الكتاب : سيرة أبي طير المؤلف : المحقق : عبد الله بن عبد الله بن أحمد الحوثي الناشر : (مؤسسة الإمام زيد بن علي(ع) الثقافية) |
سيرة الإمام
أحمد أبي طير
تحقيق
عبد الله بن عبد الله بن أحمد الحوثي
مقدمة المؤلف
قال السيد العلامة شرف الدين يحيى بن القاسم بن يحيى رضي الله عنه: هذا مبتدأ سيرة مولانا الإمام المطهر الأفضل الهمام، الجواد المكرم المعظم الفهام، العلامة النجيب الأشرف الحسيب، المجاهد الصابر، الورع، المرابط، المثاغر المهدي لدين الله، البائع نفسه من الله، الناصر لأولياء الله، نور حنادس الظلم، ناعش الإسلام، غياث الأمم، ماضي السيف والقلم، المخصوص بالوداد في قلوب المؤمنين من العباد، ناصر دين الله حيث قل ناصره، وعضده حين قل مؤازره، المحيي لسنة جده خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وأفضل الأولين والآخرين، إمام الأمة، حليف القرآن، رضيع أخلاق الإيمان، ذي الفضائل التي تكسو هالة الشمس ضياء، ووجه البدر نوراً، طاهر النشأة، ينبوع البركة، أمير المؤمنين، معز الإسلام والمسلمين، الصادع بالحق المبين: أحمد بن الحسين بن القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم الدين، وأول تعليقها لليالي خلت من شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين وستمائة للهجرة النبوية المحمدية، وكان ابتداء تعليق هذه السيرة بحصن ثلاء المحروس بالصالحين والأخيار.
(منهج المؤلف)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: أستخير الله وأستهديه وأسترشده، وأتوكل عليه، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأسأله تعالى أن يعصمني من الخطل والزلل، وأن يصرفني عما لا يرضيه من القول والعمل، فقلما سلم من سلك في هذه المسالك من طاعن يتبع العثرات، ويحصي الفلتات في اختلاف الروايات والأقاويل الشاذات، والتاريخات المتباينات، على أني لا أروي إلاما شاهدتة أو سمعته أو نقله إليّ الثقات، أو نقلته من كتب أمير المؤمنين المهدي لدين الله المسطورات في الرسالات والبلاغات، فإن أشكل علي لفظ معنى أو شذ عن خاطري شيء كنت سمعته وأنسيته فأضطر إلى وضعه، فإني أقول فيه أوكما كان أو كما روي، كل ذلك خوفاً لله وفراراً من الكذب الذي يشين المنطق ويغضب الرب: {وما أبري نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} وهكذا تعليق سيرة المتقدمين، ولاطريق نعرفه إلا كذلك، مع أني قد أذنت لكل ثقة من أهل الدراية والتحقيق، فالثقة والديانة والأمانة ممن لم يتبع الهوى ولاينظر إلى لعاعة الدنيا أن يصلح ما عثر عليه من خلل أوفساد في لفظ أو معنى أو تحقيق رواية سمعها وسطرت خلاف ما رآها، فما لا يحتمل فائدة ولا يجوز فيه التكرار، فقلما سلم كلام البشر من الخطأ والزلل إلا كلام من عصمه الله من خلقه وبالله التوفيق.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه وأرضاه بعد هذه الترجمة: الحمد لله الذي نور قلوبنا بأنوار الهداية، وأسبل علينا شآبيب التوفيق في البداية والنهاية، واستنقذنا بكرمه وفضله من السلوك في مدارج الضلالة والغواية، بما منحنا من التمكين والتبيين ونصب لنا من الأدلة والبراهين، وأوضح لنا من الحجة وخلق فينا من القدرة، وأزاح عنا كل علة، وأرسل إلينا الرسل المؤيدين بالمعجزات الباهرات، الصادعين بالحجج البينات إتماماً منه تعالى للنعمة، وقطعاً للمعذرة : {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له الواحد الفرد القديم، الرحمن الرحيم المتعال عن شبه الأشباح والأرواح، المنزه عن الصور والكيفيات، المتقدس عن صفات المحدثات، العدل الحكيم، المنعم الكريم تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأوضح الحجة، ولجب المحجة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، الذي كشف بشريعته كل ملتبس، وجدد من رسوم دين الله كل مندرس، لم يمنعه عن إبلاغ الرسالة تهكم المتهكمين، ولا إرهاب المتمردين، صلوات الله عليه وعلى آله ما ذر شارق وأثلق بارق.
وأشهد أن الخليفة بعده بلا فضل أمير المؤمنين قاتل الناكثين والمارقين والقاسطين، ذو الخصائص والمنازل، والمناقب والفضائل، باب مدينة العلم المهتصر من دوحة الكرم، أخوه وابن عمه، وكاشف الكرب عن وجهه، المبلغ عنه كلام الله إلى عباده، أسد الله يوم النزال، القامع عن دينه كل ضلال علي بن أبي طالب بن عبد المطلب[2أ-أ] صلوات الله عليه وعلى زوجته المطهرة، وأم الكرام البررة.
وأشهد أن الإمام بعده سبطه الحسن ثم الحسين ريحانتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيدي شباب أهل الجنة بالنص من الله تعالى عليه وعليهما حكم من الله لهم يجب إنفاذه، وأمر منه يجب امتثاله، وأشهد أن الإمامة بعد أمير المؤمنين وولديه -عليهما السلام- محصورة في ولديهما وولدي ولديهما ما تناسلوا، المنتسبين إلى الحسن والحسين بآبائهم سلام الله عليهم أجمعين، وأن من قام فيهم مقامهما وسلك سبيلهما، ودعا إلى الله والجهاد في سبيله جامعاً لخصال الإمامة مضطلعاً بأعباء الزعامة أنه إمام حق يجب على الأمة إجابة دعوته، والمسارعة إلى نصرته ومعاضدته، والالتزام بأحكامه، والتعظيم لشأنه، وأنه أفضل أهل زمانه وسيد أهل أوانه، لما خص الله به القائم من شرف الزعامة، وعظم شأن الخلافة التي هي تلو الرسالة إلى يوم القيامة، وبعد ذلك أشهد أن أهل البيت عليهم السلام أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لما خصهم الله من التطهير من دنس الأرجاس، واصطفاهم لأمر أمته من جميع الناس، وأشهد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير أصحاب وأعوان، وخواص وأخدان، الذين هجروا في سبيل الله الأوطان، وقطعوا الأرحام، وحموا حوزة الإسلام، والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه.
فصل
ولما كانت المعرفة بالإمامة من فروض الدين اللازمة، وأصوله الواجبة، وكان جديراً بها من أولاد السبطين عليهما السلام، المنتسبون إليهما بآبائهم من تردى ملابس الكمال، وجمع من خصال الشرف والفضل عدة خصال، قد أجمع العلماء الراشدون عليها وقضوا بوجوبها، وأضافوا سائر خصال الإمامة إليها من الذكورية والحرية والإسلام وكمال العقل، وهي أن يكون عالماً بما تحتاج إليه الأمة بحيث يجب أن يكون من أهل الاجتهاد، وأن يكون ورعاً عن المحرمات، بعيداً عن القاذورات، جواداً سخياً، متجنباً للإسراف والتبذير، يضع الحقوق مواضعها ولا يمنعها أهلها، صحيحاً في بدنه، سالماً من المنفرات، مضطلعاً بأمر الأمة، شجاعاً مقداماً ثابتاً في مواطن الجلاد والجهاد كما كان سلفه عليهم السلام وأن لايكون في زمانه إمام سابق كامل الخصال قد تقدمت دعوته ووجبت طاعته.
(فصل)
ولما كان مولانا الإمام الصوام القوام، العالم الهمام، غياث الإسلام، صفوة الله من جميع الأنام، ثمال المرملين والأيتام، ذو الحسب الشريف، والمنصب الباذخ المنيف، أمير المؤمنين المهدي لدين الله رب العالمين أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن عبد الله بن القاسم بن أحمد بن أبي البركات إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن إبراهيم[2ب-أ] بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعلى آبائه الأكرمين، قد انتجبه الله من أكرم عنصر وانتمى، واستخلصه من الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، فاستولى على أقطار المجد وغاياته، وتسنم ذروة الكمال في جميع صفاته، وارتقى إلى سماء الفضل حتى بلغ أقصى المآرب، ونال من الشرف والعلى أقصى المطالب، ولم يزل يتبع المعالي في مقاصدها، ويجمع قاطنها وشاردها حتى برز إلى حيث يتحسر عن وصفه طوامح الأفكار، ويشهد له كل فاضل بالسبق في مضمار الإيراد والإصدار، فنظم أشتات الفضائل، وأخذ برقاب المحامد، فلم يدع فناً من فنون العلم حتى خاض لجة الزخار، واستخرج من عيون درره الأبكار، حتى كانت ألمعيته تحيط بجوامع الصواب، وتدور بكواكب السداد.
هيهات لا يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل
(فصل)
ونحن نذكر جملاً من مناقبه وخصائصه التي تفرد بها وبرز على غيره في مضمارها، فلنبدأ بنسبه الشريف، ثم مولده عليه السلام، ثم صفته، ثم نشأته، ثم خصائصه في العبادة والورع والزهد، ثم خصائصه في الكرم والسخاء، ثم خصائصه في حسن الخلق ثم في جودة رأيه وتوقد ألمعيته، ثم بذكر مناقبه في العلم، ثم مناقبه في ثبات القلب، ثم بذكر مناقبه في البلاغة، ثم بذكر حسن معاشرته لأهل زمانه حتى غلب على قلوبهم حبه، ثم نذكر جملاً من فضائله وبركاته، ثم نذكر السبب الداعي له إلى القيام، ثم نذكر دعوته العامة وبيعته، ثم نتكلم في سيرته على وجه الإجمال، نبدأ بأول سنة نذكر حوادثها فإذا انقرضت ذكرنا السنة التى بعدها وحوادثها سنة سنة حتى نأتي على مدة دولته إلى أن مضى شهيداً فائزاً بخصل السبق، مؤدياً لما أمر الله به في أمر الأمة، لا نستثني في ذلك إلا مشيئة الله سبحانه ولطفه وتوفيقه.
(فصل في نسبه)
هو في الظهور فلق الصباح، ونور الشمس، وضياء البدر، خفقت في أفق الشرف الباذخ ذوائبه، وطلعت بأنوار الفخار كواكبه.
للمصنف رضي الله عنه:
نسب علا فوق السماء فخاره
وتفرعت أغصانه من دوحة
أضحى به المهدي في أفق العلى
شرف تحجزه وفخر ناله
لا يزال يخفق فوقه علم الهدى
... وتربعت فوق النجوم مناصبه
وأطل فوق العالمين ذوائبه
بدر يمد من الذكاء كواكبه
يقضي بذاك وليه ومحاربه
وتحف بالنصر العظيم مواكبه
هو أمير المؤمنين وإمام المسلمين المهدي لدين الله رب العالمين: أحمد بن الحسين السيد الفاضل الورع ابن أحمد الطاهر الحسب النجيب ابن القاسم قدوة أهل عصره ابن عبد الله العالم العامل ابن القاسم [ 3أ- أ]الجواد ابن أحمد المفضال ابن إسماعيل أبي البركات ابن أحمد الزاهد التقي ابن القاسم المجاهد الرضي ابن محمد الإمام العلامة ابن القاسم أمير المؤمنين ترجمان الدين ابن إبراهيم الديباج ابن إسماعيل السيد الرضي ابن إبراهيم الشبه ابن الحسن الرضي ابن الحسن السبط ابن خليفة رسول الله بلا فصل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم وعلى الصفوة من أسباطه إلى يوم الدين.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: هذه ترجمة نسبه عليه السلام أخبرني عليه السلام أنه ما يعرف بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم من آبائه وأجداده إلا من هو فاضل تقي، وهذه من مناقبه الباهرة.
(فصل)
وأمه الشريفة الطاهرة المكرمة فطيم ابنة الشريف الفاضل الحسين بن علي بن سليمان بن القاسم بن علي بن القاسم الإمام العياني ابن علي بن عبد الله بن محمد بن الإمام ترجمان الدين أمير المؤمنين القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
(فصل)
أما أبوه الحسين بن أحمد فإنه كان فاضلاً عالماً عاملاً ورعاً زاهداً، مقصوداً للبركة، معروفاً بالفضل، قدوة في زمانه، سار إلى بيت الله الحرام امتثالاً لأمر ربه، وأمه هي أم أحمد ابنة ناصر بن أسعد بن الحسن بن أبي رزين العلامة المشهور ابن الحسن بن عبد الأعلى بن مسعود بن عبد الله بن بوسان بن الحارث بن حرب بن عبد ود بن وادعة من بيت شريف مشهور.
وأما جده أحمد بن القاسم فإنه كان من أعيان أهل الزمان، وأهل الفضل والإحسان، وكذلك القاسم بن عبد الله.
حاشية: دعا إلى الله وإلى إحياء كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بحران، ويكنى بالمنصور بالله، وكان من الأئمة السابقين، استقر ملكه في أكثر اليمن، وذلك قبل قيام الإمامين علي بن زيد من أولاد الإمام الهادي عليه السلام المقتول بشظب، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليهم السلام، وقد كان دعا قبله جده الإمام الكبير العالم الشهير ترجمان الدين القاسم بن أحمد بن أبي البركات إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن الإمام العلامة محمد بن القاسم الإمام ترجمان الدين إبراهيم بحران، وملك أكثر اليمن، وأعانه إخوانه الأمراء السادة الفضلاء ذو الشرفين محمد والقاسم ابنا جعفر بن القاسم العياني، وابن عمهم الحسين بن إبراهيم بن سليمان بن الإمام المنصور بالله القاسم بن علي بن عبد الله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام، وسليمان هذا هو العامر لثلاء أي للحصن، والآمر للناس بعمارة المدينة كذلك، وذكر صاحب سيرة الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام لما ذكر نسبه من أمهاته وهن جدات الإمام المهدي لدين الله عليه السلام أن أم عبد الله بن القاسم فاطمة بنت أبي البركات بن الحسين بن يحي بن علي بن القاسم بن محمد بن القاسم بن إبراهيم ترجمان الدين، وأن أم فاطمة هذه علوية من أولاد عمر بن علي بن أبي طالب، وذكر أن أم القاسم بن أحمد غاب عنه اسمها.
قال: وأما أم أحمد بن أبي البركات فهي أم سالم بنت الإمام القاسم بن علي [3ب-أ] بن عبد الله، وأما أمها فهي شريفة من أولاد القاسم بن محمد بن القاسم بن محمد بن القاسم بن إبراهيم ترجمان الدين، وأختها حسنة بنت القاسم بن علي بن
عبد الله ولهما سبيع مال القاسم بن علي في مذاب مقسوم ذلك لورثتهما.
وأما أم إسماعيل أبي البركات فهي آمنة بنت عبدالله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم عمة القاسم بن علي أخت أبيه، وأمها زينب بنت موسى بن الحسين بن علي بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وأمها زينب بنت عبد الله النوفلي.
وأما أم أم الإمام المهدي فهي الشريفة المطهرة المباركة المنورة صفيهة بنت [بياض…….. في المخطوطة]، وعلى الجملة فإن منصبه فوق سماء العلى شامخ، وعلى قرارة المجد راسخ، وما أنا في تعليق ذلك وذكره إلا كمن يهدي إلى الشمس ضوءً، أو يزيد في القمر نوراً، أو يجلب المسك إلى أرض الترك والعود إلى بلاد الهند، والعنبر إلى البحر الأخضر.
فصل [في صفته -عليه السلام]
لم نذكر صفته إلا تقريباً لمن لم يره، فأما من شاهده فقد كفاه العيان عن البيان، وما عسى أن يصف الواصف من صورة براها خالق، وجعل عنصرها أصلاً للسعادة، وعنواناً للخير والبركة، وسم السيادة في غرتها والكرم في أسرتها.
كان عليه السلام أبيض دري البشرة، ربع القامة، أشكل العينين، ضليع الفم كأن وجهه مضحاة الفضة المجلوة إلى التوريد، أقنى الأنف، كث اللحية، جعد الشعر ليس بالقطط، عريض المنكبين، جليل المشاش، شثن الكف بين كفيه شامة لونها كلون حبة الإجاص، دقيق المسربة، سامي العنق، ضامر الخصر، عاري الأخمصين، إذا التفت التفت معاً، وإن مشى فكأنما يمشي في صبب، إن كُلِم أنصت واستمع، وإن سئل أعطى وأقنع، هيبته تصدع القلوب، ومقابلته وإقباله حياة النفوس، ليس بالملق ولا بالضجر ولا بالقلق ولا بالصخاب ولا العياب، أحب المجالس إليه مجالس العلم والذكر، وأسر الأيام إليه يوم ينال فيه من أعداء الله، استشهد عليه السلام وقد وخطه الشيب قليلاً وما أحقه بقول بعضهم:
عقم النساء فما يلدن بمثله
متهلل بنعم بلا متباعد
نزر الكلام من الحياء تخاله ... إن النساء بمثله عقم
سيان منه الوفر والعدم
صمتاً وليس بجسمه سقم
فصل
وأما مولده عليه السلام فكان بـ(هجرة كومة) المعروفة بجبل شاكر من ظاهر همدان، ولد لاثني عشرة ليلة من شهر القعدة سنة اثنتي عشرة وستمائة للهجرة النبوية، وله من الفضائل عند مولده ما سنذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى من فضائله.
(فصل في نشأته -عليه السلام-)
نشأ في حجر أبويه سنيناً قريبة، واختار الله لوالده رضي الله عنه ما هو أصلح من الانتقال إلى دار رحمته وهو ابن سبع سنين بعد أن كان قد أكمل كتاب الله تعالى، ثم كفله عمه السيد الشريف الزاهد الطاهر سليمان بن أحمد بن القاسم، وكان رحمه الله[4أ-أ] أحد الزهاد في زمانه، رفض كثيراً من ملاذ الدنيا من مناكحها وملابسها، ولازم الزهد والعزلة عن الناس، فعني في تعليمه وتهذيبه وتأديبه، وكان عليه السلام ممن شهدت له الفراسة رضيعاً أن لا يكون وضيعاً، وحكمت له الشمائل غلاماً أن يكون قرماً هماماً، تخيل فيه مخائل الإمامة، وتلوح على غرته أنوار الزعامة، وكان ابتداؤه بالقرآن الكريم وهو ابن خمس سنين أو يزيد قليلاً، ولقد روى لنا عن نفسه عليه السلام من عجيب الفطنة وروى غيره من الثقات ممن كانوا يشاهدونه من توقد فطنته وألمعيته ما لم تجر العادة بمثله فيمن هو في سنه، ولم يزل في دراسة القرآن العظيم وتلاوته، والتعليم في غيره لمن يصلح لما هو في سنه من الشعر، وما يجري مجراه من الأراجيز والحكم حتى بلغ اثنتى عشرة سنة أو يزيد قليلاً، ونقله عمه الطاهر من الهجرة المباركة إلى مدرسة (مسلت) ببلد قيس من ظاهر همدان، وكانت المدرسة في ذلك الآوان نظام عقد العلم، وقبلة أهل الإسلام والفضل، كان سكنها في ذلك العصر الفقيه الإمام الألمعي ترجمان المتكلمين عمدة المجتهدين والمتهجدين حميد بن أحمد المحلي بن محمد بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن أبي القاسم بن علي المحلي الصنعاني رحمة الله عليه، وكان يسكن حيناً في الشاهل غربي بلد بني شاور السود، والفقيه العالم الفاضل الحافظ
المحدث الكامل ترجمان القرآن جمال الدين عمران بن الحسن بن ناصر، وأخوه الفقيه العالم شرف الدين أسعد بن الحسن بن ناصر، والفقيه العلامة اللسان المنطيق نظام الدين القاسم بن أحمد الشاكري، والفقيه الزاهد الورع قدوة الزهاد فخر الدين أحمد بن عريق بن عواض الشاكري، والفقيه العالم الأديب سابق الدين محمد بن علي بن أحمد بن نعيش الصنعاني، والفقيه العلامة شرف الدين الحسن بن البقا التهامي القيسي، والفقيه الطاهر العالم سعيد بن حنظلة، وغبر هؤلاء من عيون أهل الدين المتمسكين بالعلم، فاختص به ليلاً ونهاراً الفقيه الزاهد المطهر فخر الدين أحمد بن عزيق فكان سميره وقرينه، والمتولي لتهذيبه وتأديبه، وتعليمه طرائف الآداب والطهارة حتى لقد كان الناظر يعجب من آدابه وطهارته مع صغر سنه، ثم ابتدأ بعد ذلك من الفنون بعد معرفته لأبواب في الطهارات، ونكت في العبادات، وجمل من أصول الشرعيات بالتوحيد، فكانت قراءته أولاً على الفقيه العلامة اللوذعي قاسم بن أحمد الشاكري؛ إذ كان في ذلك الفن خليجاً تطمو مدوده، فقرأ عليه مختصراً مفيداً، ثم قرأ كتاب (الخلاصة النافعة) بشرح واسع، ثم قرأ (المؤثرات) للشيخ الإمام حسام الدين الحسن بن محمد الرصاص، كل ذلك يضبطه غيباً، ثم قرأ شرح (الإيضاح) الذي وضعه الفقيه الإمام حسام الدين بن أحمد، كل هذه الكتب يضبطها غيباً ويعقل معانيها، وتعجب العلماء من حسن بهجته وبراعته، ثم قرأ مذاكرة عقوداً على كتاب (التحصيل) للشيخ الإمام الحسن بن محمد الرصاص، وكانت هذه المذاكرة من العجائب، أخذت معانيها من كتاب المحيط [4ب-أ] بالتكليف لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد، ثم من كتاب (الإكليل شرح معاني التحصيل) للفقيه العلامة الحسن بن مسلم التهامي، ثم من كتاب (التبيان بشرح ياقوتة الإيمان) للحسن الرصاص، ثم من (خلافية أبي رشيد) وغيره، هذه الكتب المعينة.
كان الفقيه القاسم بن أحمد الشاكري يترجم هذه المذاكرة ويضبط معانيها من الكتب المذكورة وغيرها، ثم يلقي عليه الصفحتين والثلاث وربما أكثر من ذلك، فأكثر ما يقرأ عليه شرفين أو ثلاثة، ثم يضبطها غيباً ويحفظها، ولعل هذه المذاكرة تمت في قريب من مائتي معشر، ولعل نساختها في ثلاثين سلطانية أو نحو ذلك، وكان عليه السلام في حال قراءته يقرأ عليه عدة من الدرسة وهو في وقت المقبولة وفراغ الخاطر لا يشتغل بغير النظر في الكتب والمراجعة حتى أتم المذاكرة، وهو معدود من العلماء في ذلك الفن، ثم انتقل إلى المدرسة المنصورية بـ(حوث)، وفيها عدة من عيون العلماء كالشيخ العلامة المصقع ترجمان الكلام جمال الدين أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص، والشيخ الطاهر بقية الحفاظ محيي الدين أحمد بن محمد الأكوع المعروف بشعلة، والفقيه العالم أحمد بن علي الصميمي، والقاضي الفاضل محمد بن يحيى الصنعاني، والقاضي العلامة الفضيل بن يحيى بن جعفر بن أحمد بن أبي يحيى، وعدة من العلماء والفضلاء غاب عني تعيينهم لكثرتهم لا لقصور في فضلهم وعلمهم، فقرأ على الشيخ العلامة أحمد بن محمد في الكتب المبسوطة في علم الكلام كـ(شرح الأصول الخمسة)، (والمحيط) وغيره، وقرأ عليه فى الكلام كتاب يذكره ابن مثوبة، وأخذ عنه كتاب جده أبي محمد شيخ الإمام المنصور بالله عليه السلام المعروف بـ(الكيفية في الصفة والأحكام) وهو من لطيف كتب الكلام حتى لقد كان يحفظه غيباً كما يحفظ الناس السورة من القرآن الكريم، ثم قرأ كتاب ابن الملاحمي (المعتمد)، (والفائق) وغيرهما، ثم قرأ كتاب شاه سربيجان شرح الأصول الكبير، وقرأ كتاب أبي رشيد المعروف بـ(الخلافية) وأتقن ذلك معرفة، وكتابه (المحيط) المعروف بـ(شرح الدعامة) وفيما أحسب أنه قرأ (تعليق الإكليل) وقرأ (شرح النفحات المسكية) للفقيه الشهيد حميد بن أحمد المحلي، ثم قرأ كتاب (الإحاطة)، ثم كتاب السيد أبي طالب في اللطيف، ثم فن الخلافية بين
البغداديين والبصريين.
هذا ماذكرته من ذلك عند التعليق وما غاب عني من ذلك فليس بالقليل إلا أنه على الجملة لم يدع كتاباً مشهوراً مما يزداد بقراءته فائدة إلا أتى عليه، وهو في تلك الحال إليه تنتهي الغوامض، وبه تحل المشاكل ويفتح المقفل، ثم في خلال قراءته تلك سمع على الشيخ الحافظ المحدث محيي الدين أحمد بن محمد المعروف شعلة الأخبار والسير، فقرأ عليه كتاب (أصول الأحكام) للإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان سلام الله عليه، وضبط شطراً منه غيباً، والباقي كرره حتى كاد أن يتلوه غيباً، وقرأ عليه أمالي أحمد بن عيسى، وقرأ عليه سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان قرأها على الفقيه العلامة الحافظ عمران بن الحسن بن ناصر، وقرأ (أمالي[5أ-أ] المرشد) والسيد الجرجاني، وكتاب (الرياض)، وكتاب (الأنوار)، وأمالي أبي سعيد السمان، وسمع كتاب (المستصفى) للشافعية، وقرأ كتاب (تيسير المطالب) للسيد أبي طالب، وقرأ كتاب (نهج البلاغة) وأعلامها حتى كاد أن يتقن ذلك غيباً، وقرأ كتاب (العمدة من صحاح الأخبار)، وعلى الجملة فإن سماعات الكتب المشهورة من طريق الإمام المنصور بالله عليه السلام والشيخ محيي الدين حميد بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه صحت له سماعاً، وتعيين ما قرأ في السير والأخبار أكثر من أن يحصى، ثم قرأ في أصول الفقه، فأول ذلك قرأ مذاكرة عقوداً موسومة ككتاب (الحاضر) على الفقيه العالم الزاهد فخر الدين أحمد بن عريق الحميري رحمه الله تعالى يشتمل على عيون كتاب أبي الحسن البصري رحمه الله المعروف بالمعتمد، وكتاب الإمام المنصور بالله المعروف بـ(صفوة الاختيار) وكتاب الرصاص المعروف بـ(الفائق) وغيرها من كتب الفقهاء فأتقن ذلك غيباً، ثم قرأ كتاب (المعتمد) حتى كاد أن يأتي عليه غيباً، ثم قرأ كتاب (التجريد) لابن الملاحمي وقرأ كتاب أبي طالب (المجزي) وكان معجباً به.
قال المصنف: ثم (المعتمد) لقاضي القضاة، وغير ذلك من الكتب الموجودة في اليمن مما أمكن تحصيله؛ لأن الكتب كثيرة في الأقطار، وإنما الكتب المشهورة عند الزيدية باليمن حتى كان المشار إليه في ذلك الأوان بالتحصيل في الأصول الفقهية ومعرفته في ذلك أشهر من نار على علم:
وهل تجحد الشمس المنيرة ضوؤها ... ويستر نور البدر والبدر زاهر
ثم التفت إلى الدرس في فروع الفقه من سنة سبع وثلاثين وستمائة، فأول كتاب قرأه كتاب (التحرير) لأبي طالب عليه السلام وحفظه غيباً بعد أن كان قبل ذلك يحفظ معانيه وأصوله وأدلته قراءة على الفقيه العالم التقي محمد بن أبي السعادات، وكان أوحد في معرفة ذلك ومعتاداً، فلقد كان يعرف فى حسن معرفتة وذكائه، ويقول استفاد عليه أكثر مما أفاده أو كما قال في ذلك، ثم قرأ كتاب (شمس الشريعة) للفقيه العلامة الحافظ المجتهد سليمان بن ناصر، وكرر ذلك، ودرس وقرأ (شروح التحرير) للقاضي زيد وتعليق السيد المؤيد بالله، ثم تعليق أبي مضر حتى لقد كنا نسمعه ويسمعه غيرنا أنه لقد كان يتصور صفحاته ومسائله غيباً، وقرأ كتاب (الإبانة) وشرحها وكررها، وقرأ كتاب (الكافي) للناصرية، وكتاب (الوافي) لابن بلال، وكتاب السيد علي بن سليمان، ومجموع علي خليل كرره مراراً، وقرأ كتاب الإمام المنصور بالله وكان معجباً بفقهه، وأراد أن يشرح المهذب المنصوري، وقرأ مسائله الفقهية في رسائله، وقرأ كتاب الهادي عليه السلام (الأحكام) وقواعده، وقرأ عدة من كتب القاسم عليه السلام وأولاده المفردة، وكان شديد الحرص في نصرة أقوالهم، وأطل على شيء من تعليقات السيد العلامة جمال الدين[5ب-أ] علي بن الحسين بن يحيى بن يحيى بن الهادي عليهم السلام، وأجاز له كتاب (القمر المنير) وأمره بتصحيح ما عثر عليه، وكان السيد علي بن الحسين يقول: إنه لا يشك في بلوغه درجة الاجتهاد، وما أنسيته مما قرأه من كتب الفروع وغيرها وليس بالقليل إلا أنه غني ذكره والله الموفق
للصواب.
ولم يزل عليه السلام في القراءة والاستمرار في قراءة الفروع وعلوم القرآن من سنة سبع وثلاثين إلى أول سنة ست وأربعين وستمائة، ثم قرأ كتاب الحاكم (التهذيب في تفسير القرآن) على الفقيه أحمد بن حنش، فلقد كنا نسمعه يطري عليه ويثني، ويظهر أنه يستحقر نفسه أن يقرأ مثله وما أراه ينكر ذلك، فلما ختم قراءته أقرأ هذا الكتاب جماعة من العلماء وكانوا يشاهدون منه ما لم يسمع من غيره في معرفة كتاب الله تعالى وما يشتمل عليه من الأحكام، ثم قرأ كتاب (الطوسي) ثم قرأ في كتب المتشابه ككتاب الطربيني، وكتاب قاضي القضاة، وقرأ تفاسير أهل البيت عليهم السلام وسيرهم، وقرأ في فقه الشافعية وكان يتعجب من حسن تصانيفهم في الفقه وفيما أحسب أنه قرأ كتاب الثعالبي أو شطراً منه قبل قيامه فأما بعد قيامه فذلك ظاهر، وقرأ على الفقيه الإمام العلامة حسام الدين حميد بن أحمد المحلي عدة كتب بعد قيامه في السير وغيرها، وقرأ في النحو واللغة.
أول قراءته في النحو (الملحة) وشرحها، ثم كتاب (التهذيب) للفقيه العلامة محمد بن علي نعيش، ثم كتاب (المحيط)، ثم كتاب طاهر بن أحمد شرح المقدمة، ثم (شرح الجمل) حتى صار من أهل المعرفة في ذلك الفن، وقرأ في كتب اللغة على التعيين كتاب محمد بن نشوان على الفقيه العلامة الحسن بن البقاء التهامي، ثم قرأ ديوان الأدب وكتاب ابن قتيبة (أدب الكاتب) على الفقيه اللسان ترجمان الأدب صالح بن سليمان بن الحديب، وقرأ عليه كتابه المشهور بـ(الزبد الصربية)، وكان حسن المعرفة شديد العناية في تعليم أهل البيت، ولقد كان هذا الفقيه يتعجب ويعجب من معرفة الإمام المهدي سلام الله عليه ويشهد باجتهاده بعد بلوغ الدعوة، وقرأ غريب أبي عبيدة وغيره من غريب القرآن والسنة، وحفظ من عيون الشعر لفحول الجاهلية والمخضرمين ما فيه كفاية للشواهد والحجج، وقرأ في الفرائض كتاب (الوسيط) وغيره على الفقيه أحمد بن نسر العنسي، وقرأ في الوصايا ودقيقها على الفقيه العالم علي بن يحيى بن حشيم وغيره، وكانت له صنعة حسنة في فروع الفرائض وكيفية أعمالها، وقرأ في السير والتواريخ قرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكتاب (الدولتين) وشطراً من كتاب الطبري وغير ذلك، وكتب الإمام القاسم بن إبراهيم وأولاده ومصنفاتهم، وسيرة الإمام القاسم بن علي وولده، وسيرة الهادي عليه السلام وولديه، وسيرة الإمام أحمد بن سليمان، وكان له في آخر الدرس إطلالاً كثيراً، وقرأ في السير ولم يدع فناً يشار إليه مما يفتقر إليه المجتهد في كمال الاجتهاد إلا وقد أخذ منه بنصيب حتى كان[ 6أ-أ] المشار إليه بالبنان في الفضل والعلم، واشتهر أمره، وسار في الأقطار ذكره، ووردت عليه المسائل من الأقطار للاختبار والاسترشاد، فكان سلام الله عليه يفتح المقفل ويحل المشكل، ويأتي بالبيان ويوضح البرهان، وعلى الجملة فإن المشك في كلمه مكابر أو مشكوك في علمه؛ لأن ذلك من المشهورات التي اجتمع عليه
المخالف والموالف، وكذلك فإن من ادعى قصوراً في فضله وأنه كان أفضل أهل زمانه فإنه مطعون في دينه إن كان سالماً في عقله، ومما يدل على سعة علمه وكماله ما أجاب به على الشيخ العالم عطية بن محمد النجراني بالمسائل المركبة في الفروع التي تشتمل على مئيين من المسائل قريب من ألف مسألة، فأجاب عنها بنهاية الإرشاد وبغية المرتاد، وكذلك المسائل التي وردت من الجهات الحرازية وغيرها من الفتاوي في الفروع التي تبهر من رآها.
(فصل)
وأما خصائصه في العبادة فإنه كان عليه السلام حليف العبادة، والورع، والزهد، كان قبل قيامه عليه السلام مصابراً على صيام أيام مشهورة فاضلة، وله وضائف في العبادة، كان يقوم في الثلث الأخير من الليل فلا يبرح قائماً وقاعداً، وراكعاً وساجداً، مع المبالغة في الطهارة والوضوء لأكثر الصلوات، قلما يصلي المغرب إلا بوضوء جديد، وقلما يوتر إلا في الثلث الأخير، يلاحظ أوقات الاختيار، ويتهجد في الأسحار، وعلى الجملة فإن الله سبحانه قد وفقه من طاعته وحببها إليه إلى ما يباهي الشمس ظهوراً ويجاري القطر وفوراً. انتهى.
ومن ورعه عليه السلام أنه ما سمع قبل قيامه يقسم قسماً تجب فيه الكفارة مع الحنث، ولا خالف قوله فعله، ولقد أشهد الله في بعض المواقف أنه ما خطر له ببال أن يعصي الله تعالى، وبخط المصنف قال: سمعته أنا وهذا كما ترى يقضي بالعصمة، ويدل على نهاية الفضل والشرف الذي لم ينفرد به إلا هو، ولو فتش أحد في زمانه إلى من يجاريه في الخصائص الشريفة لكان ذلك كالممتنع، ولوجده في بعد مرامها القمر الأزهر، والكبريت الأحمر، وجوهر الجوهر، فصلوات الله عليه ورحمته وبركاته.
(فصل)
وأما خصائصه في الكرم فما أظن عدواً له ينكر ذلك ولا يدفعه، فكيف بأوليائه، حاز خصال السبق في مضمار الكرم، وبرز إلى حيث لا يبلغ أحد إلى عشر معشار، فإن نظرت في شرف نفسه قبل قيامه فهو من قد عرف الخاص والعام، يقصده القاصد ...... يناديه القاصد فيكرم كل واحد منهما ترحيباً وتكريماً، وإجلالاً وتعظيماً حتى يستحقر ماوراء ذلك من المطاعم، ويستصغر في جنب ذلك مناقب الأكارم، لا يدع نوعاً من أنواع الكرامة مما يدخل تحت إمكانه حتى يأتيه، ولا مفخراً مما يتفاخر به الأجواد حتى يرتقيه ما لم يكن ذلك مكروهاً، فما أحقه بقول القائل:
يجود بالنفس إن ظن الجواد بها
... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ولقد كان يمضي وهن من الليل وهو منقبض عن أكل الطعام ينتظر طارقاً غرثاناً.
وأما بعد قيامه فمناقبه أكثر من أن تحصى، روى الثقات أنه وهب في موضع واحد في ساعة أو ساعتين اثني عشر فرساً.
وأخبرني هو عن نفسه أنه أعطى في مقامه بالجنات في أربعة أشهر وأيام نيفاً وثمانين فرساً -ليس الخبر كالعيان- وهب وهو على عضادتي المطهر بقارن أربعة عشر فرساً، وأعطى رجلاً من كبار العرب في يوم واحد اثني عشر فرساً، ولقد كان يعطي لله ولنفع الإسلام والمسلمين، وكفاً لعادية المعتدين، ولقد روى عن نفسه وأشهد في الرواية الفقيه العلامة حسام الدين حميد بن أحمد المحلي رضوان الله عليه أنه أنفق في أول سنة من قيامه في دون الستة الأشهر نيفاً وثلثمائة ألف درهم أكثر ذلك مما رزقه الله تعالى من البر والنذور، ولقد كان يستقل الكثير للسائل ويعتذر مع الإنعام العريض الطائل، وما ظنك بواحد بذّت عطاياه عطايا الملوك الجزيلة حتى زاحمهم على مملكتهم، واستولى على معاقلهم، ولقد كان يتهلل للوافد والسائل كأنه المعطى كما قال زهير في مدح هرم بن سنان:
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وأقسم لقد شاهدته في بعض الثغور يصل ليله بنهاره لا يذوق فيه إلا أن يكون شربة من الماء والناس في رغد ونعيم، ولقد كان الطعام يقرب إليه فإذا علم أن المجاهدين في ساعة انقطاع وقرب له طعام لم يذقه ويقول: نواسيهم بنفوسنا حتى يعلم الله ذلك منا أو كما قال في هذا المعنى، ولقد كان الطالب يطلب منه القليل أو يعتقد أن مثله لا يبلغ إلى عشر ما يعطيه فيضاعف ما يطلب منه، فتعظم نفس المستصغر لنفسه من عظيم عطائه.
ومن عجائب كرمه وسخائه، وما خص الله تعالى به من فتح أبواب الرزق أن سلطان اليمن عمر بن علي بن رسول أقبل لحربه بعد بلوغ دعوته إليه بعساكره الكثيفة، وخزائنه العظيمة، وكان هذا السلطان قد استحكم ملكه في اليمن وقل معانده، وتوفرت في خزائنه الأموال فظن أن لا يغالب في حال من الأحوال، فكتب إلى الشيخ الكبير منصور بن محمد بن جعفر صاحب ثلاء لما دعا من عنده مكاتبة كأن السيوف فيها مجردة، والرماح مشرعة، ولقد قال في كتاب الشيخ المذكور فلآتينك بجيش يغص منه الفضاء، وينزل من جوانبه القضاء إلى غير ذلك من التهويلات والتهديدات، ثم أقبل حط بعساكره وخزائنه مقابل له في محطة بعد أخرى شهوراً، فمضت تلك الخزائن، وما فيها من النفائس، وباد ما جمعه من النفوس، ولقد كان خدام هذا السلطان يشترون ريقه عليه السلام بالذهب والفضة، ويعدون المنعم من قبض منه برة، حتى لقد أخبرني بعض الثقات وأهل الخبرة بالسلطان ممن هو مصاف له في ذلك الأوان أن هذا السلطان أخبر عن نفسه عند منصرفه قافلاً إلى اليمن خاسراً مغلوباً، وكان ببئر الخولاني على أميال من صنعاء أنه أنفق من العين ألف كيس ومائتي كيس وعشرين كيساً، كل كيس فيه أربعة آلاف درهم نورية، خارجاً عن الخلع والكسا والمركوبات، فما ظنك بمن بذ هذا السلطان عطاء، ورده بلطف الله خاسراً خائباً، وما جرى له قلم في بلد إلا ما آتاه الله من الأرزاق الحلال.
أخبرني أن شخصاً أعطاه سبعمائة مثقال ذهباً عيناً أو نحو ذلك، ولقد كان ينزع الرداء فيعطيه وهو إليه محتاج، وينزع العمامة فيعطيها، ويعطي الفرس الذي يركبه وهو إليه محتاج، ولقد كان يؤثر على نفسه وأولاده وأوليائه، ولقد كانت مناقبه في الفضل والكرم متضوعة كتضوع المسك الأذفر، وشرفه كإشراق القمر الأنور، الشبيهة بقول القائل:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... كأنك لم تجزع إلى ابن طريف
ولا المال إلا من قنا وسيوف
وكم ذا يتعاطى الواصف أو يضبط العارف من مناقب تعلو السماك الأعزل سمواً، وتجر ذيلها على المجرة تيهاً وعلواً.
إذا ما يراه الرجال تحفظوا
حبيب إلى الزوار غشيان بيته ... فلا تنطق العوراء وهو قريب
جميل المحيا شب وهو أديب
أو كما قال دعبل:
فتى لا يرى المال إلا العطاء ... ولا الكبر إلا اعتقاد المنن
ولو أن مناقبه عليه السلام كتبت بالمسك والعنبر، وجعل ورق سيرته من العقيان الأحمر لكان جديراً بذلك، وكيف سيعظم ذلك في من مدحه لسان الدهر، وعجز عن وصفه جميع أبناء العصر، وما عسى أن يقول القائل فيمن شهد بكرمه الأعداء، وتنطق بمناقبه الدهماء، وما يقال أيقال للفلك: ما علاك وللطود ما رساك، وكيف يشكر وجه الشمس على ضياء صاحبته، والغيث على سماحته، أليس من البعيد أن يتحدث الواصفون في مناقبه كالنجوم الثواقب، هرم على معرفتها الكبير، وشب الصغير، وأبصرها الأعمى بلا عين، وسمعها الأصم بلا أذن، ولله القائل:
لو درى الدهر أنه من بنيه ... لازدرى قدر سائر الأولاد
(فصل)
وأما مناقبه عليه السلام وخصائصه في حسن الخلق، كان عليه السلام كما قال تعالى في صفة جده خاتم المرسلين صلوات الله عليه وعلى آله: {وإنك لعلى خلق عظيم}،(1) إذا نظر إليه الناظر رأى صفحات خده تهلل بشراً، في جوانب غرته تلمع نوراً، بساماً من غير ضحك، حسن المباحثة، يوقر الكبير ويعظمه وينزله منزلته، ويحب الصغير ويرحمه، ويرق قلبه لليتيم، يؤنس بقوله وفعله وحشة الغريب، كلامه حكمة وصواب، ورأيه رشد وسداد، يهدي إلى الحق ويدعو إليه، ويصرف عن الباطل ولا ساكت عليه، إن سكت فهو حياء من غير عي، وإن تكلم فهو رشد من غير غي، ليس بالصخاب ولا العياب، ولا الملق ولا الخرق، فما أحقه بقول واصف الأخلاق: كريم له أخلاق خلقن من الكرم المحض، وشيم يشام منها بارقة المجد، لو مزج بها البحر لعذب طعمه، ولو استعارها الزمان لما جار على أحد حكمه، قد جمعت الأهواء المتفرقة في محبته، وتوالت الآراء المشتتة في مودته، فإذا نظرت إلى حسن منظره الذي يملأ العيون، وجلال هيبته الذي كان فيه سوق المنون، وأخلاقه التي هي أصفى وأرق من الدر المكنون؛ قلت كما قال تعالى في كتابه الكريم في قصة يوسف عليه السلام أو كما قال بعضهم:
يقول رائيه إجلالاً لطلعته
فلو تقدم في عصر مضى نزلت ... تبارك الله ما هذا من البشر
في مدحه معجزات الآي والسور
وأنا أستغفر الله العظيم من التفريط في حقه، لا من التفريط في مدحه.
(فصل)
وأما خصائصه عليه السلام في جودة الرأي وحسن السياسة، وتوقد الألمعية فاعلم أنه عليه السلام كان من لطيف الفكر الغميق، وثبات الرأي الوثيق، ما يحيط بفلك الصواب، ويدور بكواكب الرشد والسداد، ولقد كان أولوا السن والتجارب يصقلون سيوف آرائهم، ويقودون بزمام هدايته ناكب إعراضهم، ولقد كان يخبر عما لم يقع بما كأنه وقع من طريق الحدس والفراسة، حتى يظن السامع أنه يكشف له عن أسرار الغيوب، وأن له مرآة تريه مكنونات القلوب. شعراً:
فتى مثل صفو الماء ليس بباخل
ولا ناطقاً أحدوثة السوء معجباً ... بشيء ولا مهدٍ ملاماً لباخل
بإظهارها في المجلس المتقابل
(فصل)
وأما مناقبه في ثبات القلب، وإقدامه في مواطن الطعن والضرب، أما قبل قيامه عليه السلام فإن زمانه كان زمان هدن وسكون، وإخلاد إلى لعاعة الدنيا وبهجتها من ملوكها، فكان جل شغله بالعلم والعبادة، والتتبع لمكارم الأخلاق والزهادة، والاستعداد لنصرة الدين، ونظم عقد الإسلام والمسلمين، ولقد كان في غضارة الشباب وقرب العهد بالإدراك يقيم في بعض الثغور ويتصدر لبذل النفس في سبيل الله، ولقد كان يهم بالاعتزال إلى بلد شاسع يقاتل فيه أعداء الله، ولقد اختبر في أيام دعوته في موطن من مواطن الحرب تختلس فيه النفوس، وتنتهب الأرواح في يوم شؤبوبه مقاتل القداح، وبروقه مباسم الصفاح، ورعوده هماهم الكفاح، قد أعدت فيه الملاحدة والمجبرة سكتها، وشحذت للطعن والضرب غروب صفائحها وأسنتها، فكان سلام الله عليه في ذلك اليوم سابق حلبة المآرق، وضيغم غيل الماقط المتضايق.
وأما بعد قيامه عليه السلام فما عسى أن يقول القائل في رجل كالألف، بل أعظم من ذلك في النعت والوصف، فما أحقه بقول القائل:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانباً
طال والله ما التقت الصفوف، وقامت سوق الطعن والضرب عند ساقي كأس الحتوف، ولحظت المنايا عن أعين زرق في أوجه سود، وتعاركت الأبطال بأيدي رجال وقلوب أسود، وتعانق الأقران عناق المكافحة لا عناق المصافحة، وأذكت الحرب ناراً وقودها النفوس، وشهدت الطير عرساً نثاره الرؤوس، وخاضت الخيل الدم حتى صار أشهبها أدهم، وهو عليه السلام هلال عثير الكتيبة، وصارم الضريبة، يلوذ به الفرسان، ويأنس بضربه الشجعان، يزداد إقداماً عند إقدام أعدائه حتى تظلهم ذوائب لوائه، ولو عددنا مقامات شهدها، ومواطن حرب كان أسدها؛ لمددنا أطناب الإطناب، ولخرجنا إلى الإسهاب في هذا الباب، وليسأل السائل العقاب وسناع وتلك الهضاب، وقارن وتلك الحداب، وحضور يوم قل الأحزاب، وغير ذلك من المقامات التي يشهد لها فرسانها، ويحكم لها سيفها وسنانها، ألم يكن فيها كما قال:
وإذا مج القنا علقاً
راح في تفني مفاضته ... وترى الموت في صوره
أسد يدمي شبا ظفره
في حيث تطلق الأرواح الأجسام، وتقهقر الأسود عن الإقدام.
واسأل يخبرك القليس وصعدة ... وذمار إن سألتها أو مأرب
وسنذكر في مفردات مقاماته الهائلة في أثناء سيرته العادلة ما يكفي بعضه المنصف ويذهل مجموعه عقل المتعسف ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(فصل)
وأما مناقبه وخصائصه في التواضع والأدب فما عسى أن أقول فيمن كان قوت النفس، ومادة الأنس، رب الفضائل، وحميد الشمائل، فما أشبهه بقول البحتري حيث قال في مدح متواضع:
دنوت تواضعاً وعلوت مجداً
كذاك الشمس تبعد أن تسامى ... فشأناك انخفاض وارتفاع
ويدنو الضوء منها والشعاع
ولقد كان عليه السلام يتواضع مع علو شأنه واستظهار سلطانه ويزداد لله شكراً وذكراً، ولقد كان مع إخوانه وخلصائه كأحدهم، يلبس الخشن، ويأكل الجشب، وينصف من نفسه، ولا يستأثر على غيره إلا بما خصه الله به، ولقد كان إذا رأى عظيم ما فعل الله له من علو الشأن وخضوع أرباب الملك والسلطان يخلو بنفسه ثم يسجد بالأرض شاكراً ومتواضعاً كما قال القائل:
تواضع لما زاده الله رفعة ... فكل عزيز عنده متواضع
(فصل)
وأما مناقبه في البلاغة فإنه كان عليه السلام، كان الخطيب الشحيح، والمنطيق المصقع كأنما ....... في الكتابة، ولساناً ينبوعاً للبلاغة، جمع بين شارد البلاغة وقطانها، وجرى سابقاً في ميدانها، وملك بكفه عنانها، كأنما خطه في الأوراق شذور العقيان في مصاحي المرجان، فلا تمج كلامه الآذان، ولا يبليه الزمان، ولقد رأيناه ينشر الرسائل التي تجمع شمل المحاسن وتضم شوارد البدائع، فهو عليه السلام ابن بجدة البلاغة ورضيع أخلاف الفصاحة، وله الموضوعات اللؤلؤية والمكاتبات الدرية، التي تناول المرمى البعيد، وتستنبط المشرع العميق، ولقد سمعته يقول النظم ويصوغ القريض، ثم يقول: إن الشعر من مظان العيب والانتقاد، ولا أرى بتركه بأساً أو كما قال في هذا المعنى، ولقد كان يحدر القرآن الكريم في أسحار الليل فيأخذ بأزمة القلوب، ولقد كان يعبر عن معاني العلوم على العموم بعبارات تنبي عن الغوص في لجج بحار العلم والاطلاع على أسرار الفهم، فلو كان ابن الرومي في زمانه لكان المعنى بقوله:
لولا عجائب صنع الله ما نبتت ... تلك الفضائل في لحم ولا عصب
(فصل)
وأما مناقبه في حسن المعاشرة لأهل الزمان فاعلم أن الله جل جلاله غرس في قلوب الناس له محبة ووداداً، وجعل في كلامه وحديثه لهم سداداً ورشاداً، ولقد أجمع على محبته حتى قوم من أهل الذمة مع بعدهم عن دين الإسلام وسبابتهم لجده عليه أفضل الصلوات والتسليم، ولقد كان منهم من يأتيه بالنذر والبر ثم يسأل عن شأنه فيقول: رأينا الخلق مجمعين على محبته فقلنا ما هنالك إلا مزية به وخاصية من الله أو كما قالوا، فكان عليه السلام يعاشر الناس بما يقرب به قلوبهم، ويضم به شاردهم، فإن وعظ تصدعت لوعظه القلوب، وإن رغب فيما عند الله فكأنه يطلع السامع على عميقات الغيوب، وإن سمع فاحشاً أحسن في إزالته وحسمه، وإن رأى منكراً غيره أو بعد عن أهله، وإن عاد مريضاً فرج عليه كربه وشوقه إلى لقاء ربه، وأمره بالجد والأهبة في طاعة الله، وعنى في استخلاصه من حبالة الشيطان ومصائد الفتان، وإن عاشر غنياً حقر إليه الغنى ونخوته، وإن خالط فقيراً لم يستحقره وحبب إليه الفقر والتعفف، وأعانه إن تمكن، وبذل الواسع في نفاعته، وإن رأى بين أحد من المسلمين ما يؤدي إلى الاختلاف والفتنة والغضب والمهاجرة سارع إلى ذلك بنفسه، وأطفأ ثائرة الفتنة، وحسم مادة الغضب ورأب الصدع، ورد القلوب بمن الله على أحسن ما كانت عليه، وكذلك إن جرى بين أحد من الناس ما يؤدي إلى القتل والقتال وانتهى ذلك إليه فقد كان في آخر أيام الدرس وقبل القيام كعبة للأنام، وعمدة لأهل الإسلام، ومنهلاً يرده الخاص والعام، ولقد كان جيرانه وإخوانه إذا نام الليل واحتجب عنهم يستوحشون لفراقه مع قرب العهد.
وفي هذه[9أ-أ] الإشاره كفاية في هذه المنقبة الشريفة.
(فصل)
وأما مناقبه وخصائصه في العلم فقد اندرج حيث ذكرنا شأنه، وفي ذلك كفاية لمن أنصف ونظر لنفسه ولم يتبع هواه، ولا أعطى زمام قلبه سواه، وسنذكر جملاً مما شهد به أعلام علماء العصر في تكامل خصال الإمامة فيه نظماً ونثراً، ولفظاً ومعنى.
(فصل)
وأما ذكر فضائله وبركاته.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: لما كان قبل قيامه عليه السلام بقريب من العشر السنين أراد الله تعالى أن يعلو ذكره، وشهد بين الورى فضله، فكانت كل فضيلة تذكر يذكر له من أجناسها وأشكالها عدة، وجعل الناس يذكرون ويكثرون في فضائله ويغرقوون في عظيم بركاته، ولم يزل ذلك ينمو ويتزايد في ألسنة الناس، وينقله الركبان والحجاج، والضاربون في الأرض شرقاً وغرباً وبراً وبحراً حتى عظم ذلك في قلوب الناس، وتحدثوا فيه بضروب، فمنهم من يرى له في المنامات العجيبة التي تكاد تخرج عن المعتاد، ومنهم من ينذر له في مريض فيعافيه الله تعالى، أو في زرع فينمو ويزكو ويبارك الله فيه ويضاعف ثمره، ويسلم من الآفات التي تصيب، ويجاوره ويصاقبه حاشية بعد وفاته صلوات الله عليه الأمر باق على مر السنين مما عاناه وشاهده أفقر عباد الله علي بن محمد القاسمي العياني أنه كان في عيان جربة زرع، وكنت نذرت فيها للإمام المهدي عليه السلام بتلام فلا يلحق زرعها ضر أبداً حتى لقد كان من غير في زرعها شيئاً لا تمضي عليه السنة إلا وقد شاهد في نفسه وأولاده ما يكره حتى لقد كان في سنة عشر بعد الألف أطهفنا هذه الجربة وجاء فيها طهف عظيم فلما بدا صلاحه ترجح لبعض مشائخ الجهة المعروفين آل غريب، خرج ولد منهم في الليل غير في الطهف مقدار أربعة أتلام، وانتبه الحامي وطرده وفات، فلما أصبح قال الحامي: أنا عرفته هو علي بن مطهر بن غريب فطلبنا عمه عامر وقلنا له: فأنكره وجاء بالولد وقال: احلف على قبر الإمام القاسم عليه السلام ما هو أنا فعلت للحاضرين ما احتاج إلى يمينك إلا أني سأمهلك إلى رأس الحول فإن جاء رأس الحول وأنت بخير فأنت بريء ولا عليك يمين ولا طلاب، وإن جاء رأس الحول وقد بدا عليك فقد صح أنه فعلك ولزم عمك الفعل وأدب، قال: نعم ورضي بذلك في مشهد، وكان ذلك في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة وكان إلى سلخ شهرشعبان، وخرج الولد
متبرجاً في بعض ماله فخرج عليه حنش لسعه في أصبع رجله ومات من ساعته فما شعرنا إلا بعمه جاء برأس بقر عقره وقابلنا في فعل بزيه، وهذ أمر ظاهر وهذه الجربة إلى الآن محترمة من كل مؤذي. انتهى.
ومنهم من ينذر له الخيل من آفة تعرض لها فيسلم ما نذر فيه أو في جمل فيأتي على وفق ما يريد الناذر.
ومنهم من ينذر له في الغنم شيئاً مخصوصاً[9ب-أ]، فيأتي بالقوم.
ومنهم من ينذر له في الأسفار ولجج البحار فينجيه الله مما يكره.
ومنهم من ينذر له في بضاعة فيبارك فيها وتسلم من المهالك، ولا يسلم غيرها مما لا نذر فيه.
ومنهم من ينذر له إذا انقطعت ذريته فيحصل له النسل كما أراد.
ومنهم من ينذر له إن كفاه الله شر عدوه أو نصره عليه أو غير ذلك حتى لقد كان الناس يفزعون إليه عند الشدئد وإلى البركة بالنذر واستمداد الدعاء في جميع أحوالهم، وكان ذلك أمراً عاماً عند ملوك العصر وغيرهم حتى كان وحيداً في الفضل مصموداً بالبركة، ومن الناس من يأتي بالعجائب من طريق الملاحم وأهل الحسابات في الزنجات، وما يجري مجراها من أحكام النجوم، ولو ضبط ذلك كلما تحدث الناس به من الجهات المختلفة والأقطار المتباينة لكان ذلك يحتمل تصنيفاً مفرداً فيما يغلب على الظن. والله أعلم.
(فصل)
وقد كان بعض الناس فيمن صحبه في عنفوان العمر وغضارة الشباب وأكثر مدة الدرس ممن كان بزعمه في ذلك الأوان يحيي الليالي بالعبادة ويتفلع بطيلسان الزهادة يروي فضائله في الأقطار ويكتبها في الأمصار مما هو كالمعجز الباهر والقمر الزاهر فيكره صلوات الله عليه كثرة الإغراق تواضعاً لله وخوفاً من كيد أعداء الله، وقد قيل: إن الباطنية دمرهم الله كانو يجدون بزعمهم في أحكام النجوم أن له أمراً وشأناً وأنه ينتقم منهم لدين اللَّه، ولقد عثرت مرة لهذا المفرط والمفرط على غلو وإغراق أوجب وصوله قبل قيامه إلى الإمام معتذراً حتى لقد كان يبكي بالدموع ويقسم الأيمان أنه لو أغرق في فضائله أنه مقصر فيما روى، فقد كان جمع جملاً من الفضائل وأتى بها إلى صنعاء سنة ثمان وأربعين وستمائة، أو بعد ذلك فقرأها أمير المؤمنين عليه السلام، ثم أعطاني تلك الجمل معلقه في كراسة بخط من ذكرنا آنفاً، ثم قال لي: أما ما كنت أعرفه فانقله، وما كنت لا أعرفه فلا تعلقه، وعلم علي ما كان لم يعرفه والدي، كان يعرفه عليه هو ما نقله الثقات، والعلماء الأثبات، ونحن نذكر من فضائله جملاً كما فيه وقدوة لمن يأتي بعدنا وافية، ونعوذ بالله من التخرص والمين فيما نذكره.
(فصل)
ونحن الآن ننقل ما صح لنا من غير طريق ذلك الناقل ولا نزداد بذكره وإن كان ذكره في أول السيرة النبوية حجة عليه فيما يذكر عنه في آخرها إن شاء الله ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال السيد الشريف شرف الدين رضي الله عنه وأرضاه: واعلم أرشدك الله أن فضائل الإمام صلوات الله عليه وسلامه تنقسم إلى أقسام أربعه: فقسم فيما نقل عن طريق الملاحم، والحسابات، وما يجري مجراها، وقسم فيما ذكرنا من فضائل في المنامات الصادقة التي رواها الأخيار والثقات، وقسم في النذور والبركات.
أما الكلام في القسم الأول: في التفاؤلات والفراسات[10أ-أ] وما يجري مجراها.
أما الفراسات فاعلم أن كثير من أهل التجارب ممن اختلفت عليه تصاريف الدهور، وحنكته التجارب في الأمور ممن شاهد أولي الهمم والشرف من صغر إلى كبر إذا رآه تصفح أحواله وعرفه بصفاته وسماته عرف أنه فسيح مجال الفضل، رفيع مناط الهمة وأنه لا بد أن يكون ذا سلطان وشأن حتى لقد كان يدعى باسم الإمامة قبل أن يقوم بسنتين وتنظم فيه الأشعار، ولقد كنا ممن ينظم فيه وينثر وقد أودعنا ذلك في رسالة مفردة غاب عنا ذكرها عند التعليق.
وأما التفاؤلات فهي كثيرة ومن أعجبها ما رأيته يوماً وذلك أنه كان في يوم قايض في حمارة القيض وشدة الحر أنا ورجل يقدح من سويق عليه شيء من السكر فصب عليه ماءً بارداً وأعطى من حضر شيئاً منه فتعجبوا من طعمه ولذاذته، وهم في خلوة، فقال بعضهم على وجه المزح: اللهم ائتنا بأحب خلقك إليك يأكل معنا من هذا السويق فما كاد أن ينقطع الكلام حتى أشرف عليهم الإمام بغرته الميمونة في ساعة لم تجر عادة أنه يأتي إلى ذلك إلى ذلك الموضع في ذلك الوقت، فأكل من ذلك السويق وعجب الحاضرون من ذلك الفال، ولقد كانت العلامة التي بين كتفيه إذا نظرها الناظر وهي كلون حبة الأجاص يذكر الشامة التي كانت في جده صلى الله عليه وآله وسلم ويقول في نفسه: ما خص هذا الشخص بهذه العلامة التي لم يخص بها إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسخره الله تعالى ويحيي به دينه.
(فصل)
وأما قسم الملاحم والحسابات وما يجري مجراها فهي كثيرة منها: ما روي عن الشيخ الطاهر العالم أحمد بن أبي السعد العصيفري، أنه رأى ملحمة تاريخها من مائتين سنة للهجرة النبوية أو نحو ذلك منسوبة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام منها ما تقول فيه علامات المهدي عليه السلام أنه يقوم ابن ثلاث وثلاثين سنة وذلك موافق لمولده عليه السلام، ويقول فيها من أماراته أن أحد عينيه أطول من الأخرى، وقد كان فيه عليه السلام شيء من ذلك إذا تشاوس الفكر أو نظر، ولا يعرف ذلك إلا الخاصة من أوليائه وأصحابه، ولم يكن تشينه في خلقه يعلم من شاهده.
قال: ومن علاماته أنه يقوم بعد طاعون يصيب الناس وخصوصاً في المغارب ورمة في الحلق أو في العينين أو نحو من ذلك فمنهم من يموت ليومه، ومنهم من يلبث اليومين أو الثلاث حتى اجتاح كثيراً من قرى المغارب.
قال: ومن علاماته أنه في أسنانه تفاصل، وذلك قد كان يعرف فيه ما لا يشينه.
قال: ومن علاماته أنه يخرج من بيته خائفاً مترقباً كما خرج موسى عليه السلام وقد كان ذلك حين خرج إلى ثلاء.
قال: ومنها أنه يضرب الأحياء بالأموات ولعله يريد الأحياء بالذكر [.1ب-أ]و الأموات أهل الخمول وقد كان ذلك كذلك.
قال: ومنها ومن أماراته أن يكون بين جمادي ورجب العجب العجب حصد نبات ونشر أموات، وجمع أشتات، وهذا المعنى يحتمل تأويلات مختلفات، وقد كان بعض أصحابنا تأوله على معنى ولم أرض تعليقه ولعل الله يهدي إلى شرحه بمنّه وكرمه.
رواية أخرى رويت عن جماعة من الإخوان أنهم عثروا على ملحمة في الجهات الحرازية قد درست أوراقها وبليت من تقادم الدهر وطول العصر في صفة المهدي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ((أنه يقوم من جبال الشث والعوعر وينصره أشيب الساعدين المنتمي إلى حمير وأن اسمه كاسمي واسم أبيه كاسم سبطي الحسين)) وقد كنا سمعنا من غير ذلك اسمه كاسمي، واسم أبيه كاسم أبي، وهذه صفة ثلاء وصفة الشيخ منصور بن محمد، ولو حمل على غير ذلك جاز، وقال في الملحمة: وعلى مقدمته رجل يسمى حارث؛ ولعل ذلك ولد الشيخ منصور فإنه كان من خواص الإمام وأنصاره.
رواية أخرى من طريق الملاحم رواها الشريف الطاهر الحسن بن علي بن يحيى بن محمد الأشل، وهو من عيون أهل البيت وأطهارهم من آل الهادي عليه السلام قال إنا عثرنا على ملحمة عندنا في كتاب باق معنا قد تقادمت عليه الأمصار، قلت: وقد رأيت الكتاب إلا أني لم أتحقق الرواية لما طرأ من النسيان لا لطعن الراوي؛ لأنه من الأطهار أهل العلم والدين، والورع، يذكر منه صفة القايم أنه يقوم من الجبل الأحمر الموزر بالشث والعرعر، ويذكر في الملحمة من جودة القائم وكرمه وعظم شأنه ما علم ضرورة بعد قيامه، ورواية تمام لهذه الرواية أو لغيرها وأن عسكره تمر شبام حمير فتخربها وتسافر إلى بوس فتحط فيها وتظاهر إليها وقد كان ذلك من خراب شبام، ومن الحطاط في جبال بيت بوس أيام دخول صنعاء الكرة الأخرى.
رواية أخرى أسندت إلى الشيخ التقي تقي الدين عبد الله بن يحيى بن علي الصعدي، وكان ذا ثقة وديانة، ومحبة، وهو من أهل البحث عن العجائب، والأسفار إلى البلدان القاصية من مكة إلى عدن وما بينهما، قال: إنه أخبره الثقة عن خليفة بغداد في ذلك الأوان وهو المستعصم بن المستنصر بن جعفر بن الناصر أحمد بن المستضيء العباسي أنه وجه بحاثة إلى مكة حرسها الله تعالى يتجسسون له ويسألون هل قام قائم في هذه السنة سنة ست وأربعين وستمائة، فلما علموا بذلك سألهم رجل عن سبب البحث فقالوا: إن الخليفة عثر على ملحمة عنده أنه يقوم المهدي من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذه السنة المذكورة.
رواية أخرى من الملاحم: روي عن بعض العلماء الثقات غبي اسمه في هذه الحال، فأما الرواية فإني أحفظها أنه رأى هو وغيره ملحمة قويمة الخط والورق في جهة المغرب يذكر فيها أنه يقوم المهدي في سنة ست وأربعين. هكذا اللفظ.
رواية أخرى إسنادها إلى شريف من أولاد[11أ-أ] الأمير محمد بن جعفر ذو الشرفين أنه أطل على ملحمة أنه يقوم قائم الحق من الحرازي ذكره بصفته ونعته.
رواية أخرى مسندة إلى حي الفقيه أبي المحاسن بن إبراهيم، أنه حكى له أنه يقوم من ذيبين إمامان قال: فأما أحدهما فقد أدركناه، وهو المنصور بالله عليه السلام؛ لأن هذا الفقيه توفي في رجب سنة اثنين وثلاثين وستمائة بذيبين.
قال: وأما الثاني فإنه من الدرب المعروف وهو الموضع الذي أقام فيه الإمام المهدي وحل وتزوج وأولد قريباً من إحدى عشرة سنة ونهض منه إلى ثلاء قبل دعوته بليلتين، وفي ذلك دليل واضح بحمد الله تعالى.
رواية أخرى إسنادها إلى السلطان الفاضل الطاهر حجاب بن أبي الحسن الهاشمي، ثم الهمداني قال: إنه أخبره رجل من أهل ذيبين قد أبا عليه قريباً من ثمانين سنة بهذه الأبيات عن رجل يقال له الخطاب بن الحسين بن أبي الحفاظ الهمداني منها:
ولعمري لقد دنا الفرح المرجو
وأما غير أنه طال لا شك
بعد خمس وأربعين إلى الست
يظهر الله أمره ويعز الدين
ويقوم الداعي إلى الله بالسيف
من نواحي مدائن اليمن الأيمن
وإذا ما بدا فويل لخولان
ثم ويل للشرق منه والغرب
يملك الأرض من عمان إلى مكة
فتهيأوا للنصر يا شيعة الحق ... من بعد نيئة وشطون
على الراصدين طول السنين
وما بعدها إلى الخمسين
من بعدها وأهل الدين
قياماً يزيل حزن الحرين
جاد لغثها والسمين
من عمرو من سيفه المسنون
وويل لأهل الحصون
ملكاً ليس يدون
مع الصادق القوي الأمين
وهذه الأبيات كما ترى العجايب قد تضمنت جملاً مما كان في دولته عليه السلام؛ لأن أمره انتشر إلى الحرمين وأتته الأموال الجزيلة من الحجاز، وولي هنالك الولاة ونصب القضاة، وكذلك فإن الظالمين من أهل المشرق والمغرب والحصون نالوا منه برحاً بارحاً وحرباً شديداً.
(فصل)
وأما الحسابات، وما يجري مجراها فقد ذكر أهل الزيجات، والإسطرلابات، والرمل، والمتعاطين ضروباً مختلفة، ونحن لا نرى بذلك وإنما نذكر طرفاً منه فربما وافق ووقع كما ذكره والله الموفق للصواب.
رواية عن بعض أهله عليه السلام: كان ممن يتعلق بالحساب قال: إنه يقوم من ولد ولده رجل أبيض اللون بين كتفيه علامة، في إحدى عينيه كرة يتحروع في مشيته، أو سيرته إمام هدى.
رواية أخرى عن شريف فاضل من بني عمه عليه السلام يروي ذلك قبل مولده عليه السلام أنه يولد قائم الحق في هجرة كومة.
رواية أخرى إسنادها إلى الفقيه العالم الفاضل الورع الطاهر التقي تقي الدين علي[11ب-أ] بن سلامة الصريمي، عن السيد الفاضل الشريف الكامل سليمان بن أحمد عم الإمام عليه السلام عن أخيه إبراهيم بن أحمد، وكان عارفاً بالحساب أنه قال قبل عمارة هجرة كومة: يعمر هذا المكان -يعني موضع الهجرة- ويولد فيه إمام في عينيه كرة وفي جنبه علامة.
رواية أخرى إسنادها إلىالشريف القاسم بن حمزة بن يحيى الحمزي عن رجل من أهل صنعاء قال: وفيما أحسب أنه من الباطنية بل قد أعرب عن ذلك بنفسه، وذلك أنه سأله قبل قيام الإمام بسنتين هل يعرف جبل شاكر؟ قال الشريف المذكور: قلت: نعم، فذكر قصة في الجبل وقال: إنه يقدم منه قائم لا من بني الهادي ولا من بني حمزة، وذكرالإمام بصفته وعلامته، وذكر أنه على دمار الباطنية، ثم قال له: يا شريف لا تظن أني أفرح بذلك فأنا من الباطنية، وذلك من طريق الحسابات عندهم، وقد كان ذلك منه صلوات الله عليه فإنه بلغ في الباطنية ما لم يبلغه أحد من سلفه.
رواية أخرى إلى القاضي يحيى بن الغوري أن القمر إذا كسف بعد غد قام قائم جق بين الدولتين وينخلان كما ينخل الطحين، فكسف القمر قبل دعوته بليلة ثم كان الأمر كما ذكر.
رواية أخرى سندها إلى رجل من أهل صنعاء أنه اتفق برجل يقال له: ابن النويرة، قبل قيام المهدي عليه السلام بثلاث عشر سنة فقال له: يقوم قائم الحق في سنة ست وأربعين وستمائة، وينصره رجل كث اللحية من صفته ونعته يكون زوال الدولتين على يديه.
رواية أخرى عن الصنعاني وعن الفقيه ابن الرواحي أنهما اتفقا برجل في مكة حرسها الله تعالى من أهل الحساب من بلاد الغرب يضرب في الرمل فسألاه عن كثير من أمورهما فأجابهما بما يوافق سؤالهما قالا: ثم التفت إليهما، وقال: من أنتما؟ فقالا: من اليمن فيما أحسب فقال: ابشروا يا أهل اليمن برخص الأسعار، وقائم الحق في هذه السنة وهي سنة ست وأربعين وستمائة، قالا: فأرتحلنا عن مكة حرسها الله تعالى فلقينا الخبر في ناحية تهامة، وهذه الروايات من الكهنة كما تروى، وقد كانت الكهنة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبرون بنبوته كما ذلك مذكور في المغازي، والتواريخ، ولعل عندهم بقية في ذلك. والله أعلم.
فأما الملاحم فالأمر في صدقها ظاهر إذا صحت أصولها؛ لأنها تستند إلى الوحي.
(فصل)
وأما المنامات الصادقة فقد ذكر من ذلك ما تضيق به الأوراق إلا أنا اخترنا من ذلك ما رواه أهل البيانات المشهور منهم ليستظهر به في فضائله، وكراماته، وإن كان ما شاهده الناس في اليقظة كاف، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتبرالمنامات، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، وقد كان الأكثر من أئمة أهل البيت عليهم السلام يذكرون في المنامات الصادقة في فضائلهم، ويعلقونها في سيرهم، ونحن نذكر مقدمة في تقسيم المنامات فنقول: قد ذكر أهل المعرفة في المنامات[12أ-أ] أقساماً، وشرطوا شروطاً تعتبر في صدقها قالو: إن من كان معتدل المزاج غير مشغول الفكر مما رآه كمن يموت له ولد وليس سواه فإن فكره متعلق به في النوم واليقظة، وكذلك من كان مزاجه متغيراً وقد غلب عليه أحد الأخلاط كصاحب السوداء يرى الظلم، والأشياء الفاجعة، والصور الوحشية، والروائح المنتنة، ومن غلب عليه البلغم يرى الثلوج، والأمطار، والأندية، وحمل الثقيل، والبرد وما يجري مجرى ذلك، ومن يغلب عليه أمره يرى الصواعق، والبروق، والطيران، والخفة، والطيش، والنيران، وتناول الأشياء المرة، ومن غلب عليه الدم كثيراً ما يرى المناكح، والملاهي، واللعب، والأشياء الناضرة، والخلوق الحسنة، والفرح، والسرور، ونحو ذلك ويعتبرون ذلك بما يظهر في الشجر، والألوان من السواد، والبياض، والصفرة، والحمرة، والوردية، ويعتبرون بالإنسان أول الشبيبة للدم، وأخرى للصفراء والكهولة للسواد، أو آخرالعمر للبلغم، ويقولون: إن من رأى مناماً يخالف مزاجه فإنه يعبر ويصدق. واللَّه أعلم.
هذا هو قول الحكماء، والاعتبار الصحيح، والمعول عليه ما ورد به القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام، وغير ذلك مما روي به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة والتابعين، وقد ذكر المتكلمون في المنامات كلاماً لا يتسع له هذا الموضع، والمنام جنس الكلام الخفي، ويلقى في روع بعض الأشخاص، وقد يكون من عند الله سبحانه، وقد يكون أضغاثاً من جهة الشيطان، فأما الصورة التي ترى والشخوص فهي خيالات تخطر في قلب الرائي في النوم، وقد قال صالح فيه بمقالة هتكت ستره أن من رأى في المنام شيئاً فهو حقيقة كذلك كمن يرى أنه في السماء وأنه مقطوع نصفين، أو غير ذلك، وهذه عثرة من عثرات السوفسطائية والحلولية ومن يجري مجراهم، وما أغنانا عن مقالتهم الفاسدة، ولم أذكر هذه المقدمة إلا أن كثيراً من المتعنتين، ربما يقول: إنا اعتمدنا في ثبوت إمامته عليه السلام على أضغاث الأحلام وليس كذلك، فإنا لم نعتبر في إمامته عليه السلام إلا بكامل الخصال وبلوغ درجة الاجتهاد، وكونه أفضل عصره والخصال قد ذكرناها، وأنها قد تكاملت فيه وهي ما أجمع عليه أئمة المسلمين والعلماء الراشدين، فإذا ثبت ذلك فلنذكر جملاً كافية من المنامات الصادقة العجيبة.
رواية منام إسناده إلى السيد الشريف العالم الطاهر حميد بن يحيى من أولاد الإمام القاسم بن علي عليه السلام، قال: أخبرني والد الإمام المهدي لدين اللَّه: الحسين بن أحمد رضي الله عنه أنه رأى نوراً يخرج من فرج زوجته أم الإمام المهدي عليه السلام ساطعاً يسحب في الأرض حتى غشيها أو غطاها أو كما روى.
قال: ثم انتشر إلى السماء.
رواية منام أخرى إسناده إلى عم الإمام المهدي عليه السلام سليمان بن أحمد رضي الله عنه، وكان من عيون الزهاد أنه رأى في المنام كأن قائلاً يقول له: أحمد بن الحسين إمام حق وعلامة ذلك أن زرعاً للأمير الحسن بن حمزة يصبح مغيراً في عصمان، فلما أصبح [12ب-أ]وإذا بالزرع مغيراً كما ذكر.
رواية منام أخرى إسناده إلى الشريف المطهرالورع سليمان بن محمد بن حمزة بن الحسين رضي الله عنه قال: رأيت أني التقيت بالإمام أحمد بن الحسين في مشهد الإمام المنصور بالله عليه السلام ووجهه يضيئ مثل القمر قال: وعبرت المنام على الشريف السيد المرتضى بن سراهنك الحسيني المرعشي فقال لي: هذا مليح بغاية وكان كلامه هكذا يملك اليمن وجزائر في البحر وكان ذلك قبل قيامه عليه السلام بمدة طويلة.
رواية منام أخرى قال السيد الشريف شرف الدين رضي الله عنه: رأيت في سنة تسع وثلاثين أني في موضع وإذا برجل في هيئة البشير يسمى خيران، وهو يبشر بإمام منصور أو بالإمام المنصور فنهضت لأنظر إلى هذا الذي يبشر به فرأيته الإمام المهدي بصفته فقلت له كلاماً فلقد رويت له في المنام ووقع في نفسه أي موقع، وسألني عنه وفيما أحسب أنه كان يحب كتمانه، وروى عني منام آخر عجيب وقد أنسيته، والنسيان عرض يطرأ على كل إنسان وقد اطرحته، وإن كنت لأستبعد صحته، ولقد رأيت منامات كثيرة مما يدل على علو شأنه، وسمعتها من غيري إلا أنها كثيرة، واختلفت وربما تشابهت فاطرحتها، وإنما نروي ما نقل ونضيفه إلى رواية بعد أن عرض ذلك على الإمام المهدي تعليقاً.
رواية أخرى من منام آخر ذكره بعض ما أشرنا إلى انفلاته وتنكبه عن الحق، وهذا المنام حجة عليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: رأيت هذا المنام قبل قيام الإمام المهدي سلام الله عليه بنحو من خمس عشرة سنة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقبل مؤتزراً بثوب ومرتدياً بآخر، وهو يريد مسجد الإمام المنصور بالله عليه السلام الجامع بحوث.
قال: فقلت للإمام أحمد بن الحسين: هذا جدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقبل إلى المسجد قال: فأخذ يسعى حتى أدركه قال: فلما أدركه الإمام التفت إليه وقال: مال الله معك ولا مال عليك، قال: قلت في نفسي: أنا أبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام في طريقهما، وفي نفسي الهيبة والإجلال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكون على مذهب الإمام وأتابعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد دعا له بهذه الدعوة.
رواية أخرى في منام آخر إسناده إلى الفقيه العالم الطاهرأحمد بن علي الصميمي أنه رأى كأن الكعبة في ذيبين وكان الإمام في أيام المنام حالاً في ذيبين.
رواية أخرى في منام آخر إسناده إلى الفقيه العالم الورع الطاهر يحيى بن علي الفتوحي أنه رأى في المنام أيام نقل السلطان عمر بن علي على محطته من حوشان ورأى من الأمراء من بني حمزة ما أرابه من الميل عن الإمام المهدي عليه السلام والمعاضدة عليه رأى أنه مع جماعة من العلماء والصلحاء منهم الفقيه العلامة وحيد العصر حميد بن أحمد المحلي قال: وإذا بواحد منا يقرأ بصوت حسن قوله تعالى: {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللَّه}(1)، وقوله تعالى: {يريدون أن يطفئوا نورالله [13أ-أ]بأفواههم والله متم نوره ولو كره المشركون}(2).
قال: فانتبهت وقد سكن قلبي، وزال ارتيابي وعلمت أن الله ناصر الإمام وكاف له كل محذور أوكما قال.
راوية أخرى من منام آخر مسند إلى الفقيه العالم سعيد بن محمد الحارثي، قال: كنا في جهة المغرب فرأينا آية عظيمة، وذلك أن أهل المغرب رأوا نوراً عظيماً قبل وقت العشاء الآخرة يشبه اصفرار الشمس عند غروبها ما لم تجر العادة بمثله فجزع الناس من ذلك فظنوا أنها آية آخرته، ثم تخلت تلك الصفرة وعادت ظلمة الليل قال: فلما نمت تلك الليلة رأيت في المنام أن شخصاً يقول: دريت ما سبب ذلك النور؟ قلت: لا، قال: ذلك باب مغلق منذ خلق الله الدنيا وما فتحه حتى الليلة، وهو باب رحمة قد فتحه للناس قال: فوقفت بعد المنام أيام قلائل، وبلغت دعوة الإمام المهدي عليه السلام.
رواية أخرى من منام آخر إسنادها إلى الفقيه الطاهر التقي يحيى بن قاسم الصريمي، وهو رجل معروف بالصلاح والورع أنه رأى في المنام أن الإمام المهدي قبل قيامه يمر على القبور وهو يبعثهم أحياء.
قال الراوي: وكنت في الليلة التي رأيت فيها المنام في موضع مع الإمام ومعنا الشريف الطاهر عامر بن زيد الشماخ، قال: فأخبرت الإمام بالرؤيا وكان معه الشريف عامر حاضراً، ولم أخبر باسم الذي رأيت قال: فعبرها الشريف عامر فقال: إن كان هذا الشريف فهو إمام حق؛ لأن الناس قد ماتوا في أديانهم، وذلك قبل قيام المهدي بنحو من خمس سنين. والله أعلم.
رواية أخرى من منام آخر مسندة إلى الشريف الفاضل قاسم بن محمد من أهل عيان ونواحيه قال: رأيت كأن الإمام المهدي على ربوة عالية وعنده جماعة من أهل العلم يعولون عليه في البيعة وهو يكاد أن يمتنع قال: وجبريل عليه السلام قائم على رأسه وهو يقول: بايع، فما يقول من كلمة ولا يقولون من كلمة إلا وأنا شاهد عليها وراض بها، وذلك قبل قيامه بمدة طويلة.
رواية أخرى من منام آخر مسندة إلى رجل من المسلمين من قرابة بني العصيفري، أن الناس في واد يرمون ناراً فاستوحشوا منها لتأججها وإذا بهاتف يهتف أنها نار كنار موسى نور وليست بنار، وقرأ: {وقل جاء الحق وزهق الباطل}(1) قال: وكان ذلك قبل قيام المهدي بأيام قرائب.
رواية أخرى من منام آخر إسنادها إلى سليمان بن حنظلة الصنعاني رأى كأن الناس يحجون إلى ثلاء.
رواية أخرى من منام آخر مسندة إلى الشيخ الطاهر المجاهد حاتم بن سليمان الضريوة، وكان من الصالحين رأى أن شخصاً يقول: {ياقومنا أجيبوا داعي اللَّه}(2) قال : وكان ذلك في أول الحول قال: وكان في آخر الحول، وقد قام الإمام المهدي فرأى الشخص الذي كان رآه قبل يقول له في المنام: الذي رأيته في أول
الحول{ياقومنا أجيبوا داعي اللَّه} هو هذا الإمام القائم الذي قد ادعى.
رواية أخرى ومنام آخر إسنادها إلى الشيخ الطاهر الحسام بن منصور بن محمد الضريوة رأى كأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في مسجد الإمام المنصور بالله في ثلاء وأنه صلى خلفه وبايعه بعد خروجه من المسجد، وقريباً منه فلم يلبث أن وصل الإمام المهدي عليه السلام وصلى في المسجد بعينه، وخرج وبايعه الشيخ المذكور كما رأى.
رواية أخرى من منام آخر عن الشيخ الطاهر حاتم بن هلال قبل قيام الإمام المهدي بنحو من سبع سنين، وهو في الدرس بعد أن قد عظم ذكره في الأقطار رأى أن الإمام المهدي في مسجد جامع وعليه شملة سوداء ملتحف بها، وعن يمينه نيام، فقال له الإمام: يا حاتم أنبه أولئك النيام فصل بهم قال: فأنبهتهم، قال: فصليت بهم، قال: ثم عبرت الرؤيا على رجل من أهل المعرفة ولم أخبره لمن المنام، فقال: ذلك رجل يملك الأرض، والجامع دنيا على قدر سعته، والشملة السؤدد، والنيام قوم خاملون في الذكر يعلي شيئاً من أمرهم.
رواية أخرى من منام آخر عن حاتم بن هلال هذا وهو رجل من الصلحاء أن شخصاً يهرب وهو ويقول له: السيد أحمد بن الحسين إمام مفترض من الطاعة، قال: فقلت له: ما دليلك؟ قال: من شك فيه فقد شك في النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال هذا الرجل: رأيت المنام قبل أن أعرف الإمام ولا أتصل به، وكان داعياً له إلى الاتصال به.
رواية أخرى من منام آخر إسنادها إلى حي الأمير الطاهر السيد فخر الدين إبراهيم بن الإمام المنصور بالله عليه السلام رواها عن رجل من المسلمين أنه رأى أن الناس يصلون إلى الإمام المهدي عليهم السلام وذلك قبل قيامه بمدة وهو كالقبلة التي يستقبلها المصلون من الجهات الأربع اليمن، والشام، والمشرق، والمغرب.
رواية أخرى من منام آخر إسنادها إلى رجل من المسلمين أنه رأى في المنام علياً عليه السلام نزل من السماء، ومعه صفوف الملائكة عليهم السلام فسأل عنهم فقال علي عليه السلام: نزلنا في نصرة هذا الإمام، وذلك في الليلة التي كانت صبيحتها وقعة حضور.
قال الراوي: قال الفقيه أحمد بن حنش: رأى السلطان الليث بن حنش قبل قيام المهدي بمقدار سنة ونصف أن شخصاً يقول له في المنام:
يا فروخ الجوالب عودي
غردي ثم زوكي وادعيني
ما بقيت غربة بل مهدية ... بشري الناس بالحق المبين
جبر شامل مع العالم سنين
بسعادة أمير المؤمنين
رواية أخرى من منام آخر إسنادها إلى الشريف علي بن مدافع أنه رأى شخصاً ومعه مفاتيح قال: لمن هذه المفاتيح؟ فقال له: هذه مفاتيح السماوات والأرض، وقد أمرت بتسليمها إلى السيد أحمد بن الحسين.
قال الراوي: وذلك قبل قيام الإمام بشهرين.
رواية أخرى من منام آخر إسنادها إلى الفقيه حنظلة بن أسعد، وكان كثير الروايات والغلو قال: رأيت مناماً والإمام المهدي في ثغر سناع، وقد تفرق عنه الناس كأنه عليه السلام في مكان عال على باب خيمة مضروبة منفردة، وعن يمينه رجل يسمى ظفر بن زريق قال فقلت: يا مولانا قال لي ظفر بن راشد، وهو كالمستوحش من الإمام: قل له يحزم من قوم من سنحان مع الأسد، وهو قريب من المحطة لا تكموا عليها، قال: ثم قلت عقيب هذا في النوم: بت يا أمير المؤمنين، أتفكر في هذه الآية: {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون، قل لن يصيبنا إلاما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون، قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم}(1) قال: فقال لي شخص وقد قبض على يمينى: أنت ترى هذا النور على أربعة آلاف من الملائكة، وقد نزلوا في نصرة هذا الإمام وهم الذين أمدوه يوم حضور.
قال الفقيه حنظلة: رأيت هذا المنام ليلة الجمعة لخمس بقين من شهر شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة قال: ونهض الإمام من سناع إلى ثلاء لعشر بقين من رمضان فكان ما كان من الفتوح في آخر تلك السنة.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: وهذا المنام شهد على حنظلة في حضرة أولئك الملائكة عليهم السلام بما فعله آخراً مع صاحب هذا المنام فالله المستعان وعليه التكلان.
رواية أخرى من منام آخر إسناده إلى الشيخ الطاهر عبد الله بن يحيى وفيما أحسب أني سمعته من الإمام بالزيادة في آخره.
قال الراوي: قال الإمام المهدي: إنه رأى في المنام كأنه يرمل برجز وهو فيما أحسب مروي عن علي عليه السلام أوله:
قد علمت ميالة الذوائب
أني غداة الروع والتغالب ... واضحة الخدين والترائب
أشجع من ذي لبدة مواثب
قال: ثم صاح الناس مجيبين له، وفيما يغلب على الظن أن الإمام قال: ثم صرخ بأعلى صوته كما يفعل المرمل، وأجابه الناس من كل ناحية أو كما كان في اللفظ.
رواية أخرى ومنام آخر بإسناده إلى الفقيه حنظلة بن أسعد عن الإمام المهدي في مدة الدرس قال: رأيت كأني أسابق الأمير عز الدين محمد بن الأمير شمس الدين بن الإمام المنصور بالله عليه السلام حتى أشرفت أنا وإياه على صحراء من الأرض في أسفلها قصر للمنصور عليه السلام قال: فسابقت حتى دخلت القصر قبل صاحبي، وصعدت أعلاه، ثم أشرفت من أعلاه وصاحبي لم يدخل بعد.
وهذا ما اتفق من المنامات عند التعليق، وفيما أحسب أن ما لم يعلق أكثر مما علقناه، والله الموفق والمعين.
(فصل)
وأما القسم الرابع فيما ذكرنا من فضائله وبركاته في النذور وما يجري مجراها من الدعوات، والكتب والمسح بيده المباركة على ذوي العاهات والعلل وذوي الأعراض للاختبار والاستظهار، والترجيح للبراهين على صحة إمامته وفضله فاعلم أن هذا القسم مما لا يتسع له كتاب منفرد ولأن ذلك كان أمراً مستمراً من قبل قيامه ثم بعد قيامه، ما كان كالمعجز من قصة التنين اسم رجل بصعدة وحجر سنحان بالعمري من أسفل وادي يكلا وقيام المقعد في ثلاء، وقيام المقعد من أولاد الغز، وغير ذلك، ثم بعد استشهاده وقبره وما شهد به الجم الغفير، والعدد الكثير من الأطهار والمسلمين مما رأوا في جسده الشريف من الآيات، والرائحة التي كأنها العنبر الخام، وروائح المسك عند قبره والآيات والعجائب ما نذكر ذلك في موضعه، ونحن الآن ذاكرون جملاً مما كان من بركاته قبل قيامه، ونردفها بما حفظناه عند التعليق بعد قيامه في حياته ليكون الأمر على نسق ونظام.
(فصل)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: أصابني مرض في شهر ربيع الأول سنة خمس وأربعين وستمائة، وهو حمى حادة حتى انتهى الحال إلى زوال العقل والاختلاط، ووقع الإياس من الأهل، وأشفق عليَّ من رأني مقدار أسبوع، ثم من الله بالعافية والعرف فرجع عليَّ عقلي، وعقلت بالناس نهاراً أوبعض نهار، ثم حدث عليَّ فهاق عقيب الاستفراغ وحينئذٍ وقع الإياس والإشفاق من أهل المعرفة بالطب، فكنت أفهق الليل والنهار على الاتصال، فإن سكن قليلاً فهو كرب وضعف وسقوط قوة، وصفرة في العينين واليدين وخروج الدم من الصدر حتى أيس الطبيب، وبكى الحبيب، وما نجع دواء ولا حصل شفاء، وأقمت كذلك ثلاث عشرة ليلة بأيامها، ولم يبق إلا الجلد والعظم والنفس الضعيف، والأهل متوقعون الموت ليلاً أو نهاراً، فلما طال الألم خطر ببالي في ليلة من الليالي أن أنذر للإمام المهدي شيئاً فحدثت نفسي بالنذر له وعقدته على قلبي فلا والذي نفسي بيده ما مرت ساعة بل تحققت أني فهقت إلا مرة واحدة، وانقطع ضربة واحدة، ثم نمت ليلتي تلك، وهذا أمر لم يعلمه إلا الله مني في تلك الساعة وهو أمر كالمعجز.
رواية أخرى إسنادها إلى السلطان الفاضل عفيف الدين الحسن بن إسماعيل الشهابي قال: إنه عرض عارض لبقرة له فأمر للجزار ليذبحها فلما دخل الجزار قال: ذكرت أني أن أنذر للسيد أحمد بن الحسين قال: فنذرت نصف عشر قيمتها قال: فقامت من حينها، وزال ما كان أصابها، وعاد الجزار.
رواية أخرى إسنادها إلى الفقيه حنظلة بن أسعد أن الإمام عليه السلام قبل قيامه مر بأهل الفصيرة في وقت جراد خرجت على أهل البلاد فأكلت زرايعهم فسألوه أن يكتب كتاباً ليصرف الله عنهم الجراد فكتب لهم، ونذروا له نذراً فأكلت البلاد إلا بلدهم فسلمها الله ببركته.
رواية أخرى عن رجل من الأشراف غاب عني اسمه أنه كتب إلى الإمام من جهة الشرف أن رجلاً نذر له نذراً في عنز حامل فولدت تلك العنز جدية وأن الجدية حلبت لبناً وهي لأقل من أربعين يوماً من مولدها.
رواية أخرى إسنادها إلى الفقيه الطاهر يحيى بن القاسم الصريمي صاحب عرس أنه أصابه طرش في أحد أذنيه فقال: اللهم إن زال عني هذا الوجع إلى كذا وعينه في اليوم الثاني فإن للسيد أحمد بن الحسين نذراً دراهم فزال الوجع قبل ذلك الوقت المعين.
رواية أخرى إسنادها إلى الفقيه حنظلة بن أسعد عن الشيخ محمد بن علي الحيداني أنه أصابه وجع في كلوة قال: فقال له ابن أخيه علي بن عمرو: أنذر للسيد أحمد بن الحسين قال: فنذر فعوفي من ساعته قال: ولم يكن يجري عادة أنه يعافى في مثل ذلك؛ لأنه كان كثيراً ما يصيبه.
رواية أخرى وروى الفقيه حنظلة فيما أحسب على الشيخ محمد بن علي أن فرساً له من جياد الخيل أصابها وجع في حلقها فنذر للإمام أحمد بن الحسين فزال ذلك.
رواية أخرى رواها الفقيه حنظلة عن الأمير المتوكل شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام أن رجلاً من البدو أتى إليه وهو في قرية ورور، ومعه راحلة فمرضت عليه الراحلة وكادت تتلف، فقال له الأمير المذكور: أنذر للسيد الإمام أحمد بن الحسين فنذر له نذراً فبرئت الراحلة، وقامت من ساعتها وحينها.
رواية أخرى رواها الفقيه حنظلة بن أسعد قال: حكي له عن رجل من أهل الخيل أنهم نذروا نذوراً كثيرة في خيولهم للإمام المهدي قبل قيامه فوافق ذلك مرادهم قال: وهي روايات عجيبة، وعجائب متواترة غريبة.
رواية أخرى إسنادها إلى الشيخ الطاهر حاتم بن هلال حكى أن له ولداً مرض حتى يئس منه وغمضوه للموت فنذر في تلك الحال للإمام قبل قيامه فقام الولد من ساعته وعوفي.
رواية أخرى عن حاتم بن هلال هذا أنه كان عند الإمام في ذيبين قبل قيامه فأتى إليه رجل من جهات الصيد برضيع غنم وحكى قصة عجيبة قال: إني كنت أرعى غنيمة لي فعدا الذئب عليّ وحمل هذا الرضيع الذي أتيت به، قال فقلت: يا ذئب: إنه للسيد أحمد بن الحسين، قال: فطرحه ولم يضره بشيء، وهذه عجيبة.
رواية أخرى إسنادها إلى الفقيه العالم الطاهر الورع تقي الدين علي بن سلامة الصريمي قال: إن رجلاً من أهل حجة يقال له علي بن إبراهيم كان زائراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأصابته فطور في رجليه فآلمته حتى لقد تعذر عليه أن يقوم عليها، فقال له الراوي: أنذر للسيد أحمد بن الحسين فنذر له درهماً إن تماثل، ولم يتخلف عن رفقته فأشهد الناذر على نفسه أن فطوره خذّت وسكنت وسار قليلاً، ثم عوض راكب على راحلة في ذلك القفر وهو الخبت الذي دون المدينة فأركبه إلى مسجد قباء على ميل من المدينة أو نحو ذلك.
رواية أخرى رواها الفقيه العالم تقي الدين علي بن سلامة الصريمي عن القاضي حسين بن محمد بن إبراهيم أنه كان حاجاً ثم راح من مكة حرسها الله تعالى، وهو مريض وكان معه ثلثمائة درهم قفلة أو نحو ذلك له ولغيره فخرج على الحاج في عقبة لهده فلم يقدرأن يهرب فنذر للسيد أحمد بن لحسين ثلاثة دراهم قفلة ووقف مكانه فنهب عن يمينه وشماله وسلم.
رواية أخرى إسنادها إلى الفقيه الطاهر تقي الدين علي بن سلامة الصريمي قال: إن والده رحمه الله نذر للسيد أحمد بن الحسين نذراً سماه في زرع له من البلس إن لم تأكله الصيود فأكل ما فوقه وتحته، ولم يجد في زرعه أثر للصيد إلا ظبياً أخذ منه غصناً فأسقطه ولم يأكله.
رواية أخرى رواها الفقيه العالم التقي تقي الدين علي بن سلامة الصريمي عن رجل من عرضي شاكر غاب عنه اسمه أنذر للسيد أحمد بن الحسين نذراً في بقرة شلت ضروعها أو بعضها فعادت وحلبت.
(فصل)
ومن كراماته وفضائله ما رواه الفقيه العالم فخر الزهاد، وقدوة أهل العصر أحمد بن عريق رحمه الله، وكان شديد الحرص في ملازمة الإمام ليلاً ونهاراً من صغره إلى أن تزوج في ذيبين، وكان له كالوالد الشفيق قال: فقدت السيد أحمد بن الحسين في ليلة فطلبته ودخلت مسجد ابن زربون المشهور فرأيت نوراً ساطعاً فتعجبت من ذلك ولحظت ببصري إلى سدد في المسجد لعل ضوء سراج أو ما يجري مجراه فلم أر شيئاً فنظرت إلى السيد وهو نائم في المسجد عند المحراب وقد سطع نور من جهته في جدر المسجد، قال: وكان ذلك وهو في أوان الإدراك، وهذه الرواية من العجائب ولا سيما من مثل هذا الفقيه الزاهد رحمه الله تعالى.
رواية أخرى من كراماته عليه السلام عن رجل من مراد قال: أخبرني مؤذن المسجد في غيل مراد قال: أتيت المسجد على جاري العادة لأذكر فيه آخر الليل قال: فرأيت نوراً عظيماً، وهو في آخر ليلة من المسجد قال: فتعجبت من ذلك وظننت أنه قد أصبح في المسجد فأتيت المسجد وإذا بالجماعة يصلون فيه فسألت بعضهم فقال: إن هذا السيد أحمد بن الحسين وصل إلى هذه الجهة في الليل وغرضه النهوض بعد الفجر إلى براقش.
رواية أخرى من دعواته المستجابة إسنادها إلى الفقيه حنظلة بن أسعد قال: إن الإمام قبل قيامه مر برجل يضرب امرأة فقال: مهلاً أشل الله يدك قال: فشلت يده من ساعته، ثم إنه أتى إلى الإمام وتاب واستغاث فزال عنه الشلل.
رواية أخرى عجيبة مشهورة أن رجلاً من براقش أتى بغنمه إلى جربة قد كان وهب علفها للإمام قبل قيامه وهو هنالك فتقدمت شاة من الغنم لتأكل من العلف الذي للإمام فقيل له ازجر شاتك أو معنى ذلك من علف السيد فاستهزأ بذكره فلم تلبث الشاة أن ماتت من وقتها.
(فصل)
وقد روي أن أقواماً كانوا قبل قيامه من أقطار الأرض إذا ركبوا في الفلك وعصفت بهم الريح أنهم يفزعون إلى البركة والنذور له سلام الله عليه.
رواية عجيبة من فضائله[16أ-أ] شهد بها من لا ينحصر عددهم وهي الجربة في وادي قعود لمّا مر عليه السلام في اليوم الذي وصل منه إلى ثلاء ولقيه رجل من أهل الوادي بقطعة من التراب من جربة له فنفث في تلك القطعة وأخذها الرجل فذراها في جربته فجاء سيل أتى من بلاد بعيدة لم يقع عليهم مطره فسقط تلك الجربة وهي وسط الوادي ولم يشرب ما فوقها ولا ما تحتها، فكانت آية من مضى من تلك الناحية فعجب منها الناس وازدادوا ذكرى وبصيرة.
(فصل) في ذكر جمل من عيون فضائله بعد قيامه عليه السلام.
أما المشهورات من فضائله صلوات الله على جده وآبائه وعليه وسلامه: فمن ذلك أنه عليه السلام بعد قيامه مسح على صبية كان بها علة عظيمة قد تطاول سقمها فعوفيت، وأنسيت تفصيل قصتها عند التعليق والله المعين.
ومن فضائله المشهورة أنه عليه السلام بعد البيعة لما تهافت الناس عليه فكانوا يأتون من النواحي البعيدة لحضور صلاة الجمعة، وكان في تلك المدة مطر عظيم فلم يكن ينفك المطر متواصلاً كل يوم وخصوصاً آخر النهار إلا يوم الجمعة، فلقد رأينا آية عظيمة باهرة وذلك أن السحاب يتراكم إلى وقت الصلاة ثم يتفرق حتى تنقضي الصلاة، وربما لا يقع في ذلك اليوم مطر على الناحية وربما يقع بعد قضاء الصلاة، ولقد صلينا معه جمعاً متوالية فما أصابنا مطر وكل يوم يأتي المطر دائماً.
ومن فضائله عليه السلام الريح التي أنشأها الله تعالى يوم وقعة حضور وذلك أن السلطان لمّا أمر جنوده وحشد عساكره فتلاحم القتال واشتد الوطيس وكان المسلمون يومئذٍ فئة قليلة في مقدار القوم، وأمير المؤمنين في موضع فئة لهم ومعه من عيون الفضلاء وغيرهم وهو يبتهل إلى الله بالدعاء ويستمطر سحاب النصر إذ أنشأ الله ريحاً كالإعصار تحمل تربة إلى الحمرة ما هي، ثم عندها شد المسلمون على أعداء الله فولوهم الأدبار لا يلوي أحد منهم على صاحبه، فكم من صريع تنوشه السيوف وتحوم عليه طيور الحتوف، حتى قتل منهم طائفة ليست بالقليل، وفاز المسلمون بالغنائم الجزيلة من سيوف الحلي والحياصات والمناطق من الذهب والفضة والدروع والخوذ والسيوف والخيل والبغال والملابس النفيسة، وحمل روؤس القوم حائط مدينة ثلاء والحمد لله رب العالمين، وذلك من أعظم الآيات، وهي أول باكورة وقعت في أعداء الله، وذلك من بركاته عليه السلام، وقال بعض الشعراء في ذلك اليوم من قصيدة أولها:
يامن إذا ما رأى الراؤون طلعته
ومن إذا ما بدت في الليل غرته
ومن أصابت به الأيام بغيتها
ومن به نالت الأيام منيتها
لما رأوا ملكاً تعنو الملوك له
سبط اليدين فلا جعد ولا خرق
رحب الدسيعة لا جاف ولا نزق
صلت الجبين فلا واه ولا وهل
شمس الملوك الذي تحنو لطلعته
هذا الإمام الذي كانت لدولته
هذا مزيل ملوك الأرض قاطبة
هذا الذي كانت الدنيا تؤمله
هذا أبو الحسن المهدي ومن طلعت
في ليلة قام هذا الأمر متسقاً
إلى أن قال:
سريت في ليلة يهوي النذير به
وجاءت الناس أفواجاً كما وفدوا
ألقت إليك ملوك الأرض نخوتها
قاموا حيارى فلا طوع ولا نكر
إن طاوعوك يقولوا الملك مستلب
لا يعرفوا رجلاً في نفسه كرم
جاءت إلى ملك في ثوبه ملك
وافى بألفين من عرب ومن عجم
دنوا إليك بما تحوي خزائنهم
فراح والخيل والأموال مسلبة
جاءت إلى حلب تهدي خزائنه
راحت إلى ملك تهفو البنود له
لا يجمع المال إلا ريث يفرقه
أتاك مستنقذاً ما قد ظفرت به
منته أحلامهم بالليل نيل ثلا
ما سد أسوارها إلا جماجمهم
وظل للذيب في حوشان مرتبع
رجوا عمارة إذ منته غرته
ولا إلى كوكبان طالباً وزرا
سائله يوم شبام كيف ظل به
... قالوا إذاً ملك ما هكذا بشر
قالو أذا الشمس أم هذا هو القمر
ومن بغرته يستنزل المطر
لما رآه فقد قالوا هو الخضر
جاءت إليه ذنوب الدهر تعتذر
طلق اللسان فلا عي ولا حصر[16ب-
سهل الطبيعة لا مكر ولا نزر
صلب القناة فلا لين ولا خور
غلب الملوك وتخبو عنده الزهر
من آل فاطمة الأملاك تنتظر
مملك الملك لا باب ولا كبر
هذا الذي زبرت في ذكره الزبر
شمس الزمان به والنصر والظفر
لما أتى الأجل المحدود والقدر
خوفاً وفي جانب تهوي به البشر
إلى أبيك وفي الأنباء مزدجر
لما أضيف إليك النفع والضرر
مذبذبين فلا ورد ولا صدر
أو حاربوك يقولوا الملك والعمر
سيان في كفه الياقوت والبعر
رايات مصر على قوادها عمر
خيلا علتها تريك البيض والصدر
ما كان يعلمها والأمر مستطر
وللسيوف على آثارهم أثر
فراح منها بما قد كان يدخر
على أغر له في يومه خطر
ولا يسد على أمواله الحجر
فراح ليس له ناب ولا ظفر
فراح في سورها من روسهم جدر
كانوا سكارى وهذا ما به اعتذروا
وللسباع وفيها منهم جزر
نيل الحصون فلا حصن ولا دور
وكوكبان الذي بالذل مؤتزر
وطوده في غبار الدور مقتبر
وسنذكر القصة مستوفاة عند ذكرنا وقعة حضور إن شا الله تعالى.
ومن فضائله عليه السلام المشهورة ما رواه الفقيه العالم الفاضل تقي الدين علي بن سلامة الصريمي.
قال: كان الإمام المهدي عليه السلام واقفاً للناس في المحاصب بثلاء بعد صلاة الجمعة فيما أحسب إذ أقبل رجلان أحدهما أعمى، والآخر يقوده، فطلبا الاتصال بالإمام فلم يمكنهما لكثرة الازدحام وتهافت[17أ-أ] الناس على الإمام.
قال: فأدخلت ذلك الأعمى إلى الإمام وقلت: يا مولانا امسح على هذا الأعمى، ثم مسح على وجه الأعمى ورأسه وقرأ عليه ودعا له فخرج الأعمى من بين يديه عليه السلام وقد شفاه الله وعافاه، وأبصر صغير الأشياء وكبيرها، فكبر الناس بذلك وهللوا، واجتمعوا عليه اجتماعاً عظيماً، وكان أمراً ظاهراً مشهوراً.
ومن فضائله عليه السلام: ما رواه الفقيه العالم الفاضل تقي الدين علي بن سلامة الصريمي قال: إن رجلاً من أهل السودة بشظب يقال له الشريفي بن محمد كان يشكو وجعاً في رأسه وعينيه وخياشمه فسار إلى الإمام إلى ثلاء فمسح على رأسه ووجهه فخرج وهو يعطس ووقف إلى اليوم الثاني، ثم قال للراوي: أدخلنى إلى الإمام، فأدخله إليه إلى دار الشيخ الرئيس حارث بن منصور الضريوة فقال للإمام: امسح لي يا مولانا فوجعي ازداد مذ مسحت عليه، فقال له الإمام: الله المعافي، ثم مسح عليه ثانياً ودعا له.
قال الراوي: وراح الرجل ووقفت عند الإمام أياماً، ثم سرت إلى شظب فلقيت الرجل فقال لي: عافاني الله من ذلك الوجع الذي كان معي ببركة الإمام، وقال: كان في خياشمه عجمة من الدوم من وقت صغره لها مقدار خمسين سنة وأنه اشتد وجعه بعد مراحه وأخذه العطاس وخرجت تلك العجمة وعليها عصيمة من اللحم والعصب، فأشهد أصحابه وبني عمه على ذلك.
ومن فضائله عليه السلام: وهي الآية الباهرة قصة التنيين وذلك أن أمير المؤمنين لما رحل إلى صعدة واستولى عليها جاء إليه هذا المقعد المعروف بالتنيين وله قريب من أربعين سنة يدب على رجله ويديه ولقد كنا نشاهده في وقت الصغر وهو يسير كما تسير القردة وقد كركرت يداه، فمسح عليه الإمام عليه السلام فقام بعد ذلك منتصباً وسار كما يسير الناس، ولقد رؤي بعد ذلك يحمل السلاح كما يحمله الأصحاء ويلعب، وعلى الجملة إنها آية وفضيلة لم يمكن مخالف دفعها ولا كتمها واستفاضت في اليمن ونظمت فيها الأشعار وسارت في الأمصار، فمما قيل في هذه الفضيلة من ذلك قول الأمير المتوكل على الله أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام قال:
أضاء على الإسلام نورك وانطفى
وقد علمت آل النبي محمد
وأنك لا وان ولا أنت طايش
ولا عجب إن زادك الله حجة
رآك لها أهلاً فزدت تواضعاً
رضيناك للدنيا وللدين فارتفق
... بوجهك ليل الهم واتضح الفجر
بأنك أنت الفلك إما طما البحر
ولا مظهر سر الحقود ولا وغر
سماوية ما إن بها للورى عذر
فزادك تكبيراً بها من له الكبر
على النجم مسموعاً لك النهي والأمر
وقال القاضي اللسان ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي رضي الله عنه:
أراد الله إيضاحاًجلياً
مسحت عليه مسحة مستجاب
أتاك على يديه يدب ضعفاً
وكان يلقف الأوصال سقماً
فلو كف المسيح عليه جالت
وأظهر نورك الرحمن لما
ولو بعد ابن آمنة نبي ... فسار المقعد العالي سوياً[17ب-أ]
ولم تك بالدعاء له شقيا
فعاد فكان رمحاً سمهريا
فقام على بديهته جريا
لما زادت ظما عطفيه ريا
رآك بأن تخص به مليا
لأهل الأرض كنت لهم نبيا
وهذه الأبيات خص بها القاضي هذه الفضيلة وقد ذكرها في عدة من شعره وأضاف إليها ما عداها من الآيات الباهرة.
ومن فضائله الباهرة المشهورة صخرة الهضب في أسفل وادي يكلا بوادي العمري، وذلك أنه عليه السلام لمّا ظهر مكر سنحان وقتلوا الفقيه الطاهر المجاهد أحمد بن يحيى الزيدي ثم الصعدي ظلماً وعدواناً، وطلب الإمام عليه السلام القيام بثأره وسار إلى أن هبط إلى وادي العمري وقابل هذا الهضب وهو كهف كان تجتمع إليه سنحان ويحلّفهم الفقيه الشهيد على طاعة الله تعالى والجهاد والنصيحة للإمام عليه السلام، ذكر للإمام أن ذلك الكهف هو الذي كان سنحان يجتمعون فيه فقيل: إن الإمام عليه السلام قال: لا بارك الله فيهم ولا فيه أو معنى ذلك، وقد سألت الإمام عن هذا الكلام فقال:
أما أنا فإني أعرف أنه تحدث معي في ذلك فقلت كلاماً وقد أنسيته إلا أنه في هذا. والله أعلم.
رجعت القصة: فلم يلبث في المحطة في العمري إلا ليالي قلائل ووقعت في الليل هدة عظيمة ولم يكن أوان مطر فقيل: إنها رجفة، وتحدث الناس في ذلك، فلما وصل المختلف من أهل الوادي أخبر أن ذلك الكهف والصخور انهدت بغير سبب، فعجب الناس من ذلك ولم يشك أحد أنها دعوة الإمام استجيبت، فركب الإمام عليه السلام وركب خلفه خلق كثير من الناس، وسار بعضهم حتى وصلنا إلى ذلك الموضع فرأينا صخرة عظيمة كأنها قطعة جبل قد تصدعت عرضاً وطولاً وانحطت في الأرض من غير أن يكون تحتها هدف ولا سبب مما يتصور، بل كأنها حجر النورة التي ترش بالماء ثم تفرق شعوباً، فعجب الناس من ذلك ونظمت فيها الأشعار، وسارت بها الركبان وهي إلى الآن يطوفها الناس، ويتعجبون منها، فمما قيل في ذلك قول القاضي ركن الدين مسعود بن عمر العنسي رضي الله عنه من قصيدة طويلة يذكر فيها غير ذلك من الفضائل قوله:
ألم تبصر التنيين فارق سقمه
دعوت فسارت في مفاصل جسمه
وهضبة سنحان الذي قد دعوتها
وأعمى كساه النور رب دعوته
وأرض وطئت الترب منها فأعشبت
فهل كان يدعى أن يكون على الذي ... على طول عهد منهما متقدم
حياة الذي أفنى قبائل جرهم
فجاءت وكانت منتمى كل أعصم
وقد كان في جنح من الليل مظلم
وغيثاً دنا لما دعوت ألا اقدم[18أ]
نصرنا به مهدي عيسى بن مريم
وقال الشيخ القاسم بن هتيمل التهامي في قصة التنيين من قصيدة ذكرها:
إلى المهدي أحمد ناقلت بي
شبيه سميه خلقاً وخلقا
حقيق أن يحن الجذع شوقاً
أيخفى الفاطمي وقد رأينا
أبعد شواهد التنيين يعصى
أتاك كضفدع العمران فقرا
فما عرف المسيح بغير هذا
ولا انفرد ابن مريم عنك إلا ... مراق العدو تحسبها نعامة
وهديا في الطريقة واستقامة
إليه وأن يظلل بالغمامة
أدلته ولم يبلغ فطامه
من الثقلين مأموم إمامه
فقام كسمهري الخط قامه
أمعجزة النبوة في الإمامة
بعازر فهو قد أحيا رمامه
وقال السيد شرف الدين رضي الله عنه:
أومى إلى هضب الكميم بكفه
وجرت على التنيين منه أنامل
فبسعده سعد الأنام وطالما
لولاه ما انتصف اللهيف ولم يكن ... فتبددت أحجاره تبديدا
فمضى يحاكي دابلاً أملودا
لم يلق منهم قبل ذاك سعيدا
حكم الضعيف على القوي شديدا
وقال بعض الشعراء أيضاً يذكر آية التنيين والدعوات على السلطان عمرو بن علي بن رسول وهضبة سنحان وغيرها:
فادع لي الله دعوة تبلغ العرش
كم سقيم ومقعد عاد هذا
وعدو لما دعوت عليه
وإلى الآن قرب يكلا لسنحان
جبل بايعوا عليه فخانوا
معجزات كالشمس لم يعرها اللبس
آية بعد آية بعد آي ... سريعاً كدعوة التنيين
ذا شفاء وذا كبعض الغصون
قصدته الأحبار بالسكين
على مهيع له مستبين
فتداعى لي نقض رأي العيون
ولم تفتقر إلى تبيين
لإمام بكل فضل قمين
وقال بعضهم من قصيدة طويلة:
أبى الله إلا أن يتم نوره
ونور داوى الغصن إن ذكر اسمه
ألم يأن للمرتاب إذ هاب ريبة
ترى برهة يحثو برجل صحيحة
فأجرى عليه منه كفاً زكية ... بأبيض يستسقى به سنة الأزم
فبورك من غصن وبورك من إسم
بما كان في التنيين من معجز حكم
ورجل رماها الله باليبس في اللحم
فقام سوياً ناعم البال والجسم
وقال بعضهم أيضاً يشير إلى هضبة الكميم والتنيين:
أيها المنكر الخلافة فيه
صدع الصخر في الجبال دعاه ... قد رضينا به رضينا رضينا[18ب-
ثم أبرى بكفه التنيينا
وقال القاضي ركن الدين أيضاً من قصيدة فيها مناقب كثيرة:
وأصبح في جبين الدهر سطر به
تصدع عند دعوتك الصياصي
على فوق السماء لها قباب ... لفضلك واضح لا يستحيل
يشفى عند نفثتك العليل
ومجد في السماء له مقيل
وقال الفقيه الإمام الحسن بن البقا القيسي التهامى في قصيدة طويلة أعرب فيها ونال من آل الهادي عليه السلام وأشار إلى فضيلة التنيين وهضب الكميم منها وذكر فيها المهدي عليه السلام:
إلى طود أبوه أبو حسين
وقد أضحى بها التنيين يسعى
أليس الحق أعلم آل طه
فأنت الدين والدنيا جميعاً
على أني أقول إذا تولوا
رضينا ابن الحسين لنا إماماً ... لدعوته تصدعت الحجار
وكان به عن السعي الحصار
وأشجعهم إذا احتلت الشفا ر
وحبل ودادك الحبل المغار
وحلوا عقد بيعتهم وجاروا
به ركن يزار ويستجار
وقال بعضهم في فضائله على العموم:
وكم لك من يوم أغر محجل
ومن آية غراء في آل أحمد ... ومن كرم قد قيدته الصحائف
لها خطر قد ضمنتها المصاحف
ومن فضائله عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والتسليم التي بلغ ذكرها إلى بغداد وغيرها من الأقطار.
قصة الحشيشي في حصن حلب
وذلك أن الإمام المهدي عليه السلام لما عظم شأنه وملأت القلوب هيبته، وخاف ملك اليمن على سلب ملكه فبعث إلى خليفة بغداد فأجمع رأيهم على دس الحشيشية؛ وهم قوم يأتون من بلاد يقال لهم الطفش من تخوم خراسان ملاحدة، ثم يتخذهم بطانة ملك الباطنية بالموت في نواحي الديلم، ويعتقدون أنه ربهم، وأنه ينقل أرواحهم إلى صور غير صورهم ويلحقون بالعالم الروحاني فيعشقون الموت ويطرحون بنفوسهم على ما أمروا به ولا يرجون سلامة، ويعدون السكاكين العظيمة التي تنفذ في الدروع، ويبلغون في سمها الغاية بالسمومات التي لا ينجو من دمي بها ولو مثل خدش الإبرة، فلما وصل هذا الحشيشي على نهاية الكتمان دسوه على يد السلطان أحمد بن علوان بن بسر بن حاتم بن الفضل اليام ثم الهمداني فأتى على صورة رسول في خطاب وصلح، ولم تجر العادة بأن الرسل تكون من الحشيشية ولا سمع بدسيس الحشيشية على أحد في اليمن قبلها، فلما جاء هذا الحشيشي من حصن كوكبان على هيئة ولباس تلقاهم الإمام بما جرت به العادة من أخلاقه الرضية فأقام عنده يومين، فلما أصبح اليوم الثالث[19أ-أ] وأراد الوداع دخل على الإمام ومعه جماعة من أصحابه وحاشيته فلم يتمكن من غفلة يثب فيها حتى دنا رجل من أصحاب الإمام يشاوره فستر ما بين الإمام وبين الحشيشي فحينئذ استخرج السكين وهو ملصق إلى فخذه أو ساقه ثم قام قائماً وانحط على الإمام وظن أنه دافن بدرع في أسرع ما يكون فأخذت الطعنة نيفاً وخمسين طبقة في عمامة مثقلة ثم في قمصانه وشوخه سقلاط حمراء عليه ورداء فوطة منارية، ومرت تحت كفه الأيسر إلى نحو الصلب لعلها غاصت في لحمه قدر ثمان أصابع، ثم كانت الروعة في القصر وظن الناس أن الإمام قد قُتل وانكشفت الحرم، فمن العجائب والفضائل العظيمة أن الحشيشي قبض على يديه الفقيه العالم القاسم بن أحمد الشاكري وهو شحب البدن كبير السن، وذلك الحشيشي من العلوج الأعاجم الذي لا يقوم له إلا جماعة فما انتصر ولا برح
مكانه، بل أخذ الفقيه المذكور السكين من يده وضغطه حتى دخل عليه بعض مماليك الإمام وخدمه فقتله، ثم إن الإمام عليه السلام لما طعن فكان من رأى الطعنة وعظمها يأيس منه؛ لأنها في مقتل خوف السم، فلما بلغ العلم إلى صنعاء اليمن خرج السلطان وعمل المقامات والبشارات، وقطع على قومه بالسم الذي جعل في السكين فكان برداً وسلاماً فما وقف الإمام عليه السلام إلا الأيام القرائب حتى خرج من القصر وصار يركب ويسير: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً}(1).
وكانت هذه الفضيلة مما طبقت الأرض وملأت الأقطار لأجل السم الذي لم تجر عادة أنه يسلم منه أحد، بل يصاد أجسام بني آدم ويخل نظامها ويذهب بحياتها، فجعل الله ذلك آية في الدنيا، فكانت سلامته عليه السلام حسرة على أعداء الله ونعمة أنعم بها على أوليائه، وسنذكر طرفاً من القصة في موضعها من السيرة إن شاء الله تعالى، وكانت هذه القضية لمضي ساعة ونصف من يوم السبت لثمان خلون من شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وخمسين وستمائة.
ومن فضائله عليه السلام: أن قوماً ممن أغرق في عداوته وأذاه وبلغ الغاية في توهين أمره وهم في جهات مختلفة وبلاد متباينة دعا عليهم فمكنه الله منهم وانتقم منهم لدين اللَّه.
ومن فضائله المشهورة: في غزوة مأرب في العين التي انخسفت في العواهل في موضع لم تجر فيه عادة غيل ولا علم بها قبل، وذلك ما يشهد به الجم الغفير من الناس.
ومن فضائله عليه السلام: ما رواه الأمير محمد بن حمزة بن الحسين الحمزي أنه لما ضعف بصره ولم يدع شيئاً مما هو ممكن في جهاته من الأدوية والكحال ومدح مرتين أنه أخذ شيئاً من شعره عليه السلام للبركة فجعله مع كحال أوكحالات مفرداً أو كما روي ذلك لغير واحد، فحصل في بصره من الزيادة والقوة ما لم تجر به عادة مع نوع من أنواع الأدوية والأكحال، والحمية الطويلة التي لازمها سنيناً كثيرة، والرواية مشهورة لا تنكر.
(فصل)
وأما السبب الداعي له[19ب-أ] إلى القيام فاعلم أنه عليه السلام لما بلغ درجة الاجتهاد وتكاملت فيه مسائل الخصال المعتبرة في الإمامة وخيل فيه مخائل الزعامة، وسار ذكره وعظم شأنه وأمره، ومدت إليه الأمة أعناقها وبذلت له النصرة بأنفسها وأموالها، وتمت سائر آيات الفضل وأدوات المجد فلم تكن مشكلة في أنواع العلوم من الفروع والأصول، والمسموع والمعقول يورد اختباراً أو يطلب أحداً فيها رشداً وسداداً إلا حل عقالها، وفتح أقفالها، ومن شك في بلوغه درجة الاجتهاد فهو جاهل أو سفسطائي متجاهل.
هذا وكان زمان شاع فيه الظلم وكثر الجور، وأخذت الأموال جزافاً وقهراً، وقهر الضعيف وأعين القوي، وظهرت البدع، وقل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وتدخل أهل المذاهب الردية على أهل الإسلام حتى لقد روي -والله أعلم- أن قوماً من الباطنية عبدوا صنماً، وباعت الملوك رعاياها، ومحي من الإسلام رسمه ولم يبق إلا اسمه، وأكلت الملوك أموال الناس وأهداها بعضهم إلى بعض، واتفقوا على المهادنات والعدول إلى الراحات، واشتغلوا بالمناكح والمآكل والملابس والتفاخر في ذلك والتكاثر، فلما تكاملت فيه الخصال واستبد بخصائص الكمال، وكان عين الزمان، والمشار إليه بالبنان، وظهرت له البركات الظاهرة، والفضائل الباهرة، ولم يشك أحد من عيون العلماء في بلوغه درجة الاجتهاد، وصار في العلم الغاية القصوى، وإليه تنتهي الفتوى.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: ونحن نذكر هاهنا لمعة من الكلام فيما ذكره عيون علماء الإسلام، والذين إليهم الحل والإبرام من بين جميع الأنام في تكامل الخصال الذي فيه عليه السلام، الذي شهد له بالإمامة وصحت له الزعامة، هذا واسطة عقدهم، وسنام مجدهم في جهاتنا وفي غير بلادنا من ديار العراق، والذي بلغ إلينا على لسان من شاهده وسمع كلامه من العلماء أنه أوحد الزمن في العراق واليمن، العلاّمة المتكلم، فخر المجتهدين، وقدوة المتهجدين، حسام الدين سيف الإمام المنصور بالله عليه السلام على أرباب البدع المتمردين، السابق المجلي رضوان الله عليه كان ممن تطرب بذكره المحافل، ويثنى عليه الثناء الطائل، ويشهد باجتهاده وكماله، وأنه أوحد زمانه، بل سمعناه يقسم بالله الذي لاإله إلا هو ما يعلم على وجه الأرض ذات الطول والعرض أفضل منه، وهذا نهاية الحصر للإمامة والفضل فيه رضوان الله عليه وسلامه، وعرضت عليه مسائل نهاية الإرشاد فحكم له ببلوغ درجة الاجتهاد، وكان ممن حثه على القيام وأنه أولى الأمة بالحل والإبرام، وأن القيام قد تعين عليه.
ولما دعا عليه السلام كتب الفقيه رحمه الله الرسائل إلى الأقطار، وشهد باجتهاده وكمال الخصال فيه لمن بعدت داره في الأمصار، قال في رسالته الموسومة بـ(الكاشفة عن لوازم الإمامة[20أ-أ] لطالب الأمن يوم القيامة) بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر طرفاً من مناقب الإمام المنصور بالله عليه السلام، ثم قال بعد ذلك: فقد زادنا الله نعمة بعد هذه النعمة، ومنة بعد هذه المنّة، بقيام مولانا السيد الإمام، خيرة العترة الكرام في زمانه، وتاجهم المكلل في أوانه، أمير المؤمنين الصادع بالحق المبين، المهدي لدين الله رب العالمين: أحمد بن الحسين المبرأ من كل شين، بعد إحرازه لخصال الإمامة، وانفراده على أهله بخلال الزعامة...إلى قوله: بعد أن لبى دعوته الأفاضل، وسادة العترة عليهم السلام، وأتباعهم من علماء الإسلام، وأطبق الكل على إمامته، وشهدوا بخلافته...إلى قوله: فشمروا في طاعة مهدي عصركم عن ساق، وسلوا بين يديه المصقولة الرقاق، واعلموا أن الجهاد بين يديه كالجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإياكم أن تظنوا أنكم على سداد، أو في منهج رشاد إن رفضتم طاعة أمير المؤمنين، المهدي لدين الله رب العالمين، وكيف ترجون أن تكونوا أتباع العترة إذا رفضتم قائمهم في زمانه، وسابقهم في أوانه، هيهات هيهات هذه ظنون كاذبات، وأماني باطلات، لا صحة لها ولا ثبات.
وقال رضي الله عنه في رسالته الموسومة (الباعثة لذوي الإيمان على الالتزام بطاعة إمام الزمان) قال بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على محمد صلى الله عليه: أما بعد:
فإن نعم الله وإن فاتت العد، وتجاوزت الإحصاء والحد، فإن من أجلها قدراً وأعظمها خطراً ما منّ الله به علينا يا أهل هذا العصر، وأتحفنا به يا أبناء هذا الدهر من قيام مولانا ومالكنا الإمام، الأعلم الهمام، المهدي لدين الله أمير المؤمنين رب المعالي والمكارم أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم، فإن قيامه من النعم الجسام، والأيادي العظام...إلى قوله: وهو سلام الله عليه المحرز لقصبات السبق، المجلي في مضمار الحق، نشأ على طهارة معروفة، ومحاسن موصوفة، وفاق بورعه المبرزين في ميدان العفاف، وكف عن الأمور المشتبهة أحسن كفاف، حتى أنه لم يعرف أنه أتى مليماً ولاقارف ذميماً، ولا واقع نكراً، ولا آثر هجراً، بل تحلى بالورع قولاً وعملاً، وتفصيلاً وجملاً، وله في ذلك المزية التي لا تنكر، والحظ الأوفر، وإن نظرت إلى حلمه وجدت طوداً راسخاً، وشرفاً بالوفاء باذخاً، وإن شاهدت أخلاقه الرضية وشمائله المرضية عاينت ما هو أرق من السلسال، وأعذب من الماء الزلال، ولقد وسعت جميع الخلائق، وغدت طرازاً في محاسن الطرائق...إلى قوله: وإن طلبت البحث عن العلم بالفنون، فلديه الصفو المكنون، والجوهر المخزون، قد ضرب في كل عرق بنصيب وافر، وأضحى قدحه فيها القامر، يستنبط فيها الغرائب، ويرى محاوره منه العجائب، بلغ درجة الاجتهاد المطلوبة، وأضحت أنوارشموسه غير محجوبة، وهاهو قد نصب نفسه في ميدان السؤال ومقامات الجدال، لا يتكدر خاطره لمشكل، ولا يعيا عليه فتح مقفل، يجلي[20ب-أ] المبهمات، ويفك المشكلات، ويكشف المعضلات، يرد الغامض بعذوبة لفظه وقرب معانيه جلياً، ويضحى بكل سائل لطيفاً حفياً.
وهذه من مهمات خصال الإمامة فهو منها في أعلى المراتب، وأسنى الذوائب، من أنصف نفسه كان لذلك بصيراً، وإلا فليسأل به خبيراً، مع جود تهطل ربابه، وندىً تمطر سحابه، لا يظن بالمال، ولا يتغير بتغير الأحوال، ولا يطول بالإدخار، ولا يعمل عمل الاحتكار...إلى قوله: وله من شريف القصد وحسن النية في إحياء الدين وإخماد نار المبطلين، لا يهاب عدواً، ولا يزداد على ممر الأيام في الهمم الشريفة إلا علواً وسمواً، قد وطن نفسه على إحدى الحسنيين، مقتدياً في ذلك بمن سبق من ذرية الحسنين...إلى قوله: وقد زاد الله الخلق بصيرة في أمر هذا الإمام عليه السلام بأن جعل له من الكرامات التي خرقت العادات، فسارت بها الركبان، ونقلها القاصي والدان، وتغلغلت إلى البلدان، وبلغت إلى حد يتعذر فيه الإنحصار، فكم من أكسح عافاه الله، ومن ردي بصر شفاه الله، وألم زال ببركة دعائه، ومرض شديد ذهب بشريف ندائه، وظهور ذلك يغني عن بيانه، وضرورته تنوب عن برهانه، ظهرت للأعداء والأولياء {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يسبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم فاسقون}(1)، فكونوا رحمكم الله ممن زادته هذه الآيات إيماناً، والبركات الظاهرة إيقاناً، واعلموا أن الله لم يظهرها على أمير المؤمنين المهدي لدين الله سلام الله عليه إلا لارتفاع منزلته، وعلو درجته، لولا علمه بأنه ذو فضل عظيم وشرف عميم لما جعل له هذه الكرامات الظاهرة، والآيات الباهرة، ولم يرد تبارك وتعالى بها إلا تقوية خواطر الخلق إلى اعتقاد إمامته والقيام بطاعته، والجد في معاضدته والتشمير في مؤازرته، فاعرفوا أيها المسلمون حقه الواجب، وقوموا لله تعالى في تلبية دعوته بالفرض اللازب، وحكموه في الأنفس والأموال، وامتثلوا أمر ذي العزة والجلال...إلى كلام طويل عجيب موضوع في الرسالة المشهورة.
وله رحمه الله من الكتب العجيبة الرائعة في هذا الشأن ما تتضمن ما ذكرنا، وتكلم الشيخ العالم جمال الدين أحمد بن محمد الرصاص بكلام سمعه الجمع ووعاه كل سمع في صحراء ثلاء على المنبر، وكان كثيراً ما يذكر في خطبته نعوته الشريفة بالصفات التي هي أحلى من الضرب وأحسن من ذوب الذهب حيث يقول: اللهم وصل على ذي الوجه الوضاح، والحسب الصراح، الحامي حماك بلهاذم الرماح، وعروب صفائح الصفاح، إمام أهل الأرض، القائم بالسنة والفرض، الذي جبلت قلوب المؤمنين على مودته، وفتحت أبواب النصر نير طلعته، الذي ليس للمسلمين إمام سواه، ولا خليفة حق في الأرض إلا إياه، [21أ-أ] المبرأ من كل وصم وشين، المكنى بأبي الحسين أمير المؤمنين أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم يرادف ذلك بالدعاء المسجع، والكلام المرصع، وله من الكتب إلى جيلان وديلمان وتلك البلدان وغيرها.
وهذه نسخة كتابه إلى جيلان وديلمان، وقد نقلنا منه ما يتعلق بالسيرة المهدية سلام الله على صاحبها حرفاً بحرف أوله بخط الرصاص.
قال بخطه: من الفقير إلى الله تعالى أحمد بن محمد بن الحسن إلى جهة الجيل والديلم مع الأخ البر رحيم داذ.
هل ركب مكة حاملون تحية
أغضى الجفون على معين ساجم
إن لم يبلغها الحجيج فلا رموا ... تهدى إليكم من محب مغرم
وطوى الضلوع على جوى متقدم
بالجمرتين ولا سقوا من زمزم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم
كتابي إليكما أيها الحبران الكاملان، الصدران الفاضلان، شيخا الإسلام الداعيان إلى الله وإلى رب الفضل، وولاة العقد والحل...إلى قوله: {سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم}(1) تحية من عند الله مباركة طيبة تفيض بالخيرات أنواؤها، ويتوالى من ذي العرش حباؤها، وتضيئ حنادس البعاد لألاؤها، سلام على معاهد العلم وربوعه الذي طهر البر عراضها وأنديتها، وراح للدين الحنيف على نشر التقوى ساحاتها وأفنيتها، وشاد على دعائم الهدى سادات الورى ذراها وأبنيتها، بقرارة جيلان وديلمان، وذات الرسم الباقي والأثر الخالد من حديث الطوفان، فهناك حط الفضل رحله وطنب رواقه، وألقى الفقه بقاعه وأرخى غزاليه دفاقة، وإن أرضاً كان الناصر للحق عليه السلام مرسي أوتادها، وضارب أسدادها، وخائض غمارها، ومعين قوادها، ومشكاة أنوارها، وناهج محجتها على واضحة ليلها كنهارها، لأرض محفوفة بفخامة خطرها، ونماء سعيها، وتحليل ذكرها، لا جرم أنه لأثر شامخ الشرفات، باذخ القذفات، راسخ القواعد والأساس، محكم القرائن والأمراس...إلى قوله: فهو عليه السلام أبو عذرها، وطليعة نبوها، الذي هتفت به الصحف الغوابر، وآذنت به قبل أوانه البشائر، وتزينت بذكره الأسفار وابتهجت الدفاتر، رعف به الزمان، وتبلج به ذلك الأوان، فلم يزل يدندن حول تلك الديار ويحوم عليها بأسفار وتطيار، وعقد وإمرار، وعزم لا يلويه وكل، وحزم لايثنيه دخل، حتى أعطى مقاليدها إذ رام إصلاحها، ونبذ إليه الإسعاد مفتاحها إذ حاول افتتاحها...إلى قوله: فورد صريخ ضربها من ورد من أئمة الهدى، وأقمار الدجى الذين أضاءت بأنوارهم المشارق والمغارب، ورتع في رياض علومهم الأعاجم والأعارب، سلام الله وبركاته وصلواته على تلك الأرواح[21ب- أ] في مساء وصباح، فما انفك السلف من أئمتنا عليهم السلام ينحون ذلك المنهاج، ويلمع ضوء لألائهم من تلك الهالات والأبراج، وينتابوها من العراق بتآويب وإدلاج، فأول من عشا إلى ضوء نارها
فأتبعه، وشام برق الحيا في ربابها فانتجعه السيد الإمام أمير المؤمنين المهدي لدين الله أبو عبد الله محمد بن الحسن الداعي عليه السلام، فأحيا تلك المآثر التي ما بقيا لها على مرالجديدان أُثر...إلى قوله: ثم تلاه الإمامان اللذان هما هلالا هالة الأمة المحمدية، وواسطا عقد النحلة الحنيفية كما أن قطر اليمن ما زال وكر الأئمه الزيدية وأشياعهم من لدن الهادي إلى الحق عليه السلام إلى هذا الأوان، ينادون فيه الصوت العالي ويخفق فيه كوكب مذهبهم المتلالي، ويرث الأول الثاني، فهم كذلك يأثرون فيه الدين قرناً بعد قرن، ويروونه خلفاً عن سلف من آل القاسم عليه السلام وأشياعهم الكرام...إلى قوله: ولقد جمع الله تعالى للإمام المنصور ذي المجد المعمور، والشرف الموفور، والعلم المأثور، والسيف المشهور، أمير المؤمنين والخليفة الصادع بالحق المبين، حليف القرآن، ماضي الجنان واللسان أبي محمد بن عبدالله بن حمزة بن سليمان كريم الحظين، من أحيا دين آبائه الكرمين في هذين القطرين، واقتفى سنن هذين الإمامين، المحتذي لمثالهما، الناسج على منوالهما، حتى استد الأمر، وانتظم البحر، واتصل السؤدد والفخر، فحق حينئذ على أهل كل ناحية أن يكون له على من فيه طليعة ورقيباً، وأن يسمعهم صوته مثوباً وهيباً، أن هلم فإن طالع سعدنا قد بارى فلق الصباح، وإن أملنا الذي كنا نعد له الأيام ونبتهل له طوالع الشهور والأعوام قد أذن بالنجاح، وحيعل بالفلاح.
نعم فأصدرنا أعزكم الله هذه الكلم المسطورة، والأحرف المزبورة، عجالة ذي أوفاز، وقبساً من مجتاز، ولمعة من بارق، ونبذة من طارق، وغرفة من بحار، وصبابة من تيار، كما شاهد متحملها أحسن الله توفيقه، وأنهج له طريقه حين أزمع الترحال، وشد الرحال في يوم الأربعاء من ذي القعدة سنة ستة وأربعين وستمائة عن نعم صفا بالإقبال مشارعها، وقرن بالسعود مطالعها، وروض بنيل الأماني مكارعها ومرابعها، وحقق من آمال المخلصين دانيها وشاسعها، وأرى قرة العين شاريها وبائعها، وفتح عن أجفان السرى وأصمختها أبصارها ومسامعها، فحمداً له سبحانه حمداً يدر بالمدرار المزيد غمائمه، ويفوح بنهج القبول نوافحه ولطائمه، أسعدت فوائد الزمن بقيام قائمنا باليمن، فصاح طائر آل زيد بن علي على فنن، فليهنكم ماسناه الله وأدناه، وحبانا وإياكم من هذه الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، التي نضى الإيمان نقابها، ووصل بعز السعادة أسبابها، وضرب على قواب الغر قبابها، ومد بالتمكين وسيمد وله الحمد أطنابها، [22أ-أ] ولابد من إيداع هذه المكاتبة طرفاً من تعريف نعوته وسماته التي حاكت ضياء الغزالة، وأعشت نور ذي الهالة، خذوها قطرة من مطرة، ومجة من لجة، وهاؤم اقرءوا كتابيه، ثم استقروه بجدوة علانية، فليس الخبر كالعيان وما أفلح من مان، هو الإمام المهدي لدين الله أمير المؤمنين أبو الحسين أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن عبدالله بن القاسم بن أحمد ابن أبي البركات، وهو إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم أشرف التسليم والتكريم، نشأ عليه السلام بين التنزيل والتأويل، ودرج بين التحريم والتحليل، من آباء بررة، وأجداد طهرة، ما بعد هؤلاء الذين سميناهم إلا من نفح عرف الصلاح من ثيابه، واشتد حبائل التقوى بأهدابه، ونسبه كله سلسلة الذهب الصريح، غير المؤتشب بين إمام سابق و مقتصد لاحق،
وغصن رائق عن أصل في ذروة المجد باسق، ولما ترعرع غصناً مترعرعاً، سلك من وراثة آبائه الأكرمين طريقاً متبعاً، وسبيلاً مهيعاً، فلم يزل يتوقل في درج العلم حتى تسنم ذراها، وتفيأ في ظليل دراها، ثم لان له من الغوامض جامحها فأسلس قيادها، ووطأ شدادها، وأعلى نجادها وأسال وهادها، وجاس خلالها، وخاض أعدادها وأوشالها، فهذا علم الكلام وأصول الدين قد قرأ فيه فصل وحصل، ودقق وجلل، حتى وقف منه على المكنون، وجمع أبكاره والعون، ثم أصول الفقه وهو النمط الأوسط بين التصرف العقلي والتحكم الشرعي، فقد جلى جواده في مضماره، وتغلغل في أنجاده وأغواره، وتكشف له دقائق غرائبه وأسراره.
وأما في الفروع فله فيه اليد الطولى، والقدم الراسخة.
وأما الفرضيات فله فيها أوفر الحظ والنصيب، وقد رمى في أعراضها بالقدح القامر والسهم المصيب، وله فيها غوص الباهر الألمعى، وفحص الناظر اللوذعي.
وأما علوم الأدب فقدمت فيها بحبل متين، وتشبث من مبادئ اللغة ومعرفة مفرداتها، ثم معرفة حركاتها وأوزانها إلى حد الكفاية والزيادة، ثم علوم القرآن الكريم، فقد اندرجت تحت هذه وأزاد من وراء ذلك قراءة ما وضعه المفسرون من أهل البيت عليهم السلام، وأشياعهم من علماء الإسلام، فاطلع ذلك الفجاج، وأخذ يقرأ تلك الأدراج حتى أضحى مجاله فيها رحيباً، وجواد حلبته يعسوبا، ثم الآثار النبوية والأحاديث الصحابية، والسير المقتصة فقد أخذ أحدها أخذ مثله، وعلقت بخاطره إلى حد أعوز الطرق مثله وشكله.
فهذه رحمكم الله وأعز بكم دينه، أودية العلم وغيطانه، وحدائق الحكم ومظانه، قد ملك رباها، وحمى حماها ورعا كلاها، وملاك ذلك كله [22ب-أ] جودة الاستنباط وحضور البال ويقظة الخاطر وانتباه الذهن وحسن الفحص عن لطائف المغمضات، واستثارة دقائق الغوص المبهمات، ولقد رأينا منه عجاباً في كتاب: (بغية المرتاد) وهو جواب عن مسائل فقهيه وهي عديمة النص في الأغلب سأله عنها الشيخ الصدر العالم محيي الدين عطية بن محمد بن أحمد النحراني، فحلل عقدها، وفتح سددها، وقوم بالإيضاح إودها، وأفاض عليها خليجاً من بحر علمه الزخار، وفيض مده التيار، وينبوع فهمه الفوار، حتى حسرت عن لثامها الاختبار، وكشفت برقعها للنظار، قد نظم في سلكها اللؤلؤ والنظار، وكاد برقها يذهب بالأبصار، ثم فاتحه في الكلام من فاتحه من علماء اليمن فرأى منه ما يبهر العقول نوراً، ويرد الطرف دونه حسيراً.
وأما ورعه وعفافه وزهادته وعبادته وسلامة السريرة، وصفاء الطوية والخشية الدخيلة لباري البرية، فشىء ظهر ظهور النهار، واشتهر دجلة في الأنهار، متقنع بالحياء، تلمع من جبينه أشعة التقوى، ذو سمت قويم، وهدى مستقيم، لم يعرف المجون ولا شين بالمستخفات، ولا اقتحمته العيون، نور النبوة في أثناء قسماته، وماء الخلافة يطرد على صفحاته، ما زال مذ نشأ يفعة تلحظه العيون بالجلالة، وتهيب إليه القلوب بالزعامة، وتهش نحوه النفوس للإمامة، وتشير إليه الأصابع في الخاصة والعامة، ولقد تمخضت به الليالي شمساً في أفق العلياء، وسراجاً من مشكاة الضياء، وأصلاً مغرسه سرة البطحاء، وغصن شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولقد عاشرنا من لدن الحداثة حتى الغاية أتم معاشرة وألطفها، فما رأيناه ضاحكاً بصوت عالٍ إنما ضحكه التبسم، ولا واغلاً في وادي المزاح، ولا مكثاراً في الكلام، ولا أزرى به البأو والحال، أيضع الناس خُلُقاً، وأسلسهم طبعاً، وأكرمهم نفساً، وأنداهم كفاً، وأخفضهم طائراً، وأهداهم مجلساً، وألينهم عريكة، وأوطأهم جناباً، وله من تعظيم جلال الله، وهيبته أمر الله، والجنوح لسلطان حقه، والطوع لحتمه، والقيام بحق الله، والمسارعة إلى رضاه، والكلف بإحياء دينه، ونصرته على حزب الباطل وشياطينه، والإعراض عما سوى ذلك من القبيح، وكثير من المباح والمكروه في الأقوال، والأفعال والأحوال، ما لا يتأدى فيه المعرفة بالصفة، ولا يقوم فيه الكتاب بالخطاب، وهذه دعوته وسماته قبل تصديه الزعامة، واضطلاعه بعد بأعباء الإمامة.
عرفنا ذلك وعرفه غيرنا ممن شاهده وعاشره أو سمع به، ولما تم بنعمة الله نوره، وامتد صوته وصيته، وسار ذكره في الآفاق، واصطحبت بتحميده زمر الرفاق، وقد شخصت نحوه الأبصار، وامتدت إليه الآمال في كشف الغمة وهداية الأمة، وعلم هو تعين الفرض، وسعى من يقوم بنصرته إليه بالنص، والنهض من أكابر آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وعيون العلماء الأعلام فإنهم[23أ-أ] ملأوا مسامعه بالبعث والحث البليغ على تلافيه الدماء، وقيامه بأمر الدهماء، كالأمير الكبير المتوكل على الله الداعي إليه شمس الدين أبي محمد أحمد بن الإمام المنصور بالله، فإنه لخظه بمخايل النجاة، فصدقت مخيلته، ودعاه إلى القيام، والتصدي للأمر العام، وبذل ما يجب من نصرته، وكذلك الأمير الكبير شيخ العترة ذي الشرفين عماد الدين صنو أمير المؤمنين يحيى بن حمزة وجلة العلماء وهاماتهم دعوه إلى ذلك، وسلكوا بتوجيه الآمال فيه أوضح المسالك، وفي أثناء ذلك يظهر من كراماته وفضائله وبركاته والشفاء بنفثاته، وأدرك كثير من الناس حاجة وطره، على وقف النذر له ما جلبت القلوب معه على محبته، وتواطأت القلوب والألسنة على معرفة حقه، وهو بحر لا ساحل له، لو ذهب ذاهب يصف ما اتفق له من ذلك لاستوعب الطوامير، ثم قوى من خاطره إتيان ثلاء من البلاد الحمزية لحاجة عرضت ولبانة سنحت، فخرج من ذيبين وكان قد نزله وأقام فيه سنين، فتسامع به الناس فحفوا به واكتنفوا بركابه، حتى دخل ثلاء في خلق كثير، وحفل عظيم، وتحدث الناس عن لسان جاء الإمام جاء الإمام؛ لما كانو يرتقبونه ويؤملون، وتلقاه إذ ذاك المشائخ الأجلاء آل منصور بن جعفر ورئيسهم يومئذٍ الشيخ سيف الدين صدر العرب منصور بن محمد بالانصاف والإتحاف، وألقوا بنفوسهم منحطين بين يديه، باذلين له النصرة بالنفوس والحصون والأموال، فلم ير إلا القيام مستخيراً الله تعالى، واثقاً به ومتوكلاً عليه ومتبرئاً من الحول والقوة إلا به، فقام داعياً
إلى الله تعالى على سنن آبائه الأكرمين، متحلياً بحلية الإمامة، ناهضاً بأثقال الزعامة، مشمراً على نصف الساق، سائقاً أعداء دين جده صلى الله عليه وآله وسلم أعنف مساق، غير واهٍ ولا وان، حتى أسمع الناس من قاص ودان، لم يصفه ريث المبطي ولا أناة المتلكي، حتى خفقت بنوده، ووقرت جنوده، وأرعدت له فرائص الكافرين، وزلزلت أقدام الجاحدين، ولما ولي هذا الأمر العام ازدادت خلال الفضل وخصال النبل فيه على الحك وضوحاً وظهوراً، واستطارت في الآفاق نوراً، فصار له من سعة الصدر ولين الجانب، ودماثة الأخلاق، واحتمال السداد، والاضطلاع بالأعباء الثقال ما لا تشينه السآمة، ولا تزري به في الخاصة والعامة.
قال:
متبذل في القوم وهو مبجل
يعلو فيعلم أن ذلك حقه
لا يحسب الإقلال عدماً بل يرى
... متواضع في الحي وهو معظم
ويذل فيهم نفسه فيكرم
أن المقل من المروءة معدم
ويفيض نداه على العفاة فيضاً لا يتخونه التعقيب، ولايرهقه التضريب[23ب-أ].
تعود بسط الكف حتى لو أنه
عطاء لو اسطاع الذي يستميحه
هو البحر من أي النواحي أتيته ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله
لأصبح من بين الورى وهو عاذله
فلجته المعروف والجود ساحله
وله من ثقابة الرأي ورصانة الحلم ورسوخ النظر ويقنة القلب ما هو ظاهر السبيل واضح الدليل، وكانت الدعوة الشريفة يوم الأحد الثالث عشر من شهر صفر من شهور سنة ستة وأربعين فبعث بها إلى الأميرين الكبيرين إلى قوام، فلذا اقتصرنا على هذه النكتة، والقليل داعية الكثير، ولمعان البرق يشير بالنوء المطير، والهدي من تنور ناره اتبعه، والحياء من شام برقه انتجعه، ثم على إثر ذلك فإنكم أعزكم الله جديرون بأن تهز هذه الدعوة المباركة المهدية من أعطافكم جذلاً، وتكرعون من وردها الريان وحوطها الطفحات نهلاً وعللاً، فشمروا رحمكم عن سوقكم في تلقاء دعاء ابن نبيكم بالإجابة الحسنة والمشايعة المستحسنة، جامعين في ذلك بين محمدة الأولى وثواب الأخرى، فإنها لكل مؤمن ضالة منشودة، وبغية مقصودة، وقد علمتم ما أخذ الله تعالى على العلماء من الأمانة الثقيلة، وحملهم من العهدة الجليلة في هداية جماهير العوام وإلزامهم عروة الدين التي ليس لها انفصام وهي طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة ولي الأمر القائم من عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينجو من عند عن منهاجه، ولا يهلك من أخذ في فجاجه، قال الله عزوجل: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم ))(2).
وقال عليه السلام: (( لا تزال قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أفناه، وعن عمره فيما أمضاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وحبنا أهل البيت))(3).
ولا شك أن إنسان عين العترة وذروة تاجها، وبدر تمامها، وصاحب أمرها هو إمام الحق والحجة على الخلق، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى))(4).
والآثار في ذلك أكثر من أن تحصى، فلنتجاوز من البسط كيلا يكون كمهدي التمر إلى هجر، وجالب اللبن إلى أهل الوبر، ومعلم العوان الحمر، محيي هذا رحمكم الله بالانتظام في سلك إمامكم، منوهين باسمه، معلنين على رؤوس الأشهاد بفضله، ناصحين لملوك تلك الديار في الإعلان والإسرار بأن يتأهبوا لنقم الثأر وشب النار إزاء الدار، ونصرة إمامهم حيث كانوا واستطاعوا بعروب الصفاح، وأطراف الرماح فإن الله تعالى قد ملكه رقاب العباد، وأوعز إليه في كتابه الكريم بتطهير البلاد، ورحض أديم البسيطة[24أ-أ] عن الفساد، فالجهاد رحمكم الله الجهاد، والجلاد عن دينكم الجلاد، فإن الله تعالى يقول: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} (1)وقال: {فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا}(2)، وقال: {ولاتهنواولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}(3).
وقد تحمل هذه الدعوة الكريمة المهدية أخونا الواصل من دياركم رحيم داذ بن يحيى أحسن الله كلايته، فقابلوها بقبول مثلها، وتفيئوا في سجسج ظلها، قد جاءتكم داخلة في مروط البيان، كاسية أردان القرآن، يشهد بشجونها قرطاسها على بعد مزارها، وبكرم نجارها على نجدة أنصارها، تطمس مخارم السوق وترقى معاقل الأنوق، وتسري حيث يهديها النسر والعنوق، خذوها بقوة، وانهضوا لها بهمة فليس أمرها بالهون على المتكلمين: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}(4)، لا كما قال الأول في تخفيف مطلبه، وتهوين أربه:
أسكان رامة هل من قرى
كفاه من الزاد أن تمهدوا ... فقد دفع الليل ضيفاً قنوعاً
له نظراً وكلاماً وسيعاً
لا والله ولكنه بذل المصون من النفوس والأموال، وارتباع الرجل والترحال حتى تقوم الحرب على ساق، وسول عن إبراق، أخذ الله بنواصي الكل إلى السداد، وعصمنا جميعاً عن سدف الريب ومهاوي العناد، والسلام على تلك الوجوه الوسيمة، واللمم الكريمة أولاً وآخراً ورحمة الله وبركاته.
وكتب إلى الأمير شمس الدين في استيطان دار الحرب ورسالة إلى الأمير محمد بن سليمان، وكلام متفرق في هذا الشأن ينص فيه بإمامته ويشهد بزعامته، وذلك مما علم ضرورة لا خلاف فيه عند كل عاقل ممن شاهد تلك المواقف، وتكلم الأميران السيدان العالمان سيف الدين وشرف الدنيا والدين الحسن والحسين ابنا محمد الداعي إلى الله أحمد بن يحيى بن الهادي إلى الحق عليهم السلام، كل واحد تكلم بكلام، وأشهد على نفسه من حضر من الأنام، وللأمير سيف الدين الحسن بن محمد القصائد البديعة والأقوال الفائقة المسموعة، فمن ذلك القصيدة البديعة التي أنشأها إلى صنعاء وهي القصيدة البديعة التي تعرب عن تكامل خصال الإمامة فيه، وأنه داخل فيها، التي أولها:
سقياً ورعياً لدارهم ولعاً
يا دار حور العيون ما صنعت
أرقني بعد بينهم وهناً
مثل حواشي الرداء ما هجعت
وأين صنعاء من رغافة أو
أيعلم البرق حال ذي ولع
أربة الخال ما أرى كلفي
لولاك يا رملة المحجر ما
إلى قوله:
ولا رأينا بحلة قمراً
لي عنك شغل لو تعلمين بما
هذا إمام الزمان أحمد بـ
إن قال فالدر لفظ منطقه
الصادق السابق المقاتل في المجد
الألمعى الذي يظن لك الشيء
طاب سماتاً وعنصراً وزكا
الواهب الجرد في أعنتها
في ما قط لو شق ذو الرعب القشعم
حيث ترى البيض وهي ساخرة
حيث ترى الطير وهي واقفة
ياسيد العالمين كلهم
أحييت ميتاً من الهدى حقباً
فأمعن الكفر بعده هربا
وكنت كالنيرين ما طلعا
بل كنت كالليث حول أشبله
بل كنت كالموت للعصاة إذا
لا أكذب الله إنني رجل
العلم والفضل والشجاعة والرأي ... إذا سقى الله منزلاً ورعا
أحبابنا بالهوى وما صنعا
برق على عقر دارهم لمعا
عيني له موهناً وما هجعا
قطابر بعد ذا وذاك معا
صبر مدنف قلبه قطعا
بكم شفى غلة ولا نجعا
رأيت خوطاً من جوهر طبعا[24ب
وجنح ليل لطفلة جمعا
أوجبه ربنا وما شرعا
ـالحق وأمر الإله قد صدعا
أو صال فالليث حيثما وقعا
كما قيل في الذي سمعا
كأن قد رأى وقد سمعا
فرعاً وأصلاً فعز ممتنعا
والضارب الهام والطلا جمعا
حنى قناته وقعا
والنقع بين الصفوف قد صدعا
دماً عبيطاً والنقع مرتفعا
وخير من قام سابقاً ودعا
لولاك لم ينتعش ولا ارتفعا
والفسق لا يلقيان منتجعا
إلا وطار الظلام وانقشعا
والسيف مهما هززته قطعا
حل على معشر فلن يدعا
وجدت خصل الكمال فيك معا
وفيض السماح والورعا
والقصيدة نيف وخمسون بيتاً من محاسن النظم تعرب عن بصيرة ثاقبة في صحة الإمامة، وكذلك السيد الإمام شرف الدين تكلم في صحة إمامته وكماله بالنظم والنثر، وسار بين يديه ودعا الناس إليه، فمن ذلك قصيدته النونية التي أولها:
ألا يا دهر قد أكثرت صرمي
تحاول قطع همي عن مرادي
ولي رب الخلافة أي عون
أمير المؤمنين حمام قال
هو المهدي لدين الله حقاً
إلى قوله:
ونحن الناصرون على الأعادي
و نبذل دونه مالاً ونفساً ... فحسبك أيها الزمن الخؤون
وحبلي في العلا حبل متين
ومعتصم إذا عدم المعين
وكن للولي معاً كنين
إمام هدى له رأي رصين
لمولانا الإمام فلا نخون
وجاهاً في الأنام فذاك دون
ولم نؤخر ذكرهما وهما أولى الناس بالتقديم إلا على وجه السهو، وأيضاً فإن الفقيه الإمام حسام الدين والشيخ العالم جمال الدين كانا أكثر مباشرة وأعظم خبرة وإن كان كماله ظاهراً، وهذا الأمير العلاّمة شيخ العترة جمال الدين[25أ-أ] علي بن الحسين بن يحيى بن يحيى ممن نص باجتهاده، وأذن له في إصلاح كتاب: (القمر المنير) والتزم بإمامته، ومات في صدر منها وهو رحمه الله إمام الفروع الشرعية، وعلامة اليمن بل أوحد الزمن.
وممن ظهر منه التزام أحكام الإمامة والدخول فيها السيد الإمام الحسن بن وهاس بن أبي هاشم، وصنوه السيد العالم محمد وغيرهما من أهلهما، وممن كان يتكلم ويشهد بكماله الفقيه العلامة الحافظ المجتهد بقية السلف محيي الدين علي بن يحيى الفضيلي رحمه الله فكان على كبر سنه وسعة علمه يشهد بكماله على أعواد المنابر، ويدعو إليه البادي والحاضر، بعد أن بحثه وخبره في غوامض الفنون، ولم يزل مرابطاً معه في الثغور إلى أن مضى إلى رحمة الله، وكذلك ولده الحسن.
وممن أغرق في مدحه ووصفه وبايع بيمينه له بشماله ودعا إلى إمامته، وكان ترجمان الباحثين ولسان الناظرين الشيخ العالم محيي الدين عطية بن محمد النجراني، وسار إلى الجهات الحرازية داعياً وحضر المواطن وأخذ العطاء وهو صاحب المسائل التي أجيب عنها بنهاية الإرشاد.
ومن جملة من كان يشهد بإمامته وصحة زعامته الفقيه العالم شرف الدين الحسن بن البقاء التهامي وتولى منه القضاء وحكم وأمضى، وأجرى الأحكام، وتناول المخالفين عليه بالنثر والنظم، ومدحه بالنظم، وشهد على نفسه بشهادة لا يستقال في مثلها، وبايع وشايع وتابع، وقال بأحكامه، وفعل بأوامره ونقضه وإبرامه.
ومن جملة من بحث وعرفه صغيراً وكبيراً، وشاباً وكهلاً، والتزم بإمامته، وأمضى أحكامه القاضي ضياء الدين محمد بن يحيى الصنعاني.
ومن جملة من شهد بفضله وبإمامته ويعلن بكماله، وأنه غرة أهل زمانه، وأوحد عصره وأوانه الشيخ الحافظ المحدث محيي الدين علي بن حميد بن أحمد بن الوليد.
وممن شهد باجتهاده، وبكامل خصال الإمامة فيه الفقيه الإمام العالم المجتهد حسام الدين عبدالله بن زيد بن أحمد العنسي ولم يزل رحمه الله على ذلك إلى أن مضى الإمام شهيداً حميداً.
وممن شهد بإمامته الفقيه العلاّمة ترجمان الكلام نظام الدين القاسم بن أحمد بن عبدالله الشاكري.
وممن شهد بإمامته وبايعه على المنبر الفقيه العالم شهاب الدين أحمد بن حنش وهو أحد شيوخه في علم القرآن، ولقد كان يعجب من علمه ويطري عليه، ويغرق في حسن تصرفه وورعه، وإخلاصه.
وممن شهد والتزم بأحكامه، وقتل بين يديه شهداء: الفقيهان العالمان تقي الدين أحمد بن موسى، وحسام الدين عيسى بن جابر الصعديان الشهيدان بين يديه رحمة الله و رضوانه عليهما.
وممن شهد بإمامته وتولى القضاء عنه القضاة الأجلاء العلماء: عبدالله بن محمد، وحمزة بن أبي النجم، وأخوه حمزة بن محمد بن حمزة بن أبي النجم وابن عمهم الشهيد يحيى بن عطية بن أبي النجم وإخوتهم وأولادهم.
وممن شهد بإمامته القاضي العالم [25ب-أ] جمال الدين محمد بن عبدالله بن معرف وبايع وشايع، وغير من ذكرنا من علماء الإسلام شهادتهم بالإمامة مشهورة.
وممن شهد بالإمامة والتزم أحكامها الفقيهان الطاهران أبو السعود بن عبد الله، وسعيد بن محمد الحارثي، وتولى أحدهما القضاء.
وممن شهد بالإمامة وبايع الشريف السيد العلامة أبو الفتح بن مدافع، والشريف السيد يحيى بن منصور بن العفيف بن مفضل أحد علماء الأسرة ونجوم العترة، وكذلك الشرفاء الأطهار في نواحي الجهات الحضورية، والشهابية، وكذلك الشريف الحسن بن مدافع وغيره من علماء الجهات.
وممن شهد بالإمامة وبايع وتولى القضاء القاضي الفاضل الفضل بن يحيى بن جعفر بن أحمد بن يحيى.
وممن شهد بإمامته ودعا إليها الفقيه حنظلة بن أسعد.
وممن شهد بإمامته ودعا إليه جماعة من العلماء الفضلاء الأطهار بنظمهم جميعاً منهم الفقيه المتكلم الورع عمران بن يعلى، ومنهم الفقيه الإمام الشرع محمد بن أبي السعادات، ومنهم الفقيه العلاّمة الزاهد أسعد بن علي، ومنهم القاضي العالم المجاهد يحيى بن حسين بن عمار.
وممن شهد بإمامته ودعا إليه الفقيهان السيدان: نصير الدين قاضي الإمام المنصور بالله عليه السلام أبو الفتح بن أبي القاسم بن عمرو، وصلاح الدين صالح بن سليمان بن الحويت، وهو أول من شهد باجتهاده عند بلوغ الدعوة.
وممن بإمامته القاضي العالم اللسان نظام الدين أحمد بن سليمان العنسي وأولاده القضاة بصنعاء المحروسة بالله تعالى.
وممن شهد بإمامته واستقصى في المباحثة الشيخ الطاهر المجاهد العالم عضد الدين محمد بن يحيى بن أحمد بن حجلان وتولى عن أمره الجهات الصعدية.
وممن شهد بإمامته وسبق إلى الجهاد معه الفقيه الشهيد العالم تقي الدين أحمد بن يحيى بن أسعد بن يحيى بن الحسين بن خليفة العذر الزيدي ثم الصعدي.
وممن شهد بإمامته وكماله الفقيه العالم المجاهد أحمد بن علي الصميمي وجاهد بين يديه وكسرت رجله في الجهاد معه.
وممن شهد بإمامته الفقهاء العلماء الأطهار: عثمان بن محمد، ويحيى بن حشيم وأولادهما، ومنهم من تولى القضاء ولا شبهة في اعتقادهم للإمامة.
وممن شهد بالإمامة والتزم أحكامها الفقيه السيد العلامة المجاهد التقي الصابر عفيف الدين محمد بن على بن أحمد الأكوع، وله مقامات بين يديه وكان على ذلك إلى أن مضى إلى رحمة ربه.
وممن شهد بالإمامة الفقيه المجاهد منصور بن أسعد الحرازي.
وممن ظهر منه التزام أحكام الإمامة القاضي اللسان ركن الدين مسعود بن عمرو، وله من النظم ما شهد بذلك.
وممن شهد بالإمامة الفقيه الطاهر حمزة بن محمود الجيلاني.
وممن ظهر منه الإلتزام بأحكام الإمامة، وكان إمام الجمعة الفقيه الزاهد الورع تقي الدين قدوة المسلمين إبراهيم بن عيسى.
وممن شهد بالإمامة والتزم أحكامها الفقيه العالم إمام الأدب[26أ-أ] سابق الدين محمد بن علي بن أحمد بن يُعيش الصنعاني.
وممن شهد بإمامته والتزم أحكامها الفقيهان الفاضلان العالمان العاملان محيي الدين يحيى بن محمد، وتقي الدين علي بن سلامة الصريميان، وعلى الجملة فإنه لم يبق عالم مشهور ولا فاضل مذكور حتى بايعه وأظهر اعتقاد إمامته قولاً واحداً، وذلك مما لاخلاف فيه إلا نحو شخصين أو ثلاثة منهم الشريف السليماني إدريس بن محمد فإنه روي عنه كلام لا ندري بصحته، وربما أنه صور له صوت على بعد داره وقلة خبرته، فإن صح قوله فهو محجوج بإجماع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك رجلان ممن اتبع هواه وإن كانا ممن لا يعتد بهما ولا يقتدى بقولهما.
فأما سائر الزيدية في ديار اليمن فأجمعوا على صحة إمامته، وتولى أكثرهم التصرف والقضاء {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}(1).
وممن شهد بإمامته وبايع الشريف العالم الفاضل المطهر بن يحيى بن المرتضى، والفقهاء الأطهار العلماء الأبرار بهجرة ذيبين حرسها الله منهم الفقيهان العالمان الورعان الفقيه العالم إمام الشرع محمد بن أبي الرجال، وتولى القضاء منه، والفقيه العالم عمدة المتكلمين سليمان بن أحمد بن أبي الرجال وتولى القضاء منه، والفقيه العالم الزاهد بقية الأخيار عبد الله وغيرهم من أهل الهجرة.
وممن شهد بإمامته وبايع وشايع وقاتل في سبيل الله الفقيه التقي العالم اللوذعي الحسن بن أبي الفتح بن أبي القاسم بن أبي عمرو، وابن عمه إبراهيم بن أبي المحاسن بن إبراهيم.
وممن شهد بالإمامة والتزم أحكامها الفقيهان العالمان يحيى بن علي الفتوحي، والفقيه العلاّمة أحمد بن محمد بن سليمان بن ناصر.
وممن التزم أحكام الإمامة وبايع وشايع وتابع وتصرف فقهاء الجهات المقرانية واليمانية منهم أولاً: القاضي جعفر وإن كان آخر من نكص على عقبيه، والفقيه العلاّمة الورع العفيف بن يحيى، والقاضي الأجل منصور الريعاني، والقاضي الأجل علي بن منصور بن سيف، ووالده الحسن، وعمران بن علي بن منصور بن سيف.
وفي بلاد خولان وغيرها القاضي يحيى بن علي بن عبيد، وأخوه، والقضاة الفضلاء زيد بن علي وإخوته في هجرة كل.
وممن شهد وبايع القاضي الطاهر عواض بن محمد الطامي، وتولى القضاء، ومنهم القاضي اللسان العالم يوسف بن علي اليامي.
ومن صنعاء ونواحيها الفقيه الفاضل العالم الكامل عماد الدين حواري أمير المؤمنين يحيى بن مسعود النداف.
وممن شهد بالإمامة من بلاد بني حشيش السيد العالم محمد بن الحسن الحسني، ومن مخلاف علي بن سعد معوضة الضميمي، وحميد بن قائد وإخوته ووالده، والقضاة الفضلاء بنو سواد منهم: الفقيه أبو القاسم بن محمد بن إبراهيم وإخوته بهجرة يسنم وأولاد عمه أولاد جعفر الشريف بن جعفر وأحمد بن جعفر، ومنهم الفقيه محمد بن أسعد صاحب هجرة المعينة في فرغان، والفقهاء الأجلاء أولاد أبي القاسم [26ب-أ]في هجرة أجرعة.
ومن بلاد يحصب الفقهاء الأجلاء العلماء أولاد سليمان بن ناصر، والحسن بن علي بن ناصر، والفقيه محمد بن علي بن حراب وأخوه بهجرة المعزمة في بلاد بني مسلم.
ومن جهات (مقرا) ونواحيها في بلاد عبيدة الفقهاء الفضلاء: يزيد ويحيى وغيرهم في مخلاف الحجبة.
وفي عاثين ونواحيها الفقيه علي بن أسعد وإخوته، والفقهاء أهل هجرة شوحط وهم كثير عددهم ظاهر فضلهم.
ومن مخلاف هداد إلى جبل الشرق الفقيه العالم محمد بن سعيد الشظفي والفقيه الفاضل عيسى بن أسعد بن عمر.
ومن هجرة مقشع والفقيه العالم محمد بن علي الساح في بلد آنس وأهل الهجرة في (خاو) وهم مشهورون ظهر منهم التزام الأحكام واعتقاد إمامة الإمام عليه السلام، وبلغ العلم في سنة خمس وخمسين وستمائة ومكاتبات وصلت من العراق الأقصى من جهات الجيل والديلم أن علماء أهل تلك النواحي من الزيدية مع شدة بحثهم وشكوكهم دخلوا في إمامته عليه السلام مع بصيرة ثاقبة، وكذلك علماء الحجاز من الزيدية بمكة حرسها الله تعالى والصفراء وينبع ونواحي الأشراف السادة، وكذلك علماء الزيدية بحلي وغيرها ما علم من أحد منهم خلاف الدخول في الإمامة، وليس كل من عيّناه باسمه دلالة على نفي من عداه، بل كل جهة من جهات من ذكرها لما دخل علماؤها دخل بسببهم خلق لا ينحصرون عدداً ولا يحاط بهم وصفاً من الحجاز إلى أقصى اليمن، وفي بلاد الأعاجم فقد صار بحمد الله سبحانه طريق إمامته بالإجماع الذي لم يقابل بدفاع ولا تمجه الأ سماع، فمن زعم غير ذلك فقد ضل عن سواء السبيل وأعلن بمكابرة الدليل.
(فصل)
ومما قال بعض العلماء لما استقرت قواعد إمامته عليه السلام:
يا أيها الملك الخليفة والرضى
إن الخلافة وطأت أكتافها
واستوسقت لك طائعاً مغتاصها
فانزل على قمم الملوك أو ارتفق
أنت ابن من بلغ السماء وطافها
وابن الذي أخذ الكتاب منزلاً
وابن الذي شهد الزبور بفضله
أنت ابن خيرهم ونفسك خيرهم
أنت الذي ختم الأئمة آخراً ... من آل حيدرة الفتى المأمولا
وألت لديك مخيماً ومقيلا
وكستك من شرف العلا إكليلا
فوق السماء فقد وجدت سبيلا
وابن الذي ركب البراق ذلولا
ذكراً وساير في السماء جبريلا
واستشهد التوراة والإنجيلا
وكفى الفروع على الأصول دليلا
وأبوك بعد الأنبياء رسولا
وهؤلاء الذين عرض عند التعليق تعيينهم من العلماء والأخيار، وربما أن من لم نذكره لنسيان طرأ في الدرجة العليا والمنزلة الرفيعة القصوى في العلم ممن شهد بإمامته وبايع وشايع، فأما سائر الناس ممن تابعه وشايعه وشاهد بين يديه فهم السواد الأعظم، ولقد كان يصلي خلفه في بعض من الزمان قريباً من العشرة الآلاف، ولقد عددت في جبانة ثلاء يوماً من الأيام وقد اصطف الناس لصلاة الجمعة نيفاً وثلاثين صفاً فعددت صفاً أو صفين وهم يزيدون على المائة من صفوف شتى، ولعل في الميمنة إلى الميسرة أكثر من ذلك.
(فصل )
ولنرجع إلى تمام قصة السبب الداعي إلى القيام، فلما بلغ ما ذكرناه من الخصال الشريفة ودعته الأمة إلى نصرة الدين في مجاهدة الظالمين، وكان ممن بذل له النصرة والجد السيد المخلص شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم الحسني العلوي، والشيخ الكبير فخر العرب منصور بن محمد الحميري، وبذل كل واحد منهما ما في يده من الحصون والأموال تعين عليه القيام والإجابة إلى نصرة الإسلام وإحياء دين آبائه الكرام.
(فصل)
فلما عزم على القيام أمر الشريف الأجل أحمد بن محمد بن حاتم والشيخ المذكور جماعة من أصحابهما، وانتهز الفرصة ونهض من منزله من ذيبين على خفية من أكثر الناس إلى وقت النهوض، فسار معه من الشرفاء الأجلاء الأنصار آل يحيى بن حمزة بن أبي هاشم، والأمراء آل سليمان بن موسى آل علي بن حمزة بن أبي هاشم عدة من وجوههم وفتيانهم، وكان عدة من سار معه من الشرفاء الأجلاء آل يحيى بن حمزة والأمراء الكبراء آل سليمان بن موسى من عيال علي بن حمزة بن أبي هاشم في نيف وخمسين رجلاً من جيرانهم وأخدامهم، وكان هؤلاء الشرفاء ممن عظم شأنه أولاً وجاوره من سنة خمس وثلاثين وستمائة فاختص بهم من دون أهله وحل بينهم، وأنكح أخته الشريف يحيى بن القاسم، ونكح ابنتي الشريف الأمير الكبير الحسين بن القاسم الحمزي واحدة فماتت عنده، ونكح الأخرى وماتت عنده، وأقام عندهم إلى وقت قيامه إحدى عشر سنة أو نحو ذلك، وكانوا بطانته وخاصته وأحب الناس إليه، وهو أحب الناس إليهم، وقبل قيامه بسنة أو نحو ذلك أيضاً استدعاه الشرفاء الأجلاء آل أحمد بن جعفر ببراقش، فسار إليهم في جماعة من شيعته فتلقوه بالإنصاف والتعظيم، ونكح فيهم ابنة الشريف الأجل محمد بن فلسة بن سناء القاسمي وهو من عيونهم ووجوههم ووعده بالنصرة بأنفسهم وأموالهم، وكذلك من كان لهم حليفاً من نهم وغيرها، وكانت له فضائل عندهم تبهر من سمع بها، وتعيين من تقدم من الشرفاء الأمراء الكبراء محمد بن سليمان بن موسى بن داود بن علي بن حمزة، وأخوه علي بن سليمان بن موسى، والشريف الأجل جعفر بن تورات بن القاسم بن محمد بن القاسم بن يحيى بن حمزة، وعلي بن القاسم بن محمد بن القاسم بن محمد بن القاسم بن يحيى بن حمزة، ومحمد بن القاسم بن يحيى بن القاسم بن يحيى بن حمزة، ويحيى بن علي بن حمزة، وأحمد بن محمد بن القاسم بن محمد بن القاسم بن يحيى بن حمزة، ولم يكن معه من أهله وأقاربه إلا الشريف الأمير أحمد بن القاسم بن
جعفر بن الحسين بن أبي البركات بن الحسين بن أبي البركات بن الحسين بن يحيى بن علي بن القاسم بن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وآله، فأخذوا ليلتهم وهي ليلة السبت الثاني عشر من شهر صفر سنة ست وأربعين وستمائة فأصبحوا في موضع في أعلى البون يقال له (صليت)، ثم تقدموا فلقيهم المشائخ الأجلاء بنو وهيب إلى نجر، تقدمهم الشيخ المكين عمرو بن علي الوهيبي في إخوته وأولاده، فرحب بهم وأكرمهم وأحسن ضيافتهم، ولم يلبثوا أن دخلوا وادي يعود فتلقاهم أهل ثلاء أرسالاً، وكل من لقيه قبل كفه وحمد الله على قدومه، ودعوه باسم الإمامة من ساعته قبل أن ينشر دعوته، ولم تزل العصب من ثلاء عصبة بعد أخرى حتى اجتمع إليه عسكر، ودخل ثلاء في موكب فتلقاهم الشيخ الكبير سيف الدين منصور بن محمد الحميري وأولاده وبنو عمه، ونزلوا في الدار المشهور بمدينة ثلاء، وأحسن كرامته وكرامة أصحابه، وبلغ في إنصافهم الغاية، ووصل أهل تلك النواحي القريبة، فلما كان اليوم الثاني وهو يوم الأحد الثالث عشر من صفر اجتمع إليه المشائخ الأجلاء آل منصور بن جعفر وعرضوا عليه نفوسهم وحصونهم وبذلوا النصرة من نفوسهم، والقيام والجهاد في سبيل الله، فحينئذ تعين عليه القيام بأمر أهل الإسلام لتكامل الخصال ووجود الناصر ووجوب الحجة، فدعاهم من ساعته بعد صلاة الظهر إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والأمر بالمعروف الأكبر والنهي عن المنكر، ومنابذة الظالمين وجهاد الكافرين والإنتصاف للمظلومين من الظالمين، فلبوا دعوته وأطاعوا أمره، وبذلوا له الأموال والأرواح، وسابقوا إلى بيعته بعد أن علموا بأقوال عيون العلماء وشهادتهم بتكامل الخصال فيه.
(فصل في بيعته)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: قد ذكرنا تأريخ الدعوة والسبب الموجب للقيام إلى وقت الدعوة، فلما دعا إلى ماذكرنا أجاب من حضر دعوته وسمعوا كلمته وامتثلوا أمره، وأمرهم بالبيعة اقتداء بسلفه الطاهرين وآبائه الأكرمين؛ إذ كان طريق الإمامة عندهم ليس إلا الدعوة، وربما يقولون أن العقد والاختيار بدعة، فأول من بايعه الشيخ الكبير منصور بن محمد بن منصور الحميري، ثم الفقيه الزاهد المعلى بن عبدالله الضميمي ثم القيسي رحمة الله عليه، ثم أقارب الشيخ الكبير على مراتبهم وأولاده، ثم الشرفاء الأمراء الكرام الذين نهضوا معه من ذيبين، ثم من كان معهم من شيعتهم وأخدامهم، ثم أهل مدينة ثلاء، ثم أهل النواحي القريبة، ثم كتب الدعوة وأمر، وامتدت البيعة إلى الأقطار.
وهذه صورة بيعته يقول لمن بايعه: هذه ذمة الله ورسوله وعهد الله وميثاقه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله معنا، وموالاة ولينا ومعاداة عدونا، والنصيحه لنا في السر والعلانيه، فإذا قال الذي بايعه نعم قال: الله على ما نقول وكيل، أو كما كان يقول الشريف السيد شرف الدين رضي الله عنه: لقد رأيت قوماً ممن يبايعه من أهل النخوة والسلطان عند أن يضع يده المباركة على أيديهم يرتعدون حتى نظن أن بهم علة من الرعد، وذلك من جلال هيبته صلوات الله عليه.
ولما سمع الناس بالدعوة انثالوا عليه من كل جانب، ولقد رأيت في تلك الأيام كتاباً له إلى بعض أصحابه يحكي له ما رأى من تهادر الناس عليه وهو يقول متمثلاً بقول أبيه على عليه السلام: ينثالون من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي.
(فصل )
وهذه نسخة دعوته العامة التي نشرها إلى الأقطار أولها:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
من عبد الله المهدي لدين الله أمير المؤمنين أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كتابي هذا إلى من بلغه من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
أما بعد:
فإني أحمد الله اليكم الذي لا إله إلاهو على درور نعمه، ووفور قسمه، وسبوغ كرمه، أحمده والحمد من عطاياه الوافرة، وأومن به والإيمان من أياديه الغامرة، التي فاتت التعداد، وطبقت الأغوار والأنجاد، فليس يشكره شاكر إلا بإيزاعه، ولا يذكره ذاكر إلا باصطناعه، ولا يمنعه كفر من أن يجود عليه، ولا تؤثر مسألة السائل في سعة ما لديه.
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة يسعد تاليها، ولا يخيب راجيها، يعدها ليوم معاده، ويصيب بها سنن رشاده.
وأشهد أن محمداً نبيه الذي اجتباه من أشرف المناصب، وصفيه الذي اصطفاه من خلاصة الشرف الثاقب، صلى الله عليه وآله وسلم صلاة تصحب الدوام، ولا تخلق على مر الأيام، وعلى آله حماة سرح الدين وأعضاد الحق المبين، حبل الله المتين وعدل الكتاب المستبين، الذي قال فيهم رب العالمين: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}(1) وقال وهو أصدق القائلين: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}(2) وقال فيهم جدهم الصادق الأمين: ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) (3)وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير أنبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
أيها الناس إني أذكركم بالله وأحذركم الدنيا التي غرت آباءكم الماضيين، وتزينت بهجتها في عيون المغترين، أنسوا بها فغرتهم، وركنوا إليها فخدعتهم، ووثقوا بها فصرعتهم، فكأنهم لم يكونوا للدنيا عماراً، وكأن الآخرة لم تكن لهم داراً.
أيها الناس، اعلموا أنه لا بد من سؤالكم عن أعماركم فيم أبليتموها، وعن أموالكم فيم أنفقتموها، فلا تغركم الأهواء الكاذبة، ولا تصدقنكم الظنون الخائنة، واحذروا أن يلهيكم ترادف النعم عن تذكر النقم، وطمأنينة السلامة عن بغتة يوم القيامة، أخذ الله بأيديكم إلى مراشد الأمور، ورزقنا وإياكم التحري ليوم النشور.
عباد الله اعلموا أني لما رأيت الدين قد تنكرت رسومه، وجهل معلومه، وعدم ناصره وقل مؤازه، وأهل الدين الحنيف استضعفوا في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، وأموال الله تؤخذ من غير وجهها، وتصرف في غير أهلها، وعطلت الحدود، ونقضت العهود، ورأيت سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أنكرت وغيرت، وآثار الماضي قد جددت وعمرت، وقل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وأهل البيت عليهما السلام مقهورون عن إرثهم، قد حالوا عن مساربهم، ومنعوا عن بلوغ مآربهم من إحياء السنة وإماتة البدعة، واشتدت أركان الظلم، وقويت أسباب الباطل بتغلب الظلمة، واستيلاء الأئمة الذين لايرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون، وسفك الدماء، واستباحة الحمى، ونقص الأفاضل، وأكل أموال الناس بالباطل {إن الذين يأكلون أموال اليتامى إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيرا}(1) لا يردعهم عن اقتراف الفواحش الحياء، ولا يزعهم عن فعل المعصية التقوى، قد نسوا الوعيد عليها، ونبذوا وراء ظهورهم الزجر الوارد فيها، لم أ جد لنفسي عذراً إن قعدت، ولاحجة في الترك عن النكير إن تركت؛ لوجود من بذل النصرة ودعا إلى المعونة من سادات العترة، ووجوه الشيعة، وقمت أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين.
أيها الناس أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الرضي من آل محمد عليهم السلام، وإلى جهاد الظالمين ومنابذة المبطلين، ومعاداة أعداء الله المخلين، على أن لي ما لكم وعليّ ما عليكم إلا ما اختصني الله به من ولاية أمركم، والنظر في مصالحكم {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم(1) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين} و{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ}. {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول}.
أيها الناس بادروا إلى إجابة الدعوة، والالتزام بالنصرة فقد قال تعالى: {انفروا خفاقاً وثقالاً وجاهدوا بأمالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}(2).
ولا تخلدوا إلى الدنيا وتميلون إلى بهجتها وريق زهرتها، واتباع من أخذت بقلبه وعلقت بلبه، فإنها عما قليل يذهب مقبلها ويولي على كره من أهلها طيبها، والآخرة خير لمن اتقى أفلا تعقلون، {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين}(3) {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}.
أيها الناس إنه مهما التبس عليكم أمره فإنه يلتبس عليكم حال من دعاكم، ولا سابقة من ناداكم، أنا الذي عرفتموه صغيراً وكبيراً، وخبره فضلاؤكم سراً وجهراً، فما عثرتم منه على وصمة، ولا حطيتم منه، نزله ربي في حجور الصالحين، وانتقل إلى كفالة المتقين والأخذ عن العلماء المهتدين ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لايشكرون، وإن كنت غير مدع للعصمة: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} {وما توفيقي إلا بالله} ولاحول عن المعصية ولاقوة عن الطاعة إلا به سبحانه وتعالى، والشكر في هذه المنة له عز وجل {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد} .
عباد الله إني لا أعرف لكم عذراً في التخلف عن إجابة ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى منابذة أعداء الله، وتغيير المنكرات، والإحياء لما درس من السنن الطاهرات، وقد قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانو لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلو(1)ن} وقال جدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم)).
ألا وإني لا آلو جهداً في صلاح أموركم من العدل في الرعية، والقسم بالسوية وإنصاف المظلوم من الظالم، وقمع المعتدي عن اقتراف المآثم، وإقامة الحدود على من وجبت عليه، والعفو عن المسيئ مع جواز ذلك، ومن تأخر عما دونه وتنكب على المنهاج الذي سلكت فإني أجاثيه الخصام يوم القيامة {لاينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدا(2)ر} يوم الآزفة والطامة، يوم الحشر والندامة يوم تبلى السرائر، ويجازى بالخفي من أفعال العباد والظاهر.
واعلموا أن الله تعالى قد وعدكم النصر إن تنصروه، وثبات الأقدام عن الزلل إن أطعتموه، ومضاعفة الجزاء فيما أنفقتموه، فقال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}(1) وقال تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجرٌ كريم }(2) وقال تعالى: {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}(3).
ألا وإني قد سلكت طريقة من مضى من الأئمة الراشدين في المضي على ذلك والصبر على تأدية المشاق منه، فاسلكو رحمكم الله طريقة الإتباع من سلفكم الذين آثروا نعيم الآخرة على لذة الدنيا الفانية.
واعلموا أن الله لم يستنصركم حيث استنصركم من ذلة، ولا استقرضكم الإنفاق في ذلك عن قلة، بل استنصركم وله جنود السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، واستقرضكم وله خزائن السموات والأرض وهو الغني الحميد، خذوا في جهاد الأعداء باسم الله مسمين، وعليه متوكلين تدركوا منازل الشهداء، وتعيشوا عيش السعداء، ظفر الله أيديكم من نواصي أعدائكم وأعدائه، وجعلكم مع خاصة أوليائه، ومتبعي سنن أنبيائه، وأخذ بأيديكم إلى الصواب، وطهر قلوبكم من دنس الارتياب، وجعلكم من خالصة أولي الألباب، المبشرين لطوبى لهم وحسن مئاب، وصلى الله على محمد وآله أولاً وآخراً وسلم وكرم.
قال الراوي: كتب عليه السلام هذه الدعوة ما بين الظهر والعصر في أسرع ما يكون وأمر بتعليقها وتفريق نسخها إلى الأقطار أو كما قال في ذلك، وكان ذلك اليوم يوم عيد في الأيام وفتحاً عظيماً لأهل الإسلام، فتبسمت الأقطار بعد القطوب، واعتذرت أيام الدهر عن سابقات الذنوب، وأصبح أمر الأمة معقوداً بكف من تهدلت عليه أغصان الأمانة، ورضع من ثدي الرسالة وجذب القرآن بضبعه، وشق الوحي عن بصره وسمعه، كريم الأرومة، شريف الخؤولة والعمومة، فبشرفه انتظم شمل المجد، وعليه خيم وفد الفضل، فما أحقه يقول القائل:
هو البدر والناس الكواكب حوله ... وهل يشبه البدر المضيئ الكواكب
وأمر عليه السلام بالدعوة إلى الأقطار والأمصار، فأول دعوة كتبت إلى الجهات النائية دعوة كتبت إلى الأمير المتوكل على الله أحمد بن الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ظفار وتلك النواحي؛ إذ كان هذا الأمير سلطان الشرف في ذلك الأوان وإليه ينتهي أمرها، فلما وصلت الدعوة إلى ظفار إلى الأمير المذكور اضطرب من ذلك واستوحش من ميل الإمام إلى ناحية ثلاء ومعاضدته لمن عاضده، وقد كان يظهر أنه كان يحب أن تكون الدعوة من ظفار، وأنه يكون أعظم مناصراً له، فحينئذٍ لم يكد يرفع له بذلك رأساً، وبقي تارة يثبط الناس عن النفير إلى الإمام، وتارة يأذن لهم، ولما رآه الناس كذلك أجابوا الإمام أرسالاً ونفروا إليه حالاً فحالاً، فلم يتخلف أحد من العلماء في أول الأمر عن الوصول إلى الإمام إلا ما كان من الشيخ العالم أحمد بن محمد الرصاص ومن تبعه من الشيعة وقليل ما هم فإنه وصل إلى ظفار في تلك الأيام وجرى بينه وبين الأمير شمس الدين كلام في امتحان الإمام وتعنته في دقائق العلم، ووقف أياماً وأجمع رأيهم على صدوره إلى ثلاء بعد أن أخذ عليه الأمير شمس الدين عهد الله وميثاقه لا بايع في صدور ذلك حتى يعود إليه، فلما وصل إلى ثلاء وتلقاه الإمام بما هو أهله، وبرز له في ميدان الامتحان الذي فيه يكرم المرء أو يهان، بايع على رؤوس الأشهاد من فوق المنبر وتكلم في مناقب أمير المؤمنين المهدي عليه السلام بما سمعه الحاضر والباد، وما يكون شهيداً عليه يوم التناد يوم تجد كل نقس ما عملت من خير محضراً ومن عملت من سوء تود لو أن بينه وبينها أمداً بعيداً، وكتبت الدعوة إلى الأمير المعظم شيخ العترة النبوية عماد الدين صنو أمير المؤمنين المنصور بالله إلى المظفر ذي الشرفين يحيى بن حمزة بن سليمان، فلما وصلت إليه الدعوة بعد أن كان الفقيه الإمام المجتهد أوحد الزمن حميد بن أحمد المحلى قد أعلمه أولاً بأن
الإمام قد تكاملت فيه خصال الإمامة، وكذلك من كان معه من العلماء الفضلاء أعلموه بذلك وشهدوا له، فلما وصلت إليه الدعوة حمد الله تعالى وأثنى عليه، وتلقاها بالقبول والإقبال والامتثال وبايع وشايع، وأمر أهل البلاد بالوصول إلى الإمام واعتذر من الوصول لكبر السن والضعف، وأمر بإقامة الجمعة وإنفاذ الأحكام، وكذلك الفقيه الإمام العلامة حميد بن أحمد لما وصلت إليه تحدث في المحافل في مناقب الإمام وكمال استحقاقه الزعامة، وبايع له وأمر بإقامة الجمعة، وسارت الدعوة في الأقطار، فأمر بالدعوة إلى سلطان اليمن عمر بن رسول وهو حينئذٍ في موضع يقال له الموسعة قريباً من جبلة يريد طلوع اليمن الأعلى لحرب ابن أخيه أسد الدين كما قيل فضاق من وصولها ذرعاً وأظهر الوعيد والتهديد، وأزمع على الطلوع لحرب ثلاء واستئصال شأفة الشيخ منصور بن محمد ومن قال بقوله، وكتبت الكتب العجيبة العنيفة المشتملة على العجب والاستصغار لأمر الداعي إلى الله، وكتب دعوة إلى أسد الدين محمد بن الحسن إلى صنعاء، فكان كلامه جميلاً، وكتب الدعوة إلى الحرمين وإلى التهائم والجهات النائية، وكتب الدعوة إلى الأمراء السادة الأجلاء آل يحيى بن يحيى برغافة وقطابر منهم من قطع على صحة الإمامة بما قد كان تقدم إليه وصح عنده من صفات الإمام عليه السلام وبلوغه درجة الاجتهاد وهو الأمير السيد شيخ العترة النبوية وإمام الشريعة المحمدية، حافظ علوم أهل البيت عليهم السلام جمال الدين علي بن الحسين يحيى بن يحيى عليهم السلام، والأميران السيدان أجابا وتكلما بالكلام الجميل وطلبا المباحثة والوصول إلى ما يجب عليهما في صحة الإمامة.
ووصلت الدعوة إلى صعدة ونواحيها فاستر الناس سروراً عظيماً وفرحوا فرحاً كبيراً، وكتب دعوته إلى الشيعة والعلماء بجهات حوث والظاهر وغيرهما ولم يبق قطر من أقطار اليمن حتى كتب إليه الدعوة، فأول من أجاب الدعوة وبايع في ظفار الفقيه الصالح صلاح الدين صالح بن سليمان، وكذلك الأمير الكبير المؤيد بن وهاس بن أبي هاشم وبعض إخوته بايع، وقد كان الإمام عليه السلام أمر أن تقبض له البيعة.
وبلغت الدعوة إلى السيد الإمام العلامة شرف الدين الحسن بن وهاس بن أبي هاشم فأظهر المسرة بذلك وحمد الله وأمر الناس بالنفير إلى الإمام عليه السلام.
(فصل)
وأقبل الناس إلى الإمام أرسالاً من المشرق والمغرب واجتمع عيون العلماء وسادات الفضلاء، فلم يدع أحداً جهداً في الاستقصاء والبحث عن غرائب العلوم، وبعد وصل الإمام الفقيه حسام الدين بن أحمد إلى صحراء ثلاء، وكان معه عقابيل من وجع رجله فاعتذر عن المبادرة بالوصول و أنه لم يدع ذلك جهلاً لحق الإمام عليه السلام، ولا شكاً في إمامته أو كما قال وأن الإمامة عنده صحت، ثم تقدم في جمع عظيم إلى أمير المؤمنين المهدي وسلم عليه وتكلم بكلام عجيب بعد أن حمد الله وأثنى عليه حيث منّ بقيامه على الأمة، وأقسم في آخر كلامه بالله الذي لا إله إلا هو ما على وجه الأرض ذات الطول والعرض أفضل منك، ومد يده وبايع، وعند ذلك بايع الأكثر من الناس، وبقي جماعة من العلماء يجتمعون عن كل ناكر، ويحضر الشيخ العالم أحمد بن محمد الرصاص ويباحثونه عن علوم القرآن وعن مسائل في الفروع وغير ذلك حتى ضجر الرصاص ويقول في بعض المسائل هذا لا يلزم من يبحث عنه، وهو سلام الله عليه ورضوانه كالبحر المتدفق، والسحاب المغدق، ويجيب كل سائل ويفتح مقفلات المسائل.
هذا مع طلاقة وحسن خلق وإكرام الناس وآداب وسعة صدر، وتعظيم لشأن العلماء، وكان بعض العلماء يأتيه على خفية يسأله عن شيء من لطيف العلم ودقيق الكلام ظناً منه أنه لا يجيب فيه، فيأتي وعنده في ذلك جلاء كل شبهة، وحل كل عقدة، وكان آخر الأمر أن طلبوا اختباره بموطن من مواطن الحرب فأجابهم إلى ذلك، وقال: إني لم أقم إلا لبذل نفسي في سبيل الله وإحياء دين الله فهل ترون أن من يدعو إلى ذلك يكون جباناً كلا وحاشى أو كما قال، فنهض من يومه ذلك إلى حصن حلب وهو لسلطان اليمن عمر بن رسول وقد أعد فيه من أعداء الله سبحانه وأعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الباطنية والمجبرة وغيرهم خلقاً كثيراً أهل بأس وشدة، وعديد وعدة، قتقدم الإمام بنفسه عليه السلام ونهض المسلمون وشابك الأقران، واشتد الحرب وحمي الوطيس، وتقدم الإمام عليه السلام بنفسه ومعه نفر قليل كأنه الأسد الباسل فبلغ إلى موضع في ذلك المأزق المتضايق لم يبلغه سواه، والناس حينئذ قيام ينظرون فرأوا من شدة بأسه وشجاعته وإقدامه وثباته ما علموا منه أنه وحيد العصر وغرة وجه الدهر، وكان ذلك يوم الخميس، واستشهد جماعة من المسلمين في سبيل الله في ذلك اليوم رحمة الله عليهم، وكان اليوم الثاني يوم الجمعة فاجتمع من خلق الله مالم يشاهد مثله، وخرج أمير المؤمنين للصلاة فلما دنى من صحراء ثلاء موضع المسجد نزل من فرسه وسار حافياً إلى المسجد كل ذلك تواضعاً لله، واتباعاً لسنة جده صلى الله عليه وآله وسلم فخطب الناس ووعظهم وذكرهم بالله حتى وجفت من كلامه القلوب، وذرفت العيون بالدموع، وأتم الصلاة وصلى ركعتين بعد الصلاة، ثم صعد المنبر أخرى وتقدم الشيخ العالم جمال الدين أحمد بن محمد الرصاص فبايعه وتحدث على المنبر، ثم جرى العلماء في سلك واحد فبايعوه، وتكلم بعظهم بكلام في مناقبه ولم يبق بعد ذلك شك لمرتاب ولاعلة لمتعلل، وهذه نسخة خطبته في صلاة الجمعة قال بعد التسليم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أظهر من آثار سلطانه وجلال كبريائه ما حير مقل العقول من عجائب قدرته، وردع خطرات هماهم النفوس عن عرفان كنه صفته.
وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له شهادة إيمان وإتقان، وإخلاص وإذعان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله وأعلام الهدى دارسة، ومناهج الدين طامسة، فصدع بالحق ونصح الخلق وهدى إلى الرشد، وأمر بالقصد، صلى الله عليه وآله وسلم.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها الزمام والقوام فتمسكو بوثائقها، واعتصموا بحقائقها فإنها تؤول بكم إلى أكنان الدعة وأوطان السعة، ومنازل العز ومعامل الحرز في يوم تشخص فيه الأبصار، وتظلم له الأقطار، وتعطل فيه صروم العشار، وينفخ في الصور فتزهق كل مهجة، و تبكم كل لهجة، وتذل الشم الشوامخ والصم الرواسخ، ويصير صلدها سراباً رقرقاً، ومعهدها قاعاً سملقاً، فلا شفيع يشفع، ولاحميم يدفع، ولامعذرة تنفع، ألا وإن يومكم هذا يوم عظم الله قدره، وشرف أمره، وضاعف فيه الخيرات، وأنزل فيه البركات، وفرض عليكم فيه الجمعة إلا على مريض أو امرأة، أو مملوك أو مسافر.
روينا عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((واعلموا افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها وله إمام عادل أو جائر فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره)).
إن أنفذ القول في الآذان، وأوقع الوعظ في الأذهان كلام الملك الديان(1) والله تعالى يقول: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}(2) وقال:{وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }(3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ،{يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}(4).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا تقدره الأوهام تمثيلاً، ولا تبلغه العقول تحديداً، جل عن التمثيل والتحديد، وتفرد بالتقديس والتحميد، وتعالى في التنزيه والتوحيد، العدل الذي لا يتهم فيما يقضيه، والجبار الذي لا يغالب فيما يبرمه ويمضيه، الذي خضع لعزته المتكبرون، وانقادت لهيبته السماوات والأرضون، ودل بظاهر آياته وبدائع مصنوعاته على مباينته لمخلوقاته، وتعالى في جده وذاته، وقاد العقول مذعنة في حكم الاعتراف والاستسلام منقادة بأشرف قياد، وأسلس زمام بأنه لا محيص لشيء من التسليم لحكمته، والدخول تحت رق عبوديته، ممن ذي لسان ناطق يبرهن عنه بياناً تعيه الأسماع، وذي حالات مختلفات مضطرة للعقول إلى مسالك الإقرار والاتباع.
وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له يناويه، ولا ند له يماثله ويساويه، ولا ضد له يغالبه ويباريه، جل عن المنافرة والمراء، وتعالى عن الأضداد والنظراء.
وأشهد أن محمداً سفير وحيه، وأمينه على أمره ونهيه، أعلن بأوامره صادعاً، ووزع بزواجره رادعاً، والناس في فتن قد هتن ربابها، وشمخت قبابها، وضربت طنابها، فلم يزل يضرب بالمقبلين على الحق المدبرين عنه، حتى أثقب مصابيح الإيمان، ولجب مسالك البرهان، وقوى دعائم اليقين، وأوضح سنن المرسلين صلى الله عليه ما لمع لامع، وطلع صادع، وندب الحمام الهديل، وتعاقب البكور والأصيل.
أيها الناس إن الدنيا دار سالمها سليم، وظلها سموم، وغضارتها مشوبة بالتكدير، وسلامتها مرقاة للغرور مثمرة للتغرير، فاعقلوا تسلموا من عقابيلها، وارفضوها فقد سمعتم قيلها، وسلكتم سبيلها، وقد رأيتم نزولها رائقة، وأفولها طارقة، كم مغتر بها قد نصحته التجارب، ومخدوع بها قد بصرته العواقب، وجامح قد طرقته النوائب، ومسرور وقد أسمعته النوادب، أخذ الله بأيديكم إلى مراشد الأمور، ورزقنا جميعاً التأهب ليوم النشور.
اللهم وصل على ... الخيم الزكي، وسراج الحق المضي، ذي الخلق السني، والخلق البهي، والوعد الوفي، خاتم الرسالة التي واترت، وناعش الملة التي آثرت، المكرم بالإيمان، المؤيد بالبرهان، المخصوص بنهر الكوثر المورود، المشرف بكرم الآباء والجدود، محمد رسولك الذي خصصته بكل فضيلة، وحبوته بكل رتبة جليلة وخصلة جميلة.
اللهم وصل على مدمر الأقران، ومؤيد البرهان، وعلم الإيمان، قنو النبوة الريان، وغصن الخلافة الفينان، بحر الكرم الزخار، وينبوع العلم الفوار، ... الجود المدرار، المخصوص بالإمامة، المحقوق بالزعامة، إمام من اتقى، وحتف من اعتدى، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ذي الخصائص والوسائل، والمنازل والفضائل، صلاة تعليه فيما تؤتيه، وتسنيه فيما توليه.
اللهم وصل على سيدة النساء المطهرة، وخامسة أصحاب الكساء البررة، ريحانة نبيك وثمرة كرمه، وقسيمة لحمه ودمه، وصل على سبطيها الزكيين، وفرعها الوليين، مجتمعي كل محمدة، وأهل كل جود ومكرمة، غصني سيد الأنبياء، وسراجي مشكاة الضياء، الإمامين الكريمين أبي محمد الحسن، وأبي عبد الله الحسين، وصل على أتباعهما من العترة الزكية، والسلالة المرضية، حماة سرح الإسلام عن سباع الجحود الضارية، ذوي المناقب السائرة، والأنوار المتلألئة، صلاة يحلون بها من الشرف ذراه، ويتفيئون لهام الكرم في ظليل داره.
اللهم وصل على الخليفة الصادع بالحق، والمعلن للصدق، الكاشف لقتام الضلالة عن الخلق، المزيد في العلم، المكرم بالحلم، السيف الذي لا ينبو، والشهاب الذي لا يخبو، بحر العلم الذي لا ينزف زخاره، وعماد الجود الذي لا يكف مدراره، محيي معالم الملة، ترجمان الآيات والأدلة أبي محمد المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة عالية العماد، شامخة الأطواد، وارية الزناد.
اللهم وانصر ابن نبيئك المجاهد في سبيلك، المحيي لسنة رسولك نصراً عزيزاً، وافتح عليه فتحاً مبيناً، وكن له ناصر ومعيناً، وشد اللهم أعضاده، وكثر سواده، وضاعف أمداده، وزد اللهم هذه السيوف مضاء، وهذه الجيوش كثرة ونماء، وهذا الدين سمواً وعلاء، حتى يغلب حقنا باطلهم، وآجلنا عاجلهم، اللهم وأيما طاغية من أعدائك وشيطاناً من أضداد أوليائك كفر بآلائك، واستظهر بنعمائك، وأمن بوائق النقم، وجهل مواقع النعم، ونصب للدين حبائله، وأعمل للحق مخائله، وتربص بأهله الدوائر، واستصغر عظام الكبائر، وصم عن المواعظ والزواجر، يروم إطفاء نورك، وإماتة عدلك، واستئصال شأفة الموحدين، ورفع رؤوس الملحدين، فاهتك اللهم ستره، وألبس عليه أمره، وزلزل أركانه، ودمر سلطانه، وبتر أعوانه، اللهم وأظفر به سيوف الحق الماضية، وقيض له المنية القاضية، اللهم وانصر جيوش المسلمين وسراياهم ومرابطهم حيث كانوا وحيث كان الكائن منهم في بر أو بحر نصراً عزيزاً، واخص اللهم سادتهم المجاهدين وأمراءهم الصادقين بالنصر العزيز والفتح المبين، وخذ بأيديهم إلى الصواب، واحرسهم عن مفارقة الكتاب، حتى توردهم عرصة القيامة على آبائهم الأكرمين وهم عنهم رضوان ولمساعيهم حامدون، وأرض عن أصحاب نبيك المقربين الذين شادوا منار الدين، وأحيوا سنن المرسلين، وجاهدوا في الله حق جهاده حتى أتاهم اليقين، وعن التابعين وتابع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وتجاوز عن سيئاتنا في عبادك الصالحين، وأمطر علينا شآبيب منك، وأسعدنا بتوفيقك ويمنك، وهب لنا عليه الجد في الدنيا والدين، وارزقنا حسن الخاتمة يا إله العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ولما بلغت دعوة الإمام المهدي عليه السلام إلى أقطار اليمن تلقاها علماء الزيدية وبعضاً من الشافعية إلا أن قوماً أخروا صلاة الجمعة فبعظهم تعلل بالخوف وبعظهم ادعى أنه يريد المباحثة فكتب الفقيه الإمام علامة اليمن حميد بن أحمد كتاباً عاماً إلى العلماء.
هذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم، سلام الله وبركاته ورحمته وتحياته على العلماء الأفاضل، وبدور الحق الكوامل، ينابيع العلم الجارية، وسحب الفهم الهامية، الذين جمعوا بين العلم والعمل، وخاضوا في مفردات الدين والجمل، فأضحى قدحهم المعلى من سهام العلى، ومنزلهم في رتبة تعلو السهى، حاط الله دينه بحياطتهم، وحمى سرحه بحمايتهم، إنه على ذلك قدير وبالإجابة ملي جدير، وقد علم الله تعالى ترادف الأشواق، وتكاثف الأتواق إلى محاورتهم ومشاهدتهم، وإن ذلك نعده من المسار الكبار الجليلة الأخطار، لكن عاقت عن ذلك عوارض الآلام التي اختارها المليك العلام، وحباً لما اختاره ورضاً بما قدر من المضار والمسار فإنه لا يختار إلا الخيار، وبعد:
فقد علمتم حاطكم الله وأبقاكم وحرس بلطفه علاكم أمور هذه الدعوة الشريفة التي يرجى بفضل الله تعالى أن يجعلها فاتحة في الخير أبواباً ومادة إلى عرى العز أطناباً، وأن يجعلها ناعشة للإسلام كابتة لأرباب الإجرام، وأتم بحمد الله قواعدها ومنكم تؤخذ شواهدها، وبكم يتضح سبيلها، ويصدق قيلها، والناس لكم تبع إن أقدمتم أقدموا، وإن أحجمتم أحجموا، إن الله عز وعلا قد منح أهل العلم فضلاً وكمالاً ورفعة على سائر عباده وجلالا، وألزم الرجوع إليهم سائر الأمة، وجعلهم أعضاداً للأئمة، وصار العلم والحمد لله تعالى واسع الفجاج، مضيء السراج وأنديته محشودة، ومدارسه مشهودة، وقد أضحى غامضه جلياً ظاهراً، وقدح أربابه قامراً، وسحبه مسعقة وعيونه متدفقة، وقد كثر معه ما كان قليلاً وعقد الله لأهله إكليلاً، وكل ذلك ببركة الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين عليه السلام وعلى آبائه الأكرمين وعناية من خلف من الأكابر السادة الأمجدين أصلح الله شأنهم وأعلى في الهدى مكانهم ورفع أقدارهم وعظم أخطارهم، وقد ألزمكم الله تعالى النظر في مصالح الإسلام وجعل لكم المزية في ذلك على الأنام فأنتم من أشد الناس تكليفاً؛ لأن تكليف غيركم لكم تابع ومن عداكم من أهل الديانه إليكم راجع، فإن شد عن تعريفكم إياه وقع في المهواة وتنكب المنجاة، وإن اقتفى منهاجكم واقتص أدراجكم فاز فوزاً عظيماً، وسلك في الهدى نهجاً قويما وصراطاً مستقيماً، وأنتم حاطكم الله عز وجل أولى من نظر في أمر هذه الدعوة الشريفة، وأرقى الناس في منازلها العالية المنيفة.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((صنفان من أمتي إن صلحا صلحت أمتي وإن فسدا فسدت أمتي وهما الملوك والعلماء))(1) وأنتم بحمد الله عز وجل العلماء الصالحون، والحكماء الراسخون، والرجاء في الله تعالى أن يصلح بكم أحوال العامة، ويجريهم بكم في ميدان السلامة، وليس ذلك ببديع ولا عجيب، وكيف وقد أحرزتم من الفضل أوفر النصيب، والمقصود مذاكرة خواطركم الشريفة ما أنتم عليه في الحقيقة له ذاكرون، ألا إن الذكرى تنفع المؤمنين في وجهين:
أحدهما: النظر في القدر الواجب على المتصدي لهذا الشأن عرفانه من أنواع العلم دون ما زاد عليه حتى لا يطلب منه ما يجب ليتوصل إلى سقوط ما يجب، فقد عرفتم أن العلم درجات بعضها فوق بعض ومنازل بعضها أعلى من بعض كما قال تعالى في كتابه الكريم : {وفوق كل ذي علمٍ عليم }(1) فمن طلب الأعلى فقد رام شططاً والذي يفتقر إليه المجتهد من الآيات الشريفة مقدر كما علمتموه، وكذلك الآثار النبوية وذلك لا يخفى على الخواطر الشريفة وقد كنت أعرف سماعاً من حي الإمام المنصور بالله عليه السلام أنه يقول لبعض الأصحاب بعد أن قرأ الفائق في أصول الفقه ولم يكن قد قرأ في الفروع شيئاً أصلاً: تغيب شرح النكت والجمل وأنا أضمن لك الفقه بحذافيره، هذا لفظه عليه السلام، وقد علمتم أنه كتاب مقتصد ولا شك إلا أن كل واحد منكم يعلم يقيناً أن صاحب هذه الدعوة الشريفة سلام الله عليه قد حفظ أكثر من ذلك يقيناً فلا يرتاب حينئذٍ في بلوغه درجة الاجتهاد وتبريره عند كل بصير نقاد وفي أئمتنا الماضيين عليهما السلام الذي أجمعت العترة عليهم سلام رب العزة على إمامتهم من لا يلتبس الحال في أن علم هذا المدعي للإمامة يزيد على علمه بدرجات كثيرة في كل فن من فنون العلم من أصوله وفروعه ومعقوله ومسموعه، ولا حاجة إلى تعيينه في ذلك لا يخفى على خواطرهم الشريفة، وما الغرض نقص من ذكرناه فإنه كامل عند الله تعالى وعندنا، ومن تأمل دعوة الإمام المهدي عليه السلام وجوابه عن المسائل الواردة إليه وما سلك فيها من الاستدلال بالآيات والآثار وكلامه في الخصوص والعموم والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ، وكذلك الأقيسة التي جمع بها بين الفروع والأصول وحسن استعماله لأصول الفقه على ضرورة أن لتصنيفه فضلاً وزيادة ومزية على تصانيف أئمتنا عليهم السلام الذي أجمعت العترة على إمامتهم عليهم السلام وكافة أتباعهم وهذا ظاهر مشهور وجلي غير مستور، وليس المقصود بذلك تعريفكم فأنتم بحمد
الله تعالى عارفون وإنما الكلام ذو شجون، ومن خبره عليه السلام وسبره فإنه يعلم ضرورة أنه يضرب في كل فن من الفنون بنصيب وافر وأنه يعد من علمائه بيقين، فإن عرض لأحد ممن قلت خبرته له حسن استعماله بطريقة القياس والاستنباط فلا حرج في البحث عن ذلك من دون تعمق ولا إفراط فقد كنا نعرف أن حي مولانا الإمام المنصور بالله عليه السلام لما كثر عليه التعنت في إيراد الأسئلة وأقام على ذلك مدة يسأل ويطلب منه الدليل على المسائل أو الإمارة قال: وأشياء ما أعلم أن أحداً من أهلنا ممن تصدى لهذا الشأن طلب منه مثل ما طلب منا، ثم ضرب قال في المصحف الكريم فخرج فيه {وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون} فعظم عليه ذلك جداً لكون من سأله من عيون أهل الديانة حتى قال قائلهم في ملأ من الناس وقد أرادوا بيعته: والله لقد اجتهدنا في إسقاط الفرض عنا وعنكم فما وجدنا إلى إسقاطه سبيلاً ولم يرد بذلك إلا ما يعرض من مشقة التكليف ولعمري أنها زيادة مشقة لكنه يحصل معها من عز الإسلام وكبت أرباب الإجرام ونعش دين العترة الكرام ما لا يخفى على عاقل بصير فضلاً عن عالم نحرير، فهذا وجه مهم لا غنى عن اجتماع الإخوان الفضلاء حاطهم الله عز وعلا عليه وجد من يريد سلوك طريقة التعمق التي قصد بها سواه عن الانقياد للحق وتكثير سواد أهل الصدق وإذا رأى من يريد غيره ممن يحسن فهمه وقصده لا يرتضيها أو يمنع عنها أعرض عن الذي تصوره منها وإن انفتح هذا الباب انتقض الغرض بما لا يوافق رضا الله عز وجل وكان فاعله في الحقيقة معدوداً في الخاذلين للعترة عليهم السلام.
وأما أنا فلا أرتاب في أن علم هذا السيد الإمام يزيد على علم بعض من سبقه من الأئمة الكرام الذين انعقدت ولايتهم في أعناق الخاص والعام، وقضى بصحتها من تأخر من الأئمة السابقين الذي خاضوا في الدقائق ووقفوا على خفيات الحقائق.
الوجه الثاني من الوجهين اللذين اقتضى النظر من المفاوضة فيهما الإخوان الفضلاء أدام الله سعادتهم: أنه إذا أوجب الحال المحاورة والمباحثة كانت في مجلس خاص لا يحضره إلا العيون والأفاضل فإن العامي ربما يسمع توقفاً في مسألة فيظن أن ذلك لقلة المعرفة وضعف البصيرة فيصد ذلك عن اعتقاد ما يجب عليه اعتقاده، وعلى الجملة فإن حضور العامة مجالس النظر تشغل عن التدبير والتمييز والنظر، وربما سبق إلى العامي أو المتوسط في العلم السؤال ولا يعقل الجواب فيتصور أنه لم يحصل جواب وقد علمتم قصة الإمام المهدي لدين الله أبي عبدالله الداعي عليه السلام وقد اتفق هو وواحد من العلويين للمناظرة فقال العلوي للإمام عليه السلام: ما أول الواجبات؟ فقال: النظر المؤدي إلى معرفة الله، فبعد هذا عند العامة وعرف العلوي أنهم لا يعقلون، فقال لهم: اسمعوا إلى هذا يزعم أن الصلاة ليست أول ما يجب أو أنها لا تجب، فقالت العامة: فلج الإمام.
ولما طلب بعض العلويين مناظرة السيد الإمام المؤيد بالله عليه السلام قال: لست أناظره إلا بحضرة أهل العلم لئلا يفعل كما فعل فلان مع السيد أبي عبد الله عليه السلام فالعامة لا تمييز عندهم فلا يصلح حضورهم في مجلس المحاورة، ثم إذا وقع السؤال كان من واحد على الخصوص أو من جماعة وكل واحد لا يسأل إلا بعد فراغ من سبقه بالسؤال وتقصير إيراد المسائل إلى المهم، فالمهم الذي به ينكشف كمال الاجتهاد دون الغويص وما يجري مجراه، ويقنع بتعليل واحد ووجه من دون تطويل أو تعمق فإن الخطر شديد في التعرض لسقوط هذه الدعوة التي يرجى أن يعز الله تعالى بها الإسلام ويرفع منار العترة الكرام ولا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم)).
وفي هذا الخطر الشديد ما لا خفاء به عند من هو دونكم فكيف بكم وقد حلقتم في جو الفضل واعتليتم قمم النبل والأكبر منكم والحمد لله يعرف أحوال السيد الإمام عليه السلام على التفصيل من صغره إلى كبره وما ينطوي عليه من المحافظة على العلم وله عصر ودهر يقرئ ويقرأ مع الفطنة والذكاء العظيم فالضرورة تقتضي بغزارة علمه ووفور فهمه بعد العلم بهذه الأمور من دون بحث أو مشاهدة تصنيف، وكذلك حالته في الورع الشحيح فإنه لم يعلم أنه قارف ذميماً ولا أتى مليماً، وكذلك ما هو عليه من رجاحة العقل والجد والحلم والوقار وشرف الأخلاق وعرفه لنفسه عن المطامع والإعراض عن التكبر والتجبر وسلوك أشرف الطرائق وأعلاها وأحسنها وأسناها وهو في الحقيقة الفائق في خصاله المبرز في خلاله مع الذي قد جعله الله تعالى له من البركات التي طار ذكرها في الآفاق وحدث بذكرها زمر الرفاق ولم يكن الله تعالى ليجعلها إلا لعيون أوليائه وأفاضله وكم من ولي لا يحصل له ذلك وإنما لعترة رسول الله صلى الله عليه الحق العظيم والفضل الجسيم ببركة أبيهم صلى الله عليه وآله وسلم ولما يريد الله أن يعطف إليهم قلوب أوليائه لا سيما من يريد أن يجعله نظاماً للإمامة، ولقد كثر ما نقل له كثرة عظيمة حتى أني أشهد الله تعالى وكفى به شهيداً لقد كنت فيما غبر من الأعوام وقبل نشر هذه الدعوة الشريفة وكونه لم يبلغ الدرجة التي يؤهل معها لهذا الأمر في حكم القاطع على أنه لا بد من قيامه عليه السلام لما هو عليه من خصال الخير التي قام بها، وقد أجرى الله العادة بأنه إذا أراد مثل هذا الأمر لشخص أنه يجعل له من ابتداء أمره أشياء تكسبه شرفاً ووداً في قلوب أوليائه وذكراً شريفاً في الصالحين، فكونوا أحاطكم الله تعالى وأنتم كذلك حيث الظن بكم في مناصرته وقد علمتم حال هذه المذاهب الردية من الجبرية والباطنية خاصة وكيف وقد قويت شوكتهم وعلت كلمتهم وتوفرت جماعتهم وما دون خلال أمورهم وذهاب
جمهورهم إلا لطف الله تعالى وتمام هذه الدعوة الشريفة النبويه المهدية، والجد في المعاضدة والمناصرة، فقد كانت المطرفية أعظم منهم شأناً، وأشمخ بنياناً، فلطف الله سبحانه وتعالى بقيام الإمام المنصور بالله عليه أفضل السلام ففرق جموعهم وهدم ربوعهم والرجاء في الله تعالى أن يصير مذاهب الباطنية كذلك فما ذلك عليه بعزيز، وكل هذا لا يخفى على الخواطر الشريفة، والحمد لله كثيراً وعلى مجالسهم الكريمة من السلام أزكاه وأشرفه وأنماه، والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه.
وكتب عليه السلام دعوته إلىالتهايم وبلاد الشافعية في المغارب من المخلافة ولاعتين وحراز وملحان وتلك النواحي فوصل إليه الفقيه العالم الحافظ الأديب المحدث نجيب الدين سليمان بن محمد بن الزبير الحبشي، ثم الشاوري في عدة من علماء الشافعية فرأى كماله وعرف صفاته وبايع وأظهر اعتقاد أهل العدل، وكذلك من كان معه ووصل إليه مجيباً للدعوة الفقيه الأديب العالم الفرضي محمد بن منيع النميري البغدادي وكان رجلاً من بني نمير ممن نشأ ببغداد ودرس في المدرسة النظامية المشهورة هناك، وكان رجلاً شافعي الفروع عدلي الأصول محباً لأهل البيت عليهم السلام ومن يرجى فيه القيام بأمر الأمة فأقام سنيناً ينتظر، فلما وردت دعوة الإمام المهدي عليه السلام ووصل إلى ديار اليمن صار يبحث عن علماء أهل البيت عليهم السلام، فلما وردت دعوة الإمام المهدي عليه السلام إلى صنعاء وصل إلى ثلاء ورأى من كمال الإمام في جميع الصفات الإمامية فوق ما يوصف له فبايع وأقام أياماً وأحسن إليه الإمام إحساناً عاماً فمما قال في مدح الإمام عليه السلام:
الله أكبر هذا كاشف الكرب
هذا الإمام الذي أختالت بسيرته
وأطفأ الله نار الجائرين به
هذا هو القائم المهدي ذو الشيم
هذا الذي ملأ الدنيا نداً ودماً
عزت به العرب العرباء واعتصمت
حامي الحقيقة مقدام أخي ثقة
يا ابن الحسين أمير المؤمنين لقد
أجبت دعوة داعي الحق مقتفياً
ولو دعاك إلى الدنيا وزخرفها
يفدي علاك البرايا من إمام هدى
أغر أبلج يجلو كل مظلمة
ما يحتوي من ثراً إلا يمزقه
ولا يزال حليف الحرب مرتدياً
يغشى الوغى بنوا صي الخيل مكرهة
يا أكرم الناس أعراقاً وأكثرهم
ستقتل الأمم الضلال قاطعة
وتملأ الأرض عدلاً مثل ما ملئت
ويصبح الملك مضروباً سرادقه
هذا الذي أترجى أن يكون وما ... في كل قطر من الدنيا عن العرب
مواسم العدل في أثوابها القشب
عن الأنام وكانت جمة اللهب
الغراء هذا الزكي زكي المجد والحسب
عن الرضا في سبيل الله والغضب
منه بأروع كشاف دجى الكرب
سهل الخليقة بدر غير محتجب
عز الهدى بك عز السبعة الشهب
نهج الأئمة من آبائك النجب
داع لألغيت دعواه ولم تجب
به تعقب سبيل الغي والريب
من الخطوب بعزم غير مضطرب
كأن في صدره حقداً على النشب
بعثير الخيل في ريعان ذي لجب
والبيض فوق حبيك البيض في صخب
تسكاب نيل إذا الأنواء لم تصب
بالمشرفية والخطارة السلب
جوراً كما جاء في الآثار والكتب
عليك يا ابن النبي الطاهر النسب
عزمي بواهٍ ولا ودي بمؤتشب
(فصل )
وكتب دعوة إلىالسلطان إدريس بن أحمد بن محمد الحبوضي بظفار الشحر لما بلغ من حسن الطريقة والعدل في الرعية فأجاب بالقبول والإقبال، وأظهر المسرة وأنشأ المكاتبات اللطيفة إلى أمير المؤمنين، فأول مكاتبة وصلت عنه في التاريخ المذكور في آخر كتابه، والكتاب الثاني وصل بعد ذلك التاريخ وقد ضمناها السيرة جميعاً متصلين ليكون أقرب للفائدة مع أنّا قد حذفنا منها كثيراً من فضلات النثر دون النظم.
فأما جواب عنه نذكر لمعاً كافية في معناه، ومسرة بورود الدعوة قال: الحمد لله ميسر من سبقت له العناية لسلوك سبيل الهداية، واعتلاء عريكة المجد والولاية، حمداً يبلغ في انتظام فرائد الآمال أبعد غاية، ويوفي منها على كل نهاية، والصلاة على رسوله القائم في كل حجة بأبهر آية، وعلى آله أهل النجدة والحماية.
قال: وأما بعد: أدام الله ترادف مراد تأييده، ويضاعف منار تسديده للمقام العالي الفاضل العالم الأورع الحلاحل ذي الأصل الطاهر، والفخر الظاهر، والمجد المتقاطر، بحر العلم وطود الحكم، وينبوع الفهم، غرة وجه الزمان، ونور ناظر الإيمان، وقرة أعين الإخوان، منار كرم السعي ومهبط الملائكة والوحي، فرع معدن الشرف الصميم وسلالة سر العنصر القديم، وأبقاه عمدة للدين وحجة للمتقين، ورحمة للعالمين، وقد ورد شريف كتابه ومنيف خطابه معرباً عما لديه ومفصحاً عما اعتمده من مشكور الجد والاجتهاد، والعائد على العباد والبلاد بمزيد الصلاح والسداد رغبة في إحياء نشر العدل بين الأنام ونصرة لما جاء به الرسول عليه السلام من إيجاب المحافظة على الحدود والأحكام، فحمدت الله وشكرته على ما منحه من همة علية، ورزقه من أنفة على الدين وحمية، وإني لمنذ ابتدأ ظهوره وأخذ في السطوع نوره أتمنى أن يحق ما ذكر من محاسن أنحائه وأثر من غرائب أنبائه، وأترجى الله تعالى ييسره العزة ......... والأشراف من حالق على الأنجم الزهر.
فلما تواتر إلينا أن المقام أدام الله تعالى إنارة برهانه قد اختصه الله بجزيل إحسانه، وجعل له نصيباً في سلطانه، ونصبه أميناً في أرضه وحكمه في حدود دينه وفرضه، فانتدب لرعاية خلقه وانتصب لنصرة حقه علمت أن ليل التمني قد طلع قمره، وروض الترجي قد أينع ثمره، فإن من تكون هذه الصفات صفاته فجدير بأن يحوز الفضل من جميع جهاته ويفوز بقصب السبق على أبعد غاياته، ومن كانت هذه المناقب في مراقيه واعتمد هذه المذاهب في مساعيه كان جديراً أن ينصر الله مواليه ويخذل معاديه قال الله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاه وءاتوا الزكاه وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر ولله عاقبة الأمور}(1) .
وحقيق لمن بسط الله يده وسلطانه ورفع محله وشأنه وأهله لأمر الممالك وحفظ المواطن والمسالك أن يؤدي الإمامة ويخلص الديانة ويحمد السيرة ويعتمد طيب السريرة لتدوم له النعم وتسعد به الأمم، ووجب أن يذعن له الجماهير، وحق له أن يفوز بالمناقب المقتضية للشكر الموجبة لجعل الأحدوثة والذكر كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاكياً عن ربه: ((إن أحب الناس إلى الله وأدناه مجلساً منه إمام عادل)) فنسأل الله سبحانه وتعالى كمابشر المقام العالي بحيازة القدح المعلى وجعله من أهل الحظ الأعلى أن يوفقه للجمع بين سيادتي الآخرة والأولى وليكن من همه المقام العالي أدام الله له الإكرام أن لا يخلينا على مرور الأيام من التشريف بكتبه والتعهد بالمواصلة بها والإلمام وما سنح له أدام الله محاسن مذاهبه من فهمات مآربه فليعرض للقيام به تأكداً لبقاء المودة بيننا على الدوام وتقريرا لما هي عليه من الإبرام والإحكام وللمقام العالي في ذلك علو الرأي والسلام على رسوله سيد المرسلين وعلى آله وعترته الطيبن وسلامه في كل وقت وحين.
سطر يوم الإثنين لسبع أن بقين من شوال سنة ست وأربعين بعد ستمائة من الهجرة النبوية صلوات الله على صاحبها محمد النبي الأمي وعلى آله وعترته وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وكتب إليه أمير المؤمنين بعد ذلك بمدة كتاباً بليغاً يتضمن أبياتاً في استنهاضه إلى نصرة الحق ومدح له ذلك فأجاب بهذا الجواب ورأينا أن نضع كتابيه معاً ولو اختلف تاريخهما ففي ذلك فايدة.
قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله فاتح الإغلاق الأبية ومانح الاعلاق السنية، وأشهد أن لاإله إلا الله شهادة أكرم نبيئه ووليه، وأرغم بنشرها محاده وقليه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالحجة القاطعة القوية، والبراهين الساطعة الرضية، فنكس بها كل راية عمية، وهد بها أركان الجاهلية، صلى الله عليه وعلى آله وعترته السرية ما جدت بدوية مطية ووحدت غير بطيئة
فاقت معاليك السبعة الشهب
وأطنبت في ترقيها فما رضيت
نما بها الشرف الوضاح مرتقياً
يا فرع نبعة خير المرسلين لئن
فلم تر العين دراً قبله نظمت
أفاد أبصارنا نوراً وأنّفنا
فمن ابن علي والرسول حرٍ
وأغبن الناس في التغابن من
أصفى البرية عيشاً من صفاء لكم
وافا كتابك إذ وافا على أمل ... وشيدت فلها فضل على الرتب
إلا الشناجيب من كيوان الطنب
إلى مجد في ذرى رحب
أعربت مجداً فليس النبع كالعرب
منه العقود بلا سلك ولا نقب
سكا وألسننا ضرباً من الضرب
بمقتني المجد إرثا عن أب فاب
دعوتموه إلى حق فلم يجب
وعاش ملتزماً أقوى عرى السبب
كل الحقوق وأغناني عن الطلب
قال: وأما بعد أدام الله سوابغ نعمه المانعة من الحد والإحصاء وموالع حكمه الخارجة عن الحصر والاستقصاء للمقام الإمامي الفاضل المبجل العالم العامل طود الحلم، بحر العلم، مغرة أهل الدهر، قطب فلك الفخر، وجوهرة عقد المجد، وطلعة كوكب السعد، فرع مهبط النبوة والرسالة، وسلالة شرف الوحي والنبالة، شمس مشكلات المسائل ومفتاح معضلات النوازل، ثمال الفقراء والمساكين، وعماد الدنيا والدين، وأبقاه نعمة على المهتدين، ونقمة على المعتدين، ونشر راياته مرفوعة باليمين، ومكنوفة بالمجد والتمكين، وأعلاه أعلامه وألويته بالنصر المكين، وأظفره على الباغيين والمارقين، وأفاض عدله على مرور الأيام والسنين، فقد طلعت غرة كتابه الموتلف بالسداد، المكتنف بالرشاد، الموجب من الإعتداد أوفر الإعداد، فعجبت عند عيانه لمحاسن عنوانه، واهتززت لأساليب بيانه وقرائن برهانه، ورأيت وصوله من حصول النعم والنظر فيه من الحظ العظيم، وعددت وقته من مخول العمر، واعتدت طلعته من غرر الدهر. شعراً:
في نظام من البلاغة ما شك
ومعانٍ لو فصلتها القوافي
حزن استعمل الكلام اختباراً ... امرء أنه نظام فريد
هجنت شعر جرول ولبيد
وتحنين ظلمة التعقيد
وقرآت الأبيات التي أسفر عنها طبع المجد، وطلعتها كوكب مقترنة بالسعد، فعلمت أن الله تعالى قد خصه من العقل الذي جعله حجة على الأنام، ومحجة فارقة بين الخاص والعام، والمناقب التي لو كانت عوداً لتحلت بها ترائب الأيام، وعودا لشجر فوق الفلك بين الملائكة الكرام، ولم أشك أن مادحه لو استعار لباب الزمان وأقام الريح مقام الترجمان ليشيع فضله حق الإشاعة لقصرت بهما يد الاستطاعة، ولقد باعه علا مطاله الباع القصير، ولظهرت على صفحات وجوه كلمه محلة التقصير وكيف لا وأصله الصميم مطلع أنوار الفرح، وجنابه الكريم روضة الملح. شعراً:
وإمام أنواره ليس تخفى
ومعانيه تبهر الذرب المنطيق حسنا
وفريد زف العلا على عين
وحلاهن فأنتفى بيد الآ
من يباريه أو يجاريه أو
وعليه العلا والمجد والسؤدد ... وسنا نور مجده ليس يطفا
ويعجز السمر لطفا
نهاية عرايس الفضل زفا
راء منهن ما أراد ونفا
يفتح في شمس فضله اليوم طرفا
دون الأنام أصبح وقفا
ولم أزل استقري من ذلك الكتاب لطايف ذخائره، وأنامل ما تزبره أنامل أوامره واقف على مضمون أوائله وأواخره، فتحققت لشواهد ما يبديه فيما يكتب أن على القلوب شواهد لا تغرب، ولديها من المودة ما لا يكذب وإن كانت مودة من استقى غرفة من منبع النبوة، ورضعت من يدي الرسالة لا تتناها أبداً مودة وإن استفرغ فيها ذو الود جهده، فقد روينا فيما روينا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت: {قل لاأسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى}(1) قالوا: يارسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: ((على وفاطمة وولديهما))(2).
وروينا عن علي كرم الله وجهه أنه قال: فينا آل حم آية لن يحفظ مودتنا إلا كل مؤمن، ثم قرأ: {قل لاأسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى}(3)
قوم لهم مجد وفضل شامخ
هم حجة الله على عباده
وقد أتى في هل أتى مدحهم ... يعرفه المشك والموحد
وهم إليه منهج ومقصد
ما شك في ذلك إلا ملحد
حتى اطلعت في استقرائي ما يبديه من عجابه في غرائب كتابه على ما أشار إليه وأوفى من بلوغ أملنا بعلو كلمته، وانتشار فخر دولته، فتوارد عليَّ طلائع السرور وبدايع الحبور، وانشرحت له الصدور، وامتلأت من البشرى الدور ابتهاجاً بأن أيده الله ونصر حزبه على معاديه وأعلى كعبه، وقلتلا غرو أن تستقر معالي الأمور في نصابها، وتذعن بانقيادها وإصحابها إلى مراكزها وأصحابها.
فهو ذات الندى، وماهية الفضل
والسماء التي إلى مدى الدهر لا تـ
أصبحت تفخر الإمامة منه ... وروح العلا وجسم المعالي
ـغرب منها كواكب الآمالي
بالمعالي والجد والإفضال[36أ-أ]
وحمدت الله تعالى على ما أولاه من جزيل الآلآء وجليل النعماء، وأسأل الله سبحانه أن يديم بدوام دولته طيب حسن هذا الإقليم وأهله، ويشيع فيهم بركات أصله ووصله. شعراً:
على المنى في يومك الأجود
وارق كمرقى زحل صاعدا
وزد على المريخ سطعاً فمن
واطلع كما تطلع شمس الضحى
وفض كفيض المشتري بالندى ... مستنجداً بالطالع الأسعد
إلى المعالي أشرف المصعد
عاداك من ذي نخوة أصيد
كاشفة للحندس الأسود
إذا اعتلى في أفقه الأبعد
فلا زالت هذه الدولة الغراء مولية برواتب السرى، مكفية من شرائب النمرا، مثقفة قناة الصلاح فلا تناد ....... مواد الفساد فلا تعتاد، ولا تدع باغياً إلا قمعته، ولا جبارا إلا صرعته، حتى تلين ليد الحق الأمور المتشاوسة، ويدين لأيديها الخطوب المتقاعسة، ويذكر من نور الحق ما خبا، ويعلوا من نوء العدل ما حوى.
قال: وكتاب المقام العالي ورد علينا ولدينا من الأشغال لمعاناة الجهال ما المعول في كشفه على الكبير القوي المتعال، وإلا فنحن أحق أهل زمانه بالتبجح بعلو شأنه، والتباهي بظهور سلطانه، وأملنا في كرم من له الخلق والأمر وبيده النصر والقهر أن يوفقنا للحق في الخدمة بإنفاذ أوامره ونواهيه، والنهوض باتساق محاسن مساعيه، والإعتناء بما خص وعم من مراضيه حتى تنقاد له أعزة الثقلين، ويملأ عدله وفضله الخافقين، ويعود الدين أبيض الجلباب، محصد الأسباب، مطهراً من شوائب الفساد، دائراً في أبراجه مع كوكب السعود والرشاد.
إليكم كل مكرمة تؤول
كفاكم عن مديح الناس طراً
فما يبقى لمادحكم مقال ... إذا ما قيل جدكم الرسول
إذا ما قيل أمكم البتول
إذا تم الكلام فما يقول
وما سنح على مرور الأيام من مآربه فيشرفنا بإنجازه والقيام به، ويعم حضرتنا بما أومأ به لنأخذ حظ المسرة بالتمام، وتنالك المحبة والمودة والخدمة على الدوام، ويبقى بذلك في غاية الإحكام، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله سيدنا محمد وآله أجمعين ورحمته وبركاته.
قال شرف الدين رضي الله عنه وأرضاه: وقد حذفنا كثيراً من الألفاظ المترادفة دون المعاني ودون الأبيات المنظومة، وهذا الكتاب والذي قبله كما يرى الناظر.
وسارت الدعوة إلى المخلاف السليماني فتلقاها الشرفاء بنو سليمان بالقبول إلا ما كان من الشريف إدريس بن محمد السليماني فإنه تأخر عن الإجابة وذلك؛ أنه لحقه شيء من الحسد لهذا القائم وقد كان في نفسه شيء من ذلك، وصار يثبط بعضاً من الناس ويدس عليهم الشكوك فلم يلتفت إليه أحد، ولا رفع إليه رأساً، ولم يلبث أن مات بغيظه فالله أعلم ما فعل، وعند الله يلقى عمله.
وكتب الدعوة العامة إلى كافة بني حسن وبني حسين بالحجاز والمدينة فلم يبق أحد منهم إلا من أجاب وأظهر المسرة.
فأما الأشراف السادة بنو حسن بالحجاز فأمروا بالأموال، وسلموا الحقوق، ووعدوا بالنصرة.
وكتب دعوة بليغة إلى جيلان وديلمان وإلى بلاد الربذة في نواحي العراق ووجه بها الفقيه الطاهر الورع رحيم داذ الجيلاني وكان من عباد الله الصالحين، فبلغت الدعوة إلى تلك الأقطار، وأظهروا من المسرة ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، ووجهوا جماعة من أهل الجهات لتحققوا الأمر لكونهم أهل ورع وبصيرة، وأرادوا إزالة الشك، وكتبوا الكتب وكانت الطرقات يومئذ متغلقة بسبب استيلاء الكفار على أكثر بلاد المسلمين في عراق العجم وعراق العرب، فوصل الجماعة ورأوا ما راعهم، وفوق ما حكي، واستفاض أمر الإمام عليه السلام إلى المواسم، ونقل ذكره إلى بغداد وصفته وسيرته وطريقته، واتصل إليهم من جهة أمير المؤمنين عليه السلام، ووصل منهم في آخر الأمر في سنة أربع وخمسين وستمائة الفقيه العالم الزاهد تاج الدين محمود بن علي رماس الديلمي والفقيه الجيلاني إياس عند الإمام المنصور بالله عليه السلام، وكان مع أحدهما كتب من بغداد من شريف من أولاد الحسين بن علي عليه السلام، وسنذكر ذلك في موضعه، فأخبر بما ظهر في بلاد الربذة هنالك من المسرة بقيام الإمام المهدي عليه السلام وكانا ..... لأهل نواحيها ومستدعين الأوامر الإمامية، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام جهز أحدهما وهو عند المنصور وكتب معه كتباً بليغة إلى أعيان العلماء من الأشراف وشيعتهم فحال عن بلوغها حاجز القدر فالله المستعان، وسنشير إلى طرف من ذلك عند انتهاء السيرة النبوية المهدية رضوان الله على صاحبها ورحمته وبركاته.
رجع الحديث
قال الراوي: ولما استقر أمر الإمامة وانتشرت الدعوة في الأقطار، وأجاب من أجاب ولم يبق شك لمرتاب وصلت قبائل البلاد أرسالاً من مسور وحملان ولاعتين وميتك وحجة ونواحيها، وأدران والشرفين وبلاد حجور والأهنوم ونهم وشظب وبني شاور وجبل تيس والباقر، ووصل أهل بلاد الشهابية قاصيهم ودانيهم، وبلاد بني الراعي وحضور الأحبوب وحراز، ووصل بنو صاع، وأقبلت قبائل الظاهر على الخصوص لا العموم لأجل تأخر الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله سلام الله عليه إلا أن المتأخر من الناس يأمر بالمال، وأقبل أهل البون على قبائلهم، ووصلت قبائل من صعدة ونواحيها وراحة بني شريف، ووصل قوم من دهمة من شيوخها وشاكر، ووصل قوم من الأعروش ونواحيها وقوم من نهم ثانية، ووصل رؤساء العرب من مخلاف صنعاء وذمار، ووصل العلماء والشيعة من بلاد مذحج وزبيد وأهل البلاد المقرانية، ومن مخلاف آنس، ووصل بنو الشريف أهل يفعان ورأى الناس أمراً لم يسمعوا بمثله من هيبة ومحبة من الله تعالى، وكل من وصل بالبر والنذور والحقوق الواجبة حتى اجتمعت الأموال الجزيلة، واستدعى كل من وصل نائباً لإنفاذ الأحكام، وإقامة الجمع، وقبض الحقوق، وحشد الناس إلى الثغور، وفي خلال إقبال الناس أقبل سلطان اليمن على السير والاستعداد لحرب الإمام والمحطة على ثلاء.
(فصل)
هذه جملة أردنا ذكرها هنا هكذا وإن اختلف التاريخ، ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام استتب له الأمر وانتظم ودعاه أهل البلاد لكشف الضر عن العباد، ورفع الجور من أرباب الفساد، وكان ممن جار وتجبر وعتى وتكبر وأعلن بشرب الخمور ونكح الذكور وأمر الناس بالبدع التي لم يسمع بمثلها وذكرها من جمع البغايا والمتأنثين في موضع واحد، وضرب المعازف، وإرسال قوم من المتهتكين عليهم ينزوا بعضهم على بعض هو عمارة بن علي بن أحمد الأصبهاني، ولقد أخبرني رجل من كبار بني شاور يسمى مهنا بن ذعفان كبير السن أنه رأى عمارة هذا يقبل غلاماً من شيوخ البلاد من بني شاور ولا يقدر أن يدفعه على أعيان الناس، ولقد أخبرني منه بعض الناس أنه يدخل على الحرم المتحفرات إلى بيوتهن ظاهراً تجبراً واقتداراً، ولقد أخبرني رجل ثقة أنه يجمع في مجلسه بين قراءة القرآن وضرب المزامير، وأخبرني في آخر أنه رآه في العارضة -اسم موضع- يقعد على سرير مرتفع الدعائم ثم يجري تحته النهر، ثم يدخل إليه البغي، ثم يدخل كبار الناس، ثم يأمرهن أن يقبلن الناس فلا يقدر أحد أن ينكره عليه ولا يمتنع وغير ذلك من الفضائح التي لم يسمع بمثلها إلا أن يكون في زمن ابن فضل القرمطي لعنه الله.
ولما اشتد على أهل البلاد ما رأوه منه طلبوا النصرة من الإمام فأجابهم إلى ذلك وكان عمارة هذا في المخلاف ونواحيها لاعتين ومن دونه بلاد الأجبار وغيرها من مسور وحمير.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: ونحن نذكر الغزوات أولاً والسرايا والحوادث كما وعدنا كل سنة نذكر حوادثها على الإجمال إن شاء الله تعالى، ولنعد بعد ذكر هذه المقامات والجمل المفردات التي تنبني عليها قواعد السيرة النبوية وتتفرع عليها عيون المناقب الإمامية المهدية.
أما سنة ست وأربعين وستمائة وحوادثها وما كان فيها مما يتعلق بالسيرة المهدية فقد ذكرنا في صدر الكتاب ما كان من المقدمات إلى نصف شهر صفر من هذه السنة المذكورة ومن بعد ذلك ذكرنا ما كان من إقبال العلماء وبيعتهم وشهاداتهم وتقدير أصل الإمامة بحمد الله تعالى، ولنذكر الغزوات والسرايا إن شاء الله تعالى.
(فصل )
أول الغزوات كانت يوم سابع الدعوة وهي غزوات ضروان غربي رحابة إلى الخشب، وأهله قوم من الباطنية دمرهم الله تعالى، جهز عليه السلام عسكراً من المسلمين والأنصار وقدم فيهم الأميرين الشريفين الناصر بن محمد بن سليمان بن موسى الحمزي، وأحمد بن محمد المحسني العباسي العلوي، فلما وصل العسكر إلى شق الناحية شرد القوم واختاز بعضهم إلى دربين وكان القتال فقتل رجل من أعداء الله تعالى وأسر آخر وغنم المسلمون شيئاً من البقر والغنم والأثاث والدواب والحبوب، وعاد المسلمون إلى أمير المؤمنين ولم يلق أحد منهم كيداً، وكانت هذه الغزوة مفتاحاً للنصر على أعداء الله.
غزوة ضبعان
وهو موضع أيضاً من الباطنية الملاحدة وهو غربي وادي ظهر.
وجّه أمير المؤمنين عسكراً كثيباً من كبار الشرف العلماء والشيعة وغيرهم من الناس، وقدم فيهم الأمير الكبير محمد بن سليمان بن موسى الحمزي، وكانت الغزاة نحوهم ليلاً، فلما أصبح أحسوا بالمسلمين فتحصنوا بالجبال والكهوف ووقع الحرب وكان الظفر للمسلمين فقتل من الباطنية رجل وغنم منهم غنيمة من الغنم والدواب والأثاث، وعاد العسكر المنصور سالماً، فأمر عليه السلام بقسمة الغنيمة على ما أمر الله وقبض الخمس.
(فصل)
غزوة السية
ولم يلبث أمير المؤمنين إلا ليال قرائب حتى جرد سرية لموضع يسمى السية كبيرها رجل يسمى كليب الحمار من كوكبان والأهجر بلاد بني الزوامي، وكان أمير الغزاة الأميران أسد الدين محمد بن سليمان بن موسى الحمزي، وشجاع الدين أحمد بن محمد المحسني العباسي العلوي، فلما وصل العسكر إلى السية وخرب شيئاً من منازل القوم، ووقع الحرب واشتد الحرب، وأبلى ذلك اليوم جماعة من الأشراف الحمزيين آل يحيى بن حمزة بذيبين، وفقئت عين الشريف الفاضل علي بن محمد بن حمزة الحمزي من آل يحيى بن حمزة، واستشهد رجل من جيرانهم وكان أيضاً ممن أبلى، وقاتل الشريف الأمير علم الدين أحمد بن القاسم بن جعفر من بني عم الإمام، وقاتل أمير العسكر قتالاً عظيماً، وأبلى ذلك اليوم الشريف الفاضل السيد سليمان بن محمد بن حمزة بن الحسين، والشريف الفاضل قاسم بن عبدالله بن حاتم المحسني وكان من الصلحاء، رمى رجلاً من الباطنية وكان في ذروة شاهق يسب الإمام ويؤذي المسلمين، فرماه بسهم ففقأ عينه وغار السهم إلى دماغه فخر من الشاهق ميتاً، فاحتز رأسه، ولقد شاهدنا السهم في عينه منكسراً وكان ذلك من فضائل أمير المؤمنين المشهورة، وعاد العسكر المنصور غانماً قد أظهره الله على أعدائه.
غزوة شبام الأولى
ووجه أمير المؤمنين الشريفين الأميرين المشهورين محمد بن سليمان بن موسى الحمزي، وأحمد بن محمد بن حاتم المحسني العباسي العلوي في عدة من عيون الأشراف والعلماء والشيعة عسكراً كثيفاً من القبائل المجاهدين إلى شبام وهي مدينة حسنة المنظر مخضرة الربى كثيرة الأنهار فيها الجامع العجيب الذي بناه الأمير ابن يغفر وهي في الأصل من المدن المشهورة القديمة وهي لاصقة إلى جبل كوكبان محصنة بالدواير وفيها قوم من حمير من بقية أبى حوال الحميري وغيرهم، فتقدم المجاهدون آخر الليل وكانوا فوق الألف مقاتل، وكانت الخيل قريباً من ثلاثين فارساً، ولما قربو من المدينة واجتمع من هذه المدينة من الحصون حلب وبكر وكوكبان وغيرها قريباً من ألف مقاتل، وكان القتال أولاً على أسوار المدينة، ثم لم يلبث المسلمون أن صعدوا عليهم واشتد القتال في غربي المسجد الجامع، فاستشهد رجل من المسلمين، وقتل من أعداء الله جماعة فيما قيل، ولم يظفر من غنائم المدينة إألا القليل؛ لأن القوم تحيزوا لما دخل عليهم المسلمون إلى كهوف في الجبال من الزمان الأول، وعاد المسلمون ظافرين بحمد الله سبحانه، والحمدلله رب العالمين.
وهذه الغزوات في أيام متقاربة، وعند ذلك عظم الأمر على السلطان عمر وعلم أن أمر الإمام ليس بالهين وأنه إلى قوة والناس معه إلى إقبال فأزمع على الإقبال نحوه، وأمر بقوة الحصون وكان من أعظم ما قواه بالخيل والرجال حصن حلب وجعل حشوه الباطنية الملحدين وذلك لقربه من ثلاء.
ذكر غزوة حلب
وقد ذكرنا سببها وهو ما طلبه قوم من العلماء لقطع شغب المتعنتين في معرفة ثبات قلبه، فأرادوا الاختبار له عليه السلام في موطن من مواطن الحرب، فلما أراد ذلك نهض عليه السلام بنفسه وأمر بالأهبة بالحرب للحرب، فاستعد المجاهدون، ونشرت الرايات، وسار المسلمون تحت لواء أمير المؤمنين، واجتمع ذلك اليوم خلق كثير من الناس، وقد كان أهل حلب متسشعرين لذلك، فجمعوا أحزابهم وتأهبوا للقتال، وكان أكثر من فيه من الباطنية الملاحدة، فلما ترائى العسكران عند حصن الشيخ الكبير منصور بن محمد المسمى حضور، وتقدم المجاهدون إلى مراكزهم في القتال، وترجل أمير المؤمنين المهدي عليه السلام عن فرسه لكون الموضع لا حيلة فيه للخيل، ثم أخذ سيفه ودرقته وصمد قلب العسكر -عسكر العدو- حتى بلغ حيث لم يبلغ الشجعان، ثم اشتد الحرب وكان أعداء الله فيهم رماة بالنشاب أهل بأس شديد، وكثرت الجراحات، ثم أن شاء الله سبحانه فانحطت بعزاليها في المأزق فتفوق الناس، فانجلت المعركة على خمسة أوستة من المجاهدين رحمهم الله وقل من سلم ممن باشر القتال من النشاب والحجارة، وقتل من أعداء الله جماعة فيما قيل، وانصرف أمير المؤمنين إلى قرية حضور، وأمر المجاهدين بالمساء في تلك القرية، ودفن الشهداء هنالك.
وتقدم عليه السلام إلى حصن ثلاء ميموناً ظافراً، وكانت هذه الغزوات كلها في شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين وستمائة سنة.
قصة دخول السلطان عمر بن علي بن رسول مدينة صنعاء اليمن
وما كان في ذلك الأوان من الغزوات والسرايا والحروب.
ولما استقر السلطان الملك المنصور في صنعاء وصل إلى أمير المؤمنين قبائل قدم وحمير وغيرهم من قبائل المغرب والظاهر وغيرها وقالوا للإمام: إن هذا السلطان قد استتب له الملك وقد نال من العرب وخصوصاً من أهل المذهب الزيدي شرفه الله تعالى وها نحن هؤلاء باذلون لك الأنفس والأموال ولعل الله تعالى أن يجعل على يديك فرجاً قريباً ونصراً عاجلاً، فأجابهم أمير المؤمنين بالعزم الشديد والاهمام الأكيد وقال: إن ذلك مطلوبنا وقصدنا، والذي لأجله قمنا باذلين لنفوسنا، فلما رأى شدة بأس العرب وعزيمتها لم يرى إلا تجريد العسكر إلى جهة المغرب للمحطة على الحصون التي بيد هذا السلطان وهي الموقر والغرنوق ومراضة وعرار وأبدر وبارق لشغل السلطان بنفسه ويرده كيده.
قصة نزول المغرب والمحطة على الموقر وساير الحصون التي كانت بيد الغز
وأمر أمير المؤمنين بالأهبة والجهاد للغزو في سبيل الله فجهز عسكراً كثيفاً من عيون الأشراف والعلماء ورؤساء العرب، وجعل أمر العسكر إلى الشرفاء الأمراء شرف الدين يحيى بن القاسم بن يحيى الحمزي، وعلم الدين أحمد بن القاسم القاسمي، وشجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم المحسني العلوي؛ إذ كانوا من عيون أصحابه وأهل الإخلاص والبصيرة والثبات في الأمور بعد أن كان قد جهّز الأمير أحمد بن محمد هذا في عسكر فبلغ إلى مسور، واختلف عليه أهل البلاد فعاد ولم يلبث أن نهض العسكر المنصور من حصن ثلاء فأمسوا ليلتهم تلك في جبل مسور عند السلاطين آل حسين بن محمد وبني عمهم فاقتسموا العساكر إلى منازلهم، فتقدم الشريف السيد يحيى بن القاسم فيمن معه إلى رأس جبل مسور، وهبط الشريفان الأميران أحمد بن القاسم، وأحمد بن محمد بن حاتم إلى موضع يسمى الثومة فيمن معهما.
ولما وصل الشريف السيد شرف الدين إلى رأس الجبل لقيه السلطان الكبير مجاهد بن سليمان فسلموا للإمام موضعاً لهم يسمى بيت العدن، وتقدم إلى بيت ريب فلقيه السلاطين الأجلاء أولاد بارك بن صعصعة بن محمد بالترحيب والتسهيل وسلموا حصن بيت ريب وحسنت طاعتهم وظهر صلاحهم، واجتمع بعد ذلك العسكران في بيت ريب، وأزمع الناس على هبوط المغرب، وقصد عمارة بن علي والي السلطان في الحصون المخلافية واللاعية لما قد ألحق الناس من الهوان والجراءة على كبائر العصيان من شرب الخمور، ونكح الذكور، والتهتك الذي لم يسمع بمثله في سالف الدهور، فلما عزم الأمراء المذكورون على ذلك أمروا أن توقد النار في ريب لكونه حصناً مشرفاً على أكثر المغرب ليعرف المجيب إلى النصرة، فلما لاحت النار لم تمضي ساعة حتى أوقدوا أهل الحصون المغربية وأهل الجبال العالية والقرى فكانت السماء مبسوطة في الأرض وكأن النيران نجومها، ثم هبط العسكر المنصور وقد سار في مقدمته السلاطين الأجلاء آل محمد بن حليف وسائر بني عبد الحميد لينتقموا من عمارة بالثأر؛ لما قد كان نال منهم بالقيود والنكال، فلما أن وصل العسكر إلى مغربة عولي خرج اليهم الشيخ أحمد بن مسعود القدمي وهو يومئذٍ كبير قدم وشيخها والذي يرجع إليه رأيها، وقد كان في خاطر المقدمين أن يقسموا العسكر إلى لاعة والمخلافة، فلما بذلك هذا الشيخ شق عمامته وأغرى بالمحطة على الموقر فرجع الناس لذلك واجتمعوا وتذامروا وأقبلوا كالبحر الزخار يغشون السهول والأوعار لا يكاد يضبطهم العدد لكثرتهم، فهبطوا من نقيل الحطب، وأمسى الناس في الواسطة ونواحيها، ولما رأى السيد شرف الدين يحيى بن القاسم وكثرتهم وكونهم يغشون الجبال وهم لا تتسع لهم الطريق قال ارتجالاً:
عمارة جاءتك الكتائب جهرة
أتتك جنود الله من كل بلدة
فخل الحصون الشامخات لماجد
حرام عليك اللهو في أرض شاور
ولا عرفت في مجلس لك قينة
ألم تر أن الله أيد أحمدا
ولا الموقر الحصن المنيع بنافع
ولا حصن عران يغرك ساعة
... فياليت شعري أين تمضي هاربا
بهزون للحرب العوان القواضبا
سيملأ عدلاً شرقها والمغاربا
ولا طفت في ميدان عولي راكباً
ولا قط لاعبت الحسان الكواعبا
كما قام لله المهيمن غاضباً
لك اليوم فاصرم حبل ما كنت طالباً
ولا بارق فاقصد من الأرض جانباً
ونهض العسكر من الواسطة ضحوت النهار، فلما رآهم أهل الموقروالغرنوق أبلسوا وأيقنوا بالهلاك، فمر الناس تحت الحصنين فما نبس من القوم أحد بل انقبضوا، ولما علم أهل المخلاف من بني شاور وغيرهم بقرب العساكرالمهدية أحاطوا بقراضة.
وقعة قراضة
ولما رأى العسكر المنصور اجتماع بني شاور على قراضة قصدها الناس بأجمعهم فيهم الأميران الشريفان أحمد بن القاسم بن جعفر بن عم الإمام المهدي في عصابة من أهله والأمير أحمد بن محمد بن حاتم، ولزم السيد الشريف جبل غربي قريباً من الموقر لمنع الغارة من الحصنين ويكف العادية، فلم يلبث العسكر أن تسلقوا من الأسوار يحمل بعضهم بعضاً حتى دخلوا على القوم بالسيف فأخذوهم قتلاً وسلباً وأسراً ونهباً ولم يفلت إلا جماعة رموا بنفوسهم من شاهق فقتل جماعة منهم عدو الله دليح الباطني، وأخذ منها جملة من الأموال والسلاح، وكان يوماً على الكافرين عسيرا، وعند ذلك اشتدت قلوب أهل البلاد وأزمعوا على المحطة والحصر للحصون وكان من الغد، وأصبح الناس على الحرب على الموقر وكان فيه قوم أعدو للحرب من شجعان أهل البلاد، فلم تزل الحرب قائمة والزحفات تتابع عليهم حتى كثر فيهم الجراحة وقتل جماعة من أهل البلاد بالحجارة، ولم يلبث السلطان أن حط في موضع يسمى الرجام مشرف على حصون المغرب وعند ذلك طلع الأمير السيد الشريف أحمد بن محمد بن حاتم إلى بين يدي الإمام إشفاقاً على حصنه عزان، ووقف الشريف السيد العلامة يحيى بن القاسم فيمن بقي معه من العسكر وثبت الأمور ونظم أمر المحطة على الموقر، وعاشر الناس أحسن معاشرة، واشتد الحصار على أهل الحصن والضيق، وأحاطت بهم المراكز، ولم تزل الحرب بينهم شهور فاستشهد الشريف الأجل علي بن عبد الله بن حمزة بن الحسين الحمزي بنشابة، وقتل السلطان الأجل العماد بازل بن صعصعة بحجر وانتهى الحرب والقتال، فصح جميع من استشهد من المجاهدين قريباً من خمسة وعشرين رجلاً، ولم يزل القوم في الحصر والضيق حتى سلم عمارة حصن عزان فقبضه ابن عم الإمام أحمد بن القاسم بن جعفر.
قال الراوي: ولما استقرت محطة السلطان بالرحام يريد بذلك رفع المحاط من حصون المغرب والمادة لعمارة جهز الإمام عليه السلام عسكراً كثيفاً من عيون الشرفاء والعلماء والشيعة وغيرهم إلى جهة الباقر وقدم فيهم الفقيه الشهيد المجاهد التقي تقي الدين أحمد بن موسى الصعدي فتقدم فيمن معه يوم السبت آخر جمادى الأولى سنة ست وأربعين وستمائة من ثلاء فأمسى العسكر تلك الليلة في جبل المصانع والليلة الثانية في مخلاف الطويلة ووصل الجهات في اليوم الثالث وهو يوم الإثنين، فتسامع به أهل تلك النواحي فلقيه جميع القبائل من بني الخياط وبني الدولابي وبني عواض وغيرهم في جمع كثير إلى موضع يقال له ضبعان تحت الطلع وكانت فيه عراضة حسنة وكان من اجتمع من العسكر قريباً من ألفي رجل، فلما اجتمع الناس تحدث معهم الفقيه تقي الدين أحمد بن موسى ومن معه من العلماء في الطاعة لأمير المؤمنين والجهاد بين يديه والحفظ لجهاتهم من هذا العدو الذي قد أقبل، فأجابوا بالسمع والطاعة والامتثال لأمير المؤمنين، فحط الفقيه المذكور بمن معه من العسكر في بلد بني الدولابي في هجرة سافوف وأوقدت النار تلك الليلة في المحطة، ثم أوقد جميع أهل تلك الجهات النيران في جميع المواضع والحصون والقرى حتى أن الذي يراها يظنها مدينة واحدة لتقارب نيرانها، وأقام الفقيه فيمن معه في هذه الناحية مدة إقامة السلطان في الضلع يلزمون المراصد ويكمنون في الطرقات لمن ينزل إلى جهة عمارة حتى لقد تعذر مرور البرداء في الليل لحفظ الطرقات، وقد كان الإمام عليه السلام أمر قبل ذلك الشيخ الأجل الفهد بن محمد في جماعة إلى بلاد بني الحجري فرتبوا في حصن يقال له قلعة المفر على وادي لاعة يقطعون المواد على عمارة من جبل تيس وتلك النواحي، فلما نهض السلطان من الرحام إلى حرشان واشتد الحصر على عمارة تحيل بحيلة وأظهر الرغبة في خطاب الإمام وفي الباطن يريد الاتصال بسلطانه فأمنه أمير المؤمنين ليصل
إليه، فلما وصل وأسر إلى السلطان أن الحصون على طرف ضياع فليعطها ولدي الأمير الكبير عماد الدين يحيى بن حمزة بن سليمان ليوقع بينهم المسرة بين الإمام فجرى بينهم الخطاب على خفية وأمر دقيق، فلما بتو المكر وأتقنوا الحيلة أظهر الأميران ولدا عماد الدين أحمد وعبدالله بن يحيى بن حمزة بن سليمان الوصول إلى الإمام إلى ثلاء وهما يسيران حوافي أرتعا وأظهرا ذلك، فاستر الإمام بوصولهما فوصلا في عسكر عظيم وجعل للإمام عليه السلام ممن وصل معهما من النذور والأموال ما لا ينحصر، فلما استقرا عند الإمام بايعا ودخلا في الإمامة وطلبا من الإمام الملقى للسلطان لعلة اعتلا بها فساعدهم الإمام حياء منهما، فلما التقيا بالسلطان أثبتوا الأمر على تسليم الموقر إليهما وكتبت الكتب بذلك واجتمعا بالحرب مع السلطان وأظهروا أذية عمارة وكان عند الإمام، وأظهر عمارة للإمام النصيحة فغدر والقوم ويصنع في المكر كما هو أهله، ولم يزل بالإمام حتى أذن له في الصدور إلى عزان فأمنه وأذن له، ثم إن الأميرين الكبيرين شمس الدين وفخر الدين ابني يحيى بن حمزة أظهرا للإمام ظاهراً أن السلطان قد عرض عليهما شيئاً وهما لا يريدان إلا رضا أمير المؤمنين وحلفا له يميناً أخرى وأعطاهم الإمام نصفة المخلافة دون حصن الموقر وأعطاهم بعض حصون لاعة واحتلموا بقوة المحطة وشدة الحصر لما قد لحق الناس من المل، فكتب الإمام عليه السلام إلى السيد شرف الدين يحيى بن القاسم أن الأمير عماد الدين قد أمر بحشد العساكر إليك وفي خلال ذلك وصلت كتب الإمام عليه السلام من ثلاء بدخول الأمير الكبير المتوكل على الله أحمد بن الإمام المنصور بالله في الإمامة وأنه وعد من نفسه بنصر الدين وشد عضد الإسلام والمسلمين، فأمر الإمام بالبشارات في الأقطار لعظم شأنه وخطره ولم يلبث أن نهض الأمير قاسم بن إبراهيم بن يحيى الحمزي في عسكر كثيف إلى محطة الموقر فلقيه السيد يحيى بن القاسم بالمرحب والتسهيل
امتثالاً لأمر الإمام، ولم يلبث أن حط وفرق عسكر في المراكز المحيطة بالحصن وهم ...... الموقر ثلاث أو أربع، ثم أظهر ما كان مكنوناً مما قد انطوى عليه أمرهم، فلما علم أهل البلاد بهذه الفضيحة والغدر في الإمام أنفوا من ذلك ووقعوا بالقوم وقعة عظيمه فتحيز قاسم بن إبراهيم ومن معه إلى حصن الموقر ويسلموه، وكان الأمير شرف الدين يحيى بن القاسم في حوطة القوم فلم يمكنه عند الوقعة أن يستخلص نفسه فطلع مع القوم وأظهر أنه فتك به وبهم.
فلما كان اليوم الثاني هموا بلزمه فلم يوفقهم الله تعالى ونزل إلى المحطة سالماً وحينئذٍ أمر الناس بالمحطة والصبر وكان العسكر الذي دخل بهم قاسم بن إبراهيم الحصن قريباً من ألف مقاتل وهذا من العجائب، ولعل الذي حصرهم مثل نصفهم أو دون، واشتد الحصر على قاسم بن إبراهيم ومن معه حتى كادوا أن يأكلو الشجر من شدة الجوع، فأقام الحصر نيفاً وعشرين يوماً، وجمع الأميران ابنا يحيى بن حمزة العساكر من بلادهم، ونزل أهل الحصن إلى نهج بحرة في لقائهم ليكفوا المحطة فلم يربحوا وعادوا خاسرين، فقتل من عسكر الأميرين ابني يحيى حمزة جماعة وكسروا كسيرة عظيمة، وسلب من سلاحهم شيء كثير.
ووصل الأمير الكبير بدر الدين محمد بن الحسين بن ناصر بن سليمان من عند الإمام عليه السلام إلى عمه يحيى بن حمزة مخاطباً بينهم وبين الإمام فقال لهم: أما دخلتم فيما يحب الإمام، فأما أنا مستمر على نصرته، فاتفق الأمر بينهم على تسليم الحصن الموقر إلى يد الشيخ الأجل عمرو بن علي الوهيبي والمشايخ بني شاور أهل السود؛ إذ هم أهل الطيب والنقا فيبقى الحصن بأيديهم عدالة إلى أن ينهض السلطان من صنعاء ويكون الحكم للإمام بعد ذلك، فشاروا الإمام على ذلك فلم يرد الإمام عليه السلام إلا مساعدتهم إلى ذلك ليشتغل بحرب العدو، فانصرم الحال على ذلك.
وخرج قاسم بن إبراهيم ومعه حريم عمارة وخدمه مخرجا غير ساير والناس يصيحون عليهم من قنن الجبال وكان ذلك في النصف الآخر من شهر رمضان سنة ست وأربعين وستمائة.
قصة وقعة حضور
وهي من الفتوحات العظيمة، والسبب في ذلك أن سلطان اليمن لما حط في الرحام كي تنفك المحطة على الموقر زعم أنه يأخذ حصن الشيخ سيف الدين منصور بن محمد المسمى بالنواس قهراً بالسيف وقد كان صور له ذلك فأرده الله بكيده فأعمل الحيلة، فلما كان في بعض الأيام جهز عساكره وقواهم بالسلاح والعدة القوية وأمر بخراب قرية حضور وأمر بكمين في شق القرية لمن يأتي من المواد من جهة أمير المؤمنين، وتقدم إلى رأس نقيل كشر بمن معه، فلما بلغ العسكر أخربوا في القرية شيئاً قليلاً، ثم قدم الإمام الكتائب كتيبة بعد كتيبة يقدم في كل واحدة رجلاً من كبار الشرف وأهل البأس والنجدة، فتلازم الناس للقتال إلى قرب من نصف النهار ولحق أعداء الله الفتور والملل ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وحقت الهزيمة فلم تمض ساعة من النهار حتى فرق الله جمعهم وصاروا بين قتيل مضرج بدمه أو شرير مسلوب، فلقد أخبرني من رأى بعض العجايز تقود الخيل وغنم المسلمون من الغنائم الجليلة من الخيل والبغال والسيوف المحلية والملابس المطرزة والدروع والبيض وغير ذلك، واحترز من رؤوس الغز عدة فجعلت على جدرات سور ثلاء المحروس، وقسم أمير المؤمنين الغنيمة بين المسلمين على ما أمر الله، وأخذ لنفسه صفيا حصانا ذهبي اللون من عتاق الخيل، وكانت القتلة قريباً من المائة فيما قيل. والله أعلم.
ووقع في أعداء الله بعد ذلك من الرعب والذلة ما لا يتصور، وكانت الوقعه يوم الأحد لليال خلون من شهر جمادى الأخرى سنة ست وأربعين وستمائة.
ومما قيل فيها من الأشعار قصيدة الشريف الأجل القاسم بن علي القاسمي قوله:
شجا للكاشحين ولا سرورا
علا الإسلام واطردت قناة
وأقبلت الفتوح جيوش حق
وجيشاً قاده المهدي شعثاً
فأوطى في العلوم وحط فيهم
فما ربحت تجارتهم مبيعا
وكانوا كالجبال السود جمعا
وما دمنا لحسن مزدجر
حمى المهدي سرح الدين حتى
وعمري أنها أحيت فخاراٍ ... ونصراً للإمام ول يبورا
وهز لواه وازداد نورا
وجاء النصر يقدمها أميرا
يفل الأسد بأساً والنذورا
سيوف الحق فانهكتوا ستورا
ول اسعدت جدودهم طيورا
فشق الجمع جمعهم الكبيرا
ودارك في العدا حرف مطيرا
تأيد اأرتدى المجد المنيرا
كوجه الشمس أبلج مستطيرا
ومن ذلك قصيدة للشريف الأمير المجاهد شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم العباسي العلوي وهو ممن أبلى في ذلك اليوم، قوله:
كذا فليكن شيد العلا والمكارم
ومن رام إطفاء الضلالة لم يجد
وبالسمهريات الرقاق لدى الوغى
وكل طويل الباع أروع باسل ... لمن يبتغي ملك الملوك الأكارم
سبيلاً بغير المرهفات الصوارم
وبالأعوجيات الجياد الصلادم
جميل المحيا من ذؤابة هاشم
ومنها:
خليلي إما تسألاني فإنني
ألم تريا ..... الإمام وقد أتت
فلم يك إلا لحظة العين بيننا
فولى جنود الظلم والله ناصر
نسوقهم بالسيف كالشاء ساقها الذئاب
فلم تنجلي الحرب إلا وقد غدت
فكم من قتيل في الفلاة مجدل
وكم من جواد أعوجي مطهم
وفضفاضة مثل الإضاة وبيضة
فآبت جيوش الظالمين بحسرة
وولى ابن يحيى هارباً متحفرا
وقال ألا ياليتي مت قبلها
وليت حضوراًلم أكن حاضراً بها
ويا ليت أن ابن الرسول وملكه ... خبير بأن العز تحت اللهاذم
إليهم جيوش من جنود الأعاجم
وهبت رياح النصر عند التفاقم
ونحن عليهم كالليوث الضراغم
وسوق الصقر زرق الحمائم
جماجم أرحاش عقدت بجماجم
ومستسلم من ماله غير سالم
وأسمر خطي وأبيض صارم
تلوح كما لاحت نجوم النعايم
وأبنا إلى أوطاننا بالغنائم
وقد كان معدوداً لكشف العظائم
ولم يك مالي قسمته في المغانم
وياليتها كانت كأحلام نائم
هباءً ولم يلبس ثياب الهزائم
وأقام السلطان بعد ذلك أياماً في ذلة ورعب وسقط في يديه وخالفت عليه القبائل ووقع الخلاف في اليمن وبلاد مذحج والهان والمغارب، واضطربت أموره فأزمع على النهوض قافلاً إلى صنعاء، وأراد أن يجعل ذلك على وجه فيه بعض هيبة، فنهض إلى حوشان ما بين كوكبان وثلاء.
قصة محطة حوشان وما كان فيهما من الحروب
قال الرواي : فلما استقر في المحطة قامت الحرب بينه وبين الإمام عليه السلام فوقع بينهم وقعات عظيمة قيل: إنها تسع عشرة وقعة، واجتمع من القبائل إلى الإمام ما لا يصدق به إلا من شاهده، وانفتحت له عليه السلام أبواب البركات، أخبرنى عن نفسه أنه أنفق إلى أيام في شهر رمضان المعظم نيفاً وثلثمائة ألف درهم، وفي كل وقعة من هذه الوقعات يكون الظفر للإمام عليه السلام، منها وقعة الأدروع غنم فيها المسلمون خمس عشرة فرساً، فاستشهد من المسلمين عدة منهم الأمير الكبير محمد بن القاسم بن الحسين الحمزي، ومنهم الشريف الحسيب العفيف بن يحيى بن القاسم من بني عم الإمام المهدي وغيرهما من المسلمين رحمهم الله تعالى و رضي الله عنهم.
ومما قيل من الأشعار في ذلك قول الشريف الحسيب الأمير الكبير القاسم بن جعفر القاسمي التي أولها:
طاول بهمتك المريخ بل زحلا
وأصعد بفضلك فوق الشمس مبتدلاً
وساير الشهب في أعلى مسالكها
وامضي العزائم أمثال الصوارم
وشد على كل مجد كان أسسه
واجعل ضبا الهند والسمر الذوابل والـ
فالآن لم يزل التوفيق متسقاً
ولم يزل لك في الأعداء ملحمة
ملأت منهم عيوناً بالخميس وقد
كم وقعة لم تدع درعاُ ولا فرساً
طلت بها الطير تهدي للفراخ إلى
أبحت للسمر ما يحوي جناجنهم
ولم يزل لك فيهم صارم شرف
أطفأت من عمر السلطان جمرته
واستوضح الحق لكن قد تكنفه
وأنت عما قليل سوف تتركه
وتطمس الكفر في شام وفي يمن
يعلي بها الله رايات الهدى كرما
وينصر الله نصراً عاجلاً فإذا
لأنه رام فيما رام مقتدراً
وحدثته الأماني وهي كاذبة
وخاب عن كل ما قد كان رام له
وكان حوشان أقصى ما بلغن به
فيا أخا الجود والعليا ومن خضعت
وعالماً سيداً في جيله علم
يا كاشفاً طحنات الظلم عن مقل
وقامعاً بسيوف الحق من تركت
وناعش الدين والأعلام طامسة
يا بن النبي ويا سبط الحسين ومن
ليهنك اليوم ما أعطيت من ظفر
قاد الجيوش وقاد الخيل ساهمة
واستعمل البذل في أمواله ثقة
فعاد عما رجاه رجاه خائباً
قد أوثقته إشارات تأملها
فأصبح اليوم لايهوى المقام ولا
قد أعدم الرأي بعد الورد في صدر
فاغلظ عليه ولا تخفض له أبداً
واجلب عليه رجالاً لا تروعهم
وناد في كل بيت من بني حسن
بكل أرعن محر قد بعثت له
والسادة الشم من آل الحسين متى
ولبو الصوت في خيل متى شهدوا
ورووا البيض في الهامات وامتنعوا
وسادة من بني العباس قد جعلوا
هم المحامون عن دين الهدى كرماً
وصيد قحطان ناد القوم إن لهم
فمن أتاك ففرض قام فيه ومن
لا تحفلن بمن قد رام منقصة
وظن من جهله أن لم يكن وزراً
وسوف يعلو منار الدين وهو له
لا زلت في اليمن والتوفيق ما سجعت
... واسلك إلى كل طود في العلا سبلا
من الجلال وأثواب البها حللا
ما لم تغب وحالف كلما أفلا
سيد المكارم واشفعها علا فعلا
آباؤك الشم مجداً منك منتحلا
ـجرد الصواهل في نصر الهدى حولا
والنصر واليمن في ناديك متصلا
تهدى إليك رؤوس القوم والنعلا
ملأت منهم قلوب قبلها وجلا
ولا حساماً ولا رمحاً ولا رجلا
أوكارها لحم أكباد لهم وكلا
وللصوارم هامات لهم وطلا
من الدمار ورمح شارباً عللا
فالآن قد عرف المخذول ما جهلا
كفر وكبر به عن رشده عدلا
في الأرض طراً وفي سكانها مثلا
بفتكة فيه تشفي الوجد والغللا
بنصره جل من مستنصر وعلا
ما شاء شيئاً تعالى جده فعلا
كسر الإمام إذا وافا وأخذ ثلا
بأنه سوف يعلو في الملا سفلا
منه البلوغ ولم يسطيع أن يصلا
مواضي العزم أما غير ذاك فلا
في كل أرض لأدنى فضله الفضلا
وماجداً فوق كل الماجدين علا
ما كان لولاك عنها يرتجى حولا
أحكامه البغي من دين الهدى بدلا
منه وقد كان معروف الهدى جهلا
قد طاب في الخلق قولاً بل زكا عملا
على العدو وقد وافاك محتفلا
مثل الرعال وعال في الفضاء كللاً
بأنه قد ينال القصد من بذلا
ولا تبلغ فيما رامه أملاً
نصحاً وقد أعملت في غدره ختلا
يستحسن الرحلة المخذول إن رحلا
لما أهم عليه الأمر واشتكلا
منك الجناح وخالف فيه من عدلا
حتف النفوس وخيلاً سيرها خيلا
يأتورك من كان ضحضاح وكل فلا
إطلابه السمر تخشى السهل والجبلا
ناديتهم كان أدنى سيرهم عجلا
بها كفاح الأعادي حطموا الأسلا
فما أراقوا دما إلا غدا طللا
شغل الجهاد لهم عن غيره شغلا
والقائمون لدفع الخطب إن نزلا
سبقاً لديك وصبراً ظاهراً وولا
رام التأخر لم يخذلك بل خذلا
للدين واحتال أن يبدي به خللا
له وعونا على أعدائه بطلا
ضداً ويصبح منصوراً وإن خذلا
ورق الحمام ولاح البرق واشتعلا
قصة نهوض السلطان من حوشان متوجهاً إلى صنعاء اليمن
لما أقام السلطان في محطة حوشان المدة المذكورة ولم يظفر بمراده بل رده الله بكيده عاد بما يريد صنعاء، فنهض في شهر رمضان من السنة المذكورة وجعل طريقه على جبل حضور لخراب البلاد الشهابية، فجهز أمير المسلمين عليه السلام في إثره الأمير المعظم المقدام المقدم شريف العنصرين بدر الدين عبدالله بن الحسن بن حمزة الحمزي في عسكر عظيم وأمره بالمحطة قريباً من محطة السلطان وملازمته حيث توجه، ثم وجه أيضاً في خلال ذلك الأميرين الكبيرين الأجلين المقدمين الزعيمين فخر الدين، وأسد الدين: عبدالله ومحمد ابني سليمان بن موسى بن داود بن حمزة الحمزيين إلى ناحية مخلاف بلاد سنحان ومخلاف ذمار والمسار، فتوجه كل من المقدمين حيث صدر، واستقرت محطة الأمير بدر الدين في هجرة سناع وكان يشن الغارات على باب صنعاء في أكثر الأوقات ويغنم الغنائم من بوادي صنعاء كأن ما في صنعاء أحد.
أخبرني من يوثق به أن الخيل تخرج لابسة من مدينة صنعاء ترعى الغنم فإذا كان في النهار يخرج السلطان بنفسه وحشد جنوده وعقد بنوده وحرك طبوله وأرعد وأرجف، وأشعر الناس الرجفة إلى سناع فإذا ترائى الجمعان أرهقهم الغرق وجاشت عليهم جنود الحق فأرووا فيهم السيوف، وخضبوا اللهاذم نجيعاً وردوهم من حيث جاءوا فما يرجعون إلى صنعاء إلا مكسورين مغلوبين، فقتل من أعداء الله وأتباعهم عدة كثيرة غاب عني حصرهم، ومع ذلك فليسوا بالقليل.
ولما رأى أهل المخلاف المحيط بصنعاء من سنحان وبني بهلول وقبائل الأعروش وغيرهم ما شمل الغز من الذل والفشل لم تبق قبيلة حتى وصل منها من يطلب الأمان وتسليم الحقوق الواجبة وخلف عن الطاعة واعتذر عن الجهد بذلك حتى يفرج الله سبحانه، وكان المجاهدون يسرون السرايا ويتابعون الغزوات إلى أعداء الله وحيثما كانو فيأخذوهم قتلاً وأسراً ونهباً وسلباً[44أ-أ] فالحمد لله رب العالمين، وأمير المؤمنين يجهز الكتائب كتيبة بعد أخرى مادة للأمير بدر الدين، فكان ممن جهز إليه أخاه الأمير الهمام نور الدين محمد بن الحسن بن حمزة في جيش وافر، فازداد المسلمون بوصوله وحمد الله تعالى، كما جمع بينه وبين أخيه؛ إذ هما في ذلك الأوان سيفان من سيوف الحق لا ينبوان عن الضرائب ولا يهابان مقابلة الكتائب، وكان أمير المؤمنين يعطر بذكرهما المجالس، ويمدحهما للغادي والرائح بما لا يمدح به أحد سواهما ولا يستحقه إلا هما، ويكتب القصائد الفصيحة شحذاً لهمتهما وتثبيتاً لعزتهما، ومن القصائد التي أمر بها قوله:
.................. وغابت عند التعليق.
وأما الأميران الأجلان فخر الدين وأسد الدين ومحمد ابنا سليمان بن موسى فتقدما مخلاف ذمار وتقدم معهما الفقيه الفاضل المجاهد تقي الدين أحمد بن موسى؛ إذ هو من أهل السبق والاجتهاد والمبالغة في أمور الجهاد، وهو معروف بالحزم والشدة، والبأس والنجدة، وحسن السياسة، وتقدم معهم جماعة من الأخيار العلماء منهم الفقيه محيي الدين يحيى بن محمد بن يحيى الصريمي، وساروا في تلك الجهات سيرة مرضية، وجاهدوا في الله حق جهاده، وممن كان معهم من كبار الناس الشيخ الطاهر المجاهد عمرو بن سعد بن علي بن منصور بن جعفر من أهل ثلاء استشهد في بعض الوقعات في مخلاف ذمار رحمه الله تعالى، فلقد مضى حميداً سعيداً، ثم وصل الأمير الكبير العلامة عز الدين محمد بن أحمد المتوكل فاستر أمير المؤمنين بوصوله سروراً عظيماً ووجه إلى سناع ثم وجه بعد ذلك إلى مشارق صنعاء وألزمه هنالك ثغراً.
قال الراوي: وأقامت المحطة في سناع في قوة عظيمة شوال والقعدة والحجة ودخل شهر محرم وترعرع السلطان عمرو بن علي بن رسول لطلوع بلاد بني شهاب لما علم من نصيحة السلاطين الأجلاء المجاهدون الليث والوشاح ابني عمران وكافة السلاطين بني عمهم ولمحبتهم للإمام عليه السلام ومسامحتهم بالأموال والأرواح ما لم يعلم من أحد سواهم فجهز عسكره وجهز ابني أخيه أسد الدين، وفخر الدين محمد، وأبو بكر بن حسن بن علي بن رسول المحبوس في ديار مصر من سنة نيف وعشرين وستمائة حبسه الملك المسعودي يوسف بن الملك الكامل، فنهضوا من صنعاء في شهر المحرم حتى حطوا في .......... سهمان، فلما حطوا في سهمان وكان الأمير المقدم الباسل شجاع الدين: يحيى بن الحسن بن حمزة بن سليمان تأخر عن الوصول إلى الإمام عليه السلام في أول الأمر لأمر يحاوله فيما فيه صلاح، فلما ظفر به وعلم بعزم السلطان على الخروج إلى البلاد الشهابية لمحاربة أخويه الأميرين بدر الدين ونور الدين ومن معهما من الأخيار المجاهدين في سبيل الله رب العالمين جمع عسكراً وتقدم إلى أمير المؤمنين إلى حصن ثلاء في رجل كثير نحو ألف مقاتل من الرجال[44ب-أ] الأجواد، فلما وصل إلى أمير المؤمنين استر بوصوله سروراً عظيماً لما يعلم من شدة بأسه وإقدامه وهيبته وعلم أنه اجتمع بأخويه أن السلطان لا ينال مراده ولا يشفي غيظه فلم يقر بالأمير قرار من النهوض فتقدم بمن معه وحشد أمير المؤمنين معه من أمكنه من المجاهدين وتقدم حتى حط قريباً من محطة السلطان في موضع يسمى بيت شعيب لبلاد بني شهاب ليس بينه وبين محطة السلطان إلا دون الميل وأخواه الأميران كل واحد منهما في محطة وعسكر وإخوانه تشن على محطة السلطان فعلم السلطان حينئذٍ أنه مغلوب وتفرق عليه عسكره واضطربت أموره ووقع بينه وبين عسكر الأمير شجاع الدين وقعات في كل واحدة الظفر للمجاهدين، فالحمد لله رب العالمين.
رجع الحديث إلى ذكر قدوم الأميرين الأجلين فخر الدين وأسد الدين: عبد الله ومحمد ابني سليمان بن موسى ومن معهما.
لما وصل الأميران المذكوران بلاد بني شهاب وصل إليهما الشيخ الكبير: جعدان بن وهب السنحاني صاحب الرتبة، فقدم الأمير معه الأميران إلى جهته، ثم تقدم جعدان لغزوة إلى جهة أشح موضع يسمى ظفار فاستولى عليه المجاهدون وغنموا غنيمة وافرة، ثم استقرت المحطة بالصح، وكانت بينهم وبين أسد الدين وقعات كبيرة، ثم تقدمو بعد ذلك إلى بشار وأقبلت القبائل من سنحان، وعنس، وجنب، وقبائل المشرق، فاجتمع ألوف من العدد حتى جهز السلطان الملك المنصور عمر جيشاً عظيماً من صنعاء إلى بشار، ووصل أسد الدين فدخل ذمار، فلما أحاطت بهم العساكر لم ير الأمير فخر الدين إلا النهوض إلى جهة متوه فوقفوا مدة في مخلاف ذمار وأصلحوا أمور أهلها، ثم تقدموا إلى جهة متوه طمعاً في صلاح البلاد المذحجية وإصلاح أهلها وكان من كبار مذحج ورؤسائهم من هو مائل إلى السلطان وعاضداً له، منهم الشيخ علي بن سعد، ومنهم جبر بن صبرة ممن هو محارب للسلطان ومجد في حربه وقائم مع الإمام عليه السلام الشيخ عفيف الدين علوان بن عبدالله -الملقب بالكردي- وأهل متوه آل العروي، وقد كان الإمام عليه السلام جهز الشيخ علوان في شهر رمضان سنة ست وأربعين تنيف على عشرة آلاف درهم وكتب له عقوداً وعهد إليه عهوداً وأمره بتقوى الله تعالى والإخلاص والجهاد في سبيله، وكانت طريقه على الجوف ثم مأرب حتى عطف إلى بلاده من المشرق.
رجع الحديث إلى ذكر الأميرين الكبيرين فخر الدين وأسد الدين ومن سار معهما من إخوتهما الأمراء الأجلاء آل سليمان بن موسى بن داود وبني عمهم.
فلما وصل الأميران بلادهم وسار في الناس سيرة محمودة واشتدت هيبتهما في تلك النواحي ثم لم يبرحا يدبران الأمر حتى جمعا بين مذحج بأسرهم وقطع عنهم علايق السلطان، وأخذا عليهم بالمواثيق[45أ-أ]، وقبضا البيعة لأمير المؤمنين من الشيخ علي بن سعد ومن الشيخ جبر بن صبرة، وبلغ العلم إلى أمير المؤمنين باجتماع مذحج ودخول الشيخ علي بن سعد والشيخ جبر بن صبرة في الإمامة فكان ذلك من أعظم السرور على أمير المؤمنين وأمر بالبشارات في الآفاق، وأيقن أن اليمن الأسفل مأخوذ وأن السلطان ينقطع ما في يديه، وأثنى على الأميرين المذكورين ومن معهما كثيراً، وشكر سعيهم، وعظم ذكرهم، فلما علم السلطان بما كان من اجتماع مذحج عميت عليه الأنباء وتقطعت الخيل وبقي بين أمرين: إن ينزل اليمن الأسفل أخذت صنعاء وذمار ونواحيها، وإن يقف في صنعاء ونواحيها أخذ اليمن الأسفل فنفذ مقدماً من أمرائه إلى جهة ذمار بأموال لعله يفسد قلوب الناس فلم تلتفت عليه ولم يطل أن نهض السلطان من البلاد الشهابية إلى صنعاء وكان قبل نهوضه بأيام قرائب ما نذكره من وقعة كوكبان، وفرح بذلك وجعله محملة عند أهل اليمن وأظهر أنه قد ظفر من الإمام بغرض وأسر النجاة بنفسه وبمن بقي من عسكره.
وحدثني من أثق به أنه أحصي ديوان العطاء بعد قفول السلطان إلى صنعاء من حرب الإمام ثمانمائة نفس الذين هلكوا قتلاً إلا النادر الشاذ والله أعلم؛ لأنه قتل في حضور وحوشان وغيرهما في بلاد بني شهاب وساير البلاد التي وقع فيها الحرب؛ لأن الحرب شملت المغرب والمشرق وسائر جهات الغز.
وقعة كوكبان
وكان من حديث ذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام أمر من دخل كوكبان في الليل وعرف موضع في جبله يطلع منها بالسرات والآلآت المعروفة لأحد الحصون، فلما طلعه من يثق به أمير المومنين مراراً وطمعوا فيه، فقال عليه السلام: لعل الله أن يفتح به فيجعله هجرة للإسلام، ويفت به عضد هذا السلطان؛ إذ هو حصن عظيم في اليمن مشهور، وبالمنعة معروف مذكور، فأمر عليه السلام بالآلآت من أرشية وغيرها، فجمعت وأعدت.
تفصيل القصه في ذلك
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: كنت في ناحية المغرب قافلاً من الحركة إلى الجهات المخلافية لحوادث بلغت أمير المؤمنين من الأمراء أولاد يحيى بن حمزة وما هم بصدده وما يهمون به من الفتك بحصن الموقر، فلما انحسمت مادة الفساد منهم وعدت إلى موضع ما بين قطيب ومسور بلغني بريد أمير المؤمنين عليه السلام من ثلاء المحروس يستنهض فيمن معي ويأمرني بالتماس قوم من أهل مسور وغيرهم من أجواد الناس أهل الشدة والبأس ممن له عادة بأخذ الحصون واستراقها والفتك بها، وفعلت ما أمر به، ونهضت في قوم ممن أشار إليه وهم قريب من مائتي [45ب-أ] رجل، فيهم جماعة من السلاطين الأجلاء الحسام بن صعصعة وبعض إخوته وبني عمه ومن ينضاف إليهم، ومن المشائخ بني حجاج بن منصور بن إبراهيم، فلما وصلنا إلى مدينة ثلاء استقبلنا أمير المؤمنين عليه السلام بما هو أهله من الإنصاف ولم ألبث أن خلى بي وأعلمني القصة وما قد عزم عليه وأبرمه من أخذ كوكبان، وفيما أحسب أن القوم الذين صوروا له صورة الدخول لم يصدقوه الخبر أو جهلوا ذلك، فعرضت له تعريض محذر له من الإصغاء إلى من لا يؤمن مخادعته وقلة صدقه فلم أره ملتفتاً لما أردت بل سمع بوادر من لم ينصحه، فلما كان من الغد من وصولنا خرج أمير المؤمنين عشية وأمر باجتماع الناس، فانتقى من أجوادهم وشجعانهم وكبارهم عسكراً فيما أحسب أنه فوق الثلاثمائة وجهز عسكراً آخر قريباً من ذلك ليأتوا من نهج باب الظلع والأولون يأتون من الموضع الذي صور له عليه السلام وهو ما بين الحديدة والركن المطل على مدينة شبام وهو من أصعب موضع في الجبل ولم يعد سراً إلا عليَّ وجماعة مخصوصين من المقدمين وذلك عند غروب الشمس من يوم فرغ فهبطنا من مدينة ثلاء منتهجين طريق الحشب يروي الناس ذلك، وسرنا إلى أن دخل الليل فتراكم السحاب واشتدت غياهب الظلام حتى أن الواحد منا لا يكاد يعرف صاحبه الذي بجنبه إلا بصوته، وكان في مقدمة العسكر من أهل ثلاء
الشيخ المكين علي بن سليمان بن سري، فلما بلغنا إلى فوق الشعب قريباً من الأودوع أعلمت العسكر وأمرتهم بتقوى الله سبحانه وإخلاص النية وخص المقصود والصبر في سبيل الله تعالى فاضطربت خواطرهم من ذلك، فتقدم الناس على رسلهم، فلما بلغو منهلاً هناك توارده الناس الأول فالأول وهم يصدرون عنه أرسالاً، فمر أهل ثلاء ومن ينضاف إليهم من البلاد الحميرية عن يمينهم في طريقهم وهبطت ومن معي من المتأخرين من الشعب ظناً منا أن الطريق واحدة ولا علم لنا بمرورهم هناك، فلما بلغنا قعر الشعب انقطع عنا حسهم ولم ندر أين توجهوا وقلت في نفسي: الموضع المقصود يعرفه المقدمون على العسكر وإن تفرقت الطريق فهو يجمعنا فلن نعرج عليهم، وسرنا على غير طريق مسرعين حتى بلغنا قريباً من ركن الجديدة في كوكبان وهو الموضع الذي يصعد منه، فلما بلغنا هنالك لم نسمع لهم حساً، فأمرت السلطان الأجل عصان بن صعصة في جماعة من أصحابه بعد أن أعلمتهم هناك القضية فصعدو في الجبل حتى بلغو إلى موضع لا يمكنهم صعوده فعادوا وحكوا أنهم ما وجدوا أثرا ولا سمعوا حساً فعند ذلك ظننا أن عائقاً عاقهم فوقفنا ننتظرهم في ذلك الموضع إلى أن مضى أكثر الليل وانتقلنا من موضعنا ذلك إلى موضع [46أ-أ] آخر وقد غلب على الظن رجوعهم، وكانوا لما أبطأنا عنهم ظنوا بنا مثل ذلك فساروا طريقاً آخر وبلغوا الجبل آخر ليلتهم ومعهم الأرشية والآلآت المعدة لذلك، فلما وصلوا إلى الموضع الذي يعرفه الدليل صعب على أكثر العسكر طلوعه واضطربوا اضطراباً شديداً وأيقنوا بالهلاك، فلم يصعد منهم إلا القليل الذي لا يمكن مثلهم أخذ الحصن مع سعته وقوة من فيه وهو حصن واسع لعل طوله قريباً من ميل.
أخبرني من أثق به أن القوم الذين استقلوا رأس حصن كوكبان وهو طرفه المقابل للعروس نيف وثلاثون رجلاً وذلك قبل طلوع الشمس للقدر الذي أمكنهم التيمم والباقون من العسكر في موضع صعب تحتهم الحيد وفوقهم الحيد فرآهم حرس الحصن وهتفوا بهم بالصوت ووقعت الواعية العظيمة، واكتشف أهل الحصن كشيفة ظاهرة وظنوا أنهم أحيط بهم، فلما رأوا أن الذين استقلوا معهم الحصن نفر قليل قصدوهم، وكان فيهم فارسان، فلما دنوا منهم حملوا عليهم وقاتل المسلمون قتالاً عظيماً فصرع فيهم جماعة علي بن سلمة الصنعاني وكثر الغز ومن معهم فانحاز المسلمون إلى طرف الحصن ظناً منهم أن أصحابهم الذين تأخروا منهم قد صعدوا إليهم، فلما رآهم المتأخرون منهزمين وهم في ذلك الموضع الوعر انهزموا من حيث هم ورمى كل بنفسه وطار أكثرهم الحيد فقليل من سلم ممن رمى بنفسه.
قال الراوي: فلما سمع أمير المؤمنين الواعية في الحصن وقد كان متأهباً في الخيل وباقي العسكر في قاع شبام من تحت الليل لوقت البادي ظن المسلمون قد ظفروا بالحصن فأغار فيمن معه مسرعاً نحوالجديدة، فلما بلغ إلى هنالك لقيه أول العسكر منهزماً فوقف أميرالمؤمنين ومن معه هنالك لعل يستنقذوا أولئك الذين في الحيد، فهبط إليه من أمكنه النزول والباقون في سفح الجبل في موضع وعر ما بين مقتول ومثخن بالجراحات لا يمكنه حراكاً، فلما رأى ذلك أمير المؤمنين بلغ عنده مبلغاً عظيماً وعادوا إلى الهضب قريباً من مدينة شبام، فوقف هنالك وهو يستقبل الناس بالوعظ والتذكير والاحتساب لمن مضى في سبيل الله حتى استكمل أهل الغزوة وعادوا إلى مدينة ثلاء، فلما استقل في موضع هنالك وقد اجتمع الناس حوله برز في وسط الحلقة وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووعظ الناس وذكرهم وعزاهم فيمن مضى من المسلمين في سبيل الله وأمرهم بالتأسي بمن مضى من الأنبياء عليهم السلام وأئمة الهدى ومن بعدهم من الصالحين رضوان الله عليهم، فاستشفى الناس بكلامه وهان عليهم الأمر وكثر المرجفون في عدد القتلى، وارتفعت رؤوس المعاندين، والذي صح عندنا في عدد القتلى أنهم ثمانون أو يزيدون قليلاً أو ينقصون.
وروي لنا أن قوماً من أهل حصن [46ب-أ] كوكبان قتلوا في ذلك اليوم فقطعت رؤوسهم وزادوها في روؤس المسلمين ولم يمكن تعيينهم لكونهم من بلاد متباينة ومن المشهورين فيهم الشريف الفاضل المجاهد القاسم بن عبدالله بن حاتم العباسي العلوي، ومن كبار العرب السلطان عضبان بن أسعد بن محمد بن حسين من مسور في جماعة من أصحابه، وجماعة من بني وهيب، ومن قبائل الظاهر جماعة من أهل الصيد من بني عرير وغيرهم .
قال الراوي: من أعجب الأشياء في تعجيل النصر لأمير المؤمنين عليه السلام أنه وصل في ذلك اليوم برؤوس قوم من خدم الغز قتلوا في منابر وأسارى قريب من العشرين فاستقبلهم الناس واستروا بذلك عقيب الوقعة وحمدوا الله تعالى على تعجيل الانتصار، فلما أتي بالأسارى إلى أمير المؤمنين جأروا إلى الله وتضرعوا بأمير المؤمنين وعند الناس أن أمير المؤمنين لا يصفح عنهم لأجل من أصيب في ذلك اليوم فعند ذلك أمرهم أمير المؤمنين بالتوبة وأن لا يعودوا إلى شيء مما كانوا عليه فتابوا فصفح عنهم وأمر بإطلاقهم فعجب الحاضرون من ذلك.
ومما قيل في ذلك من الأشعار قول الفقيه العالم محمد بن منيع النميري البغدادي:
إلى ما التمادي والأسى والتوجع
فإن يك من أجل الغزاة الذي مضوا
فإنهم نالوا الشهادة وارتقوا
يروح عليهم بالنعيم ويغتدي
ويكسون فيها من حرير معجد
ومن يك هذا حاله فلم الأسى
وإن يك حزناً أن أيدي عداتهم
فيوم حضور قد فللنا عروبهم
وطارت بنا الجرد العناجيح نحوهم
بكل شديد الخيزوانة حاسر
فلم يورد البيض الصوارم منهم
ولم يرد منهم غير كل ضبارم
إلى أن ثنت سمر الرماح دمائهم
فإن يك منهم قد أصبنا بموجع
فصبراً على هذا المصاب وسلوة
إذا كان ما نبكي أسا غير أحمد
رضينا به مستخلفاً لم يسر بنا
يلوح الهدى والملك من عزماته
وتبتسم الأيام في ظل ملكه
إمام الهدى يا خير من وطئ الحصى
ويا نبوي العزم والحزم والسطى
إذا كان عذر الدهر أنك سالم
بك اكتست الدنيا ملابس زينة
وعندك راق العيش بعد أخونه
... وحتى متى أفراطنا في التوجع
إلى حيث يمضي كل عاص وطيع
ذرى طود عز في الجنان ممنع
أوانس حور في مصيف ومربع
ويسقون من صافي الرحيق المشعشع
عليه وسح الدمع من كل مدمع
أصابتهم في كوكبان بموجع
بحرب أشابت مفرقي كل مرضع
سراعاً كأسراب القطا المتسروع
يقنع بالهندي رأس المقنع
سوى مالئات الكمي السميدع
أخا ثقة شثن البراثن أدرع
كأن أعاليها خضبن بأبدع
فكم قد أصيبوا من يدينا بموجع
بهذا الإمام الناسك المتورع
رجعنا إلى أحلام أكرم مرجع
على غير منهاج من الرشد مهيع
بأمضى من البتر المواضع أقطع
إلى أهلها عن خير مرأى ومسمع[47أ-أ]
ولبى سريعاً داعي الحق إذ دعي
وقوم السرايا يوم داعي التترع
فأكرم به عذراً إلينا وأوسع
وعادت كعابا ذات عشر وأربع
فلا يظفر التكدير منه لمشرع
قال الراوي: ولما أصيب من تقدم ذكره من المجاهدين في كوكبان وكان سلطان اليمن عمر بن علي بن رسول في بلاد بني شهاب مشغولاً بخراب قراها ورعي زرائعها فنال من البلاد وعاد قافلاً إلى صنعاء اليمن دخل في قلوب الأمراء عماد الدين يحيى بن حمزة وولديه أن أمير المؤمنين قد تضعضع وضعف شأنه وأنهم إذا اجتمعوا هم والسلطان استأصلوا شأفة أمير المؤمنين عليه السلام فأجمعوا على تقدم أحدهم إلى السلطان عمر، فتقدم الأمير أحمد بن يحيى بن حمزة إلى حصن ذمرمر فوهن فيه السلطان عمر لولده إلى السلاطين آل حاتم فحلف الأمير شمس الدين أحمد بن يحيى بن حمزة لا استوثق من السلطان رهينة في نفسه لثقة بعضهم ببعض وتعاضدهم على أمير المؤمنين فلقيه السلطان بالتبجيل والتعظيم وأنزله في أحسن منزل، ووقف الأمير أحمد بن يحيى أياماً ينقل إليه التحف والظرف وهو في خلال ذلك في جد واجتهاد وتدبير دقيق بينه وبين السلطان في استئصال شأفة أمير المؤمنين عليه السلام، فانتهى أمرهم أن السلطان عمر سلم للأمير أحمد بن يحيى بن حمزة حصن بكر وهو من أعجب القلاع في اليمن وأحرزها وهو الذي حط عليه الملك المسعود يوسف بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب مصر في سنة ثمان عشرة وستمائة دون السنة وأنفق عليه أموالاً جليلة قيل: تسعمائة ألف دينار، وصار إلى هذا السلطان لما استولى على اليمن.
رجع الحديث إلى صورة تسليمه
لما اقترح الأمير أحمد بن يحيى تسليم بكر على السلطان عمر في صحة الموالاة والمعاضدة والمناصرة والاجتماع على حرب أمير المؤمنين عليه السلام فأجابه السلطان على لسان بعض خدامه أن بكر هو الدرة المكنونة في قلبي فإن كان لا بد من تسليمه دخلو في ما أحب فقرن تسليمه بشروط.
منها: أنه أخرج نسخة يمين نسخت في ست ورق موصولة كان حلف بعض الملوك غيره على أمر من الأمور يضمن الأيمان الغليظة والعهود الوثيقة والنذور الكثيرة والتبري من الحول والقوة على الموالاة الصحيحة والمعاضدة واجتماع الكلمة على حرب الشريف أحمد بن الحسين بهذا اللفظ بالتصغير فحلف الأمير أحمد بن يحيى على ذلك والمحلف له أحمد بن يحيى بن عبدالله بن سليمان بن الأديب فيما يروى.
الشرط الثاني: أن أعطى السلطان راية من أعلامه وأعطاه السلطان كذلك.
الشرط الثالث: أن أحصر كبار العرب والعجم في[47ب-أ] الإيوان المشهور بالدار السلطانية، ونشرت الأعلام وشهد الشهود على ذلك، وكتبت المربعة وهي عبارة عن كتاب منشور بذلك، وأمر للأمير أحمد بن يحيى بن حمزة بتسليم بكر وظهر لجميع الناس ذلك، وأمير المؤمنين في خلال ذلك يتابع الكتب إلى الأمير عماد الدين ويعظه ويخبره بما قد عرفه من أمورهم، فلما رجع الأمير شمس الدين أحمد بن يحيى من صنعاء وتسلم حصن بكر، وخرج من كان فيه إلى كوكبان وحلب واستخدم جماعة من الجياد المسنة الذين كانوا فيه وظهر من القوم الكلام الشنيع والتهدد والوعيد والأذية لأمير المؤمنين، فلما أيس أمير المؤمنين من رجوعهم إليه وعلم أن قد خدعوا عزم التجرد بنفسه في حربهم، فقدم إلى الأمير عماد الدين يحيى بن حمزة كتاباً بليغاً من محاسن الكتب وأفصحها يتضمن ضروباً من الوعظ وتحقيقاً لعظيم ما ارتكبه الأميران ولداه فلم يعد له جواباً يشفي ولا بيّن عذراً في ذلك ولا وجهاً مخلصاً عند الله سبحانه وتعالى وهذا موضع نسخته.
قال الراوي: فلما بلغ إليهم الكتاب لم يرفعووا به رأساً واستمروا على ما قد تعاقدوا عليه ووعدهم السلطان بالمدد بالمال والرجال وغرضه المقاطعة فيما بينهم وبين الإمام عليه السلام والرجوع إلى اليمن على مجمله، فأثاروا الحرب وقطعوا الطرقات والمنافع المتصلة بالإمام من الجهات التي يدهم عليها نافذة وأمير المؤمنين في خلال ذلك يعذر إليهم ولا يريد بعدهم، ويتلطف لهم بالقول رغبة في سلامتهم ورجوى أن يعودوا إلى ما عاهدوا عليه، فأما الأمير الكبير عماد الدين أبو المظفر يحيى بن حمزة بن سليمان فكان كلامه جميلاً وجوابه سديداً وأعلن أنه باق على الإمامة ولوازمها إلا أنه قد كان طعن في السن لعله في ذلك الأوان ابن نيف وثمانين سنة. والله أعلم.
وقد كان ذهبت إحدى كريمتيه وضعف جسمه فغلبه ولداه ولم يتركا له سبيلاً، وتابعهما جميع أخدامهم في الحصون وولاتهم، وكان في أيديهم من الحصون العظيمة بكراً، والطويلة، وبراش الباقر، وحصنان آخران، ومدع، والمصنعة، وكحلان، وفي حجة المقطوعة، والجاهلي، وحصنان، وشمسان، والقفل، وظفر، وحراف، ونعمان، وذروان كلها حصون سلطانية كاملة الشحن والعمارة الأكيدة وغير [48أ-أ] ما ذكرت من القلاع، فلما طال الأمر وتمادى القوم في حرب الإمام لم ير أمير المؤمنين أنه يسعه عند الله سبحانه إلا حربهم والاستعانة بمن أمكنه من المسلمين عليهم.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: فأمرني أمير المؤمنين عليه السلام إلى جبل مسور في عسكر للوقوف في بيت ريب وتثبيت أمورهم وإصلاح أحوالهم، وإشعار الناس أن يكونوا على الأهبة، فوقفت أياماً كما رسم أمير المؤمنين عليه السلام، وأقام سلام الله عليه بعد ذلك قريباً من شهر، ثم نهض من حصن ثلاء في عصابة من المسلمين من كبار الشرف والعرب وأهل البأس والنجدة، فأمسى ليلة في حصن الشيخ سيف الدين منصور بن محمد حضور، ثم نهض إلى عران حصن الأمير الكبير المجاهد السابق شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم، ولم يدر بما في غرضه إلا القليل الخاص، ووصل إليه أهل قرية مدع وتلك النواحي فبايعهم الإمام على الجهاد والنصيحة والصبر، فلما عرف الإمام عليه السلام ما عندهم نهض على حين غفلة وقد أمرهم بإثارة الحرب على حصن مدع فامتثلوا أمره.
(قصة المحطة على حصن مدع)
قال الراوي: لما كان فجر اليوم الذي نهض فيه أمير المؤمنين من عزان أثار أهل قرية مدع الحرب على أهل الحصن فلزموا منهم جماعة وأرسلوهم بعد ذلك، ثم نهض أمير المؤمنين، فلما سمع أهل البلاد أصوات الطبول والحرانيات أغاروا من كل جهة من تلك النواحي للقاء الإمام، ثم طارت الكلمة فبلغ العلم إلى حصن كحلان فيما روي والأمراء أولاد الأمير عماد الدين وأخدامهم على المائدة يأكلون، فقيل لهم: إن على الباب رجلاً يتحدث أن الإمام نهض في هذا اليوم إلى مدع، فقال بعض خدامهم مستهزئاً: لعله يروم المحطة على مدع، فما رفع الطعام من بين أيديهم حتى بلغ العلم بمحطة الإمام في قرية مدع، فخرج الأمير شمس الدين أحمد بن يحيى بن حمزة من ساعته وركب فرسه وأخذ لامة حربه وسار بين يديه جماعة من خدمه، وأغذ في السير قاصداً إلى ابن عمه الإمام الكبير المتوكل على الله شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين وهو حينئذٍ في مدينة حوث.
قصة نهوض الأمير شمس الدين من حوث بالعساكر
وجمع القبائل حاشد وبكيل من أهل الظاهر قاصداً إلى بلاد حمير لنصرة عمه وأولاده.
قال الراوي : فلما وصل الأمير أحمد بن يحيى بن حمزة إلى ابن عمه على حين غفلة أعلمه الخبر فاشتغل خاطر الأمير شمس الدين بذلك وأجابه إلى النصرة والنجدة وأمر من ساعته بالأهبة للخروج، وأمر بأن يخرح من الخزائن آلة الحرب من الدروع والمغافر، وقسمي النشاب وبدالها، والعربية، وكتب الكتب إلى القبائل أنا لا نريد حرب الإمام ولا نرى ذلك، وأمر بإقامة الجمعة وأظهر شعار التزام الإمامة.
قال أمير المؤمنين: لقد عجبت من هؤلاء القوم يدعون لنا [48ب-أ] على المنابر ويحشدون لحربنا العساكر أو معنى ذلك، فنهض الأمير شمس الدين من حوث في عساكر كبيرة وعدة قوية واستنجد بابن عمه الأمير بدر الدين عبدالله بن الحسن بن حمزة من ثغر سناع، ووصلت كتب أكثر القبائل من الظاهر ورسلهم يعلمون الإمام أنا ما خرجنا إلا مكرهين ومدافعة عن نفوسنا وقلوبنا معك، فلقد بلغني أنهم كانوا يرمون المحطة التي هم فيها في الليل ويظهرون أنهم غزاة من جهة الإمام، فلما وصلوا إلى جهات بني شاور، وجعلوا محطتهم في موضع مشرف يسمى الحيرة وأمر أمير المؤمنين عليه السلام الأمير الكبير المجاهد أحمد بن محمد بن حاتم والأميرالكبير أحمد بن يحيى بن الحسن بن حمزة، فحط في الحصبات والهجر في مقابلة الأمير شمس الدين والحرب مستمر على حصن مدع، وأحاطت المراكز بالحصن، واشتد بهم الجهد، ثم لم يلبث الأمير بدر الدين عبدالله بن الحسن بن حمزة أن وصل من ثغر سناع في عسكر من بني شهاب وبني الراعي وغيرهم فوقع في خاطر الإمام عليه السلام من وصوله أنه ما وصل إلا عن مشورة وسر دقيق من بني عمه ولم يظهر ذلك، فقابله الإمام بالإجلال والتعظيم وشكر سعيه ولم يظهر عليه أمراً يكرهه، وكثرت الأحاديث من بعض من وصل معه أن باطنه مع أصحابه، فأستأذن أمير المؤمنين بالصدور إلى أصحابه إلى محطة الحيرة، فلما وصل إليهم ابتهجوا لوصوله وعظموا شأنه وتحدثوا بحديث ظاهر جميل للناس، فلما خلا بعضهم ببعض تحدثوا في شأنهم وأجمعوا رأيهم على إعمال المكيدة للإمام عليه السلام ومخادعته وتتبع أنظاره إن أمكنهم جهراً وإلا سراً، ثم رجع إلى الإمام عليه السلام وفي فلتات كلامه معنى الإرجاف على الإمام والإرهاب، ووصل الأمير الكبير جعفر بن أبي هاشم بن محمد بن الحسين بن حمزة في وجوه من قبائله ذيبان وغيرهم، فلما وصلوا إلى الإمام وقع حرب عظيم بين عسكرالإمام وأهل الحصن، فدخل أكثر من وصل من القبائل
مع عسكر الإمام وحاربوا أهل الحصن فأثخنوهم بالجراحات ولم تبق قبيلة ممن وصل حتى عاهدوا أمير المؤمنين سراً وأنهم عند إقباله إلى البلاد أنهم قائمون معه وشكر الإمام صنائعهم وأعلمهم أنا لا نريد لبني عمنا إلا الخير ما نريد منهم إلا معاونتنا على إعزاز هذا الدين ونصر الإسلام والمسلمين، ونزيدهم مع بلادهم أضعافها فنحن نرجوا أن يفسح الله علينا وأن يفتح على أيدينا المدن العظيمة والحصون الشامخة.
وفي خلال ذلك وصلت قبائل قدم من المغرب من جيلان ولاعة وتلك النواحي، ووصل السلاطين آل محمد بن حسين من مسور، ووصل بني شاور المخلافة، ومن يصاقب بلادهم بمال كثيراً نذراً أو براً للإمام ومعونة في سبيل الله تعالى.
حدثني أمير المؤمنين أنه ما حط على مدع وعنده من المال إلا اليسير القليل فما انقضى شهر حتى حصل له وعلى يديه مقدار ثلاثين ألفاً أو يزيد قليلاً أو ينقص [49أ-أ] أنفق ذلك في سبيل الله تعالى.
[قصة الصلح بين الإمام وبين الأمراء آل يحيى بن حمزة]
قصة الصلح بين الإمام عليه السلام وبين الأمراء الكبراء آل يحيى بن حمزة على يد الأمير شمس الدين وما جرى في خلال ذلك.
لما كثر الكلام والتكرار على أمير المؤمنين في الصلح انصرم الأمر بينهم على أشياء منها: الرجوع عن خلف السلطان، والقيام مع الإمام، وبذل الأموال والأنفس.
ومنها: أن يعدل حصن مدع في يد رجل ممن يثق به الكل، فجعل ذلك الأمير الأجل علي بن القاسم بن الحسين بن محمد بن الحسين بن حمزة الحمزي إلى مدة مضروبة، ثم يسلمه إلى يد الإمام عليه السلام.
ومنها: النهوض بين يدي أمير المؤمنين أي وقت استدعائهم للحرب على صنعاء، وفي أصناف الشروط أشياء غابت عن الخاطر عند التعليق.
ونهض أمير المؤمنين عليه السلام راجعاً إلى حصن ثلاء المحروس، فبات ليلة في حصن عران عند الأميرالكبير المجاهد السابق أحمد بن محمد بن حاتم، ونهض ثاني ذلك اليوم ومن معه من العساكر ومن فيهم من الأمراء الحمزيين حتى وصل إلى حصن ثلاء المحروس سالماً غانماً ظافراً ميموناً فأقام عليه السلام إلى شهر [.....بياض في المخطوط.......] في سنة سبع وأربعين وستمائة، ووصل الأمراء الكبراء نجم الدين وصارم الدين موسى وداود ابني الإمام المنصور عليه السلام والأمير الكبير بدر الدين عبدالله بن الحسن بن حمزة والأمير الكبير الحسن بن وهاس في عصابة في أهله وخدمهم، فسر أمير المؤمنين بوصولهم وتلقاهم بما هم أهله من الإجلال والإنصاف وأعلموه أنهم ما وصلوا إلا لنصرته وامتثال مراسمه، فضربت خيامهم شرقي قرية ثلاء في موضع يسمى المحاميت وأقاموا أياماً، وكثرت الأحاديث عنهم وما في نفوسهم من الفساد على أمير المؤمنين عليه السلام فلم يرفع الإمام بكثير من الأحاديث رأساً وعزم على النهوض إلى بلاد بني شهاب والمثاغرة على صنعاء والقرب من الجهات اليمانية.
قصة نهوضه عليه السلام إلى بلاد بني شهاب
قال الراوي: لما حمل الإمام عليه السلام بني شهاب وبني الراعي وبعض قبائل سنحان وغيرهم على النهوض لنصرتهم ووعده من أنفسهم ببذل الأرواح والأموال لم ير أنه يسعه عند الله تعالى مع وجود الناصر إلا القدوم والتوكل على الله تعالى وهو مسر في نفسه قلة الثقة بمن معه من الأمراء بني حمزة فكان الأمر كما ظن.
نهض عليه السلام في شهر رجب المعظم سنة سبع وأربعين وستمائة، فلما كان في اليوم الذي نهض فيه عليه السلام نفر معه عصابة وافرة من المسلمين، وأمر عليه السلام فنصبت الرايات وحركت النقارات، وجعل طريقه قاع حوشان، فأمسى ليلته تلك في بلاد بني الراعي وسار تحت لوائه الأمراء المقدم ذكرهم، فلقيه عليه السلام كبار بني الراعي وشيخهم يومئذ الشيخ الكبير شجاع الدين يسر بن سليمان وكان من أهل المودة والنجدة بالإجلال والتعظيم [49ب-أ] وحمد الله تعالى على قدومه إلى بلادهم، وأحسنوا إكرامه وإكرام من معه من الأمراء والعساكر، ثم نهض عليه السلام من بلادهم حتى حط في موضع يسمى بيت حنبص وكان من مآثر حمير القديمة المشهورة فضربت خيامهم وخيام الأمراء في موضع قريب من الموضع، واجتمع إليه بنو شهاب وسائر تلك النواحي، وتلقاه السلاطين الأجلاء الكبراء آل عمران بن الذيب أهل بيت ردم وسائر السلاطين بما هم أهله من الإجلال والإكرام، وبلغوا الغاية في الكرامة، وأقام الإمام أياماً، وأشرف على صنعاء ونواحيها من رأس الهضب المشرف ولم يطل المقام حتى نجم من الأمراء الحمزيين ما نشير إلى طرف منه.
قصة نهوض الأمراء الحمزيين إلى جهات الظاهر
قال الراوي: وبلغني من طرق شتى وسمعت أمير المؤمنين عليه السلام يحكي معنى ذلك، ورأيت كتاباً وضع عليه السلاطين الأجلاء بنو شهاب خطوطهم ومن حضر من كبار الشرف وذلك أنهم رأوا وسمعوا من الأمراء الحمزيين من الكلام المتضمن للفساد على أمير المؤمنين والعمولة في محطته أو معنى ذلك مما يوجب بعدهم ومباينتهم أصنافاً من الكلام، وكان بعضهم ربما ينزل إلى القاع للغارة فيلتقي بالغز ويخالطهم، ويلقي إليهم الأسرار والأحاديث، فبلغ أمير المؤمنين عليه السلام حتى لم يبق عنده شك فعند ذلك لم يستحسن مكاشفتهم، بل عدل إلى شيمته من الصبر والتعمد، وأسر إليهم الكلام أنه قد تحقق ما قد فعلوه، فحينئذ لم يقر بهم قرار، وخافوا أن يقع بهم بنو شهاب وغيرهم، فنهضو راجعين إلى الظاهر وظهر للناس ما كانوا يكيدونه ويرومونه من مكيدة أمير المؤمنين عليه السلام وأسمعهم الناس في طريقهم الكلام القبيح بغير أمر أمير المؤمنين في ذلك، وهبط أمير المؤمنين بعد ذلك إلى هجرة سناع، واستقر رباط الثغر هناك، وأسرى السرايا، ووصل إليه شيء من المال من الزيدية بصنعاء وكانوا يأمرون بالدراهم والفضه والثياب والمنافع سراً لما يحاذرونه من سطوة الغز، ووصل إليه أكثر القبائل، فأقام عليه السلام باقي شهر رجب وبعض شعبان لا تنقطع الغزوات والوقائع والحرب بينه وبين الغز، وبلغ العلم أمير المؤمنين أن الأمير شمس الدين جهز الأمير بدر الدين عبد الله بن الحسن بن حمزة إلى بلاد عمه في بلاد حمير وغيرها؛ لأن الناس لم ينقادوا لهم لما حاربوا أمير المؤمنين وظاهروا الغز، فتقدم الأمير عبدالله بن الحسن بن حمزة إلى بلاد حمير في عسكر فأخرب قارن وحلملم وغيرهما، ثم نزل المغرب إلى جهة حجة وقد كان قوم من أهل تلك النواحي من بني واشح وغيرهم لزموا موضعاً يسمى الحسكي غربي حصن ظفر وبنوه وأثاروا الحرب منه، فنزل الأمير عبدالله بن الحسن والأمير أحمد بن يحيى بن حمزة في عسكر عظيم وحاربوا
على ذلك الموضع، فأخذوه بالسيف وأسروا الشيخ المجاهد منصور [50أ-أ] بن إبراهيم بن حجاج صاحب الظفير، وقتلوا جماعة، ثم عاث العسكر في تلك البلاد فأخربوها ونهبوها وهتكوا الحريم وفعلوا من الأفاعيل في النسوان ما لا يليق ذكره بكتابنا فيما بلغ.
فلما بلغ العلم إلى أمير المؤمنين بذلك وكان في شهر رمضان المعظم من السنة المذكورة غمه ذلك غماً عظيماً وشكى على المسلمون ما بلغ إليه وقال: إن هؤلاء الأمراء لم يبرحوا يحاولوننا بالمهر حتى نهضنا إلى هذه الجهات، ثم فعلوا معنا ما فعلوا، ثم رجعوا عنا وخرجوا لبلاد المسلمين فأخربوها واهتضموا أهلها، وهاهم يستغيثون بنا، ونحن كما رأيتم من سداد هذا الثغر الأعظم ودفع الخطب المهم، فماذا ترون؟ فأجابوه بالامتثال لما يصوبه ويراه، وكان ذلك في حال تفرق الناس خصوصاً أهل البلاد الظاهرية لما أعلن الأمراء بنو حمزة بالحرب لإمامهم، وبقي أمير المؤمنين عليه السلام متردد الخاطر هل يعود فمن بالثغر الذي هو فيه أو يقف فإن الأمراء يستأصلون شأفة كل من قد مال إليه وعاضده، وعرض في خلال ذلك وجع عظيم وهو ضرب من القلاع في فمه وحرارة عظيمة، فعرضت الحمى حتى استفرغ الدم واستعمل شيء من الأدوية لذلك وسكنت سورة المرض، وصاحب صنعاء الأمير أسد الدين محمد بن الحسن بن رسول الحرب بينه وبين الإمام سجالاً.
قصة وقعة أرتل واستشهاد من استشهد من المجاهدين
والسبب في ذلك أن أمير صنعاء نهض يوماً في شهر رمضان من السنة المذكورة في عسكره لمضرة من قد صنع إلى الإمام عليه السلام حتى بلغ فوق حاقد إلى موضع هنالك وقد كان الإمام عليه السلام لما بلغه العلم بنهوضه جهز الأمير الكبير أسد الدين محمد بن سليمان بن موسى في خيل ممن هنالك من الأشراف الحمزيين وغيرهم من آل الهادي عليه السلام كالشريفين السيدين المجاهدين: شهاب الدين، وجمال الدين محمد والحسن ابني علي بن يحيى بن محمد بن يوسف بن القاسم بن ثوران الأشل يحيى بن أحمد الناصر بن يحيى الهادي إلى الحق عليهم السلام، والسلاطين الأجلاء الوشاح بن عمران وبني عمه وغير من ذكرنا من المشائخ بني وهيب، فاتفقوا بعادية عسكر أسد الدين في موضع يقال له أرتل، فوقع قتال عظيم أصيب رجل من بني حوال الحمزيين لشمر الحوالي يقال له: المكش، وعثر فاحتز رأسه ومضى شهيداً إلى رحمة الله، ثم أصيب الشريف الأمير السيد الحسيب الطاهر المجاهد أحمد بن محمد بن القاسم بن محمد بن القاسم بن يحيى بن حمزة بن أبي هاشم بسهم تحت ثديه الأيمن فلما نزعه سقط ميتاً شهيداً إلى رحمة الله تعالى وقام عليه السيد المقدام محمد بن سليمان في موضع تختلس فيه الأرواح والرماح فيه متشاجرة المذاكي متصادمة، وجعل نفسه وفرسه من دونه وقام معه في ذلك المقام الهائل الشريف الحسيب عبدالله بن هيجان والشريف المجاهد منصور بن علاء السراجي، والشيخ الطاهر مالك بن أسعد الحريف الرودي الهمداني، وأصيب الأمير[50ب-أ ] محمد بن سليمان بسهم نشاب نفذ في كفه على رمحه وسهم في رجله وأصيب فرسه بأسهم منها سهم نصل في بطنها، وأبلى في ذلك اليوم مع غيره من الأيام التي كان فيها علماً حتى لم يدعوا لقوم إلى وصوله سبيلاً، ثم حمل ميتاً من المعركة، ووقع في المجاهدين هزيمة إلى بعض الجبل لكثرة العدو وعدم الفئة، فلما وصلوا إلى أمير المؤمنين وبلغ إليه ما كان من استشهاد الأمير السيد والرجل الآخر بلغ معه
مبلغاً عظيماً واسترجع وخرج بنفسه إلى الشرفاء الأمراء الكبراء الأمير الكبير صلاح الدين الحسين بن القاسم بن محمد بن القاسم بن يحيى بن حمزة؛ إذ هذا الأمير المستشهد في سبيل الله ولد أخيه ولهم السابقة مع أمير المؤمنين والصهارة والمحبة التي لم يدل بمثلها أحد ممن قرب نسبه، ثم أقبل السلاطين الأجلاء بنو شهاب وغيرهم من المجاهدين الذين هنالك فعزوا أمير المؤمنين والأمراء آل يحيى بن حمزة وكان ذلك وجه عشي فرأى أمير المؤمنين عليه السلام قبره بكرة العارض، فلما كان من الغد حمل جنازتهما وسار عليه السلام راجلاً مع الجنازة حتى قبرا في الهضب يماني هجرة سناع، وفي خلال ذلك بلغ أمير المؤمنين أن السلطان الليث بن عمران قد سعى سراً في الإفساد عليه وحالف العدو فلم ير أمير المؤمنين إلا التعمد والصبر ولين الجانب، وأمر له بشيء من الصلة النفيسة ليتألف قلبه.
قصة رجوع أمير المؤمنين إلى محروس ثلاء
ثم إن أمير المؤمنين أمر السيد الشريف شرف الدين الحسن بن وهاس الحمزي بالوقوف في ثغر سناع وجعل معه الشيخ المخلص عمرو بن علي الوهيبي، والسلطان الأجل حسام الدين الوشاح بن عمران وأولاده، والسلطان الأجل شجاع الدين جبير بن سعيد بن نمير وساير بني عمهم، وأمر الفقيه الطاهر المجاهد المخلص حسام الدين أحمد بن يحيى الزيدي ثم الصعدي وكان من الأخيار وأهل العناية والقيام بالجد والاجتهاد وإنفاق ماله مع ما يحصل من فضل الله تعالى، وكان ذا إحسان وله محبة في قلوب أهل النواحي، فأمره بالإنفاق عليهم والعناية في حقهم فامتثلو أمره، فلما طابت نفس أمير المؤمنين عليه السلام ورغب أهل الناحية في ملازمة ذلك الثغر لما علموه مما قد حمل أمير المؤمنين من إغاثة المسلمين في البلاد الحميرية والمغربية نهض عليه السلام من هجرة سناع فأمسى في حصن السلاطين الأجلاء آل عمران من الذنب بيت ردم فتلقوه بأخلاق الكرام، وقابلوه بالإجلال والإعظام، ولم يدعوا وجهاً في الكرامة حتى فعلوه، وأظهر عليه السلام أنه يريد الوقوف أياماً يوري بذلك خوفاً من كيد العدو، فلما كان قبل غروب الشمس الثاني يوم نهض معداً فيمن معه من العساكر فسار ليلته تلك وهي ليلة متراكمة السحاب مدلهمة الظلمة حتى طلع فجر الصبح وهو في [51أ-أ] شعب تحت بني بشير في مخلاف حصن ثلاء المحروس، فلما حركت النقارات والطبول سمع أهل ثلاء وتلك النواحي فأقبلوا مسرعين مسرورين مستبشرين حامدين الله تعالى قفول أمير المؤمنين إلى بلادهم بعد أن أوحشست لفراقه الأقطار وأكسفت الأنوار، فلم تطلع الشمس حتى اجتمع إليه عساكر جمة العدد وتفرق المبشرون إلى بلاد حمير والمغارب بإقبال أمير المؤمنين عليه السلام إلى حصن ثلاء.
كان ذلك يوم الخمس أو الأربعاء لبضع وعشرين ليلة خلت من شهر رمضان سنة سبع وأربعين وستمائة، ثم أقبلت قبائل حمير وقبائل البون وغيره، فلما حضرت الجمعة اجتمع فيها من خلق الله تعالى ما لا يكاد أن يضبط بالعدد، وخرج أمير المؤمنين في أحسن هيئة وأعظم زي قد تحلت رداء السكينة والوقار والذكور لله تعالى والدعاء إليه، وسار بين يديه المسلمون على طبقاتهم من الأشراف والعلماء ومن هو تابع لهم من الناس، حتى إذا قرب من الجبانة وهو الموضع المشرف على جبل تعود ترجل عن فرسه وسار تواضعاً لله تعالى واتباعاً لسلفه بذكر الله تعالى ويدعوه، فلما دنى من المنبر صلى ما شاء الله أن يصلي ثم صعد المنبر فخطب الناس ووعظهم وذكرهم بالله تعالى وجرى على السنن المألوف من الأئمة، ثم نزل عن المنبر وصلى بالناس صلاة الجمعة، ثم قعد في موضعه بعد صلاة الجمعة واجتمع اليه عيون العلماء وسادات الفضلاء فراجعهم وكرر الشكوى عليهم مما فعله الأمراء الحمزيون في بلاد المسلمين من هتك المحارم وقتل النفوس المحرمة وخراب القرى وأخذ الأموال وأسر من أسر من رؤساء العرب، فقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نسمع ونطيع لما تراه، فقال عليه السلام في معنى كلامه: لا يسعني عند الله إلا محاربتهم، فهم اليوم أضر على المسلمين من الغز لقرب دارهم ومعرفتهم بالبلاد، هذا مع أنه قد صح عندي أن حكمهم اليوم وحكم الغز واحد لما قد ظهر من الخلف المشهور على أعيان الخلق بالدار السلطانية بصنعاء وكتب المناشيد وكتاب الأمير شمس الدين الذي كتبه إلى السلطان عمرو بن علي الذي يقول فيه:
إذا أيقضتك صعاب الأمور
فتى لا ينام على دمنة ... فنبه لها عمراً ثم نم
ولا يشرب الماء إلا بدم
ثم قال فيه: ياعمراه ياعمراه ياعمراه، مستغيثاً علينا إلى حيث انتهى إلى قوله:
رقدت وطاب النوم لي وكفيتني ... وكل فتى يكفى الهموم ينام
هذا وأشباهه، وأقل من هذا يوجب الموالاة.
هذا معنى ماذكره إن لم يكن اللفظ، ثم صعد المنبر ثانياً وتحدث مع الناس ونبه على مقصوده بقيامه وأنه لم يقم رغبة في الدنيا ولا محبة للملك فإنه ضد راحة الدنيا، ثم أعلن بالشكا مما فعله الأمراء في المسلمين لما أيقنوا أنه قد شب [51ب-أ]في بلاد الغز وتكلم بكلام طويل، ثم كان في آخر كلامه ما هذا لفظه ومعناه: وأنا أعلمكم أن هؤلاء القوم قد صار حكمهم حكم الغز بمولاتهم ومخالفتهم والاستنصار بهم على إمام المسلمين وتكثير سوادهم، وشد أعضادهم، فاشهدوا أني قد نقضت ما بيني وبينهم، ونبذت كل عهد وعقد وذمة بيني وبينهم، وأنا أستنصر الله عليهم وأدعو جميع المسلمين إلى جهادهم وحربهم حيثما كانوا حتى يرجعون إلى الحق ويخرجوا مما فعلوه في المسلمين، فأجابه رؤساء الشرق والغرب بالسمع بالطاعه وقالوا: نحن خدمك وحيث تحب أموالنا وأرواحنا بين يديك، فشكر صنيعهم ودعاء لهم وأخذ من ساعته في أهبة الحرب، وتفرق الناس عن الجمعة بهذا، وبلغ إلى الأمراء ومن يقول بقولهم فتكلموا بأكاليم قبيحة ساخرين ولم يرفعوا بوعيده رأساً، ثم عمدوا إلى أولياء الإمام من قدروا عليه بالشدة الشديدة، ولم يلبث أمير المؤمنين عليه السلام أن جهزا الأمراء الشرفاء الأجلاء الأمير صلاح الدين الحسين بن القاسم بن محمد الحمزي ومن كان معه من أولاده وبني عمه إلى ذيبين وأسر إليهم بلزم ذروة وعمارتها ومحاربة الأمراء بني حمزة من سرة بلادهم وحمل معهم مالاً كثيراً من الدراهم الملكية والدنانير الذهب والكساء الحرير، وقد كان القاضي الأجل نجم الدين يحيى بن عطية بن أبي النجم وصل من مكة وأرض الحجاز بأموال جليلة من البر والنذور والزكوات وغيرها فأنفقها أمير المؤمنين في تلك الأيام بين المسلمين.
قصة لزوم الأمراء بني حمزة لجبل ذروة
لما شاور أمير المؤمنين الشرفاء والأمراء على ذلك وحضر المشورة غيرهم قيل أن ذلك أسر إلى جواسيس الأمراء بني حمزة هنالك وقيل: بل حدسوا ذلك وظنوه لما قد سمعوا من ألسنة الناس أن الأمير يريد عمارتها، فأسروا للمشائخ موسى بن علي وأصحابه أهل يناعة، فلما صاروا عندهم أسروا عليهم بذلك فساعد بعضهم وكره بعض في نفسه فسروا ليلتهم تلك طريق الظاهر حتى أتو على الشظبة، ثم طلبوا إلى رأس القصر الخراب من عمارة الصليحي وهذا الجبل أحاطت ذروته فوق الفرسخ وعرشه مقدار خمس علوات وهم في غاية الرعب والخوف، فلما علم بهم أهل البلاد اغتموا لذلك وظنوا أن ذلك يكسر همة أمير المؤمنين عن الإقبال إلى البلاد، وبلغ العلم إلى الإمام عليه السلام فاغتم لذلك وقال: نحن نرجو أنه لا يثني عزمنا أعظم من هذا إن شاء الله تعالى أو معناه ما ذكر عليه السلام، وكان لزوم ذروة والأمير شمس الدين في صعدة، فلما بلغ اليه العلم أمرهم بقوة ذروة وشحنتها وإدخال الرجال الأجواد اليها، ثم إن أهل البلاد خضعوا لذلك، فلما مضى عيد رمضان من السنة المذكورة أقام أمير المؤمنين إلى أيام خلت من شهر شوال من السنة تلك ثم نهض من ثلاء قاصداً الجنات.
قصة أخذ الجنات
[52أ-أ] فنهض عليه السلام في العساكر الموفرة حتى أشرف على موضع يسمى أرهق، وهبط العسكر إلى البون فكان بين الناس قتال، وعاد العسكر وعند ذلك خرج الأمير الكبير علي بن موسى بن الإمام المنصور بالله عليه السلام ومن كان معه من أخدامه، فنهض الإمام بنفسه في اليوم الثاني، فاستولى على الجنات وعفى عمن قد كان أبدى صفحته من العساكر؛ لكونهم مكرهين، وأقام أياماً قرائب، ثم نهض قاصداً للظاهر، فطلع العسكر من طريق المضلعة من بلاد عيال يزيد من بني صاع، ثم تقدم حتى حط في موضع يسمى بيت بوث في طريق الظاهر وأقبلت إليه القبائل حتى اجتمع من الناس خلق عظيم.
ولما علم الأمراء بنو حمزة بذلك تدابروا وساقوا أهل البلاد من بني زهير وغيرهم وقبائل المشرق وقبائل ذيبان وقبائل سفيان ومرهبة وبني صريم حتى اجتمع معهم عسكر عظيم واجتمع معهم من الخيل قريباً من المائة الفارس فنهضوا حتى حطوا في موضع يسمى خمر من الظاهر الأعلى وقد كانوا أحدثوا فيه عمارة في قصر الجاهلي، فلما اجتمع الناس تقدم الأمير عز الدين محمد بن الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام وتكلم مع القبائل ونال من الإمام وطعن عليه وإقذاع بما لا يحتمل الكتاب ذكره فيما بلغ، فلما أتم كلامه أجاب من كبار الناس من أجاب بكلام خلاف ما يسرون من محبة الإمام والقبائل معه، ثم تقدم الأمراء الحمزيون بعساكرهم حتى حطوا بيشيع واضطربت الناس وهموا بهم، فلما أحسوا بذلك أسروا إلى الأمير الكبيرشجاع الدين يحيى بن الحسن بن حمزة في خطاب بينهم وبين الإمام لينقلبوا على مجمله، فأقبل إلى الإمام وكان في تلك المدة مظهر أنه من جنبة الإمام، فلما أقبل إلى الإمام وطلب الصلح ولح فيه فلم يكد الإمام عليه السلام يساعد إلى شيء من ذلك، فوصل إلى بني عمه وشاورهم وكرر الخطاب ولم يبرح بالإمام حتى ساعده على الشروط:
منها: أن الصلح على الظاهر دون بلاد حمير والأمراء آل يحيى بن حمزة وأشياء ذكرها من رهن ولده في تمام ذلك، وقد كان الأمير فخر الدين عبدالله بن يحيى بن حمزة استدعى بعساكر الغز من كوكبان وحلب وغيرهما من حصون الغز وجمع عساكره من المفردة حتى اجتمع معه ما بين الألف المقاتل والتسعمائة فيما روي من الجيادين المسنة والرماة بالقوس العربية وسار حتى حط في قارن يريد استئصال شأفة أنصار أمير المؤمنين عليه السلام وخراب قراهم وأموالهم فاستغاثوا بالإمام عليه السلام وأعلموه أنه قد اجتمع في هذه العساكر من الباطنية والقرامطة ومولدة الأعاجم ومن لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة، فاغتم أمير المؤمنين لذلك وتجرد لجهادهم ومناجزتهم قاصداً بذلك وجه الله تعالى.
قصة وقعة قارن وماكان فيها من الفتح العظيم والظفر الجسيم
ثم إن الأمراء الحمزيين نهضوا [52ب-أ] قاصدين ظفار فتفرق عنهم أهل البلاد وقد عرفوا ما هم يسرون ويرمون من حرب الإمام وأجمع أكثرهم على لقاء الإمام عند إقباله إلى الظاهر، فجعل الأمراء طريقهم إلى ذروة لتقوى قلوب الناس ويشتد القوم المرتبين فيها.
رجع الحديث
ثم نهض الإمام عليه السلام فحط في موضع يسمى الأبرق ونهض منه إلى موضع يسمى أهل عامر وقد أمر عيوناً تبصر القوم، وأسر لي من نثق به من أهل البلاد أنه قاصد للقوم، فلما حط العسكر في أهل عامر في آخر النهار يوري للناس أنه مقيم هنالك، فلما مضى وهن في الليل أمر بالنهوض بعد أن قدم عسكراً من أهل البلاد وغيرهم يرصدون القوم في موضع يماني قارن والقوم بأجمعهم في قرية قارن والدروب التي في جوانبها لا يخطر لأكثرهم ببال أن أمير المؤمنين يغزوهم لما هم عليه من الكثرة والنجدة.
رجع الحديث
فسار أمير المؤمنين بالعسكر المنصور باقي ليلتهم حتى كاد أن يطلع الفجر وهم في موضع يسمى رزم قارن مستعلياً لقرية قارن ودروبها في مقدار نصف ميل، فأمر أمير المؤمنين عليه السلام بالقيام وصادف طلوع الفجر فتيمم أمير المؤمنين ومن معه من المسلمين لعدم الماء في تلك الحال وتقدم عليه السلام فصلى بهم صلاة الفجر.
أخبرني أمير المؤمنين أنه افتتح بقراءة الفاتحة ثم قرأ سورة {إذا جاء نصر الله والفتح}، قال: ولم يكن خطر ببالي قراءتها حتى جرت على لساني فعلمت أن الله تعالى سيفتح علينا بنصر قريب، فلما فرغ من الصلاة تحدث مع المسلمين ووعظهم وحثهم على جهاد القوم فإنهم قد صاروا كفار إما بالاعتقاد وإما بالموالاة؛ لكونهم بين قرمطي ملحد، وجبري مفسد، وموالي لأعداء الله تعالى وللمسلمين يروم إطفاء نور الله واهتضام أوليائه واستئصال شأفتهم.
قال أمير المؤمنين: ثم إن العسكر اطلع على القوم وهم في غفلة فمنهم من يزمر، ومنهم من يصفق ويلعب فحجزت بينهم سحابة قد انبسطت على الأرض، فصرخ الصارخ، وسمع القوم الطبول والحرانيات والآلات، فاجتمعوا إلى درب حصين على نشر لرجل من أهل قارن يقال له: مسعود بن أحمد، فاحتار فيه الأمير الكبير عبدالله بن يحيى بن حمزة بن سليمان في طائفة من العسكر ولم يكن معه إلا فرسه ودون العشر من الخيل وكانت الخيل مع الإمام فيما ذكر نيف وعشرون فرساً والرجل المقابلة دون رجل القوم، فارتفعت السحابة وقد تقارب العسكران، فحمل القوم بأجمعهم على عسكر الإمام فردوهم قليلاً، ثم حمل عليهم عسكر الإمام حملتان وأبلى ذلك اليوم الشيخ الكبير نجم الدين قاسم بن منصور بن محمد الضريوة وحمل في الخيل فطعن رجلاً منهم وولى القوم بأجمعهم نحو الدار التي قد تحصنوا فيها وبعضهم في القرية، فأحاط بهم العسكر إحاطة الهالة بالقمر بعد أن قتل منهم جماعة في خلال الهزيمة، ورمي الشريف الأمير علي بن علي من آل يحيى بن حمزة بن أبي هاشم وكان من جملة [53أ-أ] المقدمين مع القوم فأدخل الدار ومات من ساعته، وبلغ إلى البلاد الحميرية وما يصاقبها من البلاد أن الإمام قد أوقع بعساكر الغز ومن معهم في قارن فتبادر الناس في أسرع ما يكون، فلم يمضِ من النهار إلا القليل حتى اجتمع من الخلق ما لا يكاد أن يضبطه العدد، واستمر القتال والزحف على الدار حتى أرهق القوم الجراحات وأضرمت عليهم النار والدخان، وثقبت عليهم الدار ثقوباً فكان الواحد منهم يرمي بنفسه طامعاً في النجاة نحو عسكر الإمام فيختطف الأول سلاحه والثاني ثيابه والذي بعده يقتله، ثم إن الأمير فخر الدين عبدالله بن يحيى بن حمزة أهاب ببردة وطلب الخروج على حكم الإمام إلى ذلك وأمر بإخراجه، فأقام في مركز الإمام وهو ينتظر إلى عسكره ومن معه يقتلون ويؤسرون لا يطمع لأحد منهم بنجاة فلم يرفع منهم السيف حتى مضى وقت العصر وعند
ذلك أمر أمير المؤمنين عليه السلام برفع السيف حتى يقضي الصلاة وينظر في الأمر والقوم في أشد ما يكون يدعون ويستجيرون ويعدون من أنفسهم بالتوبة، فلم ير أمير المؤمنين إلا رفع السيف عنهم والخروج بعد ذلك على حكمه إلا على جماعة استثناهم، فاستأسر القوم بأجمعهم إلا القليل: {وكان يوماً على الكافرين عسيرا}(1).
أخبرني أمير المؤمنين عليه السلام أنه أخبره ثقة من الناس أنه عد القتلى فكانوا ثلاثمائة رجل قتيلاً، ونيف وثمانين قتيلاً، هذا في قرية قارن وفي هذا الدرب وما قاربهما دون من حمل بنفسه جريحاً فمات في الشعاب والرحاب، فأما الأسرى فخلق كثير منهم من منّ عليه، ومنهم من اشترى نفسه، فأمر أمير المؤمنين بالأمير عبد الله بن يحيى سيراً إلى حصن عزان وغنم الناس أسورة الفضة ومطارف الحرير والسلاح والخيل والدواب وغير ذلك مما لا يمكن حصره، وسار ذكر هذه الوقعة في الآفاق وعظم بها شأن أمير المؤمنين، وعز الإسلام، وارتفعت رؤوس القبائل من حاشد وبكيل ممن كان مقهوراً، ونهض أمير المؤمنين بعد ذ لك فحط في حلملم.
قصة إقامته عليه السلام في حلملم بعد وقعة قارن
قال الراوي: ولما جرى هذا الفتح الجليل والنصر العظيم أقبل إلى أمير المؤمنين قبائل العرب من مسور وبلاد حمير والأعذار وبلاد بني عشيب وبلاد الأجبار من شظب وتلك النواحي، وبلاد قدم وبني شاور وتلك النواحي سامعين لأمره ممتثلين لرسمه مهنئين له بهذا الفتح العظيم، فأحسن عليه السلام إكرامهم ودعا لهم وأمرهم بما أراد من الاستعداد للجهاد وبذل النفوس والأموال، وكان الناس يأتوه أفواجاً فيصدرون عنه بوجوه مستبشرة وقلوب مسرورة كل طائفة تظن أنها فازت من الإكرام بما لم يفز به غيرها.
رجع الحديث
قال السيد [53ب-أ] شرف الدين يحيى بن القاسم رضى الله عنه: كنت يوم الوقعة في جهة ذيبين، فلما بلغ العلم بما كان من وقعة قارن اغتم الأمراء أهل ظفار لذلك تحققوا أن الإمام غير متأخر من الظاهر، ثم إني بادرت بالوصول إلى بين يدي مولانا إلى حلملم لامتثال أمره فأمرني بالنهوض في عسكر إلى حجة لقبض حصني من حصون المشائخ الأجلاء بني حجاج وهما القلعتان بين الظفير والحربون سلمهما الشيخان الأجلان الكبيران إبراهيم وعلي ابني مسعود بن حجاج إلي قبضتهما واستخلفت فيهما خداماً للإمام، ثم أمرني بالتقدم إلى جهة مبين لاستنفار أهل مبين فامتثلت أمره وطالعت المشائخ بني نظير فأقبلوا إلي ولم نلبث أن نهضنا إلى بين يدي أمير المؤمنين إلى حلملم، فلما وصل المشائخ المذكورون سلموا على أمير المؤمنين وسلموا إليه شيئاً من البر والنذور والمعونة للجهاد من الدراهم والمطارف الحرير وغير ذلك فشكر أمير المؤمنين صنيعهم ودعا لهم، وبلغ العلم إلى أمير المؤمنين بما كان من الأمراء الحمزيين من نزول الجوف وأسر الأمير الكبير حمزة بن سليمان بن موسى، فأزمع على النهوض.
قصة نهوض الإمام عليه السلام إلى الظاهر
قال الراوي: لما مضى من وقعة قارن اثنان وعشرون نهاراً نهض أمير المؤمنين في العساكر المحشودة وذلك يوم الأربعاء، فنشرت الرايات وحركت النقارات والطبول، وسار الناس في أحسن هيئة وأجمل سمت، فأمسى الناس ذلك اليوم بقرية الهجر وتلك النواحي، ونهض من الغد فأمسى في موضع يسمى الأبرق محل قوم من صنبار حصين على رأس الجبل فوق بيت سهير المعروف، فلما بلغ العلم إلى ظفار أوقدوا ناراً في رأس ذروة أمارة للأمراء بالجوف يشعرونهم بإقبال الإمام إلى الظاهر.
ثم نهض عليه السلام يوم الجمعة لليال خلون من شهر ذي القعدة سنة سبع وأربعين وستمائة فحط في درب شنع، ثم أقبل اليه قبائل بني صريم ونواحي الظاهر.
قال الراوي: فلقد ضاقت الدروب والمحال بالعساكر، وأمر في تلك الليلة من يرصد أهل ذروة ويدري بأمورهم وكان بين أمرين إما غزا أهل الجوف إن استقروا وإما قصد أهل ذروة، فلما أصبح لم تبق قبيلة من الظاهر الأعلى وبلاد الصيد والبون حتى وصله وجوههم، ووصل إليه بنو فضل في جماعة وافرة وخيل لابسة وكان في عسكره عليه السلام في تلك الحركة من كبار الشرف [.....بياض في المخطوط.......] ومن كبار العرب الشيخ الأجل أسد الدين حارث بن منصور وصنوه الشيخ نجم الدين، والقاضي العالم الأجل ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي وغيرهم من كبار القبائل ومشائخهم.
رجع الحديث
فلما أصبح أمر بالنهوض الطريق المحجة الوسطى حتى أتى بيت كلاب[54أ-أ] فأضافوا العسكر بأجمعهم وكبيرهم يومئذٍ الشيخ عمرو بن قاسم ومرشد بن غنيمة وأصحابهما، ثم نهض العسكر بعد ذلك.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: فضاقت الطرق بالعساكر حتى أفاضوا على الحداب والشعاب، ولقد رأيت صيود الوحش تنفر من مراتعها وتروم الهرب فتسد عليها المسالك من يمين وشمال وخلف وقدام كل جهه تنفر إليها تتلقاها طائفة من العسكر فتخطف ما بين ذلك، رأيت غير واحد من صيد ذلك اليوم، وعميت الأنباء عن أهل ذروة ذلك اليوم فما علموا حتى دخلت العساكر بلد يسمى الشظبة من بلاد الصيد على ثلاثه أميال من ذروة أو دون ذلك، فضاقت الدروب من الناس، فباتوا في صوافح الجبال والكهوف كالجراد المنتشر، فلما مضى وهن من الليل بلغ العلم إلى أمير المؤمنين أن الأمراء الحمزيين قد أقبلت عساكرهم إلى ذروة وهموا بطلوع الجبل إلى الأقلاع مويضيع في سفح جبل ذروة ليظاهروا أهل الحصن، فأمر أمير المؤمنين طائفة من العسكر رصدا في جبل فرضة ليمنعوا من يطلع في الليل هنالك، فأما الرجالة من شرقي ذروة ولم يطلع الفجر إلا وقد استقل إلى رأس ذروة قريباً من خمسمائة مقاتل مقدمهم الأمير الكبير عز الدين محمد بن الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصوربالله عليه السلام، والأمير علي بن وهّاس بن أبي هاشم، والشيخ أحمد بن جابر بن مقبل مولى أمير المؤمنين، فاغتم أمير المؤمنين لذلك وتصور أن القوم لا يؤخذون قهراً، وحط الأمراء في باقي الرجل والخيل على بركة مذود وكانوا قريباً من مائة فارس فيما روي، وقيل: ثمانون. والله أعلم.
فلما أصبح ذلك اليوم وهو يوم الأحد نهض أمير المؤمنين عند أن ارتفعت الشمس قليلاً قاصداً إلى ذروة.
قال الراوي: فكان أول العسكر يحارب القوم في سفح الجبل جبل ذروة وآخره خارجاً من وطن الشظبة.
قال الراوي: فلما استقل أمير المؤمنين عليه السلام من الهضب المعروف بالمأثرة رأيت العسكر قد غشي السهل والجبل إلى الهضب فوق درب الإقلاع فسار أمير المؤمنين عليه السلام تحت الرايات، فلما استقل على رأس الهضب ورأى القوم في نهاية الشقاق والإقذاع والتسرع للحرب وأنهم لا يقبلون نصحاً ولا يرجعون عما هم فيه أمر بالجهاد والحرب.
قصة المحطة على ذروة وحصرها وفتحها وما كان في خلال ذلك
قال الراوي: وزحف المسلمون إلى موضع مقابل الهضب فوق الإقلاع فقاتلهم القوم أشد القتال ولم يكن للخيل مجال هنالك لوعورة المكان فاستشهد من المسلمين ذلك اليوم ثلاثة نفر من أهل مخلاف ثلاء ورجل من أهل الظاهر ورجل من بني مالك بن جابر بن حاتم، ثم إن القاضي ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي ضربت له خيمة قريباً من موضع القتال تزيد على علق السهم قبلي ذروة، فلما نظر أمير المؤمنين إلى تلك الخيمة سأل عنها فأخبر، فقال: لم نرد المحطة هكذا ولعل الله تعالى أن يجعل ذلك يمناً وبركة، فأمر فضربت خيامه واستقرت المحطة هنالك، وأقبلت القبائل من وادعة، وبني قيس، وسفيان وغيرهم، فاجتمع هنالك القبائل والخلائق ما لم يخبر به أحد أنه اجتمع مثله مع قائم في أرض اليمن، وكان من غد ذلك اليوم أوثالثه، وأمر أمير المؤمنين قبائل وادعة فزحفوا في موضع شرقي ذروة ليفرق على القوم القتال، فلما تلازم الناس حمل القوم على وادعة في موضع وعر فانهزمت قبائل وادعة هابطين ولحق القوم منهم ثلاثه نفر فقتلوهم فأمر الإمام عسكراً آخر فردوا القوم وحملوا القتلى.
قصة قتل السلطان الملك المنصور عمر بن علي بن رسول
لما كان في ليلة الثالثة أو الرابعة من محطة ذروة وصلت البشرى إلى أمير المؤمنين عليه السلام إلى محطة ذروة يحكون أن السلطان قد كان أزمع على النهوض والطلوع بالخزائن والأموال لحرب الإمام فشرب الخمر في بعض لياليه في الجند في الدار السلطانية فلما أثمله الخمر ووثب عليه مملوك تركي فوجأه بسكين في بطنه ثم بعد ذلك ذبحه ذبحاً فكان ذلك من أعظم الفتوح، وسقط في أيدي أهل ذروة وأيقنوا بالهلاك فعند ذلك جرى الخطاب، ووصل إلى أمير المؤمنين الشرفاء الأمراء الكبراء آل يحيى بن حمزة من ذيبين ومن هنالك من الفقهاء الأطهار والمسلمين بالضيافات الجزيلة التي عمت العساكر، فلما علم الأمراء بطلوعهم إلى الإمام عليه السلام نهضوا من محطة مذود فحطوا في هضب وعر متصل بجبل ظفر حصن الأمراء الكبراء آل وهاس بن أبي هاشم الحمزي وأمر أمير المؤمنين الشيخ حنظلة بن سعد بن شبر والشيخ محمد بن يحيى بن علي بن شبر وإخوتهم وأولادهم بالمحطة والمركز في درب محروش في جبل ذروة وعند ذلك انقطعت عنهم المنافع والداخل والخارج، وأمر أمير المؤمنين بالخيل إلى ذيبين لمقابلة خيل الأمراء، فلما رأى القوم أنه لا طاقة لهم بحرب الإمام وأن القبائل قد اجتمعت عليهم دعوا للخطاب، فتوسط الأمير الكبير المؤيد بن وهاس والفقيه الفاضل المجاهد أحمد بن موسى النجار الصعدي ونزلوا عن حصن ذروة فهبطوا طريق قرظة في أمان أمير المؤمنين سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين ولقيهم العساكر والخيل من ظفر وراحوا إلى ظفار ولم يلبثوا أن صدروا مسرعين إلى صعدة، وكان الأمير شمس الدين أحمد بن أمير المؤمنين هنالك في شحنة حصونه وجمع أطرافه متوقعاً لإقبال الإمام.
رجع الحديث
فلما خرج القوم من ذروة طاف أمير المؤمنين عليه السلام الجبل جميعه وأحاط به معرفة وهو جبل عال متسع الأقطار فأخذ لنفسه قلة الجبل من عمارة الصليحي وأعطى الأمراء آل يحيى بن حمزة [55أ-أ] الجبل المنفصل شرقي ذروة المعروف بالمقطوع، فسمي حقيلاً، وشرط لنفسه نصفه معهم، وأمر بالعمارة، واحتط الناس أكثر الجبل، ولم يلبث عليه السلام بعد ذلك أن نهض، وكانت إقامته اثنين وعشرين نهاراً منذ خرج من حلملم.
قصة نهوضه عليه السلام إلى الجوف
نهض عليه السلام من ذروة في آخر شهر القعدة من السنة المذكورة فأمسى في بلاد بني قيس وأقبل إليه قبائل سفيان وبنو قيس بالضيافات الجزيلة لجميع العسكر، ثم نهض عليه السلام إلى حوث ولم يلبث إلا يومين أو ثلاثاً، ثم نهض قاصداً إلى الجوف وذلك في أول شهر الحجة سنة سبع وأربعين وستمائة فأمسى في وادي خيوان، ثم نهض من خيوان فأمسى العسكر موضعاً يسمى الباطنة، ثم نهض من الباطنة إلى الجوف الأعلى فحط في موضع يسمى الزاهر وكان ذلك ثامن شهر الحجة، فلما كان يوم العيد صلى بالناس في الصحراء ووعظهم وذكرهم بالله وأمرهم بأوامر الله ونهاهم عن معاصيه فاستقرت هنالك محطته وأقبل إليه قبائل الجوف من السلاطين آل دعام وقبائل دهمة وغيرهم، وأقبل إليه الشرفاء الأمراء آل أحمد بن جعفر من مدينة براقش بالخيل والعدد وكذلك قبائل بني منية آل جحاف وآل عزان منهم من أتاه طوعاً ومنهم من أتاه كرهاً،
وكان صعوده مع الأمراء الحمزيين وهم الأكثرمن آل جحاف بن حميدان، وأقبل إليه السلطان بدر بن محمد صاحب بيحان وصاحب حباب بدر بن محمد وقبائل نهم الجبالة والشاوية، ووصل إليه شيوخ جنب وكبارها وقبائل مأرب من بني مازن وغيرهم من زرعة وأهل بيحان، فاجتمع عنده عسكر عظيم من الخيل والرجل، وأتته الأرزاق من كل ناحية فأنفقها في سبيل الله على المجاهدين، وفي مدة إقامته تلك الأيام في الجوف لزم عبدالله بن الأديب الصنعاني وكان من حديثه أنه أفرط في بغضة أمير المؤمنين عليه السلام وبالغ في أذيته أشد المبالغة والفساد عليه، واختلف إلى الغز وجمع بينهم وبين الأمراء الحمزيين وكان ذا إحسان في مداخلة الملوك وغير ذلك، وقد كانت كتب إلى الإمام كتاباً عنيفاً إلى المحطة بذروة وطلب منه حاجة في أمان لبعض أقاربه فعلم أمير المؤمنين من قلة توفيقه وقلة حياه كتب يسأل حاجة مع كتابه العنيف فأجابه أمير المؤمنين في رقعة يقول فيها ما هذا لفظه وأكثر معناه: فأما رفضك للإمامة فكم
رافض لها لم يرفع له رأساً، وأما حاجتك فقد قضيناها، وأما والدك فإنه مات ونحن عنه راضون، وأما قولك كذا: {فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}(1) ثم قال أمير المؤمنين لبعض أصحابه: احتفظ بكتاب ابن الأديب فلعل الله أن يمن منه فنذكره بكتابه فكان الأمر كذلك.
وقصته: أنه خرج من ظفار هو والأمير علي بن وهاس يريدان حصن ظفر، ثم تقدم ابن الأديب إلى صنعاء للفساد [55ب-أ] على الإمام والاسنتصار بالغز وذكر أنه كان عازماً على الخروج إلى ديار مصر ليستنصر بأهل مصر على الإمام، فلما علم بخروجه وقد أمسى في موضع يسمى الركية في بلاد بني علي لم يشعروا إلا بالقبائل قد أحاطت بهم وبلغ الصارخ إلى بلاد الصيد وذيبين وغيرها فاجتمع من العسكر قريباً من ألفي رجل، فاستنزلهم من هنالك من أنصار الإمام عليه السلام وأسروه هو والأمير علي بن وهاس وجماعة معهما فأطلق الأمراء آل يحيى بن حمزة الأمير علي بن وهاس ومنوا عليه تذللاً على الإمام ووصلوا بعبد الله بن الأديب فأمر الشيخ أحمد بن محمد الرصاص بإهانته، وكان الشيخ الرصاص ذلك الأوان حالاً في ذيبين.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: أخبرني عبدالله بن الأديب بقضية للرصاص عجيبة فلم أحمله على صحة، فلما جرى من الرصاص ما جرى في آخر الأمر غلب على ظني صدقه، وهو أنه أقسم بالله اليمين البالغة أنه سلم إلى بعض العلماء جعلاً على العناية في إبطال إمامة الإمام أيام قيامه {والله متم نوره ولو كره المشركون}(1) ثم إن الإمام عليه السلام أمر بابن الأديب إلى حصن ذروة فأقام أياماً، ثم استدعى به الإمام إلى الجوف، فوصل إلى بين يديه، ثم رأى إعادته إلى حصن ذروة لغرض ذكره مع الأمر بالشدة عليه والنكال بالحبس والقيد، فلما استفتح مدينة صعدة أمر بضرب عنقه قبل أن يتم بينه وبين الأمير شمس الدي أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام كلام، وكان للرصاص في قتله عناية عظيمة كأنه خاف أن يكشف ستره إن سلم. والله أعلم.
قصة نهوضه عليه السلام من الجوف قاصداً صعدة
قال الراوي: فلما علم الأمير شمس الدين أن الإمام غير متأخر من صعدة وجه إليه الأميران الكبيران محمد بن حمزة بن الحسين من آل يحيى بن حمزة، وجعفر بن أبي هاشم بن محمد من آل الحسين بن حمزة للخطاب والصلح والتلطف للإمام، فلما وصلا إلى الإمام أحسن مقابلتهما وطول عليهما الإمام الكلام وهما عند الإمام كالجاسوسين لمن وجههما وقد عرف الإمام ذلك وعمل بحسبه، ثم نهض عليه السلام من الجوف في شهر محرم أول سنة ثمان وأربعين وستمائة وكان الأمير شمس الدين قد نهض إلى حصنه المعروف ببراش وهو الجبل الذي كان يسمى وتران وشحن في تلمص من الأجناد والخيل والعدة ما أراد، ثم إن أهل البلاد أقبلوا إلى الإمام منهم من وصل إليه إلى الجوف ومنهم من أتاه إلى الطريق وكان الأمير شمس الدين لما أحس بإقبال الإمام وجه الأمير أحمد بن محمد بن حمزة بن الحسين وكان هو ووالده بمكان عند الأمير شمس الدين إلى بلاد دهمة كالنازلين عليهم بالحريم ليكفوا شرهم، فأجاره شيخهم أحمد بن عمرو بن جيلان وحل عليهم بالحريم وعظم الأمر على دهمة وافترقوا فيما [56أ-أ] بينهم، وكان بينهم رجل يعرف اسمه منصور بن الرغيل حليف للإمام ومواداً فاستعطاهم من الركوب إلى الأمير المذكور والجيرة له وقال له: الزم حذرك مني فلم يلتفت عليه فوثب عليه ذات يوم فقتله، فلما بلغ إلى أمير المؤمنين عظم عليه الحال؛ لأنه لا يريد للشرق إلا الصلاح ولأجل ما بينه وبين الأمراء آل يحيى بن حمزة بذيبين؛ إذ هو صهرهم وهم خواصه وأكثر خلق الله مودة فتكلم في ذلك معهم وأقسم ما أمرت بقتله ولا رضيت على هذه الصورة مع أني أعتقد أنه من جملة المحاربين وإنما حقهم يقتضي الصفح عنه والاحتمال وأنا لكم لزيم بما تطيب به نفوسكم ومجبر هذه الحادثة. هذا معنى ما ذكره، فقبلوا منه وشكروه.
رجع الحديث
قال الراوي : فلما اجتمعت معه خيل المشرق من جنب ومأرب وأهل الجوف ومن كان معه من الظاهر نهض قاصداً صعدة فأمسى أول مرحلة عند المراشي، ونهض ثاني ذلك اليوم فحط وادي مذاب، وبلغ إليه العلم بنهوض الأمير شمس الدين إلى حصنه براش بجميع من معه من أهله وعسكره، ثم نهض الإمام من مذاب فحط عند درب الحناجر من مخلاف صعدة وهنالك أقبل إليه الأمراء الكبراء آل يحيى بن يحيى بن الهادي إلى الحق عليه السلام ومن انضاف إليهم من بني عمهم وعشائرهم من خولان وهمدان، فقابلهم الإمام بالإجلال والإعظام والإتحاف والإنصاف وشكر سعيهم، وكان أميرهم وكبيرهم ومن إليه مرجعهم الأمير الكبير الناصر للحق أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الهادي إلى الحق عليه السلام، وأقبلت قبائل صعدة ورؤساؤها وقبائل المخلاف حتى اجتمع من الخلائق ما لا يضبطه العدد.
أخبرني بعض الثقات أن الخيل كانت ثمانمائة فارس وقيل: بل أكثر من ذلك، فأما الرجل فما انحصر عددهم لكثرتهم، وأمر أمير المؤمنين الناس بالنهوض إلى صعدة، فأتوها من الخانق المفيض إلى المربطين في أحسن عراضة كل كتيبة تتلوها أخرى، وساروا حتى وصلوا إلى موضع غربي مدينة صعدة وشمالها عند درب الناصر المعروف، وأمر عليه السلام بالمحطة هنالك وشدد على الناس ومنعهم من دخول صعدة، بل يكون مستقرهم هنالك، فلما استقر عليه السلام أمضى الأحكام وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ووصل إليه الأمير السيد الإمام الحسن بن يحيى بن يحيى بن الهادي عليه السلام في عصابة من أهله وأولاده وقبائل خولان فأحسن أمير المؤمنين إنصافهم وبايعوه على أعيان الناس وكذلك بايعه من لم يكن بايعه أولاً، وانتظمت الأمور، ثم إن الأمير عبدالله بن وهاس بن أبي هاشم الحمزي وكان في حصن تلمص أغار يوماً فطعن رجلاً فلحقته الخيل حتى طلع الجبل، ثم أمر أمير المؤمنين بالزحف على حصن تلمص فأحاط به الناس من كل جانب وبلغوا إلى حيث لا يمكن أن يبلغه أحد فنصبوا عرادة فرموا بها فاستشهد رجلان.
أخبرني من رأى أن أمير المؤمنين بشر بكلام خفي [56ب-أ] قال: ظننت أنه يدعو لما أضرت بالناس هذه العرادة فما كان إلا القليل حتى انحطم سهمها والناس ينظرون فغلبوا وانقلبوا خاسرين، ثم أقبلت إليه قبائل القبلة من راحة بني شريف وبلاد سنحان ووادعة وغيرهم من النجود وحصل على يديه من الأموال والدراهم والدنانير والحبوب ما عم العساكر إنفاقاً، وبلغني أنه كان ينفق في الليلة الواحدة ألوفاً، ولما أمر بقتل ابن الأديب أمر بقبض جميع ما خلفه من العين والأثاث والآلآت الفضية وصرفه في جميع مصرف بيت المال بحكم الله تعالى وصرف إليه الأمير الكبير محمد بن حمزة بن الحسين الحمزي جميع ما خلفه ولده أحمد بن محمد فقبضه لبيت المال، وكذلك جميع أملاك نفسه، فلما قبله لبيت المال رأى من المصلحة أن يرد على الأمير المذكور أموال نفسه يستعين بها في أموره ورد عليه شيئاً من بركة ولده مع كراهة الأمير لذلك فلم يساعد الإمام فقبل ذلك.
قصة وصول الأمراء والسلاطين ومن كان معهم من كبار العرب من ثلاء وبلاد حمير وبلاد بني شهاب
قال الراوي : فلما استقر أمير المؤمنين بصعدة وعظم شأنه ورأى الأمير شمس الدين أنه لا طاقة له بحربه استدعى بالأمير الكبير ابن عمه الأمير الكبير يحيى بن الحسن بن حمزة بن سليمان، والأمير الكبير أحمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان أن يصلا إليه ومن أمكنهما من كبار الناس للتوسط بينه وبين الإمام عليه السلام فاستصحبا الأمير الكبير المجاهد أحمد بن محمد بن حاتم والسلطان الأجل المخلص الوشاح بن عمران، والسلطان الأجل حسين بن سعيد بن سعيد بن بهر، والشيخ المكين عمرو بن علي الوهيبي واجتمع معهم عسكر كثيرون من خيل ورجل وساروا حتى طلعوا نقيل عجيب المعروف بالبون الأسفل يردون الظاهر، فلما بلغوا الحارة مستقر الأمير الكبير أسد الدين شقيق أمير المؤمنين المنصور بالله عليه السلام وعلم بهم الناس ظنوا أمرا يسوء أمير المؤمنين فأوقدت النيران في الظاهر واجتمعت القبائل حولهم وهموا أن يقعوا بهم.
قال الأمير السيد شرف الدين رضي الله عنه: فلما بلغني ذلك وكنت في حصن ذروة برسم أمير المؤمنين أمرت من الأهل من أشعر الناس الكف وسار مع الأمراء والسلاطين ومن قال بقولهم من سار من بني العم صاحباً لهم إلى حوث وأرسل إلى أمير المؤمنين رسولاً مغذاً استأذن لهم من صعدة فأذن في وصولهم وتلقاهم بما هو أهله من الإنصاف، وبعد وصولهم جرى الخطاب بين أمير المؤمنين وبين الأمير المتوكل على الله أحمد بن أمير المؤمنين وبذل من نفسه نصرة الإمام بنفسه وجنوده وأهله وماله ولم ير أمير المؤمنين إلا قبول ما بذل رعاية لحق الإمام المنصور بالله سلام الله عليه ورغبة في صلاح مثله؛ إذ كان في أوان سلطانه واستقرار دولته ملك الشرق وسلطانها.
وكان في خلال ذلك الفضيلة العظمى والعجيبة التي لم تقع على يد أحد من الأئمة، وذلك[57أ-أ] أن مقعداً يسمى فلان التنيين قد أتى عليه من السنين خمسون سنة أو يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً من أهل صعدة يعرفه الناس يسير على يديه ورجليه تدب على الأرض كما يدب القرد حتى كان له نعل ليده يتقي بها الأرض على مرور السنين لا يعلم أحد أنه رآه على غير تلك الصورة.
قال السيد شرف الدين يحيى بن القاسم: كنت أعرفه في سن الطفولة يدب كما ذكرنا يوحش من رآه فأتى يوماً إلى أمير المؤمنين ليمسح عليه ولم يكن يخطر بباله أن الله تعالى يفعل به ذلك، فمسح الإمام على رأسه وظهره وأجرى كفه على مواضع بدنه ودعا له بالعافية فوجد من ساعته تلك بدؤ الشفاء، وعاد مرة فمسح عليه فقام بعد ذلك قائماً منتصباً يسير كما يسير الصحاح من الناس، فكبر الناس وشكروا الله تعالى الذي خص أمير المؤمنين بهذه الفضيلة، وكان هذا المقعد يحمل السلاح في المواكب ويتصرف فيه ويلعب مع من يلعب بالسلاح، وكان الناس يأتون من البلاد القاصية ليتحققوا هذه الفضيلة، واشتهرت في البلدان ونظمت فيها الأشعار وجعلت طرازاً في حلل الفضائل الإمامية، فمما قيل في ذلك من الأشعار ما نظمه الأمير الكبير المتوكل على الله شمس الدين أحمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله سلام الله عليه قوله:
أضاء على الإسلام نورك وانطفى
وقد علمت آل النبي محمد
وإنك لا وان ولا أنت طايش
ولا عجب أن زادك الله حجة
أراك لها أهلاً فزدت تواضعاً
رضيناك للدنيا وللدين فارتفق ... بوجهك ليل الهم واتضح الفجر
بأنك أنت الفلك ما إن طمى البحر
ولا مضمر سر الحقود ولا وغر
سماوية ما إن بها للورى عذر
فزادك تكبيراً بها من له الكبر
على النجم مسموعاً لك النهي والأمر
ومنها أبيات للقاضي الأجل اللسان ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي أولها:
أراد الله إيضاحاً جليا
مسحت عليه مسحة مستجاب
أتاك على يديه يدب ضعفاً
وكان ملقف وصال سقما
فلو كف المسيح عليه حالت
وأظهر نورك الرحمن لما
ولو بعد ابن آمنة نبي
لأنك في الحوادث هبزريا
تهنى أيها المهدي مجداً
حباك به من ضل يسعى
ومن ابن الحسين يضل يمشى
... فسار المقعد العالي سويا
فلم يك بالدعاء له شقيا
فعاد كأنه رمحاً سمهريا
فقام على بديهته جريا
لما زادت ضما عطفيه ريا
رآك بأن تخص به مليا
لأهل الأرض كنت لهم نبياً
وفي يوم النوافل أريحيا
سماوياً وملكاً أبطحيا
إلى مسعاك كان به حفيا
إلى الرحمن مرضياً رضيا[57ب-أ]
قال الراوي: ولما رأى الأمير المتوكل على اللَّه أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام أنه لاطاقة له بحرب أمير المؤمنين وأن العرب كلها عليه وأن الغز قد انقطع ما في أيديهم بعد قتل سلطانهم وكان أقوى عضد له وأصابتهم الضرة في حصن براش صعدة لم ير إلا النزول على حكم أمير المؤمنين عليه السلام والدخول في مراسيمه فعند ذلك أجد في طلب الصلح واستدعى من كبار العرب والشرف من يتوسط بينه وبين الإمام فكان المتوسطون على الجملة الأمير الكبير جعفر بن أبي هاشم، والقاضي الأجل مسعود بن عمرو من جهته، ومن جهة أمير المؤمنين الأمير الكبير أحمد بن محمد بن حاتم، والسلطان الوشاح بن عمران، والسلطان جبر بن سعيد، والفقيه الفاضل أحمد بن موسى النجار، والشيخ عمر بن علي الوهيبي فلم يبرح القوم في الاختلاف حتى انصرم بين الأمر بين مولانا أمير المؤمنين وبين المتوكل على الله ما نذكر شروطه في موضعها، ومما قيل في ذلك قصيدة الشيخ الأجل قاسم بن علي بن هتيمل التهامي يذكر فيها وقعة قارن وقصة التنيين ويحض أمير المؤمنين على العطف على الأمراء الحمزيين وهي هذه:
إذا جئت الغضاء ولك السلامة
وقل للوائلية هل لروحي
حللت تهامة وحللت نجدا
وخفت من الكواشح أن تلمني
أغار على ثناياك اللواتي
ومن لي إن حرمت لماك أني
وما أنا والمدامة وهي حجر
ولا ومحاسن عقدت هواها
لحن هوى في بعد وقرب
ومرهفة الموشح بنت عشر
ثلجت بظلمها ومدات قلب
أمهدية الملامة ما لنفسي
أكان صفا المشقر في ضلوعي
تكلفني العواذل نقل طبعي
علام وفيم أمنح خير عمري
عليك بأحزم الآراء تسلم
ولا ترأم محل الضيم واشمخ
إلى المهدي أحمد ناقلت بي
إلى من لو وزنت الخلق طراً
شبيه سميه خلقاً وخُلقاً
حقيق أن يحن الجذع شوقاً
تواضع عن لباس التاج زهداً
ثلاث الأمر منه بهاشمي
بليث في المغاضة حيدري
أرق من النسيم الرطب صدرا
يجل عن القياس فما ابن سعد
سماحة راحة وسخا أضحت
أيخفى الفاطمي وقد رأينا
علي يا بن الحسين فكل دار
قرنت بأهل قارن يوم سوءٍ
فما أبقى حسامك من عراهم
لقد باتت دمائهم شراباً
ولم يجنح لما هي علي
أبعد شواهد الإثنين يعصى
أتاك كضفدع العمران فقرا
فما عرف المسيح بغير هذا
وما انفرد بن مريم عنك إلا
خذ الحمزات بالإلطاف واخفض
ولا تعجل فرب حمي أنف
فهم عين وأنت لهم سواد
وقل للشمس تطلع في معار
وما استنجدت رأيهم عقيماً
وربما غزوت فكان منهم
فغالب من أردت بهم غلابا
فقد نقضو الأمور وأبرموها
وما من سيد رفدوه إلا
وناهز مترف اليمنين واضرب
فسوف تعله عما قليل
فقد برموا بأمرهم وعيوا
وأعجب أنهم همدوا وقامت
وكم من هامة للكفر ودت
وإلا فاقبض سيف الدين يفعل
فلم يفتح أبو بكر ثغورا
فما أنتم إلى قوم أحلوا
ولا قاضيكم ابن أبي دؤاد
أمير المؤمنين إليك سحراً
يقيم على سليف البدر طوقاً
فأمرك في ولي أحوذي
أحب إلى الأئمة من حبيب
جعلت فداك إن فخمت قدري
فقد ولى النبي على قريش
... فطارح بالتحية ريم رامه
وما أتلفت من جدي غرامه
فأين وأين نجد من تهامه
بنا فمري خيالك يا إمامه
تقبلها الأراكة والبشامه
أشم الروح من لثمى لثامه
ومفسدة وريقتك المدامه
بحبات القلوب المستهامه
كعهدك في الرحيل وفي الإمامة
لها صدر الغلام على الغلامه
يشب لظى صبابته ضلامه
وحسرتها ومالك والملامه
وقلبي مضغة أو من شمامه
ولا حبا لهن ولا كرامه
أضاليل المنى سفهاً علامه
فكم رأي عواقبه ندامه
بأنف لا تذلله الخزامه
مراق العدو تحسبها نعامه
بظفر منه ما وزنو قلامه
وهدياً في الطريقة واستقامه[58أ-أ]
إليه وأن يظلل بالغمامه
فصار التاج من خدم العمامه
خفي الكيد مشهور الصرامه
بتولي وغيث في المقامه
لسائله وأسجع من أسامه
وما هرم وما كعب بن مامه
سماحة حاتم فيها ملامه
أدلته ولم يبلغ فطامه
أقمت بأرضها دارالمقامه
أزحت به الزعيم من الزعامه
ومن سرواتهم إلا ذمامه
له ولحومهم ظلت طعامه
أبو حسن ومصقلة سآمه
من الثقلين مأموم إمامه
فقام كسمهري الخط قامه
أمعجزة النبوة في الإمامة
بعازر فهو قد أحيا رمامه
جناحك للقرابة والرحامه
يمكن بعد نفرته زمامه
وهم بيت وأنت له دعامه
على بلد أما تجلو ظلامه
ولا استمطرت ريهم جهامه
لجسمك فوق سر اللام لامه
وصادم من أردت بهم صدامه
بقتل الأيد منهم والحزامه
حموه خلفهم ومضو أمامه
خيامك حيث ما ضربوا خيامه
بطحت رعابكم إجامه
كما عيت ببيضتها الحمامه
عليهم قبل موتهم القيامه
لما صارت عليه تكون هامه
بصنعاء فعل خالد باليمامه
السعد إلا بقتل أبي ثمامه[58ب-أ]
من المحظور ما علمو حرامه
إلى قاضيهم بن أبي عقامه
كلام الشعر لا يحكى كلامه
ويخلد في جبين الشمس شامه
له من كل ذي علم علامه
وأقدم في البلاغة من قدامه
على أهل الرئاسة والفخامه
وأمر دون سادتهم أسامه
[قصة الصلح بين أمير المؤمنين وبين الأمير المتوكل]
قصة الصلح بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين الأمير المتوكل على الله ومن يقول بقوله من إخوته وبني عمه.
وقد ذكرنا القوم الذين توسطوا في الخطاب بأعيانهم.
قال الراوي: فلم يبرح القوم حتى وصلو على الصلح بشروطه التي سنذكرها في البلاد وغيرها، وعلى تسليم حصن تلمص بصعدة لتقر قلوب أهل الشام، وعلى تسليم حصن القفل لتقر قلوب أهل الجهات الظاهرية، فهذان من جهات الأمير المتوكل على اللَّه أحمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله عليه السلام، وعلى حصون من جهات الأمير عماد الدين يحيى بن حمزة وهو حصن مدع وحصن في جهة الأعذار والمكرام بميتك والجاهلي، وظفر في جهة حجة، وشمسان في جهة الخدم.
فلما استولى أمير المؤمنين على حصن تلمص وطافه أعجب به وحمد الله تعالى على ما من به من التأييد، ثم نزل إليه الأمير المتوكل على اللَّه أحمد بن أمير المؤمنين، فلما التقى بالإمام قابله أمير المؤمنين بما يقابل به مثله من الإجلال والإعظام والإعزاز والإكرام، ووقفوا جميعاً في شق جبل تلمص في المسجد المعروف، وثبتت الأمور، وعقدت العقود والمواثيق، وعقد لأمير المؤمنين ببنت الأمير المتوكل على الله وطابت نفوس الجميع باجتماع الشمل، وانصرف الأمير المتوكل إلى دربه وكان مقامه في تلك الأيام مع أهله إلى أن نهض أمير المؤمنين.
ذكر الشروط والعقود التي وقعت بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين الأمير المتوكل
وهي منقولة من خط كاتبه عليه السلام قال فيها: هذه نسخة تذكرة مكتوبة بخط أمير المؤمنين المهدي لدين الله عليه السلام وهي تذكرة مباركة تضمن الشروط التي لا بد منها في نفاذ الصلح واستمراره، فمن ذلك أخذ العقود والمواثيق على الجميع من الأمراء تأكيداً في الوفاء بما عقدناه والإثبات لما شرطناه.
ومنها: أن تكون الولاية في الجهات من قبلنا لئلا يتصور الرعايا أن الأمراء يقضون فيهم غرضاً.
ومنها: إخراج رهائن حاشد وبكيل إلى أمرائهم في الحصون وغيرها.
ومنها: أن لايعترض لما أمرنا بقبضه من أموال الولاة المتصرفين في بيت المال على وجه التضمين لما استهلكوه من بيت المال كعلي بن مبارك وبني مبارك وبني غالب ومدرك وغيرهم ممن قبضنا ماله على هذا الوجه وصار متمحضاً لبيت المال.
ومنها: البقا على أن الشرف [59أ-أ] لا يكون للأمراء فيه شيء ويبقى البون على حاله في أن حكمه حكم البلاد مقسوماً إلا الجنات وعمران لأجل ما شرطناه لأهله عند أخذهم.
ومنها: شاكر أن لا يكون فيه حكم لأحد؛ لأن أكثر شاكر لنا الأموال والدور وكذلك الهجر والعكرات وبنو محمد حكمها كذلك وهي بعينه سماعها أعظم من عيانها، ومن ذلك رد خيل الإدعام ونقائصهم في الفتنة بعد الإمامة وكذلك فرس ابن معافى ولا يتعدى الشرع الشريف في ذلك.
ومنها: أن الجواعلة وغربان لبني القاسم.
ومنها: أن أمر بني عوير يكون إلى بني الهادي دون غيرهم.
ومنها: أن الجوف على حدوده لا سبيل لأحد إليه، وكذلك المشارق والمراشي لا يكون إلا إلينا إلا ماكان ملكاً خالصاً، ونجران يكون من جملة البلاد المقسمة، وآل الهندي منا فلا اعتراض إليهم بحال دوننا، وكذلك سماح بن علي ومن هو منه وإن من حارب معنا من الأمراء بني حمزة وكان منا ما شرطناه له فيما أخذ منه فهو ثابت.
ومنها: خروج الأمير حمزة بن سليمان ومنصور بن إبراهيم ومقبل بن زيدان ومن لزم ممن يعتزي إلينا.
ومنها: أن لا يؤخذ أحد من الرعايا ولا غيرهم بضغن ولا حقد لأجل ما جرى بيننا وبينهم.
ومنها: أن العقود التي عقدناها لأبناء العشائر مما لا يخالف ما شرطناه في البلاد ثابت لا ينقض.
ومنها: رد ما أخذ لصارة أو خيره فإنه أخذ على وجه العدوان.
ومنها: أن يكون الكل معتقداً للإمامة ملتزماً لأحكامها فمن لم يكن كذلك حاربناه جميعاً حتى يرجع أو تبين لنا صحة ما هو عليه وسواء كان قريباً أو بعيداً فلا مغارة لأحد أصلاً وإلا فنحن في لعب ومن جرى منه من أمناء الناس ما يحتمل به الأدب في الإمامة وما يعتلق بها كان ملحقاً بما يستحقه أو متروكاً كان عن هذا الصلح حتى يعتذر أو يفعل ما يجب عليه؛ لأن جرم فاعل ذلك عند الله عظيم مع استقامة أصولنا.
ومنها: أن لا يتولى القضاء وإقامة الجمع إلا من رضيناه. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم.
قال الراوي : ولما استولى أمير المؤمنين على حصن تلمص وأمر أمير المؤمنين بقبض حصن القفل تابا خادم الأمير من ذلك وهو أحمد بن جابر وكان المأمور من جهة الإمام عليه السلام الفقيه الفاضل تقي الدين علي بن سلامة بن يحيى الصيرمي، فلما بلغ الأمير المتوكل العلم جمع كبار العرب وأشهدهم على نفسه أنه لم يسلم الحصن يوماً لفلان لأسلمن له حصن ظفار، ثم أمرني من جهته من أمر، فلما علم خدمه بجده في ذلك سلموا الحصن إلى الفقيه الفاضل علي بن سلامة فقبضه وحفظه وأمر الإمام عليه السلام بإعانته بأجواد الرجال وبعد ذلك لما استوت الأمور عزم أمير المؤمنين على النهوض من صعدة قاصداً صنعاء اليمن.
قصة نهوض أمير المؤمنين من صعدة
قال الراوي: وكان نهوض أمير المؤمنين من صعدة في أول ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وستمائة، فلما نهض رسم على الأمير المتوكل النهوض [59ب-أ] معه بمن معه فخرجوا جميعاً ليس بينهم تباعد وسار أمير المؤمنين في عساكر كثيفة بعد أن قد كان صدر من عسكره إلى ناحية الجوف وغيرها وسار بمن كان معه من الأمراء بني الهادي وساير أهل القبلة وصعدة وغيرهم من سائر النواحي إلى أن قارب الجهات الظاهرية ولقيه أهلها مجمعون، وسار أمير المؤمنين إلى أن وصل إلى ناحية حوث فأقام فيها أياماً قرائب، ونهض الأمير المتوكل رائحاً إلى جهة ظفار، وسار أمير المؤمنين حتى بلغ جهة الكولة وكانت محطة ما بين البركة المشهورة وبين القرية، ثم زلج السلطان عبدالله بن سالم بن علي بن حاتم بعد أن ركبه حصاناً من جياد الخيل وخلع عليه من نفائس الثياب المصرية والحرير واعتذر إليه مع الإنعام العريض فشكر أمير المؤمنين وأثنى عليه.
قال الراوي: وأقبلت إليه قبائل المغرب من شظب ونواحيه، ووصل إليه صاحب ذروة الغز المحروسة فراجعه أمير المؤمنين في الضيافة بذروة فأشار بذلك وكان ذلك الزمان زمان جدب وقلة مطر وانقطاع في المناهل فخاف أمير المؤمنين المشقة على العسكر فأمر الناس بالنهوض إلى ناحية وادي الصيد وكانت طريق الناس النقيل المعروف بمحاضر، وصعد أمير المؤمنين إلى حصن ذروة في يوم شديد الحر فسار بين يديه خلق كثير من الناس راغبين في رؤية حصن ذروة، فلما وصل أمير المؤمنين وتدبر حصنه أعجب وطافها وطاف الحصن الأسفل المسمى بحقيل، ولم يلبث إلى أن عاود هابطاً متجهاً وادي الصيد قاصداً محطته بعد أن أحاط بحصن ظيافة وكانت محطته فوق قرية يناعة فيما بينها وبين الأوساط، ونهض ثاني ذلك اليوم فحط إلى جنب ضحيان في البون الأسفل فلقيه السلاطين بنو ذعفان وسائر القبائل من بني صاع بالإتحاف والإنصاف والإجلال والإكرام، فأقام ليلته تلك ووصل إليه في اليوم الثاني الأمير حمزة بن سليمان بن إبراهيم بن حمزة من جهات الغز، ووصل إليه جماعة من السلاطين أهل ذمرمر وقوم من قرابتهم من همدان في عراضة حسنة وخيل، فلقيهم أمير المؤمنين بما هو أهله من الإنصاف والإكرام الذي هو شيمته وخليقته، وكان فيمن وصل من المدانيين السلطان الأجل علي بن سعد بن علي بن حاتم بن أحمد بن عمران بن الفضل بن علي بن أبي زيد بن المعمر بن الصعب بن الفضل بن عبدالله بن سعد بن غوث بن المعمر بن المذكر بن يام صاحب ذمرمر وكان متمسكاً بديانة ومحبة للإمام، فسلم إلى أمير المؤمنين شيئاً من المال برا منه ومن غيره ممن يقول بقوله، ثم نهض أمير المؤمنين عليه السلام فحط في موضع يسمى نجر بأعلى البون الأعلى فأمر لأهله من حصن ثلاء فحل بهم في القلعة المعروفة لبني وهيب واستقرت محطة الإمام وعساكره في شمال القلعة قريباً من القاع، وأقبل الناس إليه من الجهات المغربية، والحميرية، والبون، والخشب [60أ-أ]، وشظب،
والأقهوم، وغير هذه النواحي بالبر والنذور والحقوق الواجبة وحمدوا الله وشكروا سعي أمير المؤمنين عليه السلام حيث استنقذهم من أيدي أهل الجور والعسوف، وأمر أمير المؤمنين إلى الأمير المتوكل على الله أحمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله سلام الله عليه بالنهوض إليه وأهله ورهطه ومن كان في ركابه من الأجناد ليكونوا مقدمة عساكره لفتح صنعاء اليمن فامتثل الأمير الكبير شمس الدين مراسمه ونهض في عصابة من فرسان الخيل من أهله وأولاده وسار في هيئة حسنة وعدة شديدة فنشر أعلامه وأمر بحمل النقارات والطبول والرايات الحربية، وأمره أمير المؤمنين أن يجعل عسكره على رحابة، ثم وادي ظهر ففعل ما أمره أمير المؤمنين، فلما وصلوا إلى موضع يسمى الأبرق من أسفل وادي ظهر وافاهم عسكر أسد الدين محمد بن الحسن بن رسول، ومماليك الترك وهم وجوه عسكر اليمن فكانت بينهم ملحمة حطمت فيها الرماح وثلمت الصفاح، واستظهر الأمراء الحمزيون على القوم، فكتب الأمير المتوكل إلى الإمام كتاباً يعلمه بما كان من الفتح الذي هو باكورة الفتح، وكتب شعراً وهذا موضع نسخته يذكر فيه الوقعه ويذكر من أبلى هنالك من أهله، فأجابه الإمام بشعر حسن وشكر فعله ومن معه من الأمراء الأجلاء لنقل ما ذكرنا ههنا إن شاء الله تعالى متى وجد.
قصة نهوض أمير المؤمنين من نجر
ثم إن أهل صنعاء ومن فيها من الأمراء الغز وغيرهم لما قرب الأمير شمس الدين من بلاد وبلغهم العلم أن الإمام على أمر النهوض بالعساكر التي لا قبل لهم بها أقبل الأكثر منهم إلى الإمام طالباً للأمان لأنه أبرق العفو فلم ير أمير المؤمنين إلا قبول من أقبل إليه أو طلبه من أهل صنعاء ومن قال بقولهم من الغز، وكتب لهم الأمان وأمرهم بالرجوع وإشعار الناس ذلك وتعريفهم أنه لا يريد عليه السلام إلا رفع المناكر والجهاد في سبيل الله تعالى ورفع يد الجور والظلم ودعاء الناس إلى دين الله تعالى وإقرار الشافعية المحققين على مذاهبهم والانتقام من القرامطة وإحرابهم، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، وإذاقة المسلمين برد ظلال العدل، فلما سمعوا ذلك من أمير المؤمنين عليه السلام امتلأت قلوبهم فرحاً وحمدوا الله تعالى ورجعوا إلى صنعاء وأظهروا ذلك، فلما علم أسد الدين بذلك نهض عن صنعاء إلى حصنه براش بمن معه من مماليكه ومن لا يرى بفراقه من أجناده وخدامه، ثم نهض أمير المؤمنين عليه السلام من نجر.
قال السيد شرف الدين يحيى بن أبي القاسم: أمرني أمير المؤمنين عليه السلام من نجر بالوقوف في حصن ذروة فلما تقدم عليه السلام لفتح صنعاء وسار الجيش حتى قرب من صنعاء كتب إلى أمير المؤمنين كتاباً من محاسن الكتب فيه عبقة من الكلام النبوي بديع الألفاظ رائق المعاني يأخذ بمجامع القلوب يذكر فيه مسير عساكر الحق مرحلة مرحلة وصفة البلاد التي وطيتها بحدائقها وأنهارها، ثم ذكر صنعاء وبهجة منظرها وإقبال المواكب إليه وما اجتمع فيها من تكاثر العدد وبريق العدد، وهذا هو موضع نسخة الكتاب.
فلما اجتمعت العساكر أمر أمير المؤمنين الأمير الكبير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام بالمحطة عند باب اليمن وحط عليه السلام مقابلاً لباب السبحة قريباً من الدار السلطانية وبستانها حتى استقرت أمور الناس.
أخبرني بعض الناس أن الخيل اجتمعت ألف رأس وذكر بعضهم أن أسد الدين خرج إلى جبل نقم لينظر إلى عساكر أمير المؤمنين إذ رأى أمراً عظيماً وخطراً جسيماً فسقط في يديه، وأقبل الأمير الكبير عبد الله بن سليمان في قبائل جنب ومذحج وكرد ذمار وغيرهم فشكر أمير المؤمنين سعيه وأثنى عليه، ودخل أمير المؤمنين بعد أيام إلى الدار [61أ-أ] السلطانية واختص بها وهي من العجائب، بناها سيف الإسلام الملك العزيز طغتكين بن أيوب ثاني ملوك أهل مصر من بني أيوب وجعل فيها من المناظر والغرف والمجالس والحجر مزخرفة سقفها بالذهب وألوان الأصباغ وفيها حمام، والأنهار تطرد عند جدرانها، والرياحين والأزهار متدلية في حيطانها وأنواع الفواكه، وفيها إيوانات بينها حجرة واسعة فيها بركة ينبع منها الشاذروانات، وميدانها على بابها، وغرفة الروشن المزخرف مطلة عليه، وقد كان الإمام أمير المؤمنين المنصور بالله صلوات الله عليه وعلى آبائه الأكرمين لما افتتح صنعاء مرتين أمر بهدم أكثر سقوفها وحمل إلى حصن الإسلام ظفار حرسها الله تعالى.
رجع الحديث
فأقام أمير المؤمنين وأمر بحفظ قصر أسد الدين لكونه مرصداً من يحفظه من الأمراء آل القاسم وولى مدينة صنعاء الأمير الكبير الحسيب الحسن بن محمد بن إبراهيم القاسمي وجعل معه القاضي المجاهد أحمد بن مقبل بن زيدان الطائي الصعدي، وولى القضاء القاضي أحمد بن سليمان العنسي، وأعطى الأميرالكبير شمس الدين قصر الأمير فخر الدين أبي بكر بن الحسن بن علي بن رسول شقيق أسد الدين، وأعطى كلاً من المقدمين والخواص قسطاً وافر من منازل الغز والباطنية وضياعهم وبساتينهم ومن قال بقولهم حتى رضي بذلك كل من المقدمين إلا أن الأمير المتوكل أحمد بن الإمام المنصور بالله كان في نفسه غير ذلك من أن أكثر أمر صنعاء يكون إليه وعلى يديه فتنكر على أمير المؤمنين فصارت الأحاديث تسري إلى أمير المؤمنين بما يسره وهو متعمد ويصفح ويقابله بالإجلال والإعظام والتبجيل والإكرام وكان يؤثره بالعطاء والإنفاق على كثرة العساكر وتقاضي الأشياء في تلك الأيام.
أعلمني بعض الثقات أن راتبه من أمير المؤمنين عليه السلام كان كل ليلة مائة درهم، فإن انقطع أو نقص كان ديناً يقضي إياه، ولكل واحد من الأمراء إخوته وبني عمه راتباً بقدر مؤنته، وكانوا مع ذلك يعيبون وينتقصون الإمام.
وبلغني أن أمير المؤمنين أعطى الشيخ أحمد بن محمد الرصاص دار الكبير من كبار الباطنية مزخرفة بالذهب وأعطاه من الضياع والحوانيت والصوافي في تلك النواحي ما قدر مبلغ قيمته ثلاثون ألف دينار يصح مائة ألف وعشرون ألفاً لما كان يعرف عليه السلام من رغبته في الدنيا باطناً ويقنع بالتقشف ظاهراً، وقد كنت أسمعه عليه السلام يشير إلى أنه من جملة المؤلفة.
فأما الفقيه الإمام العلامة أبو عبد الله حميد بن أحمد المحلي فلم يطلب شيئاً من ذلك ولا رغب فيه بل كان من أشد الناس عناية فيما يعين به أمير المؤمنين لما رآه من كثرة الإنفاق وهلع أكثر أهل الوقت ورغبتهم في الحطام ونزل كل من العلماء الفضلاء في منزلته وكانوا خلصائه وسمرائه وكان يحضر مجلسه الكريم عدة منهم للقراءة في درس العلم، ولما استقر أمير المؤمنين بصنعاء تنكر عليه السلاطين آل حاتم وجرى [61ب-أ ] منهم ما يسوء أمير المؤمنين فاستوحشوا لذلك ونهضوا إلى حصن ذمرمر وقد اجتمع فيه كبار الباطنية القرامطة كبيرهم والذين يرجعون إليه حسين بن علي بن الأنف وهو عندهم في المحل الأعلى والقدر الأسنى يتطأطأون له بالرؤوس ويبذلون دونه النفس والمنفوس على أنه قد استهوى شطراً منهم وخدع أكثر نسوانهم وجهالهم، ولما رحلوا عن صنعاء سرى كيدهم إلى صاحب براش أسد الدين واختلفوا إليه وأعلموه المكيدة.
وبلغني أن الأمراء الحمزيين كان بعضهم يغدوا إلى أسد الدين في الليل ويدل على عورات عسكر أمير المؤمنين ويزهد في أمره، فكان لذلك إذا وقع القتال لم يكد الباقون من عسكر الإمام يركنون إلى الأمراء الحمزيين خيفة لمكرهم، وكانت الأمور هكذا فوقع بين عسكر الإمام وبين أسد الدين وعسكره وقعات أبان فيها الأمراء الحمزيون ظاهر، وأمر أمير المؤمنين بالولاة في البلاد، وأمرهم بالعدل في الرعية، وسلوك السيرة المرضية، وخوفهم بالله تعالى، وكتب لهم العهود الأكيدة، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ورتب الحفظة والمحتسبين على قوانين صنعاء، وكان أهل صنعاء يتناوبون حفظ الدار السلطانية مكيدة أعداء الله يأتي منهم في أكثر الليالي الرجال الأنجاد بالسلاح والعدة ولم يزل تأتي منهم الصلات والمعادن في سبيل الله تعالى وهم على الجملة أهل محبة لأهل البيت عليهم السلام.
قصة ضرب الدرهم الإمامي المهدي
لما استقر أمير المؤمنين بصنعاء ونفذت أحكامه إلى رأس نقيل صيد مشرقاً ومغرباً رأى أمير المؤمنين أن يأمر بضرب درهم يكون للناس فأمر رجلاً من الأطهار من بني سرع يقال له: علي بن الحسين بن سرع وكان من الأخيار أهل الثقة والديانة والأمانة له يد في هذه الصناعة أن ينقش، وأمر أن يجعل الدرهم زائد على الدرهم المنصوري الإمامي لكونه في تلك المدة دخل الغش على ضروب مختلفة في الوزن والفضة وكان وزنه خمسة أثمان قفلة بقفلة الإسلام وزائد على درهم الغز قليلاً فجعل وزنه ثلثي قفلة بقفله الإسلام فضة سيما خالصةً طيبة فلما نقشت السكة أمر عليه السلام فضرب جملة من الدراهم ألوفاً، ثم أتى بها إليه فأمر عليه السلام بشيء منها فزف بها في المدينة وأشيع ذكره وأخرج الدرهم المدينة في موكب عظيم سلت حوله السيوف، وأمر أمير المؤمنين بإنفاذه والبيع به دون غيره، وحذر وأنذر لمن يعترض لغشه أو قطعه، وتوعد عليه بالسيف؛ لأنه من أعظم الفساد على المسلمين، ثم أمر بجملة من الدراهم ففرقت على الأمراء والمقدمين والأجناد وجميع المسلمين ومن هنالك من الوفاد وكان ذلك يوم عيد في صنعاء، ومما قيل في ذلك اليوم من الشعر قول القاضي ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي[62أ-أ].
قصة حرب ذمرمر
قال الراوي: ثم إن السلاطين اتفق رأيهم ورأي صاحب براش الأمير أسد الدين محمد بن الحسن على المظاهرة والفتك بأمير المؤمنين وسول شياطين الباطنية وكهنتهم ومنوهم بالظفر من طريق علم النجوم وأنهم إذا نهضوا في اليوم المضروب نالوا مرادهم وعظموا الأمر بزعمهم وشاع ذلك فبقي أهل صنعاء ومن لا بصيرة له كالمتوقع لذلك، ثم إن أمير المؤمنين عمل على ما هو المعروف من خلقه من التوكل على الله والمضي على الجهاد في سبيل الله تعالى والصبر على البلوى فحشد عساكره فاجتمع إليه السلاطين الأجلاء المجاهدون الوشاح بن عمران ومن يقول بقوله من أهله وبني عمه وقبيلته وبنو الراعي وغيرهم وأمر بعضاً من عسكره فوقف في مقابلة صاحب براش وتقدم الإمام بنفسه محتسباً ذلك في سبيل الله سبحانه وتعالى وقصد حصن ذمرمر في عسكر كثيب في الخيل الجياد اللوابس والرجال من الشرق والغرب وأهل البأس والشدة وكان في ذمرمر مملوك أسد الدين عظيم الشأن أستاذاً يسمى بالبان ليس له نظير في فرسان العجم هنالك ومعه أربعون فارساً من جياد الفرسان وقد حشدوا وجمعوا من قبائل المشرق من الرماة من الأعروش وغيرهم عسكراً وافراً فوقع بين العسكرين قتال عظيم، فاستشهد في ذلك اليوم رجل من السلاطين الأجلاء المجاهدين من بني شهاب يقال له [.....بياض في المخطوط.......] ورجلان آخران، وقتل من أعداء الله سبعة أو ثمانية فيما بلغني. والله أعلم.
وقتل بعد ذلك مملوك من مماليك أسد الدين واحتز رأسه وأخذت فرسه، وأمر أمير المؤمنين بخراب أموال السلاطين عبدالله بن سالم ومن يقول بقوله من بني عمه إلا مال السلطان الأجل علي بن سعيد بن علي فإن أمير المؤمنين أمر باحترامه وكذلك من يرى بقوله، فخربت البساتين، وغورت الآبار، وحمل إلى صنعاء وغيرها من الأعواد والأشجار شيء كثير، واستأصل المجاهدون شأفتهم، وبلغوا في تدمير بلادهم تدميراً عظيماً لم يبلغ أحد مثله، وثناه أمير المؤمنين مرة ثانية فاستلحق بالعسكر ما لم يكن أخرب اليوم الأول وجعل بلادهم عبرة للمعتبرين، وعاد إلى صنعاء سالماً غانماً وافر فالحمد لله رب العالمين.
وقد كان بعض الباطنية بذمرمر وغيره يموهون على الناس ويوهمون على أن أمر أمير المؤمنين ينقضي في تلك الأيام فارتفعت لذلك رؤوسهم ومنتهم نفوسهم إلى ما لم ينالو: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم}(1).
ولما رأى صاحب براش أنه لا طاقة له بمكيدة أمير المؤمنين بما مضى من المكائد صور بعضهم لبعض أن صلح الإمام أصلح لهم ليستخلص صاحب براش من الخصام وينزل اليمن يصلح ما بينه وبين بني عمه ويستخرج أخاه من الاعتقال ويطلعوا باليد الواحدة، وزعموا أن هذه أعظم المكائد، فأبرموا أمرهم واجتمعت كلمتهم على ذلك [62ب-أ] سراً وكاتبوا الورد بن محمد بن ناجي وهو من كبار العرب وأهل الجاه العظيم عند الغز وغيرهم وكان مظهراً أنه من أمير المؤمنين وهو من القوم في الباطن، فلما وصل إلى صنعاء لقيه أمير المؤمنين بالإنصاف والإتحاف وأكرمه أحسن كرامة وقدم له من الخيل فرسين وأعطاه عطية سنية وخلع عليه من نفائس الملابس من الخلع ومطارف الحرير والعمائم المذهبة ما ظهرت شهرته عظم في أعين الناظرين موقعه.
قصة الصلح بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين أسد الدين صاحب براش
قال الراوي: قد ذكرنا السبب الداعي للقوم إلى الصلح للإمام عليه السلام، فلما وصل الورد بن محمد لم يلبث أن طلع إلى صاحب براش وأظهر التوسط في الصلح وهو كما قيل: يسر ............... ودام الكلام في ذلك وتوسط المتوسط في ذلك منهم الأمير فخر الدين عبد الله بن سليمان بن موسى الحمزي، وانصرم الأمر بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين صاحب براش والمواثيق والأيمان العظيمة على شروط هذا موضع نسختها، ولعله يستفتح به إن شاء الله تعالى.
قال الراوي : فلما انصرم الصلح على الشروط المذكورة وأخذ الأيمان والرهائن نزل أسد الدين صاحب براش إلى بين يدي أمير المؤمنين إلى خارج المدينة غربي صنعاء وذلك لست وعشرين ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وستمائة سنة، فخرج أمير المؤمنين في لقائه في عسكر كثيف وعدة قوية فلما التقى أسد الدين بأمير المؤمنين سار إليه سير الخاضع الذليل فأنصفه أمير المؤمنين وأحسن مقابلته وتكلم معه في ضروب في الكلام وأظهر التوبة والرجوع إلى الله تعالى والامتثال لمراسيم أمير المؤمنين وبايع أمير المؤمنين على أعيان الناس واستر الناس بذلك، فلما كان يوم العيد خرج أمير المؤمنين إلى الجبانة المعروفة بصنعاء فصلى بالناس، وخطب خطبتين يتضمنان من عجائب الوعظ، والتذكير بالله تعالى والحث على طاعة الله والجهاد في سبيل الله، ولم يلبث أسد الدين أن برز وتجهز لنزول اليمن وحرب المظفر، وجهز أمير المؤمنين معه الخيل التي عقد بها له ووفا بما وقعت العقود عليه وأمر لأسد الدين بحصانين من جياد الخيل.
قصة انصراع الحصان بأمير المؤمنين عليه السلام في يوم الجمعة
قال الراوي: ولما عزم أسد الدين على التوجه وحضر يوم الجمعة في تلك الأيام تأهب أمير المؤمنين للصلاة وسار به المسلمون كما جرت به العادة [63أ-أ] وقدم له حصانه المعروف بالمحيا وهو من أجود فرس في زمانه وكان لأمير المؤمنين فيه فضيلة وهو أنه إذا ركبه لم يترك أحداً يكاد يقرب الإمام عليه السلام، فإذا ركبه غير الإمام همد ولم يفعل شيئاً من ذلك، فلما قدم لأمير المرؤمنين ليركبه وكاد أن يستوي على ظهره وفيه شكالة تقوم بأمير المؤمنين وسقط على مؤخره، ثم على صافحته فصدم أمير المؤمنين صدمة عظيمة في أنفه ووجهه ورض رجله ولا يتصور من رآه أنه يسلم فمن الله على المسلمين بعافيته وسلامته ودخل إلى منزل من منازل الدار غشي عليه وغلقت الأبواب ساعة وأفاق بعد روعة عظيمة وقعت في أهل الدار، ثم أمر القاضي الأجل مجد الدين يحيى بن عطية أن يصلي بالناس فلما قضى الناس الصلاة على شغل خاطر قصدوا بأجمعهم إلى الدار وكاد الناس أن يأخذ بعضهم فأمر أمير المؤمنين بفتح الأبواب لينظره الناس فلما رآه المسلمون سالماً حمدوا الله تعالى وقرت خواطرههم وقال في ذلك اليوم الشيخ مفضل بن يحيى إليهم شعراً:
هو الشط من صنعاء التي كنت تعهد
وباب دمشق والعراص التي زهت
وذا المنظر النضر الذي في رياضه
أفانين شتى فكنت فكأنها
إذا أضحكت زاد الضحى خلت أنها
يروقك منه أصفر ومعصفر
وأزرق محجوب وأشهب مذهب
رياض يروح الروح منها ويغتدي
تبارى به الأنهار جرياً كأنها
وكم بين عضدان وغضران والحما
إلى الفرع من سعوان لا ريع سرحه
فقد بين من تلقا سناع وحدة
ميادين خيل كالسرا حين ضمر
هنالك أرخى الجود صوب عناده
نعم هذه الدنيا وهذا نعيمها
وذا ابن الحسين القاسمي الذي له
إمام ملوك الأرض حول رواقه
أنابوا إلى الرحمن خوف انتقامه
أقول وقد قابلت غرة وجهه
أدام لك الله البقاء مخلدا
وظلك ممدود و سعدك طالع
فكم راتع في روض جودك آمن
فللضيف من أرائك الفضل والحياء
وكم منة طوقتها وصنيعة
ولما توسمت النهوض لطيه
دنوت وفي قلب المحيا استطارة
وخالطه زهو وكبر وهيبة
وأقبلت فأغربت فوق سماته
ولم يستقم جأش المحيا وطال ما
ولكن دنى منه ثبير وراعه
ومن فوقه بدر وبحر عطامط
وأبلج من عدنان ماضي جنانه
تززلت الأرضون منك مهابة
فإن شئت ترتاع الجبال جلالة
فقل أمي الزهراء ووالدي الرضى
فما بعد هذا الفخر والفضل والبقا ... وغمدان والقصر المنيف المشيد
بزهر الروابي لا زود وثهمد
أفانين من وشي السحاب ينضد
خدود العذارى أو نيار توقد
من الرقم موشى البرود معمد
وأحمر رفاف القميص مورد
وأبيض فضي يلوح وأسود
بروح وريحان يصوب ويصعد
ثعابين قيض شملها متبدد
وروعة عيش بارد الطل أرغد
وثعبان حيث العين بالعين ترصد
إلى العشة القصوى وحسبك معهد
وساحات خير ذكره ليس ينفد
وغر الأماني والفخار المشيد
وذا القايم المهدي ذو الهدي أحمد
عزائم منها الأسد في الروع ترعد
عكوف ومنهم راكعون وسجد
ومعروفه فيهم يحل ويعقد
وقبلت كفاً سعده يتجدد
وملكك موصول وعمرك سرمد
وبأسك مرهوب وأنت مؤيد[63ب-أ]
وآخر من خوف يقوم ويقعد
وللصد مطروز الغرار المهند
سمحت بها والخير عندك يعهد
وثغرك بسام وسيفك مغمد
وقد راعه بالأمس منك التهدد
وعين كمال دائماً متردد
فخر ولم يحمله رجل ولا يد
له الصافنات الجرد بالفضل تشهد
جلال تكاد الشم منه تأود
وأغلب من آساد خفان أصيد
له من بني الزهراء أنجاد محتد
فكيف المحيا أيها المتفرد
وتذعر أصياد ويبكت حسد
علي وجدي الأبطحي محمد
لمفتخر فخر مدى الدهر يوجد
رجع الحديث إلى تقدم أسد الدين اليمن
فلما تقدم وكان المتقدم من جهة أمير المؤمنين عليه السلام الأمير فخر الدين عبدالله بن سليمان بن موسى في قريب من المائة الفارس فتقدم أسد الدين فيمن معه ومن يقول بقوله حتى بلغ بلاد بني ناجي ومن هنالك تتابع الرسل والمكاتبات فيما بينه وبين ابن عمه الملك المظفر فلم يبرح المختلف بينهما حتى انصرم الأمر بينهما على اجتماع الكلمة وحرب الإمام فالتقيا ساعة من نهار وافترقا على أمر قد أتقناه ووعده السلطان المظفر إخراج أخيه من السجن وقد قيل إن كلاً منهما له شأن في صاحبه. والله أعلم.
وعند ذلك أظهر ما أبطن وبان للحاضر من غدره، وصار سبه للحاضر والباد، ثم أعطاه المظفر شيئاً من المال وزاده عسكراً مع عسكره ولم يلبث أن نهض قافلاً إلى صنعاء لحرب أمير المؤمنين وخالف معه جميع الغز الذين كانوا جنداً للإمام وأعطوه مواثيقهم وتركوا أولادهم وحريمهم بصنعاء ينفق عليهم أمير المؤمنين وجعل عذره في الغدر أن أمير المؤمنين عقد له بأمور لم يفي له بها وأمر بطلب المحاكمة فإن حاكمه الإمام عليه السلام ولا يحاكمه بالسيف وقد كان الناس تفرقوا عن الإمام من صنعاء أما الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام فنهض إلى ظفار مظهراً أنه يريد تهامة ومن يقول بقوله وفي الباطن ينتظرون ما يأتي به أسد الدين من اليمن فتجمع أمرهم، فلما علم أمير المؤمنين بما كان من الأسد من الدعمة الشنيعة فرق الكتب إلى المقدمين في جهاته فتأملو عليه فلما علم [64أ-أ] المفسدون من سنحان بقفول أسد الدين وصلوا إليه واستنهضوه لقصد صنعاء وأعلموه بتفرق العسكر عن الإمام عليه السلام فأعد في السير فأمر الإمام عليه السلام السيد الطاهر العالم الزاهد شرف الدين الحسن بن وهاس بن أبي هاشم بن محمد بن الحسين بن حمزة بن أبي هاشم الحمزي وصنوه الأمير فخر الدين إبراهيم بن يحيى بن علي بن يحيى، والأميرين الطاهرين السيدين محمد بن وهاس بن أبي هاشم، وعلي بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن الحسين بن حمزة في خيل ورجل وأمرهم أن يلزموا موضعاً يسمى الغامرة قريباً من الحصن المعروف بالكميم فلم يلبث أسد الدين أن طلع البلاد وخالف معه كثيراً من أهل تلك النواحي وخصوصاً سنحان، فلما تناقل الناس عن الإمام في تلك الحال واضطربت خواطر الناس وخالف بعض منهم ومالوا إلى أسد الدين تميلت الرتبة التي في الغائرة إلى موضع في قبلى الكميم يقال له: [.....بياض في المخطوط.......]، ولما بلغ العلم إلى أمير المؤمنين أن أسد الدين قد دخل بلاد سنحان وأنهم قد أجمعوا
معه ومن ينضاف إليهم وهو إذ ذاك في قلة من العساكر.
أخبرني من أثق به أن الخيل التي خرجت مع الإمام عليه السلام من صنعاء دون الأربعين فارساً وكانت خيل أسد الدين قريباً من أربعمائة فارس.
قصة خروج أمير المؤمنين عليه السلام من صنعاء اليمن
قال الراوي :ولما انتهى الأمر إلى ما ذكرناه من تناقل الناس عند الغارة وزاحم العدو من كثب، فأمر أمير المؤمنين عليه السلام بتحريق القصر المعروف لأسد الدين وقصر أخيه إشعاراً بالغدر والفضيحة فانتهب الناس من أبوابه وأخشابه وضربت غرفاته ورواشنه المذهبة وكان دخانها في أعيان السماء والناس ينادون من قلل الجبال وبطون الأودية بغدر أسد الدين وفضائحه وكتب أمير المؤمنين عليه السلام كتاباً أشهد عليه كبار الناس ورؤساء العرب وهذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: حمداً لله على ما أولانا من النعم، وصلواته على رسوله سيدنا محمد سراج البهم وعلى آله ينابيع الحكم وأرباب الفضل والكرم، فإن الله تعالى جعل العهود والذمم أصلا في الوثائق والعصم، ومعتمداً للأمم من العرب والعجم، وهي أماناته التي جعلها على عباده عبئاً ثقيلاً وحملاً محمولاً حيث يقول الله تبارك وتعالى: { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}(1) وعلى إثر ذلك فإن أمير المؤمنين المهدي لدين اللَّه أحمد بن الحسين بن القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما افتتح مدينة صنعاء وحصر أميرها أسد الدين محمد بن الحسن بن علي بن رسول في حصنها المعروف ببراش وقابله عليه السلام مدة شهر ثم جنح الأسد للصلح والتمسه من أمير المؤمنين حتى ضاقت مذاهبه وأعيت مطالبه وكان ذلك على أيدي جماعة من وجوه الناس وكبارهم وكان قدح العناية في ذلك المعلى ونصيبها الأتم الأعلى للشيخ الرئيس جمال الدين الورد بن محمد بن أسعد [64ب-أ] بن ناجي أسعف أمير المؤمنين عند ذلك سؤال السائلين وجوب اعتماداً على قول العزيز الحكيم: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم}(2) فانبرم الصلح بين أمير المؤمنين وبين الأسد على عقود أكيدة وشروط شديدة علمها من ضمته الأقطار الصنعانية من وجوه العرب والعجم، وغيرهم من سائر الناس وكان من الوثائق بين أمير المؤمنين وبين الأمير الأسد الأيمان المؤكدة، وتسليم الذمم المشهورة من العلمين والسيفين، وتسليم الأمير أسد الدين لولده رهينة في الوفاء لأمير المؤمنين إلى جهة السلاطين الأجلاء الرؤساء السلميين إلى بيت ردم وسلم له أمير المؤمنين في مقابله رهينتين من أولاد السلاطين المذكورين إلى جهة الشيخ جمال الدين الورد بن محمد على أن أسد الدين إن تبين منه غدر أو مكر في أمير المؤمنين كان على الشيخ الورد
تسليم الرهينين إلى أهلهما وهو غير ملوم في ذلك من أسد الدين ولا من أحد من المخلوقين وكان ولد الأسد باقياً عند أمير المؤمنين وإن كان الوفاء من الجنسين جميعاً كانت الرهائن بعد وفاته أشهر من عقد الصلح ولد أسد الدين وولدا السلاطين مسلمة إلى أهلها وانبرم الصلح كذلك ونهض أسد الدين في عسكره وعسكر أمير المؤمنين لحرب ابن عمه الملك المظفر واستنقاذ أخيه فخر الدين من اعتقال المظفر وكان مما انطوى عليه الصلح وسطرت عليه الكتب وهو باق فيها وشهد به الشهود وقبضت الأيمان والوثائق أن ابن عمه الملك المظفر إن جنح إلى السلم أو طلب الفداء لفخر الدين بشيء من الحصون والبلاد لم يفعل أسد الدين شيئاً من ذلك إلا برأي أمير المؤمنين ومشاورته وكان من الأمر المشهور أن الأسد لما انحدر عن نقيل صيد كاتب ابن عمه ودار بينهما المصلحون ولقيه بعد ذلك وصالحه وصاحت بذلك بينهما الصوائح وقبضت الذمم وجرت الأيمان وانفصل الأمر بينهما كذلك من غير مراجعة لأمير المؤمنين وضم الملك المظفر إلى ابن عمه هذا عسكر من عسكره وأمره بالإنقلاب بعد أن قواه بالعساكر والأموال لحرب أمير المؤمنين وكان هذا كله شاهراً ظاهراً يعلم من علم ذلك الصلح الأول من العرب والعجم، ومن جملة ما فعله أسد الدين وتظاهر به في تلك الأحوال ما رجع إليه من شرب الخمور التي حلف لأمير المؤمنين على هجرها وطمس رسومها، وظاهر ما فعله في هذا وحده فضلاً عن غيره يكفي في الإعلان بنقض الصلح ويقضي ببطلان قول الأسد أنه باق على صلح ابن عمه على ما كان بينه وبين أمير المؤمنين في ظاهر ما ذكرناه في هذا الكتاب يوضح بأن الأسد قد غدر بأمير المؤمنين في الوجوه كلها وأنه ليس للشيخ جمال الدين الورد بن محمد أن يمسك الرهينتين ولدي [65أ-أ] السلاطين بل إرسالهما هو الواجب عليه وإمساكهما من الغدر الذي لا يليق بمثله وولد الأسد باقٍ عند أمير المؤمنين قد وفى وطاب وأن أسد الدين قد غدر وخاب يشهد بذلك
من يأتي بذكره في هذه الصحيفة من وجوه الناس وسادات القبائل وسائر المسلمين في شهر صفر سنة سبع وأربعين وستمائة سنة، وأشهد أمير المؤمنين على الكتاب، ثم خرج من صنعاء من الدار السلطانية ومنع الناس من خرابها وقال: هي دارنا عن قريب إن شاء الله تعالى فكان كما ظن سلام الله عليه.
فخرج عليه السلام ليلة السبت وهي الليلة الثامنة من ذي الحجة آخر سنة ثمان وأربعين وستمائة وكانت مدة إقامته عليه السلام سبعة أشهر إلا خمسة أيام، ودخل أسد الدين في من معه ضحوة النهار يوم السبت ثاني خروج أمير المؤمنين وقد كان خرج من أهل صنعاء خلق كثير ممن يخاف الله سبحانه ويعلم أن الهجرة واجبة عليه ولم يبق في صنعاء إلا من كان ضعيف لم يمكنه النقلة في الحال أو كان مبطناً للنفاق بعيداً عن الحق.
قال الراوي: ولما استقر أمير المؤمنين عليه السلام بسناع وهي هجرة أسسها الفضلاء من علماء أهل البيت وأشياعهم من عجائب الهجر تنبع من حيطانها الأنهار وتتضاحك من جناباتها الأزهار على ميلين من صنعاء إلى جهة المغرب أو نحو ذلك وهي من بلد السلاطين الأجلاء أنصار أمير المؤمنين وسيوف الحق المبين الوشاح بن عمران بن الذيب الشهابي وكافة بني عمه.
قصة الاعتراضات من الأمراء الأجلاء آل يحيى بن يحيى بن الهادي عليه السلام
قال الراوي: لما استقر أمير المؤمنين بصنعاء وكان ممن وصل معه الأمير الكبير المعظم الخطير الناصر لدين الله شرف الدين الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الهادي إلى الحق عليه السلام، وأنزله الإمام عليه السلام في جانب الدار السلطانية ليقرب منه للمراجعة والمشورة وأنصفه أمير المؤمنين ومن معه مع تراكم الناس وكثرة المطالب وتقاصر الأحوال فصار الأمراء الحمزيون ربما يشكون عليه ويصورون له صوراً داخلة بشيء من الشك في السيرة المهدية أو كانه ظن أن أمير المؤمنين قصر في إنصافهم فاستأذن في العودة إلى بلاده فأذن له الإمام عليه السلام وجهز وأنعم عليه وأحسن وأجمل، فلما وصل صعدة ورأى من أهل صعدة شدة الكراهة للأمراء ابني حمزة والجرأة بالأذية لهم فأجابه أنفة وحمية للرحم الماسة فتقدم إلى رغافة وأخرت صلاة الجمعة في جهاتهم إلا القليل وصارت تأتى منهم شكاوي ورسائل واعتراضات من أجل حصن تلمص وأنه لهم ومن أجل عقود كانت بينهم وبين الإمام عليه السلام وقد أجيبوا عن ذلك أحسن جواب فمن الأجوبة ما تولاه القاضي الشهيد نجم الدين يحيى بن عطية بن أبي النجم رحمه الله، ثم وصل منهم كتاب يعتذرون فيه بموانع صدتهم عن الإتصال بعد أن استدعاهم أمير المؤمنين وسوغت لهم التأخر عن الجهاد [65ب-أ] ويطلبون المحاكمة في تلمص وأنه لهم ملك وأشياء أخر ...................... بهذا الكتاب من عبدالله المهدي لدين الله أمير المؤمنين ثم سلم عليهم وعظم شأنهم ومدحهم بماهم أهله في صدر الكتاب كما جرت عادته في الأدب وحسن الخلق فقال عليه السلام: فأما ما ذكروه في إجابتهم من الأعذار والموانع التي صدتهم عن الجهاد في سبيل الله تعالى وأنهم لا يدعون من ذلك الواجب وذلك هو اللائق بهم وبكل مسلم وهم أبناء القوم الذين ذبوا عن هذا الدين وطمسوا رسوم الجور والجاحدين ولذلك دعوناهم وما ينبغي لمثلهم أن يقتصر في هذا الباب على الأعذار المجملات فأما الذي لأجله
ساقوا الحديث وهو ما معهم من الخطوط منا في أمر صعدة وما يتعلق بها وأن كتبنا في هذه المدة وصلتهم مخالفة لما في أيديهم وتعريضهم بوقوع الخلل فيما كتبت وإخلاف الوعد فيما سطر، قال عليه السلام: فنحن نبين لهم أعزهم الله جلية الأمر، ونعلمهم أنا ما أخطأنا في الأول ولا في الثاني ومن برئ من الخطأ برئى مما يتبعه من العتب، فأما كتابنا الأول لهم بصعدة وأعمالها فإنا فعلنا ذلك لهم نريد منهم مزاحمة العدو عليها وإزاحته عن ملكها فيفوزوا بشرف فتحها وعاجل نفعها، فلما لم يتمكنوا من ذلك وغلبهم القوم عليها وجيشنا عليها الجيوش وعسكرنا العساكر وفتحناها عرضنا على المجالس حفظها وتحمل خطرها لكونها في أيديهم وبقاهم على ما في أيديهم من الخطوط فلم يساعدوا إلى ذلك وعجزوا عن القيام به فأفضت الحال بالجميع إلى صلح يضمن أن نصف البلاد للقوم وأن تسليم حصن تلمص كان مشروطاً بأن لا يدخله منهم أحد بل لا يدخله شريف فأتى ذلك على نفي ما كنا أردناه من كونها في أيديهم ولاية، ثم لم نفرغ من نوبة بني حمزة وتوقي شرهم حتى نجم علينا من الأمراء شكاوي وعتوب تؤذن بكراهة ما نحن عليه والميل إلى محبة من هو عدو للجميع وأطللنا على كتب صادرة من بعض الأمراء إلى الغز فيها الاستنصار علينا والإستدعاء لحربنا فانتقض العمل من أصله؛ إذ الخطوط مبنية على كوننا يداً واحدة متمسكين بطريقه واحدة حينئذٍ عرفنا أن الخلل وقع من غيرنا وأنا باقون على الوفاء للصاحب وإن كان إذا استعملتم النظر والمعرفة غير واجب؛ إذ هذه الكتب ليست في تمليك؛ إذ ليس لنا ذلك وإنما هي ولاية ولولي الأمر أن يعزل من ولاه وأقطعه ما قبل استقرار الولاية أو بعدها، ومثلهم أيدهم الله من لا يجهل ذلك، فلما حدثت هذه الحوادث بيننا وبين بني حمزة أردنا أن نجعل أيديهم مستقرة على ما كانت عليه أيديهم من النصف من طريق الإحسان والتفضل لا من طريق الوجوب فكرهتم ذلك وغيرتم في وجهه وما كان هذا ظننا
وإنما أخلفنا الظن، فالله المستعان، وكنا نتصور أن دعوى الأملاك [66أ-أ] في هذا الباب لا يقع حتى وصلتنا مطالعتكم بكتب المحاكمة في تلمص المحروس ونحن نجيبكم إلى ما سألتم ونلبي دعاكم في طلب الحكومة فبادروا رحمكم الله إلى ذلك ولا تتأخروا ليهلك من هلك عن بينه ويحيي من حي عن بينه ولتعلموا أنا ما نلقى الله تعالى بظلم أحد من خلقه قرب أم بعد عظم أم لم يعظم وكيف نمتنع عن الشرع ونحن الذين عطفنا الناس عليه بالسيف، وبذلنا في نصرته المهج، وأنفقنا النفوس والأموال يعلم من عاشرنا وعرف أحوالنا، ولله القائل:
تعرفني ما كنت قبل أوانه
... أسرح فيه دائماً وأسيم
فهذا لعمر الله كمهدي التمر إلى هجر وداعي مدده إلى النضال فهلم أيدكم الله إلى ما طلبتم نخرج عليكم كما خرجتم ونستدعيكم إلى طلبه كما استدعيتم وليس لكم أن تقولوا هلم إلينا؛ لأنا في ثغور المسلمين مقابلين لعدوهم لا يسعنا عند الله سبحانه أن نتزحزح عن ذلك؛ لأن بتخليته تنتقض أمور المسلمين عامة، وتعلوا كلمة المبطلين، ويهن أمر المتقين، وهذا وإن كان واجباً على الجميع منا مضيقاً فليس إخلال البعض به يسع تركه للكل والذي طلبتم من الحكومة في أمرهم يجب لكم بزعمكم يمكن تأخيره؛ لأنه ليس بمتضيق لاتساع وقته وهذا الذي يجب من حفظ بيضة الإسلام، وسد الثغور، وإصلاح أمور الجمهور مضيق لا اتساع في وقته ولا يمكن تأخيره مع الاستقامة على الحق.
فأما قولكم أنا لا نقبل لا مهلة ولا مغالطة، فكذلك لا نقبل مهلة ولا مغالطة، فمن تأخر من ذلك بعد هذا أكان هو الذي ركب متن الغلاط وعدل عن الحق إلى الباطل.
وأما ما ذكروه من وقوع الشك عند المؤمن في أشياء وأن الغرض المراجعة فيها بعد الفراغ من الحكومة فهذا كلام في نهاية الخلل؛ لأن الشك إن اعترض به على اليقين وهو ما دلت عليه البصائر وثبوت الإمامة وسلامة أحوال صاحبها في الظاهر فلا إشكال أنه لا حكم له؛ لأن الشك لا يعترض به على اليقين بل لا يعترض به على الظن؛ لأنه ريب، وقد ورد الشرع بتركه قال النبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (1)، فالمعترض بالشك على اليقين مخالف لظاهر هذا الخبر، وإن أرادوا بالشك ما يعترض في الخواطر مما يتجلى بالمراجعة فهذا داخل تحت قوله تعالى: {فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}(2) فكيف يتوجه علينا الملاحقة في الريب عند غيرنا والسؤال عليه والفائدة من قبلنا؛ إذ هذا من باب الإفادات والمراجعات لا من باب المحكمات، على أنا نقول: كيف يسوغ لمؤمن أن يتخلف عنا في الشدائد ويخلو بنفسه ويحكم على اليقين قوادح الريب ويعترض أصول الواجبات بعوارض التوهمات، وها نحن قد دعوناكم إلى نزال وعرضنا أنفسنا في مواطن الجدال، وقد أنصف القارة من رامها وقد ألزمنا من كان في نفسه شك قد جعله ذريعة في إبطال فرض الجهاد الذي هو سنام الدين أن يصل إلينا لإزالة الشك والقيام بالفرض لأنه لا بتخلفه [66ب-أ] وإظهاره بذلك قد أخل بالفرض المتوجه عليه وليس على غيره مما يتصوره به ويدعوه إليه فيحمل وزره ووزر غيره كما قال الله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامه ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون}(3)، ونحن نريد الدعاء تأكيداً والإلزام بجد بدى في وصولهم إلينا للمحاكمة فيما طلبوه وكذلك وصول من اعترض في نفسه ريب في شيء مما ذكروه ومن الله سبحانه نستمد الإعانة وإياه نسأل التوفيق وهو المحمود على نعمه وجزيل قسمه فإنه الناصر حيث تخلف المتخلفون، وخذل الخاذل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نقول كما قال تعالى في
كتابه المبين: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين}(1) ولم يتأخر الجواب أياماً بعد وصوله إلا لما نحن عليه من كثرة الأشغال ومكافحة فرق الضلال عن دين ذي العزة والجلال، في مقامات لم تعبر فيها الأقوال عن الأفعال والحمد لله الكبير المتعال، وصلواته على محمد وآله خير آل، والحمد لله رب العالمين.
رجع الحديث
ولم يلبث أمير المؤمنين أن قدم الأمير الكبير العالم شرف الدين الحسن بن وهاس في جماعة من الأمراء إخوته وأقاربه من شيوخ العرب أحمد بن الرياحي بن راشد بن مظفر السنحاني في عشرين فارساً إلى موضع يسمى ضبوة على فرسخ من صنعاء أو يزيد قليلاً إلى ناحية المشرق من بلاد سنحان وقد كان صور لأمير المؤمنين من طريق من لا خبرة له ولا نصيحة أن الموضع مرصد للمحاربين بصنعاء وأنه يقطع مادتهم فكان الأمر بخلاف ذلك، ومما قيل من الأشعار بعد خروج أمير المؤمنين من صنعاء قول الشيخ الأجل اللسان قاسم بن هتيمل التهامي شعراً:
شمس من العالم العلوي قد صفرت
بانت تروعني بالبين هازية
فهل عذير فيسعدني علانية
يحن قلبي لقلبي في تقلبه
عطفاً بروحي يا روحي على جسدي
حرمت وصلك واستحللت سفك دمي
انطوالي ابن أمير المؤمنين أمير
لأشكرن من المهدي عارفة
فكم لأحمد عندي من يد ملكت
حرف إذا وصفت بالألف خنصره
وجه يعوذ في سر وفي علن
لا تعذل الناس إن رأيت محبته
هين ولين فإن تلق الكماة به
قلب إذا نازل الأقران تحسبه
تهمي أنامله تبراً ويمطرها
إن قالت الزور أو ماتت مشبهه
الوافر القسم من مجد ومن شرف
يا ابن الحسين ويا سبط الرسول ويا
لم تخل صنعاء إلا وهي فج ردى
ليست كأم القرى في الفضل ثم طرا
وفي العروسين حلوا ثم أخرجهم
إن يستعض منك مغرور بطاعته
فليس غير حنين ماض راجله
عزماً فإن هانت الدنيا عليك وما
برد العفاف وبرد المدح طب بهما
أكرمتني طول أيامي وما علمت
فالبس وإن لم يكن كفو البرك لي
مما تجلت بفكر العقل لؤلؤها ... من شعرها ألفي وصل ولا مين
يا عالم البين جاز البين بالبين
وشكا يفرق ما بيني وما بيني
منها وتبكين يا عين على عيني
زميته يا وحي الحين بالحين
ظلماً فكنت تقاضي الدين بالدين
المؤمنين علي بين صفين
كانت لوجهي زيناً أيما زين
وفى بصفين من عرض ومن عين
من سادة رجحت منهم بألفين
من رؤية العين إشفاقاً من العين
على قلوبهم زيناً على زين
تلق الكماة بلا هين ولا لين
من صخرة الهضب أو من زبرة القين ودق النضار بلا برق ولا عين[67أ-أ]
فإذا المنون لأهل الزور والمين
والطاهر العرض من نقص ومن شين
فرع البتول ويا غصن الشهيدين
كالغل في الجيد أو كالقيد في الفين
خروج جدك منها ثاني اثنين
علوان بالسيف عن ملك العروسين
خب وهل أثر يعتاض من عين
ورجلها ثلة منه بخفين
فيها فعزمك فيها ليس بالهين
نفساً فإنك كاس بين بردين
كرامة غير يوم أو فيومين
مرصوعة النسج بكراً ذات تربين
في نظمها فأتت سمطين سمطين
(قصة ضبوة وما كان فيها من البلوى علىالمسلمين)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: فتقدم الأمير المذكور فيمن معه من الخيل ورجل لا أعلم عدتهم وكان فيهم من سنحان قوم، فلما استقرت الرتبة في ضبوة ذلك اليوم نهض أسد الدين بجزيل عسكره فحط على المجاهدين بضبوة وأحاطت بهم الناس من كل ناحية ورتب في صنعاء خيلاً من الغز والباطنية، فلما علم أمير المؤمنين خرج إلى قريب من بيت بوس لفك المحطة من أهل ضبوة فتعذر ذلك عليه لقلة من معه، فلما كان يوم الخميس السابع من الشهر المذكور خرجت الرتبة من صنعاء حتى وقفوا في موضع قريباً من الكظائم المعروفة مما يلي جبل نقم فأمر عليه السلام خيلاً للقاء أعداء الله وقسمها قسمين:
فقسم: قدم عليهم الأمير الكبير أسد الدين ناصر أمير المؤمنين أبا عبدالله بن محمد بن سليمان بن موسى بن داود بن علي بن حمزة بن أبي هاشم الحمزي وهي الخيل المعاري.
القسم الثاني: وقدم على الخيل وهي اللوابس الأمير الكبير عز الدين محمد بن أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام فقصد الأمير أسد الدين بمن معه من الخيل فوقع الطراد بين الخيلين واشتد الجلاد وقد كان أمير المؤمنين أمر السلطان الأجل المخلص ناصر الحق عضد الخلافة حسام الدين الوشاح بن عمران ليطلع على المحطة التي على ضبوة في خيل وافرة فعاد من قصده وقد تلازم القتال فلما رآهم عسكر الإمام ظنوا أنهم مادة للغز فاضطربوا قليلاً حتى عرفوا أنهم أصحابهم فتموا حينئذٍ على الغز وحقت الهزيمة وحفت الخيل فحملت على رجالتهم فقتل منهم قريباً من ثلاثين قتيلاً أكثرهم من الباطنية الملاحدة وأبلى في ذلك اليوم الأمير المقدم المقدام أسد الدين[67ب-أ] بن محمد بن سليمان، والأمير الكبير فخر الدين صنو أمير المؤمنين إبراهيم بن يحيى ولم يقصر من حضر من المجاهدين، وبلغ العلم إلى أسد الدين فأغارت خيله فوصلت وقد قضي الأمر وفاز المجاهدون بالظفر فعادوا خاسرين، فلما كان يوم الجمعة خرج أمير المؤمنين بمن معه وعزم على التقدم ليفك على المحطة على أهل ضبوة، فلما بلغ بعض الطريق بلغه العلم أن أسد الدين قد استولى على أهل ضبوة فساءه ذلك واغتم المسلمون لذلك غماً عظيماً.
قصة استيلاء أسد الدين على أهل ضبوة
لما اشتد بهم الأمر وانقطعت عنهم الغارة وهم في غير موضع يمتنعون فيه ولا فئة يرجعون إليها دارت بهم المحاط بعد قتال عظيم قبل ذلك قتل منهم أي من المجاهدين خمسة نفر منهم أربعة من سنحان الذين هم أهل ضبوة وأذم أسد الدين على الأمراء الكافة وأعطاهم سيفه وأنهم لا يعترضون، فلما خرجوا إليه قبض عليهم ولم يراقب إلاً ولا ذمة وتلك شنشنته التي عرف بها، فأسر الأمراء المذكورين وأسر الشيخ أحمد الرياحي وأسر عدة من المجاهدين وفلت البعض وأمر بالأمراء إلى براش وفرق كثير من المجاهدين في الحبوس وتعمدهم أعداء الله بالعذاب والنكال وأمر أسد الدين أن يقيد الأمراء الفضلاء فقيدوا، فلما علم أمير المؤمنين بذلك ساءه وأمر إلى أسد الدين وأقسم لئن لا يفك القيود عنهم ليأمرن بقيد ولده المرهون في بيت ردم وليشددن عليه العقوبة فندم أسد الدين وأمر بفك القيود عنهم وكان بعض الأمراء الحمزيين يأمر بالتشديد على أصحابه ويحصن الغز عليه لينال بذلك عندهم منزلة وجاهاً حتى انتهى الأمر إلى أن جعل عليهم حراساً كيلا يستعميلون خدم براش.
(قصة مخلاف الأمراء بني حمزة على أمير المؤمنين عليه السلام)
قال الراوي: ولما رأى أمير المؤمنين ما كان منهم بصنعاء من المماكرة والمخادعة ولم يبق عنده شك فيما يحاولونه من كيده ودس الأسرار إلى أسد الدين وإلى كل عدد لأمير المؤمنين فأمرهم بالنهوض قبل خروجه من صنعاء فنهض الأمير شمس الدين إلى ظفار وبعضهم صدر إلى الغز ثم وصلت إليهم المكاتبات من أسد الدين يستدعيهم، فلما استقر الإمام في سناع واشتد الحرب على صنعاء نهض الأمير شمس الدين من ظفار مظهراً للوصول إلى الإمام، فلما وصل إلى البون كتب إلى أهله الذين هم في جنبة الغز فالتقوا إلى جوف من البون الأعلى واشتوروا وصوبوا للأمير التقدم إلى ثلاء إلى المشائخ الأجلاء بني الضريوة ظناً منهم أن الإمام ينكر عليهم عند ذلك وهذا من الإعراض والوجه الثاني ليحفظ الأمير نفسه عندهم، فلما وصل الأمير شمس الدين إلى المشائخ الأجلاء إلى حصن ثلاء تلقوه بالقبول والإنصاف والإكرام ثم لم يلبث من معه حتى صدر بعضهم إلى صنعاء لحرب الإمام [68أ-أ] عليه السلام ثم صدر البعض الثاني.
قال الراوي: فلما علم أمير المؤمنين وانكشف له أن كونهم في ثلاء لأغراض ولم يبقى إلا الأمير شمس الدين والقليل من أصحابه غلب على ظنه أن صدورهم لا يكون إلا بأمره، فلما وصلوا إلى صنعاء اشتدت عزيمة الغز واجتمع في صنعاء قريباً من أربعمائة فارس من فرسان الشرق والغرب والأتراك فقصدوا أمير المؤمنين في يوم من الأيام ولما علموا بافتراق الناس عنه والذي دلهم على ذلك رجل يقال له: الفضل بن مفضل من جنب وكان ذلك اليوم من الأيام المشهورة والوقعات المذكورة فقام فيه أمير المؤمنين مقاماً كمقام آبائه الأئمة الكرام عليهم السلام تظله البنود وتثلم السيوف وأبلى ذلك اليوم الأمير الكبير محمد بن سليمان بن موسى وعقر تحته حصان من جياد الخيل وأركبه الإمام حصاناً آخر في القتال ولم يكن في جنبه أمير المؤمنين من الأمراء الحمزيين ممن ينتظم مع الأمير شمس الدين إلا الأمير الكبير السيد أحمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان فإنه جاهد في سبيبل الله وأبلى بلاء حسناً وكذلك من كان هنالك من الأمراء السلاطين الأجلاء بنو شهاب، ومن جملة من وقف في ذلك الموقف القاضي المجاهد أحمد بن مقبل بن زيدان، ولما لم يبق ثم وجه يرتجيه أمير المؤمنين في استصلاح الأمراء أمر عند ذلك بخراب أموال المحاربين له منهم في جهة الظاهر وأمر بالحرب على ظفار وكانوا في ذلك الأوان يحاربون ويقيمون الجمعة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: لقد عجبت من ذلك ثم إن أهل الظاهر وثبوا على قرية الحارة فأخربوها وأخربوا الأموال وعموا بفعلهم المحارب وغير المحارب فاغتم الإمام لذلك.
(قصة نزول الأمير الكبير بدر الدين عبدالله بن الحسن بن حمزة إلى سلطان اليمن الملك المظفر)
لما جرى من خراب أموالهم في جهة الظاهر فإنه بلغ ذلك عند الأمراء كل مبلغ فعند ذلك تجهز الأمير عبدالله بن الحسن في جماعة من أهله وخدامهم إلى اليمن ليستنصرون بالسلطان على الإمام وكان السلطان يومئذ في مشاجرة وحرب بينه وبين إخوته لأبيه على حصن الدملوة وهو في يد السلاطين الملك المفضل والملك الفائز وأمهم الست صاحبة المملكة، فلما وصلوا إليه قابلهم السلطان ووعدهم بالجميل واختلفوا فيما بينه وبين إخوته وأمهما وعلم السلطان الملك المظفر أن إخوته وأمهما قد أرسلوا إلى الإمام المهدي عليه السلام على خفية فخاف عند ذلك أن يستلب ملكه من اليمن إن قصدههم الإمام فأسر حديثاً إلى السلطان أحمد بن علوان بن بسر بن حاتم وكان له خلصاً وكتب إليه كتاباً فلقي كتابه وأتى به إلى الإمام.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: رجع الحديث إلى ما وقع من الألطاف والفتوح لأمير المؤمنين بسبب دعمه أسد الدين التي لم يسبقه إلى مثلها أحد.
لما انبرم الصلح بينه وبين ابن عمه وعاود لحرب الإمام وقد كان وصل بدر الدين حسن بن علي بن رسول من ديار مصر ورجل من إخوته وأولادهما والقصة في ذلك أن الملك المسعود يوسف بن الملك الكامل لما استولى على صنعاء وأعمالها وعلى اليمن [68ب-أ] الأسفل وأراد المعاودة إلى مصر خاف على اليمن بعده من هذا حسن بن علي بن رسول لما يعرفه من عزيمته وإقدامه فأمر به وبإخوته فأثقلت القيود في أرجلهم وحملهم إلى مصر سنة أربع أو خمس وعشرين وستمائة وترك أخاهم نور الدين في اليمن لما كان يعلمه من نصحته له وثقته بما عنده وأنه دون إخوته في العزيمة والنهضة، فلما تقدم الملك المسعود إلى ديار مصر مات في مكة وقد صار حسن بن علي بن رسول وإخوته في مصر وخلا اليمن من ملوك مصر تسلطن هذا نور الدين وثبت أمره وعظم شأنه وتسمى بالملك المنصور وانتشر أمره إلى طرف بلاد من الهند والشحر ومكة وصنعاء وأعمالها إلى أن قام أمير المؤمنين المهدي عليه السلام وناصبه الحرب ولم يلبث أن وثب عليه مماليكه فقتلوه على ما ذكرناه في موضعه في السيرة المباركة.
رجع الحديث
فلما ضعف أهل مصر أخرجوا الحسن بن علي بن رسول وأخاه وأولادهما لمناصبة أمير المؤمنين، فلما وصل إلى زبيد في شهر كذا سنة ثمان وأربعين وستمائة سنة أظهر الغلظة على نواب ابن أخيه المظفر وصغره في أعين الناس، فلما علم المظفر هذا خاف إن ناصبه الحرب يميل هو وأولاده إلى الإمام عليه السلام أو يجتمعون فيسلبونه ملكه فرأى المظفر صلح أسد الدين على الصورة المذكورة وأن يقطعه من الإمام ويشهر للناس غدره فلما فعل ذلك وعاد أسد الدين جهة صنعاء استدار المظفر وأمر إلى عمه بدر الدين حسن بن علي رسول ومن معه أنه ناهض في لقائه فاستر بذلك بدر الدين ونهض من زبيد حتى إذا التقوا في موضع يسمى (حيس) وسلم بعضهم على بعض وأمر المظفر مماليكه البحرية فوثبوا على عمه بدر الدين وأولاده وأخيه فقبضوا عليهم وأثقلوا في أرجلهم القيود وحملهم من ساعته إلى تعز وأراد فخر الدين أخا أسد الدين إلى أسر مما كان فيه من القيد والحبس وفرق بعضهم في المنازل وشدد عليهم ثم عاد بعد ذلك في تدبير الصلح بينه وبين الإمام المهدي عليه السلام وكان لزمهم يوم الإثنين الثالث والعشرون من شهر محرم أول سنة تسع وأربعين وستمائة سنة.
(قصة الصلح بين مولانا الإمام المهدي عليه السلام وبين الملك المظفرلما وقع ما ذكرنا من لزم عميه وأولادهما)
انقطع ما في يد أسد الدين وقد كان الأمير الكبير عبدالله بن الحسن بن حمزة نزل اليمن يستنصر بالمظفر على الإمام فاتفق نزوله بلزوم بدر الدين فخاب قدحه وانعكس رجاه وقد كان يظهر أنه يحمل الأرض ما لا تحمل، ثم وصل كتاب من السلطان يستدعي من يصل من الإمام إليه للصلح ويبذل من نفسه ما يجب للإمام فأمر مولانا عليه السلام الشيخ المكين زاهر بن عقبة من كبار الأعروش وكان حسن المخاطبة أديباً ليناً ثم كاتبه الشيخ زاهر قبل وصوله فعاد جوابه بثبات ما يطلبه الإمام فيه فتقدم إليه زاهر، فلما بلغ أسد الدين العلم بلزم ابنه وعمه وإخوته وتثقيل القيود في أرجلهم ولزم عمته صاحبة التعكر أرسل [69أ-أ] إلى الإمام يستعطفه فلم يقربه الإمام مقرباً في ذلك البتة وقال: (لايلدغ المؤمنين من جحر مرتين).
ولا وثيقة بفعل أعظم مما وثقت وفعلت وهنت ولدك وحلفت الأيمان المغلظة وأعطيتنا سيفك وعلمك، وأشهدت كبار الشرف والعرب ثم غدرت فما إلى ذلك سبيل، فبلغ ذلك عند أسد الدين مبلغاً عظيماً وسقط في يديه وخسر خسراناً مبينا فالحمد لله رب العالمين.
(قصة أخذ جبل الحرام)
ولما وقع الحرب بين الإمام عليه السلام وبين الأمراء بني حمزة وأمر بالحرب على جميع حصونهم وثب الأمير علم الدين أحمد بن القاسم بن جعفر من بني عم الإمام عليهم السلام أمير الجهات المغربية على جبل الحرام فحط عليه وهو حصن عظيم يرتكب الشرفين فلم يلبث أن استولى عليه، وكان الاستيلاء عليه في يوم السبت الخامس من شهر صفر سنة تسع وأربعين وستمائة فضربت البشارات بذلك واستر أمير المؤمنين بهذا الفتح المبارك.
رجع الحديث إلى صاحب صنعاء
ثم إنه تابع الغزوات إلى جهة السر فلم يظفر بمراده، ثم وصل السلطان الأجل أحمد بن علوان بن بشر بن حاتم والشيخ زاهر بن عقبة من جهة السلطان لتمام الصلح فلما وصل السلطان أحمد بن علوان والشيخ زاهر بن عقبة وجرى الحديث في الصلح فصوب الإمام عليه السلام نزول السلطان الأجل المخلص المجاهد شجاع الدين جبر بن سعيد بن النمير الشهابي وهو رجل لوذعي ذكي مخلص يحسن محاورة الملوك فصدره أمير المؤمنين وصدر معه السلطان أحمد بن علوان بن بشر والشيخ زاهر بن عقبة، فلما وصلوا إلى السلطان المظفر تلقاهم بالإنصاف والمعاملة الحسنة والكرامة الجزيلة ولم يلبثوا أن وصلوا، ووصل صحبتهم رسول من جهة السلطان المظفر من خلصانه وخدامه متمسكاً بشيء من العلم، فلما وصل أنصفه أمير المؤمنين وخلع عليه خلع الحرير وأركبه حصاناً جواداً وعظم الإمام في عين ذلك الرجل ما لم يكن يتصوره واستصغر من كان بعده من جميع الملوك فانصرم الأمر بين أمير المؤمنين وبين السلطان المظفر على المواثقة بالأيمان وأخذ قميص الإمام وعلمه ومن السلطان قميصه وعلمه وعلى أن لأمير المؤمنين من الأسلاف في اليمن الأعلى إلى جهة صنعاء وللسلطان من الأسلاف إلى جهة اليمن الأسفل وتهامة للسلطان وأدخل السلطان أهل ذمرمر في صلحه إلا عبدالله بن سالم ومن يقول بقوله واستثنى بعضاً من مذحج واستثنى الإمام إخراج بني حمزة من صلحه فردهم إليه علىحكمه وعلى أن على السلطان للإمام في كل سنة ثمانين ألف درهم محمولة إلى خزائنه المعمورة وتسليم حصن حلب والظفير للإمام وعلى حرب أسد الدين وأن لا يصالح ولا يقبل منه وعلى أن كوكبان للإمام عند الاستيلاء على براش للسلطان وشروط توابع لذلك، وانصرم الأمر على ذلك وصاح الصائح وشهر ذلك وكان يوم الخميس السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وستمائة سنة، ثم لم يلبث أمير المؤمنين أن قبض حصن حلب وحصن الظفير فولى [69ب-أ] على حلب الشيخ المكين فخر الدين بن
عمرو بن علي الوهيبي وولى على الظفير الشيخ محمد بن شمر الحوالي.
قال الراوي: فلما انصرم ذلك خرج الجند الذين كانو مع أسد الدين من جهة المظفر ووصلوا إلى أمير المؤمنين فأكرمهم وأنعم عليهم وزلجهم إلى اليمن إلى المظفر فلما تجهز الفقيه الواصل من جهة السلطان وعاق السلطان الأجل جبر بن سعيد عن الرجوع إلى اليمن مرض عارض لم ير أمير المؤمنين إلا تجهيز الشيخ الأجل المجاهد الطاهر تقي الدين عبدالله بن يحيى بن علي الصعدي أحد خواص أمير المؤمنين فصدر هو والشيخ زاهر بن عقبة وذلك الفقيه حتى وصلوا إلى السلطان المظفر وهو يومئذٍ في محطته على الدملوة محارباً لأخيه على الدملوة وطلب الأموال والخزائن التي فيها، فلما وصلوا إلى السلطان عظم حالهم واستر بذلك ولم يكد يصدق بتمام الصلح من الإمام عليه السلام لما جرى بينه وبين عمه وأولاده وأخيه فأحضر كبار العرب وحلف الأيمان المغلظة والعهود المؤكدة على الوفاء بما عقد عليه وأمر بعلم الإمام فنشر في المحطة وعظم شأنه وضربت الطبول والحرانيات تحته وجعل لذلك شأناً عظيماً وأمراً خطيراً وعند ذلك سقط في أيدي أهل الدملوة ودار المصلحون بينهم فاصطلحوا على تسليم أموال جليلة يزعمون أنها نصيبه من الإرث وقبل منهم وأغضى على ذلك وأشهد كبار الناس على نفسه بتمام ما عقده أمير المؤمنين وسلم نيفاً وعشرين ألفاً محمولة إلى خزانة الإمام عليه السلام وأمر بتحف من الخلع والملابس الغالية وتشفع به الأمراء الحمزيون الذين هنالك أن يشفع لهم إلى الإمام بطلب صلح ثلاثه أشهر بشروط:
منها: أن لا تدخل حصونهم شحنة في ذلك الأوان فإن خالفوا حوربوا.
ومنها: أنهم لا يميلون إلى غدر الإمام ويباينون أسد الدين، فأسعد أمير المؤمنين إلى سؤالهم فعند ذلك سقط في أيديهم وانقطع رجاء أسد الدين وأيقن بالهلاك وخاف على نفسه في صنعاء وكان عسكر الإمام يغيرون في مدينة صنعاء والفرسان يتخطفون من خرج منها محارباً، وعند ذلك اضطرب أهل صنعاء وهرب من كان فيها من الباطنية والمجبرة فلم ير أسد الدين إلا أنه يبرز عنها.
(قصة فتح صنعاء المرة الثانية وخروج أسد الدين منها هارباً)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: ولما انتهى الأمر بأسد الدين إلى ما ذكرناه خرج إلى سفح جبل نقم فحط بخيامه وما خف ونقل حريمه وخزائنه إلى براش ولم يلبث أن نهض قاصداً بلاد سنحان ثم تقدم ذمار وأعمالها وكانت تلك الأيام أيام مطر ليلاً ونهاراً ما لم تجر العادة بمثله.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: لقد رأيت تلك الأرض من بلاد سنحان إلى أقصى الرحبة كالبحر الزاخر وضربت أكثر الدور بصنعاء وتهدمت الدوائر وتخرق دائر صنعاء.
أخبرني من أتى عليه [70أ-أ] من العمر قريباً من المائة السنة أنهم ما رأوا مطراً في تلك النواحي قد وقع كذلك، فلما نهض أسد الدين أمر أمير المؤمنين عليه السلام الأمير شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم بحفظ مدينة صنعاء في رتبة من الخيل ونهض أمير المؤمنين من ساعته معارضاً لأسد الدين محطة بمحطة، فلما وصل أسد الدين إلى شعسان أغار من خيل الإمام في المحطة وحط أمير المؤمنين بموضع يسمى حافد من بلاد السلاطين الأجلاء بني شهاب فلما علم أسد الدين أن الأمر قد صعب عليه عاد قافلاً فحط في موضع قريب من جبل براش إلى جهة المشرق وأمير المؤمنين في حافد إلى جهة المغرب فنهض أمير المؤمنين فعاد إلى بيت بوس فحط في الهضب ما بين القرية والمزرعة في أيام مطارة فنبت في الأرض من الشجر والبقل ما لم ير مثله فيما مضى حتى كانت الأرض روضة خضراء يرتع الفرس في مكانها وذلك من بركات أمير المؤمنين سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، ومما قيل في فتح صنعاء من الأشعارمن ذلك قول بعضهم في أثناء قصيدة:
ولقد جرى لك من إلهك ما جرى
من قصم أركان الطغاة وهلكهم
وفتحت صنعاء وهي خير مدينة
ولسوف تملكها على رغم العدا ... ما فيه مزدجر لكل معادي
يا ابن الكرام السادة الأمجاد
فتحت على أعدائك الأكراد
ما بين أرض الهند أو سنداد
وقال الأمير الكبير صفي الدين الحسن بن على بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن علي بن حمزة بن أبي هاشم رضي الله عنه:
لقد آن يا صنعاء أن تتبدلي
وأن ترفضي لبس السواد وتتركي
وأن تسبقي بغداد بالفتح إنني
وحسبك بالمهدي في كل حالة
فقد أغريت بغداد إن سوى الذي
ونادت إلى المهدي أهلاً ومرحباً
فلا تجمحي إني أحاذر صولة ... بسيد الغضا ليث العرين الغضنفرا
مدى الدهر في الأيام ما كان منكرا
أرى حظ أهل السبق أعلى وأوفرا
إماماً إذا ما أورد الأمر أصدرا
بها من بني العباس قد صار أجدرا
وأعطته عن طوع سريراً ومنبرا
ترى لجموح الأصغر الخد أصغرا
وقال القاضي الأجل نظام الدين أحمد بن سليمان قاضي أمير المؤمنين بصنعاء يهني بفتح صنعاء وتحول أسد الدين عن حاله وهروبه منها:
أرأيت كيف ترنح الأغصان
أم هل نظرت جآذراً ألحاظها
لا تعذلن أخا الصبابة في الهوى
يا حبذا وادي الغوير فإنه
لم أغش أفنية الملوك زهادة
حتى بلغت إلى زمان خليفة
القاسمي وحبذا من منصب
نص النبي عليه نصاً ظاهراً
هي آية من معجز المهدي لا
لولا النبوة بالنبي محمد
يكفي أمير المؤمنين بأنه
لا يستقيم لمسلم إسلامه
وملاحم شهدت بها البيض الظبا
بلغت ثلاثمائين من سطواتها
انظر إلى أسد يحاول ثعلباً
لم يحمه سهل ولا وعر ولم
مطرت عليه سحائب بنوائب
هدمت الحق شيد بنائه
نصر من الله استتب وبعده
صنعاء مشرقة بأيمن مقدم
لبست مطارف بهجة تطريزها
زحفت رسيس الرجس من قوم بها
والأرض للمهدي حتم ملكها
واستبشرت ببقاء مملكة علت
لا تسمع الطارات في غرفاتها
فالملك مبتهج وآل محمد
وكأنني ببراش ملك أميره
هنيتها من أوبة ميمونة
لا زلت للإسلام بدر خلافة
... تحت الشموس تقلها الكثبان
من سحرها رؤيت لها أجفان
تغرا بعذل العاذل الولهان
لملاحة البيض الدمى ميدان
والربح من دنياهم خسران
أجلاوأشراف من نمت عدنان[70ب-أ]
هو للمكارم والعلى عنوان
من فضله في كفه برهان
يسطاع في إعجازها جحدان
ختمت لنص بأحمد القرآن
خير الأنام اختاره الرحمن
إلا بطاعته ولا كتمان
والصافنات الجرد والمران
خضع الملوك وذلت الأقران
من بأسه تاهت به الغيضان
يسلم له قصر ولا إيوان
من أحمد فطفا به الطوفان
فتشابه الصحراء والعمران
فتح تدين لقهره البلدان
للحق في أثنائه سلطان
من كل مجد فخره أفنان
كانوا كأنهم بها ما كانوا
فله ملائكة السماء أعوان
شرفاً بها وعلت لها أركان
أبداً وإلا العيدان والألحان
والعلم والإسلام والفرقان
كف الأنام يقوده الإذعان
يدنو لأدنا مجدها كيوان
لا يعتري تكميله نقصان
وقال بعض الشعراء في معنى ذلك ويحذر الإمام من كيد العدو ويذكر مكر أسد الدين وغدره:
عجباً رأيت من الزمان عجاباً
ورميت أبعد شأو من طلب العلا
هيهات من رام المعالي والعلا
أعلى الورى شرفاً وأكرمهم يدا
والله لولا أن يسفهني الورى
أمفندي إن قلت فيه مقالة
أوقلت ورداً ضيغماً فرشت له[71أ-أ]
يا ماضي العزم الذي لولاه ما
هذا أوان النصر مد رواقه
أتراك تجتذب الملوك فمن عتى
ما أبرم الأضداد منك مكيدة
أين الذين تجبروا وتمردوا
وتوهموا وهماً وحاكوا منهم
لولا تحننك الذي سعدوا به
لا تلدغن فقد رأيت تجارباً
هذي نصيحة حازم لمن لم يلفه
قد أذعنت صنعاء إنك ربها
ولى الغويدر هارباً عنها وقد
نطح الهضاب السم غدراً فانثنى
جازاه ربك حين فرق شمله
طوبى لأرض أنت تمشي فوقها
انهض إلى قطر العراق فطالما
وادع الجياد فإنهن صوافن
خيل ذو حسن هجر فرسان الوغى
شوس العيون إذا جرين بحلبة
متبجرات في الموارق فوقها
أنت الإمام إذا ذكرت وإنما
لو كان كفك يمسح الأنواء ما
أو كان بأسك للورى ألفيتهم
والله ما أحصي مناقبك التي ... وبلوت من أبنائه أصحابا
فوجدت طرقا قبل ذاك صعابا
بعناد أحمد ما أصاب صوابا
وأعزهم في منصبيه لبابا
في مدحه لأجاوز الإسهابا
أو قسته بحرا يعب عبابا
الورد الخدود وكن قبل غضابا
مدت لهيبته الملوك رقابا
ودعوت ربك مخلصاً فأجابا
منهم صببت عليه منك عذابا
إلا فتحت من السعادة بابا
سحراً ببابل كذبو كذابا
غدراً وحزب بعضهم أحزابا
كانوا لسلاك السبيل نهابا
وقرعت من سن التجارة نابا
متلعياً يوماً ولا مرتابا
بعداً لمن كانوا لها أربابا
ذاق الهوان وفارق الأحبابا
شرفاً يساورنا فعاد مصابا
شيباً أذاقهم النوى وشبابا
ولبلدة كانت إليك مآبا
لبث العبيد بقطرها أحقابا
من كل منجرد يخال عقابا
من غير أن يوموا لهن خطابا
فكأنها ريح تسوق سحابا
أسد تصرف في الغبار شهابا
أعني الجواد الفارس الوهابا
أبداً رأيت على الحزون سرابا
يستحقرون الضيغم الوثابا
لا يستطيع لها الأنام حسابا
اتصل الحديث بوقوف الإمام عليه السلام في بيت بوس.
قال الراوي: وكان أمير المؤمنين عليه السلام قد صدر الأمير الكبير المقدم أسد الدين محمد بن سليمان بن موسى يلزم مرصداً في بلاد سنحان خوفاً من مرور أسد الدين على خفية وهو موضع يسمى حصن الزيلة بأعلى وادي يكلا وأمر الفقيه الفاضل التقي المجاهد حسام الدين أحمد بن يحيى الزيدي الصعدي إلى موضع آخر في بلاد سنحان، فاجتمع إليه سنحان بأسرهم وكان المتولي لبلدهم والناظر في مصالحهم عن أمير المؤمنين وكان حسن السيرة شديد العزيمة على أعداء الله تعالى لا تأخذه في الله لومة لائم فحط في موضع يسمى سيان من بلاد سنحان واجتمع إليه قبائل سنحان بأسرها وشيوخها وكانوا عدة منهم جعدان بن وهب وأسعد بن سعيد وبشير بن صبرة وابن الدريحل وعدة من الشيوخ غاب [71ب-أ] عني حفظ أسمائهم مع الفقيه المذكور مظهرون للمحبة ومبطنون للنفاق بعد أن أخذ عليهم الفقيه العهود وأنصفهم وقربهم وأحسن إليهم وأمير المؤمنين عليه السلام في خلال ذلك يتابع إليه الكتب ويحذره من مكر القوم وغدرهم فحسن الفقيه بهم الظن وهم في خلال ذلك أسرارهم عند أسد الدين وقد ولج في موضع يسمى شعب الجن شرقي براش لا يتمكن من الخروج عنه فانصرم الأمر بينه وبين مشائخ سنحان المذكورين سراً وبذل لهم أسد الدين شيئاً من المال ووعدهم ومناهم بأشياء كثيرة فاجتمعوا على قتل الفقيه الفاضل غدراً والخلاف مع أسد الدين والقبض على والي الحصن المعروف بالكميم؛ إذ كان من حصون أمير المؤمنين وهو حصن عظيم الشأن متوسط في البلاد مشرف على الأقطار وكان الوالي يعقوب بن سنقر رجل من مولدة الغز مخلصاً ناهضاً محباً لأميرالمؤمنين ذو نباهة وحسن تدبير وكانت له خبرة بالحصن فولاه أمير المؤمنين الحصن لما عرف من صدقه.
(قصة مكر سنحان وغدرهم وقتل الفقيه حسام الدين أحمد بن يحيى رحمة الله عليه)
قال الراوي: قد ذكرنا محطة الفقيه في سيان في عسكر عظيم وما كان من مشاورتهم لأسد الدين ثم أن شيوخ سنحان سألوا الفقيه أن يبرز لهم المشورة بزعمهم فخرج إلى سفح الجبل شامي قرية سيان قبره معروف هنالك غير بعيد من القوم فلما برزوا للمشورة برز عدو الله جعدان بن وهب وولدا أسعد بن سعيد وغيرهما من سنحان، فقتلوا الفقيه غدراً، ومكراً وظلماً، وعدواناً، والفقيه في خلال ذلك يكبر ويذكر الله سبحانه، لما قتلوه قبضوا غلاماً كان معه وكان ذلك بكرة يوم الخميس لست ليالٍ خلون من شهر جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وستمائة سنة وانتهبوا أصحابه وقبضوا على يعقوب بن سنقر والي الكميم واجتمعت سنحان ونهضوا من حينهم قاصدين الكميم فلما وصلوا إلى تحت الحصن وعلم أهل الحصن بالقصة جمعهم رجل استخلفه الوالي فاستحلفهم للإمام وشددهم وثبت أمورهم وأجمعوا أنهم لا يسلمون الحصن لأحد إلا بأمر الإمام عليه السلام ولو قتل الوالي أو فعل ما فعل، فلما رأت سنحان أنه لا طاقة لهم بأخذ الحصن ولو قتل الوالي عمدوا إلى رجل من أهل الكميم يقال له: أسعد بن قطران النقيب من زبيد فأبرزوه في حلقتهم ورجموه بالأحجار حتى قتلوه وكان لهم رهائن عدة في الكميم فجرى الخطاب على إخراج الرهائن واستخراج الوالي يعقوب بن سنقر منهم فكان الأمر كذلك ولم يلبث الأمير المقدم المقدام زعيم الجيوش المهدية أبو عبد الله محمد بن سليمان بن موسى أن غار من جهة بلاد عنس وقد كان تقدم إليها في سرية من أهل البأس والشدة منهم الأمير المجاهد حمزة بن علي بن حمزة من آل يحيى بن حمزة فلما وصل إلى غربي الحصن انهزم سنحان من محطتهم ووقع القتال فقتل من سنحان رجلان وعادوا خائبين والحمد لله رب العالمين، فلما طلع الأمير محمد بن سليمان تقررت [72أ-أ] قلوب أهل الحصن وثبتت أمورهم.
(قصة نهوض أسد الدين من شعب الجن في سفح براش)
قال الراوي: ولما كان من سنحان ما ذكرنا من الغدر بالفقيه أحمد بن يحيى وبلغ العلم إلى أسد الدين نهض من ساعته معداً لعله يظفر بالكميم فأمسى في سيان ثم نهض فحط في العمري على شاطئ النهر المشهور غربي الكميم وأخلف الله تعالى ظنه وأجزع حده وكان معه داود بن الإمام المنصور بالله عليه السلام متمادياً في الضلال ولم يلبث أن نهض وخذل سنحان وغيرهم وقد كان مناهم أن يقف في بلادهم ويحارب الإمام من هنالك فعمل معهم شثنته المشهورة في المكر، والغدر والدعمة، ونهض متوجهاً إلى جهران وذمار فلما علم به الكرد الذين كانوا بذمار خالفوا ونكثوا بيعة أمير المؤمنين بعد أن كانوا قد وصلوا إلى أمير المؤمنين إلى محطة بيت بوس وبايعوه وتقدموا إلى ذمار بأمره فلم يلبثو أن نكثوا بيعتهم ونكصوا على أعقابهم.
رجع الحديث إلى ذكر محطة أمير المؤمنين في بيت بوس .
(قصة نهوضه عليه السلام بعد نهوض أسد الدين وما كان من سنحان)
لم يلبث أمير المؤمنين بعد ذلك إلا ريثما وصل إليه ابن عمه الأمير المقدم الزعيم علم الدين أحمد بن القاسم لما علم أن الإمام في ساعة متعسرة ومحاط متقابلة ونفقات كثيرة وانقطاع من الناس وكان إليه أمر أهل الجهات المغربية من الشرفين إلى حجة والمخلافة ولاعة وجبل تيس وغيرها وحشد عسكراً كثيفاً وسار بين أظهرهم وكان وصوله يوم الجمعة سابع جمادى الأخرى سنة تسع وأربعين وستمائة سنة ولقيه أمير المؤمنين إلى الهضب غربي جبل حدين في عسكر وصلى أمير المؤمنين الجمعة هنالك واجتمع ذلك اليوم من العساكر ما لايصدق به إلا من رآه، فلما وصل الناس المحطة أقبلت القبائل قبيلة قبيلة بالبر والنذر إلى أمير المؤمنين بمال وافر حتى اجتمع مال كثير، ووصل الأمير المذكور إلى أمير المؤمنين بمال وافر واشتدت قلوب المسلمين وسقط ما في يد أعداء الله تعالى وأقام أمير المؤمنين إلى بكرة ثاني ذلك اليوم وهو يوم السبت الثامن من جمادى الأخرى المذكورة أمر بالنهوض إلى حافد فلما استقرت المحطة لم يلبث عليه السلام أن أمر بسرية لقوم من آل عابس من حلفاء جعدان وقدم منهم ابن عمه الأمير علم الدين أحمد بن القاسم بن جعفر وهو ذو بأس وشدة وكانت الخيل التي في السرية قريباً من خمسين فارساً والرجل قريب من ألف مقاتل وهذه الخيل من الشرف وأجواد العرب.
قال السيد الأمير شرف الدين رضي الله عنه: وكنت في هذه السرية فخرج الأمير مقدم الذكر عند منتصف الليل فيمن معه فوافوا القوم بعد طلوع الفجر في موضع يسمى ثوالب فقصدوهم المجاهدون وقد كان تقدم إليهم نذير فطاروا إلى قمم الجبال وبقى منهم جماعة فأحاط الأمير والمجاهدون بهم في دروبهم فقتل منهم جماعة دون العشرة فاحتزت رؤوسهم وغنم المجاهدون منهم غنيمة كبيرة [72ب-أ] من الخيل والغنم والبقر والثياب والآلة وغير ذلك.
أخبرني بعض من له خبرة بالقوم أن الذي أخذ عليهم مقدار عشرة آلاف دينار من الدنانير الملكية وعاد الأمير علم الدين ومن معه سالمين غانمين ظافرين واستقبلهم أمير المؤمنين شاكراً ومثنياً عليهم فالحمد لله رب العالمين.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: سألت أمير المؤمنين عليه السلام عن حكم القوم قبل أن يغزوهم فقال: هم كفار بلا خلاف لموالاتهم الغز الباطنية ويجوز قتلهم؛ لأنهم بغاة على إمام الحق ومحارببين له.
قال عليه السلام: ويجوز قتلهم لكونهم مجتمعين على قتل الفقيه الفاضل أحمد بن يحيى ظلماً وعدواناً وأقام أمير المؤمنين عليه السلام ليالي ونهض إلى دلاج من بلاد سنحان بلاد بشير بن صبرة وهي بلد جليلة القدر مشهورة لذلك فرعى الناس زرائعها وأخربوا منازلها وكان الناس في رخاء واتساع فأقام أمير المؤمنين إلى هنالك أياماً قرائب وأقبل إليه المشرق والنواحي تلك بالبر والنذر والتبرك به ومقابلته ثم نهض عليه السلام فحط في موضع يسمى العمري على شاطئ النهر المعروف بسد الكميم وهو موضع يطلع فيه الماء في وقت فصل الشتاء فيطمي على ضيعة واسعة في تلك الأرض مقدار نصف ميل أو يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً. والله أعلم.
ثم يأخذ في النقصان قليلاً قليلاً حتى لا يبقى منه إلا القليل قريباً من حصن الكميم فيزرع تلك الأرض وهو على هذا المثال ولهم فيه دلائل على جودة السنة وضعفها.
رجع الحديث
ولم يلبث أمير المؤمنين عليه السلام أن طاف الحصن حصن الكميم.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: كنت فيمن طلع مع أمير المؤمنين لطيافة الحصن فرأيت جبلاً عادياً مثلثاً من الجبال متسع القلة لعل قلتة تزيد على علوتين للرامي. والله أعلم.
وفيه عمارة أكيدة وخصوصاً في دوايره مناهله وعمارته هذه من عمارة المتأخرين وهو على الجملة عجيب في تلك الناحية فأقام أمير المؤمنين عليه السلام في الحصن ليلة واحدة يتفقد أموره وإصلاح شأنه وقد كان قبل ذلك ركب في الغارة إلى قاع جهران ثم أخذ دون سفل آل عابس عاد من طريق أخرى فاشتدت قلوب الناس عند ذلك وضاقت على أسد الدين مذاهبه وعلم أنه لا طاقة له بحرب أمير المؤمنين الإمام عليه السلام.
(قصة الآية المشهورة في صخرة العمري)
قال السيد شرف الدين يحيى بن القاسم رضي الله عنه: إن الناس قد أكثروا في ذلك وتكلموا بضروب من الكلام، وليس كلهم صدق فيما تكلم به والذي أعرفه أني سألت أمير المؤمنين عليه السلام عن ذلك فأخبرني بما أذكره أخرى والقصة في ذلك أنه كان بعض الليالي وسمعنا هدة عظيمة في الليل ونحن في محطة العمري فمن الناس من ظنها رجفة؛ إذ لم يكن في ذلك الوقت فيه مطر ولا شيء مما يدل على ذلك فلما كان من الغد تحدث الناس بأن الصخرة المعروفة وهي الصخرة التي كان [73أ-أ] حي الفقيه الشهيد أحمد بن يحيى الزيدي ثم الصعدي يجمع سنحان عندها لكونها ذات كهوف، وظلال، وراحة في أيام الصيف.
وقد أخبرني غير واحد ممن أثق به أنه كان إذا جمعهم أكد عليهم المواثيق والأيمان لأمير المؤمنين فلما كان في تلك الأيام بعد قتله بمدة وهي دون الشهر لا أحفظ عدة أيامها تحدث الناس بذلك وأكثروا سار الإمام في تلك الأيام لينظر إلى هذه العجيبة وسار معلق خلق كثير من الناس.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: وكان بينها وبين المحطة مقدار ميل أو يزيد عليه. والله أعلم.
فلما وصلنا إليها رأينا عجيبة لا يبلغها الوصف وهو أن هذه الحجر تفلقت شعوباً كأنما هي حجر النورة إذا رشت بالماء ولعل مساحة هذه الحجر مائة ذراع. والله أعلم.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه : سألت الإمام عليه السلام ما الذي يروى عنه في ذلك؟ فقال: إني لا أتحقق إلا أن رجلاً من العسكر لما أشرفنا على وادي على وادي العمري وقابلنا تلك الحجر، قال: يا أمير المؤمنين هذه الحجر التي كان الفقيه: أحمد بن يحيى يجمع إليها سنحان ويحلفهم تحتها فقلت له كلاماً فيه معنى الدعاء وقد أنسيته، ثم روى الناس عن الإمام عليه السلام أنه دعا على سنحان وعلى الحجر فكان ما كان من أمر الله تعالى.
ومما قيل في ذلك من الأشعار ما قاله الأمير السيد العلامة شرف الدين يحيى بن القاسم رضي الله عنه ذكر فيها براش وذكر طرفاً من فضائل أمير المؤمنين منها قوله:
أومى إلى هضب الكميم بطرفه
وجرت على التنيين منه أنامل ... فتبددت أحجاره تبديدا
فمضى يحاكي ذابلاً أملودا
وهي تأتي مستوفاة في موضوعها من السيرة النبوية المهدية إن شاء الله تعالى ومن ذلك قول القاضي اللسان ركن الدين: مسعود بن عمرو العنسي رحمه الله في قصيدة ميمية يذكر هذه الفضيلة وغيرها، وقد تقدم ذكر بعضها في أول السيرة المهدية سلام الله على صاحبها ورحمته وبركاته ومن ذلك ما قاله الفقيه العلامة الأوحد حسام الدين عيسى بن جابر على لسان ولد له صغير أصابه مرض وأقعده وطالت مدته فوصل إلى أمير المؤمنين يستشفي له فكان مما ذكره في القصيدة قوله:
ألمي لا يطاق مالي سوى الله
فادع لي الله دعوة تبلغ العـ
كم سقيم ومقعد عاد هذا
وعدو لما دعوت عليه
وإلى الآن قرب يكلا بسنحان
جبل بايعوا عليه وخانوا
معجزات كالشمس لم يعرها
آية بعد آية بعد آي
أنت يا ابن الحسين في الخطب
فعليك الصلاة كل أوان ... إذا ما دعوته يشفيني
ـرش سريعاً كدعوة التنيين
ذا شفاء وذا كبعض الغصون
قصدته الأحباب بالسكين
على مهيع بها مستبين
فتدا عى وانقض رأي العيون[73ب-أ]
اللبس ولم تفتقر إلى تبيين
لإمام بكل فضل قمين
والجدب طلق اليمين طلق الجبين
وسلام الإله في كل حين
وأقام أمير المؤمنين في تلك المحطة وأقبلت اليه القبائل من المشرق وتلك النواحي وأقبل إليه أهل صميم ومن ينضاف اليهم من مشارق بلادهم يقدمهم الفقيه الطاهر محيي الدين داعي أمير المؤمنين المعلا بن عبد الله وقد كان أذن له أمير المؤمنين في التقدم إلى قومه والتفقد لأمورهم فلما وصل اليهم استروا بوصوله وأصلح شأنهم وتقدم فيهم إلى أمير المؤمنين فسلموا عليه وأعطوه شيئاً من البر والنذور وفي خلال ذلك توسط المتوسطون فيما بين الإمام وبين سنحان .
(قصة صلح سنحان وتوسط المتوسطون بين الإمام وبين سنحان في أن يصفح عنهم ويعفو عن مسيئهم)
إلا من قتل الفقيه بيده فإنهم يبرؤون منه و ويجعلونه لهم عدواً ويرمونه عن قوس واحدة فتباعد الإمام عن ذلك فلم يزل به كبار العرب والشرف يلوذون به ويلحون، فساعدهم على شروط:
منها: تسليم ثمانين ألف درهم، وفي بعض النسخ ألف دينار وهو الصحيح ونيفاً على ذلك ومحاربة جعدان بن وهب وأسعد بن سعيد ونفيهم من البلاد وكذلك جميع القتالة.
ومنها: تسليم رهائن معينة منها ولد نشير بن صبرة وهو من كبار سنحان وولده وهذا أخ لعلي بن راشد بن الهرش، وضمن للإمام بذلك وتولى قبض المال المعين من قومه، وأقام أمير المؤمنين هنالك وجهز الأمير المقدم أسد الدين محمد بن سليمان بن موسى إلى الجهات الذمارية في خيل وافرة قريباً من ثمانين فارساً، وكان أخوه الأمير المعظم فخر الدين عبد الله بن سليمان في تلك الحهات الذمارية، فلما وصل اليه أخوه الأمير المعظم فخر الدين عبد الله بن سليمان تقدم إلى أمير المؤمنين بنفسه للسلام عليه ولاسترسامه في البلاد، فلما وصل لقيه أمير المؤمنين وأنصفه وأحسن اليه وأمره بالعود إلى مثاغرة القوم.
ومما قيل في ذلك من الأشعار ما قاله الشريف يعقوب بن محمد بن جعفر من آل القاسم بن علي عليه السلام قصيدة يذكر فيها غدر جعدان بن وهب وسنحان ويمدح أمير المؤمنين، ويثني على الأمير علم الدين أحمد بن القاسم بن جعفر بعد غزاة توالب وهي هذه:
هكذا المجد واكتساب المعالي
وسعود غنتك في جملة الأرض
أي ثغر لم توطه الجرد والجند
منها:
غلبت شقوة الشقي ابن وهب
واعتراه الشيطان أرصد جهلاً
فبعثت الجيوش كالفرع المنسهل
ورجالاً من صيد قحطان كالأسد
فيهم المانع الحمي علم الدين حسام
سيفك القاطع الخطوب بحد
سار والنصر لم يزل في سرايا
وغدا ناكصاً على العقب جعدان
نال ما لم ينله بالغدر حتى
أترى يا جعدان مهدي عيسى
لا ومن شيد السماء وأعلى
أحمد بن الحسين مهدي عيسى
رب رام رماه عن قوس غدر
أيها الماجد الذي في محياه
قد رأوا من سطاك ما عرفوه
إن يعودوا فعد وإن يعرفو ا
فلكم غر حلمك الجم قوماً
أنت كالنار يا إمام لقوم
أنت كالشمس والملوك نجوم
أنت كالبحر إن تغطمط أفنى
ليس إلاك في الأقاليم ملك ... لا كما يدعيه بعض الرجال
عن الغزو والسرى والقتال
وترمي رعاله بالرعال[74أ-أ]
إن يكن منك في محل الجلال والتزاماً منه بحبل ا لضلال
بالجرد شزباً كالسعال
تسامى إلى هلاك الرجال
الجهاد سهم النضال
يه وفتاح منهم الإشكال
أحمد عن يمينه والشمال
وأهلوه في الثرى المنهال
آل في الأخسرين خسر مآل
يرتضى بالشهيد وزن القفال
رتب الحق بالفتى المفضال
ذي الأيادي الجسام جم النوال
رجعت في حشاه زرق النصال
غياث الورى وضوء الهلال
فارفع السيف إن كعبك عالي
الحق يكونوا الغداة فيمن يوالي
أو أبادتهم صروف الليالي
ولقوم كالبارد السلسال
يطمس الشهب ضوؤها المتلالي
أو سحى فالتقط نفيس اللؤالي
وبقايا الملوك ضرب مثال
ومن ذلك قول الأمير الفاضل المجاٍهد الحسيب قاسم بن جعفر من آل ذي الشريفين محمد بن جعفر القاسم بن علي عليهم السلام من قصيدة قالها وهي:
ستعلم قوم خالفوك وجانبوا
فما كلما جاءوا بذنب غفرته
لقد شقيت طراً بجعدان قومه
سطا سطوة عما قليل يروعه
تدرع فيها حلة العار واعتدى
فيا ويحه من ضارب سل سيفه
فلم يخش عاراً في الأنام وسطوة
فإن بعض سنحان الجميع عيونها
فجدد على الثارات منهم عزائماً
وقدها عتاقاً شزباً أعوجية
توا فيك بالمطلوب مهما بعثتها
عليهن من أبناء معد ويعرب
مساعير أبطال إذا ما دعوتهم
وشن على سنحان في بلدة
فما أنت إلا الليث دون فريسة
فلست ملوماً بعدها يابن أحمد
عليك سلام الله ما ذر شارق
... سبيل الهدى أن قد ظفرت وخابوا
ولا كلما خاضوا الجهالة تابوا
وحق عليها أن يحل عذاب
عليها لمولانا الإمام عقاب
على ليث غاب عز منه جناب
لترويع ضيف من قراه أصابوا
يكون لها مما جناه عتاب
وترضيه جاراً وهو فيك غراب
يسد بها باب ويفتح باب
وأخرى نماها لاحق وعراب[74ب-أ]
وقد جد في المحبوب منك طلاب
ضبارمة شدق اللهاء غضاب
لمكروهة يابن الحسين أجابوا
مغار لهم فيه ثوى وتباب
وكل فريق من عداك كلاب
وإن شرفت بالظن منك شعاب
وما شق جلباب الظلام شهاب
وقال القاضي الأجل يوسف بن علي اليامي يمدح بها أمير المؤمنين ويذكر سنحان وعدوها:
لما أجد ولج فيك العذل
لم أشك بعدك بالأحبة إنما
ما أبصرت عيناي بعدك منزلاً
كيف الغوير وكيف شبطا مقعد
وثقوا بدمعي للمنال بعدهم
ما أبصرت عيني المنازل بعدهم
استفرغ العبرات في عرصاتهم
قل للشبيبة إن ليل ظلامها
ورأيت إذ أبصرت قصدي جلبة
جبريل قائدها وسائق خيلها
ما عاينته الناس إلا قلت ذا
يستعظمون إذا رأوه كأنه
عالي المكان كأنما الشعراء له
خطب الخلافة يافعاً وبنى بها
دالت به للقاسمية دولة
لم تغمد الأسياف في أيامه
في كل يوم راية معقودة
ما مر يوم ليس فيه بقائد
وكأنما الرايات فوق مقامه
ما سار إلا سار تحت لوائه
والنقع غيم والسيوف بوارق
والسمر تنقط خط ما كتب الوغى
هذا الذي ملأ القلوب وذا الذي
يستنزل الأملاك من أطماتها
شربت به سنحان كأساً مرة
جرت لأنفسها نكالاً باقياً
جرت جرائر لا يقوم لنقلها
صارت بغدرتها نكالاً للورى
عرت بصهر ابن الرسول وقربه
هيهات قد ضاقت فرائص خيله
حذيت جياد الخيل من هاماتهم
ألفا له صنعاء وهي غريبة
إنا نؤمل نصره من بعدها
قل للملوك لقد رميت بصيلم
منيت بأروع طالبي همه
أفلت بطلعته الملوك كأنه
هذا ابن فاطمة الذي أوفا به
ذا ابن النبي وابن الوصي وذا الذي هذا بن فاطمة البتول وذا الذي
هذا الذي ثبتت له آياته ... قلت الحبيب هو الحبيب الأول
يسل الذي ينساك أو يتبدل
إلا تنكر في عياني المنزل
بعد الذين عهدتهم وترحلوا
فالدمع بعدك وابل متهلل
إلا وزلزل من زفيري زلزل
وجدا ويسجر في فؤادي المرجل
جلاه من فلق الصباح محيعل
غضب الملوك قالها تترجل
وابن الحسين قوادها المتأمل
الركن اليماني فموضع أو مرمل
ملك تحوله الملوك وتحجل
نعل تجل مقامه وتبجل
جدعاً وناء كما ينؤ البزل
غراء حاولها الغلام الحول
أبداً ولا خمد الوقود المشعل
حمراً يقدمها اللواء الأطول
جيشاً إلى جيش يعل وينهل
مثل النسور وجل ذاك الهيكل
جيشان منصرف وجيش مقبل
والبيض أنجم والسماء القصطل
والبيض تعرب ما يخط ويشكل
ملأ الزمان وذا الأحق الأول[57أ-أ]
حتى لقد فلق السماك الأعزل
في الدهر أطيب جرعتيها الحنظل
في الناس ما بقي الصبا والشمأل
ركنا شمام وذا المجاز ويذبل
في الدهر يضرب غدرها ويمثل
وابن الرسول أذلة والمرسل
من زأرة الأسد الذي لا يجهل
وغذا السباع وعاش فيها الأجدل
والأسد تجليها الأسود فترحل
ملك تقاصر شأوه المتطول
من سورة الملك الذي لا يغفل
كسع الملوك مجالد لا ينكل
شمس بطلعتها الكواكب تأفل
في كل ملحمة حديث ينقل
توفي يداه بما يقول ويفعل
من آل حيدرة الرضى المتبتل
والله يثبت ما يشاء ويبطل
رجع الحديث
وأقام أمير المؤمنين عليه السلام في محطة العمري إلى يوم الإثنين السابع من شهر الله الأصب رجب سنة سبع وأربعين وستمائة سنة ونهض حتى حط في خدار وجعل مقامه في القلعة والمحطة في المغربة شرقي القلعة ومن هنالك تفرق الناس وأمر الإمام عليه السلام بخراب بلاد جعدان واستئصال شأفته وكان جعدان بن وهب متمنعاً في قلعة تسمى الريشة في مغارب صنعاء فأخربت بلاده وضاقت عليه الأرض بما رحبت فأقام أمير المؤمنين في خدار فلما أتم أشهر أمر أصحابه أن يتموا الصلاة وليعلم العدو أنه عليه السلام مقيماً في أثره منتظراً للوثبة عليه عند أن تتحقق الفرصة.
ومما قيل في أيام خدار من الشعر من ذلك قول الأمير الكبير عز الدين محمد بن أحمد بن المنصور بالله عليه السلام قصيدة يمدح فيها الإمام ويثني عليه ويستعطفه ويشكو جفوة رآها وقصوراً عن منزلة كان يستحقها وأغراضاً في نفسه ذكرها وهي هذه:
حي الطلول ومن بها من حاضر
درست وغيرها الزمان فأصبحت
مابين لميس والورود معاهد
دمن جررت بهن أذيال الهوى
فسقى ثراها غير مفسد أرضها
من كل داني المزن هطال الحيا
مستحفز كالحب كان ربابه
ولقد أراها والحديد إلى بلى
في حيث لا ترميك مقلة أحور
كم قد عهدت بهن من خرعوبة
من كل فاترة اللحاظ كأنها
ريا الروادف لين أعطافها
يا أيها المترحلون تحملوا
يشفي العليل وإن تقادم عهدكم
مالي أقيم على التهاون مغضباً
وإذا شددت ففوق كل مطهم
والأرض ذات العرض لي مستوطن
تحتال لي نسل الوجيه ولاحق
وإلى الإمام بن الحسين بعثتها
وهاب كل طمرة ملبوبة
الطيب بن الطيبين أرومة
ملك إذا ذكر الملوك فعنده
يغشى الأمور إذا تعاظم خطبها
يجلي بضرته الظلام ويستقى
ويناط أمر المسلمين بقائم
ماذا نقول لمن علمنا أنه
إنا رأينا فيك سر نبوءة
فإذا سمحت فمن غمام ماطر
ونقل إن قلنا خليح مفعم
كم حاول الضلال مجدك وانثنوا
ورنت عيون الحاسدين فأصبحت
نور من الرحمن لا يغتاله
وإذا تعاظمت الأمور وأرهقت
قشعت ظلمتها بفكرة حازم
بعزائم دانت لها بيض الظبا
من معشر بيض الوجوه غطارف
يتوارثون المجد عن آبائهم
ينمون مجدهم إلى عادية
وبفاطم وبحيدر وبحمزة
قوم لهم بطحاء مكة والصفاء
يا أيها المهدي يامن قدحه
مالي غرست وغيري يجتني
بيني وبينك حرمة لم أنسها
مشفوعة لقرابة وصهارة
جربت في الحالين حالي فاغتدى
قد كنت أرجو أن أكون مقدماً
وصبرت في ضيق الأمور وعسرها
فالآن قد أزمعت أن بطئ الوحي
أو شطبة جرداء أبرز لحمها
حتى أنيخ على الزمان بكلكل
إن سرت في الآفاق سير مخاطر
ماضر بدر التم سرعة سيره
مع أنني إن غبت عنك فإن لي
... إن السلام أقل فرض الزائر
كالرق أو كحلال جفن داثر
تغنيك عن ذكر العقيق وحاجر
مرحاً وريعان الشباب الناضر
صوب الربيع وكل دجن ماطر[75ب-أ]
زجل الرواعد رائح أو باكر
كوم الهجان صغت لهدر الهادر
لهو الحديث بها وأنس السامر
إلا إذا شفعت بطعنة ثائر
بيضاء كالقمر المنير الباهر
ريم أحست بنأوة من زائر
يضني الحليم بسحر طرف فاتر
منا السلام لمنجد من غائر
زور الخيال لنا وذكر الذاكر
مستنقصاً قدري بحظ قاصر
وإذا ارتحلت ففوق كل غذافري
والناس في كل البلاد معاشر
وتخب بي نسل الحديد أو داعري
ملء الجنان لسامع ولآثر
قماع صولة كل خب فاجر
ومبيد حرب الطيب بن الآمر
غوث اللهيف وذلة المتصاغر
بروادي حبك وغشم مخاطر
ماء الغمام بجوده المتواتر
لله مرهوب الصنالة قادر
بعدي على صرف الزمان الجاير
شهد العيان لها بأمر باهر
وإذا نطقت فمن عباب زاخر
أو إن نشبه بالهزبر الخادر
ببوار مسعاة وأوبة خاسر
مقهورة ترنو بطرف حاسر
بغي البغاة ولا جحود الكافر
ببواطن مجهولة وظواهر
وجلوتها بموارد ومصادر
وسطت على غاب القنا المتشاجر
شم الأنوف مساعر لمساعر
والمجد يورث كابر عن كابر
عيطاء تسمو بالنبي الحاشر[76أ-أ]
والسيدين وجعفر والباقر
لهم وفرقان الحليم القاهر
في الفضل والمعروف قدح القاهر
هل يجتني الثمرات غير الآبر
والفضل أفضل قربة وأواصر
ومناسب ومعارف وعناصر
يابن الهداة بغير حظ وافر
فرجعت عندك آخر للآخر
فحرمت منك جزاء فعل الصابر
في كل مائرة اليدين عذافر
أو هيكل نهدا المراكل ضامر
صعب مراقيه عزيز الناصري
فالفضل يوجد في الكلام الساير
كلا ولا سير المطية ضايري
محض الولا ولي لسان الشاكر
تمت عدة أبياتها 53 بيتاً.
رجع الحديث
فلما رأى أسد الدين أن أمير المؤمنين عليه السلام غير متزحزح من البلاد علم أن لا طاقة له ولا قدرة فنهض قاصدا لرداع وفيها القلعة المشهورة فأتاهم على حين غفلة فاستظهر عليهم وخرج منها المجاهدون سالمين والحمد لله رب العالمين، ولم يلبث أسد الدين أن نهض من رداع قاصداً إلى ذمار فوقف فيها أياماً ثم نهض إلى حصن من جهة المشرق فقال الفقيه الفاضل علي بن يحيى الفضلي أبياتاً هذه نسختها:
غليت ومن أرسى ثبيرا مكانه
وطوقت أعناق الأنام صنائعاً
فشكراً بما أوليتنا من صنيعة
ولا زلت في ملك عتيد ونعمة
مقامك في شطي جدار غيماً
وولى فراراً منك جهراً محمد
وخاف ولما يلقه الحتف فانثنى
تقلب قلباً ذا قروح معذباً
فعد سالما في الحال عودة ظافر
فقد وضحت للناس فيك دلائل
وصدق منك القول فعلك ظاهرا
ودم يا أمير المؤمنين مسعداً ... على الأمر فاستعلى بك النهي والأمر
لها وبها يا ابن الأولى وجب الشكر
عليك سلام الله ما طلع الفجر
ولا زال مقروناً بدولتك النصر
لآية أمر بعد أن كشف الخدر
ولم يحمه بتر هناك ولا سمر
وقد مسه من أجل خيفتك الذعر
وترنوا بطرف ماله أبداً شفر
فلم يبق للأعداء ناب ولا ظفر
وضاءت بما تدعو به الأنجم الزهر
أبا حسن قد يصدق الخبر الخبر
تدوم بك الدنيا ويزهو بك العصر [76ب-أ]
فأجابه بعض شعراء أمير المؤمنين بقوله بما هذه نسخته:
ألم تر أن الأمر يحدث بعده
صبرنا على ربعي خدار ولم يكن
وإن كان قل الوفر فينا فإننا
ولو سار عنها جيش جعدان لم يكن
إذا عارض موفور الخزائن لم يكن وسوف نفيد الصبر نصر وعسرها ... أبا حسن في كل آونة أمر
يليق بنا إلا الإقامة والصبر
سنرحل والأعراض محروسة وفر
ليسلم نقصاً أو يلم به ذعر
يعيض على المعشور نظم ولا نثر
سيعقبه من بعد شدته اليسر
...
وبعد: فإن الأناة في مثلها تسأله والإنزعاج يورث قبح مقاله ونقرر على الفشل آكد دلالة في مثل هذه الحالة:
د يدرك المتأني بعض حاجته
?
?
وقد يكون مع المستعجل الزلل
فلما علم أمير المؤمنين بصدور أسد الدين نهض قافلاً من خدار إلى الجهات الصنعانية فنهض من خدار في شهر شعبان إلى السنة المذكورة فحط في حيرة من بلاد آل علي قوم من سنحان عند شيخهم عصم ثم اليوم الثاني حط في سيان فأقام به ليلة ونهض ثاني ذلك اليوم فمر على قبر الفقيه الشهيد أحمد بن يحيى وزاره ودعا له، ولما علم من كان في صنعاء من الأمراء بقفول أمير المؤمنين خرجوا في لقائه إلى بعض الطريق يقدمهم الأمير الكبير المتوكل على اللَّه أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام وقد كان أمير المؤمنين لما وصل إليه ذمرمر إلى سناع في أيام الحرب لم ير أمير المؤمنين إلا الصفح عنه والعفو الذي هو شيمته وأمره بالوقوف في صنعاء لأمر رآه صواباً. ... ... ...
رجع الحديث إلى ذكر طرف من طلوع الأمير عبدالله بن حسن بن حمزة ومن معه من الحمزيين اللذين نزلو إلى السلطان للإنتصار على حرب الإمام عليه السلام
لما انصرم الصلح بين الإمام وبين السلطان المظفر صاروا في اليمن يهيمون مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فعند ذلك تضرعوا بالمظفر أن يشفع لهم إلى الإمام على أرواحهم والرجوع إلى أهليهم ويرضون بذلك فطلعوا من اليمن على حال ضعيف فأمرهم أمير المؤمنين بالقفول إلى أهليهم بعضهم في المحامل مرضى لا يستطيعون حراكاً.
رجع الحديث إلى
(قصة دخول أمير المؤمنين صنعاء منصرفه من محطة خدار ونقم الثأر من سنحان)
وكان نهوضه عليه السلام من سيان إلى صنعاء يوم الإثنين العشرين من شهر شعبان سنة تسع وأربعين وستمائة سنة.
قال السيد شرف الدين يحيى بن القاسم رضي الله عنه: لما نهض أمير المؤمنين من سيان وذلك عند طلوع الشمس ومر بسد سيان المشهور عند مضي ثلاث ساعات من النهار إلى نحو ذلك انقض نجم عظيم من السماء حتى وقع في شاطئ السد رآه عدة من الصلحاء يهوي في الجو كأنه الدرع المخلوة فعجب الناس من ذلك فلما صار أمير المؤمنين قريباً من صنعاء خرج من كان في صنعاء [77أ-أ] من أهلها للبركة بمشاهدة أمير المؤمنين حتى ضاقت تلك الناحية بالناس فدخل عليه السلام من باب اليمن وكان معه من الخيل يومئذٍ قريباً من ثلاثمائة فارس لتفرق الناس في الثغور فأقام أمير المؤمنين عليه السلام إلى آخر نهار الخميس وطلع إلى هجرة سناع فطاف على أهله وأقام ليلته تلك وكان من الغد وهو يوم الجمعة ونهض قافلاً إلى صنعاء فلقيه الناس أرسالاً إلى خارج المدينة فدخل من باب اليمن وقصد المسجد الجامع لصلاة الجمعة فلما دخل المسجد صلى ركعتين وصعد المنبر وخطب بالناس خطبتين يتضمنان الوعد والتذكير وفضل الجهاد وصلى بهم الجمعة وانصرف إلى الدار السلطانية بصنعاء فأقام فيها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وينفذ الأحكام الشرعية ويقتفي سيرة جده صلى الله عليه وآله والناس تأتي إليه أرسالاً من مشارق النواحي ومغاربها فالحمد لله رب العالمين.
ومما قيل في تلك الأيام من الأشعار من ذلك قول الفقيه الحافظ أبو العسكر بدر الدين بن المبارك السبأي المأربي وكان قد طاف الآفاق وأخذ العلم عن علماء الإسلام من الشافعية والحنفية وغيرهم وكان شافعياً عدلياً يمدح الإمام عليه السلام ويثني عليه ويذكر فضائله ويذكر عنايته في أيام الدعوة الشريفة بصنعاء وبما يعرفه من ذكره من طريق الملاحم قال:
لم تر أن الدهر للناس لائم
فلست أذم الدهر يوماً وإن جفا
به يقتدي في المشكلات ويهتدي
هو الغيث والخصب المنيع ومعقل
أتتنا به الأنباء عن سيد الورى
وعن حيدر يروي مقالة صادق
يقول إذا ما جاشت الترك فانتظر
ودكدكت الأركان من آل هاشم
يقول إمام الحق يا قوم منكم
سمي رسول الله نفسي له الغدا
وقد كان ما قال الوصي وما حكى
وتلك علامات القيامة والتي
وإني لمشغوف به وقيامه
فلما عرفت الحق شمرت داعياً
صدعت بها جهراً بصنعاء ضحوة
وكنت بربي واثقاً متوكلاً
أحض على نصر وأدعو إلى الهدى
ولما دعوت الناس نحوك للهدى
ولم ألق مكروهاً ولم ألق ضارعاً
وأشعرت مني النفس علماً بأنها
وكم آية مأثورة وكرامة
تسير بها الركبان شرقاً ومغربا
شفى مقعداً من بعد خمسين حجة
ولما دعاني الحق جئت مسارعا
وأخربت عمراني بعمران أمركم
فأصبحت كالطير المهيض جناحه
يعاتبني في ودكم من رجوته
فأضرب صفحاً عنه والكل عالم
وفي الله ما أبقاه والصبر عادتي
?
?
وآخر يثني راضياً غير لائم
وقد جاء بالمهدي من نسل فاطم
ويدعي لروع ومعضلات العظائم
يلوذ به المظلوم من كل ظالم
مدونة مسطورة في الملاحم
شقيق رسول الله سبط البراجم
ولاية مهدي قوي العزائم
وبويع في أملاكهم كل غاشم
وبالحق يأتي منكم خير قائم
وناصر دين الله من آل هاشم
ولم يمتنع منهم عراق الأعاجم
تدل على المهدي نافي المظالم
فطرفي له مستيقض غير نائم
ولم يهن التهديد مني عزائمي
بغير ذمام من علوج طماطم
مهيباً إلى طمس الخنا والمآثم
وأرغب عن مكر وإن قل عاصمي[77ب-أ]
حماني سيف الله عن كل ناقم
ولم يثن مني العزم في الحق واصم
فضائل من تلقاك ترع محارم
يدونها في كتبه كل عالم
ويروونها عند اجتماع المواسم
فبورك فيها من رقا وعزايم
وأيقنت أن النصر لاشك لازمي
ومن يؤثر الأخرى فليس بنادم
أحاول أن أغدو بغير قوائم
إذا ما اطلخم الأمر فيه مساهمي
وأغدو وذو الود القريب مصارمي
ورجواي من شكواي يقضي مغارمي
وقال الفقيه العالم السابق شرف الدين حسن بن البقاء التهامي في تلك الأيام بصنعاء:
قد طابت بدولتك الليالي
ودور الكافرين بأرض صنعاء
بعثت عليهم حرباً عوانا
فلا رجعو ولا كانت الليالي
إذ ذكروك في طيب الليالي
وقادو كل سهلبة جموحٍ
ترجيها الأساور عابسات
عليها كل مدرع كمي
فلا شكروا بحمد الله يوماً
إليك خليفة الإسلام حنت
تؤم آزال لولا أنت ذمت
نظمت عقودها وحليت جيداً
فها هي قبلة يسعى إليها
?
?
وحي بروحها العظم الرميم
تعفت من معالمها الرسوم
وهبتهم بها الريح العقيم
بها اهتظم الأرامل واليتيم
تلظت في صدورهم الجحيم
حموم الشد يفزعها الشكيم
يشن على سنابكها الحميم
فراحت من حوافرها الكلوم
أتوك به ولا افتخر الزعيم
قلائص قد يحونها الرسيم
وكان بسوحها العلج الذميم
لها قد كان عطلها الغشوم
إليك كأن تربتها الحطيم
ولبعض بني عمه يطلب منه حاجة واستنجد هذه الأبيات من بعض الشعراء فقال مادحاً له في ذلك الأوان ويذكر تسليم السلطان الملك المظفر لحصن حلب المحروس ومعرضاً لقضاء حاجته:
هر الملك واستقر القرار
ومد الملك سافراً ظاهر البشر
هذه الدولة التي وعد الناس
ذا الإمام المهدي والقايم الآخر
سلمت أمرها الملوك إليه
خضعت بالسجود أملاك مصر
رجعوا السلم بعد عاقبة النكث
حزبوا الشر لا أبا لهم اليوم
حاولوا الحية التي تنفث السم
سلموا المال والحصون وكانت
وحدوا للرحمن في كل ثغر
وشهاب فيها المسترق السمع
أي ثغر وليس فيها جياد
أي يوم ولم توقد الحرب نار
شمري يقتاد من شدة العزم
لا تذوق المنام إلا عغراراً
همة العلم والسياسة للملك
علوي كأن غرته البدر
طالبي يكاد من طلب الثأر
حسني بوجهه حسن الدهر
قاسمي في كفه يقسم الرزق
راسخ الأصل شامخ الفرع
نكر إلاك والصحيح إذ ما
وكأن الركن اليماني كفاه
وغياث عند الخطوب وغيث
وخضم إذا يجيش وليث
يا إمام الهدى ويا حجة الله
وعظيم المقام أمراً ونهياً
أنا من غصن دوحة أنت منها
كيف أضحى وأنت درجة أصلى
ليس بيني وبين ما أنا أرجو
عظمت فيك همتي ولعمري
كل شيء سواك ليس بشيء
?
?
واطمأنت بالمسلمين الديار
بوجه كأنه جلنار
وجاءت بذكرها الآثار
وهو الذي إليه يشار[78أ-أ]
وأضاءت لنوره الأقطار
لتوال وراءها الأمصار
فهل بالحلوم الأخمار
ما ضرمت مدى الدهر نار
ويحفوا جنابها المرار
صفقة ربح مشتريها الحار
رصدا لا يفوته الأشرار
معدا كأنه مستطار
أي واد وليس فيه مغار
أي ليل لم تذك للوفد نار
برامي من جانبيه الشرار
وكثير لمثل ذاك الغرار
وعرف المعروف والإنكار
وعليه سكينة ووقار
وتلظى في مقلتيه النيار
ولولاه ما أقيل العثار
ومنه يستوهب الأعمار
كالطود عليه من الجلال شعار
قابلوه كأنه المستجار
استلام ورحمة واستجار
مستغاث يشمه الزوار
هزبري ووابل مدرار
ويا من بذكره يستجار
وإليه الإيراد والإصدار
كل أصل تظله الأشجار
كيف أظمى وفوقي الأمطار
غير لحظ يومي به أو يشار
إن في العظيم تعظم الأخطار
وعلى الماء تنبت الأشجار
وقال راشد بن علي بن حسين بن عبد الرحمن صاحب ريمة الأشاطب يمدح أمير المؤمنين ويستنجده على أهل المذاهب الرديئة بريمة:
اشتقت طيفاً طائفاً وخيالاً
ووقفت تسأل عن قديم قطينها
أمت أمير المؤمنين وأملت
استقبلت تولي إلينا مظهراً
طلب المعالي العاليات فنالها
ركن لآل محمد وخليفة
من صنو حيدرة الوصي وفاطم
فيه الوسائل والدلائل والحجا
أعطى فخلنا عارضاً هطالاً
من مبلغ أحياء ريمة إنها
الباغضين لآل بيت محمد
قوم تأبو عن رضاك ولو مضت
عدو الجبال الشامخات وما دروا
فمتى أرى الجرد الجياد كأنها
تطأ الربا من ريمة وتهامة
?
?
وطلبت دمعك بالحمى أطلالا
عجباً فما ردت عليك سؤالا[78ب-أ]
من أحمد أن تدرك الآمالا
معروفة والفضل منه توالا
ما كل من طلب المعالي نالا
وغضنفر يروي ظبا وطوالا
كرمت مناصبه وطل فطالا
وفضائل قد أوفقت مفضالا
وسطا فحلنا ضيغماً رئبالا
لو شاهدتك لزلزلت زلزالا
والحائزين على اليمين شمالا
فيها ظباك لقسمت أمثالا
أن قد ملكت السهل والإجبالا
جون النعام تراسلت أرسالا
وتقد هام المعتدين نعال
وقال الفقيه عيسى بن محمد التهامي رحمه اللَّه:
ذ خبراً عن نسيم الشمال
ومن ذا قام بتلك الخيام
وهل نزلوا بمنى بعدنا
وعيس تجوز الفلا في الدجى
عرامس خارقة للظلام
أقول لها يمي بي الإمام
أنيخي لمهدي دين الإله
إمام الهدى وغمام الندى
أباد الطغاة وأفنى العداة
بقب الجياد وسمر الصعاد
وقاد الألوف وفض الصفوف
قوى الجنان وسمح البنان
هو الهاشمي هو الفاطمي
هو ابن النبي هو ابن الوصي
ومهدي عيسى ومحيي الهدى
هو القائم الطاهر المجتبى
وقاد جيوشاً كمثل البحار
كتائب يقدمني الأمين
ويقدمها آل بيت النبي
أباد بها كل مستكبر
فقد ظهرت أرض صنعاء به
وقد نشر العدل حتى اعتدت
وقد أوضح الحق للعالمين
وجرد من عزمه صارما
أراني أحمد في يثرب
إمام الهدى أنت بحر النوال
ومعطي الألوف إذا لم يكن
وممطي المطهمة المقربات
?
?
من النار لون يجتنى للآل
وأصبح مرتبعاً في آزال
وخيم بالخيف حي حلال
رواتك في الأيك رتك الرمال
قوامس بالوجد في كل آل
ولا تسألي صيدحاً عن بلال
بدر الكمال وبحر النوال
ومعطي المؤمل قبل السؤال
وأحيا الهدى وأمات الضلال
وبيض المواضي وزرق النصال
وروى السيوف فأمست نهال
بديع اللبان سديد المحال
هو القاسمي كريم الخلال
مبين الحرام لنا والحلال
فليس له في الورى من مثال
وخيرة خالقنا ذي الجلال
يهد لها راسيات الجبال
جبريل في السلم أو في القتال
حماة الهدى وهم خير آل
ونال بها كل خبت وصال
وأصبح سرب الخنا في ديال[79أ-أ]
ذياب في الناس ترعى السخال
وقوم منا أدمة حتى مال
ذليق العرارين صافي الصقال
إمام الهدى أحمداً في آزال
وغيث الرجاء وبدر الكمال
نوال كريم جواد ينال
نماهن أعواج أو ذى عقال
قال في نسخة الأم بعد هذه قصيدة لراشد بن حسين صاحب ريمة الأشاطب يمدح أمير المؤمنين عليه السلام وترك مكانها بياضاً ثم قال: رجع الحديث، فأقام أمير المؤمنين عليه السلام في صنعاء إلى آخرتها وسلخ شهر شعبان ونهض إلى هجرة سناع وأوزع الناس النهوض إلى جهة بلاد بني شهاب لطيافتها أياماً قرائب، ثم نهض إلى حصن ثلاء لزيارة أهله، فلما وصل عليه السلام إلى سناع بكرة الجمعة غرة رمضان المعظم من السنة المذكورة حتى حط بيت ردم معقل السلاطين الأجلاء المخلصين المجاهدين حسام الدين الوشاح بن عمران والليث بن عمران بن الذيب وبني عمهما وأقاربهما فأقام هنالك ليلتين على الإنصاف والإعزاز والإكرام وأقام في مخلاف بني الراعي أياماً وكان وصوله إلى حصن ثلاء يوم الخميس السابع من شهر رمضان فاستر المشايخ الأجلاء آل منصور بن جعفر ومن يقول بقولهم بقفول أمير المؤمنين عليه السلام سروراً عظيماً وأقبلت إليه القبائل من البون والظاهر للتبرك به والنظر إلى غرته الكريمة صلوات الله عليه وعلى آبائه الأكرمين ولم يلبث عليه السلام أن نهض من ثلاء قاصداً بلاد حمير والإطلال على مسور وحملان لأسباب نحكيها إن شاء الله تعالى.
(قصة فتح مسور وحصونه وحصون حملان والمحطة على حصن حقيل وعولي وما كان في ذلك من العجائب)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: والسبب في فتح مسور وحملان أنه لما وصل أمير المؤمنين إلى حصن ثلاء وصل قوم من حملان يقال لهم بني القهمي أهل قارة وعيلة إلى الأمير المعظم الكبير علم الدين أحمد بن القاسم بن جعفر وطلبوا منه عسكراً إلى بلادهم بعد أن كان قوم من أهل البلاد يقال لهم بني الجدري أدخلوا نائباً من نواب أمير المؤمنين إلى حصنهم المعروف بوعلان وهو أعلى حصون حملان قاطبة، فلما وصل بنو القهمي أسعف الأمير مطلوبهم فصور معهم الشيخ المجاهد علم الدين علي بن سليمان البحيري المحمدي في عسكر فلزموا موضعاً يقال له صحر قبلي وعيلة وعند ذلك اضطربت أمور حملان ومسور وبلاد حمير وبلاد الأخبار جميعها؛ لأن هذه وعيلة لم يستقر فيها [79ب-أ ] لأحد من الملوك أمر لصعوبتها وطول شناخيبها.
رجع الحديث
فلم يلبث الشيخ مقدم الذكر ومن معه وهم قريب ألف مقاتل إلا مقدار ثلاثة أيام ونحو ذلك، واجتمعت قبائل حملان الإجبار في آخر الليل فأحاطو بالمجاهدين وهم في دور غير منيعة ومتفرقون في جهات متباينة فلم يمكنهم مع اجتماع الناس وهو قريب من عشرة آلاف أو نحو ذلك فوقع الخطاب على خروج الشيخ ومن معه سالمين لا تمد إليهم يد ولا يحدث لهم حدث فخرجوا على ذلك فلما وصلوا إلى بين يدي القوم سخروا بهم وفعلوا خلاف ما انعقد عليهم صلحهم وسلم المجاهدون من القبائل فالحمد لله رب العالمين، وعادوا من جهة حملان ووقف الشيخ شجاع الدين هنالك.
قال الراوي: ثم إن السلاطين آل صعصعة بن حسين بن محمد بن حسين وسائر بني عمهم افترقوا في أمورهم فريقين إلى سليمان ومن يقول بقولهم طلبوا استيلاء أمير المؤمنين على الجبل لأمور كانت بينهم وبين بني عمهم آل صعصعة وقتول، وأخذ حصون وأموال، فلما وصلوا جميعاً هم وآل صعصعة إلى الإمام إلى ثلاء أسر آل سليمان بن محمد بن حسين على الإمام بذلك وكان آل صعصعة في أيديهم حصون في رأس الجبل وهي: بيت ريب، وبيت قايس، والمضمار، والقصاصي وهذه حصون الجبل وسائر المعاقل مضافة إليها فلما أحس آل صعصعة بذلك استنجدوا بقبائل حملان عضدهم وشدادتهم ثم لم يلبث الشيخ الطاهر علي بن سليمان النجري المحمدي أن استمال قوماً من بني القهمي خامس نزوله من حملان وطلع في عسكر قليل الموضع المسمى بصحر فلزموه وأوقدت فيه النار، ثم جاءت الغارة من نواحي حجة وغيرها، فلما استكمل العسكر سلم أهل الجهات معاقلهم وحينئذ سقط ما في أيدي بني صعصعة، ووصل إلى الإمام عليه السلام من وصل في الليل إلى ثلاء فأمر معهم الإمام من أمر ولم يلبث أمير المؤمنين عليه السلام أن نهض من ثلاء قاصداً مسور مغذاً، فلما أقبل أمير المؤمنين قاصداً طار آل صعصعة على رؤوسهم من حصونهم وانتهب الناس بعضاً من قصورهم وهتكوا هتكاً عظيماً وهربوا بحريمهم وأولادهم إلى طرف من البلاد ووقع في مسور روعة عظيمة وكاد الناس أن يأخذ بعضهم بعضاً وعمد بنو مالك إلى قصر الثومة وهو مستقرا لحسام بن صعصعة فانتهبوه، واستقرت محطة أمير المؤمنين في بيت علمان مطلاً على جبل مسور شاع ذكر فتح مسور في البلدان وضربت البشارات وشرد قوم الباطنية كانوا في نواحيه وسلمت معاقل مسور وبلد قدم.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: سألت رجلاً من الإخوان الأطهار ممن له خبرة بحصون المغرب وكان شاهد لأخذ أكثرها في ذلك الأوان فأحصاها لي عدا فكانت نيفاً وثمانين حصناً كلها على الجملة حصينة لم يملك أكثرها ملك من قبل، فأما عيونها ومشهوراتها [80أ-أ] فهي بيت ريب، وبيت فاس، والمضمار، والقصاصي، والكلالي، والغز، والرغيل، ووعلان، والحميمة، وقرن حديد، وعران، والمصنعة، وحجن عز الطلحي، وقرن القحف، وصحر، والعرنون، وجبل خب، والرحبة، والصنوبن، وجبل طرت، والأقمر، والصمع، وسعدان، والصفوات، والحريفة، والرجم، والقريشي، والدمرور، وأشهد، والحطب، فهذه نيف وثلاثون حصناً من عيونها وربما تركنا مثلما ذكرنا أو أحصن لكن ذكرنا الأشهر.
رجع الحديث
وطلع الأمير علم الدين أحمد بن القاسم في عساكر عظيمة فقبض حصون مسور جميعها ورتبها، وتقدم إلى أمير المؤمنين إلى محطته ببيت علمان بعد أن قبض جملة من الأموال التي عاقب بها قوماً من عوام الباطنية ومن يجري مجراهم؛ لأنه عليه السلام رأى المصلحة في تلك الحال استخراج أموال الله منهم لينفقها في سبيل الله فأخذ منهم ألوفاً كثيرة وتولى استخراج الأموال منهم الفقيه التقي ناصح الدين علي بن ناصر بن عبد الفاضل الحليلي القطيبي، وكان من الأخيار وكان أمير المؤمنين عليه السلام قد نفى رجلاً من خيارهم يقال له الحجازي وأخذ ماله وكان أكبر الباطنية في الجهات المغربية والذي يرجعون اليه رجل يقال له: حارث بن سلمة من بني أعشب جد من جدودهم قد مضى عليه من السنين نحو من ثمانين سنة وكان مسكنه في موضع يقال له الصمع، فأيد الله سبحانه أمير المؤمنين على تلك الناحية واستولى على طرب، وبيت قدم، وأخذ الصمعين، والأقمر، وهذه الحصون من عجائب حصون المغرب وأعزها، فلما استظهر أمير المؤمنين على هذه النواحي هرب عدو الله حارث فقيض الله لزمه.
(قصة لزم عدو الله حارث الباطني وضرب عنقه)
والسبب في ذلك أن عدو الله لما رأى أن أمير المؤمنين استظهر على البلاد صدر على رأسه ومعه ولد له كامل الخلقة فلما بلغ إلى حازة من حواز الشرف الأسفل وذكر أنه كان قاصداً تهامة وما يتصل منها ببلاد يام في جهة الشام. والله أعلم.
فظفر به قوم من أنصار أمير المؤمنين فعرفوه فكتفوه من ساعته وكذلك ولده فساروا به حتى قرب من شاهق فرمى ولده بنفسه من شاهق عظيم.
فأخبرني الثقة أن عدو الله تقطع آراباً وعجل الله بروحه إلى النار وعند ذلك احتفظو بوالده شيبة الطغيان وقرين الشيطان، فلما بلغ العلم إلى أمير المؤمنين شدد في اتصاله إليه فعند ذلك سددوا في حفظه حتى وصل الحصن المحروس جبل الحرام ثم أمر به إلى بين يدي أمير المؤمنين وكان بلاده بلاد حملان ومسور.
قال السيد شرف الدين يحيى بن القاسم رضي الله عنه: كنت مقيماً في حصن وعلان في ذلك الأوان في عسكر فلما وصل عدو الله حارث بن سلمة الباطني أمرت بإحضاره لأتحقق أموره وراجعته في مقالاتهم إذ كنت قد فتشت في أصولهم وكيفية مداخلهم على أهل الإسلام ووصنعت في ذلك موضوعاً كشفت فيه أسرارهم وهتكت فيه أستارهم وسميته بكتاب (الكشف والهتك) فلما حضر إليَّ راجعته أولاً [80ب-أ ] وألنت له الكلام فرأيته ذا بأس وشدة غير حصر في الكلام ولا متلجلج في الجدال فعجبت من حالته تلك مع معرفته أنه لا تقال له العثرة ولا تقبل منه التوبة، فراجعته أولاً في المعنى الباطن فتبين للحاضرين فلجه بعد أن رأيته متفرساً في مذهبهم وعلمهم ثم راجعني في الأرواح وتنقلها مع كونه قاطعاً بثبوت تنقلها في الأشباح أخر فثبت له خلل مقاله، ثم راجعته في أصول أهل التوحيد والإقرار بالصانع الحق فتغير وغالط في الكلام فأخبرته بتفصيل جمل مقالتهم في ذلك وأوضحت له الدلالة على فساد عقيدتهم وكشفت له عين الكفر الصراح والإلحاد البين من مذهبهم، فلما رآني غير جاهل بمعرفة مقالتهم استعفا في المراجعة وأقسم ما راجعني أحد مثلك.
رجع الحديث
فلما وصل إلى بيت علمان أمر أمير المؤمنين مملوكاً تركياً كان هرب من الأعاجم فضرب عنقه وعجل الله بروحه إلى النار وعظم الأمرعلى الباطنية.
رجع الحديث
فلما ثبت أمير المؤمنين أمور مسور جهز الأمير علم الدين أحمد بن القاسم إلى هداد مسور ليقف هنالك فلم ير الأمير علم الدين إلا امتثال أمر الإمام مع علمه بصعوبة ذلك وفساد أهل الزمان.
(قصة نهوض أمير المؤمنين عليه السلام من بيت علمان)
قال السيد شرف الدين: لم يلبث أمير المؤمنين بعد ذلك أن نهض إلى حصن مدع فأقام فيه ليالي ثم نهض إلى حصن عزان فأمسى فيه ليلة وهب بها إلى البون الأعلى فحط في الجنات وأزمع على الخروج إلى الجوف ومأرب وتلك النواحي فأقام أياماً في الجنات وأمر إلى كافة بلاده بالنهوض إليه وأقام في الجنات إلى سلخ شهر القعدة آخر سنة تسع وأربعين وستمائة ونهض إلى ريدة فأقام فيها ليلة وثبت أمور تلك الناحية وشد على المفسدين ونهض فحط في الأوساط من بلاد الصيد فاستر أهل تلك الناحية بقدومه سروراً عظيماً ثم نهض يوم السبت خامس الحجة.
(قصة قفوله عليه السلام إلى بلدة ذيبين)
قال السيد شرف الدين يحيى بن القاسم رضي الله عنه: إن قفول أمير المؤمنين إلى ذيبين من العجائب التي لم يكن أحد يتصورها خرج منها خائفاً يترقب ثم عاد إليها في عساكر تملأ الفضاء وخرج منها وهو خائف من عترته وأهله كما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة حرسها الله تعالى ثم عاد إليها وهم خائفون له ينظرون من طرف خفي، فلما كان يوم السبت المذكور نهض عليه السلام في عساكره من الأوساط ونصبت الرايات وحركت النقارات وتهيأ الناس للعراضة ولقى الأمراء الأجلاء أهل ذيبين آل يحيى بن حمزة وجميع الفقهاء والطهراء من جهتهم والجيران في هيئة جميلة وخيل وافرة وجموع متكاثرة فالتقوا بأمير المؤمنين ما بين يناعة وسودان موضعان قريبان من الجهة فسلمو عليه وحمدو الله تعالى على ما من به عليهم من قفوله إلى بلده، ثم أمر أمير المؤمنين أن يكون طريقه شرقي جبل المنقصة على الأعصر المعروف [81أ-أ] لتعويل الأمراء أولادهما بن أبي هاشم الحمزي أهل ظفر على أمير المؤمنين فلم ير أمير المؤمنين إلا مساعدتهم فسار العسكر المنصور حتى حط في سفح جبل بلس من بلاد بني جبر من الصيد وكانوا منقطعين إلى أمير المؤمنين ولهم جهاد وعناية بين يديه فنصب الأمراء المذكورون هناك خيمة وأقام ساعة، ثم أمر الأمراء من حصن ظفر بالضيافات الجيدة لجميع العسكر، فلما انقضى أمر الضيفة نهض أمير المؤمنين عليه السلام من ساعته مستقبلاً وادي ذيبين فسار حتى خرج من السواد إلى أسفل الوادي ولقيه الأمير الكبير المتوكل على اللَّه أحمد بن أمير المؤمنين ومن معه من أهله وخدمه فسلم على أمير المؤمنين ولم يلبث طائلاً ثم سار الناس فكانت طريقهم الوادي حتى إذا كانوا قريباً من المأثرة القديمة لزموا سفح الجبل من وادي ذيبين وقد كان أمير المؤمنين أمر أن تنصب الخيام هنالك فلما وصل أمير المؤمنين لم يلبث إلا ساعة ثم توضأ في آخر الوقت وصلى الظهر والعصر وأتم الصلاة وأشعر الناس ذلك
وركب إلى داره المباركة من ساعته واستقرت المحطة هنالك ولما كان من الغد أقبلت قبائل حاشد وبكيل من كل ناحية وأمر الأمراء الأجلاء آل يحيى بن حمزة بذبح البقر السمان والغنم وأعدوا لجميع العساكر الضيافات ثلاثة أيام وكانوا في هذه الأيام يدعون الحفلى حتى أهل السوق ويصيح الصائح بحضور الكل ولا يتركون أحداً من الضيوف ثم بعد الثلاثة الأيام يحضون الأمراء من الشرف والرؤساء وقبائل العرب وكبارها ورؤساء حاشد وبكيل.
قال المحدث: وتكاثر الناس في ذيبين ووصل السلاطين الأجلاء بنو شهاب وأجناد صنعاء وذمار والكرد وأقبلت إليه كبار جنب الخلافة في رواحل عدة كانت المحطة من الشصر المعروف شرقي ذيبين إلى سفح جبل صولان إلى قرية حنط حمران إلى أسفل الجليح وكان السوق عند المسجد الجامع وأمر أمير المؤمنين عليه السلام بخيمة عظيمة نصبت له ما بين الدرب وقرية حنط حمران يخرج إليها في أكثر الأيام يفصل بين الناس ويمضي الأحكام ويقبض من الناس البر والنذور فلما كان يوم العيد وهو يوم الخميس عيد الأضحى أمر فضرب له صيواناً ونصب تحته منبراً في أسفل الصر عند قبور الشهداء في القاع الصفصف هنالك فصلى بالناس صلاة العيد وخطب خطبتين يتضمنان الوعظ والتذكير فلما فرغ من الصلاة سار الناس بأجمعهم إلى القاع غربي بركة مذود فلعب أكثر الفرسان وراح الناس ظهير النهار فأمر أمير المؤمنين بجمع العسكر إلى داره وأمر بسماط عظيم فيه جملة ألوان من الأطعمة فأكرم الناس أحسن كرامة وذكر أضحيته وتصدق ببعضها وكان ثاني العيد وهو يوم الجمعة توضأ في داره وأمر الناس بالركوب والصلاة شرقي بركة مذود فسار الناس فلما انقضت صلاة الجمعة أنشدت قصائد منها قصيدة القاضي الأجل اللسان يوسف بن علي اليمامي يمدح فيها مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ويهنئه بالعيد في ذيبين[81ب-أ]:
هنيك أبكار المعالي وعونها
نهنيك دار الخلد داونت طالب
وماذا عسى أن يصطفي لك قائل
إذا كان ذات الملك أعطت شمالها
وألقى مقاليد الخلافة ربها
وليت أمور الله في كل أرضه
علوت علياً غير طائل
بنيت لها عليا طال منارها
وماضر نور الشمس إذ كان ظاهرا
فقف ماجداً إن شئت أو فاسم صاعدا
أراد لك الله الذي أنت أهلها
وأعطاك ملك الأرض حكماً وطاعة
وولاك واسترعاك أمة أحمد
فأفنيتها أموالها ونفوسها
وأوليتها براً ولطفاً ورحمة
وأنصفت جما الناس من ذات قرنها
فأمست نياماً لا تروع بيوتها
فلو يستطيع المسلمون جميعهم
جمعت لهم ما شذ من دين أحمد
فأمسيت فيهم لا تنام وكلهم
سلكت بهم طرق الأمان وربما
فإن يزرعوا ما قد زرعت فحسبهم
ملكت دياراً كان صلحا خرابها
ونازلتها من فوقها فعلوتها
ودانت لك الأملاك طوعاً وذلة
وأجريت أحكام المهيمن فيهم
أرادوك للدنيا وقصدك غيرها
فإن يسجدوا طوعاً وكرهاً فهكذا
وعد ألف عيد ما بقيت فإنما
?
?
إذا أنت هنيت الذي هو دونها
وإن كان هذا الناس لا يقصدونها
من الشعر ألفاظاً تساوت فنونها
سواك فقد أعطتك منها يمينها
إليك وقد أحلاك منها جبينها
وجاوزت أفعالاً غدواً يحمدونها
عليها ولا مستعمداً أن تهينها
وإن أصبحوا في الناس لا يشكرونها
إذا كان عمي الناس لا يبصرونها
فقد صرت في علياء لا يبلغونها
وأبقى لك الدار التي لا يلونها
وأولاك كافات الأمور ونونها
على ثقة لما رآك أمينها
وأبقيت فيها غثها وسمينها
وأوردتها في الشاربين معينها
وكسرت من ذات القرون قرونها
وأضحت جميعاً لا يشيب فطينها
لفدوك بالأعمار لو يملكونها
وأحييت فيهم سنة يعرفونها
نيام وطرق المكر لا يحذرونها
سلكت بهم بيضاً لا يسلكونها
وإن يزرعوا الأخرى فهم يحصدونها
وأوطيت منها سهلها وحزونها
وأعطتك أوساط الحصون مصونها
وأعنك دنياها جميعاً ودينها
على غصص في الصدر يستكرهونها
وهل تسكن الآساد إلا عرينها
سجودهم لله لا ينكرونها
تهنا بك الأعياد والعيد دونها
رجع الحديث
فأقام أمير المؤمنين في ذيبين فلما حضرت الجمعة الأخرى ركب وركب الناس إلى مصلى الجمعة الأولى شرقي مذود فصلى عليه السلام بالناس صلاة الجمعة وعاد إلى داره وأقام إلى يوم الخميس وهو الثالث والعشرون من ذي الحجة آخر سنة تسع وأربعين وستمائة بعد انتظام أمور [82أ-أ] الجهات، ثم نهض عليه وعلى آبائه السلام قاصداً الجوف ومأرب.
(ذكر قصة غزوة مأرب)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: بلغ أمير المؤمنين عليه السلام أن أسد الدين محمد بن حسن بن رسول يروم دخول مأرب هو والأمير داود بن الإمام المنصور بالله عليه السلام ومن قال بقولهم فارتفعت رؤوس المفسدين وأكثروا الكلام وقد كان أهل مأرب في ذلك الوقت متظاهرين بالفساد معلنين بالرباء يدينون بالجبر والتشبيه رأى أمير المؤمنين عليه السلام أن قد تعين عليه إزالة المنكرات وطمس رسوم الفساد فنهض عليه السلام من ذيبين في اليوم المعين.
قال السيد الأمير شرف الدين يحيى بن القاسم رضي الله عنه: كان أمير المؤمنين عليه السلام في منزلي عند خروجه فلما حضر وقت صلاة الظهر استدعى بماء فتوضأ وصلى الظهر والعصر ودعا إلى الله دعاء حسناً في ذلك فأيقنت أن الله سبحانه قد استجاب دعوته المباركة فلما نهض نصبت الأعلام وحركت الطبول فنهض في جيش عظيم لعل الخيل المجتمعة هنالك إلى ثلاثمائة فارس فأما الرجل فكثير لم يحضر لي عددهم فلما بلغ إلى أسفل وادي ورور أمر بالمحطة هنالك لتعويل الأمير الكبير المتوكل على اللَّه أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام وأمر بالضيافة الجزيلة العامة للناس وأمر بعض إخوته وأولاده في لقاء أمير المؤمنين فلما كان من الغد وهو يوم الجمعة أمر بالضيافة أيضاً الجزيلة من ظفار من عند الأمير المتوكل ومن يقول بقوله وكذلك من حصن الإمام عليه السلام القفل المحروس وواليه يومئذ السلطان الأجل عفيف الدين الحسن بن إسماعيل الشهابي ونزل الأمير المتوكل إلى الإمام فسلم عليه وأمره الإمام بالوقوف في ظفار والتأخر عن الحركة لأمور رآها مصلحة فساعد إلى ذلك ونهض أمير المؤمنين عليه السلام آخر يوم الجمعة فحط في المسرع المعروف في أسفل وادي شوابة وأعلى الجبل فأقام هنالك ثلاث ليالي ووصل ثاني وصوله الأمير الكبير فخر الدين الحسن بن محمد بن إبراهيم، من أولاد محمد بن جعفر القاسمي في عصابة من أهله وبني عمه وشيوخ الأهنوم وحجور وتلك النواحي قريباً من ألف رجل فخرج أمير المؤمنين في لقائهم فسلموا عليه وسلموا له جملة من النذور والبر وغيرها من الحقوق الواجبة.
أخبرني بعض الثقات أن المبلغ الذي وصل به الأهنوم ومن معهم قريباً من خمسة آلآف درهم ثم اشتغل أمير المؤمنين بقضاء حوائج الأمير ومن معه بقية ذلك اليوم وأمر بالنهوض بكرة الإثنين وهو التاسع والعشرون من شهر الحجة فأمر بتقديم الخيل والعسكر على الثقل، فلما وصل إلى أسفل جحدان المعروف بهران أمر الأمير المقدم الزعيم أسد الدين بالضيافة الجزيلة وأمر أمير المؤمنين بالقيلولة هنالك حتى قضى العسكر أربهم من الطعام، ونهض عليه السلام حتى بلغ إلى موضع تحت حصن نعمان ولقاه الأميران [82ب-أ ] حمزة وأحمد ابني سليمان بن إبراهيم بن حمزة ضيفة جزيلة عامة للناس فوقف حتى قضى الناس منها الحاجة ونهض إلى موضع خلف المرد المعروف بمرد القاسميين إلى ما يصالي المحجر فحط هنالك.
(قصة ما حدث في مسور بعد نهوض الإمام عليه السلام)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه : لما استولى أمير المؤمنين على مسور عظم على كل مفسد في المغرب ذلك ورأوا أنهم لا يطعمون راحة، ولما حس أمير المؤمنين ذلك رسم على السلاطين بني عبد الحميد أن يسيروا بين يديه على أفخاذهم فأخذ من آل صعصعة بن محمد عصان بن صعصعة ومن آل سليمان بن محمد يوسف بن سليمان بن محمد، ومن آل زريع بن حسين الحسام بن عمران ومن آل منصور بن حسين النمر، ومن بني أزد جماعة من عيونهم وبقي الحسام بن صعصعة في حصن ثلاء، مضمناً به المشائخ آل منصور بن جعفر، وجماعة من بني أزد فأخذ الحصن المعروف بالكلالي سرقة فعند ذلك ارتفعت رؤوس المفسدين في أرض المغرب فلم يشعر في اليوم الذي نهض فيه الإمام عليه السلام من شوابة حتى بلغ العلم آخر النهار بما كان في المغرب من اضطراب أهل البلاد فلما بلغ أ مير المؤمنين ذلك العلم أمر بالغارة.
قال السيد شرف الدين: وكان محبوبي في المسير بين يديه إلى جهة مارب فأخرني لأجل الحادث وأمرني لأجل الغارة فنهض أمير المؤمنين عليه السلام وأمر بحبس السلاطين أهل مسور وقيد عصبان بن صعصعة لما أحسه من فسادهم وأن سرهم واحد وأظهر القوم الحرب في مسور وتجمع إليهم كل مفسد في نواحي المغرب وبقي أمير المؤمنين بين أمرين إن يرجع اختل الجوف والمشرق ومأرب ولم يأمن وثبة أسد الدين ومن يقول بقوله على جهات المشرق كلها، وإن تقدم فقد شغل خاطره ما وراه، فرأى التقدم إلى مأرب وأمر بحرب القوم على أي وجه ريثما يقضي مأربه بمارب ولما علم الأمير حسام الدين محمد بن قتيبة وسائر الأمراء والمقدمين في الجوف بإقبال أمير المؤمنين إلى المحطة المذكورة فرأى أمير المؤمنين القدوم إلى الجوف ومأرب أولى فنهض الإمام بالجنود بكرة الإثنين سابع شهر المحرم سنة خمسين وستمائة.
قال السيد شرف الدين يحيى بن القاسم رضي الله عنه: لما بلغت إلى ههنا عارضني وجع وذلك في شهر صفر سنة خمس وخمسين وأشفقت منه فإن عوفيت أتممت وتوكلت على الله سبحانه وتعالى وإن كان غير ذلك فلينقل الثقة ما علقت على الوجه الصحيح وأنا أبرأ إلى الله من زلل اللسان ومن كل هفوة هفوتها وأستعين به وأستغفره مع أني قد تحريت واستقصيت في البحث فإن كانت رواية خلاف ما علقت فلعلها سهو ممن نقل إلي.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: ثم إن الله تبارك وتعالى أمدني بمواد العافية وشفاني من الشكوى التي ذكرتها فله الحمد كثيراً [83أ-أ].
رجع الحديث
ونهض أمير المؤمنين عليه السلام من المحطة المعروفة المحجة يوم الإثنين سابع المحرم سنة خمسين وستمائة، فدخل عليه السلام درب الزاهر ظهيرة النهار في عساكر كثيفة وأظهر الحركة والخروج بنفسه إلى مأرب فلم يلبث حتى وصل كتاب القاضي علي بن عبد الرحمن وغيره من أهل مأرب يحكي أن أهل الدربين المعروفين بمارب قد اجتمعت كلمتهم وتحالفوا ودخل بعضهم مع بعض وحالفوا جنب وثبتت كلمة جنب فيما بينها وصعب الحال وإن مارب لا طريق إليها وكان كثير من الناس يكره مسير أمير المؤمنين إلى مأرب لأغراض ومن جملة من كره مسيره إلى مأرب قوم من أنسابه الشر.
قال أحمد بن جعفر ببراقش فيما بلغني والله أعلم: فلما سمع أمير المؤمنين كلام الناس وعرف أغراضهم قال: حسبنا الله ونعم الوكيل لا بد من وصول مأرب على كل حال إن شاء الله تعالى وإظهار أحكام الله تعالى فأمر حينئذٍ إلى بدر الدين بن محمد صاحب بيحان ليدري بكيده وأمر من يتجسس أخبار الناس ويعرف كلمتهم ففرق الله كلمتهم بغير عناية أحد فاختلفت جنب فيما بينها وأقبل قبائل جنب إلى أمير المؤمنين منصور بن الأضيغم وراشد بن أحمد فإنهما صرا عن الحق وضلا وأضلا، فلما علما أن أمير المؤمنين غير متأخر من وصول مأرب نكصا على أعقابهما وبعدا في الجنب ومن قال قولهما وكان أمير المؤمنين منتظرا لوصول عسكر صعدة فلما وصل العسكر من جهة صعدة وكانوا سبعين فارساً ومن الرجل خمسمائة من وجوه الناس وفرسان الشرق والغرب من أهل الشام منهم الأميران الأجلان شهاب الدين، وجمال الدين محمد والحسن بن علي بن يحيى الأشل من آل الهادي إلى الحق عليه السلام في عسكر نجران وأملح، والشيخ الأجل المجاهد عضد الدين محمد بن أحمد بن حجلان في عسكر صعدة ومن انضاف إليها من الجهات.
قال الراوي: فحينئذٍ أمر أمير المؤمنين للعساكر بما يحتاج إليه من الزاد ففرق أموالاً جليلة من الدراهم والطعام حتى أخذ كل ما يكفيه مدة من الأيام وأمر بجمال البلاد فجمعت من أقاصي البلدان فوفى أهلها كراها وفرق الجمال بين الناس لما يحتاجون إليه من الزاد والماء ولما اجتمع من خلق الله سبحانه ما صعب ضبطه، فلما علم أمير المؤمنين أن مياه المناهل لا تكفي العساكر زمراً فنهض أول العسكر يوم السبت تاسع عشر من شهر الله المحرم سنة خمسين وستمائة وهم عسكر الشام ومن انضم إليهم، ونهض الإمام عليه السلام ثاني ذلك اليوم فحط في القاع وحط نهار الثلاثاء في القريب وأقبلت إليه قبائل المشرق وجنب ونهد، وغيرها فأكرم عليه السلام من وفد عليه وأنعم على من وصل إليه، ووصل إليه رسول السلطان بدر بن محمد من بيحان يحكي بقاه على الحلف وأقام عليه السلام إلى يوم الخميس[83ب-أ] وأمر الأمير حسام الدين [.....بياض في المخطوط.......]، والحسن ابني علي بن يحيى بن الأشل والشيخ عضد الدين محمد بن يحيى بالقدوم بعساكر الجوف والشام ومن ينضاف إليها فنهضوا في عسكر عظيم من الخيل والرجل ونهض أمير المؤمنين عقيبهم لأن المناهل لم تحمل العسكر مجتمعين وكان من فضائله عليه السلام ما علم به الخاص والعام وشهد به العدو والصديق من الأنام وذلك أن أقواماً من جنب وغيرهم كانوا حلولاً في شق العواهل قريباً من الطريق إلى مارب فأتى إليهم بعض رعاتهم وأخبرهم أنه وصل إلى موضع في الفضاء فرأى شقاً في الأرض بعيد القعر فرمى فيه بحجر فوقعت في ماء فسمع صليل الحجر في الماء فاستبعد القوم ذلك فقال لهم رجل من جنب يقال له: علي بن محرر: يا قوم انهضوا لندري ما يقول هذا صحيح أم لا فنهض القوم إلى الموضع الذي ذكره فوجده شقاً في الأرض لم يحفر قبل ولا عرف فيه ماء ولا أخبر به أحد فرأوا فيه ما يجري في الأرض فبجروه من حينهم ونحروا عليه ناقة وسموه غيل المهدي وكان خروج هذا الماء
قبل وصول أمير المؤمنين الجوف بيومين أو نحو ذلك وقد كان الناس مشفقين من شدة السمائم وانقطاع المناهل وكثرة العساكر والبهائم.
قال الراوي : فضرب العسكر جميعه وجميع البهائم من ذلك الماء وسار الإمام إليه بنفسه ودعا فيه بالبركة وبلغ أمير المؤمنين أن أهل مارب على أمر هرب بأموالهم وأهلهم وأنهم لاحقون بجبال الدقرار من أرض مراد فأمر أمير المؤمنين عليه السلام الأمير محمد بن فليتة والشيخ عضد الدين أن يعدوا بمن معهما ليلحقوا القوم ولما حط أمير المؤمنين بالأمراء بلغه أن القوم هربوا على رؤوسهم وانتهبت أموالهم مذحج وجنب ولحق أول العسكر شيئاً من ذلك ونهض أمير المؤمنين عليه السلام فحط في موضع يسمى المساجد بحيث يرى مأربا من هنالك ونهض ثاني ذلك اليوم وأمر الناس بالأهبة والعراضة الجيدة فاجتمع من الخيل ما أعجب الناظر وكانت الخيل تنيف على ألف فارس وحط الإمام عليه السلام ما بين الدربين ووجدت العساكر من أثاث الناس وخباياهم شيء كثيراً.
قال الراوي: وقد كان أهل مأرب وصل رسولهم إلى أمير المؤمنين وهو في محطة الغريب يخاطبون بمائتي ألف ولم يكن عندهم أنه يصل مأرب وقد كان مناهم من ذكرنا في أول الكلام من الأشراف وغيرهم أنه لا يصل مأرب ولا يستطيع ذلك: {فأيد الله الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}(1)، ولما وصل أمير المؤمنين ووصل إليه قبائل المشرق من خولان وبيحان واجتمع في مأرب من خلق الله تعالى ما لم يحقق لي أحد ضبطهم.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: سألت مولانا أمير المؤمنين عن كمية الخيل معه يوم فتح مأرب فقال عليه السلام: لعلها ألف فارس [84أ-أ] وأربعمائة فارس أكثرها لابسة وتضرع أهل مأرب إلى أمير المؤمنين واستعطفوه وطلبوه العفو فعفى عنهم وكانت هذه طريقته عليه سلام الله عليه ورضوانه ورحمته الصفح والعفو لمن طلب ذلك منه فدفعوا أموالاً جليلة ودخلوا في مراسمه وامتثلوا له أحكامه وقطعوا ذكر الخلفاء من بني العباس في الخطبة وامتثلوا والتزموا بمذاهب العدلية أذنوا بحي على خير العمل ورهنوا رهائن من أبناء شيوخهم ورؤساهم وأقام أمير المؤمنين عليه السلام في مأرب ثمان ليالي وسار في جوانبها وطاف مآثرها وتعجب من عجائبها وأمر فيها بالمعروف ونهى عن المنكر، ومن جملة ما ظهر من بركات أمير المؤمنين وفضائله عليه السلام أنه لما استقرت محطته في مأرب وأشفق الناس من بعد الماء، وكانت في مأرب مياه أنزفها العسكر فلم يشعروا عند طلوع الفجر إلا والسائلة المعروفة تنبعث ماء، فأقام الماء حتى نهض أمير المؤمنين ولقد سمع كثير من أهل الجهات يقولون ما نزل في أودية المشرق في ذلك الصيف سوى ذلك السيل، وتحقق الناس أنها رحمة من الله ونعمة على أمير المؤمنين وفضيلة له عليه السلام.
ومما قيل في غزاة مأرب من الأشعار ما قاله الفقيه الأجل اللسان زيد بن جعفر الباقري ثم الصعدي، قال في شهر جمادى الأولى من شهور سنة خمسين وستمائة سنة:
هاب بمسلوب الحشاشة مسبوت
فلبيتها مستمطياً ظهر لوعة
فجئنا نجوب البيد ليس يهولني
دليلاي طيف لا يزال مسايري
أرى أن إلمامي بها أعظم المنى
بقاع إذا اهتزت بوصل فبينها
بسنة جمع القدود وضمها
ويفعل أعيان لعين تحلها
فحبل سلوى دونها قد بتته
أمامي وخلفي حاديان تحالفا
سوى العرصات الزاكيات التي سمت
وأعلى الورى كعباً وأفضلهم أبا
إمام رآه الله أهلاً فخصه
هداية مرتاب وفيه سكينة
وأصبح نور للخلافة صادع
به الفجر للبطحاء به الفخر للصفاء
أقام قناة الدين بعد اعوجاجها
وبيض لها في هام كل معاند
وجرد عليها إن تطأ أرض بابل
أغارت على حيي سبأ حين البوا
فولوا على أدبارهم لم يعرجوا
عناديد أرسالاً فكان قرارهم
ولو وقفوا للحرب لم تنبسط لهم
ولم يدر إلا والعيون شواخص
سكارى من الرعب الذي قد أظلهم
وأحزم رأي منهم بعد ضلة
ملاذهم بالعفو منك فعمهم
ولما عدا جالوت عصرك طوره
وكنت كطالوت ممداً بعصبة
ولا عجب إذ فيك أعظم آية
وإنك للبسط الذي يرقبونه
وإنك باب السلم بل باب حطة
وها أنت ذا قربان هابيل بيننا
?
?
معاهد بالمرذات سقياً لمروت
من الشوق لا مستمطياً ظهر مخروت
تنايف يعمى دونها كل خريت
ورؤيا رباها حين تأتي بتفتيت
ولو جئت سبروتا إلى كل سبروت
فرائد من در بدمع وياقوت
فيا لك من جمع لذيذ وتشتيت
بألباب من تلمم بها فعل هاروت
وحبل اشتياقي نحوها غير مبتوت
فلست بمصغ لا إلى غيرها ليتي
بأفضل منظور وأفضل مسموت
وأرفعهم في العالمين ندى صيت
بما خص أسموئيل منه بتابوت
تثبت أهل الحق أية تثبيت
على وجه ميمون النقيبة صنيت
فقل قول علم لا مقالة بخيت
بعزم وحزم محكم الرأي ثبتوت
أتاوة حق ثابت غير مبتوت[84ب-أ]
وما بين كيسان إلى أرض تكريت
وجاشوا بجيش بجنس الأرض مكبوت
على صامت أو ناطق غير صميت
ألذ إليهم من طعام بسبوت
أكف لحمل الرمح أو هز إصليت
وقد موتوا في العرش أعظم تمويت
وهم بين مكفوف اليدين ومبحوت
كستهم جهاراً ثوب عار وتبكيت
حنانيك عفو منك من غير تعنيت
ظهرت كما شاء الإله لجالوت
كراماً فيا طولى لأصحاب طالوت
ومكنون سر عند ذي العرش موقوت
بحسبان أيام طوال وتوقيت
فحي هلا واحطط بها غير ممقوت
وضالة موسى يوم يوشع والحوت
رجع الحديث
ونهض عليه السلام قافلاً إلى صنعاء وعند ذلك اختلفت كلمته في طريقه أين يكون واستصعب الناس طريق وادي حباب وقالوا: إن هذه طريق صعبة المعاطف ولا نأمن مكر أهلها وإن كثيراً من أوديتها لا يمكن الفارس أن يحرف فيه فرساً فلم ير أمير المؤمنين إلا المسير في هذه البلاد ليمض فيها الأحكام فنهض يوم الإثنين وهو الخامس من شهر صفر سنة خمسين وستمائة، فحط بأعلى وادي مأرب في موضع يسمى أدمه في رأس السد المعروف وفرق أمير المؤمنين ما حصل من تلك النواحي على الناس ونهض فحط في وادي حباب وهو وادي أسفله متسع وأعلاه ضيق ونهض في ذلك اليوم فسار العسكر في ذلك الوادي وطوله قريب من المرحلة ولقيه أهل تلك النواحي بالبر فقبض منهم البيعة وأمرهم بالمعروف وامتثال أحكام الله تعالى، وحط آخر النهار في أسفل بلد الأعروش في موضع يسمى بني وديد وكان القوم مجورون لرجل من سنحان يقال له: أسعد بن سعيد محارباً لأمير المؤمنين وهو أحد قتالة الفقيه حسام الدين الطاهر المجاهد أحمد بن يحيى الزيدي الصعدي رحمة الله عليه، وقد تقدمت القصة، فلما حط بتلك الناحية على حين غفلة من أهلها وظن منهم أن أحداً من الملوك لا يقدر على وصولها ولا علم بذلك فيما مضى. والله أعلم.
فوصل كبار القوم يخاطبون في أسعد بن سعيد فلم يسعدهم أمير المؤمنين إلى شيء من ذلك الذي طلبوه وأغلظ عليهم في القول وجرى في خلال ذلك بينهم وبين العسكر خطأ فكان سبباً لبوارهم فأقام أمير المؤمنين [85أ-أ] في نواحيهم أربعة أيام فقبض رهائن المشرق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ورأى القوم شيئاً لم يعهدوه.
قال الراوي: ولما حط أمير المؤمنين في بني وديد قصر أهل البلاد في مقابلته وعساكره من الضيفة والكرامة كما جرت عادة العرب فقال بعض شعراء أمير المؤمنين وهو الفقيه العلامة اللسان نظام الدين القاسم بن أحمد الشاكري قصيدة في ذلك وهي هذه:
عيدي ما بدى لك أن تعيدي
أقمنا لانتظار قرا سعيد
وأورثنا زياد جوى وجوعاً
ألا فتحت مشارق أرض صنعاء
فكم في هذه من شيخ لؤم
سوى أن ابن عقبة جاد جودا
وكل ندى ولؤم سوف يبقى
فعرج عن ذراها تتقيني
وعد عن الديار بخير ملك
فتى قاد الجياد على وجاها
يؤم من المصانع أرض قوم
يذكرهم بأيام حسوم
وتذكر مأرباً سيلاً قديما
ويبدلهم بخير كان شرا
أرى طوفان مأرب كان قوما
وساق ابن الحسين لها أخيراً
إذا ركزت قرون الشمس فيه
فحل عليهم سبعاً تواما
وسار عن المنازل وهي قفر
?
?
حديث الجيش يوم بني وديد
فكان قرا اللئام قرا سعيد
فجاء النقص من نحو المزيد
وزينت أرض صعدة والصعيد
وكم في تلك من كرم وجود
فعاش بجوده كل الجنود
كما بقيت قصائد من لبيد
مرارة ذلك الجوع الشديد
يظل جبينه عذب البنود
يجوب بهن بيدا بعد بيد
مصاقبه مصارع قوم هود
أبادت كل جبار عنيد
طمى من فوق عامرها المشيد
ليجزي كل كفار كنود
أتيا مسيطرا من مدود
طلوع الشمس سيلاً من حديد
رأيت النار تشعل بالوقود
بأرعن غير محصور العديد
بسابس كالمنازل من ثمود
رجع الحديث
ونهض أمير المؤمنين فحط في موضع يسمى أحوص أو حويص، ثم ارتحل فحط موضعاً يسمى ملاحا، ثم نهض فحط موضعا يسمى الشعارية من أسفل وادي مسور وأخذ بليلته حصناً شامخاً منيعاً لقوم من سنحان يسمى حضر وهو من أعجب الحصون في الارتفاع والاقتصاد والحرز، ونهض فحط موضعاً يسمى زبار أعلى وداي مسور وهنالك لقيه الشيخ الرئيس زاهر بن عقبة العرشي بالضيافات الجزيلة والكرامات العظيمة فأعم العساكر كلها وأثنى الناس بشكره وذم غيره، ثم نهض عليه السلام فحط موضعاً يسمى ريمة من بلد سنحان، ثم دخل صنعاء يوم الجمعة السابع عشر من شهر صفر سنة خمسين وستمائة سنة، فصلى صلاة الجمعة في جامعها وأقام في [85ب-أ] داره المباركة وأتاه أهل الجهات من سائر النواحي يهنونه الفتح ويلتمسون منه البركة وحينئذ أظهر النهوض إلى مسور لحرب من خالفه وقدم الأمير الأجل أحمد بن محمد بن حاتم والسلطان الأجل المجاهد حسام الدين الوشاح بن عمران في عساكر عظيمة ورأى إقامته تلك الأيام في صنعاء أصلح.
ومما قيل في ذلك من الأشعار ما قاله الشيخ راشد بن علي بن حسين بن عبد الرحمن يمدح أمير المؤمنين ويهنيه بفتح مأرب:
تذكر أيام الحمى فاحتمى الكرا
تراءت لعينيه القباب بحاجر
ترحل عن الدار المهينة أهلها
وجاوز بها صنعاء غير محارب
فإن شاهدت ذاك الجبين لأحمد
إمام الهدى المهدي والقائم الذي
أغر يفوق البدر نوراً وبهجة
له المنصب المشهور والشرف الذي
ثنا مدحه في الأرض ما انفك وانبرى
سلا مسور المنتاب عن سطراته
وبيحان والشرق البعيد وغيره
رما مأرباً لما عصته عصائباً
وذلك منها جامحاً متغلباً
وماذا أراد العسكر المجر غازياً
وما عدن أو ما ظفار بمعجز
?
?
وسر بذياك النسم الذي سرا
فبل بصوب الدمع خداً ومحجرا
وحل المطايا الخوض ينفخ في البرا
فمن بعد صنعاء لا أمام ولا ورا
قلائدها حيناً وما حمد السرا
رقى شرفاً سام السماك ومفخرا
ويدعو رسول الله جداً وحيدرا
يحل من العليا في ذروة الذرا
يباشر في لسن البلاغة منبرا
غداة بجيش النصر ساور مسورا
من الأرض فيها طاب سمعاً ومنظرا
وجوداً من الخيل السوابق ضمرا
تعزز من تلك المعاقل والقرا
إليها ومنه البأس نيفاً وعسكرا
لمن لم يزل في كل فتح مظفر
ومن ذلك قول بعض الشعراء غاب عني اسمه مهينئاً بقفول أمير المؤمنين من مأرب:
ي المنازل والملاعب
من كل واضحة اللما
يا ركب فانتجعوا الغنا
فلدى أمير المؤمنين
ونجائب نجدية
وشواجر خطية
وسوائر رعف دلا
وخلائق مهدية
يأيها البدر المنير
هيئته ظفراً وفتحاً
عاودت منصور الجيوش
ووردت درب الأزد
فأباح بيحان بشكرك
لو أنه أخطا الصواب
?
?
من أجل حبك للحبائب
بيضا المحياء والترائب
واغنموا حوض الركائب
مراتب فوق المراتب
من شرطها هضم الجوانب
وقواضب تردي القواضب
ـص سردها حدق الجنادب
كالمسك أو روض السحائب
مشارقاً ثم المغارب
بينا بفتوح مأرب
مبلغاً أقصى المآرب
فيك ولو عصت ملئت عصائب
بعد ما خاف المعاطب[86أ-أ]
جعلته نصب المصائب
رجع الحديث
فلما وصل العسكر إلى بيت علمان من بلاد حمير تقدم الأمير الكبير أحمد بن محمد بن حاتم في بعض العسكر إلى مسور وقد كان أكثر أهل مسور وحملان خالفوا وتحالفوا، فلما استقر العسكر في رأس مسور تقدم الأمير الكبير المقدم علم الدين أحمد بن القاسم بن جعفر بالعساكرلتدمير بني المنتاب وحملان ووقف الأمير أحمد بن محمد يحفظ حصون الجبل فقصد جهات بني المنتاب فدمروا تدميراً وأخربوا معاقلها، وغنم الناس منها مغانم كثيرة وتوطت خواطر الناس وعاد العسكر إلى أمير المؤمنين وطلب السلاطين آل صعصعة وبنو أزد الوصول إلى بين يدي أمير المؤمنين فأعطاهم الذمة السلطان الأجل المجاهد حسام الدين الوشاح بن عمران ووصل الكل إلى صنعاء، فلما لم يمتثلوا مراسيم أمير المؤمنين أمر بانصرافهم إلى بلادهم وأصحابهم يومئذ في القيود الثقيلة والجيوش الضيقة، ثم جهز أمير المؤمنين عسكراً آخر لقوة حصون مسور ولم يزل يوجه عسكراً معقوداً بعد عسكر حتى نهض بنفسه إلى الجنات وسنذكر ذلك مفصلاً.
قأقام عليه السلام في صنعاء باقي شهر صفر وربيع الأول والآخر وخمسة جمادى الأولى وأمر بالنهوض من صنعاء اليمن متوجهاً إلى جهات بلاد حمير المصانع لصلاح المغرب وقمع المفسدين حتى حط بالمنظر وقد كان في مدة إقامته حدث من محمد بن حسن الملقب بأسد الدين حادث وهو أنه لما أعناه وضاق به ذرعه ورجع خائباً من اليمن رمى بنفسه على حين غفلة إلى نواحي ذمار، فلما بلغ إلى أمير المؤمنين علم ذلك وكتب إليه سلطان اليمن الملقب المظفر يوسف بن عمر يعلمه أنه قد طرده من قطره ويفتخر بذلك جر أمير المؤمنين عليه السلام الأميرين المقدمين أسد الدين محمد بن سليمان بن موسى وهبة الله بن الفضل العباسي العلوي إلى الجهات الذمارية، فلما علم عدو الله أن العساكر قاصدة له ولى هارباً لا يلوي على أحد حتى بلغ إلى ذروان حصن الورد بن ناجي وحينئذ سبب الأسباب في تسليم حصن براش على أمور يرومها في المشرق حتى دخل بلاد مذحج جاراً، وقد كان أمير المؤمنين في أيام إقامته بصنعاء حارب بالعساكر المنصورة على براش حرباً عظيماً واستشهد جماعة من المجاهدين.
رجع الحديث إلى نهوض الإمام عليه السلام إلى المنظر
ثم نهض من المنظر فحط بالحما سفل الرحبة، ثم نقل إلى الحاتف من أرض الخشب، ثم نهض فحط في الجنات من أعلى البون، ولما حط عليه السلام أقام في الجنات فكتب إليه الأمير الكبير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام وقد كان الأمير شمس الدين لما أمره أمير المؤمنين عليه السلام بالإقامة في ظفار تقاصر عليه الحال وطال عليه الانتظار كتب أبياتاً [86ب-أ] إلى الإمام المهدي عليه السلام يستنجز بها وعده ويستعطف بها قلبه وهو ممن يحول ويقول فقال من أبيات:
أعيذك أن تنافسني مطالاً
وكان الحق إن أنصفت أني
يعز علي أن ترضى بسخطي
ذوى غصني بحسبك من سماتي
أعيذك أن حالتنا سواء
سأستر تحت إيواني هزالا
ومهما يستعن غيري فإني
?
?
وقد صدقت سواي بك الظنونا
وقد أبحرت أولهم يكون
على زمني وإرضائي يهون
فلم تبقى على العطش الغصون
وأنت وبيننا في الحال بين
فإن أبديته سمت السمين
عليك بحسن رأيك أستعين
وأقام مدة بعد ذلك وكتب إلى الإمام عليه السلام إلى الجنات كتاباً وهو من محاسن الكتب في جنسه.
قال السيد شرف الدين: فكتب إلى أمير المؤمنين كتاباً يقول فيه: هذا الكتاب شريف من أشرف شريف وهو لمعة من البلاغة ينبغي أن ترعى ولا تلغى، فله خطر ولمنشئه قدر، فليعلق في السيرة إن شاء الله تعالى وهذه نسخته -أعني كتاب الأمير شمس الدين.
بسم الله الرحمن الرحيم
(المملوك والده يخدم المقام العالي النبوي المهدي سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأدام على المسلمين رواق ظله، ولا أخلاهم عن كريم عفوه وحميد عدله، أدامه يدين لها الأقدار بالإقتدار ويمكن له غرة الأدلة والإنتصار، بخدمة إخلاص عقودها محكمة، ومعاقدها بالولاء الصريح معلمة، وسوابقها في ميدان الطاعة مقدمة، وينهي ما هو عليه من مواصلة دعاء يرغب إلى الله تعالى في تقبله وقبوله، ويبتهل أن يدني له في إجابته غاية سؤله ونهاية مأموله، وضراعته أن يبسط الله تعالى في البسيطة قدرته، ويتم عليه وبه من نعمته، وينفذ في آفاق الأرض كلمته، ويشرفه ويشرف إليه شرفاً تتضاءل دونه المراتب كما جعل طاعته وطاعة آبائه عليهم السلام من مفترضات الرواتب، فهو ولي بتبليغ رجاه ومناه، وإدراك غاية ما نواه، وهو يسأل أجراه في العادة الحسنى في التشريف بسالح المراسم الممتثلة والمكاتبات الكريمة التي هي بالمناجح مقبلة، وللآراء النبوية فضل السمو والقدرة إن شاء الله تعالى، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
ولما استقر أمير المؤمنين في الجنات اضطربت أمور المفسدين في الجهات المغربية ثم أمر أمير المؤمنين بالعساكر إلى نواحي المغرب مادة للأمير علم الدين أحمد بن القاسم بن جعفر وكان ذلك الزمان قحط وشدة في البلاد المغربية فأول من قدمه أمير المؤمنين ابن العمر الشريف الأمير الكبير المجاهد جمال الدين تواران بن القاسم بن محمد الحمزي في عسكر كثيف فأقام مدة أيام.
قال السيد شرف الدين أيده الله تعالى: ثم أمرني أمير المؤمنين بالنهوض إلى بين يديه فنهضت في عساكر متكاثرة من صناديد [87أ-أ] العرب من ذيبان والصيد وغيرهم، فلما وصلنا إلى بين يديه إلى المخيم المنصور بالجنات لم يلبث أن أمرنا بالمسير إلى نواحي المغرب فسرنا يومنا ذلك حتى أمسينا قريباً من قاعة، ثم نهضنا ثاني ذلك اليوم وثالثه حتى بلغنا حجة، وتقدمنا إلى الأمير علم الدين إلى جهة المخلافة، ولما علمت قدم بوصولنا أجمعو على أخذ الحصن المعروف الحطب خوفاً من اتصال العسكر به وقد كان صاحب جفيل وعولي مشفقين من لزم الحطب فما لبث القوم أن أجمعوا جمعاً عظيماً ولم يشعر أهل الحصن في آخر الليل إلا بالقوم فقاتلوهم قتالاً عظيماً حتى أثخنوهم بالجراحات وقاتل أهل الحصن قتالاً عظيماً وحجزت قدم بيننا وبين المادة في طرق وعرة وشواهق متعسرة، فلما أيقن أهل الحصن أنه لا طاقة لهم ولا مادة تتصل بهم دعوا بالسلم فأخرجهم القوم سالمين واستولوا على المكان، وفي خلال ذلك بلغ العلم والبشارات إلى حصن الموقر المحروس بتسليم براش صنعاء وضربت البشارات، واستر المسلمون بذلك اليوم وسار الخبر إلى التهائم وغيرها.
(قصة الفتح العظيم ببراش)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: هذا الحصن هو رأس الحصون في أرض اليمن ومدينته صنعاء قصبة اليمن وكرسى مملكة الملوك المتقدمين وهو على ثلاثة أميال من صنعاء إلى ناحية المشرق أو قريباً من ذلك متصل بجبل نقم وقد ذكر لي من أثق به أنه رأى فيه أساساً قديماً وكتابة بالمسند فيما أحسب ولم يسمع له بذكر في السير. والله أعلم بالسبب في ذلك.
والسبب في بيع براش أن صاحبه محمد بن حسن بن علي بن رسول لما عظم عليه الأمور وطال عليه الحرب.
أخبرني بعض الناس رواية مطلقة أن مماليكه المترفين الذين كانوا يستحقرون شيئاً من ملابس الكتان وحلية الفضة بل لباسهم نفائس الحرير المثقل بالذهب ونسج المصري المذهب والبندقي انتهى بهم الحال الى أن بعضهم يرتكب الرجاء بيده ويلبسون خشن اللباس ويسفون الطعام بالغ خير النوى في صلح بينه وبين أمير المؤمنين وأن ينقض الإمام الصلح بينه وبين السلطان فلم يسعد أمير المؤمنين إلى ذلك ولا التفت إلى حديث المتحدثين، فلما علم أن أمير المؤمنين ممن لا يبيع الدين بالدنيا ولا يروقه رجرجها ولا يزحزحه زخرفها طلب بيع براش بثمن معلوم وشرط مشروط؛ إذ لم تكن وقع بين الإمام وبين السلطان شرط في ذلك بالجملة وكان المتوسط في بيع براش الشريف الأمير المجاهد شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم بن الحسين العباسي العلوي وبلغ في العناية في ذلك مبلغاً عظيماً وكان الأمير المذكور ذا إخلاص ومحبة لأمير المؤمنين وإحسان في مداخلة الملوك وعنايتة بنفسه وماله ما لم يكن أحد يقوم مقامه ومن خواص أمير المؤمنين الشيخان [87ب-أ] المخلصان الطاهران مجد الدين أحمد بن محمد المنمير، وتقي الدين عبدالله بن يحيى بن علي الصعدي كان لهما عناية واجتهاد في ذلك على أنه لم يبق أحد من أهل البصائر في إمامته عليه السلام حتى اختص بنفع مفرد في ذلك وتحصيل المعجل من الثمن الذي يأتي ذكره والثمن الذي استقر عليه البيع والشراء ما مبلغه خمسمائة ألف درهم كلها من الدراهم المهدية التي وزن كل درهم منها ألفا قفلة بقفلة الإسلام وعشرون ألف غير الخلع والخيل التي أنعم بها أمير المؤمنين في مقابلة المتوسطين من خدام الأسد، وقيض الله إليه سبحانه وتعالى جملة من هذا المبلغ في الحال ثم أمر أمير المؤمنين عليه السلام إلى بلاد المسلمين من صعدة ونواحيها إلى نجران، إلى الظواهر، وبلاد ذيبان الى الجوفين، ومأرب الى المغارب من الشرفين إلى المخلافة ولاعة وحجة وتلك النواحي إلى بلاد حمير
الطرف، إلى صنعاء ونواحيها، إلى ذمار وديارها، إلى مقرا وبلاد خولان، إلى الهان إلى غير ذلك من النواحي، ففرق هذا الثمن المذكور في هذه البلاد وبسطه على الناس فجعل علىكل بالغ متمكن أربعة دراهم مهدية أو خمسة دراهم منصورية وجعل في أموال الأيتام والأرامل قسطها دون رؤوسهم وحكم بوجوب ذلك على جميع المسلمين ولم يظهر من أحد من العلماء في ذلك خلاف بل حكموا أن ذلك من أعظم القربات الذي يدفع بها عن المسلمين، وكان تسليم براش يوم الإثنين السابع عشر من شهر رجب المعظم سنة خمسين وستمائة سنة وقد كان أسد الدين شرط أشياء عند البيع:
منها: تعجيل بعض الثمن.
ومنها: الضمانة والعدالة من الأمير أحمد بن محمد بن حاتم.
ومنها: أن يكون صنو الإمام إبراهيم بن يحيى رهينة في حصن ذمرمر في باقي القيمة مدة مضروبة.
ومنها: استثناء أشياء من الشحنة والسلاح، فأمر مولانا عليه السلام بوفاء ذلك وإنفاذه، فلما قبض الحصن نائب الإمام وهو الأمير أحمد بن حاتم وجد فيه بعد القدر المستثنى من المنجنيقات والآلآت الحربية ما يقارب بعض قيمة الحصن وأمر الإمام بحمل الحبوب من البر، والشعير، والذرة، والزبيب، والجلجلان، والملح من الجوف، وصعدة، والظاهر، ومخلاف صنعاء، واستخدم أجواد الرجال المعروفين بالبأس والنجدة وكان شراؤه من أعظم الفتوح والمسرة في بلاد المسلمين.
ومما قيل من التهاني بالإستيلاء على حصن براش المحروس من ذلك قول الأمير السيد العلامة: شرف الدين يحيى بن القاسم الحمزي رضي الله عنه:
م تعلل قلبك المعمودا
ما زاد ذاك الطيف في غسق الدجى
بانو وبان الطيف لولا أنه
وإذا شغفت بحب ليلى لم أكن
تلك التي وعدت وخانت موعدي
قل للمعالم فوق أجزاع الحمى
ما للأحبة عن تهامة أجفلوا
فالأرض نجد والحيوة نسيمها
اضرب بطرفك هل ترى آلامها
والخيل تهطع في العجاج كأنها
وكأنما المهدي بشر فوقه
ذاك الإمام ومن غدت أيامه
لولاه ما انتصر الضعيف ولم يكن
أضحت به الأيام حيث توجهت
أومى إلى هضب الكميم بطرفه
وجرت على التنيين منه أنامل
ولقد رمى عم العلوج بجحفل
تسقى الرياح دمائهم ورؤوسهم
ودعا براش فملكته زمامها
كرم من الرحمن قيضه كما
فيها يعز اللَّه دين محمد
عيطاء يلحقها السحاب جناحه
حيناً ويحشر عن أشم كأنه
طود توشح بالنجوم وإنما
وتظنه العصم العواد وسلما
وعلى صوافحه الأنوف كأنها
لوكان يسجد للأنام تعبدا
فبسعده سعد الأنام وطالما
صلى عليه اللَّه من مستودع
?
?
بوصالها وأراه عنك بعيدا
إلا وزعزع قلبك المرؤدا
أبداً من الرسم الفريدة جيداً
بدعاً ولم أبغى عليه مزيدا
وحفظت عنها وعدها الموعودا[88ا-أ]
قولاً بحادية الحداة شرودا
ورموا على كره العميد نجودا
لو أن فيها للخليط خلودا
ترعى الحزون وزبرها مطرودا
شوس تلاحظ جحفلاً معقودا
ريح السعود خوافقاً وبنودا
للمسلمين على البسيطة عيدا
حكم الضعيف على القوي شديدا
تكسوا المنابر من علاه برودا
فتبددت أحجاره تبديدا
فغدا يحاكي ذابلاً أملودا
كالبحر يعصف في الفجاج حديدا
جعلت لبيض الباتكات عمودا
والملك ألقى نحوه الإقليدا
ألقى إليه سرائراً وقصودا
ويؤيد التعديل والتوحيدا
فيهز منه صواعقاً ورعودا
عمد تراه عن السماء مشدودا
زحل بواه بتاجه منضودا
ترقا به نحو السماء صعودا
فود تفود على السباسب فودا
لرأيتنا لابن الحسين سجودا
لم يلق شخصاً في الأنام سعيدا
لا باخلاً فينا ولا رعديدا
وقال القاضي العالم اللسان ركن الدين مسعود بن عمر العنسي رضي الله عنه وأرضاه:
سى أنه يدنو النوى المتباعد
وقد كنت أخفي حب من في خياله
كأني أمسي حين أزمع رفقتي
يضيئ الدجى من ثغرها وجبينها
أراني بعد الحلم راجعني الذي
فمالي عاهدت الليالي إنني
ولكن سباني طرف أحور شادن
وأدركني سكر الهوى من رضابه
وقابلني البدر المصنع بالدجى
وأنساني الأحلام لفظ كأنه
فهانا لا طبي على الشوق صابر
خليلي لا مطلب المجد عازب
فشد رحال الميس فوق ركائب
يخوض الدياجي وهي زهر كواكب
ونطوي بها البيد وهي على الوخا
عليها تنال المكرمات وتصطفي
إمام الهدى من تحت ظل رواقه
له إرث ميراث النبي بحجة
تولى أمور المسلمين فلم تهن
ولكنه حاز المدا وهو وادع
شديد قواه لين متمهل
لطيف بمن فوق الثرى وهو قاهر
حميت ثغور المسلمون وألقيت
وأحييت آثار النبوة بعد ما
وليت فلا جيد الولاية عاطل
وحسبك فخر أنك الناس كلهم
فما حج بيتاً غير بيتك عابد
يروم الورى إطفاء نورك ضلة
وزانك مجد كل يوم وليلة
ففي كل يوم تستطيل بك الهدى
تقهقر بالساعين دونك إنهم
وإن بني الأيام يذهب صبرهم
وإنهم زالو وبأسك ماثل
وأنك لا فض ولا أنت طائش
وهم يستفيدوا والحطام يجرهم
وإنك أوفيت البصيرة حقها
توالت إليك الراسيات بهضبها
وأضحى براش في يديك فأرسيت
ولما غدا من تحت نعلك فرعه
تطاول من فخر كأن هضابه
ولا غرو إن أعطيت ما أنت أهله
لعزمك فلتخضع خراسان كلها
?
?
فقد ربما لان الصخور الجلامد
فؤادي لولا أن جفني شاهد
فودعني ظبي من الأد فارد
ومن أدمعي نظم ونثر فرائد
طواه الحجى واعتادني منه عايد
خلقت صبوراً فاز من لا يعاهد
وطاوعني دون الصدور النواهد
بنيت وفيها الخمر والماء بارد[88ب-أ]
وعانقني غصن على الرمل مائد
جواهر در أسلمتها القلائد
جليد ولا دمعي على البين حامد
علينا ولا بجر المفاخر راكد
تشاد على أكبادهن المحامد
ويعلو الثنايا وهي عصم أوابد
تمور كما مار النعام الشوارد
لمدح أمير المؤمنين القصائد
طريف من الذكر الجميل وتالد
عليها له آي المثاني شواهد
قواه ولم تعظم عليه الشدائد
ونال بكفيه السماء وهو قاعد
سبوق قريب في المدا متباعد
حريص على كسب العلا وهو زاهد
إليك أمير المؤمنين المقالد
تعاظم سلطان من الظلم مارد
لديك ولا ربع النبوة بايد
وأنت إذا ما عدد الناس أوحد
ولا زال باباً غير بابك قاصد
وهيهات ما غطى على الشمس جاحد
كما زينت ذكر الجليل قواعد
وتهزم أحراب الضلال الملاحد
على العسر بخال وإنك جائد
إذا نابهم خطب وصبرك زائد
وإنهم ناموا وطرفك ساهد
ولا مضمر سوءاً ولا أنت حاقد
ومالك إلا المكرمات فوائد
بأن الذي فوق البسيطة نافد
كما يتوالا العارض المتعاود
دعائمه حيث السهى المتصاعد
بدانا سهيل تحته وعطارد
تكلل تيجاناً لهن الفرائد
وأعطيت قود النجم والنجم واحد
وبدن لسيفك في العراق الروافد
وقال الشريف اللسان العالم الفاضل اللوذعي أحمد بن سليمان العياني العلوي رحمه اللَّه:
لذ الهوى ما كان أغرى عن الفجر
وما أخلصت فيه العذارى ودادها
طويت وقد ولى الشباب وقلما
وكائن .... النفس عن شرعه الهوى
فكن لي عذيراً في الهوى فإنني
فلست بناس عهد ليلى وحبها
ولا صارفاً عن حب أحمد مهجتي
مجدد رسم الحق بعد دروسه
لك اللَّه كم أقررت من عين مسلم
وعطلت دارا من ضلال فأصبحت
وكم مأتم للنائحات أقمته
وثغر ضلال خضته فأبحته
وإن ابن أم خاض ما خضت جهرة
وقد حار فكري في مديحك إنه
وأعوزني تعداد وصفك فانطفى
وكيف وأنت الجامع الفضل كله
مهين نفيس المال حتى تركته
فلم تتخذ غير المعالي خبية
وطيب ثناء طبق الأرض نشره
أحلك رب العرش في الرتبة التي
وآتاك ما لم يؤت قبلك داعيا
وأورثك الملك العظيم ومكنت
وجاءتك طوعاً كل دار منيعة
وألقى هداد طوده متقاصر
وأصبح لما صار ملكك عالياً
تطأطأ فروع الراسيات لفرعه
وأضحى براش دار نسك تحله
وبدل بالإلحاد دين محمد
وكان من العنقاء أبعد مطلباً
فجاء مطيعاً يستطيش لما مضى
وقد بذل الماضون غاية جهدهم
وقد عرب لي برهة لم أقم له
ولم أنسره لكن عرتني حيرة
فلم يبلغوا منه مراراً وقهقروا
وليس براش غاية القصد كله
وكيف ومن دون الذي أنت طالب
وقد أهلك اللَّه الضلال وأهله
ومزقتهم في الخافقين شراذماً
على مركب للذل منزل جعجع
ولم إلا فرقة جاز هلكها
بقية قوم أخرت عن نكالهم
فبادر اليها بالجيوش مظفراً
وأنزل بها بالسيف وقعة قارن
فما زلت ميمون المساعي مسددا
?
?
وأسلم من ليل التباريح والهجر
ولم تطو أسرار القلوب على غدر
أرى طرباً بعد الشباب لدى حجر
مراراً فلم تقصر فصمت عن الزجر
أسير هواً أولى من العذل العذر
ولا تاركاً تذكار من حل في حجر
إمام الهدى المهدي ذي العز والفخر
وكالي سرح الدين من سبع الكفر
وأبكيت عيناً من غوي أخي فجر
بسعدك دار للتلاوة والذكر
على الكفر بالبيض المشطبة البتر
كفلت به للذيب زادا وللنسر
لسنحان مطبوع الفؤاد من الصخر
يقصر عنه واسع النظم والنثر
ذكاي ولم أبلغ عشيراً من العشر
كريم المساعي وافر الصيت والقدر
لغيرك راض بالقليل عن الكثر
ولم تكتسب غير المكارم من ذخر
وراحت به الأفواه في البدو والحضر
تقاصر عنها رتبة الأنجم الزهر
من الفضل حتى قيل ذا آية الدهر
يمينك من نهي الحلافة والأمر
فصار ذلولاً ذو الشراسة والقسر
لبأسك منقض الردود من الذعر
على الشهب مفتر البشاشة والبشر
وأقصر عن إقدامه قمة النسر
نجوم الهدى أهل الشفاعة في الحشر
ودرس المثاني بالمزامير والخمر
وأصعب من نيل الكواكب والبدر
له أنفاً في غير ملكك من عصر[89ب-أ]
لكي يملكوه وامتطوا كاهل العسر
بمدح ولم أفرغ بتقريضه فكري
وقوذعت حتى خلتني خبت بالفكر
وما قصروا بل أعورت ساعة اليسر
ولا هو شأو للسهام التي تسري
ممالك كسرى والممالك في مصر
وأفنيتهم بالمشرفية والسمر
فرائق شتى خيرة اللقطا الكدر
مغص وعيش غير ذي غبطة مر
وسيق إليها الحتف من حيث لا يدري
لسوء نكال وارتباك من الشر
فذا سبب للهلك في مخلب الصقر
فتلك لأهل البغي قاصمة الظهر
إلى الرشد محبوا من اللَّه بالأزر
قال القاضي الفقيه العلامة الأجل شرف الدين قاضي أمير المؤمنين الحسن بن البقاء التهامي ثم القيسي رضي الله عنه:
لا ظعنت هند وبان صدودها
وضمت جنوح المالكية رسلها
من الأرحبيات الهجان شملة
رعت بطن وادٍ من تهامة جاده
لأرض بأكتاف الحبيك عديته
بها أمنت زجر القنيص فأطفلت
كما أمنت بابن الحسين أخي الندا
غداة ترقى من براشٍ مراقياً
تقاصر عنها طرف كل متوج
تهال بها الأعيان في رونق الضحى
مراتب أبناء الممالك أصبحت
بكف إمام من لؤي بن غالب
إليه تخب اليعملات وعنده
فأحمد مولى كل مولى وفوزه
بنو قاسم آباؤه ورجاله
هم عزلوا مذ قام كل عزيزة
إلى أن أطاعته الصياصي وسلمت
وصارت مقاليد الأمور براحة
وكم طالب صنعاء غيرك لم ينل
فلما انتضيت المشرفيات تفرقوا
أبا حسن يا خير من وطئ الحصى
على رغم أقوام سعو أن ينالها
يرومون جري السابحات جهالة
وقد كانت الحسنى إليهم تقدمت
فعطل عراض الباطنية إنها
ولا تصغ للأقوال منهم فإنها
وقد عطلت أحكام دين محمد
فلا تنتظر بالمحرمية ورامها
?
?
وأخلف منها زودها وعهودها
من القيس مرباع طويل وزندها
صموت على العلات يدنو بعيدها
مطار الربا وأبحته رعودها
فلاة موشاة بني جلودها
وقل بها طول المدى من نهيدها
قلوب رجال ليس يحصى عديدها
دوين الثريا لا يرام حيودها
سواه وكل الماجدين بريدها
ويكبوا على حر الجبين صيودها
فقبض بيد كل الرجال عنيدها
جزيل العطا تبدي اللها وتعيدها
فوايد لاتحصى لمن يستفيدها
إمام بني أيامه ووحيدها
حماة قريش في الصدام وحيدها
ولم تجتمع أسيافهم وغمودها
أعنتها في راحتيه نقودها
تهجن بالعين المطيرة جودها
ذراها وحالت دون صنعاء أسودها
تفرق عير صادفت من يصيدها
تهنى فتوحاً طالعات سعودها
عدوك والعليا صعب صعودها
بساق مهيض أثقلتها قيودها
قليلاً مجاربها كثير كنودها
لرب سوى رب العباد سجودها
مكايد محتال عليك بكيدها
ويوم ظهور المردكية عيدها
بسعر تغشى الناظرين حديدها
وقال أيضاً الفقيه العلامة شرف الدين الحسن بن البقاء رحمه اللَّه:
ن الحمائم يوم بطن سويقة
ذكرت ربعاً بالطويق ومنزلا
قذفت بساكنها نوى مشطوبة
وبسفح أكبت العقيق بياضاً
اشتاقها وأحب ساكن سوحها
يا عاذلي على الجنين لدمنة
سحبت بها وطف السحاب ذيولها
لم يبق فيها غير أشعب خادل
بل رب قائلة أفق عن ذكرها
من عصبة شهد الرسول بفضلهم
من آل أحمد سيداً من سيد
يدعو الى سبل النبوة أمة
مولاهم المهدي حقاً والذي
فابن الحسين أعز دين محمد
وأبوه أحمد خير من وطي الثرى
لما دعا اللَّه أقبل نحوه
فليهنك الحصن الرفيع كأنه
فاليوم آمن ذو براش .......
والشامخات لدى براش أصبحت
زالت ملوك الترك عن عرصاته
فانعم به لا زلت صاحب نعمةٍ
قد قيل إن ذمرمراً من بعده
فانهض إليه داعياً في جحفل
لا زلت نهاضاً تروض مراتبا
يارب طالب نيلهن مخافة
فاسلم بقيت أبا الحسين معودا
?
?
أورثن سامع سجعهن سقاما
ويجيب رايته العزيز خياما
وتركن بعد مطيهن قياما
خضر الفروع نواعماً وبشاما
حباً أدار جوانحا وعظاما
درست لفقد أنيسها أعواما
والعاصفات اجتثت الأعلاما
جعلوا له يوم الرحيل حطاما
وامدح من القوم الكراما إماما
جعلوا لمن جحد الكتاب حماما
سمح السجية ماجدا قمقاما
كانت عن النهج السوى نياما
أحيا من الدين الحنيف رماما
وبه نساء المارقين إياما
كسر الصليب وعطل الأصناما
أهل الرشاد معانياً وقياما
طابت منازله وطاب مقاما
من آل أحمد خضرماً بساما
خولا وأصبح أهلها خداما
فكأنهم كانوا به أحلاما
يصمي القرين ويدحض الآثاما
كره التبطن واشتهى الإسلاما
يدع الرقاد على العيون حراما
بعدت عن الشيم الملوك مراما
خور فقهقر دونهن وحاما
لبني أبيك الكر والإقدما
وقال الفقيه العلامة الأجل ترجمان المتكلمين نظام الدين خال أمير المؤمنين قاسم بن أحمد هذه القصيدة يذكر فيها براشاً وغيره ويذكر جملاً من تعاقب أميرالمؤمنين عليه السلام:
شوقاً إذا غنت بأيك حمامة
بكت ساريات المزن بالقطر موهنا
ألثت به الحور المدائح برهة
إذا انتثرت فيه السحايب لؤلؤا
وأما سرت فيه النسيم تأددت
أشيم له البرق اللموح إذا سرى
يسامره ليل التمام متيم
وما زلت أرعى العهد بيني وبينهم
ومن يك ممذوق المودة ناسياً
تذكرت عصرا في سناع مضت به
أقام عليه الجيش ستة أشهر
تلاقى به جيش العدو فينثني
فطورا يعاديه إلى عقر داره
وما زال ذاك الدار منا ومنهم
علونا بصبر من حلو مذاقه
ورام المعادي ملجأ يلتوي به
فحار وقد حاشت بحار رتائب
وشقت له سنحان بالغدر مسلكاً
فنالت بذلك الغدر عاراً ملازما
وغالت كريماً كان لله سعيه
وأورثها قتل الشهيد مذلة
سقا جدنا في حزم سيان واكف
لأن كان حزناً دائماً فهو مشهد
وقد ثارت المصاليت بالضبا
ودوخها المهدي حتى تمزقت
فمن مرهق جزت بسيف غلاصمه
ولما اتفقنا منها المآرب وانثنى
يصاحبه بالجيش طوراً وتارة
على رسله حولين حتى تزلزلت
وأضحى له طوع القياد مسامحاً
وأضحت به الآساد وهي ثعالب
وأضحت له فانقاد للأمر طائعاً
تقاعس ممنوع المقادة جامحاً
وكم طمعت فيه الملوك فأحجمت
أشيم يحاذي الشهب والسحب رفعة
ويثني عيون الناظرين كليلة
سما فتوهمت الثريا سنامه
أهني به المهدي حصناً سمت له
أهني وإن كنت المهنى وإنما
أفاد براشاً صبره وجلاده
وقائع كانت في حضور يصده
ويحمل فوق الذابلات رؤوسه
ومرت له فوق العقاب ملاحم
شهوراً وولى ضده عنه محجماً
وأسرى بجيش نحو قارن غازياً
فغادرهم صرعى تحوم عليهم
وقاد لحرب الظاهرين وذروة
فأنزلهم بالسيف قهراً فأهبطوا
ومزقهم أيدي سبأ فتفرقوا
وجاش خلال الجوف فاقتاد خيله
ومال على صعدة ميلة
وكانوا بها أحياجلالاً فدعدعوا
وسار إلى حين سبأ نحو مأرب
بمجر كموح البحر يطفو عبابه
فعرفهم حكم الكتاب ولم يزل
وأحيا بيوم الأربعاء كل مفخر
فقام مقام الليث عند عرينه
على حين قل الناصرون ولم يقم
وسارت إليه العرب والعجم جهرة
بأرعن مثل البحر يبرق بيضه
دعاه إلى حكم الكتاب فلم يجب
فيا ساعياً في الجود والعلم جاهدا
أتلحق شأوا للذي أدرك العلى
تسامى إلى عليا الورى فانحنت
ألم تر أن اللَّه سير فضله
?
?
لربع عفت آياته ومعالمه
عليه فأضحت باسمات كمائمه
فراقت معانيه ورقت مناسمه
بداء زهره رقما مشوقا دراهمه
غصون روابيه وفاحت لطائمه
وهل يشتفي من بارق لاح شائمه
أخو زفرات موجع القلب هائمه
إذا ضيعت من حق عهد لوازمه
فما أنا إلا صادق الود دائمه
مدونة أيامه وملاحمه
أسنته مشهورة وصوارمه
وقد عولت في كل حي مآتمه
وطور يعادينا تبارى صلادمه
إلى أن علونا ثم فلت عزائمه
على أنه قد كان مراً مطاعمه
ويأوي إليه أو حليفاً يلائمه
ولم يك في الشم الشناخيب عاصمه
فولت به في جنح ليل رواسمه
تلوح على تلك الوجوه مواسمه
فنالته من رب السماء مراحمه
وخزيا الى يوم المعاد تلازمه
بكت ذلك الشجو المقيم غمائمه
يزار وترب يلثم المسك لاثمه
وأدرك منها ذلك الثار ناقمه
وحلت له في كل حي محارمه[91أ-أ]
وذي مغرم قد أثقلته مغارمه
سما لبراش كل يوم يزاحمه
يماسيه أو يزهي بليل عزائمه
قواعده مريحة وقوائمه
وقد هدأت رغباً ودلا عوارمه
وأمست حشاشاً بعد يأس أراقمه
وسامح لما استقبلته مراسمه
ولولاه ما لانت لملك شكائمه
أعاربه مفلولة وأعاجمه
فمنها غدت تيجانه وغمائمه
ويسلم من ترقى إليه سلالمه
وخلت الجبال الشم وهي مناسمه
على قدر أسيافه وعزائمه
محامده تهدى له ومكارمه
بكل مقام حس بالبيض حاجمه
يفلق بالبيض الجفاف جماجمه
ويقسم بين الغانمين غنائمه
فخرت لكفر الكافرين دعائمه
كئيباً وقد قلت وذلت ضراغمه
لجيش أثابته الهلاك جرائمه
جوارح طير ساعيات حوائمه
لها ما تهد الراسيات صيالمه
ولولا عفا حلت عليهم قواصمه
فمنهم يماني الهوى ومشايمه
وردت به في كل حي مظالمه
فولت على رعب شديد أعاظمه
فأجلى معاديه وقر مسالمه
تلوحه من كل خبت سمايمه
ويخفي تناجي القوم فيه غماغمه
وأنصاره من آله وتراجمه
بحزم سناع حيث شدت حيازمه
حفاظاً وقد لامت سواه لوايمه
على عظم ذاك الهول إلا قماقه[91ب-أ]
وقد نجمت للغدر منها نواجمه
ويكثر من تحت العجاج هماهمه
فأضحى إلى حكم السيوف يحاكمه
رويدك لا يطموا عليك خضارمه
صغيراً وما نيطت عليه تمائمه
أكارمه لما سمت وكرايمه
فحيت به أنجاده وتهائم
ومما قال الأمير السيد الشريف العلامة شرف الدين يحيى بن القاسم رضي الله عنه في قصيدة طويلة ذكر فيها عيون السيرة المهدية وذكر براشاً وهي التي أولها:
و الصب فاقصد بالذي أنت لائمه
فلو عصرت غض الهوى منك لوعة
وفي ذكر خير الناس ما يطرب الورى
وأنكح من صفو العقائل أنجبت
فيا سائلي عن شأنه إن شأنه
سما للعلى من جانبيها ولم يزل
وأعطته أم الشام جهراً قيادها
أتى مربطيها في زها ألف فارس
فلما مضى في صعدة الشام أمره
أهاب بصنعاء فاستجابت وأذعنت
مائيين وألف في الحديد كأنهم
شهاب، وسنحان، وخولان، كلها
وعنس، وجنب، من ذمار، ومذحج
فذكر من غمدان أيام تبع
أقام بها يدعو إلى الله جاهداً
فلما رأى أن ليس للمكر قاطعاً
ترحل عنها لازماً بعنانها
وعاد لصنعاء ثم ناداه مسور
ثمانون حصناً أحرزتها سيوفه
وقاد إلى سلحين جيشاً كأنما
طماه مثل سيل السد في أرض مأر ب
وأصعدها صرواح ثمت حقة
إلى أن رأى من أرض غيمان منظراً
فضل بها الجيش اللهام كأنما
وخيم بالجنات ثم تأرجت
هو الطود لم يطمع به قط طالب
به اليمن الميمون طابت زروعه
?
?
ودعه فيكفيه اللَّه الذي هو كاتمه
عذرت فخل الدمع ينهل ساجمه
إذا عددت أيامه ومكارمه
به في اللباب الهاشمي فواطمه
يقصر عن وصفيه ما أنا ناظمه
يشيدها مذ نيط عنه تمامه
على رغم من قتلها وهو لازمه
وجاد فيها القتال غواشمه
ودانت له من كل طود محازمه
وسار إليها جنده وصيالمه
شوابك غيل ..... طواحمه
وراع وصاع جمعه وأعاظمه
أسود إذ ما الروع غرد حائمه
إذا حشدت أتباعه وطماطمه
وينصف مظلوماً ويقمع غاشمه
سوى البعد من صنعاء إذا فهو رازمه
تصبحها فرسانه وصلادمه
فلباه منها جيشه وسواهمه
يماني طوطي مسور ومشائمه
يضيق به جرانه ولهاجمه
كأن يعاليل العباب غمائمه
بشطي حباب قومه وعوارمه
وشام على صنعاء للبرق شائمه
يحاكي زئير الأسد فيه هماهمه[92أ-أ]
لحصن براش بالفتوح لطائمه
ولا نصبت للمكر فيه سلالمه
وأضحى غوير نجده وتهائم
وقال رجل من أهل صنعاء في ذلك المعنى وقيل إنها للقاسم بن علي بن هتيمل:
لما اشتقت محوراً ومعيناً
ومتى ماطلبت في الحب عوناً
ما سرت ناقتي بمحرز إلا
ليت أن الوداد من صاحب السيف
آه منه فلا صديقاً صدوقا
أنا لولا المهدي أغنى وأقنى
أحمد بن الحسين مهدي عيسى
أيها المنكر الخلافة فيه
يا خليلي إن لي نفس الصب
حدثاً في حديث حصن براش
إلى قوله:
عن لي بارق بحصن براش
معقلاً سامياً وطوداً منيفاً
إن من معجز الإمام براشا
كان معنا وكنت معقل معن
طل على الشهب كيف شئت وطاول
فليهن بالمهدي حصن براشا
فعلت زفرتي وحنت ركابي
نحو صنعاء بالبرس مد شمالاً
ريب بالسر يا براش
وافتخر بالمهدي هادي البرايا
قد غنينا بجود راحته الجم
?
?
ذرفت مقلتاي ماء ًمعينا
لم أجد لي سوى دموعي معينا
وقفت برهة وطاشت جنونا
المحلى يبقى لنا ما بقينا
منذ كنا ولا عدوا مبينا
لعددت الزمان في المذنبينا
حجة اللَّه في الورى أجمعينا
قد رضينا به رضينا رضينا
وقلباً بحب صنعاء رهينا
واشرحا حاله وإلا فبينا
خلف طين سقى المهيمن طينا
راسيا راسخاً وحصنا حصينا
إن من معجزاته البنينا
موطن الطاعنين والضاربينا
طور سيناء جلالة والحصونا
طول اللَّه عمره آمينا
واغتدت تتبع الحنين حنينا
وعلى الشرق مد قهراً يمينا
وطاولت الثريا وفزت دنيا ودينا
وأمير الإيمان والمؤمنينا
غنينا عمن سواه غنين
ومن أبيات للأمير الكبير السابق المجاهد المخلص شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم بن الحسين العباسي العلوي جمع فيها مدحاً لبراش صعدة وبراش صنعاء، وغيرهما من الحصون التي افتتحها أمير المؤمنين عليه السلام، وهي من بعد سنتين من فتح براش صنعاء، قوله:
بى اللَّه إلا أن جدك غالب
وضدك مقهور ولو حل في السهى
فحمدك معمور وسعدك صاعد
إذا قيل ولت دولة منك زفرت
تحملت أعباء الأمور فلم تهن
وقلت لوجه اللَّه سعي وإن أبت
خليلي عوجا العبس عما قصدتما
فأولاك رب الخلق ما أنت أهله
وقوما على باب الإمام وكبرا
وقولا بإعلان تهن مسرة
وعز بها حق وأزهق باطل
جمعت براش مع براش فحبذا
فهذا على قطري آزال مطنب
وذلك باب الشام والشرق فريد
إليك أمير المؤمنين بعثتها
أهنيك فيها والمهنى أنا بها
وأدعوا إلهي أن يشفع هذه
أيطمع يامهدي آل محمد
وهذي حصون الأرض ألقت زمامها
ثمانون حصناً في يديك عددتها
براشان منها رأسها وسنامها
وذروة والقفل المنيع عميدها
وفي حلب سر مصون بماجد
سمى وعلى بالناصر الفذ من له
سليل أمير المؤمنين الذي غدت
وهل مدع تنساه والموقر الذي
ولله حصن الجاهلي فإنه
وياحبذا حصن الكميم وحبذا
وأعرضت عن باقي الحصون بلا قلا
فقل للطغاة الحاسدين بغيضهم
?
?
وأنك منصور وسيفك قاضب
دعتك له حتى تدين الكواكب
وسرحك محمي وقرنك خائب
عليك بنود للعلى وذوائب[92ب-أ]
وقد خانك القاضي ومات الأقارب
بنو العجم قولي أو دهتني الأعارب
إلى حلب كيما يفوز الركائب
ودان على رغم الألوف المحارب
فحق لديه أن تتم المطالب
أطاع بها شرق ودانت مغارب
وحي بها صدق وأهلك كاذب
حصوناً تناجيها النجوم الثواقب
وذاك على أرجاء صعدة ضارب
وفي اليمن الأقصى لهذا مخالب
بيوت مثاني باعدت كالنوائب
من المبتدئ من صنوها والعواقب
بأمثالها إذ من يديه الرغائب
جهول ونصر اللَّه نحوك آيب
إليك ولم يبق حصن مغالب
وفي مثلها رب الولاء والمصاحب
وحصن هداد شامخ الطود غارب
وعراب عربة ذات حبس وحاجب
حواه فيا لله طرف وراكب
مواهب جود دونهن المواهب
شمائله محمودة والضرائب
له كل ملك في تهامة هائب
منيع الذرى ترقى إليه السحائب
تلمص في حافتيه العجائب
ولكن ما الإيجاز في الشعر لازب
يموتون فالمهدي للخلق غال
وقال الشيخ الأجل قاسم بن علي بن هتيمل التهامي رحمة الله عليه ورضوانه:
تام تدمن نهيه وإلى ما
ألزمت نفسك لومة حتى لقد
أعليه إن حسن الركاب وركبها
ومن حلت أصوابها فكأنما
أبلى الحديد حديدها وتناسخت
تلك المنازل ما استعضت بأهلها
ذهبت لياليها الحسان فليتها
إن يهجر الغيم العميم فقد همت
ولو استعرت له أنامل أحمد
ببنان أغلب لا البحار زواخر
فرع من الحسنين ينفذ حكمه
متفرس في الغيب تحسب علمه
تعنو الوجوه له وتخرس عنده
متسربل متشرف في حسها
نسب يبلغ فاطم الآباء والأ
وأصالة عدة ذوائب هاشم
خصم إذا جئت الخصوم وجدته
وأبو اليتامى ما يزال أباً لهم
متتابع الحسنات يقطع ليله
يقضان يعتقد الأئمة أنه
وأشم لو راد شمام ويدبلا
رقم العدى فحسامه وسنامه
إن ساد مقتبلاً غلاماً يافعاً
وإن انتهى شبه الأبوة فيه قال
بسرية من قاسم جعلت له
قوم إذا نكص الفوارس أحسنوا
أفبعد أخذكم براشاً وأمه
يرجون جدة دولة قد أصبحت
فابعث إلى حرض وبيش والتي
فلربما مارت بمور وسردد
لو لم يكن لك عصمة نبوية
ولو أن بسطام بن قيس كان في
?
?
وعلام تعذله علام علاما
كادت ملامته تكون لزاما
في دار عاتكة فقال سلاما
كانت عصارة عيشها أحلاما
أعوامها فمضين عاماً عاما
أهلا ولا بخيامهن خياما[93أ-أ]
دامت لنا أيامها أياما
ديم الجفون على الغنيم غماما
لسقيت جوداً بانة وبشاما
كفؤ لهن ولا السحاب ركاما
في الخلق إن نقضا وإن إبراما
وحيا إليه فطنة إلهاما
ذرب اللسان فما يحير كلاما
يستخدمان الكفر والإسلاما
ـجداد والأخوال والأعماما
لا الناسبين أمية وهشاما
ألوى محاسنه ألد خصاما
من بحره إما بهن نياما
بالصالحات تهجداً وقياما
في الفضل يصلح للإمام إماما
بالخيل طحطح يدبلاً وشماما
يتعاقبان الخط والإعجاما
لم يكتهل فأبوه ساد غلاما
ضرغام يشبه شبله الضرغاما
حطط النبوة والندى أقساما
تحت العجاج الكر والإقداما
قسراً وفتحك مسوراً وشباما
بالفاطمي حبالها أرماما
ما دونها جيشاً أجش لهاما
غرر الجياد فأسهمتك سهاما
تلق الوصي بها لكنت عصاما
أيام مجدك لم يكن بسطام
ووصلت مكاتبة الأمير الكبير الحسن بن محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الهادي إلى الحق عليهم السلام والصلاة والرحمة يثني فيها على أمير المؤمنين ويشكره وعلى معروف أسداه إليه ويهني ببراش لما بلغه إليه العلم من غير كتاب يصل إليه، فقال في أثناء الكتاب:
كرتك شكر الغيث والغيث يقصر
وإن أنا لم أشكر وأطنب شاكراً
سل الناس عني يخبروك بأنني
وقد طرقتنا في براش بشارة
وظني أن الأمر حق فإن يكن
هنيئاً مريئاً ما أنالك ربنا
ومني على ذاك المقام تحية
?
?
ومثلي من يثني عليك ويشكر
لنعمتك العظمى علي لأكفر
لجودك في كل المواقف أذكر[93ب-أ]
فإن يك عن صدق فنعم المبشر
فشكراً لذى الطول الذي هو يشكر
من النعم الحسنى التي لا تكدر
روائحها مسك سحيق وعنبر
ووصل من الأمراء الكبراء المعظمين آل يحيى بن يحيى بن الهادي مجتمعين يهنئونه عليه السلام:
ن البشائر كالنجوم وهذه
والشمس ما طلعت فأبقى ضوؤها
بشرى تملأ كل عين قرة
ما عمت الأحياء بشرى قبلها
أهلاً بتلك بشارة إذ أقبلت
فلهن مولانا الإمام مقره
ناداه نصر اللَّه إنك حيث ما
شرقاً وغرباً لا يرى من آمر
فانعم صباحاً يا براش وإن يكن
لا الخمر يطمع أن يراك ولا ترى
هيهات تخشى بعد وصل إمامنا
ولقد أمنت المومسات وصرت من
لو كانت الدنيا يدوم نعيمها
أما الأعاجم يا براش فلا يرى
لله أحمد من إمام سيد
سعدت له الأنام من عقدت له
اللَّه أكبر جل تفتح ما ترى
ماذا تعالت ذا الجلال إذا مضى
أنت الذي خضعت لسطوة بأسه
لا زلت ناصر كل دين غالباً
على براش وعز عن أعدائه
عمرت منازله الرفيعة بالتقى
لوكان يسعى صالحاً قلنا له
?
?
كالبدر ضوءاً والغزالة نورا
ضوء لنجم منجداً ومغيرا
منها جميعاً والقلوب سرورا
والخافقين مسرة وحبورا
أمسى جميع المؤمنين قريرا
ببراش لا حرجاً ولا مقهورا
وجهت كنت مؤيداً منصورا
يعصيك إلا أصبح المأمورا
ذنب يكن لك كله مغفورا
أبداً ربابات ولا طنبورا
فسق الأعاجم أو تخاف كفورا
بعد المهالك جنة وحريرا
بدلت من بعد الفواسد حورا
من بعد ملكك ملكهم معمورا
أحيا الهدى وأمات قوماً بورا
هدي الخلافة في القضاء صغيرا
يابن النبوة ما حييت أميرا
أمراً وكان لمن يحب نصيرا
غلب الرجال وأذعنو لك صورا
للظاليمن موفقاً منصورا
حولين يهدا بالعدى محصورا
وغدا الخنا في ربعه مهجورا
أجزاك ربك سعيك المشكورا
فأمر أمير المؤمنين عليه السلام بإجابتهم ليعظم حقهم وشرف قدرهم فقال الشاعر:
اءت على قدر بكل غريبة
فلها لطائم في الركاب أريجه
سحبت على قمم السحائب ربطها
لو أن همام بن غالب صاغها
ولو أن قيساً وابن حجر شاهدا
لأتاك هذا في الأخير حسيرا
ما ضرها إذ نشر يحيى نشرها
منظومة غراء هجر ربها
من أسرة جعلوا المساعي في العلا
من آل يحيى خير آل محمد
والموقدي نار الحروب ببيضهم
والطاعني ثغر النحور وقد غدت
وتشب نيران القرا في حيث ما
قوم بهم قرن الكتاب وفيهم
جاءت تهانيهم على شحط النوى
بأشم ينتقل الجبال وتفزع
نادى به عقر الوعول وعصمها
لولا قضية فتحه قدرية
ثم استباحته السيوف فحللت
وغدا به القرآن يتلى دائماً
?
?
كالروض تنشره الصبا محضورا
استاقهن معنبراً وعبيرا
وغدت عقود تعظمت وشذورا
أنسا بها يوم الرهان جريرا
مرقومها ونسيجها منشورا
ورأيت ذاك محلقاً مبهورا
إن لم يكن مسكاً ولا كافورا[94أ-أ]
من بعدها المنظوم والمنشورا
فسعوا فلم يبغو عليه أجورا
بيتاً وأغزرها جداً موفورا
والواردين وطيسها المسجورا
صور الكماة من الأسنة صورا
حلو فحلب مقوياً مقرورا
نزل الكتاب مبيناً مسطورا
فغدا بها ربع العلا معمورا
السحب الثقال بخاله منفورا
حرقاً ودهرك لا يرى يعفورا
ما كان فتح رناحه مقدورا
ما كان حجرا قبلها محجورا
لا اليم يتبعه سعاد الزبرا
وفي خلال ذلك ما قد تقدم ذكر سببه من وصول أمير المؤمنين عليه السلام الجنات من الاختلاف في جهة مسور وبث السلطان مجاهد بن سليمان بن محمد بن الحسين ابن عمه الفضل بن أسعد بن محمد بن الحسين في جماعة من بني أزد المفسدين فلزمهم وأثقلهم بالقيود على صورة لا ترتضيها العرب في سالفتها وكان ذلك من ألطاف الله تعالى لابن نبيه أن نزهه من الأفعال القبيحة وكان عند ذلك أمر مجاهد بن سليمان وأعلم أمير المؤمنين عليه السلام بلزمهم فلا صوبه أمير المؤمنين بذلك ولا أمره بذلك ولا كره نكاية أعداء اللَّه وتسليط بعضهم على بعض وعند ذلك وصل الأمير الكبير المقدم نسب أمير المؤمنين وسيفه علم الدين أحمد بن القاسم بن جعفر من الجهات المغربية حتى إذا صار قريباً من بلاد بني أزد أمر بخرابها وتدميرها ويسلم الحصن المعروف بالعزيا بين الكلالي ومسور واستقرت عند ذلك الأمور وسكنت الحوادث، وتسلم أمير المؤمنين في خلال ذلك حصن الجاهلي في الخدم من أولاد الأمير عماد الدين يحيى بن حمزة باختيارهم، ووصل الأمير المقدم الذكر إلى أمير المؤمنين فلقيه وأحسن مقابلته وشكر سعيه وقضى حوائجه ولم يلبث أمير المؤمنين عليه السلام أن نهض من الجنات قافلاً إلى صنعاء اليمن غانماً ظافراً مشكوراً مذكوراً.
أخبرني بعض الثقات أن الإمام عليه السلام ركب من الخيل في مدة إقامته بالجنات نيفاً وثمانين ما بين حصان وفرس، فأما الخلع ومطارف الحرير فلم يحصل لي تحقيق ذلك.
(قصة نهوض أمير المؤمنين عليه السلام من الجنات)
السبب في ذلك لما نقصت [94ب-أ] الحوائج وانحسمت الشرور في الجهات لم ير إلا النهوض فنهض من الجنات في عسكر عظيم من الخيل والرجل فحط بموضع يسمى ضروان، ثم نهض ثاني ذلك اليوم فحط في المنظر، ثم نهض ثالث ذلك اليوم وهو يوم الثلاثاء ثاني وعشرون من شهر رمضان سنة خمسين وستمائة فدخل صنعاء اليمن فوقف في أجل نعمة وأتمها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويتبع سيرة جده عليه السلام وينفذ الأحكام ويتفقد أمور الأمة ويلاحظ مصالحها وينفق مما آتاه اللَّه وفي هذه المدة سكنت الحوادث في الأقطار بعناية أمير المؤمنين وسعايته فجزاه اللَّه خيراً، وأقام في صنعاء أيام من بواقي شهر رمضان من سنة خمسين وستمائة وشهر شوال، والقعدة، والحجة، والمحرم، وشهر صفر، وربيع الأول إلى ثلاثه أيام منه، وخرج من صنعاء اليمن إلى هجرة سناع.
(قصة الأسباب والحوادث التي خرج لأجلها أميرالمؤمنين إلى صنعاء)
قال السيد الشريف العلامة شرف الدين يحيى بن القاسم رضي الله عنه وأرضاه: لما استولى أمير المؤمنين على حصن براش اضطربت أمور سلطان اليمن الأسفل يوسف بن عمر بن علي وقد كان صالح أمير المؤمنين على شروط كثيرة فأخذ في الجد والإفساد على أمير المؤمنين على وجه خفي وأظهر للإمام تجملاً وأنه مسرور بحصول براش للإمام وما يعلم أنه جرى عليه أعظم من ذلك، فلما علم أمير المؤمنين بذلك لم يستحسن نقض الصلح والمعاقبة حتى كثرت الحوادث من جهة السلطان وقتل قوماً من الأشراف بني سليمان وغير ذلك، وعند ذلك توسط المتوسطون بين الإمام عليه السلام وبين أسد الدين في الصلح وهم الأمير الكبير أحمد بن محمد بن حاتم العباسي والشيخ الرئيس علوان بن عبد اللَّه الكردي الجحدري، والقاضي اللسان ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي وغيرهم من الشرف والعرب، فانتظم ما بين الإمام وبين الأسد على شروط:
منها: إن أعطاه بلاد معينة في رداع وديارها وبلاد عنس، وشيئاً في الأقطار الصنعانية، وشرط عليه أمير المؤمنين سلوك السيرة المهدية والعدل في الرعية وإنفاذ الأحكام الإمامية وعقد له عند الاستيلاء على اليمن الأسفل بشيء من الحصون، والبلاد، والمدن، وأنصفه غاية الإنصاف، وعظم، ورهن عند أمير المؤمنين ولده وامرأته فأمر بهم أمير المؤمنين إلى عزان عند الأمير أحمد بن محمد بن حاتم، بعد أن أنعم أمير المؤمنين على أولاد أسد الدين لما وصلوا إليه بأربع من جياد الخيل وكساهم من نفائس الملابس ووقع الإجتماع بين أمير المؤمنين وبين أسد الدين في اليوم الرابع من شهر القعدة سنة خمسين وستمائة واجتمع الرأي فيما بينهما [95أ-أ] على النهوض إلى جهة ذمار.
(قصة نقض الصلح)
وقد كان سلطان اليمن أمر رسولاً إلى الإمام عن الصلح هل هو ثابت أم لا؟ فإن كان ثابتاً فيأمر الإمام برفع المحاط عن حصن هداد فأجابه أمير المؤمنين أن صاحب حصن هداد حاربنا وبالغ في الفساد علينا وجاش علينا بجملة من الأموال فإن خرج منا بما يجب فعلنا ما يحب السلطان في ذلك وهذا بنفسه يخالف الشروط التي انعقد عليها الصلح بيننا وبين السلطان والخطوط شاهدة على الجميع فكان الجواب من السلطان أن جهز عساكره وقدم منهم عبدا له خصياً يقال له بدر حتى وصلوا ذمار.
رجع الحديث
فتجهز أسد الدين وأزمع على المسير وضم إليه أمير المؤمنين جملة من الخيل وأمر نائبه في الجهات الذمارية بحشد العساكر وامتثال أمره في عرض هذه الحركة والمبالغة في إنصافه بكل وجه من الوجوه.
[قصة الحرب بين عساكر الإمام والأعاجم]
قصة الحرب بين عساكر الإمام المهدي لدين اللَّه عليه السلام وبين الأعاجم ومن يقول بقولهم من عسكره السلطان.
قال السيد الأمير شرف الدين رضي الله عنه: ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام أمر أخاه لأمه الأمير السيد فخر الدين إبراهيم بن يحيى بن علي بن القاسم بن عبد اللَّه بن القاسم بن أبي البركات، وهو إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن محمد بن القاسم ترجمان الدين عليهم السلام في عسكر مقدار ثمانين فارساً من أنجاد الشرف والعرب وفيهم من الكرد الأمير المقدم المجاهد ناصر الدين صالح بن عمر فحط في موضع يسمى السواد إلى جانب حصن هداد فقطعوا عنه المادة وتقوت بوصولهم المحاط على هداد ولم يبرح في محطته تلك حتى ورد عليه رسم أمير المؤمنين عليه السلام بالتقدم إلى مغارب ذمار وشن الغوائر على الغز الذين هنالك فامتثل أمر أمير المؤمنين فلما صار في المحطة التي تسمى الحجبين أمر خيلاً من تحت الليل إلى جانب باب ذمار، فلما كان من الصبح خرج من عسكر ذمار قوم فوقعت بهم الخيل فقتل منهم جماعة فيما بلغنان ثم تجهز الأعاجم بعد ذلك وقصدوا محطة الأمير فخر الدين في قوة عظيمة وأمر محكم وعندهم أنهم ينالون غرضاً فأكذب اللَّه ظنونهم وردهم بكيدهم فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وكانت وقعة بين العسكرين فانجلت المعركة عن جماعة قتلوا من عسكر الأعاجم.
روى بعض الناس أن القتلى في تلك الوقعه كانوا عشرين أو نيفاً وعشرين. والله أعلم.
(قصة تسليم هداد)
لما اشتد بأهله الحصار وانقطعت السبل وحيل بينهم وبين ما يشتهون ونالتهم المضرة حتى أكلوا الحمير والخيل وأشياء من الأشجار التي لا تؤكل [95ب-أ] فيما بلغنا. والله أعلم.
فدار المتوسط فيما بينهم وبين أمير المؤمنين فتولى ذلك الأمير المجاهد شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم العباسي العلوي وتقدم وبالغ وبذل لأهله وهم الهروش، وانصرم الأمر فيما بينه وبين الأمير أحمد بن محمد وبين مظفر بن راشد وقبض الحصن، وكان تسليمه من أعظم الفتوح في ذلك الأوان وعند ذلك انقطع ما في أيدي الغز الذين في ذمار وأحاطت بهم المراكز وتقاصرت الأسعار حتى أيقنوا بالهلال.
أخبرني رجل من بني العم أنه روى له إنسان من أهل ذمار بعد أن هرب منها الخصي وعسكره أنه رأى أجمالاً في داره يعض بعضها بعضاً من شدة الجوع وأنها ماتت عن آخرها.
رجع الحديث
وكان تسليم حصن هداد في اليوم الأحد سلخ الحجة آخر سنة خمسين وستمائة سنة وبلغ أمير المؤمنين العلم بذلك فاستر المسلمون بذلك وأمر بالبشارات إلى الجهات الإمامية فالحمد لله.
(قصة هرب الخصي وعساكره والوقعات بينهم وبين المجاهدين)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: وقد كان الغز الذين في ذمار نهضوا قبل أن يعلموا بتسليمه هداد متوجهين الى جهات هداد لرفع المحاط فبلغهم العلم بتسليمه فعند ذلك سقط في أيديهم، ثم حطوا في موضع يسمى رصابة ليتهيئوا بذلك وكانت محطة العساكر الإمامية في السواد تتناظر المحطتان فوقع بين العسكرين حرب عظيم قتل منه جماعة من الغز وعقر شيء من الخيل واسشهد من المجاهدين [.....بياض في المخطوط.......].
ولما كان يوم الجمعة خامس من شهر المحرم أول سنة إحدى وخمسين وستمائة تجهز الأعاجم لحرب عساكر الحق ومنعهم عن الصلاة فقاتل المجاهدون قتالاً عظيماً وكانت الدائرة على الغز وفي خلال ذلك وصل الأمير المقدم علم الدين سليمان بن يحيى وهو أخو الإمام لأمه في عسكر عظيم من الخيل والرجل، فلما وصل ازداد المسلمون قوة ودخل في نفوس الأعاجم أن الدائرة عليهم فنهضوا محطتهم من رصابة إلى مدينة ذمار فلم تطل مدتهم أن هربوا على رؤوسهم على أشر قضية.
قال الراوي: والسبب في هربهم أن القوم لما عاودو الى ذمار عرف الناس أن الذل قد دخلهم فاجتمعت قبائل تلك النواحي ونهض عساكر الإمام فحطوا موضعاً يسمى هران وظهر الكلام أن غرضهم قصد الأعاجم الى ذمار.
وقد أخبرني من أثق به أن خيل الإمام عليه السلام كانت يومئذ قريباً من ثمانمائة فارس من فرسان الشرف والعرب والأسد وممالكيه، فلما علم الغز بذلك ولوا مدبرين في الليلة التي يسفر عنها السبت الثالث عشر من شهر المحرم أول سنة إحدى وخمسين وستمائة سنة، فلحق العسكر [96أ-أ]من أثاثهم وانتهبوا أشياء من أثقالهم ولحقهم الناس بعض نهار فلم يظفروا منهم بشيء؛ لأن القوم أسرعوا من تحت الليل وقد كان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام استدعى الأمير الكبير المتوكل على اللَّه أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام وكان في حصن ظفار واستنجده لحرب أعداء اللَّه فلبى دعوته وأسرع اجابته وأمر له أمير المؤمنين بشيء من المال يستعين به ويتجهز للجهاد، فلما وصل إليه إلى صنعاء لم يلبث أن جهزه أمير المؤمنين في عصابة من أهله وبني عمه وأضاف إليهم من فرسان العرب من أمكن وأمره بالنهوض في يوم الإثنين ثامن المحرم سنة إحدى وخمسين وستمائة وجهز بعده الشريف الأمير الحسيب جمال الدين توران بن قاسم بن يحيى بن حمزة بن أبي هاشم الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم ترجمان الدين عليهم السلام في عسكر وأمره أن يلحقه وأمر بتعظيم الأمير المتوكل وإنصافه وإنفاذ أمره، فبلغ العلم إلى أمير المؤمنين بهرب الأعاجم قبل وصول الأمير المتوكل وجماعته، ولما اجتمعت العساكر في ذمار لم يلبث أسد الدين محمد بن الحسن بن رسول أن نهض قاصداً إلى صنعاء إلى الإمام، فلما علم الإمام بإقباله كره ذلك واشتغل خاطره فأمر إليه بالوقوف فلما يساعد إلى شيء من ذلك برواية أن من شياطين الإنس من كان قد أسر إليه من ابن عمه سلطان اليمن ومناه بأمور وقد ظهر ذلك من
فعله على ما سنذكره من بعد، فلما وصل إلى أمير المؤمنين إلى صنعاء لقيه عليه السلام وأكرمه وعظمه وأنصفه، ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام أمره بالنهوض إلى التهايم وحرب ابن عمه من تلك النواحي فأظهر الإمتثال لأمر الإمام وتعلل بممالكيه وأجناده وأنهم يطلبون مالاً وحراباً وأشياء كثيرة عددها فلم يبعد أمير المؤمنين مما طلبه فأمر له بشيء من مطارف الحرير وشيئاً من الدراهم قريباً من ستة عشر ألفاً وأمر أمير المؤمنين إلى ناحية المغرب الى ابن عمه الأمير علم الدين أحمد بن القاسم أن يطلب ذلك من الناس وأن يجهزه ويبالغ في إنصافه.
قال السيد شرف الدين يحيى بن القاسم رضي الله عنه: كنت المتوسط في ذلك فلما بلغت إلى جهة المغرب وأعلمت الناس بذلك بادر الناس إلى ذلك وأحبوه ورأوا نكاية العدو مغنماً، فلما تبين لأمير المؤمنين أن الأسد في واد غير ما يطلب منه كان منه على حزم إلى أن ظهرت فضيحته وبان مكره وغدره، وسيأتي الكلام في إيضاح غدره ونكثه.
قال الراوي: وقد كان سلطان اليمن جهز عسكراً إلى حواز البلاد المغربية وقدم فيهم عمارة الأصبهاني وكان من أشد الناس عداوة لأمير المؤمنين وأعظمهم فساداً وأشدهم ارتكاباً للخبائث من شرب الخمر واللواط، وجميع الحناثات فلما حطوا موضعاً بين المخلافة وجبل تيس وقد كان اجتمع معهم من الحرابة وغيرهم خلق كثير لم ير الأمير المقدام علم الدين [96ب-أ] أحمد بن القاسم بن جعفر إلا أنه يقصدهم بنفسه فجمع عسكراً عظيماً وقصدهم بنفسه من تحت الليل فالتقى أول العسكر بمركز القوم بعيداً من المحطة فقتل منهم جماعة ونهبوا وطار بعضهم بنفسه في شواهق الجبال، فلما سمع أهل المحطة أصوات القوم ركبت الخيل واستعدوا فلم يظفر منهم بطايل، فلما عاينوا من الأمير المقدم الذكر من شدة البأس علموا أنه يشفع الوقعة بأخرى فولوا هاربين إلى التهايم وبلغ العلم إلى أمير المؤمنين بذلك فاستر المسلمون بذلك سروراً عظيماً.
رجع الحديث إلى نهوض العساكر من مدينة ذمار
ولما اجتمع في ذمار من العساكر ما يقصر عنهم الوصف نهض الأمير المتوكل على اللَّه وصنو الإمام المهدي عليه السلام االأمير الكبير علم الدين زعيم جيوش المسلمين أبو المظفر سليمان بن يحيى بن علي بن القاسم بن عبدالله بن القاسم بن أحمد بن أبي البركات وهو إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن محمد بن القاسم ترجمان الدين عليه السلام وجميع الأمراء والمقدمين في العساكر حتى حطوا في موضع يسمى الملاوي ثم نهضوا إلى موضع يسمى ذي جرب بين الأسلاف والصمنية، ثم نهضوا إلى موضع يسمى منكث، ووصل إليهم صاحب الحصن المسمى دراون الورد بن محمد بن ناجي وأطاع وأحسن النصيحة في ذلك الأوان.
(قصة حرب رياب)
ولما استقر العسكر هنالك وكان هنالك قوم من الباطنية الملاحدة في موضع يسمى رياب، وهو موضع ممتنع، فقصدهم المجاهدون فبلغوا منهم مبلغاً عظيماً.
أخبرني من أثق به أن النسوان والصبيان تولوا استنقاذهم لما كاد المجاهدن أن يدخلوا معهم المكان فقتل من أعداء اللَّه جماعة واحتز بعض رؤوسهم ودعا بعضهم بالسلم، ثم نهض عسكر أمير المؤمنين إلى موضع يسمى مرس لحرب الباطنية الملحدين في حصن كحلان الحداد وأخذ زرائعهم وخراب بلادهم، فلما استقرت المحطة هنالك ووقع الحرب بينهم وبين عسكر أمير المؤمنين فقتل من أعداء اللَّه جماعة منهم ولد منصور بن الحداد وأخاه وبلغ العسكر في خراب أموالهم وبلادهم مبلغاً عظيماً وهذا الحصن كحلان من المعاقل المشهورة وكان أهله زيدية لا يعرف فيهم هذا المذهب فدخل عليهم شيطان من الإنس يقال له التيس وكان من آلات الباطنية وخدامهم فحاورهم وكتم أمره ودس عليهم المذهب الخبيث على حين غفلة من العلماء في تلك النواحي، فلما أغوى رئيسهم مال إليه الأكثر فالله المستعان عليهم، ثم نهض عسكر أمير المؤمنين إلى موضع يسمى خاو وأقام هنالك أياماً.
[ذكر قصة طلوع سلطان اليمن وغدر أسد الدين ونكثه]
قصة طلوع سلطان اليمن يوسف بن عمر وما كان بعد طلوعه من غدر أسد الدين ونكثه بأمير المؤمنين وتعين المفسدين من بني حمزة وبني القاسم وغيرهم وهمدان وساير القبائل وما حدث من البلوى والتمحيصات التي يمحص اللَّه بها أولياءه من الأنبياء والأئمة رضي الله عنهم.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه:[97أ-أ] قد اختلفت الروايات في سبب طلوع السلطان بنفسه فأخبرني بعض الناس أن عمه الحسن بن علي أشار عليه بذلك أو أمر عليه وعنفه بالكلام وكان في حسه غيره على ملكهم أن يسلب. والله أعلم.
وأخبرني من أثق به أن الأمير المتوكل على اللَّه لما استقرت المحطة بمنكث جرت المكاتبات سراً بينه وبين السلطان المظفر على أيدي الأمير علي بن وهاس على حرب الإمام عليه السلام وعلى تسليم أموال جليلة للأمير شمس الدين فانصرم الكلام بينهم على ذلك وأن الأمير شمس الدين أمر إلى السلطان بخاتمه ذمه على إتمام ما جرى به الحديث من الشروط والمواثيق وأرسل إليه السلطان بشيء من المال على وجه خفي. والله أعلم.
وقد ذكر ذلك الإمام عليه السلام ذلك في رسالته الموسومة ( بحليفة القرآن) فقال: هذا أميرهم جعلناه زعيم جيوش المسلمين وقلدناه سيد الثغر المنفتح علينا من اليمن فباع ذلك بعرض من الدنيا يسير وقدم إليهم خاتمه ذمة في كونه منهم وذلك أمر ظاهر قد أقر به عند من يثق به.
وأخبرني بعض الناس أن هذا السلطان لما استولى على حصن الدملوة في ذلك الأوان وجد فيه أموالاً جليلة فدعاه ذلك إلى حرب الإمام وعلم الإمام أن أهل الزمان عبيد الدينار والدرهم وإن أكثر الناس ممن يريد الفساد في اليمن الأعلى من مخلاف صنعاء كالأمراء الحمزيين والسلاطين آل حاتم أهل ذمرمر وسنحان وغيرهم من القبائل وأنهم قد صاروا يداً واحدة، فنهض لأجل ذلك على حين غفلة، فلما استقل في الحقل في موضع يسمى الضنمية نهض عسكر الإمام من خاو إلى قصر المياتم ثم إلى مثواه وأقاموا من هنالك وكان طلوع السلطان من اليمن ثامن شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وستمائة فحط في الضنمية وأقام فيها أياماً وانتقل إلى موضع يسمى خاو لتثبيت أمور القبائل من مذحج وغيرهم، وانتقل فحط الخشب ثم انتقل إلى ريدان قبلي مثواه وأمر خادمه الخصي المسمى بالمختص أن يحط في يماني مثوه ليفرق الحرب على المجاهدين ثم انتقل إلى موضع يسمى البيضاء، ثم إلى أسفل عناصر، وأقام أياماً، ثم نهض إلى مصنعة الدمتة، وكانت الوقعات بينه وبين الأمير الكبير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله وصنو الإمام المهدي الأمير الكبير علم الدين سليمان بن يحيى بن علي ومن معهما من المقدمين والمجاهدين الأولى في موضع يسمى المراكب قريباً من مثوه لليال خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وستمائة قتل فيها من أعداء اللَّه قريباً من عشرين رجلاً والوقعة الأخرى في جمادى الآخرة من السنة المذكورة وهي وقعة الخادم الخصي المسمى بالمختص وكانت في موضع يسمى المطاجرة قتل فيها رئيس من رؤساء الباطنية الملاحدة يسمى منصور بن الحداد صاحب كحلان في عدة من الأعاجم وغيرهم.
أخبرني من أثق به من بني العم أنه شاهد فوق الثلاثين القتيل من أعداء اللَّه وغنم المجاهدون [97ب-أ] منهم غنائم كثيرة من الدروع والبيض والمغافر والسيوف والخيل والبغال وآلة الطيلخانة ولم يقتل من المجاهدين إلا رجل واحد وأبلى في ذلك اليوم الأمراء الحمزيون خاصة؛ لأن سائر المقدمين كانوا في جهة أخرى؛ لأن السلطان الملك المظفر قد كان دبر وطمع في الفتك من المجاهدين فرده اللَّه بغيظه خائباً حسيراً، فالحمد لله رب العالمين.
ولما غنم المسلمون هذه الغنيمة من أعداء اللَّه طلبهم الأمير شمس الدين بردها لأجل ما تقدم بينه وبين السلطان من المواثيق بكونه منه وكتب القاضي الأجل الأوحد ركن الدين مسعود بن عمرو أبياتاً إلى الإمام يقول فيها:
مير المؤمنين فدتك نفسي
فلا طويت نواحي الطل مما
ولا برحت بشائر كل نصر
أتت أنباء قومي فاستقرت
شفاني ما سمعت وكان أشفى
قبائل معشري بيديك أنخث
أناخو حول رايتك المطايا
يخفون الأكارم من علي
أمدك ذو الجلال بخير نصر
فلا يطمع ملوك الأرض فيها
ولا تمسكوا بعهود ملك
وأجساد تبددها المواضي
إذا ما دمت للإسلام حيا
?
?
وما ثمرت من مال وآل
مددت علي من جاه ومال
إليك طلائعاً طول الليالي
بديهة عترتي وتروع مالي
إلى نفسي مباشرة القتال
على الملك المظفر بالوبال
فآبت غير خائنة الرجال
عصائب إذا دعي الداعي تزال
وأيمن طاير وأجل فال
بطيب العيش فاخر المقال
لهم طارات بأجنحة الزوال
وأثقال تقسمها العوالي
وقال اللَّه من غير الكمال
[قصة قفول الأميرين الكبيرين شمس الدين أحمد وسليمان بن يحيى]
قصة قفول الأميرين الكبيرين شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام وصنو أمير المؤمنين عليه السلام سليمان بن يحيى ومن معهما من المقدمين والمجاهدين إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
لما علموا أن الناس قد طمعوا في حطام الدنيا وأخلدوا إلى الدينار والدرهم وتقاصرت عليهم الأسعار وامتنع الناس من البيع والشراء منهم في الأغلب وأوعب أهل الجهات على مخالفة الحق رغبة في حطام الدنيا وطمعاً في سلامة بلادهم لم ير الأمير شمس الدين إلا أنه أحسن في النهوض على وجه من الحزم واجتمعت قبائل زبيد على الخلاف منهم بنو قيس وأهل سليم وجبر بن صبرة وأصحابه وزيد بن جبير ومن قال بقوله، وكذلك قبائل مذحج …… إلا أهل عمر بن مفضل وأصحابه، وعلوان بن عبد الله الجحدري فإنهم أمسكو في الظاهر على اختلاف الروايات. والله أعلم.
رجع الحديث
ونهض السلطان لما حمله الناس على الجهات الصنعانية واختلف المختلف بينه وبين ابن عمه [98أ-أ] أسد الدين ووثق بما عنده في الخلاف على الإمام فنهض فحط في موضع يسمى سفل آل عابس فأقام أياماً ونهض إلى عديقة وأمر بخراب مواضع معروفة في وادي صميم واستئصالها لكون أهلها أهل محبة لأمير المؤمنين، وعشيرة الفقيه الطاهر التقي المجاهد السابق المعلى بن عبد الله القيسي البهلولي فلم يبق في أملاكهم وأعنابهم بقية، ورأى أنه قد شفا غيظاً ونقم بذلك ثأرا، ثم نهض بعد ذلك إلى بلاد سنحان فأقام فيها أياماً ونهض فحط في الصافية ما بين سناع وصنعاء.
(قصة غدر أسد الدين وخلافه على الإمام وخروج الإمام من صنعاء)
قد ذكرنا أولاً ما كان من ميله إلى الإمام وانصافه له وتعظيمه وتقديمه في الجيوش وكتب له بالبلاد وبالغ في حقه، وقد اختلفت الرواية فقيل: إنه أرسل إلى السلطان إلى اليمن وأنه أنف على ملكهم لما هزم الخصي من ذمار وظن أن الإمام لا يتأخر عن اليمن وأنه يكون آخر دارهم، وقيل: بل مناه السلطان بخروج ابنه وأخيه ومن معهما وبذل له أموالاً جليلة، وقيل: أنه بذل له من المال ستين ألف دينار في كل سنة مع شيء حاضر، وقيل: غير ذلك، وقيل: لما وصل ذمار اختلفت أكاليمه فتارة يظهر الخروج إلى تهامة، وتارة يقول: أنه لم يوفر عليه قيمة حصنه براش ويتحدث ويراسل، وعلم أن السلطان غير متأخر من صنعاء وأن من مع الإمام من الحمزيين وغيرهم قد صار فاسداً أراد أن يأخذ فخراً عند السلطان بالقرب إلى صنعاء وليصل الكلام أنه حط على صنعاء فنهض فحط في المنظر واضطرب أهل صنعاء خوفاً من قرب السلطان وكثر الفساد على الإمام ممن كان معه من الأمراء الحمزيين وغيرهم فلم ير أمير المؤمنين إلا الخروج إلى سناع لقطع مادة الفساد ويحفظ المسلمين ولتكن له فئة ينصرونه من أهل تلك الناحية، فنهض عليه السلام إلى سناع ثم دخل أسد الدين صنعاء وأقام فيها إلى وصول السلطان إلى بلاد سنحان إلى موضع يسمى الفُقه فلم يرا أمير المؤمنين إلا النهوض من سناع، وكان من خلاف الليث ما كان وحط أمير المؤمنين في بيت رجال، ثم نهض السلطان وقابله أسد الدين من فوق حتى أخرب سناع ورام خراب مسجدها فمنعه الله منه وصرفه، وانتقل أمير المؤمنين إلى موضع يسمى رهقة شرقي بيت ردم فأقام أمير المؤمنين هنالك في قلة من الناصر وعسر في النفاق والمحيص إلا أن الله قيض في تلك الأيام استفتاح حصن بيت برام بخبر ما انثلم في تلك الناحية فأعز الله بأخذه الإسلام وابتهجت بحصوله ثغور الإمام، وقصة أخذه تفصيلها يطول ويخرجنا عن الغرض المقصود.
ومما قيل في تلك الأيام من الشعر قول القاضي الأفضل الحسيب المعظم ركن الدين[98ب-أ] مسعود بن عمرو بن علي العنسي رحمه الله:
سخت قواعد دولة الإسلام
ونقمت ثأرك في سناع يوم ما
وطويت أوتاد المماليك في يد
أو ظن بيت يرام أن تثنى له
وتألبت عرب وعجم أيقنوا
إذ فوقنا موج وإذ من تحتنا
فدعوتنا للحسنيين ولم تكن
هيهات قد يلي الملوك بصخرة
فليقصرن الظالمون فإنها
كم من جموح الرأس دل جماحه
ومقام ملك قد طمست رسومه
قل للذين تنكبوا سبل الهدى
أعن السفينة ترغبون وقد طغت
لا بالقنوط ولا الملول ولا الذي
يعطي ويصدع شمل كل ملمة
ويلوح في سدف الخطوب جبينه
وترى العفاة على سرائع جوده
تصحى الوفود وهم ملوك عنده
لا لابن كبرى ولا[......]
يلقاك إما منجداً أو مرفداً
وتراه لا فرحاً بنيل عظيمة
ويلوذ منه المذنبون بواصل
لمقرب سبب البعيد وحافظ
وتعانف الأظلال رماحه
يا من تعجب من تداول كفه
أتراه يبرح منعلاً لجياده
?
?
وسمت فروع دعائم الأحكام
نلت المرام بفتح بيت يرام
جعلت حصون الأرض سلك نظام
ما كان أذوقه العباب الطام
أن لا تقوم لهم على الأقدام
موج ومن خلف ومن قدام
بمريد وكل ولا نوام
صما قد أعيت على الأقوام
أيام عدل أيما أيام
يابن الحسين وقدته بزمام
فكأنه ضغث من الأحلام
عودوا إلىالمهدي باستسلام
فتن غرازيهن كالأعلام
تثنى عوارفه يد الإعدام
بيد منزهةٍ عن الآثام
كالصبح يهدم جيش كل ظلام
كالهيم يوم الخمس ذات زحام
وترى الملوك لديه كالخدام
عطفاً ولا بمسفه الأحلام
بسنا غرة واضح بسام
أبداً ولا وجلا من الأيام
حبل المعاطف واصل الأرحام
عهد القريب ونازح عن ذام
وظلال خافقة وظل قيام
سجلين من حيف ومن إكرام
أم الورى ومتوجاً للهام
ومما قال القاضي اللسان ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي في تلك الأيام وهو في هذا المعنى:
لا هل إلى حجر سبيل
وروض تقطف الأزهار منها
ورمان على المران أما
وقنوان يفوح المسك منها
لئن غلب الحمى ظبي غرير
وروعني التذكر كل ليل
فإن عزائم المهدي باتت
تولع بالحروب فما تبالي
وأغري بالكفاف فكل يوم
فليس ظلالنا إلا العوالي
أمير المؤمنين بقيت ظلا
صحبتك فأستفدت يقين علم
وأنك ليست الدنيا بهم
فأنت على العظائم لا عجول
تقلبك الأمور وأنت طود
ويبلوك الأنام وأنت بحر
تجربك الخطوب فلا يمين
وفي يوميك من حرب وسلم
مقامك في جناحهما جليل
تقل على وقائعك الأعادي
وتغفر تحت قدرتك الخطايا
إذا مدحتك آيات المثاني
وأي جدودك الأبرار ينسي
تطاول من يقول أبي علي
ومن في أصل منبته شبير
أعانك بالعلا صدر رحيب
وأصبح في جبين الدهر سطر
تصدع عند دعوتك الصياصي
على فوق السماء لها قباب
فإن حاست ملوك العجم يطفو
وأنكرت الصنائع منك قوم
ببطش يديك دان لهم عزيز
فأنت مليك أهل الأرض لولم
بكم ملك المشاعر والمصلى
وحولك من بني المختار غلب
جحاجح أحمد المهدي فيهم
يقود بني أبيك وهم أسود
يخوض بهم عباب الموت أما
ومحصنا الذي لو شاء أفنى
إذا زفر الضلال وأسعدته
فحول لوائك المنصور بيض
?
?
هو عز وورد سلسبيل
ولكن خدها أرض سليل
ثنا أعطافها الرمل المهيل
إذا التبست بها الرمح القبول
وأغرى بالهدى طرف كحيل
كما ترتاع مطفلة عجول
وضلت دون من يهوى حول
أحال الحي أم بان الخمول
دم يجري ونقع يستطيل
وليس فرارنا إلا الرحيل
لأهل الأرض ما جنح الأصيل
بأنك خير من ولد الرسول
عليك ولا لها عبء ثقيل
ولا واهي اليدين ولا ملول
تزول الراسيات ولا تزو ل
وفيض ولا يضيق له سبيل
مذممة ولا فكر كليل
مكارم ليس تحصرها العقول
ووجهك تحت جنحهما جميل
وتكثر في صوارمها الفلول
ويسخو تحت أنعمك البخيل
من الملك الجليل فما أقول
محمد والذبيح أم الخليل
ومن عماه جعفر أوعقيل
وشبر والمطهرة البتول
وجاز بك المدى باع طويل
لفضلك واضح لا يستحيل
ويشفى عند نفثتك العليل
ومجد في السماء له مقيل
بجانب مجرها العرب القيول
عليهم من شواهدها دليل
وعز على الورى منهم ذليل
يكن لك في بساط الأرض قيل
وملك الناس غيركم وجيل
ومن قحطان حربهم وبيل
يفل بسيفه الخطب المهول
عليها من قنا الخطي عيل
غدا يعلو على الرمح الصليل
ولاة الظلم وهو لنا كفيل
طرائق عزهم برق مخيل
نفوس الظالمين بها تسيل[99ب-أ
قال الراوي: وكان من الأمراء الحمزيين الأمير علي بن وهاس بن أبي هاشم عند السلطان الملك المظفر في ذلك الأوان ذا جاه ومنزلة.
أخبرني هو عن نفسه في محاورة الحديث أن السلطان الملك المظفر أعطاه من محطتة قريباً من نقيل صيد إلى محطة الصافية بصنعاء، قال فيما أحسب ثلاثة وعشرين ألفاً أو يزيد على ذلك وكانت مدة قريبة وهو الذي دس الحديث بين الملك المظفر وبين الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام وقيل: كان خلاف الأمير بعده. والله أعلم.
(قصة خلاف الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام وماكان بعد ذلك من الامتحانات والبلوى في الظاهر وصعدة، وبلاد حمير)
والسبب في ذلك أنه لما وصل إلى الإمام المهدي إلى هجرة سناع تلقاه أمير المؤمنين بما هو أهله وشكر سعيه وأغمض عما كان بلغه من المكاتبة للملك المظفر ولم يذكر له شيئاً من ذلك، فلما أقبل السلطان إلى الجهات الصنعانية أمر إلى الأمير أسد الدين أن يطلع بلاد بني شهاب ونواحيها ومقتل من جازه صنعاء حتى تنقطع المادة عن الإمام فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فنهض حتى حط في بيت رجال في بلد بني شهاب، وأقام هنالك أياماً، ثم إن المتوسطين توسطوا فيما بين الإمام وبين الأمير شمس الدين في تقريبه بالكلية والعطف عليه وإنزله منزلته التي هو أهلها، فأجابهم إلى ذلك وهو كالمستعشر لما فعله الأمير شمس الدين من المكر والخدع والغدر، ولم يدع وجهاً يمكنه في التلطف به والإجابة لما سأله لتكون الحجة عليه، وحضر الأمير شمس الدين في مجمع عظيم من كبار الشرف والعرب من العلماء وغيرهم، وجرى الكلام والمعاتبات والإعتاب، ثم أعطى أمير المؤمنين عهد الله وميثاقه على النصيحة والحرب لأعداء الله فقبل ذلك أمير المؤمنين منه وطابت نفسه بذلك، وتحدث الأمير شمس الدين على أعيان الناس باجتماع الكلمة بينه وبين الإمام وأنه إلى ظفار لزيارة أهله هناك وافتقاد أموره والتشمير للجهاد في سبيل الله، وصدر من حضرة أمير المؤمنين على ذلك حتى وصل وادي ظهر والتقى ببعض أهله، وجرت المراسلات من هنالك بينه وبين السلطان الملك المظفر والسلطان حينئذٍ في محطة الصافية ما بين سناع وصنعاء في عساكر عظيمة، فلما تمت الشروط بينهم تقدم الأمير شمس الدين فالتقى بالسلطان وجرت بينهما الأيمان والموثقات على حرب الإمام عليه السلام واستئصال شأفة أنصاره، وعقد له السلطان بأشياء وأعطاه شيئاً من المال، وأمر الأمير أسد الدين بالقيام مع الأمير شمس الدين في حرب الإمام، ولم يلبث السلطان أن نهض قافلاً إلى جهة اليمن، وقال في ذلك القاضي ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي أبياتاً[100أ-أ]:
لله حسيبك يا ابن بنت محمد
إن يطردوك فإن سعدك غالب
ما للعباد على عنادك قدرة
يكفيك لو أصبحت وحدك أوحد
?
?
دون الأنام ونعم نعم الناصر
أو يخذلوك فإن نصرك قاهر
وزعيم نصرتك المليك القادر
فابسط يمينك إن كفك قاهر
( قصة نهوض الأمير شمس الدين ومن معه من الأمراء الحمزيين ونهوض أسد الدين لحرب الإمام )
قال الراوي: ثم إن القوم نهضوا فكانت طريقهم المواريد وبلاد عذر، ثم نهضوا إلى بلاد ذيبان فأخرجوا فيها حيث أمكنهم من أنصار أمير المؤمنين وكان المشائخ أهل يناعة عيال سعد بن سبر قد أسروا إليهم، فلما قرب القوم من البلاد وصلوا إليهم فقادوهم فنهض القوم حتى هبطوا إلى موضع يسمى اللجين مشرف على السواد من بلاد الصيد فحطوا في الموضع الحيس، ثم تقدم عسكرهم حتى بلغوا موضعاً درباً لعيال عبدالله بن هيصم، أهله أهل محبة للإمام والتزام به فأخربوا دربهم وقتلوا رجلاً من شيوخهم يقال له محمد بن نوح من المجاهدين الأخيار ومثلوا به، وكان الأمير الكبير سليمان بن يحيى في مركز هنالك، ثم عاد القوم إلى محطتهم فأقاموا هنالك ليال قرائب، ثم نهضوا حتى حطوا البون الأعلى بالجنات وكان في البلاد ثمرة صالحة وخصب عظيم، وأقام القوم أياماً قرائب ثم إن أمير المؤمنين قرب من صنعاء واجتمعت معه القبائل وحضر من فيها، فلما علم أسد الدين بذلك لم يلبث أن نهض قافلاً إلى صنعاء، ثم إن الأمير شمس الدين ومن معه من أصحابه عظم عليهم الأمر واضطربوا، فلم يروا إلا الطلوع إلى الظاهر واستدراج من أمكن من الناس وقد كان أسد الدين قدم معهم مملوكاً في خيل من خيله يسمى العماد تركياً، فنهض القوم إلى نهج الظاهر فطلعوا موضعاً يسمى موسم شاش، فلما استقلوا في ظاهر آل يزيد شرد عنهم الأكثر من أهل البلاد ولم يخالطوهم فلم يلبثوا أن ساروا حتى حطوا في الظاهر الأعلى ظاهر بني صريم في سبع فوصل اليهم جماعة من أهل البلاد وأظهروا للناس تلطفاً ومنوهم بأشياء على وجه المخادعة،
ثم نهضوا إلى طلع غفر من بلاد بني صريم.
(قصة نهوض الإمام من حرب صنعاء)
قال الراوي: لما علم أمير المؤمنين بما كان من أهل يناعة من الفساد والميل إلى الغز ومن يقول بقولهم من الأمراء الحمزيين ودخول عسكرهم وادي الصيد وما أحدثوا من قتل وخراب غضب أمير المؤمنين عليه السلام لذلك، ونهض من صنعاء لما علم أن أسد الدين قد أقبل إلى جهات صنعاء لما استغاثوا به وخافوا على صنعاء من الإمام، فلما أقبل أسد الدين جرى بينه وبين الإمام هدنة فنهض أمير المؤمنين في شهر [.....بياض في المخطوط.......] سنة إحدى [100ب-أ]وخمسين وستمائة سنة في عساكره، وقد اجتمع معه بنو شهاب وبنو الراعي وغيرهم من قبائل تلك النواحي ومن خدام الحصون، فحط في أعلى البون، ثم نهض فحط في موضع يسمى ريدة، ثم أقبل إليهم المخاطبون من المشائخ أهل يناعة يبذلون من نفوسهم الرجوع والرهائن والدخول فيما يرضيه، فلم ير عليه السلام إلا خراب يناعة لما جرى من أهلها من الفساد، فأمر أمير المؤمنين بخراب درب المشائخ عيال سعيد بن سبر في مقابلة خراب درب أصحابهم عيال عبدالله لكونهم أنصاراً له، ثم خرب أكثر قرية يناعة إلا دوراً رأى تركها، ثم إن الشيخ موسى بن علي وبني عمه رأوا أن لا طاقة لهم بحرب الإمام فرهن ولده وولد ابن أخيه إلى حصن الإمام بذروة، وأمر الإمام بقطع سوق يناعة ورحل المشائخ أهل يناعة فحلوا في ذيبين وصارت يناعة خلا من أهلها، ونهض أمير المؤمنين في عساكر وقد اجتمعت معه هنالك قبائل الظاهر فكانت طريقه على نقيل محاصر فحط في دماج ثافت، ثم نهض إلى حوث وقد كان الأمير شمس الدين وبنو عمه لما علموا بإقبال الإمام في الجهات الصنعانية وكانت محطتهم في طلع غفر بظاهر بني صريم نهضوا الجوف، فلما استقر أمير المؤمنين بحوث لم يلبث أن نهض لطرد القوم من الجوف، وكان ذلك من عشر ذي الحجة الحرام سنة إحدى وخمسين وستمائة سنة فاتفقت أيام العيد وهو حاط في المراشي فأقبلت إليه
قبائل دهمة بالطعام والحنطة والغنم الكثيرة والدارهم ما أعم به العسكر لما يحتاجون إليه للعيد، ثم نهض عليه السلام إلى الزاهر فاجتمعت إليه قبائل الجوف إلا من كان من القوم واجتمع مخلف الإمام من آل عزان وأهل السوق وغيرهم والشرفاء والأمراء آل أحمد بن جعفر ببراقش، وأقبل راشد بن أحمد بن راشد الجبني، ومنصور بن ضيغم فيمن قال بقولهما من آل جحاف ومعهم الأمير شمس الدين ومن يقول بقوله، وحطوا في أسفل الجوف في موضع يسمى سراقة، وأقبل أمير المؤمنين عليه السلام وقد اجتمع معه ثلاثمائة فارس، فأما الرجل فألوف، واجتمع من فرسان بني حمزة والغز وجنب وآل جحاف إلى قريب من ثلاثمائة فارس أيضاً ومن الرجل ما لا يكاد ينحصر، وتقالبت العسكران ونصبت العتاب والهوادج علامات للبدو عند الحرب ولم يبق إلا المناجزة، فلما علم القوم أنه لا طاقة لهم بمقاتلة الإمام توسط قوم من الأمراء الحمزيين الذين كانوا في جهة الإمام خوفاً على أصحابهم، ووصل الأمير عز الدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين من جهة أبيه الأمير الكبير شمس الدين ولم يبرح كبار الناس بأمير المؤمنين يستعطفونه ويتوسلون إليه باللتيا والتي حتى وهب لهم ذمة على أنهم يرتحلون، ثم أقبلت عند ذلك الشاوق الذين كانوا معهم إلى الإمام، فلما دخل الليل ارتحل الأمراء الحمزيون وجميع من في محطتهم من جنب وآل جحاف وطعنوا [101أ-أ] في الخبت وركبوا متن القفر، فلما علم أمير المؤمنين بهروبهم لم ير إلا الرجوع إلى الجوف فاستقرت محطته بالزاهر.
ومما قيل في ذلك في تلك الأيام من الشعر ما قاله الفقيه العلامة اللسان القاسم بن أحمد الشاكري الهمداني:
حبابنا إن الهوى لجديد
وأين ربا صنعاء وهي محلتي
وكم رمت لقياكم وقد حال بيننا
ورورا تعواها القطاليل ورده
ولم ينسني شخطى ورامي نارحاً
ولم أنسها يوم النوى ودموعها
وعيصت من عيني أكفكف دموعها
وقد جعلت بسر أيديها على يدي
وأدنيتها شماً وضماً فضاعفت
لها عقدات الرمل ردف وملدها
وقافية غرا ما حاك نسجها
سهرت لها ليل التمام فلم أنم
يبيت فؤادي يجمع الفكر شملها
قريضاً أعارته المحاسن حسنها
وألحمته في الليل نسجاً ونشرت
ملابس أبلغن العناية حقها
عقائل أبكار المعاني كأنها
وكم طلبت أكفاها قبل وقته
فحلت على كف كريم فخيمت
بأفصح من يرقى المنابر خاطباً
فتى لا يهاب الجيش يطفو حبابه
وقد جمع الله المحامد كلها
وملكه الدنيا مع الدين فاغتدى
وأضحى له في المجد والفضل والندى
أقام على صنعاء يوم قيامه
وزلزلها بالحرب من كل جانب
وأنزل أرباب الحصون أذلة
وما كان غير ابن الحسين بعزمه
ولم يشعروا حتى بدت جنباتها
ولولا نجوا صبت عليهم سيوفه
وقاد إلى الأعداء جيشاً كأنه
ولاذوا بعفو الله ليلاً وأصبحوا
وكانو بها في الناس ذكرى وعترة
فأدركهم عن سبع عشرة ليلة
بدت والمعادي يقرع السن نافعاً
?
?
وإن مكاني منكم لبعيد
وداركم وهي اللوى وزرود
أساود تلقاها دونكم وأسود
ويعنى بها الخريت وهي جليد
ولا نبذت منها لدي عهود
عقيق على لباتها وفريد
ومن لي بكف السحب وهي تجود
دلالا وغياها عليّ برود
وحالت برود بيننا ونهود
قوام ونوار الشقيق خدود
عبيد ولا ألقى عليه هنيد
غرار وأصحابي لديّ هجود
ويضحى بنظم الشعر وهي عقود
وقامت بإحساني عليه شهود
صباحاً على المهدي منه برود
قشائب لا يبلى لهن جديد
من الحور لم تنهض لهن قدود
فأكدت واض الزبد وهو صلود
وحان لها بعد الهيام ورود
وأهيب من رفت عليه بنود
حديداً ولا يثني خطاه وعيد
له وله كل الأنام عبيد
يحكم فيما يشتهي ويريد
مكارم لا يحصى لهن عديد
بجيش تكاد الأرض منه تميد
وفيها جيوش جمة وجنود
أسير ومعفور له وطريد
يسير ولا تلك الجياد تقود
ونازلها نقع ولاح حديد
ونال شفاها سيد ومسود
خضم له من حافتيه مدود
تخب بهم خب الأباطل نود
كما ذكرت في العالمين ثمود
ضوامر لم ينقص لهن لبود
وقد جاءه ما كان منه يحيد[101بأ]
تمـ
( قصة نهوضه عليه السلام إلى صعدة)
ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام نهض فيمن معه من العساكر إلى صعدة بعد أن كان قد أذن للبعض في الرجوع إلى الجهات الصنعانية، فلما قرب من صعدة ………. كان خرج أهلها في لقائه عليه السلام مجتمعين فنزل عليه السلام في منزل [.....بياض في المخطوط.......] فتلقوه بالإعزاز والإكرام، والإجلال والإعظام، فلم يلبث أن دخل بالشريفة الفاضلة الطاهرة الحسينة دنيا بنت الأمير الناصر لدين الله عز الدين محمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام، وقد كان عقد بنكاحها من يد عمها الأمير المتوكل في مدة متقدمه، وكانت هذه الشريفة ممن جمع مع النسب والحسب الشريف شرف النفس والسماحة التي لم يسمع في نساء زمانها، فبعد أن دخل بها أقام في صعدة شهراً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويمضي الأحكام، وأقبل إليه قبائل القبلة وغيرها.
(قصة نهوض أسد الدين ومن معه من الغز قاصدين صعدة)
........ للأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام.
لما رجع أسد الدين إلى صنعاء وجرى بينه وبين الإمام الهدنة في الجهات الصنعانية، وطرد الإمام الأمراء الحمزيين إلى مأرب وتلك النواحي كاتبوا سلطان اليمن المظفر وشكوا ما كان من الأمير أسد الدين، فكتب السلطان إلى ابن عمه أسد الدين يستنهضه ويحضه على الخروج إلى براقش والجوف والمسير إلى صعدة، فلما علم الأمراء الحمزيون بما وصل من السلطان إلى أسد الدين وأن أسد الدين عازم على النهوض، نهضوا من جهة المشرق حتى حطوا قريباً من براقش، ثم أقبل الأمير أسد الدين بعسكره على طريق بلادهم حتى اتفقوا عند براقش ووقع الحرب على براقش وهموا بالمحطة عليها فلم يروا لهم طاقة بذلك، وقد كان الأمير الكبير محمد بن فليتة بن سبأ أمر ولده الشريف الأمير سليمان بن محمد بالوقوف في درب الزاهر، والتأهب للحرب منه، فقصده القوم بأجمعهم الأمراء الحمزيون، وأسد الدين والغز وقبائل جنب آل ضغم، وآل راشد، وآل جحاف، وحطوا على الدرب وتابعوا الزحف ونصبوا المنجنيق، والدرب في نفسه درب صغير ودخله خلق من الناس فضاق بأهله وأضر بهم الحصر والمنجنيق، ومات عندهم البهائم من الإبل والبقر حتى أضر بهم نتن الجيف وكثرة الجراحات، فعند ذلك دعوا إلى الخروج والتسليم فأجابهم الأمير أسد الدين إلى ذلك على كره من الأمراء الحمزيين باطناً فخرج الأمير ومن معه في أمان من القوم وأقام هذا الحصار على درب الزاهر وقتل من أهل الدرب [.....بياض في المخطوط.......] فلما أخذوا درب الزاهر سولت لهم أنفسهم دخول صعدة وبلغت إليهم الأخبار من جواسيس لهم هنالك من بعض أهل صعدة أن البلاد ما دون أخذها إلا وصولهم وأن أهل المدينة[102أ-أ] قد فسد أكثرهم على الإمام فعند ذلمك عزمو على دخول صعدة.
(قصة دخول الأميرين شمس الدين وأسد الدين ومن معهما من العساكر من الغز وغيرهم مدينة صعدة وما جرى من البلوى والحوادث هنالك)
قال الراوي: ثم بلغ إلى أمير المؤمنين عليه السلام أن القوم عازمون على دخول صعدة وأن بعض أهل صعدة قد أسر النفاق فلم ير عليه السلام إلا الرجوع الى الصبر والتوكل على اللَّه تعالى والاعتصام به عز وجل وأن لا يكاشف إلا على يقين، ثم أن أهل صعدة افترقت آراؤهم فبعضهم رأى الإجلاء عنها صواباً ويقول إن دخلها القوم خرجوا عنها وبعضهم يقول نحن بحمد اللَّه في عزة و أمير المؤمنين بين أظهرنا وفئة لنا ودروبنا حصينة وعدتنا قوية فنحن لا نبالي بالقوم، فلما اختلفت آراء القوم رأى أمير المؤمنين الصلاح في مساعدتهم وخرج عليه السلام من صعدة ليمنع القوم ويسد عليهم المذاهب من طرق مذاب والعمشية، فركز عليه السلام بعسكره على رأس عقبة يقال لها العجلة، فلما علم القوم أن الإمام عليه السلام قد سد عليهم تلك الطرقات وقد كان عليه السلام رتب في صعدة الأمير الحسن بن وهاس بن أبي هامش في جماعة من أهله منهم الأمير علي بن محمد صفي الدين، ومنهم الأمير الطاهر أحمد بن قاسم بن الحسين الحمزي، ومنهم الأمير جعفر بن يحيى بن قاسم بن أحمد بن عم الإمام عليه السلام، ومنهم الأمير أحمد بن قاسم بن الحسن الحمزي من عيال يحيى بن حمزة، ومنهم جماعة من فرسان العرب والكرد منهم القاضي المجاهد أحمد بن مقبل بن زيدان، ومنهم القاضي العالم المجاهد يحيى بن عطية بن أبي النجم، ومنهم الأمير صالح بن عمر الكردي وأخوه وجماعة غاب عني ذكرهم، وجماعة من أهل صعدة فرسان إلا أن الفرسان الذين كانوا في المدينة قريباً من خمسين فارساً أو فوق ذلك والله أعلم بصحة عددهم، وفي المدينة من المقاتلة ما يقارب ألف مقاتل ومعهم أيضاً من خدم الفضل عصابة.
رجع الحديث
ثم إن القوم لم يستطيعوا الطلوع من الطرقات التي هي معروفة طلبوا طريقاً آخر غير تلك الطرقات فدلهم بعض الناس طريقاً مجهولاً تأتي شرقي حصن براش صعدة وهو يومئذ في أيديهم ولم يخطر للإمام ببال أنهم يستطيعون المضي هنالك فما شعر عليه السلام حتى ساروا تلك الطريق وجعلوا حصن براش عن شمائلهم ثم من شعب الغيل الذي يفضي إلى الحجر، ثم صعدوا الى وادي دماج وحطوا هنالك وتقدم الأمير داود بن الإمام المنصور بالله عليه السلام في عصابة من أهله على الفور حتى دخلوا وعمدوا درب الإمام المنصور بالله وكان لهم هنالك أهل وحريم ووقع الحرب بينهم وبين أهل المدينة وصرع رجل من جند الأمراء الحمزيين عند باب صعدة قريباً من مسجد الهادي عليه الصلاة والسلام وفقئت عين الأمير [102ب-أ] الكبير علي بن عبد اللَّه بن الحسن بن حمزة بن سليمان الجواد بسهم وقتل معه [.....بياض في المخطوط.......] وكاد أهل المدينة أن يستظهروا عليهم، ثم أن الأمير شمس الدين أمدهم في الليل بعسكرمن الرجل فلما أصبح نهض الأمير شمس الدين وأسد الدين بمن معهما من العساكر فحطوا عند درب الناصر بن الهادي عليهما السلام غربي مدينة صنعاء وتقدم الأمير شمس الدين إلى أهله إلى درب الإمام ثم عاود المحطة ووقع الحرب بينهم وبين أهل المدينه فقتل [.....بياض في المخطوط.......] وأقاموا على ذلك يدورون بالمدينة ليطلعون على عورة أهلها فينتهزون الفرصة وكان بين أهل الدربين من الحدادين وبين أهل المعلاة وسمارة وسائر مدينة صعدة دخول وحروب قديمة وعداوة عظيمة وقد كانوا تهادنوا وتصالحوا وحذف كل منهم لصاحبه على النصيحة فعامل بعض الحدادين ودخل إلى الأميرين في الليل وتشارطوا على أشياء كبيرة فيما بلغ وقيل إن بعض الأمراء الحمزيين ممن كان بصعدة دبر لهم الأمر والمكيدة والله أعلم أي ذلك كان، فقد اختلفت الروايات واجتمعت في سمنان الجداد جل آخر معه أنهما رأس أهل المكيدة. والله أعلم.
فلما كان بعض الأيام وقع الزحف ولزم كل مركز واشتد القتال وكانت الخيل في المطراق عند مسجد الهادي عليه السلام بحال الخيل ولم يشعروا حتى راعهم صوت الصارخ من تلقاء موضع يسمى بلجا شامي مدينة صعدة، فدخل أسد الدين ومن معه من العساكر من هنالك وعند ذلك أغلق الحدادون دربهم ونصبوا راية أخذوها شعاراً لعسكر الحمزيين والغز كيلا يغلط أحد بهم، ولما كان الأمر كذلك انكشف الناس من مراكزهم وذكر كل أهله وحريمه فوقعت في المدينة كشفة وروعة لم يسمع بمثلها ولم يرد أحد من أهل المدينة ومن كان معهم من جهة الإمام ينتظر ولم يجد فئة يتحيز إليها فتحيز الأشراف الأمراء الحمزيون إلى مسجد الهادي عليه السلام إلا حسن بن وهاس، ودخل بعض أهل صعدة مسجد الهادي ظناً منهم أن ترعى حرمة الهادي عليه السلام.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: فبلغني أن بعض الغز قتل رجلاً من المسلمين وهو ملاصق لقبر الهادي عليه السلام وأسر كثير من المجاهدين والأمراء من مسجد الهادي عليه السلام، وأصيب الحسن بن وهاس بطعنة في فخذه من عبد لعمه جعفر بن أبي هاشم مع الأمراء الحمزيين فيما بلغني، وعاث العسكر في المدينة فهتكت الحرايم وفعلت العظايم، واستشهد القاضي المجاهد نجم الدين يحيى بن عطية بن أبي النجم أصيب بسهم في رأسه أو عنقه ثم أجهز عليه رجل من المتهتكين من خدم الأمراء الحمزيين فذبحه ذبحاً، وقتل القاضي الطاهر زيدان بن مقبل بن زيدان وفي يده راية الأمير شمس الدين ذمة وثب عليه رجل من آل الشمري فقتله، وقتل [103أ-أ] الشيخ يحيى بن محمد بن خالد وقد كان كبير السن.
قال السيد شرف الدين أيده اللَّه تعالى: وبلغني أن بعض نساء المدينة المخدرات أخرجن بين العسكر مكشفات الرؤوس مجردات الأبدان حتى لقد كان الأمير أسد الدين يأمر بجمع الحرايم ويدخلن بيوتاً يستترن بالجدرات، ولقد كان أحسن حالاً من الأمراء الحمزيين ولم يسمع بكشيفة كانت أعظم منها خصوصاً في الحرايم، فرويت روايات كثيرة رأينا أن نعرض عنها ونطرحها لما في سماعها من الإقذاع واختلاف الروايات فالله المستعان، وهرب قوم وحرايم إلى درب الحدادين وعلى الجملة فما بقي مانع ولا دافع فقتل من الناس خلق كثير منهم من ضربت رقبته صبراً، ومنهم من قتل في القتال، ومنهم من أثخنته الجراحة حتى مات، وعلى الجملة فإن الروايات في هذه الوقعة العظيمة كثير ولم أرو إلا ما تطابقت فيه الرواية. والله أعلم بالصحيح.
ولما رأى أسد الدين ما جرى في المدينة عظم عليه الأمر فأمر مماليكه بمنع الناس من القتل فامتنع الناس وكسا كثيراً من الحرايم وعاث العسكر في دور المدينة فانتهبوا منها أموالاً جليلة وذخائر عظيمة وآلات وفرشاً وإماء وعبيد ومن الخيل والدواب وغير ذلك ما لم يحصره أحد، وأسر من الناس خلق كثير فمنهم من أرسل لضعف حاله، ومنهم من اشترى نفسه، وعظمت هذه المصيبة على المسلمين، وارتفعت بها رؤوس المفسدين.
قال الراوي: ثم أقام القوم في صعدة فجاهروا بشرب الخمور وضرب المعازٍف وارتكاب الفواحش، وأمروا أعداء اللَّه من اليهود بصنعة الخمور، فروي أنهم أخرجوا لهم من الخمور التي قد مضت عليها السنون. والله أعلم.
وظهر من بعض العلماء هنالك ما لا يصلح ذكره من إلقاء المودة للقوم، فأقام القوم في صعدة [.....بياض في المخطوط.......].
ومماقيل في هذه الوقعة من الشعر ما قاله الفقيه العالم اللسان زيد بن جعفر الباقري الصعدي:
فعت لعيني نارهم في باد
والليل قد أكل الركاب وكلنا
فرجعت قلت إذا لأهلي امكثوا
أو جذوة آتي بها فلعلكم
فقصدتها أغشوا فلما جيتها
ردماء مدين لا تذاد ولا ترى
وبنات معشر لا شعيب عنده
فاربع على ماد وقل لأهيله
مازلت أستهدي النسيم فأرضكم
وأجلبت علو الرياح إذا جرى
بشراك أيتها الركاب فهاهنا
من باسمه السبع الشداد تكونت
وجرى به القمران في فلكيهما
وإذا دعاء الصم الصلاة تفجرت
لو قال يوماً للملائكة اسجدوا
فجرت به بطحاء مكة والصفاء
وتنافست فيه الحجون ويثرب
لو أنه يوم السقيفة حاضر
إن كا ن لابن أبي قحافة شاهد
أوكان في الشورى لما أضحت إلى
دحرت الإمام خير إمامه
لا باختيار حازها كلا ولا
فلذا امتطاها قائماً أو قاعدا
وترى الإمامة في فناء مناخه
سيماوها المعروف فوق جبينه
هي في إمامات الأئمة كلهم
ختمت إمامته الإمامة فانتثت
والله أظهره لأمر شاءه
كم من مقامات له علوية
تسموا بها قمم الهدى ووهاده
انظر إلى آياته اللآتي بدت
وسعى وطوف في البلاد وأكثروا
صب الإمام عليهم سوط العذاب
واطفى بطوفان السيوف نياره
كم شب أرباب الضلالة والعمى
وتألبوا من كل أوب نازح
وعثوا وعاثوا لا اقتداراً منهم
خلعو عرى الإسلام عن أعناقهم
كم منكر ركبوا وكم من فعلة
لم يرقبوا في مؤمن إلا ولا
لله درك حيث لم تمهلهم
فحللت عقد نظامهم فتبددو
ولرب ناكث بيعتين تركته
ولرب ممنون عليه جليته
ولرب راكب رأسه في غيه
جلا إلى المهدي فروا بما
جعل الفرار عتاده وملاذه
يا أمة المهدي أموا قصده
فهو الذي بالأمس تنتظرونه
ولسوف يملأ غداً عدلاً كما
ولسوف يصعد بالصعيد جياده
يثأرن بالقتلى سبطي كربلا
وقتيل با حمرى وفخ والذي
ويهيج لي الحزن الطويل دم جرى
وإذا ذكرت البهلوان وحزبه
كيف القرار وعند آل نثيلة
إن الإله من الطغاة أدالكم
?
?
وهنا وما وهنوا من الإخماد
حوض على حوض من الأساد
فلعل من خبر بها أوهاد
أن تسطلوا فالليل ليل سهاد
نوديت أن أنقع صادا يا صاد
من أمضه يردون بالأذواد
ولكم مراد في بنات مراد
سقياً لكم وليأويكم من واد
وأقول هات حديثهم يا حادى
وأهيم بالمبردين في إبراد
حط الرحال وحل ذي الأقتاد[104أ-أ]
وكذاك في التكوين سبع مهاد
والفلك فوق الزاخر الميراد
بدعائه دع عنك غير صلاد
سجدو له طوعاً بغير عناد
والشعب من أطوى ومن أجناد
وبمثل ذاك تنافس الحساد
لم يذكر الصديق وابن عباد
ما حازها الفاروق باستبداد
عثمان والأشرار آل زياد
شتان بين فواسق وهواد
بالعقد بل بالنص والإسناد
أو يافعاً أو كان في الأمهاد
أمنت من الإنكار والإجحاد
متوقد كالكوكب الوقاد
عين مطهرة من الأرماد
ما الغار إلا باقتداح زناد
في حاضر من خلقه أو باد
ميمونة الإصدار والإيراد
جهراً ويوطي هامة الإلحاد
لما طغى فرعون ذو الأوتاد
فيها الفساد ولات حين فساد
إن الإمام له لبالمرصاد
فأقام ينفخ في هوى ورماد
نيران كل ضلالة وعناد
ودعوا بناديهم وبئس الناد
هيهات بالغدر والإخلاد
وتقلدوا أطواق كفر باد
شنعاء في حرم الإمام الهادي
رقوا لزغب كالفراخ صواد
إلا فواقاً أو تنفس شاد
شذراً إلى الأغوار والأنجاد
وخضاب لحيته دم الأوراد
في جيده وعينه بصفاد[104أ-أ]
لم ينجه يوماً سوى الأصعاد
سترده بيض وسمر صعاد
فتح الغرار وأي شر عناد
وهلم ليس عليه من مزداد
فاستبشروا بالفتح والإسعاد
مليت بأمس جور باغ عاد
ويعد من مصر إلى بغداد
وشهيدها المصلوب في الأعواد
بالجوزجان مضى بصدق جلاد
بالزيت يوم تكانف الأجياد
وفعل ذاك الحجر زاغ فؤادي
ثأراً فيا للسادة الأمجاد
بابن الحسين طويل كل نجا
قال الأمير الكبير المخلص المجاهد شجاع الدين أحمد بن محمد العباسي العلوي في ذلك الأوان وبعد فتح كوكبان نجران:
ذا هاجت أخا طرب ردود
وأصمته العيون النجل لما
فما أشجى فؤادي ذا ولا ذا
وما طربي إلى لهو يعود
ولكني طربت الى المعالي
ونصرة أحمد المهدي همي
أعز العالمين أباً وجداً
لقد رامت ملوك الأرض جمعاً
وأجمع أمرهم ظلماً وعدواً
فحطت الدين يا مهدي عيسى
وحطمت العوالي المواضي
وفرقت الجموح وقد أحاطت
أولئك في المغارب من عمارك
ومن تلقا الشام بأرض يام
ومن صنعاء جاءت كالعلالي
ولما يبق شيطان مريد
وقد نزل الخديعة فيك ضد
فرد اللَّه كيدهم وأودى
وكان فعاله فيك طيرا
ومهما دمت فالإسلام باق
دعوت اللَّه يا مهدي عيسى
وحينئذ أصيب الجمع هذا
وولى عسكر السلطان سعياً
وراح عمارة في غير نهج
وشمس الدين والأسد استعادا
وراحا نحو صنعاء بعد قتل
وأصحاب الشام بكوكبان
وعز الدين ألجته النصارى
وقد عدت الذخائر نهب قوم
ولما أيقنوا أن لا بقا
تفرق جمعهم أيدي سباء
أتو ووجوههم بيض فلما
ومن لم يرع للرحمن حقا
ولم يسلك سبيل الرشد سيقت
ولم ينصره في الدنيا وهدت
فدع حلباً وهاتيك النواحي
وسر في عسكر ...... لصنعاء
ليطهر نفعها فيه أمور
وشمر في رضى الرحمن واصبر
ودع عنك انتظار العيد واعلم
?
?
وأشجته الحواجب والخدود
رمته بناظر منها تصيد
ولا هاجته نجد ولا زرود
إذا ألهى الفتى سبك وعود
وألهتني المقانب والبنود
إمام الحق إن خان الكنود
إذا عد الأبوة والجدود
هلاك الدين فالدنيا تميد
كما في صالح فعلت ثمود
وأنت له أبو حسن عمود
فمات بغيظه فيك الحسود
ملوكهم بأرضك والجنود
إلى إقبال شوال حمود
أنا س والنصارى واليهود
سراعاً ليس يحصرها العديد
ولم يبق جبار عنيد
يبين إنه الخل الودود
حميداً عندها وهو الحميد
لفعل ساقه قدم يزيد
فلا يسموا المعاند والحقود
فهد بناءهم ذاك الأكيد
بريح كان قد أنعاه هود[104ب-أ]
فلم يعصمهم إلا زبيد
ولولا العفو لم تحرزه سيد
إلى الحيل التي هي لا تفيد
رؤوس جنودهم فيه شهود
كأنهم به زرع حصيد
إلى أكناف مأرب والوحيد
فلا مال هناك ولا عبيد
وراعتهم بروقك والرعود
فلا سعد هناك ولا سعيد
تولوا عنك عادت وهي سود
ولم يردعه وعد أو وعيد
إليه النار وهو لها وقود
قواعده وخانته العهود
فقد كثر التخلف والقعود
فقد طال التهاجر والصدود
عظام تقشعر لها الجلود
فإن الغز في صنعاء رقود
بأن هلاكهم عز وعي
( قصة نهوض أمير المؤمنين إلى جهة الظاهر )
قال الراوي: لما جرى في صعدة ونواحيها ما جرى من البلوى رأى أمير المؤمنين أن نهوضه أولى فكتب إلى أخيه الأمير الكبير علم الدين سليمان بن يحيى فأتاه في عسكر، ثم نهض من جبل بني عوير فأمسى في موضع يسمى ضمو وسار طائفة من العسكر إلى قرية عيان لقوم ظهر منهم الفساد على المسلمين فطاروا هرباً وأخذ شيء من أموالهم، ثم نهض أمير المؤمنين إلى مدينة حوث فلقيه أهل البلاد يهنونه من كيد العدو ويحمدون الله على ما من به من سلامته وأقبل إليه الأمراء آل يحيى بن حمزة بذيبين بالخيل والرجال، ووصل إليه الأمير الكبير حسام الدين محمد بن فليتة بن سبأ من جهة براقش وأقبل إليه قبائل همدان من البون والظاهر وشظب والأهنوم وتلك النواحي بأموال كثيرة من النذر والبر والحقوق الواجبة والمعادن في سبيل اللَّه من الدراهم والفوط والثياب فأنفقه أمير المؤمنين عليه السلام في سبيل اللَّه على المجاهدين المستحقين إذ كان شنشنته عليه السلام أن لا يدخر مالاً ولا يعظم في عينه ولا يرد سائلاً، ولما اجتمع من القبائل ما لا يضبطه العدد خرج أمير المؤمنين للناس إلى شرقي مدينة حوث وتحدث معهم حديثاً بليغاً حمد اللَّه وأثنى عليه وذكرهم بالله تعالى وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر وأعلن بالشكا مما حدث على الإسلام والمسلمين في صعدة من البلوى والامتحانات من كشف الحرائم وهتك المحارم وارتكاب العظائم وحثهم على الجهاد في سبيل اللَّه والصبر على بلائه فأجابوا بالسمع [105أ-أ] والجهاد بين يديه بالأموال والأرواح وقالوا: نحن لك بين يديك فمرنا بما شئت، فشكر أمير المؤمنين صنيعهم وأثنى عليهم.
ولما علم أمير المؤمنين عليه السلام أن الأمراء المذكوين من الأسراء في أشد ما يكون من الأسر والضيق، جهز أخاه الأمير الكبير أبو المظفر علم الدين سليمان بن يحيى بن علي والأمير الكبير حسام الدين محمد بن فليتة بن سبأ من آل أحمد بن جعفر في عسكر وافر من الخيل والرجل وأمرهم بالغزو إلى الجوف لعلهم ينالون من القوم، وكان الأمير موسى بن الإمام المنصور بالله عليه السلام في درب ظالم بالجوف قد جمع معه عسكراً وهو في مراكز أمره بذلك الأميران شمس الدين، وأسد الدين ومعه ولده وجماعة من خواصهم والفقيه أسعد بن الحسن بن ناصر الشنوي.
(قصة أسر الأمير موسى بن الإمام المنصور بالله عليه السلام ومن معه)
قال الراوي: فتقدم الأميران المذكوران بمن معهما من العساكر فلما قربوا من درب ظالم فصدوهم وقد كان بعض السلاطين آل دعام قد أشاد على الأمير موسى بالخروج إلى الحاضنية فكره الأمير ذلك وكان عنده أن أحد لا يقدم عليه لشدة بأسه فلما تراءت الفئتان لم يكن إلا القليل من الطراد بين الخيلين حتى أقحم عسكر الإمام من الخنادق وتسلقو الحيطان وعند ذلك انهزم أهل الدرب كل إلى داره فلم يفلت من أهل الدرب أحد إلا أسيراً ومحفوراً أو قتيل، وعاث أحد عساكر الإمام عليه السلام إلا أن رجلاً من عيال أسعد من بني عيسى من بني بحير فعل فعالاً غضب منه الأمير علم الدين سليمان بن يحيى فضربه ضربة بالسيف ولم يرد قتله فكان فيها سبب موته فأسر الأمير الكبير موسى بن الإمام المنصور بالله عليه السلام وولاه وأسر جماعة من السلاطين قريباً من خمسة عشر رجلاً من كبارهم وأسر الفقيه أسعد بن الحسن الشنوي لكونه محارباً للإمام عليه السلام مع القوم وأسر الشيخ عبدالله بن دحروج وقتل مولى أمير المؤمنين المنصور بالله عليه السلام وقد كان أصيب بسهم في عنقه فسار إلى بعض الطريق فتوفي هنالك.
قال السيد الأمير شرف الدين رضي الله عنه: بلغني أنه أخذ من درب ظالم قريباً من أربعين فرساً فأما الإبل والبقر وغير ذلك من الأثاث والإماء والعبيد والسلاح والآلآت فلم يحقق كميته إلا أنه على الجملة بمال كثير وبلغ العلم إلى الإمام بما كان في درب ظالم ولم يكن ذلك في باله فحمد اللَّه تعالى على ما من به من النصر على الجملة وإن كان قد عظمت عليه حرمة الإمام المنصور بالله عليه السلام وكتبت البشارات إلى جميع الأقطار، ثم أقبل الأميران ومن معهما من الأمراء والمجاهدين بالأسراء إلى قرية حوث فالتقاهم أمير المؤمنين إلى قبلي مسجد الجامع بحوث [105ب-أ]، فأقام الأسرى ليلتين أو ثلاث ثم أمر أمير المؤمنين أخاه الأمير الكبير المجاهد فخر الدين إبراهيم بن يحيى بالأمير الكبير موسى بن أمير المؤمنين وولده إلى حصن عزان في بلاد حمير وسائر الأسرى إلى حصن مدع وأمر بحفظهم، والتشديد عليهم رجاء أن يخرج الأمير الأسرى الذين مع القوم بصعدة، ثم بلغ العلم إلى القوم بصعدة بما كان في الجوف فاغتموا لذلك غماً عظيماً وانكسرت خواطرهم وضعفت همتهم وظنوا أن لا فائدة لهم في الإقامة وأنهم إن أقاموا أقبل إليهم أمير المؤمنين بالعساكر فأخرجهم عن صعدة أو تقدم الجهات الصنعانية فأخذها فأجمعوا على النهوض إلى صنعاء.
قال السيد شرف الدين: بلغني أن الحسن بن وهاس كان الأمير شمس الدين يحدثه في الإمام عليه السلام ويستفهمه في إمامته ويطعن فيوهمه ما يوافقه ومن تلك الأيام كان أساس الفتنة التي سببها ما جرى من مصاب أمير المؤمنين فالله المستعان.
وبلغني أن القوم لما نهضوا من صعدة حملوا ما أخذوه فيها من أثاث وآلات مع آلتهم على ثمانمائة بعير أو قريباً من ذلك والله أعلم، فكانت طريقهم الجوف ثم صعدوا على جبل يام ثم أتوا مطر وساروا حتى دخلو صنعاء وذلك بعد أن رتبوا في صعدة الأمير عز الدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين، والأمير هبة بن الفضل بن العباس العلوي، وغيرهما من أولاد الأمراء الحمزيين، ووصل إليه الأمير المهدي بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الهادي عليه السلام في جماعة من إخوته وبني عمه وكانوا من جملة القوم في صعدة محاربين للإمام عليه السلام وقال بعض الشعراء يذكر جملة من سيرة أمير المؤمنين ووقائعه في الظاهر وغيره.
وقال المصنف: هذا الشعر أعرف قائله هل هو شريف أو سواه وهي هذه:
جبت لهذا وإعجابه
وفرقت الحرب ما بيننا
فصار بعيداً على قربه
?
?
بأمر وقد صد عن بابه
وبين عقايل أحبابه
شجياً حليفاً لأوصاب
إلى آخر ما قال منها:
ناسى مساعي أبيه الإمام
وكان خليقاً بأفعاله
ونحن حططنا على ملكه
نزلنا على البون يوم الثرى
وصلنا نسمع وفيها أحبش
فولى هزيماً على وجهه
وسرنا لذروة فاستسلموا
ولم يلبث الجيش في مذود
ولا بيت الجيش في صعدة
ولا بيت الجيش في الظاهر ين
وقدحاً وحملة أقطاره
ولا أضجر الجيش في زاهر
يحيى خلال على زاخر
ساروا جميعاً وسرنا لهم
فلما أنخنا لدى جمعهم
فمالوا إلى الصلح يبغونه
وولو وقد أبصروا حتفهم
على أنهم خير أهل الزمان
وقد جاءنا بعد من ظالم
ولولا تمسكهم بالأمير
يعيشون في ظله خضعا
لقد نالهم من صروف الخطوب
?
?
وماكان بالأمس أوصى به
يسعى لها وبآدابه
فرفع أوتاداً وطنابه
علي يلوذ بأنسابه
ففات عدة حسابه
وما عطفت خيل أعقابه
وهم في أشم بأبوابه
وضاعت كرائم أحسابه
وفيها مليك بحجابه
وفيها السريحي يقضي به
وفرق عدة كتابه
ومال فلاذ بأعرابه[106أ-أ]
نسيم الفروخ بأعشابه
وكل بحرف وما نابه
أتانا الرحيق ............ـحابه
فجدنا بمطلب طلابه
ولاكهم بين أنيابه
قتالاً وأشجع أربابه
بشير لموسى وأصحابه
شجاع الزمان ووهابه
بأيديهم فضل هدانه
كقارن في يوم أحرابه
(قصة فتح صعدة المرة الثانية)
قال الراوي: ولما علم أمير المؤمنين عليه السلام بنهوض القوم من صعدة وأنهم قد رتبوا فيها من تقدم ذكره من الأمراء الحمزيين وغيرهم جهز أخاه الأمير الكبير أبو المظفر علم الدين سليمان بن يحيى والأمير الكبير حسام الدين محمد بن فليتة بن سبأ في عسكر من الخيل والرجل فتقدما بمن معهما من العساكر فلما أقبلوا إلى صعدة هرب القوم عنها وصدروا إلى نهج بلاد خولان فلحقهم الأميران علم الدين، وحسام الدين بمن معهما من العساكر إلى الصعيد ........ فوقع بينهم طراد فولوا هنالك فأسر الأمير الكبير محمد بن سليمان بن الأمير المؤمنين المنصور بالله عليه السلام، وأمر الشيخ عبدالله بن أبي الربيب وولده عيسى لما كان من جملة القوم وتولى منهم الحسبة في صعدة ونهب شيء من أثاثهم وولوا عن المحطة فتحيزوا إلى وادي رغافة فحطو أولاً في أسفل الأودية عند موضع يقال له حطيرة من الحبير ثم نقلوا من هنالك إلى الأمراء الأجلال آل يحيى بن يحيى إلى رغافة واستقرت محطة الأميرين في صعدة وقد كان هرب عنها من كان مفسداً من الحدادين أهل الدربين، وأمر الأميران بخراب دور المحاربين وخرب أهل المعلى درب البقا بعد نهوض العدو، وقبل وصول الأميرين في حق قتل القاضي الأجل زيدان بن مقبل وجرى من الأميرين من الشدة على المفسدين والأدب لمن أدركا منهم.
ولما جرى في صعدة ما جرى من الشدة على المفسدة وخراب دورهم وحبس من حبس منهم أحزن ذلك الشيخ محيي الدين عطية بن محمد النجراني، فكتب إلى أمير المؤمنين كتاباً يذكر فيه تشريد أهل المذهب الزيدي وهدم منازلهم ويعترض على أمير المؤمنين بما فعله أهل المعلى ويشكو لناس ويشفع لآخرين ويذكر تقصيرا في حقه فأجابه أمير المؤمنين عليهم السلام قال فيه: من عبد اللَّه المهدي لدين اللَّه أمير المؤمنين:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده وصلواته على محمد وآله
أما بعد:[106ب-أ] حمداً لله وسلام على عباده الذين اصطفى فإنها وردت علينا مطالعة الحضرة العالية المكرمة الصدرية العالمة ...... محيي الشريعة عماد السنة عمدة الموحدين مرتضى أميرالمؤمنين أدام اللَّه إسعاده وواتر إمداده وأتحفه بالسلام ويسر مواجهته على أسر حال، فجاءت تعزيزا بائناً ومورداً.. لأنها خلطت مستقيماً وسقيماً، وجمعت هيناً وعظيماً.
أما ما ذكرته الحضرة من تشريد أهل المذهب وتطريدهم وهدم منازلهم ومحو محاسنهم وفضائلهم وإيحاش أهلهم ودفن مشاربهم ومناهلهم فتلك سنة اللَّه تعالى في الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة اللَّه تبديلاً، وإنما كانوا أهل مذهب زيدي وصراط سوي بالأمس، وأما اليوم فإنه شب عمرو عن الطوق، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((سيأتي على الناس زمان يمسي الرجل فيه مؤمناً ويصبح كافراً ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً)) وإنما كان ذلك بالولاء والبراء وإلا فهي ليلة واحدة أو يوم واحد لا يحكم المرء مذهباً تتبعه أحكامه ويلزمه كفره وإسلامه، والقوم باءوا بذنوبهم ووصموا لعيوبهم، فإن كان الأسى لحق الحضرة كما لحق ذلك النبي على قومه، قلنا له ماقال اللَّه لذلك النبي: {فلا تأس على قوم كافرين} وإن كان أحزنه ما رأى من إيحاش الأهل وهدم المنازل، قلنا له ما قال اللَّه لغيره في منازل أهل الظلم والغشم: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا}.
وأما من لا ذنب له ولا جنية، ولا زلة ولاخطية، فإنا لا نقصده لمضرة ولا نريده بمساءة فإن كان أقام بين الظالمين حتى.... بارهم وأصابته شرارهم، كان هو الجارم على نفسه والجاني عليها إلا أنه ما أثر النصرة ولا عجل الهجرة.
وأما جماعة أهل المعلاة الذين لا خلاق لهم ممن استقبح منه أثراً، أو رأى منه منكراً فما منعه من تغيير وكفه العالية وكلمته الماضية، ومن ثم من الأمراء لا يردون له حكماً، ولا يتعدون له رسماً.
وأما كون الدار لمسلم أو يتيم، أو أرملة، فقد دخل جوابه تحت ما ذكرناه وهو أنه قادر على غياره وقد تكاملت له شروط إنكاره، مع أنا نوسي الحضرة ونسليها بأن الدار دخلها العدو الكافر فملكها ودخلنا عليه عنوة بالسيف فملكناها فهي للفيء بحكم اللَّه تعال إلا إن هذا مبني على رأينا فإن خالفنا مخالف في ذلك الرأي حكمنا عليه بمذهبنا إلا إن يكون خلافه في أصول الإمامة كالمناه فيها.
فأما الحضرة فهي بمعزل عن المكالمة في أصول الإمامة لأنها من أول بناء أساسها وأحصد أمراسها، ونظم مسائلها ونشر فضائلها، ثم لم تدخل فيها إلابعد معرفة السيرة وتكرار البصيرة.
وأما ما ذكرته من رحائها فينا فهو رجاء صادق متمكن فإن رأت منا في نفسها تقصيراً حملته على أحسن وجوهه، وسألتنا عن حكمه واستنهضتنا في أمره فإن الذكرى تنفع المؤمنين، أو رأت من غيرنا إساءة في حقها حملتنا على أن لا نراضى تلك الإساءة وسألتنا النصرة وأمهلتنا مدة التمكين والقدرة ولم نحمل ذنوب المجرمين وفعل السفهاء [107أ-أ]الجاهلين على أئمة المسلمين وخواص أهل الدين فإن أمير المؤمنين علياً عليه السلام برىء من معرة الجيش إلا شبعة المضطر، وقد فعلت جيوش النبي صلى الله عليه وآله وسلم كخالد وغيره، وجيوش الصحابة ما فعلت وكان أهون سير عمر بن الخطاب في إبطال إمارة خالد عند أبي بكر الوصف فلم يقبل منه ولا قدح ذلك في أصول الولايات ولا اعترض أحكام الإمارات وهم خير من أهل الزمان أصولاً وفروعاً، وأوسع منهم معقولاً ومسموعاً، فما جرموا بذلك الأنبياء ولا الأئمة، ولا اعترضوا به صالح الأمة، بل ألحقوا كل جان حكمه، وحملوا كل مجرم جرمه، وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لزمه، وحكم الولي بما علمه، والحضرة أعلى من أن تجرمنا بفعل جاهل لا يعلمه أو تحملنا ذنب مذنب لا نعرفه، فأما القيام بما يتوجه علينا في ذلك من أدب أو تضمين جان فنحن حيث يسرها سواء تتعلق ذلك بها أو بغيرها.
وأما ما ذكرته من العفو عن المدنيين والتجاوز عن المسيئين، فعندنا أنا قد سلكنا مسالك العفو مالم يسلكه من تقدمنا من الآباء الأكرمين، أليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل أبا عزة في المرة الثانية وقال: ((لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)) وقال علي كرم اللَّه وجهه لأهل النهر: أيكم قتل صاحبي سلموه لي؟ فقالوا: كلنا قتله. وليس كلهم قتله وإنما قالوا عصبية وحمية ولم يقل له هلا عفوت.
ولقد ذكرنا من هذا لأكثرنا ومهما خفي على الحضرة ذلك فلا يخفى علينا ما فعلناه مع بني حمزة ونحن نقبل ما أشار به من العفو ونقبل شفاعته بما شرطه لنا من الخروج من دماء المسلمين وأموالهم، والقيام بجد إن كان هذا كله شرطته الحضرة وهو مقبول.
وأما حقوقنا في أنفسنا فنحن غير بعيد مما ذكره من مسامحة أو عفو مع أنه ما سبب كثير مما جرى على أهل صعدة وغيرهم من الشر إلا ما اعتاده الناس هنا من كثرة العفو حتى تجرأ الناس بسبب ذلك ولو أنه جرى على الحضرة العالية أو على الفقيه حسام الدين عبد اللَّه بن زيد ما نسأل إليه أن يحرسهما منه أكان يحسن من الإمام أن يعفو عن إباحة الدهماء وقتل أعيان العلماء بل كان ذلك إدهاناً في الدين ومخالفة لسنة محمد الأمين وذريتة الأكرمين، قال اللَّه تعالى: {قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} وقال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} وقال لما رأى حزنه على من أدبر عنه: {لا تذهب نفسك عليهم حسرات}إلا أن تقول الحضرة بأن المحارب مع العدو لم يكفروا لناصر له، والذي دله على عورات بيوت المسلمين وطرق له إلى قتل خلاصة أهل الدين فحاشا الحضرة من ذلك فنحن نقول أن مجرد محبة العدو وإرادته انتصاره يكون كفراً وإن نأت داره، وشحط مزاره، ولا يفتقر إلى أعلام منصوبة وطبول مضروبة وقباب مجموعة وإبل محملة وظعائن مكللة ودنو دار وملاصقة جوار حتى يستوي في العلم به إلى العالم، والجاهل والغريب والأهل[107ب-أ] بل هو أحكام تدب دبيب سموم العقارب وتلائم بين الأباعد، ونفور بين الأقارب، قال اللَّه تعالي: {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل عملٌ غير صالح}، وقال حكاية عن إبرهيم عليه السلام: {ومن تبعني فإنه مني} وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((سلمان منا أهل البيت )).
على أن كفر أهل صعدة قد كان بأعلام وطبول وعساكر وخيول، ونحن لا نخطئ الحضرة العالية في باب الشفاعة، وإنما يجب أن نفرق بين طريقة الشفاعة وطريقة المجادلة.
وأما الشيخ عبد اللَّه بن أحمد بن أبي الزبيب وولده، وما تقدم لهما بين أيدينا فلسنا ننكر ذلك وإنما قال اللَّه تعالى: { الذين قالوا ربنا اللَّه ثم استقاموا}، ونحن نذكر عليه أمرين:
أحدهما: خفي وهو أنه من جملة أهل الدربين في كيدنا وهذا لم نعلمه يقيناً وقد حلف لنا عليه في كتبه ولم نؤاخذه بسببه.
والثاني: أنه تولى من القوم وهو الظاهر الجلي، والولاية متضمنة الموالاة وزيادة، فأما من دعاه إلى هذه الولاية فقد دلاه بغرور وأوقعه في محذور، وهو ممن قال اللَّه تعالى: {يحملون أوزارهم ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}.
وأما أنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فأي معروف ضايع أو منكر واقع كان أعظم مما ارتكبه من ولاة تلك الولاية أو رعاه تلك الرعاية: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} كيف ينهي عن المنكرات من ارتكبها أو يحد على المسكرات من شربها أو يهدي إلى المحجة من تنكبها، هذه أعاليل أضاليل وزخارف أباطيل، بحوز كل ذي فكر عليل لم يبصر بواضح السبيل، هذا وحسبة السيوف إنما هي في ظلم فلس أو قيراط أو إغاثة من وراط عند اختلاط، وأين هذا من سفك الدماء وإباحة الدهماء الذي ارتكبه من ولاه وأراه أنه أهداه وقد أغواه، وهب أنه كان مكرهاً على بعد الإكراه ههنا أليس قد أخذه عسكرنا من صف العدو وظاهره علينا، فإن كنت تطلب حقاً بحجة فلا حجة لك علينا ههنا، وإن كنت شفيعاً فشافعتك مقبولة، ومنفعتك مبذولة متى أتيتها من بابها، وتكلمت عليها بخطابها.
فأما الفقيه عيسى فقد بلغنا عنه أنه ليس جاهل، وأصلح حاله عاقل، ونحن بعد ذلك حيث يسره ويسرك فيه، وأما القضاة الأجلاء آل أبي النجم فقد علت منزلتهم وعظمت مصيبتهم حتى تصورنا أن مثل ما فعلنا لأحد الناس لا ينعش خلتهم ولا يشفي علتهم، ولا ينفع عليهم، هذا ولم يمض من الوقت ما نعد به غافلين أو مقصرين، وقد أصاب الحضرة في الكلام في حقهم، وإنما هذا عذرنا فلا نتصور غيره.
وأما الشهيد يحيى بن عطية رحمه اللَّه فالثأر فيه لنا مخلفة من الضعفاء علينا والله المستعان على أمره، ونحن نعلم الحضرة أنا نأمرها بأن تأمر وتنهى وتشد على السفهاء وتبصر الأمراء بطرق الهدى، ومن عثر قالت له: لعاً ولم [108أ-أ] تقل له سحقاً وتعساً، ونأمرها أن تقبض كتبنا منهم من عهود ومطالعات وغير ذلك لتعلم أنا نقفوا ملة محمد، وإبراهيم صلوات الله عليهما وعلى آبائنا، وأنا نسير إلى الدين القويم على الصراط المستقيم، ونأمرها بترك العجلة ومجانبة الحدة، ونوزعها أنا قائمون بكل حق لها علينا أو على غيرنا، ونشعرها أن كلما توجه من مشورة أو شفاعة لم نبعد عنها فيه، ونحقق لها أن أهل المعدة -يعني الحدادين- هم الذين قتلوا قتلانا وأباحوا حمانا، ولم يتركهم العدو قبل ذلك رحمة، وإنما رجعوا عنهم عجزاً وذلاً، فلما عملت الدراهم وقلت حمانا الأكارم، انتهزونا الفرصة وأوطأهم العرصة، وقالوا: حيدي جياد لا طاقة لنا بالأكراد والأجناد {قد يعلم اللَّه المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط أعمالهم وكان ذلك على اللَّه يسيرا}، وإنما وسعنا للحضرة في الكلام بعض توسعه؛ لأن كلامها احتملته فأردنا أن نزيد لهما إيضاحاً في الحجة ولغيره وضوحاً في المحجة، والسلام عليها وعلى كافة المسلمين قبلها،
وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وسلم.
قال الراوي: نقلت هذا الجواب من كتاب عليه خط الإمام عليه السلام وقال فيه: قد أجبت بأوسع منه.
(قصة نهوض أمير المؤمنين من حوث)
قال الراوي: ثم نهض أمير المؤمنين عليه السلام من حوث في شهر كذا من سنة اثنين وخمسين وستمائة فتقدم إلى جهة عيال أسد البحيري حتى بلغ إلى موضع يسمى نوفان فالتقاه الشيخ الكبير مفلح بن محمد بن أسد وسائر أهله بالإنصاف والإكرام، فتكلم أمير المؤمنين عليه السلام بسبب ما جرى على صاحبهم والخروج مما يجب فيه شرعاً ورضاهم مع ذلك فأجابوه بأحسن جواب، وقالوا: وصولكم إلينا يا أمير المؤمنين أعظم رضاً لنا فقل ما شئت فنحن سامعون مطيعون، وكان للمقتول ورثة بعضهم بالغ كامل العقل فأسقط القود ورضي بالدية، فحمل لهم أمير المؤمنين عن أخيه الأمير سليمان بن يحيى الدية، وقبل إسقاط القود، ونهض أمير المؤمنين إلى حصنه، ووصل إليه كبار المشرق والخشب، وبلاد الصيد والبون وغير ذلك يسلمون عليه ويهنونه بالسلامة ويحمدون الله على ذلك، فشكر سعيهم ودعا لهم وقضى لهم حوائجهم، وعادوا إلى بلادهم، ثم نهض عليه السلام متوجهاً إلى بلاد حمير فأمسى في موضع [.....بياض في المخطوط.......]، ثم نهض المضلعة بظاهر بلاد آل يزيد فأقام هنالك أياماً، ثم نهض إلى بلاد حمير فحط في قرية حلملم، وأقبل اليه قبائل حمير وقبائل بني عشب وقدم، وبني شاور يهنونه ويسلمون إليه شيئاً من البر والنذر وشيئاً من الحقوق الواجبة، وانصرفوا عنه مسرورين حامدين لله على سلامته وعافيته، واستقرت[108أ-أ] هنالك محطته إلى شهر شعبان سنة اثنتين وخمسين وستمائة، ووصل شريفان من أهل تهامة بهذا الشعر يمدحان أمير المؤمنين ويثنيان عليه:
س بس تقتفي وهمك غير وهمي
ولا نسأل بقلب قد تمادى
فأبعث مرشد بالنصح مهد
وكم من قبله للبين وافا
أجاليه الوشاح لأي أمر
هنيك بخلت بالإلمام عني
أكني إن نسبت إليك وصفاً
وأعجب من ترانت منك بيض
أخطرت أسمر أم ابن حوط
وبيعت ما جرحتم وقصب
يخاف على الإمام لكل سلم
وجانب ما قدرت بأمس حرم
ولا تحقر من الأشياء شيئاً
وأن ليس الأمور عليك خطب
وكم من صاحب أبيه حفظاً
وممتلئ الظلوع علي غيضاً
عليك باحمد المهدي فانزل
إمام طاهر الأثواب مما
فتى هو والندى والعدل مزمى
دع الضحضاح ولو شاء واهجر
يمت من البتول بخير جد
وحسبك والفضائل يوم بدر
يغيظ عداه من خير بشر
أبت من الحسام الغضب عزماً
أنيس مؤمل وأهش معط
وطلق الوجه يفترس الأعادي
يلاقي الناس من كرم وبأس
وإن ركب الجواد رأيت بدراً
ولولا أحمد وبنو أبيه
ولا كملت محاسنهم وكانت
تبارك الله علهم باللم حتى
فلا زالت تمكنه الليالي
وقام فهم فطال بهم وطالوا
?
?
أرحني وأطرح شكري وذمي
به طربان من فرح وغم
نصيحة لي عمي وصم
بها سيان من هجر وصرم
صددت وأيما سبب وجرم
فكيف بخلت باللطيف الملم
لفانية مخافة أن أسمي
تجلت في ذوائبه منك هم
وصورة هيكل أم بدر تم
تناسر منك في شم وصم
يسالمه البرية غير سلم
يظن بصاحب خيراً بجرم
لظعفته فإن الشيء ينمي
بهم فأضف همك [……]
لصحبته وبين بناه هدمي
لفضل عنه وهو دمي ولحمي
به تنزل على البحر الخظم
يشين العرض من دنس وصم
ترعرع أخوة لأب وأم
ترضها ويمم خير يم
ومن نسب الوصي لخير عم
بوالده ويوم غدير خم
ويجزي الخل عن سفه بحلم
وأمضي من سبا الرمح الأصم
وألطف سيد وألد خصمي
بوجه منه جهم غير جهم
يعود قياده ويعود كرمي
يقلد فوق ناهضه بنجم
لما ضهرت بنو حسن بغم
لوجه [….]
تشتت غيرهم من بعد لمي
وعتره من الشرف الأشم
وهل روح يقوم بغير جسم[109أ-أ
رجع الحديث
ووصل إلى أمير المؤمنين الشيخ الكبير بشر بن ليمان بن شريف من بني الراعي في عصابة من أهله وأعلمه أن الأمير شمس الدين والأمير أسد الدين عازمان على النهوض إلى الظاهر في تلك الأيام، فعند ذلك أمر الإمام بالأهبة للجهاد والاستعداد، وجمع من أمكن من العساكر، ونهض القوم من صنعاء إلى البون، فلما استقروا في البون أقاموا أياماً ونهضوا فطلعوا من موضع يسمى ساس، وكان الإمام عليه السلام قد رتب موضع يسمى الأبرق لصارة ابن عمه الأمير الكبير القاسم بن يحيى بن القاسم بن أحمد على الدرب فما شعروا إلابالقوم فانهزموا عن الدرب واستولى القوم على الدرب فأخذوا منه طعاماً كثيراً و أثاثاً، ولم يلبثوا أن نهضوا إلى ظاهر آل يزيد فحطوا في بركة تسمى طله، وأمر أمير المؤمنين الأمير الكبير شمس الدين أحمد بن يحيى بن حمزة فحط في موضع فوق وادي عفار يسمى الحصبات، وأمر معه الفقيه الإمام العلامة شيخ المتكلمين حافظ علوم الأئمة الأكرمين حميد بن أحمد المحلي، والفقيه المجاهد المصابر أحمد بن موسى الصعدي من بني النجار، والفقيه عيسى بن جابر الصعدي، وجماعة من الأخيار من الشرف والعرب، وكان مركزهم في هضب مطل على محل يسمى الأدفر في أعلى وادي عفار، والناس بالليل يتفرقون على ذلك الهضب وهي عقبة لا يعمل فيها الخيل، فكان أمير المؤمنين يروح النهار إلى قرية حلملم، ويبكر آخر الليل إلى هضب يسمى جعدر قريباً من مركز أصحابه ليمدهم إن وصلهم القوم.
[قصة وقعة الحصبات واستشهاد حميد المحلي]
قصة وقعة الحصبات واستشهاد الفقيه الإمام شيخ الزيدية حسام الدين أبي عبدالله حميد بن أحمد المحلي ثم الصنعاني رضوان الله عليه وأصحابه الأطهار، وماكان بعد ذلك من الحوادث والبلوى والامتحانات.
قال الراوي: فلما كان صبيحة يوم الجمعة ثاني شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وستمائة أجمع أراي القوم على النهوض آخر الليل فنهضوا بأجمعهم وزملهم فلم يطلع الفجر إلا والقوم تحت ذلك الهضب الذي هو مركز للمسلمين وصرخ الصارخ، وأغار الناس من كل جهة واجتمع من المجاهدين عسكر عظيم من الرجل، وقام الأمير ومن معه من الخيل فوق الهضب والرجالة يقاتلون فردوا القوم مراراً ثم إن الأمير أسد الدين ومن معه مالوا إلى ميسرة صفهم لما رأوا من يقاتلهم من المجاهدين قليلاً فحملوا بأجمعهم فانهزم الذين في وجوههم لكونهم قليلاً ثم إن الباقين لما رأو أسد الدين ومن معه قد استقبلوا معهم أقبلوا نحوهم فطلع الأمراء الحمزيون ومن معهم في خلال ذلك وكان مركز أمير المؤمنين في هضب بعيد يسمى جعدر فلما استقل القوم بأجمعهم انهزم الناس يمييناً وشمالاً، وكان الفقيه الإمام شيخ الإسلام حسام الدين حميد بن أحمد المحلي رحمه الله تعالى والفقيهان المجاهدان أحمد بن موسى الصعدي[109ب -أ]، والفقيه عيسى بن جابر الصعدي في ذلك العسكر، فلما رأى القوم الهزيمة في الناس حملوا بأجمعهم فيهم فأسر الأمير الكبير شمس الدين أحمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان بعد أن أبلى في ذلك، وأسر الشريف السيد العالم سليمان بن هيجان الحمزي، واستشهد الفقيه حسام الدين حميد بن أحمد قريباً من قرية الهجر بعد أن كان قد حضره الأمير علي بن عبدالله بن الحسن بن حمزة وأردفه معه على حصانه قتله مملوك تركي للأمير أسد الدين، وقتل الفقيه عيسى بن جابر، وقتل الفقيه أحمد بن موسى واحتزت رؤوسهم ومثل بهم وغيرهم.
رجع الحديث
فلما رأى أمير المؤمنين هزيمة الناس أمر من كان معه مدد المسلمين، فلما لقيهم أول الهزيمة انهزموا معهم حتى لم يبق مع أمير المؤمنين إلا نفر قليل غير أن ذلك الموضع الذي هو فيه لا يصلح للقتال منه فسار بمن بقي معه إلى هضب يسمى سودة الزافن، وأقام المركز هنالك حتى عاد إليه الناس من الهزيمة، ثم نهض أمير المؤمنين فحط في مدع وكتب إلى أخيه الأمير الكبير سليمان بن يحيى، وإلى الأمراء آل يحيى بن حمزة بذيبين بالوصول إليه، فساروا إليه في عسكر كثيف من الخيل والرجالة سروا ليلتهم حتى أصبحوا في موضع يسمى المأخذ عند قاعة، ثم بلغهم العلم بنهوض أمير المؤمنين إلى حصن حلب واستقراره هنالك وأن القوم ناهضون إلى الظاهر فانقلبوا من فورهم إلى حصن ذروة.
رجع الحديث
ثم أن العدو صاروا من فورهم حتى بلغوا حلملم وتلك النواحي وعاثوا فيها وحطوا على بركة الأسمور، ثم نهض الأمير شمس الدين إلى حصن كحلين إلى عمه الكبير يحيى بن حمزة بن سليمان وجرى بينهما حديث فلم ير الأمير عماد الدين إلا التقية لما استظهر القوم ليستخرج ولده الأمير الكبير أحمد بن يحيى من أسر القوم، فأظهروا أن الأمير أحمد بن يحيى قد صار من جملتهم وافترقوا على ذلك، ثم نهض الأمير أسد الدين في العسكر ثالث وقعة الحصبات أو رابع إلى سودة الزافن وقد كان السلطان الحسام بن صعصعة وإخوته جمعوا جمعاً وأصبحوا قد لزموا جيلاً يسمى غرعتن مطلاً على بيت علمان، فطلع عليهم المجاهدون وخدام الحصون فهزموهم هزيمة عظيمة وطردوهم عنه، فلما رأى أسد الدين ذلك عاد إلى محطتهم بالأسمور وفي خلال ذلك حط معمر بن معد على الجاهلي وحصون الحدم.
قصة نهوض شمس الدين ومن معه والأمير أسد الدين إلى الظاهر
قال الراوي: لما استقر أمير المؤمنين في حصن حلب نهض القوم حتى حطو في موضع مطلاً على السود وبلاد بني شاور، ثم نهضوا إلى الظاهر الأعلى من بلاد بني صريم فحطوا في خمر وأقاموا[110أ-أ] هنالك حتى قضوا للأمير يحيى بن حمزة أغراضاً، ونهبوا زرائع تلك الجهات، ونهبوا دار الفقيه العالم ركن الدين محمد بن أبي السعادات بعد الذمة عليها فنهب ما فيها والعلم على رأسها، ثم نهضوا إلى الكولة من بلاد عاد أهل أبي الحسين فاستقروا هنالك أياماً يخربون في البلاد وينتهبون زرايعها.
(قصة وقعة الحدم وقتل معمر بن مقداد وسليمان بن مرزوق ومن معهماوما كان من الفتح والاستبشار بذلك)
قال الراوي: والسبب في ذلك أن معمر بن مقداد لما تحقق ما جرى في الحصبات من القتل والكسيرة على أمير المؤمنين عليه السلام وقوة العدد وقربه من البلاد سولت له نفسه المحطة على الجاهلي وحصون الحدم وشاور القوم على ذلك وزعم أنه يأخذها من غير إطالة فجمع جمعاً من أهل بلاده وأصبح قد لزم المراصد والطرقات على الحصون وعضده على ذلك السلطان الحسام بن صعصعة وغيره من أهل مسور وفي خلال لك نهض العدو من محطة الأشمور قاصداً للظاهر وبلغ ذلك أمير المؤمنين فنهض من ساعته إلى موضع يسمى بيت علمان في أعلى سقف الحدم وبلاد بني أزد، وقد كان وصل اليه في تلك الأيام عسكر من بني شهاب ومن بني الراعي ومن عيون المسلمين من الحليلة وغيرها لما علموا بمصاب من أصيب في الحصبات في سبيل الله يواسون بنفوسهم في تلك الحال والشدة قد كان
وصولهم مما أمد الله به أمير المؤمنين عليه السلام وكان أمير المؤمنين في خلال خلاف معمر بن مفدا يراسله ويدعوه إلى الله تعالى ويعذله ويعذر إليه فلا يلتفت إليه ولا يجيبه بجواب يشفيه، فلما رأى أمير المؤمنين صعوبة الأمر وأنه لم ينتقم لدين الله منه فإن غيره من أهل البلاد يقتدي به ففيهم من هو أكبر مالاً وأرفع حالاً وأعظم رجالاً فكان في آخر الليل، وهبط أمير المؤمنين من بيت علمان جبالاً شماريخاً متطاولة وطرقاً متضايقة ولم يعلم به كثير ممن معه حتى قد صار في بعض الطريق فلحقه الناس حتى إذا صار في موضع تحت حصن يفور المحروس ونصبت هنالك الأعلام وتلازم الناس القتال وقد كان القوم لزموا مراصد للناس فاشتد القتال ونضحهم المسلمون بالنبل حتى لم يستقروا في موضع بل يتزايلوا ميمنة وميسرة وعند ذلك شد المسلمون عليهم شدة رجل واحد وخرج أهل الحصن المحروس بالجاهل مصلتين سيوفهم لما رأوا عددهم مال عن مركزه فلم تمض ساعة من نهار حتى صار القوم بين قتيل وجريح وأسير وطريد فطار منهم من طار من قلل الجبال وقتل منهم بالسيف عدد كثير
وأتي بمعمر بن مفدا أسيراً وبولده بسر بن معمر، وأسر سليمان بن مرزوق على بقية حياة فلم يعش إلا ليلة ومات إلى غير رحمة الله، وأمر أمير المؤمنين بقتل معمر بن معدا فقتله السلطان مجاهد بن سليمان بأبيه وكان من جملة من لزم [.11ب-أ]فيما قيل السلطان الحسام بن صعصعه فبذل لمن وقع معه مالاً فأخفاه. والله أعلم.
وعاد أمير المؤمنين غانماً ظافرًا فالحمد لله، وقال الأمير الكبير المخلص شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم بعد وقعت حصبات وكتب بها إلى حلب المحروس:
عمري والفواد به عليل
لان نكث الورى جمعاً ومالوا
نقيم علىبصايرنا سواء
ونضرب بالعواضب كل عاص
ونسعى للعلا قدماًإذا ما
وننصر أحمد المهدي مهما ألالا تحسب الأعداء إنا
وإن القتل يجحلنا وإنا
نسل نفوسنا فوق المواضي
وإن يقتل حميد ذو المعالي
فقد قتل الحسين بكر بلا
وإ ن هزم الإمام فعن جذاع
لظاهرتم بني حسن عليه
وقد فلعت قريش مثل هذا
وقالوا مثلما قلتم كذوباً
وسوف يبيدكم مهدي عيسى
هو الرجل الذي جربتموه
ووقعت قارن وربا حضورا
وموسى شاهدٌ وسليل يحيى
وفي عمر دولته اعتبار
فصبر من وقائعه جميلاً
أراكم توقعون الناس حتى
بنو الحداد لما خالفوكم
كذلكم بنو الحجاج لما
وأن معمراً قد رام وعراً
وفي أكناف ذروتكم صريع
وكم من معشر وقعتموه
وأنتم تزعمون بان ملكاً
وكم من نعمة شردت وزالت
خليلي اسمعا مني مقالاً
وقولا معلنين إليه قولاً
فخذكم لم يجبه بنو أبيه
واما ساحة المهدي ففيها
فأوقع في المخالف بالمواضي
وعاتبه الإله على الأسارى
وقل للشامتين قفوا قليلاً
وماذا هاج وجدك والعوالي
ونحن كما علمت لدين الكعوب
وإن أوذي حميد حميد سعيا
وإن هال المصاب به فإنا
وسل قصر العليس يجبك منه
بأنة ما بطا بطا مسماً
وراح ابن الرسول قرى حصى
ويوم سراقة يوم التقينا
سل الأحلاف من جنب بن سعد
ومن ذي جبلة حلفت وفينا
ولو مأرب وسبأ لغالت
وإن يكن صعدة أخذت جهاراً
بنو الحداد قادروهم فساداً
وقاد منا صاح الجيش جاء
أشقيك وأبن عمك حين جانا
وما رخصت سماره بعد موسى
وفرسان الدعاء مبين قدور
ولو شئنا لحكمنا المواضي
وإن فلوالدي الحصبات ماذا
وللرحمن سرفيك باق
وفي الخدم الصبا نهلت وعلت
فلو هلك الأنام وأنت حي
وفي كتفي ظفار بكل يوم
?
?
ودمع العين وكاف هطول
عن الأديان إنا لانميل
غلبنا أوغلبنا لانحول
وبالرحمن يفعل ما يقول
تخلف دونها الرجل الجهول
تأخر عنه نكس أو خمول
نراع إذا عرى خطب يهول
ندين لهم ولو أنا قليل
وليس بغير ذي شطب يسيل
بملحمة فيانعم القتيل
وحسبك أن والده الرسول
من الأخلاف والله الوكيل
وطلتم والمخادع لا تطول
قفا لهم من الرحمن غول
فصدقت الصفائح والخيول
ورب العالمين له كفيل
وفي كفه ذلكم الصقيل
ودربي ظالم لكم دليل
عماد الدين والقيد الثقيل
وكان كله بها ملك جليل
ولم يعنكم الصبر الجميل
يسبكم عذابكم الوبيل
جرت بديارهم ريح شمول
أجابوكم لأمهم الهبول
فخذ معمر بكم ذليل
يجر السيف أسلمه الخليل
يحبون الإقالة لو أقيلوا
يعود لكم وذلك مستحيل
وليس براجع ملك يزول
إذا ما جد ب الركب الرحيل
يرين الصارم العضب العلول
إلى ان باد بالسيف الكهول
عتاب الحلق والظل الظليل
هنالك يستبين لك السبيل
فصل لا عز مع من ة لا يصول[111أ-أ]
فإن الله عن كتب يزيل
إلى شاو الفخار لك السبيل
وذي سطب يصول
فنجم الحق ليس له أفول
رجال لا يهنهنا المهول
رسوم عافيات أو طلول
وكان له على الجواز حلول
ومرحت لا يمضي الرسول
وبين الفيلقين مداً قليل
لأي حلالنا كان الرحيل
دوين وعيلهم عدداً رعيل
أولاك من الأعارب ثم غول
وطال بها العدو قلا يطول
ولم نعلم وحقدهم دخيل
نفاق وهي نازلة نزول
وطنا إن حالينا يحول
وموسى جدهم الأسيل
بحبل الأسر تقدمهم خليل
ولكنا إلى عفو نميل
به في قارب وحضور نيلو
وشمس العز ليس لها أفول
دماً وعمر معمر فيها الدليل
أباحسن فأنت لهم بديل
لما تأتي به خطب جليل
فأمر عليه السلام بإجابته فقال بعضهم:
لا من مبلغ الأعداء قولاً
فأعلام ينوب مهجتك العليل
حرام كسرهم وفينا الجياد
هياكل كالهياكل معربات
وفينا كل سابغة دلاً
وكل صفيحة نهو حرار
وحرصان الرد ينيات فينا
دايين محمد والحق طود
وإنك لا تميل هداً ووداً
فأما أسرت إليه صولاً
فلا طرحت سعوداً وطالعات
ودمت كما تشار جسم صنعا
وأساد الملاحم في براش
?
?
تجف به الصوارم والنصول
ودمعك فيم وسرب هطول
لها إلى الهيجا صهيل
تننال من العدو ولا تنيل
كمثل النهي يحسبها تسيل
رسوب ولاداب ولا كليل
كما أشعلت من الشمع الفتيل
تزول الراسيات ولا تزول
وإن مال القبائل والقبيل
فقد لا ما أشارتك القبول
وظلك شايع أبداً طليل
سقيم عن معاركم عليل
شجاً محلوق أهلها قبول
ووصل من الشريف المهدي بن أحمد بن محمد بن يحيى بن الهادي عليه السلام كتاب فيه شعر وتهنئة إلى الأمير أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام، وإلى الأمير أسد الدين بما كان في الحصبات وصعدة من قبل عيون العلماء وبما جرى على الإمام عليه السلام، وكان في هذا الشريف من المبالغين في معاندة الحق ونصرة الباطل، ونال في هذه القصيدة من أمير المؤمنين، وإنما أردنا ذكرها ليعلم الناظر أن أمير المؤمنين حاربه مع الباطل القريب والبعيد وأن ذلك لم يضعضع شرفه ولا صده عن الجهاد ونصرة الدين وإعزاز الإسلام والمسلمين فقال هذا الشريف:
أمثال عز ما يكون العزائم
وتعلى به كعب المكارم والعلى
وينعش مع الدين والمجد ناعش
لعمري لقد جردت للدين عزمه
دعوت ابن بدر الدين دعوة مغضب
ولكنه ليث وغيث وخضرم
تحملتما عبء الأمور فقمتما
وجردتما الحرب وجهين طالما
وما أطرو جوداً وما أضرما وغا
وما سرنما محفل بعد محفل
تعودتما قل الجيوش فأصبحت
بعزم كحد السيف والسيف دونه
فكم لكما من صولة بعد صولة
ملاحم يشكوها الكلا وخواص
فما سرتما إلا أضلت عليكما
إلى حرر بقيادة في مواطن
كيومكما في صعدة ودعتها
طلعتم عليها طلعة هتكت بها
فأنت وأنت حاسر بن وخالد
فلم يحصن قتلاهم وإن كنت راحما
أقمتم بها سوق القتال فقطعت
لقد أظهرت بعض الصوارم والعنا
وولى إمام الشاكرين يحب به
غداها هارباً عن خيله ورحاله
ولم يال جهداً واسم في طلابه
ولكن نجي لا للنجاة إنما
فدق غب ما قدمت وأعلم بأنها
رموك فلما أن جهلت حقوقهم
رموك بجيش لو يصبك مبالغا
بهن أبادهما فخر بطاطات
وضلت رؤس القوم حولك سجدا
وطيب ثنا عطر الأفق أنه
وفتح مبين حيث ما سار غازياً
لعمري لقد جلتما كل كريمة
سوى أن في نجران ذا محامر
وقدم على دين الكذوب تألبوا
فسيروا بجيش مستجاب عباده
?
?
وتبنى بها العليا وتحي المكارم
وتحر مظلومك ويكتب ظالم
وينعم ثار الدين والمجد ناقم
بذوب بها الصم الصلات الصلادم
فليال ليث لم تلده الضراغم
يجود مسي البحار الحضارم
بأثقالها إذ ليس بالعب قايم
أظلها وقع الوغى المتراكم
فكلكما للخير والشر قايم
إلى مجفر في صدره الموت باسم
جيوش العدا حتماً عليها الهزايم
وليس نقل الجيش إلا العزايم
تقوم لها في العالمين الملاحم
ويحمدها صم النفاد والصوارم
عزيز البراة والنسور العشاعم
بع الثعلب الرواع والذئب طاعم
عشية لا الفلين الأنف راغم
جرايم منهم وإستحت محارم
وأنت وكل من رجالك غايم
ولم يحصن بين الغانمين الغنايم
رؤس وجرت بالشغار العلاصم
من العيب ما كانت تواري العمايم
من الجيل صغراً لم يحنها القوائم
وقد عضهم ياب من الموت غاشم
إلى الغايه القصوى فالله قاسم
لا أعظم مما كان والدهر حاكم
أحاطت بك العلب الأبا والأكارم
وحق لهم للحق أنك باطل
تزلزل منه ركن المتلائم
له النيران والسها والنعايم
خضوعاً وأيد فارقتها المعاصم
به يحسن الدنيا ويزهو المواسم
فذوا العرش نصار وجديل خادم
وقرت بكم منا عيون نواعم
تضيق بها أفواههم والمباسم
فما منهم إلا عدوا مخاصم
رفاق المواضي والجياد السواهم
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: لم نذكر هذه الأبيات مع أنه قد نال فيها من أمير المؤمنين وقد تركنا منها ثمانية عشر بيتاً؛ لأنه أبلغ في الإقذاع فيها إلا لما ذكرنا أولاً ولأن في هذه تصريح لما ينكره القوم في صعدة من ارتكاب المناكير وإباحة المحارم المحرمة وأنهم فعلوا وصنعوا، وما فعلوه من المثلة بشيخ الإسلام حميد بن أحمد رحمه الله تعالى وغيره من الأطهار، وقد أجيب عن هذه القصيدة بقريب من ألف بيت من الشعر إلا أن فيها من بعض من لا يميز ما لا يليق بمثل هذه السيرة الشريفة المكرمة من تناول قوم لا يجوز ذمهم صريحاً ولا كناية مع أن أمير المؤمنين عليه السلام كان رأيه الإعراض والصفح والصبر على البلوى إقتداء بأبيه صلوات الله عليه وآله ولا بد من ذكر إشارات منها كما جرت عادة من ينتصر والله المعين والموفق لما يرضيه، ونسأل الله عاجل الانتصار لابن نبيه والنصر على أعدائه وهو العالم عز وجل أنا نبرأ إليه من سب الأخيار الأطهار من سلالة محمد المختار وشيعتهم الأبرار، ومن ذلك قول الشريف الأمير قاسم بن علي القاسمي:
عللت بالأحلام إذ أنت حالم
ألم تر دار الحي بعد أنيسها
يلوح عليها الوشم أحكم رمشه
وجرت عليها الراسيات ذيولها
فنح وابك فيها شجو نفسك إنها
وما نسخت إمامة لم يعد له
وماطلعت شمس النهار بوجهها
ولا كالإمام بن النبي متوج
هو الغاية القصوى التي ليس بعدها
مضى سيفه لله جل جلاله
ألا لا مقيل اليوم إلا سروحها
فكم وقعة للفاطمي عظيمة
كأيام حوشان وأيام قارن
وكم من لهام لامع البرق قاده
فيوم بصنعاء ثم ويوم بمأرب
وما بين هذا وقعة بعد وقعة
لقد صرم الأعداء بالبيض والقنا
فنظم إلى الأحزاب وافا جياده
له بأس عمرو في سماحة حاتم
أدام أمير المؤمنين خليفة
ومن بأسه بأس الهرير وشاهدي
طبعن سيوف الهند من عزماته
يجود ووجه العام أغبر كالح
فيا لايم المهدي أنت فداؤه
وقلت مقالا كاذباً غير صادق
وما أنت في الأقوام أو من ذكرته وهل أنت ممن يعرف الطعن واللقاء
أتأكل في السلم اللحوم وفي الوغى
متى كنت يا مهدي جاسرة ضارباً
فيبري على المهدي جهلاً مثل ما
وهل أنت إلا نفع قاع مذمم
مدحت العلوج الخلف إنك منهم
عشقتهم عشق النساء بعولها
وسميت مهدياً كلاماً مضجعا
وما أنت من أهل الطعان ولا للقاء
لم تراها في دربكم يوم كشفكم
ولكن من مكوى السط بناره
فيا آل يحيى ذا الإمام وإنما
وعند علوج الغلف طيب وطاعم
فيا مبلغاً مهدي صارة جهره
هجاء سيد الناس الإمام جاره
سترميه مني أسهم بعد هذه
أمالك يامهدي صارت علة
سوى هجرك المهدي أشرف من مشى
وليس غوى الكلب فيما علمته
فلم قبل لوم الناس نفسك إنها
ألم تسح من أرجاء صعدة هارباً
وجاوزت عن نجران لم يثبك الحجا
فلو كنت ممن يتقي اللوم لم يكن
ولكن لكم في سرعة اللوم مذهب
مطور يقولون الإمام إمامنا
هو القائم المهدي إن فاض جوده
لكم يابني يحيى طريقان في الورى
بكل امرء قلبان منكم فشأم
وإن أمير المؤمنين إمامكم
………………………?
?
وقد يبصر المحبوب في النوم نائم
عفت أربعا لم يبق إلا المعالم[112ب]
ورقمه في ظاهر الكف راقم
مرابعها بعد النضارة طاسم
بس بس على أهلها من بعدهم لمآثم
على كل حال حكمة المتقادم
فقال ذوي السقم تلك النعايم
ولا مثله بالأمر لله قايم
وكل عدو للخليفة ساعم
وقال لنا قولاً كما قال ناظم
ولا ظل إلا ما ظل العمايم
ويصفر في عينيه منه العظايم
وأمثلها منها حديث وقادم
شديد القوى للعرب والعجم صادم
ويوم يصد والشهود الصوارم
لها شرر ترمي الأعادي وحاجم
وجاش عليهم موجة المتلاطم
ويعلوا على الأتراك منه اللهادم
غلطت ومن عمرو من هو حاتم
أياديه منها تستمد الدعايم
على ما أقول الزاخر المتلاطم
ومن كرم فيه خلق المكارم
ويطع والدمع المكور فاحم
أملت الذي ما لام الدهر لايم
كأمثاله عزماً تكون الغرايم
وهل عزمكم للعزم يوماً يلام
وماهو محروم وما هو حارم
صابك عن تلك المآكل صايم
بسيفك والأسياف خصم وحاكم
على الأسد الضرغام تردى السوائم
عليك روي الحوى ما دمت قايم
وما أنت ممن أنجبته الفواطم
فأنت بعشق الغلف ولهان هايم
كما قيل للأعمى بصير وعالم
فما أنت والأساد وهي ضرغام[113أ-أ]
على فعلها تثني النسور العشاعم
يسر منه فيهم بعد ذاك المراسم
أيمكنكم ياآل يحيى الدراهم
ورأى بأنكم في العالمين المظاعم
جوابا كحد السيف والسيف صارم
ففيه طرف الهجوء والهجوء نائم
لتعرف من منا الذي هو نادم
تحارب فيها تارة وتسالم
وأكرم من يجدي إليه الرواسم
وربك للسبع السماوات هادم
لأقرب شيء منك إذا أنت لايم
عشية جاءتك الجياد الصلادم
فنسوا أن قوم حالفوك أواثم
هربت في حد السيف والسيف ثالم
ورغم إلى ما ما يدهنون وراعم
وطوراً إذا شئتم يقولون ظالم
وإن لم يقضي فيكم فما هو قايم
وبعضكم للبعض منكم سلالم
فيرسل والقلب الغواية شائم
فيرضي به راض ويرعم راعم
وقال القاضي العالم الطاهر يحيى بن الحسين بن عمار في ذلك:
دت لك من ذات الرقاع المعالم
وجاهك معهود من الحب كل ما
وماهي إلا دمنة طالما جرت
وقفنا بما صحبي ضحى فتوفقوا
وظلنا وظلوا وافقين وما بها
كأن قلوب الواقفين بربعها
فدع عنك حسنا إن حسنا أصبحت
ولم يبق من كفيك من بعد بينها
ولكن نأمل بناه كان ربها
يحاول ملكاً قد تعرض دونه
وخالفه المقدور حتى كأنه
هبلت لقد حاولت أمراً ودونه
فعد طالباً براً كما كنت فاعلاً
إذا كنت لا الدنيا ولا الدين مدركاً
فمقتك خير من حياة ذميمة
تمثلت في أفحوشة اللوم هاجياً
وأجود من يعطي وأزكى أرومة
فتى ساد أهل الأرض شرقاً ومغرباً
فتى يحمل الأثقال مضطلعاً بها
أيا شاتم المهدي جدك عاثر
هجور إمام المسلمين حماقة
وقلت مقالاً حيث لو كنت صادقاً
رماك الذي لم تحط إليك أنه
وقد قلت في الأخبار عيب مستر
فلا تبل ما تخفي وعيبك ظاهر
وسميت مهدياً فكنت مظللاً
لعمرك ما أبقيت للخير مسلكاً
فخرت بيوم كان للعجم شأنه
ففخرك إما كنت لا بد فاخراً
كيوم لدى الأرساط طلت به الطلى
فظلت من الإخلاف رؤوس كأنها
وحالوا على أسلافكم ورجالكم
ويوم بمجر دللت بمصابكم
ابتدت به أحلافكم وتقطعت
وبالجبجب استعلوا فظلت نساؤكم
ونوم لكم بالسر كان نهابه
فإن كنت لم تحضر قتال فإنما
وإلا فدع سباً لمن أنت دونه
أساوى إليكم جاهدينا وأسبلت
ولكن لئم القوم مما أهبته
لعمرك ما إن ثبت الملك فيهم
وقلت متى وفى ذماماً فطالما
تعست فمن أوفا الورى منه ذمة
وقلت متى لا قلت من بعدها متى
أقام رضيع المجد طفلاً ويافعاً
وقلت متى كان الإمام محامياً
وأين يطل السمر يعمل في الكلأ
فابن سباع الأرض يرتاد عندها
سرى حيث يسري بالمذاكي قناته
هو الجبل الراسي بكل وقيعة
وعبت على مولاك يوم حلملم
ولم تشهد العادات إلا موليا
نجوت به الأحياء بحمله
ومالك مسلوب وجارك خايف
وأسبلت طنبور هنااك مصحفاً
فيالك يوماً كان مما ذكرته
ويومك في رهوان كانت فضوحه
تركت جنيدا للأسارة رهطه
ويومك في كباب نجوتم
أمانك عما دون ذاك وتحتمي
تفوز بفخر أو تحوز غنيمة
إذا قدر المهدي لذتم بعفوه
فيا لهف نفسى لو شهدت مقامه
إذا لنزلت الترب غير موسد
ولكن عذاباً في نحيبك إنه
إذا أنت لم ترضى القضا خشية الردى
حماك رجال ما د.....
تركتك أنفا أناكلا عليهم بلا بعد
ولا تغرر يوماً بشعرك إنه
فأقسم لولا أولوك وآلهم
?
?
فعادك من حسنا الهوى المتقادم
تذكرته مرت عليك المطاعم
عليها الذواري وامنحتها المعايم
أقلائص صاديها ..... والحرايم
يجاوبنا إلا الصدى والحمائم
فراخ طيور ما لهن قوادم
وقد باعدتها عنك خوص وواسم
وسقها إلا الخيال الرمايم
بنجران يهديه إلى الظلم ظالم
مناط الثريا والنجوم العواتم
كذى التيه يسعى جهده وهو قايم
تجز النواصي أو تجز الغلاصم
وقدم فإن البؤس خلفك قادم
فمت فالبقا عار عليك ملازم
تموت بها هزلاً وغيرك طاعم
لإكرام من نيطت عليه التمايم
وأشرف من تهدى إليه الكرايم
وألقت إليه بالمقاليد هاشم
إذا برحت بالغارمين المغارم
ورضت بفيك الراسيات الصلادم
ونبهت بالفحش القطا وهو نايم
لكذبت فيه غير أنك راغم
بصير بما يخفي ضميرك عالم
تواريه في أعطافهن العمائم
تنادي به في العالمين الملاحم
حليف حيا تعزى إليك العظائم
إليك وما أبقت عليك المآثم
وما فخركم مما جنته الأعاجم
بأيامكم فهي القباح الذمايم
يعانقها سم القنا والصوارم
بها من نجيع النافدات عمائم
وقد هتكت من البيوت الحرايم
طوال النواصي والليوث الضراغم
عراهم فلا منكم لذاك اللوايم
تدفع في أدبارهن السكايم
سلاح الحروب والجياد السواهم
عزمك في ذلك الحليف المساهم
وكل بني الدنيا لمولاك خادم
عليكم من المهدي إنه حاتم
تصب وده فيما رأته الأقادم
سوى قهركم فأحكم بما أنت حاكم
علمت ولكن حيث سرك كاتم
وأحفظ إن نال الذميم المصارم
بنى المجد لكني لمهلك فاهم
أقام قناة المجد فالمجد دايم
إذا اصطك مران القنا المتزاحم
ويقتل من وقع الظبا القوائم
وأين تغيب الطائرات الحوائم
ويدنو رواق الموت والموت هاجم[114أ]
إذا كثرت تحت العجاج الهمايم
وقد زينت في مقلتيك الهزايم
نطيحة يوم السيل والموت حاجم
وعرضك مهتوك وروحك سالم
وقلبك مرعوب ولبك هايم
وقد مليت بالموت منك الحيازم
تخيلت أن الجو شم لهادم
مشهرة ناحت عليك المآتم
ورحت طليقاً قد علتك المناسم
فليس لكم ما دون بيحان عاصم
كما قلت حتى لا يلومك لايم
ولكن فيما تسعى إذا أنت عالم
وإن تظفروا عدت عليه الحرايم
بيوم وثغر الموت نحوك باسم
وإلا تهادتك النسور القشاعم
ضمين بما قد فوت الأمس عايم
فقد كان ما تخشى وأنفك راغم
طوال المساعي والعظام الرمايم
فقد رعيت للصالحين المحارم
على كل ذي علم من الناس عالم
لمحك مني زاخر متلاط
قصة وقعة الشظبة
قال الراوي: لما حط العدو بالكولة وأقام هنالك هموا بالحرب على ذروة ولا طريق لهم إلى الشظبة وصور لهم من معهم من المشائخ أهل يناعة صوراً فاسدة فأمر الأمير الكبير شمس الدين لأهل حصونه، ونهض الأمير أسد الدين، وسار الأمراء الحمزيون إلا الأمير شمس الدين فأقام في المحطة، فدخلوا وادي الشظبة وأقبلوا يخربون دروبها، فلما بلغ العلم إلى ذروة وكان فيها ذلك اليوم الأمير الكبير أبوالمظفر علم الدين سليمان بن يحيى، والأمراء الأجلاء آل يحيى بن حمزة في عسكر عظيم من قبائل همدان فأغار الناس ووقع الحرب إلى قريب من نصف النهار ثم انهزم القوم عن الشظبة هزيمة عظيمة وقتل جماعة من خدم الأمير أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام، ومن خدم الأمير يحيى بن الحسن بن حمزة وسلب منهم السلاح وشيء من العدد وراحوا من الشظبة على أشر حال وأقامو بعد ذلك أياماً قليلة ثم دخل المتوسط [114ب-أ] بين أسد الدين وبين الأمراء بذروة على النهوض من الظاهر إلى صنعاء وعملوا على حيلة وهو أن مماليك أسد الدين يعصون لم يلحقهم الأمير أسد الدين ليردهم فعملوا على ذلك، فنهضوا حتى بلغ أول الناس نقيل يافث الأميران أحمد بن الإمام المنصور بالله وأسد الدين وبلغ العلم أن مماليك أسد الدين وهم جل العسكر غضبوا، فأظهر أسد الدين الضجر وعاد ليردهم ففهم الأمراء الحمزيون وعلمو أنها خديعة فلحقوه بعسكرهم حتى حطوا جميعاً ذلك اليوم في ريدة فطلب الأمراء الحمزيون منه بمن معهم من أهل ظفار للرجوع إلى ظفار قادم لهم الأمراء بذروة ولم يلبث القوم أن نهضوا إلى صنعاء وكل منهم مضمر للحقد على صاحبه.
(قصة نزول الأمير أحمد لا رحمه الله ابن الإمام المنصور بالله عليه السلام وجميع أهله الذين معه إلى سلطان اليمن الملك المظفر)
قال الراوي: ولما رجعوا إلى صنعاء على الصورة المذكورة نهض الأمير أحمد فيمن معه قاصدين إلى مدينة زبيد وهنالك السلطان، فلما هبطوا نقيل صيد علم السلطان بإقبالهم إليه فأمر بإنصافهم في الطرقات وصاروا حتى بلغوا زبيد لأيام دون نصف الشهر، فلما علم بهم السلطان من مدينة زبيد ونودي في لقائهم وقد كان أمر جنده وأهل تلك النواحي بلقائهم إلى جانب الطريق وعظم شأنهم ورفع في أعين الناس مكانهم، فلما التقى بالأمير أحمد رحب به وعظمه وأمر له بالمظارب والخيام وأمر بالسماطات والألوان الأنيقة إلى محطتهم وهي خارج الباب المسمى [.....بياض في المخطوط.......] وأقام الأمراء عنده تنقل إليهم الكرامات المختلفة ولم تمضي إلا الليالي القلائل حتى عرضت لحم الحمى الوبائية فلم يبق منهم إلا القليل، فتوفي منهم الأميران جعفر بن عبد الله بن الحسن بن حمزة، وأحمد بن جعفر بن الحسين وجماعة من أجنادهم وأخدمهم، ثم إن السلطان لما رأى ما نزل بهم خلا بالأمير أحمد وراجعه فيما لا بد لهم منه، ثم أمر الأمير أحمد بنيف وأربعين ألف دينار من الدنانير الملكية كل درهم أربعة دراهم ثلثي قفلة وأمر لهم جميعاً بالكساء ....... وخص البعض بشيء وحده، وأمر معهم بعصابة من جنده، فصدروا عنه شاكرين لإحسانه، وكان السلطان يأمر له بالاقتصاد والملابس حالاً بعد حال، وكتب الأمير شمس الدين إلى السلطان شعراً يستنصر به فيه ويستنجده ويحضه على الطلوع ويستزيده وهو قوله:
خل الليالي الماضيات تعود
عفى منزل ما بين نعمان واللوى
وكانت به العين الغواني أوانسا
مجر أنابيب الرماح ومبتنى
فيا دارنا بين العيينة والحمى
فكيف بمن أصفى ظفار محله
هواي بنجد والمنى بتهامة
وإن امرءاً تبقى مواثيق عهده
فهل لجنوب الريح أن تلثم الثرى
على أربع بين الصعيد وصعدة
مشاعر حج الطالبين فلا الأداء
كرمن فلا يخشى الغوائل عندها
ملاعب إقهار الجياد ومنتهى
وأبراج أشباه المها في كناسها
نعمنا بها أيام لا البغي نافث
ظلالي فيها للورى غير قالص
وقومي يوم الروع جن وفي الندا
فنحن نطول الشهب عز وتنتهي
إلى أن دعا داعي من البغي في الورى
ودل على الحلم قومي وأثبتت
لقد كفرتنا الناس كل صنيعة
وكم مات من قوم فحيوا بحلمنا
بسطنا على العرب المكارم بسطة
ولما صبرنا ظنت الناس أننا
فما سن فينا الناس إلا ظلامة
ولما قصدت الملك ذا التاج يوسفاً
دعوت فلباني فتى لا مربد
ومالي لا أزجي الركاب إلى ذرا
أعان وأعداني على الدهر من له
وألقيت كفي في أنامل لم تخن
وما ابن أبي حفص بدون الذي دعا
أعاد إليه ملك غمدان وابتنى
مكارم سنتها الملوك ويوسف
صبرت على حمل العظايم فانتهت
فسوحك مقصود وكفك قاهر
وفي كل يوم أنت تبدوا على العدى
سبيل فتى لا العسر يطرق همه
ويعلم أن الدهر ليس بدايم
أنخنا بك الآمال وهي ركايب
وقد كنت عريت الركايب برهة
وداويت لابن العم داءً وجدته
فأدنيت من أمواج بحرك غمرة
وحفت بسرجي العرب والعجم فاغتدى
كذا يستعين الحر بالحر واثقاً
بمن بشر المظلوم في كلماته
إذا أمطرت منا ومنك سحابة
تولت أسود الغاب وهي فرايس
?
?
فتبدوا نجوم الوصل وهي سعود
وجرت به للراسيات برود
فأضحت به العين الوحوش ترود
قباب فلبى ريقهن برود
هل الروض روض والزرود زرود
ومن بات قد حالت عليه زبيد
متى تلتقي بالمتمهين نجود
على مثل ما لاقيته لجليد
لنشر تحيات لهن صعود
وبين براش لي بهن عهود
أداء قريب ولا نجح الرجاء بعيد
منيب ولا يخشى الهوان طريد
مجامع لا يشقى بهن وفود
عليهن من نسج العفاف برود
بنار ولا بين الرجال حقود
وبري حوض لست عنه أذود
بحور وحلما كالجبال ركود
إلى الأفق أيدينا ونحن قعود
وأعلن منهم كاشح وحقود
جمالك لم ينظم لهن عقود
كأنا نصارى ملة ويهود
وكم أخلفت سحب ونحن نجود
لنا أبطرتهم والضلول جحود
على كل خلف سادرون هجود
كما سن في قتل الحسين يزيد
علمت بأن الهم ليس يعود
ملول ولا هي اليدين سليد
الشهب شهب والصعيد صعيد
مكارم لا يحصى لهن عديد
عهوداً ولم تخلف لهن وعود
به الحميري الملك وهو فريد
مفاخر في الدنيا لهن خلود
لآثار ما سن الملوك يشيد
إليك العلا إن الصبور سعيد
وجندك منصور وأنت حميد[115ب-أ]
بخطب وتبدي في الندى وتعيد
ولا الموت مما يتقى فتحيد
وأن خلود المكرمات فقيد
لأرسانها لطف الإله يقود
وأطربت حتى لا يقال مريد
على الصبر ينموا خطبه ويزيد
أصول بها فيمن بغى فأبيد
بعزك ركن اليوم فهو شديد
برب له كل الملوك عبيد
بنصر له أهل السماء جنود
لها الدم قطر والصليل رعود
وظلت جبال الأرض وهي تمي
ولما اشتهرت هذه القصيدة وما تضمنته من الرموز والكنايات أجاب عنها الفقيه الأجل العالم أحمد بن أسعد التميمي فقال في ذلك:
نازل منها قائم وحصيد
وآثارهم بين الغنيمة والحمى
ولم يبقى ما بين الصعيد وصعدة
ينوح عليها المترفون فوحدهم
ويبغون في الدنيا خلودا وجنة
يودون من فرط الصبابة والأسى
قضى الله أن تفنى الديار وأهلها
تبدل شمس الدين بعد يقينه
ولما دعا داع إلى الحق صادق
ووالى عليه الكافرين ولم يزل
وفي مثوة ما زال يحمل كيده
فأهلك أخبار الورى وهداتهم
وكم نالت الأخيار منه فبعضهم
وشاد مع الكفار مهدوم دينهم
ومرت به الأهواء شمالا وإنها
فكيف بشيخ قد حنى الدهر قدحه
وما انفك يقتاد الجنود لقائم
إمام دعا بالحق لما تنكرت
إذا سار سار النصر أو صال صولة
فساد الورى طراً علاها ومثله
وأضحى زمام الملك بين أنامل
ودانت له الأملاك قسرا فمنهم
وطرد شمس الدين كل مطرد
وأصبح يزجي الأرحبيات وافدا
يحن إلى سوح المظفر مولعاً
وحفت به غلف العلوج وحوله
فمن مبلغ عني الأمير وحزبه
وكابر ما قد شاءه لوليه
وأدرى رجالاً من قريش كأنهم
بهاليل من آل النبي عليهم
وقد كان يرجو من بنيه متبعاً
فياليت شمس الدين أمسى محله
ألم يأن أن يخشى القلوب وتتقي
وأن ينتهي أهل النهى عن جراير
ويكفي بني الزهراء أن نحوسهم
وأن قتيل الظالمين معذب
وأن لهم فيه سمواً وعزة
إمامكم المهدي حقاً وإنه
له شرف يعلو الورى وجدوده
تقي نقي العرض قد تعلمونه
لأهل التقى منكم شفاء ورحمة
مليك تحامته الملوك مهابة
ودانت له الأقدار عفواً فلم يعش
وأشبه ذي وجه بوجه محمد
مطهرة أخلاقه وطباعه
فضائله سارت بها الركب في الورى
دعاكم إلى نفي المعاصي فيكم
وهامت بكم أرآؤكم فكأنكم
وسامحتم في دينكم كل ملحد
وكانت لكم في الاحتساب زخارف
أبحتم بها الأرواح والمال برهة
فلما دعا من أكمل الله أمره
أتوق إلى نفي المناكير شيقاً
وعند بني الزهراء من دون دينهم
على آل طه رحمة الله إنه
?
?
فغار بها عوذ الوحوش هجود
عليهن من نسج العفاة برود
أنيس من الحي الذين تريد
إذا ذكروا تلك العهود جديد
وليس لحي في الحياة خلود
بأن الليالي الخاليات تعود
ورد الذي يفني القضاء بعيد
من الريب ما لا يرتضيه مجيد
سرت فيه أضغان له وحقود
لكل إمام كايد وحسود
ومن كايد الرحمن فهو مكيد
كما فعلت بالأنبياء يهود
قتيل وبعض في البلاد طريد
وهدم ما كان الهداة تشيد
لعار عليه والذوائب سود
كفى ذا يد بعد المشيب يذود
كريم له أهل السماء جنود
رسوم الهدى فانهد منه مشيد
غدت عدن مرعوبة وزبيد[117أ-أ]
إمام لأولاد البتول يسود
له كالغوادي المزن حين تجود
شقي ومن شاء الهدى فسعيد
وأمسى بأطراف البلاد يرود
جميلاً كما يزجي الركاب وفود
بتقريضه حتى يقال لبيد
دنان وأوتار ترن وغيد
لقد مر نهجاً ما اقتفاه رشيد
مليك له كل الملوك عبيد
إذا شجرت سمر الرماح أسود
سرابيل من نسج الحديد سرود
فأدى القضاء ما كان منه يحيد
ببلقعة تحوى عليه لحود
سعيراً له صم الصخور وقود
عليها رقيب لا يضل عتيد
لقائمهم لو يعلمون سعود
وأن قتيل المؤمنين شهيد
يدين لها نافي الإله جحود
لأكرم من تهفو عليه بنود
لكم حين تعداد الجدود جدود
بكسب المعالي مبتدى ومعيد
وللضد منكم علقم وصديد
وكادت له شم الجبال تميد
له بين قطر الخافقين ضديد
وفيه علامات عليه شهود
وعلم على علم الأنام يزيد
ومنكم عليها حاضر وشهيد
ولي حمى عن دينه ومريد
عن الرشد أغلال لكم وقيود
وما الناس إلا ملحد وعبيد
من القول لم ينظم لهن عقود
عليها رجال راكعون سجود
نأى منكم مستنصر وعنيد
ولكن حظي في الأمور زهيد
طعان ومني خطبة وقصيد
حميد لطيف بالعباد مجيد
وقال الفقيه اللسان الأوحد عيسى بن محمد التهامي في ذلك:
ا مثل كثبان وادي المنحنى كثب
فلا تلمني إذا ما اعتادني طرب
أهوى المقيمين في نجد وإن نزحوا
أقول والعيس تعدو في الفلاة بنا
يا عيس أمي بنا المهدي في حلب
إذا رأيت أمين الله فاعتمدي
وقبلي منه كفاً جودها غدق
المجتبى المنتقى من عترة طهرت
والباذل العرف والمعروف منتقداً
الخيل أيسر ما يعطي مسومة
وباعث الجحفل الجرار يقدمه
طلق المحيا ووجه الدهر .......
ما قام للكفر شمل وهو هادمه
ولم يضع للهدى سرح ولا سكن
لا سورة تتقى منه ولا بله
وباذل نفسه لله محتسباً
يا ابن النبي ويا من فضله أبداً
آيات فضلك في الأنام باهرة
أنت الإمام ومهدي الأنام إذا
ستملك الأرض من مصر إلى عدن
تفرق الناس في الأهواء كلهم
وحاربتك رجال لم يكن لهم
سلوا عليك سيوفاً هم لها جزر
فلا يغرك ماقالوا وما فعلوا
سيغلبون كما قال الإله معاً
ولا يغرنك أكياس لهم حملت
فاصبر إمام الهدى واسلم ودم أبداً
?
?
ولا كخرد نجد خرد عرب
فذو الصبابة قد يعتاده الطرب
عني وأزداد تبريحاً إذا قربوا
وسيرها الفسح والتقريب والخبب
فإن أكرم أرض زرتها حلب
منه جناباً رحيباً ليس يجتنب
وأخمصا يتمنى لثمه الشهب
إن النجيب من الأنجاب منتخب
والواكف الكف مهما شنت السحب
والألف أهون ما يعطي وما يهب
كأنما هو فيه جحفل لجب
ماض وكل كمي قبله نجب
ولا استقال عنادا حده الترب
وهو عليه المشفق الحدب
ولا يحيف رضا منه ولا غضب
إذ ليس في الناس من للنفس يحتسب
كأنه الصبح باد ليس يحتجب
قد أكدتها لنا الأخبار والكتب
وليس في ذاك لا شك ولا كذب
معجلاً رضي الأعداء أم غضبوا
وأنت قطب رحىً للدين منتصب
من طول حربك إلا الويل والحرب
وأوقدوا نار حرب هم لها حطب
فإن سألت يرد الدين مستلب
ويحشرون إلى نار لها لهب
فإنما هي في أعناقهم صلب
فالنصر بالصبر مطلوب ومرتقب
قال الراوي: وأقام القوم في صنعاء، وتقدم الأمراء الأجلاء آل يحيى بن حمزة بن أبي هاشم من ذيبين وذروة إلى بين يدي الإمام عليه السلام للاعتهاد والمشافهة والتهنئة بسلامته والاستدعاء لمراسمه وأقاموا أياماً، ووصل صنوه الأمير الكبير علم الدين أبو المظفر سليمان بن يحيى في عسكر وافر فسلم على أمير المؤمنين وقد كان في تلك الأيام لزم جبلاً ملاصقاً لجبل الأهنوم كان الأمير الحسن بن الإمام المنصور بالله عليه السلام عمره وحصله حصناً، فلما استحكم الإمام عليه السلام حط على هذا الحصن قبائل الأهنوم وغيرهم فسلمه الأمير الحسن بن الإمام المنصور بالله عليه السلام فأمر بخرابه لما يلحق أهل تلك النواحي من الضرر، وهم أهل البيت عليهم السلام، فلما علم أمير المؤمنين عليه السلام لزم الأمير علم الدين لهذا الجبل ضاق صدره وأمره بالانصراف عنه فضاق صدر الأمير من ذلك ووقع في نفسه تعب من ذلك، وكانت البلاد الظاهرية عموماً وإليه ولاية، فاعتزل لأجل ذلك من غير أن يرضي ذلك أمير المؤمنين وأقام أياماً وولى الأمير جمال الدين علي بن القاسم بن جعفر بن الحسين بن أبي البركات بن الحسين بن علي بن القاسم، ترجمان الدين عليه السلام، وهو يومئذ حدث السن، وأقام الإمام عليه السلام في حصن حلب المحروس وقد كان أمر بلزم موضع إلى جنب حصن بكر يضر بأهل بكر إذا عمر، وأمر أهل بيت متعين بالحلول فيه ووقعت حرب بينه وبين أهل بكر، والأمير أحمد بن يحيى بن حمزة في تلك الحال في الضلع في جانب القوم وغزا أهل بكر في تلك الأيام إلى تحت حصن حلب المحروس فقتلوا رجلاً عظيماً مجاهداً مع أمير المؤمنين وهو من الكرد يقال له: محمد بن عمير بن صالح، فاغتم الإمام بذلك ولم تمض إلا أيام قلائل حتى ندم الأمير شمس
الدين أحمد بن يحيى بن حمزة وعاد إلى الإمام واعتذر ورجع وتاب وأخلص وحسنت طريقته، والحمد لله رب العالمين، وأقام أمير الؤمنين في حلب المحروس من شهر رمضان المعظم في سنة اثنين وخمسين وستمائة إلى أيام مضت من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وجرت نوبة الحشيشي وهذا موضع ذكرها وسببها وما قيل فيها من الشعر.
(قصة الحشيشي لا رحمه الله تعالى واختلاف الروايات في سبب وصوله)
قال السيد شرف الدين يحيى بن القاسم رضي الله عنه: ونحن نبرأ إلى الله تعالى من اختراع الكذب ونسأله التوفيق للصدق، والسبب في ذلك أن أمير المؤمنين المهدي لدين الله لما عظم شأنه عند ملوك الأرض خاف كل منهم على ملكه فاستغاث صاحب اليمن بخليفة بغداد، وأمكنوا في كيده بالسمومات وغيرها من أنواع المكر فدسوا عليه الحشيشية وهم فرقه من الملاحدة القرامطة المعطلة قوم يأتون من تخوم بلاد خراسان يعزيهم أهل تلك النواحي إلى بلد تعرف بالموت في نواحي الديلم لا يسكنها إلا [117ب-أ]الباطنية المعطلة أعداء أهل الإسلام، ولهم ملك معروف يستعبدهم حتى يعتقدون وجوب طاعته في كل أمر فيدسهم على الملوك ويأخذ بهيبتهم قطائع جليلة من الملوك.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: أخبرني من لا أتهم أن هؤلاء إذا أتي بهم إلى صاحب الموت أدخلهم داراً قد أعدها لهم فيها أنواع الفواكه والملاذ والمآكل النفيسة الطيبة والأنهار المطردة فيرون شيئاً لم يرون قبله ولا يدخلون تلك الدار إلا بعد أن يسقوا شيئاً من المسكرات تزول معه عقولهم فلا ترجع معهم عقولهم إلا في تلك الدار ثم لا يخجون عنها مدة فإذا أراد أن يدس واحد منهم أو جماعة أمرهم فسقوا شيئاً يزول عقولهم ثم يخرجوا فإذا أخرجوا تركوا في أخس مكان حتى يرون من الهوان ما تقطع قلوبهم معه حسرة لفقد ما كانوا عليه، ثم يدس إليهم يسألهم عن حالهم فيقولون لا ندري كنا في دار كذا وكذا من النعم ثم صرنا إلى هذه الحالة من الهوان فيقول لهم: فإني أدلكم على أمر ترجعون به إلى دار أعظم مما رأيتم، فيقولون: وكيف لنا بذلك؟ فيوتى بهم إلى تلك الدار التي كانوا فيها فيمتلون فرحاً ويفتح لهم باب إلى شيء ينظرون من بعيد بينهم وبينه حجاب من زجاج ومن وارئه صور ناس عليهم أنواع الملابس وحولهم من الملاذ وحلي الذهب، والفضة، والجوهر، وتصاوير الأطيار وأشياء عظيمة يفتتنون بها ويصبون إليها ويستصغرون تلك الدار التي كانوا أعجبوا بها، فيقول لهم القائل: أرأيتم تلك الصور؟ فيقولون: نعم، فيقول: ذلك فلان أمره مولاه أن يقتل فلان الملك فقتله وقتل وانتقل روحه إلى هذه الصورة ثم هو في هذه النعمة أبداً، فإن أردت تنال هذه الدرجة فامتثل أمر مولاك؟ فيقول: حباً وكرامه، فيقول: إن حدثت نفسك بالسلامة بطل أجرك وغضب عليك مولاك أبداً وتنتقل إلى دار الهوان وتنتقل إلى روحك إلى كلب أو خنزير، أو غير ذلك أبداً، فيقول: كلا، وربما يختبرهم سلطانهم فيسيروا إلى الواحد فيرمي بنفسه من شاهق أو يقتل نفسه، وهذا ما نقل إلينا من هؤلاء القوم الذين لم يسمع مثلهم في الدنيا ودسيستهم على الملوك إما بأن يأتوهم في هيئة صانع من الصنع النفسية الغريبة، وإما في هيئة
الغرباء والصوفة، وإما في هيئة المماليك الذين يباعون فيبيع الواحد منهم أخاه أو أباه ممن يريد قتله من الملوك، فمنهم من يقتل بسكين تسمى الخوصية المحكمة الصنعة طولها نحو من ذراع بمقبضها مستقيمة مسمومة، ومنهم من يقتل بهيئات على هيئة الإبرة أو على الحسكة من الحديد المسمومة ويقيم الواحد منهم السنين الكثيرة حتى تمكنه الفرصة ممن يريد، ولهم حيل ويدخلون على الملوك الذي لا يبلغ إليه أحد سواهم ولم يعلم بدخلوهم اليمن على أحد من الملوك قبل إمامنا إلا أن يكونوا غير قاصدين لأحد، هذا فيما ظهر[118أ-أ]. والله أعلم.
قال الراوي: والسبب في وصول الحشيشي إلى اليمن أن سلطان اليمن في ذلك الأوان وهو يوسف بن عمر بن علي بن رسول لما قام في حرب الإمام عليه السلام كتب إلى الخليفة وأعلمه بما هو فيه من المدافعة عن ملك الخليفة فكتب إليه الخليفة وهو المستعصم بن المنتصر بن الناصر صاحب بغداد كتاباً وأمر إليه رسولاً وأموالاً وملابس نفيسة وعقد له السلطنة في اليمن وولاه من تحت يده فطال بذلك، فلما كان في أيام طلوع هذا السلطان إلى صنعاء وخروج الإمام عنها وجه رسولاً إلى الخليفه يقال له: ابن أبي الفهم، فأمر الخليفة إلى صاحب الموت فوجه إليه بحشيشين أحدهما: رجل قد طعن في السن أعور العين طويل القامه جليل المشاش شيطاناً مريداً، والآخر غلام حدث السن في سن الشباب كامل الخلق، واسم هذا الشيخ فيما حكى: يوسف بن حسن، زعم أنه من الموصل. والله أعلم.
فلما وصل هذا الرسول إلى زبيد كتم السلطان أمر الحشيشين واستدعى رسولاً من الإمام وأظهر أنه راغب في الصلح فوجه إليه الإمام القاضي التقي المخلص يحيى بن الحسين بن عمار من أهل الدين والعلم والحزم والثبات في أموره وأمر أن يدري بأمر السلطان فإن كان صادقاً كانت المراجعة والعمل معلوم وإن كان غير ذلك لم يكن قد ظهر وهو عليه السلام مقيم في حصن حلب وفي خلال استدعاء السلطان للرسول من عند الإمام وجه الحشيشين مع ابن أبي الفهم إلى صنعاء وأمر لهما بالملابس النفيسة والمركوب ولم يدر أحد بهما وأظهر أنهما رسولان مشرفان على خزائن الحصون أو نحو ذلك، فلما وصل ابن الفهم إلى صنعاء التقاهم السلطان أحمد بن علوان بن بشر بن حاتم بن أحمد بن عمران بن أبي الفضل اليامي وهو خاصة السلطان وبطانته وموضع سره وأمانته فأسر إليه ابن أبي الفهم الأمر، ووصل كتاب السلطان وظهر من أمرهم أن هذا ابن أبي الفهم وصل بخزانة وأنه يريد الصلح بين الإمام وبين السلطان وأن هذين الرجلين شاهدين أو نحو ذلك، وربما أظهروا أن تسليم حصن كوكبان للإمام وأن يؤخذ عوضه حصن هداد للسلطان وانتشر الكلام ومالت خواطر الناس إلى ذلك واضطرب أسد الدين ذلك الأمر راجع نفسه من مكر أو خديعة، وتقدم أحمد بن علوان والحشيشيان إلى حصن كوكبان وأظهروا للوالي تسليم الحصن، فاضطربت أموره، وأظهروا افتقاد الخزائن والشحن، وكاتب ابن علوان الإمام وأراه الرغبة من السلطان في الإصلاح وأظهر أنه يريد الوصول وأنه يطلب الرفاقة والذمة الأكيدة، فلم يبق عند الإمام عليه السلام شك في رغبة القوم في الصلح وأن وراءهم أمر هم عليه، فامر بالذمة فلم يلبث أن قدم الشيخ الحشيشين ومعه رجل من [118ب-أ ]مولدي الغز يقال له: ابن لبابة، يقال أنه خدع في صحبة الحشيشي، والظاهر يحكم عليه بالبغي والعدوان، فوصل الرجلان آخر يوم الخميس وهو السادس من ربيع الآخر ثلاث وخمسين وستمائة، فأمر أمير المؤمنين بإنصافهما
وإكرامهما، واستأذن الرجلان في السلام فأذن أمير المؤمنين عليه السلام لهما وكان عنده السلطان الأجلان الناصران شجاع الدين حسين بن سعيد، وأسد الدين محمد بن الوشاح في عصابة من أجواد قومهم قريب من الخمسين فقيل لأمير المؤمنين في الحزم والحذر من كيد الحشيشيين ففعل وكان معه من الأجواد ما لم يمكن الحشيشي معه أن يبت، فدخل الحشيشي فسلم على الإمام هو وصاحبه والإمام على نهاية الحذر منهما في ذلك الأوان وخرج هو وصاحبه بعد ساعة، وكان من الغد وهو صبيحة يوم الجمعة فأظهر الحشيشي أنه مريض، فلما حضر وقت الجمعة خرج أمير المؤمنين إلى موضع في الحصن فصلى بالناس صلاة الجمعة وجاء إليه رجل من أهل ثلاء فأشار إليه أن يحزم من الحشيشي فلم يصدق الإمام وخصوصاً بعد ما لم يثب في الليلة التي وصل فيها، ثم أن أحمد بن علوان وصل إلى حصن ثلاء لما علم من المشايخ أهل ثلاء أنهم اضطربوا من الشائعة بتسليم كوكبان وهم في ذلك الأوان محاربون للإمام عليه السلام ومباينون له فطيب نفوسهم وهو يقوم ويقعد وهو يتطلع الكائنة من الحشيشي، فلما كان بكرة السبت عند طلوع الشمس دخل الحشيشي وصاحبه وأظهر أنه يريد حزم الأمور والوداع والرجوع إلى ابن علوان وأنه ما وصل إلا شاهد؛ لأن السلطان قد بلغه أن ابن علوان لا يريد صلحاً بين الإمام وبينه، فأمر الإمام أن يخلى له المكان فلم يبق مع الإمام إلا ثلاثة نفر وهم عمدة خواصه الفقيه العلامة الأوحد نظام الدين خاصة أمير المؤمنين القاسم بن أحمد الشاكري، والفقيه الطاهر التقي داعي أمير المؤمنين محيي الدين معلا بن عبد الله القيسي ثم البهلولي، والشيخ الطاهر المخلص تقي الدين خاصة أمير المؤمنين عبد الله بن يحيى بن علي الصعدي، وأمر أمير المؤمنين أن يقف السلاطين ومن معهم في مجلس قريب منه وخدمه وأتباعه كل واقف في موضعه من القصر، فلما دخل الرجلان على الإمام إلى مجلسه وهو على مرتبته التي ينام عليها والمجلس في طوله
إلى مقدار خمسة عشر ذراعاً، فلما دخل الرجلان وكان الإمام في شرقي المجلس وأصحابه في غربييه فردا السلام وتحدث بحديث غير طائل ولا منتظم، ثم استأذن الإمام وأصحابه أن يلقي إلى الإمام حديثاً سراً فتوهم الكل أن معه حديثاً من السلطان، فدنا من الإمام قليلاً حتى بقي بينهما نحو ذراع وبينه وبين أصحابه إلى أربعة أذرع هذا تقديراً، ثم تحدث بحديث كحديث السكران وقيل: إنه أكل في ذلك اليوم من [119أ-أ] الحشيشة التي يسكر بها الصوفة، وقال: وقطع الإمام وكلما تحدث معه الإمام، أو سامه أمر احتمل بيانه فاستنكر الإمام حديثه ثم طلب من الإمام أن يكتب له ورقة أمان، وأن يكون مختلف هو وابن أخيه ولم يكن عنده أنه يظفر في كرته تلك وأزمع على القيام، والوداع على غير طائل ولا يفده في أمر من الأمور.
(قصة وثبة الحشيشي على الإمام عليه السلام)
قال الراوي: ثم إن الإمام أشار إلى الفقيه نظام الدين أن يدنو منه ليحسن في خروج الرجلين بلطف وأدب لما رأى حديثه غير منتظم ويزلجا عنه ويخبرهم أنه ما حدثه بطائل فدنا الفقيه نظام الدين من الإمام فشاوره الإمام في أذنه اليسرى وعينه مع الرجل وهو باسط يديه على فخذيه ثم إن الفقيه أراد أن يرد الجواب على الإمام فشاوره مقابلاً لأذنه اليمنى فعند ذلك ستر ما بين الحشيشي وبين الإمام لحظة فحصلت له الفرصة فجذب سكيناً خوصية عظيمة قريباً من عظم ذراع بمقبضها قد كان أعدها في باطن فخذه ثم قام في أسرع ما يكون وانحط على الإمام بعد أن رفع يديه وتطاول على قدميه خيفة أن يكون الإمام دافناً لدرع أو نحوه فأحس به الإمام عليه السلام فوثب قائماً وعدلت منه الأرض فوقعت رجله فيها أو في ناحية الفراش فسقط على جنبه الأيمن فوقعت الطعنة في موضع المحجمة من كتفه الأيسر فمرت نحو من ثمان أصابع إلى نحو عظم صلبه بعد أن أخذت نيفاً وخمسين طاقاً في العمامة وطاقات في فوطة جديدة عليه وثلاث طبارات المنسوجة والدراعة وما تحتها ودنا عدو الله منه ليطعنه الثانية على خاصرته فوثب عليه الفقيه العلامة نظام الدين القاسم بن أحمد الشاكري فقبض على السكين بيديه ووقعت الواعية وصرخ الصارخ وكانت ساعتهم لم ير الناس مثلها ولم يشك أحد أن الإمام قد قتل وقام الأمير وطعنته ترش من خلفه فأحس بالحرايم أنها قد خرجت على الناس فشغله ذلك عما معه فخرج فردهن وقد كان ابن لبابة دخل على الحرايم فقيل: إنه أراد أن يقتل ولد الإمام الصغير المسمى الناصر محمد بن أحمد، وقيل: إنه أراد أن يستجير. والله أعلم.
ثم قال أمير المؤمنين لأصحابه: اقتلوا الرجل، واشتغل بستر الحرايم، ودخل الناس على الحشيشي وقد شد الفقيه العالم يديه وضغطه إلى جدر حتى ما استطاع حراكاً معه فدخل عليه رجلان من خدم الإمام وضرباه على رأسه بالسيف حتى صرعاه ثم وقع فيه من دخل، وعاث الناس في الدار فنهب من الدار شيء من الثياب، والحرير، وقتل ابن لبابة في دار الحريم بغير أمر الإمام، وبلغ الصارخ إلى ثلاء في الحال فوقع عند المشائخ من ذلك مصيبة عظيمة وخاف أحمد بن علوان على نفسه.
قال السيد شرف الدين [119ب-أ]أيده الله: وقد أخبرني من لا أتهم أنهم هموا به عند ذلك وراح من ساعته وتفرق المبشرون من المفسدين والمعاندين إلى صنعاء وذمرمر وغيرهما، واليمن، وإلى بلاد الباطنية بقتل الإمام وتفرق المبشرون من عند الإمام عليه السلام بسلامته، وكانت الوقعة على مضي ساعة ونصف من يوم السبت ثامن ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وستمائة.
قال السيد شرف الدين شرف الله قدره: كنت ذلك اليوم قريباً من قرية بغاش قاصداً إلى الإمام عليه السلام ومعي من بني العم جماعة فلم نشعر حتى لقينا البشير وظننا أنه مبشر بتسليم كوكبان فبشر بسلامة أمير المؤمنين من الحشيشي فأقسم بالله لقد نزل إلى عند ذلك ظلمه على الأرض وأصابنا ما لا يعلمه إلا الله ولم نصدق للإمام بسلامة وبقيناً نقلب الأمر ظاهراً وباطناً هل نقدم وإن كان الإمام قد قضي عليه فإنه لا يمكننا أن ندخل حصن حلب ولا ندري كيف يكون أو نعود فربما الإمام سالماً فنندم فرأينا القدوم فأخذنا من ساعتنا تلك نثب في الجبل وثباً حتى وصلنا حصن حلب آخر النهار فاستر بوصولنا أمير المؤمنين عليه السلام ومن معه وما صدقنا لمولانا الإمام بسلامة حتى رأيناه وسقطنا عليه ومن الله علينا بمنة لا تواديها منة فالحمد لله كثيراً، ثم أخذ أمير المؤمنين في علامات الكتب إلى أقطار البلاد إلى المشرق والمغرب، والظاهر، وصعدة، والجوف، وحصون اليمن، وبراش وغير ذلك يعلمهم بما منّ الله عليهم من سلامة إمامهم وقتل عدوههم ويأمرهم بالشدة فإنه سالم وفي أجل نعمة مع عظيم ما معه من التعب.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: كنت أخاف أن يكون السكين مسموماً، فأمرت للسكين فتدبرتها فرأيت في فقارها شيئاً لاصقاً رقيقاً كالسندروس والذي غلب على ظني أنها مسمومة وقد أخبر بذلك عدة من الناس وإنما دفع الله عن ابن نبيه وبين للخاص والعام عظيم فضله وبركته فكنت كثيراً ما أسأله عليه السلام هل يحس معه في قلبه ألماً أو ضعفاً؛ لأن السم يسري ألمه إلى القلب فيقول: ما أجد شيئاً من ذلك، فلما مضت ليالي على شدة الوجع والألم قطعنا على السلامة من السم، ثم أقبلت القبائل من أقطار الأرض يهنون بسلامته ويحمدون الله تعالى على ذلك وهو صلوات الله عليه يظهر التجلد، ويقوم للكثير من كبار الناس على شدة التعب وسهر الليل، و أقام القوم في صنعاء في فرحة وسرور أياماً ويكسون وينعمون ومن أخبر للإمام بسلامته أهانوه وكادوا يهلكونه حتى صح لهم أن الله تعالى رد كيدهم، ووصل إليه أخوه أبو المظفر سليمان بن يحيى بعد أيام، وأقام أمير المؤمنين أياماً قريباً من نصف شهر، وخرج يسير إلى جانب الحصن فاستر الناس بذلك سرور عظيماً، وكان يوم سرور وفرح، وأقامت الجراحة مانعة له من [120أ-أ]صلاة الجمعة قريباً من شهرين ثم صلى بعد ذلك.
قال السيد شرف الدين أيده الله: وقفت معه خمسين يوماً أو قريباً منها ما فارقته ليلاً ونهاراً إلا في النادر، وباشرته بنفسي أنا وجماعة من الأبرار فلم أر أحداً أصبر منه، ولا أكثر منه تجلداً، وفي خلال ما هو فيه من التعب لا يترك حاجة لأحد إلا قضاها على أحسن ما يكون فجزاه الله خيراً.
ووصل في خلال ما جرت النوبة المشائخ الأجلاء أهل ثلاء ..... ما جرا، وهنوا بسلامته، وأمروا بالغنم للضيافات، وتألموا، ولم يبق أحد من عيون الناس حتى وصل وهنأ وتشفى بمقابلته عليه السلام، وكان مما قيل من الشعر والتهاني بسلامته من ذلك قول الأمير العلامة شرف الدين بن يحيى بن القاسم بن يحيى الحمزي طول مدته:
فا بالعقيق ربعه ومآثره
وودعت سلمى قبل ذاك ولم أكن
وقد أد منها لاعج لا أرى له
ولله عيناً من رأى مثل كله
من العامريات الرسوف كأنها
لعرب هضيم الكشح يرميك طرفها
وأحور براق ترا على مأوه
أعاذلتي رفقاً فلست ببادع
وأقلقني من عازب البين طائف
ولولا تأنيت الزماع على السرا
يرى التحص منه اللمع حتى تضعضعت
قطعت به عرض الفلاة وإنما
إلى خير من تهفوا الخوافق فوقه
إلى الأفق خير بني الورى
إلى من به أضحى لدين محمد
إلى ابن حسين خير آل محمد
إليك أمير المؤمنين زففتها
وما قطعت جزعاً إليك فإنه
لأنك عنوان اللهاميم والذي
لك الحرم الأقصى ومكة كلها
وكم كربة فرجتها بكتايب
بعزم كحد السيف والسيف دونه
ولما نهضت الحق نهضة ثائر
ولم يبق في بغداد ذكر لذاكر
تجرع كأس الموت ثمة أظهرت
أتتك دهيمات ولست بغافل
وألمع في حرب القرامط بائعاً
فساروها الفذ الهمام ابن أحمد
فلله من فذ لقد شاد مفخرا
فلا زلت محروساً من الله كلما
?
?
وأقفر من ربع به ما داثره
أرى أن ذاك الربع يرفض حاضره
مكاناً ولا انفك منه أمائره
حجاب على بدر بذلك باهره
عكوف على سرب دعته جآذره
بما اكتنفت تحت النقاب محاجره
ويبدوا إذا ما أقصد الصب ساحره
ويكفيك عما بي من الحزن ظاهره
تضيق على الخريت منه مصادره
على كل رواد ثقال زوافره
ثوى مكة ثم أجار البيت حواضره
حادى لي الشوق العظيم بوادره
إذا دلفت عند النزال عساكره
وخير مليك حين تبدو بشائره
شعاراً على القطب الشمالي طايره
ومن آله أهل الكساء وأواصره
أساليب كالروض الذي راق ناضره
يصلي عليك أهله وعشائره
بكفك مزن الجود ينهل ماطره
مقام أبيك حجره ومشاعره
وقد علقت للموت فيها أظافره
رددت به الملك الذي أنت ماهره
وقامت قناة الدين واشتد ناصره
سواك وردت من سواك أوامره
بواطن للكفر الذي هو ساتره
عن الحزم إلا أن قلبك ذاكره
وفرق في كل المدائن حاشره
فصار له العز القديم وآخره
لهمدان في يوم القيامة عابره
أنارت لنا في كل صبح سوافره
وقال القاضي اللسان ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي لما انتهى إليه العلم وهو في بلاد نائية وتراخى عنه تحقيق الصحيح من خبره فكتب هذه الأبيات إلى خواص أمير المؤمنين يستطلع منهم العلم اليقين بسلامة أمير المؤمنين فقال:
حق ذمام عهدكم وعهدي
ألا كيف الذي تهوى الرواسي
وكيف يد كمثل يمين عيسى
وكيف جبين من يجلى الدياجي
ومن هو يبري المكفوف مهما
ألا كيف الهدى كيف المعالي
ألا كيف الذي يهب المذاكي
وذو منن تطوقت البرايا
ومن يلق العظايم وهو طلق
ظلال الله داعي الله محيي
سفينة نوح المعصوم فيها
ظللت وقد أتاني العلم أخفى
وبت على الفراش كأن جنبي
يراقبني السهى فأقول مهلاً
اأنسى أنعم المهدي عندي
ألا تبت يمين فتىً ترامت
أراد السوء بالإسلام كفراً
كما فعل ابن ملجم في علي
أقول وفي الجوانح نار هم
فإن تهلك أبو فانوس يهلك
ويمسك بعده مذناب عيش
إذا حرص المهيمن في حماه
ألا لا يصنع الإسلام فيه
?
?
وحرمة صحبتي كيف الإمام
لدعوته وينصدع السلام
إذا مسحت أزيل بها السقام
بغرته ويستسقى الغمام
دعا الباري فينجاب الظلام
وكيف البحر والبدر التما م
كأن رهاها الهضب القيام
بهن كما تطوقت الحمام
ونلقا قده وله ابتسام
سبيل الله إن ضل الأنام
سوام الحق إن زفر اللهام
بردي عبرتي ولها انسجام
تعرض دون مضجعه السهام
يرقوا لي فإني لا أنام
فأنكرها إذا يبس الذمام
به من أرض بغداد الأكام
وطغياناً فعاجله انتقام
وأخر عن خليفتنا الحمام
ووجد ما وراءك يا عصام
ربيع الناس والشهر الحرام
أحب الطهر ليس لها منام
أمير المؤمنين فما يرام
ولا ذهبت لمهجته الكرام
وقال أيضاً القاضي ركن الدين مسعود بن عمرو يهنيه ويذكر جملاً من بركاته وفضائله عليه السلام:
كى البدر لما شكى جوارح
وزارك من لطف الكرامة زائر
بفقد جثمان النبوة بالذي
فأصبحت في نعمائه خير من مشى
وفي الحق من أحياك تحيى عهوده
ومن يمتحن أحوال مثلك لا يجد
رأى تلك لما أو صحبتك لم تضع
وإذ لم يهن من صعب عزة لمحرم
وإنك لا تصفوا إلى صفو مشرب
وإنك لا الدنيا عليك بمغنم
وأنت إذا ما استصعب الأمر حصنه
إذا دجت الأحداث قلت لها انجلى
فما عذر من لم يرع حقك بعدما
عطاء الذي لولا مكانك عنده
ألم تبصر التنيين فارق سقمه
دعوت فسارت في مفاصل جسمه
وهضبة سنحان التي قد دعوتها
وأعمى كساه النور رب دعوته
وأرضاً وطيت الترب منها فأعشبت
فهل كان بدعاً أن يكون على الذي
?
?
شاة من العرف الرسول بالدم
حفي ومن يكرم على الله يألم
أتاك فلم يجرح ولم يتألم
على قدميه من فصيح وأعجم
ولولاك كانت من رماه إلى عظم
سبيلاً لم يأتي ولا متوهم
على حاله فعل البقاء والتكرم
وإنك لا تزور عطفاً لمسلم[21أ-أ]
أنيق ولا تصبو إلى طيب مطعم
يفاد ولا الدنيا عليك بمغرم
بعزم يطأ فرع السماك بمنسم
وإن قعد الإسلام قلت له قم
رأى عروة لم عن يمينك تفصم
لما أظهر النور الذي لم يكتم
على طول عهد منهما متقدم
حياة الذي أفنى قبائل جرهم
فجاب وكانت منتمى كل أعصمى
وقد كان في جنح من الله مظلم
وعياد لما دعوة ألا اقدم
نصرنا به مهدي عيسى بن مريم
وقال الأمير الكبير عضد الدين جعفر بن أحمد بن جعفر بن الحسين بن القاسم بن علي بن عبد الله بن محمد بن القاسم ترجمان الدين:
نيئاً كلما كر الجديد
ولا زالت تصاحب كل يوم
أمير المؤمنين فداك قوم
أراد الناكثون لك انتقاصا
فصدق قول الحجر فيهم
ملأت صدورهم خوفاً ورعباً
وهم للناكثين بعثت جيشاً
فلا تغضي على غدر لقوم
فحسبك لا يزال لهم معار
وكم رامت بك الأعداء غدراً
فحاق بهم وأفناهم جميعاً
وسلمك الإله ولا ظهير
سوى الفذ البطائي وأي كاف
وجاد بمهجته كرمت وأنى
وقام بكل ما يرضى ويهوى
فدمت مسلماً عن كل سوء
?
?
بما أولاك ذو العرش المجيد
أعاليك السعادة والسعود
رضي فعالهم غدر عنيد
ويأبى الله إلا ما يريد
فعال كلهم فيه مريد
فحل بهم من الفرق العبيد
تضيق به السهولة والنجود
قيامهم لذلك والقعود
وخيلك ما يفارقها اللبود
وفتكاً لا يحد له حدود
كما فنيت بأشقاها ثمود
ولا حول لديك ولا ودود
يقر بفضله بيض وسود
بمهجته هنالك من يجود
مقاماً ما له أبداً جحود
سنينا ما لا يسرها عديد
وقال القاضي اللسان ركن الدين أحمد بن سليمان قاضي أمير المؤمنين:
ل ربع هند ولما يخبر الطلل
وأسسوا .... أعلى بان كاظمة
واذكر ضحوية توديع مددت بها
يا غصن بان إذ إبان مثله
رهبت بالحسن والأيام قد رهبت
القائم الحق والهادي إلى رشد
من قاسم الغلب تيجان الوسوس وهم
مهدي عيسى أمير المؤمنين على
خير الخلائق زاكي البيعتين له
أعاد كل عصي والشهود له
ورد للعرب ملكاً بره عجم
والعرب ما تعب لا قدست فيه
أين الحماما وأرباب الوفاء وما
وهو من جاء من بغداد ماليه
وقاده قائد في عوده خور
أواه أهل العمى المصباح في حلب
والشمس يعنون إلا أنهم جهلوا
والنصر لابن الحسين مكتنف
واستعمل الحزم فيه قاسم فله
وما خليفة بغداد بما صنعت
كناطح صخرة يوماً ليفلقها
دع يوسف إنه مستبطن حسدا
ولم يغير فيما نلته قدم
فابعث صواعق كأس من صداك على
فالملك منتظم والشمل ملتئم
لا تبتئس بأقاويل مزخرفة
..... للوم من علاك به
ولباس الكفر قد شالت نعامته
?
?
عن أهله يوم جد البين ما فعلوا
يوم النوى أهل هند عندها نزلوا
كنا نعاوده من علوة الغيل
غصن وبدر عليه الليل منسدل
بأحمد رسول الله والدول
لألأه بكتاب الله متصل[121ب-أ]
خلاص صيد نمت أباهم الرسل
ما نصه العلماء القادة الأول
كل الملوك على ما خولوا خول
بيض الصوارم والخطية الذبل
علتهم بهم من حلية عطل
منها عصت فهي للأتراك مبتذل
تراد بيض الذرى والبيض والأسل
علج حدته مجوس الأمة السفل
في حاله لسفيه في حاله زحل
فرام إطفاه لأمه الهبل
والموت ينجون إلا أنهم ذهلوا
فباشر العلج رعب فهو مختبل
فضل إذا ما المساعي أهلها فضلوا
يداه إلا كما قد أعرب المثل
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
والدين يقصم إن أربابه مطل
لن يدرك عبر مسنه قول
أهل الشقاق فأنت الباسل البطل
والعزم لا وكل والرأي لا خطل
فطلعة الشمس ينسى عندها زحل
تعلوا الموالي ويعنوا الكاشح الوكل
ويسفر الحق إن النصر مقتبل
وقال الشريف العالم اللسان أحمد بن سليمان العباسي العلوي:
تبت وقد تعاظم خطب شجوي
وقد نأت الديار وصد عنها
وقد طال البعاد فليت شعري
ورؤيت شخصك الميمون فيه
ولثمي أخمصي ملك كريم
عليك الفضل حتماً حيث مدت
لك المجد الذي دنت الذراري
يلين إذا هفا الجاني وليست
إذا الأملاك مال بها التذاذ
وصلب ثقل أعباء المعاني
تعنت الخيل فبا شازبات
يهادي بالضراغم باهمات
لهن وقائع في كل ثغر
بذاك أقمت دين الله حتى
وروعت الطغاة فأسلمتها
وحاق بها القضاء فأدركتها
وسعت فالخذلان حظ
وأفنو دهرهم جيلاً وغطوا
وأسروا بغيهم سراً مصوناً
وكاد الكيد في ثب وأكدت
وحلوا حيثما سلكوا وضلوا
كفاك الله دائرة الليالي
وهناك السلامة إن فيها
وما أوتيت من شرف وسعد
?
?
وطال إليك شوقي والحنين
عدو دون مسلكها مبين
مزارك واللقا متى يكون
سنا الإيمان أزهر مستبين
عن الهامي يريها مصون
خطاك وحيث سدلك والوطين
له وعشت بمنظره العيون
قناتك للعلا يوماً تلين
عن العليا وأطربها المجون
فألهتها الرفاهة والهدون
يثار بنقعها الحرب الزبون[122أ-أ]
مخضبة طلاها والمتون
بسوء القرن أبكار وعون
تمحض للورى منه اليقين
لخيفتك المعاقل والحصون
بحيث تمنعت منك المنون
لهم والنصر حظك والقرين
مكائد تحتها الداء الدفين
بداع البغي والسر المصون
مساعيهم وخيبت الظنون
وخاب السعي وانقطع المتين
وحاطك إنه الكافي المعين
سلامة دينه مما يشين
وإقبال فأنت به قمين
وقال الأمير العالم سيف الدين الحسن بن محمد الداعي إلى الله أحمد بن يحيى بن يحيى بن الهادي عليه السلام:
اموك والله رام دون ما طلبوا
عوائد لك تجري في كفالته
كم مثل ذلك فتق منيت به
ضاقت جوانبه واشتد مخرجه
رداً إليه وتسليماً لقدرته
?
?
وكيف يفرق شمل وهو جامعه
لا يجبر الله عظماً أنت صادعه
والله من حيث يخفا عنك راقعه
وأنت فيه رحيب الصدر واسعه
فيما يحاوله أو ما يدافعه
وأمر الإمام عليه السلام بجوابه فقال بعضهم:
هلاً بطالع ما قد سر طالعه
أهلاً بروضة لفظ جاد زخرفها
شمل المسرة والسلوان مجتمع
?
?
طرس من الشرف السامي مطالعه
شؤبوب صنعة من جلت صنائعه
عندي ومسطور سيف الدين جامعه
وهذه اللامية والتي بعدها النونية للسيد العلامة حميدان بن يحيى عليه السلام:
ما قهرت الظالمين تأملوا
دسوا الحشيشي المضلل سعيه
أعظم بتلك مكيدة وخديعة
نقض الإله بلطفه ما أبرموا
كل الأفاضل بالمكائد مبتلى
أو ليس من مكر الطغاة كما حكى
فاحذر زخارف من يريك تكسيا
لا زلت مأنوس الجناب مؤيداً
?
?
حبلاً تصد ذكى الحليم فيذهل
سراً وبالصلح الشهير تعللوا
لولا الإله لأدركوا ما أملوا
والله يحفظ ما يشاء ويكفل
ها أنت آخرهم وآدم أول
الباري تكاد الراسيات تحول
واعرف بحر القول من يتقول [122ب]
ياأيها المهدي الأعز الأفضل
وقال أيضاً يحذره من أعدائه في ذلك الأوان:
تى من منهم للمكر أهل
وهل نالوا سوى بالغدر فخراً
وكم رموا بظنهم اغتيالاً
ألم تطغوا فسنتهم مراراً
فدبر في الأمور برأي حزم
?
?
ونكث العهد عندهم يهون
كما قد كان أو فيما يكون
فحامت دون مبلغها الظنون
ولو ظفروا كذلك لم يصونوا
ترد به فضيحة من يخونوا
فأمر عليه السلام بجوابه فقال بعضهم:
أن فإن راعفة الليالي
وفي بعض الذي أهديت نظماً
وفي لطف الإله لمتقيه
?
?
ستدرك من يخادع أو يخون
نصائح لا تخونها الظنون
طلائع لا يكفكفها كمين
وقال الأمير الكبير الحسيب نجم الدين القاسم بن جعفر بن الحسين القاسمي:
لم الهدى وسما بك الإسلام
واخضر أعواد المنابر وانبرت
وتطاولت رتب المعالي وازدهى
ورأت لك الجرد العتاق مسرة
ولو أنها استطاعت لديك تكلما
واهتزت البيض الصوارم والقنا
واستبشر اليمن الخصيب بدولة
وليهن سكان البسيطة عن يد
راموك يا ابن محمد بعظيمة
ياسيداً ملأ القلوب مهابة
واستنزل الأملاك من أطوادها
وتحكمت في الظالمين سيوفه
ونما به الإسلام وهو مقلل
يا بن الحسين وخير من قامت به
هناك ربك بالخلافة والعلى
ونوافذ الأحداث عنك كليلة
والحق أبلج والسعود طوالع
والعيش غض والسرور مواصل
فليهلك الأعداء غيظاً بعدها
ويعودهم ما يعهدون وفوقه
والبرق إن شاموه برق خلب
والحرق ذا والردى مشوبة
وابن الحسين يقودها موفورة
زعم البعام الظالمون جهالة
إن يطفئوا نور الإله بمكرهم
واستعملت مكراً فحاق بأهله
وحفيظة من ذي وداد صادق
لما رأى المهدي قد نثرت على
دفع الحمام بنفسه عن نفسه
فاسلم أمير المؤمنين مخلداً
فإذا سلمت فكل شيء سالم
?
?
لما سلمت وعزت الأحكام
تختال لو كانت لها أقدام
من كل مجد غارب وسنام
أبدى حقائقها لك الإلهام
لشفاك منها بالسرور كلام
فرحاً وطار لها بك الإقدام
مهدية قحطانها والشام
بهم فدتك من العداة الهام
سفها فكان عليهم ما راموا
ذكراه والإجلال والإعظام
قسرا تهاب بحكمة وبصام
وعنى بسطوته الطلا والهام
وانطم سرح الحق وهو مسام
قدم لعمرك واستقل قوام
إن الخطوب أبا الحسين نيام
أبداً وسيف النائبات بهام
والنصر مقتبل الشباب غلام
ولكل صعب في يديك زمام
ويجد منهم لوعة وعرام
فالدهر فيض والنسيم سهام[123أ-أ]
والغيم إما استمطروه جهام
والجيش ممتنع العديد لهام
قد سفها الأنجاد والإتهام
منهم بما قصدوه الأغنام
ويجن من بعد الضياء ظلام
وحماك عنه الله والإقدام
يعزى إليه النقض والإبرام
إيراده علق النجيع كلام
كرم فحق ذاله الإكرام
وفداً لك الأعراض والأجسام
ولكل نفس في بقاك ذمام
وقال الشريف الأمير قاسم بن علي القاسمي:
أيت البدر مرتدياً ظلامه
ولاح البدر مبتسماً فشمنا
ألا يمي العداة على هواها
ألم ترها كمثل الغصن قداً
فما لك في محبتها ومالي
?
?
فوجهك تحت شعرك يا أمامه
بنات البان ثغرك وابتسامه
أمامك عدعد عن الملامه
ومثل البدر مدرعاً تمامه
علام علام لومك لي علامه
وقال مفضل بن يحيى الصنعاني المعروف بالبهمة:
ليلي إن الدهر جم العجايب
فمرني بخير حسبى الله إنني
فمن مبلغ عني الذين تألبوا
هم حاولوا إطفاء نور الهدى ولم
تمالوا على هدم الهدى وكفى به
وهم يبرمون الأمر والله مبرم
أرادو أمير المؤمنين بكيدهم
ولو برزوا يوم القتال لجنده
وقد عاينوا والحمد لله وحده
فأما غيالات الحشيشي الذي سرى
فقد خيب الله الظنون ولم يخب
وعما قليل ينصر الله جنده
?
?
وإن طلاب الحمد خير المكاسب
أرى أن مر العمر مر العواقب
على القائم المهدي محض الضرايب
ينالوا المنى أهل الظنون الكواذب
فجوراً وكفراً في جميع المذاهب
سواه وحزب الله أغلب غالب
فحال دفاع الله من كل جانب
رأيت أسود الغاب مثل الثعالب
لدى قارن وقع السيوف العواضب
بها الكيد من بغداد كيد الأقارب
لدى الله ظن الشم من آل غالب
بنصر عزيز صادق غير كاذب
إلى قوله:
هن أمير المؤمنين سلامة
تحطك أحداث الليالي ولم يزل
ولا زلت في الملك العقيم مؤيداً
?
?
بها سلم الإسلام شر العواقب
لطائف صنع الله حزب الأطايب
مدى الدهر ما انهلت شئون السحائب[123ب]
وقال القاضي اللسان ركن الدين يوسف بن علي اليامي:
ن الحمول غداة زمن تفرقا
عرش ما بين اللواء ومحجر
حيث المهازي والمهاري والقنا
فانزل على ذات اليمين وقل لهم
كان الفصال فهل يكون تواصل
باركت جائلة الوشاح أليس لي
إن الشموس إلى الغروب جوانح
إني سموت إلى الخليفة قاصداً
ورأيت في حلب الجلالة والعلى
ورأيت وجه الملك أبلج سافراً
ورأيت أهل الأرض يقصد قصده
زهقت ملوك الأرض تحت ركابه
طلبوا مكيدته فلاقوا حازماً
قسماً لقد زاد الخلافة قدره
جعلتك خاتمه الإمامة مثل ما
إن الأولى كادوكم كادوا أنفساً
مكرو وكان الله أمكر منهم
وإذا أراد الله نشر فضيلة
جاءتك من بغداد تحمل غيلة
جاءتك طاغية بموثق كيدها
وفداك ربك بالعدو كرامة
خافوه من بغداد فانتدبوا له
فغدوا نكالاً للأنام وهبرة
ونطا النظام عزيمة من بأسه
صدقت ظنونك فيه حتى اخترته
يابن الأئمة من قريش والذي
إن الخلافة وطئت أكتافها
وأتتك بالدنيا وبالأخرى معا
ما للمسرة عنك من متطرق
إن الذي قد ساس ملكك سالفاً
?
?
عجز العتيق ولم يرمن الأبرقا
والأبرقين إلى العقيق إلى النقا
واللهو أزهر في الخدود وأورقا
إن كنت تقدر أن تقول وتنطقا
ومضى الفراق فهل نعود إلى اللقا
عهد بلم الشمل أن يتفرقا
باليعملات وقد سموت المشرقا
شمس الزمان فمنجداً أو معرقا
ورأيت في حلب الغمام المغدقا
ورأيت وجه الدهر أزهر مونقاً
وفداً إليه فمرجفاً أو معتقا
فرقاً وحق الباطل أن يزهقا
ورجوا نوافله فلاقوا أحرقا
شرفاً إلى شرف الخلافة ملحقا
جعلت أباك على النبوة رونقا
منهم بتدبير المكيدة أخلقا
بالماكرين وكنت منهم أوثقا
طويت أتاح لها عدواً محنقا
رجل الدهيم فاوردته الموبقا
من كيد طاغية فكان الموثقا
من فضل ربك ذي الجلال وأخلقا
فدين من أشقى الرجال واحمقا
للآخرين وعبرة لا تتقا
صدقت وحق لمثلها أن تصدقا
للنازلات وكنت أنت موفقا
فك الوثاق عن الرقاب وأعتقا
لما رأتك بها الخليق الأنيقا
فاشمر مقبلها مجداً ملحقا
أبداً ولا للسر أن يتطرقا
وقت التضعضع سائساً فيما بقا
قال الراوي: وأقام أمير المؤمنين عليه السلام في حصن حلب المحروس شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الأخر وكانت وقعة البيضاء [124أ-أ]، والسبب فيها أن أمير المؤمنين أمر الأمير الكبير جمال الدين علي بن القاسم بن جعفر مادة إلى الامير حسام الدين محمد بن فليتة وقد كان الأمير حسام الدين محمد بن فليتة تقدم إلى الجوف في عسكر صعدة فيهم من أجواد الشرف الأمراء الكبراء المجاهدون شهاب الدين محمد بن علي بن يحيى الأشل وأخواه وولده، واجتمع عسكر الجوف وقصدوا القوم وهم في موضع يقال له [.....بياض في المخطوط.......] فأخذوا حلة آل جحاف، وقتل منهم من قتل، وكانت حلة آل راشد أسفل منهم في موضع له يقال له [.....بياض في المخطوط.......] فلما عاود الأميران ومن معهما بعد القتال والظفر لم يشعروا إلا بالخيل والرجل وقد كان المجاهدون أصابهم العطش فوقع القتال بينهم فقتل طريف بن منصور بن صيعم بن شرعب [.....بياض في المخطوط.......] وأسر الأمير الكبير جمال الدين علي بن القاسم بن جعفر، وأسر معه الشريف الكبير حسين بن علي بن يحيى الأشل وابن أخيه وجماعة معهم، وقتل رجل من السلاطين آل دعام، وأسر الشيخ قاسم بن عيسى، وأسر جماعة من الرجل، وبلغ العلم أمير المؤمنين فساءه ذلك.
رجع الحديث
ونهض القوم من صنعاء في أيام مضت من شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وكان قصد الأمير شمس الدين خراب بني جبر الصائديين من التي يقال لها ...... وذلك أن هؤلاء القوم الخيرين حاربوا مع الإمام ونصحوا وقتلوا وقتلوا وصعب على المختلف المرور إلى ظفار بسببهم فأراد الأمير شمس الدين أن يدمر بلادهم ولينال من ثمرة البلاد ما يمد به إلى ظفار فخرج هو وأسد الدين ومن معهما من العسكر، وكانت الخيل غير كثيرة.
أخبرني من أتى على عددها فرساً فرساً أنها كانت مائة وعشرين أو يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً فأتت طرقهم إلى البلاد الحاشدية، ونزلوا من طريق يقال لها المرصبة فحطوا على منهل يقال لها المقصصة فأقاموا ليلتين، ثم إن أسد الدين أتى المنهل ليغتسل فلما دخل في الماء سقط من يده الخاتم فصه ياقوت، روي أنه اشتري بخمسمائة مثقال ذهباً فساءه ذلك وبلغ عنده مبلغاً عظيماً، وعند ذلك أجمع رأي القوم على شق الأرض من بعد حتى يبلغوا إلى المنهل وتخرج مادة قليلاً قليلاً وضربوا فيما بلغني نيفاً وثمانين ذراعاً طولاً في عمق كثير حتى نضب الماء من أعلى المنهل، ولاح لهم فص الخاتم وأقاموا في سفل ذلك أياماً حتى رفع الجبريون ما كان لهم من قليل وكثير، وقد قيل إن أسد الدين أرسل خاتمه عمداً لغرض كان في نفسه، ولم يصح ذلك عندي، ولعله من لطف الله تعالى بعباده ونصراً ابن نبيه فلما وجد الخاتم نهض القوم بأجمعهم ومن انضاف إليهم، وقليل من وصلهم من القبائل لما جرت به العادة من هروبهم أجرا على البلاد وطرحهم بالأخلاف فحط القوم في ....... ما بين درب بليس وبين الماجل المصلول في موضع هنالك، وعمدوا إلى الدروب فأخربوها وأخربوها ودمروا الأموال، وأحرقوا الأعناب إلا القليل الذي لم يعبأ به، أو أجير وهو[124ب-أ] النادر، وأقام القوم في سبع ليال ووصل إليهم [.....بياض في المخطوط.......].
قال الراوي: وبلغ أمير المؤمنين العلم بأمور القوم وقلتهم وأنه إن لم يصل الظاهر فإن القوم لا يتأخرون من الطلوع فنهض عليه السلام في أيام باقية من شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وستمائة فلما علم به القوم نهضوا من فورهم فحطوا في ريدة، ونهضوا بعد ذلك إلى الجنات، وسار أمير المؤمنين بالجيوش المنصورة حتى بلغ الظاهر فحط في موضع يسمى بسر بكيل وأقام هنالك، وأتته القبائل بأجمعها من بني صريم ووادعة وسفيان، ووصل إليه الأمراء الكبراء أنصار الحق آل يحيى بن حمزة بن أبي هاشم من ذيبين وذروة بالخيل والعدد، والأجواد من الرجال، فشكر أمير المؤمنين سعيهم وأثنى عليهم ولم يلبث أن أمر الخيل فأغارت في البون الأعلى فأخذت أغناماً كثيرة، وأقام القوم عند قرية الجنات، وأقاموا بالحد في عمارة قرية الجنات ودربها فاقتسموها فيما بينهم وعمروا، وكانوا يخربون القرى في البون ويحملون الأعواد والأخشاب، وأقامو على ذلك إلى آخر شهر رمضان المعظم من السنة المذكورة، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام لما وصل إلى الظاهر قدم صنوه الأمير المعظم أبا المظفر سليمان بن يحيى بن علي بن يحيى بن القاسم في خيل وافرة وأضاف إليه أهل الجهات تلك من آل يزيد وغيرهم فحط في قرية المضلعة مطلاً على الجنات ولم يكن ينقطع بينه وبين القوم مغير أو قتال.
(قصة المضلعة)
قال الرواي: ثم إن القوم تصوروا أنهم إذا طلعوا في الجبل فإن عسكر الأمير ينكسر وينالون منهم لما علموا بفساد بعض الناس، فتقدم الحمزيون ومن يقول بقولهم وتأخر أسد الدين ومن معه إلا الشاذ من أصحابه فحثوا القتال وكانوا عدداً وافراً، فانكسر أصحاب الأمير علم الدين، وكان ذلك في آخر النهار، ومن كان من المفسدين المنافقين اهتزم بغير سبب فاهتزم الناس قليلاً حتى خرجوا من قرية المضلعة وأخذ شيء من الأثاث وقتل خادم للأمير أبي المظفر ثم رد الله تعالى الكرة على أعدائه فكانت فيهم أخذاً وسلباً حتى ولج الحمزيون ومن معهم في شعبة ضيقه وطرحوا خيلهم، ولزم أكثرهم الصاعنون.
[.....بياض في المخطوط.......]
قال الراوي: ولم يلبث بعد ذلك أن جنحوا للسلم وطلبوا الصلح فساعد أمير المؤمنين عليه السلام لما رأى في ذلك من صلاح المؤمنين على شروط بينهم:
منها: أن يكون لأمير المؤمنين في البونين وبلاد حاشد العشر، ولهم [125أ-أ] الحق يأخذونه منها تسعة آلاف درهم أو ثمانية في مقابلة طعام كانوا شركوه إلى ظفار.
ومنها: إطلاق زرائعهم في كل جهة، وأمان المختلف من حصونهم من غير فساد ولا ....ـاطة.
ومنها: الواجبات لأمير المؤمنين في الخلف.
ومنها: [.....بياض في المخطوط.......].
وكان الصلح سنة وشهرين وعشرة أيام من غرة شوال إلى نصف المحرم من سنة أربع وخمسين وستمائة فانصرم الأمر على ذلك، وكان المتوسط والقبيل من جهة القوم الأمير أسد الدين بن محمد بن الحسن بن رسول، والأمير علي بن وهاس، ومن ذلك الأوان دخل في نفسه الرجوع إلى الحق والخدمة لأمير المؤمنين، فلما تم الصلح أمر أمير المؤمنين بهذه الدراهم ففرقت في البلاد.
ونهض عليه السلام لليال خلون من شهر شوال سنة ثلاث وخمسين وستمائة قاصداً حصن حلب المحروس لإصلاح شيء من أموره ثم يعود إلى الجهات الظاهرية.
ومما قيل من الشعر في أيام إقبال العدو من صنعاء وما هموا به في أهل الظاهر وغيرهم من ذلك قصيدة كتبها الأمير الكبير شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم العباسي العلوي:
ن مبلغ أهل الظواهر
أبنا صريم عن يد
ورجال مرهبة الذرى
وليوث قيس السابقين
وحماة صائد الأما
أولاد همدان الذين سمى
أبيات شعر حكمت
يهدى النصيحة نحوكم
الغز والأشراف قد
وتوسموا أخذ البلاد
مالم تحوطوا سرحكم
فتقلدوا البيض الرقاق
وتدرعوا الصبر الجميل
لو أنكم خالفتم
صلح الوفاء فما لكم
نجل الحسين إمامكم
لا يبلغني عنكم
فلأنتم غلب الرقاب
إياكم الشم الأولى
نصروا الوصي وأنتم
?
?
والكل من باد وحاضر
والغلب من أولاد شاكر
أهل المسومة الضوامر
وصيد ذبيان المساعر
جد والضاربين بكل باتر
بهم طيب العناصر
من ذي وداد غير شاعر
إذ أنتم أهل البصائر
جمعوا لأرضكم العساكر
بسبي هاتيك الحرائر
بالبيض والسمر الشواجر
مع الأسنة والعوامر
فربنا مع كل صابر
ملكاً قليل اليمن جاير
لا تنصحون بخلق طاهر
خير الأوئل والأواخر
إلا الصلاح من السرائر
وأنتم كهف المجاور
لهم الموارد والمصادر
لا تهضمون لحكم كافر
قال الراوي: وأقام أمير المؤمنين عليه السلام بحصن حلب المحروس إلى غرة شهر المحرم سنة أربع وخمسين وستمائة، ونهض إلى حصن مدع فأقام فيه [125ب-أ] أياماً ريثما يصلح أموراً في مسور، وقد كان وصل إليه الأمير الكبير علم الدين أحمد بن القاسم بن جعفر إلى حصن حلب في أمر ذلك فرسم عليه أمير المؤمنين النهوض بنفسه إلى جبل مسور فنهض وأمر القبائل من جهات بلاد حمير وأهل حجة وغيرهم بالنهوض معه إلى هنالك، فأقام أياماً حتى بلغه أن أمور السلاطين أولاد سليمان بن محمد بن الحسين قد انتظمت، ونهض عليه السلام إلى الجهات الظاهرية، وبلغه قبل النهوص العلم بوصول الأمير الكبير حسام الدين محمد بن فليتة في خيل وركب وجنب يستنهضون أمير المؤمنين إلى مأرب فنهض أمير المؤمنين من مدع فأمسى في موضع على بني شاور، ونهض ثاني يومه فلقيه الأمير محمد بن فليتة فيمن كان معه فسلموا على الإمام وسلم عليهم ورحب بهم وأنصفهم، و أمر بإكرامهم في تلك الناحية، ونهض فحط أهل اللومي وقد كان الشريف الأمير سيف الدين قاسم بن يحيى بن القاسم أراد نكاحاً من المشائخ الجبلين وأحب أن يكون بين يدي أمير المؤمنين ففعل وأمر بالضيافة والكرامة لجميع العسكر فلما مضى ذلك نهض أمير المؤمنين عليه السلام إلى الظاهر ولم يلبث إلا نهض إلى حوث من بلاد وادعة وعزم على الإقامة هنالك لصلاح أمور البلاد فوصل إليه أهل الأهنوم وغيرهم بالنذر والبر والحقوق، ووصل إليه أهل البلاد أرسالاً وأمر بالتهيؤ لغزو مأرب.
(قصة غزو مأرب الأخيرة)
قال الراوي: ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام لما وصل إليه الأمير حسام الدين محمد بن فليتة ومن معه من ركب حيث أقام أياماً حتى جمع لهم ما لا بد منه من المال والكسوة وأمر الأمير حسام الدين محمد بن فليتة بالنزول والأهبة من جهة صعدة والجوف، وأمر الأمير الكبير المقدم أبي المظفر سليمان بن يحيى بن علي على أن يتأهب للحركة إلى مأرب وأظهر للناس ما في نفسه من غزو مأرب، و كان ذلك الأوان أيام حزة وأشغال الناس فصعب الأمر على الناس فتأخر من تأخر وتقدم الأمير الكبير أبو المظفر إلى بين يدي أمير المؤمنين إلى حوث فيمن قد اجتمع معه من العسكر من الخيل والرجال، وكان من تقدم مع الأمير المذكور من وجوه الناس جماعة من الأمراء الأجلاء آل يحيى بن حمزة بن أبي هاشم وبعض منهم تأخر لمنافرة جرت بينهم، وممن تقدم الأمير الكبير الحسيب أسد الدين قاسم بن محمد بن إبراهيم الحمزي والأمير الكبير عيسى بن الحسن بن محمد بن إبراهيم القاسمي واجتمع في الجوف عسكر معقود من الخيل والرجال.
حدثني من أثق به أن الخيل اجتمعت في الجوف [.....بياض في المخطوط.......] والرجل قريباً من ألف فأرسلوا إلى أحلافهم من جنب وآل عزان أن يكونو على الأهبة، وقد كان الأمير تاج الدين سليمان بن محمد بن فليتة تقدم إلى الحرمة وهي درب مذحج [126أ-أ]، وكان معه ستون فارساً فأقام محارباً لأهل الدرب مدة، ولما علم بهم الأمير شمس الدين ومن معه أنهم زمعوا على غزو مأرب بلغ عنده كل مبلغ فأرسل إلى أسد الدين محمد بن الحسن يستنهضه فلم يساعده بل اعتذر بأعذار وأمر إليه من أطراف جنده جماعة قليل وخرج الأمير شمس الدين إلى موضع يسمى المحجل واستنجد همدان وغيرهم فلم يحتمل معه أحد وصعب الأمر على الأمر على أصحابه فما برح بهم بعد اللتيا والتي حتى خرج منهم جماعة من الحمزيين وأخدامهم فيهم الأمير حمزة بن الحسن بن سليمان، والأمير حمزة بن سليمان بن إبراهيم بن حمزة بن سليمان، والأمير علي بن عبدالله وانضاف إليهم ممن يقول بقولهم نفر قليل.
قال الراوي: حدثني من لا أتهم أنهم اجتمعوا نيفاً وعشرين فارساً وثلاثين راجلاً، وتصوروا أنهم إذا وصلوا أحلافهم من أهل الدربين فإن الخيل يجتمع قريباً من مائة فارس، وخيل آل حجاف ومن ويقول بقولهم ورجلهم نيفاً على ألف راجل والدروب المنيعة، وإن أحداً لا يقوم في وجوههم.
قال الراوي: فلما علم بقدومهم قالا: حسبنا الله ونعم الوكيل نحن نتقدم على اسم الله، ونرجوا النصر ببركة إمامنا، ونحن على كل حال غالبون، فتقدم العسكر المنصور إلى أن شاهدوا درب مأرب ووصل القوم من صنعاء في ذلك اليوم المعين، وهو يوم [.....بياض في المخطوط.......] من شهر ربيع سنة أربع وخمسين وستمائة.
قال الراوي: واجتمع العسكر المنصور، وخافوا أن يضر بهم الظمأ عند القتال، فأتاهم من الله تعالى سيل أتى ليس بالكبير القدر الذين يشربون منه، و نهضوا فحطوا قريباً من الدربين في ناحية [.....بياض في المخطوط.......] وأمر الجنبيون، وأسد بن أحمد، وابن عمه [.....بياض في المخطوط.......] فأقبلوا في طعنهم، وحطوا بما غطى الفضاء من الإبل فرعوا زراعة كانت هنالك وضربوا البيوت، وعند ذلك أيقن أهل الدرب بالمناجزة فدعوا إلى السلم والخطاب ، فساعد الأميران إلى ذلك، وخرج من شيوخ الدربين من خرج، فلما رأو رغبة الأميرين في تعطيتهم حدثتهم نفوسهم وصور لهم المرجفون أن مساعدة الأميرين إلى الصلح إنما هو عجز عن حربكم فأمروا إليها أنا لا نساعدكم فافعلوا فيمن معكم منا ما بدا لكم وعند ذلك أجمع رأي القوم على الحرب، فلما كان من الغد و هو يوم [.....بياض في المخطوط.......] تشرع الناس للقتال فخرج الأمير حسام الدين محمد بن فليتة من ناحية، وخرج ولده سليمان من ناحية، وخرج الأمير الكبير أبو المظفر سليمان بن يحيى فيمن معه من العسكر ناحية وهي معظم القتال، وكان جل من معه من الرجالة الأجواد الصيد، وسار كل من ناحيته، وقد شرع القوم في دربيهم، وبرز الحمزيون بين الدربين ليكونوا مادة إلى الجهتين وكان يوماً شديداً، ثم سار الأمير أبو المظفر قدما قدما وجعل الرجل في الأول ثم الخيل بعدهم ثم هو [126ب-أ] فيمن معه من الأجواد، وقال لأصحابه إياكم والكر والفر وإنما تسيروا مجتمعين حتى لا يرى فيكم العدو خللاً فيطمع فيكم فامتثلوا أمره، فحمل الحمزيون فيمن معهم على الناس فلم يتزحزح الناس عنهم فلما رأوا أمراً لم يكن لهم في حساب عنوا بأمرهم و علموا أنهم يغلبون، وقد كان الشريف الفاضل المجاهد منيع بن محمد الحراني حمل في شارع من شوارع الدرب في نهج الأمير حسام الدين فصرع، وجاوزه القوم فقتلوه فلما رأى العدو شدة المسلمين في القتال لم يبق فيهم بقية
فحمل كل من عسكر الحق في جهته، وصار الحمزيون في أنفسهم لا يدرون أين يتوجهون فرموا بأنفسهم نهج حلة المشائخ الجنبيين فلحقهم من لحق من الجنبيين فحصروهم وأجاروهم على أرواحهم وأخذ أفراسهم وأدراعهم، وصاح أهل الدربين بالذمة فلم ير الأميران إلا الذمة لأجل محبة الجنبيين لذلك ورغبتهم فيما يأخذون فأذموا عليهم على مال حملوه وهو مائة فرس ونيف وأشياء أخر، وأقام الأميران ومن معهما هنالك أياماً قرائب حتى استوفوا من القوم ما شروطوه، وسلموا للجنبين أكثره ورأوا تألفهم به أولى، فشكر أمير المؤمنين فعلهم وأثنى عليهم، وبلغت البشارة إلى أمير المؤمنين واستر المسلمون بذلك سروراً عظيماً، وأقام أمير المؤمنين في حوث لا يترك الخروج إلى المسجد الجامع ليقضي الحوائج، ومن بعد العصر يحضر العلماء والأفاضل فيباحثون في مشكلات المسائل، وسمع شيئاً في الآثار النبوية، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقيم الحدود، ويقمع الظالم وينصف المظلوم، وكانت أيامه عليه السلام في تلك الناحية عيداً في الأيام، فلما علم بقفول الأميرين الكبيرين من مأرب ومن معهما خرج عليه السلام إلى خيوان في لقاء أخيه، وصلاح أمور الناحية، ولزيارة جده القاسم بن علي عليه السلام في عيان، وليقض مأرب هنالك، ومن جملة الأسباب الداعية أن قوماً من حنين أهل العفوة عدوا على القافلة في موضع يسمى نجد الشيخين ما بين خيوان وعيان فأراد الشدة عليهم وعلى أهل الناحية لأجل ذلك فأخذ عدة من أهل البلاد رهائن ورجع أكثر ما أخذه القوم، وقد كان شردوا إلى برط فلما علم أهل برط من دهمة بقضيتهم طردوهم عن بلادهم فأقام أمير المؤمنين في خيوان إلى أن وصل أخوه أبو المظفر إلى خيوان فيمن معه فلقيه أمير المؤمنين فأنصفه، وشكر سعيه، ودعا لمن معه وشكرهم، ونهض إلى عيان فأقام ليالي وعاد قافلاً قاصداً حوث وقد كان طلب من السلطان الأجل دهمان بن مبارك بن عران بن فليتة بن العطاف النهمي ابنته
فاستر السلطان بذلك ورآه شرفاً يصيبه، وقد كانت زوجته هذه وصل بها أهلها إلى حوث فنزلت دار أمير المؤمنين هنالك فلما أزمع أمير المؤمنين على تمام النكاح أمر خاصته الشيخ الكبير المخلص المجاهد مجد الدين أحمد بن محمد المتميز، وقد كان من أكبر خواصه مبالغة [127أ-أ] في خدمته، ومباشرة أموره، وله إحسان ومعرفة فتقدم إلى حوث لشأن أمور النكاح الميمون، وأعد الضيافة للناس على العموم من عسكر أمير المؤمنين ومن كان في مدينة حوث فتقدم الشيخ المذكور ولم يدع وجهاً حتى أثبته على أحسن ما يكون، وأمر إلى أمير المؤمنين بذلك، ونهض أمير المؤمنين قاصداً حوث، ولقيه الناس عصباً حتى إذا وصل إلى الجامع المنصوري لقيه العلماء والأفاضل من أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، وعظموا حاله وساروا بين يديه إلى أن دخل داره وقد مد السماط والألوان اللذيذة فأكل الناس ولم يمنع عن ذلك أحد من خاص وعام وأكرم الضعفاء والمساكين، فلما تم الضيفة حضر والد السطان دهمان بن مبارك لشهود عدول على وكالة والده له أمره أن يعقد النكاح لأمير المؤمنين ففعل ذلك، وعقد أمير المؤمنين النكاح على اسم الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وعلى صداق وهو على مهر مثلها.
أخبرني به الفقيه محيي الدين بن محمد الصريمي وأقام أمير المؤمنين في حوث إلى نصف جمادى الآخرة وهو يوم الأحد سنة أربع وخمسين وستمائة.
قال الراوي: ثم حدث في ذلك اليوم المعين دخان غشي الأرض فاستوحش الناس من ذلك وتغير النيران الشمس والقمر، فكانت الشمس عند طلوعها والقمر عند طلوعه لا يظهر لهما ضوء، وكأنهما قطعتا دم، ثم استمر ذلك ثم وقع من البرق والصواعق في البلاد ما لم يسمع بمثله حتى خلت الديار وهرب الناس من شماريخ الجبال وقللها.
قال السيد شرف الدين أيده الله: حدثني من أثق به أنه قال: ما كدنا نمر بلد في الجهات المغربية إلا والناس في عزاء وعويل من البرق، وأخذ الناس في الأهبة وأيقنوا بالهلاك، وإنها من الآيات الأخروية، وهذا مع ما تقدم من سنة ثلاث وثلاثين وستة وأربعين من الأمراض التي لم تبق من الناس إلا قليلاً وعمت ما خصت، ثم كانت هذه الصواعق تأتي من السماء إلى الأرض كالنجم الذي ينقض.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: ولقد شاهدت بالعيان أمراً لم أر مثله في عمري، وهو أني امتحنت النظر إلى عارض في جانب من الأرض فرأيت عموداً من نار ينفذ من السماء إلى الأرض يكاد يخطف الأبصار فإذا بلغ الأرض ارتكن على استقامة ثم وقعت تلك الصاعقة والصوت العظيم فأيقنت أنه أمراً أراد الله أن يري عباده من عظيم سلطانه ولقد كانت تخطف روح الواحد من بين جماعة من غير أثر في بدنه، وأخبرني من شاهدها تأخذ السيف في غمده فتذيب الحديد ويسلم الغمد، وتقع في الامرأة ويذوب الحلي فيها وتسلم، وتأخذ من في قعر البيوت، ويسلم من في أعلاه فسبحان المقدر الحكيم.
ولما حدثت هذه الصواعق وعمت المشرق والمغرب وقلل الجبال والتلاع، ولم أسمع أحداً إلا يخبر من بلده [127ب-أ]بما عاين من ذلك.
حدثني الشريف الأمير الحسيب عضد الدين جعفر بن أحمد بن جعفر بن الحسين بن القاسم بن علي بن عبد الله بن محمد بن القاسم أنه وجد في كتاب بخط الشريف الأمير فليتة بن جعفر بن عبد الله القاسمي يقول فيه: إنه حدث في شهر المحرم سنة ست وتسعين وخمسمائة سنة على وفا ثلاثة وعشرين شهراً من قيام الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن علي بن حمزة بن أبي هاشم الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبدالله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن ابرهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والتسليم ....... الدخان ما غطى الأرض حتى أن الإنسان لا يكاد أن يرى صاحبه إذا بعد عنه قليلاً وأقام ذلك إلى شهر رجب من سنة سبع وتسعين وخمسائة، وكثرت في ذلك الأقاويل وتحدث الناس بضروب من الكلام والظنون، قال: ثم حدث في تلك السنة من الصواعق سيما في بلاد المغارب ومخلاف صنعاء.
قال الراوي: وكان في تلك السنة حدث في جهات الشام من راحة ونواحيها وجع في الأريبة وأظنه من الطاعون، ودم يصيب الإنسان في مراقه فربما مات في يومه أو في الثاني أو الثالث، ومنهم من يتفجر بماء فربما يسلم صاحبه فروي أن البلاد أخلت من سكانها وأهلها وصارت ماشيتهم سائمة لا مالك لها، ثم تناقص ذلك بعد سنة.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: وقد حدثني والدي عن الدين شيخ العترة الطاهر بن القاسم بن يحيى بن القاسم بن يحيى بن حمزة بن أبي هاشم رحمه الله تعالى، وكان من صلحاء أهل البيت عليهم السلام وأخيارهم، وممن صحب الإمام المنصور بالله عليه السلام في وقت الدرس إلى أن توفي صلوات الله عليه في أول سنة أربع عشرة وستمائة، وعاش بعده إلى شهر جمادى من سنة أربع وثلاثين وستمائة ومات وهو في سن كبير ابن تسع وثمانين سنة إلا أشهر، وتوفي والده يحيى بن القاسم بن يحيى بن حمزة بن أبي هاشم مجاهداً مرابطاً صابراً مع الإمام المتوكل على الله في دخلة صنعاء سنة خمس وثلاثين وخمسمائة وأن أبيه هو الشريف العالم الإمام القاسم بن يحيى بن حمزة، وكان من أشراف أهل زمانه، ومن علماء أهل البيت والمشار إليه، وهو أول من أجاب الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان بن مطهر في عدة من أهله، وقعد بعد ذلك لعلة عرضت له، وقد ذكره الإمام المتوكل على الله في أول سيرته.
رجع الحديث
وأخبرني أنه كان في سنة حدث في المغرب صواعق لم ير الناس مثلها وأخبرني أنه سمع يوماً خريراً في السماء فرفع بصره فرأى مثل الجبل الأسود منقضاً في نهج حجة في نهج لاعة فلما صار إلى هنالك وقعت هذه الصواعق فلما كان في شهر شعبان اتصلت الكتب من مكة من زعيمها وهو الشريف الأمير أبو نمي بن سعيد [128أ-أ]بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن الحسني الموسوسي، واتصلت الأخبار من عترة من العلماء من هنالك، وكثر الكلام بحدوث حادثة قال في كتابه وقال غيره ما هذا معناه: إنه لما مضت ليلتان من شهر جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة وقعت زلزلة عظيمه في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثم سكنت وذلك يوم الثلوث، ثم كان بعد ذلك ووقعت زلزلة عظيمة حتى سقط بعض القناديل الحرم المحمدي صلوات الله على صاحبه، واضطربت الجدران وتمايل بعضها، وظن أهل المدينة أنها القيامة فلاذوا بالقبر الشريف، ثم استمرت الزلزلة إلى يوم الجمعة، ثم حدث حادث دخان عظيم إلى الحمزة في شرق قباء عند مآثر بني قريظة على أميال من المدينة، ثم طلعت منارات لها أعمدة صاعدة في الهواء وكان لها قصيف ولجب فأمر صاحب المدينة من يأتيهم منها بخبر فما استطاع أحد أن يقربها فرقاً من قصيفها، وعند ذلك شاع ذكرها في البلاد، وأخذ الناس في الأهبة للمعاد، وروى أهل تلك الناحية أن ضوءها رؤي على مسيرة أربعة عشر مرحلة وأكثر أصنافاً من الأحاديث، فكتب أمير المؤمنين كتاباً عاماً إلى بلاد المسلمين يذكرهم بالله، ويحثهم على التوبة والإخلاص، ثم إن أمير المؤمنين نظر في كتب الأخبار ودلائل القيامة في تجريد صحاح الأخبار التي يروونها الفقهاء، ويشهد بصحتها رواية العلماء من أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم في رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز )) قال: ((تضيئ أعناق الإبل ببصرى ))، وفي رواية أخرى مع أمارة أخر ذكر الدخان فهذا بلغنا.
والله أعلم بصحته.
رجع الحديث
وأقام أمير المؤمنين إلى أيام خلون من شهر شعبان سنة أربع وخمسين وستمائة، وأمر أسد الدين محمد بن الحسن إلى الإمام عليه السلام رسلاً يطلب الرجوع إلى الإمام والجهاد معه فقال أمير المؤمنين: إن هذا الرجل قد غدرنا مرتين فكيف الطريق إلى الثقة به، فقال المتوسط: إنه قد يئس من ابنه، وأخيه، وأنه قد ألجئ إلى ذلك، فلم يبرحوا بأمير المؤمنين يفتلونه على الذروة والغارب حتى أسعف، وكان المتوسط في ذلك الأمير الكبير علم الدين علي بن وهاس، والسلطان الأجل سعد بن سالم بن علي بن حاتم بن أحمد العمراني اليامي.
(قصة الصلح وما وقع فيه من الشروط)
منها: الدخول في الإمامة، والالتزام بأحكامها والخطبة، والسكة للإمام، والبلاد من نقيل صيد إلى عجيب نصفان، وإقامة الجمعة، والقاضي المحتسب من تحت يد الإمام عليه السلام، والصوافي على الخطوط المتقدمة، وأملاك الأسداد له، والدار السلطانية وسيناها للإمام وأحلاف الأسد دخلون معه في صلحه، وهمدان، ومن كان معهم على مذهب الزيدية فهو منه، ومن كان باطنياً فليس إلا بالسيف، والمستفتح من المدن، والحصون على هذه الشروط، وأن[128ب-أ] أسد الدين يبقى على مذهبه مذهب الشافعي، والبحث عليه، وله الإجلال، والإعظام، والشفاعة، والمنزلة، وعليه النصيحة في السر والعلانية، وعلى أشياء تخص مماليكه، وأخلافه قد ذكروها، وصنعاء نصفين، وذمار للإمام عليه السلام، ومحمد بن سليمان بن موسى، وهبة بن الفضل، وأهل القصر، وأسعد بن سعيد لا يقلبون، وعلى أسد الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما جرى من جهته أمر يسوؤه فإن فيه من المخارجة شهر كامل، ولأسد الدين الفسح في المخاطبة، والسعاية في أهله، وعليه الحرب والجهاد في سبيل الله، والضمنا في الوفاء في ذلك على أسد الدين الأمير علم الدين علي بن وهاس، وجمال الدين عبد الله بن وهاس، والسلطان سعد بن سالم، وعلي بن حاتم، والشيخ علي بن الرياحي، ومماليك الأسد المذكورة أسماؤهم أقوش الألفي، ويكتمر العلاد، والمشطوب، ويوسف بن علي، وسنقر شاه، وشرطوا أنه إن جرى منه خلل على الإمام أنهم يسمعونه صوت الذم، وأنهم محاربون له مع الإمام، ووقع الصلح على هذا وكتبت الكتب، وأخذت الذمم، رأيت أمير المؤمنين، ورأيت الأسد، وأشهد أمير المؤمنين الناس على ذلك، وأشهد الأسد أيضاً، واختلط الناس، ودخل الأمير السيد العالم شرف الدين الحسن بن وهاس فيمن معه إلى صنعاء، وأقيمت الجمعة في صنعاء ثلاثاً.
قال الراوي: ثم لم يلبث أن وصل هبة بن الفضل لما علم أنه قد استثنى من الصلح، وأظهر التوبة، وكتب وصية يتضرع فيها إلى الله بالتوبة، وإلى الإمام بالقبول، ويتمثل بقول القائل:
ا إمام الهدى إليك اعتذاري
?
?
وإلى الله توبتي من ذنوبي
وأرسل بكتاب إلى بعض خواص أمير المؤمنين، فلما رأى الإمام كتابه قال: إنا لا نحتل فيما عقدناه للأمير أسد الدين، وأما التوبة فمن تاب تاب الله عليه، ويقبل عذره، وأما المخالطة فما يخالطه حراسة منه عليه السلام، وكتب في خلال ذلك كتاباً إلى بعض أصحاب أمير المؤمنين، وعذره وأراه النصح للإمام وأنه يحمل الصلح بين الإمام وبين السلطان فاختدع ذلك الصاحب ووثق بكلامه فكتب إليه كتاباً جميلاً، وكان ذلك قبل أن يتم الإصلاح بين الإمام وبين أسد الدين كل التمام أو رآه إنا لا نكره المنفعة، فلما وصل إليه الكتاب نزل من ساعته إلى أسد الدين فسأله عن الصلح بينه وبين الإمام فقال له: تم على ما نريد أو معنى ذلك ثم حلف له الأيمان إني ناصح لك، وإنك مقتول، وأنا رسول من بعض أصحاب الإمام إلى السلطان بتسليم ثلاثين ألفاً قبلك، وهذا خط وزير الإمام جواباً لي في طلب الصلح من السلطان، وتكلم معه بما طير عقله، ولم يرد النظر معه إلى عقد فعند ذلك نكص أسد الدين على عقبيه، ونكث العهود والعقود، وخرج من صنعاء من قد كان فيها من جهة الإمام عليه السلام من المهاجرين وفي خلال ما جرى من الصلح بين أسد الدين وبين الإمام طلع السلطان إلى حقل ذمار ووصل إلى سفل آل عانس واجتهد في فساد أسد الدين بكل ممكن [129أ-أ]، وحمل لأسد الدين أموالاً، وبذل له خروج والده إلى علي بن يحيى، وخروج أخيه فخر الدين إلى دار عين الحبس، ورفع حالهما وأنفق في تلك الحركه نيفاً على ثلاثمائة ألف دينار من الدنانير الملكية فيما بلغني غير الخلع والكساء. والله أعلم.
ولما نكث أسد الدين ورجع إلى ولاية السلطان واستحقه السلطان إلى ذلك رجع اليمن في أسرع ما يكون، وأمر أسد الدين وشمس الدين بحرب الإمام عليه السلام، والمحطة على براقش فعند ذلك أمر شمس الدين وأسد الدين بالبرا والنقض ونبذا كل ما عقد وادعيا أن الإمام مكر بهما في الصلح الأول فيما بينه وبين شمس الدين، وفي هذا الصلح فيما بينه وبين أسد الدين، فلما قرأ الإمام كتابهما وقد أمر به إلى الأمير علي بن وهاس قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وأزمع على حرب القوم.
(قصة حصر براقش، وخراب الجنات، وخراب بلاد الباطنية، والمحطة على صنعاء، وما جرى خلال ذلك من النصر للإسلام)
قال الراوي: لما جرى الكلام بين السلطان الملك المظفر، وبين ابن عمه وأمر إليه نقيباً من نقبائه يقال له: علي بن يحيى فتم الصلح بينهما على الشروط المذكورة، وأنه قرن إخراج ابنه بالمحطة على براقش، وأن يكون يحارب مع الحمزيين في كل سنة ستة أشهر، فإذا أخذ براقش استوطنها بنو حمزة وحينئذٍ يستولون عليها، ثم يسيرون إلى صعدة، وينالون من الإسلام فتعاقدوا على ذلك ثم استدعوا حكماء بينهما، وبين الإمام في الخروج من الذم.
قال السيد شرف الدين يحيى بن القاسم: فأمرني أمير المؤمنين إلى القوم وهم حينئذٍ في السر قد خرجوا لقطائع الوادي ثم ينزلون براقش بعد ذلك فلما وصلت إلى القوم رأيت كلامهم جميعاً كلام من لا يريد ذلك على الحقيقة فجرى الحديث بيننا على ذمة ستة أشهر وترك النزول إلى براقش، وكان الغز كارهين نزولها، فلما علم ذلك الحمزيون والحصن بن محمد بن حجاف، وعبد الله بن منصور بن ضيغم الحبشي، أجمعوا على أنهم يعقرون راحلة على باب خيمة أسد الدين كما جرت سالفة العرب، ويكبرون عليه ففعلوا ذلك فعند ذلك رجع أسد الدين من الذمة، ونزلوا إلى مطرة قاصدون براقش.
رجع الحديث
فلما علم أمير المؤمنين بنزول القوم وأنهم غير راجعين من حصر براقش جمع خاصيته واستشارهم في أمره فأجمع الرأي أن الصواب ما رأيته يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام: نقصد صنعاء فإن أخذناها بفتح على الإسلام وإن لم نأخذها كنا ننقم بثأر من أعداء الله ونعلم السلطان أهل الجوف أنا حاضرون صنعاء وفي ذلك ما لا يخفى من قوة الإسلام، فكتب عليه السلام إلى أمرائه في صعدة ونواحيها وكتب إلى الجوف وإلى البلاد وكتب إلى الأمير الكبير المقدم زعيم جيوش المسلمين أحمد بن القاسم، وكتب إلى الأمير المخلص أحمد بن محمد بن فليتة بن حاتم، وإلى السلاطين الأجلاء الشهابيين، وإلى ولاته [129ب-أ] في هداد والكميم ورسم عليهم الأهبة والإقبال إلى البون، وأمر أخاه الأمير المعظم أبا مظفر سليمان بن يحيى بالأهبة، وكتب إلى المسلمين وأقام في مسلت وكان مشغولاً بحادثة وقعت في جهة الشرق، وقد كان بلغه أن الأمير علم الدين أحمد بن القاسم بن جعفر قتل قوماً من المفسدين وأخرب بيوتهم، وأصلح أحوال البلاد، وأخذ أمير المؤمنين في الأهبة، وحشد القبائل، وضرب بين الناس ميعاداً إلى ريدة.
قال الراوي: وقد كان في تلك الأيام وصل الشريف الأمير المهدي أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الهادي عليه السلام من جهة الغز يطلب الصدور إلى أهله إلى هجرة رغافة فلما وصل إلى أمير المؤمنين وهو مستوحش من أجل الشعر الذي كان هجا فيه أمير المؤمنين، فلما وصل تلقاه الإمام بالإنصاف والصفح فعند ذلك ندم على ما فرط منه، وحضر إلى بين يدي الإمام وتاب، واعتذر وأبلغ، وكتب أبياتاً في معنى ذلك فقال:
ساءت بنو الدنيا فأغضيت عنهم
وما عظمت إلا لديك مساءتي
فعفواً أمير المؤمنين فإنما
وجرب فتى تشكوه في حومة الوغى
وتعرف عقر الكوم عند فنائه
وما الناس إلا كالدنانير صورة
?
?
وفي الناس أشباه لنا ومقايس
فقد سمحت فيها علي المعاطس
يهان لإدراك النفيس النفائس
رقاب المذاكي والكلا والقوانس
كما عرفت فيهم الروح منه الفرائس
وفيها إذا حكت ثمين وباخس
رجع الحديث
ثم نهض عليه السلام من قرية مسلت لعشرين بقين من شهر شوال سنة أربع وخمسين وستمائة فحط في سر بكيل فاجتمع إليه أهل البلاد القريبة وقد كان وصل الأميران الكبيران شهاب الدين وجمال الدين محمد والحسن ابنا علي بن يحيى بن محمد بن يوسف بن القاسم بن يوسف الإمام بن يحيى بن أحمد بن الناصر بن يحيى الهادي عليه السلام، والشيخ المجاهد العالم عضد الدين محمد بن يحيى بن حجلان في عصابة من المجاهدين من أهل صعدة ونواحي أملح، وأقام أمير المؤمنين إلى يوم الخميس ثم نهض سادس وصوله سر بكيل فحط في غربي بركة ريدة ووصلت إليه القبائل أولاً فأولاً فوصل إليه قبائل بني صاع، ووصل إليه قبائل الصيد، ووصل إلى هنالك الأمير شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم، والسلاطين الشهابيون في كتيبة كثيفة إلى نحو من مائة فارس وإلى قريب من ألف راجل، وأقبل الأمير المعظم علم الدين زعيم جيوش المسلمين أحمد بن القاسم بن جعفر في قبائل المغرب.
(قصة نهوض أمير المؤمنين لحرب صنعاء وحصرها)
وكان ذلك في شوال سنة أربع وخمسين وستمائة سنة.
قال الراوي: والسبب في ذلك أن السلطان صاحب اليمن الملك المظفر وعد ابن عمه أسد الدين محمد بن الحسن بإطلاق ولده بدر الدين [130أ-أ] الحسن بن علي بن رسول من الحبس وأنه يريح عليه، وشرط عليه النصيحة فيما أمره به من القيام مع الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله في مجاورة الإمام، والخروج إلى الجوف، وحرب براقش، وكان وقت هيئة بين الجميع فتعلل أسد الدين بذلك تعلل في نقض الصلح فراسله الإمام بالمخارجة فيما يدعيه فأسر إلى الإمام أني أخرج لأجل ما وعدني ابن عمي ولا تأتي مني مضرة واختار ذلك، فلما نهض القوم بعسكرهم إلى براقش أمدهم الإمام بما أمكنه من الأهبة للحرب، والعدة وخرج لحرب صنعاء، فنهض عليه السلام بعد أن اجتمعت إليه عسكر كثيف من الشرق والغرب وأشعر العلماء والمسلمين الجهاد في سبيل الله، وخرج بنفسه حتى حط في البون الأسفل في ريدة، واستقر الناس من جميع بلاده من صعدة ونواحيها، وكتب إلى أهل المغرب إلى ابن عمه الأمير الكبير علم الدين أحمد بن القاسم، ونهض هو ومن اجتمع حتى وصل البون الأعلى فلقيه الأمير الكبير المعظم ابن عمه أحمد بن القاسم في عسكر كثير، ووصل إليه عسكر اليمن من الكميم وهداد، ووصل إليه الأمير الكبير المخلص شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم، ووصل إليه الأمراء الكبراء آل يحيى بن حمزة وسار معه من العلماء الأمير السيد شرف الدين الحسن بن وهاس بن أبي هاشم الحمزي، ووصل إليه الأمير المعظم شمس الدين أحمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان فيمن معه فحط العسكر على بركة صليت، وأغارت خيل من قوم بني صاع من جهة ذيفان على حين غفلة فلحقهم جماعة من خدم الإمام فيهم مملوك له حبشي، وضرب رجل منهم فكاد أن يصرعه فطعن حصانه آخر في خيزومه فعقره وعاد الناس وأمسوا ليلتهم تلك، فلما كان من الغد نهض أمير المؤمنين في العساكر فأخرب درب الغز في الجنات، وبيوت المحاربين، فلما اجتمعت إليه العساكر من الأقطار من صعدة
واليمن، فنهض عليه السلام في جيش وافر فأخذ طريق النقيل المشرف على جبل ظين فلما استقر رأس النقيل ركز أهل زيلة محل عيال ..... المحاربين فنفر إليهم من قادمة العسكر جماعة فأمر أمير المؤمنين أخاه الأمير سليمان بن يحيى، وابن عمه الأمير أحمد بن القاسم أن يرد الناس فيتدبرا هذه القلعة فوقع القتال بين الناس فقتل من بني صاع من آل زيد رجل، وخرج صاحب زيلة بعد ذلك ونزل على حكم الإمام ورهن ولده بعد أن ذبح ثوراً على باب خيمة الإمام في الصفح والعفو فلم ير الإمام إلا القبول، والمبادرة لحرب صنعاء قبل وصول مادة إليها، ثم نهض اليوم الثاني فحط رحابة وأمر بخراب ضروان محل الباطنية، واستئصال شأفته، وأغارت خيل من عسكر براش فأخذت غنماً كثيرة وأخذت ولداً لرجل من الباطنية، ونهض أمير المؤمنين في اليوم الثالث الطريق السلطانية حتى أتى بلاد بني الحارث، ولقيه أهل [130ب-أ] حصن قبة وقوم من بني الحارث حتى انتهى العسكر إلى قصر منير المعروف، وحط الناس هنالك رفض أمير المؤمنين ما فيه من الطعام وغيره ففرقه على العسكر، فلما كان اليوم الثاني أمر الناس بالأهبة لحرب أهل صنعاء وكان فيها إلى زهاء مائتي فارس وألف رجل من المنشبة وأهل السلاح غير أهل البلد فهم خلق كثير من أهل البأس والنجدة أميرهم الأمير الكبير أحمد بن الإمام المنصور بالله في جماعة من خدمه ومملوكان تركيان للأمير أسد الدين يسمى أحدهما: أقوش الألفي، والثاني: يكتمر العلات في عدة من المماليك الترك أولي بأس وشدة، ومن الكرد موسى بن رسول في عدة وقوم من الهدانيين الباطنية وغيرهم، والورد بن محمد أبو ناجي في عدة من المنشبة وغير من ذكرنا، فشرعوا إلى المدينة، وكان الأمير شمس الدين يومئذٍ المتولي لتدبير أمرهم فاشتدوا به وسمعوا أمره، وقدم أمير المؤمنين مقدمة عسكر فيهم أخوه الأمير سليمان بن يحيى والأمير السيد الحسن بن وهاس في عسكر كثيف وسار الثقل الطريق اليسرى وأمرهم أمير
المؤمنين بالمحطة في سفح جبل نقم لما علم بأمور أهل صنعاء وكثرتهم، وسار أمير المؤمنين في القلب، وبين يديه شجعان الشرق والغرب، وعن يمينه ويساره من الشرفاء والعلماء حتى وصل إلى قريب من باب شعوب فحكم أهل صنعاء ولزم الدوائر وحفظوا الأبواب فأصيب الناس بالنشاب وغيرها جماعة، وعقر فرس لرجل من السلاطين بني شهاب، وسار أمير المؤمنين حتى وصل المحطة واجتمع فيها من الخلق ما لم يحصرهم العدد ولقد قدر على التعليل قريباً من خمسة عشر ألفاً، والله أعلم، ثم أقبل في اليوم الثاني قبائل خولان، وقبائل سنحان، و بني شهاب، وبني بهلول.
قال الراوي: وانقطعت المناهل، وضاقت تلك الشعاب بالناس، وأيقن أهل صنعاء بالهلاك، وحينئذ اختلف العدو .............. أمير المؤمنين ممن ظاهره معهم، ووصل الأمراء الكبراء آل وهاس فأمسوا قريباً من باب صنعاء، ووصل إليهم من وصل من صنعاء سراً فيما قيل، وكان ظاهرهم مع أمير المؤمنين وباطنهم مع القوم فيما بلغ، والله أعلم.
وكان القتال على صنعاء وليس بإجماع من العسكر متصلاً الليل والنهار، وتأهب الناس للحرب ودخول المدينة فتوسط الأمير علي بن وهاس في صلح بين الناس، وضمن على الأمير شمس الدين ومن في جنبته وعلى أسد الدين، وشرط نقل محطة الإمام إلى شعب ملاصق لبراش فساعد أمير المؤمنين لما علم في ذلك من الصلاح ولما تحققه من فساد قلوب كثير ممن معه من الأمراء الحمزيين إذ كانوا عدداً كثير واضعاً إليهم غيرهم من الناس، وعلى الجملة فكان من معه من الأمراء الحمزيين أكثر ضرراً عليه ممن كان مجاهراً له، فنهض أمير المؤمنين إلى شعب الجن ثم طلع حصن براش وطلع معه كبار الشرف[131أ-أ] من العلماء وغيرهم ورأى أمراً عجيباً، وحصناً حصيناً، وقوة عظيمة، وعدة وثيقة، ورأى من عزمة ذلك الأمير ومن معه الذي ولاه ما زاده ثقة وبصيرة في ولايته؛ إذ لم يسمح بولايته لأحد من أهله بل اختار الأمير الكبير أحمد بن محمد بن حاتم فكان فوق ظنه، وأقام أمير المؤمنين أياماً ومن معه على أحسن حال وأتم كرامة، ثم نهض إلى حدة في عسكره بعد أن تفرق أهل البلاد من مخاليف براش ووقع في أنفسهم ضيق وتصوروا صوراً ولم يطلعهم أمير المؤمنين على ما قد ظهر له من فساد عسكره.
( فصل)
وعدة من اجتمع معه في ذلك اليوم من عيون الناس من كبار الشرف والعرب، فمن الأشراف من قرابة أمير المؤمنين أخوه من أمه وابني عمه الأميران الكبيران إبراهيم وسليمان بني يحيى بن علي بن يحيى بن القاسم بن عبدالله بن القاسم بن أحمد بن أبي البركات إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن محمد بن القاسم بن إبراهيم ترجمان الدين، وابن عمه الأمير أحمد بن القاسم بن جعفر بن الحسين بن أبي البركات بن الحسين بن أبي البركات بن الحسين بن يحيى بن القاسم بن محمد بن القاسم بن إبراهيم في جماعة من أهلهم، ومن بني القاسم بن علي الأمير الكبير عيسى بن الحسن بن محمد بن إبراهيم في جماعة من أهله، ومن الأمراء الكبراء الحمزيون من آل علي بن حمزة بن أبي هاشم الأمير الكبير المعظم أحمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن علي بن حمزة بن أبي هاشم، والأمير الكبير عبد الله بن سليمان بن موسى بن داود بن علي بن حمزة بن أبي هاشم، وآل يحيى بن حمزة بن أبي هاشم، وعصابة وافرة منهم الأميران الكبيران معتق بن معتق بن محمد بن القاسم بن يحيى بن حمزة بن أبي هاشم، وعلي بن القاسم بن محمد بن القاسم بن يحيى بن حمزة بن أبي هاشم، ومعتق بن هيجان بن القاسم بن الحسين بن يحيى بن حمزة بن أبي هاشم، والحسن بن علي بن محمد بن القاسم بن يحيى بن أبي هاشم، ومحمد بن الحسين بن القاسم بن محمد في عصابة وافرة أجواد فرسان قريباً من العشرين، ثم إن الأمير السيد العالم شرف الدين يحيى بن القاسم بن يحيى بن القاسم بن يحيى بن حمزة بن أبي هاشم، ثم من الأمراء آل الحسين بن حمزة بن أبي هاشم الأمير العالم السيد الحسن بن وهاس بن أبي هاشم بن محمد، والحسين بن حمزة بن أبي هاشم وأخوه عبد الله بن علي وغيرهم من الأمراء آل الحسين بن حمزة، ومن بني الهادي إلى الحق: يحيى بن الحسين بن القاسم بن يوسف بن القاسم بن جمال الدين، والأميران الطاهران المجاهدان محمد، والحسن ابنا علي بن يحيى بن
محمد بن يوسف بن القاسم بن يوسف الإمام الأشل بن يحيى بن أحمد الناصر بن يحيى الهادي إلى الحق عليه السلام، والسيد العالم المطهر بن يحيى بن المرتضى بن الهادي عليه السلام، ومن آل العباس بن علي بن أبي طالب: الأمير الكبير المخلص أحمد بن محمد بن حاتم بن الحسين في عصابة من بني عمه، ومن العلماء من غير الشرف الشيخ العالم أحمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن أبي طاهر أحمد بن إبراهيم بن أبي طاهر محمد بن إسحاق بن بكر بن عبدالله [131ب-أ]بن الرصاص، والفقيه العالم أحمد بن علي الضميمي، والفقيه حنظلة بن أسعد الحارث، والشيخ العالم المجاهد محمد بن أحمد بن حجلان، والفقيه العالم المجاهد محمد بن علي بن أحمد الحسني الأكوع، والفقيه الفاضل الحسن بن حميد بن أحمد، والفقيه العلامة يحيى بن محمد بن يحيى الصريمي، والفقيه العالم المهاجر حمزة بن محمود الجيلاني، والفقيه العالم لسان المتكلمين القاسم بن أحمد الشاكري، والفقيه الطاهر المجاهد المعلا بن عبدالله القيسي ثم البهلولي، وغير هؤلاء ممن غاب ذكره لطرو السهو والنسيان، ثم من كبار الناس ورؤسائهم الشيخ الكبير أسد الدين حارث بن منصور بن محمد بن منصور بن جعفر الضريوة، والشيخ محمد بن أسعد بن علي بن منصور الضريوة، وجماعة من السلاطين الأجلاء آل عمران الذيب منهم السلطان الأجل الكبير محمد بن الوشاح بن عمران وأخوه أحمد، والفهد بن الليث بن عمران، والسلطان الأجل علي بن الحسن بن إسماعيل، وحضر عدة من السلاطين آل دعام وعدة من شيوخ بني صاع كل في جماعته، وحضر عدة من شيوخ بني صريم والصيد، وقبائل همدان ما لم يمكن ضبطهم لطرو النسيان إلا أنهم ليسوا بالقليل النزر بل ربما لم يبق أحد من قبائل عيون حاشد، وبكيل، وجنب، وسنحان وغيرهم إلا النادر الشاذ أو من هو كاشح مضمر العداوة ممن في مخاليف صعدة، والظاهر، والجوف، وبلاد سفيان، ومغارب حجة، ومخاليف صنعاء إلى الهان، والمشارق
حتى وصل إلى تلك المحطة ولم يقع في محطة نقم كل الحرب الشديد إلا أن خيلا خرجت من صنعاء أغارت على قوم يعلفون فأصابوا منهم رجلاً أو رجلين ولحقتهم خيلاً من عسكر الإمام عند باب شعوب فنالوا منهم، وعقرت فرس من خيل صنعاء وصوايب من الفريقين، وكانت إلى سلامة بعد التباس الخيل بعضها ببعض دون ساعة، ونهض أمير المؤمنين إلى حدة وكانت طريق عسكره قريباً من صنعاء وأهل صنعاء ينظرون إليهم بطرف خفي فحط في قرية حدة، ونهض أسد الدين بمن معه من الجوف حتى دخل صنعاء، وأسر في طلب الصلح وتباعد عنه ظاهراً فلما علم الإمام بذلك ساعد عن صلحه وعزم على مناجزة القوم وحربهم على صنعاء، فلما رأى منه الجد كاتب الإمام المكاتبة اللطيفة وعظم شأنه فأكثر الحاضرون الكلام على الإمام في مهادنة مدة فلم ير الإمام عليه السلام إلا المساعدة لما رأى في ذلك صلاحاً للمسلمين فانصرم الكلام على صلح ستة أشهر من غرة شهر الحجة آخر سنة أربع وخمسين وستمائة سنة إلى سلخ جمادى الأولى من سنة خمس وخمسين وستمائة.
(قصة نهوضه عليه السلام إلى بيت ردم)
قال الراوي: لما انعقد الصلح ونادى به الصائح نهض أمير المؤمنين إلى حصن بيت ردم ليطوف على أهله هنالك، وكان من أهله هنالك زوجته الشريفة الفاضلة بنت الأمير محمد بن فليتة بن سبأ من آل أحمد بن جعفر أهل براقش فنهض عليه السلام [132أ-أ] في طائفة من عيون عسكره وأهله في العشر المباركة إلى بيت ردم فتلقاه السلاطين الأجلاء بالترحيب والتسهيل، والإعزاز والإكرام، وبلغ إليه عليه السلام في تلك الأيام قتل الشريف من أولاد القاسم بن علي قتله قوم يقال لهم: بنو الأعضب في مغارب حضور، فغضب أمير المؤمنين لذلك وعزم على حربهم، واستئصال شأفتهم.
فقال الشريف العالم أحمد بن سليمان العباسي العلوي شعراً يستنهض به أمير المؤمنين لحرب القوم، ويهنيه بقدوم عيد النحر، وهو قوله:
ابن النبي الطاهر المجتبى
أعلا قريش رتبة في العلا
أنت الذي يقصر عن وصفه
خليفة الرحمن في خلقه
وكاشف الغمة عن هاشم
تذب عن أحسابهم جاهد
بعز ملك كافل عزهم
دونك فاسمع نفثة من أخ
لا يملك الدمع إذا اغدودقت
أعوزه الصبر بما جل من
منحت الأرحب الفنا
أصبح مفقوداً غداة اللقاء
يا راكباً يزجر في سيره
أبلغ صناديد بني قاسم
إحسانكم سرف إن تقبلوا
إلا بإنجاز نفوس العدى
قتل كليب لم يكن عزمة
لم يرغبوا في غير ضرب الطلى
قل لبني الأغضب تعساً لكم
أي فتى ضرجتم ثوبه
يا بعدكم من دعة بعده
فالآن صرتم غرضاً للردى
يا ناصر الحق وهادي الورى
قد أقبل العيد بإقباله
يثني بملك قاهر أسعد
?
?
وابن الوصي الصادق العادل
وخيرهم في الحسب الطائل
وعن ثناه مدحة القائل
وناصر الحق على الباطل
في كل خطب حلك شامل
ذب هزبر الغابة الصائل
حان عنهم عاطف واصل
شجو كئيب آسف ذاهل
سحب مجاري دمعه السائل
عظم مصاب الأسد الباسل
جم الأيادي نجعت الآمل
فينا كفقد القمر الآفل
وجنا يمضي شطط الراحل
أهل الحجى والشرف النايل
في قتل يحيى قود القاتل
ووحش أنس البلد الآهل
يجحف بالسادات من وائل
والطعن تحت الرهج المائل
ما غركم بالسيد الفاضل
بسائح من دمه سائل
ومن قرار الآمن الغافل
والآن صرتم طعمة الآكل
عن فرط غي السادر الباهل
ويمنه المتصل الشامل
ونال عز ليس بالفائ
قال الراوي: فلما استقر أمير المؤمنين في بيت ردم وصل بنو الأعضب على حين غفلة فنحروا ثوراً على قبر حي السلطان الكبير السابق المجاهد الوشاح[132ب-أ] بن عمران بن الذيب، وتوسلوا بالسلاطين الأجلاء، فانصرم الأمر على دفعه سبعة آلآف دينار من الدنانير الملكية كل دينار أربعة دراهم من الدراهم المهدية دية وعقوبة لأجل جرأتهم على دماء أهل الشرف.
ومما قيل في حصر صنعاء ونصرة الأمراء أهل براقش وما كان في خلال ذلك من النصر والظفر قول السيد العالم شرف الدين يحيى بن القاسم بن يحيى بن القاسم الحمزي رضي الله عنه وأرضاه:
ا زلت تحمي جانب الإسلام
وتقود جيشاً كالخضم يحفه
وبنوا أبيك الشم سادات الورى
لما دعتك براقش لبيتها
ودعوت بالغز الجحاجح فانبرى
من هاشم أكرم بحيى أنت منـ
وأتاك من همدان كل متوج
ومن الملوك قيول كندة أقبلت
حتى لقد ضاق الفضا فما ترى
لم يهلك الشمس الحساب نواضح
ويغازل الغزلان بين حدائق
ونظائم المسك السحيق ولذة
أقسمت لا عقدت بنودك صادقاً
فهدمت في الجنات كل مشيد
وأقمت في صنعاء يوم قيامة
كادت تميد بأهلها فكأنما
كالهم في حمر الورود وإنما
ذللت من كان الجماع طباعه
فالحق أبلج والسيوف شواهد
شالت نعامتكم وفرق جمعكم
قل للملوك مقالة ما شأنها
هذا هو المهدي حقاً فاعلموا
هذا أمير المؤمنين ومن غدت
هذا الذي وافا الخلافة حقها
رجل كألف الألف إلا أنه
لا البحر بحر عند فيض نواله
?
?
وترد طامية اللهام الطامي
جبريل من خلف ومن قدام
آساد كل كتيبة وصدام
طلقا بأرعن كالخضم لهام
لدعاك كل سميدع مقدام
هم فوق سامي ذروة وسنام
من معشر نصروا أباك كرام
جاءوك كالهضب المنيف السامي
في البون إلا شامخ الأعلام
عذي المقيل بارد بسام
مفترة بعجائب الأكمام
كبني الزمان بمأكل ومنام
حتى تهد قواعد الآثام
وطمعت ربع مآثر الإجرام
فمضت بذاك أوامر الأحكام
سكروا بغير زجاجة ومدام
للفل عند تضايق وزحام
وهصرته كرهاً بغير زمام
والغز بين جبينه بحوامي
ودنى حمامكم وأي حمام
كدر ولا صعب من الأحلام
حتف الأعادي واصل الأرحام
أيامه فخراً على الأيام
وسما فليس الزمان بسامي
في عزمه أمضى من الصمصام
بفواضل الإحسان والإكرام
قال الراوي: وأذن أمير المؤمنين لمن أحب من الناس أن يصدر إلى جهته لإقبال العيد، فنهض أخوه الأمير الكبير علم الدين سليمان بن يحيى في عسكره، وصدر العلماء من جهات الظاهر، وأهل صعدة وغيرهم، وصدر الأمير الكبير علم الدين أحمد بن القاسم في عسكره إلى بلاد حمير، وأقام أمير المؤمنين عليه السلام [133أ-أ] في بيت ردم في نعمة وافية حتى انقضى العيد المبارك فأتته أهل الجهات اليمانية والمغربية بالنذور والبر وغير ذلك، وانقضت سنة أربع وخمسين وستمائة
[حوادث سنة خمس وخمسين وستمائة]
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة.
ذكر حوادثها
قال الراوي: وكان يجمع في مجلسه الكريم الشريف العالم الفاضل أبو الفتح بن مدافع من أولاد الإمام أبي الفتح الديلمي رحمه الله في عدة من العلماء الفضلاء يراجعونه في أنواع العلم ويسمعون عليه أصول الأحكام الذي تولى جمعه الإمام السيد المتوكل على الله أحمد بن سليمان رضوان الله عليه فيفتح لهم ما أغلق من غريبه ويشرح الاختيارات لآبائه عليهم السلام، ويذكر اختياراته مجردة حتى أتى على آخر الكتاب، وقد شرح هذه الاختيارات -أعنى اختياراته- بعض العلماء من المتأخرين، وأقام أمير المؤمنين إلى اثني عشر ليلة خلت من صفر سنة خمس وخمسين وستمائة، وبلغ العلم بوفاة أخيه الأمير الكبير المجاهد علم الدين سليمان بن يحيى رحمه الله، وهو يومئذٍ حدث السن سنه يومئذ دون الثلاثين السنة، وكان مع ذلك فارساً مقداماً ذا ألمعية وافية وهمة سامية، كافياً حيثما أنفذه الإمام إليه من الثغور، وسبب موته لما صبر عن بيت ردم إلى الجهة الظاهرية تقدم إلى جبل عربان ليطوف على أهله هنالك وكانت معه بنت الأمير الكبير الحسن بن محمد بن إبراهيم القاسمي فعرضت لهما حمى حادة وبرسام واختلاط، وعرض بعد ذلك إسهال فأقام ذلك نيفاً وخمسين يوماً، وتوفي إلى رحمة الله في حصن ذروة لاثني عشرة ليلة خلت من شهر صفر سنة خمس وخمسين وستمائة، وبلغ العلم إلى أمير المؤمنين فاسترجع وحمد الله تعالى على عظيم بلائه وامتحانه، وعزاه المسلمون في أخيه الماضي منهم من أتاه ومنهم من كتب إليه نظماً ونثراً، ورزئ المسلمون بذلك رزية عظيمة، وكانت هذه مفتاحاً للامتحانات والتمحيصات فالله المستعان.
والمراثي فيه مسطورة مذكورة منها ما قاله الفقيه الأوحد العلامة اللسان نظام الدين القاسم بن أحمد الشاكري:
ع المدامع تهمى ثم تندفع
جل المصاب فقال الناس كلهم
وجل قدرك إن تدعا لتسلية
وكيف أوصيك في البلوى وأنت لنا
قدر الخلافة أعلى أن يقال له
فاربع عليك أمير المؤمنين وإن
فأنت أعلى الورى قدراً ومرتبة
وأنت أرجح حلماً أن يحف على
وهل يزلزلك الخطب العظيم وما
من خلته أحجمت عنه منيته
وابنا ربيعة والسادات من مضر
وخاتم الرسل وابناه ووارثه
ولم ينل خلفاء الملك من مضر
ولا الأراقم في الإنفاق سايبة
والعفر لم تنج في بيداء بلقعة
تعدوا فتعمل منها كل شاهقة
ولا ........ على مرهوب صولته
هذا يهر لذي جروين منحجرا
فرأسه كل غال اللحم قد رخصت
تعدو ثلاثة أشبال مصلصلة
لها من العيش أسناه وأطيبه
ولم يزل من دماء السالكين لها
فاغتالها الأسجع المنساب صاحبه
فإن يلحمها صيداً يصادفها
وإن نفوساً على أرباعها علقا
وظل يحفر بطن الأرض من أسف
ونام بعد لغوب هائماً دفعا
فاغتاله الأسجع المنساب ثانية
وكم أماد لها رزقاً ومنعها
وكم له من دفاع دونها وعنا
فهون الخطب إن العيش منقلب
واحمل على النفس ميسوراً فإنك لا
ما هان ريب المنون الملك مختلفاً
جرى سليمان للغايات ثم قضى
جارا الشيوخ صغيراً غير محتلم
سامى النجوم فلم يلحقه مكتهل
وحاز غايات أهل الجود في مهل
وقاد خيلاً إلى خيل فحي بها الـ
إن ناله الخير لم يحدث له بطرا?
?
كأنها مزنة جادت لها دفع
ما أبصروا مثله روءً ولا سمعوا
وأنت قدوتنا المتبوع لا التبع
أمن وحبل متين ليس ينقطع
عند الحوادث لا راعك الجزع
كان الأحبة ما عاجوا ولا ربعوا
ومثل حلمك عند الضيق يتسع
زلزال نازلة يعنو لها الصرع
للصبر والحلم إلا أنت منتجع
أو هانه في الجموع الأزلم الجدع
والمجتبى تبع والمنتقى تبع
وبنته والغطاريف الأولى تبعوا
ولا حماها الردى خوف ولا طمع
تخشى المنون فيخفى ثم يطلع
ولا نجا في البقاع الأعصم الصدع
بها عمائم منها الشهب والفزع
ولا العفر ولا تهمم به سبع
وذا يكفكف عنه الهول والفزع
لديه من لحمه الأشلاء والبضع
تحت الجميلة في أرساعها مدع
القلب والعين والأكباد والقمع
سرب روي وحوض واسع ترع
وقد تسمت بينها من ريقه جرع
ضرعاً وأكبادها مبنوذة قطع
فساده عندها مراً ومستمع
لو كان من حدثان الدهر يمتنع
وقد طواه الطوى والوجد والوجع
وانصاع قدر ماض يرمي عنه القمع
فلم يعل عليها ذيب ولا ضبع
لو أن عادية الأيام تندفع
والعز مستلب والعمر مرتجع
يفيدك المجهشان الحزن والهلع
ولا انثني صرفه عن وازع برع
دون التناهي ولم يعلق به طبع
فحدهم فاثنوا ذلا وقد خضع
فكيف يسموا إليه شارخ يفع
وبذهم فاستكانوا ثم وارتدع
ـدين الحنيف ومات الزيغ والبدع
أوصرح الشر لم يذهب به الجشع??
? والثابت الحلم إما طاش حلم فتى
فما يساويه في الحالات من أحد
سقى ثراه الأحس الجون وابله
وليت من مات ذا نفع وذا ضرر
والقائد الجيش نحو الجيش منصلتاً
ومادك الأرحبيات القلاص لطول
وسالك الحرب لا يخشى غوائله
كل الموامي له طرق وكل فتى
أضحى الهدى شامخاً أنفاً وسالفه
وهو المقدم في علم وفي عمل
له السماحة والفضل الشهير وصدق
ودام في المشرب الصافي وحاسده?
?
والرابط الجاش لا وهن ولا جزع
أنى يساوى السنام السائم الرمع
حتى يقيم لديه الرأي والشبع
فداه من عاش لا ضر ولا نفع[134أ-أ]
كأن لمع سناه الشهب والسمع
الغرو لا هنع ولا ربع
ولا يسير إليه الماهر الخنع
من قبل متبع فيهن يتبع
به ولا خضع مزر ولا جزع
وهو المخيم حيث المجد مجتمع
الناس في العلم والتدبير والورع
ما شربه العذب إلا الصاب والل
وقال أيضاً:
ما الطرف في ليل أحم بهيم
إذا اجتمعت فيه العقائق مزقت
يلاحظ ومض البرق دأباً وينثني
ويرزم فيه الرعد طوراً وتارة
سهرت له أسقي الأحبة وبله
فإنك حولت الوداد فحول
وكيف بوصلي في الهوى غير واصل
وماذاك من شأني فدعني وشمتي
يكادني همان هم لوارد
يحمحم دون النص في وإنه
وأما كنا عنى ثناء فإنه
فكابر أعدائي عليه فلم يبن
أصاب فأخطا غيره في رساله
ألم تدر ما للعاب الرسائل إنه
بلى إنه دار ولكنه جرى
أيمدح جبريل الأمين مصعراً
وهب أن جبريل الأمين معاضدي
كفا شرفاً أن الإله مؤيدي
وهم جفا جفن المنام بحادث
عفت من سليمان بن يحيى منازل
ترى الرحبات الفيح حول فنائه
وبينا ترى بين المنازل إذ ندى
منازل لا يخفى النزيل بسوحها
وإن طرقت سود الليالي منازل
يوقر حتى يصعب الخطب جالياً
ويعطي على اللأواء سرفة ماله
وركب أناخو جنح ليل يهزهم
لديه على ماء قصيص ونائل
أنار لهم نار القرى أو بدت لهم
وجادلهم بالمنزعات كأنها
فما تركت تلك الجعاب سوى الظبا
زمردة من نسيج داود رعفة
تراث يتيم من قريش لعله
ويوم من الجوزاء لاقيت حره
وليل جمادى قطعت بتوأم
بملمومه شهباً تكاثر في الدجى
رميت بها حبا حلالاً فغادرت
سقى منزلاً من هضب ذروة ريق
معاهد للأضياف كنت عهدتها
وروى ثراً قبر شريف لماجد
وزارته من زور الجنان تحية
ولا برحت تلك الشبيبة غضة
جزاء بما أسلفت إما ميسراً
وإما عفت عنك المنازل ثاوياً
ففي أحمد المهدي ملك وعزة
كريم سما في بيت عز ومنعة
إمام هدى أعطى الإمامه حقها
وقام بأعباء الخلافة ناهضاً
وكافح أرباب الممالك فاحتوى
وإذن بميراث النبي ومن يكن
ومبتدري غايات سبق بنايل
أبرز كاعوا من حسير وساقط
وإما تدري منبراً متكلماً
وعفا ديار الكفر فهي طوامس
وذلله من بعد عز ومنعة
وكبر في صنعاء مورد كردها
أباح حماها عنوة وأنابها
وأبدلها عن بارد العذب بالصحاى
ولولاه لم يجنح لسلم ولا اتقت
وأمطرها سرحاً ونيفاً يمدها
وكم مر من يوم لها من زحامه
أهذا الجلال الغر يلوى بمثلها
فصبراً أمير المؤمنين فإنه
رأيت علو الملك لم تحم سالماً
وماكان مخصوصاً سليمان وحده
وإما غدا عظماً رميماً فذكره
وقد فاز إذ لاقى الإله مجاهداً
?
?
ليرى تسامي في أخس هريم
ركام غيوم مردف بنيوم
كليلا بذاك الومض غير سؤوم
يجلجل في حون الرباب سجوم
دعاء فلا يبقى علي ولومي
وجائر ودى عنكم وهمومي
فصرمي وفي العهد غير صروم
وإنك لا تثني العداة شكيم
من الشعر معسول الكلام رحيم
صديق المراعي وده وحميمي
لعمر الله الحبر غير ملوم
لكثرة حسادي ولمز خصوم
[بياض…..,] بفكر عقيم
ألم بها والحر غير ملوم
بطبع وخيم أو لأمة خيم
بلائي ودفاقاً لحد غريم
أذو عصمة يسعى بنصر لميم
وأن شريكي المجتبى وقسيمي
جليل ورزء في البطاح عظيم
توسعها للوفد خلق كريم
حزاين وفد أو مناحر كوم
مذيلاً من المادي ثوب زعيم
ولا ينثنى عنها بحظ لؤوم
يحق عليه حلم كل حليم [134ب-أ]
بأنواره ديجور كل يهيم
فيسعى بها يأساً كل عديم
من البؤس والتكثار عدة موم
عويض وبيت بأرض وخيم
تباشير من وجه أغر وسيم
جواب سواها سوم نسوم
وكل رديني أصم تميم
وأحضر من نسل الوجيه حموم
إذ جد فيه الجد غير يتيم
بوجهك في وهج ولفح سموم
يزعزعها للحوم غير تؤوم
نجوم الدجى من بيضها بنجوم
منازله من مؤتم ومؤتم
يروقه ريح الصبا بنسيم
مباحاً وما عهدي بها بذميم
كريم سما عصا لخير روم
ورحمة رب بالعباد رحيم
مخلدة في نضرة ونعيم
لعسر وإما قامعاً لظلوم
تناجيك عن لوح عليك رقيم
وجود لوفد ظاعن ومقيم
ويتبع يطامي اسم كل مهيم
حكيم بأخبار الكتاب عليم
ولم يكترث من أمرها بجسيم
على ملكهم من حادث وقديم
كذلك يخشى عنه كل خصيم
وبأس وآباء سمت وعموم
ومدنف عليّ من علاه لطيم
شفا بفنون الوعظ كل كليم
كوحي قديم أو كرم وسوم
وأبذله عن بارص بهشيم
وجبلين من ترك هناك وروم
عن الطل محموماً ولفح جحيم[135أ-أ]
دبى شراب آسن وحميم
حراماً ولا أضحت بغير حريم
مدود وآل من ثلا وحزوم
وكم كلمت من بأسه بكلوم
غرام مصاب أو طلاب غريم
يساوي الورى من جاهد وحكيم
ولا راضياً إنجادنا بسليم
ولكن قضاء شامل بعموم
جديد وما أبقاه غير رميم
وأنت بقلب قد أناب سليم
وقال القاضي العالم ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي رحمه الله:
ي الآمال يطويها الزمان
ننام عن الخطوب وقد علمنا
ونلهوا والحوادث كل يوم
تجاذبنا أزمتها نفوس
فكم فرح إلى أجل المنايا
على الأحباب والأيام عيص
ومن يعتب على غير الليالي
ألا مالي وللشهب اللواتي
تبيت تراقب الأفلاك مني
إذا نهنهت عبرتها استهلت
نعى الناعي إليّ فقلت وجداً
ثوى ابن القاسمين فأي عيش
شقيق خلافة وزعيم ملك
وفارس حومة ولرد خصم
ونعم مناخ شعث الركب آبوا
أمير المؤمنين شرفت عما
نظرت إلى المعاد فكل شيء
يراك الله من شجرات نور
محمد أصلها وابناه منها
مفاخر أين ذوا الأكناف منها
وقلدك الخلافة فاستقرت
أرادك أن تكون فكنت ظلاً
ونوف من كرامته رداء
فما عجب بأعجب من أناس
أتو بالعلج من بالموت يهوي
مقل يديه منان كريم
فكبر من بغداد ومصر
وزاد الله نورك منه نوراً
إذا أرخى عليك الله ستراً
فإن تجزع فقد كرت وكادت
وقد بكت الوفود الشعث حزناً
وأعواد المنابر والمذاكي
وإما تحتسب فالله منه
أخوك إذا دعوت أجاب طلقاً
أخ لك بعينه حتى تولى
أخوك وأنت أخو المعالي
فكم ثغر سددت به وثغر
مضى وإذا بقيت فكل خطب
وكل أخ مفارقه أخوه
تولى المرسلون وتابعوهم
وليس يدوم لا ملك كريم
مضى لبد ولقمان وعاد
وهل يبقى على الحدثان جار
شميم الوجه أخطب أحدري
................. كان بيتاً
أوالعصم التي بانت وطلت
أو الشيب الذي في كل يوم
أو الأسد الذي في غابتيه
تغنيه البعوض على مدام
هو الموت الذي لا ريب فيه
سوام الموت نحن فلا خماص
أمير المؤمنين أطيب عيش
فعد لبني أبيك بفضل حلم
فأنت لأن تسود الناس أهل
ولعت بودكم فبذلت نصحاً
فإن تقبل فقد خربت سري
فإن تطع العقارب حين تسري
?
?
وهل من حادث الدنيا أمان
بأن الخيل موعدها الرهان
لنا منهن قدح أو عوان
بهول ما لروعته أوان
كما نسير في الطول الحصان
دموعك إنها بان وبانوا
يجدها ما لسورتها ليان
تحور كأنها الإبل الهجان
جفون للسهاد بها معان
كما أرفضت من السلك الجمان
سليمان بن يحيى أم أمان
يطيب وأي صبر يستعان
ورب سطا يمور لها عمان
إذا لم يسمع الدعوى الجنان
بحوص لا تهب لها حران
به جرع لقوم وافتتان
سواه يعض منك له عنان
وعيدان الورى عرب وبان
وحيدرة وفاطمة الحصان
وما عبد المدان ولا المدان
بحيث أقر في الرمح السنان
ظليلاً للخلائق فاستكانوا
عليلك بساط ردنيه الريان
يرجوا أن عدلاً يستهان
كما تهوي إلى الأسد الأتان
وفاز بكل وافية كنان[135ب-أ]
وبابل من خلالك واستبانوا
كما زيد التمام الزبرقان
فما يجدي فلان أو فلان
تحن على سليمان الرعان
عليه والمكللة الجفان
وبيض الهند والأسل اللدان
لمحتسب ومحتسب جنان
يخوض الهول وهو به معان
وبين المجد عهد لا يخان
بنشد الحمد أرضعكم لبان
لأملاك فتحت به فدانوا
يهون فلا ألم بك الهوان
وإن طالا وإن طال الزمان
وهم فلك الهدى وهم الجنان
ولا ملك ولا ورع هدان
وكسرى فارس والمرزبان
ولاه إلى القلا رجعت رعان
له في كل صاحية ريان
توسط في سماويه بوان
يصوبها ويصعدها القنان
له في كل معركة طعان
نفوس الناس تفل أو وديان
من الدم مثل ما تشدو القيان
وقد أغنى عن الخبر العيان
تند ولا المعاجيد السمان
إذا باتت عن الكف البنان
فخير الذكر كان لهم وكانوا
وأهلك خير أهل أن يصانوا
يبرهنه عن القلب اللسان
وأصلح بينكم بيد شان
لأقوم بما صدقوا ومانوا
(قصة خلاف ابن عمه الأمير أحمد بن القاسم بن جعفر وأسباب ذلك)
ونحن نذكر الوجه الذي يليق: لما كان الإمام عليه السلام واثقاً بابن عمه المذكور في العهد التي كانت في ولايته من الحصون لخبرته به صغيراً أو كبيراً، وعلمه بنهضته، وحسن تصرفه وصار كلما افتتح حصناً في الجهات المغربية أضافه إليه ولاية وحمله عهداً ولم يخطر بباله أن كيد الحسد ينتهي إلى ما انتهى إليه، فلما انتهى أمر ابن عمه المذكور إلى أن صار صاحب أجناد وخدم وحشم تعقد على رأسه الألوية ويفعل له ما يفعل لأهل الملك ويعطي العطايا الجزيلة وهو في خلال ذلك ممتثل لأمر الإمام عليه السلام واضعاً نفسه في موضع الخدم سعى الحاسد بينه وبين الإمام، وصور للإمام صور ودرج إليه الكلام على ألسنة مختلفه:
أولها: أنه لما مات أخوه سليمان بن يحيى تحدث الجهال من قرابته أن الأمير أحمد بن القاسم دس عليه السم فلما بلغ ذلك إلى الإمام غضب منه وأبعده، وقال غير مرة: أنا أعرف بفلان -يعني ابن عمه أحمد بن عمه أحمد بن القاسم- ربيته صغيراً وحمدته كبيراً، فكف الناس عن ذلك ثم درجوا إلى ابن عمه أن الإمام عليه السلام مسر في نفسه أنك دسيت السم على أخيه فعند أن يتمكن منك يتسأصل شأفتك ولا يبقي عليك بقية، ثم أتو إلى الإمام بطريق أخر وقالوا: إن ابن عمك قد كاتب الغز، وقد استوحش مما أضيف إليه من أمر أخيك، ثم تكلموا معه في صور كثيرة يرومون مباعدته عن أمير المؤمنين فأبعدهم أمير المؤمنين وأقصاهم وعظم عليه مفارقة ابن عمه وغلب على ظنه أبن ابن عمه قد أصغى إلى كلام الواشي فاستوحش.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: فلما كثرت الأقاويل استدعاني أمير المؤمنين للوصول إلى بين يديه إلى بيت ردم فاستفهمته عما قد داخله من كلام الناس فأقسم بالله ما اعتقد في أحمد بن قاسم إلا خيراً ثم أمرني بالتقدم إلى الأمير أحمد بن القاسم ليدري بما عنده، ويطيب نفسه ويخبره أني باق على ما تعهده ولا يتصور أن أحاديث الحسدة تقدح عندي، فامتثلت أمره وتقدمت إليه فأعلمته بما أمرني به أمير المؤمنين فامتثل مراسم أمير المؤمنين ونهض في عسكر كبير وخرج على طريق جبل تيس ثم الإعدار حتى نزل مجيب ومسيب، فلما وصل إلى تلك الجهة وصل إليه كتاب من الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله وهو في صنعاء مبايناً للإمام يستدرجه، ويحذره الوصول إلى الإمام عليه السلام، ويأمره بالنجا ويقول: إنه بلغني من بعض خواص الإمام أنك عند وصولك إليه غير فالت حتى تسلم الحصون التي في يديك هذا إن سلم روحك، هذا معنا كتابه، فلما قرأ الكتاب أطللت عليه وعرفته أنها مكيدة فمال إلى قولي على خوف في نفسه، ثم تقدم إلى الإمام فتلقاه بالترحيب، والتسهيل وراجعه مراجعة لطيفة، وأعلمه أن الحصون التي تحت يده إنما هي عهدة للمسلمين وليست على الحقيقة بملك للإمام ولا مأموم وطلب أن يولي في بعضها ولا[136ب-أ] من تحت يده، وبعضها يتركه في يده وتستقيم الأمور وهو مع ذلك أمير البلاد، والعمدة لأهل الحصون، فعند ذلك تغير قلبه وداخلته الوساوس بأن هذا تدريج إلى سواه، وكثرت إليه النذارات والتحذيرات حتى حمله الناس على خلاف أمير المؤمنين فأقام أمير المؤمنين عدة شهور في بيت ردم بعد وصول الأمير أحمد بن القاسم نيفاً على أربعة أشهر، ونهض أمير المؤمنين عليه السلام قاصداً بلاد حمير الطرف.
(قصة ذكر السبب في غضب الرصاص وحربه وما جرى منهم من البدع والمعاندة للحق)
رجع الحديث إلى تمام خلاف الأمير أحمد بن القاسم
فلما وصل أمير المؤمنين إلى موضع يسمى قارن وقد وصل إليه أخوه من أمه إبراهيم بن يحيى بن علي فأقاموا أياماً قليلة في قارن وحط الأمير أحمد بن القاسم في أعلى القرية والإمام في أسفلها، وصارت الأكاليم تتصل إلى الأمير أحمد بن القاسم من خدام الأمير إبراهيم بن يحيى وما يتنفس به من الأكاذيب ودس السم على أخيه سليمان وغير ذلك من الأحاديث ويؤذون خدمه ويتكلمون بما لا يليق دخل في نفس الأمير أحمد بن القاسم ما يقوله الجهال وتصور أن وراء ذلك سراً في نفس الإمام فجعل يتصنع في الهرب ويحتال في ذلك حتى انتظم له ما يريد، وفي خلال ذلك كنى له بعض خواص الإمام بكناية يوهمه أنه إن لم ينزل على حكم الإمام في التخلي من الحصون فإنه ملزوم، فخرج ثالث ثلاثه في بعض الليالي حتى صار إلى نقيل الويد مطلاً على شرس ولقيه عسكره وصدر من ساعته إلى الحصن المسمى بالجاهلي من حجة، وكتب من ساعته وأوانه إلى سلطان اليمن الملك المظفر وإلى نوابه في تهامة يستنجدهم ويعرض من نفسه الدخول في أمر السلطان والخدمة له خوفاً أن يبادر إليه الإمام بالنهوض، وكتب إلى الإمام يوهمه أنه لم ينفر عنه إلا غضباً في نفسه لا أنه خالف أمره ومراسمه وطلبا منه ذماماً وكل ذلك ليقرر خاطره ليدري ما يأتيه من جهة الغز.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: فلما نفر الأمير المذكور استدعاني أمير المؤمنين ليأمرني إليه لعلمه أنه يأنس بي لما بيني وبينه من الرحم والصحبة فوصلت إلى أمير المؤمنين وصدرت عن أمره إلى حجة فتلقاني الأمير أحمد بن القاسم بما هو أهله ولم ألبث عنده حتى وصلت إليه مكاتبات الغز يبذلون من نفوسهم الأمور الجليلة والصلات والقطائع، فلما وصله ذلك وقعت في نفسه أنفة من ذلك والرغبة في الرجوع إلى الإمام فكتب إليه الرصاص من حصن سحطا لبلاد حجور، وهو يومئذ في يد الأمراء آل محمد بن إبراهيم بن محمد بن الحسين بن حمزة بن أبي هاشم كتاباً ظاهره التحذير من مخالطة الغز ودسوه إليه سراً أنه لا يتخلى عن الحصون وأنه أولى بها من الإمام ويخوفونه ولعبوا بعقله وحينئذ تردد في خاطره وأتاه بعد ذلك رسل الغز فلم يجبهم إلى ما طلبوا، والإمام في خلال ذلك يكرر الرسل إليه ويدعوه إلى طاعة الله ويحذره انشقاق العصا.
فصل
ولنعد إلى ذكر السبب في غضب الرصاص وحربه[137أ-أ] ونكثه لبيعة أمير المؤمنين وارتكابه البدع التي ابتدعها، وحكاية الأكاذيب التي كذبها.
قال الرواي: ذكر لي بعض الناس بأن الرصاص طلب من الإمام ولاية الظاهر بحيث لا يكون فوق يده يد في البلاد طمعاً في حطام الدنيا فرأى أمير المؤمنين أن ذلك غير صواب واعتذره وكتم الكلام، فقيل: إن الرصاص دخل في نفسه حقد لذلك، فأما الأظهر من الأسباب فهو أنه لما نهض أمير المؤمنين إلى حدة بعد حصر صنعاء وقد كان أخوه من أمه إبراهيم بن يحيى خطب ابنة الشيخ الرصاص، وأعلم الإمام بذلك فصوب ذلك ليتألف به قلبه ويستكفي مضرته، ووقع العقد بين يدي أمير المؤمنين في المحطة الإمامية بحدة، وحضر على عقد النكاح عدة من الأمراء والعلماء، وتكلم أمير المؤمنين وأثنى على الشيخ الرصاص، وعقد النكاح على ألفي درهم من الدراهم المهدية عنها ألف قفلة بقفلة الإسلام، وثلاثمائة قفلة وثلاثون قفلة وشيء غبي ذكره، فلما صدر الكل عن بيت ردم لعيد عرفة وكان الشيخ الرصاص استبطأ تمام ذلك، وقيل: بل أتى إليه بشيء فاستتره فغضب في نفسه وتنفس بالكلام، وقيل: إنه لما استشهد الفقيه حسام الدين إمام المتكلمين أبو عبد الله حميد بن أحمد قدس الله روحه، وكان ركناً للإسلام أعجب بنفسه، وطلب الرئاسة فأسر إلى الأمير الحسن بن وهاس سراً أنه يفتك فتكة ويضم إليه بني حمزة على شريطة وهو أن لا يحل أمراً ولا يعقد إلا عن رأيه. والله أعلم بالصحيح، وأسروا ذلك فلما أحسوا بما دب به الحاسد، وسعى به الساعي بين الإمام وبين ابن عمه انتهزوا الفرصة، وعلى الجملة فإنه لم يقع من جنبة أمير المؤمنين أمر مما يوجب غضبهم ولا خالف في سيرته محكم الكتاب ولا سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مضى إلا على سنن آبائه بل كان عليه السلام في خلال غضبهم مقيماً في بيت ردم مشغولاً بالعلم والتدريس والنظر في صلاح الأمة، وملاحظة معاني القرآن واحترازه غيباً، والانقطاع إلى الله تعالى، والتوكل عليه، وسد الثغور.
قصة نفور الرصاص من حوث ومن لحقه من الناكثين لبيعة أمير المؤمنين عليه السلام
قال الراوي: لما جرى على الأمير سليمان بن يحيى أخو الإمام للأمه الموت، وكان والياً في الجهات الظاهرية جعل أمير المؤمنين الأمير إبراهيم بن يحيى مكان أخيه، وعهد إليه في ذلك عهداً وأضاف إليه من خيار العلماء الأطهار من يباشر أمره سراً وجهراً وهو القاضي الفاضل يحيى بن حسين بن حسين بن عمار، وعهد إليه أن لا يتعدى ذلك فامتثل أمر الإمام، وقد كان الأمر يطلب من الناس شيئاً يعينونه به من أموالهم عند قوة شوكة العدو وعدم بيت المال ليستعين به للذين يشترون في المغازي، ويرابطون في الثغور، وكان شريفاً من أولاد العباس بن علي بن أبي طالب عليه السلام ممن له خبرة بالناس، وأخان يسمى محمد بن سلمة بن هشام بن المرمر بن حمزة بن المظفر العلوي وهو في خدمة أمير المؤمنين، وممن أضيف إلى أخيه إبراهيم كتب إليه بشيء من المستحقات لقوم من بني فضيل وهم في [137ب-أ]خدمة الإمام فوقع لهم توقيعاً وعين لهم أشياء قليلة على جماعة من أهل حوث فطلبوا من رجل مطلباً نزرا دون دهمي قفلة فجرى بينهم وبين الرجل كلاماً فأخذوا منه رهناً في ذلك، والرصاص في خلال ذلك يتطلب شيئاً يتعلل به فلم يعثر على شيء فلما علم الرصاص أمر لمن كان في حوث من العلماء والشيعة ومن يقول بقولهم به، ونمق لهم الكلام، وجعل يكني عن نقص الإمام، وأمرهم أن يعدوا السلاح فأخذوا سيوفهم وقسيهم ودرقهم ووقفوا عنده، وأمر للشريف، وكان على نحو من ميل في قرية تسمى الصلصل فأمر للشريف جماعة بسلاحهم فبادر إلى إجابته لما كان يعرف من أمير المؤمنين من ترك مخالفة الرصاص فلقيه من أنذره من سطوة الشيخ الرصاص فلم يصدق بذلك حتى دخل دار الرصاص فلما دخلها وجد القوم متأهبين بالسلاح والعدة، فلما دخل على الرصاص إلى مجلسه ثم قعد مستمعاً لما يقول فأخذ الرصاص في توبيخه، وأذيته تم ثمر به فسلب، وأخذ بعض لباسه فشجه شجة عظيمة ثم ضربه ثانية وثالثة كل ضربة يسيل منها الدم، والشريف عند ذلك ينادي
ببني هاشم فلا يجيبه أحد، ثم أمر بثيابه فأوقد لها في حجرة داره فحرقت بالنار، وخرج الشريف مضرجاً بدمائه، وهو في عشر السبعين السنة ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ولا يعرف بخسيسة، ولا فضيحة، ولما خرج صدر من حينه من حوث معداً حتى وصل إلى بيت ردم فشكا على الإمام وعلى من حضره من كبار الشرف والعلماء والمسلمين فبلغ ذلك مبلغاً عظيماً عند أمير المؤمنين، ولم ير إلا الصبر الذي هو شيمته وخليقته، وكتب كتاباً جامعاً إلى العلماء والمسلمين بحوث فيه شكية عليهم مما جرى منهم، ويذكر لهم أن هذا الشريف من أولاد علي بن أبي طالب عليه السلام ذو شيبة ومكان في أهله، ففعل فيه الذي فعل فلا استحى من الله تعالى ولا من أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولا استحيا منا وأنتم، وأنتم تعلمون أنه لو جرى من جهتنا إلى عبد أو نحوه من عبيد الشيخ الرصاص لعظم ذلك، وأنتم تعلمون أن لله حدوداً قد حدها، وهي القتل إذا وجب، وكذلك القطع، والجلد، وهذا الفعل مخالف لذلك من النهر، واللكز والشج وغير ذلك من الكفت وتحريق الثياب ولا أقل من إبلاغ الشرع النبوي لتكون الأشياء على ثبات، والأحكام على استقامة، هذا هو معنى كلامه عليه السلام بل أكثر لفظه.
فلما بلغ كتاب الإمام عليه السلام أبرق الرصاص وأرعد وأتى بألوان الأحاديث وأوهم من أصغى إليه أنا لا نؤمن من أن يقصد بالعسكر على حين غفلة، وخوف ناسا لم يرجعوا إلى عقولهم فخافوا، وكان الأمير الكبير شرف الدين الحسين بن محمد بن الهادي في حوث في ذلك الأوان فأوهموا أنه مطلوب معهم، فنفر الرصاص، وأحمد بن حنش وإبراهيم بن فليح، وأحمد بن علي الضميمي، وحنظلة بن أسعد بن حارث واستدرجوا الأمير الكبير الحسين بن محمد، ونفر معهم جماعة إلى بطنة عذر فلما تبين للأمير شرف الدين [138أ-أ]الحسين بن محمد أنها خدعة رجع وصد القوم على صورة المرهق حتى بلغوا حصن الظفر المسمى بسخطا وقد كان لهم أكاليم وخدائع مدسوسة ودروس وأمور مكتوبة وقواعد لمكرهم مأسوسة، وكان صدور القوم إلى الظفر لأيام خلت من رمضان سنة خمس وخمسين وستمائة وكان الرصاص يظهر لأصحابه الذين معه أمراً ويسر غيره، ولما بلغ إلى أمير المؤمنين غضبهم، ونفورهم لغير سبب جرى ولا التباس طرأ بل أساءوا، واستوحشوا من فعلهم لم ير إلا أنه يسترضيهم، ويتعمد لهم خوفاً من ثائرة الفتنة، وإبقاء لعظيم المحنة، ومحاذرة أن يكون ذلك سبباً لانشقاق العصى، فكاتبهم المكاتبة اللطيفة وكاتب غيرهم من المسلمين، وأمرهم بالتقدم إليهم، وكلما وصل إليهم كتاب أو أرسل إليهم رسولاً أبهموا عليه الجواب، وأخرجوه من باب إلى باب، وأظهروا تارة أنا لم نغضب لأمر راجع إلى نفوسنا، وإنما رأينا أشياء توجب النكير فإن غيرها الإمام وفعل فنحن راضون، وإلى ما كنا عليه راجعون، ورسلهم تترى إلى الحسن بن وهاس سراً، وإلى كل رئيس من الشرف، والعرب ممن يطمعون في خديعته يأتونه من حيث يهوى، وجعل الرصاص يرقي الناس في خداعه إلى مراتب منهم من يطلعه على رفض إمامة المهدي عليه السلام وأن الحسن بن وهاس قد صار أولى منه بالأمر وسيفعل لك ويصنع، ومنهم من يقصر به على ذلك، ويقول إن بدلت الولاة، وعدلت في الرعايا رضينا بذلك، ومنهم
من يقول له إنما غضبنا في نفوسنا، والإمام من حاله من شأنه، وأصحابه لا علم لأكثر منهم بغور ما عنده، ثم إن الإمام عول على الأمير الحسن بن وهاس في التقدم إليه، وعقد له أنه يرضيهم فيما طلبوه من تبديل الولاة الذين طعنوا في ولايتهم وكتب خطه وأشهد على ذلك، وتقدم الحسن بن وهاس إلى مسلت فالتقى هنالك ببعض من يقول بقولهم ويرى برأيهم فأسروا وخادعوا ودسو إلى قوم أحاديث، وقد كان الإمام أمر أخاه إبراهيم بالقدوم إليهم مع الأمير الحسن بن وهاس فغلب عليه الجهل والخطأ فلم يفعل فجعل ذلك الحسن بن وهاس علة في تأخره عن القدوم، وغرضه في شيء أخر، ثم كرر الإمام الرسل إليهم فأمر الشيخ الطاهر عبد الله بن يحيى إلى الظفر فلم يلتفتوا عليه طائلاً، فأمر الأمير الكبير أحمد بن محمد بن حاتم إليهم فأبهموا عليه الجواب، وبلغني أنهم استخلفوه على كتم ما يلقون إليه ثم ألقوا إليه سراً في بعض مرادهم فلما رجع إلى الإمام أعلمه بذلك، وحذره على الجملة من القوم، وأنهم في غير ما هو يريد. والله أعلم.
(قصة وصول الأمير الكبير شرف الدين الحسين بن محمد بن الهادي إلى الحق عليه السلام)
لما تبين له أن الرصاص وأصحابه إنما غضبوا لغير الله كاتب في الوصول إلى الإمام فأذن له فوصل إليه إلى حصن مدع فاستقبله الإمام بأحسن قبول وأكرمه، وعظم شأنه، وراجع الإمام في مسائل قد كان اعترضه الشك فيها فأجابه أمير المؤمنين[138ب-أ] بأحسن جواب فتاب إلى الله واعتذر إلى الإمام وأقام عند الإمام على أحسن حالة وأتم كرامة.
رجع الحديث
ثم إن القوم كاتبوا وراسلوا إلى صنعاء إلى الأمير الكبير أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام واستدعوه، وهو في ذلك الأوان وجميع أصحابه في دار الحرب، وطلبوا منه أشياء يستترون بها، في الظاهر التوبة وفي الباطن الاستنصار بالسلطان، وإمدادهم بالمال والرجال، ويجاهرون الإمام بالخروج فلم يبرحوا بالأمراء يفتلونهم على الذروة والغارب حتى ساعدوهم وأمروهم أن يحلفوا للأمير الحسن بن وهاس، ويجعلونه أميرهم فاجتمعوا إلى الخشب وتواثقوا وأعطوا الحسن بن وهاس عهودهم، وعزم القوم المجاهرة لحرب الإمام والخروج عليه بغياً وعدواناً رغبة في الدنيا، وفي خلال ذلك كاتبوا ابن عمه الأمير أحمد بن القاسم، وأسروا إليهم أنهم كتبوا الرسائل إلىالآفاق برفض إمامة الإمام، وأنهم قد عزموا على الخروج عليه، وطلبوا منه أن يحتمل للأمير الحسن بن وهاس القدر الذي كان إلى الإمام من البلاد التي في ولايته وأنا باق منهم على الولاية فلم يرغب في ذلك حمية وأنفة. والله أعلم.
(قصة خلاف الأمير أحمد بن القاسم، وأسره وما كان بعد ذلك من البلوى والامتحانات، والأزمة التي لم يسمع بمثلها فيما مضى من الأزمان)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: كنت عند الأمير أحمد بن القاسم في حديث المصالحة بينه وبين الإمام والرجوع إليه وإلى الأمر فيما بيني وبينه على تسليم بعض الحصون إلى نواب الإمام، ويبقى في يده بعضها وألححنا في ذلك فلم نشعر يوماً من الأيام حتى بلغ العلم أن الأمير إبراهيم بن يحيى بن علي أخو الإمام لأمه قد طلع من الشرف إلى حجة، وأنه يريد الحرب لابن عمه أحمد بن القاسم فعند ذلك انتقض ما كنا قد فعلناه في الصلح ورجع الأمير أحمد بن القاسم عن ذلك فصدرت عنه إلى الإمام فوصلت إلى مدع آخر يوم الأربعاء، ولما حققت للإمام عليه السلام ما كان من الكلام ضاق صدره، وبلغ ذلك عنده كل مبلغ وأيقن أن الرصاص قد خدع ابن عمه وأنه قد مال إلى الغز فابتهل إلى الله تعالى بعد صلاة المغرب ودعا عليه وصادف ذلك الوقت فيما سمعنا خروج الأمير أحمد بن القاسم غازياً ليقع بخدم الإمام في ملحاح فسرى بنفسه في عسكر كبير حتى بلغ ملحاح فأسر جماعة من خدم الإمام وقتل عسكره بعضاً من الناس وانتهبوا أموال الناس وتفرقوا عسكره كلا بما صار في يده من الحطام حتى لم يبق معه إلا القليل، فلما بلغ بلاداً قوم يقال لهم بني مجيع رأوه في قلة من الناس وثبوا عليه حتى التجأ إلى رجل منهم فأدخله منزله، وأغار جماعة من خدم الإمام فقبضوا عليه، بلغ العلم إلى الإمام عليه السلام منتصف النهار يوم الجمعة فلم يكد يصدق بذلك حتى وصلته المكاتبة بتحقيق لزمه [139أ-أ] فأمر عسكراً بإيصاله إليه إلى مدع، فلما وصل أنفذه إلى عزان حصن الأمير أحمد بن محمد بن حاتم وأمر بقيده والشدة عليه، وقد كان في نفسه عليه السلام نزول حجة ثم المخلافة، وأمر الناس بحربه والمحاط على الحصون فكان ما كان من لزمه، وعند ذلك قر خاطره عليه السلام وأمر إليه من يخاطبه بتسليم الحصون فإنها عهدة للمسلين، وهو لا يدعه إلا في موضع منها لحرمة ومن يختص به فأجابه بالمساعدة قولاً و أمير المؤمنين غير واثق
بذلك منه، ولما علم الرصاص بما جرى من الأمير أحمد بن القاسم وما جرى عليه أبدوا المشاجرة، وحلفوا من أمكنهم من القبائل على حرب الإمام وعزموا على الوصول إلى الظاهر ودخول ظفار وإثارة الحرب، ولما تحقق الإمام ذلك وظهر للناس فيه شك كتب عليه السلام كتاباً إلى المسلمين يحذرهم من كيد القوم، ويأمرهم بحربهم وأخذهم، وهذه نسخة الكتاب حرفاً بحرف:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه
من عبد الله المهدي لدين الله أمير المؤمنين أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وآله، كتابنا هذا إلى كافة قبائل همدان بالجهات الظاهرية وغيرها من الأقطار، سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم ونسأله التوفيق والهداية لنا ولكم، والعصمة من الزلل في القول والعمل.
وبعد.. أدام الله توفيقكم وتسديدكم، ودمر حاسدكم وعنيدكم، فإنكم لا تجهلون ما أنتم عليه من الاستمساك في الدين الشريف، والاختصاص بموالاة أهل البيت عليهم السلام، والكون على مذهبهم الذي من تمسك به نجا ومن وتخلف عنه غرق وهوى أخذاً بما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)) وغير ذلك من الأخبار التي قضت بوجوب مبايعتهم ونجاة من قفا منهاجهم، وسلك أدراجهم فكان ذلك لكم من أعظم الحظ، وأبلغ الأجر حيث أخذتم دينكم عن من أمرتم باتباعه، ولما كان الأئمة هم الهداة إلى الدين، والدعاة إلى الحق أوجب الله طاعتهم على الخلق، وأوجب نصرتهم على أهل الحق، وقمنا على المنهاج الذي هم عليه، وهو إحياء السنة، وإماتت البدعة، ندعو إلى ذلك ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، فأحيا الله بناً ما درس من الدين، وأمات بنا ما كان حياً من جحود الجاحدين، وعتو العاتين حتى علت كلمة الحق، وعظم سلطانه، وخمدت نار الباطل وتضعضعت أركانه، نرجوا بذلك ما أعد الله تعالى لناصري الحق من الثواب الجزيل، فلما صارت هكذا استبطأ كثير من ضلال هذه الأمة، ورافضي الأئمة بقانا على هذه الطريقة المحمودة، وراموا تغيير هذه السنة المأثورة[139ب-أ] المشهورة جرياً على ما مضى عليه سلفهم الرافضي لأئمة الهدى من وقت إمامنا المنصور بالله عليه السلام يطعنون على الأئمة بما يجهلون حكمه، يرومون بذلك الترأس في الدنيا، والفساد على من أمرهم الله باتباع أمره ، وكنا نتصور أنهم يذكرون نعمة الله تعالى عليهم فكم من ذليل منهم عز بسلطاننا، وكم من فقير غنى، وكم من خامل أنبهنا ذكره، ومن غني أظهرنا أمره فجحدوا هذه الأشياء، وأعجبهم ما هم فيه من التقلب في نعم الله تعالى، فنفروا أشراً وبطراً وهم أبناء الدنيا يعلم ذلك من خبر
أحوالهم، وعرف أقوالهم وأفعالهم، وانتهى بهم التمادي في التمرد والضلال إلى أنهم أوهموا الناس أموراً يريدون بها الدين كما يفعله الباطنية، وبثوا دعاة لهم من تأليب أعداء المسلمين يريدون أنهم يجعلون من الباطل حقاً، وليس كذلك بل الحق لا يساغ من الباطل، فلما رأينا ذلك أصدرنا إليكم هذه المطالعة تعريفاً لكم، وتذكيراً وتخويفاً تعرفون بها ما يرشدكم، وتبعدون بها عما يوبقكم ويهلككم {ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم}.
اعلموا أسعدكم الله وهداكم، وأرشدكم وتولاكم أنكم قد أخذتم من نصرة إمامكم بأوفر الحظوظ، وكنتم من السابقين إلى دعوته ، والناهضين في طاعته ونصرته، وقد قصد هؤلاء القوم المتبدعة أن يبطلوا أعمالكم، وأن يغيروا أحوالكم، وذلك ما لا يصلون إليه إن شاء الله تعالى لما عرفناكم من ثباتكم، وصلاح بصائركم، ودون ما يرومون منا سيوف الحق التي أخذتم من أهل الباطل مأخذها، وفرقت جموعهم، وتلك السيوف باقية مع البصائر الباقية، والآراء الصائبة، ونحن نأمركم بالبراءة منهم والبعد عن مخالطتهم، وترك إجابة من يأمركم بوصولهم، فإن المفسد من حقه ألا يسمع ما قاله، ولا يتبع ما أمر به بل يعامل بمعاملة المفسدين، ويسلك به من عارض الحق والمحقين، ولا يغتر بغرورهم أحد منهم فأنتم على بصيرة عرفتموها يقيناً، ودخل فيها هؤلاء المتبدعة من غير قهر ولا إكراه، بل اختياراً وبصيرة، فما بال تلك البصائر رجعت جهلاً لو لا عمى القلوب، وقلة الأديان، وإيثار الدنيا على الآخرة، ومحبة الرئاسة في الدنيا بغير الحق، ومن كان كذلك فليس له عندنا إلا السيف الذي حسم مادة ما وقع من البدع، والاعتراضات على أئمة الهدى والسلف الصالحين، فاحفظوا ما أمرناكم به، واعتمدوا عليه، واقرعوا جهالكم عن الإغترار بزخارفهم، وإنها {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جائه لم يجده شيئاً}، والغرض من اجتماعكم وتعريف بعضكم لبعض بما ذكره والمساواة في هذا، والبعد عن الوقوع فيما فيه هلاككم في الدين والدنيا، فأما عذرهم في نفورهم بأنهم ما صدوا إلا لإزالة الجور عن العباد فهذه كلمة حق يذكرونها لإظهار بدعة يظهرونها، وأين كانوا عن هذا الجور في السنين[140أ-أ] الماضية، وهم الذين ساروا على المطالب وأمروا بها، وأفتوا بوجوبها فلما أرادوا أمراً من الفساد غطوا عليه بهذه العلل الباطلة التي أحدثوها كذباً وبهتاناً وظلماً وعدواناً، وهذه الإمامة ثبتت بالله لا بهم فجاءوا إليها ولم يكرههم أحد
في الدخول فيها ثم انقلبوا على أعقابهم: {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} وقد أمرناكم بإخافتهم، ومباينتهم فقد تحققنا فسادهم، وتبينا عنادهم، والدين لا محاباة فيه من أراد أن يغير ديننا ويفسد علينا مذهبنا رددناه عن ذلك صاغراً، ولا حباً له ولا كرامة بالذي رد به آباؤنا أمثاله من رفضة الحق وهذا بعد أن أعذرنا عليهم بالإرسال، والاستدعاء والإقبال، فكرهوا وزعموا أن يتوبوا قوماً مطيتهم الكفر، وشريعتهم الظلم لينتصروا بهم على من حمى حوزة الإسلام، وقمع عواجم الكفرة الطغام هيهات دون ذلك ما يعرفونه من تلك الهمم العالية، والسيوف الماضية، إلى آخر ما ذكره من قوله.
وهذا الكتاب قدمناه ونحن غير متأخرين عن الجهات لقمع هذه النواجم، وتعفية آثار هذا المآثم، فاعملوا بما أمرناكم به وتأهبوا للقاء، وتأهبوا لإزالة هذه التمويهات، أمدكم الله برعايته، وسلك بكم طريق رشده وهدايته، وكيف ستنصرون بمن قد عرف من طريقته أنه لما تمكن من أهل الإسلام مرة في صعدة ارتكب العظائم من قتل العلماء، وأسر الفضلاء، وأخذ المسلمين، وظلم أهل الصلاح والدين، ومرة في الحصبات قتلوا عيون الزيدية، وقطعوا رأس حميد، وضلوا يتلعبون به، كيف يراد الصلاح ممن أمره مبني على هلاك الإسلام، وهذا لا يشتبه على عاقل، ولا يلتبس على ذي نظر كامل.
والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله.
وكان الحسن بن وهاس في حصن ظفر مقيماً يكاتب العلماء وكبار الشرف وكبار الناس ألواناً من المكاتبات والتدليس، ويدس بالطعن على أمير المؤمنين تارة، ويكني كناية صوفية تارة، ويصرح تارة، ولا يدوم على أسلوب واحد بل ربما تأتي إليه الجماعة من الناس فيتحدث معهم أولاً في ضياع الدين، واستضهاد المسلمين والضعف والمساكين، ويشكوا للرصاص وحزبه وأنهم غضبوا الله تعالى لما رأوه من ولاة الإمام من الجرأة والجور والاستخفاف بالمسلمين، ونقف ههنا فإذا فهم ممن أتاه أصغى إلى كلامه، وعلو.... في حبالة خداعة طعن حينئذٍ على الإمام في أصل الإمامة، وربما يفصل الصاحبين فيتحدث مع أحدهما بحديث غير ما يحدث به الآخر كما يفعله الباطنية في مذاهبها وحيلها، وكان ممن استهواه بالمكاتبة والمراسلة الشريف السيد فخر الدين المطهر بن يحيى بن الهادي عليه السلام، والفقيه العالم قاضي أمير المؤمنين محمد بن أحمد بن محمد بن أبي الرجال، فاختلفا إليه وكاتبهما، وتصورا أن له غرض صحيح حتى كشف الله سريرته، وأبدى للعالمين مكنونه، فكتبا إلى أمير المؤمنين كتاباً يخبرانه [140ب-أ] بما كان بينهما وبين الحسن بن وهاس، وهذ جواب كتابهما:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم
من عبد الله المهدي لدين الله أمير المؤمنين، ورد كتاب الشريف السيد الفاضل المعظم شرف الدين، والفقيه الأجل الطاهر تقي الدين شيد الله مجدهما، وأسعد جدهما، وأتحفهما بأفضل السلام، وأكمل التحية والإتمام، وتحققنا ما ذكراه من وصول كتاب أحسن بن وهاس إليهما، وكلامه الذي يقفوا فيه آثار الصوفية والمقعقعين، ونحن ممن لا يقعقع عليه إنا لشنان، ونحن عاتبون عليكما في الأجوبة الأولة لأنه لكما، وترك الجواب عليه فكان يصلنا كتابكما بذلك، ولعل لكما عذر فأما هو بمعذور لأنه كتب تذكره ناقص فيها ذكرا أنه يريد التوصل والتبادل، وإفشاء السلام، ولم يعمل شيئاً من ذلك لأنه سلم عليه فما رده، وأمرناه بالوصول فما وصل بل قاطع بأن كتب إلى الجهات وبث دعاية فيها يوهم الناس إيهامات ويرمز لهم رموزاً وهي كانت في نفسه من مدة قديمة استبطأ خروجها فأخرجها، وهو يظهر للناس أنه يريد صلاح الشيعة، وجمع كلمة أهل البيت عليهم السلام، وما ذلك أراد، فأما الشيعة فهو ذكر لنا يوم وصل إلينا إلى بيت ردم بعد خروجهم من حوث أنه رأى في المنام أن فداه ثور وأول ذلك أن خروجهم فتنة العجل فمتى قد رجع من هذا.
فأما قوله: ليس دونه دون ما يريد غير أنه يكتب إلى كل حصن فيحيط من بإزائه عليه، فهذا من الأباطيل التي هو محمول فيها على أحد وجهين:
أما رؤياه في المنام فمناماته لم يصح لنا أنها وحي، وإما تخيلة من التخيلات السوداوية فأهل السوداء يتخيلون أكثر من ذلك، وإنما جازت عندكم هذه الأساطير والتمويهات التي قد حازت على ضعفة الناس، وروجها في خلوة منه بنفسه ومن دون ما يروموه فأمر الله تعالى بإعداده لمن قصد الإفساد في الدين والبصيرة نافذة، والنصر بحمد الله باق والعقول سليمة، والآراء قويمة.
فأما قولكم: لم يكن يصلح أن يبدي بشيء، فلم يبدأه بشيء حتى بث دعاته في الأقطار يعلن بأنه ليس على الحق إلا هو وأنه يدعوهم الاستعانة بهم على ردنا عن الضلال، ومتى ضللنا أيوم حاربنا الملاحدة الجاحدين؟! أو يوم حاربنا الظلمة المتمردين؟! أويوم أعلينا أمور الدين وقمعنا براجم المفسدين؟! وإنما الضلال من ادعى ما ليس له، واستعان بجبابرة الأمة على محاربة إمام المسلمين.
فأما الشيعة فإنهم وإن كانوا علماء فليسوا بأعلى حالاً بعد عنادهم وشقاقهم من الذين خرجوا على أئمة الحق الهادين كأصحاب علي عليه السلام وهم عيون أهل بدر ووجوه الصحابة فلم يعصمهم ذلك من خلاف الحق، وهلم جرا ما قام إمام إلا وعارضه من الشيعة من أفسد عليه، هذا إمامنا المنصور بالله عليه السلام خالف عليه من هو أكثر من هؤلاء علما وأبلغ برئاسة كيحيى بن جعفر، والحواسي، وأبي القاسم التهامي [141أ-أ]وكبار المطرفية كانو أعظم عند الناس موقعاً من هؤلاء فلم يستوحش لفراقهم، وعاملهم بما عامل آباؤه أمثالهم من أهل البدع، وكذلك يفعل من رجع بالحجة الواضحة، والبيان الظاهر وإلا حكمناه إلى ما يرده صاغراً إلى الحق.
ومن العجايب أن الحسن بن وهاس لم يزد يعرف لنا اسماً يستحل أن يذكرنا به ولو تحدثنا في هذا الشأن علم الناس من هو معروف، ومن ينتهي به الحال إلى الجهل، فأما الذي يجري من ولاة الأئمة فلو كان مبطلاً لإمامتهم على الإطلاق لأبطل نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما جرى من ولاته، فقد قتل خالد بن الوليد بني جذيمة ولم يعلم أن أحداً من ولاتنا انتهى إلى عشر العشير مما فعل فلم يؤثر ذلك في نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل خبر ما فعل وأن فعله في بني تميم لم يبطل إمامة أبي بكر عند من يعتقد إمامته، وإنما الجهلات بأمور الدين توجب هذا وأكثر منه، وأكثر السير اجتهاديات فهلا حملوها على اختلاف الاجتهاد، ولم يحملهم الحسد والبغي على بطلان ما قد علموه علماً يقيناً من ثبوت هذه الإمامة التي رسخت أصولها، وبسقت فروعها، وأناخت بكلكلها على أعداء الدين، وثقلت بوطأتها على من نفسه ......... على الأئمة الهادين.
فأما احتجاجكما بفعل علي عليه السلام في أنه لم يبدأ الخوارج بحرب، فليس الكتب حرباً، وإنما هي إنذار وتحذير من كيد هذه الفرقة التي قد رامت مكيدة الإسلام، ومهما التبس من أمرهم فلم يلتبس ما أمروا به إلى أحمد بن قاسم أنك تمسك الحصون التي في يدك، ولا تسلمها إلى من استودعك إياها، وكل مسلم منا يعرف أن هذا من أعظم الفساد على المسلمين؛ لأن أحمد بن قاسم لا شك في كفره، وخروجه من الدين بموالاته للغز ورهينته عندهم واستنصاره بهم، وكذلك فإنهم كتبوا إلى الأمير شرف الدين الحسين بن محمد بأنه لا يصل إلينا يرومون بذلك بعده من الحق، ونحن الموكلون بقمع الفساد، وأهله وإظهار [.....بياض في المخطوط.......].
وهذه نسخة جواب كتاب في ذلك الأوان إلى السيد العالم المطهر بن يحيى والفقيه محمد بن أحمد بن أبي الرجال من السيد شرف الدين الحسين بن محمد بن الهادي عليه السلام أوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله.
ورد الكتاب الكريم من المجلس العالي النبوي الحسني اليحيوي الفخري فخر الملة والدين، المستصفى من عنصر الشرف المبين، والحضرة العالية الأجلية الفقيه الأجل الأعز العالم تقي الدين وخيرة المسترشدين جدد الله سعدهما وأورى في الخير زندهما متضمناً سني سلامهما وحفي إلمامهما فالله تعالى يخصهما بسلام أصحاب اليمين إذا قيل لهم ادخلوها بسلام آمنين، وقيض سرعة اجتماع لا يشوبه انصداع إلى قوله منطوياً على ما حققناه [141ب-أ]من تفرق الآراء، واختلاف الأهواء، وتلك سجية قد هلك بها كثير من القرون الماضية، والأمم الخالية كما أنبا الله رب العالمين بقوله في كتابه المبين: {وما اختلفوا إلا من بعد ما جائهم العلم بغياً بينهم} ونظائرها كثير، واختلف الصحابة وهم خير أمة أخرجت للناس، وقد عرفوا الآيات، وشاهدوا المعجزات حتى قتل منهم الجم الغفير، والبشر الكثير، قتل منهم في حرب الجمل مقدار ثلاثين ألفاً، وفي صفين مقدار مائة وعشرين ألفاً أو دون ذلك أو فوقه، ومرقت فرقة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وخرجوا عليه فقتلهم إلا القليل، قتل منهم ليلة الهرير ستمائة قتيل فهذا غير بدع، وقد بين الله تعالى الدليل، وأوضح السبيل {ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن بينة} ووالدنا أمير المؤمنين مع ظهور فضله، وعلو قدره، ووضوح أمره لم ير الحرب للبغاة إلا بعد عرض الحجة والبصيرة، ثم قاتلهم وقال: لم أجد بدا من قتالهم أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف بمن دونه فقد كان الواجب هو التبصر والتبيين، والسؤال عما التبس من السيرة المهدية، فذلك عادة علماء الزيدية مع أئمتهم السابقين، اعترض الهادي عليه السلام في المعونة فأجاب بجواب معروف، وفيه بيان غير مستتر بل مكشوف، واعترض على المؤيد بالله فأجاب بما هو مسطور، وكذلك الأئمة بعدهم كالمتوكل على الله ، والمنصور بالله عليهما
السلام كاعتراض الفقيه العلامة أبي القاسم التهامي السليماني رحمه الله، واعترض من اعترض في السبا ونحو ذلك، وأجوباته محفوظة معروفة فما على السائل والمسئول نقص، وقد كان أصحاب علي عليه السلام يعترضون عليه، ومن جوابه لهم: أيكم يأخذ عائشة في سهمته، وهؤلاء العلماء قد أشرت إليهم مع الفقيه مسعود بن عمرو بما عرفه، ولم يرجع منهم جواب، وأمر على يد الأمير مجد الدين بما عرفه أيضاً، وأنكرنا كما أنكروا، ووصل البيان من الإمام والتبصر منا ولا غضاضة علينا ولا نقص في ذلك، وقد سألت عن بعض ما أنكرت فأجابني بأحسن جواب، وأنا غير متخلف من السؤال عما بقي، وما طلبناه من العناية في المراجعة والعلماء بين أحد وجهين: إما أرادوا الوصول إلى الإمام لقيناهم الرفاقة المؤكدة ووصلوا، وباحثوا وبينوا وأخذوا البصيرة، وإما صدروا الاعتراضات في كراسة وصدورها إلى عندي، وراجعت فيها الإمام وأمرت إليهم بجوابه، وما يتعبوا فيه عادوا إلى جوابهم ثانية وثالثة، حتى يتبين لهم أنه الحق ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول وأولي الأمر لعلمه الذين يستنبطونه منهم، قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو السنة العادلة {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [142أ-أ].
وأما قولهما: أنه بلغهما أني بايعت الإمام، فقد بايع الكل قديماً على ما بلغنا، وقد بايعته على أني منه في طاعة الله تعالى موال لوليه الذي هو ولي الله ومعاد لعدوه الذي هو عدو الله وهذا هو الذي ينبغي أن يتابع عليه من الأئمة، أما ظاهر اللفظ أو مضمرا فيه حتى لا يجوز خلافه فما في هذا من مطعن أو خلل في الدين.
وأما ما ذكره الولد فخر الدين من أني أجوب السيد شرف الدين الحسين بن وهاس إذا جوبت جواباً شافياً رضينا فليعلم أيده الله تعالى أن كتابه قليل، وهو عكس الشرع والعرف قال الله تعالى {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} وهو إلى من يعبد الشمس من دون الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبتدئ بذلك في كتبه، ويأمر به حتى أني لا أعرف له كتاباً إلى مسلم أو مشرك إلا وفي أوله: بسم الله الرحمن الرحيم.
(حاشية) قال المصنف: هذا يدل على نهاية لأغوية ومحبة البدع، والإعراض عن سبيل السلف رحمة الله عليهم.
رجع
قال: ومنها أنه حذف السلام مع أنه أول كتاب منه إلينا مذ كان وكنا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجعل ذلك إلى بعض كتبه إلى المشركين على ما مثاله: سلام عليكم وإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، وربما يكتب إلى آخرين السلام على من اتبع الهدى.
ومنها: أنه ذكر أنه بلغه أحاديث لم يعينها فنجيبه عنها مفصلاً.
ومنها: أنه صدر الوقعة لحق الكبر والرحم، وحق الهادي عليه السلام ولم يبين فيها غرضه الذي لأجله صدرها رعاية لهذه الحقوق، وقد أجبناه بجواب مثل ما ذكره، وجرينا عل سننه، والله تعالى نسأله أن يهدينا إلى مراشد الأمور، ويأخذ بأزمة قلوبنا إلى الحق، ويعصمنا عن اتباع الهوى، وتقليد الرؤساء، وأن يصلي على محمد وآله الأكرمين.
قال الراوي: فلما وصل هذا الكتاب وقرئ في المجامع تحقق للناس بغيهم على أمير المؤمنين وانكشف باطن سرهم، وتبين للمخلصين دقيق مكرهم، فحذر الناس منهم وجرى عليهم اسم المبتدعة الناكثة، ثم إن الأمراء الحمزيين انتهزوا الفرصة، وبذلوا للقوم ما يحبون منهم من استماع كلمتهم، والمسير بين أيديهم.
(قصة خروج الحسن بن وهاس من ظفر إلى ظفار ثم إلى الظاهر وطلوع الرصاص وحربه من المغرب)
ثم إن الحسن بن وهاس كاتب القبائل في جهات الظاهر وغيرها وأورد على ضعفتهم شبهاً ومناهم بكشفها، وزخرف لهم مقالات كاذبة، واستهواهم بخدائع باطلة وأظهروا البراءة مما بينهم وبين الإمام، وأذنو بالحرب، وأمر لمن كان حاضر من الأمراء الحمزيين فوصلوا إليه، ونشر رايته، ودخل ظفار فرقت به طعام التجار، ونهضوا من ظفار[142ب-أ] في عسكر من الخيل والرجال وخرج معهم جماعة من متفقهة المبتدعة حتى وصلوا إلى مسلت وأمسوا فيها ليلتهم، وأظهروا للناس من التعفف والوقار، وتحدث الحسن بن وهاس في مجمع من الناس، وطعن على أمير المؤمنين بالمطاعن الواهية، والتحرضات الباطلة، ثم التقى بالشيخ الرصاص وأصحابه، ثم نهضوا بأجمعهم بعد ذلك إلى رأس بني غثيمة وتلك النواحي، ثم طلع إليهم الرصاص وأصحابه، فلما التقوا به كان جعل رأيهم سب أمير المؤمنين وأذيته وإضافت الجور إليه، وأما من الأكاليم المتناقضة، والأكاذيب الفاضحة مالم يكن يخطر على بال، ولا يتجاسر عليه أحد ممن يتمسك بالعلم والدين حتى صار من سمعهم ممن هو يطلب الدنيا يسخر بهم، ولما ظهر ما كان نكثه من أصحابه الذين كانوا معه عرف بعضهم أن فعله خديعة وأن جعل العصب إلى الظفر لما يروم من الرئاسة ذريعة فرجع، وأسر إلى أمير المؤمنين التوبة إلى الله تعالى منهم الفقيه العالم أحمد بن علي الضميمي وغيره، ونهض القوم من الظاهر، ولما رأى الأمراء الحمزيين بين يديه بالخيل المطهمة والجنود المجندة تكلم الفقيه أحمد بن حنش وقال لبعض أولاد الإمام المنصور بالله: الصواب القدوم لنحط على الرجل في حصن مدع، فأكثر ما ينفق ألف دينار أو معنى ذلك فعجب الناس من قلة عقله وتمييزه، ثم إن القوم حطوا في دماج، واختلف إليهم الرسل ممن ظاهره الصلح وباطنه معهم وبلغ إليهم العلم بقدوم الأمير الكبير أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام من مدينة صنعاء فيمن معه فهبطوا إلى حمدة من البون الأسفل.
أخبرني الفقيه الطاهر العالم أحمد بن علي الضميمي أنهم لما التقوا تحدث الرصاص مع الناس حتى سئم الناس وسخر به كثير ممن هو محارب للإمام، ولقد أصابه في حلقه من كثرة الهذيان واختلاف البهتان والسب لإمام الزمان بحة، ولقد تكلم من بعد ارتفاع الشمس إلى قريب من منتصف النهار حتى صار لعبة للناس ومثلاً في الإقذاع والسفاهة، وانصرف القوم بأجمعهم إلى ضحيان، وكتب الرصاص كتاباً إلى أمير المؤمنين على ألسنة الجميع، وتصنع في الكلام وزخرفه لتختدع قلوب العوام، وهذه نسخة الكتاب حرفاً بحرف:
بسم الله الرحمن الرحيم
{يايها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}.
موعظة وذكرى صادرة من المخيم المنصور بالبون (سلام عليك يابن رسول الله، فإنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، ونسأله التوفيق لجمع الكلمة وإطفاء ثائرة الفتنة، وصلاح ذات البين على ما يجب ربنا ويرضى.
أما بعد:
فإنك قد اقتعدت[143أ-أ] غارب الخلافة، ونصبت نفسك في مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى الخليفة أن يقفو أثر المستخلف فإن سار سيرته وحذى حذوه فهو الخليفة حقاً الداخل في إعداد الأبرار المصطفين الأخيار الذين عناهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وكانوا بآياتنا يوقنون} وإن تنكب هذا المنهاج، وأخذ في غير هذه الأدراج كان خارجاً عما دخل فيه بلا بد، وانتظمه قوله سبحانه حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} وقد أنبأنا الله عز وجل عن محابه من الأعمال، ومساخطه هي جماع أوامره ونواهيه حيث يقول: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} وقد أنكرنا في هذه السيرة ما علمته، ولم نأل جهداً في النصيحة مكاتبة ومشافهة، وتخويفاً بالله العظيم ما تقلدت من هذه الإمامة الثقيلة، والعهدة الجليلة، وكان ذلك إسراراً فعاد إعلاناً حتى برح الخفا، وجاء السفراء باذلين لحكم الكتاب والعمل على أوثق الأسباب، ثم لم نشعر بعد ذلك حتى صيح بإهدار العلماء على رؤوس الأشهاد، وعثرنا على كتب سارت في البلاد فزاد ذلك النفوس نفوراً، وعاد ما سبق من المواعيد هباءً منثوراً، ولم يبق للكل إلا الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} والآن قد تنازعنا فالرجوع إلى الله تعالى هو الرجوع إلى محكم كتابه، والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الرجوع إلى سنته الجامعة غير المفرقة، والعادلة غير الجائرة، فإن كانت الألفة واجتماع الكلمة فذلك ما كنا نبغي، وهذا من فضل ربي، وإن يكن الأخرى أخذ كل لنفسه من البصيرة ما تثبت به قدماه بين يدي الله سبحانه وتعالى {ليهلك من هلك عن بينة
ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم}، ولا بد من الالتقا والحضور لإحياء ما أحياه الكتاب، وإماتة ما أمات، وليكن لذلك موعد مضروب على الفور، والتقدير لذلك ثلاثه أيام، ويأخذ كل لنفسه من الوثيقة ما شاء، وليكن العددان على سواء، وليكن الموضع موضع نصف للكل مما يحضره جماعة الناس وسوادهم، وذلك هو قاعة على اليمن والبركة إن شاء الله تعالى، وقد صدرت يوم الخميس فليقع الجد والتشمير في هذا اللقاء المبارك كيلا تتجاذب أهداب هذه الدعوة، ويضرب بعضها بعضاً على غير بصيرة من دون إعذار اللهم اشهد، وكفى بك شهيداً، وأنت على ما نقول وكيل: {يايها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله وسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} [143ب-أ].
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم.
الجواب من الإمام المهدي عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله
{يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}.
أما بعد:
حمداً لله على سابغ إفضاله، وواسع نواله، وصلواته على محمد وآله والسلام على صاحب الكتاب الذي أضمر نفسه، وطامن شخصه، فإنه بلغنا كتابه منطوياً على موعظة وذكرى وأهلاً بمن أهدى العظات، ونبه من الموقظات، وإنما لو بدأ بنفسه فوعظها ونظر في أموره فقومها لكان وعظه أنفع، وتذكرته أوقع، قال الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} وخطيب الأنبياء شعيب عليه السلام لما لم يأمن الريب وخشي في موعظته من ثلب أو عيب: {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} فالوعظ من ذلك المخيم لا يخلو من أحد ثلاثة: إما أن يكون من الشيعة فهلا كانت الموعظة قبل رفض الإمامة، وارتكاب غارب النكث، وامتطاء مطية البغي، وإن كان الواعظ الأمير حسن بن وهاس فكيف تقبل موعظ من دعا إلى شق العصا، واصطفى من أدبر عن الحق وعصى، ألا فعل كما فعل سيد المرسلين عند نزول قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، وإن كان الوعظ من الأمراء فهو كما قال ابن عباس لأهل العراق وقد سألوه عن نجاسة الباعوض: أتسألونني عن دم الباعوض وعندكم دم الحسين بن علي.
كيف يجري في هذا الميدان من لم تصح منه أصول الأحكام الإسلاميه حتى يكون حاكماً على الخاصة، وطاعناً في السيرة الإمامية، فأما سؤاله لربه تعالى أن يوفقه لجمع الكلمة وإطفاء ثائرة الفتنة، فلولاه لخمدت نارها، وتوارى أوارها، وهل في الفتنة أكثر مما فعله في شت الشمل، وفرق الكلمة أعظم مما ذهب إليه وانتحله، {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنه سقطوا}.
وأما قوله: إنك قد أقتعدت غارب الخلافة، ونصبت نفسك في مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكذلك أنا لخصال اجتمعت وكملت، وتأييدات من الله نزلت، وسحائب نصر من لديه سبحانه هطلت ، وصاحب الكتاب ومن معه ممن عجم عودها، وشهد وعدل شهودها، ولم تكن بغتة ولا جاءت فلتة، بل اجتمع عليها الخاص والعام ، وتفيأ في ظلها الأنام ، ورعى في روضها سوام الإسلام، وتكلم فيها خطابهم، وشحن من فضلها أدباؤهم بالنظم والنثر بطون الدفاتر حتى قال فينا أميرهم الذين يتفيأون في ظله ويطلبون من فضله[144أ-أ]:
ضاء على الإسلام نورك وانجلى
وقد علمت آل النبي محمد
وأنك لا وان ولا أنت طايش
رضيناك للدنيا، والدين فارتفع
?
?
بوجهك ليل الهم واتضح الدهر
بأنك أنت الفلك إما طغى البحر
ولا مضمر سر الحقود ولا وعر
على النجم مسموعاً لك النهي والأمر
وأما قوله: إن على الخليفة أن يقفوا أثر المستخلف إلى آخركلامه في هذا المعنى، فمتى لم نقف أثر المستخلف بالأمس أم الآن؟ فإن كان بالأمس فأيدينا كانت واحدة، وسيرتنا كانت واحدة، ونصرتنا واحدة، وإن كان اليوم فمتى استحدثنا حدثاً غير ما كنا عليه، ولا سننا سنة غير ما دعونا إليه، وصاحب هذه الرسالة إما أن يكون قائلاً بإمامة المنصور بالله عليه السلام، أو غير قائل، فإن كان قائلاً بها فنحن آخذون دون ما أخذ ومتخذون من الولاة فوق ما اتخذ، وإن لم يكن قائلاً بها فهو عليه السلام لنا قدوة، ولنا به أسوة كذلك من مضى من أئمة الهدى فإنا ماسلكنا إلا منهاجهم، ولا قفونا إلا أدراجهم، وهلم إلى إيضاح الدلالة على هذه المقالة، هذ إمام الأئمة وواسطة عقد العترة الطاهرة الهادي إلى الحق عليه السلام طلب من أهل صنعاء عند خروج بن فضل الملحد ربع أموالهم إفرازاً ومقاسمة ليدفع بها إلى كيد عدوهم، وذكر عليه السلام أن الإمام يجب عليه أن يطلب المعونة من المسلمين عند خوفه على الإسلام، ومتى ترك ذلك كان مخلاً بواجب على أنا نقول: إن كان السائل من هذه السيرة وهو الأمير حسن بن وهاس فليسأل في محضر جامع عن إمامة المنصور وحسن سيرته فإن قال بصحة إمامته وحسن سيرته ففي ذلك لنا جواب، وإن حجم في الجواب وروى للحاضرين وجوه الخطاب كان لهم في ذلك كفاية.
فأما الآية التي ذكروها وهي قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} فهي واقعة على من تنكب طرق ما أمر الله فيها، ونحن قد عدلنا وجار غيرنا، وأحسنا وأساء غيرنا، وأتينا القريب وقطعه سوانا، ونهينا عن الفحشاء والمنكر وارتكبه غيرنا، ولم ينه عنها سوانا، فأساء البغي فلو وفق صاحب الكتاب إلى الصواب ما أورده هل الباغي من خرج على إمام الحق أم من بذل مهجته في صلاح كافة الخلق، قال الله تعالى: {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}.
وأما إنكارهم علينا في السيرة فما علمنا إنكاراً تضمن رداً عن قبيح فعلناه، ولا جرم اقترفناه، وإنما كنا نتناظر في الآراء والاجتهاديات، وعندنا وعند غيرنا من الأئمة عليهم السلام أن اجتهاد الإمام حاكم على اجتهاد غيره ورأينا أولى بالاتباع من رأي غيرنا، وله أن يرجع إلى رأي غيره في الآراء دون الاجتهاديات.
فأما قوله: إن السفراء جاءوا باذلين بحكم الكتاب، والعمل على أوثق الأسباب، فهل رجع السفراء من جهته بجواب، أو شفاهم محاور بخطاب إلا إن يكون …… السراب، والخروج من باب إلى باب، بل خالفوا في ذلك السنة، وعدلوا إلى مطرودة الصوارم والأسنة.
شعر:
علتم حجة الدعوى مطهمة
?
?
جرداً ومطرودة تصمي نواحيها
فكيف تجوز علينا أو على عاقل هذه التمويهات.
فأما قوله: لم نشعر حتى صيح بإهدار العلماء على رؤوس الأشهاد، وعثرنا على كتب سارت في البلاد فلم يقع الإهدار إلا لجماعة نبذوا الإمامة، وخرجوا من أحكام الزعامة، وتسللوا لواذاً، وطلبوا مدخلاً ومعاذا، وكتبوا الرسائل، واتبعوا لهذا الدين الغوايل، وبثوا الدعاة في الآفاق لاستطاع رؤوس العناد والشقاق، وما فعلناه في هؤلاء إلا دون ما فعله آبائنا عليهم السلام فيمن بغى عليهم، وسار معسكر إليهم، فأما ساير العلماء والأخيار فما كدرنا لأحد منهم شرباً ولا روعنا له سرباً، ولا غيرنا له قلباً، وقد أكثر المرسل في كتبه ومحاوراته لنا ولغير ما تلفظ العلماء يظهر بذلك عموماً ليوقع في قلوب الناس ظنوناً ووهوما، وليس الأمر كذلك وإنما أولئك ثلاثة لم يختصوا بهذا النعت دون علماء الأمة، وجماهير العلماء وكبارهم لم يروا بمثل رأيهم، ولا أصيبوا بدائهم.
فأما قوله: عاد ما سبق من المواعيد هباء منثوراً، فالمخلف للميعاد من سعى في الأرض بالفساد، وشبب نيران الشقاق والعناد، وأعلن بظلمنا في المحاضر، وجمع لحربنا العساكر، وفرق الجماعات، وقطع الجمع، وتوصل بالخدع إلى محدثات البدع.
وأما قوله: لم يبق للكل إلا الرجوع إلى كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واحتجاجه بقوله تعالى: {يايها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} فنحن نقول: إن هذه الآية احتجاجين ذكرت أحدهما، وألغيت الآخر تورية للحق، وتأويلاً في الصواب، أليس أول الآية هو الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر، فأين ذهبتم بطاعة أولي الأمر؟ هل من طاعته منازعته، ومن وجوب متابعته مخالفته، ظاهر الآية يفيد أن المنازعة بين المؤمنين وهو حاكم لا بينهم وبين أولي الأمر؛ لأنهم في أول الآية مأمورون بثلاث طاعات، وضمير المنازعة راجع إلى المخاطب في أول الآية، وهم المؤمنون دون من أمروا بطاعته على أن المترجم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هم الرجال، وهل أحد أحق بترجمة الكتاب من الأئمة السابقين، والهداة المستحفظين، ونحن نقول: هلم إلى حكم الكتاب، والسنة على الوجه الذي أوحاه الله تعالى على مثلكم لمثلنا من المواصلة، والمباحثة والمكاتبة والمراسلة، فلو كنا في مبتدأ دعوة وجب عليكم المسير إلينا لإجابة الواعية، وتأدية الفريضة فكيف في إمامة قد شهدتم بثباتها، وأعلنتم من شأنها، وصرتم إليها طائعين، وأعطيتم صاحبها صفقة أيمانكم مبايعين، وسرتم تحت ألويته مشايعين، بايعتما بالحجاز ونكثتما بالعراق فما عدا مما بدا كما قال علي عليه السلام في طلحة والزبير.
فأما قوله: إن وقعت الألفة واجتماع الكلمة فذلك ما كنا نبغى، وإن تكن الأخرى أخذ كل لنفسه من الوثيقة ما تثبت به قدماه بين يدي الله سبحانه فنقول: إن طريق الألفة هو ما أتيناه، وكنا عليه مجتمعين بالأمس من الاجتماع، وكل منا أمن من صاحبه، فإن اعتل أخذنا بمخافة بدلنا له من الوثائق ما يأمن به من دون تحكم علينا فنحن بمخافة بدلنا له من الوثائق ما يأمن به من دون تحكم علينا فنحن الحاكمون على الناس هذه طريقة من يريد السداد، ويسعى في رأب الصدع، وجمع الشمل لا ما ذكره صاحب الكتاب هي حالة المشاجرة لا حالة المراجعة والمناظرة، وظاهر ما هم عليه من الأجلاب بالعساكر، والمشاقه لإمام الحق، والاستعانة بأهل دار الحرب يدل على أن المقصود غير هذا الشأن لبث قليلاً تلفح الهيجاء بحمل سيطلبك من يطلب، ويدنو إليك ما يستبعد، متى ألفيتنا عن اللقاء ناكصين، وبالسيوف مخوفين.
فأما الميعاد لثلاثه أيام فهو ميعاد من أعجب بنفسه، واغتر عن يومه بأمسه.
وأما قوله: كيلا تتجاذب أهداب هذه الدعوة، ويضرب بعضها بعضاً على غير بصيرة فالبصيرة التي كنا عليها وأنتم معنا بالأمس نحن باقون عليها نقاتل بها الآخر كما قاتلنا بها الأول فمن ارتاب فليتبصر بما قلناه من وصول المراجعة، ومباحثة المراسلة، فلسنا ممن يكره الحق ولا يرد الصواب بل نحن دعاة ذلك وأهله، ونحن ندعوكم اليه، ونشهد الله عليكم إن تأخرتم عنه: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بإنا مسلمون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب أليم}.
وصلى الله عليه وآله وسلم.
ولما ظهر للخاص، والعام ما يحاولونه فلم يبق عند كل منصف شك في نكثهم لبيعته، والبغي عليه، والخروج لحربه كما قد كان، قال بعض علماء الشيعة في هذا المعنى شعراً:
ا أنت أول ما خانت بطانته
هذا علي وهذاك ابنه حسن
إن يسعدوك فمن إسعادهم سعدوا
ما دمت لم ترزأ الإسلام رزاية
ما صادمتلك الخطوب الكبر
في كل أمر يريك الله خيرته
أنت افتقرت فؤاد الملك عن كثب
ما بين بدر وبين الفتح معترك
ما هاص أحمد أحد بعد وقعته
لا آسفن على قوم إذا نكثوا
ياحجة الله قد بلغت معتذراً
إن يكفروا أحمداً في الخلق منبته
نكثاً وغدراً بخير الناس ويلهم
مدوا برجل وأخرى خلفها نكصت
من ينكث اليوم لم يرجع نكيثته
قد يعلم الله من توفى ببيعته
لا تنظر الجمع إن الله ماحقه
قد أصبح الملك بالمهدي معتصماً
?
?
وخانه ناصروه الأهل والعشر
فيهم وفي الهم للكل معتبر
أو يخذلوك فإن الله منتصر
لو نازلتك ....... النجم والشجر
إلا صبرت وخير العالم الصبر
ولو كرهت وفي المكروهة الخبر
فما عليك إذا لم يسعد القدر
من الخطوب وفي الأيام معتبر
يوم القليب وقد سارت بك السير
الله حسبك لم تذنب فتعتذر
والمرسلون إذا ما أبلغوا عذروا
فأحمد قبله والله قد كفروا
في الحالتين وسر الناكث الغدر
نكثاً فما وردوا إلا وقد صدروا
إلا عليه ونجم الظلم منكدر
في البايعين وشر البايع الخسر
سيهزم الجمع والمستعصم الدبر
والأمر لله إن قلوا وإن كثروا
ولما جاهر القوم أمير المؤمنين بالحرب والعناد، وظهر ذلك في البلاد، وجرى عليهم اسم المبتدعة الناكثة وأعضل داؤهم، وأزدادوا عتواً وجرأة وانقلبت رسل أمير المؤمنين عنهم بغير جواب ولا إنصاف في دعوى ولا رغبة في طريق التقوى، وعزم على حرب القوم حتى يأطرهم على الحق أطرأوا تصورهم إلى مناهج آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم قسرا، ومع ذلك لا يسام دعاهم إلى الحق سراً وجهراً ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم وحينئذٍ شمر القوم على حرب الإمام وأفسدوا قلوب الطغام فادل من مال إلى مقالتهم، وتمسك بضلالتهم أهل قرية يناعة عيال أسعد بن ستر ومن قال بمقالتهم من قبائل الصيد، بذلوا لهم مالاً كثيراً وطلبوا أن يفتكوا لهم في أخذ ذروة حصن أمير المؤمنين لشيع لهم بذلك ذكر ويستقيم لهم في البلاد أمر، فأجابوهم إلى ذلك وفي خلال ذلك لما حط حسن بن وهاس قريباً من يناعة وحاذر الناس على ذروة فقال بعض العلماء الأطهار، وهو الفقيه العالم محمد بن أحمد بن أبي الرجال الحسن بن وهاس في ذلك فنفاه، فقال: لو أعلم إن أحداً يهم بذروه لدافعت عنها بنفسي، كل ذلك تورية، ورغبة في الدنيا، والظفر بها فالله المستعان.
(قصة أخذ ذروة)
ثم إن موسى بن علي الصايدي، وأصحابه أفسدوا قوماً من الصيد ممن كان خادماً لأمير المؤمنين، وخدعوهم، ومنوهم، وضربوا لهم موعداً منهم جماعة من أهل الإقلاع، وغيرهم، وبلغ أمير المؤمنين ما يجاولونه من الفتك فأمر الأمير الكبير شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم العلوي العباسي في عسكر الظاهر ليقوي به قلوب أهل البلاد، وليكن مقدمة لوصول أمير المؤمنين، وكتب أمير المؤمنين إلى أهل حصونه في اليمن من هداد إلى الكميم إلى الربعة، وغير ذلك بالنهوض إليه بالخيل، والرجال والعدة والأهبة، وكتب إلى صعدة، والجوف، وغيرها، ويكتب في خطاب بينه وبين ابن عمه الأمير أحمد بن قاسم فيما يطلبه منه، ولم يشعر ليلة من الليالي حتى بدى بادي القوم بالهجوم على القصر بذروة لما قد أفسدوا عدة ممن كان فيه فطلع عسكر القوم، ووقعت روعة عظيمة في الحصن، وحارب أهل القصر قليلاً وكان الأكثر منهم من الصيد فمنع عنهم أصحابهم، ودخل عسكر الحسن بن وهاس على الحرائم فكشفوهن فضربت امرأة بالسيف في وجهها، وأخرى في عضدها، وتسلقوا من الحيطان على الشريفة الطاهرة الفاضلة زوجة الأمير الكبير سليمان بن يحيى أخو الإمام، وانتهبوا دراها، وسلبوا أشياء من ثيابها، وقدعوا معصم طفلة لها في المهد على قلبين كانا فيها، وارتكبوا منكراً، سلكوا طريقاً لا يسلكها إلا الترك ونحوهم ثم وثب أهل القرية التي تحت باب ذروة المسمى بالإقلاع فانتهبوا ما كان عندهم لأهل ذروة، وللشرفاء الأمراء آل يحيى بن حمزة، وخالفوا الحق، وتمردوا، وطلع منهم من طلع فانتهبوا من آلات الدور في حصن الإمام، وجاهروا بالحرب، وأعلنوا بالبغي، واجتمعت قبائل الصيد كلها مع القوم، وكثير من القبائل سقط ما في أيدي الناس، واضطربت قبائل الظاهر، ووثب الحسن بن وهاس ناهضاً من محطة الحيس فنشر رايته وطلع هو وحزبه إلى ذروة كان يزعم إنه يأخذ حقبلاً حصن الأمراء آل يحيى بن حمزة بالسيف فأخلف ظنه شدة الأمراء آل يحيى بن
حمزة، وأغار عليهم المسلمون، واشتدت قلوب الناس، وأقبل الحسن بن وهاس، ومن معه حتى أطل على حقيل، فلما ترآى الناس وتهاوشوا للقتال أمر منادياً ينادي أن يخرج إليه فلان -يعني السيد شرف الدين يحيى بن القاسم بن يحيى بن القاسم بن يحيى بن حمزة .
قال السيد: فأمرت الناس بالسكوت واستماع ما يقول من الكلام فأمر بعض إخوته وأملاه كلاماً وهو قاعد إلى جنبه معناه أن الصواب أن تبصروا في دينكم وتنظروا في أمركم، فأجاب السيد شرف الدين: إنا بحمد الله تعالى على بصيرة في ديننا، وثبات في أمرنا لم تطرأ علينا شبهة فيما نحن عليه من الالتزام بإمامة إمامنا ولا استهوانا ريب ولا شك فيما نحن عليه في بصيرتنا لم نفرق جماعة، ولا نزعنا يداً من طاعة، هذا الكلام أو معناه حينئذٍ عاد من موضعه كئيباً حزيناً لما لم يصغ إلى مقالته أحد ولا جاز بحره ولا مخر فيه على ذي لب حتى طلع القصر فجعل منزلته هو والرصاص في دار الإمام ينتهب حفدتهماآلتها، ويخربون حيطانها، ويقيمان الصلاة فيها بزعمهما، وكتبوا الكتب والبشارات إلى سلطان اليمن الملك المظفر يوسف بن عمر بن رسول إذ قيامهم وخروجهم على الإمام بأمره، وبذل لهم أموالاً اختلفوا في عددها فقيل: المال نيف وستون ألف دراهم لكل منهم جزء مقسوم، ونصيب معلوم معدود، وعاهدوه وواثقوه على شروط، وزعموا أنهم ينوبونه وهو يسخر بهم ويستدرجهم للدخول في عقيدته التي هو عليها من مذهب الأشعرية، ولما ظهر للناس ما أجمعوا عليه هم والسلطان لم يشك أحد في مروقهم عن الدين، وخروجهم عن مذاهب العترة الأكرمين، ولاخلاف في هذه الجملة التي ذكرتها فيما بينهم والسلطان، وإنما أردت بذلك ليتحقق أهل الحق أصول مقالتهم، وأنهم ليسوا على شيء بل كل ذلك محبة للدنيا وزينتها، ورغبة في الرئاسة وتوابعها. فالله المستعان.
ولما استقر القوم في قصر ذروة وصل إليهم قبائل الصيد، وقبائل الطاهر، وأجمع أمير المؤمنين على النهوض ومناجزة القوم وأتباعهم فقال في ذلك الأوان الشريف الفاضل العالم محمد بن مدافع شعراً وهو من أولاد الإمام الناصر لدين الله أبي الفتح الديلمي في اليمن سنة [.....بياض في المخطوط.......] واستشهد رحمة الله عليه ورضوانه بردمان في حرب القرامطة دمرهم الله تعالى، وكان هذا الشريف فصيحاً فاضلاً عالماً، وأخوه الشريف السيد العالم المتكلم الزاهد قدوة السادة في وقته أبو الفتح بن مدافع، وهذه نسخة الشعر:
ك المهيمن مما يتقي وزر
والسعد يبني رواق الملك متسعاً
وأنجم الفلك الدوار طالعة
ومن على الأرض ياابن المصطفى خول
والملك ملكك شاء الناس أو كرهو
ومن يقل لا فإن الله يكذبه
هذا الجلال الذي أعطيت بهجته
كساك ربك سربال الخلافه لم
وساقها لك عفواً وهي جامحة
عظمت قدراً فأعطيت التي عظمت
ولم ير الله في الدنيا لها كفواً
نور النبوة في خديه متقد
وللمالك من سرباله أسد
وللعزايم في كفيه مرهفة
وللندا بحر في سوحه اجتمعت
وللسياسة والتدبير مرحمة
في شخصه عالم العليا مجتمع
في خلال إذافكرت بينه
هذا الذي انطمست آي الضلال به
هذا إمام الهدى المهدي سيدنا
هذا الذي لو رأت أنوار طلعته
وعلمه كعباب البحر يغرق في
لوكان أهل العلا شخصاً لكان له
ولو غدا الفضل في الأقوام مقتسماً
الله أكبر هذا خير من ثنيت
سعيت في كل مضمار جريت به
إن الأكف التي عاهدت غادرة
خانوك جهلاً وخانوا الله فاكتسبوا
لا تخطئن رجال الرفض ملحمة
تظل فيها طيور الهام طائرة
والحرب توقد نيراناً مؤججة
والأسد يختلس الأرواح كالحة
فويلها فرقه بدعية رفضت
أقمت تدعوهم جهراً وتزجرهم
بذلت ما طلبوا في كل مسألة
وقلت هذا كتاب الله حاكمنا
وهذه سيرة الآباء نتبعها
فلم يفيئوا إلى حكم الكتاب فلا
وأظهروا بدعاً جاشت مراجلهم
وصوروا صوراً للحق ظاهرة
حتى إذا صرت ذا طوع لما طلبوا
لاذوا وراموا اللتيا والتي شططا
وكان تلبيسهم للخلق قاطبة
فيا أناساً دعاهم عجب أنفسهم
ما بالكم وصروف الدهر معجبة
وتدعون أموراً غير صادقة
خبرتكم سيرة المهدي في حجج
وكنتم كلكم فيها الدعاة ولم
وقمتم فوق أعواد المنابر لا
تحكون من شيم المهدي ما انصدعت
ويشهدون بأن الله قلده
وأنه يوم طوفان المعاد لنا
وأنه القائم المهدي فاتبعوا
وقطعت سادتكم طلا ملا
وكم أبحتم من الأموال ولا ورع
وكم أكلتم وما ضاقت مذاهبكم
وكم لبستم ثياب الوشي معلمة
وكم حسبتم على دفع الخراج فيا
ورب خرج وطيتم بالزكاة ولا
فكيف هذا وهذا غير ملتبس
غدرت لو لم يطل منكم معاشرة
ضيعتم الدين والدنيا وقد حصلا
?
?
والنصر حظك والتوفيق والظفر
فدونه النيران الشمس والقمر
من الفتوح بما حارت به الفكر
فإن عصوا وطغوا في طاعة كفروا
والأمر أمرك غاب الناس أو حضروا
فيما يقول والفرقان والزبر
منه سنا الملك في الآفاق منتشر
يلبسك سربالها عمرو ولا عمر
على الأنام وإن جلوا وإن كثروا
ولم ينلها الذي في قدره صغر
إلا أعز مساعي قومه غرر
ونظرة الملك يجلو سرها النظر
وللخلافه في إكليله قمر
كأنما استلها من غمده القدر
أمواجها التبر والياقوت والدرر
ظلالها فوق هذا الخلق منتشر
في برده سر رب العرش مستتر
وقلب هذا كليم الله والخضر
وبشرتنا به الآيات والسور
هذا الذي فرق الإسلام تنتظر
أهل الهياهل ما صلوا وما فخروا
أذية الناس قل الناس أو كثروا
من فضل هذا الإمام السمع والبصر
ما شاركته به بدو ولا حضر
به الخناصر وانقادت له مضر
ولو جرى فيه سادات الورى حسروا
فويل قوم لعهد الله قد غدروا
عاراً قصاراه في خسرانهم سقر
عظيمة الشأن لا تبقي ولا تذر
منهم ويقصر عن إدراكها القصر
بيض الصوارم في الأيدي لها شرر
والسمر وسط صدور القوم تشتجر
إمامها وسبيل الحق مشتهر
فما أجابوا لداعيهم ولا ازدجروا
وفوق ما اقترحوا منها وما ذكروا
وهذه السنة الغراء تعتبر
إن كان ينفع في تقريبكم سير
حكم النبي ولا أعفوا ولا عذروا
بها وجاش بها المكر الذي مكروا
وتحتها من مراقها رفضهم صوروا
وآمراً غير شك بالذي أمروا
منهم وغروا ولم ينفذ لهم غرر
ولم يكن مثل ما راموه يستتر
إلى التي انصدعت من عظمها الحجر
يرمون جهلاً بقوس مالها وتر
تكاد منها سماء الأفق ينفطر
عشر وفي دونها يستوضح الخبر
يؤثر لكم في اعتراض ظاهر أشر
شك هناك ولا عي ولا حصر
له القلوب وما اشتاقت له النظر
من الخلافة أحكاماً لها خطر
سفينة ليس يخشى عندها الخطر
سبيله فلديه الفوز والظفر
ليست إذا عددت ياقوم تنحصر
من الإباحة يثنيكم ولا حذر
مال اليتيم وهذا كله شكر
ومهدت لكم الأنماط والحبر
دموعه من عظيم الجيش تنحدر
شك لواطيكم يجري ولا وحر
ما يجهل الشمس من في عينه عور
وبعد طول مداها كيف تعتذروا
يا خسر قوم لدين الله قد خسروا
قال الراوي: ولما وصل أهل البلاد اليمانية وحصونها من هداد والكميم وغيرها نهض أمير المؤمنين عليه السلام إلى الجهات الظاهرية لحرب القوم وحصر البغاة الذين بغوا عليه والمحطة عليهم بذروة، فنهض أمير المؤمنين من حصن مدع وذلك في النصف الأخير من شهر صفر سنة ست وخمسين وستمائة، وفي ذلك الأوان اشتدت الحطمة والجدب ودارت رحى الموت في الناس من ذمار إلى صعدة إلى الجوف إلى مغارب حجة، وبلاد حجور، وبلاد خولان القبلة، وجبل رازح إلى راحة، ونجران، والمشارق إلى سراة الحجر، والتهايم وما بين ذلك، فبلغ السعر في صفر وربيع صاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذرة بعشرة دراهم، وربما بلغ البر الصاع الواحد ستة دراهم وأكثر، وبلغ رأس البقر خمسائة درهم، وبلغ السمن والسليط الرطل ستة دراهم، وبلغت الشاة إلى قريب من الخمسين الدرهم، وأكل الناس أولادهم، وأكل بعضهم بعضاً، وأكلوا الدواب والحمير، وأكلوا أنواعاً من الأرواث والتراب والأشجار، وانقطعت المناهل، وعدم الطعام في كثير من البلاد، وخلت بلاد من أهلها، وصار الأموات صرعى في الشوارع والسكك تجرهم الكلاب والسباع، وربما تثب الكلاب على الضعوف فتأكل منهم وهم صرعى يصرخون.
وكان أول هذه الأزمة من شهر رجب من سنة خمس وخمسين ثم سنة ست وخمسين معظمها، ثم سنة سبع وخمسين، ثم إلى سنة ثمان وخمسين، وكان في ذلك الأوان زحل في أول درج من برج الدلو، واستمرت الأزمة إلى أن كاد أن يخرج من برج الحوت فهلك خلق كثير من الناس، بل ربما أن نصف الناس في هذه الأقطار هلك على التقدير. والله أعلم.
وربما أكثر وهلك عيون العلماء، والأفاضل، وبلغ حمل الإنسان من الماء سبعة دراهم لأجل انقطاع المناهل.
رجع الحديث
وكتب الفقيه العالم الفاضل الحسن بن أبي الفتح بن أبي القاسم بن أبي عمرو التميمي هذه الرسالة على هذه الفرقة المتبدعة، وسارت في الآفاق:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم
{الم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(4)مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لاَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(5)وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
أما بعد..
يا بني الزمن ومعاشر اليمن فقد أضللتكم طحنات الفتن تبدي ما كمن، وتظهر ما بطن، وتقلقل ما سكن، وتسحب أذيال المحن، ولئن أغدقت سحايب ركامها، وترادفت سدف ظلامها، فما يريد الله إغواءكم ولا ضلالكم، ولا استمراركم فيما لا يرضى، وإصراركم {إنما يريد الله أن يبلوكم حتى يعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} ويخرج من خياركم أشراركم: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون}.
منجا امرئ تليت عليه الآيات فتدبرها، وعرضت عليه الشبهات فأبصر الحجج، والبينات فآثرها، وعنت له الشهوات فنهى نفسه عن الهوى وزجرها، وعرف فئة الحق وإن قلت فصحبها، ورأى سفينة النجاة ولو صعبت فركبها {إنما يذكر أولو الألباب} وإني أراكم قد أصغيتم لناعق هذه الفتنة، من آذانكم وألغيتم، وقد سمعتم واعية إمام زمانكم، وهو سفينة نجاتكم، وماء حياتكم، وحجة الله عليكم، وابن رسوله إليكم، يستنصركم وتخذلون، ويستنفركم بلقاء العدو وتتخلفون، ويدعوكم إلى اتباعه إلى الحق وأكثركم للحق كارهون، أفما أنتم بموقنين بما وعد الله الصادقين، وأعد للمتقين القائمين بنصرة الأئمه السابقين، ومناصحي ولاة المسلمين من الخير الجسيم في جنات النعيم: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولكم فيها من كل الثمرات} وما وعد به المتخلفين والمبطلين الراغبين بأنفسهم عن نفس إمام المسلمين، وسامعي الواعية غير مجيبن من الشر العظيم، والكب على المناخر في نار الجحيم، والنكال بأصناف العذاب الأليم، كلا أما لو آمنتم بذلك وصدقتم واطمأننتم إليه وأيقنتم لرجع عاصيكم وتاب من قريب ومن بعيد، ولا ازداد مطيعكم في اكتساب الخير كل مزيد، فإن الإنسان عن الشر ليحيد، وإنه لحب الخير لشديد، ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وانتظرتم ما تنقلب به الأمور، وغرتكم الأماني، وغركم بالله الغرور، فإن كنتم في ريب من رب العالمين فتفكروا في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري بما ينفع الناس، وما أنزل الله من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون، إن في السماوات لآيات للموقنين، وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون، وإن يك ريبكم في الكتاب والرسول فبأي حديث بعد الله وآياته
تؤمنون، وإن كان الريب في إمام عصركم، وخليفة الله فيكم المتقلد لأمركم فما غركم به وقد نشأ بين أظهركم، وتربى في حجور علمائكم وفضلائكم، أناشد الله من عرفه أو سمع به قبل قيامه ألم يكن أشهر أهل وقته فضلاً، وأكملهم نبلاً، وأبرهم وأقتاهم قولاً وفعلاً، وأقومهم طريقة، وأحسنهم خليقة، أو ما معروفاً بالورع والعفاف وسمت الصلاح، مشغوفاً بإحياء الدين، ونشر العلم للطالبين، متحلياً بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، يكرم الضيف، ويعطي السائل وابن السبيل، ويرحم المسكين والضعيف، بلى ولقد كان مخلصاً تقياً، ورضياً مرضياً، عالماً مجتهداً ينسال، ويقلد صديقاً برا لا يفند، يشيرون إليه بالبنان، ويروون فضائله بكل لسان، يستسقون بوجهه الغمام، ويستشفون بريقه فيشفي السقام، ويستدعون ببركته البركات في الأموال والأنفس والتمرات، ويتستصرفون به بالنذور، له عنها الآفات حتى يمحص ....... ويعرنق في قصب العلى، وتمكن في قلل الشرف الأقصى بحيث لا يزاحم في مرتبته، ولايرتقى إلى درجته أفلا ضم إلى هذه المحامد المذكورة والفضائل المشهورة السبق إلى الإمامة، والفوز بحصيل الزعامة، والاختصاص بشرف هذه الكرامة شهادة الخاصة والعامة، اعترض الشك في سيرته، وظن السوء في سريرته، هذا ما لا يسع أحداً من المكلفين أن ينبت منه على ظن وتخمين، فإن الكلام في الإمامة من مسائل أصول الدين وما يجب الوصول فيه إلى العلم اليقين، والإتيان على صحته أو فساده بسلطان مبين، فأما مجرد التقليد والقذف بالغيب من مكان بعيد فبعيد بعيد أن يقدح ذلك في أمر قد رسخت قواعده، وظهرت ظهور النهار شواهده، وتمكن على التقوى أساسه، فشمخ حيث لا ينال رأسه: {أفمن أسس بينانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم}.
ولما نكثت هذه الفئة الباغية بيعة إمامهم، وجعلوا يموهون بإجماعهم في ذلك على عوامهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم بالشبهات المردودة، ويصدوهم عن طاعة إمامهم بالمعامات في المحافل المشهودة وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون، رأيت أن أبين وجوهاً يتضح بها نهج السبيل، ويتميز بها الدليل عن شبهة التضليل، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت ونعم الوكيل، فمنها أن العوام لا يرجعون إلى العلماء في شيء من خصال الإمامة إلا في كونه عالماً، والعلماء باقون على الإقرار بذلك لا يمكنهم الرجوع عنه، وإنما قلنا: إنهم لا يرجعون إلى العلماء فيما سوى العلم من المنصب، والسخاء، والشجاعة، والورع، وحسن السياسة؛ لأن العلماء والعوام في معرفتها فيمن اجتمعت فيه بمثابة واحدة؛ إذ طريق الكل في ذلك واحدة، وهي الخلطة والمشاهدة.
وبعد فإن العوام إنما عرفوا لما رأوا من انتصابهم للفتوى، وسؤال الناس لهم، وأخذهم عنهم من غير نكير، فمن يرى ذلك في مدعي الإمامة لا يحتاج فيه إلى العلماء؛ لأن الطريق التي عرف بها كونهم علماء يكفيه هاهنا، وتلك حال أهل قطرنا هذا مع إمامنا عليه السلام، فإن الناس كانوا يرجعون إليه في الفتاوى، ويسألونه، ويأخذون عنه العلم، ويستطرف العلماء ما ظهر لهم من فتاويه، ويستجيدون اجتهاداته، ويستحسنون ما رآه ويصدرونها في كتبهم وتصانيفهم فهم إذاً في غنية عن العلماء، ولو أنهم قد جحدوا ذلك كيف وقد شهدوا له بالكمال، وضم جميع الخصال، ورجوعهم بعد ذلك لا يعتمد عليه، ولا يلتفت في إبطال الإمامة إليه.
فأما التهويل بكونهم علماء الإسلام، وفضلاء الأنام، وقلة من بقي منهم مع الإمام فلا تعويل عليه لذوي الأحلام فإن الحق إنما يتميز عن الباطل بالدليل لا بالتعظيم والتبجيل، والتكثير والتقليل، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من زلات العلماء فقال: ((أخوف ما أخاف على أمتي زلات العلماء، قيل: فما المخرج يا رسول الله؟ قال: إذا زلو فلا تتبعوهم))، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو إمام الأئمة، والحجة على الأمة للحرث بن حوط وقد ارتاب في أهل الشام لما كثر عليه اجتماعهم على مكانتهم من العلم والعبادة، وشدة الورع والزهادة مع البسالة والجودة، وشدة البأس والنجدة، فقال عليه السلام: يا حار، إنه لملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق، فاعرف الحق تعرف أهله قلوا أم كثروا، واعرف الباطل تعرف أهله قلوا أم كثروا، وحاربهم عليه السلام على مثل ما هؤلاء فيه، وكانوا يصومون سرمداً، ويحيون الليل فنوناً وتهجداً، فقتلهم ركعاً وسجداً، وأحصاهم إلا القليل عدداً، مضياً على البصيرة الباقية، والعزيمة القاضية، وأين حال أولئك عن أهل زماننا هذا وأكثرهم خلف قد أضاعوا صلواتهم، واتبعوا شهواتهم، وأخلفوا دياناتهم، وخانوا أماناتهم، وأصروا ...... هم ومروءاتهم، وما أرى حجتهم لكونهم أهل العلم والفضل ورجاحة العقل إلا حجة قريش على إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأحلامهم وعقولهم، وسفه أحلام المؤمنين[149ب-أ] حيث قالوا: {أنؤمن كما آمن السفهاء} فقد أحسن الله الرد عليهم فقال: {ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} ومنها أن هذا الإمام عليه السلام لم يرد بالقيام مكابرة ولا مفاخرة، ولا إدراك أغراض دنيوية، ولا شفا غيظ مغياظ لحمية، ولا دعا إلى عصبية، ولا إفادة مال، ولا علو حال، شهد بذلك مشاهد الحال، وما يغني فيه النظر عن السؤال إذ كان نائلاً كل منال، حيث آتاه الله من عظيم الشأن ورفيع الصوت
والمكان ما فات به النظير، وصغر معه كل كبير، لا يسبق بكلام، ولا يمشي خلف إمام، ولا يقعد إلا في الصدور، ولا يمد عينيه إلا الندرة، يعظمه الكافة ويبجلونه، ويحف به العلماء ويشيعونه، ويؤملونه للقيام ويؤهلونه، وهو إذ ذاك في رغد العيش وسعة الرزق تهدى إليه تحف الطيبات، وتجبى إليه من كل الثمرات، ناعم الحال، فارغ البال، يتفنن في مونقات رياض العلم، ويتفكه من يانعات ثمار الفهم غير أنه لما ظهرت فضيلته، وذاعت في الآفاق كلمته، ورسخت في قلوب الناس محبته، وبذلت له النصرة على القيام بأمر إليه وجوه القبائل، وأرباب المعاقل، وكان قريباً من ديار الظالمين، ومنازل المجرمين، ومحال المفسدين، وقرارة الملحدين، وهم على ماهم فيه من إنكار النور، وارتكاب الفجور، وشرب الخمور، وإتيان الذكور، وقعت عليه الحجة لله، ولم يسعه القعود عن الجهاد في سبيل الله، فقام عليه السلام في أمر الله مشمراً، ولمرضاته مؤثراً، واستبدل عما كان فيه من الدعة بما صار إليه من تحمل الأثقال، وكره القتال، ومعاناة الجهال، واستغراق أوقاته بالاشتغال بحيث لا يلتذ بطعم ولا نوم، ولا يفرغ لأمر يخصه في ليل ولا يوم، صابراً لله محتسباً متعرضاً لمنازل شريفة، ولزلف عظيمة في مقام كريم {وما يلقاها إلا الذين صبروا ومايلقاها إلا ذو حظ عظيم} فما أشبهه عليه السلام بسلفه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأشبه إنكارهم بإنكار المنكرين لنبوته المكذبين من أهل الكتاب والمشركين بعد أن كانوا يسمونه الأمين، ويعدونه في الصديقين، وكان أهل الكتاب يستفتحون به على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
ومنها أن طريقته عليه السلام منذ قيامه إلى يومنا هذا واحدة، وأفعاله الحسنة على قصودة المخلصة شاهدة، ودلائل زهده في الدنيا ورغبته في الأخره مترادفة، ألم يروا وقد مكن الله في الأرض بسطته، وأتم عليه بالفتح والنصر نعمته، وأفاده لنفسه من جزيل الأموال، وطيبات الحلال من النذور والبر والأنفال ما لا يحصره الحساب، ولا تحده الخزائن والأبواب اللهم بلى وعسى لو فرغ لهما بعض الأمصار أو المدائن الكبار كيف [150أ-أ ] أفناها نوالاً، وقسمها سجالاً، وفرقهاً يميناً وشمالاً، ولم يكنزها قناطر مقنطرة، ولا أبقى منها ذخيرة مدخرة، ولا سكر ولا دسكر منها سكرة، ولا تحجر بها ضياعاً، ولا جنى لعدمها متاعاً، ولا عمر داراً، ولا استقر قراراً، ولا يعمل لنفسه من معايشها دثاراً ولا شعاراً مع جواز ذلك كله، وظهور إباحته وحله، ولو تمكن كثير من هؤلاء المظهرين للزهادة، المتشاغلين عن الفروض بنوافل العبادة من بعض من ذكرنا لضاقت به وبأهله الأرض، ولشغله أهله وماله عن النفل والفرض، ولا أخلد إلى قرارت الأوطان، وأوسع من مكسوبات الأطيان، وشيد رؤوس القصور وشرف، ورفع غرف الدور وزخرف، ومال بنفسه إلى تخفيف التكليف وعدلها، وعذرها في ترك الجهاد وتأول لها، ونزر نعم الله عليه وقلل وغمغم، ونكس رأسه أن يسلل، وأنفق عرضه دون ماله وبذل، وأخذ من الدين ما يسهل، أما ابن الحسين فكلا بل بنا بها مجداً، وأنفقها في سبيل الله عرضاً ونقداً، واتخذها عند الرحمن عهداً، سمع قوله تعالى: {جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} فامتثل وجاد بنفسه الكريمة وأمواله الجسيمة في ملاحم الجلاد، ومواطن الجهاد، وبذل حتى أباد المجرمين، ودمر الظالمين، وقمع المفسدين، وأعلى كلمة الدين، وتمكن في البلاد، وأيده الله في الإمداد، وأظهره على أضداد فقلتهم وأخذهم في كل مرصد، وشردهم كل مشرد إلى أن غلب على بعض أهل دعوته الحسد، وطال على بعضهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون،
فهناك أوحت شياطين الجن إلى إخوانهم من الإنس بالتخذيل، وألقى بعضهم إلى بعض زخرف الأقاويل وغرور الأباطيل، وخاضوا في قال وقيل، فلبسوا على من ليست له بصيرة، واستظهروا بكل قبيح السيرة خبث السريرة، قربوا من كانوا يباعدون، وأنسوا من كانوا منه يستوحشون، ووسموهم بسمة الدين، ولبسوهم جلود الضأن من اللين، وسودوهم بإمامهم مبخسين، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير متعمقين: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضائت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون}.
ومنها إنما عرف من طريقته، وظهر من سيرته في سني دوله من التصرفات المشهورة، والأقوال والأفعال المقرورة، مشهودة محصورة، لم يبتدع فيها أمراً منكراً، ولا جاء شيئاً نكراً، ولا اكتسب إثماً، ولا ركب محرماً، بل أقام ديناً قيماً، واستقام حنيفاً مسلماً، يؤدي فروض الله ومسنوناته، ويتحاما معصياته ومكروهاته، ويتوخى المزلفات من قرباته، ويقيم حدوده، ويأمر بالعدل والإحسان عبيده.
فأما مطاعنهم بما ينكرون من بعض عماله ونوابه وأعوانه وأصحابه من ظاهر عدوان في زيادة أو نقصان، أو قلة إحسان فقد جاءوا ما هو أنكر وأدهى وأمر، وأصحابهم وأعوانهم أشر وأظلم وأجور، ومن في جنبة أمير المؤمنين كأين جابر، وأين غدير العاثر، أو كجنائز الفاجر، وكم أعد من ختار كافر، فإذا كان هذا أشف ما يذكرون، وأقوى ما عليه يعتمدون وبه يستبصرون فهم إذن شر مكاناً، والله أعلم بما يصفون.
فأما ادعا التوبة وإظهار الأوبة، فكيف، ومعنى التوبة ما كانوا يحققون، ودارت رؤوسهم فيه يدرسون، فسألوهم إن كانوا ينطقون أليس الندم على مافات والعزم على ترك العود ونحن نعلم وأنتم تعلمون، وربما أنكم لا تنكرون أنهم ما ندموا على ما مضى منهم من حرب المسلمين، ومعاندة أمير المؤمنين، وقتل الربانييين، وظلم الضعوف والمساكين، ومناصرة المفسدين، وموالاة المعتدين، وكيف وهم اليوم بما كانوا أتوا يفرحون، ويفتخرون بتلك الأفاعيل ويمتدحون، ولأمثالها مواقعون، وفي أسوأ منها يسارعون.
فأما ترفيههم على الرعية، وكفهم عن الأذية فإنها أشباك محاص، وأشراك اقتناص، وأنّى لعلي بن وهاس ويحيى بن حسن العدل في الناس، ومن ثم من أمثالهما من الأجناس، وهم الذين حملهم الهلع وشدة النهم في خبيثات الطعم على خدمة عنم العجم والتسبب لجمع الحطام بكسب الآثام، ومحاربة أهل الإسلام قبل قيام الإمام وبعد أن قام، فكثير منهم ما عدل به عن ثدي أمه إلا إلى سرب السحت، وطعمه فيه اغتذاؤهم ومنه مكسبهم، وفيه إلى يومنا هذا تقلبهم، فليت شعري متى حصول هذه القناعة، أو من هذه الساعة، فأنتم لعداتهم راجون، ولمكرهم آمنون، وإألى من لا ينصركم منهم إذا تمكنوا راكنون، وعلى من لا يحكم عليهم إن مكنوا واكنون، مالكم لا تنصرون أفلا تذكرون، أم حسبتم أن الملح الأجاج يعذب باصطفاف الأمواج، والعرجون القديم يعود مستقيماً عن الإعوجاج.
وبعد: فإن عتوبهم على إمام المسلمين بذنوب المتصرفين فروع بلا أصول، وقطوع من غير تحصيل؛ إذ مبناها الظنون، وتكوين ما لا يكون على أن ما ظهر منها وتحقق وشهد به اليقين ونطق، فقد جعل الله لأمير المؤمنين منه مخرجاً؛ إذ لم يجعل عليه فيما اكتسب غيره من الإثم حرجاً {كل امرء بما كسب رهين}.
فأما إذا بلغه فما يقصر عن تغيير، ولا يكف عن نكير، وقد يصفح عن اليسير، ويتشاغل بالأمر الخطير، ويؤاثرهم الأشياء، ويداوي أخطر الأدواء عملاً بحسن التدبير، ولا سبيل له إلى عصمة المكلفين، وإكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين، ولا عليه إذ أمر فلم يطع، ومنع فلم يمتنع إلا ما عليه في عصيان هؤلاء الخارجين عليه، فقد كان يأمرهم بمعاونته، ويحثهم على موازرته، ويدعوهم إلى الدخول معه في التكليف الشاق، وتحمل المشاق، فيتركون ذلك لما هو ألذ وأشهى [151أ-أ] وإن كان أوهن وأوهى من السكون في المنازل، والتفكه في المآكل، والإتكاء على الوسايد، والتفيء في ظل المساجد، إذا قال: انفروا، اثاقلوا إلىالأرض وخفوا بالطعن عليه والرفض ، يغتابونه ويبهتون، ويقولون ما لا يعلمون، وقد أفردوه، وقد أغشاهم العدو فما شرد، وقعدوا عن الجهاد وما قعد، وائتمروا عنه من ثغور الإسلام فسد ذاباً عن الذمار، يقارع سيوف الكفار، ويحامل عن حوزة الدين كلاب الأشرار، كالأسد الزآر حتي إذا عز جانبه، وأردت بأعداء الله مخالبه، فأجلاهم عن ديارهم، وحاز المغانم الكثيرة من أموالهم وعقارهم كفوا عن الطعن عليه، واقتادوا مسرعين اليه، وألفتهم وألفيتهم واضعي رؤوسهم ينهشون من فريسته، ويتهاوشون على نهيشته، أشبه شيء بالضباع النهمة، والسباع الجائعة، وقد رفعوا أعراضهم أعراضاً تتنصلها سهام اللوام، وينصبوا ثياباهم نصباً يلطخها العوام بأدناس المذام، سمان بطان، وهو خميص البطن عن الحرام، نقي الثوب عن الأوصام، قد رفع رأسه لخواطف أسباب الحتوف، ونص جنبه لأطراف الرماح وشفار السيوف، يقيهم بنفسه، ويحميهم من أخذ العدو ومسه، فما أشبهه حين يصول بقول عنترة حيث يقول:
خبرك من شهد الوقيعة أنني
?
?
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ولئن كانوا لمحاسنه مقبحين، ولملح مكارمه مشوهين، وله مكذبين، ومما يقترفون عليه معجبين، ولما لا يعلم فيه من المساوئ متوجدين لياً بألسنتهم وطعناً في الدين، فتلك سبيل أسلافهم الماضين من أعداء النبيين كما قال أصدق القائلين: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين}، وله عليه السلام أسوة حسنة بالأنبياء، سخر من نوح فأغضى، ومكر بإبراهيم الذي وفى، وكذب هارون وموسى، واستهزئ بمحمد المصطفى، وخرج على علي المرتضى قوم علماء وعباد وقراء، وما من نبي ولا إمام إلا قاتله ضلال قومه، وعتاة أهل عصره بما قوتل به إمامنا هذا: {فقالتهم الله أنى يوفكون أتواصوا به بل هم قوم طاعون}.
أيها الناس فعليكم باتباع أمير المؤمنين فإنه الحبل المتين، والسبب بينكم وبين رب العالمين، فاعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ولا تسمعوا ولا لهم إن قالوا: هلم إلينا وعوقوا، ولا يكبرون عليكم اسم فلان وفلان فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من أراد أن يفرق بين أمة محمد وهي مجتمعة فاضربوه بالسيف كائناً من كان))، فلا يؤنسكم أنكم بهم متمسكون، ويوسيكم أنهم معكم في السبيل سالكون، فلن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون، ولا تغتروا باستظهار المبطلين وغلبهم إن كانوا غالبين، كأن قد غلبوا هنالك وانقلبوا خائبين، وإن العاقبة للمتقين، وإن الله لمع المحسنين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلاته على محمد الأمين، وعلى الطاهرين من آله الميامين وسلامه.
رجع الحديث
ولما بلغ القوم [151ب-أ]نهوض أمير المؤمنين من حصن مدع، وقد كانوا نزلوا إلى غيل شوابة وأزمعوا على أخذ أموال المسلمين، وانتهاب زرائع الضعوف والمساكين، فحين بلغهم ذلك نهضوا إلى بلاد الصيد فحطوا في الحيس ما بين يناعة وبلاد عيال عبد الله، ولما سمع أهل ذروة بقرب أمير المؤمنين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وقلقوا وكتموا أمورهم، وراموا مراماً فأكذبهم الله تعالى، حتى إذ كان أول عسكر أمير المؤمنين قريباً من الشطبة سمعوا النقارات والآت الحرب طاروا على رؤوسهم لا يلوي أحد منهم على أحد، فرموا بنفوسهم مهاوي الجبال والحيود، ولم يشعر بهم أهل حصن حقيل المحروس حتى قد خرجوا فتبعهم الناس، فلم يظفر بأحد منهم بل بشيء من أثاثهم.
(قصة قتل ...... على أمير المؤمنين من أهل الإقلاع وكيف كان ذلك)
فإن هؤلاء المتبدعة ربما يسعون على من لا بصيرة له، ويدخلون في قلق الجهال أن أمير المؤمنين عليه السلام تعدى عليهم وقتلهم ظلماً، والأمر عكس ذلك، ونحن نحكي الصورة ونعوذ بالله أن نقول زوار، أو نأتي منكراً أو غرورا.
القصة في ذلك أن هؤلاء أهل الإقلاع على الجملة جماعة قليلة، وهم قوم يقال لهم: الحنابر، وآخرون يقال: الزريعات، ولما عمر أمير المؤمنين حصن ذروة وهم في أسفل الحصن كان محلهم محطاً لمن يأتي إلى ذروة، فاستنفعوا في خلال ذلك بأنواع المنافع، وكان بعضهم من نقبا حصن ذروة، والذي إليه الحل والعقد، والباقون في خفض عيش وحياطة ورعاية وحسن جوار من أمير المؤمنين ومن يقول بقوله لا يروعون ولا تمد إليهم يد بتعسف، وعندهم مقر الخيل التي يحتاج إليها، وظهرت عليهم أثر النعمة، فلما نجمت هذه الفرقة الناكثة المتبدعة، وهجموا على حصن أمير المؤمنين كشفوا بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهبوا حريم المسلمين، وضربوا وجوههن بالسيوف، والذين كانوا معه منهم في الحصن أهل العمولة والغدر، بل دخول الذين طلعوا القصر بعنايتهم، وبذلوا لهم مالاً، وخالفهم موسى بن علي بن ستر الصايدي وأصحابه على ذلك، والذين كانوا منهم في محل الإقلاع منهم من كان مكناً للمكر مع القوم ومنهم من لم يكن كذلك، فلما استولى القوم على ذروة طلعوا متجمعين، فأعطوا حسن بن وهاس صفقة أيمانهم، وانتهبوا ما أمكنهم من الأثواب والأثاث من ذروة، وكذلك ما كان في محلهم لأهل ذروة، ولم يراعوا حق الجار، ولا ذمام أهل المروة دع عنك الدين، وكان كبارهم الذين يتولون الحرب ويصلون حيث لا يصل غيرهم في الحرب على عقيل، وشهروا نفوسهم بذلك، فلما أقبل عسكر أمير المؤمنين وهرب أهل القصر بذروة بحيث لم يشعر بعضهم، وظنوا أن الأمر دون ما وقع، وأن أمير المؤمنين لا يبلغ إلى حيث بلغ، فدخلوا درباً حصيناً في محلهم، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، وأنهم يدفع عنهم، فأغار الناس من حقيل ليتلقوا [152أ-أ]أول العسكر إلى قريب من الإقلاع، فدنى منهم من حضر من الشرفاء والأمراء آل يحيى بن حمزة، وطلبوا منهم الخروج والذمة لهم على أرواحهم قبل أن يصل إليهم عسكر الإمام فكرهوا ذلك، وحاربوا ذلك
الدرب فبيناهم كذلك إذ وردت مقدمة العسكر هم في خلال ما هم فيه من الحرب، فتسور الناس عليهم فقتل منهم أربعة نفر ممن ظاهره مع البغي الفسق الصريح من قطع الصلاة، وقطع الزكاة، والسرق، بل بعضهم معروف بالتهتك والتمرد، فلما وصل أمير المؤمنين عليه السلام أمر بالكف عنهم، وأطلق بعضاً ممن أسر كل ذلك تفضلاً وتكرماً، وعفواً وصفحاً؛ لأنهم ما ناصبوا ولا حاربوا ولا كانوا من أعظم من يطلع عورات المسلمين، بل كانو من أعظم الناس مضرة على أهل ذروة لمعرفتهم بالأمور، بل كان أخذ ذروة وما جرى بسبب شيوخهم الذين كانوا ولاة القصر والحفظ فيه ليلاً ونهاراً، عجل الله نقمتهم.
فهذه قصتهم قد أتينا بجملة منها وأمرهم واضح، وبغيهم على أمير المؤمنين ظاهر، ومن شك في ذلك فقد خرج عن العقلاء فضلاً عن العلماء، وعلى الجملة فإن بغي القوم على أمير المؤمنين وانتهاب حريمه وحريم أهله وبيوت خدمه، ومناصبته إلى أن وقع فيهم العسكر وهم محاربون ظاهراً عند الناس، وأهل البغي والتمرد إلا دون ما فعلوه فالله تعالى المستعان، ولم نشرح الحال هكذا إلا ليعلم من لم يدر بالقصة أنها هكذا، وقد تعلل قوم ممن كان يتسرحوا في ارتعاء ممن باطنه مع القوم الذين أظهرو البدعة، وشبوا نار الفتنة، وقاموا وقعدوا في أسباب الفرقة والخروج عن إمامة الإمام المهدي عليه السلام بقتل هؤلاء النفر في الإقلاع اللذين حكينا قصتهم فقد قالوا: إنا كنا باقين على الإمامة حتى قتل أهل الإقلاع، وظاهر قتلهم أنه ظلم، قالوا: وهذا كاف في الخروج عن الإمامة، وسلكوا على تفرق الجهال والعوام الذين لا يميزون بين الصحيح والسقيم من الأحكام.
والجواب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أن القائل بذلك هم ثلاثة نفر معروفون بسماتهم وأسمائهم، قد انكشفت بعد للناس سريرتهم، وظهرت في الآفاق مكيدتهم، وأنهم كانو كالمبتدعة المجاهرين بالحرب لأمير المؤمنين، فقتل من قتل من هؤلاء المتمردين، وفي رميهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم كما كانت شنشنة المنافقين، ومتى كان من هو بهذه الصفة قدوة في دخول أو خروج أو هبوط في أحكام الإمامة أو عروج وإنما القدوة الذين جعلوا دأبهم نصرة الحق وخذلان الباطل، والاستمساك بعصمة الحق ولا يتربصون به الدوائر، ويتطلبون به الغوائل، ويكنون له الدعاول كما يعرف الناس من هؤلاء النفر.
الوجه الثاني: إنا قد بينا القول في قصتهم أولاً وأنهم بغاة طغاة، وللإمام قتل الباغي على المسلمين، وعلى أن هؤلاء ليس بصفة البغاة بل هم أغلظ حكماً، وأعظم جرماً من انتهابهم حرايم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاب أموال الأيتام والمسلمين، ونكثهم[152ب-أ] لبيعة أمير المؤمنين، وتأليبهم وقيامهم على من أجمع على هلاك المسلمين، وشق عصا المؤمنين، وعلى أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يأمر بقتلهم ولو كان يعتقد جوازه، بل لم يكن قد وصل، بل لما وصلت قادمة الجيش والقوم فيما هم فيه من الحرب والمناصبة ناصابوا منهم أولئك النفر، ولو كان مثلاً من المسلمين غير البغاة وغلط بهم العسكر لكان جبرانهم على بيت المال دون أن يلزم الإمام في ذلك حكم، وهذا لا يلتبس إلا على من ران على قلبه الريب، على أن هؤلاء النفر لو رجع بهم إلى حكم الأصول في أشكالهم وأمثالهم لجاز قتلهم على وجه أن منهم من لا يعرف التوحيد إلا لفظه، ولا يقيم صلاة ولا يعرف بوجوبها، ولا يخرج الزكاه، ولا يتحرج في يمين، ولا يكف يده عن سرق ولا ظلم إلا أن لا يقدر عليه أو يخاف سطوة من غيره، ومن فتش أحوال هؤلاء القوم عرف ذلك، وكم قد قتل أئمة الهدى بحكم الله تعالى ممن هو أقرب إلى الدين من هؤلاء النفر وإنما أردنا أن نشير بهذه الإشارة لمن لا يعرف أصل القصة. فالله المستعان.
وكانت الحادثة في أخذ ذروة وبغي حسن بن وهاس، والرصاص ومن قال بقولهم على أمير المؤمنين، وانتهاك حرايمه، وانتهاب أيتام أخيه، وما جرى في ذلك في ليال خلت من شهر صفر سنة ست وخمسين وستمائة.
[قصة مصاب أمير المؤمنين عليه السلام]
قصة الخطب الأعظم والروع الأكبر الذي عم المسلمون وهدم قواعد الدين في جميع الأرضين وهو مصاب أمير المؤمنين المهدي لدين الله رب العالمين أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الراوي: ولما أراد الله تعالى أن يكرمه بالشهادة ويزلفه إلى أعلى درجات الكرامة التي خص بها المجاهدين في سبيله والمحامين على دينه كان ما ذكرناه من خروج هذه الفرقة عليه طمعاً في الدنيا، وهلعاً ورغبة في لعاعتها، وابتهاجاً بزينتها، وتطلباً لرياستها، وجعلوا دأبهم تطلب المطاعن عليه، والدسيس على من لا بصيرة له، فمن كان مخلداً إلى الدنيا أتوه من قبلها، ومنوه بها، وأنه يكون ذا شأن وحال فوق ما هو عليه حتى استهووا طائفة من الناس بذلك، ومن كان متمسكاً بطرف من الدين استدرجوه بشبهة قد زخرفوها، وتخريصات قد نمقوها، ومن أعجب العجائب أنها ما مرت المدة القريبة بعد قتله رضوان الله عليه حتى ركب من ركب من القوم صهوة ما كانوا يطعنون، ودخلوا فيما كانوا يعيبون فعمدوا إلى ولاية الذين كانوا يطعنون بهم فولوهم على المسلمين، وأضافوا إليهم من هو أشر منهم حالاً، وطلبوا المطالب التي كان أمير المؤمنين يطلب دونها للجهاد في سبيل الله ......... في المعاش، ونكحوا بها المناكح، وأنفقوها في غير المصالح، حتى لقد قيل في بعض الفروق: إنه فرق الغرس. فالله المستعان.
ولقد فرق حسن بن وهاس فرقاً في الشرفين حتى رأيت بخط بعض ولاته من أقاربه على وجه التعليل أن القيراط الواحد صح عليه ألوف ومئيين أنسيت كميتها إلا أني أحسبه ذلك اليوم سبعين ألفاً أو نحو ذلك، وكم عسى أن أذكره مما كان يأخذه أولاد صفي الدين بأمر حسن بن وهاس هذا مع هضم الضعوف والمساكين، وأخذ أوليائه من الصيد وغيرهم من الناس بضروب من البغي الليل بالسرق وتسلق الحيطان ونصب السلالم، والنهار بالتمكن في الطرقات وقتل الناس فيها حتى لقد كان الحجاج يأتون من مكة حرسها الله آمنين حتى يصلون إلى قريب من الصيد ثم ينهبون ويؤخذون، وكذلك التجار، والذين يضربون في الأرض جعل لهم في الطرقات أرصاداً يأخذون فيها شقصاُ من أموالهم، فكم من يتيم قهروه، ومن ضعيف سلبوه، ومن أرملة نهبوها، ومن حرمة انتهكوها، حتى أدال الله منهم كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا}أخذهم الله بذنوبهم، وسلط عليهم من لم يرقب فيهم الحرمة التي قطعوها، ولم تراع فيهم الوشيجة التي وضعوها.
رجع الحديث
وأقام أمير المؤمنين في محطة الإقلاع بقية يوم الأربعاء والخميس، فطلع إليه طائفة من الأطهار العلماء فراجعوه وباحثوه فوجدوه عليه السلام فوق ما يعهدون من السيرة المرضية، والأخلاق النبوية، رؤوفاً بالمسلمين، حريصاً على صلاحهم واجتماع كلمتهم، فانصرفوا عنه بقلوب صافية، وحجة وافية، وراجعه الأمير الكبير شيخ العترة الهادي بن أبي عبد الله الحسين بن محمد بن الهادي أيضاً فيما عنده لما كان استدرجه القوم، فكشف لهم الغطاء فيما عنده، وحكم ببغي القوم على أمير المؤمنين فيما فعلوه في ذروة، وقال لبعض من حاوره وقد حكى هجوم القوم على ذروة وأنه ما أمكنه أن يتوضأ لصلاة الفجر بل تيمم للصلاة لما اشتغل بتثبيت المراكز، وإعداد العدة في تلك الساعة، فقال له في محضر من الناس: الذي فعلته أوجب من الصلاة، أو أولى، هذا في مشهد عظيم من العلماء.
قال الراوي: وكان ذلك الأوان أعظم ما يكون من الجدب، وانقطاع المناهل، فأعلمني من أثق به أن الشربة الواحدة من الماء بلغت درهم أو نحو ذلك، وبلغ الغرب الواحد وهو ملئ مسك الشاة قيل: تسعة دراهم أو نحو ذلك حتى ضج الناس، وخيف على الخيل والبهائم من العطش، فلم ير أمير المؤمنين إلا النهوض من الإقلاع وقد اجتمع معه عسكر عظيم من الخيل والرجل.
أخبرني من أثق به أن عدة الخدم الذي تجري عليهم النفقة من أهل الحصون كانوا ألفاً ومائة فيهم نيف ومائة الذين يرمون بالقسي الفارسية دون غيرهم من الناس، فنهض أمير المؤمنين ضحوة النهار يوم الجمعة بعد أن قبض الرهاين من بعض قبائل الصيد ممن أصغى إلى القوم، ولم يقم الجمعة في ذلك اليوم؛ إذ لم يكن يرى بوجوبها في السفر.
قال الراوي: ولما عزم على النهوض أمر شريفاً من بني عمه وهو أحمد بن يحيى بن علي وأضاف إليه جماعة من العسكر، وأمره بالوقوف في قصر ذروة وحفظها ليلاً ونهاراً حتى ينصرف من سفره وينظر في صلاحها، ثم إن الأمراء من عسكره تقدموا أولاً فأولاً حتى خرج أولهم عن الشطبة وصاروا في بلاد أهل أبي الحسين بالكولة، و أمير المؤمنين قريباً من الشطبة، وتأخر بعض خدام الإمام ساعة في المحطة بحيث لم يشعر أحد به ومعه عدة أمير المؤمنين ولامة حربه درع حصين، ومغفر، وبيضة وغير ذلك، فقد تمكن رجل من عيال أسعد بن ستر من أهل يناعة في جماعة وكان في موضع وعر فقاتل القوم حتى كثرت فيه الجراحات فنجا بنفسه وفرسه فأخذوا عدة الإمام عليه السلام.
فأخبرني من أثق به أن حسن بن وهاس قلبها بيده فرحاً مسروراً وطالب القوم في خمسها، وبلغ العلم إلى أمير المؤمنين فأمر طائفة من العسكر فلم يظفروا بالقوم، وسار العسكر حتى هبطوا نقيل أثافت المعروف، وحطوا في شرقي البرمكة المعروفة بدماج، ولم يزل العسكر تواتر حتى دخل الناس، وبلغ العلم أمير المؤمنين أن رجلاً أو رجلين عدى عليهما في نقيل ثافت عند العشاء فقتلا واحتزت رؤوسهما، وأن الذين عدوا عليهما جماعة من الصيد. والله أعلم. وحملا إلى الحسن بن وهاس، والرصاص، وهذه الرواية سمعتها ولا أتحقق صحتها.
وأمسى الإمام عليه السلام في دماج فأكرمه المشايخ الأجلاء بنو المكم، فلما أصبح وصلى الفجر كان أول داخل عليه الأمير الكبير المجاهد شجاع الدين أحمد بن محمد بن حاتم بن الحسين العباسي ثم العلوي بدرع ومغفر وبيضة، ووضع الجميع بين يدي أمير المؤمنين، وأقسم بالله يميناً ليكون هذا عوضاً عما فات على الإمام، فشكر أمير المؤمنين صنيعه ودعا له بخير وأثنى عليه، ثم نهض أمير المؤمنين من دماج بكرة السبت لسبع أو ست بقين من شهر صفر سنة ست وخمسين وستمائة حتى هبط وادي مسلت وفيه يومئذٍ زوجته الشريفة الطاهرة الفاضلة ابنة الأمير الكبير الناصر لدين الله محمد بن الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما وصل أمير المؤمنين استقبله أهل الناحية بالمسرة، وأظهروا له أناس غير ما في نفوسهم ممن كان صنعوه مع القوم فتعمد لهم وقبل ظاهرهم، وكانت خليقته الحياء والصفح، وأمر بضيافة العسكر جميعه في داره، فأكرم الناس جميعهم، وأحسن ضيافتهم، وكان زمانه أزمة كما ذكرنا، كان الصاع في ذلك الأوان بدرهمين وأكثر الحنطة، فلما كان من الغد وهو يوم الأحد بلغه عليه السلام أن حسن بن وهاس، والرصاص ومن استنصروا به من الأمراء الحمزيين نهضوا من محطتهم بالحيس شرقي يناعة وحطوا في وادي ورور وأنهم يريدون المحطة في غيل شوابة لحصد زرايعها وأخذ أموال المسلمين والرعايا والضعوف بأجمعها ويشحنون بذلك حصونهم، ويتقوون به على ما هم فيه، ولم ير أمير المؤمنين أن له رخصة[154أ-أ] عن مدافعتهم عما راموه من ذلك لشدة الزمان، وعظم الأزمة، وحاجة المسلمين إلى ذلك من غير أن يقصدهم أو يبتديهم بحرب لما يرجوه من رأب الصدع، وصلاح العاقبة، وكراهية لما نهج من ثائرة الفتنة، فلما استقر في مسلت ذلك اليوم وهو الأحد وكان عنده ابن عمه إبراهيم أخ الأمير أحمد بن القاسم في صرم حديث فيما بينهم فانصرم الحديث فيما بينهم في هذا اليوم
المعين.
(قصة نهوضه عليه السلام إلى وادي شوابة، وما كان هناك من الخطب العظيم من استشهاده رضوان الله عليه)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: لما دخلت سنة ست وخمسين وستمائة كثرت الروايات من المتكهنين وأهل الأحكام النجومية وذكروا طرقاً مختلفة.
فمن أعجب الروايات أني سمعت رجلاً ممن يعرف في علم ......... في الرمل يوم الأحد قبل أن يقتل الإمام بليلتين وهو يقول للإمام في ذلك ويذكر هبوطه وادي شوابة ويحذره ذلك، وأحسب أنه من طريق الحساب.
وأخبرني الأمير الكبير ابن عم الإمام أحمد بن القاسم وقد كنت وصلت إليه لأمر الإمام لصلاح ما بينهما بما معناه: إن دولة الإمام إلى صفر وكان حديثه لي في شهر القعدة سنة خمس وخمسين وستمائة أو في أول ذي الحجة.
وأخبرني من أثق به من بني العم عن بعض أمراء بني القاسم أهل غربان أنه حدثه في يوم الثلاثاء قبل أن يقتل الإمام بليلة أنه قال لي: يا فلان، إن أهل الحساب يقولون: لو لم يبق من شهر صفر إلا يوم واحد لقتل فيه الإمام أو معنى ذلك.
وأخبرني بعض العلماء الأطهار عن رجل آخر ممن يتعاطى معرفة الزيج أنه قال له: يا فلان، إن أتى شهر ربيع الذي بعد صفر من هذه السنة وعاد الإمام قطعت يدي.
وأخبرني رجل أيضاً عن روايات أسندت إلى قوم من الباطنية دمرهم الله تعالى أنهم قطعوا بذلك في حسابهم على قتل الإمام في شهر صفر واستبشروا بذلك.
وأخبرني رجل من الأطهار عن ملحمة قديمة ذكر فيها الإمام المهدي أحمد بن الحسين عليه السلام بنعته وصفته، وأنه يقتله رجل من الأشرار، ثم ذكر صفة الذي يخرج عليه، وأنه يؤخذ قسراً أو يموت صبراً وغير ذلك من الروايات من الجهات المختلفة.
قال الراوي: ولما كان يوم الإثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة ست وخمسين وستمائة نهض أمير المؤمنين عليه السلام يريد شوابة لما ذكرنا من صنع القوم عن أموال المسلمين ودفعهم عن الضعفاء والمساكين، فنهض في عسكره مع من انضم إليه من قبائل همدان، فسار في عسكر وافر وجيش متكاثر حتى هبط على قرية شوابة من طريق شاطب حتى صار إلى قرية الحارة، فأمر بالمحطة فيما بين القرية وبين البركة في مزرعة تسمى سباعة، وأمر صايحاً بالشدة على العسكر من المعرة والنعيق على أهل البلد [154ب-أ].
ولما علم القوم بنهوضه عليه السلام إلى شوابة نهضوا في ذلك اليوم الذي نهض فيه قاصدين لحربه ومناصبته، وقد انضاف إلى المبتدعة من طغام الجهال من الشيعة طائفة يحرضون الأمراء الحمزيين على القتال ويتكلمون ......... فاستقرت محطة القوم في موضع يسمى السرعة وأغارت خيلهم ورجلهم فانتهبوا شيئاً من زرايع الرعية في غيل شوابة وروعوا الناس والضعوف، فلما كان يوم الثلاثاء ثاني وصول أمير المؤمنين إلى شوابة أمر عليه السلام بالأهبة ولباس العدة؛ لأنه لم يأمن مكر القوم، وركب في أكثر عسكر حتى أشرف على أقطار الوادي ورأى محطة القوم، ثم إن القوم ركبوا خيلهم وصمدوا إليه قاصدين لقتاله، ولم يكن عليه السلام يريد أن يبدأهم بحرب، فلما تراءت الفئتان استدعى حسن بن وهاس وأصحابه برجل من أهل صعدة وأمروه إلى الإمام بكلام المعجبين بنفوسهم المتطاولين على غيرهم يسومونه بالخسف، ويريدون له النقص، ويضمرون بذلك قتاله، ويرجفون عليه أن الذين معه قد صارت قلوبهم معهم وصغوهم إليهم، ويطلبون أن يلقاهم في عدة معلومة ويناظرونه على ظهور الخيل، فأجابهم عليه السلام بأحسن جواب وألطف خطاب، وأنهم إن أحبوا حكم الكتاب الكريم والسنة الشريفة فحباً لهم وكرامة، وكان يفعل لهم ما يطلبونه من الوثيقة فيمن يصل منهم، ولم يكن قصد القوم إلا التحكم عليه وتضعيف أمره، فلما لم ينزل لهم على حكم ولا وجدوا فيه مغمزاً ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وانصرف أمير المؤمنين عليه السلام إلى محطته، ثم أمر بإقبال الناس إليه مجتمعين، فتكلم عليه السلام مع الناس ووعظهم وذكرهم بالله تعالى، وندبهم إلى شكر نعمه، والاستمساك بحبله، والاعتصام بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، والالتزام بما أمرهم الله تعالى به من مبايعة إمامهم الذي قام لله غاضباً، وبذل نفسه في سبيله جاهداً، و قام في إجابته مجاهداً، ولم يأل جهداً في ذلك غير ناكل عن قدم، ولا واهن في عزم، وذكرخروج هؤلاء
المبتدعة وما هم عليه، وكشف للحاضرين لبسهم وأنهم يريدون فتكة يفتكونها، ومكيدة يفعلونها، وبدعة يحدثونها، وأن غير الحق يريدون، وعلى عوام المسلمين يلبسون، وأنه قد دعاهم إلى حكم الله وما يقضي به كتابه الكريم وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم وسيرة الأئمة السابقين الذين هم صفوة، وقدوة القدوة من زيد بن علي عليه السلام ومن قبله ومن بعده إلى القاسم والهادي وأولادهما إلى إمام الإئمة الذي هو سابق حلبة العلماء، وفخر السادة الفضلاء، العالم الأعلم أبي محمد المنصور بالله أمير المؤمنين عبدالله بن حمزة بن سليمان بن رسول الله، وذكر جملة للحاضرين من الكلام وغيره، وعين من قد أرسله من السادات وأهل العلم وكبار الناس كل ذلك رغبة في صلاحهم، وأن لا يشق[155-أ-أ] عصا المسلمين بسببهم، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم ازدادوا كبراً وفي أنفسهم عجباً، وظنوا أنهم قد أدركوا غرضاً، وهيجوا في قلوب الجهال مرضاً، ثم عرف الناس قصدهم وأنه لا يبدأهم بحرب إلا أن يقصدونه، وأن الذي حداه لما هو فيه إنما هو للمدافعة عن أموال المسلمين، والحماية للمستضعفين ممن لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة، هذا معنى ما تكلم به مع ما أظهر من الشدة والرفق بالناس من المعرة.
قال الراوي: فلما تكلم أمير المؤمنين بالكلام عرف المحققون أن القوم على غير حق، وأن دعواهم عليه في جميع ما يدعون بجانب من الصدق، وأقام العسكر في محطتهم يوم الثلاثاء وليلة الأربعاء، فلما كان يوم الأربعاء أمر أمير المؤمنين بالنهوض إلى هضب مشرف على غيل شوابة مطل على عين الكابة ليقرب الناس من الماء والكلأ ليكون بمعزل عن المحطة من الغيل خوفاً من المعرة، ويدفعون القوم إن قصدوا أخذ أموال المسلمين.
قال الراوي: فشمر الناس في النهوض، ورحلوا أثاثهم وآلتهم، واستقبلوا في الطريق، واستعد كل في عدته، ولبس لامة حربه خوفاً من بغي القوم، وأمرهم أمير المؤمنين أن يسيروا قارعة الطريق، ولا يبدأوا القوم بحرب، وأمر بالركاب، والأثقال أن يكون طريقها في سفح الجبل إلى جهة القبلة لمن يريد غيل شوابة حتى يجعلون المزرعة التي تسمى جبرات فيما بينهم وبين الناس، وسار الناس على هذا القصد.
أخبرني من أثق به أنهم لما نشروا رايتي الإمام عليه السلام وساروا قليلاً انكسرت إحدى الرايتين فوقع في قلوب الناس من ذلك شيء، وتكلم بعضهم مع بعض فقالوا: لو أن أمير المؤمنين ترك الحركة في هذا اليوم، فتكلم بعض أصحابه عليه السلام في ذلك فكره التطير وقال: امضوا على اسم الله، وتلا قوله تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون}، فسار الناس حتى خرجوا على الدرب الأسفل، وأطلوا على الوادي، فلما استثقلوا ولا علم للقوم بنهوض أمير المؤمنين وحركت النقارات، ورأوا ما راعهم من بريق الكتيبة أمروا صارخاً إلى غيل شوابة يستغيثون بقوم هبطوا منهم إلى الغيل ولا علم بنهوض أمير المؤمنين في ذلك اليوم المعين، فأقبلوا إليهم يهرعون، فلبس القوم لامة حربهم، واستعدوا للحرب، وظنوا أن أمير المؤمنين قاصداً لهم إلى محطتهم، واضطرب من كان معهم من القبائل وأكثرهم الصيد.
أخبرني من أثق به أن القوم الذين كانوا معهم من الصيد قريباً من مائتي مقاتل، ومن بني زهير وغيرهم ممن خدعه حسن بن وهاس، والرصاص.
وأخبرني بعض الناس أن بني زهير وغيرهم ممن كان معهم قد تؤامروا بالهزيمة إلى نهج بلادهم ويلقى فل الحمزيين، وأن قوماً قد كانوا انهزموا عن المحطة، وكان عدة خيل القوم فيما أخبرني ذو خبرة دون السبعين الفارس، وأكثرهم [155-ب-أ]من الحمزيين، فأما الرجالة فقيل: أربعمائة أو يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً. والله أعلم.
حدثني بعض الناس أنهم لما نظروا إلى عسكر أمير المؤمنين مقبلين في الطريق من أعلى الوادي، وظنوا أنهم قاصدين إليهم سألوا حسن بن وهاس، والرصاص عن قتال الإمام المهدي، وما الذي به يستنصرون؟ قال: فلقد قال الرصاص: قاتلوهم، ثم أشار إلى عنقه، ثم قال: ما لحقكم فهو في عنقي، وقيل: قال لهم الحسن بن وهاس معنى ذلك، فبينا القوم يتوقعون قادمة العسكر لقصدهم إذ أبصروا ثقلهم في سفح الجبل، و أمير المؤمنين قد استقبل طريق الغيل التي تفضي إلى البستان المنصوري.
قال الراوي: فلما رأوا العسكر هكذا استندوا بذلك وعرفوا أنها فرصة ونهزة ينتالون بها ذكراً.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: لما كان بعد قتل الإمام عليه السلام بأيام دون السبع فيما أحسب أمر إلى الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام ولد أخيه وأمر إليه بحصان من خيله ذمة مشهورة لحديث يطلبه بيني وبينه فيما يخص ويعم لما بيننا وبينه من الرحامة الماسة، واللحمة الواشجة، وذلك لما رأوا وسمع من حسن بن وهاس وإخوته من شدة العداوة وإرسال كل عدولنا وقلة الناصر، والجدبة العظيمة، وانقطاع المناهل حتى لقد بلغ حمل الرجل من الماء عدة من الدراهم، وأمر حسن بن وهاس بنهب الوارد، وانتهاب الماء إلا ما في عقد ذمة منه اجتراء على نقض الذمم، ورفض العهد لغير سبب يوجب ذلك، وكانت هذه طريقة منه أصابته من ذلك أنفة وحمية، فلما وصلت إلى الأمير المذكور إلى غيل شوابة لقيني بما هو أهله من حسن الأخلاق والإكرام والإيناس، ثم إنه قابل الجهة التي كان فيها مصاب الإمام المهدي رضوان الله عليه وقال لي: يا فلان، أحكي لك القصة يوم قتل الإمام؟ قلت: نعم، قال: إنا كنا مقيمين بكرة الأربعاء ولا علم لنا بنهوض الإمام، وصدر بعض منا إلى الغيل ولم يشعر حتى حركت النقارات من فوق حبرته مفدح ورأينا الرايات فظننا أن الإمام قاصداً لنا إلى محطتنا، قال: فأقسم لقد رأيت مع الإمام عسكراً ما رأيت مثله مع الملك المظفر سلطان اليمن، قال: فلما رأيناه قد استقبل الطريق عرفت أنَّا نغلبه، قلت له: وبما عرفت ذلك؟ قال: بالخبرة من العرب، وكان هذا الأمير ذا معرفة بليغة بأيام العرب وسيرة الملوك وحروبهم وأيامهم مع ما اختص به من الفصاحة والمعرفة بالشعر وعلوم الأدب هذا مع عزة الملك في قومه، والشرف في منصبه، والإقدام، والفراسة، ولولا أمور جرت كانت سبب المباعدة بينه وبين أمير المؤمنين أعظمها دسيس الحسن بن وهاس وأصحابه على الإمام المهدي رضوان الله عليه صريحاً، وكناية،[156أ-أ] ومشافهة، ومكاتبة يحذرونه من أولاد المنصور بالله، ويقولون:
إنه لا يرضون إلا هلاكه، حتى تباعدت القلوب وتنافرت. والله المستعان وعليه التكلان.
رجع الحديث
قال: عند العرب أن القوم الذين يتقابلون للحرب إذا رحلت أحدهما وتبعتها الأخرى عند نهوضها ووتقفتها فإنها تغلبها، وإني لما رأيت عسكر الإمام قد مضت قادمة عنا علمت أنَّا إن قصدناهم لم يلتفت الأول على الآخر؛ لأن كل واحد له شأن يشغله.
قال: فركبنا من ساعتنا، ثم ذكر الرصاص وبغيه شدة الناس وتحريضهم على قتال الإمام، وقراءته سورة: {اقتربت الساعة وانشق القمر} على أتى على آخرها وهو راكب على بغل أعرج. هذا كلامه لفظاً ومعنى.
قال الراوي: ثم إن أمير المؤمنين سار في الطريق كما ذكرنا حتى إذا صار قريباً من المحل الخراب المسمى قرن ردم في طرف الجربة التي هي متصلة به إلى جهة اليمن أقبلت خيل الأمراء الحمزيين أرسالاً قاصدين الإمام عليه السلام، وكان أقرب الناس إليه في تلك الساعة جماعة أجواد من الأمراء القاسميين أهل براقش من آل أحمد بن جعفر، والأمير الكبير المجاهد أحمد بن محمد بن حاتم، والأمير فخر الدين إبراهيم بن يحيى أخوه من أمه وجماعة من فرسان العرب، فلما حمل الأمراء الحمزيين حمل جماعة من أصحاب الإمام فهزموهم هزمة ظاهرة واستظهروا عليهم وعادوا عنهم قليلاً، فحمل الحمزيون ثانية فردهم أصحاب الإمام وصوبوهم، وكان الطراد بينهم والمحاولة، فلما رأى أمير المؤمنين أن القوم غير راجعين من حربه أمر الناس أن يقفوا عند هذا الدرب المسمى قرن روم وأمر بنصب الراية هنالك، ويكون فيئة لهم حتى ينصرف القوم.
قال الراوي: فسار أمير المؤمنين قليلاً ليقوم عند الدرب كما ذكرنا، ثم أقبل الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله فيمن معه من إخوته وأهله وأولادهم ومن يقول بقولهم ومعهم الرصاص يحرضهم من جهة، والحسن بن وهاس مع إخوانه ومن معهم يحرضهم من جهه، فلما رأى أمير المؤمنين الأمير شمس الدين قد أقبل في كتيبة يستقفي الناس وقد نشر رايته قام فيمن معه وأمر أخاه الأمير إبراهيم بن يحيى في جماعة ليقاتلوا الأمير شمس الدين، ثم حملت كتيبة الحمزيين من هاهنا وهاهنا، فاستطردتهم الشجعان قليلاً فثارت قسطلة عظيمة وعجاج مثل الجبال، واختلطت الخيل، فانهزم أصحاب الإمام لما رأوا أحد الرايتين ولت عن الدرب وظنوا أن الإمام قد سار إلى سفح الجبل ليقف هنالك، وبقي مع الإمام جماعة من الرجل، وكلما رأوا خيل الإمام قد قلت مضوا واحداً بعد واحد وأمير المؤمنين لازم لمركزه مستقبلاً للقوم بوجهه، ولم يبق[156ب-أ] معه إلا نفر قليل فيما أخبرني من كان حاضراً قال: لعل الذين وقفوا مع الإمام دون الخمسة عشر رجلاً.
حدثني رجل من رؤساء بني بحير قال: كنت مع أمير المؤمنين عند انهزام الناس عنه وقد حملت خيل الأمراء الحمزيين من جهتين ولم يبق مع الإمام إلا ثلاثة نفر أو أربعة ونحو ذلك، وهو غير مكترث بهزيمة الناس عنه، وأقسم ما رأيت أشد منه بأساً ولا أقوى قلباً، وثبت في موضعه لجميع عسكر بني حمزة.
وأخبرني بعض خدمه عليه السلام قال: لما رأى الناس افترقوا عنه قال: اعطني قبضة من الحصى، قال: فأعطيته، قال: فنفث فيها ورمى إلى وجوه القوم.
وحدثني رجل آخر قال: لما افترق الناس عنه ومالت خيل الحمزيين ميمنة وميسرة تتبع خيله قال: فقلت له: يا أمير المؤمنين، إن الناس انهزموا ولم يرجعوا، قال: فالتفت إليَّ وقال لي كلاماً ما معناه إلا أنه لا يبالي برجوع من رجع، ولا يبالي بمن عدا عنه قال: فلما سمعت منه ذلك عرفت أنه يريد الشهادة قال: فوليت عنه.
وحدثني من أثق به قال: لم يبق معه من أصحابه إلا الفقيه الطاهر المجاهد المعلا بن عبد الله القيسي ثم البهلولي مع أنه غرب إليه سهم فأصاب وجهه، ثم انصرف عنه قليلاً فأصابه رجل من الصيد بضربة في رجله، ثم رماه الأمير محمد بن أبي هاشم عم الحسن بن وهاس بنشاب، وأجهز عليه جماعة آخرون من وراء الدرب إلى جهة القبلة.
وقد أخبرني بعض الثقات أنه سمع محمد بن أبي هاشم يفتخر بقتل الفقيه المعلا.
وحدثني الفقيه العالم أحمد بن علي الضميمي بعد قتل الإمام المهدي بمدة طويلة بعد أن أظهر التوبة إلى الله تعالى والالتزام بما لزمه من الإصغاء إلى الرصاص والحسن بن وهاس قال: كنت في ذلك اليوم المعين قد أزمعت على اللحوق بالإمام عليه السلام والرجوع إليه بعد أن كنت قد أسررت ذلك وعرفه مني الإمام عليه السلام، وذلك أني كنت أحسب غضب الرصاص إنما هو لله تعالى هذا مع ما استقبحته من فعله أولاً إلا أني ظننت أن سورة الغضب قد حملته على ذلك، فلما تبين لي غرضه ومن يقول بقوله كالفقيه أحمد بن حسن وغيره تبت إلى الله تعالى وعزمت على اللحوق بالإمام المهدي عليه السلام، وبذل الوسع فيما أتيته مما يخالف رضا الله تعالى في حقه، قال: فلما ركب القوم من محطتهم قصدت جهة الرايتين المنصوبتين وعلمت أن الإمام عند رايته، فتجاولت الخيل وحملت خيل الإمام لما دنت منها خيل الحمزيين حملتين أو ثلاثاُ فردت خيل القوم أولها على آخرها، وصرعت بعضاً منها، وتصعدت قسطلة عظيمة حتى كانت كالجبل فلم يكد أحد أن يعرف صاحبه، وتلاحق الناس، ولما رأى الناس الراية التي ولت ظنوا أن الإمام عندها،[157أ-أ] وهو عليه السلام في مركزه لم يزل عنه يرجو إحدى الحسنيين، قال: فأبصرت فارساً عند الدرب وحده وقد أحاط به من جميع الجهات خلق كثير من الرجالة وهو يضرب ميمنة وميسرة بشيء في يده فقلت في نفسي: هذا رجل من أشجع العرب ولّى العسكر بأجمعه وهو في هذا الموضع وحده، وعجبت، ثم حالت بيني
وبينه العجاجة، ثم لم يزل يرتفع حتى سمعت رجلاً من خدام الأمراء الحمزيين يحلف للناس رافعاً صوته يقول: ذلك الإمام أحمد بن الحسين قد قتل، قال: فلم أصدق بذلك حتى طارت الكلمة ورجعت الخيل وقد أجهز عليه، وذكر كلاماً كثيراً وتمادياً في الطغيان من الحسن والرصاص وحزبه.
رجع الحديث
قال الراوي: ثم إن الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام دنى من مركز الإمام المهدي فوجه اليه أخاه من أمه الأمير فخر الدين إبراهيم بن يحيى فأبلى ذلك اليوم حتى كان علماً، ثم إن رجالة الأمراء الحمزيين لما رأوا ذلك العلم عند الدرب وعنده الإمام وحده قصدوه بأجمعهم أو أكثرهم، فلما وصلوا إليه أحاطوا به من كل جهة فعرفه رجل من الصيد يقال له: عبد الله بن علي بن حطيب فيما بلغني وقال: ألا إن هذا الإمام أحمد بن الحسين، فضرى القوم به رغبة في الدنيا، وكان فرسه عليه السلام أصابه عارض فبينا هو يجالد القوم من يمين وشمال إذ وقف رجل من الصيد قيل: من الكلبيين، وقيل: بل من بني صريم، فضرب رجلي الفرس فعقره، ثم وثب آخر فلزم بشكيم الفرس فتحامل الفرس وعليه عدة ثقيلة وهو في موضع وعث فانصرع على جنبه فأصاب رجله عليه السلام وهاضه حتى لم يمكنه النهوض والقيام، فوثب عليه رجل اختلف فيه، قيل: إنه هذا الصايدي الذي عرفه، وقيل: بل هو خادم من خدم الأمراء الحمزيين، فطعنه من تحت تفاريج الدرع طعنة في نواحي سرته حتى بلغ نواحي كتفه، وأجهز عليه جماعة آخرون.
وقد أخبرني بعض الثقات أن رجلاً من المبتدعة حضر القوم الذين أجهزوا عليه وأمرهم فنصبوه قليلاً وفيه رمق، وأمر رجلاً فضرب عنقه حتى أبانها، وضرب ضربتين أو ثلاثاً في وجهه.
أخبرني رجل من المسلمين الثقات ممن كان خالط القوم بعد الوقعة قال: رأيته عليه السلام وليس في بدنه جميعه إلا الطعنة، وثلاث ضربات في وجهه لم يسل منهن دم؛ لأنه عليه السلام هلك من الطعنة.
قال الراوي: ثم لحق الناس بعضهم بعضاً إلى ناحية الجبل فانتهبوا جميع الثقل، وكان جل من أخذ الثقل الصيد، ولما بلغ أصحاب الإمام الجبل ولم يروا الإمام عليه السلام اضطربوا مع أنهم لم يصدقوا بقتله، ومنهم من زعم أنه صدر جهة الجوف، فصعد العسكر بأجمعهم الجبل المسمى صرات، وساروا طريق قواط حتى تكامل الناس[157ب-أ] على بركة شاطب وعند ذلك سقط ما في أيديهم، وأيقنوا بقتل الإمام، فتفرقوا من هنالك منهم من صدر إلى صعدة، ومنهم من صدر الجوف، ومنهم من صدر بلاد حمير، وهم: الأمير المجاهد أحمد بن محمد بن حاتم بعد أن أبلى ذلك اليوم وأصيب بسهم في عنقه وأشرف منه على الموت، وصدر الأمير إبراهيم بن يحيى أخ الإمام ناحية حصنه المعروف بالصرارة قريباً من الأقهوم، وصدر الأمير عيسى بن الحسن بن محمد بن الأمير جهة غربان في جماعة من أصحاب الإمام.
قال الراوي: ثم إن الأمراء الحمزيين لما انجلت المعركة وبلغهم قتل الإمام اجتمعوا إلى الموضع الذي صرع فيه الإمام عليه السلام فقاموا قليلاً على مقتله، ثم ولوا عنه جذلين فرحين كأنهم ما رأوا في الدنيا فرحة كتلك الفرحة.
أخبرني بعض الناس أن الحسن بن وهاس لما بلغه قتل الإمام وهو في ناحية نزل عن فرسه وصلى ركعتين.
وأخبرني بعض الناس أن الفقيه أحمد بن حنش نذر على نفسه لئن قتل الإمام المهدي رضوان الله عليه ألف ركعة.
وأخبرني بعض الناس أن بعض أصحاب الحسن بن وهاس لما رأى صريعاً أخذ يرمي بسيفه الهوى ويتلقف ويقول: ألا يا يوم السرور، ثم إن الرصاص أو بعض الناس أمر فحملت جثة الإمام بعد أن احتز رأسه وأمر به إلى ظفار، وطيف به في السكك، وعبث به ضروباً من العبث، مثل به مثلة شنيعة، وسمع من الكلام الردي الفاحش ما لا يجتري أحد أن ينطق به، فلما حمل الجسد الشريف كرمه الله أمر الرصاص أن يدخل إلى خيمته فجعل في جانب منها قريباً من محط النعال، وأتى الناس أفواجاً ينظرون إليه والرصاص في خلال ذلك يؤذيه، ويتكلم مع كل داخل بصنف من الأذية، ويشير إليه حتى مقته الناس وسخروا به، ويغري الجهال بأذيته ونقصه ويتأوه تأوهاً وتفاخراً و أنه لولا قام عليه لما جرى ما جرى ولم يدر أنه بذلك خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
(قصة قبره عليه السلام )
أخبرني بعض بني العم قال: لما كان بعد الوقعة لم أبرح حتى استأمنت القوم ودخلت محطة القوم، وتلطفت في قبره، قال: فلقد كاد الناس أن يقعوا بي من الحمس عليه والكراهة، قال: فلما حفر قبره أدخلته أنا ورجل آخر من الأشراف ورجل من أجوارنا، ثم دفناه في موضع يقال له ملاعب عند السرعة في وادي شوابة.
قال الراوي: فأقام رأسه عليه السلام في ظفار إلى بكرة الجمعة، ثم أمر به، ثم استخرج جسد الإمام من قبره ثانياً.
حدثني بعض الثقات قال: سمعت الرصاص وهو واقف على قبره يشير إليه بالتوبيخ والأذية، ويجرئ الناس على أذيته. فالله المستعان.
فلما استخرج جسده وأمر بإدخال رأسه مع جسده، ثم دفن رحمة الله عليه ورضوانه.
وكان استشهاده ضحى النهار يوم الأربعاء لليلة أو ليليتين بقيتا من شهر صفر سنة ست وخمسين وستمائة[158أ-أ] فصح مدة عمره سلام الله عليه ثلاثة وأربعون سنة وثلاثة أشهر وسبعة عشر ليلة. والله أعلم.
وصح مدة قيامه عليه السلام عشر سنين ونصف شهر.
قصة من استشهد معه ذلك اليوم
استشهد معه ذلك اليوم شريفان أحدهما عبد الله بن محمد بن جعفر القاسمي من غربان، والثاني من آل أحمد بن مظفر أهل براقش، واستشهد معه الفقيه الطاهر المعلى بن عبد الله القيسي، واستشهد رجل من جنب، وخادم مولى كان مع الإمام من أهل ثلاء.
وأخبرني بعض الناس أن عدة القتلى كانوا إحدى عشر رجلاً. والله أعلم بالصحيح من ذلك. ولم أعلم بأحد منهم قبر إلا الإمام والرجل الجنبي بل مثل بهم وتركوهم للسباع، وكان استشهاده رضوان الله عليه عند مضي ربع النهار من يوم الأربعاء أو دون ذلك، وتواترت الأخبار أن التتر من الترك قتلوا في ذلك اليوم آخر الخلفاء من بني العباس، وخليفتهم في ذلك الأوان المستعصم بن المستنصر بن الناصر واستولوا على بغداد وأهلها ووضعوا فيهم السيف أياماً حتى لم يبق من الخلفاء أحد، بل استأصلوا شأفتهم، وقيل: بل كان قتلهم قبل قتل الإمام بيومين أو ثلاث، وزال ملكهم، وقد مضى خمسمائة سنة، فسبحان من لا يزول ملكه، ولا يغلب سلطانه.
وأقام القوم في محطتهم تلك، وكتبت البشارات إلى سلطان اليمن الملك المظفر والي أقطار اليمن، وبلغ عند الباطنية القرامطة ومن يجري مجراهم من المسرة بقتله ما لم يسمع بمثله، وأمروا في مداين اليمن بإشادة البشارات، ونشرت الكساء على الخانات والأسواق، وأعلن بالمنكرات، وكانت له الفضيلة المشهورة في عدن عند التهنئة بالأشعار لوالي عدن المسمى بالخوري ما نذكر طرفاً عند فضائله المشهورة بعد قتله، ونهض القوم ثالث قتله أو رابعه إلى الموضع المسمى المزهرة من غيل شوابة، ولم يبرح الرصاص يفتل الأمراء الحمزيين على الذروة والغارب حتى بايعوا الحسن بن وهاس بالإمامة، وتسمى بزعمه بالخلافة.
أخبرني من أثق به أنه تحدث الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله في بعض الأعراض هنالك، فلما جرت بينهما محاورة قال له الرجل: هذا الإمام يعني حسن بن وهاس، فقال له على وجه الإنكار والاستهزاء: ومن هو الإمام؟ قال: حسن بن وهاس، فقال له كلاماً على وجه الزجر: دع هذا ...... ومعنى ذلك، ثم إن الرصاص كان يقتنص الناس لبيعة حسن بن وهاس ويتهددهم عليها، وعلى الجملة فما أعلم أحداً بايع الحسن بن وهاس طائعاً ولا معتقداً لإمامته بل تقية، وخيفة على روح أو مال، أو من يريد الدنيا يأكل منها بالاعتزاء إلى هذه الدلسه.
فأما ما يحتج به من بيعة الأمير الكبير العلامة شرف الدين الحسين بن محمد بن الهادي فإنه بايع مكرهاً؛ لأنه تخلف عن الإمام المهدي لوجع أصابه في مسلت، فلما استشهد الإمام خوف بالقتل فنزل إلى القوم فبايع بيعة لا تلزمه شيئاً ليتوصل إلى بلاده، وقد ذكر ذلك في رسالته بعد قيام أخيه الحسن بن محمد، ثم إن الرصاص سلط بعضاً من المتهتكين كابن غدير وشبهه، وأمرهم بأسر جماعه من العلماء والمسلمين في نواحي الظاهر، وأمر بتتبع كل من أمكنه من أولياء الإمام المهدي، وأمر الحسن بن وهاس بأموال الأشراف أهل ذيبين من آل يحيى بن حمزة في غيل شوابة، فمنها مال لأيتام مساكين وأرامل وضعوف وأموال قوم آخرين، وكان هنالك من التعدي والغشم ما لا يتسع له الكلام، وكان الناس في معظم الحطمة التي لم يسمع بمثلها.
قال الراوي: لقد رأيت الناس صرعاً عند خيمة الحسن بن وهاس يتضرعون إليه فلا يرحمهم، وعاث الناس في البلاد الظاهرية، فكان الصيد يأخذون الناس ليلاً ونهاراً، ويكشفون الحرايم، ويقطعون الطرقات، فلا يزعهم وازع، ولا يدفعهم دافع، وأقام القوم في محطتهم بالمزهرة أياماً ونهضوا قاصدين الجوف، فقصدوا الجوف وتلك النواحي، وصعدوا الجوف الأعلى، ونهضوا إلى صعدة وأقاموا أياماً، وجرى بين الحسن بن وهاس ومن يقول بقوله وبين آل المنصور عليه السلام من الاختلاف، وطلب الحسن بن وهاس أن يقبض حصن تلمص وبراش، وكانت ثم أمور حتى هم الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام ومن يقول بقوله من إخوته ومن أهله ومن يتبعهم بالحسن بن وهاس وأصحابه، فلم تمض إلا الأيام القرائب حتى جرى من أمرالله تعالى ما لا يرد فتوفي الأمير شمس الدين بن أحمد بن الإمام المنصور بالله، وكان المقدم بعده الأمير الكبير نجم الدين موسى بن الإمام المنصور بالله فتوفي بعده بأيام قرائب، ومات من الأمراء آل وهاس الأمير المؤيد بن وهاس وأخوه سليمان، والعماد، وإبراهيم، وعبد الله أولاد وهاس، وأبناء سليمان بن وهاس، وتوفي الأمير الكبير شمس الدين بن أحمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان، ومات في تلك الأيام من رؤساء العرب وكبارها عدة، ولم يلبث الرصاص بعد ذلك إلا أيام قرائب ومات في قرية حوث، فسبحان الحي الذي لا يموت.
رجع الحديث
ولما جرى على الإمام المهدي عليه السلام ما جرى وكان ابن عمه الأمير أحمد بن القاسم في حصن مدع ومعه الأمير قاسم بن يحيى بن القاسم بن عم الإمام في جماعة يحفظونه فتصنع أحمد بن قاسم حتى خرج من مدع، وأعد حتى وصل الموقر، ووثب بني وهيب فأخذوا حصن مدع، وحصن حلب، وحصن براش الطويلة، وأقاموا مدة قريبة، ثم وصل إليهم الأمير إبراهيم بن يحيى أخ الإمام لزيارة والدته ووالدة أمير المؤمنين وهم في حصن حلب، فأقام أياماً وجرى بينه وبينهم حديث في الحصون التي للإمام، فخاف من القوم واستنصر بقوم أهل حضور قريباً منه، وأوقع بالقوم واستصرخوا بالأمير أحمد بن يحيى بن حمزة، فأقبل بعسكره حتى دخل موضع يسمى المنار فعاثوا في الحصن وانتهبوا الحرايم، وعاثوا في القصر فانتهبوا ما كان فيه للإمام المهدي وأخذت خزانة عظيمة [159أ-أ]منها قريب من مائتي كتاب وآلات وبسط روميات وأثاث من القصر، وأمر الأمير الكبير أحمد بن يحيى باحترام والدة الإمام وابنة للإمام صغيرة وأخرجوهم، وأمر بخراب حصن حلب ذويب بنو وهيب على جوار الإمام اللاتي كن في حصن مدع فأخذوهن وسلبوهن وكشفوهن، وافتضحوا بين العرب في إخراجهن مكشفات، وأخذوا حصن مدع وما كان فيه من الشحن والعدة وغير ذلك، وسنوا للناس سنة في حصون الإمام من المشرق والمغرب إلا ما كان مع الأمير الكبير المجاهد المخلص أحمد بن محمد بن حاتم براش صنعاء وفده كان فيها رجل من المسلمين الثقات أهل صنعاء، أما الأمير أحمد بن محمد فإنه كفل أولاد الإمام الذين معه، وحفظ ما كان يخص الإمام عليه السلام من الأملاك، وعمل بمقتضى وصية أمير المؤمنين جاهد في سبيل الله من حصن براش سنتين متتابعة، وأوقع وقعات في أعداء الله من الباطنية والمجبرة، وكان شجا في حلوق الكافرين حتى أمر سلطان اليمن الملك المظفر بالمحاط عليه، وتقاصرت عليه الأحوال وكثرت النفقات، ثم آل أمره بعد حرب ثلاث سنين ونصيف إلى أن باع الحصن لما لم يبق فيه
إلا نفقة دون الشهر وخاف على من فيه من الحرايم والأطفال والمسلمين أن يهلكوا ضربة واحدة، ويضيع الحصن مع ذلك، فأخذ مالاً ورجع في هذا المال إلى فتوى من أمكنه من عيون العلماء، وكذلك الرجل الصنعاني فأما من عداهما فتعلل بعضهم بعلل واهية، وبعضهم لم يعرج بل باع ما في يده ورغب في الحطام، والحصون التي كانت في يد الإمام رضوان الله عليه براش صعدة، وتلمص، والقفل عند ظفار، وحقيل حصن ذروة، ومدع، وجاهلي حجة، وقنصاب، وشمسان، وجبل الحرام، وظفر، ونعمان، وذروان، وخراف، والموقر، والعرنوق، وبرش، والمنوبر، وهداد حملان، وجاهلي الحدم، ويفوز، وحلب، وفدة، وبراش صنعاء، وبراش الباقر، والكميم، وبكر منهم، وهداد الهان، والريفة، والصرواة.
أما براش صعدة فسلمه واليه للحسن بن وهاس وأعطاه شيئاً من المال، وكذلك تلمص أعطاه واليه الحسن بن وهاس بعد أن عرضه واليه على آل المنصور فكرهوا ذلك لأجل القفل وأخذ شيئاً من المال.
وأما مدع فأخذه بنو وهيب، وبراش الباقر غدراً وعدواناً.
وأما جاهلي حجة فباعه الأمير أحمد بن القاسم من السلطان الملك المظفر بعشرة آلآف دينار ملكية فيما بلغني، ونعمان أيضاً باعه بسبعة آلاف دينار ملكية، وقيضاب باعه واليه السلطان بثلاثة آلآف دينار ملكية، وشمسان أخذه السلطان بالحرب ودفع أجراً مالاً، وظفر أخذه بنو واشح وقتلوا واليه، والموقور والعرنوق وبرش وجبل الحرام قبض عليها الأمير أحمد بن القاسم، وجاهلي الحدم أخذه واليه الشريف قاسم بن جعفر من الأمراء أهل غربان، واستولى آخرا الإمام الحسن بن محمد بن الهادي وباعه من الأمير الكبير[159ب-أ] أحمد بن محمد بن حاتم من قيمة براش بقريب من ستين ألف درهم، وذروان سلمه بنو وهيب للأمير فخر الدين عبد الله بن يحيى بن حمزة، وحقيل ذروة بأيدي الأشراف آل يحيى بن حمزة إلى تعليق السيرة، وهداد والهان باعه واليه هادي بن عمر الكردي وأخذ قيمته عشرة ألآف دينار ملكية، والربغة باعها واليها الشريف منصور بن غانم بثلاثة آلآف دينار ملكية وأخذ قيمتها، والكميم باعه واليه مالك الخريف بنيف وعشرون ألف دينار ملكية أعطى الحسن بن وهاس شيئاً نيف وثلاثين ألف درهم وأخذ شيئاً، ووصل أولاد الإمام من ذاك بالشيء الحقير النزر، وأمثلهم حالاً الأمير الكبير المجاهد أحمد بن محمد بن حاتم فإنه رعى صنع أمير المؤمنين ووصل أولاده، وكذلك الرجل الصنعاني والي فدة وهداد، وحملان أخذه قوم من حملان، والصرراة أخذها أولاد الأمير صفي الدين.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: فهذه جملة من سيرته عليه السلام إلى أن مضى شهيداً حميداً مجاهداً في سبيل ربه فصلوات الله عليه ورحمته وبركاته، وقد أعرضنا عن التطويل فيما علقناه وقصدنا الإيجاز فيما رويناه، فشيء مما شاهدناه كما رأيناه، وشيء مما رواه لنا الثقات، وشيء جمعنا فيه أصح الروايات، وربما نلاحظ المعنى فنقل اللفظ فيصعب جداً، ونحن نستغفر الله العظيم ونتوب إليه مما يخالف رضاه في جميع ما رويناه وعلقناه، ونسأله أن ينفعنا وجميع المسلمين بما وضعناه بحوله وقوته، وأن يلهمنا الإصابة لأحب الأعمال إليه فهو ولي الهداية، وبه أزمة التوفيق في البداية والنهاية، ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومما قيل فيه عليه السلام من المراثي من ذلك ما قاله السيد العلامة شرف الدين واسطة الهاشميين يحيى بن القاسم بن يحيى بن القاسم بن يحيى بن حمزة رضي الله عنه:
لاَّ بكيت بدمع منك مهراق
لحادث حط في الدنيا بكلكله
أرخى جوانب أوراق ألم بها
لعل في الأيكة الغناء مطوقة
كما بكت لمصاب الفاطمي ضحى
سبعين يوماً على الأقطار من يحسن
يحذو الجنوب مدالج السحاب به
لا غيض الله دمعي بعده أبداً
يا عاذلي دعا عدلاً لمدكر
مرتل طاهر الأثواب قد سمعت
نما إلى الجوهر العلوي منصبه
لابن الحسين صبابة جعلت
هو الإمام بإحماع الأنام معا
أيختفي فيه أبها جل معفه
إن قلت فيه فلا مين ولا كذب
سل المنابر عنه يوم يقرعها
عن سيد يهب الدنيا فلا عدل
وفارس تقلق الفرسان هيبته
يهابه الموت إلا أنه قدر
لهفي عليه ولهف المسلمين معا
على المطهر من وصم ومن دنس
يا ضل سعي بني الدنيا لقد نبذوا
بكى على نزعه في رومر بحسن
كأن من طينة الفردوس عبقها
ما الدهر إلا عجيب في تصرفه
فيه المنايا يجوب الأرض طارقها
لم ينج منها أبو شيث ولو تركت
ولا سليمان والنكباء تحمله
أين الجبابر أم أين الأكاسر هل
تجرعوا من زعاف الموت كأسهم
وأهل بغداد ررموا يوم مصرعه
فابتز ملكهم خاقان وانقرضت
والموت غاية ذي روح وذي خلد
لم ينج منه النسور الضخم من لبد
وخادر تقبض بالأبطال نازله
ظلت حليلته في الغيل والهة
وأجفهت مكفهراً الوجه صهصلق
وكانس تقرير ظل برامة
أتاه مضطجر قاص فظلله
وما دار عصم في الربذ مسكنه
وأربد يحرق الأنياب من نصب
?
?
لحادث من خطوب الدهر طراق
في حالك من سواد الليل غساق
يا أبعد الله من خطب وأرواق
تبكي وتندد ورقا ذات أطواق
حور السحاب بأغياط وأغداق
يطبق الأرض جوداً أي إطباق
كالترك يخفر عن خوف وإشفاق
ولا بقي بعده في ظهرها باقي
أخلاق أزهر سامي النبت غيداق
إحسانه حيث لا يرقى لها الراقي
كأنه الشمس في ضوء وإشراق
أواصراً تنتمي منها بأعراق
تاج الفخار ومعنى كل آفاق
للوذعى بحر القول مصداق
ولا غلوا بإطراء وإغراق
عن هزبري إلى الخيرات سباق
يثنيه أو خوف إقلال وإملاق
إن قامت الحرب في يوم على ساق
من قاهر لجميع الناس حلاق
على المهذب في خلق وأخلاق
حامي الحفيظة في ذعر وإشفاق
ما أخذ الله من عهد وميثاق
يتلوه جود هزيم القطر دفاق
فدع أحاديث ذي طعن وإخفاق
لا يستقيم بمخلوق على ساق
جوب الصريم محيطاً كل آفاق
من نسله فوق ظهر الأرض من باق
وظله بحر في كل خفاق
وقاهم من قضاء الله من واق
وربقوا بعد تيجان بأرباق
مرام معطبه في القول لفاق
تلك المقامات من زمر وصفاق
وذي جناح وذي ظفر وإغلاق
ولا الأنوف سامي الزبد براق
هول الحمام بإرهاق وإذلاق
ورها عند حربت الشدق وحراق
جوب السراق قرنيص السد صعاق
فإضمانه كيوم عند أدماق
فخر ...... إخفاق ورفاق
أو أم حشف بذي سبب وطباق
جار ضئيل على الأيام مطراق
وقال السيد رضي الله عنه أيضاً:
ن لطرف العين من سهره
ولقلب لم يزل ولهاً
برهيش صايب جعلت
وكذا الدهر نائبة
كم رأينا من عجائبه
بينما ذا الملك مرتفعاً
في ظلال سجسج بهج
قد زهاه العجب فهو له
ليله لهو وضحوته
يتهادى بين ذي أشر
وشموع كالهلال بها
لو دعا الجوزاء لانحدرت
إذ دهاه الدهر عن كثب
فمضي ذكراً بسيرته
سلبوه التاج ثم دحوا
قال قوم إنها جدث
يرزح في قعر مظلمة
أين خير الناس من مضر
وأولو العزم الذين هم
أزلفوا للموت ثم حبوا
إنها الأيام هل تركت
أين صعب في مناقبه
وكذا الضحاك بل ضحا
وبنو الغطريف من أسد
وذهب من زرعه نفرا
وهرقلاً في بطارقة
وبنو حرب وإخوتهم
طنبوا في الردم ملكهم
واسأل الأيام عن خبر
من بني العباس أين هم
بزهم خاقان ملكهم
بعد أن تمت لهم حقب
فكأن القوم ما ملكوا
جل من هذا لحكمته
لم يدع ذا الموت ذا خطر
وحديث الوحش يهصره
لو تفادى الموت في أحد
أين من جبريل خادمه
بل أمير المؤمنين ومن
نقبض الرئبال في أجم
ويكفر في ذوي لبد
وفدينا ابن النبي بما
أحمد المهدي من خلقت
ملك تهمي أنامله
ملك بذ الملوك فما
حاز خصل السبق يوم حرا
لم يجل الوصم مبرزه
طال ما أحيا العلوم وما
طال ما قاد الجيوش إلى
أسد في الحرب ذو لبد
نصر الإسلام مطلعا
منهل للوفد ما نضبت
يهب الصهال معتذرا
وبرود الوشي قد رقمت
قسماً بالمشعرين وما
وبمن طاف الحطيم ومن
ما مشى فوق البسيطة من
كسليل القاسمين ومن
فابكه وانظم وقل حسنا
إنما الدنيا أبو دلف
فإذا ولى أبو دلف
غيب الله الزمان كما
?
?
ولمرقض بمنهمره
من رماة الدهر من ستره
ريقه الرقشاء في أطره
لجميع الناس في عصره
واختلاف الحال في هبره
فوق ديباج على سرره
يسحب الموش من حبره
سكر ما انفك في سكره
يقطف الوردي من زهره
وبطيف الكشح من عصره
منتهى المطلوب من وطره
في هزيع الليل من سمره
بغماس الفتك من بكره
عبرة عظمى لمعتبره
تحته الوعثاء من عثره
ومصر الناس في إكره
موحش لا بد من سفره
من صميم الغيظ ممتحره
مستقر الوحي في زبره
بصفي العيش عن كدره
حذرا للحد في حذره
وابن هاش الملك في بطره
وملوك الفرس من زمره
وذوو التيجان من أسره
ذا مقارنه وذا يهره
يسجد الأقيال في حجره
من بني الأعياض في بهره
واستباحوا الروم في زفره
تفرق الآساد من خبره
لك من ذكرى لمدكره
فغذوا للسيف من جزره
من حوافي الملك أو عسره
منه عالي الشأن من غرره
وعموم الموت من قدره
في ورد منه أو صدره
في قنيص العدو من حضره
لافتدينا الصم من عبره
في هزيع الليل منعكره
اقتفى المختار في سيره
وعتيق الطير في وكره
صاحب الآلاف من عمره
خلق الرحمن من بشره
هالة الإحسان في قمره
كسجال الدلو في مطره
أحد يرقى إلى خطره
وارتقى للمجد من صبره
عمره من مبتدأ صغره
عبد الرحمن في سحره
كوكب كالليل في بحره
نهج الأبطال في ظفره
ليس بالمفؤود في خوره
خسف المعروف من ثرره
وخصيب الجرد من حجره
بنظار التبر من شعره
في تلاع الخيف من جمره
قبل المصمود من حجره
بدو هذا الخلق أو وحضره
ختم المعروف في بشره
كفريد العقد من درره
بين باديه ومحتضره
ولت الدنيا على أثره
غاب خير الناس في صغره
وقال أيضاً فيه صلوات الله عليه:
ي الليالي جم عجائبها
غول يغول الملوك في غرف
ما فاز من كيدها لعزته
هل بعد داود وابنه عظة
تؤوب الطير والجبال إذا
ذاك ومن حمير مثامنه
ذوو الفخار القديم منا
شادوا بغمدان كل نائفة
تحمل ريح الجنوب عبقها
أو بعد صرواح في عجائبها
أو عرم الجنتين من سبأ
دهتهم في الظلماء داهية
فمرقت من سبأ غطارفها
ومن رأى نوبتي معين وقد
وسرقت الملك في براش
وفي ظفار الوادي المعتبر
ومن يلبس حلاً مكعبها
تلك صروف الزمان ما تركت
فاصبر لريب الزمان إن له
واذكر مصاب الإمام إن له
شمس سماء العلا وجوهرها
العالم العامل الجواد إذا
يستمطر الهندب الهزيم به
كأنما كفه براجمها
خير بني هاشم وسيدها
أشدها عزمة إذا سبكت
الواهب الضمر العتاق إذا
وكاشف الجور والعسوف وقد
حامي ثغور الإسلام لا ضرع
من باع لله نفسه كرما
أشجع من سار تحت خافقة
تشهد صنعاء أو شبام له
يوم هبوط الشهباء من كشر
أقبلت الريح بالعذاب ضحى
وشامخات لما دعى خضعت
تسعون حصناً مع النجوم بها
ذاك وكم طارق الوفود أتى
ورفقة عضها الطوى فمضت
فانكبت بالثناء ولو سكنت
رست عليه الصماء مرهمة
رامت حطام الدنيا فصار لها
راشت سهام الشقاوة وانعكست
ما راقبت حرمة النبي ولا
خادعها زبرج الجهام وما
ظنت بأن الملوك يخدمها
إن زخرفت فرقة بما نقمت
إذ حطها الله فهي زاهقة
فلا سقى الغيث من شوابة ما
هناك مات الإسلام بل سفكت
وجاد ذيبين جود سارية
وكل دفاقة غرابلها
وطفا تدنوا من الشناص لكي
لمعا لوجه لو كان لألأه
فانعم عليك السلام ما اختلفت
طهرك الله واصطفاك فما
?
?
تطرقنا بغته نوائبها
تصب من بحرها مصائبها
قيل ولا قط فات هاربها
أو غيره يبعيد صاحبها
هجس في نعيبه يخاطبها
هم في سماء العليا كواكبها
قيب أحسابهم ترتقى مناصبها
تحت وشاح الجوزاء محاربها
مسكية عطرت سحائبها
من مرمر كللت جوانبها
حين تناءت منها مآربها
مستفحلات عواربها
وعطلت بعدها مراتبها
أضحت قصور بيضاء تصاقبها
من غيلان قد رصدت نواصبها
أين مضى ملكها وحاجبها
عنها وبادت عنه كواعبها
حياً ولاذوا سطا يغالبها
سهام حكم تصمي صوائبها
زلزل من شمها مناكبها
نمته من فاطم أطايبها
غدت لأسلافه مناقبها
في الأزم إن لم تجد هيادبها
من كف عيسى المسيح لازبها
وفخرها جهرة وواهبها
من بأبيات الحلا يحالبها
ضن بها في الزمان راكبها اسحنككت برهة غياهبها
يفنيه إن سددت مذاهبها
لحطة لم يزل يراقبها
تنشر يوم الوغى ذوائبها
في حيثما جمعت كتائبها
فلم يؤب من حضور هاربها
فارفض من تركها مواكبها
وانقاد طوعاً لديه ناكبها
براش نجم الحصون ثاقبها
من فلوات طالت سباسبها
تهوي وقد أندعت ركائبها
أثنت لمعروفه حقائبها
بغياً ودبت لها عقاربها
في كل حال تتلى مثالبها
فيها ولم يخطها صوائبها
خلافة الوحي وهو صاحبها
صن بروق شيمت خوالبها
يعقد عن أمرها كتائبها
فقد بدا أخرا كواذبها
ببركات سارت عجائبها
حفته صرات أو ملاعبها
من مهجة المصطفى سنايبها
كل هزيم تالي يجاوبها
يحرص وجه الجنوب خاصبها
يسقى ضريح المهدي ساكبها
للشمس زينت به جوانبها
من كل ريح هبت جوانبها
نالتك من وصمه معائبه
ومن ذلك ما قاله الفقيه العلامة نظام الدين لسان المتكلمين القاسم بن أحمد بن عبد الله الشاكري أيده الله تعالى:
الله لا ملقا ولا بهتانا
إن الفصاحة والشجاعة والندا
دفنت مع المهدي يوم غدا له
لو كنت لم تجز الصنيع إساءة
يا ابن الحسين سقيت من سيل الحيا
ونزلت عليبن أكرم منزل
لله أي كريم قوم غادروا
كالصارم المأثور حين يهزه
لا قته خيل عدوه مستبسلاً
فرداً وعسكره تمر جياده
تالله لو حمي الوطيس ودونه
لرأيت مجتلداً يقهقر دونه
ولكان عالاً مفخرا وسما وقد
إن نالت الأعداء منه فقد حوى
ومضوا بعاجل نقمة أبقوا بها
يا راكباً وجنا ناحية السرى
نالت مناسمها الحديل وشد ما
ضاقت بمنعرج اللواء من محرز
ما زال يعملها وما زالت به
من مربع اليمن المبارك منزلا
من حمير في أرض همدان إلى
يجتاب أردية السراب وقصدها
وتزور قبر المصطفى فيفيد في
تيمما وادي العروس وطالبا
فالخصلتين فأرض بغداد أنخ
فالقطر من همدان أي مجاور
فالري فالأرجا فآمل إن في
فالقبر من ..... على علامة
وهناك سرحها وزوامها
وأركب سواها بالغاً ومبلغاً
بلغ إلى حران عنى مالكاً
أن لا يغرهم الحديث فإنه
أو فتنة عميا تدعوا أربابها
ما عندنا بعد المفضل أحمد
ما إن علمنا قبلها من فرقة
جعلوا زهادتهم حبائل صيدهم
ثم انثنوا عنا فأصبح بدوهم
جمعوا لنا فرق الغواة ولبسوا
يا أيها الملا الكريم بديلم
هل يدعون إلى الإمامة قاتل
يتلو كتاب الله في أسحاره
شتان بين ابن الحسين وبين من
لم يحكه وجهاً ولا بأسا ولا
أعيا عليه لحاق أحمد مثلما
وعليكم مني تحية وامق
تزداركم ما لاح نجم دجنة
?
?
قسماً تحلل بره الإيمانا
والصالحات الغر والإيمانا
شيخ الضلالة ناكثاً دفانا
إذ لم يقيم بجزائه الإحسانا
داني الرباب مجلجلاً هتانا
تحبى الرضا والروح والريحانا
تحت التراب وأودعوا الأكفانا
يلقاه لا حزنا ولا خوانا
في الصف يعمل مخدماً وشبانا
مر الصقور يبادر الشعانا
عشرون تصدق نجدة وطعانا
أسد الشرى ويشيب الولدانا
صدق المصاع وجدل الأقرانا
شرف الجهاد وروضة وجنانا
عاراً وحلوا بعدها نيرانا
سرح اليدين شملة مذ عانا
وربت بأرحب في ربى همدان
بالمنحنى وتربعت سيانا
هزي الهجير ويقدحي الصوانا
في منزل والموت والحومانا
خولان تركت دكدكا ورعانا
البيت العتيق تؤمل الرضوانا
تلك العراص العفو والغفرانا
من مد حرتنا إلى كوفانا
فيها الركاب وروح الركبانا
حتى تحل معرشا فاسانا
سوحيه قبرانا بالندى ملانا
علم يفيض فصاحة وبيانا
روضا أغن ومشرب الريانا
أقصى النواحي حازماً يقضانا
في ديلمان وفي ربا جيلانا
لمع السراب يخادع الضمآن
عميا حيارى بايعوا حيرانا
إلا ضراً لا ينفع العطشانا
جعلت قتال إمامها قربانا
والدين قولاً والتقي إدهانا
في الناس بعد تقدم تبيانا
وجه الصواب وحرفوا الفرقانا
والجيل أكرم حاضراً جيرانا
فيها إماماً عادلاً ديانا
والمنـ....ون يجاوب الرعوانا
يدعو إليها بعده شتانا
جوداً ولا يدنو اليه لسانا
أعيا هجينا أن يكون هجانا
تختصكم إذ كنتم الخلصانا
أو رنحت ريح الصبا أغصانا
وقال أيضاً يرثيه ويذكر قاتلته وما أصابهم بعده ويفضله على من عارضه وادعى الإمامة:
ا للشباب تبدلت ألوانه
حسنت به الأيام إلا أنه
وسحوب النقصان شايع ظله
أضحت مراتعه حطاما بعد ما
وصفت مشاربه وكدر صفوها
كان الهوى والعيش بين غصونه
ثم انبرت نوب الخطوب فبدلت
فمضى بمصرع أحمد متصرفا
ابن الحسين إمام شرع محمد
المعتلي شرف المعالي والذي
بارى الأفاضل في العلوم فبذها
وإذ تلاينه استقاد مطاوعا
وانبر سلطان الممالك عنوة
وجرى فباراه الملوك فقصرت
وإذا تزاحمت الجنوب بمازق
طب يعارضه الجدال وفي التقى
وعرمرم قد قاد نحو عرمرم
كالليل أو كالبحر يطفو موجه
ويخال فيه إذا تألق لامه
برقاً يلوح لبيضه ولبيضه
عالي به شرفاً وآب مظفراً
ولرب مظلمة أباد وظالم
ومنج وفد قد تخوفه الطوى
طاوي الحشى واهي القوى قد لاحه
قد راشه فتوسعت ساحاته
وإذا تجاور لم يذم جواره
عجمت نيوب الدهر عود قناته
ودعى إلى نصر الهدى فتكاثرت
هذا وقد سارت به حساده
فاقتاد منها الصعب ثم أناخه
كم أجمعت أحجية أو حجة
لم ينجها عن طعنها في أمره
وغدت تقمص في الأطلة لهلها
وجسومها تبدي العبير وجسمه
وإذا تداهنه حوى بنصيحة
أغطا على فتكاتها ما أظهرت
حتى بدا ما أضمرته وجمعت
وسما إليها ابن الحسين بجحفل
حتى إذا برق الحديد تمزقت
ما ذب عنه مذنب عن حومة
لم يبق ذاكر ضيعة تحمي ولا
ومضى شهيداً مفردا لشبا القنا
في منزل سعدت به نزاله
إن يضح فينا حزنه جما فكم
نقضوا على خير التمام فعوجلوا ?
?
وابيض بعد سواده فينانه
راع القلوب موليا ريعانه
حتى انزوى وتقلصت أردانه
كانت ترنح في الربى أغصانه
من صرف دهر خاير حدثانه
لا ما حوى عرب العقيق وبانه
أحواله فتحملت أضعانه
في الحديث فقيدة أزمانه
ولسانه وحسامه وسنانه
أحيى به دين الهدى ديانه
وشاء الكرام وعمها إحسانه
وإذا أبا فعزبرة أرسانه
فاقتادها وأذلها سلطانه
عن شأوه وأبادها ميدانه
علت القلوب شديدة أركانه
بر يساوي سره إعلانه
يهفوا عليه مظلة عقبانه
أو كالحريق سما عليه دخانه
وأضاء مطردا به مرانه
ولسمره متواتراً لمعانه
مقرونة بسلاسل أقرانه
طاغ أزال وقد علا طغيانه
وتقاذفته سهوله ورعانه[163أ-أ]
لفح الهجير وطوحت أوطانه
واستبشرت طعانة إخوانه
وتشاركت في ماله جيرانه
فتفتت وكان صليبة عيدانه
أنصاره وتواترت أعوانه
زلق المداحض فاستقر مكانه
يثني عليه أباضه وعرانه
فانبهرت وأنارها برهانه
إبلاؤه وضرابه وطعانه
ومن الحديد مضاعفاً قمصانه
تبدى بما صنعت به أبدانه
إن الكريم يشينه إدهانه
شكاً وقيد فتكه إيمانه
جيشاً وجاء يقوده شيطانه
لجب يهول المبصرين عيانه
عنه الجموع وغردت فرسانه
أبقى عليه ولا وفت خلصانه
واف بعهد بره إيمانه
مذ حفه من ربه رضوانه
وصفا له مع روحه ريحانه
فيهم مصاباً جمة أحزانه
والشيء عند تمامه نقصان
لكوا وفاز ابن الحسين بجنة
جاءت إلى رضوان ضيفان الرضا
شتان هذا في الجنان وذا إلى
ما الشعر بالغ كنه مدحة أحمد
ولقد أتم له الفضائل ربه
كم مبتلاً سأل الإله شفاؤه
عن مسحة أو دعوة مبرورة
وكفى له تنيين صعدة آية
قد طال ما لثم التراب بها وقد
ثم انبرى يجري لمسحة أحمد
ودعا على الحجر الأصم فهده
…… عنانك إن أحمد قد حوى
إن قارنوه بغيره فلربما
أو كان منبته له ولغيره
أو وازنوه بغيره فلقد رسا
والبحر يقذف بالمحار وتارة
والعقد تنظم جملة خرزاته
ليس المناسم كالسنام ولا سقا
يا ابن الحسين وخير ميت ضمه
إن نالك الحدث الذي عمت به
وتضعضعت أركان دين محمد
فلقد أصاب عداك بعدك صيلم
قتلاً وأسراً لم يطل تأجيله
كم سعروا من نار وجد بعده
وسقى صداك مجلجل ذو هيدب
يحكي بواديك الضحى عبراتها
?
?
وحنا عليه من الإله حنانه
وأتت بكرة مالك ضيفانه
درك تسعر دائماً نيرانه
لو قام من تحت الثرى حسانه
فغدت تحث بفضله ركبانه
فشفاه وهاب الشفا منانه
حفيت وهينمها عليه لسانه
مشهورة فهو الجلي بيانه
عظمت بليته وطال زمانه
جذلاً وقد مرت عليه بنانه
هداً أمال جباله رجفانه
قصب المدى وقد استبد رهانه
فضح القرين على السباق قرانه
فالقمح تنبت في ثرا روانه
ثقلاً وشال بغيره صيرانه
يأتيك بين محاره مرجانه
وشريف منتقياته عقيانه
ـط الحلى يسمو إن سمت تيجانه
بين الصفيح وتربة أكفانه
أوصابه وترادفت أحزانه
فانهد من أساسه بنيانه
طحنتهم هباته وجرانه
بل جل بالقدر المتاح أوانه
ورسيس شجو جمة أشجانه
متجاوب في أفقه حنانه
من دمعة وحسيسها أرنانه
وقال أيضاً أبياتا يذكر فرار عسكره وحمل رأسه:
ليلي عد عن من نوال
فليس يرد عادية الليالي
ألم تسأل عن الجيشين لما
وقام ابن الحسين على التوالي
يخوض ظبا المواضي والعوالي
إلىأن عيلت الصفرا فصارت
يجاذبها العنان وليس يدري
فخانته وقام على اعتزام
وقد ذلت فوارسه وولت
ينص جبينه لسنا المواضي
فأبلى صابراً ومضى شهيدًا
وأفرد للجلاد ولا زعيم
وحزوا رأسه ومضت تباري
إذا ما قيس أحمد في قريش
وهل يدنو هجان من هجين
وأعقب قاتليه بشر يوم
مضوا جزر المنايا في ليال
ما رأينا مثله رجلاً
حين نالوا كل مطلب
وأرانا الله أيده
وعفت أموالهم ونمت
في أعاديه الذين سما
غرهم أملاً خالقهم
?
?
تعاج على مرابعهن عيس
بمنعرج اللوى ربع دريس
تراءى الجمع والفرسان شوس
ولم يحجم كما نكل الخميس
محافظة وقد حمي الوطيس
على يمنى قوائمها نكوس
بما أخفى من الحرج اللبوس
يصول كأنه ليث عبوس
كما ولى عن الأسد التيوس
وقد بلغت تراقيها النفوس
وإخوان الصفا عنه تحيس
يشاركه هناك ولا جليس
ببشراه الركائب والطروس
فقد كذب المقايس إذ يقيس
ويبرز بهجة التبر الفلوس
فحل بهم نآدده رديس
على عجل يؤمهم الرئيس
أنجبت إد ولا أدد
وتمنوا أنهم خلد
ليس يبلى ما جرى الأبد
ونما السلطان والعدد
بهم الطغيان والحسد
فتمادوا في الرد إذمردوا
وقال أيضاً في معنى ذلك وذكر انفراده وإبلائه وجهاده:
ا قتيلاً حم مصرعه
أفردته الخيل صاحبه
في مقام لا يقوم له
ونيوب الموت بادية
ولديه من أسنته
وهو يدعو الخيل منفرداً
ومضى والحمد ملبسه
ما رأينا مثله رجلاً
حين نالوا كل مطلب
وأرانا الله أيده
وعفت أموالهم ونمت
في أعاديه الذين سما
غرهم إملاء خالقهم
أنكروا الفضل الذي علموا
ساق يوم ابن الحسين لهم
أصبحوا من بعد بغيهم
?
?
لا يكافي يومه أحد
والقنا ما بينها قصد
عند شبلي جيشه أسد
ونيار الطعن تتقد
والمواضي الررق معتد
وهي بالأبطال تنجرد
وله أثوابه الجدد
أنجبت إد ولا أدد
وتمنوا أنهم خلد
ليس يبلى ما جرى الأبد
ونما السلطان والعدد
بهم الطغيان والحسد
فتمادوا في ...... فردوا[ص164أ]
والمقامات التي شهدوا
نقماً تترى وتطرد
في طباق الترب قد همدو
وقال أيضاً وذكر بلده ومولده ومعاهد في الدولة وشيئاً من حصونه ومنازله:
من طلل مقفر من غريب
إلى ذي بديع إلى أوده
لأحمد نجل الحسين الإمام
ودار له بين شم الجبال
مناخ الوفود وسوح الضيوف
ومن منزل في ذرى ذروة
وربع بحوث عفى رسمه
وقصر بصعدة بين الرياض
وقصر تلمص قصر الرخام
حواه اقتدار بحد السيوف
ومرتبع ......... محرز
إلى الهضبين إلى فاضل
ديار له في اقتبال الشباب
ودار على حلب في البقاع
وأيام حل ثلاء داعياً
ودار بردمان في كندة
ودار بحدة أو أختها
أقام على ثغرها حامياً
وقصر له براش الملوك
ودار بصنعاء في عزة
وتطوافه في نواحي البلاد
أقضت مضاجعك الطيبات
ألا تلك آثاره والرسوم
وسوف نبكيه بالعاسلات
بنوه الثلاثة في محفل
إلى أن يدوخ أعداؤه
وقد ثأر الله أوتاده
وعجل من قاتليه الفناء
?
?
فطود المساق إلى نا ظر
إلى النجد فالدرب من شاكر
ربيع مرابعها الباكري
بذيبين في الملأ الحاضري
ومجتمع الأنس السامر
وفي هضبها دارس داثر
سحايب صيفه الماطر
فدع روضة من ربى حاجر
مع الحصن ذي المنظر الباهري
بحق على ملك قادر
فشط معين إلى تاجر
إلى عرف فربى الزاهر
وإقبال ملك له باهر
وفي مدع الشامخ العامر
معانا لمنصورها الناصر
أولي العز والعدد الوافر
سناع على نهرها الزاخر
له بالظبا والقنا الشاجر
ينيف على نسرها الطاير
ودار بمنظرها الناضر
على بدوها وعلى الحاضر
وزلزلها سهر الساهر
تهيج من عبرة الذاكر
وكل سنين الشبا باتر
كرجل جراد سما ناسر
ونوفل في بره الظافر
وحسبك من ناقم ثائر
فهم عبرة الزمن الغابر
وقال أيضاً أبياتاً وضمنها بيتاً لأوس بن حجر:
ت سمير الهموم والمضض
أرعى نجوم السماء بسامره
كيف يكون السليم مرتفقاً
إذا سرى حركت لوامعه
فإن تنم سالماً فما حالك حال
من يلق يوماً بها لك عوضاً
قاد ملوك الزمان راغمة
ونال في العلم كل غامضة
أضحى به الدين محكماً مرساً
وجاد بالنفس يوم أقرضها
فإن مضى العمر عنه منقرضاً
ومن رمى بعده إلى عرض
مضى بعرض منزه كرماً
منقبض الكف عن تناول ما
حل من المجد في الباع وقد
أيتها النفس احملي جزعاً
رضيت بالله عنه منتقماً
?
?
لبارق في الحي معترض
لم أغض عنهن جفن مغمض
مثل شجي يغص بالحرض
ما في الحشا من أسى ومن مرض
تسليم ذي الومض
فما نرى بالإمام من عوض
وذادها بالحسام عن عرض
في كل فعل وكل مفترض
مستحصداً لعقد غير منتقضي
في نصرة الدين خير مقترض
فإن مسعاه غير منقرض
قصر من دون ذلك العرض
عن الدنايا والدم مرتحض
بان عن المجد غير منقبض
حل كرام الأنام في الرمض
فإن ما تحذرين عنه قضي
إذ كان بالفوز قد حظى ورض
[.....بياض في المخطوط.......].
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: ولما استشهد أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الأكرمين ومضى على منهاج سلفه وسنن آبائه الذين بذلوا مهجتهم في سبيل الله وهجروا أوطانهم ابتغاء مرضات الله ظن الرصاص وأتباعه أن قد ظفروا بالمغنم البارد، وحصلوا عن بغيتهم من الملك، واستعاد أهل الدنيا، وأن الأمراء الحمزيين الذين هم أبناء الحرب وأملاد الطعن والضرب ينقادون لهم بزمام الرغبة، ويصرفونهم كيف شاءوا بعنان الرهبة، دعوهم ثاني استشهاد أمير المؤمنين إلى البيعة لحسن بن وهاس وحسبوا أن كل بيضاء شحمة وأن كل راعدة رحمة، فبلغني أن الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام وجم لذلك وأسر إلى بعض خواصه أن لا إمامة وإنما غرضنا استقرار أمورنا لكون الحصون في أيدي ولاة الإمام المهدي الشهيد صلوات الله عليه، وقد كان الأمير السيد شرف الدين الحسين بن محمد بن أحمد بن الهادي تأخر عن أمير المؤمنين في قرية مسلت لعارض مرض أصابه، فلما جرى على الإمام ما جرى استدعاه القوم، وعلم أنه لا يتوصل إلى بلاده من بلاد خولان في تلك الأزمة العظيمة إلا بالوصول إليهم والتقية فوصل إليهم على وجه الإكراه والمدافعة عن نفسه وأهله؛ إذ لم يجد ناصراً ولا عاضداً، فلما وصل القوم إلى شوابة دعاه القوم للبيعة.
أخبرني من أثق به عن بعض أولا د شوابة في تلك الأيام أنه ما بايع إلا خوفاً على روحه، فلما دعاه الرصاص وأصحابه[165أ-أ] لم يطول في مباحثه؛ إذ كان البناء من أصله على غير أساس، وكيف يقوم الظل والعود أعوج، فبايع الحسن بن وهاس على ما أخذه السابق على المسبوق وعلى أنه منه ما استقام على طاعة الله، ومعاداة أعداء الله، وموالاة أولياء الله، ثم بايع الأمير شمس الدين والرصاص، ثم بايع فقهاء المبتدعة على إثر ذلك وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا، وفي خلال البيعة أموال المسلمين تنتهب، والأيتام يهتضمون، والضعوف يبكون، وأهل البلاد يتهددون ويتوعدون، وأمروا في خلال ذلك بعض المتهتكين من الولاة فأسروا الفقيه الغريب المهاجر حمزة بن محمود العجمي الجيلاني والواصل من جيلان لجوار تربة المنصور بالله عليه السلام وغيره من المسلمين، فأتوا به على غاية العنف والمشقة، فلما وصلوا بهم تهددهم الرصاص وعنفهم، ثم أمر الأمير شمس الدين أحمد بن المنصور بالله عليه السلام الشريف محمد بن حمزة بن الحسن الحمزي لأشراف من آل القاسم وأزال وأيتام في خيوان فنهب الحريم ونهب أموال المساجد، كل ذلك وثوب الدعوة قشيب، وأمدها قريب، ولقد رأينا قوماً من المسلمين يتنتهب أموالهم الفسقة فيستغيثون فلا يغاثون، ويستجيرون فلا يجارون، وربما يأتي الإنسان يطلب الأمان فإذا أمنوه كان ركونه إلى الذمام سبباً لاستئصال شأفته وأخذ ماله، ثم عاثوا في زراعة شوابة نهباً وأخذا كيف اتفق، فهذا يكتب بمال هذا المسلم بخادمه المجرم وكم عسى أن يذكر الذاكر المثالب التي كانت في أيام الذهب غياهب، ثم إن الرصاص أنشأ الدعوة العامة بزعمه على لسان الحسن بن وهاس ووضع الحسن بن وهاس عليها خطه وأضافها إلى نفسه وأمر بها إلى صعدة ونواحيها، وإلى المغارب، وإلى صنعاء، وهذه نسختها حرفاً بحرف، رأينا أن نضعها هاهنا ليعرف من غاب عن القصة كيف بدؤها وهي هذه:
قال الحسن بن وهاس بخطه المشهور: حسبي الله وحده، من عبد الله أمير المؤمنين الحسن بن وهاس بن أبي هاشم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} إلى جميع من بلغه كتابنا هذا من المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، سلام عليكم، فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو ونسأله لنا ولكم التوفيق إلى ما يحب ويرضاه.
أما بعد..
فاعلموا أن الإمام منا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من شهر سيفه، ونصب لواءه ثم لم يعنعنه ذلك حتى يستبطن التقوى، ويتجلبب جلباب الهدى، ويستشعر خوف المعاد والعرض على الكبير المتعال، ويخشى نقاش الحساب يوم يفوز المحسنون ويخسر المبطلون، ولن يتم ذلك له بالدعوة حتى يصدقها شواهد ذلك من الرأفة والرحمة بالرعايا، وإرخاء جناح العدل على البرايا، والشفقة لصالحي المؤمنين وضعفة المسلمين، والحنو على اليتمامى والمساكين، قال تعالى في صفة رسوله الذي من تحلى بحليته فهو الخليفة حقاً، ومن تخلق بغيره تنحى جانباً: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عتنم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم } وقال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} وقال تعالى: {إنك لعلى خلق عظيم}، وعلى الإمام منا آل محمد أن يشاهد فضلاء الإسلام عموماً وخصوصاً، ويجهد نفسه كله في القيام بصغيرها وكبيرها، ودقيقها وجليلها غير ناكل ولا عاجز ما استطاع، فيأخذ الناس بالدعاء إلى دين الله سبحانه من الشهادتين وما بعدهما من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأخذ على أيدي الناس من التظالم فيما بينهم، وحفظ سبيلهم وطرقهم، وشن الغارات على الدعار والمفسدين، واللصوص والمستغلين، وجهاد أعداء الدين، واختيار ولاة العدل، وترك الإدهان والأبهان، والمحابات والمداجاة لشريف أو مشرف، أو عزيز أو وكيل، وحفظ أموال الله بعد أن تؤخذ على وجوهها وحقها، وتصرف في مستحقها، ومحاسبة الولاة والعمال، والاستظهار على ذلك بأهل الديوان، والمشارفين، والعزل والتبديل والتخويل، والأخذ بالعقاب، والتنكيل لمن تحامل على الرعية، ولم يدع جواري البرية، وعلى الإمام القائم منا عمارة بيوت الله تعالى بأمرين:
أحدهما: تعاهد الأوقات المرصدة لها، والمصالح المعدة لعمارتها.
والثاني: تكثير المصلين والذاكرين والتالين، والمفيدين والمستفيدين في علوم الملة المحمدية، والمعارف الدينية، حتى تكون المدارس مشهودة، وحلق الذكر محشودة، ورياض الفقه موفورة، وأندية العلم معمورة، وعليه أن يشتد غضبه على الفسقة وأرباب الجرايم، وأن يرى أثر ذلك عليه في أحواله وأفعاله وأقواله حتى يشتد ركن المؤمن، ويرغم أنف الفاسق، ويضمن الحق ويزهق الباطل، وحتى لا ييأس الضعيف اللهيف من برد الحق والعدل، ولا يطمع العادي في سورة الظلم، فبذلك يقوم رسم الدين، وتخمد نار الباطل، وعلى الإمام القائم منا أن لا يزال يحاسب نفسه ليلاً ونهاراً، وصباحاً ومساءاً ويتهمها فإن النفس دأبها أن تأمر بالسوء إلا من رحم ربي، وعليه أن يأخذ للإمامة أهبتها، وليستعد عدتها، وليعلم الناس أنه لا يرى الإمامة طعمة أطعمه الله إياها بل هي إمامته تقليد قلدها، فإما أن يتحكم فيهم وفي أموالهم بما شاء خبطاً وجزافاً، ويرسل عليهم من لا يرحم صغيرهم ويوقر ولا كبيرهم، ولا ينظر معسرهم، ولا يبر مقترهم، بل ينهش اللحم والعظم، ويتركهم مهضومين، وهم على عين منه ومسمع فلا ليس له ذلك يأبى الله ودينه قيم، وكتابه باق لايمحوه الماء {إن الله تعالى يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون }.
أيها الناس، إنا نعلمكم أنا ما قمنا هذا المقام أشراً ولا بطراً، ولا رغبة في الدنيا، ولا نسياناً للآخرة، ولكنا رأينا دين الله قد درست[166أ-أ] رسومه، وامتحت وسومه، [.....بياض في المخطوط.......] وأنكر المعروف فيما يعرف، وعرف المنكر فيما ينكر وغير ذلك ما كان من سوء الاختيار، والإخلاد إلى الإصرار من هذا الظالم بالأمس الذي أشرقه الحدثان بريقه، ولبس عليه وجه الطريقة، ولقد علم الله أنا كنا نمحضه النصيحة، ونحذره عن لزوم وعر الطريقة فلم يرعنا في ذلك طرفاً، ولما أنكرنا عليه وأنكر عليه الراسخون في العلم الذين أبصارهم موهوبة من الله، وباقية في دين الله حين يقول: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار} قال سبحانه: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} وقال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيينه للناس...}الآية،فلا صده، ونفخ الشيطان في منخره وأخذته العزة بالإثم، وأجلب بخيله ورجله، واستعر الشيطان معه بصوته، ودعوناه إلى المحاكمة إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتهدد وأوعد، وأبرق وأرعد، وقال لبث قليلاً يلحق .......... ونسي قول الشاعر:
قبى الوعيد على عقبى الوغى ندم
?
?
ماذا يزيدك في إقدامك القسم
ثم لج في إصراره، ولحح في خلع رسنه وعذراه حتى هبط بأعباء علينا بغياً وعدواناً إلى وادي شوابة، وكنا والحمد لله في كتيبة غير ناكلة، وعلماً غير أسان، فاجتمع الصبر والبصيرة، وعلم الله منا صدق السريرة، فلما تراءت الفئتان دعوناه إلى أن يبرز إلينا لنتراجع القول، ويعرض بصائر على حكم الكتاب والسنة، وقلنا: إن شئت فراداً ففراداً كل على فرسه، وإن شئت في عشرة أفراس ونحن في عشرة أفراس أو خمس خمسٍ فعلنا ذلك، فكاع عن ذلك وصد وأعرض جانباً، فلما كان من الغد نهض مناوراً مبادرا ليصطم بزعمه شأفتنا، ويجتث جرثومتنا، فحاكمناه إلى ظباة السيوف وشفار الرماح، فكبت به مطيته، وأجهز عليه فعله و..... قتله، ومضى صريعاً فلا دعدعا من عاثر ولا لعا، وها نحن ندعوكم إلى إحياء ما أحياه الكتاب، وإماتة ما أماته، واصدقوا النية من أنفسكم: {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم* ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين} بادروا رحمكم الله وجمع على الهدى شملكم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: وهذه الدعوة مما كشف الله بها ستر منشيها، وجعلها أحدوثة بين أمة محمد إلى يوم الدين، ولو أن هذا المسلوب الرشاد أحسن المقال وروى عما يضمره من المقال وحمل الحال وقال: لم يكن قصدنا إلا لمراجعة مما أنكرنا، والجواب عما سطرنا، فأما القتال فلم نرده ولا قصدناه بل غلبه حب الرئاسة التي كان يجمح إليها، وندب إليها بالزهد، فأظهر الله مكنونه، وبين للناس أمره، فحين بلغه البشير بقتل الإمام وهو في ناحية من المعركة هبط من فرسه إلى الأرض وخر ساجداً وهذا من أبلغ الخسران، فالله المستعان لقد سلب التوفيق فأصبح ملوماً مدحوراً، وهذه الدعوى كما يرى الناظر أولها منهدم من دعوات أئمة الزيدية، وأوسطها حشو وأذية، وآخرها افتخار بقتل سيد البرية، ومن نظرها وتدبرها وجد المدعى عنها بمعزل لم يختص بوصف من صفاتها، ولا قام بشرط من شروطها، وأقسم لقد صدرت صحيفتها، وقدر كاغدها، والأيتام من ظلم هذا التائه يستغيثون، والهلكان يتصوتون، وسيوف الظلم على رقاب الأطهار مسلولة، وقواعد التقوى منقوضة مهدومة، وسبيل الحق طامسة مجهولة، ولو استقرى بعض المنصفين مفرداتها وتدبر معاني مركباتها لوجدها من أولها حججاً قاطعة لو بين مسطرها ومصنفها ومبرها، ولقد انتظمت من الأكاذيب التي لا تحتمل التأويل على مسطر ليس بالقليل ولا بالهير بل هو البهتان المحض، والزور الصرف، ومن أظهرها كذباً وأبلغها عجباً قوله: هبط علينا وادي شوابة، وهذا خلاف ما علم بضرورة العقل، بل هو وأحزابه الهابطون والباغون، والمجبرون والمتجبرون، والسافكون لدماء المسلمين، والعاملون لأمير المؤمنين في السبيل المسلوكة، والطريق المعروفة، وهو قاصد إلى موضع عنهم بعيد ليدعوهم إلى حكم العزيز الحميد، ويمنعهم من ظلم العبيد، وهبوط المبتدعة إلى أمير المؤمنين ثاني وصوله إلى وادي شوابة يعلم ذلك الجم الغفير والعدد الكثير فقس على هذه الكذبة نظايرها من الأساطير
والأكاذيب والتخرصات نعوذ بالله من الكذب والمين، وقد كنا أنشأنا رسالة وسميناها بالهادمة لمباني الدعوة الظالمة تكلمنا فيها بجمل تشهد لنا بمصداق القول، ويهتف اللسان الصدق، وقد كان بعض الأطهار الذين صفت في العلم جواهرهم، وتمحضت في نصرة الحق مقاصدهم إنشاء كتاباً و......... الكذبة يتبع فيها كلاماً لهذا المبتدع الذي فرق شمل المسلمين، وهدم قواعد التقوى إلى يوم الدين، ولم تسطر هذه الدعوة في الصحيحة.
قال الراوي: وقد كان سلطان اليمن الملك المظفر يوسف بن عمر سخر بهذا المبتدع وحزبه، وكادهم بما يروم به حماية ملكه، وأعطاهم على ذلك شيئاً من الحطام، وجعل لمؤسس هذه المكيدة الرصاص جملة من الدنانير فيما بلغني عن بعض السلاطين آل حاتم بذمرمر، وهو في تلك الحال في جنبة الإمام يسر مخادعته، ويتربص الوثبة عليه، فأما الجعل المتأخر بعد الخروج على أمير المؤمنين فكان لكل واحد عدد مذكور وعليه في كتابه باسمه ووسمه، فللرصاص شيء على انفراده، وللحسن بن وهاس شيء على انفراده، ولغيرهما من أهل الرس[167أ] والدهمية شيء معلوم، فأما الرصاص والحسن بن وهاس فصار إليهما أكبر نصيبهما، وأما المتأخرون فإن بعض الأمراء أخذه عليهم استحقار لغيرهم، وعلماً منه أنهم دون أن يرفع بهم رأساً وخصوصاً لما صادف ذلك قتل الإمام عليه السلام.
أخبرني بعض الناس أن الذي لتابعي المبتدعة من المتدرسين أحد عشر درهماً وهذا ثمن بخس باعوا دينهم.
رجع الحديث إلى كتاب السلطان استخرجناه من جوابه استهزاءً بحسن بن وهاس وأنه يدعوه إلى الإمامة عند خروجه على الإمام وأنه يجيبه ويعينه وهذا من باب الجهالات فصادف كتابه القدر المحتوم وخص إمامنا بالشهادة وتبين للناس ما كان يكنه هؤلاء المبتدعة.
رجع الحديث
فلما جرى من مصاب الإمام قدس الله روحه صدر الحسن بن وهاس جواباً إلى السلطان الملك المظفر ظناً منه أنه قد ظفر بالمنية، ونال أقصى البغية، وأن السلطان يقبل إليه بطارفه وتليده، وهذه شعبة من شجون جهله، وسقطة من سقطات عقله، وهذه نسخة كتابه حرفاً بحرف ولعنة الله على من حرف أو بدل لتضمنه من الأكاذيب التي أجمعت الأمة على خلافها.
قال الحسن بن وهاس ما هذه صورته وكتبه بخطه:
حسبي الله وحده، سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الذي عنت الوجوه لهيبته، وخشعت الأبصار لعظمته، وتطأطأت الرؤوس لعظيم سلطانه.
أما بعد ..
أيها الملك الذي مكن الله بسطته، وأعلىكلمته اختبارا وامتحاناً كما قال تعالى حاكياً عن سليمان عليه السلام: {ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم}.
فإنه وصلني كتابك طالباً فيه أن تفقأ عين الفتنة، ويرأب صدع الفرقة، وتقام في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالكتاب والسنة كان ذلك من أسر وارد وأيمن وافد؛ إذ سلك فيه ألهمه الله رشده طريقة النصف، ودعا فيه إلى ما يليق بأخلاق هذه الأمة من القيام بتغيير المنكرات وإقامة الواجبات، وهذه هي صفة هذه الأمة التي اختص بها، قال تعالى في ذلك: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} وقد فعلت ما ضمنه كتابه، ولم أفعل ذلك حتى اجتمع عليه الكل منهم معشر هذه الأمة، وإلا فأنا كنت أجبن الناس عن ذلك لما أعرفه من عظم هذا المقام وهوله، وأنا أسأل الله تعالى أن يمدنا بمواد توفيقه، وأن يرزقنا سلوك منهاج الحق وطريقه، ولولا حضور الخاطر وثبوت الحجة لوجود الناصر لأ لقيت حبلها على غاربها، وسقيت آخرها بكأس أولها، وأنا أحذرك أيها الملك ألبس الله المسلمين منك ثوباً ومد عليهم منك ظلاً أن تدعو إلى طريق لا تسلكها، وقد طلبت مني أمدك الله بمواد توفيقه أن أضرب موعداً أو أعين لك مجمعاً يجتمع فيه العلماء لإحياء ما قد مات من السنين، وإماتة ما قد حيي من البدع، وأنا أول داع إلى هذا وأول مجيب لمن دعا إليه، وقد صدرت هذه الإجابة لتكون شاهدة علي، فإني قد حفظت الابتداء ليكون شاهداً عليك أيها الملك، وأنا أعرض عليك من نفسي ثلاثة أمور أن أحب أمد الله بتوفيقه أن تجمع العرب والعجم بعد أن يسعى الكل في صلاح ذات البين بين الجميع، وتذهب الظغائن، وتدفن الأحقاد، ثم اجتمع بالملك حيث يجمع عليه الرأي فعلت هذا، أو أن يحب أن يأتي من علمائه إلى أحد ثاني منصفاً مكرماً أميناً يتكلم كيف شاء فإن يجد عندنا ما يحب وإلا رجع وقد ظهرت له بصيرته فذلك مفعول إن شاء الله تعالى، وإن يحب أن يأتي إليه أحد من علمائنا فلا بأس بهذا لكني أشترط فيه شرط، وهو أن يظهر من الملك ألهمه الله التوفيق ما يكون علامة أنه طالب لإقامة كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك بتغيير ما قد أجمعت الأمة على وجوب تغييره من رفع المنكرات التي هي شرب الخمور، وإقامة سوق الفواحش والملاهي، وتسافك الدماء، وظلم الدهماء، وقد أجبت تنفذ هذه الرقعة لتكون لي شاهدة عند الله على معشر هذه الأمة فإنهم قد دعوني إلى أمر فإن خذلتموني عنه فالله ناصري ومتولي معونتي وكفى به ناصراً ومعيناً، وشاهداً وكفيلاً، وقد رجوت الله تعالى أن يكون بقتل صاحبنا هذا اجتماع الأمة، فالله يعلم شدة الرغبة في ذلك كما كان بقتل عثمان افتراقها ،فإنه كان قتل صاحبنا باجتماع من الكل، وقتل عثمان بافتراق منهم، وأنا أحب أن تقرأ هذه الرقعة على الكل من العلماء، وأن تتصفح وتنظر فيها ولا تعرض عنها فقد أقللت الكلام؛ لأن ما قل ودل خير مما كثر وأمل، والرجاء في الملك أمد الله على المسلمين ظله أن يجمع الله به شمل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا سيما بما حكى لنا الوالد المتوكل على الله من رصانة عقله، وجود سياسته، وانبرام عقوده، وميله إلى محبة العافية ممن يطلبها، وهذه الأخلاق أخلاق الملوك التي يصلح الله بها الخلق، وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم.
قال الراوي: ووصل إلى الحسن بن وهاس من كان قد أصغى إليه ممن كان يسر النفاق والتربص، فمنهم السلطان جسار بن الوشاح فإنه وصل يتهلل وجهه فرحاً، ولم يلبث إلا مدة قريبة حتى وثب عليه أخوه وبنو عمه فقتلوه على فراشه.
أخبرني من أخبره من حضر القصة أنه طعن في عينه قريباً من ستين طعنة، وهم يثأرون للإمام المهدي عليه السلام.
وأما السلطان سعد بن سالم فإنه لم يلبث أيضاً حتى استفرغ الدم من فمه، ومات فجأة، ثم هبط الحسن بن وهاس من شوابة، وهبط الأمراء الحمزيون إلى الجوف لكل منهم يومئذٍ شأن يغنيه، فأقاموا مدة أيام، وانضاف من أحزابهم وأحلافهم من انضاف وتقدموا صعدة، فلما دخلوها لم تطل الأيام[168أ] حتى جرت المشاجرة على البلاد وقسمتها، وكان الأمير شمس الدين له غرض في بعض أهل صعدة .......... وهو عند المعلاة، وكان محبة الحسن بن وهاس ضد ذلك الغرض، وكان ذلك سبباً في المشاجرة حتى كاد القوم أن يفضوا إلى المناجزة والحرب، وقد أخبرني بعض الناس أن الأمراء الحمزيين بأجمعهم هموا بالقبض على حسن بن وهاس وحبسه لأغراض أرادوها في الناس، ثم إنه لم يمض إلا أياماً قرائب حتى عرض مرض حاد للأمير الكبير المتوكل على الله أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام فلم يلبث إلا أسبوعاً أو دون ذلك، وتوفي بصعدة، وقبر إلى جنب أخيه الأمير السيد جمال الدين علي بن أميرالمؤمنين المنصور بالله بالمشهد المعروف، ثم ازداد البلوى والمرض فأصاب كثيراً من الأمراء الحمزيين فتوفي الأمير يحيى بن وهاس بن أبي هاشم الملقب بالعماد ثم أخوه الأمير إبراهيم بن وهاس، ثم أخوه الأمير المؤيد بن وهاس، وأخوه سليمان بن وهاس، وابناه، ثم تلك الأيام عرض المرض الحاد للأمير الكبير شمس الدين أحمد بن يحيى بن حمزه بن سليمان فتوفي بكحلان، ثم ولده من بعده، فتقدم في الأمراء بعد الأمير المتوكل صنوه نجم الدين موسى بن أمير المؤمنين وحلف له الكل من الأمراء الحمزيين، ثم نهضوا من صعدة راجعين إلى الجوف فعرض المرض للأمير موسى بن أمير المؤمنين والأمير سليمان بن وهاس فأطلعا إلى ظفار مريضين ثم لم يلبثا إلا أياماً قرائب وتوفيا جميعاً وقبرا في مشهد المنصور بالله، ثم لم يلبث الأمير عبد الله بن وهاس بن أبي هاشم حتى عرض له عارض في صدره اختلف في ذلك فقيل: إنه أصيب بحجر يو شوابة، وقيل: بل وثب
فرسه يوماً حتى ضرب بحافره على قبر الإمام المهدي بشوابة رضوان الله عليه فاشتكى بعد ذلك. والله أعلم، فتوفي بحصن القاهرة جالساً يتحدث ثم أخذه الموت كالفجأة، ثم توفي الأمير علي بن محمد صفي الدين بكحلان، ثم عرض المرض للشيخ الكبير منصور بن ضيغم بن منيف الجنبي رئيس جنب، ثم عرض هذا المرض لحنظلة بن أسعد أحد فقهاء المبتدعة فهلك.
بلغني أن الرصاص لما قام على جنازة حنظلة بن أسعد أشار إلى جسده وهو يناجيه ويقول: يا حنظلة إذا لقيت أحمد بن الحسين بين يدي ربك فجالده، أو معنى ذلك، فسخر به من حضر، ثم عرض هذا المرض للرصاص فهلك، ثم لم تطل الأيام حتى عرض السل للأمير أحمد بن سليمان بن وهاس بن أبي هاشم ثم لم يلبث بعده أخوه حتى توفي وكل ذلك في مدة متقاربة، فسبحان الحي الذي لا يموت، ولم نذكر هذا إلا لنذكر به الغافل من الدنيا وأنها تصرع المغتبط بها وتغر الراكن إليها، وكل من ذكرناهم من الأمراء وغيرهم ممن قام وقعد وجد واجتهد في سبب هلاك الإمام الشهيد رضوان الله عليه ولما جرى على الأمير الكبير نجم الدين موسى بن أمير المؤمنين الموت أجمع رأي الأمراء الحمزيين أن يقدموا بعده أخاه الأمير الكبير صارم الدين داود بن الإمام المنصور بالله[260ب] وتلقب بالمنتصر بالله وحلفوا له بالرئاسة وكان ولد الأمير المتوكل على الله عز الدين في جهة تهامة بالقحمة فلما علم بمصاب والده أقبل إلى ظفار وهبط إلى الجوف فرضي بقدومه عمه وطلع الأمراء إلى حصن ظفار وأقاموا هنالك أياماً فنزل الحسن بن وهاس في غرفة قصر شمس الدين بظفار وهي غرفة مزخرفة بالذهب مبسوطة بالبسط الرومية والأرمينية المحبورة عليها النمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة يطأ عليها غير مكترث ينقل إليه صاحائف الألوان في صحائف الصيني الشفاف ويشرب في الأكواز المبخرة بالند والعنبر، فليت شعري أين ذلك التزهد والتقزز في مزجة القلم والسؤال عن مقدار ريشة الجراد من الورق من أين هي ومن أين
ثمنها، ثم صارت إلى صاحبها ومن هذا الجنس شيء كثير فوا عجباً كل العجب من هذا المبتدع وحزبه أي بكاء الرصاص وامتحانه وإسبال طيلسانه وتأوهه إلى ابن الأعور الجزار وتباكيه لابن الأبره النجار فلقد رأيته ذات يوم متكئاً على نمرقة بطانتها من النسيج الرومي الأصفر وقد قابل سريراً في غرفة وهو من الخيلان كالذي عصفت به حميا المدام، ولقد رأيت الحسن بن وهاس يقوم في حفدته على رأسه متوشحين بمطارف الحرير لابسين أسورة الفضه لا ينكر شيئاً من ذلك فما أحقه بقول القائل:
لى وصام لأمر كان يأمله
?
?
لما حواه فما صلى ولا صام
قال الراوي: ووصل الأمراء الكبراء عبد الله ومحمد وإخوتهما آل سليمان بن موسى بن داود إلى ظفار إلى بني عمهم، وكان الأمير عبد الله ممن أوضع في سبب قتل الإمام وأثار الفتنة، وخدع أخاه محمد بن سليمان حتى سلك سبيله، فلما وصلا لم يلبثا أن اجتمعا بالأمير الكبير عز الدين محمد بن الأمير المتوكل على الله شمس الدين وجرى بينهم وبين الأمراء آل يحيى بن حمزة بن أبي هاشم موافقة واجتماع وظهر ذلك، وبلغ الحسن بن وهاس فرأى ابن عمه أن يكون الأمراء بني حمزة قسمين:
أحدهما: يكون فيه الأمير صارم الدين داود بن أمير المؤمنين وصنوه الأمير علم الدين علي بن وهاس ومن يتبعهما.
والقسم الثاني: يكون فيه الأمير عز الدين، والأمير فخر الدين عبدالله بن سليمان وأخوه، والأمراء آل يحيى بن حمزة ومن تبعهم، وكتب كتاباً سخر منه السامع قسم البلاد ابن عمه من سود البون إلى الأسلاف مطلاً على نقيل صيد مع أنه في تلك الحال ما استصلح منها بلداً ولا حصناً، فلما قرئ الكتاب على منبر المسجد بظفار يوم الجمعة اختلف الأمراء الحمزيون عند ذلك، وجرت محاورة أفضت إلى مشاجرة ثم بعد ذلك تقدم الأمير عز الدين إلى جهة زبيد وتعز إلى سلطان اليمن الملك المظفر واستصحب من الأمرء آل يحيى بن حمزة بذيبين جماعة يريد بذلك أن يستخرج أخاه وكان رهينة عند هذا السلطان في مقابلة أشياء كان عقدها الأمير المتوكل، فلما تقدم إليه[169أ-أ] حشد الحسن بن وهاس العساكر إلى ذيبين فدخلها بعد عقد ذمة منه على أهلها على أيدي العدول والأطهار فما رعى الذمام ولا استمسك بعصمة الإسلام، وهذا من جملة سقطاته وعظائمه، فكشف الحرايم، وجرى من الأفعال القبيحة ما قد شاهده من حضر، وخرب شيئاً من الدور، وانتهب الأبواب، ومنع من الخراب الأمير علي بن وهاس، وكان الأمير داود بن أمير المؤمنين غير كاره على ما يقع لغرض وهو أن تباعد القلوب من آل يحيى بن حمزة وآل الحسين بن حمزة لأمر يرجع إليه، ثم إنه جرى موادعة وصلح أيام، ونهضوا على ذلك إلى ظفار ولم تمض إلا أيام قرائب حتى وصل الأمير الكبير محمد بن سليمان بن موسى من عند سلطان اليمن بمال كثير وآثار الخرب من حصنهم المعروف باللجام وجمع جمعاً وتقدم إلى الجوف فاستولى على درب الزاهر وكان فيه والٍ للأمراء بظفار فطرده وقبض على ما كان هنالك من الطعام وكان فيه طعام كثيراً فأجابه الأكثر من أهل الجوف الأعلى إلا أهل درب ظالم فكانوا متربصين به، ثم إن الحسن بن وهاس جهز الأمير الكبير داود بن أمير المؤمنين وأخاه الأمير علي بن وهاس في عسكر من الخيل والرجل وكتب إلى آل جحاف بن حميدان وكبيرهم يومئذ الحص بن محمد
بن جحاف وإلى جميع المخالف بالأقيال إلى الأميرين، ثم هبطوا إلى الجوف، فلما بلغوا إلى قريب من حصن نعمان أقاموا ليلتين أو ثلاثاً حتى اجتمع المخلف وتقدموا، وقد رتب الأمير محمد بن سليمان ولد أخيه أحمد بن سليمان في الزاهر، فلما أقبل الأمراء ومن معهم فتح لهم أهل الدرب الباب وقاتل الأمير وهو محمد بن أحمد بن سليمان حتى غلب ثم استولوا عليه وأهل البدو والقرار وساقوا الظعن والأمير محمد بن سليمان مقيماً في درب السوق في عصابة وافرة من الخيل والرجل والسلاطين آل دعام والشرفاء الأجلاء أهل براقش فبلغني أن الأمير داود بن أمير المؤمنين أمر إليه سراً أن الزم حذرك فإنا قاصدون لك وأنه لا طاقه لك بمن معنا فلم يقبل فعزز إليه مرة أو مرتين ثم قال له ما هذا معناه، فإذا قد سمحت بنفسك فمر إلينا بأولادك فإنا نخشى عليهم من عد ذلك لا يمكنا دفعه يعني آل جحاف؛ لأن الأمير علم الدين سليمان بن موسى بن داود كان قتل منهم محمد بن جحاف في عصابة من أولاده وأهله ثلاثه عشر، أو نحو ذلك لأمور كانت جرت وذلك في دولة الأمير الكبير الناصر للدين محمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله في سنة تسع عشرة وستمائة.
رجع الحديث
فلما لم يساعد أقبلت العساكر إلى درب السوق فأحاطوا به من كل جانب فلم يلبثوا أن دخلوا عليهم فأول من قتل الشريف الكبير حيدرة بن علي بن عيسى بن سبأ من أهل براقش من الشرفاء آل أحمد بن جعفر بن القاسم بن علي بن عبد الله بن القاسم بن محمد بن القاسم بن إبراهيم ترجمان الدين، ثم عمد العسكر ومن فيه وعاثوا، فعمد كل من الناس إلى من يطلب عنده الوبر، فعمد الحص بن محمد بن جحاف إلى دار قد انحاز فيها الأمير الكبير محمد بن سليمان بن موسى وولداه سليمان، وأحمد، والشريف الأمير حمزة بن علي بن حمزة من آل يحيى بن حمزة بذيبين، وجماعة فتسلقوا عليهم الجدران والحيطان وأقبلوا يهدمون عليهم السقوف، فبلغني أن الأمير محمد بن سليمان أقبل يكرر الشهادة وتضرع إلى الله بالتوبة وجميع من معه، ثم فتح الباب فخرج ولده الصغير وهو في سن البلوغ فقتله الحص وأصحابه، ثم خرج محمد بن سليمان فوثب على الحص واعتقله فصرخ الحص فضربه رجل من خدم الأمراء آل وهاس فيما بلغني ضربة بدبوس حديد فصرعه، ثم إن الحص اتكأ عليه وذبحه ذبحاً، ثم ضارب الشريف الأمير حمزة بن علي بسيفه فكبره القوم واختلفوه فقتل وحمل الأمير سليمان بن محمد بن سليمان بن موسى على خفية من القوم مضرجاً بالدم وظنوا أنه مقتول فسلم من القتل، ثم رمي الشريف الأجل محمد بن عمرو بن علي بن إبراهيم من آل يحيى بن حمزة بذيبين بسهم فقتل، وقتل جماعة من السلاطين آل دعام أهل السوق صبراً، وقتل رجلان أو ثلاثة من آل عمران، وقتل جماعة من الموالي، وعاث العسكر في الدرب فهدموه وأحرقوا قوماً بالنار، وقتل من النسوان، وفعل من الأفاعيل القبيحة والمثلة بالناس ما لم ير مثله في ذلك الأوان.
بلغني أن نساء أخوات القاضي الأجل الصالح العالم إبراهيم بن فليح وكانت محلته في ذلك الدرب جردن عن ثيابهن وعبث بهن وغيرهن، وكان هذا القاضي ممن خدعه القوم في حق الإمام فكان فعلهم داعية له إلى النظر والرجوع إلى الله تعالى والتوبة فيما جرى على الإمام وأظهر البراءة من القوم، واعتزل حتى أتاه الموت بعد أن نظم الشعر بما يقضي توبته ورجوعه، فنسأل الله تعالى أن يتجاوز عنه.
وعلى الجملة فإنهم فعلوا من المناكير العظيمة والمثلة خلاف الحق، ثم أسروا أولاد الأمراء منهم علي وأحمد ابنا عبدالله بن سليمان بن موسى، فلما انحدروا إلى مأرب لأخذ خراجها فلت البعض من الأمراء الأسارى نجوا على ظهور الخيل، والبعض على صورة أخرى منهم من استفدى نفسه بمال، والبعض حملوه إلى ظفار فتخفروا بالأمير الكبير جمال الدين علي بن عبدالله بن الحسن بن حمزة بن سليمان دخلوا داره فأجارهم وأخرجهم من الاعتقال، ولما قتل الأمير محمد بن سليمان وأصحابه وقع في قلوب الأمراء الحمزيين من ذلك وجرت بينهم الضغائن، وترادفت الدفائن وتلاوموا، وقد كان قبل ذلك جهز الحسن بن وهاس أخاه الأمير علي بن وهاس، والأمير عز الدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين في عسكر إلى جهة مأرب وبيحان فوقعت بينهم وبين آل راشد من آل منيف ومن قال بقولهم وقعة أسر فيها الأمير[170أ] عز الدين وحصر وأخذت فرسه وعدته وضرب فيها الأمير علي بن وهاس على ظاهر كفه الأيمن من يده فشل بعض أصابعه، وأسر أخوه حمزة بن وهاس وأخذت فرسه وعدته، وأسر الأمير قاسم بن محمد بن إبراهيم الحمزي وأخذت فرسه وعدته، وأسر الأمير سليمان بن جعفر بن الحسين الحمزي وأخذت فرسه وعدته، وأسر الأمير محمد بن ثوارن بن القاسم بن محمد بن القاسم الحمزي من آل يحيى بن حمزه بذيبين وأخذت فرسه، وبعد ذلك نجا بنفسه من أسر القوم بغير جمع منهم، وقتل جماعة من خدام الأمراء، وسلب قوم كثير وسلاح وخيل وعدد.
رجع الحديث
ثم إن الحسن بن وهاس بعد ذلك أمر يفرق مال في جهة الشرفين على وجه المعونة بزعمه فرأيت بخط بعض نوابه ما يقتضي أنه بلغ تسعين ألفاً ونحو ذلك وأكثر ما فعل بما صار إليه من ذلك أن أنفقه في نكاح بالشريفة الفاضلة ابنة الأمير تاج الدين محمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان بحصن كحلان، وأقام هنالك يختلف عليه ألوان الطعام، ثم إنه راوغ سلطان اليمن الملك المظفر وامتدح أنه درجه حتى طلع بجنود لبلاد المسلمين كما بدح السفرجلة على البساط، هكذا روى الأمير السيد الناصر للحق أبي عبدالله الحسين محمد بن الداعي إلى الله بن الهادي عليه السلام وأعطاه السلطان شيئاً من المال والثياب والطيب، ففرق ذلك في نفسه وقرابته، فلا سد به ثغراً، ولا أصلح به أمراً، ولا عاد على المسلمين بذلك منفعة، ثم إنه أحس من الأمير الكبير داود بن أمير المؤمنين ما يكره فاستوحش منه، واستدنى ابن أخيه الأمير عز الدين وسلم له براش صعدة، وقد كان قبل ذلك استولى على حصن تلمص الحصن الذي كان بيد الإمام المهدي عليه السلام، واستولى على حصن القفل بظفار وكان من جملة ما بيد الإمام الشهيد قدس الله روحه فلم يبرح به أولاد المنصور بالله حتى أخذوا القفل وما كادوا يصدقون بذلك، فلما استقر السلطان في صنعاء تقدم اليه الأمير علي بن وهاس في عسكر فأمر ولده الأشرف ومن معه من المقدمين في لعاية وأظهروا تعظيمهوجرى الحديث بينهم أن الأمير داود لا يكاتب ولا يراسل ولا يواصل فعقد لهم السلطان بذلك، فحينئذٍ استوحش الأمير وأهله وتذامروا بينهم وبين الحسن بن وهاس من الأكاليم والمخاطبات والسخط والرضا ما تباعدت لأجله القلوب وتراكمت الإحن. فالله المستعان وعليه التكلان.
قصة قيام الإمام المنصور بالله الحسن بن محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الهادي عليه السلام وذكر رسالة الأمير السيد الناصر للحق الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى
قال الراوي: ولما كان من الحسن بن وهاس ما تقدم من ذكره من الخروج على الإمام الشهيد المظلوم المهدي لدين الله أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفرت عنه قلوب أهل البصائر من علماء أهل البيت وشيعتهم، وكاتب بعضهم الأمراء السادة آل يحيى[170ب] بن يحيى لكونهم عيون سادة العترة وأهل العلم والبصيرة، وكان السيدان العالمان الإمامان الحسن والحسين ابني محمد بدري هالتهم، ودرتي تاجهم، فأجمع رأيهم على تقدم السيد العالم الناصر للحق أبي عبدالله الحسين بن محمد إلى جهات المغرب فيمن سار معه من أهله وشيعتهم بعد مكاتبات من الشيخ الكبير سيف الدين محمد بن منصور المعبور فكانت طريق الأمير السيد بما في بلاد خولان حتى اتصل إلى حصن عفّار فتلقاه الشيخ المذكور محمد بن منصور المعبور بالإنصاف والإتحاف وسلم الأموال الجليلة، ولما استقر السيد الناصر هنالك، وكان الحسن بن وهاس يومئذ في بلاد الطرف من بلاد حمير فلم يقر به قرار فكتب إلى العلماء بالظاهر بالوصول إليه فوصل منهم من وصل وجرت مكاتبات ومراسلات، وطلب الأمير السيد الحسين بن محمد المناظرة حيث يأمن على نفسه ومن معه من الجهات فتعذر ذلك لأسباب وأمور، فكتب الأمير السيد الناصر للحق الحسين بن محمد هذه الرسالة وسماها بالنصيحة لأهل الأديان الصحيحة، وهي لعمري إنها لفظ يطابق معناه، واسم يليق بمسماه، وكتب رسالة أخرى وهي هذه، ولم يلبث بعد ذلك إلا الأيام القلائل وطغت دعوة أخيه الإمام المنصور بالله الحسن بن محمد من جهة رغافة، ثم بلغ العلم أنه بايعه عدة من العلماء كالفقيه العلامة حسام الدين عبدالله بن زيد العنسي، والقاضي العالم جلال الدين محمد بن معرف، وأكثر أهل الجهات، وبث دعوته في الآفاق، وأقام الجمع والولاة، ونصب الحكام، ولما بلغت دعوته عدل علماء الظاهر وغيرهم إلى التوقف لأمور ذكروها، وأشياء من جهة الإمام المهدي عليه السلام تعلقوا بها،
ولم تمض إلا المدة القريبة حتى جرى على الحسن بن وهاس من الأسر ما سنذكره إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.
وهذه الرساله التي أنشأها السيد الإمام الناصر للحق شرف الدين أبي عبدالله الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الهادي إلى الحق عليه السلام، وسماها النصيحة لأهل الأديان الصحيحة منقولة بلفظها ومعناها:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وسلم
قال رضي الله عنه: الحمد لله على نعمه السابغة، وقسمه البالغة، وصلواته على محمد المصطفى، وآله الأئمة النجباء، سفينة النجا، وعصمة أهل الدنيا، وعلى صحابته الأتقياء.
أما بعد ..
أيها المسلمون فإن الله تعالى ماخلق العبد ليهمله، ولا شرع الدين ليبطله، ولا بين الإيمان ليعطله، بل أكمل العقول لإقامة حججه، وأرسل الرسل لإيضاح الحق الحنيف ومنهجه لئلا يكون للناس على [الله] حجة بعد الرسل، ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وآله، ثم جعل الإمامة عوضاً منها إلى يوم القيامه، ثم ألزم الله تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن الفحشاء[171أ-أ] والمنكر وإظهار معالم الإسلام، وإنفاذ الأحكام، والتمييز بين الحلال والحرام قال الله تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وقال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}، وقال تعالى في صفة أهل الإيمان: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقال عز من قائل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} ثم بين تعالى من جملة ما لعنوا عليه تركهم إنكار المنكر، وموالاتهم لأهل الكفر فقال عز من قائل: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا قدست أمة لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر ولا تأخذ على يد ظالم، ولا تعين المحسن، ولا ترد المسيء عن إساءته)) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله أشراركم على خياركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم)) وفي جزء آخر: ((فيقتلونكم فلا يبقى أحد يأمر بمعروف ولاينهى عن منكر ثم لتدعن الله فيمقتكم)) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لمقام أحدكم في الدنيا يتكلم بكلمة يرد بها باطلاً أو يحق بها حقاً أفضل من هجرة معي)) وقال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: (( من أمر بمعروف أو نهى عن منكر فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة كتابه ورسوله)) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنصرف)) وقال صلى الله عليه وآله وسلم (( مروا بالمعروف وإن لم تفعلوه كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تبطلوه كله)).
فأما قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فإنه ذم على ترك العمل لا على الأمر؛ لأنه وجب عليهم واجبان أحدهما الأمر ففعلوه فلا ذم على فاعل ما أمر به من الإحسان، وثانيها العمل بموافقة ما أمروا به فلم يفعلوه فلامهم عليه الرحمن واحتج عليهم بواضح البرهان.
ولما كانت الإمامة الغرض بها تنفيذ الأحكام المنوطة بالإمام، وكان من شروط صحتها اجتماع خصال معروفة عند أهل الإسلام ثم الاستقامة على تلك الخصال ليحرز الفضل على الكمال قال الله تعالى ذو الجلال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فلا بد مع الإيمان[171-ب] من الاستقامة وإلا كان حظ غير المستقيم من الله تعالى يوم القيامة العذاب الدائم والندامة، فإن الإيمان في عشرة أشياء: المعرفة، والطاعة، والعلم، والعمل، والورع، والاجتهاد، والصبر، واليقين، والرضا، والتسليم فأيها فقده صاحبه بطل نظامه، وإذا ثبت ما ذكرناه فاعلموا أنه يجب معرفة حال الداعي إلى الإمامة، والمنتصب للزعامة، ولا يجوز في ذلك لأحد بالتقليد عند من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية))، وذلك أن يعرفه كاملاً فيعينه وينصره، ويواليه ويوازره، أو يعرفه ناقصاً فيخذله، ويدحض ما ادعاه ويبطله، وقد هدى الله تعالى جميع خلقه قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فقد هداهم بما أوضحه من البيان والدلالات وأظهره من الحجج والبيانات، ونصبه من الأعلام المبصرات، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ثم أيها المسلمون ندعوكم إلى ما تعرفون، وننهاكم عما تنكرون، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما استحسنه المسلمون فهو عندالله حسن)) فهذا أصل يعملون عليه، وأساس يرجعون إليه، ثم إن عليكم أن تعلموا أن هذا الزمان قد ظهرت فيه البدع، وطمست فيه السنن، وادعى أهل البدعة كونها فرض وسنة، قتل حسن بن وهاس وأشياعه وخواصه من العلماء وأتباعه تلك النفس المحرمة بغير حق معلوم ولا دليل مفهوم، وقد دلت الدلائل الظاهرة والحجج الباهرة أن من قتل نفساً بغير حق فهو من
أهل الضلالة والفسق؛ إذ قد حكم الله تعالى عليه بالخلود في النار كما لا ينكره أولوا الأبصار، قال سبحانه: {وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}.
وقال تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} ومن قتل الناس جميعاً كان كافراً، وعند جميع المسلمين فاجراً؛ لأن من جملة الناس الأنبياء عليهم السلام بل هم خيارهم، والمعلوم أن من آذى نبياً كفر فكيف بمن قتله فاعتبروا يا أهل الفكر، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من لقي الله بدم حرام لقى الله يوم القيامة وبين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله تعالى)) فكيف بمن قتل مؤمناً وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً}، {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ} وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لو اجتمع جميع أمتي على قتل رجل من المؤمنين بغير حق لكبهم الله في نار جهنم[172-أ] ولو أن رجلاً بالمشرق رضي بظلم رجل في المغرب لكان شريكه فيه))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من ظلم مسلماً أو لطمه بدد الله عظامه وحشره مغلولاً حتى يدخله جهنم)).
قال تعالى:{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} فكيف بمن قتل عالماً وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((العلماء ورثة الأنبياء وفي الآخرة من الشهداء)) وقال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} فجمع في قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} بين الأنبياء وغيرهم من أهل العلم، فدل على فضلهم وعلو منزلتهم ونبلهم، وقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} فكيف بمن قتل عالماً متعمداً من أهل بيت النبوة وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي أوآذاني في عترتي)) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((اشتد غضب الله وغضب رسوله على من أهرق دم ذريتي أو آذاني في عترتي)) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم والمعين عليهم ومن سبهم أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) فكيف بمن قتل إماماً قد شهد له بالإمامة وعادى فيه الخاصة والعامة، وقد ورد في تفسير قوله تعالى: {أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً} معناه أن من قتل إمام حق، فتأملوا يا أولي البصائر والصدق، وهذا حسن بن وهاس قد قتل المهدي لدين الله عليه السلام وهو من قد عرفتم بايعه وناصره، وأعانه وظاهره، وجاهد معه ووازره، ثم قاتله وا عتل في جواز قتله بأنه أفسد في الأرض في بعض كلامه، وفي بعضه أنه بغى عليهم ووصل إلى بلادهم وأطيانهم فقتلوه دفعاً لبغيه وردعاً لشره حتى قال حسن بن وهاس لما سأله لما ضايقه في السؤال ورد عليه ركيك الاستدلال أن طائفة من المسلمين إذا قصدوا النزول في جهة أو ناحية تكره
طائفة أخرى نزولهم فيها جاز لهم دفعهم عن تلك الجهة وإن لم يندفعوا لهم إلا بالقتل جاز لهم قتلهم، فانظروا إلى هذه الحجة الداحضة فقد كان يكره المهدي عليه السلام وأتباعه نزولهم بحصنهم ذروة بل في جميع الظاهر عموماً، وقد احتج علىكون المهدي مفسداً بأمور:
منها أنه ولى ولاة سوء وهم كلاب عاوية وسباع ضارية لا يرحمون مقتراً ولا ينظرون معسراً، وأنه فرق المعول على غير تقدير معلوم ولا أمر مفهوم ولا مشارف بتيقن.
ومنها أنه أعطى الزكاة بني هاشم وهي محرمة عليهم.
ومنها أنه باع الوصايا حتى آذنت بالنجاح.
ومنها ما أهمل من المصالح العامة كالسبل وغيره، وترك اللصوص المتغلبين يتخطفون على طريقة مستمرة، فهذه الأمور عابها حسن بن وهاس[172ب] على المهدي وأنكرها ثم ركبها وما غيرها ولا تركها ولا هجرها إلى غير ذلك.
فهذه الأمور عددها في كتاب دعوته التي وجه إلى الشام وعابها على ذلك الإمام، فلما ولي الأمر فعلها وأعظم منها حتى أنه ضيع حصون المسلمين وأهلها كالكميم وهداد وما فرط فيه من حصون المغرب حتى قيل: إنه أهمل مقدار ثمانية عشر حصناً ورعاياها وكانت قوة لأهل الإسلام ثم صارت عليهم، فإن كان ما أنكره على المهدي عليه السلام من هذه الأفعال حقاً فلم أنكرها على الماضي؟ وما الدلالة حينئذ على جواز قتله؟ وإن كانت باطلاً ومبيحة لقتل المهدي عليه السلام وقد فعلها حسن بن وهاس فوجب القضاء بجواز قتله وأن يرد الحوب إلى أهله: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين}.
ومن أعجب العجائب أنه سأل سائل: هل تقطع أن أفعال المهدي خطأ؟ فأجاب من غير استحياء: أخاف أن أقول أخطأ فأخطئ إلى ما خطى، وأخاف أن أقول أصاب فلم أدر هل خطى إلى ذلك وفعله بنظر أم لا، فانظروا يا أولي الألباب فيما يفيده هذا الجواب، وهل عرف صاحبه التمييز بين الخطأ والصواب، وهل يتجاسر على إطلاق ذلك من يلتزم حكم الكتاب: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} وإذا صح ما ذكرنا بطل ما ادعاه من كون المهدي عليه السلام مفسداً.
فإن قيل: فإنكم قد أنكرتم على المهدي شيئاً في سيرته وصنفتم عليه في ذلك ما يقتضي بتخطئته.
قلنا: أجل فد أنكرنا عليه ما لم نكتمه عنه، ووجهنا به إليه في رسالة ليجيبنا فلم يجبنا فأتيناه للسؤال وطلبنا إقامة واضح الاستدلال والرجوع عن هذه الحال فكان من أمره وجهان:
أحدهما: أنه قال: لم أجد ولاة خير، وطفقت أنظر بين أحد أمرين إما القيام بجمهور الدين وإن دخل في السيرة ما ذكرتم، وما عليّ أنكرتم، ولما تركت القيام رأساً سقط الدين كله.
الوجه الثاني: أنه قال لنا قبل مقتله بثلاثة أيام أو أقل: إن سلمني الله من هذه الوقعة بدلت الولاة واستكفيت الكفاة ثبت من الأمر ما ثبت واختل ما اختل، وتاب على أيدينا وأناب من غير استحياء عن التوبة ولا ارتباب، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) فقلنا هذه توبة، وفرضاً اختبارها، فإن ثبت فلك تمامها واستمرارها أعناك ونصرناك ........... ولا خذلناك، ثم إنا نقول: إن المهدي عليه السلام كان ضليعاً بأمور الإسلام، ساداً للثغور، قائماً بمصالح الجمهور، حافظاً لحصون المسلمين، كافحاً لأعداء الدين، غير وان ولا مقصر بيقين، ولو فعل فاعل ما فعله المهدي عليه السلام من مباشرته بخصائص الإمامة مع كونه غير إمام معتقداً[173-أ] في نفسه ثبوت الإمامة فلم يقطع المؤيد بالله قدس الله روحه على فسق من هذا حاله من أهل البيت عليهم السلام، وعلى أنه إذا كان بعض فعله منكراً أو قدم عليه لشبهة عرضت له في ذلك لم يستحق القتل على ذلك؛ لأنه لا يستحق القتل على كل منكر ولا القتل لكل يد وهذه أحكام شرعية فرق بينها الشرع النبوي، ومن حكم فيها بغير حكم الله سبحانه كان هالكاً قال الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} وفي آية: {فأولئك هم الظالمون}.
وأما ما احتج به حسن بن وهاس من أن المهدي عليه السلام بغى عليهم ووصل إلى أطيانهم ومزارعهم فدفعوه عنها بزعمهم فعن ذلك جوابان:
أحدهما: أن هذه الأطيان مما جمعها الأمراء بنو حمزة من جملتها ما كان يختص بالأمير وهاس بن أبي هاشم أب حسن بن وهاس، فالمعلوم أنه كان في أيام تزهده وتورعه بزعمه لا يقرب شيئاً منها ولا يذوقها ولا يستحلها ويحرمها، ويقضي بأنها حراماً وما لبس منها ثوباً، ولا أكل منها طعاماً فيما علمنا ذلك أيام كان إذا أتاه رجل بنذر درهم أو درهمين قال: ومن أين أصله قم، ثم ويرخي فضل كمه على كفه فيتناول النذر بكمه ولا يمسه بشره، وأيام كان لا يطأ لبني عمه فراشاً، ولا يأكل لهم معاشاً، ولا يلبس لهم رياشاً، ولا يستحل لهم ذبيحة، فلما أراد الله أن يظهر سره ويكشف أمره ظهرت منه البدع التي من جملتها قتل المهدي عليه السلام. فالله المستعان.
قال الشاعر:
ن تزيا بغير ما هو فيه
?
?
فضحته شواهد الامتحان
O??
الآن حصحص الحق وبان، وظهر من الفعل ما كان في الجنان، فإذا ثبتت هذه القاعدة في هذه الأطيان التي تركها وهاس فهي مظالم وأمرها إلى الأئمة السابقين لا إلى حسن بن وهاس فكونه دافعاً عنها الإمامة الذي قد شهد له ما لإمامه، وبايعه في محضر الخاصة والعامة من جملة البغي والظلم الذي لا شك فيه عند أرباب الورع والعلم كما أبرز ذلك وأوضحه ببغيه عليه في طلوعه ذروة {وإن فريقاً ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين}.
ومن عجائب حسن بن وهاس أنه بغى على المهدي عليه السلام بطلوعه حصن ذروة وأجناده فنهبوا ما فيه وانتهى فسادهم إلى سلب الحريم، ومن جملتهن امرأة شريفة حمزية زوجة لحي أخ المهدي عليه السلام ومعها ابنة لها صغيرة فسلبوها من غير محاشمة، فلما سألناه عن جواز ذلك قال: إني سألت أصحابي عند طلوعهم النصيرة فقالوا: طلعناها نحفظ أنفسنا، فقبل جوابهم واستحسنه وجعله بزعمه حجة متقنة، وهذا جواب من لم يضرب في الإسلام بنصيب، ولم يرم في العلم بسهم مصيب يبين ذلك ويوضحه أنه كان يمكنهم حفظ أنفسهم في ظفار، وظفر، ثم لو لم تجدوا غير هذا الحصن لما ساغ لهم سلب النسوان، وروعة الوالدان، وليت شعري[173ب-أ] ما الذي خافوا أن يحول بينهم، وبين صيرورتهم إلى أماكنهم التي فيها يأمنون، وبها يتحصنون، ولم يكن في وجوههم فيه محاربة، ولا جماعة مغلوبة ولا غالبة إنما كان المهدي عليه السلام في بلاد حمير وهم في ذروة، وبينهما ما يعلمه العالمون، فتأملوا أيها المسلمون، وأحسنوا النظر أيها المتفكرون فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
ومما يدل على جهله وقلة تمييزه رجوعه إلى أتباعه في طلب البصيرة في طلوع ذروة بينما هو المتبوع فصار تابعاً، وقايداً فأصبح مقوداً، وحاكماً فرضي أن يكون محكوماً عليه، وكيف يكون إماماً ثم يصبح مأموماً، ويكون متورعاً بزعمه فيصير مأثوماً، ويكون محموداً عند نفسه فيصبح مذموماً ملوماً، ثم احتمل من الأمر غير محتمله وادعى كونه محقوقاً لمحل ليس بمحله، وبادر إلى ما كان له عنه مندوحة، وعجل إلى أمر كان له فيه أناة، ثم ولى ولاة السوء وأعطى الزكاة بني هاشم، وكل ذلك أنكره على المهدي عليه السلام: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة تردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} وقال تعالى: {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء...} الآية، ثم أخذ المعاون على غير تقدير معلوم ولا قانون مفهوم ولا مشارف موثوق به كما عتبه على المهدي عليه السلام، فأثمر ذلك اتصاله بالمعونة إلى كحلان ونكاحه هناك ورد المسلمين بعد أن أخذ أزوادهم، وقد أخذ المعونة من أصحابهم وأخذ المعاون مرة أخرى، وأخذ بها درب آل الدعام وفيهم قوم زيدية فسلبوا الحرايم، وخالفوا كتاب الله الكريم حتى لم يبق على كثير منهم جرد هذا حكم الله أم بهذا عهد إليهم رسول الله، ثم خربوا الديار، وأخذوا الأموال، وهذا معلوم بلا إنكار.
قال حسن بن وهاس: إنما استحللت ما فعلت لأنهم خالفوا فكفروا فأجريت عليهم أحكام دار الحرب.
قلنا عن هذا جوابان:
أحدهما: أنكم فعلتم ما لا يجوز فعله في دار الحرب من سلب النسوان بحيث لم يبق على بعضهن خيط واحد، وهذا لا يجوز في دار الحرب.
الثاني: أنكم خالفتم السلطان فلزمكم من الإثم ما لزمهم، ولحقكم من الحكم ما لحقهم، وصارت دياركم كديارهم بالأمس ولا سواء؛ لأن السلطان طلع لحرب المسلمين فاغتنموه وناصرتموه، وأولئك حاربوا بأنفسهم فيا بعد ما بين الأمرين، وشتان ما بين الفعلين.
فإن قلتم: إنا أهل الحق ولسنا مثلهم بل نحن أهل إمامة وزعامة عامة.
قلنا: قد خرج إمامكم قبل المهدي، وسيرتكم القبيحة وأعمالكم الخاسرة وأولئك يعتقدون بطلان إما متكم، واعتقاد علماء الإسلام كافة فيهم اليوم إلا من شرك معكم في دم المهدي عليه السلام بأمر أو تصويب أو تقوية أو تقليد فحكمهم كحكمكم واسمهم كاسمكم أليس إمامكم[174أ-أ] في انتهاء آخر أمره حالف أولي الزيغ والارتياب، وخالف حكم السنة والكتاب، ورهن أخاه في لعاعة من المال، وأغرى هؤلاء العجم بالمسلمين، فهاهم اليوم ضربوا عليهم الرواق، وشدوا عليهم في الخناق، ومد سلطانهم أطنابه، ونصب حبايله، وجمع جحافله، ليس لها من دون الله كاشفة قال الله تعالى: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وبنو وهاس للكفار ناصرون وعاضدون، والعساكر إليهم حاشدون، قال الله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} قال الله عز قائلاً: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون} وقال تعالى:{ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً} ونهى عن المجادلة عنهم باللسان فكيف إذا اجتمع مع المجادلة باللسان البروز في ميدان الفرسان، والمجادلة عنهم بالحسام واللسان، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحب قوماً حشر معهم، ومن أحب عمل قوم شرك في عملهم)) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحب عمل قوم خيراً كان أو شراً كان كمن عمله)) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((العامل بالظلم والمعين عليه والراضي به شركاء)) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مشى مع ظالم أجرم)).
أيها المسلمون تأملوا لما جعله الله لكم هدى ونوراً: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم، وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} استنصرهم حسن بن وهاس بزعمه على المسلمين وأغراهم بحربهم بيقين، وطلب بذلك استظهاره على المسلمين، واستعلاه على الموحدين، ونفاذ أمره على المهتدين كأنه لم يسمع قول رب العالمين: { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً}.
والآن فقد وضح الصبح لذي عينين أن يشك في حسن بن وهاس وأتباعه مثل هذا الحال شاك أروني ما حول من المظالم، وغير من المآثم، وشيد من أساس التقوى والمعالم أليس هو في هذا الزمان إذا وقع ظهور لأعداء الله الكافرين كتب بزعمه إلى أتباعه: نصر من الله وفتح قريب، مبشراً بظهورهم على هذه الديار، مفتخراً بقوة الأشرار، كيف يفرح بعلوا أهل الفجور، وشربة الخمور، وركبة الذكور الذين يحملون النساء الفاجرات اللواتي على البغاء عاكفات على الطهر ويبذ لون لهن الوافر من الأجر، ويتلذذون بالطنابر والربابات، ويفاضلون بين الألحان [175-أ]والنغمات، فأصبحوا لهم مظاهرين بما يقع عليهم من العلو مسرورين: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم، وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}.
ومن عجائب ابن وهاس أنه يفتخر في محاضره ومجالسه بأن يقول: لولا أنا ما طلع هذا السلطان، ولا تمكن من هذا الشأن، وأتاه جماعة من مشائخ البلاد وتألموا من طلوع هذا الطاغية الملعون فأجابهم بأني درجته لذلك كما تدرج السفرجلة على البساط اطرحوا حكم الكتاب، وفارقوا نصوص الأئمة أولي الألباب، ورهنوا أنفسهم عند أولي الإرتياب في تافه من المال سريع الذهاب: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} قال الله تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون}.
هذه مقدمة فاحفظوها، وقاعدة فلا تطرحوها، وفيها ما ينفع الجواد، ويبطل أهل الفساد، ثم إن الله تعالى قد أمركم بجهاد الكافرين والظالمين، فقال تعالى: {واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم واحذروهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد} وقال عز قائلاً: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين} وقال الله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذين بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التآئبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} قال تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة} قوله تعالى: {من تحتها الأنهار} أي تحت أشجارها وأبنيتها الأنهار {خالدين} دائمين، {ومساكن طيبة} يريد قصور الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسير خمسمائة عام مثل قصر من لؤلؤة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء في كل بيت سريراً على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون علىكل فراش زوجة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام في كل بيت سبعون وصيفة، ويعطى المؤمن في كل غداة ما يأتي على جميع ذلك.
أيها الناس إن الجهاد بقصد الكافرين إلى ديارهم وإن خالف فيه مخالف فإن علماء العترة الكرام وجماهير سائر غيرهم من علماء الإسلام قد فغر فاه وأباح ديار المسلمين وأخرب معاقل المسلمين فادفعوا عن بلاد الإسلام، وبادروا إلى ما ألزمكم الله تعالى من القيام وعاجل التشمير والاهتمام، قال الله ذو الجلال والإكرام: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين[175-أ] واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل} وقال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} والفتنة هي الكفر فاعرفوه ولا تجهلوه، والظلم حاصل منهم فأزيلوه إن الله تعالى لم يترك الأمر للعباد لما ألزم، وفرض من الجهاد ليظهر معلومه من جهاد المجاهدين ...... على جهادهم، وترك المعرضين والمدهنين للجهاد فيعاقبهم على فسادهم، فإذا علم المجاهد مجاهداً، والتارك له تاركاً كافأهم بما يستحقون، قال الله تعالى: { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما يعملون}.
عباد الله هل تنظرون إلى عساكر آل وهاس وخرجوهم لنصرة هؤلاء الناس فلم لا تجاهدون، وفي دينكم تشددون، وعن بلاد المسلمين تحمون، أفبدعوة حسن بن وهاس تغترون بعد قتله للمهدي كما تعلمون ونصره لأهل الكفر كما لا تجهلون: {أو كالذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل الذين كفروا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون} إن الله يجعل لعالم السوء علماً وشعاراً فجعله كمثل الحمار يحمل أسفاراً استظهره نقلها، ولم ينتفع بحملها، لا يهولنكم موافقة الكتاب في الحكم على أهل الضلالة والارتياب فليس في دين الله تعالى محاباة ولا هوادة ولا ميل {يريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} لن ينتفع حسن بن وهاس بما يتلو من القرآن، وما ينتحله من الإتيان بقوانين الإيمان تصديقاً لما نزل به القرآن في قوله تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يستكبرون في الأرض بغير الحق} {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً} لأنه أبصر إلى الدنيا وزينتها فران حبها على قلبه فطمس الله لأجل ذلك أنوار لبه فصار يفتخر بأنه أطلع السلطان لحرب المسلمين، ولولا هو لم يقدر على الطلوع هكذا رواه لنا من سمعه من الثقات، وهذا هو المجارة بما لا يجوز. فالله المستعان.
أيها المسلمون إنا ندعوكم إلى الجهاد، وإرغام أنوف أهل الفساد: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق، وما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسها النار، ثلاث أعين لا تمسها النار: عين فقئت في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين باتت[175-ب] تحرس في سبيل الله، لمقام أحدكم في الصف ساعة أفضل من عبادة ستين سنة)).
أيها المسلمون لا تشتغلوا بالنظر في شهوات الزوجات والأبناء، ولا تحفلوا بالإقبال على أرحامكم والأقرباء، ولا بإصلاح أموالكم المفترقة، ولا ببيع تجارتكم المختلفة لما تخشون من كسادها وبوارها إن لم تبادروا ببيعها من طلابها فلا تنظروا إلى مساكنكم المرضية، ومنازلكم المبنية، واسمعوا قول الله حيث يقول: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الجهاد سنام الدين)) وسنام الجزور أعلاها بيقين، {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} فرساناً ورجالاً.
{ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم الله عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير}.
عباد الله إنهم يخشونكم كما تخشونهم، ويخافونكم كما تخافونهم، فلا يجتمعوا في باطلهم وتفترقوا في حقكم، {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليماً حكيماً}.
أيها المسلمون إني أدعوكم إلى التجارة الرابحة، والبيعة الصالحة: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} فانظروا كيف وعدنا الله في آي كثيرة من القرآن بأنه يغفر لنا ذنوبنا إذا فعلنا سائر الطاعات فلما جبنا هذه الطاعة التي هي الجهاد ووعدنا ووعده حتم لا خلف فيه وصدق لا كذب يعتريه بأنه يغفر ذنوبنا في مقابلة الجهاد فبادروا رحمكم الله إلى ما يغفر الله فيه جميع الذنوب، ويشرح به الصدور، وينور به القلوب، ولا تنظروا إلى الدنيا وزينتها ونضارتها وبهجتها فإن حلالها حساب وحرامها عقاب، وهي إلى نفاذ وذهاب، قال الله تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الله الآيات لقوم يتفكرون} من نظر إلى الدنيا أعمته، ومن أبصر بها بصرته، ومن ركن إليها صرعته، فلا تغتروا بإقبال هذا السلطان وترجون عنده الحظوة والمكان، فإن الله سيدمره وأعوانه كما فعل[176-أ] بثمود، وعاد، وفرعون ذي الأوتاد، وغيرهم من أرباب الجبروتية والفساد، ثم إن الله بجمعهم بالمرصاد، ولم تمنعهم حصونهم من رب العباد، ولم تدفع منهم الجيوش والأجناد قال الله تعالى: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد}ولا تنظروا إلى من والاهم ممن يدعي الثبات والسداد، والولاية علىجميع العباد، لا تختلفوا فقد وضح الأمر لمرتاد الرشاد، وزال الشك عنه في الإصدار والإيراد، ولا تنقسموا فريقين وقد نصب الله على البيان دليلاً
{فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً ودو لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً} وقد علمتم أنهم ما هاجروا بل والوا الكفار ونصروهم وأعانوهم على المسلمين وظاهروهم وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون هأنتم هؤلاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور} فاتقوالله حق تقاته، وبادروا إلى مرضاته، ولا تفرقوا في دينكم بعد وضوح بيانه، فإن الله تعالى يقول: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر: ((أي عرى الإسلام أوثق؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: المولاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله تعالى))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لو أن عبداً أقام ليله وصام نهاره وأنفق ماله في سبيل الله حلقاً حلقاً وعبد الله بين الركن والمقام حتى يذبح بينهما مظلوماً لما صعد منها إلى الله من علمه وزن ذرة حتى يظهر المحبة لأولياء الله والعداوة لأعداء الله)) فانظروا أيها المسلمون هل الفرقة الوهاسية موالية لأولياء الله كما ألزمه الرسول، والعداوة لأعداء الله كما ورد به الشرع المنقول أو لا؟ كلا بل قد علمتم أنهم صاروا للكفار ناصرين، ومواليين ومظاهرين، قال الله تعالى:{والمنافقون والمنافقات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون}.
فانظروا في هذه الفرقة فإنها قد نهت عن المعروف، وهو المحاربة لهؤلاء الكفار، وأمرت بالمنكر وهو الخروج إلى نصرتهم أو القيام بالإعلاء من خدمة سلطانهم، وقبضوا أيديهم عن محاربته، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً}.
وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة }.
هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة لما كتب كتاباً إلى قريش ينذرهم بقدوم المسلمين إليهم فكيف بمن كتب إليهم ثم عاد الكتائب ودعى إلى ذلك كل حليف وصاحب، وكثر سواد كل عدو للمسلمين ومحارب، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كثر سواد قوم فهو منهم)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سود علينا فقد شرك في دمائنا)).
قال الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام: (التسويد هو التكثير بالنفس والمال).
واعلموا أن الذين يتخلفون عن الجهاد من غير عذر شرعي عن الإيمان خارجون، وفي سبيل الغي سالكون، وأن الله تعالى قد ذم المتخلفين في كتابه المبين كما هو معلوم، وكان أكثر من يتخلف عنه من المنافقين: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم}.
وهم: كعب بن مالك، وابن الربيع، وهلال بن أمية، كلهم من الأنصار، وكان جملة المتخلفين عنه صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الغزوة بضعاً وثمانين فأما هؤلاء الثلاثة فكان من خبرهم ما هو ظاهر لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الغزوة، وهي عزوة تبوك جاء المعذرون وهم يعتذرون بأعذار باطلة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلها منهم، ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله، فلما أتاه كعب سأله عن سبب تخلفه فصدقه، وأعلمه أنه وقف لغير عذر وكذلك صاحباه، فأمر المسلمين بترك الكلام مع الثلاثة فما بقي أحد يكلمهم، فلما مضى أربعون ليلة أمر كعباً باعتزال زوجته فقال: أطلقها؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا بل اعتزلها، فجاءت امرأة هلال فقالت: يا رسول الله صلى الله عليك، إن هلالاً شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه؟ قال: نعم، ولكن لا يقربنك قالت: يا رسول الله فإنه ما به حركة لشيء ما زال مكباً الليل يبكي مذ كان من أمره ما كان، قال كعب: فلما طال عليّ البلاء اقتحمت على ابن عمي أبي قتادة حائطه فسلمت عليه فلم يرد علي سلاماً فقلت: أنشدك الله أتعلم أني أحب الله ورسوله فسكت حتى قلت ثلاثاً فقال أبو قتاده: الله ورسوله أعلم، فلم أملك نفسي أن بكيت، ثم اقتحمت من الحايط خارجاً، وربطوا أنفسهم في سواري المسجد حتى نزلت الآية، وهي قوله تعالى: {وعلىالثلاثة الذين خلفوا...} إلىقوله تعالى: {إن الله هو التواب الرحيم}.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: فهذه جملة من سيرته عليه السلام إلى أن مضى شهيداً حميداً مجاهداً في سبيل الله، فصلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته، وقد أعرضنا عن التطويل فيما علقناه [177أ-أ] وقصدنا الإيجاز فيما رويناه بشيء مما شاهدناه كما روينا، وشيء مما رواه لنا الثقات، وشيء جمعنا فيه أصح الروايات، وربما نلاحظ المعنى فنقل اللفظ يصعب جداً ونحن نستغفر الله تعالى ونتوب إليه مما يخالف رضاه في جميع ما رويناه وعلقناه، ونسأله أن ينفعنا وجميع المسلمين بما وضعناه بحوله وقوته، وأن يلهمنا إلى الصواب فهو ولي الهداية، وبه أزمة التوفيق في البداية والنهاية، ولا حول ولاوقوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً إلى يوم الدين آمين.
وافق الفراغ من رقم هذه السيرة الكريمة سيرة طاهرة الأعراق والشكيمة، أجل العترة الطاهرة الفخيمة، بل الله ثراه بكل واكف من رحمته وديمة وقت العشاء الآخرة من اليلة المسفرة عن تاسع وعشرين من شهر شعبان أحد شهور سنة ثمانية وتسعين ومائة وألف من الهجرة النبوية علىصاحبها أفضل الصلاة والتسليم.
وذلك بعناية مولاي السيد الأجل الكريم العلامة الأفضل عز الإسلام، والشأن وإنسان عين أعيان الآل الكرام بركة الخاص والعام: محمد بن الحسن حطبة بلغه الله في الدارين آمله وأربه، وختم له ولنا بالتوفيق، وجعله وإيانا من السالكين في رضائه أقوم نهج وطريق آمين، آمين، آمين.
وصلى الله على محمد وآله وسلم [177ب]