننكح إليكم، مع أنَّه [قد] (7) خطب الى عمر ابنته، فدل ذلك على أن المراد بذلك إذا لم يرض به الأولياء.
__________
(1) في (أ): من.
(2) سقط من (أ).
(3) في (ب): بالنكاح.
(4) في (أ): وله.
(5) سقط من (أ).
(6) في (ب): هنا.
(7) سقط من (أ).
وروي عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول(1) الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزوجن النساء إلا من الأكفاء ولا مهر دون عشرة دراهم)، وإذ قد ثبت فيما مضى جواز نكاح من ليس له بكفؤ دل على أن المراد في هذه إذا كره الأولياء، وعن عمر قال بحضرة الصحابة لأمنعنَّ ذوات الأحساب أن لا يزوجن إلاَّ من الأكفاء، ولم يخالَف فيه، فثبت ما قلناه. (51/30)
مسألة [في تفسير الكفاءة]
قال: (والكفؤ يكون في النسب والدين جميعاً).
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2)، ومروي فيه عن القاسم عليه السلام، وقال في (الأحكام)(3): (الكفؤ في الدين والنسب فقط). فدل على أنَّه لا يراعي غيرهما.
وجعل زيد بن علي عليهم السلام الكفؤ في الدين لا غيره، وهو قول الناصر عليه السلام. قال أبو حنيفة الكفؤ في المال والحسب والدين، وقال أبو يوسف نحوه وزاد الصناعات.
وقال محمد هو في الحسب والمال، ولم يراع الدين.
__________
(1) في (أ): النبي.
(2) انظر الأحكام 1/366.
(3) انظر الأحكام 1/336.
والذي يدل على أن الدين يجب أن يكون مراعي في الأكفاء، هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه [أي سجيته] (1) فانكحوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) فراعى صلى الله عليه وآله وسلم الدين، ولم يأمر بالنكاح(2) إلاَّ إذا كان(3) الخاطب ممن ترضون(4) دينه، وأيضاً وجدنا الإنسان يشرف من جهتين: إحداهما أفعاله، والثانية أحواله التي هي غير أفعاله، فلما ثبت أن أعلى(5) الأحوال التي هي غير أفعاله [كان] (6) مدخلاً في الأكفاء، وهو النسب، وجب أن يكون لأعلى الأفعال أيضاً مدخل فيه وهو الدين، والعلة أنَّه إحدى جهتي شرفه، على أنا وجدنا الدين له مدخل في إفساد النكاح، فهو الأولى أن يكون المعتبر به في الأكفاء، ويعضده قول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّوْنَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُوْلَهُ} وقد علمنا أن الإنكاح هو الموادة، وإذا نهى المؤمن عن موادة من حاد الله ورسوله، فهو منهي عن إنكاحه حرمته، فإذا امتنع منه لا يكون عاضلاً، وإذا لم يكن /20/ عاضلاً، لم يجز نكاحها دونه، فثبت بذلك أن الدين مراعى في الأكفاء، على أن الآية مما يصح أن يعتمد عليها لابتداء الدلالة. (51/31)
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): بالإنكاح.
(3) في (أ): أن يكون.
(4) في (أ): يرضى.
(5) في (أ): الأعلى.
(6) سقط من (أ).
وأما ما يدل على أن النسب مراعى فيه، فهو ما روي عن ابن عمر، وعائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (العرب بعضها أكفاء لبعض(1)، قبيلة بقبيلة، وحي بحي، ورجل برجل، والموالي بعضها أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، وحي بحي) فدل ذلك(2) على أن النسب مراعى في الأكفاء [و] (3) لولا ذلك لقال المسلمون بعضهم أكفاء لبعض، ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر المسلمين فقال: (تتكافأ دماؤهم) وقصر الأكفاء الذي بينهم على الدماء، ولم يقل: بعضهم أكفاء لبعض، فبان بما ذكرنا أن النسب يراعى فيه، ويدل عليه قول سلمان رحمه الله: أمرنا أن ننكحكم، ولا ننكح إليكم، وكان رحمه الله من أكابر المسلمين، وعلية الصحابة، فدل ذلك على أن للنسب مدخلاً فيما ذكرناه، ويبين أن للنسب مدخلاً في الفضل: (51/32)
ما أخبرنا به أبو سعيد الأبهري، قال: حدثنا الحسن بن نصر، حدثنا يسر بن بكر، حدثنا الأوزاعي، حدثنا أبو عمار، قال: حدثنا واثلة بن الأسقع، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ولا حكم يتعلق بما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الشرع إلاَّ الأكفاء في النكاح، وما ذكرناه من القياس على من راعى فيه النسب، ولم يراع الدين يمكن أن يستدل به على من يراعي الدين، ولم يراع النسب، على أن النكاح يعتبر فيه الغضاضة، ألا ترى أن الحرة تتزوج على الأمة، والأمة لا تزوج على الحرة، وقد علمنا أن أكثر الغضاضة في الأمور الدنيوية هي الغضاضة التي ترجع إلى الأنساب، فوجب أن تكون معتبرة في الأكفاء، ويبين أن غير النسب لا يراعي بعد الدين قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (العرب بعضها أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، وحي بحي، ورجل برجل) ولم يعتبر المال والصناعة.
__________
(1) في (أ): أكفاء بعضها لبعض.
(2) في (أ): بذلك.
(3) سقط من (ب).
ومما يدل على أن المال لا(1) يعتبر في الأكفاء: ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، قال: حدثنا الناصر للحق عليه السلام، عن محمد بن منصور، عن حسين، عن خالد، عن حصين، عن جعفر، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ترك التزويج مخافة الفاقة، فقد أساء بربه الظن، إن الله تعالى يقول: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ} فدل قول صلى الله عليه وآله وسلم [على قبح ترك التزويج مخافة الفاقة] (2) إذ جعل ذلك إساءة الظن بالله، وإذا كان [ذلك] (3) كذلك لم يصح يكون المال مما يراعى في الأكفاء، إذ لو كان المال مما يراعى في الأكفاء، لم يكن المراعي لفقده مذموماً، وإذا لم يجب أن يراعى فيه المال، لم يجب أن تراعي فيه الصناعة، إذ لم يجعل أحد الصناعة أوكد من المال. (51/33)
مسألة [فيما يُحرِّم من الوطء وهل يحرم الحرام حلالاً]
قال: ولو أن رجلاً وطيء امرأة حراماً أو بشبهة لم تحرم عليه أمها ولا ابنتها ولا تحرم هي على ولد الواطيء ولا والده، وكذلك إن وطيء أم امرأته أو(4) ابنتها لم تحرم عليه امرأته، فكذلك إن وطيء الرجل امرأة ابنه لم تحرم على زوجها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (5).
وهو قول الشافعي، إلاَّ في الشبهة، قال أبو حنيفة: جميعه يحرم.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، وقوله: {وَانْكِحُوا الأَيَامَى /21/ مِنْكُمْ} فلم يستثن ما ذكرناه. ويدل على ذلك حديث نافع، عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحرم الحرامُ الحلالَ).
__________
(1) في (أ): يجب أن.
(2) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(3) سقط من (ب).
(4) في (ب): و.
(5) انظر الأحكام 1/363 ـ 364.
ويدل على ذلك حديث عبدالله بن نافع [المخزومي](1)، عن المغيرة بن إسماعيل، عن عثمان بن عبدالرحمن، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الرجل يتبع المرأة حراماً، أينكح ابنتها؟ أو يتبع البنت حراماً هل ينكح أمها؟ قال: (لا يحرم الحرام حلالاً(2) إنَّما يحرم ما كان نكاحاً حلالاً). (51/34)
فدل الخبر على ما ذهبنا إليه من وجوه:
أحدها أن السائل لما سئل عن اتباع المرأة حراماً أجاب صلى الله عليه وآله وسلم بما دل على أنَّه لا يحرم، واتباع المرأة حراماً كناية من جهة العرف عن الزنا.
والثاني عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحرم الحرامُ الحلالَ) فوجب بهذا الظاهر أن يكون [جميع](3) الحرام لا يحرم الحلال إلاَّ ما منع منه الدليل.
والثالث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما يحرم ما كان نكاحاً حلالاً) وإنما إذا دخل في الكلام دل على تخصيص الحكم بما تعلق به، فثبت أن ما لم يكن نكاحاً حلالاً لا يقع به التحريم.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، والنكاح اسم للوطء، فكأنه تعالى نهى عن وطء من وطئها الآباء، وفي هذا ثبوت ما نذهب إليه.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) في (أ): الحلان.
(3) سقط من (ب).
قيل له: [إنَّ](1) النكاح حقيقة عرفاً وشرعاً للعقد، وهو في الوطء قد صار اتساعاً بدلالة أنَّه إذا [قيل له] (2) فلان نكح فلانة لم يعقل منه إلاَّ العقد، وكذلك الإنكاح لا يعقل منه إذا أطلق إلاَّ العقد، وكل تحليل أو تحريم علق بضرب من النكاح في الشرع فليس يرجع به إلاَّ إلى العقد، والآيات التي ذكر فيها النكاح المراد بها العقد نحو قوله تعالى: {لا تَعْضِلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}، وقوله سبحانه: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}، وقوله: {إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ}، وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، وقوله: {وَانْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} وكذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا نكاح إلاَّ بولي وشاهدين) المراد به العقد، لا خلاف فيه، وكذلك ما روي عنه عليه السلام(3) أنَّه نهى عن نكاح السر، وعن نكاح الشغار، ونكاح المتعة، وكل ذلك يحقق أن إطلاق العرف والشرع يوجب أن النكاح هو العقد، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن المراد بقوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، العقد فلا يمكن التعلق به لقولهم. (51/35)
فإن قيل: فقد روى أهل اللغة أن اسم النكاح كان اسماً للوطء، وهو مأخوذ من الجمع، وروي لعن الله ناكح البهيمة.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) زياد في (ب).
(3) في (أ): صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل له: إن صح ذلك، لم يعترض ما قلناه، لأن الاسم لا يمتنع أن يوضع في أصل اللغة لأمر، ثُمَّ ينقله العرف أو الشرع أو هما جميعاً فيكون استعماله إذا ورد في خطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في المنقول إليه أولى، ويكون قد صار حقيقة فيه، وجرى فيما وضع له في الأصل مجرى المجاز، نحو قولهم دأبه إنها كانت اسماً لكل ما دب، ثُمَّ صار من جهة العرف اسماً للبهيمة المخصوصة، وكذلك الصلاة كانت في الأصل اسماً للدعاء، وحقيقة فيه، ثُمَّ نقلها الشرع فجعلها اسماً للعبادة المخصوصة، وحقيقة فيها، وحقيقة الغائط كان اسماً لما /22/ انخفض من الأرض، ثُمَّ صار من جهة العرف والشرع اسماً لقضاء الحاجة المخصوصة، وصار حقيقة فيه، وصار استعماله فيما كان وضع له في الأصل جار مجرى المجاز، وكذا قولنا: نكاح، وإن صح فيه ما ذكروا فقد غلب العرف والشرع عليه وجعلاه اسماً للعقد وحقيقة فيه، ويقال لهم: لا خلاف بين الأمة أن تحريم من عقد عليها الأب على ابنه قد عقل من قوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فثبت بالاجماع أن العقد مرادٌ حقيقةً كان أو مجازاً، ومذهب من يخالفنا في هذه المسألة أنَّه لا يجوز أن يراد المعنيان المختلفان بعبارة واحدة، فلا يصح له ادعاء أن الوطء مراد به، فسقط تعلقهم به. (51/36)
فإن قيل: فأنتم أيضاً لا تنكرون أن تحريم من وطء الأب بملك اليمين على ابنه مراداً بالآية، فيرجع عليكم ما اعترضتم به علينا.
قيل له: لم نسلم لكم ما ادعيتموه، ولم يمكنكم الاعتصام بالاجماع؛ لأن الذي ذكرتموه غير معلوم، وما ذكرناه معلوم؛ إذ لا خلاف أن الآية لما [أنزلت](1) نزلت للمنع من العقد على التي كان الآباء عقدوا عليها، وذلك مشهور في الأخبار والروايات، على أنا لو سلمنا ذلك، لم يلزمنا ما لزمكم؛ لأنا(2) نُجَوِّز أن يراد بالعبارة الواحدة معنيان مختلفان، فيسقط هذا السؤال. (51/37)
فإن قيل: فقد روي (من نظر إلى فرج امرأة، لم تحل له أمها ولا ابنتها).
قيل له: هو محمول على من نظر على وجه يحل، بالأدلة التي قدمنا(3) على أن الخبر قد قيل: إنَّه ضعيف، ومما يدل على ذلك أنَّه وطء لا يوجب تحريم الجمع، فوجب أن لا يوجب التحريم المستدام، دليله وطء الميتة والذكور، أو يقال: هو وطء يوجب العقوبة الكاملة، فوجب أن لا يقتضي التحريم، دليله وطء الذكور، أو يقال: هو وطء لم يتقدمه أمر يحقق(4) التملك أو تحليله، دليله وطء الميتة والذكور، ولا خلاف أنَّه إذا زنى بامرأة، لم يحرم عليه نكاح أختها في الحال، فوجب أن لا يحرم نكاح أمها وابنتها، والمعنى أنَّه زنا، فوجب أن لا يحرم الحلال من العقود.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ب): لا.
(3) في (أ): قدمناها.
(4) في (ب): تحقيقه.
ويؤكد ما ذهبنا إليه أن الأصول تشهد لنا من حيث تفرق بين الوطء الحلال وبين الزنا في عامة الأحكام كوجوب العدة، ولزوم النسب، والنفقة، وسقوط الحدود، وزوال المأثم، وأيضاً نحن رددنا الوطء الحرام إلى الوطء الحرام، وهم ردوه إلى الوطء الحلال، فكان قياسنا أولى؛ لأن الحرام بالحرام أشبه منه بالحلال، وما ذكرناه من أن من وطيء امرأة بشبهة لم تحرم عليه أمها ولا ابنتها، ولا عليها أبوه. ولا ابنه، وقد نص في (الأحكام)(1) أن رجلاً وابنه لو تزوجا امرأتين، ثُمَّ أدخلت زوجة كل واحد منهما على صاحبه(2) على سبيل الغلط، فوطيء كل واحد منهما من أدخلت إليه، لم تحرم كل واحدة منهما على زوجها بهذا الوطء الواقع على سبيل الغلط. (51/38)
ونص أيضاً عليه في (المنتخب)(3) ونص أيضاً في (الأحكام) (4) [على أن رجلين] (5) لو تزوج أحدهما امرأة والآخر ابنتها ثُمَّ أدخلت زوجة كل واحد منهما على زوج صاحبتها على سبيل الغلط لم تحرم واحدة منهما على زوجها بالوطء الواقع على سبيل الغلط. [ونص عليه في (المنتخب) (6) أيضاً] (7).
فمعنى قولنا: شبهة هو الوطء الذي لم يتقدمه سبب الإستباحة ، ووقع على سبيل الغلط.
والشافعي يخالف في هذا، ويسوي بينه وبين الوطء الحلال.
__________
(1) انظر الأحكام 1/378/379.
(2) في (أ): غير زوجها.
(3) انظر المنتخب 133.
(4) انظر الأحكام 1/380.
(5) سقط من (أ).
(6) انظر المنتخب 133.
(7) سقط من (أ).
والدليل على ما ذهبنا إليه في هذا الباب قول الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنً النِّسَاءِ}، وقوله: {وَانْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}، وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وغيرها من /23/ الظواهر؛ إذ لم يستثن سبحانه منها من وطئت أمها أو ابنتها على سبيل الغلط، ولا التي وطئها ابن الناكح أو أبوه على سبيل الغلط، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما يحرم ما كان نكاحاً حلالاً)، وقد علمنا أن الوطء على سبيل الغلط لا يجوز أن يقال فيه أنَّه نكاح حلال، على أن أصحابنا قد قالوا: إن ذلك الوطء حرام، فإذا ثبت، دخل في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحرم الحرامُ الحلالَ). (51/39)
فإن قيل : فلم قلتم: إنَّه حرام، وما أنكرتم على من قال لكم إنَّه لو كان حراماً لكان فاعله عاصياً ومستحقاً للذم؟
قيل له: نقول إنَّه حرام لقول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ..} الآية، فهذا قد وطئ غير من هي له زوجة وغير ملك اليمين، فوجب(1) أن يكون من العادين، وهذا يوجب أنَّ ما فعله حرام، فأما كونه عاصياً، ومستحقاً للذم، ففيه بعض النظر؛ لأن العاصي يكون عاصياً بفعل ما كرهه الله منه، واستحقاق الذم أيضاً تابع لذلك، وقد قال أصحابنا من المتكلمين أنَّه لا يجب أن يكون الله تعالى كارهاً لما يفعل على سبيل السهو، وإن كان الفعل قبيحاً، إلاَّ أن ذلك لا يخرج الفعل من أن يكون قبيحاً، فيجب ما قلناه في هذا الوطء أنَّه حرام؛ لأن الحرام هو القبيح الذي يقع من المكلف، ويؤيد هذه الطريقة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه>، على أنا لو قلنا: إنَّه قد عصى واستحق الذم، لم يبعد؛ لأنَّه لا بد أن يكون قد حصل منه بعض التقصير؛ لأنَّه لو تأمل حق التأمل، واستكشف الحال فَضْلَ استكشاف العلم، ومما يدل على أن ذلك الوطء قبيح أن لنا المنع منه، ألا ترى أنا لو رأينا رجلاً يريد أن يطأ امرأة أجنبي لغلطة عرضت له، كان لنا أن نمنعه من ذلك بكل وجه، بل كان يلزمنا ذلك، فدل على أنَّه حرام، ولذلك استدل كثير من أصحابنا المتكلمين على أن في أفعال الأطفال والبهائم ما يقبح، يحسن منعنا لهم من كثير من الأفعال، ويدل على ذلك أنَّه وطء لا يجوز للواطئ المقام عليه مع علمه بصفته التي هو عليها، فوجب أن يكون حراماً، دليله الزنى، والوطء في الحيض والإحرام، وغير ذلك من الوطء المحرم، فإذا صح أنَّه حرام بما بيناه تناوله العموم على ما ذكرناه، ومما يدل على أن هذا الوطء لا يقع به التحريم ما أجمعنا والشافعي عليه من أن الزنى لا يقع به التحريم، فكذلك ما اختلفنا فيه، والعلة انه وطء لم يصادف نكاحاً ولا ملكاً على صحة أو شبهه، فوجب أن لا يقع التحريم به (51/40)
__________
(1) في (أ): فيجب.
فيه(1) قياساً على الزنى، فإن قاسوه على الوطء الذي يقع منه لشبهة النكاح أو الملك، كان ذلك شاهداً لقياسنا؛ لأن ذلك الوطء لما صادف شبهة النكاح أو الملك اقتضى التحريم، والزنا لما لم يصادف ذلك لم يقتض التحريم، ويمكن أن يقال أنَّه وطء لا يوجب تحريم الجمع فوجب أن لا يوجب التحريم المستدام، دليله الزنى، ويؤيد ما ذهبنا إليه أن هذا الوطء بالزنا أشبه منه بالوطء في النكاح(2)، وإن كان يشبه الوطء في النكاح في وجوه، وذلك أن الزنا فارق سائر وطء النساء وإن شارك في التحريم كثيراً /24/ منه أنَّه لا تستباح الموطوؤه بالزنا إلاَّ بتجديد نكاح(3) أو الملك، والوطء الذي اختلفنا فيه شارك الزنا في هذا فوجب أن يكون هذا الشبهة أقوى من سائر الشبه(4) وإن كثر؛ لأنَّه ماشبه للزنا في الصفة التي تخصه. (51/41)
فإن قيل: هذا الوطء لا حد فيه، والحد من خصائص الزنا، فقد خالف الزنا في بعض خصائصه.
قيل له: إن الزنى ليس الحد من خصائصه؛ لسقوطه عن المجنون والصبي إذا زنيا، وليس كذلك ما ذكرنا؛ لأنَّه حكم لكل زان، فإن(5) تعلقوا بشيء مما تعلق به أصحاب أبي حنيفة من الآية والخبر، فالجواب على نحو ما مضى.
مسألة [في نكاح امرأة المفقود]
قال: ولا يجوز لامرأة المفقود أن تتزوج حتى توقن بموته، أو تقوم به شهادة عادلة.
نص في (الأحكام)(6) على أنها لا تتزوج حتى تعلم خبره، وتوقن بموته، وليس الغرض الموت فقط، بل الغرض ما يوجب الفرقة، لأنَّه لو صح أنَّه طلقها، أو أنه ارتد، جاز لها أن تتزوج كما يجوز للمطلقة، وزوجة المرتد، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
وحكي عن مالك أنها تربص أربع سنين، ثُمَّ تعتد أربعة أشهر وعشراً، ثُمَّ تتزوج، وهو قول الأوزاعي: وبه قال عمر بن الخطاب.
__________
(1) في (ب): منه.
(2) في (أ): بالنكاح.
(3) في (أ): النكاح.
(4) في (ب): التشبيه.
(5) في (ب): فإن.
(6) انظر الأحكام 1/361.
وذكر السيد أبو عبدالله الداعي رضي الله عنه أن المرأة إذا غلب في ظنها موت المفقود فإنها تتزوج ـ أعني بالمفقود زوجها ـ وقال(1) القاسم عليه السلام: عمر الإنسان الطبيعي الذي لا يعيش أكثر منه وهو مائة وعشرون سنة، وبه قال(2) أبو حنيفة. (51/42)
وما ذهبنا إليه في هذه المسألة هو قوله أمير المؤمنين عليه السلام، وروى أنَّه قال: (أيما امرأة ابتليت، فلتصبر، حتى تستبين بموت أو طلاق).
والأصل فيه أنَّه نكاح ثابت، فلا يصح(3) إبطاله إلاَّ بيقين، أو ما يقوم مقامه في الشرع من الشهادة، ألا ترى أن هذا هو الأصل في جميع الأشياء نحو أن يكون أسيراً في عدو، أو مقيماً في بلد قصي، أن امرأته تكون على جملته، فكذلك إذا(4) لم تعرف خبره؛ لأنها في الحالين لم تعلم انقطاع العصمة بينها وبينه، ولا خلاف أن الواجب عليها قبل أربع سنين المقام على جملة النكاح فكذلك بعدها، والعلة أنها زوجة(5) المفقود، والعلة الأولى تكشف صحة هذه العلة أنها إذا علمت بانقطاع العصمة جاز لها أن تتزوج في جميع الأحوال، وإذا لم تعلم، لم يجز، فبان أن الحكم به متعلق، ولا خلاف أن زوجها وإن طالت غيبته لا يجوز له أن يتزوج بأختها، وإن كانت تحته أربع، لم يجز له أن يتزوج سواهن، فكذلك المرأة ليس لها أن تتزوج، والمعنى بقاء حكم الزوجية بينهما، ولسنا نعني ببقاء حكم الزوجية بينهما غير أن زوالها لم يثبت.
فإن قيل: لا ضرر على الزوج فإنه يمكنه أن يطلقهن، وليس كذلك حال المرأة، والأصل أن الضرر يجب أن يدفع لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).
__________
(1) في (ب): قال.
(2) في (أ): وهو قول أبي.
(3) في (أ): يجوز.
(4) في (أ): إن.
(5) في (أ): امرأة.
قيل له: [هذا] (1) ينتقض بامرأة الأسير(2)، والمقيم بالبلد النازح، ولا خلاف أن الواجب عليها الصبر على احتمال [ذلك] (3) الضرر، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ضرر) لا يختص المرأة، بل يجب أن تمنع المرأة من النكاح لئلا تدخل الضرر بذلك على الزوج، وقد حكي عن أبي حنيفة أنَّه قال: إذا بلغ عمر المفقود مائة وعشرين سنة حكم بموته، وهذا لا معنى له؛ لأن مائة وعشرين /25/ سنة في هذا الباب كمائة وخمسة عشر سنة وكمائة وخمسة وعشرين وثلاثين فلا وجه لهذا التحديد، ولا يمكن أن يعتمد لصحة هذا القول ما يحكى عن الأطباء المتفلسفة أن ذلك هو النهاية في العمر، لأن قولهم في هذا الباب ليس عن أصل صحيح، وإنما هو ظن وحسبان، والشرع لا يجوز أن يبنى على الظن، وقد أخبر الله تعالى أن نبيئه نوحاً عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً. (51/43)
مسألة [في رجوع الزوج المشهود على موته]
قال: فإن قامت الشهادة بموته، فتزوجت(4) ثُمَّ رجع، فهو أحق بها من الذي تزوجها ثانياً، وعلى الثاني المهر بما استحل من فرجها، ولا يقربها الأول حتى تستبري من ماء الثاني، فإن كانت حاملاً من الآخر، لم يدن منها الأول حتى تضع ما في بطنها، فإن لم تضع حتى طلقها الأول، انتظرت بنفسها حتى تضع وتطهر من النفاس، ثُمَّ تعتد من الأول ثلاث حيض مستقبلة، وللأول مراجعتها ما دامت في العدة، فإذا خرجت من العدة، نكحت(5) أيهما شاءت، أو غيرهما.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(6).
[و] (7) ما قلناه من أن الزوج الأول أحق بها، لا أحفظ فيه خلافاً بين الفقهاء، وإن كان يحكى(8) ذلك عن عمر.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) في (أ): أو المقيم.
(3) سقط من (ب).
(4) في (أ): وتزوجت.
(5) في (أ): تزوجت.
(6) انظر الأحكام 1/361.
(7) سقط من (ب).
(8) في (أ): ذلك يحكى.
وما ذهبنا إليه هو قول علي عليه السلام: أخبرنا بذلك أبو الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا الناصر(1)، قال: حدثنا الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد، عن أبي معاوية، عن أبي إسحاق الشيباني، عن الشعبي في رجل غاب عن امرأته، فبلغها أنَّه مات، فتزوجت، ثُمَّ جاء الزوج الأول قال عمر: يخير الزوج الأول بين امرأته وبين الصداق، فإن شاء أخذ الصداق، وترك للآخر امرأته، وإن شاء أخذ امرأته وقال علي عليه السلام: يفرق بينها وبين الزوج الآخر، وتعتد بثلاث حيض، وترد على(2) الأول ولها الصداق بما استحل من فرجها. (51/44)
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام نحو(3) ذلك، وهو الصَّحيح؛ لأن غلط من غلط لا يبطل(4) النكاح الثابت، ألا ترى أنَّه لو كان(5) ماله اقتسم، فلا التباس أنَّه إذا رجع استرجعه(6) ممن هو في يده ولم يبطل ملكه، فكذلك النكاح، فأما ما ذهب إليه عمر من التخيير، فهو مما لا معنى له؛ لأن الإنسان يصح أن يخير بين شيئين إذا كان التعلق بينه وبين كل واحد منهما على سواء، وكان يمت [إلى] (7) كل واحد منهما بسبب واحد، وقد علمنا أن نكاحه عليها ثابت، والمهر لا يملكه بوجه من الوجوه؟ وإنما هو كسائر أملاك المرأة فكيف يصح أن يخير الإنسان بين ما يملكه ملكاً صحيحاً وبين مالا يملكه على وجه من الوجوه، اللهم إلاَّ أن يكون ذلك على وجه الصلح، فأما على طريق الإلزام، فلا معنى له.
وقلنا: إن لها المهر بما استحل من فرجها، لأنَّه قد حصل الوطء بنكاح شبهة، ولا خلاف أن المهر يجب فيه وفي ما جرى مجراه، وهو قول علي عليه السلام.
__________
(1) في (أ): عليه السلام.
(2) في (أ): إلى.
(3) في (أ): مثل.
(4) في (أ): يفسد.
(5) في (أ): قسم ماله.
(6) في (أ): يسترجعه.
(7) سقط من (ب).
وقلنا: إنَّه لا يقربها الأول حتى تستبرئ من ماء الثاني، لأنَّه لا خلاف أن الوطء الذي يقع بالشبهة(1) يوجب العدة، وقد أفتى به أمير المؤمنين عليه السلام على ما سلف. (51/45)
ووجه قولنا: أن الأول إن طلقها قبل أن تضع فعليها أن تعتد بعد الوضع من الأول وذلك إن العدة لا تتداخل؛ [ذلك] (2) لأن كل واحدة منهما حق لغير من الأخرى حق له، وسنبين الكلام في مسألة المعتدة إذا /26/ تزوجت.
وقلنا: إن الأول له المراجعة ما دامت في عدة منه؛ لأنَّه لا خلاف أن الرجعة جائزة في التطليقة الرجعية مالم تنقص العدة.
وقلنا: إنها تتزوج أيهما شاءت بعد العدة؛ لأن كل [واحد] (3) منهما خاطب من الخطاب إذا لم يحصل على حال يمنع من نكاحها.
مسألة [في نكاح ولد الزنا]
قال القاسم عليه السلام: ولا بأس بنكاح ولد الزنى، سواء كان الزوج للزنا والزوجة لرشدة، أو الزوجة للزنى، والزوج لرشدة.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي) وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً، والظواهر المبيحة لم تستثن من كان للزنى [و](4) كذلك لا فضل بينه وبين غيره في سائر الأحكام.
فإن قيل: فكيف تقولون: إن من تكون لرشدها يتزوج بها ولد الزنى وأنتم تقولون: إن النسب في الأكفاء معتبر به؟.
قيل له: ليس الأكفاء من جواز النكاح في شيء، لأن للمرأة أن تتزوج من ليس بكفؤ(5) لها إذا رضيت ورضي الأولياء، ونحن إنَّما قلنا في ولد الزنى ما قلناه في جواز النكاح.
__________
(1) في (أ): الشبهات.
(2) سقط من (ب).
(3) سقط من (ب).
(4) سقط من(أ).
(5) في (أ): بغير كفؤ.
باب القول فيما يصح أو يفسد من النكاح (52/1)
[مسألة في اشتراط الولي والشهود]
كل نكاح يعقد من غير ولي وشهود فهو فاسد، وكذلك إن عقد بولي من غير شهود أو شهود من غير ولي فهو أيضاً فاسد، وكذلك إن عقد بشهادة النساء وحدهن فهو أيضاً فاسد.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2) غير ما ذكرنا من فساد النكاح من شهادة(3) النساء وحدهن فإنه منصوص عليه في (الأحكام) (4) أما الكلام فيما يتعلق بالشهادة فإنا نستوفيه إن سهل الله تعالى في باب شهادة النكاح، والذي يحتاج أن(5) يبين في هذا الموضع هو الكلام في أن النكاح لا بد فيه من الولي، وبه قال الناصر (6)، والشافعي، وهو قول علي عليه السلام. قال أبو حنيفة يصح النكاح من غير(7) ولي.
والذي يدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا(8) أحمد بن خالد، قال: حدثنا يحيى بن إسماعيل الكوفي، قال: [حدثنا] (9) أبو زكريا البجلي، قال: حدثنا الحسين بن إسماعيل بن خالد بن جرير، قال: حدثنا محمد بن يعلى، عن عمر بن صبيح، عن مقاتل بن حيان، عن الأصبغ بن نباته، عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (أيما امرأة تزوجت من غير(10) ولي، فنكاحها باطل، ثُمَّ هو باطل، ثم هو باطل، وإن لم يكن لها ولي فالسلطان ولي من لا ولي لها (11)).
__________
(1) انظر الأحكام 1/345 ـ 346.
(2) انظر المنتخب 125.
(3) في (أ): بشهادة.
(4) انظر الأحكام 1/377.
(5) في (أ): أنا.
(6) في (أ): للحق ع.
(7) في (أ): بغير.
(8) في (أ): حدثنا.
(9) سقط من (أ).
(10) في (أ): بغير.
(11) في (أ): له.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا عبدالعزيز بن إسحاق البغدادي، قال: حدثنا علي بن أحمد بن حاتم التميميي، قال: حدثنا الحسن بن عبدالواحد، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون، عن صالح بن [أبي] (1) الأسود، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر محمد وزيد ابنا علي(2)، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نكاح إلاَّ بولي وشهود). (52/2)
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، قال: حدثنا أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الصنعاني، قال: أخبرنا عبدالرزاق، عن عبدالله بن محرز، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن الحصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نكاح إلاَّ بولي وشاهدي عدل).
وأخبرنا أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا محمد بن /27/ عمر الدينوري، قال: حدثنا عباد بن عمرو، قال: حدثنا عبيدالله بن موسى، قال: أخبرنا ابن جريح، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال النبي(3) صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تنكح المرأة إلاَّ بإذن وليها، فإن نكحت، فهو باطل فهو باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها، وإن تشاجرا فالسلطان ولي من لا ولي له).
وأخبرنا البروجردي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عمر الدينوري، قال: حدثنا محمد بن غالب، قال: حدثنا عبدالصمد بن النعمان، قال: حدثنا الربيع بن [بدر] (4)، عن النبهاني بن [أبي] (5) الخطاب، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (البغايا اللاتي يُزوْجنَ أنفسهن بغير ولي) ولا يجوز إلاَّ بولي وشاهدين.
وحديث ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تُنْكِحُ المرأةُ المرأةَ، ولا تنكح نفسَها). فهذه الأخبار كلها نصوص تصرح بما ذهبنا إليه.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): عليه السلام.
(3) في (أ): رسول الله.
(4) في (ب): زيد.
(5) سقط من (أ).
فإن قيل: المرأة البالغة العاقلة ولية نفسها، فإذا تزوجت، كان ذلك نكاحاً بولي، فلا نكون خالفنا الآثار الواردة. (52/3)
قيل له: هذا التأويل يسقط(1) من وجوه:
أحدها أن اسم الولي لا يتناول من يلي أمر نفسه لا من طريق اللسان، ولا من طريق الشرع، وإنما يتناول هذا الاسم من يلي أمر غيره، يحقق ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الأيم أحق بنفسها من وليها) فوجب(2) أن يكون وليها غير نفسها، خلاف [ما قال] (3) أبو حنيفة وحتى لا تكون كقوله أحق بنفسها، من نفسها وهذا محال.
ومنها [أن] (4)ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة تزوجت بغير ولي، فنكاحها باطل) فجعلها غير وليها، وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (البغايا اللاتي يزوجن أنفسهن بغير ولي) فكل ذلك يسقط هذا التأويل.
فأما تعلق المخالف بأن في هذه الأخبار مراسيل، فلا وجه له؛ لأنَّه لا خلاف بيننا وبين المخالف لنا في هذه الأخبار أن المراسيل مقبولة.
وربما [أنهم](5) قالوا روي عن ابن جريح انه قال: ذكرت حديث سليمان بن موسى، عن الزهري في هذا الباب للزهري فلم يرفعه، وهذا لا معنى له؛ لأن الزهري يجوز أن يروي شيئاً ثُمَّ ينساه، وهذا لا يوجب سقوط الحديث، على أن ذلك الحديث قد رواه عن الزهري غير سليمان.
فإن قيل: نحن نخص هذه الأخبار، ونجعلها في التي لم تبلغ، أو المجنونة، أو التي وضعت نفسها في غير كفؤ، أو في المملوكة استدلالاً بقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلِيْكُمْ فِيْمَا فَعَلْنَ فِيْ أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}، وقوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}.
قيل له: أما قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلِيْكُمْ فِيْمَا فَعَلْنَ فِيْ أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فلا ظاهر له، ولا يصح لكم التعلق به لوجهين :
__________
(1) في (أ): ساقط.
(2) في (أ): يوجب.
(3) سقط من (أ).
(4) زيادة في (أ).
(5) سقط من (أ).
أحدهما: أنه تعالى نفى الجناح عنا فيما فعلن هن في أنفسهم وهذا لا يدل على أن ما فعلن هن في أنفسهن جائز؛ لأن انتفاء الجناح عن زيد لا يدل على جواز ما يفعله عمرو، وإذا(1) ثبت هذا فلا بد في الآية من ضمير، وإلا لم يكن لها فائدة، ويحتمل أن يكون المراد بها فلا جناح عليكم أن تعقدوا ما فعلن في أنفسهن بالمعروف، فرفع الجناح بشرط أن /28/ يكون ما فعلن في أنفسهن بالمعروف، والمعروف هاهنا مجمل لا يعرف المراد به إلاَّ بغيره، فوجب أن يكون ماهو شرط فيه مجملاً، ووجب أن يرجع إلى غيره، على أن الظاهر أن لنا فيما فعلن في أنفسن فعلاً ينفي الجناح عنا فيه، وليس ذلك إلاَّ تولي العقد عليهن، وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}، المراد به حصول النكاح، لا ما به يصح النكاح، يكشف ذلك أن المخالف لنا في هذه [المسألة] (2) لا ينكر أن الولي لو زوجها، لدخلت في الآية، فبان ان المراد ليس حصول النكاح من جهتها فقط، وقوله: {فَلا تَعْضِلُوهُنَّ} مما يستدل به على أن الولي يملك أمرها؛ لأن النهي عن الشيء يدل على أن المنهي عنه متمكَن من فعله، فلولا أن العضل له حكم لم يكن للنهي عنه معنى، لأن النهي يكون(3) إذاً نهياً عما لم يتمكن منه، وذلك لا يصح، ألا ترى أن عضله لو لم يكن له حكم، لكان المنع لا يصح؛ لأنَّه كان يصح منها أن تتزوج مع المنع، فلا يصح النهي عنه، على أنَّه قد روي عن الحسن فيما رواه عنه أبو داود في (السنن) (4) وغيره، قال: حدثني معقل بن يسار، قال: كانت لي أخت تُخطب، فأتاني ابن عم لي، فأنكحته، ثُمَّ طلقها طلاقاً له رجعة، ثُمَّ تركها حتى انقضت عدتها، فلما خُطبت أتاني يخطبها، فقلت: والله لا أنكحها أبداً ، قال: ففيَّ نزلت هذه الآية: {فَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ (52/4)
__________
(1) في (أ): فإذا.
(2) سقط من (أ).
(3) في (أ): النهي قد يكون.
(4) أخرجه أبو داود في السنن 2/236.
فَبَلَغْنَ أَجَلهُنَّ فَلا تَعْظِلُوهُنَ..} الآية، قال: فكفرت عن يميني، وأنكحتها(1) إياه. ألا ترى أن الله تعالى جعل امتناعه من الإنكاح عضلاً، فنهى عنه، فلولا أن نكاحها كان يتعلق به كان لا يكون [ذلك ] (2) عضلاً. (52/5)
ولجاز أن تزوج هي نفسها، فبان أن الآية تدل على ما ذهبنا إليه دون مذهبهم، على أن ما تعلقوا به من هذه الآية إنَّما هو بيان جواز عقدة النكاح، دون ما به ينعقد، وأخبارنا التي استدللنا بها قد تتضمن بيان ما به ينعقد، وفيه اختلفنا، فصارت بموضع الخلاف أخص، وصار التعلق بها أولى.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (الأيم أحق بنفسها من وليها) وهذا يوجب تخصيص أخباركم.
قيل له: هذا يوجب صحة مذهبنا، وذلك أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أحق بنفسها من وليها) يوجب أن للولي حقاً في نفسها، كما أن لها حقاً فيها، إلاَّ أن حقها أوكد؛ لأن لفظة أفعل ظاهرها أنها لا تستعمل بين شيئين(3) إلاَّ في أمر يشتركان فيه، ويكون لأحدهما مزية، وهذا نص مذهبنا؛ لأنا نقول [فيه] (4): إن المرأة إذا خطبها كفؤ، كان لكل واحد من الولي والمرأة حق في العقد؛، لأنه لا يتم عندنا إلاَّ بهما، إلاَّ أن حق المرأة آكد، وذلك أن الولي لو(5) امتنع، أجبر، والمرأة لو(6) امتنعت، لم تجبر، فأما قولهم: إن الولي لا حق له في العقد فإنه لا يصح مع قوله: (أحق بنفسها من وليها).
فإن قيل: ونحن نقول بذلك في موضع آخر(7)، وهو إذا خطبها غير كفؤ، فوجب(8) للولي فيه حقاً؛ لأن العقد عندنا إذ ذاك لا يتم إلاَّ بالولي.
__________
(1) في (أ): زوجتها.
(2) سقط من (ب).
(3) في (أ): معنيين.
(4) سقط من (ب).
(5) في (أ): إذ.
(6) في (أ): إذ.
(7) في (أ): مواضع أخر.
(8) في (أ): فيوجب.
قيل له: ففي هذا الموضع /29/ يستويان فيه ـ أعني المرأة والولي ـ ولا مزية فيه للمرأة على الولي، فلا يصح صرف قوله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا لم يصح ذلك فوجب(1) صرفه إلى ما قلناه، وفيه صحة مذهبنا. (52/6)
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (ليس للولي مع الثيب أمر).
قيل له: هذا الحديث، والحديث الذي يقول: (الأيم أحق بنفسها) فيما رواه نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد روي بألفاظ مختلفة فروي: ((الثيب أحق بنفسها))، وروي: ((الأيم أحق بنفسها))، وفي أواخر الحديث، ((واليتيمة تستأمر))، وفي بعضها: ((والبكر تستأمر، وأذنها صماتها))، ((وإقرارها صماتها))،ـ فكأن الحديث حديثاً واحداً، واختلفت ألفاظ الرواة، فلا يمتنع أن يكون بعضهم روى ما كان عنده من المعنى، فاعتقد أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الثيب أحق بنفسها) يوجب أن لا حق للولي في أمرها، فروي: ((ليس للولي مع الثيب أمر))، والقصد في جميع ذلك [بيان] (2) الفرق بين الثيب والبكر في الاستئمار، وهذا مما لا خلاف فيه، فإن صح اللفظ فهو محمول على أن المراد به ليس للولي أن يستبد بالأمر دونها على أن من يخالفنا في هذه المسألة لا ينكر أن الثيب إذا كانت صغيرة، فلوليها أن يعقد عليها من دون استئمارها، وكذلك الثيب من المماليك، فبان أن الخبر خاص، وصح حمله على ما قلناه.
فإن قيل: فقد روي أن امرأة جاءت(3) إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوهبت نفسها له، فقال: (مالي في النساء حاجة) فقام رجل، فسأله أن يزوجها إياه، فزوجه بها، ولم يسألها: هل لها ولي؟ ولم يشترط الولي في جواز العقد.
__________
(1) في (أ): وجب.
(2) سقط من (أ).
(3) في (أ): أتت.
قيل له: يحتمل أنَّه لم يكن للمرأة ولي في الحال، فلذلك زوجها؛ إذ ليس في الحديث أنَّه كان لها ولي فلم يستأذن في أمرها، وعلى هذا النحو جواب من سأل عن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ابن أم سلمة بأن يزوجها منه صلى الله عليه وآله وسلم وهو صغير؛ لأنَّه لا يمتنع أن يكون الغلام [كان] (1) صغيراً في المنظر وقد عرف صلى الله عليه وآله وسلم، بلوغه، أو يكون ذلك خاصاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجملة الأمر أن هذين الحديثين حكاية فعلٍ خاص؛ لأنهما وقعا على وجه مخصوص، فلا يمكن ادعاء العموم فيه. (52/7)
ويبين أن ما ذهبنا إليه هو قول علي عليه السلام، وقول ابن عباس: أخبرنا أبو العباس الحسني(2)، قال أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن قيس بن عاصم بن بهدله، عن علي عليه السلام: (لا نكاح إلاَّ بإذن ولي).
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عبدالرزاق، عن محمد بن محرز، عن ميمون بن مهران، قال: سمعت ابن عباس يقول: البغايا اللاتي يتزوجن بغير ولي.
وروي هذا القول عن عمر.
وروي أن عائشة كانت تخطب، فإذا(3) أرادت العقد أمرت غيرها، وقالت: إن النساء لا يعقدن، ولم يرو خلافه عن غيرهم، فجرى مجرى إجماعهم.
أخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا يوسف بن عدي، عن عبدالله بن إدريس، عن ابن جريج، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن عائشة: أنها أنكحت رجلاً من بني أخيها(4) جارية من بني أخيها فضربت بينهم بستر، ثُمَّ كلمت، حتى إذا لم يبق إلاَّ النكاح، أمرت رجلاً فأنكح، ثُمَّ قالت: ((ليس إلى النساء النكاح)) (5).
__________
(1) سقط من (ب).
(2) في (أ): رحمه الله تعالى.
(3) في (أ): وإذا.
(4) في (أ): أختها.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/10.
ومما يدل على ذلك أنَّه لا خلاف بيننا وبين المخالف أن النكاح أمر يفتقر إلى الشهود، /30/ والدلالة أيضاً قد دلت عليه، فوجب أن يكون لافتقاره إلى غير المتخاطبين فيه مع بلوغهما وحريتهما، وغير الشهود مسرح دليله الحكم، وأيضاً لا خلاف أن المكاتبة لا يجوز نكاحها إلاَّ بولي(1) فكذلك الحرة، والمعنى أنَّه عقد نكاح، فوجب أن لا يصح(2) إلاَّ بالولي، ولا خلاف أيضاً أنها لو أرادت أن تضع نفسها في غير كفؤ، لم يتم ذلك إلاَّ بولي، فكذلك إذا وضعت في الكفؤ، والمعنى أنَّه عقد يفتقر إلى الشهادة، أو يقال: إنَّه عقد نكاح. (52/8)
فإن قيل: إنها تملك بدل بضعها، وتتصرف فيه، فوجب أن يصح تصرفها في البضع، كالثمن والمثمَّن.
قيل له: هذا منتقض، لأن ولي الدم يملك بدل الدم من الدية، ويتصرف فيها، وإن كان لا يملك المبدل، ولايتصرف فيه.
فإن قيل : الولاية تثبت عليها في حال الصغر على نفسها ومالها، فإذا بلغت وجب ان تنقطع الولاية عن نفسها كما تنقطع عن مالها؛ لاجتماعهما جميعاً في جواز التصرف عليها في ذلك، وقاسوا الأنثى على الذكر بوجوب انقطاع الولاية عند البلوغ.
__________
(1) في (أ): بالولي.
(2) في (أ): يتم.
قيل له: لا خلاف أن حكم المال في هذا الباب ليس هو حكم النكاح، وأن حكم الذكر في النكاح ليس هو حكم الأنثى، لأن المرأة إذا بلغت، وضعت مالها حيث شاءت، ولم يبق ولاية تمنع من ذلك، وكذلك الذكر إذا بلغ، تزوج من شاء، وليس لأحد من الأولياء أن يمنعه من ذلك، والمرأة إذا أرادت أن تضع نفسها في غير كفؤ، كان للولي أن يمنع من ذلك، فبان أن حكم الولاية على النساء في النكاح لا ينقطع، وإن انقطع عن المال والذكور، على أن قياسهم لو ثبت، لكان يكون قياسنا أولى؛ للحظر، والاحتياط، ولأنه يوجب حكماً شرعياً، ولأن النصوص القاطعة تعضده، وكذلك إجماع الصحابة، ولأنا وجدنا النكاح قد قصر فيه حال النساء عن حال الرجال بدلالة إذا أرادت وضع نفسها في غير كفؤ مُنعت من ذلك، وأن العقد يمضي على البكر البالغة بغير عبارة منها عن الرضى، فوجب أن لا تقوم المرأة فيه مقام الرجل، كالإمامة في الصلاة، وكالشهادة، والقضاء، والإمامة العامة، ويقوي ذلك قول الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} فجعل إلينا إنكاح الأيامى، كما جعل إلينا إنكاح الإماء والعبيد، وقال سبحانه: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِيْنَ حَتَى يُؤْمِنُوا} فجعل أمر الإنكاح(1) إلينا، ولم يخاطب النساء، فثبت بذلك أجمع صحة ما ذهبنا إليه في هذا الباب. (52/9)
وحكى عن مالك أنَّه فصل بين الشريفة والوضيعة، فمنع نكاح الشريفة إلاَّ بالأولياء، وأجاز ذلك للوضيعة، وهذا لا معنى له؛ لأن جميع ما ذكرنا من أدلة الكتاب والسنة والعترة لا تفصل بين حال الشريفة والوضيعة في ذلك، فإذا(2) لم يخالف في الشريفة أمكن أن يقاس عليها الوضيعة؛ بعلة أنها تعقد عليها عقد النكاح، فوجب أن لا يصح إلاَّ بولي.
__________
(1) في (أ): النكاح.
(2) في (أ): وإذا.
وحكي عن أبي ثور أنَّه قال: إذا أذن الولي، جاز أن تعقد المرأة على نفسها، وهذا يبطله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تُنكح المرأةُ المرأةَ، ولا المرأة نفسَها)، وقوله: (أيما امرأة تزوجت بغير ولي، فنكاحها باطل)، وقوله: (لا نكاح إلاَّ بولي)، وقوله: (البغايا اللواتي يزوجن أنفسهن بغير ولي) ويحجه كثير مما مضى على أبي حنيفة من الكتاب والقياس. (52/10)
مسألة [في نكاح المتعة]
قال: ونكاح المتعة حرام، وهو أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل مضروب.
نص في (الأحكام) (1) على تحريم المتعة، وروى ذلك فيه عن /31/ جده القاسم(2)، وهو قول الناصر عليه السلام، والزيدية أجمع، وسائر العلماء إلاَّ ما يحكى عن زفر أنَّه أبطل الشرط، وأجاز العقد، وذهبت الإمامية إلى أنها حلال، وأنها لم تنسخ، وروي عن ابن عباس أنَّه كان يستبيحها، وروي أنَّه رجع عن ذلك.
والأصل في تحريمها: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني قال: حدثنا أحمد بن الفضل، قال: حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي، قال: حدثنا ابن المصفى، قال: حدثنا الفريابي عثمان بن سعيد، عن ابن لهيعة، عن موسى بن أيوب الفافقي، عن عمه، عن إياس، عن عامر المزني، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه نهى عن المتعة، وقال: إنَّما كانت لمن لم يجد، فلما أنزل الله تعالى النكاح، والطلاق، والميراث بين الزوج والمرأة، نسخت.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: حدثنا عبدالعزيز بن إسحاق، قال: حدثنا أحمد بن منصور الحيري، قال: حدثنا محمد بن الأزهري الطائي، قال: حدثنا أبو إبراهيم بن يحيى المزني، عن عبدالله بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه الصلاة والسلام، قال: (حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتعة في النساء(3) يوم خيبر، وقال: لا أجد أحداً يعمل بها إ لا جلدته).
__________
(1) انظر الأحكام 1/349 ـ 351.
(2) في (أ): عليه السلام.
(3) في (أ): متعة من النساء.
وأخبرنا أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا نجيح بن إبراهيم، قال: حدثنا سعيد بن عمر، قال: حدثنا عبثر بن القاسم أبو زبيد، عن سفيان الثوري، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم، عن الحسن بن محمد بن الحنفية، عن أبيه، قال: تكلم علي وابن عباس في متعة النساء، فقال علي: <إنك امرؤ تائه، إن النبي(1) صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية>. (52/11)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا علي بن سعيد، قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: حدثنا عبدالواحد بن زياد، قال: حدثنا أبو عميش، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في متعة النساء ثُمَّ نهى عنها(2).
__________
(1) في (أ): رسول الله.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/26 وفيه علي بن قعيد.
وأخبرنا أبو سعيد الأبهري، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن أبي الحسن الصدفي الفقيه بمصر، قال: أخبرنا يونس بن عبدالأعلى الصدفي، قال: أخبرنا أنس بن عياض الليثي، عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز، عن الربيع بن سبره الجهني، عن أبيه، قال: وردنا مكة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع، فقال: (استمتعوا من هذه النساء) والإستمتاع عنده(1) النكاح، فكلم النساء من كلمهن منا فقلن: لا ننكح إلاَّ وبيننا وبينكم أجل، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (اضربوا بينكم وبينهن أجلاً)، فخرجت أنا وابن عم لي ومعي برد، ومعه (2) أجود من بردي، وأنا أشب منه، فمررنا بامرأة، فأعجبها شبابي، وأعجبها برده، فقالت(3): بردك بردي وجعلت الأجل بيني وبينها عشراً، فبتُّ عندها تلك الليلة، فغدوت فإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائم بين الركن والباب يخطب الناس، فقال: ((يا أيها الناس كنت أذنت لكم بالإستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده شيء منهن، فليخل سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً)). (52/12)
وفي حديث زيد بن علي عليهم السلام، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نكاح المتعة في خيبر(4).
وفي حديثه عن علي عليه السلام: (لا نكاح إلاَّ بولي وشاهدين، ليس بالدرهم والدرهمين، ولا اليوم و [لا] (5) اليومين، شبه(6) السفاح، ولا شرط في نكاح(7)).
__________
(1) في (أ): عندنا.
(2) في (أ): وبرده أود.
(3) في (ب): فقال.
(4) في (أ): يوم خيبر.
(5) سقط من (أ).
(6) في (ب): شيبة.
(7) في (أ): النكاح.
فإن قيل: ففي هذه الأخبار ما يدل على الضعف والإضطراب، وذلك أن في بعضها أنها نسخت يوم خيبر، وفي بعضها أنها أبيحت يوم فتح مكة، ثم نسخت(1)، وكان خيبر قبل الفتح بمدة، وإذا /32/ حصل هذا الضرب من الإضطراب، لم يصح التعلق بها. (52/13)
قيل له:: هذا الذي ذكرتموه لا يدل على الإضطراب والضعف، لأنَّه جائز أن يكون نسخت يوم خيبر على ما رواه علي عليه السلام وغيره، ثُمَّ أبيحت بعد ذلك يوم فتح مكة، إما إباحة عامة، وإما لقوم بأعيانهم، ثُمَّ نسخت، وإذا كان هذا جائزاً، فلا يجب ضعف الأخبار.
فإن قيل: فإن إباحة المتعة معلومة، والنسخ إنَّما هو بخبر الواحد، ولا يجب نسخ المعلوم بخبر الواحد، كما لا يجب نسخ القرآن به.
قيل له: الأصل في خبر الواحد أنَّه مقبول إذا سلم سنده، ولا يمتنع أن ينسخ به ماهو معلوم، ألا ترى أنا نقبل خبر الواحد في إباحة ما حظره العقل، وفي حظر ما أباحه، وكذلك نقبله في استباحة الفروج، مع أن حظرها معلوم على الجملة شرعاً، فإذا ثبت هذا، لم يمتنع ما قلنا.
فأما نسخ القرآن بخبر الواحد، فلسنا نمنع منه عقلاً، وإنما ممنع منه لدلالة شرعية، ألا ترى أن من الناس مَن لا ينسخه بالخبر المتواتر، وإنما يقبل(2) خبر الواحد في تخصيص القرآن، ومن طريق الاعتبار لا فصل بين التخصيص والنسخ، وإنما الفاصل بينهما الشرع، على أنَّه لا خلاف بيننا وبين الإمامية في أن المسح على الخفين منسوخ، وثبوت المسح في الأصل معلوم، ونسخه إنَّما بخبر الواحد، فإذا لم يمتنع ذلك في نسخ المسح، لم يمتنع في نسخ المتعة، على أن الأخبار الواردة في نسخ المتعة أظهر وأقوى؛ لأن فيها لفظة النسخ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها أنه نسخها وحرمها إلى يوم القيامة، وليس في نسخ المسح هذا النص، وإن كان ذلك أيضاً ثابتاً صحيحاً، فبان بما بيناه أنَّه لا يعترض بما ذكروه.
__________
(1) في (ب): فسخت.
(2) في (أ): أنا نقبل.
فإن قيل: ففي القرآن ما يدل على إباحة المتعة، وهو قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، فإذا ثبتت الإباحة بالقرآن، فلا خلاف أنَّه لا يجوز نسخها بخبر الواحد. (52/14)
قيل له: ليس في الآية ما يدل على إباحة المتعة؛ لأن الاستمتاع في اللغة هو الانتفاع به ومنه قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِيْ حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}، وقوله تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} فالمرتد بالاستمتاع الانتفاع بهن بالنكاح الصَّحيح، وما روي عن ابن عباس أنَّه قرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، فالرواية قد قيل: إنها ضعيفة، وإن ثبتت فيحتمل أن يكون المراد به تأخير المهر، ونحن نُجوز المهر المؤجل، وتفيد الآية إن صحت الرواية جواز ذلك، ووجوب الإيفاء إذا حل الأجل، فلا دليل فيه على المتعة على وجه من الوجوه.
وفيه من طريق النظر أنَّه عقد معاوضة يقتضي إطلاقه التأبيد، فوجب أن يفسده التوقيت، دليله البيع، وأيضاً هو عقد يختص استباحة الوطء، ولا يجري فيه الطلاق والمواريث مع كون كل واحد من الرجل(1) والمرأة وارثاً وموروثاً، وكون الرجل ممن يصح(2) طلاقه، فوجب أن يكون فاسداً، دليله النكاح الفاسد، فأما ما كان يذهب إليه زفر من أن النكاح ثابت، والشرط فاسد، فلا معنى له؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في المتعة: (إنما كانت لمن لا يجد)، فلما أنزل الله تعالى النكاح، والطلاق، والميراث، نسخت، وظاهر الكلام أن المراد به العقد، وكذلك قول علي عليه /33/ السلام: حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعة النساء، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فمن كان عنده شيء فليخل سبيلها) وما ذكرناه من القياس الأول أيضاً يفسد قوله، ولأن هذا القول خلاف الإجماع؛ لأن الناس أحد رجلين، رجل يحرم العقد ويبطله، ورجل يجيز العقد مع الشرط، فحصل الإجماع على أن شرطها كعقدها، فالفاصل بينهما تارك للإجماع، على أن العقد لا يخلو من أن يبيحها في المدة المذكورة، أو يبيحها فيها وفيما بعدها، فإن أباحها في المدة المذكوره فقط فهو المتعة، وإن أباحها في المدة وبعدها لم يصح ذلك، لأن العقد إنَّما يتناول المدة، ألا ترى أن الأجارة لما كانت عقداً على أمر مضروب، لم يتناول ما بعده، وكذلك عقد المتعة. (52/15)
مسألة [في نكاح الشغار]
قال: ونكاح الشغار حرام، وهو أن يكون الرجلان يُزوِّج كل واحد منهما ابنته من صاحبه على أن يكون بضع كل واحدة منهما مهر صاحبتها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(3) وبه قال الشافعي، ومالك. قال أبو حنيفة النكاح صحيح، ويجب مهر المثل.
__________
(1) في (أ): الزوج.
(2) في (ب): يصلح.
(3) انظر الأحكام 1/407.
والأصل فيه حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نكاح الشغار، قال أبو خالد، فسألت زيداً عن تفسير ذلك، فقال: هو أن يتزوج الرجل ابنة الرجل على أن يزوجه الآخر ابنته، ولا مهر لواحدة منهما. (52/16)
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن سعيد الثقفي، قال: حدثنا أحمد بن الأزهر، قال: حدثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (لا شغار في الإسلام).
وروي نحوه عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى أبو داود في (السنن) (1) بإسناده، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشغار.
فصارت هذه الأخبار موجبة تحريم نكاح الشغار، فوجب فساده.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إن الذي يجب أن يفسد هو المهر دون عقد النكاح، وفساد المهر لا يوجب فساد العقد؟
قيل له: الأخبار التي ذكرناها اقتضت تحريم نكاح الشغار، دون ما سواه، والنكاح عندنا هو العقد، وعند مخالفنا هو الوطء، فوجب أن يكون المحرم هو العقد، أو الوطء، بهذا العقد، وأيهما ثبت تحريم العقد، ولا وجه لصرفه إلى المهر، إذ النكاح ليس باسم للمهر، فبان به صحة ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: لو فسد العقد، لم يخل فساده من وجوه إما لأنَّه انطوى على منفعة للزوج، أو لأنَّه وقع معرى عن المهر، أو لأنَّه وقع بمهر فاسد، وكل هذه الوجوه مما لا يوجب فساد النكاح، فوجب أن يكون العقد صحيحاً.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/234.
قيل له: هذا كلام من يرى أنَّه لا يجب تحريم الشيء وفساده بمجرد قول صاحب الشرع، وأن التحريم والفساد إنَّما يجب إذا عرفنا لهما وجهاً سوى ما يذكره صاحب الشرع، وهذا فاسد بإجماع المسلمين، فوجب سقوط هذا السؤال، ولزوم القضاء بإفساد هذا العقد؛ لتحريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ألا ترى أنَّه غير ممتنع أن يكون ورد الشرع بتحريم النكاح إذا عقد على الخمر، وإباحته إذا عقد على الخنزير، وإن كان /34/ المهر في العقدين فاسداً، فإذا ثبت ذلك، وجب تحريم عقد نكاح الشغار؛ لظاهر كلام(1) النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانت أحواله في الوجوه الثلاثة على ما ذكر. (52/17)
فإن قيل: فنحن نقيس نكاح الشغار على نكاح يعقد على الخنزير والخمر، فنقول: إنَّه لا يجب أن يفسد نكاح الشغار لفساد المهر كما لا يجب أن يفسد نكاح على الخمر والخنزير.
__________
(1) في (أ): قول.
قيل له: عندنا أن نكاح الشغار لم يفسد لفساد المهر فقط، فيكون سبيله سبيل النكاح المعقود على الخنزير والخمر، وإنما فسد لأن الإفساد فيما انطوى العقد عليه؛ لأنَّه لما زوج ابنته على أن يكون بضعها مهراً لابنه المتزوج بها، صار مستثنياً بضعها من جملة العقد، فلم يتم العقد، وصار ذلك رفعاً لبعض ما أوجبه، فوجب فساده، وليس كذلك النكاح المعقود على الخمر والخنزير؛ لأن العقد فيه قد سلم وتم، والفساد إنَّما وقع في المهر، فبان فساد قياسهم، على أن جميع ما ذكروه يوجب عليهم القول بجواز المتعة، وإفساد المدة على ما ذهب إليه زفر، فلا بد لهم من الرجوع إلى مثل جوابنا فيه، على أنا نقيس نكاح الشغار على نكاح المتعة، فنقول: إن كل واحد منهما اقتضى رفع بعض موجَب العقد، فوجب أن يكون فاسداً؛ لأن الشغار اقتضى استثناء البضع من جملة العقد، والمتعة اقتضت استثناء بعض المدة، والعقد يقتضي التأبيد، على أن قياسهم لو ثبت، لكان قياسنا أولى للحظر والاحتياط، ولأنهم [قد] (1) قالوا: لو أن امرأة تزوجت عبداً على أن تكون رقبته مهراً لها، فسد النكاح، وكذلك يجب أن يكون الشغار؛ لأن المعقود عليه جُعل عوضاً. (52/18)
مسألة [في نكاح المحرِم وإنكاحه]
قال: ونكاح الْمُحْرِم باطل، وكذلك إنكاحه.
وهذا منصوص عليه في كتاب (الأحكام) (2)، وقد استقصينا الكلام فيه في كتاب الحج، فلا طائل في إعادته.
مسألة [مسألة إنكاح المعتدة]
قال: ولا يحل للرجل أن ينكح المرأة وهي في عدة من غيره، فإن فعلا ذلك جهلاً، كان النكاح باطلاً، وللمرأة المهر على الثاني إن كان الأول قد دخل بها، فإن جاءت بولد لأكثر من سته أشهر من يوم دخل بها المزوج الثاني، أو لستة أشهر، فالولد(3) للزوج الثاني، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر، فهو للزوج الأول.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4).
__________
(1) سقط من (أ).
(2) انظر الأحكام 1/276.
(3) في (أ): فهو.
(4) انظر الأحكام 1/365 ـ 366.
أما ما ذكرناه من فساد النكاح الواقع في العدة على ما بيناه، فمما لا خلاف فيه بين المسلمين، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}. (52/19)
أخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، قال: أخبرنا(1) الناصر للحق عليه السلام، قال: حدثنا الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون، عن أسباط بن محمد، عن أشعث، عن الشعبي، عن مسروق، قال: قضى عمر في امرأة تزوجت في عدتها أن يفرق بينهما، ويجعل مهرها في بيت المال، ولا يجتمعان أبداً، وعاقبهما، فقال علي عليه السلام: ((ليس هكذا، هذه الجهالة، ولكن يفرق بينهما، وتستكمل بقية العدة، ثُمَّ تستقبل عدتها من الآخر))، فحمد اللهَ عمرٌ وأثنى عليه، وقال: ردوا الجهال أيها الناس إلى السنة.
وأخبرنا أبو الحسين، قال: حدثنا الناصر، قال: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا إبراهيم، عن أبي مالك ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، عن عُمَر أنَّه قال في امرأة تزوجت في عدتها، قال: يفرق بينهما ماعاشا، ويجعل /35/ صداقها في بيت المال، وقال علي عليه السلام: ((يفرق بينهما، ولها صداقها فيما استحل من فرجها، وتتم ما بقي عليها من عدتها من الأول، ثُمَّ تستأنف ثلاثة قروء من الآخر، ثُمَّ يخطبها الآخر إن شاء)). فصار إبطال النكاح وفاقاً بين علي وعمر، ولم يرو عن أحد من الصحابة خلافه، وجعلنا المهر لها بما استحل من فرجها؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النكاح بغير ولي ((فوهو باطل)) فإن دخل بها، فلها المهر بما أصاب منها، وقد مضى إسناده في مسألة النكاح بغير ولي، فصار ذلك أصلاً لإيجاب المهر في كل وطءٍ وقع بشبهة.
__________
(1) في (أ): حدثنا.
وقلنا: إن المهر لها؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك، وهو قول علي عليه السلام على ما ذكرناه في الحديث المتقدم، وفي أحد الحديثين أن عمر، قال: هو لبيت المال، ثُمَّ رجع إلى قول علي عليه السلام. (52/20)
وروى أيضاً هناد بن السري في كتاب النكاح بإسناده عن الحكم، عن علي عليه السلام، وعمر، نحو ذلك، قال الحكم: ثُمَّ رجع عمر إلى قول علي، فصار ذلك وفاقاً، ولم يحكَ فيه خلاف.
وكذا أيضاً ما روى هناد بن السري بإسناده، عن قتادة، عن ابن المسيب، في امرأة تزوجت في عدتها، فقضى عمر بأن يفرق بينهما، وضربهما دون الحد، وأعطاها الصداق بما استحل من فرجها.
وما ذكرناه من أنها إن جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر منذ دخل بها الثاني، فهو للثاني، وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر فهو للزوج الأول، هذا إن كان منذ فارقها الزوج الأول لأربع سنين أو أقل على ما ذكره في (المنتخب)، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ دخل بها الثاني، ولأكثر من أربع سنين منذ أن فارقها الأول، لم يلحق بالأول، ولا بالثاني.
وتحصيل المذهب على ما بينه في (المنتخب) (1) أنها متى جاءت بولد(2) في وقت يصح أن يلحق بأحد الزوجين، ولم يصح أن يلحق بالآخر، فإنه يلحق بالذي يصح أن يلحق به دون الذي لا يصح أن يلحق به، فإن جاءت به في وقت لا يصح أن يلحق بواحد منهما، لم يلحق بواحد منهما(3)، وهذا مما لا خلاف فيه، فأما إذا جاءت به في وقت يصح أن يلحق بكل واحد منهما، وهو الذي ذكره في (الأحكام)، فقد اختلف فيه، قال الشافعي: يرجع فيه إلى القيافة، وقال أبو حنيفة: يلحق بالأول، وقال يحيى عليه السلام: يلحق بالثاني.
أما الكلام في بيان أقل الحمل وأكثره، فسيجيء بعد في موضعه من هذا الكتاب.
__________
(1) انظر المنتخب 148 ـ 163.
(2) في (أ): بالولد.
(3) في (أ): بأحدهما.
وأما الكلام على الشافعي في بيان بطلان حكم القيافة، وأنه لا يجوز الرجوع إليه، فسنبين الكلام فيه بعد هذا في مسألة الأمة إذا وطئها رجلان، ثُمَّ جاءت بولد، فإذا بطل القول بالقيافة، سقط قوله. (52/21)
وأما الكلام على أبي حنيفة وهو الذي يختص هذا الموضع، فهو أنَّه لا خلاف بيننا وبينه أنها لو جاءت به بعد سنتين منذ فارقها الأول، أو لستة(1) أشهر منذ دخل بها الثاني، إن الولد يلحق بالثاني، فكذلك إن جاءت به قبل الحولين منذ فارقها الأول، والعلة أنها أتت(2) به في زمن يصح أن يلحق بالثاني، من غير أن يظهر بها الحمل قبل دخول الثاني، فوجب أن يلحق به، وليس لأحد أن يدعي في علتنا أنها لا تؤثر؛ لأنها على أصلنا مؤثرة؛ لأن بعد الحولين قبل استكمال أربع سنين يصح أن يلحق بالأول عندنا، فلم تكن العلة غير ما ذكرنا، ألا ترى أنها لو أتت به لأقل من ستة أشهر منذ دخل بها الثاني لم يلحق به، ويقوى هذا القياس بما نذكره، وهو مما /36/ يصح أن يجعل ابتداءًأ الإستدلال في المسألة، وذلك أنا قد اتفقنا على أنَّه لا بد من أن يلحق بأحد الفراشين ـ أعني فراش الأول، أو فراش الثاني ـ فوجب أن يراعى أقوى الفراشين، وقد علمنا أن فراش الثاني أقوى من فراش الأول بوجهين:
__________
(1) في (أ): ولبقية.
(2) في (أ): جاءت.
أحدهما: أن الأول والثاني لو تجاحدا، لكان تكون البينة على الأول، واليمين على الثاني، وقد علمنا في الأصول أن اليمين أبداً تلزم في الجانب القوي(1)، ألا ترى أن من ادعى شيئاً في يد إنسان، فأنكره المدعَى عليه تلزم اليمين المنكر؛ لأنَّه أقوى؛ لكون الشيء في يده وكذلك من ادعى حقاً على آخر، فأنكر تلزم اليمن المنكر لأنَّه أقوى لاستناده إلى برآءة الذمة، وكذلك لو ادعى على آخر(2) فقال المدعَى عليه قد أوفيتك حقك، رجعت اليمين على(3) المدعي؛ لأنَّه صار أقوى، لثبوت ما ادعاه بإقرار المدعَى عليه، فبان بما بيناه أن فراش الثاني يجب أن يكون أقوى. (52/22)
فإن قيل: أليس لو ثبت ملك المدعي، والمدعى عليه في الشيء الذي هو في يد المدعَى عليه، كان الواجب أن يقسم بينهما، ولم يراعَ فيه قوةَ من الشيء(4) في يده.
قيل له: لا؛ لأنا لا نحوج فيه إلى مراعاة قوة أحد الملكين بجواز قسمته بينهما، وليس كذلك الولد في هذه المسألة، على أنا قد اتفقنا على أنَّه لا بد من أن يلحق بأحدهما، فوجب أن يراعى قوة سببهما.
__________
(1) في (أ): الأقوى.
(2) في (أ): الآخر.
(3) في (أ): إلى.
(4) في (أ): في يده الشيء.
والوجه الثاني الذي يبين أن فراش الثاني أقوى وأولى أن يلحق الولد به، أنَّه متجدد(1)، والأمر المتجدد أولى أن يتعلق به الحكم المتجدد من الأمر الباقي؛ لأنَّه يصير في حكم المجاور للحكم، يكشف ذلك ما اتفقنا عليه أن تعلق الكفارة بالحنث أولى، وكونه سبباً أولى من كون اليمين، ولهذا امتنع أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة من القول بأن اليمين أحد سببي الكفارة، وقالوا: إن سببها الحنث، فقد بأن بهذين الوجهين أن فراش الثاني أقوى، فإذا ثبت أنَّه أقوى، وجب إلحاق الولد به، على أنَّه قد روي عن أبي حنيفة أن امرأة المفقود لو تزوجت لنعيٍ ورد عليها بعد انقضاء أربعة أشهر وعشر، وجاءت بولد، ثُمَّ جاء الزوج الأول، ألحق الولد بالثاني، وروي أنَّه هو القول المرجوع إليه، وإن كان روي عنه أنَّه للأول، والرواية التي ذكرناها تبين أنَّه رأى فراش الثاني أقوى، فوجب ذلك في مسألة المعتدة. (52/23)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم أن فراش الأول يجب أن يكون أقوى؛ لأن نكاحه كان في الأصل صحيحاً، ونكاح الثاني كان فاسداً؟
قيل له: الكلام في الفراشين(2) دون السببين، ونحن إنَّما نراعي قوة الفراشين دون قوة سببهما، على أن [سبب] (3) فراش الثاني ثبت بالوطء، والوطء لا يصح أن يقال فيه: إنَّه صحيح أو فاسد، لأن ذلك إنَّما يقال في العقد، فسقط هذا الإعتراض.
مسألة [في استبراء المنكوحة في عدتها]
قال: وعلى المرأة أن تستبرئ من ماء الثاني، ثُمَّ تبني على ما مضى من عدة الأول التي قطعتها بالتزويج حتى تتمها، فإذا خرجت من عدتها، تزوجت أيهما شاءت، أو غيرهما.
__________
(1) في (ب): يتجدد.
(2) في (أ): في سبب الفراشين.
(3) سقط من (ب).
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) [و](2) قال الشافعي: مثل قولنا في أنها(3) لا بد لها من العدتين، وهو قول إبراهيم، والشعبي، [و] (4)روى ذلك عنهما هناد بن السري. قال أبو حنيفة: أحد العدتين تدخل في الأخرى. (52/24)
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رويناه عن علي عليه السلام أنَّه قضى بذلك بمحضر(5) من الصحابة /37/ قال عمر فيما خالفه من ذلك: ردوا الجهالات إلى السنة، ورجع إلى قوله، والدليل من(6) هذا الخبر في(7) ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنا نذهب إلى أن قضاء أمير المؤمنين(8) حجة، وأنه يجب أن يتبع ولا يجوز أن نخالفه(9).
والثاني: أنَّه قضى به في مشهد من الصحابة، وأخذ به عمر، ولم ينقل فيه خلاف، وصار ذلك إجماعاً.
والثالث: قول عمر: ردوا الجهالات إلى السنة، فدل ذلك [على](10) أنَّما قضى به علي عليه السلام كان سنة، وهذا يجري مجرى الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى أيضاً هناد بإسناده عن الحكم، قال: قال علي عليه السلام في امرأة تزوجت في عدتها: تعتد العدتين جميعاً، فتفرق(11) بينهما، فتعتد من الأول، ثُمَّ تعتد من الآخر، قال: وأمرها عمر بعدتين، ورجع إلى قول علي عليه السلام في المهر، وفي أنَّ(12) له أن يخطبها بعد ذلك.
__________
(1) انظر الأحكام 1/366.
(2) سقط من (ب).
(3) في (ب): أنه.
(4) سقطت من (أ).
(5) في (أ): في محضر.
(6) في (أ): في.
(7) في (أ): من.
(8) في (أ): ع.
(9) في (أ): يخالف.
(10) سقط من (ب).
(11) في (أ): تفترق.
(12) في (أ): أنه.
ومما يدل على وجوب العدتين: أنهما حقان لنفسين يصح انفراد كل واحد منهما عن صاحبه، فوجب أن لا يتداخلا، دليله سائر الحقوق، ويكشف أن العدة حق للزوج قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتُ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلَ أَنْ تَمُسُّوهُنَّ..} الآية، فبين أن العدة إذا وجبت كانت للزوج، وبين(1) ذلك أن الزنا لما لم يتعلق به حق للزوج(2) لم يجب عنه العدة، والوطء سواء كان عن نكاح صحيح، أو عن شبهة، لما تعلق(3) به حق الزوج، وجبت العدة، فبان أن وجوبها لِحقِ الزوج. (52/25)
فإن قيل: لو كان حقاً له، لكان يصح منه إسقاطه.
قيل له: لا يمتنع أن لا يصح منه إسقاطه إذا كان يتعلق به حق الله تعالى، ألا ترى أن ولاية الأب على(4) الابن الصغير حق له، ومع هذا(5) لا يصح منه إسقاطه، لَمَّا تعلق بحق لغيره، وهو الابن، ولم يخرجه ذلك من أن يكون حقاً له، فكذلك ما اختلفنا فيه.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن الغرض بالعدة هو استبراء الرحم، وهذا الغرض يتم مع التداخل؟
قيل له: إن العدة وإن كان فيها استبراء الرحم، فلسنا نقول: إنها لا لغرض فيها سواه، ألا ترى أنها تجب على الصغيرة التي في حكم الطفولة(6)، وعلى الآيسة، وتجب من وفاة زوج طفل، فإذا ثبت ذلك لم يصح(7) أن يقال فيها إنها مقصورة على استبراء الرحم، وما قلنا من أنها تبدأ بعدة الثاني، ثُمَّ تبنى على ما مضى من عدة الأول حتى تتمها، فإن الشافعي يخالف فيه ويقول: تتم عدة الأول أولاً، فإذا خرجت منها(8) اعتدت للثاني.
وروى هناد بن السري مثل قولنا عن الشعبي، ومثل قول الشافعي عن إبراهيم.
__________
(1) في (أ): يبين.
(2) في (أ): الزوج.
(3) في (ب): يتعلق.
(4) في (أ): عن.
(5) في (أ): ذلك.
(6) في (أ): الكفولية.
(7) في (أ): يجز.
(8) في (أ): منها من الأول فاعتدت.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أنا وجدنا سائر العدد يجب الإبتداء بها حين وجوبها، وحيث تلي موجبها، فكذلك ما اختلفنا فيه، والمعنى أنَّه(1) عدة، أو يقال: إنها عبادة موضوعة في الأصل لاستبراء الرحم، فإذا ثبت أن الإبتداء بها واجب حين وجوبها، ثبت ما قلناه من أنها تبدأ بعدة الزوج الثاني، ثُمَّ تتم ما بقي من عدة (الزوج)(2) الأول، وأيضاً هي عبادة تختص البدن، فوجب أن لا يجوز تفويت أدائها لقضاء غيرها، دليله من فاتته صلاة فذكرها في آخر وقت الأخرى قبل أن يؤديها. (52/26)
فإن قيل: يجب الابتداء ببقية عدة الأول؛ لأنها وجبت قبل عدة الثاني.
قيل له: هذا منتقض بالصلاتين اللتين /38/ ذكرناهما.
فإن قيل: فعدة الأول عدة نكاح صحيح، فوجب أن تكون اقوى.
قيل له: هذا لا يمنع ما ذكرناه؛ لأن العدتين قد وجبتا، ولا مزية في باب الوجوب لإحداهما على الأخرى، ولا معتبر باختلاف أحوال الموجِب في عامة الأصول على أن الموجِب للعدة حصول الفراش في الموضعين، وقد بينا أن فراش الثاني أقوى من فراش الأول في المسألة التي تقدمت هذه.
فإن قيل: [فقد] (3) رويتم أن علياً عليه السلام، قال: تتم عدة الأول، ثُمَّ تستقبل عدة الثاني، وهذا خلاف مذهبكم.
قيل له: لا يمتنع أنَّه قال: ثُمَّ تستقبل عدة الثاني، وأراد به وتستقبل عدة الثاني، فيكون وضع ثُمَّ موضع الواو، وهذا غير ممتنع، وعلى هذا تأولنا قوله سبحانه: {إِنَّ عَلِيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}، حين منعنا جواز تأخير البيان.
فإن قيل: فظاهر قوله يقتضي ما ذهبنا إليه.
قيل له: لا يمتنع ذلك، ولكنا انصرفنا عن الظاهر بالاعتبار الذي ذكرناه، كما انصرفنا عن ظاهر قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}، للدلالة.
__________
(1) في (أ): أنها.
(2) سقط من (أ).
(3) سقط من (أ).
وقلنا: إنها إذا خرجت من العدتين، تزوجت أيهما شاءت؛ لأنَّه لا مانع من ذلك، وقال الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءُ ذَلِكُمْ}، وقال عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ}، ولأنه قول علي عليه السلام، وروي أن عمر رجع إلى قوله. (52/27)
وعند الإمامية أنها لا تتزوج من تزوج بها معتدة، وحكى ذلك عن مالك.
فصل [في العدة في الزنا]
قال في (المنتخب): والعدة لا تكون إلاَّ لزوجة حلال نكاحُها، فدل ذلك على أن لا عدة عنده من الزنا، وأن يستوي الحائل والحامل عنده في جواز العقد عليها، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد، والشافعي، وقال مالك: لا يجوز نكاحها حتى تعتد، قال أبو يوسف: يجوز النكاح إلا أن تكون حاملاً؛ لأنه لا يجوز حتى تضع حملها.
ودليلنا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}، وقوله سبحانه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، فعم ولم يخص ويدل عليه قوله عليه السلام: ((الحرام لا يحرم الحلال)).
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}، ثُمَّ قال: {وَأُولاتِ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
قيل له: الآية الثانية واردة في المطلقات، واللواتي في حكمهن؛ لأنَّه سبحانه قال بعد ذلك: {اسْكُنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} الآية، فبين سبحانه أحكام المطلقات، وما يلزمهن، ويلزم لهن، وليس فيها حكم التي زنت، ولا حكم التي حملت من الزنا، على أن الآية تضمنت ذكر مقدار الأجل، ولم تتضمن إثبات الأجل، والخلاف يقع(1) في ثبوت الأجل، وعندنا أنَّه لا أجل لهن.
فإن قيل: روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (لا تَسقِ بمائك زرع غيرك(2)).
__________
(1) في (أ): وقع.
(2) في (ب): غير زرعك.
قيل له: هذا كلام في الوطء، وكلامنا(1) بما هو في العقد، على أنَّه ليس زرع ينسب إلى الغير، فلا يصح التعلق بهذا الظاهر، وقد ثبت أن ملك اليمين إذا وطئها سيدها لم يمنع ذلك من جواز نكاحها، فكذلك وطء الزنا، والعلة أنَّه وطء لم يتعلق به سبب، ولا خلاف أن التي تكون في عدة(2) من الناكح يجوز نكاحه لها، والعلة أن الوطء التي(3) حصل لم يوجب حقاً للغير، فكذلك إن كانت حاملاً؛ لأن الولد لا يتعلق به حق الغير، يكشف ذلك أيضاً أن الزنا لا يتعلق به شيء من حقوق النكاح، كالانفاق، والسكنى، وثبوت /39/ النسب، وعندنا أنَّه لا يحرم، فوجب أن لا تلزمها العدة، ولاوجه لتشبيههم إياها بالموطوؤة بالشبهة، لأن ذلك الوطء له حرمة ألا ترى أنَّه يثبت به النسب، والزنا لا حرمة له على وجه من الوجوه. (52/28)
مسألة [في أُذن البالغة في النكاح]
قال: ولا يجوز لأحد من الأولياء أن يزوج واحدة من النساء إلاَّ بإذنها، إذا كانت بالغة، بكراً كانت أم(4) ثيباً، فإن زوَّج واحد(5) من الأولياء امرأةً بغير إذنها، صح العقد، ووُقف على إجازتها، إذا علمت إن كانت بالغة، وإن كانت غير بالغة، كان لها الخيار إذا بلغت وعلمت أن لها الخيار.
نص في (الأحكام)(6) على أن لا يزوج أحد من الأولياء بالغة إلاَّ بإذنها، ونص فيه على جواز النكاح الموقوف، وعلى إثبات الخيار فيه، ونص أيضاً على ذلك في (المنتخب)(7).
__________
(1) في (أ): خلافنا.
(2) في (أ): في عدة من النكاح يجوز.
(3) في (أ): الذي.
(4) في (أ): أو.
(5) في (أ): أحد.
(6) انظر الأحكام 1/374 ـ 348 ، 372.
(7) انظر المنتخب 126، 138.
أما ما ذكرناه من أنَّه لا يجوز لأحد من الأولياء أن يزوج بالغة من النساء بغير إذنها، فهو على الكراهة، وخلاف الاستحباب، لا على إبطال العقد، وقد دل على ذلك إجازته العقد الموقوف، ووجه كراهته: ما رواه أبو داود في (السنن)(1) بإسناده عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا البكر إلاَّ بإذنها)، وقوله(2): (الأيم أحق بنفسها من وليها). ولئلا يقع التشاجر والتحاكم. (52/29)
وما حكيناه من الجملة يشتمل على موضعين من الخلاف:
أحدهما: أن البالغة تستوي حالها مع البكارة والثيوبة، وهذا مما نبينه بعد هذا الموضع.
والثاني: جواز النكاح الموقوف، والكلام فيه يختص هذا الموضع، وأجاز النكاح الموقوف أبو حنيفة، ومحمد، وبه قال أبو يوسف وأباه الناصر عليه السلام، والشافعي.
والأصل فيه: ما رواه أبو داود في (السنن) (3) عن عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا حسين بن محمد، قال: حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكرت أن أباها زَوَّجَها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فدل ذلك على جواز النكاح الموقوف؛ لأن التخيير لا يكون إلاَّ مع حصول العقد ووقوعه.
أخبرنا بهذا الحديث أبو بكر المقري قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو أمية، ومحمد بن علي بن داود، قالا: حدثنا الحسين بن محمد المروزي، أخبرنا جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس، الحديث.
وروى أبو بكر الجصاص بإسناده في (شرح المختصر)، عن محمد بن عبدالرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينزع النساء من أزواجهن، ثيبات كُنَّ أو أبكاراً، إذا كرهن ذلك بعد أن يزوجهن آباؤهن أو إخوانهن.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/238.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 2/239.
(3) أخرجه أبو داود في السنن 2/238 ، 139.
فدل ذلك على ثبوت النكاح الموقوف؛ لأنَّه أثبت الزوجية بقوله ينزع النساء من أزواجهن، ودل أيضاً على ذلك بقوله: (إذا كرهن بعد أن(1) يزوجهن آباؤهن وإخواهن؛ لأنَّه بَيَّن أن نزعهن [من أزواجهن كان] (2) يكون لأجل كراهتهن، لأنَّه لو كان لفساد العقد، لم يعلقه بكراهتهن، ولقال بفساد(3) العقد، وبيَّن أن حكم الآباء والأخوة في /40/ هذا الباب سواء فصح في ذلك(4) ما ذهبنا إليه. (52/30)
وروي عن أبي بردة، عن عائشة، قالت: جاءت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أبي، ونِعم الأب زوجني ابن أخيه يرفع خسيسته، قال: (فجعل الأمر إليها)، فقالت: فإني أجزت ما صنع أبي، لكني أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء، فجعْلُه صلى الله عليه وآله وسلم الأمر إليها دال على أن النكاح كان موقوفاً على إذنها، وقولها : أجزت، ما صنع أبي بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع مقارته إياها على ذلك، يدل على أن الإجازة تلحق العقد المتقدم، ولا يجوز أن يحمل قولها أجزت ما صنع أبي على أنها كانت إجازة(5) قبل العقد؛ لأنه لا وجه لأن تجيز ثُمَّ تأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشكوه؛ لأنها قالت ذلك بعد ما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر إليها في ذلك، ولو كانت الإجازة متقدمة، لم يكن ليجعل صلى الله عليه وآله وسلم الأمر إليها، ويمكن التعلق بصحة جواز النكاح الموقوف بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِيْنَ}.
__________
(1) في (أ): ما.
(2) سقط من (أ).
(3) في (أ): لفساد.
(4) في (أ): بذلك.
(5) في (أ): إجازت.
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام: أن رجلاً أتاه فقال: إن عبدي تزوج بغير أذني، فقال له عليه السلام: ((فرق بينهما))، فقال السيد لعبده: طلقها يا عدو الله، فقال علي عليه السلام للسيد: ((أجزتَ النكاح، فإن شئت أيها العبد، فطلق، وإن شئت، فأمسك)) فصرح عليه السلام بإجازة النكاح الموقوف، وبأن الإجازة تلحقه . (52/31)
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة تزوجت بغير أذن وليها، فنكاحها باطل)، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما عبد نكح بغير أذن مولاه، فهو عاهر).
قيل له: يحمل الخبرين على أن المراد بهما أن لا يجيز من له الإجازة، على أنا لا نجيز العقد على المرأة إلاَّ بولي سواها، ومتى كانت المرأة هي العاقدة على نفسها، بطل النكاح عندنا، ولم يكن موقوفاً، فقد خرجنا من عهدة الظاهر، وقوله (ص) (1): (أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه(2) فهو عاهر) لا ظاهر له، لأنَّه لا خلاف أنَّه لا يصير عاهراً بالعقد، وظاهر الخبر يقتضي ذلك، فلا بد من تأويل، وإذا لم يكن منه بد، كان التأويل ما ذكرناه بدلالة الأخبار التي تقدمت.
ولاخلاف أن الرضى لو كان في حال العقد، لكان النكاح جائزاً، فكذلك إذا حصل بعد العقد، والمعنى دخول الرضى مع حصول القبول والإيجاب، ولا خلاف أن عقد البيع فيه للوقف مسرح، فكذا في عقد النكاح، والمعنى أنَّه عقد معاوضة، وقياسنا يقوى بأنه يفيد حكماً في الشرع، وليس للمخالف أن يترجح علينا بالحظر، لأنا نستوي فيه، ولأن الغرض حصول الرضى دون الترتيب.
مسألة [في فسخ المكرهة للنكاح]
قال: فإذا كان ذلك فلها الخيار فإن اختارت نفسها انفسخ النكاح بلا طلاق.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) في (أ): سيده.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(1)، ولاخلاف أن النكاح الموقوف على البالغة فيه الخيار لها إذا علمت، ويدل على ذلك ما مضى في الخبرين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خير التي(2) زوجها أبوها وهي كارهة، وما في الحديث الآخر من أن النبي صلى الله عليه /41/ وآله وسلم جعل الأمر إليها. (52/32)
وقلنا: إنَّه فسخ للنكاح بغير طلاق، لأنَّه أشبه الرد بالعيب ونحوه، وأشبه أيضاً في البيع الرد بالعيب، أو بخيار الرؤية، أو بخيار الشرط، في أنَّه يرفع العقد ويفسخ، ولا يعقد عقد ثان، ولأنه فرقة لا تختص الزوج، فلم يجب أن يكون طلاقاً.
مسألة [في إنكاح غير البالغة]
قال: وإن كانت المرأة غير بالغة، وزوجها وليها، كان للزوج أن يدخل بها قبل بلوغها، ولها الخيار بعد البلوغ، ولها المهر بما استحل من فرجها.
نص في (الأحكام) (3) على أن نكاح سائر الأولياء للصغيرة جائز، وأن لها الخيار إذا بلغت.
ونص في (المنتخب) (4) على جميع ما تضمن هذا الفصل، ونص فيه أيضاً على أن حكم الصغيرة والكبيرة في هذا الباب واحد، وهو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، إلاَّ أن أبا يوسف لم يجعل لها الخيار إذا بلغت، وقال القاسم عليه السلام: لا ينكح الصغيرة إلاَّ أبوها، وقال الناصر عليه السلام: إلاَّ أبوها أو جدها، وهو قول الشافعي.
والذي يدل على صحة ما ذهب إليه يحيى عليه السلام قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}، والأيم: اسم يقع على الكبار والصغار، فاقتضى عموم الآية جواز نكاح الصغار.
__________
(1) انظر المنتخب 126.
(2) في (ب): الذي.
(3) انظر الأحكام 1/372.
(4) انظر المنتخب 126 ـ 127.
ويدل على ذلك ما رواه أبو داود في (السنن) بإسناده، عن ابن شهاب، عن عروة عن(1) الزبير أنَّه سأل عائشة، عن قول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِيْ اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ}، قالـ: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فنهوا أن ينكحوهن إلاَّ [أن](2) يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن(3). (52/33)
وروى غير أبي داود نحوه عن ابن عباس، وفيما رواه أبو داود(4) بإسناده، عن عروة، عن عائشة قالت في قوله تعالى: {قُلْ اللهُ يُفْتِيْكُمْ فِيْهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِيْ الْكِتَابِ فِيْ يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِيْ لا تُؤْتُوهُنَّ مَا كَتَبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِيْنَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيْماً} يعني قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِيْ الْيَتَامَى}، قال: رغبة أحدهم عن يتيمته التي في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلاَّ بالقسط.
فدل ذلك على أن للولي أن يتزوج اليتيمة التي في حجره إذا أقسط لها في الصداق.
وأدنى الأولياء الذين يجوز لهم التزوج بالتي هو وليها ابن العم، فثبت بذلك جواز إنكاح(5) الأولياء للصغار.
فإن قيل: يحتمل أن يكون أُريد باليتيمة الكبيرةَ.
__________
(1) في (ب): وذكر ما أثبتناه. في الهامش.
(2) سقط من (أ).
(3) أخرجه أبو داود في السنن 2/231 وفيه تكون حجر دليلها متشاركة في ماله.
(4) أخرجه أبو داود في السنن 2/232 وهو بقية للحديث المتقدم.
(5) في (ب): نكاحها.
قلنا: اليتيمة اسم للصغيرة، وكذلك(1) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يتم بعد احتلام) فنفى سمة اليتم بعد البلوغ، فمتى حملناه على أن المراد به البالغة، حملناه على المجاز والتوسع، دون الحقيقة. (52/34)
والثاني: أن نهاية القصة /42/ تدل على أن المراد به التي لم تبلغ؛ لأن البالغة إذا أعطيت دون مهر مثلها فرضيت به، جاز ذلك، وإنما ورد النهي في نكاح التي لا يؤثِّر رضاها وسخطها، وذلك لا يكون إلاَّ التي لم تبلغ، فإن قيل: يحتمل أن تكون الآية وردت في النتيجة التي تكون في حجر الجد.
قيل له: هذا ممتنع لما في الخبر أنها نزلت في اليتيمة التي يريد وليها وهي في حجره أن يتزوجها(2)،أ والجد ليس له أن يتزوج بابنة ابنه، فسقط هذا التأويل.
فإن قيل: فقد روي أن قدامة بن مظعون زَوَّجَ ابنة أخيه عثمان بن مظعون من عبدالله بن عمر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنها يتيمة، وإنها لا تنكح إلاَّ بإذنها). فدل ذلك على أن الصغيرة لا يزوجها عمها.
__________
(1) في (أ): لذلك.
(2) في (أ): يتزوج بها.
قيل له: الخبر ورد على وجه يدل على أنها كانت بالغة، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال فيها: ( إنها يتيمة) على سبيل المجاز، وذلك ما رواه أبو بكر الجصاص في (شرح المختصر) عن دعلج بإسناده، عن نافع، عن ابن عمر، قال: توفي عثمان بن مظعون، فأوصى إلى أخيه قدامة قال: فزوجني قدامة [بنتُ عثمان] (1) فدخل مغيرة بن شعبة على أمها، فأرغبها في المال، ورأى الجارية مع أمها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لقدامة: (ألحقها بهواها، فإنها أحق بنفسها)، فانتزعها، وزوَّجها المغيرة، فدل ذلك على أنها كانت كبيرة، لقوله: (ألحقها بهواها)، وذلك لا يجوز أن يقال في [حق] (2) الصغيرة، لأنه لا اعتبار برضاها وسخطها، وكذلك ما مضى في الحديث من أن الصغيرة يزوجها وليها بإذنها يدل ذلك على أن اللفظ الذي تعلقوا به يدل على ذلك أيضاً؛ لأن فيه أنها لا تنكح إلاَّ بإذنها وذلك لا يقال إلاَّ في البالغة؛ لأن الصغيرة لا معتبر بإذنها ووجود الأذن منها وعدمه سواء، فصح بما قلناه أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيها: (إنها يتيمة) على سبيل التوسع، وأنها كانت بالغة. (52/35)
فإن قيل: فقد روي عن النبي(3) صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (استأمروا النساء في أبضاعهن).
__________
(1) سقط من (ب).
(2) سقط من (أ).
(3) في (أ): عنه.
قيل له: المراد [به](1) البوالغ منهن، بدلالة أن استئمار الصغار لا معنى له، وكذلك إن تعلقوا بقوله: (الأيم أحق بنفسها من وليها)، كان محمولاً على البالغة، بدلالة أن الصغيرة لا تملك أمر نفسها، ولاخلاف في أن للأب أن يزوجها، وكذلك الشافعي يوافق على أن للجد أن يزوجها، فكذلك سائر الأولياء، والمعنى أنَّه ممن يجور الإرث بالتعصيب، فوجب أن يجوز إنكاحه للصغيرة إذا لم يمنع منه مانع، يبين صحة هذه العلة أنَّه لو لم يكن ممن يجور الإرث بالتعصيب، لم يجز إنكاحه نحو أن يكون عبداً أو كافراً، إذا كانت الابنة مسلمة، وكذلك إن كان ممن يجور الإرث بالرحم، لم يجز إنكاحه، وكذلك لو كانت أختاً أو ابنه لَمَّا لم تكن ممن يجور /43/ الإرث(2) بالتعصيب، فإذا ثبت لها التعصيب مع غيرها، لم يجز إنكاحها، فلما تكاملت الأوصاف التي ذكرنا، صح إنكاحه، فبان أن العلة ما ذكرنا، على أن ما بيناه من جواز النكاح، الموقوف يقتضي جواز هذا النكاح إذ لم يفرق أحد بينهما. (52/36)
فإن قيل: ألستم تجوزون إنكاح الحاكم لها، وإن لم تحصل هذه الأوصاف له؟
قيل له: هذا لا يفسد علتنا؛ لأنَّه إثبات للحكم مع عدم العلة وإنما يفسدها وجود العلة، ولا حكم، ومما يؤكد قياسنا أن الأب والأخ لما استوى حالهما في الإنكاح بعد بلوغهما، وجب أن يستوي حالهما فيه قبل بلوغهما؛ لكون كل واحد منهما ولياً في النكاح.
وقلنا: إن للزوج أن يدخل قبل البلوغ، لأنَّه لا خلاف فيه بين كل من أجاز النكاح، فإذا ثبت بما بيناه جواز(3) النكاح ثبت جواز الدخول، ولأنه نكاح ثابت لا يُراعى فيه في الحال رضى المعقود عليها وسخطها، فوجب أن يجوز الدخول بها، دليله لو كانت بكراً زوجها أبوها، أو بالغة زوجها وليها بإذنها.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) في (أ): بالإرث.
(3) في (أ): من جواز.
وقلنا: إن لها الخيار إذا بلغت، خلافاً لأبي يوسف؛ إذ قال لا خيار لها، لأنا وجدنا ولاية الأب على الابنة في حال كبرها، لما كانت أضعف من ولايته عليها في حال صغرها، كان لها الخيار في رفع ما عقد عليها الأب في حال كبرها، فكذلك سائر الأولياء، لما كانت ولايتهم أضعف من ولاية الأب، وجب أن يكون للمرأة الخيار في دفع(1) ما عقدوا عليها في الوقت الذي يصح لها الخيار، وتبين(2) أن ولاية الأب عليها في حال كبرها أضعف من ولايته عليها في حال صغرها أنَّه يجبرها على النكاح في حال الصغر، وليس له أن يجبرها عليه في حال الكبر، وله أن يزوجها عندنا بدون مهر مثلها بغير رضاها في حال الصغر، وليس له ذلك في حال الكبر، وتبين أن ولاية سائر الأولياء أضعف من ولاية الأب أنهم ليس لهم أن يزوجوا الصغيرة بدون مهر مثلها، وللأب أن يفعل ذلك، وأنهم لا ولاية لهم مع ولاية الأب، ولأن أصل الولاية عندنا موضوعة على التعصيب، وقد علمنا أن تعصيب الأب يسقط تعصيب سائر الأولياء، فوجب أن تكون ولايته أقوى؛ لكون سببها أقوى، وإذا ثبت أن ولايتهم أضعف، وجب أن يثبت لها الخيار في رفع عقدهم، كما ثبت لها الخيار في رفع عقد الأب حين صارت ولايته أضعف، وقد حكى إثبات الخيار لها عن ابن عمر، وطاووس، وعطا، والحسن. (52/37)
وقلنا: إنها إن اختارت الفسح كان المهر لها إذا كان قد وطئها، لأنَّه لا خلاف فيه، ولأن الوطء الواقع بالشبهة إذا أوجب المهر، كان الوطء الواقع في النكاح الصَّحيح أولى بذلك، لأن كل وطء يقع في غير ملك اليمين لابد فيه من حد أو مهر.
مسألة [في البالغة تُنكح غير عالة أن لها الخيار]
قال: والبالغة إذا لم تعلم أن لها الخيار حتى دخل بها زوجها كان لها الخيار إذا علمت، فإن لم تختر نفسها، فلا خيار لها بعد ذلك.
__________
(1) في (أ): رفع.
(2) في (أ): ويبين ذلك.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1). ووجهه أن خيارها لا يبطل إلاَّ إذا تركته مع التمكن منه، وهي في حكم من لاتتمكن منه إذا لم تعرفه، ولم تحط به علماً، يكشف ذلك أنها لو وُطئت وهي نائمة، أو مغمى عليها، لم يبطل خيارها إذا /44/، أفاقت لَمَّا لم تتمكن من الخيار، كذلك إذا وطئت وهي لا تعلم أن لها الخيار. (52/38)
فصل [في إنكاح الصغيرة]
قال يحيى بن الحسين عليه السلام في الصغيرة إذا زوجها الأولياء: لها الخيار، وخص الأب(2) فقال: لا خيار لها إذا كان المزوج [لها](3) هو الأب، فدل ظاهر كلامه أنه يجري الجد مجرى سائر الأولياء ولا يجريه مجرى الأب. وهو قول مالك، وذهب عامة الفقهاء إلى أن الجد كالأب، وذهبت الإمامية إلى أن الجد أولى من الأب، لأنَّه قد يلي الأب، والأب لا يليه.
ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه(4) يدلي بالأب، فوجب أن تكون(5) ولايته كسائر الأولياء في الأب، دليله الأخ، أو يقال: إنَّه لا تعصيب له مع الأب، فأشبه سائر الأولياء(6) العصبات، أو يقال: إنَّه لا حظ له في الولاء مع الأب، فأشبه سائر العصبات، ولا خلاف بيينا، وبين الناصر، والشافعي، أنَّه يقاسِم الأخوة، فيجب أن يكون كأحدهم في ولاية النكاح، دليلة [الأخوة وأنه في القرب وهم أسوة] (7) بعضهم مع بعض، ولا خلاف أن الجد لا يثبت له ولاية مع ولاية الأب، فوجب أن تكون ولايته أضعف كما قلنا في سائر الأولياء.
فأما ما ذهبت الإمامية إليه، فهو خطأ؛ لأنَّه لا يلي على الأب إذا كان رشيداً فوجب أن لا يلي ولده مع ثبوت ولايته، ولأنه عندهم يُقاسِم الأخوة، ويَسقط مع الأب، فوجب أن تكون ولايته أضعف من ولاية الأب، وكيف يقال: إن ولايته أقوى من ولاية الأب؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/372.
(2) انظر الأحكام 1/347، 372.
(3) سقط من (ب).
(4) في (أ): أن الجد.
(5) في (ب): أن ولايته.
(6) في (ب): سائر العصبات.
(7) سقط من (ب).
فإن قيل: إن ولايته ولاية تشتمل على النكاح والمال، فأشبه ولاية الأب. (52/39)
قيل له: ما اعتبرناه أولى؛ لأن ولاية المال لا مدخل لها في ولاية النكاح، ألا ترى أن الوصي له الولاية في المال، ولا ولاية له في النكاح، وابن العم له ولاية النكاح، وليس له ولاية المال، على أن ذلك منتقض بالعم إذا صار وصياً، فإنه يجمع ولاية المال وولاية النكاح.
فإن قيل: فإن ولايته للمال والنكاح من وجهين، فلا يجب أن يكون سبيله سبيل الأب.
قيل له: هذا وإن [كان من جهتين] (1) منع من النقض، فلا يؤثر؛ لأن الولاية إذا حصلت، فلا فصل أن تحصل من جهة، أو من جهتين، ونص في (الفنون) (2) على أن ولاية الحاكم كولاية سائر الأولياء، وأن الصغيرة إذا بلغت، كان لها الخيار في فسخ ما عقد الحاكم عليها، وهو قول محمد بن الحسن، وروي عن أبي حنيفة أن ولاية الحاكم مثل ولاية الأب، ووجهه أن الحاكم لما قام مقام المسلمين، وجب أن تكون ولايته أكثر(3) ما فيها أن تكون مثل ولاية العم، لأن ولاية المسلمين يجب أن يكون أكثر ما فيها أن تكون مثل ولاية العم والأخ، وأيضاً وجدنا ولاية الحاكم أضعف الولايات؛ لأنها لا تثبت مع ثبوت شيء من الولايات نسباً ولاسبباً، وهي ولاية الإضطرار، فلم يجب أن تكون أقوى من ولاية العم والأخ، ولم يجب أن تكون مثل ولاية الأب؛ لأنا قد بينا أن للضعف والقوة تأثيراً في هذا الباب، ولا يصح الاعتماد على أن ولاية الحاكم ولاية تشتمل على المال والنكاح، لأنا قد بينا سقوط ذلك، وبينا أن الاعتبار بقوة الولاية وضعفها أولى.
مسألة [في بلوغ المرأة]
قال: وحد البلوغ خمس عشرة سنة إلاَّ أن تحيض قبل ذلك، فإن حاضت، كان ذلك /45/ بلوغاً(4). وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (5).
__________
(1) ما بين المعكوفين سقط من (ب) وصوبه في الهامش.
(2) انظر الفنون 428 ـ 429.
(3) في (أ): أكثر.
(4) في (أ): بلوغها.
(5) انظر الأحكام 1/372.
لا خلاف أن الحيض بلوغ، واختلفوا في السن، فقال الشافعي، وأبو يوسف: إن خمس عشرة سن البلوغ، وقال أبو حنيفة: سن البلوغ ثمان عشرة [سنة] (1). (52/40)
والدليل على ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بشر الرقي (2)، قال: حدثنا أبو معاوية الضرير، عن عبدالله بن عمرو، عن نافع، عن ابن عمر، قال: (عُرضت على رسول الله يوم أحد ، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني في المقاتلة، وعرضت عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني في المقاتلة) (3)، فذكرَ الحكم، وذكرَ السبب، فدل ذلك على أن خمس عشرة [سنة] (4) سن البلوغ.
فإن قيل: [إن] (5) يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجازه، وإن لم يكن بلغ، كما كان يرضخ لمن حضر الوقعة من النساء والمراهقين الذين ينتفع بهم.
قيل له: إنَّه فسر الحال، وقال: لم يجزني في المقاتلة يوم أحد، وأجازني في المقاتلة يوم الخندق، فنبه على(6) أن الإجازة لم تكن على سبيل الرضخ، وإنما كانت إجازة المقاتلة، تلك لا تكون إلاَّ للبالغين.
فإن قيل: روي عن ابن عمر خلاف ما روي عنه؛ لأنَّه روى عن البراء بن عازب، قال: عرضني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا وابن عمر يوم بدر، فاستصغرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ أجازنا يوم أحد، ففي هذا الحديث أن ابن عمر أجيز يوم أحد، وهو خلاف ما رواه ابن عمر(7).
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): الوراق.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/217 ـ 218 إلا أنه قال: عبيد الله بن عمرو.
(4) سقط من (ب).
(5) سقط من (أ).
(6) في (أ): فبين أن.
(7) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/219.
قيل له: إن ابن عمر لم ينف أن(1) يكون أجيز يوم أحد على وجه من الوجوه، وإنما نفى أن(2) يكون أجيز يوم أحد في المقاتلة، فيجوز أن يكون أجير يوم أحد على سبيل الرضخ، ولم يجز في المقاتلة، فلما(3) كان يوم الخندق، أجيز في المقاتلة، فيكون ذلك جمعاً بين الخبرين. (52/41)
ومما يدل على ذلك أنا وجدنا مرور الزمان الذي يكون في الأغلب زمان الحيض يقوم في التي لم تحض مقام الحيض، ألا ترى أن الأغلب في ثلاث حِيَض أنها تكون في ثلاثة أشهر، فجعل ثلاثة أشهر في التي لم تحض قائمةً مقام ثلاث حيض، فوجب أن يكون مضي خمس عشرة سنة يقوم فيها مقام حصول الْحَيْض، والعلة أنَّه زمان يكون في الأغلب زمان الْحَيْض، وكذلك الإحتلام لما كان في الذكور في باب البلوغ جارياً مجرى الحيض في الإناث، وجب أن يكون قضي زمان يكون في الأغلب زمان الإحتلام قائماً مقام الإحتلام في معنى(4) البلوغ، ومما يؤكد ذلك ويوضحه أن الأصل فيمن ثبت عقله وتمييزه أنَّ تصرفه له وعليه جائز، مالم يمنع الشرع منه، وكان هذا الإعتبار موجباً أن يكون المرأة والغلام إذا استكملا عقولهما، وعُرِف منهما التمييز أن يصح تصرفهما لها وعليهما، إن(5) لم يبلغا خمس عشرة سنة، إلاَّ أنا لم نقل ذلك للإجماع، ولما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجزِ عبدالله بن عمر ـ وهو ابن أربع عشرة سنة ـ مجرى الرجال، فأما إذا بلغ خمس عشرة سنة، زال ذلك المانع الشرعي، فوجب أن يقال يصح(6) تصرفهما لهما وعليهما، وهذا يمكن أن يجعل قياساً /46/ مجرداً بأن يقال: لا خلاف أن من بلغ ثماني عشرة سنة رشيداً، صح تصرفه له وعليه، فكذلك من بلغ خمس عشرة سنة رشيداً، والعلة حصول العقل من دون منع شرعي من ذلك، وليس يتهيأ لهم أن يقولوا إن هاهنا شرعاً يمنع من صحة تصرفه إذا بلغَ خمس عشرة سنة، على أن
__________
(1) في (ب): أنه.
(2) في (ب): أنه.
(3) في (أ): فلما.
(4) في (ب): معنى.
(5) في (ب): فإن.
(6) في (ب): يجوز.
التقدير ثماني(1) عشرة لم يجر في شيء من الأصول ولم يرد توقيف به ولا وجه في التقدير فيه (2)، والتدقير ما ذهبنا إليه، ووجد في الأصول وورد به(3) الأثر، فهو الأولى، ألا ترى أن المخالف يجعل خمس عشرة أقل الطهر، وأقل الإقامة خمس عشرة، والشافعي يجعله أكثر الحيض، فلا خلاف أنه يقدر به الإبل في دية المنقلة خمس عشرة نجب، وورد به النص، فصار ما ذهبنا إليه أولى وأقوى. (52/42)
مسألة [في الصغيرة تموت أو زوجها قبل الخيار]
قال: وأيهما مات قبل الخيار، ورثه صاحبه، والنفقة واجبة لها من يوم العقد.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(4) و(المنتخب) (5).
وإنما أوجب التوريث(6) بينهما، لأن الزوجية قد ثبتت على ما بيناه، فثبت(7) التوارث، لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}، وقوله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}، وأوجبنا أيضاً النفقة على ما نبينه في كتاب النفقات(8).
مسألة [في الصغيرين يعقد لهما ابواهما]
قال: والأب إذا زوج(9) الصغيرة لم يكن لها الخيار إذا بلغت، بكراً كانت أو ثيباً، وكذلك(10) القول في الذكر الصغير إذا زوجه أبوه، وعلى الأب المهر إن ضمن عنه(11).
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (12).
وتحصيل المذهب أن الأب إذا زوج البالغة بغير إذنها، فلها الخيار، بكراً كانت أو ثيباً، والإعتبار عندنا إنَّما هو بالصغر والكبر، وهو قول أبي حنيفة.
وقال الشافعي: يزوج الأب البكر، بالغة كانت أو غير بالغة، ولا اعتبار برضاها، ولا يزوج [الأب] (13) الثيب إلاَّ بإذنها، واعتبر البكارة والثيوبة.
__________
(1) في (أ): بثماني.
(2) في (أ): به.
(3) في (ب): في.
(4) انظر الأحكام 1/3472 ولكنه لم يذكر النفقة.
(5) انظر المنتخب 127، 128، 1219.
(6) في (أ): الموارثة.
(7) في (أ) :فوجب.
(8) في (ب): النفقة.
(9) في (أ): وإذا زوج الأب.
(10) في (أ): وكذا.
(11) في (أ): عليه.
(12) انظر المنتخب 126، 128.
(13) سقط من (أ).
والأصل فيه: ما قدمنا بإسناده من حديث عكرمة، عن ابن عباس، أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (52/43)
وحديث ابن عمر، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينزع النساء من أزواجهن، ثيبات وأبكاراً، إذا كرهن ذلك بعد ما يزوجهن آباؤهن وإخوانهن، فدل ذلك على أن تزويج الأب لا يقطع خيار البالغة(1) وإن كانت بكراً.
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا أبو صالح الحكم بن موسى، قال: حدثنا شعيب بن إسحاق الدمشقي، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن جابر، أن رجلاً زوج ابنته وهي بكر بغير أمرها، فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ففرق بينهما.
وهذا صريح ما ذهبنا إليه، ولا وجه لمن اعترض(2) هذا الحديث بأن يقول: إن غير أبي صالح رواه عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يذكر فيه جابراً؛ لوجهين:
أحدهما: أنَّه يجوز أن يكون أبو صالح حفظ مالم يحفظ غيره.
والثاني: أنَّه لو كان لم يذكر جابراً، وذكر عن عطاء مرسلاً، لصح عندنا، فإنا نقبل المراسيل.
__________
(1) في (ب): العاقلة.
(2) في (أ): يعترض.
وأخبرنا المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو زرعة عبدالرحمن بن عمر الدمشقي، قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا يونس ابن أبي إسحاق، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، قال: قال /47/ رسول(1) الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فقد رضيت، فلو أنكرت، لم تكره). والمراد به البكر؛ إذ لا خلاف أن السكوت لا يكون أذناً لغير بكر، فيجب أن يكون ذلك سبيل كل بكر، سواء كان المزوج لها أباً أو غيره، وليس لأحد أن يتعلق بأن يقول قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اليتيمة)، يدل على أن لا أب لها، لأنَّه لا خلاف أن لايتم بعد البلوغ، والمراد به البالغة بدلالة أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم جعل سكوتها أُذُناً ، وعلق الحكم به، وذلك لا يكون إلاَّ في البالغة، فكان المراد بقوله: (اليتيمة) المفردة عن الزوج، وهو جار مجرى قولنا: الأيم. (52/44)
وأخبرنا المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعيد، عن عبدالله بن الفضل أنَّه سمع نافع بن جبير، يحدث عن ابن عباس، بأن(2) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر)، فأوجب استئمار البكر، ولم يفصل بين أن يكون المزوج أباً أو غيره.
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن)، قالوا: فكيف(3) أذنها يا رسول الله؟ قال: (الصمت). فمنع صلى الله عليه وآله وسلم من إنكاح البكر إلاَّ من بعد استئذانها، ولم يفصل بين إنكاح الأب وغيره، فدل ذلك على صحة ما قلنا.
__________
(1) في (أ): النبي.
(2) في (أ): أن.
(3) في (أ): كيف.
وروى أبو بكر الجصاص في (شرح المختصر) بإسناده، عن أنس، قال: جاءت جارية بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: إن أبواي زوجاني ولم يستأمراني، فهل لي من شيء؟ فقال لها: (توقي أبويك) [أي تجنبي مخالفتهما] (1)، مرتين يرددها عليها، قالت: قد خرجت من عنده، ففرق بينهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ورد نكاحها](2). (52/45)
وروى أبو بكر بإسناده عن نافع، عن ابن عمر، أن رجلاً زوج ابنته بكراً، فكرهت، وأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرد نكاحها.
ورى أيضاً بإسناده عن خنساء بنت محرام ، قالت: كان أنكحني أبي وأنا بكر، أكرهني، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (لاتُنكحها وهي كارهة).
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تستأمر البكر في نفسها)، قالوا: فإن البكر تستحي. قال: (أذنها صماتها).
والأخبار في هذا الباب كثيرة، ولو تتبعناها لطال الكتاب، وكل ذلك دال على صحة ما [ذكرنا و] (3)ذهبنا إليه.
فإن قيل: روي أن(4) ابن عمر خطب ابنة عبدالله بن النحام، فأبى أن يزوجها إياه، وزوجها ابن أخيه، وكان هوى الجارية و[هوى] (5) أمها في عبدالله بن عمر، فذهبت امرأة عبدالله بن النحام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبرته أن عبدالله بن النحام أنكح ابنته ولم يؤامرها، فأجاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم نكاحها.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) سقط من (أ).
(3) سقط من (أ).
(4) في (ب): عن.
(5) سقط من (أ).
قيل له: يحتمل أن يكون أجاز نكاحها، لأنها كانت لم تبلغ، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أجازه، لأنها بنفسها لم تحضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تكن ثبتت عنده كراهيتها، وليس لهم أن يتعلقوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر)، فَفَرَقَ بينها وبين البكر، لأنه قد روي: (الأيم أحق بنفسها من وليها)، والأيم: اسم يتناول البكر والثيب، ولأن لفظ الثيب أيضاً لا يوجب أن البكر ليست أحق بنفسها، /48/ وفائدة التفرقة بيان أن السكوت في البكر رضى دون الثيب. (52/46)
ولا خلاف أيضاً أنها إذا بلغت لم يعقد عليها أبوها سائر العقود إلاَّ بإذنها، فكذلك عقد النكاح، والعلة أنَّه عقد على بالغة حرة، ولا خلاف أن سائر الأولياء لا يعقدون عليها النكاح إلاَّ بإذنها، فكذلك الأب والعلة أن كل واحدة منهما لا يعقد عليها سائر العقود(1) إلاَّ بإذنها، وأيضاً لا يعقد عليها أبوها عقد النكاح إذا كانت ثيباً إلاَّ بإذنها، فكذلك إن(2) كانت بكراً، والمعنى أنها بالغة وقياسنا أولى من قياسهم الكبيرة إذا كانت بكراً على الصغيرة البكر؛ لأن للبلوغ والصغر مدخلاً في إثبات الولايات وقطعها بالإتفاق، ولا مدخل للبكارة والثيوبة عندنا في ذلك على وجه من الوجوه، ولأن سائر العقود يختلف حالها بالبلوغ والصغر، ولا يختلف حال شيء منها بالبكارة والثيوبة.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ((إذا زوج الرجل ابنته وهي صغيرة، ثُمَّ بلغت تم ذلك عليها، وليس لها أن تأبى، وإن كانتت كبيرة وكرهت(3) لم يلزمها النكاح)). فاعتبر الصغر والكبر دون ما عداه، فدل ذلك على صحة قياسنا، ويؤيد ذلك قول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِيْ الدِّيْنِ}، فمنع من كل إكراه.
__________
(1) في (أ): الأولياء.
(2) في (أ): إذا.
(3) في (أ): فكرهت.
فأما البكر الصغيرة فلا خلاف أن الأب إذا زوجها لم يكن لها الخيار فكذلك الثيب الصغيرة، والعلة الصغر، وقد ثبت أن اعتبار الصغر أولى من اعتبار الثيوبة، على أنَّه لا خلاف بيينا وبينهم في الثيب الصغيرة إذا كانت ذات عاهة أن أباها يزوجها، فكذلك إن (1)لم تكن ذات عاهة، والمعنى الصغر، على أنَّه إذا ثبت أن البكر البالغة لا يزوجها أبوها بإذنها، ثبت أن البكارة ليست علة في جواز العقد عليها، وأن العلة في الصغر، فثبت ما ذهبنا إليه في الثيب الصغيرة. (52/47)
وقلنا: إن الصغير في هذا المعنى كالصغيرة، لأن ولاية الأب عليهما على حد واحد، وقال في (المنتخب) (2): إن المهر يلزم الأب. وقلنا: ذلك بشرط الضمان تخريجاً؛ لأنَّه تشبيه بالجناية، والجناية لا تثبت إلاَّ بالفعل من الجاني يختصها فقلنا: إن الضمان أيضاً لا يثبت إلاَّ بفعل له يختصه، ولا خلاف أنه يلزمه مع(3) الضمان.
مسألة [في الرجل يفجر بامرأة هل له زواجها]
وإذا فجر الرجل بامرأة لم يكن له أن يتزوجها إلاَّ بعد أن يتوبا، فإن تابا، جاز نكاحهما.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4)، وأبو العباس الحسني رضي الله عنه خرج المنع على الكراهة والتأثيم، دون فساد العقد، ذكر ذلك في (النصوص)، واعتمد تأويل القاسم ويحيى عليهما السلام في قوله سبحانه: {الزَّانِيْ لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} على أن الوطء زنىً، وجعل الفائدة في ذلك إخراجهما من سمة الإيمان، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وذلك صحيح، لأن الزنا أكثر ما فيه أنَّه الفسق(5)، والفسوق لا يمنع النكاح، سواء طرأ على النكاح، أو طرأ النكاح عليه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الحرام لا يحرم الحلال).
__________
(1) في (أ): إذا.
(2) انظر الصفحة السابقة.
(3) في (أ): معا.
(4) انظر الأحكام 1/355.
(5) في (أ): فاسق.
فأما الحديث الذي رواه أبو داود في (السنن) بإسناده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي، قال: قلت يا رسول الله، أنكح /49/ عناقاً؟ وكانت بغيٌ بمكة، قال: فسكت عنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزلت: {الزَّانِيْ لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٍ}، فدعاني، فقرأها عليّ، وقال: (لا تنكحها) (1). (52/48)
وكذلك ما رواه أبو داود في (السنن) بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ينكح الزاني المجلود إلاَّ مثله)، فإنها(2) يمكن حملها(3) على الكراهة، فأما بعد التوبة، فلا إشكال فيه. [فلا أشك فيه](4).
مسألة [في نكاخ الخصي]
قال: ولا بأس بنكاح الخصي إذا رضيت به المرأة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(5)، ولا خلاف فيه، وقد قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، ولأن الحظ فيه مقصور عليها، فإذا رضيت فلا مانع.
مسألة [في إنكاح الولي البعيد مع وجود القريب]
قال: وإذا زوج المرأة بعض الأولياء، ولها ولي أولى بنكاحها منه، لم يجز، فإن أجازه الولي، جاز، ولا يكون سكوته إجازة، فإن طلب(6) صداقها، كان ذلك إجازة.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (7) ونص أيضاً في (الأحكام) (8) على أن تزويج الأبعد بغير إذن الأقرب من الأولياء لا يجوز.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/227.
(2) في (أ): فإنه.
(3) في (أ): حملها.
(4) أخرجه أبو داود في السنن 2/227.
(5) انظر الأحكام 1/407.
(6) في (أ): فيإن طالب بصداقها.
(7) انظر المنتخب 134.
(8) انظر الأحكام 1/347، 348.
ووجهه ما قلناه: من أنَّه إذا زوجها بعض الأولياء ولها ولي أولى بإنكاحها أنَّه لا يجوز(1)؛ لما ثبت [من] (2) أنَّه لا نكاح إلاَّ بولي؛ ولا خلاف أنَّه لا ولاية للأخ مع الأب في الصغيرة، فقلنا: إن المرأة متى كان لها ولي أولى بإنكاحها، صار الأبعد في حكم من ليس بولي، فلذلك(3) قلنا: إن إنكاحه لا يجوز. (52/49)
وقلنا: إن أجازه الولي، جاز، لما قد بينا أن النكاح الموقوف جائز، وأن الإجازة تلحقه، وقد مضى الكلام فيه.
وقلنا: إن سكوته لا يكون إجازة؛ لأن السكوت إنَّما يكون له حكم في الأمر المنبرم(4) الذي يكون للإنسان فيه الخيار في وجه من الوجوه في وقت أو حال بعينه، فإذا مضى ذلك، ولم يختر، بطل خياره كما في الشفعة وبيع الخيار، فأما الأمر الذي لا يكون انبرم بعدُ، وكان كمال انبرامه موقوفاً على رضى غيره، فلا بد من أن يظهر من ذلك الغير ما يدل على الرضى من النطق(5)، أو ما يقوم مقامه، ألا ترى أن الثيب لا يكون سكوتها رضى لما كان العقد لا ينبرم إلاَّ برضاها، فكذلك الولي.
فإن قيل: فقد علمنا أن البكر كالثيب عندكم في أن العقد لا يتم إلاَّ برضاها، ومع هذا فقد قلتم: إن سكوتها يكون رضى؟
قيل له: كان القياس أن لا يكون سكوتها رضى، وأن لا يتم العقد إلاَّ بإظهار الرضى بالنطق، أو ما يقوم مقامه، إلاَّ أن الأثر ورد فيها فخصها، فما لم يرد فيه النص [فهو] (6) مبقى على الحكم حكم القياس، يكشف ذلك أن ذلك جعل منها إقراراً ورضاء لما(7) تكون في الأغلب عليه من الحياء، وهذه العلة قد نبهت عليها الآثار(8) الواردة في هذا الباب، وهي لا توجد من غيرها، فوجب أن تختص هي بذلك دون غيرها مما لا يشاركها في علة الحكم.
__________
(1) في (أ): يحرم.
(2) سقط من (ب).
(3) في (ب): فكذلك.
(4) في (ب): المبرم.
(5) في (ب): المنطق.
(6) سقط من (أ).
(7) في (ب): رضى بما.
(8) في (ب): من الآثار.
وقلنا: إنَّه إن طلب صداقها كان ذلك إجازة؛ لأن طلب الصداق يتضمن ثبوت النكاح فمطالبته بالصداق تقرير للنكاح، يدل على ذلك حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أن رجلاً أتاه فقال: إن عبدي تزوج بغير إذني، فقال له علي عليه السلام: (فرق بينهما). فقال السيد لعبده: طلقها يا عدو الله، فقال له علي عليه السلام: (أجزت النكاح). ألا ترى أن /50/ الطلاق [لما] (1) كان لا يصح وقوعه إلاَّ بعد وقوع النكاح جعل عليٌ مطالبة السيد عبدَه بالطلاق تقريراً للنكاح. (52/50)
مسألة [فيما ينعقد به النكاح من الكلام]
قال: وينعقد النكاح بلفظ: الهبة كما ينعقد بلفظ: التزويج والإنكاح.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) وأباه في (المنتخب) (3)، وكان أبو العباس الحسني يجعل الأصح فيه رواية (الأحكام)، وكان يتأول رواية (المنتخب) على ما نص عليه في (الأحكام)، ويقول: إن ذلك يكون إذا لم يكن المراد به الإنكاح، وكلامه في (النصوص) يدل على أن كل لفظ يوجب تمليك الأعيان يجوز به النكاح، دون ما يقتضي الإباحة والتحليل، وماجرى مجراهما، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: لا ينعقد النكاح إلاَّ بلفظ الإنكاح أو التزويج(4).
والدليل على ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}، إلى قوله: {وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيَّ} فأحل(5) تعالى للنبي المرأة بالهبة كما أحل بالتزويج، وإذا ثبت ذلك في النبي، ثبت في جميع الأمة، مالم يمنع منه مانع من الشرع؛ إذ الأصل في الشرع أن حالنا كحاله إلاَّ فيما خص به.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) انظر الأحكام 1/340 ولفظه: ثم أطلق نكاح الامرأة التي وهبت نفسها) ، وانظر الأحكام 1/374.
(3) انظر المنتخب 132.
(4) في (أ): والتزويج.
(5) في (أ): لأحل.
فإن قيل: فقد قال تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِيْنَ}، فجعل ذلك خالصاً له صلى الله عليه وآله وسلم، دون ما سواه. (52/51)
قيل له: قد قيل في معنى قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ} أن المراد به خالصة من غير مهر؛ لأن غيره صلى الله عليه وآله وسلم لا تحل له المرأة إلاَّ بمهر، ويدل عليه ما تقدم من قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِيْ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}، ثُمَّ قال: {وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيَ}، فبين أن النكاح جائز له بالمهر وبغير المهر، لأن الأجور هي المهور، وقد قيل [عنه] (1) أن المراد به خالصة لك، فلا تحل لأحد من المؤمنين(2) بعدك، أو بعد فراقك إن فارقت، واستدلوا عليه بأنه لم يتقدم هذه اللفظة ما يجب تأنيثه غير المرأة، فوجب أن يرجع قوله سبحانه: {خَالِصَةً لَكَ} إلى ذاتها دون ما سواها، وإذا كان الأمر على ما بينا لم يصح أن يقال: إن المراد العقد بلفظ الهبة، وأن ذلك هو الذي خلص(3) للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من دون المؤمنين.
ويدل على ذلك: ما رواه هناد أن محمد بن كعب القرظي، وعمر بن الحكم، قالا: إن التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ميمونة بنت الحارث امرأة من بني بكر.
ورى هناد بإسناده، عن جابر، عن الحكم، عن علي بن الحسين، أو الحسن بن علي عليهم السلام أن التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أم شريك الدوسية [و] (4)بإسناده عن هشام، عن أبيه، قال: كان يقول: إن خولة بنت حكيم(5) من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذه الأخبار تدل على أن الهبة كانت له عقداً صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا ثبت ذلك له، ثبت لسائر أمته على ما بيناه.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): المسلمين.
(3) في (ب): يخلص.
(4) سقط من (ب).
(5) في (ب): حكم.
وروي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت يا رسول الله، إني وهبت نفسي لك، قال: (مالي في النساء حاجة)، فسأله رجل أن يزوجه إياها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرجل: (قد ملكتكها على ما معك من القرآن). (52/52)
فدل ذلك على أن النكاح يقع بلفظ التمليك كالبيع، ولا /51/ خلاف أن الطلاق يقع بالتصريح والكناية، والعلة أنَّه عقد يختص منافع البضع، وأيضاً يملك بلفظ الهبة بضع الأمة، فوجب أن يملك به بضع الحرة، والعلة أنَّه من لفظ التمليك، ويعضد قياسنا أن البيع موضوع لتمليك المنافع والأعيان، والنكاح موضوع لتمليك المنافع دون الأعيان، فلما ملك بالبيع الأعلى، كان أن يملك به الأدنى أولى.
وأيضاً قياسنا يفيد شرعاً، فوجب أن يكون أولى، ولا يعترض ما ذهبنا إليه لفظ الإباحة والإحلال، لأنهما لا يقتضيان التمليك.
مسألة [في المشرك يسلم وعنده أكثر من أربع]
قال: ولو أن مجوسياً تزوج امرأتين في عقدة واحدة، ثُمَّ ثلاث نسوة في عقدة، ثُمَّ أسلم، وأسلمن، ثبت نكاح المرأتين، وبطل نكاح الثلاث، فإن كان تزوج ثلاث نسوة في عقدة، ثُمَّ امرأتين، صح نكاح الثلاث، وبطل نكاح المرأتين، وعلى هذا القياس كل من شاركت الخامسة في العقدة، بطل نكاحها، ونكاح الخامسة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وروى نحوه عن قتادة.
قال محمد، والشافعي: يختار منهن أربعاً، وحكى أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى، عن محمد بن يحيى عليهما السلام أنَّه إن تزوجها بغير شهود، ثُمَّ أسلما، فهما على نكاحهما إذا كان ذلك جائزاً عندهم.
قال أبو العباس الحسني: وكذلك إذا تزوجها بغير ولي، قال: فإن كان نكحها وهي في عدة، ثُمَّ أسلما، فُرِّق بينهما، قال أبو حنيفة: لا يُفَرَّق بينهما.
__________
(1) انظر الأحكام 1/393.
والأصل في ذلك ما أجمعنا عليه من أنَّه لو تزوج بذات رحم محرم، ثُمَّ أسلما، وجب التفريق بينهما، وكانت العلة فيه أنهما تناكحا على وجه لو تناكحا عليه في الإسلام، لم يكن للإجتهاد مسرح في تثبيت نكاحهما، فوجب أن يكون ذلك حكم من تزوج خمساً في عقدة، وحكم من تزوج اختين في عقدة، ولا يلزم عليه لو تناكحا بغير ولي وشهود، لأن هذا التناكح مما للإجتهاد فيه مسرح في تثبيته. (52/53)
ويدل على صحة هذا الإعتبار ما يثبت(1) أن حكمنا وحكم الكفار سواء في الشرع فيما يحل ويحرم، وإن كنا نتركهم على كثير مما هو محرم عليهم وعلينا، إذا كان جائزاً في دينهم؛ للعهد الذي لهم، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن الأنكحة التي ذكرناها وقعت فاسدة باطلة، وإذا وقعت فاسدة باطلة، لم يصححها طرو الإسلام عليها، فوجب أن لا تقرر مع الإسلام، وليس كذلك النكاح بغير ولي وشهود، وما جرى مجراهما، لأنه حين وقع، لم يقع على وجه يطلق القول فيه بأنه باطل، ألا ترى أن المسلمَين لو عقداه، لم يلزمنا أن نتبعهما بالفسخ، ولو وجب أن نخلي بينهما وبين اجتهادهما، وكذلك لو حكم حاكم، لم يجب فسخه، فلم يمتنع أن يستقر مع طرو الإسلام عليه.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن نكاح ذات رحم محرم لم يجز أن يُقَر مع الإسلام؛ لأنَّه يستوي فيه حال ابتداء النكاح وحال بقائه، فلا يلزم عليه النكاح في العدة؛ لأن العدة تمنع من ابتداء النكاح، ولاتمنع من بقائه؟
قيل له: هذه العلة لا تنافي علتنا، فنقول لهما: وإن كانت علتنا أعم من هذه وأقوى للإعتبار الذي ذكرناه، فنحتج بهذه العلة، وبعلتنا التي قدمناها، على الشافعي ومحمد للمنع من مقارتهم إذا أسلموا على أن يختاروا أربعاً من خمس إذا كان العقد الواحد جمعهن، ومِن أن /52/ يختاروا واحدة من الأختين إذا كان العقد الواحد جمعهما.
__________
(1) في (أ): ثبت.
ونحتج لقياسنا الأول خصوصاً على من خالفنا في نكاحهم في العدة، وأيضاً لو أن امرأة كان لها زوجان تزوجاها معاً في الشرك، ثُمَّ أسلمت، وأسلما، وجب فسخ ذلك النكاح، فكذلك ما اختلفنا فيه؛ للعلة التي ذكرناها، فوضح بذلك أيضاً ما ذهبنا إليه. (52/54)
فإن استدلوا بما روى معمر(1)، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خذ منهن أربعاً).
وبما روي عن الحارث بن قيس، قال: أسلمت وتحتي ثمان نسوة، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أختار منهن أربعاً.
وما روي عن فيروز الديلمي، قال: أسلمت وعندي أختان، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (طلق إحداهما)، وفي بعض الأحاديث(2): (طلق أيهما شئت).
قيل لهم: الكلام في هذه الأحاديث من ثلاثة أوجه:ـ
أحدها: أن هذه العقود يجوز أن تكون كانت قبل تحريم الجمع بين الأختين، وتحريم الجمع بين الخمس، فلا تكون وقعت باطلة يوم وقعت، وتقرير ما هذا سبيله في الإسلام مما لا نأباه(3).
وقد دل على ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا خلاد بن محمد،[ حدثنا محمد] (4) بن شجاع، عن يزيد بن هارون، حدثنا سعيد بن أبي عروبه، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوه كان تزوجهن في الجاهلية، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خذ منهن أربعاً)، فبين أن نكاحهن كان في الجاهلية، فبان أنَّه كان قبل استقرار الشرع، وتحريم الجمع بين أكثر من أربع، وكذلك قوله لفيروز الديلمي: (طلق إحداهما)، يدل على أن النكاح كان وقع صحيحاً، لأن الطلاق لا يكون إلاَّ بنكاح صحيح، وهذا يوجب أن وقوعه كان قبل تحريم الجمع بين الأختين.
__________
(1) في (أ): عن معمر.
(2) في (أ): الأخبار.
(3) في (أ): يأباه.
(4) ما بين المعكوفين سقط (أ). أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/254.
والوجه الثاني: أنَّه يجوز أن يكون المراد بقوله: (اختر) أي بنكاح جديد(1). (52/55)
والوجه الثالث: أنَّه يجوز أن يكون المراد اختر الأوائل منهن.
فصل [في الزواج بأكثر من أربع]
نص في (الأحكام) (2) على أنَّه لا يحل الجمع بين أكثر من أربع، ولا خلاف فيه بين العلماء من أهل البيت عليهم السلام، وسائر الفقهاء، ويحكى عن قوم مجاهيل أنهم أجازوا ذلك، وإجماع المسلمين يحجهم.
ثُمَّ ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله لغيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة: (خذ منهن أربعاً)، وكذلك حديث الحارث بن قيس، وما روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}، قصر الرجال على أربع من أجل أموال اليتامى.
مسألة [فيمن تزوج امرأتين في عقدة إحداهما محرمة عليه]
قال: ولو تزوج امرأتين في عقدة واحدة، فوجد إحداهما ممن لا يحل له نكاحها، ثبت له نكاح الأخرى دونها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
ووجهه أنَّه عقد نكاح انطوى على صحة وفساد، فوجب ألا يفسد الصحيح، كما أنَّه لو تزوج على خمر، أو خنزير، لم يفسد النكاح، ولا يجب أن يكون سبيله سبيل من اشترى عبداً و حراً بثمن واحد؛ لأن عقد البيع تفسده الشروط الفاسدة والغرر، والإنطواء على أي فساد كان، وليس كذلك عقد النكاح.
فإن قيل: أليس من تزوج بخمس في عقد واحد كان نكاح الجميع فاسداً، فما أنكرتم أن يكون /53/ ذلك سبيل من تزوج بأجنبية، وذات رحم محرم؟.
__________
(1) في (أ): صحيح جديد.
(2) انظر الأحكام 1/339.
(3) انظر الأحكام 1/378.
قيل له: ليس سبيل المسألتين سبيلاً واحداً، وذلك أن من تزوج بخمس في عقد واحد يكون عقدُ كل واحدة منهن فاسداً، لأنه جامعٌ بعقد كل واحدة منهن بين خمس، وليس كذلك سبيل من تزوج بأجنبية وذات رحم محرم؛ لأنه بان جمع(1) بكل واحدة منهما بينهما لا يجب فساده، ألا ترى أنَّه لو تزوج كل واحدة منهما على صاحبتها ثبت نكاح الأجنبية، وبطل نكاح ذات الرحم المحرم، فكذلك إذا جمع بينهما، ولو أنَّه تزوج واحدة، ثُمَّ أربعاً، ثبت نكاح الواحدة، وفسد نكاح الأربع، فلا بد من حصول الفساد في التي زادت على الأربع، وليس واحدة من الخمس أولى بذلك من صاحبتها، فوجب فساد نكاحهن؛ لأن الفساد فيهن لا يتعين، والفساد في الأجنبية وذات الرحم متعين. (52/56)
باب القول في ذكر الأولياء
[مسألة: في ترتيب الأولياء]
أولياء المرأة في الإنكاح هم: العصبة، وأولاهم(2) الإبن، ثُمَّ ابن الإبن، وإن سفل، ثُمَّ الأب، ثُمَّ الجد أب الأب وإن علا، ثُمَّ الأخ لأب وأم، ثُمَّ الأخ لأب، ثُمَّ ابن الأخ لأب وأم، ثُمَّ ابن الأخ لأب، ثُمَّ العم لأب وأم، ثُمَّ العم لأب، ثُمَّ ابن العم لأب وأم [وإن سفل] (3)، ثُمَّ ابن العم لأب وإن سفل، ثُمَّ ابن عم الأب وإن بعد، ثُمَّ المولى وهو المعتق.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4) و(المنتخب) (5)، ما ذهبنا إليه من أن الإبن أولى بالإنكاح من الأب، هو(6) قول مالك وأبي يوسف، وقال محمد والشافعي: الولي هو الأب دون الإبن.
والأصل في هذا ما أاجمعنا عليه من أن الأب أولى من الجد، والعلة أنَّه لا تعصيب للجد مع الأب فوجب أن يكون الإبن أولى من الأب، إذ لا تعصيب للأب مع الابن.
__________
(1) في (ب): جامع.
(2) في (أ): أولادهم.
(3) سقط من (أ).
(4) انظر الأحكام 12/ 347.
(5) انظر المنتخب 125.
(6) في (ب): وهو.
ونبين(1) صحة هذا الاعتبار أنا وجدنا الولاية مقصورة على التعصيب، ووجدنا كل من لا تعصيب له مع غيره يكون ذلك الغير أولى بالإنكاح منه كالأخ للأب والأم، مع الأخ لأب، وكالأخ لأب مع ابن العم، وكالعم لأب وأم، مع العم لأب. (52/57)
فإن قيل: فالجد يعود ذا سهم عندكم مع الأخوة، ويكون التعصيب لهم، ومع هذا فقد قلتم: إن الجد أولى من الأخ.
قيل له: الجد عندنا يقاسم الأخوة في بعض الأحوال على جهة التعصيب، وإنما يعود ذا سهم في المواضع(2) الذي يعود لمزية له، ولتلك المزية جعلناه أولى من الأخ، ألا ترى أن الأخ لا يكون أسعد من الجد في حال، وقد يستويان في التعصيب، ويعود الجد أسعد من الأخ في حال، وليس كذلك حكم الأب مع الابن؛ إذ لاتعصيب له مع الابن بحال.
قيل له: اعتبارنا أولى، لأنَّه هو المراعَى في ولاية النكاح، ولا يعتبر فيها سائر العقود، ألا ترى أن الوصي يعقد على الصغيرة سائر العقود، وليس له عقد النكاح، وإنما هو للعصبة.
فإن قيل: الإبن ليس من نسبها، وإنما جعل النكاح إلى من يكون من نسبها، لأن الغضاضة التي تلحق فيه راجعة إلى من يكون لها نسباً.
قيل له: الابن هو منها فهو /54/ أقرب نسباً إليها من غيره، والغضاضة قد تلحق الابن كما تلحق سائر العصبات، على انا نعلم من طريق العادة أن الخال تلحقه الغضاضة لما يكون من بنت اخته، كما تلحق العم بما يكون من ابن أخيه، ومع هذا لا ولاية للخال فبان أن الاعتبار غير مقصور عليها.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (لا يؤم الرجل أباه، وإن كان أفقه منه)، فأكد حقوق الآباء، فيجب أن لا يكون أولى منه بالإنكاح.
__________
(1) في (أ): ويبين.
(2) في (أ): الموضع.
قيل له: وتأكُد الحق أيضاً لا مساغ له في هذا الباب، لأنا نعلم أن الأم آكد حقاً من ابن العم، ومع هذا الولاية لابن العم دون الأم، على أن هذا لو صح، لوجب أن يكون الجد أولى من الأب، ويقوى اعتبارنا بحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اقسم المال بين أهل الفرئاض على كتاب الله تعالى فما تركت(1) الفرائض فلأولى [عصبة] (2) رجل ذكر))، ولا خلاف أن الابن والأب إذا اجتمعا كان فاضل المال للإبن، فثبت أنَّه أولى، فإذا ثبت بم ا بيناه من أن الولاية في النكاح طريقها التعصيب بان صحة ما ذكرناه إلى آخر الفصل. (52/58)
مسألة [في عقد الأب أو الجد مع وجود الابن]
قال: ويستحب للأب والجد أن يعقدا دون الابن بإذنه وتوكيله. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
ووجهه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (لاَ يؤمَّن الرجلُ أباه، وإن كان أفقه منه)، فأوجب تعظيمه وتوقيره، وقال أيضاً في حديث القَسامة (الكبرَ الكبرَ) تنبيهاً على توقير الأسن، وروي: (ليس منا من لم يرحم الصغير، ويوقر الكبير).
مسألة [في ولاية الصبي، وأمارات البلوغ]
قال: ولا ولاية لمن لم يبلغ، والبلوغ خمس عشرة سنة، أو الاحتلام، أو الإنبات، وكذا القول فيمن اختل عقله، إلاَّ أن ترضى المرأة، ويجيز عقده سائر الأولياء.
نص في (الأحكام) (4) على ما ذكرناه في البلوغ، ونص فيه على ما ذكرناه(5) في الأب المختل العقل إذا زوج ابنته.
أما الإحتلام فلا خلاف بين المسلمين أنَّه بلوغ.
وأما بلوغ الصبي خمس عشرة سنة، فقد دللن على أنَّه حد البلوغ فيما مضى بما لا غرض في إعادته.
__________
(1) في (أ): ترك.
(2) سقط من (أ).
(3) انظر الأحكام 1/347.
(4) انظر الأحكام 1/373، 394.
(5) في (أ): ذكره.
وأما الإنبات فقد اعتمد يحيى عليه السلام لكونه علَماً للبلوغ: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا حجاج، عن حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن كثير بن السائب، حدثنا أبناء قريظة أنهم عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم قريظة فمن كان محتلماً، أو نبتت عانته، قتل، ومن لم يكن احتلم، أو انبتت عانته، تركه. فدل ما فعله صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ قَتْل من احتلم، أو نبتت عانته، أن حكم الإنبات والإحتلام في معنى البلوغ سواء(1). (52/59)
وأخبرني المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، حدثني عمرو بن محمد، عن نافع، عن سالم مولى عمر قال: كتب عمر إلى أمراء الأجناد ـ ألا تضربوا الجزية إلاَّ على من جرت المواسي عليه(2).
وحدثنا المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا ابن وهب، حدثنا سعيد، عن ابن حصين، عن عبدالله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، أن عثمان أُتى بغلام قد سرق /55/ فقال: انظروا أخضر مئزره؟ فإن كان اخضر، فأقطعوه، وإن لم يكن اخضر، فلا تقطعوه(3).
فدل قول عمر وعثمان على أن الإنبات بلوغ؛ إذ لا خلاف أن الجزية لا(4) تضرب إلاَّ على البالغ، وأن القطع لا يجب إلاَّ على البالغ، ولم يروَ أن أحداً من الصحابة أنكر ذلك، فدل على أنه اجماع منهم، وحكى أبو جعفر أنَّه قول أبي يوسف، ومحمد.
وأما المختل العقل إذا زوج، فذكر أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى أنَّه يصح بالإجازة إذا لم يكن مطبق الجنون، وكان بمنزلة المراهق، وأنه إن كان مطبق الجنون،لم يجز.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/217.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/217 إلا أن فيه: أسلم مولى عمر.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/217 وفيه: حدثنا شعبة، عن أبي حصين.
(4) في (ب): إنما.
والأصل فيه: ماروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر ابن أم سلمة ان يزوجها منه، وهو مراهق. (52/60)
وما ذهب إليَّه يحيى عليه السلام من أن المراهق يجوز بيعه وشراؤه إذا أذن له فيه وليه، وهذا مما نبينه بعون الله تعالى في كتاب البيوع، فإذا ثبت ذلك، ثبت ما قلناه في المختل إذا زوج برضى المرأة، ورضى الأولياء.
مسألة [في إنكاح الوصي]
قال: وليس للوصي أن ينكح إلاَّ بإذن الولي و[هذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)] هو قول أبي حنيفة، والشافعي.
ووجهه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نكاح إلاَّ بولي) واسم الولي لا يتناول الوصي على الإطلاق، وأيضاً قد بينا فيما مضى أن ولاية النكاح مقصورة على التعصيب، ويكشف ذلك أن الأب، أو الابن، أو الجد، إذا خرج كل واحد منهم عن أن يكون له حيازة إرث التعصيب بأن يكون كافراً أو عبداً أو مكاتباً، خرج من الولاية، ولم يكن له فيها حظ، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن الوصي لا حظ له فيها.
فإن قيل: أليس الحاكم له ولاية، وإن لم يكن له تعصيب؟
قيل له: هو مخصوص لما له من الولاية العامة، والإجماع، والأثر.
فإن قيل: إذا جاز أن يقوم الوصي مقام الأب في التصرف في المال، فهلاَّ جازأن يقوم مقامه في الولاية؟
قيل له: لأن الولاية إذا زالت صارت حقاً لغير من زالت عنه، وليس كذلك التصرف في المال، ألا ترى أن امرأة لو كان لها أب وأخ، فَجُنَّ الأب، أو مات، صارت الولاية للأخ، ولم يصر حق التصرف إلى الأخ، فإذا ثبت ذلك، فالولاية منقطعة عن الأب بموته، فلا يجوز لمن يقوم مقامه، على أن التصرف في المال ليس بحق للأب، وإنما هو حق للولد، وليس كذلك ولاية النكاح؛ لأنها حق الأولياء(2)، فلا يحصل هذا الحق لمن لا حظ له في الولاية.
فإن قيل: أليس وكيل الأبُ يُزوِّج، فما أنكرتم أن يكون وصي الأبُ يزوِّج؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/353/351.
(2) في (أ): للأولياء.
قيل له: لأن الوكيل مُعبِّر عن غيره، وليس كذلك الوصي، ألا ترى أن الموكِل إذا مات، بطلت وكالة الوكيل، وليس كذلك الوصية، لأنها لا تستقر إلاَّ بعد موت الموصي، ويدل على ذلك أنَّه قد ثبت أن الولاية حق للأولياء بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الأيم أحق بنفسها في غير كفؤ)، ولما ثبت عندنا أن الكبيرة مع صحة تصرفها في سائر حقوقها لا يصح تصرفها في ولاية النكاح من دون الأولياء، فإذا /56/ ثبت ذلك، وجب أن لا يصح تصرف الوصي، كما لا يصح تصرفه بحقوق الورثة الكبار، والعلة أنَّه حق بالغ رشيد، فوجب أن لا يصح تصرف الوصي فيه، ويؤكد ذلك أن الوصي لا غضاضة عليه فيما يكون من المرأة من وضعها نفسها في غير كفؤ، وليست(1) له الولاية العامة، ولا التعصيب، فوجب ألا يجوز إنكاحه كسائر الأجانب. (52/61)
فإن قيل: أليس يحيى عليه السلام أجاز نكاح الوصي في كتاب الوصايا من (الأحكام) (2)؟
قيل له: أجاز ذلك إذا لم يكن أحد من العصبة، فأجراه مجرى غيره من المسلمين، على أنَّه لا يمتنع أن يقال: إن تقديمه يستحب على غيره إذا لم يكن أحد من العصبة، ولم يوجد حاكم، كما نص على ذلك في ذي الرحم.
مسألة [في ولاية الكافر على المسلمة والمسلم على الكافرة والمدبر والمكاتب وقريب الرضاع]
قال: والمسلم لا يكون ولياً للكافرة والكافر لا يكون ولياً للمسلمة، لا في النكاح، ولا في السفر، ولا ولاية في النكاح للمملوك، ولا المدبر، ولا المكاتب، ولا لذوي الأرحام، ولا لمن يقرب بالرضاع، ويستحب تقديم ذي الرحم في الإنكاح على الأجنبي، ولا يجب.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (3) إلاَّ ما ذكرناه في ذوي الأرحام فإنه منصوص عليه في (المنتخب) (4)، على أنَّه قال في (الأحكام) (5) (الأولياء هم العصبة) فنبه على أن لا ولاية لذوي الأرحام.
__________
(1) في (أ): ليست.
(2) انظر الأحكام 2/429.
(3) انظر الأحكام 1/373.
(4) انظر المنتخب 126.
(5) انظر الأحكام 1/347.
ما ذكرناه من أنَّه لا ولاية للمسلم على الكافرة ولا لكافر على مسلمة مما لا أحفظ فيه خلافاً، وقد قال الله تعالى: {َلا تَتَوَلُّوا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلِيْهِمْ}، وقال سبحانه: {لا يَتِّخِذَ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِيْنَ أَوْلِيَاءَ، مِنْ دُوْنِ الْمُؤْمِنِيْن}، فمنعنا أن نتخذهم أولياء أو نكون أولياء لهم، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وقال في الكافرين: {بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، فدل على أن ولايتهم مقصورة عليهم، وأن ولايتنا مقصورة علينا. (52/62)
وقلنا: إن الكافر لا يكون ولياً للمسلمة في السفر؛ لأنَّه لا يؤمَن عليها، ولا يوثَق بدينه.
وقلنا: العبد لا ولاية له؛ لأنه لا يلي نفسه، فوجب أن لا يلي غيره كالصغار والمجانين، ولأنه لا سهم له في الغنيمة، ولا يقلَّد القضاء، فأشبه الصغير، وكذلك المكاتب والمدبر، للوجه الذي ذكرناه.
فإن قيل: فالمكاتب يتصرف؟
قيل له: تصرفه يجري مجرى تصرف العبد المأذون له في التجارة؛ لأنه لا يلي نفسه، على أنا قد بينا أن الولاية مقصورة على التعصيب، فأوجب ذلك صحة ما قلناه في ولاية المسلم والكافر والعبد؛ لأنَّه لا تعصيب لهم.
وأما ذوو الأرحام، فقد قال أبو حنيفة: إنهم يكونون أولياء إذا لم يكن [هناك] (1) عصبة، وما بيناه من أن الولاية مقصورة على التعصيب، فوجب(2) أن ذوي الأرحام لا ولاية لهم، وأنهم بمنزلة الأجانب.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَأُلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) في (أ): يوجب.
قيل له: حُكى عن المفسرين أنها نزلت في معنى الميراث، وذلك أنَّه روي أن المسلمين كانوا يتوارثون بالهجرة لقول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَالَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى /57/ يُهَاجِرُوا} فنسخت هذه الآية، وهذا الحكم، بقوله تعالى: {وَأُلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، على أنا لا نمتنع أن نقول: إن ذوي الأرحام أولى من سائر المسلمين على طريق الاستحباب، إذا لم يكن أحد من الأولياء، وصارت ولايتها إلى جميع المسلمين، فتحمل الآية على ذلك. (52/63)
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [أنَّه قال] (1): (الخال ولي من لا ولي له).
قيل له: هذا الخبر ـ وإن صح ـ لم يفد موضع الخلاف؛ لأنا نقول: إنَّه ولي، ولكن ولايته كولاية واحد من المسلمين إذا لم تكن عصبة، ولا سلطان، يؤكد ما ذكرناه أن ولاية النكاح من حكمها ان لا تستقر للبعيد مع القريب إذا كانا جميعاً من أهل الولاية الخاصة، فلو كان الخال ولياً؛ لوجب أن لا يكون لابن العم معه ولاية، وهذا فاسد بالإجماع، ولا يلزم عليه الإرث؛ لأن الإرث قد يحصل للبعيد مع القريب، ألا ترى أن ابن العم يرث مع الابنة، وابنة الابن، ومع الأخوة لأم.
وقلنا: يستحب تقديم ذوي الرحم على غيره من المسلمين لمزية القربى التي له، ولقول الله تعالى: {وَأُلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، ولأن الإحتياط مستحب في المناكحات إذا أمكن.
مسألة [في مدة انتظار الولي المسافر]
قال: وأقصى الغيبة التي يجب معها انتظار الولي للإنكاح أن يكون الولي على مسيرة شهر، إلاَّ أن يكون البلد الذي هو فيه لا ينال.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2).
__________
(1) سقط من (ب).
(2) انظر المنتخب (128).
وحكي عن أبي يوسف أن الغيبة المنقطعة مثل ما بين بغداد والري، وعن محمد مثل ما بين الري والكوفة، وروي عنه ما بين الرقة والبصرة، وهذا قريب من تحديد يحيى عليه السلام. (52/64)
ووجه ما ذهبنا إليه أن الولاية حق للولي ثابت فلا ينقطع إلاَّ بالتوقيف، ولا توقيف فيما دون ما ذهبنا إليه؛ لأن الناس قد اختلفوا فيه، ولم يَرِد فيه أثر، وماذكرناه قد أجمع على أن الولاية تنقطع معه، فقلنا به.
فإن قيل: فهذا مما يلحق المرأة عنه ضرر.
قيل له: ولو قلنا غير ذلك ألحقنا الضرر بالولي لبخس حقه من الولاية وامتات حرمته عليه، على أن الضرر إذا كان فيما يوجبه الشرع، فيجب ان يحتمل، ألا ترى أن امرأة المفقود يلزمها الصبر على ما يلحقها من الضرر.
وقلنا: أن لا(1) يكون الولي في بلد لا ينال؛ لأن ذلك في الحكم أبعد من البلد الذي بينه وبينها مسيرة شهر، لأن ذلك ينال في شهر، وما ذكرناه لا ينال.
مسألة [في المرأة لس لها وي أو نقيب أو يأبى تزويجها]
وإذا لم يكن للمرأة ولي، أو غاب غيبة منقطعة، أو أبى تزويجها من الكفؤ، كان إمام المسلمين وليها، أو من يلي من قبله، فإن لم يكن إمام، فرجل من المسلمين ترضى به المرأة.
وقد نص في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3) على ذلك جملة.
لا خلاف أن المرأة إذا لم يكن لها ولي، كان الإمام وليها، أو من يقوم مقامه، وكذلك إن غاب غيبة منقطعة، أو عضلها.
وقد دل على ذلك ما قدمناه من حديث علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله /58/ وسلم قال: (أيما امرأة تزوجت بغير ولي، فنكاحها باطل، وإن لم يكن لها ولي، فالسلطان ولي من لا ولي له).
وفي حديث عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : <فإن تشاجرا، فالسلطان ولي من لا ولي له>.
__________
(1) في (أ): إلا أن يكون.
(2) انظر الأحكام 1/345، 346، 406.
(3) انظر المنتخب 126، 128.
واختُلِفَ إذا لم يكن سلطان، فمن الناس من قال: عليها أن تصبر، وقال أبو ثور مثل قولنا مع فقد الأولياء والحاكم، وزاد فقال ذلك مع وجود الأولياء. (52/65)
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه، قول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وِالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، فأثبت لبعضهم الولاية على بعض، فوجب بظاهره أن يكون كل مؤمن ولياً لكل مؤمنة، إلاَّ حيث يخص الدليل، وإذا ثبت ذلك، وثبت أن الولاية العامة لا تكون مع الولاية الخاصة، خصصنا الولاية العامة ما وُجِدَت الولاية الخاصة، فإذا فُقدت، وجب إثبات الولاية العامة بظاهر الآية، ويدل على ذلك قول الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِيْنَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32]، وهذا عام في العصبات، والأقارب، والأجانب.
ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:<إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه}، ولم يشترط ان يكون المزوج قريباً أو بعيداً.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: <لا نكاح إلاَّ بولي>، وكل من ولته المرأة أمرها يتناوله اسم الولي، فوجب أن يصح إنكاحه(1)، ولا خلاف في البالغة إذا كان لها إخوة، أنها إذا فقدت ولاية الأب، لم تعدم ولاية غيره، فكذلك التي لا أقارب لها إذا فقدت ولاية الإمام، وجب أن لاتعدم ولاية غيره، والعلة أنها أيم افتقدت أبداً. فوجب أن لا تعدم ولاية غيره، يوضح ذلك أنها لما انقطعت منها ولاية الأقارب، حصلت لها ولاية الإمام، فكذلك يجب أن يحصل لها ولاية سائر المسلمين؛ لئلا يلحقها الضرر بفقدها من يُنكحها، فإذا ثبت بما بيناه أن ولايتها تحصل للمسلمين، فأيهم رضيت به المرأة، جاز إنكاحه لها.
مسألة [في المرأة تدعي ألاَّ ولي لها]
قال: ولو أن امرأة غريبة ادعت أن لا ولي لها، فأكثر ما عليها أن تُستحلف على ذلك.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2).
__________
(1) في (ب): نكاحه.
(2) انظر المنتخب 134.
ووجهه: أنها إذا كانت غريبة مجهولة النسب، فلا سبيل إلى معرفة أوليائها من ذوي الأنساب إلاَّ من جهتها، فيجب أن يكون قولها في ذلك مقبولاً، وأما الاستحلاف فعلى سبيل الاحتياط إن رأى الحاكم ذلك. (52/66)
مسألة [في المرأة ينكحها وليان لرجلين]
قال: ولو أن وليين أنكحا [بامرأة] (1) رجلين، وكان أحدهما أقرب في النسب، ثبت عقده دون عقد الأبعد، فإن استويا، صح العقد المبتدأ به، فإن عقدا معاً، أو التبس أي العقدين كان أولاً، ابتديء العقد بمن(2) ترضى به المرأة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3) ومروي فيه نحوه عن القاسم عليه السلام.
قال أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى، هذا إذا كانا زوجاها بإذنها، وهذا كما قال: لأن الهادي إلى الحق عليه السلام قال في (الأحكام) (4): ((إلاَّ أن ترضى المرأة بأحدهما وتسخط الآخر)). فثبت أن(5) النكاح بينها وبين من ترضى به، ولا يجب إعادة النكاح، /59/ وهذا قول أبي حنيفة.
ما قلناه من أنَّه لا يجوز إنكاح الأبعد مع الأقرب، وقلنا: ان الوليين المتساويين إذا أنكحاها من رجلين، صح العقد المبتدأ به: لما رواه أبو داود في (السنن) (6) بإسناده، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <أيما امرأة زوجها وليان، فهي للأول منهما، وإيما رجل باع بيعاً من رجلين فهو للأول منهما>. ولأن أحد الوليين إذا زوجها من رجل بإذنها، ثبت العقد بينها وبينه، وصارت مزوجة، فلم يقع عليها إنكاح الثاني غير عالم بعقد الأول، وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): لمن.
(3) انظر الأحكام 1/348.
(4) انظر الأحكام نفس الصفحة.
(5) في (أ): فيثبت النكاح.
(6) أخرجه أبو داود في السنن 2/237.
وحكي عن مالك، أنَّه قال: إذا دخل بها الثاني غير عالم بعقد الأول، فهو أولى بها، وإن دخل مع العلم، أو لم يدخل بها، فهي للأول، وهذا الفرق لا معنى له لما بيناه، ولأنه قد وافق أنَّه إن لم يدخل [بها] (1)، أو دخل بها مع العلم فهي للأول، والجهل لا يزيل النكاح الثابت، ولا خلاف أن الأختين لو تزوج الرجل إحداهما بعد الأخرى، ثُمَّ دخل بها غير عالم بالحال أن النكاح الأول هو الثابت دون الثاني، فكذلك ما اختلفنا فيه، والعلة أنَّه نكاح فاسد عرض بعد نكاح صحيح، فلم يجب أن يفسد الصَّحيح، ويصح الفاسد؛ للدخول على سبيل الجهل، فأما إذا وقع العقدان معاً، أو لم يدر أي العقدين وقع أولاً، وقد كانت المرأة أذنت لكل واحد من الوليين بالإنكاح، فوجه إبطالنا العقدين أن ثبوتهما ممتنع لا يصح، وليس أحدهما بالبطلان أولى من الآخر، فوجب أن يبطلا جميعاً، كما أن رجلاً لو تزوج أختين في عقد واحد، أو تزوج خمس نسوة في عقد، بطل نكاح الجميع؛ للوجه الذي ذكرناه، وأما إذا زوجها بغير إذنها، لم يكن واحد من العقدين ثابتاً، وكانا جميعاً موقوفين، فثبت ما ترضى به المرأة، وهذا لا يشبه ما قلناه من فساد العقدين إذا كانت قد أذنت لكل واحد منهما، لأنه لا مزية هناك لأحد العقدين على الآخر، والذي ذكرناه أخيراً لأحد العقدين مزية على الآخر، لأن رضى المرأة به يتم العقد، وقد حصل مع أحدهما، وهناك قد حصل رضاها مع كل واحد منهما. (52/67)
مسألة [في تزويج المرأة غير الكفؤ مع كراهة الأولياء]
قال: وليس للمرأة أن تتزوج غير الكفؤ [مع] (2) كراهة الأولياء، والكفؤ في الدين والنسب جميعاً. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3)، وقد استقصينا في هذه الجملة الكلام فيما مضى من كتابنا فلا وجه لإعادته.
مسألة [في تولي المرأة عقد النكاح]
__________
(1) سقط من (أ).
(2) سقط من (أ).
(3) انظر الأحكام 1/366 ولفظه: وإن كرهوا أحداً لم يلزموا ما كرهوا.
ولا يصح نكاح تعقدة المرأة، فإن ملكت امرأة عقدة النكاح بالولاء أو الملك، وكلت رجلاً بعقده. (52/68)
ويستحب أن تستشار الأم في إنكاح ابنتها، وإن لم يكن لها من التزويج شيء. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (1).
أما ما ذهبنا إليه من أنَّه لا يصح نكاح بعقدة المرأة، فهو قول الشافعي، وأجاز ذلك أبو حنيفة.
والأصل فيه حديث علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <أيما امرأة تزوجت بغير ولي، فنكاحها باطل>، وحديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: <البغايا اللاتي يزوجن /60/ أنفسهن بغير ولي>، وقد مضى إسنادهما.
وحديث ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا تُنْكِح المرأةُ المرأةَ، ولا المرأةَ نفسَها>، وفي بعض الحديث ((فإن الزانية التي تزوج))، وفي بعضها <التي تُنكح نفسها> فكل ذلك تصريح بما ذهبنا إليه، وعن ابن عباس: ((البغايا اللاتي يتزوجن(2) بغير ولي)).
وحديث عبدالرحمن بن القاسم، عن عائشة، أنها أنكحت رجلاً من بني أخيها، جارية من بني أخيها فضربت بينهم بستر، ثُمَّ تكلمت حتى إذا لم يبق إلاَّ النكاح، أمرت رجلاً فأنكح، ثُمَّ قالت: ليس إلى النساء النكاح، وقد ذكرنا إسناد هذين الحديثين فيما مضى من كتابنا هذا، ولم يرو خلاف ذلك عن غيرها، فجرى مجرى [بذلك] (3) الإجماع.
وأيضاً هو أمر يفتقر إلى الشهود فوجب أن يكون إمضاؤه لا يجوز للنساء، دليله الحكم.
فإن قيل: فأنتم تجوزون للمرأة إذا ملكت عقد نكاح بالملك أو الولاء أن توكل من يعقده، وهذا يدل على أن لها أن تعقد.
__________
(1) انظر الأحكام 1/375 ـ 376.
(2) في (أ): تزوجن.
(3) سقط من (أ).
قيل له: لها أن تستنيب فيما لا يصح فعله منها، كالحائض تُحج عن نفسها، وفي الحج الطواف، ولا يصح طوافها لو طافت وهي حائض، والرجل قد يملك غيره بالبضع الذي لا يملكه، على أن العقد إن كان للإنسان، فلا يمنع أن يعقد(1) بنفسه وبغيره، فكان ذلك هو الأصل في عقد النكاح إذا ملكته المرأة لأن لها أن تستوفيه بنفسها وبغيرها، فلما منعها الشرع من استيفائه بنفسها، وجب أن يكون استيفاؤه بغيرها جائزاً على ما كان عليه، فلهذا قلنا: تُولي من يعقد عنها على أمتها ومولاتها. (52/69)
وقلنا: إنَّه يستحب أن تستشار الأم في إنكاح ابنتها تعظيماً لحقها، لقول الله تعالى: {وَوَصِّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً}، وقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِيْ وَلِوَالِدَيْكَ}، ولأن ذلك أقرب إلى الألفة والإلتئام، وأذهبُ في طريقة صلة الرحم، وقد ندب الله إليها وبعث عليها.
باب القول في المهور
[مسألة في ماهية المهر]
المهر ما تراضى عليه الزوج والزوجة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، والمراد به إذا كان كل واحد منهما بالغاً رشيداً، وهو قول [أبو حنيفة و] (3) أبي يوسف ومحمد، والشافعي، قال أبو حنيفة إن كانت رضيت بدون مهر مثلها، فللأولياء أن يمنعوا ذلك.
ووجه ما ذهبنا إليه: أن المهر حق للمرأة يصح منها الانفراد باستيفائه وبإسقاطه، فوجب أن لا يعتبر فيه سخط الأولياء ولا رضاهم.
دليله سائر حقوقها من البيع، والإجارة، والشفعة، وغيرها مما يجري مجراها.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <أدوا العلائق، قيل: وما العلائق؟ قال: ما تراضى به الأهلون>.
قيل له: الأهلون الزوج والزوجة بالدلالة التي مضت.
فإن قيل: فإن الأولياء تلحقهم غضاضة بتقصيرها في المهر، كما يلحقهم في وضعها نفسها في غير كفؤ، فوجب أن يكون لهم المنع منه، كما كان لهم المنع من وضعها نفسها في غير الكفؤ.
__________
(1) في (أ): يعقده.
(2) انظر الأحكام 1/348.
(3) سقط من (أ).
قيل له: لسنا نسلم أن التقصير في المهر غضاضة حتى يقال: إنها تلحق الأولياء، يكشف ذلك أنها لو ابرأت زوجها من جميع مهرها بعد استحقاقها إياه، لم يكن فيه غضاضة، بل ذلك منها تفضل وإحسان، وكذلك إذا رضيت في الإبتداء بدون مهر /606/ مثلها بعد استحقاقها إياه لم يكن فيه غضاضة، بل تفضل وإحسان، ومما يكشف ذلك: ما رواه أبو داود في (السنن)(1) بإسناده عن عمر أنَّه قال: ألا لا تغالوا بصداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله تعالى، كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لامرأة من نسائه ولا امرأة من بناته، أكثر من اثني عشر أوقية. (52/70)
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام ما نكح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة من نسائه إلاَّ على اثنتي عشرة أوقيه، فبان أن المغالاة لا جمال فيها، فوجب أن يكون التقصير لا غضاضة فيه، ألا ترى أن الأكفاء في الدين والنسب، لَمَّا كان في فقدهما غضاضة كلما كان الزوج أرفع حالاً فيهما، كان أتم في الجمال.
فإن قيل: فإن مهرها قد يعتبر به مهور نسائها من بعدها، فمتى حصل فيه التقصير، لحقهن الضرر، فوجب أن لا يجوز ذلك.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/241 وفيه بصُدق النساء، ولا أصدِقتِ امرأة من بناته.
قيل له: هذا قائم إذا رضي به الأولياء معها، ولاخلاف في جوازه، على أن المهر الذي يقصر عن مهر المثل لا يعتبر به، الا ترى أن امرأة لو زاد في مهرها من تزوج بها رغبة فيها أضعافاً مضاعفة، لم يعتبر ذلك في مهور نسائها، وكذلك لو أن رجلاً باع سلعة بدون ثمن مثلها، أو فوق ثمن مثلها؛ لغرض من الأغراض، لم يعتبر ذلك في قيمة تلك السلعة إذا استهلكت عليه، فوضح سقوط هذا السؤال، يؤكد ما ذهبنا إليه ما اتفقنا عليه من أن تصرفها في مهرها بالإسقاط وبالإستيفاء والإستهلاك والإخراج له عن ملكها بعوض وغير عوض جائز، فوجب ألا يعتبر فيه رضى الأولياء، وأن لا يثبت لهم فيه حق. (52/71)
مسألة [في أقل المهر]
قال: وأقله عشرة دراهم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)، وبه قال القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وحكى عن مالك أنَّه ما يقطع به السارق، وهو عنده ربع دينار، وقال الشافعي: هو كل ما يصح أن يتمول من قليل أو كثير من غيرتقدير.
والدليل على ذلك: حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم، لا يكون النكاح الحلال مثل مهر البغي>.
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى، أخبرنا علي بن محمد بن مهرويه، حدثنا ابن أبي خيثمه، حدثنا زكريا بن الحكم، حدثنا ابن المغيرة، عن مبشر بن عبيد، عن حجاج، عن عطاء، وعمرو بن دينار، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: < لا يَنكح النساءَ إلاَّ الأكفاء، ولا يزوجهم إلاَّ الأولياء، ولا مهر دون عشرة دراهم>.
وقد روي عن علي عليه السلام هذا القول، وما صح عنه، لم يجز عندنا خلافه.
وعند الشافعي المهر هو: ما جاز أن يكون ثمناً في المبيع(3) أو أجرة في الإجارة، صح أن يكون مهراً، سواء كان كثيراً أو قليلاً.
__________
(1) انظر الأحكام 1/348.
(2) انظر المنتخب 132.
(3) في (أ): البيع.
فإن قيل لنا: فقد قال الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا /67/ بِأَمْوَالِكُمْ}، وقال: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، وذلك يقع على القليل والكثير. (52/72)
قيل له: لا خلاف بيننا وبينكم في أن العام يُبني على الخاص، فما ذكرتموه مبني على ما استدللنا به، على أن استدلالنا أولى؛ لأن الخبر ورد في ذكر المقدار وبيانه، وفيه وقع الخلاف، فكان الإستدلال به أولى، على أن اسم المال لا ينطلق من جهة العرف على التافه اليسير، فلو استدللنا بالآية، كنا أسعد.
فإن قيل: قال الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلُ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيْضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}، فإذا فرض لها خمسة دراهم، لم تستحق بالطلاق قبل الدخول إلاَّ نصفها بظاهر الكتاب.
قيل له: نصف هذا المسمى لا خلاف في استحقاقه، وإنما(1) الخلاف فيما زاد على ذلك، فالزيادة لا ذكر لها ف الكتاب، فهي موقوفة على الدلالة، على أنَّه لا يبعد على أصولنا أن نقول إن تسمية الخمسة كَلاَ تسمية، فإذا طلقها قبل الدخول، كان لها المتعة، ونقول: إنها ممن لم يفرض لهن فريضة، فلم يشتمل عليها ظاهر الكتاب، وإن كان أبو العباس الحسني ـ رحمه الله تعالى ـ خرَّج على المذهب أن من سمى دون عشرة دراهم يبلغ به عشرة، ولا يزاد عليها، فيجب أن يكون المعتمد على هذا الجواب هو الأول.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه زوَّج رجلاً بما معه من القرآن.
وروي أن عبد الرحمن بن عوف أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه تزوج قال: <ما أصدقتها؟>، قال: وزن نواة من ذهب، قال: <أولم ولو بشاة>.
وحديث أبي الزبير، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <من أعطى في صداق امرأة مِلْءَ كفه سويقاً، أو تمراً، فقد استحل>.
__________
(1) في (ب): وإن.
وروي عنه أنَّه قال: <لا جُناح على امرء أن يتزوج من ماله بقليل أو كثير إذا أشهد>. (52/73)
قيل له: أما ما روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن، فلا دليل في ظاهره، ولا بد فيه من التأويل؛ لأن أحداً لا يقول: إن نفس ما معه من القرآن يكون مهراً، وقد ثبت عندنا أنَّه لا يجوز أن يتناول على التعليم أجره؛ لأن تعلم القرآن لا يجوز أن يستحق عليه أجرة، لما بيناه في مسألة أخذ الأجرة على الأذان، وتأويله أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم زوجه لذلك، لا أنَّه جعله مهراً، كما أن الرجل الدِيِّن يزوَّج لدينه، لا أن الدِين يكون مهراً.
وأما قول عبدالرحمن بن عوف إني أصدقتها وزن نواة من ذهب، فيجوز أن يكون كان ذلك الذهب عشرة دراهم، وأن تكون النواة التي وزن بها، كان وزنها، يبلغ ديناراً، ويحتمل أن يكون ذلك /68/ مما قدمه، ولم يكن جميع المهر، وحديث جابر: <من أعطى في صداق امرأة مِلْءَ(1) كف من سويق، أو تمر، فقد استحل>، فلا يتناول موضع الخلاف، لأنَّه لا خلاف أن الإستحلال حاصل، فهو الذي تضمنه ظاهر الخبر، والخلاف في جواز الإقتصار به على ذلك القدر، وليس ذلك في الخبر، وهكذا الجواب إذا تعلقوا بما روي (( لا جناح على امرء أن يتزوج من ماله بقليل أو كثير)).
[قلنا هذا محتمل وقد فسر القليل بعشرة دراهم، الخبر الذي رويناه] (2) وسائر ما يتعلقون به مما يجري مجراه، فالجواب عنه على الطريقة التي بيناها.
ولا خلاف بيينا وبين الشافعي أن اليد لا تقطع إلاَّ في مقدار من المال، فوجب أن لا يملك الدفع إلاَّ بمقدار من المال، والعلة أنها استباحة عضو محظور لا يستباح إلاَّ بمال، على أن الدلالة قد دلت عندنا على أن لا قطع إلا في عشرة دراهم، فوجب أن يكون أقل المهر عشرة دراهم؛ للإعتبار الذي قدمناه.
__________
(1) في (ب): وخل.
(2) ما بين المعكوفين ساقط من (ب).
ويدل على ذلك أنَّه حق لله تعالى وجب ابتداء من غير نذر، ولا استهلاك، فوجب أن يكون له تقدير، كالزكوات والكفارت، ويبين أنَّه حق لله سبحانه وتعالى أن الزوج والزوجة لو تراضيا على أن المهر لم يصح ذلك، ووجب أن يثبت المهر، واعتبارنا أولى من اعتبارهم ذلك بالبيوع والإجارات؛ لأنا قد اعتبرنا ما لله سبحانه فيه حق بما له سبحانه فيه حق، وما لا بد من دخول المال فيه، ولأن اعتبارنا يفيد شرعاً مجدداً، و يستند إلى النصوص القاطعة. (52/74)
مسألة [في النكاح على دون مهر المثل بغير رضى الزوجة]
قال: ولو أن ولياً، أباً كان أو غيره، زوَّج حرمته على دون مهر مثلها بغير رضاها، كان لها مهر مثلها، إلاَّ أن يزوج الأب ابنته الصغيرة، فإن حكمه جائز عليها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
وقول أبي حنيفة في تزويج ابنته الصغيرة بدون مهر مثلها مثل قولنا، وأباه أبو يوسف، ومحمد، والشافعي.
ووجه ما ذهبنا إليه: أن البالغة إذا زوَّجها وليها بدون مهر مثلها، أو إذا زوج الصغيرةَ وليها ـ ما لم يكن الولي الأب ـ بدون مهر مثلها، أن لها الخيار في فسخ عقدة النكاح عليها؛ لأن المهر ليس بأوكد من عقدة النكاح، فإذا افتقرت عقدة النكاح إلى رضاها، افتقرت عقدة المهر إلى ذلك.
ووجه قولنا: إن الأب إذا زوج ابنته الصغيرة بدون مهر مثلها، جاز ذلك، أنا قد علمنا أنَّه لو زوَّجها بدون مهر مثلها برضاها وهي بالغة، أجزأ ذلك، فكذلك إذا زوَّجها به وهي صغيرة، دليله عقدة النكاح، لَمَّا كان إذا زوَّجها برضاها وهي بالغة، كان العقد ماضياً، كذلك إذا زوَّجها وهي صغيرة، والمعنى أنَّه عقد يستباح به بضعها.
__________
(1) انظر الأحكام 1/369.
يبين صحة هذا: أن سائر العقود لايستباح به بضعها لاستواء الأمر بين أن يعقد عليها وهي صغيرة، وبين أن يعقد عليها برضاها وهي كبيرة، وعقد النكاح لما كان يستباح به بضعها، استوى الأمران فيه، ولا يجب أن يكون سبيل المهر سبيل بيع مالها بدون قيمة مثله؛ لأن القصد بالبيع الثمن، فلم يجز أن يبخسها حظها فيما هو المقصود، وليس المقصد بالنكاح المهر، بل المقصد فيه أن يختار لها موضعاً لا يضع منها، ولا يحصل لها به أذيَّة، يكشف ذلك أن سائر /96/ العقود من البياعات والإجارات لما كان المقصد بها الأعواض، لم يراع فيها حال العاقد، فبان أن المقصود ما سواه، وإنما وجب حصول العوض فيه للتعبد، لا أنَّه المقصود. (52/75)
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوَّج ابنته فاطمة صلوات الله عليها على صداق خمسمائة درهم، وهي سيدة النساء، وقد علمنا أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليبخسها حظها، وقد ذكرنا ما روي من قول عمر: ألا لا تغالوا بصداق النساء.
وروي أنَّه قال ذلك في خطبته، فلم ينكر عليه، فبان أن سبيله لو كان سبيل أثمان السلع، لجازت المغالاة فيه، بل يجب ذلك إذا كان للصغيرة أو الصغير ما أمكن، فبان به الفرق بين المهر وبين أثمان السلع.
مسألة [في النكاح على حاكم زائل العقل وفي عدم تسمية المهر]
قال: ومن تزوج، أو زوَّج على حكم زائل العقل، كان للمرأة مهر مثلها، وكذلك لو تزوج الرجل المرأة ولم يذكر المهر.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، ونص (2) أيضاً في (المنتخب) (3) على أن ذلك فيمن تزوج ولم يسم مهراً.
__________
(1) انظر الأحكام 1/369.
(2) في (أ): ونص أصحابنا أيضاً.
(3) انظر المنتخب 130.
ووجه قولنا: فيمن تزوج على حكم زائل العقل أنَّه تزوج(1) بغير مهر، لأنَّه لم يذكر المهر، مجهولاً ولا معلوماً، فوجب أن يكون الواجب فيه مهر المثل، فأما من تزوج من غير ذكر مهر، فلا خلاف بين علماء أهل البيت وغيرهم أن النكاح يصح، ويجب مهر المثل. (52/76)
والأصل فيه قول الله عز وجل: {لا جُنَاحَ عَلِيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَالَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيْضَةً}، فنبه على أن [عقد] (2) النكاح يصح، وإن لم يكن معه تسمية؛ لأنَّه تعالى نبه على أن الطلاق يقع، وإن لم يكن تسمية مهر، والطلاق لا يقع إلاَّ على نكاح صحيح، قال صلى الله عليه وآله وسلم: <لا طلاق قبل النكاح>، ولأن النكاح تمليك بضع يتأتى في الحرة، فوجب أن لا يكون البدل شرطاً في صحته، دليله الطلاق.
وروى أبو داود في (السنن) (3) بإسناده عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: <أترضى أن أزوجك فلانة؟> قال: نعم، قال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً، قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبه. فدخل الرجل بها، ولم يفرض لها صداقاً. فدل ذلك على أن النكاح يصح بغير صداق، ووجوب مهر المثل إن دخل بها فمما لا خلاف فيه أيضاً.
__________
(1) في (ب): يتزوج.
(2) سقط من (أ).
(3) أخرجه أبو داود في السنن 2/244 وفيه: ثم قال لها أترضين أن أزوجك فلاناً، قالت: نعم.
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (لا يحل فرج بغير مهر). وقال الله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، فأوجب سبحانه إيتاءهن الأجور، ولم يشترط أن يكون سمى أو لم يسم، وقال أيضاً: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}، وإذا وجب المهر، وجب الرجوع إلى مهر مثلها، لأنَّه هو الأصل في قيم المتلفات، وفي الأروش، وأجور الإجارات الفاسدة أنَّه يعتبر في كل منه عوض مثله، فوجب ذلك في المهر أيضاً وإيجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المهر في الدخول في النكاح الفاسد أيضاً، يدل على صحة ما قلناه. (52/77)
مسألة [في جعل ما لا يجوز بيعه مهراً]
قال: ولو تزوجها على الخمر، أو الخنزير، أو على قتل إنسان، أو على حر، أو حرة، أو غير ذلك مما لا يجوز بيعه /70/ وشراؤه، أو على ان يعلمها قرآنا، صح النكاح، وكان للمرأة مهر مثلها.
جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (1)، خلا ما ذكرناه من النكاح على تعليم القرآن، فإنه خُرِّج من منع الهادي عليه السلام في كتاب البيوع استحقاق العوض على تعليم القرآن، ومنعه النكاح إلاَّ بعشرة دراهم فصاعدا، والخلاف في هذه الجملة في موضعين:
أحدهما ـ إذا تزوجها على مهر فاسد نحو الخنزير والخمر وغيرهما مما لا يتأتي فيه البيع، فإن مالكاً يذهب إلى أن عقد النكاح يكون فاسداً، وقال أبو حنيفة، والشافعي، مثل قولنا.
والأصل فيه: ما ثبت من صحة النكاح، المعرى عن المهر، على ما بيناه، فإذا كان عدم المهر لا يوجب فساد النكاح لم يوجبه فساد المهر؛ لأن فساده ليس أكثر من عدمه أصلاً، لأنَّه لا فصل بين سقوط المهر لترك ذكره، أو سقوطه لفساده.
__________
(1) انظر الأحكام 1/402.
ويمكن تحرير القياس [فيه] (1) بأن يقال: لا خلاف أن الخمر، والخنزير، والْحُر، لا يجوز أن يكون مهراً، فوجب أن لا يفسد النكاح، فإن سمى فيه ما ذكرنا أجمعنا كما أجمعوا عليه من أنَّه لا يفسد، وإن لم يسم فيه مهراً، والمعنى أنَّه عقد النكاح، فوجب أن لا يفسد لعدم المهر، فإن قاسوه على البيع بعلة أنَّه يفسد لفساد العوض لم يصح ذلك، لن البيع لا يثبت إلاَّ بثبوت العوض فلم يمتنع أن تكون صحته شرطاً في صحة البيع، وليس كذلك النكاح لأنَّه يثبت وإن لم يثبت العوض. (52/78)
فإن قاسوه على الشغار، قلنا لهم: الشغار فسد من حيث استثنى منه ما اقتضاه العقد، وهو بضع كل واحدة منهما على ما بيناه في مسألة الشغار.
ويشهد لما ذهبنا إليه قول الله سبحانه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} فلم يشترط فيه صحة المهر، وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا نكاح إلاَّ بولي وشهود) ولم يشترط في صحة المهر.
فإذا ثبت بما بيناه صحة العقد، فلا خلاف أن مهر المثل يجب فيه، وقد ذكرنا ما يوجبه أيضاً في المسألة التي تقدمت هذه.
__________
(1) سقط من (أ).
وأما النكاح على تعليم القرآن، فإن الشافعي يقول فيه: إنَّه جائز، ولا يوجب فيه مهر المثل، ولا نختلف في الجواز، وإنما نختلف في وجوب مهر المثل، والذي يدلع لى أنَّه لا يجوز أن يكون ذلك مهراً قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يكون مهر أقل من عشرة دراهم>، وقوله: <لا مهر دون عشرة دراهم>، وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}، وتعليم القرآن ليس بمال، ولا جارٍ مجرى المال، ويدل على ذلك أن تعليم القرآن لا يجوز أن يستحق عليه العوض، لأنَّه عبادة لا يصح فيها النيابة، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <من أخذ على تعليم القرآن أجراً، كان حظه>، وقول أمير المؤمنين لرجل (إني أبغضك؛ لأنك تتغنى في الأذان، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً)، ولا يجوز أن يبغضه إلاَّ لتوقيف عنده في النهي عنه. (52/79)
وعن أبي بن كعب، قال: علَّمت رجلاً مائة آية من القرآن،، فأعطاني قوساً، فرآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: <أتحب أن يُقوِّسك الله تعالى قوساً من نار، اذهب، فردَّها>، وإذا ثبت ذلك، ثبت أنَّه لا /71/ يجوز أن يكون مهراً كسائر ما يفعله من العبادات، فرضاً أو نفلاً، على أنَّه إذا ثبت أنَّه لا يجوز أن يؤخذ عليه الأجر، فلم يقل أحد مع ذلك إلاَّ أنَّه لا يجوز أن يكون مهراً.
فإن قيل: روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه زوج امرأةً رجلاً، فقال: <زوجتك بما معك من القرآن>،وفي بعض الأخبار: <زوجتكها على أن تعلمها كذا وكذا آية من القرآن>.
قيل له: تأويله عندنا أنَّه أراد به إني أزوجك لما معك من القرآن، كما يقال زوجتك لدينك ولشرفك، أو يقال: أزوجك على أن تحسن عشرتها، وتتقي الله تعالى فيها، ولا يكون المراد في شيء من ذلك أنَّه مهر، ولا خلاف أنَّه إذا قال: أتزوجك على طلاق زوجتي فلانة، أنَّه لا يكون مهراً، فكذلك إذا تزوجها على تعليم القرآن، والمعنى أن كل واحد منهما مما لا يجوز أن يستحق به المال. (52/80)
وأما ما روي أن سرية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرت بحي من أحياء العرب قد لدغ سيدهم، فسألوهم: هل فيهم من يرقي، فرقاه بعضهم بفاتحة الكتاب، فعوفي، فأعطوهم ثمانين شاة، فلما قَدِموا، على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عرَّفوه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <اضربوا لي معكم بسهم>، وما جرى مجرى هذا من الأخبار، فإن جميه عندنا على سبيل الهدية والصلاة، لا على سبيل الأجرة؛ لما بيناه آنفاً، والإنسان قد يهدَى إليه لدينه وفضله، وإن كان لا يستحق الأجرة على ذلك، فلا وجه لتعلقهم بذلك، وليس لهم أن يتعلقوا بقوله سبحانه: {وَأَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <المؤمنون عند(1) شروطهم>، لأنا نأمره بالوفاء بذلك، ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف في أنَّه يكون مهراً، أولا، واعتبارنا أقوى؛ لأنَّه يفيد إثبات حق في مال، ولأن سائر العبادات تشهد لنا.
مسألة [مهر المطلقة قبل الدخول]
قال: فإن طلقها قبل أن يدخل بها، كان لها عليه المتعة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) في كل(3) من تزوج بغير مهر، ثُمَّ طلق قبل الدخول، ولا متعة عندنا لغير من ذكرنا، وهو قول أبي حنيفة: وأحد قولي الشافعي.
__________
(1) في (ب): على.
(2) انظر الأحكام 1/355.
(3) في (أ): وكل.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَالَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيْضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره] (1)}، فأوجب(2) المتعة بحصول الشرطين مع وقوع الطلاق: (52/81)
أحدهما: ألا يكون لها مهر مسمى، والآخر ألا يكون يكون دخل بها، وهذا صريح ما نذهب إليه.
فإن قال قائل من أصحاب مالك: قوله تعالى عقيب هذا: <حقاً على المحسنين>، يدل على أنَّه استحباب؛ لأنَّه جعله إحساناً، والإحسان يجري مجرى ما يتطوع الإنسان به، أو يتفضل.
قيل له: هذا الذي ذكرتم غير صحيح، وذلك أن قوله: {حَقاً عَلَى الْمُحْسِنِيْنَ} يؤكد إيجابه، ألاترى إلى قول الله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً}، اقتضى وجوب الحج، على أن قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ}، أمر يقتضي الإيجاب، وقوله: {حَقاً عَلَى الْمُحْسِنِيْنَ} يؤكد الإيجاب.
فإن قيل: لو كان واجباً، لكان مقدراً.
قيل له: لا يجب في كل واجب أن يكون مقدراً؛ لأن النفقات للزوجات والأقارب واجبة، وليست مقدرة(3) إلاَّ بضرب من الإجتهاد، وهذا الضرب من التقدير فإنا لا /72/ نمتنع منه في المتعة.
فإن قاسوا الطلاق على الموت على رواية (الأحكام)(4) في أن الزوج إذا مات قبل الدخول بها ولم يكن فرض لها مهراً، لم يجب لها مهر المثل.
قيل له: فيجب أن يكون للطلاق تأثير في إيجاب امر سوى التفرق كالموت، ألاترى أن الموت يوجب العدة، ولا شيء يوجبه الطلاق في مسألتنا غير المتعة.
ومن استدل من أصحاب الشافعي لإيجاب المتعة لسائر المطلقات على قوله الثاني بقوله تعالى: {وَلِلمُطَلَّقَاتِ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفٍ حَقاً عَلَى الْمُتَّقِيْنَ}.
__________
(1) في (أ).
(2) في (أ): وجب.
(3) في (أ): بمقدرة.
(4) انظر الأحكام 1/355.
قيل له: لا عموم في الآية في المتاع، لأنها أوجبت متاعاً واحداً، ونحن نوجب لهن النفقة على بعض الوجوه، والسكنى مع النفقة على بعض الوجوه، ونوجب المهر ونصف المهر، ونوجب المتعة على بعض الوجوه، وكل ذلك من المتاع، فأيَّ ذلك أوجبنا خرجنا، من عهدة الآية، على أن الآية لو أوجبت ما ادعوه بعمومها، كانت مخصوصة بالآية التي اعتمدناها؛ لأنها أوجبت المتعة بشرطين، فكان المراد بقوله سبحانه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ}، اللواتي طلقن قبل الدخول، وقبل تسمية المهر لهن، ولا خلاف بيننا وبين الشافعي على قوليه جميعاً أن التي سمي لها مهر، وطلقت قبل الدخول بها، لا متعة لها، فوجب أن لا تكون المتعة لها، وإن كان زوجها دخل بها، والعلة أنها مطلقة تستحق المهر، يؤكد ما ذهبنا إليه أن المتعة بدل للمهر في المسألة التي جعلناها أصلاً، فإذا ثبت أنها بدل في سائر المواضع، ولا وجه لإجتماع البدل والمبدل، وعند الشافعي تجب المتعة مع المهر، وهذا بدل ومبدل. (52/82)
مسألة [في المكاتب والمدبَّر وأم الولد تكون مهر]
قال: وإن تزوجها على مكاتب، أو مدبر، أو أم، ولد كان للمرأة قيمة ما تزوجها عليه يوم وقعت عقدة النكاح.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
__________
(1) انظر الأحكام 1/402.
ووجهه أن هؤلاء للتقويم فيهم مسرح، ألا ترى أن المدبَّر يجوز بيعه عند الشافعي، ويجوز بيعه للضرورة عندنا، فصار المنع من بيعه طريقُهُ الإجتهاد، وكذلك المكاتب إذا عجز، رُدَّ في الرق، ويتأتى فيه البيع والتقويم، وأم الولد أيضاً رأى كثير من أهل البيت عليهم السلام جواز بيعها، وهي إحدى الروايتين عن علي عليه السلام، وإن كنا لا نختار ذلك، فصارت أيضاً ممن حظر بيعها على طريق الإجتهاد، وكذلك إجازة بيعها، فإذا(1) ثبتت هذه الجملة، [ثبت](2) أن للتقويم فيها مسرحاً، فأشبه ما يتزوج الرجل به من عبد، أو سلعة، ثُمَّ يتعذر تسليمه بتلف أو غيره في ان الواجب فيه قيمته(3)، فكذلك ما اختلفنا فيه، والعلة أنَّه مما للتقويم فيه مسرح، وقد تعذر تسليمه، ولا يلزم عليه الحر والخنزير والخمر؛ لأن بيعها لا يجوز على وجه من الوجوه بين المسلمين، فلم يكن للتقويم فيها مسرح، فوجب فيها الرجوع إلى مهر المثل، ولم يجب في المدبر والمكاتب وأم الولد لما بيناه. (52/83)
أو يقال: لا خلاف في أن التزويج على العبد أو غيره إذا لم يعرض ما يمنع من التسليم الصَّحيح فيه يمنع حكم مهر المثل فكذلك ما اختلفنا فيه، والعلة حصول التزويج بما يصح فيه التمول، ومعنى قولنا: يصح فيه التمول هو ما قدمناه في تأتِّي التقويم، وهذا الاعتبار أولى من اعتبار من رده إلى الحر والخمر والخنزير، وأوجب الرجوع إلى مهر المثل وذلك أن مهر المثل أدخل في الجهالة من تقويم ما /73/ اختلفنا فيه، لأن لاعتبار مهر المثل خصائص ليست للتقويم، ولأن العلم بالتقويم أجلى من العلم بمهر المثل لكثرة البلوى بالتقويم، وقلة البلوى بمهر المثل، وقد علمنا في الاعتبار من ان طريق أحدهما إذا كان أوضح وأقوى والعلم به أجلى كان(4) الأولى أن يرجع إليه.
__________
(1) في (أ): وإذا.
(2) في (أ): ثبت.
(3) في (أ): القيمة.
(4) في (أ): فإن.
يبين ذلك أنا إذا اعتبرنا مهر المثل نعتبر عادات البلد وأحوالها في نفسها وشبابها وحسنها وثيوبتها وبكارتها وفقرها وغناها، وحال نسائها في جميع ذلك، كل ذلك ليكون ما يحكم به أبعد من الجهالة، فإذا ثبت ذلك وثبت أن التقويم أبعد من الجهالة من مهر المثل للوجوه التي(1) بيناها كان اعتبارنا أولى. (52/84)
وأيضاً قد ثبت في أصول الضمانات أن الأولى منها ما كان أبعد من الجهالة، لأنَّه لا خلاف أن من استهلك لغيره شيئاً من ذوات القيم لزمته قيمته، لأنَّه أبعد عن الجهالة من طلب المثل.
وقلنا: إن القيمة قيمته يوم عقد النكاح، لأن المرأة إذا استحقت بالعقد قيمتها يؤمئذ فيجب(2) أن توفى ما استحقت.
يبين ذلك أنا لو لم نجعلها مستحقة للقيمة حين العقد كنا جعلنا العقد معرى من المهر فكان لا معنى للتقويم بعد ذلك فسبيلها سبيل من تزوجت على مقدار قيمتها من الدراهم في باب الإستحقاق فوجب ألا تزاد عليه ولا تنقص منه شيئاً.
مسألة [في تقدير مهر المثل]
قال: ونرجع في اعتبار مهر مثلها إلى مهور نسائها من قبل أبيها.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (3)، نحو أخواتها وعماتها وبنات أعمامها، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وحكي عن مالك وعن قوم أن الإعتبار بأمها.
ووجه ما ذهبنا إليه أنها منسوبة إلى أبيها دون أمها، وتشرف بشرف أبيها دون أمها، ألا ترى أن ولد العربي من النبطية عربي، وولد العربية من النبطي نبطي، وقد كان كثير من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمهات الأولاد، فلم يضع ذلك منهم، ولا من شرفهم، وقد قال الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ}، فإذا ثبت أن نسبها من أبيها، كان النسب معتبراً في المهر، ووجب أن يكون الاعتبار بنسائها من قِبَل أبيها، وكل ذلك يوضح ما ذكرناه من أن الاعتبار بأخواتها وعماتها ومن جرى مجراهن، دون أمها وخالاتها.
__________
(1) في (ب): الذي.
(2) في (أ): فوجب.
(3) انظر المنتخب 130.
قال أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى في (النصوص): ويعتبر بمثلها في بلدها، لاختلاف المهور باختلاف البلدان، وفي جمالها وثيوبتها وبكارتها وشبابها، وذلك صحيح؛ لأن اعتبار بعض ذلك ليس أولى من اعتبار بعض، فوجب أن يكون الجميع معتبراً. (52/85)
مسألة [في الزواج على مملوك موصوف]
قال: ويكره للرجل أن يتزوج المرأة على مملوك موصوف، فإن فعل، جاز، ووجب للمرأة على الرجل مملوك كما وصف، فإن اختلفا في الصفة، توسط بينهما من يعرف ذلك.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، ونص فيه على أنَّه إن لم يكن المملوك مضبوطاً بصفة، فلها الوسط من ذلك، وهو قول أبي حنيفة، ووافقنا الشافعي في المملوك الموصوف.
ووجهه: أنا لو أبطلنا هذه التسمية، لزمنا الرجوع إلى مهر مثلها، وقد علمنا أن الجهالة في مهر مثلها أكثر من الجهالة في المملوك الموصوف، على ما بيناه في المسألة التي قبل هذه، فلما كانت الجهالة في مهر المثل أكثر، وكانت في المملوك أقل، وهو المسمى، صار الأخذ به أولى من الرجوع إلى مهر المثل.
ويبين ذلك أن أكثر العلماء، /74/ منهم الشافعي وغيره، ذهبوا إلى جواز السَلم فيه من حيث اعتقدوا أن الجهالة فيه تقل.
والأصل في هذا الباب أن الجهالة في المهر لا تبطله، بدلالة انه لو تزوج على غير مهر مثلها، جاز، ولو تزوجها بغير مهر، جاز، وإذا كان كذلك ينظر فيما يجعل مهراً، فإن كانت الجهالة التي فيه دون جهالة مهر المثل، فالمسمى أولى، وإن كانت الجهالة التي في مهر المثل دون جهالة المسمى، فالرجوع إلى مهر المثل أولى، ولهذا الضرب من الإعتبار قلنا: إن المملوك لو لم تضبط صفته، جاز.
وقلنا: إن لها الوسط؛ لأن الأصل في كل ما يتصول إليه بالإجتهاد من قيم المتلفات وأروش الجنايات أن يؤخذ بالوسط، لأن الوسط ينتسب إلى الأعلى انتسابه إلى الأدنى، فلا يكون فيه حيف على المحكوم له، والمحكوم عليه.
__________
(1) انظر الأحكام 1/402.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما حكاه أبو بكر الجصاص: (أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها، فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها مهر نسائها لا بوكس(1)، ولا بشطط)، فبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجوع فيه إلى التوسط(2) وروى أبو دواد في (السنن) عن ابن مسعود في مهر المثل صداق كصداق نسائها لا وكس ولا شطط) (3). (52/86)
فبان بذلك أجمع صحة ما قلناه من أن لها الوسط من المملوك، ولم يستجيب يحيى عليه السلام ذلك؛ بما فيه من الجهالة مع الإستغناء عنه لما لا جهالة فيه، إذ لا التباس أن مالا جهالة فيه أدنى إلى قطع الخصومة ورضى المتعاقدين، ولا خلاف في أصول العبادات والحكومات أن ما يغنى عن الإجتهاد أولى مما يحوج إليه.
وقلنا: إنَّه يُرجَع إلى من يَعرف ذلك إن اختلفا؛ لأن ذلك هو الأصل في القيم والأروش، وهذا من بابهما.
مسألة [في من تزوج على أمة ثم وطئها]
قال: ولو أن رجلاً تزوج امرأة على أمة بعينها، ثُمَّ وطئها قبل أن يسلمها، درُيء الحد عنه، فإن جاءت بولد، كانت الزوجة بالخيار، إن شاءت أخذتها وأخذت ولدها، وإن شاءت أخذت مهر مثلها، وإن شاءت أخذت قيمتها، وعقرها، وقيمة ولدها، ولم يلحق نسبه نسب أبيه، فإن طلقها قبل الدخول بها، فعليه لها نصف عقرها، والجارية بينه وبينها، وسعى الولد في نصف قيمته ولا تكون الأمة للرجل أم ولد.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(4).
__________
(1) في (أ): بوكش.
(2) في (أ): الوسط.
(3) أخرجه أبو داود في السنن 2/244.
(4) انظر الأحكام 1/403 وفيه: وسعى الولد لها في نصف قيمته.
ووجه درء الحد عنه أن الجارية كانت في ضمانه لا على وجه الغصب، بل لوجوب تسليمها عليه بحق العقد، ولأن الزوج قد جُعل له بعض التبسط في مال الزوجة، وليس يبعد أن يوجِب عليه الحد لو وطئهاً عالماً بالتحريم، لأن أصوله عليه السلام على هذا تدل، كما قد نص عليه في (الأحكام)(1)، على أن من قال لآخر أبحت لك(2) فرج جاريتي هذه، فوطئها عالماً بالتحريم، لزمه الحد، وإن وطئها غير عالم بالتحريم، دريء عنه الحد، وذلك أن درأ الحد للشبهة، فإذا ارتفعت الشبهة، لم يجب درؤه. (52/87)
وقلنا: إنها إن شاءت أخذتها، وأخذت ولدها؛ لأن ما عرض فيها من الولاد عيب ونقص، ولها ـ أعني الزوجة ـ أن ترضى بالعيب، وتأخذ، كما أنها لو وجدت فيها عيباً آخر، كان لها أن ترضى بها معيبة، وكما أن رجلاً لو اشترى سلعة، ثُمَّ وجد بها عيباً قبل القبض أو بعده، كان له الرضى بالعيب وأخذ السلعة.
وقلنا: إنها إن شاءت، أخذت مهر مثلها دونهما، كما(3) أن لها أن تفسخ عقدة المهر بالعيب /75/ الحادث في المهر قبل القبض إذا كان العيب الحادث من قِبَل الزوج، كما أن رجلاً لو اشترى عبداً، ثُمَّ حدث فيه عيب قبل القبض، كان له فسخ البيع، وردُّ المعيب، فكذلك المهر إذا ظهر به(4) قبل القبض، فللمرأة فسخه، وإذا فسخته، تعرى عقدة النكاح عن المهر، فوجب لها مهر المثل، كما أنَّه لو ابتدأ عليها عقد النكاح بغير مهر لزمه لها مهر المثل.
قال أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى: وطؤه لها جار مجرى نقض المهر، فإن أجازت المرأة، انتقض المهر، ووجب مهر المثل، فكأنه جعل ذلك وجه جواز رجوعها إلى مهر المثل.
__________
(1) انظر الأححكام 1/400.
(2) في (أ): قد أبحت لك جاريتي هذه.
(3) في (أ): لأن.
(4) في (أ): فيه.
وقلنا: إنها إن شاءت، أخذت قيمتها، وقيمة ولدها؛ لأن القيمة إذا كانت فوق مهر المثل، فلا وجه، لأن تنقص المرأة عنه لجناية كانت من الزوج، ولأن التراضي كان عليها، فلا وجه للحط، ولأن المسمى أولى من مهر المثل، لما تقدم بيانه، وأوجبنا قيمة الولد مع قيمة الأم، لأن الولد تبع لها. (52/88)
وقلنا: إن نسبه لا يلحق بنسب أبيه، لأن الواطئ مَن ليست ملكاً [له] (1) ولا في حكم الملك، فأشبه وطء المغصوبة، ولا يجب إثبات النسب من حيث درأنا الحد، لأن الحد يُدرأ للشبهة، والنسب لا يثبت للشبهة.
وقلنا: إن طلقها قبل الدخول بها، فعليه نصف عقرها، وهي بينهما، ويسعى لها الولد في نصف قيمته، لأن العقر والولد بمنزلة الأرش، فيجب أن يكون بينهما، وكالزيادة المتصلة؛ لأنها لو زادت في الطول والعرض والسمن كانت الزيادة بينهما، وكذلك الزيادة المنفصلة؛ لأنها زيادة حدثت منها وهي مهر.
وقلنا: يسعى الولد في نصف قيمته؛ لأنَّه لما ملكه الواطئ الأمةَ مع إدعائه إياه، وجب أن يعتق نصفه، كالعبد بين رجلين يقر أحدهما بعتق نصيبه؛ لأن ادعاءه أنَّه ابنه يتضمن الحرية، فثبتت الحرية إذا ملكه المدعي، وإن لم يثبت النسب، كما أن رجلاً لو شهد على عبد غيره بالحرية، ثُمَّ ملكه، وجب الحكم بحريته.
وقلنا: إن الأمة لا تكون أم ولد للرجل؛ لأن النسب لم يثبت للولد حكماً، فلم يجب أن تصير أمه أم ولد، وإن وجبت حرية الولد بتضمن إدعاء الواطيء لأمه حريته.
مسألة [في الجارية أو الدابة تكون مهراً فتنتج]
قال: ولو أن رجلاً تزوج امرأة على جارية أو حجر أو ناقة، فولدت الجارية أو نتجت(2) الحِجْر(3) والناقة، فإنها تأخذها وولدها، فإن مات ولدها قبل أن تقبضها،وأحبت أن تأخذ الجارية بنقصانها، أو الدابة، فذلك لها، وإن شاءت ردتها، وأخذت قيمتها يوم وقع النكاح.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4).
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ب): أنتجت.
(3) الانثى من الخيل.
(4) انظر الأحكام 1/403.
قلنا: إنها إن ولدت قبل أن تقبضها، استحقت المرأة الولَد مع الأم؛ لأنَّه لا خلاف فيه، وكذلك في البيع، ولأن الأم ملك لها، فوجب أن يكون ما ولدته ملكاً لها أيضاً كالأم، كما نقول ذلك في سائر المواضع. (52/89)
وقلنا: إن مات الولد قبل القبض، فلها الخيار بين أن تقبض الأم بنقصانها، وبين أن تأخذ قيمتها؛ لأن لها الخيار بين الرضى بالعيب، وبين أن لا ترضى، فإن لم ترضَ، وأرادت القيمة، كانت القيمة قيمتها يوم عقد النكاح، لما بيناه من قبل أنها استحقت يوم العقد مقدار قيمتها، وأن ذلك جرى مجرى تسميتها، فكذلك لو استحقت، كانت القيمة أولى من مهر المثل.
مسألة [في تلف المهر قبل التسليم]
قال: وإن ماتت الجارية، أو الدابة، كانت لها قيمتها يوم وقع النكاح إن كان الإبطاء بالتسليم من قِبَل الزوج، وإن كان من قِبَل الزوجة، فلها قيمتها يوم ماتت.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ووجهه أنَّه إذا أبطأ بالتسليم، وكان الإمتناع من جهته، كان حكمه حكم الغاصب في أنَّه يضمن قيمة /76/ المغصوب يوم اغتصبه.
وأما إذا كانت هي الممتنعة من قبضها، فقد رضيت أن تكون في يد الزوج، كالرهن برضى الراهن أن تكون في يد المرتهن، فيتحقق الضمان عليه عند التلف، فيجب قيمته عليه يوم(2) تلف عنده، فكذلك المهر إذا امتنعت المرأة من تسليمه.
مسألة [في المهر إذا استُحق]
قال: ولو تزوجها على نخل، أو أرض، أو حيوان، أو غير ذلك، ثُمَّ استُحق، فللمرأة قيمة المستحَق يوم تزوجها عليه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3)، وما بيناه في مسألة من تزوج امرأة على مكاتب، أو مدبر، هو وجه هذه المسألة، فلا طائل في إعادته، على أن الكلام في هذا الموضع أوضح مما مضى؛ لأن هذا مما كان يجوز أن تلحقه إجازة من له الملك، فلا يجب فساده، وليس كذلك المكاتب والمدبر.
مسألة [في الولي يجعل لنفسه شيئاً من المهر]
__________
(1) انظر الأحكام 372.
(2) في (أ): لو.
(3) انظر الأحكام 1/372.
قال: ولو أن ولياً زوَّج حرمته على مهر معلوم، وجعل لنفسه شيئاً مسمى، كان ما جعله لنفسه مهراً للمرأة، إن أحبت، استوفته، وإن أحبت، سلمته للولي. (52/90)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
قال الشافعي: يبطل المهر، وترجع إلى مهر مثلها.
ووجه ما ذهبنا إليه: أنَّه جعل المسمى للمرأة والمسمى لوليها عوضاً لبضعها، فوجب أن يكون الجميع مهراً، كما لو قال: تزوجتها على ألف درهم ومائة دينار، أو على عبد وثوب، أو على ألف معجَّل وألف مؤجَّل، وجب أن يكون الجميع مهراً، لأنَّه جعل الجميع عوضاً للبضع، فكذلك ما اختلفنا فيه، على أن الشافعي يدعي أن الفساد عرض فيه لاشتراط بعضه(2) لوليها، فوجب أن يبطل، فيقال له: قد علمنا أن الشرط الفاسد لا يفسد النكاح إذا انطوى العقد عليه، كأن يشترط أن لا مهر لها، أو ألا يخرجها من مِصرها، أو أن تكون نفقته عليها، فلما كانت الشروط فاسدة، لم يبطل النكاح، ووجب أن لا يبطل ماهو العوض على البضع، على أن أكثر ما فيها أن يعرض الفساد في المهر المسمى، وهذا لا يوجب الرجوع إلى مهر المثل إذا أمكن الرجوع إلى المسمى، وقد بينا فيما تقدم أن الرجوع إلى المسمى أولى من الرجوع إلى مهر المثل، لأن الجهالة في مهر المثل أكثر من الجهالة في المسمى، وقد ثبت فيما تقدم أن المستهلكات لا خلاف في أنَّها على ضربين: ضرب يرجع إلى قيمته إذا كان الرجوع إلى القيمة أبعد من الجهالة، وضرب يرجع إلى مثله إذا كان الرجوع إلى مثله أبعد من الجهالة، وأن مهر المثل أدخل في الجهالة من المسمى، فما أمكن الرجوع إلى مسماه(3) فهو أولى، على أن أحد قولي الشافعي: من تزوج على عبد، فوجده حراً، فعليه قيمته، وقال فيمن تزوج على شيء بعينه، فتلف قبل التسليم: أن على الزوج القيمة، ولم يوجب الرجوع إلى مهر المثل، فكل ذلك يبين على أصله أن فساد المسمى في كل حال لا يوجب الرجوع إلى مهر
__________
(1) انظر الأحكام 1/358.
(2) في (ب): بعضها.
(3) في (أ): المسمى.
المثل، وإن وجب ذلك على بعض الوجوه، على أن الشافعي يقول: إن المهر هو المسمى لها دون ما شرط للولي، فلا وجه لإفساد المهر بفساد ما ليس منه بسبيل. (52/91)
ويؤكد ما ذهبنا إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أدوا العلائق). قيل: وما الطلاق؟ قال: (ما تراضى به الأهلون)، وفي مسألتنا هذه قد رضي(1) الأهلون بالمسمى فوجب أداؤه.
وبقوله: (المؤمنون على(2) شروطهم)، وقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
وروى أبو داود في (السنن) (3) بإسناده عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (أحق الشروط أن توافوا(4) به ما استحللتم به الفروج).
فإن قيل: فهذه الظواهر توجب أن يكون أحد المسمين للولي، وذلك خلاف مذهبكم.
قيل له: ذلك مخصوص بالإجماع؛ إذ لم /77/ يقل أحد أن الولي يستحق ذلك، فسقط، وإذا سقط ذلك، وجب الوفاء بالمسميين، ووجب أن يكونا جميعاً للمرأة.
وحكى ابن أبي هريرة في (التعليق) عن الشافعي أنَّه قال في (الأم): إنَّه إن تزوجها على ألفين على أن يعطي أباها ألفا، كان ذلك جائزاً، وكان الألفان مهراً لها، وهذا يمكن أن يجعل أصلاً يقاس عليه ما اختلفنا فيه، ويمكن أن يعترض به على جميع ما استُدل من جهة فساد المهر إذا تزوجها على ألف وعلى أن لأبيها ألفاً، وتحرير القياس أن يقال: قد أجمعنا على أنه إذا تزوجها على ألفين، على أن يعطي أباها ألفاً، صح المهر، فكذلك ما اختلفنا فيه، والعلة أن الألفين جُعلاً عوضاً للبضع، فوجب أن لايفسد لاشتراطه بعضه لوليها.
مسألة [في الرجل يظهر للمرأة أكثر من المسمى]
قال: ولو أن رجلاً تزوج امرأة على مهر معلوم، وأظهر لها فوق ذلك، لزمه ما أظهر، إلاَّ أن يقيم البينة على ما أسر، فإن لم يقم بينة، فعلى المرأة اليمين.
__________
(1) في (أ): تراضي.
(2) في (أ): عند.
(3) أخرجه أبو داود في السنن 2/250.
(4) في (أ): أن توافوا به فاستحللتم به من الفروج.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) ومروي فيه عن القاسم عليه السلام. (52/92)
ومعنى قولنا: إنَّه يلزمه ما أظهر ـ إنَّما هو في ظاهر الحكم، فأما فيما بينهما وبين الله تعالى، فعليهما أن يتصادقا، والمهر هو مهر السر فيما بينهما وبين الله تعالى؛ لأن النكاح انعقد عليه، والزائد تسمية لا حكم له، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
ووجهه: أن الذي أُظهر من المهر قد ثبت، فإذا ادعى الزوج أن بعض الثابت لا حكم له، وأنكرته المرأة، صار الزوج مدعياً، والمرأة منكرة، فوجبت البينة على الزوج، واليمين على المرأة؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <البينة على المدعي، واليمين على(2) المنكر>.
فإن قيل: ألستم قد قلتم في قِيم المتلفات إذا اختلف فيها الْمُتلِف ورب الشيء أن البينة على مدعي الأكثر، واليمين على المنكر، فكيف جعلتم البينة في هذه المسألة على الزوج وعلى أن المرأة هي التي تدعي الأكثر؟
قيل له: ليس الإعتبار في هذا الباب بالقلة والكثرة، وإنما الإعتبار بالدعوى والإنكار، والمدعي هو الذي يدعي خلاف الظاهر، والمنكر هو المستصحب للظاهر، والبينة أبداً على المدعي، واليمين على المنكر المدعَى عليه، ألا ترى أن رجلاً لو أقر لرجل بألف درهم، ثُمَّ ادعى بعد ذلك أنَّه قد ابرأه المقر له من خمسمائة درهم، كانت اليمين يمين المدعي للأكثر؛ لأنَّه هو المنكر في الحقيقة، والمستصحب لظاهر الإقرار، فكذلك في مسألتنا هذه.
مسألة [في الوكالة في النكاح]
قال: ولو أن رجلاً قال لرجل: زوجني فلانة بألف درهم، فزوجه إياها بألفين، وأجاز ذلك الرجل، جاز، وإن لم يُجز، بطل، وإن قال: أرضى بالعقد، ولا أرضى من المهر إلاَّ بألف، عرض ذلك على المرأة، فإن رضيت، ثبت النكاح، وإن أبت، انفسخ.
__________
(1) انظر الأحكام 1/354.
(2) في (أ): المدعى عليه.
ولو أن رجلاً وكل وكيلاً بتزويج(1) حرمته على ما يرى من المهر، فزوجها على دون مهر مثلها بما يتغابن بمثله الناس، جاز، وإن كان مما لا يتغابن في مثله الناس، كان لها مهر مثلها، فإن أحب الزوج، وفاها(2)، وإن أحب، فارقها، ولها نصف ما سمى لها، وإن زوجها على أكثر من مهر مثلها، جاز. (52/93)
وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (3).
ووجه مسألتنا الأولى أن الرجل لما قال لوكيله: زوجني فلانة على ألف درهم، فزوجه إياها بألفين، كان العقد الواقع غير ما أمر به الموكِل، فوجب أن لا ينبرم، وإن توقف على إجازته، فكذلك قلنا: إنَّه إن أجاز جاز، وإن لم يُجز، بطل، فإن قال: رضيت بالعقد دون المهر لا يكون أيضاً العقد على جهته، فلم يجب أن ينبرم، ولم يخرج من أن يكون موقوفاً على رضى المرأة، ألا ترى أنَّه رضي بغير ما وقفت المرأة عليه، فجرى ذلك مجرى أن يقول: أجزت العقد بشرط أن /78/ ترضى المرأة بألف، فلم يجب أن تكون إجازته مطلقة، فلذلك قلنا: إنها إن رضيت، ثبت النكاح، فإن أبت، انفسخ النكاح.
ووجه المسألة الثانية: أن وكيل ولي المرأة إذا زوج بما يتغابن في مثله الناس من مهر مثلها لم يكن عليه معترض؛ لأنَّه يكون فعل ما وكل به، وما وقع فيه من التقصير في حكم مالم يقع.
فأما إذا زوَّجها بدون مهر مثلها بما لا يتغابن بمثله الناس، فالعقد ثابت بينه وبين الزوج، وإنما يقع للمرأة الخيار بين أن ترضى(4)، أو تطالب بكمال مهرها، فإن امتنع الزوج من ذلك، طلقها، ولزمه لها نصف المسمى؛ لأنَّه طلاق وارد قبل الدخول مع التسمية، فوجب نصف المسمى.
فأما إن كان زوَّجها على أكثر من مهر مثلها، فهو جائز؛ لأن العقد وقع على زيادة رضي بها الزوج.
مسألة [في جعل عتق الأمة مهرها]
__________
(1) في (أ): بتزوج.
(2) في (أ): وفاها.
(3) انظر الأحكام 1/403، 373، 374.
(4) في (أ): ترضى به.
قال: ولا بأس أن يجعل الرجل عتق أمته مهرها ويتزوجها عليه، فإذا أراد ذلك، فليراضيها على ذلك، فإن رضيت قال: قد جعلت عتقك مهرك، فأنت على ذلك حرة لوجه الله تعالى، ويُشهد على ذلك تأكيداً، فإن أبت الأمة أن تتزوجه بعد ذلك، لزمتها قيمتها تسعى فيها. (52/94)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وقال الشافعي، وأبو حنيفة، ومحمد، يجب لها المهر إن تزوجته بعد ذلك. والأصل فيه: ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر للحق الحسن بن علي، عن محمد بن منصور، عن(2) راشد، عن نصر، عن إسرائيل، عن أبان، عن ابن عباس، عن أنس، قال: أعتق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفية، وجعل عتقها صداقها.
وأخبرنا أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبان، وحماد بن زيد، قال: حدثنا شعيب بن الحبحاب، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها(3).
وأخبرنا أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا أحمد بن دواد، حدثنا يعقوب بن حميد، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أبي عون، قال: كتب إليَّ نافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ جويرية في غزوة بني المصطلق، فأعتقها، وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، أخبرني بذلك عبدالله بن عمر، وكان في الجيش(4).
فإن قيل: روي عن عائشة أنها قالت: أن جويرية بنت الحارث كانت وقعت في سهم لثابت بن قيس، أو لابن عمر، فكاتبته، فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تستعين به على كتابتها، قالت فقال لها: <فهل في خير من ذلك أقضى عنك كتابتك، وأتزوجك؟> قالت: نعم. قال: <قد فعلت>، فدل ذلك على تزوجه إياها صلى الله عليه وآله وسلم بعد عتقها.
__________
(1) انظر الأحكام 369 ـ 370.
(2) في (ب): بن. وهو وهم.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/20.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/20 وفيه عن ابن عون.
قيل له: ليس في الحديث أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أدى كتابتها حتى عتقت، ثُمَّ تزوجها، وإنما فيه أنَّه عرض ذلك عليها، ويجوز أن يكون الأمر لم يتم في ذلك حتى ملكها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ أعتقها، وجعل عتقها صداقها، ليكون ذلك جمعاً بين الخبرين، على أن عائشة ذكرت أنها كانت في سهم لثابت، أو لابن عمر، فلم تكن عرفت القصة على التحقيق، على أن جويرية إن كانت في سهم ابن عمر، فهو لا شك أعرف بحقيقة الأمر من عائشة، فيجب أن يحمل قول عائشة على قول ابن عمر وروايته. (52/95)
فإن قيل: فيحتمل أن يكون ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّه كان جائزاً له /79/ أن يتزوج بغير صداق، وذلك غير جائز لنا.
قيل له: ليس في الحديث أنَّه تزوجها بغير صداق، وإنما فيه أنَّه جعل عتقها صداقها فهو إذاً لم يتزوجها إلاَّ بالصداق، وإنما جعل عتقها صداقها، وذلك مما لا حجة لكم فيه.
ومما يدل على ذلك أنَّه لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة ومحمد أنَّه لو راضاها على ذلك، ثُمَّ أعتقها، فامتنعت من أن يتزوجها، أن له عليها قيمتها تسعى فيها، فإذا ثبت ذلك ثبت، أن هذا العتق قد ألزمها مالاً، فغير ممتنع أن يتزوجها على ذلك المال، ألا ترى أنَّه لو اعتقها على ألف، كان له أن يتزوجها بذلك الألف، فكذلك ما اختلفنا فيه، والعلة أنَّه تزوجها على مال موجِب للعتق، وليس قولنا في صفة المال أنَّه موجَب بالعتق؛ لأنَّه من صفات العلة، بل لبيان جهة المال، وإلا فالعلة أنَّه تزوجها على مال، فليس لأحد أن يدعي علينا أنا زدنا في العلة وصفاً لا يؤثر.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون سبيله سبيل نكاح الشغار؟
قيل له: لا يشبه ذلك نكاح الشغار من وجه، وذلك أن نكاح الشغار يقع عقده فاسداً؛ لأن فيه استثناء بعض ما أوجبه العقد على ما سلف القول فيه، ولا خلاف أن العقد الذي ذكرناه يصح، وإنها الخلاف في إيجاب مهر آخر سوى ما لزمها من القيمة، على أن نكاح الشغار ليس فيه إيجاب(1) مال، وقد بينا أن ما اختلفنا فيه مال به انعقد النكاح. (52/96)
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون مالزمها من ذلك لا يجوز أن يُجعل، صداقها، لأنَّه قيمتها، وهي مجهولة؟
قيل له: قد يجوز أن تكون قيمتها معلومة لهما جميعاً، فسقط هذا السؤال، على أنها وإن كانت مجهولة، فلا يفسد(2) أن يكون مهراً؛ لأن دخول الجهالة في المهر لا تبطله، ألا ترى أنَّه لو تزوجها على وصفٍ موصوف، أو غير موصوف، جاز ذلك، ولم يجب الرجوع إلى مهر المثل، وقد بينا فيما تقدم أن من تزوج على مكاتب، أو مُدَّبر، أو أم ولد، وجب الرجوع إلى قيمتهم دون مهر المثل، والأصول تشهد لصحة ما ذهبنا إليه، وذلك أنَّه لا خلاف أن من تزوج امرأة على سكنى دار مدة، أو خدمة عبد مدة، جاز ذلك؛ لتعلق جميع ذلك بضمان ماهو مال، وقد حكي عن زفر أنَّه قال: إن امتنعت أن تتزوجه بعد ذلك، لم تضمن شيئاً، ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه اعتقها برضاها على بدل اشترطه عليها، فلما امتنعت من البدل، لزمتها(3) قيمة ما أفادتته من ملكه دليله لو أفاتته غير ذلك من ملكه.
مسألة [في عتق الأمة قبل مراضاتها أن عتقها مهرها]
قال: ولو أنَّه قال: قد أعتقتك قبل مراضاتها، وقوله لها: قد جعلت عتقك مهرك، ثُمَّ أبت المرأة أن تتزوجه، لم يكن عليها شيء.
وهذا منصوص عليه في (لأحكام) (4).
__________
(1) في (ب): إيجاب بمال.
(2) في (أ): يبعد.
(3) في (أ): لزمها.
(4) انظر الأحكام 369، 370.
ووجهه أنَّه أعتقها من غير أن يشترط(1) عليها بدلاً من عتقها، فوقع العتق، فلم يكن له عليها سبيل، كما أنَّه لو أعتقها من غير هذا الحديث عتقاً مطلقاً، لم يكن له عليها سبيل. (52/97)
مسألة [في المرأة تهب مهرها لزوجها قبل الدخول]
قال: ولو أن رجلاً تزوج امرأة على مملوك، فقبضته منه، ثُمَّ وهبته له قبل أن يدخل بها على سبيل صلة الرحم إن كان بينهما، أو كانت الهبة لوجه الله تعالى، ثُمَّ /80/ طلقها قبل أن يدخل بها لم يكن لها أن ترجع عليه فيما وهبته، وكان له أن يرجع عليها بنصف قيمة العبد، وإن كانت وهبته له استعطافاً له واستمالة لقلبه، كان لها أن ترجع عليه بالعبد، وله أن يرجع عليها بنصف قيمته.
وهكذا القول لو تزوجها على عين(2) أو وُرق أو غيرهما.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
أما الكلام في أحكام الهبات وما يجوز الرجوع فيها، ومالا يجوز، فسيأتي في كتاب الهبات إن شاء الله تعالى.
ووجه قولنا: إنها لو وهبت(4) مستميلة لقلبه، جاز لها الرجوع فيها؛ لأن هذه هبة على ما يجري مجرى العوض، فإذا فقدت العوض، جاز لها الرجوع فيها، كما لو وهب واهب على عوض معين جاز له الرجوع فيها متى لم يصل إلى العوض.
__________
(1) في (أ): يشترط.
(2) في (ب): غيره.
(3) انظر الأحكام 1/370، 371.
(4) في (أ): وهبته.
ووجه قولنا: إن الزوج يرجع عليها بنصف قيمة العبد: أن الطلاق يوم وقع لم يكن العبد في ملك المرأة، وكان في حكم المستهلكات، لأنها تملكه بالرجوع وإجابة الزوج، أو حكم الحاكم، فإذا كان كذلك، لم يستحق الزوج عليها إلاَّ نصف قيمته؛ لأن سبيلها سبيل من أخذ العبد، ثُمَّ استهلكه، ثُمَّ طلقها الزوج قبل الدخول في أنَّه لايرجع عليها إلاَّ بنصف قيمة العبد، ورجوع العبد عليها بعد ذلك لا يغير حكم استحقاق الزوج لما استحقه، وكذلك الهبة إن كانت هبة لا يجوزالرجوع فيها يجب للزوج نصف قيمة العبد لكون العبد مستهلكاً، قال أبو حنيفة: لا يرجع عليها بشيء، لأن ما استحقه قد رجع إليه بغير ضمان، وهذا غير مسلم، لأن ما استحقه الزوج في تلك الحال نصف قيمة العبد دون العبد على ما بيناه، على أنَّه لا يخالف أن ذلك لو كان ذهباً أو وُرْقاً، رجع عليها بنصف ذلك، فكذلك ما سواهما، والعلة أنَّه نصف ما قام مقام المهر، على أن رجوع ذلك إليه من غير ضمان لا معتبر به إذا لم يرجع إليه من الجهة التي استحق. (52/98)
فأما إن كان العبد قائماً بعينه على ما كان عليه يوم قبضه، فالمذهب يقتضي أن يكون بين الزوج والزوجة نصفين، وكذلك إن كان ما تزوجها عليه عيناً، أو وُرْقاً، أو غيرهما، ثُمَّ طلقها قبل الدخول، والأصل في جميع ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ..} الآية.
مسألة [في الشرط في النكاح]
قال: فإن تزوجها على أن يكون المهر عليها، كان الشرط فاسداً، وللمرأة على الرجل مهر مثلها، وكذلك لو تزوجها على أن لا يخرجها من مصرها، أو من قرب والديها، أو على أن يكون الجماع بيدها، أو الطلاق، كان ذلك كله فاسداً، فإن كانت نقصت من أجل ذلك الشرط شيئاً من مهرها، كان لها مهر مثلها متى لم يفِ الزوج بما شرط لها تخريجاً، وكذلك لو شرط الزوج لنفسه عليها أن لا ينفق عليها، أو تنفق هي عليه، لم يلزمها الوفاء له به.
وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (1)، خلا ما ذكرناه من التخريج فإنه مخرج على ما نص عليه في (المنتخب) (2) فيمن باع وشرط شرطاً ثبت البيع دونه إذا نقص من الثمن شيئاً للشرط، كان له الرجوع فيما نقص متى لم يقع الوفاء بالشرط. (52/99)
ووجه قولنا: إن الرجل إذا تزوج على أن يكون المهر على المرأة فسد الشرط، ووجب لها مهر المثل، لأن بضع المرأة هو الذي يملك عليها، فلا /81/ يجوز أن يلزمها العوض، فوجب فساد هذا الشرط، ولم يفسد النكاح؛ لأن الأصل في الشروط الفاسدة أنها لا تفسخ النكاح إذا لم يقتض وقوع العقد على غير وجه الصحة، وكان الشرط منفرداً عن العقد، وأوجبنا فيه مهر المثل؛ لأنَّه نكاح بعقد بغير مهر، وقد مضى الكلام في أن النكاح المعقود على غير مهر يجب فيه مهر المثل، فلا وجه لإعادته، وكذلك سائر الشروط التي ذكرناها لا تثبت، لأنها لا يقتضيه العقد، وتقع منفردة عن العقد، فلا يجب الوفاء بها.
__________
(1) انظر الأحكام 1/376، 358، 359.
(2) انظر المنتخب 194 ـ 195.
ووجه قولنا: إنها إن كانت نقصت من أجل ذلك الشرط شيئاً من مهر مثلها، كان لها مهر مثلها، إذا لم يَفِ الزوج بتلك الشروط؛ لأنَّه شرط منفعة مع المسمى من المهر، فكانت المنفعة المشروطة جارية مجرى تمام مهر مثلها، ولم يلزم الزوج تسليمها؛ لأنها ليست مهراً صحيحاً، فلما كان ذلك كذلك، ولم يفِ الزوج لها بذلك، وجب أن تبلع بالمسمى مهر المثل؛ إذ لا بد مما يقوم مقام المنفعة المشروطة، كما أنَّه لو تزوجها على مسمى دون مهر مثلها وعبد فوجد العبد حراً أنه لا بد لها مما يقوم مقام العبد المشروط؛ لأنها لم ترضَ بدون مهر مثلها إلاَّ مع المنفعة المشروطة لها، يكشف ذلك أن من باع عبداً بثمن لا يلزمه تسليم العبد إلاَّ بعد استيفاء ماهو عوض للعبد، فكذلك المرأة لا يلزمها تسليم بضعها إلاَّ بعد استيفاء ماهو عوض له، وكمال عوضه هو مهر مثلها، أو المسمى مع المنفعة المشروطة لها، فوضح ما بيناه أن الزوج متى لم يَفِ لها بالمنفعة المشروطة التي كان المهر مقصراً لأجلها عن كمال مهر المثل، لزمه تبليغ مهر مثلها. (52/100)
فإن قيل: أليس لو تزوجها على هذه المنفعة من غير مسمى أوجبتم(1) لها مهر المثل، وإن وفى بالشرط، فما أنكرتم على من قال لكم: إنَّه لا بد لها من كمال مهر مثلها، وإن وفي الزوج بالشرط؟
__________
(1) في (أ): أو ضم. والصواب ما أثبتناه في هامشها.
قيل له: قلنا ذلك في الموضع الذي سألتم عنه؛ لأنَّه ليس هناك ما يجوز أن يكون مهراً على وجه من الوجوه، وقد ثبت أنَّه لا بد في النكاح من المهر، فكذلك أوجبنا لها مهر المثل، وفي مسألتنا هذه قد سمى(1) لها ما يجوز أن يكون مهراً في الشرع، ورضيت المرأة بكمال مهر مثلها بما شرطت، وكمالها حق يتجرد(2)، فوجب أن يكون رضاها محكوماً به، ولم يكن كذلك فيما سألتم عنه؛ لأن ابتداء المهر، وإن كان لها فيه حق(3)، فإنه ليس بحق لها مجرد، بل هو حق الله(4) تعالى، فلم يكن رضاها بإسقاطه محكوماً به. (52/101)
مسألة [في الزوجين إذا أسلم أحدهما]
وإذا كان الذمي تحته ذمية، فأيهما أسلم قبل صاحبه، وقعت الفرقة، وللمرأة المهر، كملاً إن كان الزوج دخل بها، أو نصف المهر إن لم يكن دخل بها. قد(5) نص في (الأحكام)(6) على ما ذكرناه من إيجاب المهر كملاً بعد الدخول، أيهما أسلم قبل صاحبه، ونص فيه على أن الرجل إذا أسلم قبل الدخول، ولم تسلم المرأة، كان لها نصف المهر، وكنا سوينا بين ذلك وبين أن تكون المرأة هي التي أسلمت قبل الدخول، فأقام(7) الزوج على الذمية في إيجاب نصف المهر لها تخريجاً، ثُمَّ تأملنا أصول يحيى عليه السلام أفضل تأمل، وراعينا ما حصله أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى في /82/ (النصوص) من مذهبه في هذا الباب، فكان الأولى التفرقة بين المسألتين، وأن لا يحكم للمرأة بشيء من المهر إن كانت هي التي أسلمت قبل الدخول، وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة على الضد من ذلك في المسألتين.
__________
(1) في (ب): يسمى.
(2) في (أ): يتجدد.
(3) في (ب): جزء.
(4) في (أ): لله.
(5) في (أ): وقد.
(6) انظر الأحكام 1/394، والكلام فيه حول من أسلم ثم ارتد قبل أن تسلم زوجته.
(7) في (أ): وأقام.
ووجه ما قلناه من أن المهر يجب كملاً إذا أسلم أيهما كان بعد الدخول، مع أنَّه مما لا أحفظ فيه خلافاً أن الوطء قد وقع في نكاح صحيح، فوجب أن يحصل به استحقاق المهر كملاً، ولم يجب أن يبطل ما استحقته من ذلك بما طرأ على النكاح مما أوجب فسخه وارتفاعه. (52/102)
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <فإن دخل بها، فلها المهر بما استحل من فرجها>، فأوجب المهر بالدخول في النكاح.
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لما لاعن بين عويمر العجلاني، وبين زوجته، قال عويمر: مالي مالي ـ يعني ما أعطاها من المهر ـ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فيما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد>، فأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنها قد استحقت المهر بما استحل من فرجها، وأما إذا كان الإسلام قبل الدخول، فمن أيهما وقع، كانت الفرقة من جهته، فإن كان الزوج هو الذي أسلم، فالفرقة من جهته، فوجب أن يحكم لها بنصف المهر، لأن الفرقة إذا كان من جهة الزوج، وجب ذلك،
وإن كانت المرأة هي التي أسلمت دون الزوج، فالفرقة من جهتها، فوجب أن لا يحكم لها بشيء من المهر؛ لأن الفرقة متى جاءت من قبلها قبل الدخول، بطل حقها من المهر.
فإن قيل: إن الإسلام لا يوجب الفرقة، وإنما الموجب لها هو الكفر، فوجب أن يقال في المسألتين على الضد مما قلتم.
قيل له: عندنا أن الإسلام قد يوجب الفرقة كما يوجبها الكفر؛ لأن الله تعالى حرم النكاح بين المؤمنين والكافرين، فلم يكن الكفر(1) أن تتعلق به الفرقة أولى من الإسلام، فإذا ثبت ذلك، كان الأولى بأن يتعلق حكم الفرقة بالطارئ منهما دون الثاني(2)؛ لأنَّه هو المجاوز للحكم، ألا ترى أنهما لو بقيا على ذمتهما، لم تقع الفرقة، بينهما حتى إذا أسلم أحدهما حصلت الفرقة فكان الإسلام هو المجاوز للحكم، فيجب أن يكون هو العلة، ألا ترى أن المسلمين إذا ارتد أحدهما حصلت الفرقة بينهما، فكان سبب الفرقة بينهما هو الكفر؛ إذ هو المجاوز للحكم دون الإسلام الذي لو بقيا عليه لم تجب الفرقة. (52/103)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن الإباء للإسلام هو الموجب للفرقة في مسألة الذميين، فيكون هو المجاوز للحكم، ويبطل على هذا ما ذهبتم إليه؟
قيل له: ليس إباء من أبى منهما الإسلام، أكثر من بقائه على الكفر، وليس ذلك بأمر طارئ، وإنما الطارئ هو ،الإسلام فكان تعليق الحكم به أولى.
فإن قيل: أو ليس قد قال يحيى(3) عليه السلام في الذمية البالغة إذا كانت تحت ذمي صغير، فأسلمت: إنها(4) توقف إلى أن يبلغ الزوج، فيسلم، أو يكفر، فلم يجعل طرو الإسلام موجباً للفرقة؟
قيل له: لا نسلم(5)؛ لأنا لا نجعل طرو الإسلام موجباً للفرقة في كل موضع، وإنما نقول: إن الفرقة إذا حصلت، فتعلقها بالإسلام الطارئ أولى من تعليقها بالكفر الباقي، وفي المسألة التي ذكرتها لم /83/ تحصل الفرقة لأنها لا تحصل عندنا بمجرد الإسلام مالم يضامه انقضاء العدة في المدخول بها.
مسألة [في ردة الزوج أو الزوجة]
قال: وإذا ارتد الرجل عن دينه، وجب للمرأة عليه المهر، وإن ارتدت دونه، فلا مهر لها تخريجاً، إلاَّ أن يكون دخل بها.
__________
(1) في (أ): للكفر بأن.
(2) في (أ): الباقي.
(3) انظر الأحكام 1/395.
(4) في (ب): إلى أنها.
(5) في (ب): يلزم.
أصول يحبى بن الحسين صلوات الله عليه توجب ما ذكرناه؛ لتنصيصه على أن الردة توجب الفرقة(1)، وتعليقه حكم الفراق بالطارئ، فإذا طرأت الردة على الإسلام فيجب أن تكون الفرقة من جهة من ارتد من زوج أو زوجة، على ما بيناه في المسألة التي قبلها، فلذلك(2) قلنا إن الردة إن كانت من الزوج، وجب للمرأة نصف المهر، وإن كانت من المرأة، فلا شيء لها؛ لأن الفرقة تكون من قِبَلها، فلذلك(3) لم نوجب لها شيئاً من المهر، فإما إن وقعت الردة من أيهما كان بعد الدخول، فيجب المهر؛ لأن الطارئ على النكاح طرأ بعد استحقاق المرأة ما استحقته من المهر بدخول الزوج، فلا يبطل ما استحقته، كما لا يبطل سائر حقوقها من الأموال على ما أوضحناه في المسألة التي قبل هذه. (52/104)
مسألة [في تسمية المهر بعد العقد]
قال: وإذا تزوج الرجل المرأة، ولم يفرض لها مهراً، ثُمَّ فرض لها بعد العقد، لزمه ما فرض لها.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (4).
وهذا مما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف إذا فرض لها بعد العقد، وطلق المرأة قبل الدخول بها، فإن أبا حنيفة قال: يسقط المسمى، وتجب المتعة، وقال الشافعي: يجب نصف المسمى، وعليه يدل ظاهر قول يحيى عليه السلام؛ لأنَّه قال في أول النكاح من (الأحكام) (5)، وحكم التي لم يدخل بها، ووقع طلاقها، بنصف ما فرض لها، فلم يشرط(6) أن يكون الفرض مع العقد أو بعده.
والدليل على صحة ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمُسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيْضَةً فَنِصْف مَا فَرَضْتُمْ} فأوجب نصف المهر المفروض، ولم يستثن ما فرض منه بعد العقد للنكاح، فوجب أن يستوي فيه حكم ما فرض مع العقد أو بعده.
__________
(1) انظر الأحكام 1/394، 395.
(2) في (أ): فكذلك.
(3) في (أ): فكذلك.
(4) انظر المنتخب 130.
(5) انظر الأحكام 1/341.
(6) في (أ): يشترط.
ويقاس على التسمية في حال العقد، بعلة أنَّه تسمية مهر صحيح، فوجب أن تستحق المطلقة قبل الدخول نصفه، ويمكن أن يقال: هو مسمى يستقر بالموت، أو الدخول(1) فوجب أن تستحق المطلقة قبل الدخول نصفه. (52/105)
فإن قيل: هو بمنزلة مهر المثل فوجب أن يسقطه الطلاق.
قيل له: هذا شاهد لملتنا؛ لأن مهر المثل لما لم يكن مسمى مفروضاً، أسقطه الطلاق كله، فأما أن يسمى مهر المثل وفرض، فإنه لا يسقطه عندنا الطلاق، بل يجب نصفه.
فإن قيل: فإن هذه التسمية ملحقة بالعقد، وقد بطل العقد، فوجب أن يبطل ما أُلحق به.
قيل له: وما في أنها ملحقة بالعقد ما يوجب بطلانه ببطلان العقد، ألا ترى أن المسمى مع العقد تعلقه بالعقد أوكد من تعلق الملحق به، ولم يجب أن يبطل المسمى مع العقد لبطلان العقد، فوجب أن لا يبطل الملحق بالعقد لبطلان العقد، على أنا وجدنا الطلاق من شأنه أن يقرر نصف ما يقرره الموت والدخول، فكما أن المسمى بعد العقد يقرره الموت والدخول، وجب أن يكون الطلاق يقرر نصفه.
مسألة [في موت أحد الزوجين بعد تسمية المهر]
قال: وإذا تزوجها على مهر معلوم، فمات أحدهما قبل الدخول، أو بعده، وجب المهر كاملاً.
نص في (المنتخب) (2) في مسألة الصغيرين إذا زوجهما أبواهما وهما طفلان راضعان، فمات الصبي أن المهر يلزم.
ونص في (الفنون) (3) على /84/ أن موت المرأة قبل الدخول يوجب المهر، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً إلاَّ عن الناصر عليه السلام، فقد حكي عنه أنَّه كان يشبه الموت بالطلاق، ويوجب بالموت نصف المهر كما يوجب بالطلاق، والإجماع يحجه، ويعترض قوله، لأن الصدر الأول اختلفوا فيمن مات، [ولم يفرض] (4) ولم يدخل، فأما من مات وقد فرض، فلم يختلفوا فيه.
__________
(1) في (ب): والدخول.
(2) انظر المنتخب 128.
(3) انظر الفنون 427 ـ 428.
(4) سقط من (أ).
ويدل على ذلك أن عقد النكاح عقد مؤبد، ومعنى قولنا: مؤبد أنَّه باق إلى الموت مالم يعرض ما يوجب إبطاله، فصار الموت موجباً حصول ما أوجبه العقد، فوجب أن يستحق العوض كملاً، كما أن من استأجر داراً شهراً، وخلي بينه وبينها، فلم يسكنها حتى مضي الشهر، يستحق عليه الأجرة، لما حصل من استيفاء الزمان الذي اقتضاه العقد، فكذلك المهر مع الموت. (52/106)
ويمكن أن يقاس أيضاً مدة العمر على الدخول في وجوب استيفاء المسمى، والمعنى أن أحد موجبي العقد يحصل به.
مسألة [في موت الزوج قبل تسمية المهر]
قال: وإن تزوجها، ولم يفرض لها مهراً، ثُمَّ مات قبل الدخول، فلا مهر لها.
وقال في (المنتخب) (1): لها مهر مثلها، فإن مات بعد الدخول، فلها المهر، ما ذكرناه أولاً هو رواية (الأحكام) (2)، وهو قول القاسم عليه السلام، وهو الأصح عند أصحابنا، وكان أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى يتأول رواية (المنتخب).
ويجعل الروايتين كالرواية الواحدة، والمعتمد رواية الأحكام، وهذا أحد قولي الشافعي قال أبو حنيفة بمثل رواية المنتخب، والذي يدل على ما حكيناه أولاً ـ حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي (عليهم السلام) (3) في رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقاً، ثُمَّ توفي قبل أن يفرض لها، وقبل أن يدخل بها، قال: لها الميراث، وعليها العدة، ولا صداق لها.
وروي نحوه عن زيد، وابن عمر.
فإن قيل: روي عن عبدالله خلافه.
__________
(1) انظر المنتخب 130.
(2) الذي في الأحكام 1/355: (إذا تزوج الرجل المرأة ثم مات عنها ولم يكن سمى لها مهراً فأن لها الميراث وعليها عدة المتوفى عنها زوجها). قال: (وكذلك لو أنه تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها مهراً كان لها المتعة ولا مهر لها).
(3) سقط من (ب).
قيل له: هو قول علي عليه السلام وهو أولى من قوله، أما على أصول أصحابنا، فلأنا نوجب اتباعه، وأما على غير هذا الأصل، فلأن فيما روي عن عبدالله ما دل على أنَّه قال باجتهاد، ألا ترى أنَّه قال(1): أقول فيه برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله تعالى، وإن يكن خطأ فمن الشيطان. (52/107)
وفي قول علي عليه السلام ما يدل على أنَّه قال بالسنة، ألا ترى أنَّه قال فيمن روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا نقبل(2) قوله على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدل ذلك على أنَّه كان يقول ما يقول في ذلك عن السنة.
فإن قيل: فقد قال معقل بن سنان الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بذلك في امرأة يقال لها: بروع بنت واشق.
قيل له: قد سقط خبره عندنا بتجريح(3) علي عليه السلام له، لأنَّه قال: لا نقبل قول اعرابي بوال على عقبيه على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن شرط خبر الواحد أن يسلم سنده، ولا جرح أقوى من جرح علي عليه السلام.
فإن قيل: فأنتم قبلتم خبر فاطمة ابنة قيس في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل لها سكنى، ولا نفقة، مع جرح عمر لها، فما أنكرتم على مخالفكم إذا قبل خبر معقل مع جرح علي عليه السلام؟
قيل له: عن هذا جوابان ـ
أحدهما: أن على أصولنا ليس جرح علي عليه السلام كجرح عمر.
والثاني: أن عمر جرحها بما ليس بجرح(4)، فلم يلزم قبول جرحه، لأنَّه قال: لا نقبل(5) حديث امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، ولأن كان /85/ هذا طعناً فيها، فيجب أن تبطل أخبار الآحاد، لأن هذا قائم في جميع الرواة، فلما ثبت ذلك، بطل جرحها.
__________
(1) في (أ): قال فيه.
(2) في (ب): يقبل.
(3) في (أ): بجرح.
(4) في (أ): يجرح به.
(5) في (ب): يقبل.
وأما علي عليه السلام فجرح معقلاً بما هو في الحقيقة جرح، ألا ترى أنَّه قال: لا نقبل قول أعرابي بوال على عقبيه، وهذا وصف من لا يعرف الفرائض والسنن، ولا يعمل بها، وهو أبلغ في الجرح، فوجب صحة جرحه وسقوط حديثه، وروي عن الزهري أنَّه قال لم يزل الناس ينكرون هذا الحديث. (52/108)
فإن قيل: فقد قبله عبدالله بن مسعود.
قيل له: لو ثبت أنَّه قبله، كان جرح من جرحه أولى؛ لأن الجرح أقوى من التعديل، على أنَّه لا يثبت أن عبدالله قبله، لأنَّه كان حكم [فيه] (1) باجتهاده قبل سماع هذا الخبر، وإنما روي أنَّه لما سمع هذا الخبر سُرَّ به، وهذا لا يدل على أنَّه قبله، ولا على أنَّه عمل به.
ومما يدل على ذلك ـ أنَّه لا خلاف في أنَّه لو طلقها قبل الفرض والدخول، كان لا مهر لها، فكذلك إذا مات قبلهما(2)، والمعنى أنَّه فراق حصل قبل الفرض والدخول، وأيضاً لو حصلت الفرقة بينهما في حال حياتهما، لم يجب لهما مهر، كذلك إذا حصلت بالموت، دليله لو كان جرى بينهما عقد فاسد، أو كانت أم ولد، يوضح ذلك أن الموت يقرر ما أوجب لها في حال الحياة، وقد علمنا أن قبل الموت لم يجب لها شيء، فوجب ألا يجب بالموت كما لا يجب بالإرتداد.
فإن قيل: فإن مهر المثل يجب بالعقد، فوجب أن يؤكد بالموت كالمسمى.
قيل له: لسنا نسلم أن مهر المثل يجب بالعقد، وإنما يجب بتراضيهما، أو بحكم الحاكم به مع اختيار الزوج لبقاء النكاح، ألا ترى أنَّه لو اختار فراقها، لم يحكم الحاكم به، وكذلك لو تراضيا بدونه، أو بأكثر منه، لم يجب، فبان أنَّه لا يجب بالعقد.
فإن قيل: الزوج قد ملك البضع بالعقد، وغير جائز استباحته بغير بدل، فإذاً قد ملك عليه البدل.
قيل له: لا نختلف أن هذا العقد يصح بغير بدل، وإنما يجب لها البدل بعد ذلك بشرائط ذكرناها، ألا ترى أنَّه لو لم يكن يصح إلاَّ بالبدل، لوجب(3) أن يفسده فساد البدل كالبيع والإجارة.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ب): قبلها.
(3) في (ب): لو وجب.
فإن قيل: لولا أنَّه واجب لها، لم يحكم الحاكم لها به. (52/109)
قيل له: قد(1) علمنا أن الحاكم يحكم لها مع اختيار الزوج لتبقية النكاح، ولسنا نختلف في أنها تستحق مهر المثل على بعض الوجوه، وإنما اختلفنا أنَّه يجب بالعقد أو بغيره.
فإن قيل: قد علمنا أنها تستحقه بالدخول، والدخول تصرف من الزوج فيما ملكه وتصرف الإنسان فيما يملكه لا يوجب عليه شيئاً، فإذاً الموجب هو العقد.
قيل له: لا خلاف بيننا وبينكم أن عقد الإجارة يملك المستأجر به المنافع، ولا يستحق الأجرة عليه بالعقد، وإنما يستحق باستيفاء المنافع، فلا يمتنع ألاَّ تستحق التي لم يسم لها مهراً بالعقد شيئاً، وإنما يستحق بالتصرف فيها، كالمؤاجر لا يستحق على المستأجر الأجرة بالعقد، وإنما يستحق باستيفاء المنافع.
فإن قيل: فالمطلقة(2) قبل الدخول والمسيس قد استحقت من مال الزوج شيئاً وهو /86/ المتعة، فوجب أن تستحق بالوفاة شيئاً من ماله.
قيل له: لا يمتنع من ذلك فإنها تستحق الميراث بالإجماع، ونفقة العدة، على أن المتعة لا تستحقها المرأة بالنكاح، وإنما تستحقها بالطلاق، بدلالة أنها لا تطالب بها إلاَّ بعد الطلاق، وقياسهم الموت على الدخول في إيجاب المهر لا يصح، وإنما يصح ذلك في تقرير المسمى، وذلك أن الدخول أوجب المهر؛ لأنَّه استيفاء منافع البضع، بدلالة أنَّه لو وطئها بعقد فاسد، لاستحقت المهر عليه، والموت لا يستوفى به منفعة، فلم يجب أن يكون سبيله سبيل الدخول في هذا الباب، وإنما وجب أن يتقرر المسمى به كالدخول لأن أحد موجبي العقد يحصل به، على ما بيناه في المسألة التي قبل هذه، على أن الموت يوجب الفراق، والفراق لا يوجب المهر، فيبطل ما اعتمدوه، وليس لهم أن يقولوا: إنها لما جعلت المطالبة لها بمهر المثل دل ذلك على ثبوته؛ لأنا لا نسلم ذلك. ونقول: إن لها المطالبة بأن يفرض لها ثُمَّ تطالب بعد ذلك بالمهر.
__________
(1) في (أ): وقد.
(2) في (أ): والمطلقة.
ووجه رواية (المنتخب) ما أوردناه سائلين في مسألتنا هذه، والعمدة فيه أن يحيى عليه السلام حين قال ذلك لم يكن ثبت عنده جرح أمير المؤمنين عليه السلام لمعقل، وأما مع ثبوت ذلك، فلا قول إلاَّ ما في (الأحكام) على ما بيناه، فأما إذا مات بعد الدخول، فلا إشكال في وجوب المهر إذا المرأة قد استحقته بالدخول على ما بيناه في المسائل التي تقدمت، ولا وجه لإعادته. (52/110)
مسألة [في عدم تسمية المهر مع حصول الدخول]
قال: وإذا ثبتت الزوجية، والبناء بين الزوجين، قُضى للمرأة بمهر مثلها، وهذا مما قد مضى شرحه وبيانه فيما تقدم في مواضع، والمراد به إذا لم يكن بينهما مهر مسمى، وإن تداعيا مسمى، واختلفا فيه، فالقول قول المرأة مع يمينها إلى مهر مثلها، وفيما زاد على ذلك يكون القول قول الزوج مع يمينه، وهذا مما نوضحه في كتاب الدعاوي والبينات [إن شاء الله تعالى] (1).
مسألة [فيما يوجب المهر]
قال: وإذا خلا الزوج بزوجته، وأُرخى الستر دونهما، وجب المهر كاملاً إذا كانت المرأة تصلح للجماع، ولو أُرخي الستر عليهما، ومعها في البيت غيرهما، ولم يمسها، لم يجب المهر كاملاً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3).
وما ذكرناه من كونها ممن تصلح للجماع منصوص عليه في (المنتخب) (4).
والقول بأن الخلوة توجب جميع المهر قول علي عليه السلام، ورأى جميع أهل البيت عليهم السلام، لا أحفظ عن أحد منهم خلافاً فيه.
وروى نحو ذلك عن عمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأحد قولي الشافعي، والقول المشهور للشافعي: إنها لا تستحق كمال المهر إلاَّ بالوطء.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) انظر الأحكام 1/401، 402.
(3) انظر المنتخب 129.
(4) انظر المنتخب 129.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}، وهذا عام في الجميع منهن إلاَّ ما خصته الدلالة(1) ثم بيَّن تعالى حكم الخلو فقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضَكُمْ إِلَى بَعْضٍ}، والإفضاء هو خلوة الزوج بها بحيث لا ساتر بينهما، لأنَّه مأخوذ من الفضاء، يبين ذلك ما روي لا يُفضِينَّ رجل إلى رجل، ولا امرأة إلاَّ امرأة إلاَّ إلى ولده أو والده). فبان أن المراد بالإفضاء ليس هو الجماع، روى ذلك أبو داود، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:5]، وعمومه يقتضي ما ذكرناه. (52/111)
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَإِنْ /87/ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيْضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}، فأوجب لهن متى طلقن قبل المماسة نصف المهر(2)، فوجب أن تخص(3) الآية التي تعلقتم بها؛ لأن هذه الآية أخص منها.
قيل له: إن الآية قرئت على وجهين قرئت: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}، و {وَتَمَاسُّوهُنَّ} والقرآتان كالروايتين، ويفيد قوله سبحانه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أن الحكم قد تعلق بالمس، فعلى هذا متى مسها بيده، ثُمَّ طلقها، يجب كمال المهر، فإذا ثبت ذلك فيمن مسها بيده، فلم يفرق أحد بينهما وبين من حصلت له الخلوة معها، وإن لم يمسها.
ويدل على ذلك ما رواه أبو بكر الجصاص بإسناده في (شرح المختصر)، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من كشف خمار امرأة، أو نظر إليها، وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل>.
__________
(1) في (أ): دلالة.
(2) في (أ): المفروض.
(3) في (أ): تخص به الآية.
وذكر أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى في (النصوص) بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: <من كشف عورة امرأة، فقد وجب صداقها> وكل ذلك يصحح مذهبنا دون مذهب الخصم. (52/112)
وروى هناد بإسناده، عن قتادة، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، أن علياً عليه السلام، وعمر قالا: (إذا أغلق باباً، أو أرخى ستراً، فالصداق لها كامل، وعليها العدة).
وقد روي عن الحسن أنَّه قال: قضى المسلمون إذا أغلق باباً، أو أرخى ستراً، وجب المهر، ووجبت العدة.
وروي عن زرارة بن أوفى، قال: قضى الخلفاء الراشدون بأن من أغلق باباً، أو أرخى ستراً، فقد وجب عليه المهر، ووجبت العدة.
فعلى هذا يدل على أن المسألة إجماع، وقد استضعف ما روي من خلافه عن عبدالله وغيره.
ويدل على ذلك أنها قد سلمت ما اقتضى عقد النكاح تسليمه تسليماً صحيحاً، فوجب أن تستحق العوض، دليله البائع يسلم السلعة إلى المشتري تسليماً صحيحاً، والمستأجَر منه يسلم الدار إلى المستأجر، يكشف ذلك أن صحة العقد يقتضي التسليم دون الوطء؛ بدلالة ما أجمع عليه من جواز نكاح المجبوب مع عدم الوطء، فإذا كان ذلك كذلك، وحصل التسليم للزوج، وجب أن تستحق عليه كمال العوض، ألا ترى أن البائع إذا سلم السلعة إلى المشرى، استحق العوض، انتفع المشترى بالسلعة، أم لم ينتفع، وكذلك المستأجَر منه إذا سلم الدار، استحق العوض، سكنها المستأجر، أو لم يسكنها، فوجب أن يكون ذلك حكم الخلوة في النكاح، يؤكد ذلك أن حكم النكاح في استحقاق البدل أوكد من حكم سائر العقود، ألا ترى أن في سائر العقود إذا تلف المعقود عليه قبل التسليم، لم يلزم العوض، ولم يحصل مستحقاً، ولا نختلف في النكاح أن موت المعقود عليها يوجب كمال العوض، وإذا ثبت ذلك، وثبت أن التسليم يوجب العوض في سائر العقود، كان أولى أن يكون التسليم في النكاح موجباً للعوض.
ويبين ذلك أنا وجدنا في سائر العقود يستوي حكم قبض المعقود عليه واستيفائه(1) وحكم التسليم له، في استحقاق العوض، فوجب أن يكون ذلك حكم الخلوة وحكم الوطء، بعلة أنَّه عقد معاوضة في استحقاق العوض. (52/113)
فإن /88/ قيل: عندكم أنها لو سلمت نفسها وبها جنون، أو جذام، أو برص، لم يجب كمال المهر، وكذلك لو كان معهما غيرها في البيت، فقد نقضتم ما ذكرتموه.
قيل له: نحن شرطنا فيما ذكرنا أن تكون سلمت ما اقتضاه العقد تسليماً صحيحاً، والعقد اقتضى تسليمها صحيحة من هذه العيوب، فإذا لم تستحق العوض، لأن التسليم الذي اقتضاه العقد لم يحصل.
وكذلك إذا كان معها في البيت غيره، لم يقع التسليم الصحيح؛ لأن هناك مانعاً من التسليم، ألا ترى أن من سلم الدار وفيها غاصب يمنع تسليمها، لم يكن ذلك تسليماً صحيحاً، وكذلك لو سلمها وبها عيب يرد(2) به، لم يكن ذلك تسليماً صحيحاً لما أوجبه العقد.
فإن قيل: فالخلوة في العقد الفاسد لا توجب(3) عندكم كمال المهر، وإن أوجب الوطء ذلك، فكذلك في العقد الصحيح.
قيل له: ذلك مما يعضد قياسنا، وذلك أنَّه لما لم(4) يحصل التسليم الذي اقتضاه العقد، لم يجب العوض، لأن التسليم في العقد الفاسد غير واجب، والعقد غير مقتض له، فلم يكن له حكم، كما أن التسليم في عقد البيع الفاسد لا يوجب العوض مالم يقبضه المشتري، وإن كان لو استهلكا لسلعة(5)، لزمه العوض، فكذلك الوطء في العقد الفاسد يوجب العوض؛ لأنَّه جار مجرى الإستهلاك، ولا يوجبه التسليم، لأنَّه تسليم لا حكم له، وقد مضى في كلامنا ماهو الوجه لقولنا: إنَّه إن كان معهما في البيت غيرهما لم تستحق بالخلوة المهر.
__________
(1) في (أ): واستيفائه به.
(2) في (ب): رد.
(3) في (ب): يوجب.
(4) في (ب): لما تحصل التسليم.
(5) في (ب): بالسلعة.
واشترطنا أن تكون ممن يصلح للجماع؛ لأنها إذا(1) كانت صغيرة لا يجامعَ مثلها، لايكون بضعها مسلَّماً؛ إذ ليس له وطؤها، فيكون هناك مانع من التسليم. (52/114)
مسألة [في من تزوج امراة على طلاق زوجته]
قال: ولو أن رجلاً تزوج امرأة على طلاق أخرى، كان لها مهر مثلها، وطلقت الأخرى، فإن تزوجها على أن يطلقها، كان في الطلاق بالخيار.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
ووجه إيجابنا لها مهر المثل أن طلاق الأخرى ليس بمال، ولا جارِ مجرى مال، فلم يصح أن يكون مهراً على ما بيناه، فكان ذلك نكاحاً بغير مهر، فوجب أن يقضى لها مهر مثلها على ما سلف القول فيه.
وقلنا: إن الأخرى تطلق لإيقاعه طلاقها عوضاً من بضعها، والطلاق واقع، وإن لم يصح كونه عوضاً للبضع، ولا يجب فساد العقد من أجله، كما قلناه في الشغار، لأنَّه لا يؤثر في موجَب العقد، وليس كذلك الشغار.
فإما إذا كان ذلك وعداً، فلا يقع الطلاق، والزوج فيه بالخيار كما ذكرناه في سائر ما شرط لها من أن لا يخرجها من مصرها، أو من قرب والديها، وما جرى مجرى ذلك.
مسألة [في النكاح على أكثر من مهر المثل]
قال: ولو أن مريضاً تزوج امرأة على أكثر من مهر مثلها، ثُمَّ مات، ثبت المهر، إلاَّ أن يكون توليجاً فيكون الزائد على مهر المثل وصية يخرج من الثلث. وهذا منصوص عيله في (المنتخب) (3).
ومعنى التوليج هو المحاباة، وإنما يكون الزائد محاباة إذا كان المريض يمكنه التوصل إلى بضعها بمهر مثلها، فإذا امتنعت من ذلك، ولم يمكنه التوصل إليها إلاَّ بما زاد على مهر مثلها، صار الجميع عوضاً صحيحاً لبضعها، فلم يجب أن ينقص منه شيء، دليله لو كان مهر مثلها، يكشف ذلك أن للمريض أن يتملك بضعها، ولها أن لا تملك بضعها إلاَّ بما تختاره؛ لأنها مالكة لأمرها، فإذا ثبت ذلك، ثبت أنها تستحق جميع عوض بضعها.
__________
(1) في (أ): أن.
(2) انظر الأحكام 1/370.
(3) انظر المنتخب 130 ـ 131.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} وقوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}، وقوله سبحانه وتعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:5]، فإذا أمكنه ذلك بمهر مثلها، فزادها على ذلك، كان الزائد محاباة، وجارياً مجرى الهبة والوصية؛ إذ لا وجه له غير ذلك، ولا خلاف فيه، فلذلك قلنا: إنَّه يجرى مجرى الهبة /98/ والوصية ويخرج من الثلث. (52/115)
باب القول فيما يرد به النكاح (53/1)
[مسألة في عيون النكاح وفي المرودة حتى تستحق المهر]
إذا تزوج الرجل امرأة، ثُمَّ وجد بها الجنون، أو الجذام، أو البرص، أو القَرَن، كان له أن يردها بهذه العيوب، إذا لم يكن علم بها حين العقد، ولا مهر لها، إلاَّ أن يكون وطئها، فإن كان وطئها، فليلزمها، أو ليطلقها ولها المهر.
وهذا جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وذكر نحوه في (المنتخب) (2).
والأصل في رد النكاح بالعيب: حديث جميل بن زيد، عن ابن عمر، قال: تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم امرأة من بني غفار، فأدخلت عليه، فرأى في كشحها وضحاً، فردها، وقال: ((دلستم عليَّ دلستم علي))، وفي بعض الحديث قال لها: ((الحقي بأهلك)).
فإن قيل: يحتمل أن يكون ردها بالطلاق.
قيل له: ظاهر الخبر يقتضي أنَّه لم يكن غير الرد، وأنه ردها لِمَا رأى بكشحها من الوضح.
كما روي أن ماعز بن مالك زنى، فرُجم، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سهى، فسجد، وإذا ثبت الرد من البرص، فلا أحد قال بالرد منه إلاَّ قال بالرد من سائر ما ذكرنا.
ويدل على ذلك حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (يرد النكاح بأربعة أشياء: الجنون، والجذام، والبرص، والقَرَن.
وورى هناد، حدثني وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن الشعبي، عن علي عليه السلام قال: (إن كان دخل بها، فهي امرأته، وإن لم يكن دخل بها، فرق بينهما)، وروي نحو ذلك عن عمر.
فإن قيل: روي عن علي عليه السلام أنَّه قال: هي امرأته، إن شاء أمسك، وإن شاء طلق.
قيل له: هذا الخبر مروي عن الشعبي، وقد روى الشعبي عنه ما قدمناه، فدل ذلك على المراد به بعد الدخول.
__________
(1) انظر الأحكام 1/3941.
(2) انظر المنتخب 132.
ومما يدل على ذلك أن النكاح هو عقد معاوضة، فوجب أن يكون للرد بالعيب مسرح في كل واحد من البدلين، دليله البيع، ولا خلاف أن المهر يتأتَّى فيه الرد بالعيب، فوجب أن يكون البضع كذلك، والعلة أنَّه أحد البدلين في عقد النكاح، وأيضاً وجدنا الرَتَق يمنع من تسليم البضع، فوجب أن يكون ذلك يقتضي الخيار لمن يستحق التسليم، دليله من يشتري داراً، ثُمَّ وجد فيها غاصباً يمنع من التسليم، لا خلاف أن له الخيار في فسخ العقد، والعلة أنَّه عقد اقتضى تسليم المعقود عليه، فإذا حصل ما يمنع التسليم، كان لمن يستحق التسليم الخيار في العقد، ويبين أن الرتق مانع من تسليم البضع ـ أنَّه لاخلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن التي خلا بها زوجها، وهي مُحْرِمَة، أو صائمة في رمضان حائض لا تستحق كمال المهر؛ لحصول ماهو مانع من تسليم البضع، وقد علمنا أن الرَتَقَ مَنْعُه أبلغ من منع الإحرام، والصوم، والحيض، وأنه الذي يمنع في الحقيقة، وهذه الأشياء تمنع حكماً، فإذا ثبت ذلك في الرتق، ثبت في سائر ما ذكرناه، على أن الجذام أيضاً مما يمنع من التسليم حكماً، وذلك لما: أخبرنا به عبدالرحمن بن محمد الأبهري، حدثنا محمد بن علي بن الحسين بن أبي الحديد الفقيه بمصر الصدفي، حدثنا يونس بن عبدالأعلى الصدفي، حدثنا أنس بن عياض، عن عبدالله بن عامر، حدثتني أمي فاطمة، عن الحسين بن علي عليه السلام، عن ابن عباس رحمه الله تعالى، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: <لا /90/ تديموا النظر إلى المجذومين، ومن كلَّمهم منكم، فليكلمهم وبينهم وبينه قيد رمح>، فلما منع صلى الله عليه وآله وسلم من(1) مكالمتهم ومقاربتهم، وأوجب أن يكون بين الواحد منهم وبينهم قدر رمح، كان ذلك مانعاً من التسليم. (53/2)
فإن قيل: فإن هذه العلة منتقضة بالصائمة، والحائضة، والمحرمة؛ لأن من تزوج بهن لا خيار له بالإجماع، وإن كانت هذه الأمور مانعة من التسليم.
__________
(1) في (ب): عن.
قيل له: هذا ليس بنقض؛ لأنا قسنا الفرع على الأصل، وقد علمنا إنَّما يمنع منه منعاً يسيراً في الأصل لا يوجب الخيار للمشتري، كأن يكون في الدار متاع للبائع يحتاج إلى تفريغها منه إلى ساعة أو يوم أو نحوه، وإنما يراعى في ذلك ما كان منعاً مستداماً، ويكون مثله عيباً، ألا ترى أن الحيض والصيام لا يكونان عيباً في الجارية، لأنهما وإن منعا من الوطء، فليس منعاً مستداماً، وليس كذلك الرتَق، فسقط بما بيناه اعتراضهم. (53/3)
فإن قيل: لو رد النكاح بما ذكرتم، لوجب أن يرد بسائر العيوب.
قيل له: لا يمتنع اختلاف أحوال العيوب في العقود، ألا ترى أن المخالف لنا في هذه المسألة يجعل الذفر ـ إذا لم يكن من داء ـ عيباً في الجارية، ولا نجعله عيباً في العبد، والعيب الذي ليس بفاحش يجوز به أو الرد في البيوع، ولا يجوز رد المهر به، وإنما يجوز رده به إذا كان فاحشاً، ونجعل الزنا عيباً في الأمة، ولا نجعله عيباً في العبد، فقد بان لك أن العيوب تختلف أحوالها، وليس يجب أن يجري الجميع مجرى واحد، على أن اعتبارنا يترجح بالنقل، والفائدة الشرعية، وبأنه يجري مجرى إجماع الصحابة، ويعضده فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام، فوجب اتباعه.
فإن قيل: فكيف تدَّعون أنَّه جارٍ مجرى الإجماع، وقد روي عن ابن مسعود خلاف ذلك.
قيل له: قد قيل في الخبر: إنَّه ضعيف، وقيل: إن المراد به سائر العيوب.
وقلنا: إن له الرد بهذه العيوب إذا لم يكن علم بها؛ لأنَّه لا خلاف أن شيئاً من العقود لا يرد بعيب علمه المتبايعان، وتراضيا به.
وقلنا: إن كان وطئها، كان لها المهر، وكان له أن يطلقها، أو يمسكها؛ لأن الوطء مستحَقٌ به المهر؛ لأنَّه جارٍ مجرى استهلاك البضع، ولأنه لا خلاف فيه، وهو المروي عن علي عليه السلام وعمر.
وقلنا: إن شاء طلق، وإن شاء أمسك؛ لأن الوطء أبطل الخيار، وأوجب المهر؛ لكونه جارياً مجرى الإستهلاك.
مسألة [في العلم بالعيب بعد الخلوة من غير وطء] (53/4)
قال: وإن كان خلا بها، ولم يكن وطئها، ثُمَّ ردها بالعيب، لم يكن لها المهر.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(1).
قال الناصر عليه السلام: لها المهر إذا خلا بها.
ووجه ما ذهبنا إليه أن الخلوة أوجبت المهر؛ لأنها كانت تسليماً صحيحاً للبضع، ألا ترى أنَّه لو خلا بها وفي البيت معهما غيرهما، أو كانت هي ممن لا تصلح للجماع للصغر، أو كانت محرمة، أو صائمة، أو حائضاً، لم تستحق كمال المهر؛ لأن التسليم لم يقع صحيحاً كما اقتضاه العقد، فكذلك ما ذهبنا إليه؛ لأن التسليم الصَّحيح لم يقع، ألا ترى أن من سلَّم إلى المشتري عبداً معيباً، لم يمنع ذلك التسليم خيار الرد، وكان حاله بعد التسليم كحاله قبل التسليم مالم يستهلك المشتري العبد، فكذلك الزوج إذا /91/ خلا بالمعيبة، لا يُبطل ذلك خياره، ولا يوجب المهر مالم يطأها؛ للعلة التي ذكرناها.
مسألة [في العبد يدلس على الحرة فتتزوجه على أنه حر]
قال: وإذا دلس العبد على الحرة، فتزوجته على أنَّه حر، كان لها الخيار إذا علمت، إن شاءت أقامت معه، وإن شاءت فسخت نفسها منه، هذا إذا أجاز سيد العبد نكاحها، وعلى سيد العبد المهر، إن كان دخل بها،وإن لم يُجزه، كان النكاح باطلاً، فإن كان العبد دخل بها، كان عليه مهر مثلها تطالب به إذا عتق.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
__________
(1) انظر المنتخب 132، 134.
(2) انظر الأحكام 1/407.
قلنا: إن لها الخيار إذا دلس العبد عليها؛ لأنَّه قد ثبت أن العبد ليس بكفؤ للحرة، وأن وليها لو زوجها من غير كفؤ، كان لها الخيار، فوجب أن يكون لها الخيار إذا دلس العبد عليها على نفسه، والعلة أنَّه تزوجها مَن ليس بكفؤ بغير رضاها، وهي بالغة، فوجب أن يكون لها الخيار، على أن أبا حنيفة قد قال: إن المرأة إذا غُرَّت بنسب رفيع شريف أشرف من نسبها، ثُمَّ وجدته دون ذلك، كان لها الخيار، فالعبد أولى به، يكشف ذلك أنها إذا لم ترضَ إلاَّ بقدر من المهر، فلها أن تمنع نفسها إذا مُنِعَت ما به رضيت، فكذلك النسب والحرية؛ لأن جميع ذلك حق لها، لأنها يلحقها، ويلحق بولدها الغضاضة بعقد(1) الحرية والكفاءة كما يلحقها الضرر بقصور المهر. (53/5)
وقلنا: إن سيده إن أجاز ذلك له، فعليه المهر؛ لأن أذنه في النكاح يجري مجرى الضمان للمهر، وهذا إذا دخل بها، أو طلقها قبل الدخول، ولم تختر المرأة الفسخ، فإن فإن اختارت المرأة الفسخ قبل الدخول، فلا مهر لها؛ لأن الفرقة جاءت من قبِلَها، وإن كان ذلك بعد(2) الدخول بها، فلها المهر على ما سلف القول فيه.
وقلنا: إن السيد إن لم يجز نكاحه، بطل النكاح؛ لأن نكاح العبد لا يصح إلاَّ بإذن سيده، وقد مضى القول فيه.
وقلنا: إن كان العبد دخل بها، فلها المهر عليه، تطالبه به إذا عتق؛ لأن المهر قد وجب بالوطء، وقد رضيت المرأة بكونه في ذمته، فليس لها أن تطالبه به إلاَّ إذا عتق، وصح منه الملك، كما أن رجلاً لو أقرضه مالاً، أو باعه شيئاً، كان الحق عليه يطالبه به إذا عتق؛ لأنَّه قد رضي بكون ذلك في ذمته.
مسألة [في إيهام العبد الحرةَ بأذن سيده له]
قال: فإن كان العبد أوهمها أن سيده قد أذن له في نكاحها، كان ذلك خيانة(3) من العبد يلزم سيده لها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4).
__________
(1) في (أ): بفقد.
(2) في (ب): قبل.
(3) في (أ): جناية.
(4) انظر الأحكام 1/475.
والأصل في هذا أن جنايات العبيد تلزم رقابهم على ما يجيء القول فيه، وتغرير العبد لها جناية عليها، فوجب(1) أن يكون في رقبته، كما أنَّه لو قتل، أو غصب مالاً، فاستهلكه يكون ذلك في رقبته، وكذلك في مسألتنا هذه. (53/6)
فإن قيل: المرأة قد رضيت بكون ذلك في ذمته، فلم يجب أن يكون ذلك جناية.
قيل له: إنَّما رضيت بكون ذلك في ذمة سيده دون ذمته، لأنها إذا غرت بأن السيد أذن له فيه، فهي رضيت بكون المهر على السيد دونه، فأما إذا لم يكن السيد أذن له في ذلك، حصل المهر في غير الذمة التي رضيت بها، فيكون ذلك جناية منه، كما أنَّه إذا غصب واستهلك يكون ضمانة في ذمةٍ لم يرض بها المغتصَب منه، فيكون ذلك جناية، وكذلك إن غرها بأنه حر، وأنها تكون قد رضيت بكون المهر في ذمته بشرط الحرية، فإذا كان عبداً، يحصل ضمانة في ذمة لم ترض بها المرأة، فسبيله سبيل الغاصب على مابيناه.
فإن قيل: أرأيتم لو أن حراً فقيراً غرها بالغنى، أليس المهر يكون في ذمته تطالبه به إذا أيسر، فما أنكرتم على من قال لكم: إن ذلك سبيل العبد؟
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما ـ أن ذمة الفقير كذمة /92/ الغني بصحةَ توجُّه المطالبة عليها على بعض الوجوه.
والثاني ـ أن أكثر ما يجب فيما ذكرتم أن الغارَّ يكون بذلك خائناً، إلاَّ أن خيانته لا تتجاوز ذمته؛ لأنَّه لا فصل بين ما يحصل في ذمة الفقير على وجه الخيانة(2)، أو على غير وجه الخيانة(3)، في أنَّه لا تتعدى ذمته، وليس كذلك العبد، لأنها(4)تلزم رقبته، وتتعدى إلى سيده.
مسألة [في الأمة تدلس نفسها أنها حرة فيتزوجها الحر]
__________
(1) في (ب): فوجب.
(2) في (أ): الجناية.
(3) في (أ): الجناية.
(4) في (ب): لأن جنايته.
قال: وإذا دلست الأمة نفسها على الحر، فتزوجها على أنها حرة، فسخ النكاح أيهما شاء من الزوج أو سيد الأمة. وهذا مما تقتضيه أصول يحيى عليه السلام: لأنَّه قد نص على أن نكاح الأمة لا يصح بغير إذن سيدها، ونص أيضاً على أن النكاح يتوقف على الإجازة، وعلى أن المغرور له أن يرد ما غر به. (53/7)
أما ما قلناه: إن سيدها يفسخ النكاح إن شاء، فالخلاف فيه مع الشافعي من وجه أنَّه لا يجيز النكاح الموقوف، فاقتضى أصله فساد هذا النكاح، فلم يكن للفسخ فيه مسرح، وما قدمناه من جواز النكاح الموقوف يُفسد قوله، ويوضح ما ذكرناه.
وما ذكرناه من أن للزوج أن يفسخ النكاح، فالخلاف فيه مع أبي حنيفة؛ لأنَّه لا يوجب رد المرأة بشيء من العيوب، وما قدمناه من أن النكاح يرد بالجنون، والجذام، والبرص، والرتق، يدل على صحة هذه المسألة إذ لا أحد فرق بين الرق في المرأة، وبين سائر العيوب فيها في رد النكاح به؛ لأن من أوجب الرد بها، أوجب الرد بالرق، ومن أبى الرد بها، أبى الرد بالرق، فإذا ثبت جواز الرد بسائر العيوب التي ذكرناها، ثبت الرد بالرق.
ومما يدل على ذلك ـ أيضاً ـ أنَّه لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة وأصحابه أن الحرة إذا دلس عليها العبد نفسَه كان لها الخيار في فسخ النكاح، فوجب أن يكون ذلك سبيل الحر إذا دلست الأمة عليه نفسها، والعلة أنَّه نكاح عقد على التغرير بالرق، فوجب أن يكون للمغرور الخيار.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن المرأة جُعل لها الخيار؛ لأنها لا تملك رفع النكاح إلاَّ بالفسخ، وهي لم ترض بذلك النكاح، وليس كذلك الزوج؛ لأنَّه مالك للطلاق؟
قيل له: كونه مالكاً للطلاق، لا يمنع من ثبوت الخيار إذا شارك المرأة فيما أوجب لها الخيار، وهو التغرير بالرق، فكان ما ذكرتم جارياً مجرى الفرق مع وجود العلة، على أن المرأة أيضاً تقدر على فسخ النكاح بالردة، وهذا لا يمنع من ثبوت الخيار لها، فبان أن الاعتبار به لا معنى له، وأن الخيار إنَّما ثبت لها لأنها غرت بالرق، فإذا شاركها الزوج في ذلك، وجب أن يثبت له(1) الخيار. (53/8)
مسألة [في الأمة المدلسة بالحرية إذا وطئت أو حملت]
قال: فإن كان الزوج وطئها، لم يرجع عليها بالمهر، وإن كان أو لدها، كان لسيد الأمة قيمة أولادها على أبيهم، وكان للأب أن يرجع بها على سيد الأمة؛ لأنها جناية منها، فيتقاصان، إلاَّ أن تكون قيمة الأولاد أكثر من قيمة الأمة، فيجب على الأب إيفاء الزيادة لسيد الأمة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، وفيه أن قيمة الأولاد إن زادت على قيمة الأم فللزوج أن يطالب بتسليم رقبتها بجنايتهاإن طولب بكمال قيمتهم.
ووجه وجوب المهر بالوطء ما مضى من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في النكاح الفاسد: <فإن وطئها، فلها المهر بما استحل من فرجها>، وما قد ثبت من أن الوطء الواقع بالشبهة لا بد له من مهر، ولا يبعد أن يقال على أصل يحيى عليه السلام أنَّه يرجع به على سيدها، إن كانت هي التي غرت؛ لتنصيصه في المعيبة إذا وطئت، ثُمَّ ردت، رجع بالمهر على من غره.
وقوله: إن الزوج لا يرجع عليها بالمهر محمول على أحد الوجهين ـ إما أن /93/ يكون المراد حصول الإستحقاق، وإن استحق الزوج عليه بدله، أو يكون المراد به إذا لم تكن المرأة غارة، وكان الغار غيرها.
__________
(1) في (أ): لها.
(2) انظر الأحكام 1/405.
فأما الأولاد فلا خلاف بين الصدر الأول والفقهاء من بعدهم في أنهم أحرار، ولم يختلف السلف أنهم مضمونون على الأب، وإن اختلفوا في كيفية الضمان، فروي عن عمر أنَّه قال: غلام بغلام، وجارية بجارية، وقول علي عليه السلام: إن الواجب فيهم القِيَم، وإليه يذهب عامة الفقهاء. (53/9)
ويقوي ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه حكم في عبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو مؤسر، أن يضمن قيمته، ولم يحكم عليه بنصف عبد مثله، فصار ذلك أصلاً في أن ضمان الحيوان ضمان القيم، وأيضاً لا يختلف الفقهاء أن من استهلك لغيره حيواناً، أو ثياباً، أنَّه يضمن القيمة دون الْمِثْل، فكذلك في مسألتنا، لأنَّه أعدل، وأبعد من الجهالة، ألا ترى أن المستهلَك لو كان مما يكال أو يوزن، ضمن المستهلِك مثله، لما كان المثل فيه أعدل، وأبعد من الجهالة، ولا خلاف أيضاً أن المغرور يرجع بقيمتهم على الغار، فلذلك قلنا: إنها إذا كانت هي الغارة، كانت القيمة في رقبتها، واختُلف في ذلك فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن القيمة تكون في ذمتها تطالَب بها إذا عتقت.
وقلنا نحن: إنها تكون في رقبتها بمنزلة جناياتها التي تلزم سيدها، كما قلناه في سائر الجنايات، وهذه الجملة نوضح القول فيها بعد، والذي يختص هذا الموضع بيان أن التغرير جناية، وقد سلف القول فيه، فلا وجه لإعادته.
مسألة [في إكراه العنين على فراق زوجته]
قال: ولا يجبر العنين على فراق زوجته.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وهو قول القاسم عليه السلام، ورُوى ذلك عن الحكم بن عتيبه.
والأصل في ذلك أن النكاح من حكمه أن يستدام، ولا يثبت فيه خيار إلاَّ بدلالة شرعية، ولا دلالة على ثبوت الخيار للمرأة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/356.
وروى أبو العباس الحسني ـ رحمه الله تعالى ـ بإسناده عن أبي إسحاق، عن هاني بن هاني، أن امرأة جاءت إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام، جميلةً، عليها ثياب حسنة، فقالت: أصلح الله تعالى أمير المؤمنين، انظر في أمري فإني لا أيم، ولا ذات بعل، فعرف أمرها، فقال لها: ما اسم زوجك؟ قالت: فلان بن فلان. فقال: أفيكم من يعرفه؟ فأتي بشيخ كبير يدب، فقال له: مالأمرأتك تشكوك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ألست ترى عليها أثر النعمة؟ أليست حسنة الثياب؟ فقال: فهل عندك شيء؟ قال: لا. قال: ولا عند السَحَر؟ قال: لا. قال: فهلكت وأهلكت. قالت: انظر يا أمير المؤمنين في أمري، قال: ما أستطيع أن أفرق بينكما، ولكن اصبري. (53/10)
وروى هناد، عن وكيع، عن قبيصة، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن هاني، بن هاني، نحو ذلك. وروى أنها قالت: فما تأمرني يا أمير المؤمنين؟ قال: تتقين الله تعالى، وتصبرين، وما أستطيع أن أفرق بينكما، فدل ذلك على أنها لا خيار لها، وأنها مما يجب لها الصبر على ذلك، أحبته أم كرهت.
فإن قيل: فقد روي عن عمر أنه قال: يؤجل العنين سنة، فإن وصل إلى أهله وإلا فرق بينهما.
قيل له: عندنا أن قول علي عليه السلام أولى بالإتباع، على أنَّه لو لم يكن قوله أولى بالإتباع أيضاً لقابل قول عمر، ووجب الرجوع إلى أن لا خيار لها، لأن ذلك هو الأصل في النكاح.
فإن قيل: فقد روي عن الضحاك بن مزاحم، أن علياً عليه السلام أجَّل العنين سنة، فإن /94/ هو وصل إلى أهله، وإلا فُرِّق بينهما.
قيل له: لم يحكه عن علي عليه السلام، وإنما هو قول أدرجه في الحديث، فلم يجب أن يصير ذلك معارضاً لحديثنا، على أنَّه قد روي عن عمر أيضاً ما يعارض ما اعتمدوه عنه، وذلك: ما رواه هناد، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن عبدالرحمن بن يعقوب بن الصلت المطلبي، عن عبدالله بن عامر بن ربيعة، قال: بينا أسير مع عمر، إذ عرضت له امرأة شابه، فاستوقفته، فوقف لها، فقالت: يا أمير المؤمنين، امرأة شابة، وزوجها [شيخ] (1) كبير، وهي تريد ما يردن النساء من الولد وغيره. قال فما برحت حتى رفعت إليه زوجها، فقال له عمر: ويحك ما تقول هذه، قال: والله يا أمير المؤمنين ما آلو أن أحسن إليها، قال: تقيم لها ظهرها؟ قال: إي والله يا أمير المؤمنين، قال: خذ بيدها، انطلقي معه، لعَمري إن هذا ليجزي المرأة المسلمة. (53/11)
وهذا أولى مما رووه؛ لأنَّه أخبر أن ذلك يجزي المرأة المسلمة، فدل ذلك على أنها لا تجب لها المطالبة بغير ذلك.
ومما يدل على ذلك: ما روي عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: جاءت امرأة رفاعة القرضي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، كنت عند رفاعة، فطلقني، فتزوج بي عبدالرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: <تريدين أن ترجعي إلى رفاعه؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك> فلو كان لها الخيار، وكان يتعلق بمضي سنة؛ لعرَّفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما عرَّفها الحكم في رجوعها إلى رفاعة، فلما لم يذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عُلِم أنها لا خيار لها في ذلك.
ومما يدل على ذلك أنَّه لا خلاف في أن العجز عن الوطء لا يوجب لها الخيار والتفريق في أول ما يظهر، لأنهم لا يختلفون في أن الزوج يؤجَّل مدة على حسب الخلاف فيها، فوجب أن لا يوجب لها الخيار والتفريق بعد انقضاء المدة، والمعنى أنَّه ظهور العنة.
__________
(1) سقط من (أ).
فإن قيل: العنة لا تظهر إلا بمضي الفصول الأربعة. (53/12)
قيل له: من أين لكم ذلك؟ وما الدليل عليه؟ وهذا مما لا سبيل إلى إثباته، على أنَّه يقال لهم: لا خلاف بيننا وبينكم أنهما ـ أعني الزوج والزوجة ـ لو تصادقا في أن الزوج عاجز عن الوطء منذ أربع سنين، فضلاً عن أربعة فصول، أنَّه لا يكون للمرأة الخيار في أول ما تُرافع، فقد بان صحة ما ذكرناه من أن ظهور العنة لا توجب لها الخيار والتفريق، وأيضاً لا خلاف أنَّه لو وطئها، ثُمَّ عجز عن الوطء، لم يجب الخيار، فكذلك إذا عجز قبل الوطء، والعلة أنَّه حصول العجز عن الوطء، فوجب أن لا يجعل لها الخيار.
ومما يؤكد ما ذهبنا إليها ويوضحه أن عقد النكاح لم يوجب لها المطالبة بالوطء، بدلالة أن الوطء مما يتكرر، فلو كان عقد النكاح موجباً لها المطالبة به، لتكررت المطالبة، ألا ترى أن سائر ما يوجب عقد النكاح المطالبة بها، يوجب المطالبة بتكريرها، كالنفقة، والكسوة، والسكنى، والقسم في الليالي والأيام، ولا يجب الإقتصار في شيء من ذلك على مرة واحدة، فلو جرى الوطء مجرى سائر ما ذكرناه، لم يجب الإقتصار فيه على كرة واحدة، يكشف ذلك أن الوطء لما كان مما أوجبه عقد النكاح للزوج، تكررت مطالبته به، ولم يجب الإقتصار على مرة واحدة، فإذا ثبت ذلك، لم يجب لها الخيار بالعجز عنه، كما لا يكون لها الخيار إذا عجز عن سائر ما ليس لها المطالبة به.
ومما يبين أن الوطء ليس بحق لها أنها تستحق العوض عليه، ولا يجوز أن يستحق الإنسان العوض على استيفاء حقه، ألا ترى /95/ أنَّه لما كان حقاً للزوج، لم يجز أن يستحق العوض على استيفائه، بل يُستَحق عليه العوض، وإذا ثبت أنَّه ليس بحق لها، وجب أن يكون العجز عنه لا يوجب لها خياراً.
فإن قيل: لا خلاف أن الْمُوَلى مطالب بالوطء، وهذا يعترض ما ذكرتموه.
قيل له: نحن إنَّما أنكرنا أن يكون الوطء مما يجب بعقد النكاح، فوجوبه بالإيلاء لا يعترض ما قلناه، على أنا لسنا نسلم أن الإيلاء يوجب الوطء على الإطلاق؛ لأنَّه عندنا يجب بشرط القدرة عليه، فإن عجز، كفاه أن يفيء بلسانه. (53/13)
فإن قيل: فإنها لما تملك عليها بضعها، وجب أن تملك هي المهر، وتستحقه استحقاقاً صحيحاً، وذلك لا يكون إلاَّ بالوطء، لأن من الناس من لا يرى إيجاب المهر بالخلوة.
قيل له: عندنا أنها بالخلوة تستحق كمال المهر استحقاقاً صحيحاً، فالسؤال ساقط عنا.
فإن قيل: لا يكون ذلك الإستحقاق صحيحاً؛ لأنَّه من الجائز أن يترافعا إلى حاكم لا يحكم بكمال المهر في الخلوة.
قيل له: وما في ذلك مما يمنع كونها مستحقة لكمال المهر عندنا، على أن حاكماً لو كان حكم لها بالخلوة بكمال المهر، لم يكن لحاكم غيره فسخ ذلك، وتكون هي قد استحقته استحقاقاً لا يصح الإعتراض عليه، ومع ذلك فإنكم تثبتون لها الخيار، فبان أن تعلقكم بذلك مما لا معنى له.
فإن قيل: فإنا لو لم نجعل لها الخيار، كنا قد أضررنا بها، لأنها لا تصل إلى الإستمتاع إلاَّ من جهة الزوج.
قيل له: هذا الإعتبار فاسد، لأنها إذا وطئت مرة واحدة، فالضرر الذي ذكرتموه قائم، ومع ذلك فإن عرضت لزوجها عنه، لم يكن لها خيار.
مسألة [في إجبار المعسر على فراق زوجته]
قال: وكذلك المعسر الذي يعجز عن النفقة لا يجبر على فراق زوجته. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وهو قول القاسم عليه السلام، وأبي حنيفة وأصحابه.
قال الشافعي: يفرق بينهما، إن اختارت المرأة الفراق.
والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلِيْهِ رِزْقَهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ} فبين تعالى حكم المعسر، وأنه ليس عليه إلاَّ ما آتاه الله، وأنه يجعل له بعد عسر يسراً، فدل ذلك على ما قلناه من وجهين:
__________
(1) انظر الأحكام 1/493 ـ 494.
أحدهما ـ أنَّه بيان حكم المعسر، ولم يذكر وجوب الخيار لزوجته، فوجب أن لا يكون لها الخيار. (53/14)
والثاني: أنَّه تعالى دل بهذه الاية أنَّه لا يكلفه إلاَّ ما آتاه(1)، فبان أنَّه ليس يلزمه ما عجز عنه، وإذا لم يلزمه ذلك، لم يفرق بينه وبين امرأته لذلك، كما لا يفرق بينه وبينها لعجزه عن سائر ما يلزمه.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيْحٌ بِإِحْسَانٍ}، فإذا لم يمسك بمعروف، وجب أن يُسرح بإحسان.
قيل له: هو عندنا ممسك بمعروف إذا أمسك على حسب الطاقة؛ لأنَّه مؤد ما كُلِّف [به] (2)، على أن الظاهر لا تعلق لهم به، وذلك أنهم لا يخالفون في انه لو لم يمسكها بمعروف مع القدرة على النفقة، لم يفرق بينهما، وإنما يوجبون التفريق للعجز، وليس في الآية ذكر العجز، ويدل على ذلك أنَّه لو عجز عن نفقة المؤسر، لم يجب التفريق، كذلك إذا عجز عن النفقة (3)، والمعنى حصول العجز عن الإنفاق، ولا خلاف أن المفقود عاجز عن الإنفاق، ولا يفرق بين وبينه امرأته، فكذلك الحاضر وإن عجز، والعلة حصول العجز عن الإنفاق، فوجب ألا يوجب التفريق، ويشهد لصحة ما ذهبنا إليه حصول سائر ما تستحقه المرأة من السكنى، والقَسْم، ونفقة الخادم، إن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها وتجب لها الخدمة؛ لأنَّه لا يجب أن يفرق بينها وبين الزوج، وإن عجز الزوج عنه، فكذلك النفقة، وعمدتهم في هذا الباب خيار العنة، ونحن لا نقول به، فلا يمكنهم الإعتماد عليه، وذكر ابن أبي /96/ هريرة أن الزوج إذا عجز عن المهر بعد الدخول، فلا خيار للمرأة قولاً واحداً، وهذا أيضاً يشهد لصحة ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: فالمشتري إذا أفلس والسلعة في يده قائمة بعينها، يكون للبائع الخيار في فسخ البيع، فكذلك العاجز عن النفقة.
__________
(1) في (أ): آتاه الله.
(2) سقط من (ب).
(3) في (أ): بعض النفقة.
قيل له: الثمن في مقابلة السلعة فإذا بطل الثمن، كان للبائع الرجوع فيه، وليس كذلك النفقة، لأنها ليست عوضاً من البضع، فلم يجب أن يكون سبيلها سبيل الثمن، على أن الأشبه بالثمن هو المهر، ولا يخالفون أن العجز عنه بعد الدخول لا يوجب لها الخيار، وإن كان ذلك عندهم قبل الدخول على قولين: فالأَولى أن يكون العجز عن النفقة لا يوجب الخيار، على [أن] (1) المهر أيضاً مفارق للثمن؛ لأن البيع لا يتم إلاَّ بالثمن، وفساد الثمن يقتضي فساد البيع، وليس كذلك المهر، لأن النكاح يثبت دونه، وفساده لا يوجب فساد النكاح. (53/15)
مسألة [في تدليس الولي على الزوج بامرأة معيبة]
قال: ولو أن ولياً دلس بمعيبة على رجل، فتزوجها، ودخل بها، كان للمرأة عليه المهر، ورجع الزوج به على الولي. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2)، ونص فيه على أنَّه يلزم الولي إذا عرف العيب، ودلس، وهو(3) قول مالك، وحكي عن ابن أبي هريرة أنَّه القول القديم للشافعي.
والأصل فيه ما ذكره يحيى بن الحسين صلوات الله عليه في (الأحكام) (4) ـ أن أمير المؤمنين عليه السلام رُفع إليه رجل له ابنة من امرأة عربية، وأخرى من عجمية، فزوج التي هي من العربية من رجل، وأَدخل عليه بنت العجمية، فقضى(5) عليه السلام للتي أُدخلت عليه بالمهر، وقضى للزوج بالمهر على أبيها،؛ لتغريره، وقضى للزوج بزوجته، فبان بهذا وجوب المهر على الولي إذا غر.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) انظر المنتخب 134 ـ 135.
(3) في (ب): هو.
(4) انظر الأحكام 1/404.
(5) في (أ): فقضى عليٌ.
وأخبرنا عبدالرحمن بن محمد الأبهري، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي الصدفي، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد، سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن عمر، قال: أيما امرأة تزوجت، وبها جنون، أو جذام، أو برص، فدخل بها زوجها، ثُمَّ اطلَّع على ذلك بعد ما مسها، فيريد الخصومة فيها، أن لها صداقاً بمسيسه إياها، وإن ذلك على وليها. (53/16)
فلما ثبت ذلك عن علي عليه السلام، وعمر، ولم يرو خلافه عن غيرهما، جرى مجرى الإجماع، على أن الخلاف في الصدر الأول كان على وجهين، كان(1) منهم من لا يوجب رد النكاح بالعيب، ومنهم من يوجب رده بالعيب، ويوجب للزوج الرجوع بالمهر على من غره إذا استحق عليه بالوطء، ولم يكن فيهم من يوجب الرد، ولا يوجب الرجوع بالمهر على الغارَّ، فإذا ثبت [هذا] (2) بما بيناه من وجوب(3) الرد، ثبت وجوب الرجوع بالمهر على الغار؛ إذ لا فصل بينهما.
ومما يدل على ذلك أنَّه استحق بالمهر استدامة الإستماع علىالصحة، فلما تعذر ذلك، ولزمه المهر، صار ذلك في حكم التالف، فوجب أن يضمنه الغارّ، دليله لو أتلف عليه غير ذلك من ماله، ولا خلاف أن المغرور بالأمة يرجع على من غره بقيمة الأولاد، إذا لزمته، فوجب أن يرجع بالمهر على من غره، والمعنى أنَّه مال وجب بسبب نكاح فيه تدليس، فوجب أن يلزم الغار بالمنكوحة.
فإن قيل: لا يجوز للزوج أن يستحقه على الغار؛ لأنه قد استوفى ما في مقابلته وهو الإستمتاع.
قيل له: قد بيَّنا أن الذي يستحقه هو استدامة الإستمتاع على /97/ الصحة، وذلك مما لم يسلم له، فلا يصح قولكم أنَّه قد استوفى ما هو في مقابلة المهر، على أن المغرور قد حصل له الأولاد، ولم يمنع ذلك من الرجوع بقيمتهم على الغار.
فإن قيل: متى جعلنا للزوج الرجوع بالمهر على الولي، حصل له الوطء من غير مهر.
__________
(1) في (أ): لأن.
(2) سقط من (أ).
(3) في (ب): ثبوت.
قيل له: لا يلزم ذلك؛ لأنَّه قد استحقه على الزوج، والزوج إنَّما استحقه على الولي بوجه آخر، ألا ترى أنها لو أبرأته من المهر بعد استحقاقها إياه، جاز ذلك، ولم يجب أن يقال: إن الوطء حصل بلا مهر، وكذلك من زوَّج أمتَه عبدَه يجب مهرها، ثُمَّ يسقط، ولا يجب أن نقول: إن الوطء تحصل(1) بلا مهر، فبان سقوط هذا الإعتبار. (53/17)
باب القول في نكاح المماليك
[مسألة في نكاح العبد لأربع، وعدد طلاقه]
المماليك حكمهم في عدد النكاح والطلاق حكم الأحرار.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، وذهب مالك، وأبو ثور، إلى أن العبد ينكح أربعاً مثل قولنا، وذهب عامة أهل العلم أنَّه لا ينكح إلاَّ اثنتين.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنْ النِّسَاءِ}، فعم(3)، ولم يخص الخطاب عبداً من حر، فوجب أن يستوي فيه العبد والحر.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى في أخرى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فدل ذلك على أن الخطاب للأحرار، إذ لا يجوز عندكم للعبد أن يطأ بملك اليمين.
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما ـ أنَّه لا يمتنع أن يكون صدر الآية عاماً، وعجزها خاصاً، وخصوص عجزها لا يمنع من عموم صدرها، فلا يمتنع أن يكون ما ذكرنا عاماً في الحر والعبد.
والثاني: أن بعض أهل العلم تأول ذلك على أن المراد به نكاح ملك اليمين، وهذا غير ممتنع في العبيد.
فإن قيل: فقد روي أن هذه الآية نزلت في شأن قوم في حجورهم يتامى وأموالهم، وذلك حكم الأحرار، وهذا يمنع من دخول العبيد(4) فيها.
__________
(1) في (أ): حصل.
(2) انظر الأحكام 1/398.
(3) في (ب): يعم.
(4) في (أ): الأحرار.
قيل له: ورود الآية على سبب لا يمنع أن يعم مَن له سبب، ومَن لا سبب له، ألا ترى أن نزول الآية فيمن كان على الصفة التي ذكرتم لا يمنع أن يبخل فيها سائر الأحرار، وإن لم يكن في حجورهم شيء من أموال اليتامى، أو أحد من اليتامى، فكذلك العبيد لا يمتنع دخولهم فيها. (53/18)
ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِيْنَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}، فأباح لنا إنكاحهن، فلنا أن ننكحهم ـ أعني الأحرار والعبيد ـ حتى يمنع الدليل منه، وذلك بعد الأربع.
ومما يدل على ذلك أن العبد ممن أجيز له النكاح، فوجب أن يجوز له الجمع بين أربع، دليله الحر، وأيضاً وجدنا سائر الملاذ من المطاعم والمشارب، وغيرهما قد سُوِّي في إباحتها بين الحر والعبد، فوجب أن نسوي بينهما في إباحة النكاح، والعلة أنَّه من جملة الملاذ.
فإن قيل: هذا ينتقض؛ لأن الحر يطأ بملك اليمين، وليس ذلك للعبد.
قيل له: هذا ليس ينتقض؛ لأن العبد لا يملك، فهو في حكم من ليس له ملك من الأحرار، فالتفرقة لم تقع في معنى الوطء، وإنما وقعت في معنى الملك، ويؤيد ما ذهبنا إليه أن أحكام العبيد مثل أحكام الأحرار في أصول النكاح وغيره، بل في سائر التكاليف، فوجب أن /98/ تكون أحكامهم مثل أحكام الأحرار، وهذا أولى من رد ذلك إلى الحدود والقصاص؛ لأن أحكام النكاح بأحكام النكاح أشبه، على أن تنصيف أحكامهم لم توجد في معنى من المعاني، إلاَّ في بعض الحدود، فكان ذلك كالمخصوص من جملة الأصول، فوجب أن يكون القياس على غيره أولى، ألا ترى أن سائر الأحكام إما أن لا تصح منهم، وإما أن تستوي أحوالهم وأحوال الأحرار، كالإقتصاص منهم، وحد السرقة، ومقدار ما يُقطع فيه، وكسائر ما كُلِّفوا من الصلاة، والصيام، والحج، وافتقار نكاحهم إلى الولي والشاهدين، والمهر، وغير ذلك، وإما ما لا يصح منهم بتة، كالتمليك، والإقرار بما في أيديهم، أو النكاح بغير إذن الولي، والولاية في النكاح والإمامة العامة، فلما كانت الأصول على ما وصفناه، وجب أن يكون حكمهم في عدد النكاح مثل حكم الأحرار. وأيضاً لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن الإماء يجوزالجمع بين أربع منهن في النكاح كالحرائر، فوجب أن يكون للعبد الجمع بين أربع كالأحرار، والعلة أنَّه العدد المعتبر في النكاح، فوجب أن يستوي مع الرق والحرية، على أن أبا حنيفة(1) يُجوِّز للعبد أن يطلق ثلاثاً إذا كان تحته حرة، فوجب أن يجوز له أن ينكح أربعاً، والعلة أنَّه يطلق ثلاثاً، دليله الحر. (53/19)
__________
(1) في (أ): يجوز.
وقلنا: إنَّه يطلق ثلاثاً، سواء كانت تحته حرة، أو أمة؛ لقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ..} الآية، فدل سبحانه بذلك على أن الطلاق ثلاث تطليقات، ولم يخص أن يكون الْمُوقِع لها حراً أو عبداً، فوجب بعمومه أن يكون طلاق العبد ثلاثاً كطلاق الحر، ويدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، أخبرنا الحسين بن علي بن عبدالحميد القطان، حدثنا الحسين بن علي بن محمد الطنافسي، حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء، حدثنا أبو ثور، وهشام يعني ابن يوسف الصنعاني، عن مَعمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عمرو بن مغيث، عن الحسن مولى بني نوفل، قال: سئل ابن عباس، عن عبد طلق أمة تطليقتين، ثُمَّ عتق، أيتزوجها بعد ذلك؟ قال: نعم. قيل: عمن؟ قال: أفتى بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقد صرح بأنها لا تحرم عليه بتطليقتين، مع أنها أمة، فبان أنَّ له أن يطلقها ثلاثاً. (53/20)
فإن قيل: فقد روي عن علي عليه السلام أنَّه قال: (طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان)، وروي مثله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل له: يحتمل أن يكون قال ذلك في أمة بعينها قد طلقت مرة، وانقضت من عدتها بحيضة، وما ذكرناه من القياس والترجيح في أن العبد ينكح أربعاً يصح مثله في أنَّه يطلق ثلاثاً، فلا وجه لإعادته.
ويقال لأبي حنيفة: إذا كان العبد يطلق الحرة ثلاثاً، وجب أن يصح منه أن يطلق الأمة ثلاثاً، والمعنى أنَّه ممن يصح طلاقه، ويقال لمالك: إذا كان العبد مثل الحر في عدد النكاح، وجب أن يكون مثله في عدد الطلاق، والمعنى أنَّه عدد حكم مباح يختص البضع.
[مسألة: في عدة الأمة]
وقلنا: إن عدة الأمة مثل عدة الحرة، وحكى نحوه عن صاحب الظاهر لقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوْءٍ} ولم يخص أمة من حرة، وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِيْنَ يُتَوَفَّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ولم يخص أمة من حرة، فأوجب عموم هاتين الآيتين استواء حال الإماء والحرائر في العدة. (53/21)
ويدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى، أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم /99/ الصنعاني، أخبرنا عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب أن علياً عليه السلام قال في المطلقة (يحل لزوجها الرجعة عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، وتحل لها الصلاة)، وهذا يعم الحرة والأمة.
وقد بينا تأويل ما روي عنه عليه السلام من قوله: (وعدتها حيضتان)، فلا غرض في الإعادة.
فإن قيل: كيف يسوغ لكم ذلك التأويل ومن مذهبكم بناء العام على الخاص؟
قيل له: نحن نوجب ذلك إذا كان يؤدي إلى إسقاط الخاص، فأما إذا أمكن فيه التأويل، فلا يجب ذلك فيه.
ويدل القياس على ذلك، لأنها معتدة كالحرة، فوجب أن تكون عدتها كعدة الحرة، وسائر ما مضى من طريق الترجيح في النكاح والطلاق يتأتَّى في العدة فلا غرض في إعادته، ولأنها إذا كانت حبلى فعدتها عدة الحرائر بالإجماع، فكذلك إذا لم تكن حبلى، والعلة أنها معتدة.
مسألة [في الأمة المتزوجة إذا عتقت]
قال: وإذا كانت الأمة تحت الزوج، ثُمَّ أعتقت، كان لها الخيار إن شاءت فسخت نفسها، وإن شاءت أقامت معه، سواء كان الزوج عبداً أو حراً. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب)(2)؛ ونص عليه القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، قال الشافعي لها الخيار إن كان الزوج عبداً، وإن كان حراً، فلا خيار لها. (53/22)
والأصل في ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بشر الرقى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كان زوج بريرة حراً، فلما أعتقت خيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاختارت نفسها(3).
فإن قيل: فقد روي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان زوج بريرة عبداً، ولو كان حراً، لم يخيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(4).
قيل له: أما كونه عبداً، فلا إشكال فيه، وإنما الخلاف(5) في حالة وقت عتق زوجته بريرة، وقد ثبت أن الحرية تطرأ على الرق، وأن الرق لا يطرأ على الحرية في دار الإسلام، فلما روي عنها أنَّه كان حراً، فلما أعتقت خيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وروي أنَّه كان عبداً، وجب أن يكون قولها كان عبداً إخباراً عن حالته التي كان عليها من قبل، وأنه كان حراً، في وقت عتق بريرة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/399 ـ 400.
(2) انظر المنتخب 226.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/82.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/82.
(5) في (ب): الخلاف فيه.
فأما ما روي ولو كان حراً لم يخيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا دلالة على أنَّه لفظ عائشة، ويحتمل أن يكون ذلك لفظ عروة، أو هشام، عن [عايشة] (1) فمن دونهما فلا يحص التعويل عليه. (53/23)
وعلى هذا التأويل يحمل ما روي عن ابن عباس(2) أنه كان عبداً، على أن من صحت عبوديته إذا أخبر مخبر أنه صار حراً فهو أولى من خبر من يخبر أنه عبد؛ لأن من أخبر بعبوديته أخبر بظاهر الحال، ومن أخبر بحريته، أخبر بأمر طارئ على العبودية، يكشف ذلك أن شهادتين لو وقعتا، على هذا الحد كانت شهادة الحرية أولى.
فإن قيل: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قا لها بعد عتقها: <إن شئت تمكثين مع هذا العبد> فسماه عبداً بعد عتق بريرة.
قيل له: يحتمل أن يكون(3) النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سماه عبداً بعد الحرية على معنى أنه كان عبداً، كما قال صلى اللّه عليه وآله وسلم لبلال حين أذن قبل طلوع /100/ الفجر: <عد، فنادِ إن العبد نام>، وكان بلال حراً في ذلك الوقت.
وكما روي عن علي عليه السلام، أنه قال لشريح: (ما تقول أيها العبد الأبظر) وشريح كان حراً، وإنما كان الرق جرى عليه في الجاهلية، فسماه بذلك.
__________
(1) في (أ) و (ب): عن ابن عباس. وخطأه في (أ)، ونبه على ما أثبتنا، وهو عن عائشة في هامش (ب) وهو الصواب، حيث هشام وعروة لم يرويا عن ابن عباس في هذا الحديث، وإنما رواه عنه عكرمة، انظر شرح معاني الآثار للطحاوي 3/82.
(2) في هامش (ب): عن عائشة، وفي (أ) و (ب) عن ابن عباس.
(3) في (أ): أنه كان.
وعلى هذا يُتأول قول اللّه تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ}، وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: <اليتيمة تستأمر>، على أنه لو لم يثبت أنه كان حراً، وثبت أنه كان عبداً، لم يكن له فيه حجة؛ لأن قضاء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في شخص قضاء في الجميع، ولا يجب أن يميَّز فيه حر من عبد، أو عبد من حر، بل لا ينفصل المعنى فيه من أن يكون حراً أو عبداً في وجوب كون ذلك قضاء في الأحرار والعبيد، إلا أن تمنع الدلالة من ذلك، فبان أن الأمر لو كان على ما ذكر(1) لكان يجب أن يثبت الخيار لكل معتقة تحت زوج، حراً كان الزوج، أو عبداً، ويكشف ذلك ما روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سها فسجد، فثبت حكماً في كل من سها في الصلاة وحراً كان أو عبداً، وما روي أن ماعزاً زنى فرجُم، يجب أن يكون حكماً شاملاً للجميع، ولولا الدلالة كان يجب أن يستوي فيه حكم الحر والعبد. (53/24)
فإن قيل: لو كان الأمر فيه يستوي بين أن يكون الزوج حراً أو عبداً، لم يكن لنقل أنه كان عبداً فائدة.
قيل له: لا يمتنع أن يكون الراوي يروي كثيراً من الأحوال، وإن لم يكن لها تأثير في الحكم، ألا ترى أنه روي أن بريرة أعتقت، وأن زوجها كان يسمى مغيثاً، ولا تأثير لكون المعتقة حرة مسماة بريرة، ولا لكون زوجها مغيثاً.
وروي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مر بشاة لميمونة وهي ميتة، ولا يتغير الحكم بين أن تكون لميمونة أو غيرها، ولا بين أن تكون الميتة شاة أو غير شاة، ونظائره أكثر من أن تعد.
وروي أن زنجيا وقع في بير زمزم، ولا فرق بين أن يكون الواقع زنجياً أو رومياً أو عربياً أو عجمياً، على أنه لا يمتنع أن يكون الراوي اعتقد أن يكون زوجها عبداً فيه تأثير، فروى ذلك لإعتقاده.
__________
(1) في (أ): ذكروا.
فإن قيل: روي عن القاسم عن عائشة أنها قالت: كان عندي غلام لي، تحته جارية لي، فأردت أن أعتقها، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: <ابدأي بالرجل قبل المرأة>، وهذا يدل على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمرها بذلك؛ لئلا يكون للمرأة الخيار في فسخ النكاح؛ إذ لا وجه له غير ذلك، ولو كان لها الخيار إذا أعتقت تحت الحر، بطلت فائدة الخبر. (53/25)
قيل له: وأي غرض للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في أن لا تحصل بتلك الصفة الخيار حتى يُحمل قوله على ذلك.
فإن قيل: لأنه لا فائدة فيه متى لم يحمل عليه.
قيل له: يحتمل أن تكون الفائدة في ذلك فضل الرجال على النساء، ولقول اللّه تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةً}، وكما روي في حديث القسامة أن حويصة ومحيصة لما قدماً(1) إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: <الكِبَر الكِبَر> فأراد تقديم الأكبر لِمَا جُعل للأكبر من الفضل على الصغير(2).
ومما يدل على ذلك أنها ملكت بضعها وهي تحت زوج، فوجب أن يحصل لها الخيار في فسخ النكاح، دليله لو كانت تحت عبد، وهذه علة قوية تترجح على ما يعارضها؛ /101/ لأنها علة منصوص عليها.
لما روي عن النبي(3) صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: <ملكتِ بضعك فاختاري>فجعل العلة الموجبة لخيارها(4) أنها ملكت بضعها من غير أن تملك هي ما قابله من المهر، وهذه العلة موجودة إذا كانت تحت حر، فوجب أن يحصل لها الخيار، ويقوي قياسنا أنا نراعي الأمر المتجدد، وهو العتق، وبه تعلق الحكم، وهو المجاور للحكم، فوجب أن يكون تعلق الحكم به أولى؛ لأنه يفيد شرعاً.
فإن قيل: العلة فيها أن العبد ليس بكفؤ.
__________
(1) في (أ): تقدما.
(2) في (أ): الأصغر.
(3) في (أ): أن النبي.
(4) في (أ): لاختيارها.
قيل له: هذا لا ينافي علتنا، فنقول بالعلتين، على أن الكفر يعتبر في حال العقد، كما أن عدم الطول إلى الحرة عندنا، وعند الشافعي، يراعَى في حال العقد على الأمة، فلم يجب أن يكون معتبراً بعد ذلك. (53/26)
مسألة [في تمكين المتعة من نفسها متى يبطل الخيار]
قال القاسم عليه السلام: فإن مسها برضاها، وقد علمت أن لها الخيار بطل الخيار، فإن لم تعلم أن لها الخيار، ثم علمت، فهي على خيارها.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
ووجه ما قلناه ـ أن تمكينها له من الوطء رضى منها باستدامة النكاح؛ لأن الوطء لا يجوز إلا في النكاح، فإذا مكَّنت من نفسها مع العلم بأن لها الخيار، فقد أظهرت الرضى به، باستدامة النكاح، فوجب أن لا يكون لها بعد ذلك الخيار، وهذا مما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في انقطاع خيارها، فذهب بعض الناس إلى أن ذلك على الفور، وقد ثبت أن ذلك ليس على الفور: لما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا صالح بن عبدالرحمن، حدثنا سعيد بن منصور، عن هشام(1)، أخبرنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما خيرت بريرة رأيت زوجها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته، فكلم له العباس النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يطلبها له، فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: <زوجك وأبو أولادك>؟ فقالت: أتأمرني به يا رسول الله؟ فقال: <إنما أنا شافع>، قالت: إن كنت شافعاً، فلا حاجة لي فيه، فاختارت نفسها(2).
فدل ذلك على المهلة في أمر الخيار، إذ لو لم يكن كذلك، لم يصح مخاطبتها بغير تخييرها، وبعد أن كان زوجها يتبعها في سكك المدينة، وإذا ثبتت المهلة، فلا قول بعدها إلا القول بأن خيارها ثابت، إلى أن تمكن من نفسها على ما نص عليه القاسم عليه السلام.
__________
(1) في (ب): هشام.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاوي الآثار 3/82/83.
وروي أيضاً في بعض الأخبار عن عائشة أنه قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: <أنت أملك بنفسك مالم يَمَسَّكِ>. (53/27)
وقلنا: إنه إن مسها، ولم تكن علمت أن لها الخيار، أنها على خيارها؛ لأن التمكين يدل على خيارها لاستدامة النكاح إذا علمت أن لها الخيار، فإذا لم تعلم ذلك، فلا يدل على أنها [لو لم تعلم أنها] (1) قد اختارت المقام معه، على أنه لا خلاف أنها قد اعتقت فمكنت من نفسها أن خيارها لا يبطل، فكذلك إذا علمت العتق، ولم تعلم أن لها الخيار، والعلة أنها لم تعلم حصول(2) الخيار عند التمكين، فوجب أن لا يسقط ذلك خيارها، يكشف ذلك أن خيارها يسقط إذا تركته مع التمكن من الإختيار، ولا سبيل له إلى ذلك مع فقد العلم بأن لها الخيار.
مسألة [في نكاح العبد]
قال: ولا يصح نكاح العبد إلا بإذن مالكه، ولا فصل بين أن يرضى قبل العقد، أو بعده. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
أما ما ذكرناه من أن نكاح العبد لا /102/ يصح إلا بإذن سيده، فلا خلاف فيه، وقد ذكرنا فيما مضى ما ورد فيه من الأخبار عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وعن أمير المؤمنين عليه السلام، فلا غرض في إعادته.
وما قلناه من أنه لا فصل بين أن يرضى قبل العقد، أو بعده، فالأصل فيه جواز النكاح الموقوف، وقد دللنا عليه فيما مضى [ما ورد فيه] (4)، وبينا أن الإجازة من بعدُ تلحقه، وقد ذكرنا ما روى زيد بن علي عليهما السلام في الرجل الذي رافع عبده إليه، وقد تزوج بغير إذنه، فجعل عليه السلام لسيده فسخ نكاحه، فقال لعبده طَلِّق، فأمضى نكاحه؛ إذ الأمر بالطلاق يقتضي إجازة النكاح، فأغنى ذلك كله عن الإعادة.
مسألة [في مهر ومتعة زوجة العبد إذا طلقها وفي نكاح الحرة على الأمة والعكس]
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ب).
(2) في (أ): بحصول.
(3) انظر الأحكام 1/354.
(4) سقط من (أ).
قال: وإذا تزوج العبد بإذن سيده حرةً، أو أمة، ولم يفرض لها مهراً، ثم طلقها قبل الدخول، فعلى سيد العبد المتعة لها، وإن كان فرض لها مهراً، وجب لها نصف الصداق. (53/28)
ولا يجوز نكاح الأمة على الحرة، ولا بأس بنكاح الحرة على الأمة إذا رضيت به الحرة(1). وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2).
ووجه ما ذهبنا إليه من أن المهر والمتعة يلزمان سيد العبد عنه إذا أذن له في التزويج، أن التزويج من منافع العبد، فسبيله سبيل أن يأمره بشراء ثوب يلبسه، أو طعام يطعمه، في أنه يلزم السيد ما لزمه منه، بعلة أنه جارٍ مجرى الكفاية للعبد، فإذا حصَّله العبد بإذن سيده مع الحجر، فوجب أن يلزم سيده، دليله ما ذكرناه.
فإن قيل: هلاَّ جعلتم ذلك في رقبته، كما جعلتم دين المأذون له في التجارة في رقبته؟
قيل له: الأذن في التجارة إنما هو رفع الحجر عن العبد، فيصير العبد فيه بمنزلة الحر في أن ما يلزمه لا يعدوه، وليس كذلك حاله في النكاح؛ لأن الحجر لم يرتفع عنه، وإنما أُذِنَ له في تحصيل كفاية لنفسه على ما بيناه، فيجب أن يلزمه عوض ذلك، على أن أبا حنيفة يقول: إنه يباع العبد فيه، إلا أن يفديه مولاه، وثمن العبد من مال سيده، فيقال: لا خلاف في القدر الذي يكون مثل قيمته أنه يلزم سيده، فكذلك ما زاد عليه، والعلة أنه مهر التزمه العبد بإذن سيده.
والشافعي يذهب إلى أنه إن كان مأذوناً له في التجارة، أُخِذ المهر مما في يده، وإن لم يكن مأذوناً له، فمن كسبه، وكل ذلك مال السيد، فيقاس ما زاد على ذلك بالعلة التي ذكرناها.
فإن قيل: هلاَّ قلتم: إنه يكون في ذمة العبد يطالَب به إذا عتق؟
__________
(1) في (أ): رضيت الحرة.
(2) انظر الأحكام 1/342 ، 475، وأما تنصيف المهر إن لم يخل بها فإنه لم ينص عليه إلاَّ مجملاً، قال: (كل طلاق قبل دخول فقد سمى بها المهر فللمطلقة فيه نصف مهرها) انظر الأحكام 1/424،341.
قيل له: لأن الذي يحصل في ذمة العبد هو الذي يرضى صاحبه بذلك كان يبيعه شيئاً بغير إذن مولاه، أو يقرضه، وليس كذلك من تزوجته بإذن مولاه؛ لأنها لم ترضَ بكون الشيء في ذمته، فأشبه ذلك أن يباع من المأذون له شيء، أو يباع من المحجور عليه بشيء معين بإذن مولاه، في أن ذلك لا يكون رضى بكون الثمن في ذمة العبد، فكذلك مهر التي تتزوج به بإذن سيده، وإنما يجب ذلك لو كانت تزوجته بغير إذن سيده ظناً منها بأن ذلك جائز ووطئها(1)، ونحن لا نأبى أن الحال إذا كانت هذه يكون المهر ديناً في ذمته يطالب به إذا عتق. (53/29)
وما ذكرناه من أن الأمة لا يجوز تزوجيها على الحرة، وأن الحرة تتزوج على الأمة، مما لا أحفظ فيه خلافاً، وقد رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، وذكر يحيى بن الحسين عليهم السلام أنه مروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وأما ما ذكره يحيى عليه السلام من رضى الحرة بذلك، فليس يتبين لي أنه جعله شرطاً في جواز العقد، وأوجب لها /103/ الخيار، وإن لم يكن عرفته، وليس يبعد عندي أن يكون ذلك قاله استحباباً، ووجه من جعل ذلك موجباً لخيارها إذا عرفته بعد العقد، وهو الأظهر من كلام يحيى بن الحسين عليه السلام أن(2) موضوع النكاح على رفع الغضاضة عن المرأة، كذلك إذا زوجت من غير كفؤ بغير علمها، ثم علمت، ثبت لها الخيار، وكذلك إذا غُرَّت بعبد على أنه حر، كان لها الخيار، وقد علمنا أنها تلحقها الغضاضة بمقاسمة الأمة، فوجب أن يكون ذلك موجباً لها الخيار؛ لأنه نكاح تضمن الغضاضة للمنكوحة.
مسألة [في حكم أولاد الحر من الأمة]
قال: وإذا تزوج الحر أمة، فأولدها، فالأولاد مماليك لسيد الأمة، إلا أن يشترط على سيدها أنهم أحرار، فيجب لهم ما شرط.
__________
(1) في (أ): جائز وطئها.
(2) في (أ): إذ.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1). ولا خلاف أن الحر إذا تزوج أمة من غير اشتراط عتق الأولاد ـ أن الأولاد مماليك، وأن حكم الولد حكم الأم في باب الحرية والرق دون حكم الأب؛ إذ هم بعضها؛ وجارون مجرى العضو منها قبل الإنفصال منها، فيحصل للولد حكمها في ذلك، فأما إذا اشترط على(2) سيد الأمة أنهم أحرار، فعندنا أنهم أحرار، وهو مذهب الإمامية، وأحد قولي الشافعي على ما سمعته من بعض أصحابه. (53/30)
والأصل فيه قول اللّه تعالى: {أوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقوله: {أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً}، وقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: <المؤمنون عند شروطهم>.
ومما يدل على ذلك: أنه جار مجرى قول الرجل لأمته، ما ولدت من ولد، فهو حر في أنه [يجب أن] (3) يكون أولادها أحراراً، فإن سملوا ذلك، لم يكن بينه وبين ما ذهبنا إليه فصل، وإن أبوه، قيل لهم: لا خلاف أن الرجل إذا قال لأمته وهي حامل: ما تلدين، فهو حر، فكذلك إذا قال وهي غير حامل، والعلة فيه أنه قال ذلك في مملوكته التي يصح تحريرها منه.
فإن قيل: العلة في ذلك أن التحرير توجه إلى غير موجود.
قيل له: هذا القدر لا يكون علة؛ لأنه ينتقض بملك الغير، فإن كان ذلك مضافاً إلى علتنا، وجب فساده؛ لأن طريقه إفساد القياس، وأيضاً ألا ترى أن قائلاً لو قال: علة الربا في الحنطة أنه مكيل بر، أو مأكول بر، كان ذلك سد باب القياس، فكذلك ما ذكروه.
فإن قيل: فإن هذا ينقض أصلكم؛ لأنكم تقولون لا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل الملك، وهذا هو عتق قبل الملك.
__________
(1) انظر الأحكام 1/398.
(2) في (أ): اشترط سيد.
(3) سقط من (أ).
قيل له: لا سواء؛ لأن الذي تناولهم التحرير مثل المملوك وفي حكمه لكون الأصل ملكاً للمعتِق، وهي الأم، ألا ترى أن الصدقة لا تصح فيما لا يُملك، ثم لو ملك رجل نخلاً، صح أن ينفقه، ويتصدق بثمرته، وإن لم يكن خرجت؛ لأن الثمرة تصير في حكم المملوكة بكون الأصل مملوكاً وهوالنخل. (53/31)
ويدل على ذلك أنه لا خلاف في المغرور بالأمة أنه يكون ولده منها حراً، فكذلك ما اختلفنا فيه، والعلة أن الزوج دخل في النكاح، على أن أولاده(1) أحرار، وأنه دخل فيه على شرط ثبوته يقتضي أن أولاده(2) من المنكوحة أحرار، والشافعي بمثل هذه العلة أوجب أن العبد إذا تزوج أمة على أنها حرة أن أولاده أحرار.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن ذلك وجب في ولد المغرورة؛ لأنه لم يرض باستيلاد الأمة؟
قيل له: مثل هذا /104/ يصح(3) أن يقال في مسألتنا، وهو أنه لم يرضَ باستيلادها على وجه يجب أن يكون أولاده منها مماليك، فيجب أن يكونوا أحراراً، ويؤكد قياسنا أنه ناقل عن الأصل؛ لأن الأصل في أولاد المماليك من غير سيدهن أنهم مماليك، أو يقال الحرية أقوى من الرق، لجواز طرو الحرية على الرق، وامتناع طرو الرق على الحرية في دار الإسلام، ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة في حر وعبد إذا وطئا أمة بشبهة، وادعيا الولد، أن دعوى الحر التي توجب حرية الولد أولى من دعوى العبد التي توجب رق الولد، فكل ذلك يوضح ما ذهبنا إليه ويقويه.
__________
(1) في (أ): الأولاد.
(2) في (أ): أولادها.
(3) في (أ): لا يصح.
ومما يوضح ذلك أيضاً أن رجلاً لو أقر بعبد لا يملكه أنه حر، فإنه متى ملكه، وجب الحكم بتحريره، فكذلك ما اختلفنا فيه؛ لأن اشتراط مولى الأمة أنهم أحرار يجري مجرى الإقرار، فمتى ولدوا، وجب أن يكونوا أحراراً، ويكشف ذلك أيضاً ما ذهب إليه أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة فيمن تزوج امرأة على أمة، ثم وطء(1) الأمة، فأولدها، وادعى الولد، أن الولد يكون حراً، ولا يثبت نسبه؛ لأن ادعاؤه تضمن الإقرار بحريته، فكذلك الإشتراط أنهم أحرار يتضمن الإقرار بذلك. (53/32)
مسألة [في حكم أولاد العبد من الحرة أو الأمة]
قال: وإذا تزوج العبد حرة، وأولدها، كان الأولاد أحراراً، ولو تزوج العبد أمة فأولدها، فالولد لمولى الأمة، فإن اشترط مولى العبد أن يكون الولد بينهما، كان الشرط باطلاً.
جميع ذلك منصوص عليه في (المنتخب)(2)، نص فيه على أنه يستحب الوفاء بالشرط الذي جرى بين مولى العبد ومولى الأمة، وإن كان الحكم لا يوجبه جميع ما مضى في هذا الفصل مما لا خلاف فيه، إذ لا خلاف على(3) ما بيناه أن حكم الولد حكم الأم في الحرية والرق، مالم يعرض أمر يقتضي خلافه، فوجب ذلك(4) أن يكون ولد الحرة من العبد حراً، ووجب أيضاً أن يكون ولد الأمة لمولى الأمة، دون مولى العبد؛ لأن حكمه إذا كان حكم الأم في الرق والحرية، وجب أن يكون تابعها، وكالبعض منها، ولا خلاف أن اشتراط مولى العبد، ومولى الأمة، باطل؛ لأن ذلك كان شرط للأجنبي، ولو اشترط له، لم يلزمه الوفاء به، كذلك إذا اشترط مولى العبد.
وقلنا: إن الوفاء به يستحب؛ لأن الشروط جارية بين المسلمين يستحب الوفاء بها، مالم يؤد إلى المآثم، فكذلك هذا الشرط، لقول(5) النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: <المؤمنون عند شروطهم>.
مسألة [في إفساد الملك للنكاح]
__________
(1) في (أ): فوطئها.
(2) انظر المنتخب 135 ـ 136.
(3) في (أ): فيما.
(4) في (أ): لذلك.
(5) في (أ): لقوله.
قال: وإذا تزوج رجل أمة، ثم اشتراها قبل الدخول بها فقد أفسد الملك النكاح، وليس إفساده إياه طلاقاً، وللمشتري أن يطأها بالملك، وليس لسيدها الأول أن يطالب زوجها بنصف صداقها الذي شرط لها، فإن أحب هذا الذي اشتراها أن يتزوجها، أو يزوجها، أو يهبها، أو يبيعها، كان له ذلك. (53/33)
فإن كان حين تزوجها دخل بها، ثم اشتراها، فقد أفسد الملك النكاح، وله أن يطأها بالملك، وللذي باعها على المشتري الصداق كاملاً، وإن أراد المشتري أن يزوجها، أو يبيعها، لم يجز ذلك حتى تستبري بثلاث حيض. جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (1).
قلنا: إن من تزوج أمة، ثم اشتراها، فقد أفسد الملك النكاح؛ لأنه لا خلاف أن النكاح، ومِلْكُ أحد الزوجين من صاحبه لا يجتمعان، وأن حصول الملك يمنع النكاح، وأن ورود الملك على النكاح يفسده، ولا فصل بين أن يملك أحدهما جميع صاحبه، أو شقصاً منه، فيما ذكرناه بعد أن يكون الملك ثابتاً، فلذلك قلنا: إن الزوج إذا اشترى /105/ زوجته فسد النكاح بينهما؛ لأنه يكون قد تملكها(2).
وقلنا: إن فساد النكاح في ذلك لا يكون طلاقاً؛ لأن الأحوال المنافية للنكاح، إذا عرض منها شيء فأفسد النكاح لم يكن طلاقاً، نحو الردة، أو الإسلام(3)، أو الرضاع، فكذلك الملك.
وقلنا: إن للمشتري أن يطأها بالملك؛ لأنها صارت ملكاً له وقد قال اللّه تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ولا خلاف فيه.
وقلنا: إنه ليس لصاحبها الأول أن يطالبه بنصف الصداق إن كان اشتراها الزوج قبل الدخول بها؛ لأن مولاها لما باعها منه، تعلق فسخ النكاح به، وصار مانعاً من البضع أن يوطأ بحق النكاح، فوجب أن يسقط المهر؛ لأن الفسخ هنا تعلق بمن يستحق المهر، كالتي ترتد، أو ترضع زوجها في الحولين.
__________
(1) انظر الأحكام 1/368.
(2) في (أ): ملكها.
(3) في (أ): والإسلام.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن الفسخ وإن تعلق بمولاها حين باعها، فقد تعلق بالزوج أيضاً، فلا يجب أن يسقط المهر، كالخلع يتعلق بالمرأة، ولتعلقه بالزوج لا يجب أن يسقط المهر فيه؟ (53/34)
قيل له: الخلع عندنا طلاق، ولا تعلق له بالمرأة، وإنما يتعلق بها طلب الفرقة والإبراء ممايقع الخلع عليه، والبدل له، وشيء من ذلك ليس بطلاق، فلم يكن تعلق بالمرأة على وجه من الوجوه، فلم يجب ذلك أن يكون مسقطاً للمهر.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن تعلقه بالزوج يوجب أن لا يسقط المهر، وإن كان الأمر في الخلع على ما ذكرتم؟
قيل له: قد علمنا أن فسخ نكاح المرتدة ـ له بالزوج بعض التعلق؛ لأن الزوج لو لم يقم على الإسلام، وارتد معها، لم تجب الفرقة، فيكون له بالزوج بعض تعلق، لكن تعلقه بالمرأة يوجب سقوط المهر، فكذلك ما ذكرناه.
وقلنا: إن للمشتري أن يهبها إن شاء، أو يزوجها، أو يبيعها؛ لأنه قد ملكها، فله أن يتصرف فيها بجميع تصرف المالكين فيها.
وقلنا: إن المشتري إذا كان دخل بها قبل أن يشتريها، استحق بائعها عليه المهر كاملاً؛ لأن الدخول يستحق به كمال المهر، فإذا حصل ذلك وهي في ملك البائع؛ استحق كمال المهر، ولم يسقط ما يعرض بعده، كما أنه لو طلقها بعد ذلك، أو ارتد أيهما كان، أو عرض أي وجه من وجوه الفسخ من قِبَله أو قِبَلها، لم يؤثر ذلك.
وقلنا: إن المشتري(1) إن أراد أن يزوجها، أو يبيعها، لم يكن له ذلك حتى تستبري بثلاث حيض؛ لأنها معتدة عن نكاح، وقد بينا فيما تقدم أن عدتها عدة الحرة سواء، فلذلك منعنا تزوجيها من غيره حتى تعتد بثلاث حيض، فأما البيع فيمنع منه كما يمنع البائع من بيع من كان يطأها من قبل الإستبراء، فإذا كان استبراء هذه بثلاث حيض، كما أن استبراء الموطوءه بملك اليمين حيضة، منعنا من بيعها قبل ثلاث حيض، كما تمنع الموطؤءة بملك اليمين من بيعها قبل الحيضة الواحدة.
__________
(1) في (أ): للمشتري.
مسألة [في المرأة تملك زوجها العبد] (53/35)
قال: وإذا كانت الحرة تحت العبد فملكته، أو ملكت بعضه، بطل النكاح، فإن اعتقته، كان لهما أن يستأنفا نكاحاً جديداً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1)، ووجهه ما بيناه من أنه لا خلاف في أن الملك يمنع النكاح، ولا فصل بين أن تملك الرقبة بكمالها، وبين أن تملك شقصاً منها، فإذا ثبت ذلك، صح ما قلناه من أن الحرة إذا ملكت زوجها، أو شقصاً منه، بطل النكاح.
وقلنا: إن لهما أن يستأنفا النكاح إذا أعتقته؛ لأنه إذا صار حراً زال عنه ملكها، فصح منه نكاحها، كما يصح نكاح غيرها.
مسألة [في المكاتب يشتري زوجته]
قال: ولو أن مكاتباً كان تزوج أمة قبل كتابته بأمر سيده، ثم اشتراها في حال كتابته قبل العتق، لم يبطل النكاح، فإذا أدى جميع ما كوتب عليه، /106/ فسد النكاح، وكان له أن يطأها بالملك.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2).
ووجهه أن المكاتب لا يستقر ملكه مالم يُعتَق، ولا يعتق إلا بأداء ما كوتب عليه؛ لأنه متىعجز عن أداء ما كوتب عليه كان مردوداً في الرق، وقد علمنا أن الرق لا يطرأ على الحرية في دار الإسلام، فإذا لم يستقر ملكه، وكان موقوفاً، لم يبطل نكاحه؛ لأنه لم يملك زوجته ملكاً ثابتاً، وثبوت الملك هو المزيل للنكاح، فلهذا قلنا: إن نكاحه لم يبطل، وأن له أن يطأهابالنكاح، فأما إذا أدى ما كوتب عليه، فقد عتق بالإجماع، واستقر ملكه لما في يده، فصار مالكاً لزوجته، فوجب بطلان النكاح، فإذا بطل النكاح، وحصل الملك، جاز له أن يطأها بالملك.
مسألة [في إنكاح المملوكة والمدبرة والمكاتبة]
قال: ويجوز للرجل أن يزوج مملوكته ومدبرته، وإن كرهتا، وليس له أن يزوج مكاتبته إلا برضاها، ويكون المهر للمكاتبة، وكذلك القول في أم الولد إذا أعتقها.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (3).
__________
(1) انظر الأحكام 1/375.
(2) انظر الأحكام 1/401.
(3) انظر الأحكام 1/399.
قلنا: إن للمولى(1) أن يكره مملوكته ومدبرته على النكاح لقول اللّه تعالى: {وَانْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}، فجعل سبحانه لنا إنكاح عبيدنا وإمائنا، ولم يشترط رضاهم، فوجب أن يكون ذلك جائزاً. (53/36)
ويدل على ذلك أن وطء الأمة يملكه مولاها، فوجب أن يكو، له تثبيت حق الغير فيه من غير اعتبار رضاها، كما أن له تثبيت حق للغير في سائر منافعها بالإجارة وغيرها، والعلة أنه منفعة يملكها مولاها منها من غير أن تكون هي فراشاً له.
فإن قيل: فالزوج أيضاً يملك وطأها، ومع ذلك ليس له أن يثبت فيه حقاً للغير.
قيل له: الزوج ليس بمالك لوطئها، وإنما له فيه حق الإستباحة، ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة، كان المهر للمولى دون الزوج، وإذا كان هذا هكذا، سقط هذا الإعتراض، على أنه لو كان مالكاً بضعها، لم يلزم على علتنا؛ لأنا اشترطنا فيها أن لاتكون هي فراشاً له، فدل(2) ذلك على أن الأمة لا تملك من نفسها عقد النكاح مع صحته فيها، فوجب أن يملكه منها مولاها من غير اعتبار رضاها، دليله سائر التصرف من البيع، والإجارة، والهبة، يؤكد ذلك أن إقرارها بالدَين، لما لم تملكه، ملكه المولى منها، وإقرارها بما يوجب الحد، لَمَّا ملكته من نفسها، لم يملكه عليها مولاها.
وما ذكرناه من الآية والعلة الثانية يدلان على أن لسيد العبد أن يكرهه على التزويج، وكلامه في (الأحكام) محتمل في جواز إكراه المولى العبد على النكاح، وأبو العباس الحسني حكى عنه جواز ذلك في (النصوص)، وهو الأصح، وهو الصحيح عن أبي حنيفة على ما حكاه أبو الحسن الكرخي عنه، وأبو بكر الجصاص، وهو قول أبي يوسف، ومحمد، قال الشافعي : ليس له أن يكره العبد على النكاح، وله أن يكره الأمة على ذلك، على أنه إذا لم يخالف في الأمة، أمكن أن يقاس العبد عليها، والعلة أنه شخص مملوك يصح تزويجه، فوجب أن لا يكون رضاه معتبراً.
__________
(1) في (أ): للولي.
(2) في (ب): يدل.
وأما المكاتبة فقلنا: إنه لا يزوجها إلا برضاها، لأنها صارت بالكتابة في يد نفسها، وفي حكم المالكة لنفسها وأمرها، فلم يصح تصرف المالك فيها، كما لا يصح تصرفه فيها بالبيع، وعقد الإجارة، والهبة، ولم يجز أيضاً وطؤها، وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يكون مهرها لها إذا زوَّجها برضاها، كما أن سائر منافعها وكسبها يكون لها. وقلنا: إن أم الولد إذا عتقت(1) لم يزوجها إلا برضاها، ويكون المهر لها؛ لأنها قد صارت حرة، فلم يبق لسيدها إلا حق الولاية، إذا لم يكن ولى أولى منه، فوجب أن يكون حكمها حكم سائر الحرائر. (53/37)
مسألة [في إنكاح أم الولد]
قال: ولا يجوز إنكاح أم الولد إلا بعد العتق. وهذا مما قد نبه عليه في (الأحكام) (2)، وصرح به في (الفنون)، وعامة الفقهاء ذهبوا إلى أن له إنكاحها.
ووجهه أن لها فراشاً ثابتاً يوجب إلحاق النسب، فوجب أن لا يجوز له إنكاحها إلا بعد إنقطاع الفراش وحكمه، دليله المزوجة من الحرائر والإماء يوضح ذلك أن الموطوءة بالشبهة [لما] (3) لما صارت فراشاً، لم يجز /107/ إنكاحها إلا بعد انقطاع حكم الفراش، والموطوءة بالزنا لم يصر لها فراشاً جاز إنكاحها في الحال من غير مراعاة حال يتعلق بالوطء.
وكذلك الأمة الموطوءة بملك اليمين، لما لم تصر بذلك الوطء فراشاً، جاز إنكاحها.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن العلة فيما ذكرتم أن المرأة لا يحل لها زوجان؟
__________
(1) في (أ): أعتقت.
(2) انظر الأحكام 1/399.
(3) سقط من (أ).
قيل له: هذا هو الحكم، والعلة أنها لما صارت فراشاً لواحد، لم يجز أن تصير فراشاً لآخر إلا بعد انقطاع الفراش الأول وحكمه، على أنا لو جعلنا الموطوءة بالشبهة أصلاً، لسقط هذا الإعتراض؛ لأنها ليست متزوجة، ومع هذا لما ثبت فيها فراش لواحد، لم يجز أن ينكحها غيره إلا بعد انقطاع حكم ذلك الفراش، يؤكد ذلك أن أم الولد يتجاذبها حكم الرق، وحكم العتق، وقد ثبت أن حكم العتق أولى، لإشتماله على حكم الحظر في الشرع، لأن العتق يزيل(1) الرق، والرق لا يزيل العتق في دار الإسلام، فإذا ثبت ذلك، فكان(2) إنكاحها قبل استكمال الحرية إنكاحاً من غير اعتبار رضاها، وإنكاحها بعد العتق لا يثبت إلا برضاها، وكان نكاح الحرائر البالغات لا يكون إلا برضى منهن، وجب أن يكون النكاح الذي هو للحرائر أقوى، فكان القول به أولى، وايضاً أصل المخالف هو الأمة، وكون الأمة أمة لا يختص بجواز نكاحها؛ لأن الحرة في ذلك كالأمة وأصلنا هي التي تكون قد صارت فراشاً، وهي تختص بالمنع من إنكاحها، فصار أصلنا بفرعنا أخص من أصلهم بفرعهم، فوجب أن يكون قياسنا أولى. (53/38)
ومما يدل على ذلك أيضاً أن أم الولد لا يجوز بيعها على وجه من الوجوه، فوجب أن لا يجوز نكاحها إلا برضاها، دليله الحرة البالغة، و إذا ثبت أنه لا يجوز إنكاحها إلا برضاها، فلا قول بعده إلا قول من يقول: إنه لا يجوز إنكاحها إلا بعد العتق.
مسألة [في نفقة الأمة وأولادها إذا تزوجت]
قال: وإذا تزوج الرجل أمة، كانت نفقتها على من اشترطت عليه، فإن لم تكن شرطت، كانت النفقة على الزوج إذا خلَّوا بينه وبينها، وليس لمواليها أن يمنعوها من زوجها، ومن المبيت عنده، ولهم أن يخرجوها من بلدهم إلى غيره، وكذلك لهم أن يبيعوها، فإن أولدها، كانت نفقة الأولاد على مولى الأمة، إلا أن تكون اشترطت على أبيهم، فإن كانت اشترطت على أبيهم، لزمته.
__________
(1) في (أ): حكم الرق.
(2) في (أ): وكان.
وهذا جميعه منصوص عليه في (المنتخب) (1)، ونص في (الأحكام)(2) على نفقة الأمة إذا تزوج بها عبد أنها موقوفة على تسليمها إلى الزوج، فيجب أن يكون ذلك حكم الحر إذا تزوج بالأمة، وهو الأصح. (53/39)
ووجهه: أن النفقة تستحقها المرأة باستدام تسليمها نفسها إلى الزوج، وليست كالمهر تستحقه بتسليم مرة واحدة، يبين ذلك أنها إذا نشزت بعد التسليم، سقطت نفقتها، ولم يسقط مهرها، فإذا كان هذا هكذا، فهي متى سلمت إلى الزوج بحيث تختاره، لزمته نفقتها إن كان حراً، أو سيده إن كان عبداً، على ما بيناه في المهر، ومتى لم تُسَلَّم إلى الزوج، وإنما خلى بينه وبين وطئها فقط، فلا نفقة لها على زوجها، وهي على سيدها.
ووجه إيجابها بحسب الشرط أن النفقة لما كانت تجب باستدامة التسليم، وكانت استدامة التسليم غير واجبة، إذ لا خلاف أن لهم أن يستخدموها، أو يبيعوها، ويسلموها من المشتري، لم يحكم بوجوبها على الإطلاق، ولما لم يحكم بوجوبها على /108/ الإطلاق، راعى فيه الشرط، ولم يجعل حكمها حكم الحرة؛ لأن الحرة يجب استدامة تسليمها، فإن لم يكن لهم في ذلك شرط روعي فيه استدامة التسليم.
وقلنا: ليس لمواليها أن يمنعوها من زوجها، ومن المبيت عنده، لأنه قد ثبت له حق في وطئها، فلا بد من وقت يستوفي فيه حقه.
وقلنا أن(3) لهم أن يخرجوها من بلدهم إلى غيره، وكذلك لهم أن يبيعوها؛ لأن حقهم في استخدمها ثابت كما كان، ولهم مزية الملك لرقبتها، فكان لهم نقلها إلى بلد اختاروه، ووجب على الزوج اتباعها لا ستيفاء حقه إن أراد ذلك.
وقلنا: إن لهم أن يبيعوها؛ لأن ملكهم لها باق كما كان، ولا خلاف فيه.
وقلنا: إن أولدها، لم تلزمه نفقة الأولاد؛ لأنهم مماليك لمولى الأمة، ولا حق له فيهم، فلم تلزمه نفقتهم.
__________
(1) انظر المنتخب 135.
(2) انظر الأحكام 1/496.
(3) في (أ): أن لهم.
وقلنا: إلا أن يشترطوا؛ لأنهم متى اشترطوا ذلك، جرى مجرى منفعة زائدة في المهر، ولا تفسدها الجهالة على ما بيناه في باب المهور. (53/40)
مسألة [في نفقة امرأة العبد الحرة]
قال: وإذا تزوج العبد حرة، فسوفر به ـ كان له أن يخرج زوجته، ونفقتها على مولى العبد، وكذلك إن اشترى العبد، كانت نفقتها على المشتري، فإن أولدها، كانت نفقة الأولاد على الأم.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1).
ووجهه أن الحرة إذا تزوجت، وجب عليها تسليم نفسها على الإستدامة إلى الزوج، ولا حق فيها لغيره، وليس حكمها حكم الأمة؛ لأن سائر حقوق المولى في الإستخدام باقٍ عليها، فإذا كان ذلك كذلك، كان للعبد أن يخرجها إلى حيث يخرج، كما يجب عليها ذلك لو كانت تحت حر، فأما نفقتها، فتجب على مولى العبد؛ لأن المولى لما أذن له في النكاح، كان ذلك جارياً مجرى الضمان للمهر والنفقة على ما سلف القول فيه، وكذلك المشتري الثاني إذا اشتراه، ورضي بأن يكون متزوجاً، كان ذلك جارياً مجرى الضمان لنفقتها، كما أنه ضامن لنفقته.
وأما نفقة الأولاد فإنها تلزم أمهم دون الأب ما دام عبداً؛ لأن وجوبها لا يتعلق بعقد النكاح، فلا يجب أن يضمنها سيد العبد، والعبد لا تلزمه حقوق الأموال، مالم يكن منه إتلاف، أو ما يجري مجراه، فلذلك لم يلزمه، على أن نفقة الأولاد لا تلزم إلا بالوجدان، بدلالة أنها إذا فاتت، لم يطالبوا بها، وإذا كان ذلك كذلك، لم يصح أن يلزم العبد؛ لأن العبد لا ملك له.
باب القول في معاشرة الأزواج
[مسألة في المقام عند البكر والثيب]
إذا تزوج الرجل بكراً، أقام عندها سبعة أيام بلياليها، وإن تزوج ثيباً، أقام عندها ثلاثة أيام.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، وهو قول الشافعي، قال أبو حنيفة: إن فضل واحدة منهن بذلك أقام مثله عند كل واحدة من نسائه.
__________
(1) انظر المنتخب 135.
(2) انظر الأحكام 1/374.
والأصل فيه: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن خالد الحذَّاء، سمعت أبا قلابة يحدث عن أنس قال: من السنة إذا تزوج بكراً، أقام عندها سبعاً، وإذا تزوج ثيباً، أقام عندها ثلاثاً(1). (53/41)
وأخبرنا المقري، قال حدثنا الطحاوي، حدثنا صالح، حدثنا هشيم، أخبرنا حميد، حدثنا أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أصاب صفية بنت حيي، واتخذها، أقام عندها ثلاثاً(2).
وأخبرنا المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا /109/ يونس، أخبرنا سفيان، عن عبد اللّه بن أبي بكر ، عن عبدالملك بن أبي بكر بن عبدالرحمن، قال: لما بنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بأم سلمة، قال لها: <ليس [بك] (3) على أهلك هوان، إن شئت سبعت عندك، وإلا فثلثت، ثم أدور>(4).
وفي بعض الأخبار <إن شئت سبعت، وسبعت عندهن، وإن شئت، ثلثت، ثم درت>، فقد دلت هذه الأخبار كلها على صحة ما ذهبنا إليه، وصرحت به، لأن أنساً قال [من] (5) السنة إذا تزوج البكر(6)، أقام عندها سبعاً، وإذا تزوج الثيب، أقام عندها ثلاثاً، فدل ذلك على أن السبع حق للبكر، وأن الثلاث حق للثيب، ولم يذكر القضاء، وكذلك قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: <إن شئت سبعت لك، وإلا فثلثت، ثم أدور>،مع قوله: <إن شئت سبعت لك وسبعت عندهن> فيه دليل على أن الثلاث حق لها، لأنه ذكر القضاء مع السبع، وذكر الدور مع الثلاث، ففصل بين الأمرين.
فإن قيل: يحتمل ان يكون المراد بقوله: <للبكر سبع، وللثيب ثلاث مع القضاء>.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/28.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/28.
(3) سقط من (أ).
(4) في (أ): (إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لسائر نسائي وإن شئت فثلثت ثم أدور). أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/28، وهو كما في نسخة (ب) وما في (أ) أخرجه سند آخر.
(5) سقط من (ب).
(6) في (أ): الرجل البكر.
قيل له: هذا لا يصح؛ لأن المراد به لو كان مع القضاء، لم يكن لتخصيص البكر بالسبع، والثيب بالثلاث(1)، فائدة؛ لأن من يقول بالقضاء لا يذهب إلى تخصيصها بذلك، بل نقول: له ان يخص كل واحدة منهما بما خص مع القضاء، وكذلك مقامه صلى اللّه عليه وآله وسلم عند صفية بنت حيي ثلاثاً يدل على أن ذلك حق لها، ولم يروَ القضاء، فثبت الحق، ولم يثبت القضاء. (53/42)
فإن قيل: لو كانت الثلاث حقاً للثيب، لم يقل لأم سلمة (إن شئتِ سبعت لك، وسبعت عندهن)، بل كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: <سبعت لك وربعت لهن> إذ الثلاث على قولكم حق لها.
قيل له: لا يمتنع أن يكون لها حقان على سبيل التخيير، ثلاث على الإختصاص، أوسبع مع القضاء، ويكون مزية حظها أنها المبتدأة بالسبع، على أن قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: <إن شئتِ سبعت لك، وسبعت لهن، وإن شئت ثلثت، ثم درت>، يدل على أن الثلاث لها؛ لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم فصل بين السبع والثلاث، وبيَّن أن الثلاث لا توجب التثليث لغيرها.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيْعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلُو حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيْلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}، فنبه على وجوب التسوية ما أمكن.
وروى عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: <من كان له امرأتان، فمال إلى إحداهما دون الأخرى، جاء يوم القيامة وشقه مائل>.
قيل له: هذا مما كان ظلماً أو حيفاً، دون ما يكون حقاً للواحدة منهن، أو حقاً للزوج، ألا ترى انه لا خلاف]، في أن للرجل ان يسافر بمن شاء منهن، وأن يخص بالوطء من شاء منهن، وان قسم الأمة قاصر عن قسم الحرة، فإذا ثبت ذلك، وثبت بالأخبار التي بيناها أن السبع حق للبكر، وأن الثلاث حق للثيب، وجب أن تكون الأخبار مخصصة لما تعلقوا به من الآية والخبر.
__________
(1) في (ب): الثلاث.
فإن قيل: لما كانت مساويةلهن في النفقة، وبعد هذه القسمة في القسم، وجب أن تكون مساوية لهن في أول القسم، والعلة أنه من حقوق النساء. (53/43)
قيل له: هذه العلة منتقضة بالإماء؛ لأنهن يساوين الحرائر في النفقة، ولا تساوي بينهن في القسمة، وأيضاً يجب التساوي بينهن(1) في الحضر بعد ذلك، ولا يجب ذلك في السفر؛ إذ له المسافرة بواحدة منهن، وإن صحت لهم علة، أمكن أن تعارضَ، بأن يقال: هما امرأتان مختلفتا الحال في الحد، فوجب أن تكونا مختلفتي الحال في القسم، دليله الأمة /110/ والحرة، ثم يقوي قياسنا باستناده إلى النصوص التي تقدمت، وبأنه ينقل ويفيد حكماً شرعياً.
مسألة [في العدل بين النساء في الميت]
قال: ويجب على الرجل أن يسوي بين نسائه في لياليه وأيامه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، وذكر أبوالعباس الحسني رحمه اللّه تعالى أن كلام القاسم عليه السلام في (مسائل بن جهشيار) تدل على تفضيل الحرائر على الإماء إذا كن زوجات في القَسْم.
والأصل فيما ذكرناه قول اللّه تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيْعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلُو حَرَصْتُمْ..} الآية، فنبه على التسوية.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان يعدل بين نسائه في القَسْم ثم يقول: <اللهم هذا قَسْمي في ما أملك فلا تؤاخذني بما تملك، ولا أملك>، يعني ميل القلب.
وروي عن الحسن، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: <تنكح الحرة على الأمة، وللحرة الثلثان من القسم، وللأمة الثلث>.
وروي عن علي عليه السلام نحو ذلك.
مسألة [في المرأة تهب ليلتها]
قال: ولو أن امرأة وهبت ليلتها لزوجها، أو لبعض نسائه، جاز ذلك، ولها أن ترجع فيما وهبت.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
__________
(1) في (ب): منهن.
(2) انظر الأحكام 1/411.
(3) انظر الأحكام 1/374 ـ 375.
والدليل على ذلك قول اللّه تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلِيْهِمَا أَنْ يُصَالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً}، وروي أنها نزلت في مثل ذلك. (53/44)
واحتج يحيى بن الحسين عليهما السلام بما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه أراد أن يفارق سودة بنت زمعة فسألته ألا يفارقها، ووهبت يومها لعائشة.
ويدل على ذلك أن القَسْم حق لها لا يتعلق بغيرها على وجه من الوجوه، فصح فيه التصرف إلى غيرها.
وقلنا: إن لها الرجوع فيما وهبت؛ لأن ذلك هبة المنافع، وهو جارٍ مجرى العارية، فوجب أن يصح الرجوع فيه.
مسألة: [في العزل]
قال : ولا بأس بالعزل عن الحرة إذا لم يضارها، قال: وقال القاسم عليه السلام : إلا أن يكون بينهما مناكرة. قال: ولا بأس بالعزل عن الأمة، وإن أنكرت.
ما ذكرناه أولاً منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وما حكيناه عن القاسم عليه السلام مروي عنه فيه، وتحصيل ذلك أن العزل عن الحرة يجوز بإذنها؛ لأن بإذنها يحصل ارتفاع المضارة والمناكرة.
ووجهه: ما روي عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها، روى ذلك أبو بكر الجصاص بإسناده في (شرح المختصر) يرفعه إلى أبي هريرة.
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، حدثنا أحمد بن داود، حدثنا(2) أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرواسي، عن أبيه، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أذن في العزل، فوجب أن يكون هذا الخبر محمولاً على الأمة لدلالة الخبر الأول(3).
__________
(1) انظر الأحكام 1/356/ 357.
(2) في (ب): حدثنا.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/35.
وأيضاً أخبرنا المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا محمد بن حازم، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، قال: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله /111/ وسلم رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، إن لي جارية تسقي علىناضح، وانا أصيب منها، أعزل عنها؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : <نعم>. فأذن له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في ذلك في الجارية، ولم يشترط أذنها، وأيضاً الحرة لها حق في الولد فليس للزوج أن يمنعها التوصل إلى حظها إلابإذنها، والأمة وإن كان له حق أيضاً في ولدها، فإن مولاها هو المستوفي لحقوقها، ولم يجب أن يكون لرضاها معتبر(1). (53/45)
مسألة [في المرأة متى تصلح للجماع]
قال: وللرجل أن يدخل بأهله إذا صلحت للجماع، ومعرفة ذلك إلى النساء، ولا معتبر بالسن. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2).
والأصل فيه قول اللّه سبحانه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّا شِئْتُمْ}، وقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} فأباح وطئهن، ولم يشترط سناً لهن دون سن، فوجب أن يجوز ذلك في جميع الأحوال إلا الأحوال التي تختصها الدلالة.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه دخل بعائشة ولها تسع سنين، فهلاَّ جعلتموه حداً.
قيل له: ليس في الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جعل ذلك للتي لم يدخل بها حداً، وإنما يدل هذا على أن التي لها تسع سنين قد يجوز الدخول بها، وهذا ممالا نأباه، وأيضاً الوطء حق للزوج، فيجب أن يجوز له استفاؤه متى أمكن، دليله لو كانت الزوجة بالغة، وأيضاً لو صلحت المرأة للجماع، فلا مانع [يمنع] (3) من استيفاء الرجل حقه من وطئها، فيجب أن يكون ذلك جائزاً كسائر الحقوق التي لا مانع من استيفائها.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/35 الآثار وفيه تسير تستقي على ناضحي.
(2) انظر المنتخب 129.
(3) سقط من (أ).
وقلنا: إن معرفة ذلك إلى النساء؛ لأنه لا إشكال أنهن أعرف بهذه الحال من أنفسهن. (53/46)
مسألة [في إتيان النساء في أدبارهن]
قال: ويحرم علىالرجال إتيان النساء في أدبارهن.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وهو قول عامة الفقهاء من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، وذهبت الإمامية إلى استباحة ذلك، وحكي مثله عن مالك.
والأصل فيه قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حِيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} فخصص، ولا قول مع التخصيص إلا ما قلناه.
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، حدثنا سعيد، حدثنا الليث بن سعد، حدثني عبيدالله بن عبد اللّه بن حصين(2) الأنصاري، عن هرمز بن عبد اللّه الواقفي، عن خزيمة بن ثابت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: <لا تأتوا النساء في أدبارهن>(3).
وأخبرنا المقري، قال: حدثنا الطحاوي، حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، قال: <هي اللوطية الصغرى>، يعني وطء النساء في أدبارهن(4).
وأخبرنا أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا حماد بن سلمة، عن حكيم الأشرم، عن أبي تميمة، وهو الهجمي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: <من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد>(5).
__________
(1) انظر الأحكام 1/409 ـ 410.
(2) في (أ): الحصين.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/44 وفيه حدثني عبيد الله بن عبد الله بن السين الأنصاري عن حرمى بن عبد الله الوائلي.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح الآثار 3/44 وفيه وحدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا الخصيب بن ناصح، حدثنا همام، عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/40 وفيه الأثرم بدل الأشرم.
وحدثنا أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن سهل بن أبي صالح، عن محمد بن المنكدر، عن جابر أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، قال: <إن اللّه لايستحي من الحق، لا تأتوا النساء في محاشهن> فهذه نصوص قد صرحت بما ذهبنا إليه، والأخبار في هذا كثيرة اقتصرنا على ما ذكرنا كراهية /112/ للإطالة(1). (53/47)
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، وفي هذا إباحة القبل والدبر.
قيل له: ظاهر الآية لا يدل على ما قلتم؛ لأنه تعالى قال: {فَآتُوْا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} والحرث هو موضع الزرع، ولا يطلب الزرع إلا في القبل، على أنه قد ورد في ذلك ما كشف عن المراد به وهو: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا ابن جريج أن محمد بن المنكدر حدثه، عن جابر بن عبد اللّه قال: إن اليهود قالوا للمسلمين من أتى امرأة وهي مدبرة جاء ولده أحول، فأنزل اللّه تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}، الآية، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: <مقبلة ومدبرة، ما كان في الفرج>(2).
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/45 وفيه سهيل بن أبي صالح.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/41.
وأخبرنا المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا ربيع الجيزي، حدثنا أبو الأسود، أخبرنا ابن لهيعة، عن زيد بن أبي حبيب، أن عامر بن يحيى المعافري، حدثه أن حسين بن عبد اللّه الشيباني حدثه انه سمع ابن عباس يقول: إن ناساً من حمير أتوا إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يسألونه عن النساء فأنزل اللّه تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، مقبلة ومدبرة إذا كان في الفرج، فبان بما ذكرناه من الأخبار صحة ما قلناه(1). (53/48)
وقد روي مثل قولنا عن كثير من الصحابة ولم يُروَ خلافه عن أحد منهم، إلا عن ابن عمر، وقد اختلفت الرواية عنه في ذلك، وادُّعى الغلط على نافع في روايته ذلك عن ابن عمر، فكأنه لم يرو عنه شيء وثبت مثل قولنا عن غيره، فجرى مجرى الإجماع، فلم يجز القول بخلافه.
مسألة [في نظر الزوج إلى فرج زوجته والعكس وفي إتيان المرأة من دبرها]
قال القاسم عليه السلام: لا بأس لكل واحدمن الزوجين أن ينظر إلى فرج صاحبه، قال: ولا بأس للرجل أن يأتي المرأة في فرجها مقبلة ومدبرة.
ما حكيناه أولاً عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل عبد اللّه بن الحسن).
وما حكيناه عنه ثانياً منصوص عليه في (مسائل النيروسي عنه).
ووجه ما قلناه من أنه لا بأس لكل واحد من الزوجين أن ينظر إلى فرج صاحبه أنه ضرب من المباشرة والإفضاء، قال اللّه تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ}، وقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}، ولأنه أحد الإستمتاعين، فإذا أبيح [له] (2) الأعلى، فالأدنى أولى بذلك.
وقلنا: إن للرجل أن يأتي أهله مقبلاً ومدبراً في الفرج، لما قدمناه من الأخبار في هذا الباب.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/43، وفيه عن يزيد بن أبي حبيب أن عامر بن يحيى المعافري حدثه أن حنش بن عبد الله حدثه.
(2) سقط من (ب).
وأخبرنا بذلك ـ أيضاً ـ أبو الحسين البروجردي، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا علي بن جعدة، أخبرنا سعيد بن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد اللّه يقول: قالت اليهود: إذا أتى الرجل أهله باركة، كان ولدها أحول، فأنزل اللّه تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ..} الآية، ولأنه أيضاً من المباشرة والإفضاء على ما قلناه قبل هذا. (53/49)
مسألة [في الستر أثناء الجماع، وفي الجماع وفي البيت غيرهما]
قال: ويكره للرجل والمرأة أن لا يكون عليهما عند المجامعة ما يسترهما من ثوب وغيره، وكذلك يكره للرجل أن يجامع أهله وفي البيت غيرهما.
قال القاسم عليه السلام: إلا أن يكون ذلك عند الضرورة، فلا بأس إذا لم يُفطن بحالهما، واجتهدا في إخفاء أمرهما.
ما ذكرناه أولاً منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وفي مسائل النيروسي.
أما التكشف فمكروه في جميع الأحوال إلا من ضرورة، هذا إذا /113/ لم يره أحد، فأما إذا رآه أحد من البالغين غير حرمته، فإنه حرام إلا من ضرورة، قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: <نهيت أن أمشي وأنا عريان> فكان ذلك عند الجماع أولى.
وما ذكرناه من انه يكره أن يجامع الرجل أهله وفي البيت غيرهما لا خلاف فيه، قال يحيى عليه السلام: وبلغنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى أن يجامع الرجل أهله وعنده أحد حتى الصبي في المهد.
ووجه ما ذكرناه عن القاسم عليه السلام هو أن أحوال الضرورات مستثنيات من الكراهات في سائر المواضع، فكذلك في هذا الموضع.
مسألة [في ولد الزوجة إذا ماتت]
قال: وعلى الرجل إذا كانت له زوجة ولها ولد من غيره، فمات، أن يقف عن مجامعتها حتى يعلم أنهاحبلى أم لا، هذا إذا لم يكن للميت من يحجب الأخوة من الأم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
__________
(1) انظر الأحكام 1/412 ـ 413.
(2) انظر الأحكام 1/390.
ووجهه أنه إذا مات ولدها، فمتى كان في بطنها ولد، ورثه، وإن حصل العلوق بعد موته، لم يرث، فقلنا: إنه يقف عن مجامعتها ليزول الإلتباس في ذلك، وينكشف الأمر، ويَبين الوارث ممن ليس بوارث، هذا إذا لم يكن للميت أب، ولا أب أب، ولا ولد، ولا ولد ولد، فأما إذا كان أحد من هؤلاء، فلا يجب التوقف، لأن الأخ من الأم لا يرث مع هؤلاء، فسواء كان في بطن أم الميت ولد، أو حصل الولد بعد موته، فهو سواء، فلا غرض في التوقيف. (53/50)
قال يحيى عليه السلام: وبلغنا عن أمير المؤمنين، وعن الحسن بن علي أنهما أمراه بالتوقف إذا كان الحال ما ذكرناه.
مسألة [في أقل الحمل وأكثره]
قال: وأقل الحمل ستة أشهر، وأكثره أربع سنين بما ذكرناه من أن أقل الحمل ستة أشهر، منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) جميعاً، وما ذكرناه من ان اكثره اربع سنين منصوص عليه في (المنتخب) (2).
أما ما ذكرناه من أن أقل الحمل ستة أشهر، فمما لا أحفظ فيه خلافاً بين العلماء.
وورد فيه: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر، حدثنا الحسين بن يحيى بن زيد، حدثنا إبراهيم [بن محمد] (3) بن ميمون، عن محمد بن(4) فضيل، عن أشعث، عن أبيه، عن رجل، عن عمر أنه أُتيَ بامرأة قد حبلت، ووضعت حملها في ستة أشهر، فَهَمَّ بها، ثم قال: ادعوا لي علياً، فقال: ما ترى في هذه المرأة؟ قال: ما شأنها؟ فأخبره: قال: إن لها في كتاب اللّه تعالى عذراً ثم قرأ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}، فكأن عمر لم يقرأها.
وأما أكثر الحمل فقد اختلف فيه، فذهب أبو حنيفة إلى أنه سنتان، وقال الشافعي: فيه مثل قولنا.
__________
(1) انظر الأحكام 1/366.
(2) انظر الأحكام 146.
(3) سقط من (ب).
(4) في (ب): عن.
والدليل على ذلك قول الله تعالى: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيْضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} فأخبر سبحانه أن الأرحام تغيض وتزداد، ولم تقتصر الزيادة والنقصان على وقت، فالأوقات فيهما على سواء إلا ما منع منه الدليل، ولا دليل على وقت يتعذر امتداد الحمل إليه إلا بعد أربع سنين، فيجب أن يكون أقصاه أربع سنين. (53/51)
فإن قيل: إذا كان طريق إثبات أكثر الحمل التوقيف، أو الإتفاق، ولا توقيف، ولا اتفاق إلا في سنتين فيجب أن يكون ذلك أقصى الحمل.
قيل له: إن التوقف والإتفاق يُحتاج إليهما لقطع الجواز، إذ الجواز قائم في العقول، وكذلك دلالة الآية، ولا اتفاق على قطع الجواز إلا بعد أربع سنين، فوجب أن يكون أكثر الحمل ما قلناه، يبين ذلك أن الدلالة قد دلت على أن لبث الجنين(1) في بطن أمه إنما يكون باختيار القديم تعالى دون إيجاب الطبيعة، فإذا ثبت ذلك، فمن الجائز أن /114/ يختار لبثه في بطن الأم سنتين، وأربع سنين، وعشرين سنة، وأقل، وأكثر، وليس بعض السنين في ذلك بأولى من بعض، فلو خلينا وما في العقل، لجوزنا أن يزداد أقصى الحمل على أربع سنين، إلاَّ أن الإتفاق منع منه، فوجب أن يكون ما دونه على الجواز، وكذلك القول في أقل الحمل، لأنا لو خلينا وما في العقل لجوزنا أن يكون أقل الحمل ساعة فما فوقها، وقد روي أن عيسى عليه السلام لبث في بطن أمة ثلاث ساعات، لكن لما حصل الإتفاق، على قطع جواز الولادة في أقل من ستة أشهر، قلنا به، وكذلك أكثره.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن العلم الحاصل بالعادة أصل يُعمل به، ويُرجع إليه، وقد علمنا من طريق العادة أن الحمل لا يبقى أربع سنين؟
__________
(1) في (أ): الحمل.
قيل له: سبيل أربع سنين من طريق العادة هو سبيل السنين، لأن العادة المعلومة لم تُجز بأن النساء يضعن في حولين، كما لم تجز بأن يضعن في أربع سنين، وإنما العادة المشهورة في هذا الباب تسعة أشهر، حتى أن كثيراً من الأطباء لا يُجوِّز أن يبقى الجنين في بطن أمه أكثر من تسعة أشهر، وإذا صار هذه هكذا، صار حكم الأربع السنين، وحكم سنتين، في ذلك سواء. (53/52)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن العادة إذا جرت بأن مدة الحمل يجب أن تكون تسعة أشهر، فلا سبيل إلى إثبات الزيادة عليها إلاَّ شرعاً، ولا اتفاق إلاَّ على سنتين، فيجب أن يكون ذلك أكثر الزيادة؟
قيل له: إن أردت بالعادة ما تكون مستقرة حتى يكون نقضها جارياً مجرى الإعجاز، فأن الزيادة لا تجوز عليها إلاَّ في زمان الأنبياء عليهم السلام، ويكون سنتان فيه كالأقل والأكثر في أنَّه لا يجوز، وإن أردت العادة التي لا يكون استقرارها هذا الإستقرار، وإنما يكون الأشهر الأكثر، فإن الزيادة عليها جائزة، وقليل الزيادة كأكثرها حتى يمنع منها الدليل كما بينا في أول كلامنا، وقد روى أن محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام لبث في بطن أمه أربع سنين، وروي أن منظور بن زبان جد الحسن بن الحسن أبو أمه أنَّه ولد لأربع سنين حتى قيل فيه:
وما جئت حتى آيس الناس أن تجيء ... فسميت منظوراً وجئت على قدر
مسألة [في واجبات كل من الزوجين تجاه الآخر]
قال: ويجب للمرأة على الرجل أن يكفيها الأمور الخارجة عن المنزل، ويجب للرجل عليها أن تكفيه خدمة المنزل.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، قال يحيى بن الحسين عليهما السلام بلغنا عن(2) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [أنَّه] (3) قضى على فاطمة بخدمة البيت، وقضى على علي عليه السلام بإصلاح ما كان خارجاً، والقيام به، ولأن ذلك من المواساة والتعاون على الخير، ولا خلاف أن الرجل يلزمه إيصال النفقة والكسوة إليها في المنزل. (53/53)
وروي في المرأة: ما أخبرنا به أبو سعيد الأبهري، حدثنا محمد بن علي الصدفي، أخبرنا يونس، قال: أخبرنا أنس بن عياض، عن سعيد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن امرأة قالت: إني أفعل لزوجي كذا وكذا، وأفعل به، وذكرت حسن صنيعها إليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <لو سال من منخريه الدم والقيح، ثُمَّ لحستِه، ما أديتِ حقه>، قال القرظي: وقال صلى الله عليه وآله وسلم: <كيف صنيعك بزوجك؟> فذكرت له أشياء حسنة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <أصبتِ، إنَّما هو جنتك ونارك>.
/115/ وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: <لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها>.
مسألة [في النظر إلى المخطوبة وبيان حكم الوجه]
قال: ولا بأس للرجل إذا أراد أن يتزوج امرأة أن ينظر إلى وجهها نظرة، ووجهها ليس بعورة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4).
والأصل في ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي دواد، حدثنا سعيد بن سلميان، عن زهير بن معاوية، حدثنا عبدالله بن عيسى، عن موسى بن عبدالله بن يزيد، عن أبي حميد، وقد كان رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا خطب أحدكم امرأة، فلا جناح عليه أن ينظر إليها، إذا كان إنَّما ينظر إليها للخطبة، وإن كانت لا تعلم>(5).
__________
(1) انظر الأحكام 1/412.
(2) في (أ): أن.
(3) سقط من (أ).
(4) انظر الأحكام 1/363، 364.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/14.
وأخبرنا أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا الوهبي، حدثنا إسحاق بن داود(1) بن الحسين، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن جابر بن عبدالله أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا خطب أحدكم المرأة، فقدر على أن يرى منها ما يعجبه، فليفعل>، قال:فلقد خطبت امرأة من بني سلمة، فكنت اتخبأ في أصول النخل حتى رأيت منها ما يعجبني، فخطبتها(2). (53/54)
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لعلي عليه السلام: <يا علي لا تُتْبِعِ النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليس لك الثانية>، وروي عنه أيضاً أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن نظرة الفجاءة فقال: <اصرف بصرك>، فقد عارض هذا ما اعتمدتم.
قيل له: خبرنا يخص موضع الخلاف، وهو مفسر، وهو أولى، وما ذكرتم من الحديث محمول على أن المراد إذا كان الناظر لا يريد الخطبة، وأراد أمراً محظوراً، على أن الوجه إذا لم يكن عورة، جاز النظر إليه، إذا لم يُرِد بالنظر ما ذكرناه، وكان مريداً للخطبة، ويبين أنَّه ليس بعورة أنَّه لم يؤخذ على المرأة ستر الوجه في الصلاة، ولو كان الوجه عورة، لوجب عليها ستره في الصلاة، إذ لا خلاف أن ستر العورة واجب فيها عليها، ويدل على ذلك أن المحرمة يلزمها كشف وجهها، فلو كان الوجة عورة، لم يجز لها كشفه، كما لا يجوز كشف سائر العورات.
فإن قيل: فهل تقولون: إن النظر إلى الوجه من المرأة مباح على الإطلاق؟
__________
(1) في (أ): أبي داود.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/14 وفيه حدثنا ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، وهو كذلك في سنن أبي داود.
قيل له: لا نقول ذلك، وإنما نبيح النظر إليها للتزويج، أو للشهادة عليها، أو لغير ذلك من الضرورات، متى لم يضامَّ النظر إرادة المحظور، ويجب على الإنسان أن يتوقى الأمور التي لا يأمن معها الوقوع في المآثم، وقد روي في تفسير قوله تعالى: {وَلا يُبْدِيْنَ زِيْنَتَهِنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، هو الوجه والكفان. (53/55)
مسألة [فيما يستحب ويكره في الأعراس]
قال:ويكره ضرب الدف، وسائر الملاهي، عند العروس وغيره، ويستحب إظهار النكاح، واتخاذ الولائم عليه.
وهذا منصوص عليه في (النكاح)(1).
أما كراهة الدف، وسائر الملاهي، فلقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مِنْ يَشْتَرِيْ لَهَوَ الْحَدِيْثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ..} الآية، وقد روي في التفسير أن المراد به الغناء، ولأنه من شعار الفاسقين، دون شعار أهل/116/ الدين، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، وصوت عند النعمة، لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند المصيبة>، وقد ذكرنا الحديث بإسناده في كتاب الجنائز.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سمع صوت دف في عرس بعض الأنصار فلم ينكر، وقال: ما هذا؟ فقالوا النكاح، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <أشيدوا النكاح>.
قيل له: يحتمل أن يكون ذلك كان لا على طريقة الغناء والتطريب، وانه كان كالعلامة في النكاح.
وقلنا: إنَّه يستحب الإظهار، وتُتخَذ الولائم، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (أشيدوا بالنكاح)، ولما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من النهي عن نكاح السر.
وروى أبو داود في (السنن) عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لعبد الرحمن بن عوف وقد تزوج: <أولِم ولو بشاة>(2).
__________
(1) انظر الأحكام 1/368.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 2/242.
وروي عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <إذا دعي أحدكم إلى الوليمة، فليأتها، فإن كان مفطراً، فليطعم، وإن كان صائماً، فليدع>. (53/56)
مسألة [في خطبة المسلم على خطبة أخيه]
قال: ولا يجوز أن يخطب الرجل على خطبة أخيه بعد المراضاة، فأما قبلها، فلا بأس به.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، ومروي فيه عن القاسم عليه السلام.
والأصل فيه: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا إبراهيم بن أبي داود، حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيدالله بن عمر، حدثنا نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه>(2).
__________
(1) انظر الأحكام 1/267 ، 268.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/3.
وأخبرنا المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا علي بن سعيد، حدثنا عبيد بن بكير، حدثنا هشام بن حسان، عن محمد، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: <لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه>(1)، فكان ذلك دالاً على أنَّه لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه على وجه من الوجوه. ثُمَّ روي ما دل على أن المراد به بعد المراضاة، وذلك: لما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أن مالكاً أخبرهُ عن عبدالله بن يزيد ـ مولى الأسود بن سفيان ـ عن أبي سلمة، عن عبدالرحمن بن عوف، عن فاطمة بنت قيس، قالت: لما حللت، أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم، خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، ولكن انكحي أسامة بن زيد>. قالت: فكرهته، ثُمَّ قال: <أنكحي أسامة>(2). فنكحته، فجعل الله تعالى فيه خيراً واغتبطت به، فلما خطبها صلى الله عليه وآله وسلم بعد خطبة معاوية و أبي جهم، علم أن المكروه من ذلك أن يخطب الرجل على خطبة أخيه بعد المراضاة بينها، وبين الخاطب الأول، فأما قبلها، فغير مكروه. (53/57)
وروى أبو جعفر بإسناد تركت ذكره للتخفيف عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم باع قدحاً، وحلساً، فيمن يزيد، فكان ذلك أيضاً دالاً على ما قلناه من أن المكروه من السوم والخطبة ما يكون بعد تراضي المتساومين والمتخاطبين(3).
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/4 وفيه: حدثنا علي بن معبد، حدثنا عدالله بن بكير.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/5 وفيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/6.
باب القول في الإماء (54/1)
[مسألة في وطء الأمة المشتركة]
قال: إذا اشترك الرجلان في أمة، لم يكن لواحد منهما وطؤها، فإن وطئها أحدهما، كان لصاحبه عليه نصف /117/ عقرها، ولا حد عليه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
لا خلاف فيما قلناه من أن الرجل إذا كان بينه وبين آخر أمة لم يكن لواحد منهما وطؤها، لأن وطأه يقع في ملك غيره، وملكه، ولا يجوز وطء ملك الغير لملكه بعضه؛ لأنَّه جار مجرى اجتماع وجه الحظر، ووجه الإباحة في الشيء، في وجوب حظره.
وقلنا: إن أحدهما إن وطئها كان عليه لصاحبه نصف عقرها، ولا حد عليه؛ لأن الشبهة الحاصلة في الوطء بملكه بعض الموطوءة أوجب درأ الحد عنه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ادرؤا الحدود بالشبهات>، وإذا سقط الحد، وجب العقر؛ لإيجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المهر في النكاح الفاسد بقوله: <وإن وطأها، فلها المهر بما استحل من فرجها>، فوجب نصف العقر، لأن صاحبها ملك منها نصفها.
مسألة [في الأمة المشتركة تلد]
قال: فإن أولدها، ضمن له نصف قيمة الأمة يوم حملت، ونصف قيمة الولد يوم يولد، فإن كان شريك هذا الواطئ أخاه، ضمن له نصف قيمة الأمة، ونصف عقرها، ويسقط نصف قيمة الولد،
وكذا القول لو كان شريكه أباه، أوجده، أو ابنه، وكذا الأمة تكون بين الشركاء. ما ذكرناه من وجوب الضمان على الوجه الذي ذكرناه وسقوطه حيث ذكرنا سقوطه منصوص عليه في (الأحكام) (2).
وقلنا: إن الأب، والجد، والإبن، فيه كالأخ؛ إذ اقتضى ذلك قوله في (الأحكام)، وكذلك التسوية بين الشركاء والشريكين.
__________
(1) انظر الأحكام 1/397.
(2) انظر الأحكام 1/397.
ووجه قولنا: إنَّه إن أولدها، ضمن لصاحبه نصف قيمة الأمة يوم حملت؛ لأنها لما حملت صار نصيب الشريك منها مستهلكاً بما كان من شريكه؛ لأنَّه لا يجوز للشريك بعد ذلك بيعها ولا هبتها، ولا سائر التصرف فيها فجرى ذلك مجرى الإستهلاكات من القتل وغيره، في أنَّه إذا وقع بفعل أحد الشريكي،ن لزمه نصف قيمتها لشريكه، واعتبرنا قيمتها يوم العلوق؛ لأنَّه وقت الإستهلاك كما نقول ذلك في سائر المستهلكات، وأوجب(1) نصف قيمة الولد يوم يولد كما أوجبنا على المغرور قيمة ولده لسيد الأمة، وذلك مما لاخلاف فيه؛ لأن كل واحد منهما وطئ في ملك الغير بغير أذنه على وجه الشبهة، فوجب أن يلزم قيمة الولد لسيد الأمة. (54/2)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن الواطيء لما ضمن نصيب شريكه من الأمة، لم يجب أن يضمن الولد، لأن الولد يكون حاصلاً في ملكه.
قيل له: بنفس وجوب الضمان لا يملك المضمون حتى يضمنه برضاه، أو حكم الحاكم، يكشف ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم إليه حَمْل مشوي، امتنع من أكله، وسأل عنه، فعرف أنَّه أخذ لبعض الناس على أن يؤدوا إليه الثمن، فامتنع صلى الله عليه وآله وسلم من أكله، وأمر به، فأطعم الأسارى(2)، فدل ذلك على أن وجوب الضمان لا يوجب التمليك، وأيضاً لا خلاف أن الغاصب ضامن المغصوب، ومع ذلك فلا يحصل مالكاً له، وإذا ثبت ذلك لم يجب أن يسقط عنه ضمان نصف قيمة الولد.
فإن قيل: ألستم تقولون في الغاصب(3) للنواة والبيض، إذا زرع النوى، وحضن البيض، أنَّه يصير مالكاً لهما، وأنه ليس لمالكهما من قبل غير قيمتهما، فما أنكرتم أن يكون ذلك سبيل المستهلك للأمة بالإستيلاد؟
__________
(1) في (أ): أوجبنا.
(2) في (أ): الأسرى.
(3) في (أ): للغاصب.
قيل له: لا نقول في الغاصب أنَّه /118/ يملك، وإن قلنا أنَّه ليس للمغتَصب منه إلاَّ قيمة ما غُصب حتى يؤدي القيمة برضاه، أو حكم الحاكم، فكذلك الأمة. وقلنا: إنَّه يضمن نصف قيمة الولد يوم ولد؛ لأنَّه الوقت الذي حصل والده مانعاً لسيد الأمة منه مع كونه في حكم الملك، فأشبه الغاصب في أنَّه يضمن المغصوب يوم يغصبه، لأنَّه الوقت الذي يحصل فيه المنع من الغاصب للمغصوب، وكذلك ما اختلفنا فيه، يؤكد ذلك أنَّه الوقت الذي ينفرد المولود فيه بحكم نفسه، فكان ذلك الوقت أولى أن يراعى فيه حكم قيمته. وقلنا: إن الشريك إن كان أخاه لم يضمن له نصف قيمته؛ لأن الدلالة قد دلت على أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه، على ما نبينه من بعد، فإذا ثبت ذلك، لم يجب أن يضمنه الواطيء؛ لأن الولد لما عتق على المالك للرحم التي بينهما، لم يحصل الوطء مانعاً له من حقه، فلم يلزمه ضمان قيمته. (54/3)
وقلنا: إن حكم الشركاء فيه حكم الشريكين؛ لأن الحقوق الثابتة بالشركة لا تنفصل بين أن تكون للشريكين والشركاء.
مسألة [في تنازع الشريكين على ولد الأمة المشتركة]
قال: وإذا كانت الأمة بين الشريكين، فحبلت، وادعى الولد أحدهما، كان الولد للمدعي دون صاحبه، فإن ادعى كل واحد منهما، كان بينهما، يرثهما ويرثانه، وهو للباقي منهما.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وهو قول أبي حنيفة، قال الشافعي يعرض على القافة.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <الولد للفراش>، وقد علمنا أنها فراش لكل واحد منهما، فوجب أن يكون الولد لهما.
فإن قيل: فمن أين ادعيتم أنها فراش لكل واحد منهما؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/408.
قيل له: لا خلاف بين المسلمين أن أحدهما لو ادعى الولد دون صاحبه، كان الولد له، وكانت الأمة فراشاً له، فإذا ادعاه الآخر، وجب أن تكون الأمة فراشاً لهما بمشاركته صاحبه في جميع ما أوجب كونها فراشاً له، فإذا ثبت ذلك، ثبت أنها فراش لهما جميعاً، ووجب إلحاق الولد بهما، وورد في ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا روح بن الفرج، حدثنا يوسف بن عدي، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك مولى لبني مخزوم، قال وقع رجلان على جارية في طهر واحد، فعلقت الجارية فلم يدر من أيهما، فأتيا عمر يختصمان في الولد فقال عمر: ما أدري كيف أحكم، فأتيا علياً عليه السلام، فقال: هو بينكما يرثكما وترثانه، وهو للباقي منكما. (54/4)
وأخبرنا أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن ثوبة العنبري، عن الشعبي، عن ابن عمر ـ أن رجلين اشتركا في طهر امرأة فولدت، فدعا عمر له القافة، فقالوا: أخذ الشبه منهما جميعاً، فجعله بينهما.
وأخبرنا المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا وهب، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن عمر نحوه قال سعيد: ميراثه لآخرهما موتاً.
فلما ثبت ذلك عن علي عليه السلام، وعن عمر، ولم يرو خلافه، جرى مجرى الإجماع من الصحابة، ويدل على ذلك أنا وجدناهما قد استويا في السبب الموجب للنسب، واستحقاق الإرث، دليله الإبنان لما اشتركا في السبب الموجب للنسب، واستحقاق الإرث، ثبت بينهما وبينه النسب، واستحقاق الإرث.
وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رجلين تنازعا بعيراً، فأقاما عليه البينة، فقضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم به بينهما نصفين، لما تساويا في السبب الموجب للإستحقاق، وهو البينة مع الدعوى، والأصول كلها تشهد لقياسنا؛ لأن كل رجلين /119/ اشتركا في السبب الموجَب من غير مزية، اشتركا في الموجب للسبب، كالشريكين في الربح، والشريكين في الشفعة، والشريكين في اليد، وغير ذلك، على أنَّه لا قول في هذه المسألة إلاَّ ما قلناه، والقول بالقافة، وقد دلت الدلالة على بطلان القول بالقافة، فوجب أن يثبت صحة ما قلناه. (54/5)
فإن قيل: فلم(1) أبطلتم القول بالقافة؟
قيل له: لأنَّه حكم لم يقتضه العقل والشرع، فوجب أن يكون باطلاً.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال: إن الشرع قد ورد به، وذلك ما رواه الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: دخل مجزز المدلجي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسروراً يبرق أسارير وجهه، فبان ذلك أن قول القافة توجب ضرباً من العلم، لولا ذلك لما كان لسرور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معنى، ولا يجوز أن يرى باطلاً ولا ينكر.
__________
(1) في (أ): غير.
قيل له: أما سرور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يدل على أنَّه جعل قول مجزز محكوماً به على وجه من الوجوه، كيف وقد كانت بنوة أسامة بن زيد قد ثبتت قبل ذلك، فإذا كان هذا هكذا، فلا حجة للقوم فيه، ولا يلزمنا أن نعرف السبب الذي له سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على أنَّه يحتمل أن يكون سروره لما وافق ظن مجزز الصواب، والإنسان قد يتعجب من مثله، ويتبسم حتى يظهر أثر السرور على وجهه، على أنَّه لا يمتنع أن يكون سرور النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمر سواه صادف تلك الحال، على أنَّه قد روي أن المنافقين كانوا يطعنون في نسب أسامة؛ لأن أسامة كان أسود، وكان زيد أبيض، وكانوا يعتبرون صحة ما يقوله القافة، فيجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع تكذيب المنافقين من الجهة التي يعتقدون صحتها، فسر به. (54/6)
فأما قوله: لا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرى(1) باطلاً فلا ينكره، فهو كذلك، إلاَّ أن قول مجزز: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، لم يكن باطلاً، بل كان حقاً، فلم ينكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما المنكر عندنا هو الحكم بقوله: فلا تعلق لهم بهذا الخبر على وجه من الوجوه.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياً}، فقد ثبت أنَّه لم يكن للعرب حكم اختصوا به غير حكم القافة، فثبت أنَّه هو المنزل.
قيل له: ليس في الآية ما يدل على ما ذهبتم إليه، لأنَّه قد قيل: إن الكتابة كانت مما تختص به العرب، فيجوز أن يكون(2) هو المراد، [ويجوز أن يكون المراد] (3) بالحكم البيان، فكأنه سبحانه وتعالى قال: بياناً عربياً.
فإن قيل: فقد روي عن عمر أنَّه رجع إلى القافة.
__________
(1) في (أ): رأى.
(2) في (أ): يكون المراد.
(3) سقط من (أ).
قيل له: الأخبار في ذلك قد اختلفت، فقد روي أنَّه رجع إليه، ثُمَّ ألحق بأبوين له، وهذا خلاف مذهب القائلين بالقافة، بل هو الذي نذهب إليه، فأحتمل(1) أن يكون رجوعه إليه ليعلم أهل القافة بعد على باطلهم، أو تركوه، وقد روي في بعض الأخبار أنَّه ضربه حتى أوجعه. (54/7)
وروي أنَّه قال في بعض الأخبار: لا أدري ما أقضي فيه، حتى حكم فيه [علي] (2) عليه السلام بإلحاقه بالمدعيين له، على ما أثبتناه بإسناده، فلما حصل مما(3) روي عنه هذه الإختلافات، لم يصح لهم التعلق به، وأما أن يحمل على موافقة قول علي عليه السلام، وأما أن يسقط، فينفرد قول علي عليه السلام، وروي نحوه [عن] (4) شريح.
فإن قيل: قد ثبت(5) أن العرب /120/ كانت تحكم بالقافة كما كانت تجعل الظهار والإيلاء طلاقاً حتى نسخ الله ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فلو كان حكم القافة منسوخاً، لبين الله تعالى نسخه، فإذا لم يثبت ذلك، فهو باق على ما كان عليه.
قيل له: الحكم الذي من شأنه أن يثبت بالشرع، متى لم يرد به شرع، كان باطلاً، وإن لم يرد شرع ببطلانه ونسخه، وإنما يفتقر إلى ورود النسخ فيه إذا كان مما قد ثبت وروده شرعاً، فأما إذا لم يثبت ورود شرع فيه أصلاً، فهو كاف في بيان فساده، فإن ورد شرع في بيان فساده، كان ذلك مؤكداً لفساده، ولم يكن نسخاً، فإذا ثبتت هذه الجملة، فرجوع العرب إلى حكم القافة لا يوجب صحته، فكيف يحوج إلى نسخه؟ وهذا سؤال من لا يعرف طريقة النسخ وأحكامه، وقد نبه الله تعالى على ما ذكرناه بقوله تعالى: {أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ..} الآية فذم ابتغاء حكم الجاهلية.
__________
(1) في (أ): فاحتمل ذلك.
(2) سقط من (أ).
(3) في (أ): فيما.
(4) سقط من (ب).
(5) في (ب): أثبت.
ومما يؤكد ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتظر بهلال بن أمية وزوجته حتى تلد، ولم يراع فيه الشبه، ولاعن بينهما، فدل ذلك على أن لا حكم للشبه، ولا خلاف أن القافة لو نسبوه إلى غير المدعيين، لم يثبت قولهم، فصار ذلك أيضاً موضحاً لما قلناه. (54/8)
فإن قيل: لا يمتنع أن يكون قول القافة مرجحاً للدعوى، والفراش كاليد، كانت مرجحة للبينة.
قيل له: هذا يثبت في اليد، لما ثبَّت تعلق الحكم بحصولها على بعض الوجوه، فأما قول القافة، فلم يثبت تعلق شيء من الأحكام عندنا به، فبطل قول من رام أن يجعله تأكيداً أو ترجيحاً، ومما يدل على بطلان القول لمن ادعى الشبه في الحكم: ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتاه رجل فقال: إن امرأتى ولدت غلاماً أسود، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل لك من إبل؟ فقال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال فهل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فمن أين جاءه ذلك؟ قال: لعل عرقاً نزعه. قال: فلعل هذا نزعه عرق، فأبطل صلى الله عليه وآله وسلم حكم الشبه في باب النسب، على أن وجوب اللعان بين الزوجين إذا نفى الزوج الولد يدل على أن لامعتبر بقول القافة؛ لأنَّه لو كان بقولهم معتبر، لرجع إليه، ولم يرجع إلى اللعان.
مسألة [في الشريكين أحدهما أرفع رتبة على ولد أمتهما]
قال أيده الله تعالى: هذا إذا كانا حرين مسلمين، فإن كان أحدهما ذمياً، أو عبداً، والآخر مسلماً حراً، وادعاه كل واحد منهما، كان الولد للحر دون العبد، وللمسلم دون الذمي، ويعزران جميعاً. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
__________
(1) انظر الأحكام 1/408.
ووجهه أن أقل أحوال المسلم أن يُصدَّق على دعواه كما يصدق الذمي، وإذا كان كذلك، وجب(1) أن يكون الولد مسلماً بإسلام أبيه، وثبتت له الولاية عليه، ولم تثبت للذمي عليه ولاية؛ لأنَّه لا ولاية للذمي على ابنه المسلم، فيصير نسب المسلم أولى، فوجب أن يلحق به الولد، كما أن رجلاً لو ادعى ثوباً هو لابس له، فادعاه آخر، وهو متعلق بكمه، كان اللابس أولى أن يحكم له به لقوة يده، والمزية التي له، وكذلك لو ادعى رجلان فرساً، وأحدهما راكب له، والآخر متعلق بلجامه. (54/9)
فإن قيل: فهذا ينقض ما ذهبتم إليه في المسألة الأولى من أن سببهما قد اتفقا، فوجب بأن يلحق الولد بهما.
قيل له: شرطنا نحن في ذلك أن لايكون لأحدهما مزية، وهاهنا قد بانت المزية، فلا معترض به على ما قدمناه، يكشف ذلك أن الشيء إذا كان في يد رجلين، فادعاه كل واحد منهما، قسم الشيء بينهما، ثُمَّ لو كان ليد /121/ أحد الرجلين مزية حكم له به، فكذلك ما ذكرناه، وعلى هذه الطريقة يجب أن يجري الكلام، إذا كان أحدهما عبداً والآخر حراً؛ لأن العبد لا يلي ابنه، عبداً كان أوحراً، والحر يليه، فوجب أن يكون الحر أولى بالولد على ما بيناه، وأوجبنا التعزير كما يجب في الرجل والمرأة نجدهما تحت إزار واحد.
مسألة [في ملك ذا الرحم المحرم]
قال: وإذا ملك الرجل أو المراة ذا رحم محرم، أو ذات رحم محرم، عتق عليهما، وكذلك إذا ملك شقصاً من ذي رحم محرم عتق عليه، واستسعى لشريك صاحبه في قيمة ماله فيه، فإن كان الرجل اشتراه عالماً بأنه يعتق عليه، ضمن هو لشريكه باقي قيمته، وإن ملك ذا رحم ليس بمحرم، لم يعتق عليه، وكذلك إن ملك أخاه، أو أخته من الرضاعة، أو غيرهما، لم يعتق، ويجوز للرجل بيع أخته وأمه من الرضاعة، ولا يجوز له وطؤها.
وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2).
__________
(1) في (أ): لوجب.
(2) انظر الأحكام 1/396.
ما ذهبنا إليه من أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه ـ قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول علي عليه السلام، رواه عنه زيد بن علي عن آبائه عليهم السلام، وقول عمر، رواه الطحاوي بإسناده عن الأسود، عن عمر(1)، وقال الشافعي: يعتق الوالدان وإن ارتفعا، والأولاد وإن سفلوا، ولا يعتق من سواهم، قال داود: لا يعتق واحد منهم بنفس الملك. (54/10)
والأصل فيه: ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، عن محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من ملك ذا رحم محرم، فهو حر>.
وأخبرنا أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن عبدالله الأصبهاني، حدثنا أبو عمير بن النحاس، حدثنا ضمرة، عن سفيان الثوري، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من ملك ذا رحم محرم، فهو حر>(2).
وأخبرنا أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن عبدالله، حدثنا إبراهيم بن الحجاج، وعبدالواحد بن غياث، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من ملك ذا رحم محرم، فهو حر>(3).
فدلت هذه الأخبار على صريح ما ذهبنا إليه.
فإن قال قائل ممن ينصر قول داود: قد روى سهيل بن ابي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يجزي ولد عن والده شيئاً، إلاَّ أن يجده مملوكاً فيشتريه، فيعقته>، فأثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإعتاق بعد الشراء، فدل ذلك على أن نفس الشراء لا يقع به العتق.
قيل له: المراد أن يشتريه فيعتق بالشراء، بدلالة الأخبار التي تقدمته.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/110.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/109.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/109.
ويدل على فساد مذهبهم أن كون الولد ولداً للرجل ينافي كونه عبداً له، بدلالة أن من ولدت منه أمته يكون حراً، ولو ولدت منه أمة غيره، كان رقيقاً، فكان الموجب لعتقه أنَّه ملكه، لأن ما تلده مملوكته يكون مملوكاً له، لو كان من غيره. (54/11)
وأما قول الشافعي، فالذي يدل على فساده الأخبار المتقدمة، ويدل على ذلك ما أجمعنا عليه من أن من ملك أباه أو ولده(1) عتق عليه، فكذلك إذا ملك أخاه أو عمه، والعلة أنَّه يملك شخصاً بينهما رحم يوجب الحرمة، وإن قالوا: العلة في ذلك حصول البعضية ليقيسوا الأخ على ابن العم، لم يصح تعليلهم؛ لأنه تعليل بالنفي المجرد، فإذا(2) /122/ ثبت قياسهم، فقياسنا أولى؛ لإستناده إلى الظواهر التي ذكرناها، ولأنه يوجب الحظر، والنقل والإفادة الشرعية، ولأن علتنا في حكم المنصوص عليها.
فإن قيل: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد فادى العباس حين أسره يوم بدر، فلو كان ملكه صلى الله عليه وآله وسلم يوجب عتقه، لم تصح المفاداة فيه.
__________
(1) في (ب): وولده.
(2) في (أ): فإن.
قيل له: عندنا أن الملك لا يستقر في الغنيمة إلاَّ بعد القسمة، ولذلك يجوز فيه التنفيل، ويوجب الرضخ لمن يحضر الوقعة من النساء والولدان والعبيد، فإذا كان ذلك كذلك، فملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن استقر، فلم يجب أن يعتق، على أن ما ذهبنا إليه قول علي عليه السلام، وقول عمر، وغير محفوظ عن أحد من الصحابة خلافه، فيجب أن يجري مجرى إجماعهم، على أنَّه إجماع أهل البيت عليهم السلام، لا أحفظ بينهم فيه خلافاً، وإجماعهم عندنا حجة، وكذلك قول علي عليه السلام، فإذا ثبت ذلك، قلنا: إنَّه من ملك شقصاً منه عتق؛ لأن العتق عندنا لا يتبعض لما نبينه في كتاب العتق(1) وكذلك نبين فيه وجه إيجابنا الضمان عليه لشريكه، والفصل بين الحال التي(2) يلزمه فيها الضمان والحال التي لا يلزم معها الضمان، وتجب السعاية. (54/12)
فأما من ملك ذا رحم ليس بمحرم، فلا خلاف أنَّه لا يعتق عليه، والخبر الذي روي (من ملك ذا رحم، فهو حر)، المراد به من ملك ذا رحم محرم، إذ لا خلاف في ذلك، واللفظان مرويان عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ثُمَّ قد روي عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم واللفظان مجتمعان] (3).
قال أبو جعفر الطحاوي: وبلغني أن محمد بن أبي بكر البرساني كان يحدث عن حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <من ملك ذا رحم محرم، فهو حر>، فدل ذلك على ما قلناه(4).
مسألة [في وطء المكاتب أمته]
قال: وليس للمكاتب إذا اشترى أمة أن يطأها حتى يعتق، فإذا عتق، كان له ذلك.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (5)، ونص فيه على أنَّه لا يجوز له نكاحها ولا عتقها.
__________
(1) في (أ): إن شاء الله تعالى.
(2) في (أ): الذي.
(3) سقط من (ب) ما بين القوسين.
(4) انظر شرح معاني الآثار للطحاوي 3/110.
(5) انظر الأحكام 1/401.
ووجهه أن ملك المكاتب غير تام، ولا مستقر؛ لأن ملك صاحبه لم يزل عنه، وإذا لم يزل عنه، لم يزل عما في يده، وإذا لم يزل عنه ملك صاحبه، لم يستقر ملكه فيه، فلم يجز له أن يطأ جاريةً لم يتم ملكه لها، كما لا يجوز له وطء جارية له فيها شرك، ولم يجز له عتقها لمثل ذلك، ولم يجز(1) أن ينكحها؛ لأن حصول حقه فيها يمنع ابتداء النكاح عليها. (54/13)
مسألة [في إباحة فرج الأمة]
قال: ولو أن رجلاً قال لآخر: قد أبحت لك فرج جاريتي هذه، أو أعرتك، أو أحللت لك، لم يجز له أن يطأها بذلك، فإن وطئها عالماً بالتحريم، لزمه الحد، وإن لم يكن عالماً بتحريمها، دريء عنه الحد للشبهة، ولزمه لصاحبها مهر مثلها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، ونص أيضاً في (المنتخب) (3) على تحريم ذلك، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً، إلا ما ذهبت إليه الإمامية من أن ذلك يحل.
والدليل على ذلك أن هذه الألفاظ ليست توجب تمليك الأمة، ولا عقد النكاح عليها، فوجب أن لا يستباح بها الوطء لقول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ..} الآية، ومن ابتغى الوطء بما ذكرناه، فقد ابتغى وراء النكاح، وملك اليمين.
__________
(1) في (أ): يجزه.
(2) انظر الأحكام 1/400.
(3) انظر المنتخب 137.
ويدل على ذلك أن حظر وطئها على الغير لم يكن من جهة المولى، فيرتفع بإذنه كوطء الحرة، لَمَّا لم يكن حظره من جهتها، لم يرتفع بإذنها، ويدل على أن حظر وطئهن ليس من جهة المولى قول الله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}، فلو كان حظر وطئهن من قبل المولى، لحل /123/ ذلك عند رضاهم، ولم يمنعهم الله تعالى من حملهن عليه، على أنَّه لا خلاف أن المولى إذا قال لها: قد رضيت بأن تزنى، أو تمكني من نفسك من أراد ذلك، أنَّه لا يبيح وطأها لمن أراد ذلك ولا يخرجه من أن يكون زنىً، فبان به أن تحريم وطئهن من قبل الله تعالى، وليس من جهة مواليهن، وإنما قلنا: إن من فعل ذلك عالماً بالتحريم لزمه الحد؛ لأنه زانٍ لإيتائه أجنبية بغير شبهة حصَلت عليه، فأما إذا لم يعلم بالتحريم ودخلت عليه فيه شبهة، فقلنا: إنَّه لا حد عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <ادرأوا الحدود بالشبهات>، وأوجبنا المهر، لأن المهر يجب في كل وطءٍ وقع بشبهة على ما بيناه في غير موضع من كتابنا هذا. (54/14)
مسألة [في استبراء الأمة]
قال: ويجب على من أراد بيع جارية أن يستبريها قبل بيعها بحيضة، وكذلك يجب على المشتري أن يستبريها قبل وطئها بحيضة، فإن كانت صغيرة، أو كبيرة لا تحيض، استبرئت قبل بيعها بشهر وقبل وطئها بشهر. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (1)، اختلف الناس في الإستبراء، فذهب بعض الناس إلى أنَّه غير واجب، وذهب بعضهم إلى أنَّه يجب على البائع والمشتري جميعاً، وهو قول أصحابنا، وذهب بعضهم إلى أنَّه يجب على البائع دون المشتري، وقال أبو حنيفة: هو على البائع استحباباً، وعلى المشتري وجوباً، وقال الشافعي: هو على المشتري.
__________
(1) انظر الأحكام 1/397.
ووجه قولنا ـ أن البائع إذا كان وطئها يستبريها قبل بيعها بحيضة أن علوقها من سيدها يحرم بيعها عليه، كما يحر/ الوطء على المشتري، فوجب أن يقع الاستبراء قبل البيع كما وجب وقوعه قبل وطء المشتري، وأيضاً وجدنا العِدد تلزم قبل العقود التي هي استباحة الفروج، فوجب أن يلزم الإستبراء قبل البيع، والعلة أنَّه استبراء الرحم، أو يقال: لما كانت موطوءة وطء مباحاً، لم يجز أن يملك بضعها غير الواطيء لها قبل الإستبراء، دليله لو وطئت بعقد النكاح، يؤكد ذلك أنَّه إذا كان وطئها، فإنه لا يأمن أن يكون قد علقت منه، وأن يكون بيعها قد حرم عليه، فوجب أن لا يبيعها حتى يستبرأها؛ لأن الفعل الذي لا يأمن الإنسان أن يكون حراماً فعليه تجنبه، ألا ترى أن من شك في امرأة أنها زوجته، أو ليست زوجته، لم يجز له أن يطأها، حتى يستبين الأمر، فكذلك من شك في شخص أنَّه عبده، أو هو حر، لم يجز له بيعه حتى ينكشف ذلك، فكذلك لا يجوز بيعها حتى يستبرئها؛ لأنَّه لا يأمن أن يكون قد صارت أم ولد له، وما ذكرناه إحتياطاً، وفيه حظر، وفائدة شرعية. (54/15)
فإن قيل: لم يوجد في الأصول وجوب عدتين لماء واحد.
قيل له: العدة والإستبراء قد يجبان جميعاً لا للماء، ألا ترى إلى وجوب الإستبراء من البكر، ووجوب(1) العدة عليها من وفاة زوجها، فبان أنَّه قد يجب لا للماء، فإذا ثبت ذلك، بان أن وجوبه غير مقصور على الماء، فلم يمنع وجوب الإستبرائين من ماء واحد، ولا وجوبهما من غيرها، وكان الإعتبار فيه بالماء لا معنى له، على أن الشافعي يذهب إلى أن سيد الأمة إذا كان يطأها، فلا يجوز له تزويجها إلاَّ بعد الإستبراء، فوجب أن لا يجوز بيعها قبل الإستبراء؛ لأن كل واحد منهما عقد يستباح به الوطء.
__________
(1) في (أ): وإلى وجوب.
وأما وجوبه على المشتري، فالأصل فيه حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سبايا أوطاس: <لا(1) توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض>. (54/16)
وروى أبو داود في (السنن) بإسناده، يرفعه إلى رويفع بن ثابت الأنصاري، أما أني لا أقول لكم إلاَّ ما /124/ سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم خيبر، قال: ((لا يحل لإمرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماؤه زرع غيره ـ يعني إتيان الحبالى ـ ولا يحل لامرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرأها)) (2)، فدل ذلك على وجوب الإستبراء لتجدد الملك؛ لأنَّه معلوم أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يوجبه للفراش، إذ لم يشترط في السبايا أن يكن ذوات أزواج(3)، فإذا ثبت أن وجوبه لتجدد الملك، وجب في المشتراه، وكل من ملك منهن ملكاً جديداً بأي وجه كان.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: (من اشترى جارية، فلا يقربها حتى يستبرأها بحيضة)، وإذا لم يختلفوا في وجوب الإستبراء على من ملكهن بالسبي،وجب الإستبراء على من ملكهن بأي وجه كان من الملك.
وقلنا: إنها إن كانت ممن لا تحيض تُستبرأ بشهر؛ لأن الشهر يقوم مقام الحيضة في العدة، فكذلك في الإستبراء، والعلة أن كل واحد منهما استبراء للرحم.
مسألة [في الأمة الحامل متى تحل لسيدها]
قال: وإذا اشتراها وهي حامل، فوضعت عند سيدها، حلت له بعد تصرم نفاسها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4).
والأصل في ذلك قول الله سبحانه: {وَأُولاتِ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضْعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في سبايا أوطاس:<لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض>، فجعل استبراء الحامل بالوضع، كما جعل استبراء الحائل بالحيض، والمسألة وفاق.
__________
(1) في (أ): ألا لا توطأ.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 2/254.
(3) في (ب): الأزواج.
(4) انظر الأحكام 1/397.
مسألة [في الاستمتاع بالأمة قبل الاستبراء] (54/17)
قال: ولا بأس للرجل أن يأتى أمته فيما دون الفرج قبل أن يستبرأها إذا أيقن أنَّه لا حمل بها. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1) وذهب أكثر الفقهاء إلى أنَّه لا يجوز.
وروى هناد بإسناده، عن الحسن، تجويز القبلة والمباشرة.
قال ابو العباس الحسني رحمه الله تعالى: روي نحوه عن ابن عمر.
والذي يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنِ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانِهِمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِيْنَ}، فصرن مباحات لنا بظاهر قول الله تعالى، وورد الخطاب في الوطء خصوصاً، والوطء اسم للجماع دون سائر الإستمتاع، فنفى سائر الاستمتاع على الإباحة، ويدل على ذلك أن سيدها ممنوع من وطئها بحق متجرد لله تعالى يتوقع زواله مع استواء البالغة وغير البالغة فيه، فوجب أن لا يمنع من سائر مباشرتها، دليله لو كانت حائضاً، وأيضاً قد ثبت بما قدمناه وجوب الإستبراء على البائع، ولا إلتباس أنَّه لا يلزمه غير الإمتناع، من وطئها فقط دون سائر الإستمتاع، فوجب أن يكون المشتري كذلك، فإن قالوا العلة أنَّه استبراء يتعلق بالبيع، ولا يتعلق فيه حق البائع، كان ذلك فاسداً من وجهين ـ
أحدهما: أن البيع ليس له حرمة فينفى.
والثاني: إن الملك لو حصل لا عن بيع، أو حصل لاعن ملك [مالك] (2) نحو ما يملك من السبايا، كان حكمه لا يتغير، فعلم سقوط هذا السؤال.
فإن قاسوه على العدة، كان قياسنا أولى، لإستناده إلى الظاهر الذي ذكرناه، ولأنا رددنا مالا يتعلق به حق الغير إلى مالا يتعلق به حق الغير، ولأن علتنا تنقل، ألا ترى أن الإستمتاع كله محرم قبل عقد البيع، وقياسنا إباحة بعقد البيع، فصار منقولاً عما كان عليه.
مسألة [في الأمة تباع وهي حائض]
__________
(1) انظر المنتخب 196.
(2) سقط من (أ).
قال: ولو أن رجلاً اشترى أمة وهي حائض، لم تعتد بتلك /125/ الحيضة، واستبرأها بحيضة سواها، وإن اشتراها وحاضت بعد تملكها، اكتفت بتلك الحيضة. وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(1). (54/18)
ووجه ما قلنا، لو أنها(2) اشتُريت وهي حائض، لم تعتد بتلك الحيضة ـ أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: <لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض>، أوجب استبراء الحائل بحيضة، فإذا ملكها وهي حائض ووطئها بعد تلك الحيضة لا يكون استبراؤها بحيضة تامة، وإنما يكون استبراؤها ببعض حيضة، فوجب لذلك أن يستبرأها بحيضة أخرى.
ويدل على ذلك ـ أنَّه لا خلاف في أن بعض الحيضة لا تقوم مقام الحيضة التامة في العدة، فوجب أن لا تقوم مقامها في الإستبراء، والعلة أن كل واحدة(3) منهما استبراء للرحم.
وقلنا: إنها إذا(4) حاضت بعد ما تُملك، تجزي تلك الحيضة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ولا حائل حتى تحيض>، وهذه قد حاضت.
قال أبو حنيفة: لا معتبر بالحيض إلاَّ ن يكون بعد قبض المشتري لها، فأما إن حاضت بين الشراء والقبض، وجب ان تستبرئ بحيضة أخرى.
قال أبو يوسف: إذا حاضت بعد الشراء، أجزت تلك الحيضة.
وظاهر قول يحيى عليه السلام يقتضي أن الحيضة إذا حصلت بعد الشراء أجزت من غير مراعاة القبض؛ لأن الملك يتم بالشراء، فلا وجه لمراعاة القبض.
مسألة [في استبراء المسبية والأمة بعد شرائها وعتقها وتزوجها]
قال: ولو أنَّه اشتراها، وأعتقها، ثُمَّ تزوجها، لم يجز له أن يواقعها قبل الإستبراء، وإذا سبيت الأمة، استبرئت بحيضة.
ما ذكرناه فيمن اشتراها وأعتقها منصوص عليه في (المنتخب) (5)، واستبراء المسبية ـ منصوص عليه في (الأحكام) (6).
__________
(1) انظر المنتخب 195 ـ 196.
(2) في (أ): أنها لو.
(3) في (ب): واحد.
(4) في (أ): إن.
(5) انظر المنتخب 195.
(6) انظر الأحكام 1/392.
ووجهه: أنها لما مُلكت، كان بضعها محرماً عليه لحق الإستبراء، فلما أعتقها، حصل وجه آخر من التحريم الثاني الحاصل بالعتق، ولم يجب أن يرتفع بإرتفاعه التحريم الأول، دليله لو اشتراها وهي مُحرِمة، ثُمَّ تزوجها لم يحل له وطؤها في إحرامها، وإن ارتفع التحريم الحاصل، فبان بما بيناه أن ارتفاع أحد التحريمين لا يوجب إرتفاع التحريم الآخر. (54/19)
فأما المسبية فلا خلاف في وجوب الإستبراء منها، وفيه ورد النص، وهو الأصل في وجوب الإستبراء في غير المسبيات.
مسألة [في الجمع بين وطء الأختين في الملك]
قال: ولو أن رجلاً كانت عنده مملوكة، فوطئها، لم يكن له ان يطأ أختها حتى يخرج الأولى عن ملكه ببيع، أو عتق، أو هبة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
أما تحريم الجمع بينهما، فهو قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، وروى(2) ذلك زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، وغيره ـ أيضاً ـ قد رواه عنه، وبه قال العلماء أجمع، إلاَّ عثمان من الصحابة، وداود من المتأخرة.
والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}، وليس لهم أن يعترضوا ذلك بقول الله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِيْنَ}، لوجهين: ـ
أحدهما ـ أن الآية التي تعلقنا بها حاظرة والحظر أقوى من الإباحة، وبه احتج أمير المؤمنين عليه السلام، والثاني أن الآية التي احتججنا بها أخص بموضع الخلاف؛ لأن المقصد بها تحريم الجمع، وفيه وقع الخلاف، والمقصد بما تعلقوا به إباحة ملك اليمين على الجملة، فأما إذا أخرج الأولى عن ملكه بما ذكرناه، فلا خلاف أنَّه يحل له وطء الثانية، واختلفوا إذا زوَّج الأولى، وعندنا أنها لا تحل له.
__________
(1) انظر الأحكام 1/356.
(2) في (أ): روى.
والدليل على ذلك: قول الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}، وقد ثبت أن تحريم الجمع بينهما بالوطء مراد بالآية لما(1) بيناه آنفاً، فلا يصح الجمع /126/ بينهما بالوطء إلاَّ بأن يطأ أحدهما بعد الأخرى، فصارت الآية تقتضي تحريم وطء إحداهما بعد الأخرى على جميع الوجوه، فوجب القضاء به إلاَّ حيث يخصه الدليل. (54/20)
ولما اجتمع الجميع على أنَّه إذا أخرج الأولى عن ملكه بما ذكرناه، حلت له الثانية، قلنا به، وبقَّينا حكمها على التحريم، وإن زوج الأولى، أو كاتبها؛ لإيجاب الظاهر ذلك، ولا خلاف أنَّه لو لم يزوج الأولى، وتركها على حالها أنَّه لا يجوز له وطء الثانية، فكذلك إذا زوَّجها، والعلة أن ملكه ثابت عليها باق، فكل من وطء ملك يمينه لم يحل له وطء أختها ما دام ملكه باقياً عليها، وأيضاً لا خلاف لو أنَّه أذن لها في الإحرام، فأحرمت، لم يجز له أن يطأ أختها، فكذلك إذا زوَّجها، والعلة أن تحريم الأولى يجوز أن يرتفع من غير تجدد ملك، أو عقد نكاح، يؤكد ذلك أن من تزوج حرة لم يحل له التزوج بأختها إلاَّ مع بطلان نكاح الأولى، فوجب أن لا يجوز له وطء الثانية من المملوكات إلاَّ مع بطلان ملكه للأولى؛ لأن كل واحد منهما سبب إباحة الوطء، ويستند قياسنا إلى الظاهر، ويقتضي الحظر، فهو أولى من قياسهم المتزوجة على المبيعة.
مسألة [فيمن طلق أمته ثلاثاً ثم ملكها]
قال: ولو أن رجلاً طلق أمة ثلاث تطليقات ثم ملكها لم يكن له أن يطأها حتى تنكح زوجاً غيره، وكذلك لو كان سيدها وطئها بعد تطليقه لها ثلاثاً لم تحل له. هذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
والأصل فيه قول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}، إلى قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زُوجاً غَيْرَهُ}، ولم يخص في ذلك أمة من حرة.
__________
(1) في (أ): بما.
(2) انظر الأحكام 1/472 ـ 473.
وقد علمنا أن السيد ليس بزوج، ولا يطأ بالزوجية، فوجب أن تكون محرمة على من طلقها ثلاثاً، وإن وطئها سيدها، مالم تنكح زوجاً غيره. (54/21)
ولا خلاف أنها لو وطئت بشبهة، أو زنى، لم تحل للزوج الأول، والعلة فيه أنَّه وطء وقع في غير نكاح صحيح، فكذلك الأمة، والعلة أنه(1) وطء مطلقة ثلاثاً، يؤكد ذلك أنَّه لا اعتبار بوجود الوطء، ألا ترى أنَّه لو وطئها، وهما مُحرِمان، أو أحدهما، أو كانت حائضاً، جاز لها الرجوع إلى الأول، فبان أن الإعتبار بما ذكرنا [أولاً] (2) من حصول الوطء في نكاح صحيح، دون أن يكون الوطء حراماً أو حلالاً.
فأما إذا طلقها ثلاثاً، ولم يكن سيدها وطئها، فتحريم وطئها بأن يملكها أظهر وأوضح؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وهي لم يطأها واطئ بملك، ولا نكاح، فوجب أن لا يحل له وطؤها بالملك على وجه من الوجوه، مالم تنكح زوجاً غيره، على ما مضى الكلام آنفاً(3).
مسألة [في تفريق ذوي الأرحام في السبي]
قال: ولا يجوز في السبي أن يفرق بين الولد والوالدة، قال القاسم عليه السلام: إلا أن يكون الولد كبيراً جاز التفريق، قال: ولا يجوز التفريق ما دام صغيراً.
ما ذكرناه أولاً منصوص عليه في (الأحكام) (4)، وما حكيناه عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، ونص يحيى عليه السلام في (المنتخب) على أن من باع جارية ولها ولد صغير يرد(5) بيعها إن لم يبع ولدها معها، فكان تحصيل المذهب أن الجارية إذا كان لها ولد صغير، لم يجز بيع أحدهما دون صاحبه، وبه قال الشافعي.
__________
(1) في (ب): أنها.
(2) سقط من (أ).
(3) في (أ): أيضاً.
(4) انظر الأحكام 2/52 ـ 53.
(5) في (أ): لم يبع معها يرد بيعها إن لم يبع ولدها معها.
والأصل فيه حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قدم زيد بن حارثة بسبي، فتصفح رسول الله صلى الله عليه وآله /127/ وسلم الرقيق، فنظر إلى رجل منهم وامرأة كئيبين حزينين [من] (1) بين الرقيق، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <مالي أرى هذين كئيبين [حزينين] (2)؟>، فقال زيد: يا رسول الله احتجنا إلى نفقة على الرقيق فبعنا ولداً لهما، فأنفقنا عليهم بثمنه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <ارجع حتى تسترده من حيث بعته، فرده على أبويه>، وأمر مناديه فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمركم أن لا تفرقوا بين ذوي الأرحام من الرقيق>، فدل ذلك على ما ذهبنا إليه من أنَّه لا يصح بيع أحدهما دون صاحبه، ولا يصح تعلقهم بقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}؛ لأن خبرنا يخصه، ولا يصح لهم قياس أيضاً؛ لأنَّه مدفوع بالنص الذي ذكرنا. (54/22)
__________
(1) سقط من (أ).
(2) سقط من (ب).
باب القول في شهادة النكاح (55/1)
[مسألة: في نصاب شهادة النكاح]
لا ينعقد النكاح إلاَّ بشهادة رجلين فما فوقهما، أو رجل وامرأتين.
نص في (الأحكام)(1) و(المنتخب) (2) على أن النكاح لا يكون إلاَّ بشاهدين، ودل كلامه في غير موضع من (الأحكام) (3) على أنَّه يجوز بشهادة رجل وامرأتين.
ما ذهبنا إليه من القول بأنه لا ينعقد النكاح بغير شهود، هو قول أبي حنيفة، والشافعي، وعامة الفقهاء، وهو قول القاسم.
قال مالك، وأبو ثور، و داود: ويجوز النكاح بغير الشهود.
والدليل على ما ذهبنا إليه ما قدمناه من الأحاديث منها: حديث الحسن، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول(4) الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا نكاح إلاَّ بولي، وشاهدي عدل>.
وحديث محمد وزيد ابني علي عليهم السلام، قالا: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا نكاح إلاَّ بولي وشهود>.
وحديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يجوز نكاح إلاَّ بولي وشاهدين>، وقد مضت أسانيد هذه الأحاديث، والأخبار في هذا كثيرة بألفاظ مختلفة.
وروى أبو بكر الجصاص بإسناده عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: <البغايا اللاتي يُنكحن أنفسهن بغير بينة>.
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ((لا /61/ نكاح إلاَّ بولي وشاهدين)).
وروي <أعلنوا النكاح>، <وأشيدوا النكاح>، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن نكاح السر.
وكل ذلك يوجب الإشهاد؛ لأنه ما لم يحضر قوم لا يكون إعلاناً وإشادة، ويكون سراً.
فإن قيل: يعلن من بعد ويشاد.
__________
(1) انظر الأحكام 1/345، 352.
(2) انظر المنتخب 125.
(3) انظر الأحكام 1/377، قال: ولا يصح بشهادة نساء لرجل معهن، وكذلك انظر الأحكام 2/455.
(4) في (أ): النبي.
قيل له: لا يمتنع ذلك من أن يكون النكاح وقع سراً(1) وعلى وجه منهي عنه، وهذا يوجب فساده، ألا ترى أن مسلماً لو تزوج مشركة ثُمَّ أسلمت بعد ذلك، لم يخرج بإسلامها النكاح من أن يكون وقع حين وقع على وجه الفساد، فكذلك ما اختلفنا فيه. (55/2)
فإن قيل: فأنتم تجوزون النكاح الموقوف، فما أنكرتم أن يكون العقد موقوفاً على الإشادة؟
قيل له: يجوز نكاح الموقوف إذا لم يكن وقع على وجه الفساد، ألا ترى أنا لا نقف النكاح لو عقدته المرأة على رضى الولي وإجازته، وكذلك لا نوقف نكاح المشركة على إسلامها، فكذلك النكاح بغير شهود، على أن ما ذهبنا إليه مروي عن علي عليه السلام ـ على ما بيناه في حديث زيد بن علي عليه السلام ـ وقد روي أيضاً عن ابن عباس، ولا مخالف لهما.
ولا خلاف بين الفقهاء أن النكاح لا يجوز إلاَّ بأمر يضامه من إعلان، أو إشهاد، وأنه مخالف لسائر العقود.
والإشهاد أولى أن يكون شرطاً فيه لوجوه: منها النصوص الورادة فيه، ومنها: أن الإعلان لا يتم إلاَّ بالإشهاد(2) على ما بيناه. ومنها: أن الإشهاد له مدخل في الأحكام، في صحتها وفسادها، ولا مدخل للإعلان فيها، فثبت بما بيناه أن الإشهاد يجب أن يكون شرطاً فيه.
فأما ما ذهبنا إليه من أنَّه يجوز شهادة رجل وامرأتين، فهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وقال الشافعي لا بد من شهادة رجلين.
والدلي على صحة ما ذهبنا إليه حديث محمد وزيد ابني علي بن الحسين عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا نكاح إلاَّ بولي وشهود>.
وروي عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا نكاح إلاَّ بولي وشهود>.
وذلك يتناول الرجل والمرأتين؛ لأن اسم الشهود يتناولهم جميعاً.
وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: <لا نكاح إلاَّ بولي وشاهدين>، يقتضي صحة النكاح برجل واحد وامرأة واحدة، والثانية مضمومة إليها بالإجماع.
__________
(1) في (أ): سراً على.
(2) في (أ): بأشهاد.
وقد استدل على ذلك بأن الرجل والمرأتين في الشرع شاهدان بقول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيْدِيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}، وعلى هذا يجب صحة النكاح برجل واحد وامرأتين بصحة إطلاق اسم الشاهدين عليه. (55/3)
ويدل على ذلك أنَّه عقد معاوضة، فوجب أن يثبت بشهادة رجل وامرأتين، دليله البيع والإجارة، أو يقال: إنَّه حق لا تسقطه الشبهة، فوجب أن يثبت بشهادة رجل وامرأتين، دليله سائر الحقوق من النسب والولاء والعتاق وغيرها، أو يقال هو مما يثبت بالشهاة على الشهادة، فأشبه سائر الحقوق، واعتبارنا أولى من /62/ اعتبارهم، وقياسهم عقد النكاح على الحدود والقصاص، لأن الحدود والقصاص جارية مجرى العقوبات، وتعلقها بالجنايات والمآثم، والنكاح بسائر الحقوق والعقود أشبه، لأنَّه عقد يحصل(1) على طريق المراضاة.
فصل [في من تجوز شهاته في النكاح]
قال: ومن جازت شهادته في سائر الحقوق جازت في النكاح نحو العبد، والولد، والوالدين، وغيرهم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
وهذه الجملة مما لا أحفظ فيها خلافاً ـ أعني أن من تقبل شهادته يصح به عقد النكاح ـ وإنما الخلاف في العبد هل هو من أهل الشهادة أم لا؟.
وقول أكثر العلماء في الولد والوالدين أن النكاح ينعقد بشهادتهم.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا نكاح إلاَّ بولي وشهود ـ وإلا بولي وشاهدين> فلم يستثن عبداً من حر، ولا قريباً من أجنبي، والعبد عندنا من أهل الشهادة، وكذلك الولد تقبل شهادته لأبويه، والأبوان تقبل شهادتهما لولدهما، وهذا مما يستقصي الكلام فيه في كتاب الشهادات، فإذا ثبت ذلك، وجب أن يثبت النكاح بشهادتهم، كما ثبت في(3) سائر الحقوق.
فصل [في اشتراط عدالة الشهود]
__________
(1) في (ب): تحصيل.
(2) انظر الأحكام 1/374.
(3) في (أ): ثبت سائر.
نص يحيى صلوات الله عليه على أن النكاح لا بد في انعقاده من عدالة الشهود(1)، وهو قول الشافعي، قال أبو حنيفة: يجوز النكاح بشهادة الفاسق. (55/4)
والدليل على ذلك ما قدمناه من حديث قتادة عن الحسن، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا نكاح إلاَّ بولي وشاهدي عدل>.
ويدل على ذلك حديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <البغايا اللاتي يزوجن أنفسهن بغير بينة>، والبينة إذا أطلقت اقتضت الشهود العدول؛ لأنها اسم لما يبين الشيء من جهته، والفاسق لا يبين(2) الشيء من جهته بشهادته، فاقتضى ما ذكرناه من الحديث أن تكون العدالة شرطاً في الشهود الذين ينعقد بهم النكاح.
وأيضاً لاخلاف أن النكاح لا يثبت مع التجاحد بشهادة الفاسق، فوجب أن لا يثبت حين الانعقاد بشهادته بعلة أنَّه عقد نكاح، ولا خلاف أن النساء إذا انفردن لا يثبت بشهادتهن النكاح، فوجب ان لا يثبت بشهادة الفاسق؛ قياساً على شهادتهن منفردات، والمعنى أنَّه عقد معاوضة، ويقاس الفاسق على الكافر في أن النكاح لا ينعقد بشهادته بلا خلاف بين المسلمين، والعلة ماهو عليه من الفجور.
فإن قيل: لا معتبر بحال التحمل إذا كان من أهل الشهادة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/346، 374.
(2) في (أ): يتبين.
قيل له: لسنا نسلم ان الفاسق من أهل الشهادة، ولا خلاف أنه يجب الاعتبار بحال تحمل الشهادة في عقد النكاح، ألا ترى أن الصبي والكافر لا ينعقد بهما النكاح، وكذلك العبد عند مخالفينا، فوجب أن لاتجوز شهادة الفاسق، وأن يعتبر حاله عند انعقاد النكاح كما اعتبر حال غيره، ويشهد لنا قول /63/ الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}، فأوجب الكف عن امضاء شهادة الفاسق، ويعضد قياسنا جميع أصول الشرع، لأن كل موضع احتيج فيه إلى الشهادة،لم تجز فيه شهادة الفاسق، على أن شهادة الفاسق أسوأ حالاً من شهادة الكافر عندنا، وعند مخالفينا، لأنه لا خلاف بينه وبيننا في أن شهادته لا يحكم بها بتة، ويحكم عندنا وعندهم بشهادة أهل الذمة إذا شهدوا على أهل ملتهم، فأما تعلقهم بعموم قوله: <لا نكاح إلاَّ بولي وشاهدين>، فلا وجه له، لأن الزيادة في الخبر يجب أن تكون مقبولة، كيف وقد قالوا هم أن زيادة اللفظ أولى من زيادة المعنى؟ وفي خبرنا لفظ زائد وهو قوله: <وشاهدي عدل>، على أنا نخص خبرهم بخبرنا؛ لأنا نبني العام على الخاص. (55/5)
مسألة [في الإقرار بالنكاح من الرجل والمرأة]
قال: ولو أن رجلاً وامرأة أقر كل واحد منهما أنَّه زوج صاحبته، وزوجة صاحبها، جاز إقرارهما، فإن أقرا بنكاح من غير شهود، كان النكاح باطلاً، وإن ادعيا غيبة الشهود، أو موتهم، جاز إقرارهما، فإن اتهم أمرهما، استباحث عن حالهما احتياطاً واستحباباً.
نص في (الأحكام)(1) على أن إقرارهما بالنكاح جائز، فاقتضى ذلك أن ادعاءهما موت الشهود، أو غيبتهم لا يمنع من جواز إقرارهما، ولا يكون ذلك إلاَّ إذا لم يكن هناك ما يبطل إقرارهما، ودل كلامه في (المنتخب)(2) على باقي ما ذكرناه من أن إقرارهما بالنكاح جائز إذا لم يكن هناك ما يبطل الإقرار مما لا خلاف فيه، لأن كل واحد منهما أقر على نفسه بحق للغير، فوجب أن يلزمه، وثبت مثل سائر الحقوق إذا وقع الإقرار بها. (55/6)
وقلنا: إنهما إذا أقرا بنكاح من غير شهود، كان النكاح باطلاً، لأنهما أقرا بأن النكاح الذي كان بينهما كان فاسداً، فوجب لذلك بطلانه.
فأما ادعاؤهما موت الشهود، أو غيبتهم، فلا يقدح في إقرارهما، فلذلك أجزنا إقرارهما، وقلنا: إن التهمة لو توجهت إليهما استبحث عن حالهما استحباباً للإحتياط، ولم نوجبه؛ إذ لا وجه له، لأن التهمة لا توجب إزالة ما أوجبه إقرارهما.
مسألة [في الرجل يدعي نكاح امرأة فتنكر أو العكس]
قال: ولو أن رجلاً ادعى نكاح امرأة، فأنكرت المرأة، كان على الرجل البينة، وعلى المرأة اليمين.
وكذلك إن ادعت المرأة النكاح، وأنكر الرجل.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3)، وهو قول أبي يوسف، ومحمد، والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يحلف المنكر للنكاح.
والأصل في ذلك: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <البينة على المدعي، واليمين على المنكر>، فاقتضى الظاهر أن كل مدعى عليه تلزمه اليمين، كما أن كل مدع تلزمه البينة، سواء كانت الدعوى في النكاح، أو في غيره.
__________
(1) انظر الأحكام 1/378.
(2) انظر المنتخب ص 131.
(3) انظر الأحكام 1/378.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلف ركانة حين طلق امرأته البتة، فدل ذلك على أن لليمين مدخلاً في الطلاق، وإذا ثبت ذلك في الطلاق، ثبت في النكاح، والرجعة، والولاء، والنسب؛ إذ لم يفرق أحد بين هذه الأشياء، ولا خلاف أنَّ من ادُّعى عليه مال، أو حق من شفعة، أو بيع، أو قصاص، لزمته اليمين، فكذلك النكاح وسائر ما اختلفنا فيه، والمعنى أنَّه حق لآدمي له /64/ مطالب معين(1)، أو لأنَّه فيما يقبل فيه شهادة النساء، فوجب أن تلزم فيه اليمين. (55/7)
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه ثانياً لايصح؛ لأن القصاص لا تقبل فيه شهادة النساء، ومع ذلك يجب فيه اليمين.
قيل له: لا يفسد القياس، لأنَّه إثبات الحكم بغير العلة التي ذكرناها، ومثل هذا لا يمنع.
فإن قيل: هذا في هذه الأمور مما لا يصح بذله من جهة الحكم بالنكول، والنكول بذل، فلا يصح أخذه بالنكول،وإذا لم يصح اخذه بالنكول، بان أنَّه لا تلزمه اليمين؛ لأن اليمين لو لزمت، لكانت لا تسقط رأساً، ولكان النكول يؤخذ به.
قيل له: قد علمنا أن لزوم اليمين للمدعى عليه آكد في الشريعة من الأخذ بالنكول، لأن لزوم(2) اليمين نص ومجمع عليه، والحكم بالنكول طريقه الإجتهاد، فعلى هذا كان الأولى على ماذهبتم إليه أن تلزموه اليمين، فإن اسقطتم الحق بالنكول، فلا وجه لإسقاط لزوم اليمين مع تأكده في الشرع بسقوط النكول الذي هو يعترض الإجتهاد.
فإن قيل: نحن وجدنا اليمين تسقط في مواضع بالإتفاق كمن يُدعى عليه شرب الخمر، أو الزنا ونحوهما، ولم نجد في أصولنا ـ النكول يسقط في شيء من المواضع مع لزوم اليمين، فكذلك قلنا: إن اليمين تسقط؛ إذ قد وجدنا ذلك في بعض الأصول، ولم نقل: إن حكم النكول يسقط مع لزوم اليمين، لأنا لم نجده في الأصول، فلما وجدنا حكم النكول في هذه المواضع ساقطاً، قلنا: إن اليمين لا تلزم فيها.
__________
(1) في (أ): متعين.
(2) في (أ): لزومه.
قيل له: ما ادعيتم من أنكم لم تجدوا في الأصول سقوط حكم النكول مع لزوم اليمين أمراً استبددتم به دون المخالف لكم، فلا يصح احتجاجكم به، وإذا لم يصح الإحتجاج به، كان أكثر ما فيه أنَّه مستمر على أصولكم، فيعود الأمر إلى ما قلناه من أن إسقاط حكم النكول أولى من إسقاط لزوم اليمين للوجه الذي بيناه، على أنَّه لا خلاف بيينا وبين أبي حنيفة وأصحابه أن الذين يلزمهم الأيمان للقسامة لو نكلوا، لم يكن يجب الحكم بنكولهم فقد أريناهم في أصل اتفقنا نحن وهم عليه أن حكم النكول يسقط مع لزوم حكم اليمين. (55/8)
فإن قيل: هذه الأشياء لما لم يصح فيها البذل، أشبهت الحدود في أن لا يمين فيها.
قيل له: هذا ينتقض بالقصاص، لأن القصاص لا يجوز به البذل، ومع هذا فقد أوجبتم فيه اليمين.
فإن قيل: فهو مما يصح فيه البذل، لأن رجلاً لو قال لآخر: اقتلني، فقتله لم يكن عليه قصاص.
قيل له: هذا الذي ذكرتموه فاسد من وجهين:
أحدهما ـ أنكم وإن لم توجبوا عليه فيه القصاص، فقد أوجبتم فيه الدية، و إن قلتم: إنها استحسان.
والثاني ـ انكم لما فرقتم بين النكول والإقرار فجعلتم النكول بذلاً، وامتنعتم أن يكون الإقرار بذلاً، قلتم: إن الإنسان مخير بين أن ينكل وبين أن يحلف، وليس هو مخير بين أن يقر، وبين أن لا يقر، لأن /65/ الإقرار إن كان الحق عليه ثابتاً، وجب أن لا يجوز الإمتناع منه، وإن لم يكن الحق عليه، كان كذباً لا يجوز الإتيان به، وهذا بعينه موجود في بذل القتل، لأن الإنسان إن كان دمه محظوراً، لم يكن له أن يبذل قتل نفسه، وكان ذلك أعظم من أن يقر، ولا حق عليه، وإن كان دمه مستحقاً، لم يكن له أن يمتنع منه، فبان أن حكمه حكم الإقرار الذي امتنعتم من القول بأنه بذل أشبه، فإذا ثبت ذلك، ثبت انتقاض تعليلكم لإسقاط اليمين في النكاح، فإنه لا يصح بذله، وصح ما قلناه.
ومما يؤكد ما قلناه، ويدل عليه، أنا وجدنا كل حق إذا ثبت بإقراره، لم يكن لرجوعه عنه حكم يلزم فيه اليمين إذا أنكر، وكل موضع يكون لرجوعه عنه حكم لم يلزمه اليمين. (55/9)
ووجدنا النكاح والطلاق وما أشبههما من هذه الأمور التي اختلفنا فيها إذا ثبتت بإقرار المقر، لم يكن لرجوعه عنه حكم، فوجب أن يلزم فيه اليمين، أو يقال: إن النكاح عقد معاوضة، فوجب أن يكون حكمه حكم البيع في وجوب اليمين فيه، على ان قولهم: إن النكول بذل نفسه، لأنَّه لو كان كذلك، لم يصح من المريض إلاَّ الثلث، ويفسد ما قالوه من أنا لو أوجبنا عليه اليمين، ثُمَّ لم نحكم عليه بالنكول، لأدى ذلك إلى إسقاط وجوب اليمين بالإمتناع منه، وذلك أنَّه يمكن أن يقال: إذا لم يحلف، حبس، كما قلنا نحن وهم في القسامة.
مسألة [في المرأة تدعي على زوجها الدخول]
قال: وإذا ادعت المرأة على زوجهالدخول بها، كانت عليها البينة، وعلى الزوج اليمين.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ووجهه ما مضى في المسألة التي قبلها، فلا غرض في إعادته.
__________
(1) لم أعثر عليه في الأحكام في خطابه وهو في المنتخب 130.
كتاب الطلاق (56/1)
باب القول في صفة الطلاق وتنوعه
[مسألة في طلاق السُّنَّة]
إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته طلاق السنة، طلقها في طهرها من غير جماع. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)، وهو مما لا خلاف فيه.
والأصل فيه: قول الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءِ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، ثُمَّ ورد فيه: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، وإبراهيم بن مرزوق، قالا: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، قال: سمعت عبدالرحمن بن أيمن، يسأل ابن عمر، عن الرجل يطلق امرأته، وهي حائض، فقال: فعل ذلك عبدالله بن عمر، فسأل عن ذلك عمرُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: <مره فليرتجعها حتى تطهر، ثُمَّ ليطلقها، ثُمَّ قرأ {إذا طلقتم النساء فطلقوهن} في قبل عدتهن>(3).
وأخبرنا المقري، حدثنا الطحاوي، أخبرنا ابن أبي داود، حدثنا عبدالله بن صالح، حدثني الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، حدثني سالم بن عبدالله، أن عبدالله بن عمر أخبره أنَّه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: <مره فليرتجعها، ثُمَّ يمسكها حتى تطهر، ثُمَّ تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها طاهراً قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله تعالى>(4).
__________
(1) انظر الأحكام 1/418، 453.
(2) انظر المنتخب 141.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/51 وفيه: ثم قرأ {فطلقوهن لعدتهن} أي في قبل عدتهن.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/53 وفيه: فإن بدا له أن يطلقها فليطقها ظاهراً.
وحدثنا(1) أبو الحسين البروجردي، حدثنا محمد بن عمر الدينوري، حدثنا أبي، حدثنا المصار بن جارود، عن هشيم(2)، عن أبي بشر جعفر بن إياس السكوني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: طلقت امرأتي وهي حائض فردها إليَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى طلقتها وهي طاهر. (56/2)
وكل الأخبار دلت على ما قلناه، وأنه المراد بالآية.
مسألة [في الطلاق البدعي وحكمه]
قال: فإن طلقها في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، وقع الطلاق، وخالف(3) السنة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4).
أما كونه مخالفاً للسنة، فلا خلاف فيه، وقد مضى من الخبر والآية ما يدل على ذلك، والأخبار فيه أكثر من أن تعد، وأما وقوع الطلاق فيه، فهو قول أكثر العلماء إلاَّ ما ذهبت إليه الإمامية، ورووه عن جعفر عليه السلام أن الطلاق لا يقع في الحيض، وهو الأظهر من قول الناصر عليه السلام.
والدليل على أن الطلاق يقع في الحيض قول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}، وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}.
فبين أحكام الطلاق، ولم يستثن حالاً من حال، فأوجب ذلك وقوع الطلاق في جميع الأحوال.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ /128/ لِعِدَّتِهِنَّ} فدل ذلك على أن الطلاق لغير العدة لا يقع.
__________
(1) في (أ): أخبرنا.
(2) في (أ): هشام.
(3) في (أ): وقد خالف.
(4) انظر الأحكام 1/444.
قيل له: ليس في الآية دليل على ما ذكرتموه، بل فيه دليل على أنَّه أمر من الله تعالى بذلك، وليس فيه ما يدل على أنَّه لو طلقها لغير العدة ما يكون حاله، فيحمل قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، على أن ذلك هو المندوب إليه والمسنون، ويحمل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}، من غير استثناء شيء من الأحوال، على أنَّه يقع في جميع الأحوال، ثُمَّ السنن الواردة كلها تدل على صحة ما نذهب(1) إليه، منها ما مضى من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <مره فليرتجعها> فلولا أن الطلاق كان وقع، لم يأمره بالمراجعة. (56/3)
وأخبرنا أبو العباس الحسني، حدثنا(2) عيسى بن محمد العلوي، حدثنا محمد بن منصور، عن محمد بن جميل، عن إبراهيم بن محمد، عن أيوب، عن جابر، عن منصور، عن أبي وائل، عن ابن عمر، أنَّه طلق امرأته وهي حائض، فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: <مره أن يراجعها، وتعتد بتطليقة> فبان صحة وقوع الطلاق في الحيض.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني، عن عبدالرزاق، عن الثوري، عن عاصم، عن ابن سيرين، قال: سئل ابن عمر هل احتسبت بها؟ قال: وما يمنعني، وإن كنت قد عجزت، واستحمقت.
وفي بعض الأخبار قلت يا رسول الله: لو كنت طلقتُها ثلاثاً، قال: كانت تبين، و[كنت] (3) تعصي ربك.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، حدثنا محمد بن الحسين بن علي الحسيني البصري، حدثنا أبي، حدثنا زيد بن الحسين، عن أبي بكر بن(4) أبي أويس، عن ابن ضميره، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أنَّه كان يقول: (الطلاق في العدة على ما أمر الله تعالى، فمن طلق على غير عدة، فقد عصى الله تعالى، وفارق امرأته).
__________
(1) في (أ): يذهب.
(2) في (أ): أخبرنا.
(3) سقط من (أ).
(4) في (أ): عن.
فإن قيل: فقد روي عن عبدالله بن مالك، عن ابن عمر أنَّه طلق امرأته وهي حائض، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <ليس ذلك بشيء>. (56/4)
قيل له: هذا خبر قد استضعف سنده، وأخبارنا أكثر وأشهر، وإن ثبت، فلا ظاهر له؛ لأنا قد علمنا أنَّه شيء قد حصل و[قد](1) وقع، فلا بد فيه من تأويل، وإذا احتجنا وخصمنا جميعاً فيه إلى التأويل، قلنا يحتمل أن يكون المراد به ليس شيئاً يستحب ويختار.
وليس لهم أن يقولوا: إن الزوج لما كان موقعاً للطلاق على وجه يكون به عاصياً، لم يقع طلاقه؛ لأنَّه ينتقض بمن يطلق في الصلاة حتى يقطع صلاته بما يلفظ به،
ويكشف أن يكون ما يوجب الفرقة معصية لا يمنع من وقوع الفرقة بالردة، إذ لا خلاف أنها توجب الفرقة، ويمكن أن تقاس الحائض على الطاهر بمعنى أنها امرأة يصح طلاقها، أو يقاس التي دخل بها على التي لم يدخل بها بتلك العلة، فوجب أن يصح طلاقها في الحيض، أو يقاس الطلاق على الظهار؛ بعلة أن كل واحد منهما لفظ له مدخل في المنع من الوطء، فوجب أن يصح حصول حكمه في الحيض، فإن قاسوه على الوكيل الذي أمر بأن يطلقها طاهراً، فطلقها حائضاً، بأنه تعدى ما أمر به، كانت قياساتنا أولى؛ لإستنادها إلى النصوص التي لا تحتمل تأويلاً، ولأنه يفيد وقوع الطلاق، على أن الوكيل لا يشبه المطلِّق، لأن المطلق يطلق عن نفسه، والوكيل يطلق على الموكل، فصارت قياساتنا أولى؛ لأنا رددنا حكم من يُلزم نفسَه الأمرَ إلى حكم من يلزم نفسه(2)، وهم ردوا حكم من يُلزم /129/ نفسَه إلى حكم من يُلزم غيره.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ب): غيره. وظنن في هامشها على ما أثبتناه.
ومما يوضح الفرق بين الوكيل والمطلق أن الوكيل ينفذ ماهو وكيل فيه بأمر الموكل فقط دون ما سواه، فمتى تجرد الأمر في طلاقها ظاهراً، ولم يكن هناك أمر بطلاقها حائضاً، لم يصح طلاقه حائضاً، وليس كذلك المطلق؛ لأن طلاقه ينفذ، وإن لم يأمر الله به، بأن يخبر أنَّه نافذ واقع، أو بأن يدل عليه من غير جهة الخبر، فلا يمتنع أن يأمر بالطلاق على وجه مخصوص، ويدل على أنَّه قد يقع ذلك، وإن وقع على غير الوجه الذي أمر بإيقاعه عليه. (56/5)
مسألة [في طلاق الصغيرة والآيسة والحامل]
قال: ويستحب لمن أراد أن يطلق صغيرة لم تحض، أو آيسة، أن يكف عن مجامعتها شهراً، ثُمَّ يطلقها، وكذلك القول فيمن أراد أن يطلق الحبلى. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1). ووجهه أنَّه لما استحب أن يكون بين الجماع والطلاق حيضة في ذوات الحيض، استحببنا أن يكون بينهما شهراً في اللواتي لم يحضن من الصغيرة، والكبيرة والحبلى؛ لأن الشهر قد أقيم مقام الحيضة الواحدة في كل حكم له مدخل في استبراء الرحم، نحو العدد، والإستبراء في الإماء.
مسألة [في الطلاق الرجعي]
[قال] (2): وإذا طلق الرجل امرأته طلاق السنة، ولم تكن تلك التطليقة ثالثة، فالرجل أولى بها ما دامت في عدتها، فإذا انقضت عدتها، كان الرجل خاطباً من الخطاب. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3) و(المنتخب) (4). وهو مما لا خلاف فيه، سواء كان الطلاق للسنة، أو واقعاً في الحيض في معنى المراجعة، ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ابن عمر حين طلق امرأته حائضاً: <مره أن يراجعها>، وكذلك في أن العدة لو انقضت قبل المراجعة أن الزوج يكون خاطباً من الخطاب، وذلك إذا وقع الطلاق لا على عوض، وقد دل على ذلك قول الله تعالى: {وَبُعُولَتِهِنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِيْ ذَلِكَ}، أن المراد به المراجعة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/420.
(2) سقط من (أ).
(3) انظر لاأحكام 1/418 ، 419 ، 420 ـ 453.
(4) انظر المنتخب 141.
مسألة [في الإشهاد على الطلاق والمراجعة] (56/6)
قال: وقال القاسم عليه السلام: ولا بد من الإشهاد في الطلاق والمراجعة؛ ليكون أبعد من الخلاف والمنازعة. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، ومروي عنه في (الأحكام) (1)، وقد دل تعليله بالبعد من الخلاف والمنازعة على أنه قاله على سبيل الإستحباب، ولم يجعله شرطاً في صحة الطلاق، ولا في صحة الرجعة.
وقد ذكر يحي عليه السلام الإشهاد في (الأحكام) (2)، ولم يذكر أنه شرط في صحتها(3) فدل ذلك على أنه استحباب، وقال أيضاً: ينبغي للمطلق أن يشهد على طلاقه إن شاء حين يتلفظ به، وإن شاء عند انقضاء عدتها، ودل ذلك أيضاً أنه لا يجعل الإشهاد، شرطاً في صحة الطلاق، وهو قول عامة الفقهاء، وذهبت الإمامية إلا أن الطلاق من شرط صحته الإشهاد وأحد قولي الشافعي أنه شرط في صحة الرجعة.
والدليل على أن الإشهاد ليس بشرط في صحة الطلاق، ولا في صحة الرجعة قول الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، وقوله سبحانه: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}، وقوله سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}، وقوله سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيْحٌ بِإِحْسَانٍ}، فلم يشترط /130/ فيه شيئاً من الإشهاد، فعُلِم أنه ليس بشرط في صحته.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، فأمر بالإشهاد.
__________
(1) انظر الأحكام 1/422.
(2) فانظر الأحكام 1/419 ، 240.
(3) في (أ): صحته.
قيل له: لسنا نخالف أنه مأمور بالإشهاد، وإنما الخلاف في أنه شرط فيهما، أو في أحدهما، ويدل على أنه ليس بشرط في الرجعة قول الله تعالى: {وَبُعُولَتِهِنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِيْ ذَلِكَ}، من غير اشتراط الإشهاد(1)، وما تعلق به الفريقان من قوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، لا يصح تعلق واحد منهما؛ لأنه وارد بعد ذكر الطلاق والرجعة، وليس تعلقه بأحدهما أولى من تعلقه بالآخر، ولا خلاف أنه غير متعلق بهما على الوجه الذي ذهبوا إليه، فبطل تعلقهم به، وصح أن المراد به الندب، فصح تعلقه على وجه الندب بالطلاق، والرجعة جميعاً. (56/7)
ومما يدل على صحة ما نذهب إليه من ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر حين سأل عن طلاق ابنه في الحيض: <مره فليراجعها حتى تطهر، ثم يطلقها>، ولم يشترط في واحد منهما الإشهاد، فدل ذلك على أن الإشهاد ليس بشرط فيهما، ولا خلاف أن الإشهاد ليس بشرط في العتق، فوجب أن يكون كذلك الطلاق.
والعلة أنه إزالة ملك، وفي الرجعة حكم لا يفتقر إلى الولي، فوجب ألا يكون الإشهاد شرطاً فيه، دليله سائر العقود من البيع والإجارة وغيرهما، أو يقال: إن الرجعة هي استباحة البضع من غير أن يكون عقد النكاح، فوجب أن لا يفتقر إلى الإشهاد، دليله شراء الأمة، ثم الأصول كلها تشهد لقياسنا؛ لأن شيئاً منها لم يغلظ بالحاجة إلى الولي، فلم يغلط بالحاجة إلى الشهود، فوجب أن تكون الرجعة كذلك.
مسألة [في الخلع وألفاظه]
__________
(1) في (أ): في الاشهاد.
قال: وإذا أراد الرجل أن يخالع امرأته، طلقها على عوض، فيقول طلقتك على كذا، أو خالعتك عليه، أو باريتك(1) أو غير ذلك من الألفاظ الجارية مجراه بعد أن توافق المرأة على ذلك، أو يقول: أنت طالق على كذا، أو يقول: إذا أبرأتني من كذا، أو أعطيتني كذا، فأنت طالق. نص في (الأحكام) (2) على جميع ما ذكرناه غير ما ذكرناه من قول الرجل: خالعتك، أو غير ذلك من الألفاظ الجارية مجراه، فإنه منبه عليها فيه. (56/8)
وتحصيل المذهب أن الخلع، والمباراة، والطلاق، على عوض كلها(3) عبارات مختلفة على معنى واحد، والذي يدل على ذلك أن لفظ الخلع والمباراة تفيد الفرقة كالطلاق، إذا اشترط العوض في أيهما كان، استوى حكمهما، ووقعت الفرقة، وملك الزوج عليها(4) ما بذلته من العوض، وهذا مما لا خلاف فيه، وقد اختلف في الخلع، هل هو فسخ، أو طلاق، وهو طلاق عند أصحابنا، وبه قال أبو حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وقوله الآخر أنه فسخ، وليس بطلاق.
والذي يدل على أنه طلاق: ما رواه هناد بإسناده، عن سعيد بن المسيب قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخلع تطليقة واحدة.
ويدل على ذلك حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام: ( إذا قَبِل الرجل من امرأته فدية، فقد بانت منه بتطليقة).
ويدل على ذلك أيضاً أنها فُرقة تختص النكاح، ويقع بإيقاع الزوج، فيجب أن يكون طلاقاً، دليله الطلاق.
__________
(1) في (أ): بارأتك.
(2) انظر الأحكام 1/476، 477.
(3) في (ب): لأنها.
(4) عليه) في النسختين ونبه على ما أثبتناه في الهامش.
وأيضاً لا خلاف أن الخلع إذا أريد به الطلاق يكون طلاقاً، وكذلك إذا لم يرد به، والمعنى أنه خلع، فأما /131/ استدلال من استدل على أنه فسخ بأنه لو كان طلاقاً؛ لكان يصير الطلاق به أربعاً، لأن الله تعالى قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}، ثم ذكر الخلع بقوله تعالى بعد ذلك: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَّ يُقِيْمَا حُدُودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلِيْهِمَا فِيْمَا افْتَدَتْ بِهِ}، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ..} الآية. فهو غير سديد؛ لأن الله سبحانه بيَّن الطلاق الثلاث بقوله سبحانه: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيْحٌ بِإِحْسَانٍ}، فأراد بقوله: {أَوْ تَسْرِيْحٌ بِإِحْسَانٍ}، التطليقة الثالثة، ثم بين بأحكام الطلاق الماضي ذكره، ودل على ما يجوز أخذ البذل(1) فيه، وما لا يجوز؛ لأنه تعالى ابتدأ ذكر طلاق آخر غير ما مضى، ثم ذكر بعد ذلك حكم التطليقة الثالثة؛ لأنه جعلها تطليقة أخرى؛ لأن الأمر لو لم يكن كذلك، لكانت التطليقات يصرن خمساً، فصح بما أوضحناه أن الخلع وإن كان طلاقاً، كان داخلاً في التطليقات الثلاث، وبطل ما تعلقوا به. (56/9)
مسألة: [في شروط صحة الخلع]
قال: ولا يجوز الخلع إلا إذا خافا ألا يقيما حدود الله، وتكون المرأة هي الطالبة، وأبت الرجوع إلى حكم الله تعالى، ولا يجوز أن يخالعها على أكثر من مهرها، ونفقة عدتها، وتربية أولادها ونفقتهم. جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3) خلا ما ذكرناه من تربية الأولاد ونفقتهم، فإنه منصوص عليه في (المنتخب)(4) فقط.
__________
(1) في (أ): البدل.
(2) انظر الأحكام 1/476، 477 ـ 425.
(3) انظر المنتخب 157.
(4) انظر المنتخب 143.
والذي يدل على ما ذكرناه من أنه لا يجوز للرجل أخذ العوض على الطلاق إلا إذا خافا أن لا يقيما حدود الله، ظاهر قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتِيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيْمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيْمَا حُدُودَ اللهِ}، فنص تعالى على تحريم أخذ شيء مما أعطاها إلا على الشرط الذي ذكرناه، وبيَّن أن ذلك يحل متى حصل الشرط. (56/10)
فإن قيل:: فقد قال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيْئاً مَرِيْئاً}، فأباح أكل ما طابت به أنفسهن من مهورهن، فوجب أن يجوز أخذ الزوج إياه على سبيل الخلع، وإن لم يكن منها مشاقة إذا طابت به نفسها.
قيل له: قول الله سبحانه: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيْمَا حُدُودَ اللهِ} قد دل على أنه لا يحل مع طيب نفسها أن يأخذه على وجه الخلع، إلا على الشرط الذي ذكرناه، ألا ترى أن نفسها لو لم تطب، لم يحل له أن يأخذه، وإن خافا ألا يقيما حدود الله، فبان أن الآية وردت في إيجاب الشرط مع طيبة نفسها، ولا يمتنع أن يكون الإنسان إذا طابت نفسه بماله لآخر مُطْلقاً يحل تناوله، ثم لو طابت نفسه بأن يتناوله على وجه محظور، لم يحل له أخذه، كما يؤخذ على سبيل الربا، وثمن الخمر، وأجرة البغي، وما جرى مجراها، وكذلك لا يمتنع أن يحل أن يأخذ من مهرها ما طابت به نفسها على الإطلاق، ثم إذا طابت به نفسها على سبيل الخلع، لم يحل له أن يأخذ إلا على الشرط الذي ذكر الله تعالى.
فإن قاسوا الخلع إذا لم يُخف منها النشوز عليه إذا خيف، بمعنى أنه خلع، كان ذلك معارَضاً بأن يقال لهم: قد ثبت بالدلالة عندنا، وفاقاً مع الشافعي أن للخوف مدخلاً في بعض أحكام الطلاق، والعلة أنه تمليك يختص البضع.
وقلنا: إنه لا يجوز أن يقع الخلع على أكثر مما أعطاها، إلا أن يكون نفقة عدتها، أو تربية أولادها(1) له. (56/11)
لما رواه أبو الحسن الكرخي بإسناده، عن شعبة، عن قتادة، عن عكرمه، عن ابن عباس، أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وآله /132/ وسلم فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خُلق، وإني لأكره الكفر في دار الإسلام، لا أطيقه بُغضاً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <تردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ منها ما ساق إليها، ولا يزداد>.
وروي أيضاً بإسناده، عن ابن جريج، عن عطاء، أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشكو زوجها فقال: <أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم وزيادة، فقال: أما الزيادة فلا>.
وروي أيضاً بإسناده، عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس، وفي جميلة بنت عبدالله بن سلول، قال وكانت شكته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فدعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكره ذلك، فقال: أفتطيب لي بذلك [نفسك] (2)؟ قال: نعم، قال ثابت: قد فعلت، فنزلت: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً}.. الآية، قال: لا تأخذ منها أكثر مما أعطيتها، فالحديث الأول قد رواه أبو العباس الحسني في (النصوص).
فإن قيل: فقد روي في الأخبار عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كانت أختي عند رجل من الأنصار تزوجها على حديقة، فكان بينهما كلام، فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: <أتردين عليه حديقته ويطلقك>؟ قالت: نعم، وأزيده، قال: <ردي عليه حديقته وزيديه>.
قيل له: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم علم أن المهر كان زائداً على الحديقة، فإياه عنى بالزيادة؛ ليكون ذلك تلفيقاً بين الأخبار.
__________
(1) في (أ): أو لأدلة.
(2) سقط من (ب).
وأيضاً قد ثبت بالدلالة(1) وفاقاً مع أبي حنيفة أن أحد طرفي المهر مقدر، فوجب أن يكون كذلك مال الخلع، والعلة أنه عوض البضع، وذلك أولى من قياسهم ذلك على سائر الأعواض؛ لإستناده إلى النصوص. (56/12)
وقلنا: إنه يجوز أن يخالع على نفقة العدة، وتربية الأولاد ونفقتهم؛ لأنه مما يتعلق بأسباب النكاح الذي كان بينهما، فأشبه المهر، ولا يقدح فيه دخول الجهالة؛ لأن عوض البضع لا يفسد بذلك، ولا خلاف فيه بيننا وبين أبي حنيفة والشافعي؛ لأنه كالمهر في أن دخول بعض الجهالة لا تفسده.
مسألة: [في بينونة الخلع]
قال: فإذا فارقها على ذلك، فقد بانت [المرأة] (2) منه، فلا رجعة عليها له، وهو خاطب من الخطاب إن لم يكن الخلع تطليقة ثالثة، ولهما أن يستأنفا نكاحاً جديداً قبل إنقضاء العدة وبعده.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3) و(المنتخب) (4) غير ما ذكرناه من أن لهما أن يستأنفا النكاح في العدة فإنه منصوص عليه في (المنتخب)، وإن كان [إطلاق] (5) لفظ (الأحكام) في أن لهما أن يتراجعا بنكاح جديد من غير اشتراط إنقضاء العدة يقتضيه ويدل عليه، وهذه الجملة مما لا أحفظ فيها خلافاً عن أحد من فقهاء أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، إلا ما يحكى عن أبي ثور أنه كان يذهب أن للمخالع الرجعة مع تحصيله العوض، وذلك بعيد جداً؛ لأن الزوج لا يجوز أن يتملك البدل والمبدل معاً، ولا خلاف أنه يملك البدل الذي تبدله المرأة على بضعها، فلا يجوز أن يملكك(6) البضع مع بدله، ألا ترى أن المرأة لا تملك البدل، فوجب أن لا يملك الزوج ما هو بدل منه، كالنكاح يملك المرأة المهر، ولا يكون للزوج عليه سبيل، ويملك الزوج البضع، ولا يكون لها سبيل عليه، فكذلك في الخلع، ويشهد لصحة هذا الإعتبار سائر عقود البياعات والإجارات والهبات على الأعواض.
__________
(1) في (أ): بالزيادة.
(2) سقط من (أ).
(3) انظر الأحكام 1/476 ـ 477.
(4) انظر المنتخب 143.
(5) سقط من (أ).
(6) في (أ): يمتلك.
وروي زيد عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (إذا قَبِل الرجل من امرأته فدية، فقد بانت منه /133/ بتطليقة)، فدل ذلك على حصول البينونة بحصول البدل، ودل أيضاً على أن الخلع طلاق. (56/13)
وقلنا: إنه ينكحها إن شاء نكاحاً جديداً في عدتها؛ لأن العدة إذا كانت منه لم يمنع من نكاحه، ولا خلاف في ذلك.
مسألة: [في مخالعة الأب عن ابنته الصغيرة]
قال: ولو أن رجلاً خالع زوج ابنته الصغيرة عنها، وقع الطلاق، وكان للابنة أن تطالب الزوج بالمهر إذا كبرت، ورجع الزوج به على أبيها؛ إذ قد ضمن. وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(1).
قلنا: إن ذلك خلع؛ لأنه طلاق على عوض.
وقلنا:: إن للإبنة مطالبة الزوج بالمهر إذا كبرت؛ لأن حقها ثابت، ولا يسقط بإسقاط أبيها، كما لا يسقط سائر حقوقها بإسقاطه؛ لأنه لا ولاية له عليها فيما يضرها.
وقلنا:: إن للزوج أن يطالب الأب به، لأنه طلقها على بدل نيابة(2) من يصح منه بدل الأبدال، فوجب أن يلزمه قياساً على المرأة لو كانت هي المخالعة، يؤكد ذلك أن من قال لرجل له على آخر حق: عليَّ هذا الحق على أن تبري غريمك، صح ذلك، ولزم الضمان، فكذلك ما يذهب إليه.
فإن قيل: إن الأب لما لم يحصل له بإزائه شيء، لم يلزمه العوض، كان ذلك منتقضاً بالضمان والحوالة، ألا ترى أن المحتال والضمين يضمنان المال، وإن لم يحصل لهما بإزائه شيء، ويؤكد ذلك قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <المؤمنون عند شروطهم>.
فإن قال: فقد قال يحيى عليه السلام: إن الأب إذا قال ذلك بلفظ الإبراء، لزمه ضمان المال، والإبراء لا ينطوي على الضمان.
__________
(1) انظر المنتخب 147.
(2) في (أ): بذله.
قيل له: الإبراء قد يكون بمجرد القول، وقد يكون بأن يضمن المال عمن عليه المال، فإذا احتمل الإبراء هذين الوجهين، حملناه من الأب على الصحة، وهو لا يصح إلا إذا حمل على الضمان، ألا ترى أن البيع إذا جاز أن يكون صحيحاً وفاسداً، حمل على الصحة في الإقرار وغيره، حتى يثبت الفساد، وكذلك النكاح، وسائر العقود. (56/14)
مسألة: [في بيان الطلاق الرجعي وبيان ألفاظه]
قال: والطلاق الرجعي كل طلاق للمدخول بها، لا على عوض، من غير أن يكون تطليقة ثالثة.
قد نص عليه(1) في (الأحكام) (2) أن الكنايات يقع بها الطلاق الرجعي، وذكر أن دخول العوض يجعله بائناً(3)، وبيَّن فيه حال المطلقة ثلاثاً، وأنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وذكر نحوه في (المنتخب) (4) وجميع ذلك إذا كانت المرأة مدخولاً بها، فأما إن كانت غير مدخول بها، فلا خلاف أن طلاقها بائن على أي وجه وقع(5).
فأما الطلاق الصريح، فلا خلاف أن البينونة لا تقع إلا إذا كان على عوض، ولا خلاف أن قول الزوج استبري رحمك في هذا المعنى مثل صريح الطلاق.
واختلفوا في قوله: أنت بائن، أو برية، أو خلية، وما جرى مجراها، فذهب أبو حنيفة إلى أنها تكون بهن بائناً، وقال الشافعي بمثل قولنا.
والدليل على ما نذهب إليه من ذلك قول الله تعالى: {وَبُعُولَتِهِنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}، فلم يشترط أن يكون الفراق وقع بالصريح، أو الكناية.
__________
(1) في (ب): خطأ عليه وقال: قد نص في الأحكام.
(2) انظر الأحكام 418 ـ 419، 458، 459،426.
(3) انظر الأحكام 1/477.
(4) انظر المنتخب 145، 146.
(5) انظر الأحكام 1/424.
ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم [لابن عمر] (1): (راجعها)، ولم يستثن بأي لفظ وقع الطلاق، فدل ذلك على أن حكم الألفاظ في كونها رجعية حكم واحد، ولا خلاف أن الصريح لا يقتضي البينونة إذا لم يقع علي عوض، فوجب أن يكون الباين، /134/ والخلية، والبرية كذلك، والعلة أنه طلاق، أو يقال: طلاق لم يستوف كمال عدده، ولم يوقع شرط العوض، فوجب أن لا يوجب البينونة في المدخول بها، ويمكن أن يقاس ما ذكرناه على قول القائل: اعتدي، واستبري رحمك، في أنه لا يوجب البينونة إذا لم يقع على عوض، يؤكد ذلك أنما ذكرنا حكم الصريح والكناية على ما بيناه، فوجب أن يكون ذلك حكم البائن والبرية، إذ لا يخلو ذلك من أن يكون صريحاً أو كناية، على أنا وجدنا الصريح، وقول الزوج: اعتدى متى دخلهما العوض، كانا بائنين، ومتى لم يدخلها العوض، كانا رجعيين، فعُلم أن الحكم في البينونة تعلق بدخول العوض، فصح ما ذهبنا إليه، على أنا وجدنا كل لفظ موجب للفرقة، مع إتفاق الدينين، إذا لم يمنع من تجديد النكاح بين الزوجين، قبل نكاح زوج آخر، لا يوجب البينونة متى لم يقع على عوض، كالطلاق، والفراق، والسراح، واستبرى، واعتدى، فوجب أن يكون قوله: أنت بائن، أو برية كذلك. (56/15)
فإن قيل: إذا ثبت أن الزوج يملك أن تبين بالبدل، وجب أن يملكه بغير بدل كالعتق والهبة.
قيل له: هذا لا يجب في جميع المواضع، ألا ترى أنه يملك عقد النكاح مع العوض، ولا يملكه على حد لا يجب معه البدل، وكذلك يملك البيونة بلفظ الطلاق مع البدل، ولا يملكه بغير بدل، كذلك البيع يصح إيقاعه مع البدل، ولا يصح بغير البدل، فلم يمتنع أن تكون البينونة كذلك، وإن وقعت بلفظ البائن والخلية، على أنا لا نمتنع من القول بأن الزوج يملك البينونة من غير عوض على بعض الوجوه، وهو أن يطلقها ثلاثاً على الحد الذي نذهب إليه، فسقط سؤالهم هذا بواحدة.
__________
(1) سقط من (أ).
ويمكن أن يستدل في أول المسألة بقول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}، فجعل سبحانه الطلاق مرتين، وجعل بعده الإمساك أو التسريح، ولا يكون الإمساك إلا بعد الرجعة، فكأنه قال: بعد كل طلاق ثان رجعة، فوجب ذلك في كل طلاق وقع بأي لفظ كان، إلا ما خصه الدليل. (56/16)
فإن قيل: إذا ثبت أن للزوج أن يأخذ البدل على البينونة، ثبت أنه مالك لها، وثبت أن له إيقاعها بغير بدل.
قيل له: هذا فاسد بجميع الوجوه التي ذكرناها في المسألة الأولى، فلا وجه لإعادته.
فإن قيل: قوله: أنت بائن كناية، ولو لم توجب البينونة، كنا قد أسقطنا حكمه.
قيل له: نجعله طلاقاً، فلا نكون أسقطنا حكمه، ألا ترى أنه لا يوجب البينونة بقوله: إعتدى، وهذا لا يخرجه من حكمه، فهو غير ساقط.
فإن قيل: إذاً أسقطنا حكمه الذي وجب(1) من حيث اللغة(2).
قيل له: هذا لا معتبر به، وإنما الإعتبار بما يوجبه الشرع وأدلته.
مسألة: [في بقاء التوارث أثناء عدة الرجعي]
قال: وإذا طلق الرجل زوجته تطليقة رجعية، فإنهما يتوارثان ما دامت في العدة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3)، وذلك أن العصمة بينهما غير منقطعة، ألا ترى أنه يراجعها من غير نكاح يبتديه، فثبت أنها زوجته، أوجبها ظاهر قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} .. الآية، فالتوارث بينهما قائم، والمسألة وفاق لا خلاف فيها.
وقد روى ذلك زيد بن علي، عن أبيه، عن /135/ جده، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
مسألة: [في المتابعة بين الطلاق]
__________
(1) في (أ): أوجبنا.
(2) في (أ): العلة.
(3) انظر الأحكام 1/467.
قال: والطلاق لايتبع الطلاق، إلا أن تتخللهما الرجعة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)، وقال القاسم عليه السلام: إن الطلاق قد يتبع الطلاق، وإلى ذلك ذهب أكثر الفقهاء في التطليقة الرجعية، فأما البائن فقول الشافعي فيه مثل قولنا. (56/17)
وقال أبو حنيفة: يتبعها الطلاق.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيْحٌ بِإِحْسَانٌ}، الذي هو الطلاق الثالث، فوجب أن يكون وقتهما وقتاً واحداً، وحالهما حالة واحدة؛ لأن ذلك مقتضى التخيير، ألا ترى أن التخيير لما وقع بين الكفارات الثلاث، كان موقعها ووقتها واحداً، وكذلك جزاء الصيد، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن الإمساك لا يكون إلا بعد الرجعة، وجب أن لا يكون التسريح الذي هو الطلاق الثالث إلا بعد الرجعة، فإذا ثبت ذلك في الطلاق الثالث، ثبت في الثاني، إذ لم يفصل أحد بينهما.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المراد بقوله تعالى: {فإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}، إنما هو الرجعة، فيكون الإنسان مخيراً بين أن يطلق، أو يراجع، فلا يجب أن يكون الطلاق الثالث بعد الرجعة؟
قيل له: هذا يسقط من وجهين:
أحدهما أن الإمساك ليس بعبارة عن الرجعة، إنما هو عبارة عن قيامه لها بما يلزمه، ألا ترى أنه لا يمتنع أن يقال: فلان راجع أهله، ولم يمسكها، ولو كان الإمساك عبارة عن الرجعة لكان ذلك متناقضاً، فتبين أن الإمساك ليس هو الرجعة، وإنما هو قيامه لها بما يلزمه بعد الرجعة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/460.
(2) انظر المنتخب 143 ـ 145.
والوجه الثاني ـ أن المراد به لو كان هو الرجعة، لم تكن القسمة صحيحة؛ إذ كان تكون حالة ثالثة غير الرجعة والطلاق، وهو الترك لها حتى تنقضي عدتها، فتبين، ومتى راجعها، لم يكن بعد إلا ما ذكر الله تعالى من الإمساك بالمعروف، أو التسريح بإحسان، فكان الأولى أن يحمل الإمساك على ما قلناه ليتم مقتضى الظاهر، ويؤكد ذلك: ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر: في ابنه: <مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض وتطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق>، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمساك بعد المراجعة(1). (56/18)
ومما يدل على ذلك ما مضى من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته حائضاً، فسأل عمرُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: <مره فليراجعها حتى تطهر، ثم يطلقها>، فلولا أن الطلاق لا يتبع الطلاق لم يكن لأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالمراجعة، ثم الطلاق بعده، معنى، فدل ذلك على أن الطلاق الثاني لا يقع بعد الطلاق الأول إلا بتوسط الرجعة بينهما، يكشف ذلك أن هذه الرجعة لا ترفع التطليقة الأولى، ولاهي جارية مجرى التوبة من إساءته بإيقاعها، ولا هي معتبره بحكم العدة، فلم يبقَ وجه يكون أمراً بها من /136/ أجله غير ما ذكرناه من صحة وقوع التطليقة الثانية المسنونة.
ومما يدل على ذلك ـ أنه لا خلاف بيننا وبين الشافعي أن البائن لا يلحقها الطلاق وهي معتدة، فكذلك المطلقة طلاقاً رجعياً، والعلة أنها معتدة، فوجب أن لا يلحقها الطلاق حتى ترفع الثلمة الواقعة بالطلاق الأول.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/261.
ويقال للشافعي وأبي حنيفة: لا خلاف بيننا وبينكم أن من قال لامرأته المدخول بها أَنتِ طالق ثلاثاً أنه لا يلحق ذلك طلاق مالم يرفع حكم ذلك اللفظ، فكذلك إذا قال لها: أنت طالق، والعلة أنها معتدة من طلاق، وليس لهم أن يدعوا أن علتنا لا تأثير لها؛ لأنها مؤثرة على أصلنا، إذ لا فصل عندنا بين قوله: أنت طالق، وبين قوله أنت طالق ثلاثاً. (56/19)
فإن قيل: الزوج مالك للثلاث، فوجب أن يصح منه إيقاعها واحدة بعد أخرى، وإن لم يتخللهما الرجعة.
قيل له: لسنا نسلم أنه مالك للثلاث، على الإطلاق، بل على شرط أن يجعل بين الطلاق والطلاق ما يرفع الثلمة الواقعة بالطلاق الأول، على أن هذا ينتقض على الشافعي بالطلاق البائن، وعليهما جميعاً بالمنقضية عدتها.
فإن قيل: هو زوج بعد التطليقة الأولى إذا كانت رجعية فوجب أن يصح منه طلاقها.
قيل له: لا يمتنع من إجراء اسم الزوج عليه، ومع هذا لا يجوز طلاقه إلا مع(1) الشرط الذي ذكرناه؛ للأدلة التي مضت، ألا ترى أن الناس قد اختلفوا في طلاق السكران، وطلاق المكره، وطلاق الحائض، وإن لم يخرجوا الزوج من الزوجية، وإنما اتَّبعوا الأوكد من الأدلة مع بقاء الزوجية، فكذلك تجيء مسألتنا.
ومما يؤكد ذلك أن الثلمة الواقعة بالتطليقة الثالثة(2) مالم ترتفع، لم يكن لإلحاق الطلاق بها مسرح، فوجب أن يكون ذلك حكم كل ثلمة واقعة بالطلاق، أولاً كان، أو ثانياً، ويوضح ذلك أن قياسنا يزيد الطلاق الثاني شرعاً مستفاداً بالشرع، فهو أولى.
__________
(1) في (أ): على.
(2) في هامش (ب): الثانية.
وأما أن الطلاق لا يتبع الطلاق البائن، فالخلاف فيه بيننا وبين أبي حنيفة دون الشافعي، والكلام فيه أظهر؛ لأنهما ليسا بزوجين، لأنهما ليسا يتوارثان، ولأن العصمة منقطعة، والمرأة قد ملكت بضعها، ويمكن أن يقاس على الأجنبية، بمعنى أنها لا تحل له إلا بنكاح جديد، فوجب أن لا يلحقها طلاقه، ولا خلاف أن الكنايات لا يلحقها الصريح قياساً على الأجنبية، أو يقاس الصريح على الكناية بعلة أنه من ألفاظ الطلاق، فوجب أن لا يقع عليها. (56/20)
فإن قيل: روي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: <المختلعة يلحقها الطلاق>.
قيل له: الخبر قد قيل: إنه ضعيف، وإن ثبت، كان المراد به أن الخلع طلاق، وهذا التأويل أولى؛ لأنه يعم المختلعات أجمع، وما يتأولونه يختص بعض المختلعات؛ إذ فيهن من لا يطلقن(1) بعد الخلع، فلا يلحقها طلاق ثان على وجه من الوجوه، والتأويل الذي يُبقي العموم على جهته أولى من الْمُقتضي لتخصيصه، وليس لهم أن يقولوا نقول بالوجهين جميعاً؛ إذ من مذهبهم أنه لا /137/ يجوز أن يراد باللفظ الواحد معنيان مختلفان.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى بعد ذكر الخلع: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}، فدل ذلك على أن المختلعة يلحقها الطلاق.
قيل له: هذا بيان حكم التطليقة التي هي المراد بقوله تعالى: {فإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيْحٌ بِإِحْسَانٍ}، وقد بينا فيما تقدم أنه يجب أن يكون بعد الرجعة، أو إعادة الزوجية إن كانت قد إنقطعت، فيجب أن يحمل على ذلك قوله سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}.
__________
(1) في (أ): يطلقهن.
ومما يوضح كلامنا في المسألتين جميعاً ـ أعني أن الطلاق لا يتبع الطلاق الرجعي، ولا البائن ـ أن موضوع الطلاق إنما هو أن يؤثر في النكاح؛ لأنه إما يوجب قطع العصمة، أو يوجب فيه ثلمة، وأقل ذلك أن يوجب قطع العصمة بانقضاء العدة، ووجدنا الطلاق الثاني لا يؤثر فيه شيئاً من التأثير غير حصوله في نفسه، فوجب أن يشبه طلاق الأجنبية، والمنقضية عدتها، ووجب أن لا يكون له حكم. (56/21)
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً قال لامرأته: أنت طالق، أو قال: أنت طالق تطليقة أو تطليقتين،
نقص من هنا فلينظر من صفحة 138 ــ 150 في المطبوع.
مسألة: [في طلاق السكران]
قال: وطلاق السكران واقع، ويقع الطلاق في الحيض. نص في (الأحكام)(1) على أن طلاق السكران واقع، وكذلك عتقه، خرَّجه أبو العباس الحسني ـ رحمه الله تعالى ـ في (النصوص)، على من لم يزل عقله بالسكر، وحكاه عنه أحمد بن يحيى رضي الله عنه، وبناه على قول القاسم عليه السلام في بيع السكران وشرائه أنهما جائزان إذا لم يكن زال عقله، وتعليل يحيى عليه السلام يدل على ما ذكرناه، لأنه قال في (الأحكام): وطلاق السكران وعتقه جائزان، لأن الذي أزال عقله جنايته، فدل ذلك على أنه يوقعه مع زوال العقل.
والذي يدل على ما ذهب إليه يحيى بن الحسين عليه السلام حديث زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (طلاق السكران جائز).
وروي نحوه عن عمر، وابن عباس.
وعندنا أن ما روي عن علي عليه السلام يجب اتباعه.
ويدل على ذلك الظواهر الواردة في الطلاق نحو قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}. وقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ}، وكل ذلك عام في السكران والصاحي.
__________
(1) انظر الأحكام 1/437.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <لا قيلولة في الطلاق>، وهو عام في طلاق السكران وغيره. (56/22)
ويدل على ذلك ما روي أن عمر استشار الصحابة في حد الخمر فقال [علي عليه السلام] (1): (إنه إذا سكر، هذى، وإذا هذى، افترى، وإذا افترى، وجب عليه الحد بما افترى، ولم يرو أن أحداً منهم أنكر ذلك، فدل ذلك على أن السكران إذا قذف، لزمه الحد، وإذا ثبت ذلك، وجب أن يقع طلاقه، دليله الصاحي، لما كان مؤاخذاً بقذفه، وقع طلاقه، ويشهد(2) لقياسنا المغمى عليه، والمجنون، والصبي فإنهم لما لم يؤاخذوا بقذفهم، لم يقع طلاقهم.
ويوضح قياسنا أن الحد تسقطه الشبهة، ولا تسقط الطلاق، وإذا(3) كان السكران مؤاخذ بما يُسقط بالشبهة، ولم يكن سكره موجباً للشبهة، وجب أن يؤاخذ بالطلاق، ولم يجب أن يصير سكره شبهة في أنه لم يقصد الطلاق.
فإن قاسوا على المجنون، والمغمى عليه، بعلة زوال العقل، فقد بينا أنه يشهد لقياسنا، على أنا قد علمنا أن المجنون والمغمى عليه لا يتعلق الحكم بشيء من /150/ أقوالهم، فكان لفظهم بالطلاق كسائر أقوالهم، وقد بينا أن قذف السكران يتعلق به حكم فلم يجب أن يكون سبيله سبيل المجنون، والمغمى عليه، يؤكد ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيْدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءُ فِيْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرُ}، فجعل تعالى للعدواة(4) الواقعة عن الخمر حكماً، وهو لا يقع إلا في حال السكر، فبان أنه قد يتعلق الحكم بأفعال السكران.
فإن قيل: إذا كنتم تقولون إن الطلاق لا يقع إلا بالقصد، وتمنعون وقوع طلاق المكرَه لما معه من الأمارة الدالة على عدم قصده، فما أنكرتم أن يلزمكم القول بأن طلاق السكران لا يقع لمثل ذلك؟
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): شهد.
(3) في (أ): إذا.
(4) في (أ): العداوة.
قيل له: أما القصد، فلا يمتنع حصوله من السكران، فلا سؤال في هذا، وأما أمارة فَقْدِ القصد، فلم يحصل معه كما حصلت مع المكره؛ لأن الإكراه إنما يكون على الأمر الذي يكون المكره كارهاً لفعله، وحصول الكراهة مانع من حصول الإرادة، وليس كذلك السكر؛ لأنه لا يمنع حصول الإرادة، ولا يضامه أمر يمنع حصولها، فبان أن الإعتراض ساقط عنا. (56/23)
وأما الطلاق في الحيض، فقد مضى الكلام فيه مستقصى، فلا وجه لإعادته.
مسألة: [في طلاق المرأة في حيضها]
قال: وإذا طلق الرجل امرأته وهي حائض، لم تعتد بتلك الحيضة، واستأنفت ثلاث حيض. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ولا خلاف في أنها لا تعتد بتلك الحيضة، عند كل من ذهب إلى أن الطلاق واقع في الحيض.
والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، وقد ثبت أن الأقراء هي الحِيَض؛ لما نبينه بعد هذا في باب العدة، فلوا اعتدت بتلك الحيضة كانت تربصت بنفسها قُرأَين، وبعض القرء الثالث، وذلك خلاف الظاهر، فبان صحة ما ذكرناه من أنها لا تعتد بتلك الحيضة.
مسألة: [في كنايات الطلاق]
قال: ولو أن رجلاً قال لامرأته: أنت الطلاق، أو اعتدي، أو أنت برية، أو خلية، أو بائن، أو بتة، أو حرام، أو حبلك على غاربك، أو ابرأتك من عقدة النكاح، كان ذلك تطليقة رجعية إذا نوى بكل ما لفظ [به] (2) من ذلك طلاقاً، وكذلك لو قال: لست لي بامرأة، أو قال: أنت سائبة، أو حرة، فإن أنكر أن يكون نوى فيما قال من ذلك طلاقاً، استخلف.
قال القاسم عليه السلام: وعلى هذا لو طلق بالفارسية، فقال بهشتم. جميع ما ذكرناه منصوص عليه في (الأحكام) (3) و(المنتخب) (4) غير قول الرجل: أنت الطلاق، فإنه منصوص عليه في (الأحكام) (5).
__________
(1) انظر الأحكام 1/499، 454.
(2) سقط من (أ).
(3) انظر الأحكام 1/426، 458، 459.
(4) انظر المنتخب 150.
(5) انظر الأحكام 1/476.
وقوله: ابرأتك من عقد النكاح، فإنه منصوص عليه في (المنتخب) (1)، وما حكيناه عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل عبدالله بن الحسن). وجه قولنا: إن هذه الألفاظ يقع بها الطلاق، ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لسودة: <اعتدي، ثم راجعها>، فدل ذلك على أن الطلاق يقع بما ليس بصريح في الطلاق إذا كان محتملاً له، فوجب أن يكون سائر الألفاظ جارية مجراها في صحة وقوع الطلاق؛ إذ هي أجمع مما يصح أن تُجعل عبارة عن المعنى المقصود بالطلاق. (56/24)
ووجه مراعاتنا فيها اقراره بالنية أن(2) هذه الألفاظ لا ظاهر /151/ لها في إيقاع الطلاق، فجرت مجرى سائر الألفاظ المحتملة للأمور المختلفة، إذا أطلقها المتكلم بها، في أنه يجب الرجوع إليه في معناها.
وقلنا: إن أنكر، واتُّهم، استُحلف؛ لأن القول في سائر تلك الألفاظ يكون قوله مع يمينه إذا ادُّعيَ عليه خلاف ذلك، ومعنى قولنا(3): أنهم ـ هو توجه الدعوى عليه في ذلك، وقال في (المنتخب): يدين في ذلك، ويكشف عن قوله، فنبه بذلك على أن حال القول فيه مراعى، فإن اقترن بالكناية ما يدل على أن المراد بها الطلاق، جرى مجرى الصريح، في أنه لا يصدق إن ادعى أنه لم يَنوِ به الطلاق، نحو أن تقول المرأة طلقني، فيقول: أنت برية، أو اعتدى، ووجه ذلك أن المجاز مع القرينة يجري مجرى اللفظ الحقيقي في أنه يجب القطع على أن المراد به في الظاهر.
وأما وجه قولنا: إن الطلاق الواقع بهذه الألفاظ يكون رجعياً، فقد مضى مستقصى، فلا غرض في اعادته.
مسألة: [في قول الرجل أنتِ عليَّ كظهر أمي]
قال: ولو أنه قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي، أو كأمي، كان ذلك طلاقاً إن نوى به الطلاق، وإن نوى به الظهار، كان ظهاراً، وإن لم ينو أيهما كان ذلك هذراً.
__________
(1) انظر المنتخب 142.
(2) في (أ): إذ.
(3) في (أ): قولهم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وتحصيل المذهب فيه أن قول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمي صريح في الظهار، كناية في الطلاق. (56/25)
وإذا قال: أنت عليَّ كظهر أمي، وادعى أنه أراد به الطلاق، حصل في القضاء على الظهار، وحُمل فيما بينه وبين الله تعالى على ما نواه.
وكونه صريحاً في الظهار مما لا خلاف فيه.
ووجه قولنا: إنه يكون ظهاراً بالنية هو ما مضى في أن الطلاق لا يقع إلا بالنية.
وقلنا: إنه كناية في الطلاق لا يفيد التحريم فيجري مجرى قول الرجل أنت عليّ حرام، فلما ثبت أن ذلك يجوز أن يكون كناية عن الطلاق، قلنا في قوله أنت عليَّ كظهر أمي، أنه لا يجوز أن يكون كناية عن الطلاق، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يكون ذلك كناية عن الطلاق، وأجازه أبو يوسف، ومحمد.
فإن قيل: كيف تقولون إنه يجوز أن يقع به الطلاق، وقد روي أنه كان طلاقاً في الجاهلية، فنسخ؟
قيل له: عندنا أنه نسخ كونه صريحاً في الطلاق؛ لأن الجاهلية كانوا يجعلونه صريحاً في الطلاق، فأما قوله: أنت عليَّ كأمي، فهو كناية في الظهار، وبه قال أبو حنيفة، وقد يجوز عندنا أن يكون كناية عن الطلاق.
ووجه قولنا: إنه يحتمل أن يكون أن يراد به تحريم الطلاق، وتحريم الظهار، ألا يراد واحد منهما، فوجب أن يرجع فيه إلى نيته كما قلنا في كنايات الطلاق، فأما إن لم يكن له نية في شيء من ذلك، فهو هذر لما تقدم بيانه.
مسألة: [في تحريم الرجل على نفسه ما أحل الله للمسلمين]
قال القاسم عليه السلام: ولو أن رجلاً قال: ما أحل الله للمسلين، فهو عليَّ حرام، دخل فيه الطلاق، إن كان نواه. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي). ووجهه أنه عبارة محتملة، فوجب أن يكون الرجوع فيه إلى نيته كسائر الكنايات وسائر الألفاظ المحتملة، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً.
مسألة: [في طلاق الوكيل]
__________
(1) انظر الأحكام 1/433.
قال: وطلاق الوكيل عن الموكل جائز. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وهذا مما لم يختلف فيه العلماء، ولم يفصلوا بين الطلاق، وغيره من العقود، والإيقاعات، في أن فعل الوكيل فيه جائز عن الموكل، فلا /152/ وجه للإستقصاء فيه. (56/26)
مسألة: [في قول الرجل لامرأته أمرك إليك]
قال: وإذا قال الرجل لامرأته: أمرك إليك فاختاري، فإن نوى به الطلاق، إن اختارت المرأة نفسها، فاختارت في الحال، طلقت، وإن لم تختر في الحال، واختارت بعد ذلك، لم تطلق، فإن نوى بما قال من ذلك توكيلها بطلاق نفسها، فلها أن تطلق نفسها إلى أن تنفسخ وكالتها. نص في (الأحكام) (2) على معنى ما ذكرناه.
فقلنا: إنه إن نوى الطلاق إن اختارت المرأة نفسها، فاختارت في الحال، طلقت، وإن لم تختر في الحال، لم تطلق؛ لأنه المروي عن الصحابة.
وروى زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال: (إذا قال لها: أمرك بيدك، فالقضاء ما قضت مالم تكلم، فإن قامت من مجلسها قبل أن تختار، فلا خيار لها)، ولم يرو خلاف ذلك عن أحد منهم، فكان ذلك إجماعاً منهم، ولأنه جار مجرى خيار البيع، في أنه لا يكون بعد التفريق؛ لأن رجلاً لو قال لآخر: بعتك كذا، فلا خلاف في أنه لا يجوز تأخير القبول عن المجلس.
والأصل في أنها إن اختارت زوجها، ولم تختر نفسها، فليس بطلاق ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين خير نساءه فاخترنه، فلم يُعدَّه طلاقاً، واعتبرنا فيه قصد الزوج؛ لأنه لما جاز أن يريد به التوكيل لما نبينه بعد هذا الفصل، وجاز أن يريد به تمليكها الطلاق، وجب الرجوع فيه إلى قصده كما قلنا في سائر الألفاظ المحتملة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/426، 427.
(2) انظر الأحكام 1/426، 427.
وقلنا: إنه إن نوى بذلك توكيلها، كان لها أن تطلق نفسها مالم يفسخ وكالتها، وأبى ذلك أبو حنيفة والشافعي، ووجه ذلك أنه توكيل بالطلاق ممن يجوز له، ولمن يجوز أمره، فوجب أن يصح، دليله لو وكلها بطلاق غيرها، أو وكل غيرها(1) بطلاقها. (56/27)
فإن قيل: إن الطلاق حق لها، فلا يجوز توكيلها فيه.
قيل له: وما يمنع من ذلك إذا كانت هي السفير عن الزوج، على أن أبا حنيفة يجيز للولي أن يزوج الحرمة من نفسه، وإن كان ذلك حقاً له، ويجوز للأب أن يشتري لنفسه من الولد الصغير، فكيف ينكر أن تطلق المرأة نفسها بتوكيل الزوج؟
مسألة: [في طلاق المولى عن مملوكه، وفي بيع المملوك هل يكون يطلاقاً؟]
قال: ولا يقع طلاق المولى عن العبد إلا بتوكيل العبد، ولا يكون بيع العبد ولا الأمة طلاقاً.
قال القاسم عليه السلام: ولا يكون إباق العبد طلاقاً. قال يحيى بن الحسين عليه السلام في (الأحكام)(2): لا يكون بيع الأمة طلاقاً، ولا تحل بالبيع لناكح حتى يطلقها زوجها، فكان ذلك نصاً فيما ذكرناه من أن بيع الأمة لا يكون طلاقاً، وتنبيهاً على ما ذكرناه في هذا الفصل؛ لأنه قال: لا تحل بالبيع حتى يطلقها زوجها، وروى فيه عن جده القاسم عليه السلام أنه لا بد من طلاق الزوج نفسه، فكان ذلك مؤكداً لما ذكرناه، ونص في (مسائل النيروسي) أن الإباق لا يكون طلاقاً، ونص الهادي إلى الحق عليه السلام أيضاً في (المنتخب) على أن بيع العبد، لا يوجب طلاق زوجته.
فأما ما يدل على أن طلاق المولى لا يقع عن العبد فهو ما رواه عن أمير المؤمنين انه قال: (الطلاق لمن أخذ بالساق).
__________
(1) في (ب): غيره.
(2) انظر الأحكام 1/436، 437.
ويدل على ذلك ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال لمولى عبد تزوج بغير إذنه فرق بينهما، فقال السيد لعبده: طلقها، فقال علي عليه السلام: (أجزتَ النكاح، فإن شئت أيها العبد، فطلق، وإن شئت، فأمسك). فبين أن الطلاق إلى الزوج ولا خلاف أن الأجنبي لا يقع /153/ طلاقه فكذلك المولى، والمعنى أن الطلاق غير الزوج بغير إذنه. (56/28)
ويؤكد ذلك أن الله تعالى خاطب بالطلاق الأزواج فعُلم أن حكمه مقصور عليه، وهذا مما لا خلاف فيه بين الفقهاء، وإنما الخلاف فيه محكي عن الصحابة والإجماع بعد الخلاف يرفع حكم الخلاف.
وأما البيع فلا يكون طلاقاً؛ لما روي أن بريرة لَمَّا بيعت، خيَّرها رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم، ولم يجعل بيعها طلاقاً، وإذا ثبت ذلك في الأمة، ثبت في العبد، والعلة أن كل واحد منهما شخص مملوك، فلم يجز أن يكون بيعه طلاقاً، وهذا أيضاً مما لا خلاف فيه الآن، وحكي ذلك عن بعض المتقدمين، وكذلك الإباق لا خلاف أنه لا يكون طلاقاً؛ لأنه كسائر معاصيه في أنه لا يعترض النكاح مالم يكن رده، ولا يمكن أن يقال: إذا أبق، استضرت المرأة، فوجب أن تنقطع العصمة بينه وبينها؛ لأن المفقود يعترضه.
مسألة: [في الاستثناء في الطلاق]
قال: ولو أن رجلاً قال لزوجته أنت طالق إلا أن يشاء أبوك، أو غيره حبْسَك، وقُف طلاقها على مشيئته، فإن شاء حبْسَها، لم تطلق، وإن لم يشأ، طلقت، وكذلك لو اشترط المطلق فيه مشيئة نفسه.
ما ذكرناه أولاً منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)، وما ذكرناه من اشتراط مشيئة نفسه فدل عليه كلامه.
__________
(1) انظر الأحكام 1/459.
(2) انظر المنتخب 149.
ووجه ذلك أجمع أنه جعل المشيئة شرطاً واستثناءً، فوجب أن يكون سبيلها سبيل سائر ما يُشترط ويُستثنى، وحمل أبو العباس الحسني ـ رحمه الله ـ ذلك على الفور، وهو صحيح، وقد نص الهادي عليه السلام على مثله في (المنتخب) (1) في كتاب الأيمان في مسألة من قال: أنت طالق إن ركبت وهي راكبة، ووجهه أنه أوقع الطلاق، واستثنى بالمشيئة، وإن لم تقع المشيئة عقب الطلاق، وقع، ومثاله أن يقول: أنت طالق إلا أن يقوم زيد، فإن لم يقع قيام زيد عقيب القول، وقع الطلاق. (56/29)
مسألة: [في تعليق الطلاق على مشيئة الله]
قال: ولو قال لها: أنت طالق إن شاء الله تعالى، لم يقع الطلاق إن كان يمسكها بالمعروف، فإن لم يمسكها بالمعروف، طلقت.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3)، وذهب عامة الفقهاء إلى أن الطلاق والعتاق لا يقعان على هذا، وفرق مالك بين الطلاق والعتاق، فقال في الطلاق: لا يقع، وإن العتاق يقع.
ووجه ما ذهبنا إليه أن الدلالة قد دلت أن الله تعالى لا يريد من أفعال العباد إلا الطاعات، واجبها والمندوب إليه(4) منها، وأنه لا يريد المباح منها، فإذا ثبت ذلك، فقد علمنا أن الله تعالى غير مريد لطلاق من يمسك زوجته بالمعروف؛ لأن الطلاق مباح غير واجب، ولا مندوب إليه، فوجب أن لا يقع طلاقه(5)؛ لأنه علقه بمشيئة الله تعالى، وقد علمنا أن الله تعالى لا يشاء، فكان سبيله سبيل من طلق على شرط، ثم لم يحصل الشرط، فأما إذا كان غير ممسك لها بالمعروف، فإن الله تعالى قد أوجب عليه إما الإمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان، بقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ(6) بِمَعْرُوفٍ}.
فإن قيل: فإنه تعالى لم يشترط ذلك في كونه غير ممسك بالمعروف، بل خاطب به على سبيل العموم.
__________
(1) انظر المنتخب 176.
(2) انظر الأحكام 1/470.
(3) انظر المنتخب 151 ـ 152.
(4) في (أ): إليها.
(5) في (أ): طلاقه.
(6) في (أ): فإمساك بمعروف.
قيل له: لا خلاف أن من كان ممسكاً لها بالمعروف لا يجب عليه أن يطلق، فيصير ذلك خصوصاً من العموم. (56/30)
فإن قيل: إذا لم يمسك بالمعروف، فالواجب عليه أن يمسك بالمعروف، وليس يجب عليه أن يطلق.
قيل له: يجب عليه أحد الأمرين على التخيير بدلالة الآية.
فإن قيل: ما أنكرتم أن هذا اللفظ موضوع في الشرع(1) لمنع حصول ما علق به، كالإقرار إذا علق به لم يستقر؟
قيل له: الإقرار إذا علق بالشرط، لم يستقر، ألا ترى أن قائلاً لو قال: إن قدم زيد، فلك عليَّ ألف درهم، وإن أمطرت السماء، فلك عليَّ ألف، لم يصح الإقرار، وليس كذلك الطلاق والعتاق إذا علقا بشرط؛ لأنهما يقعان بحصول الشرط، وكذلك الجواب إن سألوا عن /154/ البيع المعلق بمشيئة الله تعالى.
فإن قيل: فإذا أجريتم ذلك مجرى قول القائل: أنت طالق إن دخل زيد الدار، وإن أمطرت السماء، فيجب أن لا توجبوا وقوع الطلاق إلا بعد أن تعلموا أن مشيئة الله تعالى قد حدثت بعد هذا القول، وذلك مالا سبيل إلى العلم به، فيجب أن لا يقع الطلاق.
قيل له: هذه اللفظة من طريق العادة جارية مجرى أن يقول الإنسان: أنت طالق إن كان مراد الله تعالى، وعلى هذه الطريقة يستعمل في سائر الأشياء؛ لأن الإنسان يقول: إفعل كذا إن شاء الله تعالى، ويريد إن كان تكليفي، أو لطفي، أو ما أحتاج إليه من القدر والآلة، وما جرى مجراها، مراداً لله تعالى من غير مراعاة تقدم الإرادة وتأخرها.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من حلف ثم قال: إن شاء الله تعالى فقد استثنى.
__________
(1) في (أ): في هذا الشرع.
قيل له: هو دليلنا، وذلك أن من حكم الإستثناء أن يرفع بعض ما دخله دون كله، وعندهم أن قوله: إن شاء الله يرفع حكم ما دخل عليه رأساً، فلم يصح أن يكون ذلك استثناء، ألا ترى أنه لا خلاف فيمن قال لفلان: عليَّ عشرة دراهم إلا عشرة أنه لا يكون استثناء، لأنه اقتضى رفع جميع ما دخل عليه، فأما على مذهبنا، فإنه يكون قول القائل: إن شاء الله تعالى استثناء، إلا أنه يرفع بعض ما دخل عليه، فليس لأحد أن يدَّعي العرف في أنه جُعل لرفع ما دخل عليه؛ لأن أغراض الناس في استعمالهم في الكلام تختلف. (56/31)
مسألة: [في استثناء الطلاق من الطلاق]
قال: ولو قال لها: أنت طالق واحدة إلا واحدة، أو أقل، أو أكثر، وقعت تطليقة واحدة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ووجهه أنها تطلق واحدة بقول الزوج، أنت طالق، فإذا قال بعد ذلك واحدة، كان ذلك في حكم البيان لما وقع من الطلاق، فإذا قال: إلا واحدة، لم يوجب هذا الإستثناء شيئاً؛ لأن الإستثناء من حكمه أن يرفع بعض ما دخل عليه دون الكل، فأما إذا استثنى الكل، فهو باطل لا خلاف فيه، وهذا كما تقول لفلان عليَّ عشرة إلا عشرة، لا خلاف أن هذا الإستثناء لا حكم له.
مسألة: [في طلاق الأب عن ابنه الصغير]
قال: وإذا زوج الرجل ابناً له صغيراً ثم طلق عنه لم يقع الطلاق، وهذا قد اشتمل عليه قوله في (الأحكام) (2) في الأمة المزوجة إنها لا تحل لناكح حتى يطلقها زوجها، وهذا مما لا خلاف فيه، ووجهه ما مضى في أن طلاق المولى لا يقع عن العبد، فلا معنى لإعادته.
مسألة: [في الغلط في إيقاع الطلاق]
قال: ولو أن رجلاً نادى امرأة من نسائه قد عزم على طلاقها، فأجابته أخرى، فقال: أنت طالق، وقع الطلاق على التي نوى طلاقها دون التي أجابته.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3) و(المنتخب) (4).
__________
(1) انظر الأحكام 1/459.
(2) انظر الأحكام 1/436.
(3) انظر الأحكام 1/460.
(4) انظر المنتخب 152.
ووجهه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <الأعمال بالنيات، وإنما لإمرء ما نوى>، وهذا لم ينو(1) طلاق التي أجابته، وإنما نوى طلاق التي ناداها، فيجب أن يكون الواقع طلاقها دون التي أجابته، ولا خلاف أن الثانية لو لم تكن أجابته، لكان الطلاق يقع على الأولى، فكذلك إذا أجابته الثانية، والعلة أنها هي المقصودة بما أوقع من الطلاق، وكذلك لو كانت هناك ثالثة، لم يجب أن يقع عليها طلاق، فكذلك التي أجابته، والعلة أنها غير مقصودة بالطلاق. (56/32)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن هذه لما أجابت، صار الخطاب خطاباً لها؟
قيل له: إن الخطاب لا يصير خطاباً للمخاطب بما يكون منه من الأحوال؛ لأن المؤثر في الفعل إنما هو أحوال الفاعل دون غيره، وإنما يصير لمن يقصد المخاطِب أن يجعله خطاباً له، فإذا ثبتت هذه الجملة، وقد علمنا أن الْمُطلِّق كان قاصداً إلى أن يجعل قوله: أنت طالق خطاباً للأولى، لم يؤثر فيه جواب الثانية.
فإن قيل: قول الزوج بعد إجابتها له جار مجرى أن يقول: /155/ أيتها المجيبة أنتي طالق.
قيل له: [المناداة مقصودة بالخطاب] (2) صرف اللفظ إليها أولى من صرفه إلى من يقدر فيها ما ذكرتم.
مسألة: [في الفراق بردة أحد الزوجين]
قال: وإذا ارتد الرجل عن الإسلام، بانت منه زوجته إذا خرجت من عدتها، وحلت للأزواج، وإن مات، أو قتل، أو لحق بدار الحرب قبل خروج المرأة من العدة، ورثته، وإن ارتدا جميعاً، فهما على نكاحهما حتى يعرض عليهما الإسلام، فإن أسلما، فهما على نكاحهما، وإن أبيا، قتلا. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
__________
(1) في (ب): هذا إذا لم.
(2) ما بين المعكوفين سقاط من (أ) و (ب) وظنن عليه في الهوامش.
(3) انظر الأحكام 1/391.
وتحصيل المذهب أن الفرقة الواقعة للردة(1) تقع بانقضاء العدة، ويمنع المرتد من الوطء في عدتها، وسبيل الردة سبيل الطلاق الرجعي فيما ذكرناه، وبه قال الشافعي، قال أبو حنيفة: تبين بنفس الردة. (56/33)
ووجه ما ذهبنا إليه ما ثبت من أن أبا سفيان أسلم بمر الظهران، وزوجته هند مشركة، فرجع إليها، فأسلمت، فأقاما على النكاح الذي كان بينهما، ولم يأمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإعاة النكاح، وقد علمنا أن إقامتها على الشرك بعد إسلام زوجها في هذا الباب بمنزلة الردة، فلما لم يوجب صلى الله عليه وآله وسلم فسخ نكاحها، دل ذلك، على أن النكاح لا ينفسخ بنفس الردة، وإذا ثبت ذلك فإنه لا ينفسخ مع الردة إلا بانقضاء العدة.
فإن قيل: الفرقة تتعلق(2) في هذا بالإباء بعد عرض الإسلام.
قيل له: ليس الإباء أكبر(3) من المقام على الكفر، وهذا مما قد مضى الكلام فيه في كتاب النكاح في مسألة إسلام أحد الزوجين، ويدل على ذلك ما روي عن عكرمة بن أبي جهل أنه هرب من مكة وهو مشرك، وأسلمت امرأته، ثم رجع إلى الإسلام وهي بعدُ في العدة، فاستقرت عنده بالنكاح الأول، وهكذا روي في امرأة صفوان بن أمية، فدل أيضاً على ما ذكرناه.
__________
(1) في (أ): بالردة.
(2) في (أ): في هذا تتعلق.
(3) في (أ): أكثر.
ومما يدل على ذلك أنه قد ثبت أن الوثني إذا كانت تحته وثنية، فدخل(1) بها، فأسلم أحدهما أن الفرقة لا تقع بنفس الإسلام؛ لأن أبا حنيفة يذهب إلى أن الفرقة لا تقع مع إسلام أحدهما إلا بإباء الآخر الإسلامَ، ونحن نذهب إلى أن الفرقة لا تقع مع إسلام(2) أحدهما إلا بانقضاء العدة، وإذا ثبت ذلك، وجب أن لا تقع الفرقة بنفس الردة إلا بانضمام معنى آخر إليه، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن الفرقة تقع بانقضاء العدة؛ إذ لم يقل أحد في ذلك بغير ما ذكرناه، على أنا إذا بينا أن الإباء لا معتبر به، ثبت أن المعنى المراعى في الأصل إنما هو إنقضاء العدة فقط، فصح ما ذهبنا إليه. (56/34)
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون سبيله سبيل الفسخ الواقع بورود الملك على النكاح، أو بورود الرضاع عليه؟
قيل له: الملك والرضاع قد ثبت أنهما يوجبان الفرقة لمجردهما من دون إنضمام معنى آخر إليهما، والإرتداد قد بينا أنه يجب أن ينضم إليه معنى سواه، فلم يكن حكمه حكمها، على أن الإرتداد بالطلاق الرجعي أشبه؛ لأنه لا يقع إلا من جهته واختياره(3) فوجب ألا يوجب الفرقة إلا بانقضاء العدة.
ووجه قولنا: إنهما إن ارتدا معاً، فهما على النكاح حتى يعرض عليهما الإسلام، فإن أسلما، فهما على /156/ نكاحهما ـ هو أنه قد ثبت أنه من ارتد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع امرأته ثم رجع إلى الإسلام، أقام على زوجيته، ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أمر بتجديد العقد، فجرى ذلك مجرى الإجماع.
فإن قيل: من أين لكم أن إرتداد الرجل وزوجته وقعا معاً، وكذلك إسلامهما؟
قيل [له] (4): هذا سبيل كل أمرين وقعا، ولم يعرف التأريخ، كالآيتين، والخبرين، ونحوهما.
فإن قيل: فما(5) أنكرتم على من قال لكم: إنهم أقاموا على النكاح؛ لأن العدة لم تكن انقضت؟
__________
(1) في (أ): فدخل.
(2) في (ب): الإسلام.
(3) في (ب): وباختياره.
(4) سقط من (ب).
(5) في (أ): ما.
قيل له: لم يرو ذلك في شيء من الأخبار، ولا روي أنهم اعتبروا ذلك في شيء من الأحوال، ولو كان ذلك كذلك، لكان يقال لهم: من كانت امرأته قد انقضت عدتها قبل الرجوع إلى الإسلام، فليجدد النكاح، فلما لم يرو ذلك، علمنا أنهم لم يعتبروه. (56/35)
فإن قيل: فلم يَروِ عنهم أحد أنه قيل لهم من ارتد منكم من الزوجين أحدهما قبل صاحبه، انفسخ نكاحه.
قيل له: ذلك قد علمناه بالإجماع، ولولا الإجماع، لجوزنا خلافه، ومما يدل على ذلك أنه قد ثبت أن الكفر لا ينافي النكاح كما لا ينافيه الإسلام، ألا ترى أن نكاح الكفار مع الكفر يصح، كما أنه يصح نكاح المسلمين مع الإسلام، وإنما الموجب للفرقة هو إختلاف دينهما، فإذا ثبت ذلك، ثبت أنهما إذا ارتدا معاً، لم يجب وقوع الفرقة بينهما، كما أنهما إذا أسلما معاً، لم يجب وقوع الفرقة بينهما؛ لأن دينيهما لم يختلفا، فأما التوارث، فنحن نشرحه [إن شاء الله] (1) في كتاب المواريث، وكذلك قتل المرتد نذكره في كتاب الحدود بعون الله.
مسألة: [في حكم ولد المرتد عن الإسلام]
قال: فإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ ردتهما، فحكم الولد حكم الإسلام، فإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر، فحكمه حكمهما في الردة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
والمراد بأن حكم الولد حكم الإسلام أو(3) الردة، إنما هو في التوارث وسقوط التوارث؛ لأن الولد إن ثبت له حكم الردة، لم يرث أبويه، وإن ثبت له حكم الإسلام، ورثهما.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) انظر الأحكام 1/392.
(3) في (أ): والردة.
ووجه ما ذكرنا من التحديد أنه قد ثبت أن أقل الحمل ستة أشهر، فإذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم ردتهما، كان العلم حاصلاً بأن الولد كان حصل في بطن أمه قبل الردة، فوجب الحكم بإسلامه، لحصوله(1) في بطن أمه في حال إسلام أبويه؛ لأن الطفل والجنين يحكم لهما بالإسلام إذا كان أبواهما مسلمين، أو كان أحدهما مسلماً، فأما إذا جاءت به لأكثر من ستة أشهر، لم يجز أن يحكم له بالإسلام، إذ لا إسلام له في نفسه، ولم يحصل في بطن أمه في حال علمنا معها إسلام أبويه، أو أحدهما، فلم يجب الحكم بإسلامه ووجب أن يحكم له بحكم الردة. (56/36)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إنه لم يحصل اليقين بأنه حصل في بطن أمه في حال كفر أبويه؛ لتجويزنا أن يكون حصل قبل ردتهما، إذا لم يكن بين ارتدادهما وبين مولده الزمان الذي يجب أن يكون غاية لأكثر الحمل، فيجب أن يحكم له بحكم الإسلام؟
قيل له: قد حصل اليقين بأنه وُلد(2) في حال الردة، ولم يحصل اليقين بأنه كان حصل في حال الإسلام في بطن أمه، فكان الأولى أن يحكم باليقين، ويقضي به على التجويز الذي ذكرتم.
فإن قيل: فقد روي: <المولود يولد على الفطرة، وأبواه يُهَوِّدانه، أو يُمَجِّسَانه>.
قيل له: المراد بذلك أنه يولد وأبواه يهوديان، أو مجوسيان؛ إذ لا خلاف أنه ليس المرجع بقوله: يهودانه، أو يمجسانه إلى غير ذلك.
مسألة: [في الزوجين الذميين يسلمان]
__________
(1) في (أ): وحصوله.
(2) في (ب): حصل.
قال القاسم عليه السلام في الذميين إذا أسلما: هما على نكاحهما، وهذا مما تضمنه كلامه عليه السلام في (مسائل النيروسي) وكلام الهادي عليه السلام في (الأحكام) (1) وهو مما لا خلاف /157/ فيه بين العلماء، وقد ثبت أن الذين أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعادة النكاح الذي كانوا عليه في الجاهلية، وهذا أشهر من أن يحتاج إلى الإستقصاء فيه. (56/37)
مسألة: [في الرجل يسلم وتحته ذمية صغيرة]
قال: وإذا أسلم الرجل وتحته ذمية صغيرة، فهو أولى بها مالم تمض ثلاثة أشهر، فإن أسلم أحد أبويها قبل مُضِّي ثلاثة أشهر، فقد جر إسلامه إسلامها، وهي زوجته، وإن(2) لم يسلم واحد من أبويها حتى تمضي ثلاثة أشهر، بانت منه زوجته، ولا ردة للصبي حتى يبلغ.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(3)، ووجهه ما بيناه [من] (4) أن إختلاف الدينين يوجب الفرقة بانقضاء العدة، وقد مضى [فيه] (5) مالا وجه لإعادته.
وقلنا: إن أسلم أحد أبويها قبل انقضاء العدة، كانت زوجته؛ لأن إسلام أحدهما في الحكم إسلام لها، فكأنها أسلمت قبل انقضاء عدتها، فلم تقع الفرقة على ما بيناه، وقلنا(6): إنها إن لم يسلم أحد أبويها حتى يمضي عليه ثلاثة أشهر، بانت منه؛ لأنه يكون في الحكم كأنها أقامت على الكفر حتى انقضت عدتها، وقلنا: لا ردة للصبي حتى يبلغ؛ لأنه لا تكليف عليه، ولأنا لو حكمنا عليه بالردة لأوجبنا قتله، وقد ثبت أن النبي صلى الله عيه وآله وسلم لم يقتل من صبيان بني قريضة من لم يكن مُنبتاً.
مسألة: [في الذمية تسلم دون زوجها]
__________
(1) انظر الأحكام 1/391.
(2) في (ب): فإن.
(3) انظر الأحكام 1/392، 394.
(4) سقط من (ب).
(5) سقط من (ب).
(6) في (أ): وقد قلنا.
قال: ولو أن ذمية أسلمت ولها زوج ذمي، انقطعت بينهما الوصلة، وعليها العدة، ويكون ذلك فسخاً لا طلاقاً، فإن طلقها وهي في العدة، لحقها الطلاق، فإن كانت المسألة بحالها والزوج صغير، وقفت عليه حتى يبلغ، فإن أسلم، فهما على نكاحهما، وإن أبى، فارقته. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (1). (56/38)
وقولنا: انقطعت الوصلة بينهما ـ المراد به أن الوصلة تنقطع بانقضاء العدة على ما سلف القول فيه.
وقلنا: إنه يكون فسخاً؛ لأن الفرقة التي تأتي من قِبَل المرأة [تكون] (2) فسخاً، ولا تكون طلاقاً.
وقلنا: إنه إن طلقها وهي في العدة، لحقها الطلاق؛ لأن الفسخ بعد، لم يقع؛ إذ وقوعه بانقضاء العدة، فلم يمتنع أن يطلقها.
وقولنا: إن الذمية إذا أسلمت ولها زوج صغير، وُقفت عليه حتى يبلغ ـ المراد به إن حصل بلوغه وهي بعد في العدة، فأما إذا انقضت عدتها، وهو(3) بعد صغير، ولم يسلم واحد من أبويه، انقطعت الوصلة، ووقع الفسخ؛ لأن سبيله سبيل من أقام على الكفر، حتى انقضت عدة زوجته التي أسلمت، فوجب وقوع الفرقة.
مسألة: [في المرأة تدّعي الطلاق]
قال: فإن ادعت المراة أن زوجها طلقها، فعلى المرأة البينة وعلى الزوج اليمين، وهذا منصوص عليه في (المنتختب) (4).
والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <البينة على المدعي، واليمين على المدعَى عليه>، وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في كتاب النكاح في مسألة دعوى النكاح إذا أنكرها أحد الزوجين، فلا فائدة في إعادة الكلام فيها.
__________
(1) انظر الأحكام 1/395.
(2) سقط من (أ).
(3) في (ب): هي.
(4) انظر المنتخب 157.
باب القول في الحلف بالطلاق (57/1)
[مسألة فيمن حلف بالطلاق كاذباً، وفي الإكراه على الطلاق]
أيما رجل حلف بطلاق امرأته كاذباً، أو حنث فيه بعده، وقع الطلاق إلا إذا أكرهه عليه من يخاف منه القتل، أو العبث من ضرب أو حبس. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
أما وقوع الطلاق ممن حلف به كاذباً، أو حنث فيه بعد عقده، فهو إتفاق بين العلماء من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم إلا ما ذهب إليه فريق من الشيعة من أنه لا يقع، وذهب بعض القائلين بذلك إلى أنه لو حلف قاصداً إلى الطلاق على أمر يلزمه كبيعة الإمام ونحوه، ثم لم يف أن طلاقه يقع، فيمكن أن يجعل أصلاً، ويقاس عليه سائر ما خالفوا /158/ فيه لأنه طلاق مشروط، فوجب أن يقع متى حصل الشرط، ويمكن أن يستدل عليهم بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وهو عَقَد على نفسه الطلاق بشرط، فوجب أن يفي به متى حصل الشرط، ويستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمنون عند شروطهم)، ويحجهم في ذلك: ما رواه أبو العباس الحسني ـ رحمه الله ـ تعالى في (النصوص)، عن محمد بن الحسين بن علي الحسني، حدثنا أبي، حدثنا زيد بن الحسين، عن ابن أبي أويس، عن ابن ضميرة، عن أبيه، عن علي عليه السلام قال:( من حلف بالطلاق ثم حنث ناسياً، لزمه الطلاق).
فأما طلاق المكره وأنه لا يقع، فقد مضى الكلام فيه مستقصى، فلا وجه لإعادته.
مسألة: [فيمن حلف بالطلاق فحنث وهو لا يعلم]
قال: ولو أن رجلاً حلف بالطلاق لا أبرح حتى أشتري عشرة أرطال سكراً، فأشتري عشرة أرطال سكراً فوجد فيها رطلاً، أو أقل، أو أكثر، نقداً بعد ما برح، حنث، وكذلك لو حلف بالطلاق لا أبرح أو آخذ من فلان عشرة دراهم، فأخذها، ثم وجد فيها درهماً من حديد بعد أن برح، حنث. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
__________
(1) انظر الأحكام 1/458.
(2) انظر الأحكام 1/461.
ووجهه أنه علق الطلاق بشرط، وهوأن يبرح من غير شراء ما ذكره، أنه أخذ ما ذكره، ولم يستثن منه حال النسيان والجهل، فوجب أن يقع الطلاق بحصول الشرط على أي وجه حصل، كما أنه لو قال: أنت طالق إذا قدم زيد أنها تطلق على أي حال حصل قدوم زيد، راكباً، أو ماشياً، أو ناسياً، أو ذاكراً، سواء علم في الحال بقدومه، أو لم يعلم؛ لأن الطلاق إنما علقه بشرط القدوم، ولم يستثن قدوماً من قدوم، فكذلك ما ذكرناه، ويدل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام: ( من حلف بالطلاق، وحنث ناسياً، لزمه الطلاق). (57/2)
مسألة: [فيمن حلف بطلاق نسائه جمعاً أو تفريقاً]
قال: ولو أن رجلاً قال لنسائه: أنتن طوالق إن دخلتنَّ الدار، أو قال: أنت طالق يافلانة، أنت طالق يا فلانة، لكل واحدة منهن إن دخلتن الدار، وقع الطلاق على حسب مانوى، إن نوى ألا تدخلها واحدة منهن إلا طلقت، فأيتهن دخلت، طلقت، وإن نوى أنهن يطلقن إن دخلن مجتمعات، لم يطلقن إلا إذا دخلن مجتمعات. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، ونص فيه أيضاً إلى أنه إن نوى حصول الدخول من جميعهن على أي حال حصل مجتمعات أو متفرقات، لم يطلقن حتى يحصل الدخول من جميعهن.
ووجهه: أنه لما جاز وصح أن ينوي باللفظ كل واحد من الوجوه الثلاثة، يجعله واقفاً على الوجه الذي نواه، وجعل الحكم للنية؛ لأن للفظ يقع على الوجه الذي يقصده المتكلم، وهذا واضح.
مسألة: [فيمن حلف بالطلاق على شيء ثم مات قبل فعله]
قال: ولو أن رجلاً حلف بطلاق امرأته ليفعلن كذا، ثم مات قبل أن يفعله، وقع الطلاق يوم يموت، وترثه المرأة إن لم تكن التطليقة ثالثة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2)، ونص فيه أنه لو قيده بوقت، ولم يفعله حتى مضى الوقت، وقع الطلاق عند مضي الوقت.
__________
(1) انظر الأحكام 1/461 ـ462.
(2) انظر الأحكام 1/467.
ووجه ما ذكرناه أولاً: أنه إذا لم يقيد القول بوقت، لم يحنث إلا في آخر جزء من أجزاء حياته، فإذا صار في آخر جزء من أوقات حياته، حنث، ووقع الطلاق؛ لأنه إذا لم يكن اللفظ مقيد بوقت، كان ذلك على المهلة والتراخي، ولا إشكال في أن الذي يكون على المهلة لا يتخصص به وقت من وقت، ووجب أن يكون أوقات حياته على المهلة مالم يحصل في آخر وقت من أوقات حياته إن حاول الفعل فيه منعه الموت، فأما إذا /159/ قيد(1) بوقت، فمضى الوقت من دون أن يفعل ذلك الفعل، وجب الحنث؛ لأن المهلة تكون إلى ذلك الوقت، ومضى ذلك الوقت بقطع المهلة، فيجب الحنث، وذلك أجمع مما لا أحفظ فيه خلافاً، فأما ما ذكرناه من أنها ترث إن لم تكن التطليقة ثالثة، فقد مضى بيانه فيما تقدم. (57/3)
باب القول في الرجعة
[مسألة: في الرجعة متى وبم تكون]
إذا طلق الرجل امرأته تطليقة رجعية، فله أن يراجعها ما دامت في عدتها من غير مراضاتها ومراضاة وليها، والرجعة بالقول، وقد تكون بالجماع تخريجاً، ولا رجعة إلا في العدة. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3) غير ما ذكرناه تخريحاً، فإن أبا العباس الحسني رحمه الله تعالى خرَّجه من قوله في (الأحكام) في باب الإيلاء:الفيء بعد الطلاق رجعة(4)، وقوله فيه في موضع آخر من باب الإيلاء: (الفيء هو الجماع نفسه)(5) لمن قدر عليه، فاقتضى ذلك أن الجماع يكون رجعة، وجميع ما ذكرناه منصوص عليه مما لا خلاف فيه.
__________
(1) في (أ): قيده.
(2) انظر الأحكام 1/418، 419،420،421، وذكره في مواضع أخر.
(3) انظر المنتخب 141.
(4) انظر الأحكام 464.
(5) انظر الأحكام 1/434.
والأصل في ذلك قول الله تعالى: {وَبُعُولَتِهِنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر: (مُره فليراجعها) يعني ابنه، وإنما الخلاف فيما ذكرناه تخريجاً، فإن الشافعي خالف فيه ويقول: إن الرجعة لا تكون بالجماع. والدليل على ذلك قول النبي صلى الله علية وآله وسلم لعمر: مُرْه فليراجعها، يعني ابنه، فأمره بالمراجعة ولم يستثن مراجتة الفعل من مراجعة القول، فوجب أن يكون ذلك عليهما جميعاً، والدليل على ذلك أنه أوقع ثلمة في ملكه، مع أنه مخير بين إتمامها ورفعها حتى يعود الملك تاماً ، فوجب أن يصح ذلك منه بالفعل، كما يصح بالقول، دليله من باع جارية، واشترط خيار الثلاثة الأيام، ولا خلاف أنه يصح منه أن يفسخ البيع بالوطء، كما يصح أن يفسخه بالقول، ويؤكد ذلك أيضاً من اشترى شيئاً، فوجد به عيباً أنه لما كان بالخيار بين أن يمضي ما أوقعه من الشراء، وبين أن يفسخه للعيب، كان لافصل بين أن يمضيه بقوله رضيت، وبين أن يستعمل المشتري، كنحو أن تكون جارية فيطأها، أو دابة فيركبها، أو ثوباً فيلبسه، وليس يعترض ما ذكرناه أن المرتد لايمكنه أن يزيل ما أوجب من الفرقة بالوطء، وذلك أنا شرطنا في علتنا أن يكون له الخيار بين أن يمضي ما أوقع، وبين أن يرفعه؛ لأنه لا يجوز له إلا أن يُسْلِم، ولأن الإرتداد ليس هو أمر يختص إيجاب الفرقة، وإنما الفرقة تدخل عليه على سبيل التبع. (57/4)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إن وطء الْمُطلِّق حرام، وإن ادعيتم أن المراجعة تقع به، وليس كذلك سائر ما ذكرتم، فلا يجب أن يستوي الأمر فيها.؟
قيل له: كون الوطء محرماً ـ وإن سلمناه ـ غير مؤثر في ذلك، ألا ترى أن البائع إذا وطيء [في] (1) مدة الخيار، فلا فرق بين أن يطأها حائضاً، أو طاهراً، وكذلك المشتري إذا وطيء بعد علمه بالعيب، فلا فصل بين أن يطأها حائضاً أو طاهراً، فدل ذلك أن كون الوطء منهياً عنه، لايؤثر في ذلك.
__________
(1) سقط من (ب).
ومما يبين ما ذهبنا إليه أن الْمُولي لما كان له الخيار بين أن يستمر على إيلائه حتى يلزمه الوقف، وبين أن يرفع حكم الإيلاء، فكان رفعه بالوطء جائز، كما يجوز بالقول، فكل ذلك يوضح ما ذهبنا إليه، وكذلك من أوصى بعبده لغيره، كان له الخيار في أن يرجع عنها بالقول، أو بيع العبد، أو هبته. (57/5)
فإن قيل: فقد علمنا أن الوطء يوجب العدة، فلم يجز أن يرفع العدة، ألا ترى أن الخلوة كما أوجبت العدة عندكم، لم ترفع العدة؟
قيل له: الخلوة لم تكن ترفع العدة؛ العدة لأنها مما توجب العدة، ولأنها ليست تصرفاً في المعقود عليها، على أن النكاح موجب للعدة على بعض الوجوه، ولم يمتنع أن /160/ يكون رافعاً لها على بعض الوجوه، فإن قاسوا الرجعة على النكاح بعلة أنه إستباحة البضع، فلا بد فيه من النطق، كان ذلك منتقضاً بالْمُحرِم، لأنه يكون مستبيحاً للبضع للخروج من الإحرام، وكذلك المعتكف، والمظاهر، ألا ترى أنه يخرج من إعتكافه بغير نطق فيستبيح البضع، والمظاهر أيضاً يستبيح البضع بالكفارة من غير نطق، فوجب أن يكون ذلك سبيل المراجع، والعلة أنه رافع حظراً طرأ على العقد بعد بقائه.
مسألة: [في المضارة بالمرأة بمراجعتها]
قال: ويكره للرجل أن يراجع المرأة على وجه المراغمة والمضارَّة لها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
والأصل فيه قول الله سبحانه: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلِيْهِنَّ}، وقوله سبحانه: {فَامْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، والمراجع على وجه المراغمة لايكون أمسك بمعروف، ولا سرَّح بإحسان، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ضرر ولاضرار في الإسلام).
مسألة: [في المرأة تدعي انقضاء العدة والرجل يريد المراجعة]
__________
(1) انظر الأحكام 1/421.
قال ولو أن رجلاً أراد أن يراجع(1) امرأته، فادعت المرأة انقضاء عدتها في مدة تحتمل ... ذلك، ولم تَجرِ به عادة، طولبت المرأة بالبينة، ويجوز فيها شهادة امرأة واحدة إذا كانت المرأة عدلة، وتُستحلف المرأة المدعيَة احتياطاً، فإن لم يكن لها بينة، تربصت حتى يصح تصرم عدتها إن أرادت أن تتزوج، وللزوج الأول مراجعتهاتخريجاً، وإن ادعت إنقضاء عدتها في مدة لا تحتمل، ذلك كانت الدعوى باطلة . (57/6)
ونص في (المنتخب) (2) على ما ذكرنا من حكمها إذا ادعت إنقضاء العدة في شهرين. وقلنا: إن للزوج الأول مراجعتها؛ لأن بقاء حكم العدة يقتضي ذلك.
ووجه قولنا: إنها إذا ادعت إنقضاء عدتها في مدة تحتمل ذلك، ولم تجر به عادة، ما رويناه في صدر كتابنا هذا في مسألة أقل الطهر أن امرأة ادعت انقضاء عدتها في شهر واحد، فقال شريح: إن جاءت بطانة من أهلها ممن يرضى دينه وأمانته يشهدون أنها حاضت في شهر ثلاث حيض، فهو كما قالت، وإلا فهي كاذبة، وقضى بذلك، فصوبه(3) أمير المؤمنين عليه السلام.
وأيضاً لما ادعت إنقضاء عدتها في مدة لم تجر العادة به، كانت مدعية خلاف الظاهر، فوجب أن تلزمها البينة، كما تلزم البينة من ادعى سائر الأمور التي هي خلاف الظاهر، ولعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (البينة على المدعي).
وأما وجه قولنا: إن شهادة المرأة الواحدة تقبل، فسنذكره في باب الشهادات، واحتطنا، بأن ألزمناها اليمين؛ لأن أمور الفروج مبنية على الإحتياط، فأما إذا ادعت إنقضاء العدة في مدة لا تحتمل ذلك، فيجب أن تكون دعواها باطلة؛ لأن كذبها يكون معلوماً.
مسألة: [في الرجل يدعي المراجعة والمرأة تنكر]
__________
(1) في (ب): يرجع.
(2) انظر المنتخب 165.
(3) في (ب): تصويبه.
قال: وإن ادعى الرجل أنه كان راجعها قبل إنقضاء العدة، كان على الرجل البينة، وعلى المرأة اليمين تخريجاً، وهذا خرَّجناه من إيجاب الهادي إلى الحق عليه السلام البينة واليمين في دعوى الطلاق والنكاح، ووجهه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)، وسائر الدعاوى البينة تشهد لصحة ذلك، وقد إستقصينا الكلام فيه في كتاب (الأحكام) (1). (57/7)
باب القول في العدة
[مسألة: في عدة ذوات الحيض]
يجب على المطلقة أن تعتد ثلاثة قروء، والأقراء هي الحيض. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتحب) (3)، والمطلقة التي يلزمها الإعتداد بالحيض هي التي تكون مدخولاً بها، وتكون من ذوات الحيض.
والأصل في ذلك قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، وهذا مما لا خلاف فيه.
فأما ما قلناه من أن الأقراء هي الحِيَض، فهو قول زيد بن علي، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، /161/ وقال الشافعي: هن الأطهار، وهو قول مالك، وروي مثل ذلك عن زيد بن ثابت، وعائشة، وروي عن ابن مسعود، وعمر مثل قولنا، وهو قول علي عليه السلام.
أخبرنا أبوبكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن علي عليه السلام أنه قال: (زوجها أحق بها مالم تغتسل من الحيضة الثالثة) (4).
وروى زيد بن علي، عن أبيه عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (الرجل أحق برجعة امرأته مالم تغتسل من آخر حيضها).
__________
(1) انظر الأحكام 1/377 ـ 378.
(2) انظر الأحكام 1/418، 419، 420، 453.
(3) انظر المنتخب 141 ، 146.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/62.
ومما يدل على ذلك أن الناس قد اختلفوا في القرء، فمن قائل قال: إنه الطهر، ومن قائل قال: إنه الحيض، ووجدنا من قال إنه الحيض يستعمله في كل حيض على وجه الشياع، ومن قال: إنه الطهر، لم يستعمله إلا في الطهر الذي يكون بين الحيضتين، فكان الأقرب أن استعماله في الحيض حقيقة، وإستعماله في الطهر مجاز، إذ إستعماله في الحيض يشيع، وإستعماله في الطهر يختص، وأيضاً حكي عن بعض أهل اللغة أنه قال فيه: إنه الوقت، واستشهد بقول الشاعر: (له قَرء كقَرء الحائض) أراد وقتاً كوقت الحائض، وبقول الأعشى: لما ضاع فيها من قروء نساءك. يريد وقت وطئهن، فإن كان ذلك كذلك. فالأولى أن يحمل القرء على وقت الحيض؛ لأن الوقت يكون وقتاً لما يتجدد فيه، ويحدث دون الطهر الذي هو باق على الأصل، وحكي عن بعضهم أنه قال: هو من الضم والتأليف، واستشهد بقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}، وبقول الشاعر: (هجان اللؤم لم تقرأ جنيناً)، يريد لم تضم، فإن حمل على هذا الوجه، فالأولى أيضاً أن يحمل على الحيض، لأن أجزاء دم الحيض تنضم وتجتمع من سائر البدن في وقت الحيض، وليس لقائل أن يقول: إن الضم والإجتماع يكون في الطهر؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لكان يسيل، إذ لا مانع منه، فبان بما ذكرناه أن حمله على الوجوه كلها على الحيض أولى من حمله على الطهر، ويدل على ذلك أن الله تعالى لما قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِّنَ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، وجب الإعتداد بثلاثة قروء على كل مطلقة، ومن حمل على الطهر، لم يوجب على المطلقة للسنة إلا قرأين، وبعض القرء؛ لأنها إذا طلقت وهي طاهر، صار الإعتداد عند مخالفنا من بعض الطهر، فصار ما ذهبنا إليه أولى؛ لأن إستعمالنا(1) الظاهر على ما ورد به. (57/8)
__________
(1) في (أ): لاستعمالنا.
فإن قيل: فنحن أيضاً نستعمله على وجه، فنقول: اسم(1) القرء قد ثبت أنه يتناول الحيض والطهر، فيحتمل(2) المراد به على أن المرأة عليها ثلاثة قروء من الحيض والطهر. (57/9)
قيل له: هذا ساقط من وجهين: أحدهما أن الآية دلت على أن العدة هي ثلاثة قروء، وما ذكرتموه(3) يوجب أنها أربعة قروء وبعض قرء، وهذا فاسد بالإجماع.
والوجه الثاني أن الأمة مجمعة على أن المراد من كل مطلقة أحد القرأين، وأن الجمع بينهما غير مراد، وما ذكرتموه يؤدي إلى خلاف ذلك، فوجب فساده.
فإن قيل: لا يمتنع أن يقال: في قرأين وبعض الثالث ثلاثة قروء، كما سمى الله تعالى شهرين وبعض الثالث أشهراً بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ}.
قيل له: هذا مجاز [والحقيقة ما ذكرناه، والثاني] (4) لم يقل ثلاثة أشهر كما قال: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، وما ذكرتموه مع ذكر العدد يكون أبعد في المجاز، ومما يدل على ما ذكرناه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم حبيبة بنت جحش، [وهي أخت عبدالله بن جحش] (5): (لتنتظر قدر قرؤها التي تحيض له(6)، فلتترك الصلاة)، وفي بعض الأخبار: (لتجلس أيام أقرائها، ثم لتغتسل)، وفي حديث فاطمة بنت أبي حبيش: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها)، وقد ذكرنا أسانيد هذه الأخبار في باب الحيض من كتابنا هذا، فدل ذلك على أن القرء في الشرع وإطلاقه اسم للحيض، وإذا ثبت ذلك، وجب أن يحمل قول الله تعالى على ذلك؛ لأن حمل خطاب الله تعالى على أسماء الشرع أولى من حمله على غيرها، ويدل على ذلك أيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في الأمة: (عدتها حيضتان)، وإذا ثبت أنها تعتد /162/ بالحيض فلم يفصل أحد بينها وبين الحرة في هذا المعنى.
__________
(1) في (أ): أن اسم.
(2) في (أ): فيحمل.
(3) في (أ): ذكرتم.
(4) سقط من (أ).
(5) سقط من (أ).
(6) في (أ): له.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، فلا خلاف أن المراد إيقاع الطلاق بالطهر، فثبت أن الطهر هو العدة. (57/10)
قيل له: المراد لقبل عدتها، وقد وردت بهذه اللفظة أخبار، وذلك يقتضي أن يقع قبل العدة، فيجب أن يكون زمان العدة متأخراً عن الطلاق، وهذا نص مذهبنا، فسقط تعلقهم بالآية، وبان أنا لو تعلقنا بها إبتداءً، كان أولى، ومما يدل على ذلك أن العدة عبادة موضوعها لاستبراء الرحم، فوجب أن يكون إعتبارها بالحيض، دليله إستبراء الأمة، يوضح ذلك ويؤكده أنا وجدنا إنقطاع الحيض يمنع الإعتداد بالأقراء، وحصوله يوجب الإعتداد بها، فكان الاعتبار به ألى من الاعتبار بالطهر الذي لا مدخل به في إيجاب الاعتداد بالأقراء، واسقاطه وأيضاً ما نذهب إليه يقتضي إيجاب زيادة شرعية، ويقتضي الحظر، ألا ترى أنهم يبيحون لها التزوج عند الحيضة الثالثة، ونحن نحظره إلا بعد تصرمها، والقياس الذي يقتضي الحظر، ويقتضي زيادة حكم يكون أولى، على أنه لاخلاف أن التي في بطنها ولدان تنقضي عدتها بآخرهما وضعاً، فوجب أن تنقضي عدة الحائل أيضاً بآخر(1) الخارج من رحمها دون أوله، فكل ذلك يصحح ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: فقد ثبت أن بعض الحيض لا تحتسب به إذا وقع الطلاق في الحيض فيجب ألاَّ تحسب بكله.
قيل له: العلة في ذلك أنه بعض القرء، فيجب قياساً عليه أن لاتحتسب ببعض الطهر، فإذا ثبت ذلك(2)، فلا قول إلا قولنا، ويدل على ذلك أن الإعتداد بالشهور لا يكون إلا كمال الشهور، فكذلك الإعتداد بالأقراء، والعلة أن كل واحد منها مما يقع به الإعتداد، وإذا ثبت ذلك، فلا قول إلا قولنا؛ لأنهم يجيزون الإعتداد بطهرين وبعض الثالث.
مسألة: [في عدة الصغيرة والآيسة]
__________
(1) في (ب): بإخراج.
(2) في (أ): ثبت معه ذلك.
قال: و إن كانت المطلقة صغيرة، أو آيسة، إعتدت بثلاثة أشهر بالأهلة، وحد اليأس أن تبلغ المرأة ستين سنة. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)،غير ما ذكرناه من الأهلة فإنه رواه في (الأحكام) عن جده القاسم عليه السلام. (57/11)
أما ما ذكرناه من (3) أن المطلقة إن كانت صغيرة، أو آيسة، اعتدت بثلاثة أشهر، المراد به إذا كانت مدخولاً بها، فلا خلاف فيه، وقد ورد النص به، وهو قول الله تعالى: {وَاللائِيْ يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيْضِ مِنْ نِسَائِكُمْ..} الآية. وما ذكرناه من الإعتبار بالأهلة، فهو أيضاً مما لا أحفظ فيه خلافاً، وقد قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيْتُ للنَّاسِ وَالْحَجِّ}، وقد علمنا أن الغرض بها مواقيت لأحكام الناس، فوجب أن تكون هي المعتبر بها في الأحكام الشرعية المتعلقة بالشهور، ويدل على ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِيْ جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِيْنَ وَالْحِسَابِ}، ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} إلى قوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، وليس في شيء من الشهور الأشهرَ الحرم إلا في أشهر الأهلة، ووجدنا أيضاً سائر الشرع من الصلاة والحج والنحر وما جرى مجراها متعلقاً بالأهلة دون ما سواها، فوجب أن يكون العدد كذلك.
وأما حد الإياس فقول زيد بن علي عليهما السلام أنه خمسون سنة، وقد ذكرنا في كتاب الحيض وجه قولنا: إنه ستون سنة.
مسألة: [في عدة الحامل والمستحاضة]
قال: وإن كانت المطلقة حبلى، فعدتها أن تضع ما في بطنها، فإن حملت اثنين، أو أكثر، فهي معتدة إلى أن يقع الآخر منهما أو منهم.
__________
(1) انظر الأحكام 1/420، 423.
(2) انظر المنتخب 147.
(3) في (ب): من أمر.
والمستحاضة تعتد بالحيض، وتتحرى وقته كما تتحرى لوقت(1) الصلاة والصيام. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2). (57/12)
ما ذكرناه من أن المطلقة الحبلى عدتها أن تضع ما في بطنها مما لا خلاف فيه، وقد قال تعالى: {وَأُوْلاتِ الأَحْمَالِ أَجَلَهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في رجل طلق /163/ امرأته وهي حامل قال: ( هي في العدة مالم تلد، فإذا ولدت، فقد حل أجلها، وإن كان في بطنها ولدان فولدت أحدهما، فهو أحق برجعتها مالم تلد الثاني). على أنها إذا كانت معتدة مالم تضع الأول، وجب أن تكون معتدة ما بقي في بطنها ولد، والعلة أنها مطلقة حبلى، وما ذكرناه من أمر المستحاضة فلا خلاف أنها تتحرى لترك الصلاة والصيام، فوجب أن يلزمها التحري للإعتداد؛ لأن كل واحد منهما عبادة، فيجب أن يراعى إقبال الحيض وإدباره، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال للمستحاضة: (أقعدي أيام أقرائك)، دل ذلك على أن للمستحاضة أقراء، فوجب أن تعتد بها لقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبْصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، وإذا لم تصل إلى معرفتها باليقين، وجب عليها أن تتوصل إلى معرفتها بالتحري كسائر ما تتعلق به العبادات والأحكام.
مسألة: [في الصبية تحيض قبل انقضاء عدتها وفي الحائض ينقع حيضها]
__________
(1) في (أ): لترك.
(2) انظر الأحكام 1/439،475.
قال ولو أن صبية طلقت، ثم حاضت قبل مضي ثلاثة أشهر، استأنفت العدة بالحيض، فإن حاضت بعد مضي ثلاثة أشهر، فقد مضت عدتها، ولو أن ذات حيض طلقت، ثم انقطع حيضها لعارض اعتدت إلى أن تبلغ ستين سنة، ثم اعتدت ثلاثة(1) أشهر، ثم حلت للأزواج. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2)، ووجه ما قلنا من أن الصبية إذا طلقت ثم حاضت(3) قبل مضي ثلاثة أشهر فإنها تستأنف العدة بالحيض؛ لأن الله تعالى جعل الإعتداد بالشهور، بشرط أن لا تكون من ذوات الحيض، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {وَاللائِيْ يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيْضِ مِنْ نِّسَائِكُمْ..} الآية، فلما حاضت هذه، صارت ذات حيض، وانتفى الشرط الذي هو معه، جعل الله سبحانه وتعالى لها الإعتداد بالشهور، وصارت مخاطبة بالإعتداد بالأقراء لقول الله سبحانه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٌ}، فلذلك(4) قلنا: إنها تستأنف الإعتداد بالحيض، فأما إذا حاضت بعد مضي ثلاثة أشهر فقد مضت عدتها؛ لأنها قد استوفت كمال عدتها وهي من اللائي لم يحضن، فلم يكن عليها غير ما أتت به. (57/13)
فأما قولنا إذا كانت من ذوات الحيض، ثم انقطع حيضها، فهي تعتد إلى أن تيأس، ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر، وهو قول عامة الفقهاء، وإن اختلفوا في حد الإيأس.
وروي نحوه عن عثمان، وزيد بن ثابت ذكره أبو بكر الجصاص في (شرح المختصر)، قال: وروي عن عمر وابن عباس أنها تمكث تسعة(5) أشهر، فإن لم تحض، اعتدت ثلاثة أشهر، قال: وهو قول مالك.
وروى هناد بإسناده نحو ذلك عن عمر. وما ذهبنا إليه قول أمير المؤمنين عليه السلام، رواه زيد [بن علي] (6) عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، وروي نحوه هناد بإسناده، عن الزهري، عن علي عليه السلام، وزيد بن ثابت.
__________
(1) في (أ): بثلاثة.
(2) انظر الأحكام 1/465، 423.
(3) في (أ): فحاضت.
(4) في (أ): وكذلك.
(5) في (ب): أربعة.
(6) سقط من (ب).
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، فأوجب على المطلقات كلهن التربص حتى يمضي عليهن ثلاثة قروء إلا من خصته الدلالة منهن، والدلالة خصت الحبلى، والتي لم يدخل بها، والتي لم تبلغ المحيض، والتي قد أيست، والتي قد اختلفنا فيها ليست واحدة من الأربع، فوجب بحكم الظاهر عليها التربص حتى يمضي عليها ثلاثة قروء، أو تيأس فتعتد ثلاثة أشهر. (57/14)
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إنها إذا مر عليها الزمان الذي ذكرناه من غير أن تحيض فيه تكون آيسة منه؟
قيل له: هذا لا يقتضي الإياس، لأنها تجوز، بل تطمع في إرتفاع العارض، وعود المحيض إلى أن تبلغ السن الذي معها تيأس.
قإن قيل: لما قال الله تعالى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيْضِ مِنْ نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}، نقلهن إلى الإعتداد بالشهور؟
قيل له: الإرتياب المذكور في الآية لا ظاهر /164/ له، فلا يصح التعلق به لأنه يحتمل أن يكون المراد إن ارتبتم في الحِبَل، ويجوز أن يكون المراد في معاودة حيضها، ويجوز أن يكون المراد ما روي في التفسير عن ابن مسعود وغيره أن معناه إن ارتبتم في حكمهن الذي يلزمهن، وهذا هو الأولى لأنه المروي، ولأن الإياس لايجامع الوجهين الأولين؛ لأن الآيسة لا ترتاب في أنها تحبل، ولا في أنها تحيض، وإذا كان هذا هكذا، سقط التعلق به، ويدل على ذلك أيضاً ما أجمعنا عليه من أنها إذا انقطع حيضها لايجوز لها الإعتداد بالشهور قبل مضي تسعة أشهر، فكذلك بعدها، والعلة أنها ذات حيض لم تبلغ الإياس.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إنها تعتد بالشهور قياساً على الآيسة؛ لأن حيضها قد انقطع عن العادة؟
قيل له: هذا منتقض بالتي انقطع حيضها، ولم يمر عليها تسعة أشهر، على أن علتنا مستندة إلى النصوص، وتقتضي زيادة عبادة، وتقتضي الإحتياط والحظر.
مسألة: [في عدة المتوفي عنها] (57/15)
قال: وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، فإن كان زوجها غائباً، اعتدت من يوم يبلغها نعيه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2).
أما ما قلناه من أن عدة المتوفي عنها زوجها أربعة شهر وعشراً، فمما لا خلاف فيه بين المسلمين، وقد نطق به القرآن، قال الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُتَوفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}.
وأما ما ذهبنا إليه من أنها تعتد من يوم يبلغها نعيه، فقد ذهب عامة الفقهاء إلى خلافه، وقالوا: إنها تعتد من يوم وفاته، وروى هناد مثل قولنا عن الحسن، وحكاه ابن جرير في (الإختلاف)، عن الحسن، وقتادة، وخلاس، وهو قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، رواه هناد: حدثنا قبيصة، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خلاس، عن علي عليه السلام قال: (تعتد المتوفى عنها زوجها من يوم يبلغها وفاته).
ويدل على ذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعْشَراً}، فأوجب على كل من توفي عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشراً، فالقول بخلاف ما نذهب إليه يؤدي إلى أن تكون التي يبلغها نعي زوجها بعد مضي أربعة أشهر وعشر من يوم وفاته لا يكون عليها هذا التكليف، والآية قد ألزمت ذلك كل من توفي عنها زوجها، فوجب به صحة ما قلناه.
فإن قيل: أنكرتم أن كون كلفت ذلك من حين وفاة زوجها؟
قيل له: ذلك لا يصح؛ لأنه جار مجرى تكليف مالا يطاق، بل هو أبعد، لأنه لا يجوز عند المجبرة أيضاً، لأنه لا يمكنها امتثال(3) المأمور به مع أنه لا علم لها به، ولا تتمكن من العلم به.
__________
(1) انظر الأحكام 1/420، 421 ـ 440، 441 ـ 473، 474.
(2) انظر المنتخب 142 ـ 158.
(3) في (أ): إمساك.
فإن قيل: فما تقولون في الصغيرة والمجنونة، أليس عليهما العدة، وإن لم تكونا عالمتين بوفاة الزوج؟ (57/16)
قيل له: لا نقول إنهما يلزمهما التكليف في ذلك، وأنهما مرادتان بالآية، وإنما نقول إنهما ممنوعتان بوفاة الزوج من عقد النكاح عليهما؛ للإجماع، فأما أن تكون الآية قد تناولتهما، فلا؛ لأن الآية تضمنت التكليف، وهما لا تكليف عليهما.
فإن قيل: فما تقولون في المطلقة، هل تقولون: إنها تعتد من حين يبلغها الخبر، أوتقولون: إنها تعتد من يوم وقع الطلاق؟
قيل له: هذا غير منصوص عليه، وإن كان الأقرب على المذهب أنها تعتدمن يوم يبلغها الخبر، سيما وقد روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، رواه هناد بإسناده عنه عليه السلام، وعن الحسن، وقد ذكره أبو العباس الحسني رحمه الله في (مسائل الخلاف)، أن المطلقة تعتد من يوم يبلغها الخبر. ويدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن /165/ عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الأخر أن تحد على ميت أكثر من ثلاثة أيام، إلا على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً) (1).
وأخبرنا [بذلك] (2) أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا علي شيبة، حدثنا عبدالله بن أبي بكر السهمي، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أم سلمة، مثل ذلك(3).
وروي نحوه، عن أم حبيبة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ففي هذا أن المتوفى عنها زوجها تحد أربعة أشهر وعشراً، وذلك لا يكون إلا مع العلم بوفاة الزوج، فبان أن الحداد من يوم يبلغها الخبر، وإذا ثبت ذلك في الحداد، ثبت في الإعتداد، ولا إحداد إلا في العدة.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/75 وفيه إلا على زوج.
(2) سقط من (ب).
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/76.
ومما يدل على ذلك ما أجمعنا عليه من أنها إذا علمت بالوفاة حين الوفاة، لزمها أن تحد أربعة أشهر وعشراً، فكذلك إذا علمت بعد وفاته بزمان، والعلة أنها مكلفة توفي عنها زوجها، فلزمها أن تعتد، وتحد أربعة أشهر وعشراً. (57/17)
فإن قيل: إذا ثبت أن الصغيرة والمجنونة تنقضي عدتهما، وإن لم يحصل لهما العلم بوفاة أزواجهما، فما أنكرتم أن يكون ذلك سبيل المغيبة؟
قيل له: الصغيرة والمجنونة لاتكليف عليهما، فلم يجز أن يكون عليهما تكليف العدة، والبالغة العاقلة مكلفة، فكان ردها إلى المكلفات أولى بها من ردها إلى اللواتي لا تكليف عليهن، على أن فياسنا يقتضي عبادة زائدة وحظرا واحتياطا فهو أولى مما ذكروه، على أنا قد علمنا أن تكليف الإعتداد يتعلق بالعلم بالسبب الموجب له، ألا ترى أنه لا خلاف في أنها لو علمت بالوفاة قبل مضي أربعة أشهر وعشراً، لزمها الإعتداد والإحداد في باقي المدة، فدل ذلك على أن الإعتبار في ذلك بالعلم، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن إعتبارنا أولى من إعتبارهم، لأنهم يعتبرون بحصول الوفاة.
مسألة: [في عدة المتوفي عنها إذا كانت حاملاً]
قال فإن كان المتوفى عنها زوجها حبلى، فعدتها آخر الأجلين.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1)، وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام: رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده ، عن علي عليهم السلام. ورواه هناد، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: كان علي عليه السلام يقول: (عدتها آخر الأجلين). وروى هناد بإسناده أنه قول الشعبي. والذي يدل على ذلك قول الله عز وجل: {وَالَّذِيْنَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَربَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}، فأوجب على كل من توفي عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشراً، وهي بعد حامل، فعليها أن تعتد حتى تضع ما في بطنها لقول الله تعالى: {وَأُولاتِ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، على أن هذا مما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف إذا وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشراً، والآية الأولى قد دلت على قولنا فيها. (57/18)
فإن قيل: فقد روي عن ابن مسعود أنه قال: من شاء لاعنته أن قوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، نزلت بعد قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}.
قيل له: وما في تقدم إحدى الآيتين وتأخر الأخرى ما يمنع من الجمع بينهما؟ ولا خلاف أن الجمع بين الآيتين والخبرين أولى من نسخ أحدهما، ونحن نجمع بين الآيتين فنقول: إن الآية الأولى ألزمت كل من توفي عنها زوجها إعتداد أربعة أشهر وعشراً، والآية الثانية أوجبت إن كانت حبلى إتمام العدة إلى الوضع، فيكون إستعمالنا على الجميع، على أن ما ذهب إليه علي عليه السلام أولى من إستعمال ابن مسعود ومن تابعه(2) في إستعمال النسخ.
فإن قيل: فإن قلتم: إن التي تضع قبل مضي أربعة أشهر يلزمها أن تتم أربعة أشهر وعشرا،ً فقد نسختم عنها قول الله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ /166/ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}؟
__________
(1) انظر المنتخب 442.
(2) في (أ): تابعه على النسخ.
قيل له: ذلك زيادة في زمان العدة، والزيادة في زمانها لا يكون نسخاً عندنا، وعلى هذا نقول إن حد القاذف لو جعل مائة [جلدة] (1) لم يكن نسخاً، والصلوات الخمس لو زيد عليها سادسة، لم يكن نسخاً، على أن قوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عام، وقوله سبحانه: {وَالَّذِيْنَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ}، أخص منه بموضع الخلاف، ومن مذهبنا بناء العام على الخاص، ولا يمتنع أن يرد(2) الخاص ثم العام فيبنى على الخاص المتقدم، ولا يوجب(3) ذلك نسخاً، ويكونان كأنهما وردا معاً، وإنما كان يوجب النسخ لو كان العام هو المتقدم، وكان الخاص هو المتأخر، لأنه كان يوجب إزالة بعض أحكامه الثابتة، وذلك صورة النسخ، بوضع ذلك أنا لو جعلنا المتقدم مخصصاً للمتأخر، ثم لم يكن ذلم نسخاً، وإذا جعلنا المتأخر مخصصاً للمتقدم، كان ذلك نسخاً لا محالة، إذ قد ثبت أنه لا يجوز تأخير البيان، ولأنه جاز مع هذا القول تخصيصه، فلا وجه مع هذا القول لتخصيص المتقدم بالمتأخر إلا النسخ. (57/19)
فإن قيل: فقد روي أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها لبضع وعشرين ليلة، وروي شهراً، وروي أربعين ليلة، فأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أن تتزوج.
قيل له: الكلام في هذا الخبر على وجهين: أحدهما أنه متأخر عن قوله يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً، وقد ثبت أن المخصص إذا تأخر اقتضى النسخ، إذ لا يجوز حمله على البيان؛ لأن تأخير البيان لا يجوز، وقد ثبت فساد القول به، وإذا ثبت أنه يقتضي النسخ، فلا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد عند جميع الأمة، فوجب سقوطه.
فإن قيل: ومن أين ثبت لكم تأخر حديث سبيعة عن قوله سبحانه: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}؟
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ب): نرد.
(3) في (ب): نوجب.
قيل له: لوجهين: أحدهما: ما روي من قوله تعالى: {وَالَّذِبْنَ يُتَوَفَّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}، نسخ بقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}، فلو كان حديث سبيعة متقدماً على الآية، لكان هو الناسخ؛ لأنه الحول، دون ما روي من تربص أربعة أشهر وعشراً. (57/20)
والثاني: ما روي أن أبا السنابل بن بعلك أنكر على سبيعة، ولا يجوز أن ينكر إلا وقد عرف حكم الإعتداد قبل ذلك، وهذا يوجب أن الآية سابقة.
والوجه الثاني من الكلام في الحديث: أنه متأول على أن زوجها كان أبتَّ طلاقها قبل وفاته، وأُطلق عليها إسم الزوج توسعاً، أو جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرف ذلك من حالها، فأفتى بذلك، وليس هناك لفظ يوجب التعميم يمكن التعلق به، ومما يدل على ذلك ما أجمعنا عليه من أن الحائل إذا مات عنها زوجها، لم تنقض عدتها قبل أربعة أشهر وعشراً، وكذلك الحامل، والعلة أنها عدة أوجبتها وفاة الزوج، فوجب ألا تنقضي قبل ما ذكرناه، وقياسنا هذا أولى من قياسهم على المطلقة الحبلى لوجوه: منها : أن المتوفي عنها زوجها بالمتوفي عنها زوجها أشبه منها بالمطلقة.
ومنها أن عدة المطلقة، وضعت على الإختلاف، ألا ترى أن عدة ذوات الحيض منهن يخالف عدة الآيسة، والتي لم تحض، فلم يمتنع أن تخالف عدة المطلقة الحبلى عدتهن، وعدة المتوفي عنها زوجها وضعت على الإتفاق، فإنها لا تنقضي قبل أربعة أشهر وعشراً، ألا ترى أنه يستوي فيها حكم ذوات الحيض، والآيسات، واللواتي لم يحضن، فوجب أن يستوي في ذلك حكم الحبلى منهن وحكم غيرها.
ومنها أن عدة المتوفي عنها زوجها موضوعة على التشدد(1)، ألا ترى أن /167/ العدة في أيامها زائدة، ويلزم من الحداد فيها مالا يلزم في غيرها، ويلزم المدخول بها وغير المدخول بها، فوجب على ذلك أن يكون أبعد الأجلين. (57/21)
ومنها أن قياسنا يقتضي الحظر، والإحتياط، وعبادة زائدة شرعية.
فإن قيل: موضوع العدة إنما هو استبراء الرحم، ولا وجه لاستبراء الرحم بعد الوضع.
قيل له: العدة وإن كانت موضوعة في الأصل لاستبراء الرحم، فلا خلاف أنها قد تجب بحيث لا مساغ فيه لاستبراء الرحم، ألا ترى أن الطفلة إذا مات عنها زوجها، تجب العد، وكذلك الكبيرة إذا مات عنها زوجها الطفل، تلزمها العدة، وكذلك من مات عقيب عقد النكاح قبل أن يفارق المجلس، تلزم زوجته العدة، وكل هؤلاء لا وجه لاستبراء أرحامهن، فلم يمتنع مثله في الموضع الذي اختلفنا فيه، على أن الشافعي يذهب إلى أن الصغير إذا مات وله زوجة حبلى، فوضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشراً، فعليها أن تعتد إلى انقضاء العدة، وهذا مما يمكن أن يجعل أصلاً يقاس عليه.
مسألة [في عدة الإماء]
قال: ولا فصل في العدة بين الأمة والحرة ولا فصل بين يكونا تحت حر أو عبد. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3) وهو مما مضى الكلام فيه مستقصي في كتاب النكاح في باب نكاح المماليك، فلا وجه لإعادته.
فصل [في الحربية المتزوجة تُسلم وتهاجر]
نص يحيى بن الحسين عليه السلام في (الأحكام) (4) أن الحربية إذا أسلمت وهاجرت إلى دار الإسلام وهي ذات بعل لم يكن لها أن تتزوج حتى تعتد، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا عدة عليها. واختلفت الرواية إن كانت حبلى، فروي أن ليس لها أن تتزوج حتى تضع، وروي أن لها أن تتزوج قبل الوضع.
__________
(1) في (أ): التشديد.
(2) انظر الأحكام 1/466.
(3) انظر المنتخب 154.
(4) انظر الأحكام 1/392.
والأصل في ذلك أنها فرقة طرأت بالإسلام على المدخول بها، فوجب أن تلزمها العد، دليله إذا أسلمت زوجة الثاني، وإن شئت قلت: فرقة طرأت لاختلاف الدينين، فوجب أن تلزمها العدة، دليله امرأة المرتد، على أن أبا بكر الجصاص حكى أن الأصح والأشبه على قول أبي حنيفة أن الحامل إذا أسلمت وهاجرت ولا زوج في دار الحرب، لم يكن لها أن تتزوج حتى تضع، فيمكن أن يقاس عليها الحائل بعلة أنها مسلمة هاجرت ولها في دار الحرب زوج حربي، فوجب ألا تتزوج حتى يمضي زمان عدة مثلها. والأصول تشهد لصحة ما قلناه؛ لأن الفرقة العارضة بعد الدخول بالزوجة من أي وجه عرضت فالعدة واجبة. (57/22)
فإن قيل: حقوق أهل الحرب منقطعة عن دار الإسلام، والعدة حق الزوج، فلا يلزمها حق زوجها الحربي المقيم في دار الحرب.
قيل له: العدة وإن كانت حقاً للزوج، فقد تجب مع انقطاع حقوقه، ألا ترى إلى وجوبها على من توفى عنها زوهجا، وإن كان الزوج قد انقطعت حقوقه، على أن المطلقة ثلاثاً قد انقطعت عنها حقوق زوجها، ومع هذا تلزمها العدة، على أن ما ذهبنا إليه يوجب عبادة، وحظراً، واحتياطاً، فهو أولى، ويوضح ذلك ويدل عليه ما روي أن عكرمة بن أبي جهل هرب من مكة وهو مشرك، فأسلمت امرأته، ثم رجع وهي بعد في العدة، فرجع إليها بالنكاح، وكذلك روي في صفوان، فدل ذلك على أن كونها في دار الإسلام مع كون زوجها حربياً /168/ في دار الحرب لا يوجب سقوط العدة عنها.
مسألة [فيما يجب على المتوفي عنها زوجها وفي أي مكان تعتد]
قال: ولا يجوز للمتوفي عنها زوجها أن تختضب، ولا أن تطيب، ولا أن تلبس ثوباً مصبوغاً، ولا تمشط مشطاً حسناً، ولا تسافر سفراً، ولا تكتحل إلا أن تضطر إليه، وتعتد حيث شاءت.
وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (1). أما ا ذكرناه من إيجاب الحداد على المتوفي عنها زوجها فهو قول العلماء، لا أحفظ فيه خلافاً.
__________
(1) انظر الأحكام 1/422 ، 423.
وحكي عن الحسن أنه كان يذهب إلى أنه مباح غير واجب. وقد روى ابن أبي شيبة، عن يحي بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن عباس قال: كان ينهى المتوفي عنها زوجها أن لا تكتحل، ولا تختضب، ولا تتطيب، ولا تلبس إلا ثوب عصب، وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام، رواه عنه زيد بن علي عليهم السلام، ولا مخالف فيه من الصحابة، فبطل ما كان يذهب إليه الحسن.(1) ورَوى نحو ذلك عن أم سلمة، قالت جائت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يارسول الله إبنتي توفي عنها زوجها، وقد إشتكت عينَها، أفتكحلها؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، مرتين، أو ثلاثاً، قال: إنما هي أربعة أشهر وعشراً، وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول) (2) فكل ذلك يحج الحسن فيما كان يذهب إليه. وقوله: (ولا تلبس ثوباً مصبوغاً)، المراد به: الصبغ الذي يكون للزينة، فقد نبه عليه يحيى بن الحسين بقوله: (ولا تمشط مشطاً حسناً). (57/23)
وقلنا أنها لا تسافر لا للحج، ولا للعمرة، ولا لغيرها، لأنه إخلاء لبيته.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال في المتوفى عنها زوجها: (تخرج بالنهار، ولا تبيت في غير بيتها).
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4/165، ولكنه بسند آخر عن أم عطية والسند المذكور هنا متنه هو: كان ينهى المتوفى عنها عن الطيب والزينة.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4/199.
وروى هناد بإسناده أن عبدالله بن(1) الزبير رد نسوة كثيرة من ظهر الكوفة توفي عنهن أزواجهن حاجات أو معتمرات، وروي عن عمر أنه رد نساء من ذي الحليفة حاجات ومعتمرات، توفي عنهن أزواجهن، قال الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهَنَّ مِنْ بِيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيْنَ بِفَاحِشَةً مُبِيِّنَةً}، وقلنا: إنها لا تكتحل إلا أن تضطر إلى ذلك؛ لأنها مُنعت الزينة، ولم تُمنع التداوي، ولما رواه أبو داوود في (السنن) (2) عن أم سلمة أنها قالت للتي سألتها عن الكحل، وقد توفي عنها زوجها لاتكتحل إلا لأمر لابد منه. (57/24)
فإن قيل: فقد روت هي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال للتي سألته عن ابنتها أنها أشتكت عينها فهل تكحلها؟ فقال: لا.
قيل له: ذلك محمول على أنها لم تكن إضطرت إلى الكحل؛ ولأن الضرورة قد جعلت عذراً في سائر العبادات، فكذلك في هذه العبادة.
وما ذهبنا إليه من أنها تعتد حيث شاءت من بيتها، أو بيت زوجها هو قول أمير المؤمنين عليه السلام، حكى ذلك عنه القاسم بن إبراهيم عليهما السلام، وروي نحوه هناد عنه عليه السلام، وروى بإسناده عن الحسن أن علياً عليه السلام نقل ابنته أم كلثوم لما قتل عمر، وروي نحوه عن ابن عباس.
وروي عن عبدالله أنها لا تخرج حتى توفي العدة، وبه قال أكثر الفقهاء.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُتَوَفُّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}، فأمرهن بالتربص ولم يشترط مكاناً دون مكان، فوجب بظاهر الآية أن يكون لها الخيار في الأماكن، ويدل على ذلك قوله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}.
فإن قيل: قوله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} منسوخ.
__________
(1) في (ب): عبدالله بن مسعود.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 3/302.
قيل له: النسخ يتناول منها زمان العدة دون صفتها، فلا يجب ما ذكرتم، ألا ترى أن صوم عاشوراء لما نسخ وجوبه، لم يجب أن يكون سائر أحكامه منسوخة. (57/25)
فإن قيل: فقد روي أن فريعة بنت مالك ـ أخت أبي سعيد الخدري ـ كان زوجها في طلب عبدٍ له، فقتل بطرف القدوم، فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، إني في دارِ وحشة، أفأنتقل إلى أهلي؟ فأذن لها، فلما خرجت إلى الحجرة، أو /169/ المسجد، دعاها، فقال: ((إعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله، أربعة أشهر وعشراً))، فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشراً.
قيل له: هذا الخبر لو استدللنا به، كان أولى، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن لها في ذلك حين استأذنت، ولا يجوز أن يأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر محظور عليها، فدل ذلك على أن التحول كان جائزاً لها، ولا يمكن أن يستدل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك إعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك على أن التحول محظور؛ لأن هذا يقتضي النسخ وقد دلت الدلالة على أن نسخ الشيء قبل وقت فعله غير جائز، وأنه يدل على البدأ، فإذا كان هذا هكذا، وجب حمل قوله: ((إعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك)) على وجه المشورة وابتغاء الصلاح.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إن الأمر الأول محمول على المشورة، وابتغاء الصلاح، وأن الأمر الثاني محمول على الوجوب؟
قيل له: الفرق بين الأمرين أن المباح قد يجوز أن يؤمر بتركه لضرب من الرأي، وضرب من الصلاح، وليس كذلك المحظور، لأنه لا يجوز أن يؤمر الإنسان بإرتكابه لضرب من الرأي، فإذا ثبت هذا، فالأولى أن يحمل الأذن على الإباحة الشرعية، والمنع على الرأي والمشورة.
مسألة: [فيما تتجنبه المطلقة]
قال: وأما المطلقة، فلا يجب عليها أن تترك التزين والتطيب، ولا بأس أن تظهر ما يجوز إظهاره من ذلك لزوجها ترغيباً له في نفسها، إن كانت له عليها رجعة، وعليها(1) أن تعتد في منزل زوجها، وعلى الزوج أن يتحرز من النظر إلى شعرها، وجسدها، أوشيء من عورتها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2). (57/26)
ولا إشكال أن المطلقة تطليقة رجعية لاحداد عليها؛ لتنصيصه على ذلك في (الأحكام) في المطلقة الرجعية(3)، وأما المبتوتة فظاهر قوله في عدة المطلقة يوجب أنه لا حداد عليها أيضاً، وكذلك تخصيصه الإحداد بعدة المتوفي عنها زوجها يقتضي ذلك، فوجب أن يكون حاصل المذهب أن المطلقة لاحداد عليها، سواء كانت مبتوتة، أو كانت عليها رجعة، وإن كان أبو العباس الحسني أشار إلى خلاف ذلك، وما ذكرناه هو الأظهر من قول الشافعي، فأما أبو حنيفة فإنه أوجب الحداد على المبتوتة دون مَن عليها رجعة، حكى ذلك أبو الحسن الكرخي في (المختصر)، وحكى ابن جرير عن أبي ثور أن الحداد يلزم كل معتدة، وإن كانت عليها رجعة، أو كان إعتدادها عن نكاح فاسد. والأصل في ذلك: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام)، واستثنى من مات عنها زوجها، فوجب أن تكون غيرها ممنوعة من الإحداد في العدة، على أن الإحداد حظر مباحات، وعبادة مشروعة، فلا يمكن إثباته إلا بالدلالة على أن المطلقة الرجعية عند أكثر العلماء أنه لا حداد عليها، وكذلك المبتوتة، بعلة أنها معتدة من طلاق، أو يقال معتدة لغير الوفاة، ومن خالف في ذلك جعل معه أصله الإستبراء، فقال هو عبادة موضوعة لإستبراء الرحم لم تقتضيها الوفاة، فوجب أن لا يلزم فيها الحداد، فإن قاسوها على المتوفي عنها زوجها، بعلة أنه إعتداد لا رجعة فيها، كان ذلك منتقضاً بالإعتداد من وطء الشبهة، فإن إحترزوا من ذلك، قيل
__________
(1) في (أ): وعلى.
(2) انظر الأحكام 1/423 ـ 419.
(3) في (أ): رجعية.
لهم: العلة في ذلك تعظيم وفاة الزوج، ألا ترى أن العدة منها تلزم المدخول بها وغير المدخول، وليس لهم أن يقولوا أنها علة مقتصرة؛ لأنها تتعدى إلى الذمية إذا مات عنها الذمي، والظاهر من مذهب يحيى عليه السلام، أنها والمسلمة في ذلك سواء، على أنا /170/ وجدنا الحداد موضوعه لإظهار الحزن، وإظهار الحزن يجب للوفاة دون الطلاق، ألا ترى أن للمرأة أن ترغب في(1) الطلاق وتلتمسه، وتبذل المال عليه على بعض الوجوه، وما كان كذلك فلا يجب الحزن عليه، على أن حكم العدة من الطلاق بحكم عدة الطلاق أشبه من حكم عدتها بحكم عدة الوفاة، على أنها عدة لاتلزم إلا بالدخول، فوجب أن لايجب فيه الحداد، كالعدة من التطليقة الرجعية، ويؤكد ذلك قوله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ}. وقلنا: إن لها أن تظهر بعض الزينة لزوجها ترغيباً؛ لأنه مباح لها أن ترغَب في الرجعة، وتُرغِّب زوجها فيها، فجاز أن تظهر بعض الزينة. (57/27)
وقلنا: إن على الزوج أن يتحرز من النظر إلى شعرها وجسدها؛ لإنها مطلقة، فوجب أن يكون سبيلها في ذلك سبيل المبتوتة، ولأن عقد النكاح قد انحلَّ بدلالة قوله الله تعالى: {وَبُعُولَتِهِنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}، يعني أحق بردهن إلى الملك، وذلك لايقال إلا والملك منحَلَّ، وكذلك قوله تعالىبعد ذلك:{إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً}، وظاهر موضوع(2) الإصلاح صلاح الفاسد، فيجب أن يكون العقد قد فسد.
مسألة: [في عدة غير المدخول بها وعدة المختلعة]
__________
(1) في (أ): أن تُرغب في نفسها في حال الطلاق.
(2) في (أ): موضع.
قال: ولو أن امرأة طلقها زوجها قبل أن يدخل بها، فلا عدة عليها، وإن خلا بها وهي لا تصلح للجماع، استحبت(1) العدة لها، وعدة المختلعة كعدة سائر المطلقات. جميعهُ منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3) غير ما ذكرناه من استحباب العدة على التي خلا بها زوجها وهي لا تصلح للجماع فإنه منصوص عليه في (المنتخب) (4) فقط. (57/28)
أما ما ذكرناه من أن المطلقة قبل الدخول لاعدة عليها، فلا خلاف فيه، وورد النص به قال الله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤمِنَاتُ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسَّوهُنَّ..} الآية.
وقلنا إن خلا بصبية لا يصلح مثلها للجماع، لم يستحب تزويجها إلا بعد انقضاء العدة؛ لأنه لم يثبت وجوب العدة؛ لأن العدة تعلقت بالدخول، والدخول هو الوطء، والخلوة تعلقت بمن يصلح للجماع على ما بيناه في كتاب النكاح، فإذا خلا بها وهي لا تصلح للجماع، لم يكن لتلك الخلوة حكم، فلم يجب أن يحكم بوجوب العدة؛ إذ هي كأنها لم يخل زوجها بها حكماً، ووجه الإستحباب أنها قد استحل منها ماهو محرم على غيره من الخلوة بها فشابه حكمها حكم التي تصلح للجماع، فلم يستحب تزويجها إلا بعد إنقضاء العدة، وهذا يجب أن يكون في التي يُشتهى مثلها، دون من لها أشهر، أو سنة، أو سنتان؛ لأن مثلها لايحرم النظر إلى جسدها، ولا الخلوة بها، وإنما يحرم ذلك ممن يشتهى مثلها.
وقلنا إن عدة المختلعة كعدة سائر المطلقات؛ لأن المختلعة عندنا مطلقة؛ إذ قد دللنا على أن الخلع طلاق، وقال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأّنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، على أني لا أحفظ فيه خلافاً.
مسألة: [في عدة أم الولد]
__________
(1) في (أ): استحب.
(2) انظر الأحكام 1/424 ـ 425.
(3) انظر المنتخب 146 ، 158.
(4) انظر المنتخب 129 ولفظه: قلت: فإنها مثلها ليس يصلح للجماع، وقد خلا بها هل يجب عليه المهر والعدة؟ قال: نعم.
قال: ولو أن رجلاً أعتق أم ولده، أو مات عنها، استبرأ رحمها بحيضتين، والثلاث أولى أن تعتد بها إن كان مات عنها، فإن كان أعتقها، ثم تزوجها، ثم مات عنها، كانت عدتها كعدة غيرها من النساء. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1). (57/29)
وتحصيل المذهب أن عدتها الواجبة بالعتق، أو الوفاة، حيضتان، وحكى أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى مثل هذا القول عن مكحول، وأبو حنيفة يجعلها ثلاث حيض، والشافعي يجعلها حيضة واحدة.
ووجه ما ذهبنا إليه: أنه قد ثبت أن عدتها جارية مجرى الإستبراء دون العدد، وقد ثبت أن الإستبراء يكون بحيضتين، حيضة للبائع، وحيضة للمشتري وهذا مما سلف القول فيه في مسألة الإستبراء، فيجب على ذلك أن يكون بين وطء المالك لها، ووطء الزوج حيضتان، وإذا ثبت ذلك ثبت أن مَن وليَ العتق، أو الوفاة، أو الوطيء منهن يلزمها بحيضتين، وإذا ثبت ذلك فلم يفصل أحد بينهما وبين من يلي العتق أو الوفاة فوجب أن يكون ذلك حكم إستبراء جميعهن، وإنما قلنا إن حكم عدتهن حكم الإستبراء؛ لأنه متعلق بزوال الملك، ومن حكم العدة أن تجب للفرقة الطارئة على النكاح، أو الوطء يحصل من شبهة، ويمكن أن يحرر القياس فيه فيقال: لما كان إستبراء الرحم يتعلق بزوال ملك يمين مستقر في الإسلام، وجب أن يكون بين الوطئين الواقعين في ملكين حيضتان، وأيضاً لا يلزمها عدة الوفاة لزوال الملك، فوجب أن لا يلزمها عدة الطلاق، دليله المبيعة.
فإن قيل: روي عن علي السلام أنه قال: تعتد ثلاث حيض.
قيل له: هو وجه الإستحباب عندنا، فأما إذا أعتقها، وتزوجها، ومات عنها، فلا خلاف أنها تعتد أربعة أشهر وعشراً؛ لأنها زوجة، وكذلك لو طلقها يجب أن يلزمها عدة المطلقة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/474.
كتاب الظهار [والإيلاء واللعان] (58/1)
باب القول في الظهار
[مسألة: في كيفية الظهار]
إذا ظاهر الرجل مِن امرأته، وهو أن يقول لها: أنت عليَّ كظهر أمي، أو كبطنها، أو كفرجها، أو كرجلها، أو كساقها، أو كفخذها، أو يقول: كأمي، ونوى بذلك الظهار، ثم أراد مماستها، وجبت عليه الكفارة قبل مماستها، وهذه الجملة تنطوي على ثلاثة مسائل:
المسألة الأولى: أن الرجل يكون مظاهراً بأي شيء ذَكرَ من أمه، وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
والثانية: أنه لا يكون مظاهراً إلا أن ينوي الظهار، وهذا أيضاً منصوص عليه في (الأحكام) (2).
والثالثة: أن وجوب الكفارة يتعلق بإرادة المماسة، وهذا مما خرَّجه(3) أبو العباس الحسني رضي الله عنه من قوله في (الأحكام) (4): ((من ظاهر من امرأته فلا يحل له مداناتها إلا من بعد أن يكفر))، فنبه على أن التكفير لإستباحة وطئها، وعليه حمل رحمه الله تعالى العود المذكور في الآية.
المسألة الأولى [فيا ينعقد به الظهار]
ذهب الشافعي فيها إلى مثل قولنا، وقال أبو حنيفة: الظهار أربعة أشياء: الظهر، والبطن، والفرج، والفخذ.
ووجه ما ذهبنا إليه أنهم لما أجمعوا على أن الرجل قد يكون مظاهراً بذكر الفرج والبطن كما يكون مظاهراً بذكر الظهر، وعلى أن حكم الظهار غير مقصور على الظهر على ما يقتضيه الإشتقاق، ثبت أنه يجب أن يشيع في ذكر أي بعض من أبعاض الأم، فصح ما ذهبنا إليه، إذ ليس شيء من أبعاضها أولى بذلك من سائرها، ويكون تحرير القياس فيه بأن يقال قد ثبت أن الرجل إذا قال لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي من أنه يتعلق به حكم الظهار، فكذلك إذا شبهها بسائر أبعاض أمه، والمعنى أنه شبهها ببعض من أبعاض أمه.
فإن قيل: إن العلة في ذلك أنه شبهها ببعض من أبعاض الأم يحرم عليه النظر إليه؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/433.
(2) انظر الأحكام 1/433.
(3) في (ب): أخرجه.
(4) انظر الأحكام 1/429.
قيل له: هذا غير مناف لعلتنا، بل الإقتصار عليه يقتضي المنع من القياس، فصار إعتلالنا أولى، على أن جميع أبعاض الأم قد اشتركت في أنه يحرم على الإبن التلذذ به، فوجب أن يخص حكم الظهار بذكر جميع أبعاضها؛ لأن الظهار يقتضي التحريم، فإذا شبهها الرجل بما هو محرم عليه من أمه، وجب أن يكون لتعلق حكم الظهار به مسرح على أنهم لا يختلفون في أن قول الرجل: أنت عليَّ كأمي(1) يجوز أن يكون ظهاراً، ولا يصح القول بأن الرجل يحرم عليه النظر إلى أمه، فبان أن الحكم غير مقصور على ما ذهبوا إليه. (58/2)
ومما يؤكد ذلك ماقد ثبت أن الظهار لا يكون بذكر كل محرم على الرجل، وإنه إذا ذكر المحرم عليه من أمه، كان مظاهراً بأي بعض ذكر من المرأة، كأن يقول: رأسك، أو /172/ يدك أورجلك عليَّ كظهر أمي؛ إذ قد نص في ذلك في العتاق، وسنبين الكلام في ذلك في كتاب العتاق.
وأما المسألة الثانية [في اشتراط نية الظهار]
فهي أنه لا يكون مظاهراً ألا بأن ينويه، وما ذكرناه من الدلالة على أنه لا يكون مُطَلِّقاً إلا بالنية، يدل على أنه لا يكون مظاهراً إلا بالنية، وكذلك إتفاقهم على أنه لا يكون مظاهراً إذا ذكر كنايات الظهار، كقوله: أنت عليَّ كأمي إلا بالنية، يدل على ما ذكرناه، وقد بيَّنا الطريقة فيه في مسألة نية الطلاق واستقصيناه، فلا وجه لإعادته.
المسألة الثاثة [في وجوب الكفارة بم يتعلق]
وأما القول بأن وجوب الكفارة يتعلق بإرادة المماسة، وأن قول الله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ}، متأول عليه، فهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وحكي نحوه عن الحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير، وكذلك روي عن ابن عباس.
__________
(1) في (أ): كظهر أمي.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن علي، حدثنا علي بن الهيثم، عن المسيب بن شريك(1)، عن ثابت بن ضمرة اليماني، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ}، قال يريد أن يجامعها قبل أن يكفر. وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد القول زماناً يمكنه تحريمها بالطلاق، وتحصيله أنه لا يطلقها عقيب القول مع التمكن، وحكي عن مجاهد أنه تأول العود على نفس اللفظ، وقال: إن المراد به العود إلى ما نهي عنه مما كانوا يقولونه في الجاهلية، وحكي عن مالك أن العود هو الوطء، وحكي عن داود أنه حمله على إعادة القول مرة أخرى. (58/3)
__________
(1) في (أ): المسيب وشريك.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه في هذا الباب أنه مروي عن ابن عباس على ما بيناه، ولم يرو خلافه عن أحد من الصحابة، فجرى مجرى الإجماع، فوجب أن يُقضى بصحته، ويدل على ذلك قوله سبحانه: {فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، فنبه به على أن الكفارة ترفع التحريم الواقع، وهو تحريم الوطء، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن وجوبها إنما هو لرفع ذلك التحريم، ومما يبين فساد ما ذهبنا إليه الشافعي فهو أن الظهار لا يؤثر في النكاح، وإنما يؤثر في تحريم الوطء، فكان الواجب أن تكون الكفارة لإزالة تأثير الظهار، دون مالا يتعلق الظهار به، ولا تأثير له(1) فيه، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن يكون وجوبها لإزالة التحريم للإستمرار على النكاح الذي لم يؤثر فيه الظهار، وإذا ثبت ذلك، ثبت ما ذهبنا إليه من أن الكفارة تجب لإستباحة المماسة إذا أرادها بعد الظهار، ومما يدل أيضاً على فساد قول الشافعي قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}، و((ثم)) في لغة العرب موضوع للتراخي، فعلق سبحانه الكفارة بأمر يتراخى، والإمساك الذي ذهب إليه الشافعي يلي الظهار، فأوجب الظهار تعلق الكفارة بغير الإمساك، على أن الله تعالى أوجب الكفارة بعد العود، وامساك المرأة وترك طلاقها لا يسمى في اللغة ولا في العرف عوداً. (58/4)
فإن قيل: فأنتم أيضاً لا توجبون الكفارة بنفس ما جعلتموه عوداً، وإنما تمنعون وطأها حتى يكفر.
__________
(1) في (أ): تأثير فيه.
قيل له: الظاهر يقتضي ذلك؛ لأن قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ}، مثل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، وقوله تعالى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}، فكما أن الطهارة لزمت من أراد الصلاة قبل الصلاة، والصدقة قد لزمت لمن أراد المناجاة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل المناجاة، فكذلك كفارة الظهار تلزم من أراد الوطء قبل الوطء؛ لأن تقدير الآية من أراد المماسة فليكفر قبل المماسة، كتقدير آية الطهارة، وآية الصدقة. (58/5)
وأما ماحكي عن مجاهد، فالظاهر يقتضي خلافه؛ لأن الله تعالى فصل بين الظهار وبين العود بثم، فالظاهر أنهما أمران منفصلان يتراخى الثاني عن الأول، وهو يجعلهما أمراً واحداً.
وما حكي عن مالك أيضاً يقتضي الظاهر خلافه؛ لأن الله تعالى أوجب الكفارة بعد العود، وقبل المسيس، بظاهر قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قُالُوا /173/ فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ}، فما يجب أن يكون الكفارة بعده لا يجوز أن يكون هو الذي يجب تأخره عن الكفارة، على أنه لا خلاف بينا وبين الشافعي أنه لو ظاهر، ثم طلق، لم تلزمه الكفارة، فكذلك إذا لم يطلق، والمعنى أنه مظاهر لم يرد مماسة زوجته.
وكذلك ما حكي عن داود فظاهر الفساد؛ لأنه لم يُحكَ عن أحد من السلف، ولأن قوله يظاهرون من نسائهم ينطلق على من ظاهر مرة، أو ظاهر مراراً، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن الكفارة وجبت لأمر سوى الظهار؛ لأنه تبارك وتعالى قال: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3]، فأثبت عوداً غير الظهار به يتعلق وجوب الكفارة، على أن ماروي من حديث أوس بن الصامت، وسلمة بن صخر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهما بالكفارة من غير أن يسألهما(1) هل أعدتما القول، وجعل ذلك شرطاً فيما ألزمهما دليل على أنه لا إعتبار به، على أن الظاهر لا يقتضي ما قالوه؛ لأن قائلاً لو قال: حرَّم فلان كذا على نفسه، ثم عاد لما حرَّم، لم يعقل من ظاهر قوله تكرير لفظ التحريم، وإذا ثبت أن الظاهر لا يقضيه، وجب أن يرجع إلى ما سواه، فكان أولى الوجوه ما ذكرناه على ما بيناه ورتبناه. (58/6)
مسألة: [في بيان كفارة الظهار]
قال: والكفارة أن يعتق رقبة، فإن لم يجد، صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع، أطعم ستين مسكيناً من المسلمين، ثم يحل له من بعد ذلك مداناتها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2). وهذه الجملة مما لا خلاف فيها.
والأصل فيه قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ..} [المجادلة:3]الآية.
__________
(1) في (ب): سألهما.
(2) انظر الأحكام 1/429، 430/ 258، 259.
وروي أنها نزلت في شأن خولة بنت مالك، وقيل: خويلة، وقيل: جميلة، رواه يحيى عليه السلام في (الأحكام) (1) وأبو داود في (السن) (2) بألفاظ مختلفة، وروى أنها كانت تحت أوس بن الصامت فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: ظاهر مني زوجي أوس، وشكت حالها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وإله وسلم: (يعتق رقبة، قالت: لا يجد، قال: فيصوم شهرين متتابعين، قالت: يا رسول الله، إنه شيخ كبير مابه ماصام، قال: فليطعم ستين مسكيناً، قالت: ما عنده شيء يتصدق به، قال: فإني سأعينه بعَرَق من تمر، قالت: وإني إعينه بعَرَق آخر، قال: أحسنت(3)، إذهبي فأطعمي عنه ستين مسكيناً، وإرجعي إلى ابن عمك) (4). (58/7)
__________
(1) انظر الأحكام 1/426، وقال: إنها خولة بنت ثعلبة، وهي خولة بنت مالك ابن ثعلبة.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 2/272 ـ 275، وفيه روايات هي خولة وروايات هي جميلة.
(3) في (أ): قد أحسنت.
(4) أخرجه أبو داود في السنن 2/273.
وروى أبو داود في (السنن) وغيره حديث سلمة بن صخر قال: كنت إمرأً أصيب من النساء مالا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان، خِفت أن أصيب من امرأتي شيئاً، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فلم ألبث حتى نزوت عليها، فلما أصبحت، انطلقت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته، فقلت له: أنا صابر لأمر الله فأحكم فيَّ بما أراد الله تعالى، قال: ((حرر رقبة)). قال: والذي بعثك بالحق نبياً ما أملك رقبة غيرها، وضربت صفحة رقبتي. قال: ((فصم شهرين متتابعين)). فقال: فهل أصبت إلا في الصيام! قال: ((فأطعم وسقاً من تمر ستين مسكيناً))، قلت: والذي بعثك بالحق نبيئاً لقد بتنا ومالَنا طعام. قال: ((فانطلق إلى صاحب الصدقة، فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكيناً))، وفي بعض الحديث: ((فكل أنت وعيالك بقيته)) (1). (58/8)
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده ، عن علي عليهم السلام في كفارة الظهار مثل ذلك.
وإختلفوا في الإطعام، هل يجوز أن يصرف إلى أهل الذمة، فأجازه أبو حنيفة، ومنعه الشافعي، وهذا قول الهادي عليه السلام.
ووجه ذلك ما أجمعوا عليه من أن الزكاة لا يجوز وضعها في أهل الذمة، فكذلك الكفارات، والعلة أنها صدقة مفروضة، وكل صدقة مفروضة لا يجوز صرفها إلا في أهل الإسلام، وهو أولى؛ لأن فيه الإحتياط للمؤدي، وللفقراء، /174/ المسلمين.
وقوله في (الأحكام) (2) بعد ذكر الكفارات الثلاث: (ثم تحل له امرأته بعد ذلك)، يدل على أنه يوجب تقديم الإطعام كما يوجب تقديم العتق والصيام، وهو قول أكثر الفقهاء.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/272 وفيه: فأخبرته فقال: أنت بذاك يا سلمة، قلت: أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابرٌ.
(2) انظر الأحكام 1/429.
وحكى ابن أبي هريرة في (التعليق) عن قوم أنهم ذهبوا إلى أنه يجوز الوطء قبل الإطعام؛ لأن الله تعالى لم يشترط في الإطعام أن يكون قبل المسيس كما اشترط في العتق والصيام، وهذا غير صحيح، وذلك أنه قد ثبت أن الكفارة إنما وجبت لرفع التحريم الواقع بالظهار، فالتحريم حاصل حتى تحصل الكفارة إطعاماً كان أو غيره، على أنه لا خلاف في وجوب تقديم العتق والصيام على الوطء، فكذلك تقديم الإطعام، والعلة أنها كفارة الظهار فيجب تقديمها على الوطء. (58/9)
فصل: [فيمن لم يجد الرقبة]
قال في (الأحكام)(1): (فإن لم يجد رقبة، صام شهرين متتابعين من قبل أن يدنو منها، أو يكون منه جماع) فدل ذلك على تحريم المباشرة، والتلذذ بها قبل الكفارة، كما يرى تحريم الوطء؛ لأنه فصل بين المداناة والجماع، فبان أن التحريم تناول غير الجماع، وبه قال أبو حنيفة.
قال أبو علي بن أبي هريرة: اختلف أصحاب الشافعي فيه، فمنهم من قال: إنه على قولين، ومنهم من قال: قول واحد في الإستحباب دون الإيجاب.
ووجه ما ذهبنا إليه أن تحريم الظهار تحريم حصل بقول من الزوج يمكنه رفعه، فوجب أن يحرم به الوطء وتوابعه، دليله تحريم الطلاق الرجعي، وليس يجب أن يكون حاله حال التحريم المتعلق بالحيض، أو الصوم؛ لأنه لا يتعلق بقول من الزوج، يؤكد ذلك أنه لَمَّا شبهها بالأم، وجب أن يحرم عليه وطؤها، كما حرم عليه وطء الأم، فوجب قياساً على ذلك أن يحرم عليه التلذذ بها كما حرم عيله التلذذ بالأم، ويمكن تحرير العلة فيه بأن يقال: هو تلذذ لا يستباح إلاَّ بعقد النكاح، أو ملك اليمين.
مسألة: [في صفة الرقبة]
__________
(1) انظر الأحكام 1/429.
قال: ويجب أن تكون الرقبة التي يعتقها مؤمنة، بالغةً، أو غير بالغة، نحو أن يكون طفلاً، أو مجنوناً، ولايجوز أن تكون كافرة، ولابأس أن يكون مكفوفاً، أو أعرج، أو أشل، أو أخرس، والأفضل أن يكون سليماً بالغاً مسلماً. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1). (58/10)
ووجه قولنا: إنه لا يجوز عتق الكافر قول الله سبحانه وتعالى(2): {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِيْنَ وَاغْلُظْ عَلِيْهِمْ}، وهو أن الله تعالى مدح الذين اشتدوا عليهم، فقال سبحانه: {أَشِدَاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وقد علمنا أن التحرير خلاف الغلظة والشدة عليهم فوجب ألاَّ يكون تحريرهم مأموراً به، فبان أن المأمور بتحريره من لا يكون كافراً، ويدل على ذلك: ما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن عليَّ رقبة، أفأعتق هذه؟ فامتحنها بالإيمان، فقال: (إعتقها فإنها مؤمنة) دل ذلك على أن الإيمان سبب إجزاء العتق في البالغ العاقل، ويدل على ذلك أن الكفارات يجب أن تكون قربة، وثبت أن عتق الكافر لا قربة فيه، فوجب أن لا يكون المعتق له مُكَفِّراً.
فإن قيل: ولم ادعيتم أن عتق الكافر لا قربة فيه؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/430 ـ 431 والأحكام 2/177.
(2) في في (ب): سبحانه.
قيل له: لأنا قد علمنا من دين المسلمين أنه لاقربة في أن يُهدَى إلى من يقصد لقطع الطريق، أو محاربة الطائفة من المحقين المؤمنين، ما يستعان به على السفر من الظَهر، والزاد، وما جرى مجراهما، بل يذم من فعل ذلك، وكذلك لا قربة في أن يُهدى إلى قوم قد اجتمعوا على المعاقرة، والعزف، والإبقال، والفواكه، وآلات الشرب، وكذلك لا قربة في أن يهدى إلى الزواني اللواتي شغلن أنفسهن بالزنا، والطيب، والمصبغات، وآلات الزينة، والعلة في جميع ذلك أنه إحسان إلى من يغلب في الظن أنه يستعين به على الفسق، أو الكفر، فوجب أن لا يكون في عتق الكافر الذي يغلب في الظن أنه يستعين بعتقه على الكفر. (58/11)
فإن قيل: من أين غلب ذلك في الظن؟
قيل له: تقرير المسألة في عبد كافر يغلب في الظن أنه /175/ يستعين بعتقه إن حصل على كفره، فإذا ثبت ذلك، فلم يفصل أحد بينه وبين سائر العبيد الكفار.
ومما يدل على ذلك أنه لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن عتق الكافر لا يجزي في كفارة القتل، فكذلك في سائر الكفارات، والعلة أنه عتق للكفارة، ويؤيد ما ذهبنا إليه أنه أحتياط في أداء الواجب، وحسن نظر لأرقاء المسلمين، وتفرقة بين أصحاب النار وأصحاب الجنة، وفيه دعاء للأرقاء إلى الإسلام، وتنفير لهم عن الكفر.
فأما قولهم: إن هذا زيادة في النص فلا يجوز إثباته قياساً، فهو عندنا غير صحيح؛ لأنا نخالفهم في أصل ما ادعوه، وربما قالوا أيضاً: لا يجوز حمل المطلق على المقيد قياساً، وهذا عندنا أيضاً فاسد كالأول، فلا معنى له.
وإنما قلنا: إن عتق الطفل، والمجنون، وذي العاهة، يجزي لعموم قوله تعالى: {فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ}، واسم الرقبة يتناول الجميع، فوجب أن يجزي، وسائر ما منعنا به من اجزاء عتق الكافر لا يمكن أن يقال في هذا الموضع، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اعتقها فإنها مؤمنة)، يدل على أنه لم يراع فيها العاهات التي هي العمى والشلل ونحوهما، فدل ذلك علىما قلناه، على أنه لا خلاف بينا وبين أبي حنيفة أن الأعور يجزي، وكذلك من قطعت يده ورجله من خلاف، فكذلك سائر ما ذكرناه، والعلة أن اسم الرقبة يتناوله، على أن الشافعي يوافقنا في الأخرس، والأصم، والأحمق والضعيف(1) البطش، والأعور، وإن كان لا يجيز من قطعت يده أو رجله، فليس لأحد أن يعترض علينا بنقصان الثمن؛ لأن جميع ذلك يفسد اعتراضه، كذلك من منع من ذلك بفوات المنفعة، فإن الذي ذكرناه يعترضه. (58/12)
فإن قال: راعى فوات أكثر المنفعة، كان كثيرها مقيساً على قليلها، ولا يمكن أن يرد ذلك إلى الأضحية، لأن الغرض بالأضحية نفع غير المضحي به، والغرض في العتق نفع المعتق والمعتق على أي حالة كان فنفع العتق حاصل له، على أن ذا العاهة إلى رفع الرق عنه أحوج من الصحيح، فوجب أن لا يكون ذلك سبباً مانعاً من الإجزاء، على أنه لا خلاف أن يقع الإطعام في كفارة الظهار جائز صرفه إلى أولي العاهة من المسلمين، فكذلك يقع العتق، والمعنى أنهم من أهل الإسلام، وهذا يوجب إجازة عتق المكفوف، والأشلَّ، وإذا ثبت ذلك، فلم يفصل أحد بينه وبين المجنون والطفل، ولم يحكم لهما بالإسلام. وقلنا: إن الأفضل أن نكون الرقبة بالغاً مسلماً سليماً؛ لأنه لا خلاف فيه، ولأنه عتق يجزي بالإجماع، فكان أولى، ولأن الإحسان إلى من يكون مسلماً على الحقيقة أفضل من الإحسان إلى غيره.
مسألة: [في الظهار بغير الأم]
__________
(1) في (أ): ضعيف البطش.
قال: وإن ظاهر بغير الأم، لم يكن ظهاراً، وكذلك لا يكون فظاهراً إن ظاهر من أمه من الرضاعة(1). (58/13)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب)(3).
__________
(1) في (أ): من الرضاعة وغيرها من ذوي محارمه، وغيرهما من ذوي محارمه، لم يكن مظاهراً، وهو أحد قول الشافعي وقوله الأخير يصح بكل ذات محرم من نسب أو رضاع، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والأوزاعي والحسن بن صخر، وعن مالك يصح الظهار بالمحرم والأجنبية، وبه قال عثمان البتي.
(2) انظر الأحكام 1/433.
(3) انظر المنتخب 158 ـ 159.
والأصل فيما ذهبنا إليه براءة الذمة وإن وطء المرأة مباح فلا يحظر إلا بدلالة، وأنه لا سبيل إلى إثبات الكفارة إلا بدلالة شرعية ومما يدل على ذلك أيضاً قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمُّهَاتُهُمْ}(1) [المجادلة:2]، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللآئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمُّهَاتِكُمْ}، وجه الإستدلال من الآيتين أن قوله تعالى: {الَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمُّهَاتُهُمْ} [المجادلة:2]، تقديره الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم، وكذلك قوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللآئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمُّهَاتِكُمْ}، ألا ترى أن قائلاً لو قال: اقطع السارق، فما كان له أن يهتك الحرز، جرى مجرى قوله: اقطع السارق من حرز، وكذلك لو قال: اقتل الراجع عن دينه، فما كان له أن يرجع عن دين الإسلام، جرى مجرى قوله: اقتل الراجع عن دين الإسلام، حتى يكون السكوت عن ذكر الحرز في القطع وذكر الإسلام في القتل، كالنطق به لما /176/ يعقبهما من ذكر الحرز والإسلام، وكذلك قوله تعالى: {الَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}، السكوت عن ذكر الأمهات فيه، كالنطق به؛ لما يعقبه من ذكر الأمهات، وكذلك في قوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللآئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمُّهَاتِكُمْ}، وقد دل سبحانه وتعالى بقوله: {إِنِ امُّهَاتِهِمْ إِلاَّ اللآئِي وَلَدْنَهُمْ}، أن الأمهات التي يتعلق الظهار بذكرهن هن الوالدات دون غيرهن، فإذا ثبت ذلك، جرى قوله: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}، مجرى أن يقول: والذين يظاهرون من نسائهم بأمهاتهم اللآئي ولدنهم، فوجب أن يكون حكم الظهار مقصوراً عليهن دون من سواهن على ما بيناه. (58/14)
__________
(1) في (أ): إلى قوله: {إلا اللائي ولدنهم}.
ومما يدل على ذلك أن المظاهر قد صار من طريق العرف في اللغة اسماً لمن يقول لزوجته أنت عليَّ كظهر أمي دون من سواها؛ لأن العرب لم تكن تعرف الظهار إلا بالأم، وإذا كان للفظ، عُرْف، ثم ورد به خطاب الله تعالى، وخطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وجب أن يحمل على ما يقتضيه العرف، وإذا ثبت ذلك، وجب أن يكون قوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}، بمنزلة أن يقول: يظاهرون من نسائهم بإمهاتهم؛ لإقتضاء العرف له، ألا ترى أن الزنى وإن كان في أصل اللغة اسماً للصعود في الجبل، فقد صار من طريق العرف اسماً للوطء المخصوص، فمتى ورد لله تعالى ولرسوله خطاب، وجب أن يحمل عليه. (58/15)
فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قالت له خولة بنت مالك: إن زوجي أويساً ظاهر مني، لم يقل لها:ظاهر بالأم؟ أم بغير الأم بل أوجب الكفارة فيه، فدل ذلك على أن الكفارة تعلق بالظهار، سواء كان الظهار بالأم أو بغيرها.
قيل له: قد بينا أن عرف اللغة قد اقتضى في الظاهر أنه اسم للظهار بالأم، وأن ذلك كان معروفاً في العرف، فحمله صلى الله عليه وآله وسلم حين سمعه على ما يقتضيه عرف اللغة؛ إذ هو المفهوم بظاهر اللفظ، فعلَّقَ الحكم عليه، ولم يستثبت(1) ما سألت عنه؛ إذ كان ظاهر اللفظ لا يقتضيه على ما بيناه، على أن الآية نزلت في حكمه، وحين شكت خولة أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما وردت به الآثار، وفي الآية ما يدل على أنه كان مظاهراً بالأم على ما أوضحنا القول فيه.
__________
(1) في (ب): يتثبت.
ومما يدل على ذلك أنه لا خلاف في أن من ظاهر بالأب لا يكون مظاهراً، فكذلك من ظاهر بامرأة أجنبية، فوجب أن لا يكون مظاهراً إذا ظاهر باللواتي إختلفنا فيهن، والعلة أنه ظاهر بغير الأم، يبين ذلك أنه لو ظاهر منها بغير الظهر، نحو أن يظاهر ببطنها، أو بفرجها، كان مظاهراً بالإجماع، وكذلك إن ظاهر بأي بعض من أبعاضها، كان مظاهراً عندنا وعند الشافعي، فدل ذلك على أن الحكم تعلق بالظهار بالأم. (58/16)
يؤكد ذلك ويوضحه أن الظهار المعروف كان بالأم، وهو الذي كانت الجاهلية تعده طلاقاً، ثم ورد النسخ به، وعلق عليه حكم الكفارة، فوجب أن يكون حكم الكفارة مقصوراً عليه.
فإن قيل: إذا كان عندكم أن الرجل يكون مظاهراً به إذا قاله ونوى به الظهار، فما الفرق بين الظهار والطلاق؟
قيل له: الفرق بين الظهار والطلاق، أن الطلاق يحصل بكل تحريم ينوي به الطلاق، وليس كذلك الظهار، ألا ترى أنه لا يقع الظهار بالأجنبية، وبالأم من الرضاعة، وأحد قولي الشافعي أنه لا يقع بذات رحم محرم لم يكن حرمتها متأبدة، فلم يجب أن يكون حكم الطلاق في هذا الباب حكم الظهار.
مسألة: [في الفرق بين ظهار الأحرار والممالك]
قال: وسواء كان المظاهر حراً، أو عبداً، إلا أنه إن(1) كان عبداً لم يجزه في كفارته إلا الصيام، وكذلك لافصل بين أن تكون الزوجة التي ظاهر منها حرة، أو أمة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً.
والأصل فيه: ما قد ثبت من أن الخطاب الوارد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم يكون خطاباً للأحرار والمماليك، فوجب أن يكون قوله تعالى: /177/{وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}، متناولاً للأحرار والمماليك.
__________
(1) في (أ): إذا.
(2) انظر الأحكام 1/462، والأحكام 2/181.
وقلنا: إنه لا يجزي العبد في كفارته إلا الصيام؛ لأنه قد ثبت عندنا إنه ممن لا يَملك، فهو إذاً لم يجد الرقبة(1)، وقد قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مَتَتَابِعَيْنِ}، فأوجب الصيام على المظاهر إذا لم يجد الرقبة، والعبد لا يجد الرقبة، وكذلك لا يجزئه الإطعام؛ لأنه غير واجد له، فوجب أن لا يجزئه إلا الصيام. (58/17)
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إنه يجوز لسيده، أو لغيره، أن يتصدق عنه، كما يجوز التصدق عن الفقير بأمره؟
قيل له: لأن الفقير ممن يجوز أن يَملك، فيجوز أن يكون مخاطَباً بالصدقة، وجازت فيها النيابة، والعبد ممن لا يجوز أن يملك، فلم يصح أن يكون ممن يخاطَب بالصدقة.
وقلنا: إنه لا فرق بين أن تكون الزوجة التي ظاهر منها حرة أو أمة لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ}[المجادلة:3]،يريد الزوجات، فلم يخص حرة من أمة، ولأن الأمة كالحرة إذا كانت زوجة في أن طلاقها يصح، فوجب أن يصح الظهار منها، والعلة أنها زوجة، ويكشف(2) ذلك ويوضحه أن تحريمها من جهة القول يمكن، كما يمكن تحريم الحرة.
مسألة: [في ظهار الرجل من أم ولده أو مملوكته]
قال: ولوظاهر الرجل من أم ولده، أو مملوكته، لم يكن ذلك ظهاراً. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3) وبه قال زيد بن علي عليهما السلام، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وروي عن مالك أنه يكون مظاهراً. والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}، وإذا قيل: نساء الرجل، وامرأة الرجل، كان ذلك ومحمولاً على الزوجات عرفاً، فوجب أن يحمل على ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةُ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، فدخل فيهن الزوجات، والإماء؟
__________
(1) في (ب): والعبد لا يجد الرقبة.
(2) في (أ): يكشف.
(3) انظر الأحكام 1/462.
قيل له: ظاهر الآية في الزوجات والإماء يدخلن فيهن بالدلالة، ويدل على ذلك أيضاً أنها ليست بزوجة يلحقها الطلاق، فوجب أن لا يلحقها الظهار، دليله الأجنبية، أو يقال: لايلحقها الطلاق، فوجب أن لا يلحقها الظهار، دليله زوجة الصبي، أوالمختلعة، والمطلقة ثلاثاً، يوضح ذلك أن الظهار كان طلاق الجاهلية، فنسخ ذلك بتحريم يرفعه الكفارة، فمن لم يصح فيها الطلاق، لم يصح فيها الظهار. (58/18)
ويدل على ذلك أيضاً أن تحريم ملك اليمين لا يصح من جهة القول؛ لأنه إذا قال: أنت عليَّ حرام، لم يؤثر فيها، فوجب أن لا يلحقها تحريم الظهار، دليله الثوب والطعام، يبين(1) ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه حرم على نفسه مارية القبطية، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيَّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}، ولم يجعل لذلك التحريم حكماً.
مسألة: [في الحلف بالظهار]
قال: وإذا حلف الرجل بالظهار كاذباً، أو حنث فيه، وقع الظهار كما يقع الطلاق. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2).
__________
(1) في (أ): ويبين.
(2) انظر الأحكام 1/462.