الكتاب: تنزيه القرآن عن المطاعن المؤلف: القاضى عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني المعتزلي (المتوفى: 415هـ) عدد الأجزاء: 1 الناشر: دار النهضة الحديثة [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أعده للشاملة: //محمود الجيزي - عفا الله عنه// |
الكتاب: تنزيه القرآن عن المطاعن
المؤلف: القاضى عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني المعتزلي (المتوفى: 415هـ)
عدد الأجزاء: 1
الناشر: دار النهضة الحديثة
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
أعده للشاملة: //محمود الجيزي - عفا الله عنه//
حياة المؤلف
هو قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني.
وهو الذي تلقبه المعتزلة قاضي القضاة ولا يطلقون هذا اللقب على سواه ولا يعنون به عند الاطلاق غيره قرأ على أبي اسحاق بن عياش مدة ثمّ رحل الى بغداد وأقام عند الشيخ أبي عبد اللّه مدة مديدة حتى فاق الاقران وصار فريد دهره.
قال الحاكم وليس تحضرني عبارة تحيط بقدر محله في العلم والفضل فانه الذي فتق علم الكلام ونشر بروده ووضع فيه الكتب الجليلة التي بلغت المشرق والمغرب وضمنها من دقيق الكلام وجليله ما لم يتفق لأحد قبله وطال عمره مواظبا على التدريس والاملاء حتى طبق الأرض بكتبه وأصحابه وبعد صيته وعظم قدره واليه انتهت الرئاسة في المعتزلة حتى صار شيخها وعالمها غير مدافع وصار الاعتماد على كتبه:
وشهرة حاله تغني (عن الاطناب في الوصف).
استدعاه الصاحب الى الريّ بعد سنة ستين وثلاثمائة فبقي فيها مواظبا على التدريس الى أن توفي رحمه اللّه سنة خمس عشرة أو ست عشرة وأربعمائة وكان الصاحب يقول فيه هو أفضل أهل الأرض ومرة يقول هو أعلم أهل الأرض ويقال ان له أربعمائة ألف ورقة مما صنف في كل فنّ:
ومصنفاته أنواع منها في الكلام ككتاب الخلاف والوفاق وكتاب المبسوط وكتاب المحيط. ومنها نوع في الشروح كشرح الاصول وشرح المقالات. ومنها في أصول الفقه كالنهاية والعمدة وشرحه وله كتب في النقض على المخالفين كنقض اللمع ونقض الامامة. ومنها جوابات مسائل وردت عليه كالرازيات
والنيسابوريات. ومنها في الخلاف ككتابه في الخلاف بين الشيخين. ومنها في المواعظ كنصيحة المتفقهة وله كتب في كل فنّ وعلى الجملة فحصر مصنفاته كالمعتذر وهو من اهل الطبقة الحادية عشرة من طبقات المعتزلة ذكر ذلك احمد بن يحيى المرتضى في كتاب المنية والامل في شرح كتاب الملل والنحل.
الناشر
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه على نعمه وإحسانه في الدين والدنيا وصلواته على محمد وآله الطيبين (أما بعد) فان أولى ما يتكلفه المرء في أثارة العلوم ما يعظم النفع به في دينه ودنياه فيعرف كيف يعبد ربه في الصلاة والصيام وغيرهما (و ذلك) بقراءة القرآن وبالانقطاع إلى اللّه، وكل ذلك لا يتم الا بمعرفة معاني ما يقرؤه وما يورده في ادعيته من الأسماء الحسنى إما مفصلا وإما على الجملة فانه تعالى قد أودع القرآن من المواعظ والزواجر وغيرهما ما اذا تأمله المرء وقعت به الكفاية: وقد روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم انه قال لعليّ بن أبي طالب عليه السلام وقد حذره عن اختلاف الأمة بعده: عليكم بكتاب اللّه فان فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم ما يدعه من جبار إلا قصمه اللّه ومن يتبع الهدى في غيره اضله اللّه وهو حبل اللّه المتين وأمره الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لما سمعه الجن لم يتناءوا أن قالوا (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) هو الذي لا تختلف به الألسنة ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه: ومعلوم انه لا ينتفع به إلا بعد الوقوف على معاني ما فيه وبعد الفصل بين محكمه ومتشابهه فكثير من الناس قد ضل بأن تمسك بالمتشابه حتى اعتقد ان قوله تعالى (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الْأَرْضِ) حقيقة في الحجر والمدر والطير والنعم وربما رأوا في ذلك تسبيح كل شيء من ذلك ومن اعتقد ذلك لم ينتفع بما يقرؤه ولذلك قال تعالى (أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وكذلك وصفه تعالى بأنه (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ويُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) وقد أملينا في ذلك كتابا يفصل بين المحكم والمتشابه عرضنا فيه سور القرآن على ترتيبها وبينا معاني ما تشابه من آياتها مع بيان وجه خطأ فريق من الناس في تأويلها ليكون النفع به أعظم ونسأل اللّه التوفيق للصواب ان شاء اللّه.
(بسم اللّه الرّحمن الرّحيم)
معنى بسم اللّه الابتداء به تبركا والاستعانة في كل امر مهم: ومعنى اللّه ان العبادة به تليق دون غيره لأنه الخالق والمنعم بسائر النعم: ومعنى الرحمن المبالغة في الانعام العظيم الذي لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى: ومعنى الرحيم المبالغة في الاكثار من الرحمة والنعمة وقد يوصف بذلك غيره أيضا.
[مسألة]
قالوا ما وجه الابتداء ببسم اللّه وهلا قيل باللّه الرحمن الرحيم فالاستعانة باللّه تقع لا باسمه. وجوابنا ان الأمر كما قالوا لكنه ذكر اسمه وأريد هو على وجه الاعظام وهذا كقوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) فأمر بتنزيه اسمه وأراد تنزيهه عما لا يليق به لكنه ذكر الاسم تعظيما له وهذا كما يقال صلوات اللّه على ذكر النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
قالوا فما وجه ذكر هذه الاسماء الثلاثة دون غيرها. قيل له ذكر اللّه لأن المكلف قد اختص بأن لزمته عبادته وهو الذي يعرف أنواع نعمه وذكر الرحمن الرحيم لأنه لأجل ذلك استحق العبادة.
سورة الحمد
معنى الحمد للّه الشكر للّه وكيف نشكره فعلمنا تعالى ذلك.
[مسألة]
قالوا الحمد للّه خبر فان كان حمد نفسه فلا فائدة لنا فيه وان أمرنا بذلك فكان يجب أن يقول قولوا الحمد للّه. وجوابنا عن ذلك ان المراد به الامر بالشكر والتعليم لكي نشكره لكنه وان حذف الامر فقد دل عليه بقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأنه لا يليق باللّه تعالى وإنما يليق بالعباد فاذا كان معناه قولوا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فكذلك قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وهذا كقوله (وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) معناه ويقولون (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ومثله كثير في القرآن.
[مسألة]
وربما قالوا لما ذا أعاد (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقد تقدم من قبل.
وجوابنا ان ذلك ليس بتكرار لأن المراد بالأول توكيد الاستعانة والمراد بالثاني توكيد الشكر له فلذلك كرر.
[مسألة]
قالوا ما معنى قوله (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ويوم الدين ليس بموجود حالا وكيف يملك المعدوم وما فائدة ذلك. وجوابنا ان المراد القادر على (ذلك اليوم) الذي فيه الجنة على عظم شأنها والنار على عظم امرها وفيه المحاسبة والمساءلة فنبه تعالى بذلك على انكم ان شكرتم وقمتم بالواجب فلكم من الفوز في الآخرة بالثواب نهاية ما تتمنون فصار ذلك ترغيبا في الشكر والعبادة وزجرا
عن خلافه واذا قرئ «مالك» فالمراد به القدرة على يوم الدين واذا قرئ «ملك» فالمراد به القدرة على العباد الذين يتصرف تعالى فيهم بما يوجب الانقياد له.
[مسألة]
قالوا ما معنى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وعندكم ان اللّه تعالى قد هدى الخلق بالادلة والبيان فما وجه هذا الطلب والدعاء. وجوابنا على ذلك انه تعالى وان مكن وأقدر المكلف ففي قدرته تعالى من زيادة البيان والادلة والالطاف والعصمة ما ينتفع به العبد اذا أمده بها والعبد يجوّز ذلك فيطلبه وهذا كما قال تعالى (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) فأمر تعالى العبد أن ينقطع الى اللّه تعالى فيقول (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وان لا يكذب في ذلك فيكون مراده بالصلاة الرياء والسمعة وأن لا يستعين الا باللّه تعالى وأن يستمد من جهته الالطاف والمعونة على الصراط المستقيم الذي هو دينه وطريقة من أنعم اللّه عليه لا طريقة الكفار الذين ضلوا فغضب اللّه عليهم.
سورة البقرة
[مسألة]
قالوا ما الفائدة في قوله تعالى (الم) ولا يعقل من ذلك في اللغة فائدة وكيف يجوز ذلك والقرآن عربي والعرب لا تعرف ذلك. وجوابنا ان اللّه تعالى جعل ذلك اسما للسورة وعلى هذا الوجه يقال سورة (ق) (و حم) السجدة وسورة (طه) وللّه تعالى ان يجعل لهذه السورة اسما وهذا مروي عن الحسن البصري وغيره ومتى قيل فقد حصل في ذلك اشتراك ولا بد من ضم زائدة اليه فلا فائدة إذا في ذلك. فجوابنا أن الألقاب كزيد وعمرو يقع فيها أيضا الاشتراك ثمّ تمييزها بزيادة وقيل أيضا في جوابه ان فائدة ذلك أن القرآن مؤلف من هذه الحروف التي تقدرون عليها «و مع» ذلك يتعذر عليكم هذا النظم بفضل رتبته فاعلموا انه معجز.
[مسألة]
ومتى قيل ولما ذا قال تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ) ولم يقل هذا الكتاب. فجوابنا أنه جل وعز وعد رسوله إنزال كتاب عليه لا يمحوه الماء فلما أنزل ذلك قال (ذلِكَ الْكِتابُ) والمراد ما وعدتك ولو قال هذا الكتاب لم يفد هذه الفائدة.
[مسألة]
قالوا ما معنى (لا رَيْبَ فِيهِ) وقد علمتم أن خلقا يشكون في ذلك فكيف يصح ذلك وان أراد لا ريب فيه عندي وعند من يعلم فلا فائدة في ذلك. فجوابنا ان المراد انه حق يجب أن لا يرتاب فيه وهذا كما يبين المرء الشيء لخصمه فيحسن منه بعد البيان أن يقول هذا كالشمس واضح وهذا لا
يشك فيه أحد وهذا كما يقال عند اظهار الشهادتين ان ذلك حق وصدق وان كان في الناس من يكذب بذلك.
[مسألة]
قالوا لما ذا قال تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) والهدى عندكم الدلالة وهو دلالة لكل فلما ذا خص المتقين دون غيرهم هلا دل ذلك على ان الهدى هو نفس الايمان. فجوابنا أنه تعالى قد بين في غير موضع ان القرآن هدى للناس فعم الكل وإنما خص المتقين هاهنا من حيث اختصوا بقبوله وهذا كقوله تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) فخصهم من حيث يخشون عند الانذار وان كان صلّى اللّه عليه وسلم كان منذرا للكل كما قال تعالى (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً ونَذِيراً) وقد ثبت ان ذكر الواحد لا يدل على ان غيره بخلافه.
[مسألة]
يقال ما معنى قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ما الغيب الذي مدحهم بالايمان به أ ولستم تقولون (لا يعلم الغيب إلّا اللّه). وجوابنا ان هذا الغيب يراد به الغائبات التي قام الدليل على صحتها كأمر الآخرة والجنة والنار والملائكة والحساب فمدح المتقين ووصفهم بأنهم يؤمنون بذلك (وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يدومون عليها ويؤدونها بحقها (وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) على وجه البر ولا ينفقون من الحرام الذي جعله اللّه رزقا لغيرهم فغصبوه ثمّ قال (وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) حتى يؤمنون بكل الرسل ولا يفرّقون بينهم (وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فلا يدخلهم شبهة في ذلك: ثمّ بين ان هؤلاء هم المفلحون الظافرون بثواب اللّه فدل بذلك على ان الثواب انما يكون بهذه الطريقة ورغب في التمسك بها وزجر عن خلافها وقد قيل ان في جوابه أن المراد أنهم يؤمنون بظهر الغيب باطنا كما يؤمنون ظاهرا وهذا أيضا حسن.
[مسألة]
يقال ما معنى قوله (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) ومعلوم ان الهدى ان كان دلالة فكل المكلفين فيه سواء فهلا دل ذلك على انه
نفس الايمان. فجوابنا ان المراد انهم على بصيرة مما تعبدهم به وتقبل الهدى يسمى هدى كما ان الجزاء على الامتثال للدلالة يسمى هدى وهذا كقوله تعالى في أهل النار انهم قالوا (لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا) وارادوا بذلك النعيم والثواب.
[مسألة]
يقال ما معنى قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ومعلوم ان في الكفار من قرأه وآمن. فجوابنا أنه أراد قوما من الكفار مخصوصين في أيامه صلّى اللّه عليه وسلم علم اللّه تعالى ان الصالح ان يخبر الرسول بأمرهم لكيلا يتشدد في استدعائهم ولا يغتم ببقائهم على الكفر وذلك كقوله تعالى (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وكَفَرَ) وهذا من العموم الذي يراد به الخصوص. وربما سألوا فقالوا اذا كان قد أخبرنا بأنهم لا يؤمنون فكيف كلفهم وكيف يقدرون على الايمان الذي لو فعلوه لكان تكذيبا لخبر اللّه تعالى. فجوابنا ان ذلك انما يدل على انهم لا يؤمنون اختيارا وان قدروا عليه فلذلك ذمهم وقد يقدر القادر على ما لا يختاره كما أنه تعالى يقدر على افناء الدنيا في هذا الوقت وان كان لا يختاره ولو كان ايمانهم اذا قدروا عليه قدرة على تكذيب اللّه لكان اللّه تعالى اذا قدر على اقامة القيامة الآن وقد أخبر بأنه لا يقيمها الا بعد علامات أوجب أن يكون قادرا على تكذيب اللّه وكان يجب اذا قدر على الضدين وإنما يفعل أحدهما أن يكون قادرا على تجهيل نفسه وهذا كلام من لا يعرف التكذيب والتجهيل وذلك ان التجهيل ما يصير به المرء جاهلا دون غيره والتكذيب ما يصير به كاذبا أو يتبين ذلك من حاله دون غيره.
[مسألة]
في ذلك أيضا يقال اذا كان قد علم أنهم يكفرون فلما ذا حسن أن يكلفهم مع علمه بأنهم لا يختارون الا ما يؤديهم إلى النار. وجوابنا انه انما علم انهم لا يختارون الايمان مع تمكنهم من اختياره وتسهيله سبيلهم إلى اختياره بكل وجه فانهم انما يؤتون من قبل أنفسهم وأنهم لو اختاروا الوصول الى ثواب عظيم لصح ذلك منهم ويفارق حالهم حال من منع من الايمان وانما يقبح ذلك
على مذهب من يقول انه تعالى يخلق فيهم هذه الأفعال من المجبرة.
[مسألة]
قالوا فقد قال تعالى (خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) وهذا يدل على أنه قد منعهم من الايمان ومذهبكم بخلافه وكيف تأويل الآية. وجوابنا ان للعلماء في ذلك جوابين، أحدهما أنه تعالى شبه حالهم بحال الممنوع الذي على بصره غشاوة من حيث أزاح كل عللهم فلم يقبلوا كما قد تعين للواحد الحق فتوضحه فاذا لم يقبل صح أن تقول انه حمار قد طبع اللّه على قلبه وربما تقول انه ميت وقد قال تعالى للرسول (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) وكانوا أحياء فلما لم يقبلوا شبههم بالموتى وهو كقول الشاعر.
لقد اسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ويبين ذلك انه تعالى ذمهم ولو كان هو المانع لهم لما ذمهم وانه ذكر في جملة ذلك الغشاوة على سمعهم وبصرهم وذلك لو كان ثابتا لم يؤثر في كونهم عقلاء مكلفين. والجواب الثاني ان الختم علامة يفعلها تعالى في قلبهم لتعرف الملائكة كفرهم وانهم لا يؤمنون فتجتمع على ذمهم ويكون ذلك لطفا لهم ولطفا لمن يعرف ذلك من الكفار أو يظنه فيكون أقرب إلى أن يقلع عن الكفر وهذا جواب الحسن رحمه اللّه ولذلك قال تعالى (وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).
[مسألة]
يقال كيف يجوز أن يقول (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) وذلك يدل على الماضي ثمّ ينفي بعد ذلك بقوله (وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فجوابنا انه أراد تعالى المنافقين الذين يظهرون الايمان ويبطنون الكفر وقص تعالى خبرهم لعظم مضرتهم في ثلاث عشرة آية كما أنه ذكر صفة المؤمنين في أربع آيات وصفة الكفار في آيتين فقد كانت مضرتهم أعظم في أيام الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فكشف تعالى بذلك حالهم لئلا يغتر بهم ولكي يتحرز من مخالطتهم ودل ذلك على ان اظهار الايمان ليس بايمان وان المعتمد على ما في
القلب من المعرفة وعلى هذا الوجه قال صلّى اللّه عليه وسلم الايمان قول باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالجوارح.
[مسألة]
يقال كيف قال تعالى (يُخادِعُونَ اللَّهَ والَّذِينَ آمَنُوا) ومعلوم ان الخداع منهم وان جاز على المؤمنين الذين لا يعرفون باطنهم فلا جائز على اللّه تعالى فكيف جاز أن يقول ذلك. وجوابنا ان فعلهم لما كان فعل المخادع قال تعالى ذلك وان لم يكن خداعا للّه في الحقيقة ولذلك قال تعالى بعده (وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وما يَشْعُرُونَ) لأن الذي فعلوه عاد بأعظم الضرر عليهم من حيث ينالهم ذلك بغتة وهم لا يشعرون.
[مسألة]
ان قيل ما معنى قوله تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) والمراد في قلوبهم كفر ونفاق فزادهم اللّه ذلك أو ما يدل على ان الكفر من خلق اللّه ومن قبله. فجوابنا أنه تعالى ذكر المرض ولم يذكر الكفر فحمله على ان المراد به الكفر غلط والمراد بذلك أن في قلوبهم غما أو حسدا على ما يخص اللّه تعالى به الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه فقد كانوا يغتاظون ويعظم غمهم ثمّ قال تعالى (فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) أي غما بما يفعله بالرسول ويجدده له من المنزلة حالا بعد حال فقول من قال بحمله على الكفر غلط عظيم ولذلك قال (وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فان كان اللّه تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم فأيّ ذنب لهم حتى يعذبهم وكيف يضيف اليهم فيقول (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الارض وانهم السفهاء بعد ذلك وانهم (وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ).
[مسألة]
قالوا كيف وصف تعالى نفسه بالاستهزاء فقال (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ويَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). فجوابنا أن الاستهزاء لا يجوز على اللّه تعالى لأنه فعل مخصوص يفعله من لا يمكنه التوصل الى مراده إلا بهذا الجنس فتعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا وإنما أراد بذلك أنه يعاقبهم
ويجازيهم على استهزائهم كما قال تعالى (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) وما يفعله اللّه تعالى لا يكون سيئة ولا اعتداء ويقول العرب الجزاء بالجزاء والاول ليس بالجزاء وقال صلّى اللّه عليه وسلم أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وانما أجرى اللفظ على جزاء الاستهزاء مجازا واتساعا. فان قيل ما معنى قوله تعالى (وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أ فتجوزون على اللّه تعالى ان يمدهم في كفرهم وان يريد ذلك. وجوابنا أنه تعالى أراد بمدهم في جزاء طغيانهم لا نفس طغيانهم ويحتمل أن يكون ذلك عاقبة أمرهم في ذلك لقلة قبولهم ويكون ذلك مآل أمرهم وعلى هذا الوجه ذمهم بقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) فالمراد بقوله (وَ يَمُدُّهُمْ) أنه يبقيهم وهذا حالهم ويبين تعالى ذلك بأن (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) فان ظلمة المكان وقد كان فيه الضياء ثمّ فقد أعظم من الظلمة الدائمة.
[مسألة]
ان قيل كيف يصح أن يقول تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) ولم يكونوا كذلك في الحقيقة. فجوابنا انه تعالى شبه حالهم من حيث لم ينتفعوا بما يسمعون ويبصرون ويقولون بحال من هذا وصفه وذلك بين في اللغة فيمن لم يقبل ولا ينتفع والبيان انه يوصف بذلك على ما قدمنا من انه ربما يوصف بأنه ميت وبأنه بهيمة وبأنه حمار وقد تقدم ذكر ذلك وعلى هذا الوجه يقال حبك للشيء يعمي ويصم والمراد يصيره الى رتبة الأعمى والأصم في انه لا ينتفع ويتعدى وجه الصواب.
[مسألة]
فان قيل كيف يقول تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ) ولفظة أو يستعملها من شك في الامور دون العالم ويتعالى اللّه عن هذا الوصف: (فجوابنا) انه تعالى كما يجوز أن يمثلهم بشيء يجوز أن يمثلهم بشيء آخر في باب الضلالة وليس المراد الا الجمع بين الامرين وقد يقال لفظة أو فيما طريقة الجمع في ذلك كقوله تعالى (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ)
(تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) أراد الجمع وكذلك قوله (وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ) أراد الجمع وقد يقال جالس الحسن أو ابن سيرين والمراد الجمع واذا جاز في الواو أن يراد به معنى أو كقوله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ) فكذلك يجوز أن يذكر أو ويراد به الجمع.
[فصل] ثمّ انه تعالى بعد وصف المنافقين بعث المكلفين على عبادته فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ولا يصح أن يقول ذلك الا مع الامر بمعرفة اللّه تعالى ليصح أن يعبد ومع اقامة الدلالة التي يصل بالنظر فيها الى معرفة اللّه تعالى وذلك ما نبه عليه بقوله (الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ونبه بذلك على ان العبادة انما تليق به لانه خالقنا والمنعم علينا ونبه بذلك على بطلان التقليدي لأنه لا يصح أن يكون طريقا لمعرفته ونبه بذلك على انه ليس بجسم وأنه انما يعرف بفعله وخلقه.
[مسألة]
ان قيل فما معنى قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ولعل انما يستعمله المتكلم بمعنى الشك: فجوابنا ان المروى عن ابن عباس والحسن ان لعل وعسى من اللّه واجب فالمراد لكي تتقوا ولكي تشكروا وتفلحوا وذلك أحد ما يدلنا على انه تعالى لا يريد من المكلف الا الطاعة التي هي التقوى والشكر وما شاكل ذلك وعلى هذا الوجه قال اللّه تعالى لموسى وهارون صلّى اللّه عليهما وسلم (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) لانه أراد بذلك تذكره وخشيته وهو الذي يفهم في اللغة واذا ذكر في غير ذلك فهو مجاز. وقد أجاب بعض العلماء بان المخاطب اذا كان لا يعلم هل يختار ذلك أو لا يختاره صح من المخاطب ان يخاطبه بذلك ليترجاه فمن حيث كان المخاطب مترجيا غير قاطع جاز ان يخاطب بذلك فامر تعالى بعبادته ثمّ قال في آخره (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) وهذا هو معنى الاخلاص أي اعبدوه ووحدوه ثمّ نبه تنزيه القرآن (2)
على وجوب الاعتراف بنبوة النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال (وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) فقد أوتيتم الفصاحة التامة فان كان غير صادق ولكم الحمية والآنفة وقد الزمكم طاعة اللّه والانقياد فما الذي يقعدكم عن ان تأتوا بمثله وهلا دل قعودكم عن ذلك على ان القرآن معجز يدل على صدقه في النبوة وبين انهم كما لم يأتون بمثله فكذلك حالهم أبدا بقوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا).
[مسألة]
يقال لم قال تعالى (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ والْحِجارَةُ) وكيف تكون الحجارة وقودا وكيف يصح في الناس ان يكونوا وقودا لها وهم لا يحترقون. فجوابنا انه تعالى نبه على عظمها وانها لذلك تحترق بالحجارة وليس اذا كان الناس وقودها وجب ان يفنوا لانه تعالى يمنع وصول النار الى المقاتل وانما تحترق ظواهرهم كما قال عز وجل (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) أعاذنا اللّه منها بالتقوى.
[مسألة]
قالوا فقد قال تعالى في هذه النار (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فهلا دل على ان غير الكفار لا يدخلونها. فجوابنا ان للنيران دركات فهذا صفة واحدة منها وبعد فليس اذا ذكر اللّه تعالى انها معدة للكافرين دل على نفي غيرهم وعقب ذلك بقوله (وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) وبين ان لهم فيها أزواجا مطهرة من الامور التي ربما تنفر في دار الدنيا من ضروب ما يتأذى به.
[مسألة]
ان قيل فما معنى قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها). فجوابنا أنه تعالى لما ضرب مثل آلهتهم بالذباب (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً
وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) وضرب أيضا مثلهم بالعنكبوت وضعف نساجته قال الكفار طعنا في ذلك كيف يضرب تعالى مثل آلهتنا بهذه المحقرات فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وأراد أنه انما يضرب المثل بما هو أليق بالقصة وأصلح في التشبيه فاذا ضرب مثلهم في باب الضعف كان ذكر الحقير في المنظر من الحيوان أحسن موقعا ومعنى قوله (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) أي في الصغر والضعف وعجائب الحكمة في البعوضة وصغار الحيوان أزيد من عجائبهما في كبار الحيوان لمن تأمل.
[مسألة]
قالوا فقد قال تعالى (وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً) وذلك يدل على أنه تعالى يضل ويهدي لا كما تقولون بأنه تعالى لا يجوز عليه ذلك «قلنا» انا انما ننكر أن يضل تعالى عن الدين بخلق الكفر والمعاصي وارادتها كما ننكر أن يأمر بها ويرغب فيها ولا ننكر أن يضل من استحق الضلال بكفره وفسقه وقد نص اللّه تعالى على ما نقوله في تفسير هذه الآية ودل عليه لانه قال (وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) فنبه بذلك على أن قوله «يضلّ به كثيرا» أريد به يضل بالكفر به كثيرا والا كان لا يكون لقوله (وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) معنى لان غير الفاسقين يضلهم على قول القوم ثمّ انه تعالى وصف من يضله فقال «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» فبين تعالى أنه يضلهم بهذه الخصال لا أنه يبدؤهم بالضلالة وعلى هذا الوجه قال «فَرِيقاً هَدى» أي الى الثواب «وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ» بين كيف حق ذلك فقال «إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وعلى هذا الوجه قال «وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» فخصهم بذلك وقال «وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» أي الى الثواب وقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ)
(رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) وقال (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وقال (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْناهُمْ هُدىً) أي بالالطاف والتأييد وقال تعالى (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي بالادلة وقال (وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي بالأدلة وقال (كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) وقال تعالى (وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) أي بقبوله لذلك وقال (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا) وذم تعالى الشيطان وفرعون والسامريّ بما كان منهم من الضلال فالاضلال من اللّه تعالى مخالف لإضلالهم لا كما يقوله المجبرة والقدرية الذين يضيفون تقدير الفواحش إلى ربهم فنقول إنه تعالى هدى الخلق بالأدلة والبيان ويهدي من آمن بالثواب خاصة ويهديهم أيضا بالالطاف ونقول انه يضل من استحق العقاب بالمعاقبة وبأن يعدلهم عن طريق الجنة وبأن لا يفعل بهم من الألطاف ما ينفعهم ولا نقول انه يضل عن الدين بأن يخلق الضلال فيهم ولا انه يريده ولا انه يدعوهم اليه لان ذلك هو الذي يليق بالشياطين والفراعنة وانما قال تعالى (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) وأراد يعاقب بالكفر به (وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً) أي يثيب بالايمان به كثيرا ويجوز إضافة هذا الضلال إلى نفسه وقد قيل أيضا انهم لما ضلوا عنده جاز أن يضاف إلى نفسه كما قال تعالى (وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) ثمّ قال من بعد (وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) فأضاف ايمانهم وكفرهم إلى السورة لما آمن بعضهم عند نزولها وكفر بعضهم فكذلك أضاف هذا الضلال إلى نفسه لما كفروا بالمثل عند نزوله ثمّ بين تعالى بقوله (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) على أن الكفر من قبلهم وانهم قد كفروا نعمة ربهم وعدد نعمه عليهم معظما لذنبهم وكفرهم لأن عظم النعمة تعظم معصية المنعم ونعم اللّه علينا لا يدانيها نعم فلذلك يكون اليسير من المعاصي عظيما كما يكون اليسير من عقوق الوالد البار
عظيما ودلّ بذلك على بطلان قول من يقول خلق اللّه فريقا للكفر وفريقا للايمان لان ذلك لو صح لكان لا نعمة له على من خلقه للكفر والنار.
[مسألة]
قالوا ما معنى قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ).
وجوابنا ان المراد ثمّ قصد خلق السماء لأنّ الاستواء عليه تعالى على الحد الذي يجوز على أشخاص لا يجوز ولذلك قال تعالى بعده (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ).
[مسألة]
ان قيل أنتم تنزهون الملائكة عن المعاصي فكيف قال تعالى (وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ) أ فليس هذا القول منهم كالاعتراض على ربهم.
وجوابنا انه تعالى أعلمهم طريقهم في العبادة وانه سيسكن الارض من يقع من بعضهم الفساد والقتل فلما قال تعالى وقد صور آدم وخلقه (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قالوا على وجه المسألة والتعرف (أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وعلى هذا الوجه يحسن ذلك ولذلك جعل تعالى جوابهم (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) فبين سبحانه وتعالى انه العالم بالمصالح المستقبلة فاذا كان في معلومها ما يظهر من الفضل والعلم من الانبياء والمؤمنين كان ذلك أصلح في الحكم.
[مسألة]
قالوا أ فما يدل قوله تعالى (وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) على ان الامر بما لا يطاق يحسن لأن الملائكة لم تقدر على هذه الأسماء ولذلك قالت (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا). وجوابنا ان ذلك جعله اللّه تعالى معجزة لآدم ودلالة على نبوته من حيث عرفه أسماء المسميات جميعا فعرفت الملائكة بذلك انه نبي وعظّمته وجعل اللّه تعالى ذلك مقدمة الى ما أمرهم به
من تعظيمه بقوله (وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) والمراد عظموه بتوجيه السجود اليه وان كنتم تعبدون اللّه تعالى بذلك ولذلك قال تعالى (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ والْأَرْضِ وأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وانه تعالى قد عرف الملائكة بما كتب في أم الكتاب من الآجال والأرزاق وغيرهما إنه عالم بذاته بكل شيء فقال لهم (أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ) أ لم أدلكم منبها على ان الذي خص به آدم من الاسماء لم يخصهم به ارادة لاظهار نبوته وتعظيمه وقوله (أَنْبِئُونِي) هو على وجه التحدي وتقدير عجزهم ولذلك كان جوابهم (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) ولذلك قال (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ومن لا علم له لا سبيل له الى العلم بانه صادق في الاخبار عما لا يعلم ومعلوم انهم لو أخبروا لجاز أن يكونوا كذبة ولا يجوز أن يأمر تعالى بما هذا حاله.
[مسألة]
قالوا كيف استثنى تعالى ابليس من الملائكة وهو من الجن في قوله (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) وجوابنا انه لما دخل معهم في الأمر له بأن يسجد لآدم وأريد منه ذلك بهذا القول فصح الاستثناء لأن الاستثناء من جهة المعنى لا يكون الا كذلك وذم اللّه تعالى له بأنه لم يسجد وتكفيره اياه يدل على قدرته على السجود بخلاف قول القدرية انه تعالى يأمر بما لا يقدر العبد عليه وقوله تعالى في وصف ابليس (أبى) يدل أيضا على بطلان قولهم لانه لا يقال أبى الا اذا قدر على الشيء ثمّ امتنع منه اذ أبى فعل نفسه.
[مسألة]
يقال كيف أسكن تعالى آدم وحواء الجنة وكيف أذلهما الشيطان عنها وكيف نفذ قول ابليس عليهما فخالفا أمر اللّه تعالى وكيف فعلا ما عوقبا عنده على الاخراج من الجنة. وجوابنا انه لا يمتنع في سكنى تلك الجنة أن يكون صلاحا اذا لم يفعلا أمرا من الأمور وغير صلاح اذا فعلا ذلك فلما
وقع منهما أكل الشجرة التي هي من جنس ما نهى اللّه تعالى عنه ويقال انها العنب ويقال التين ويقال الحنطة والأول أقرب أخرجهما تعالى من تلك الجنة ولم يخرجهما عقوبة لان معاصي الانبياء لا تكون الا صغائر ولو فعلوا كبائر لحسن ذمهم ولعنهم والنبوة تمنع من ذلك فلما عصيا كان الصلاح اخراجهما الى الارض لما في المعلوم من العواقب الحميدة وكان ابليس يظهر لهما فوسوس اليهما وكان عندهما أن اللّه تعالى انما نهى عن شجرة بعينها وأراد اللّه تعالى ذلك الجنس كله فذهلا عن هذا التأويل ولذلك قال تعالى (فَنَسِيَ ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ولو علما ان النهي عام في ذلك الجنس لم يقدما على اكل ذلك ثمّ من بعد تاب اللّه عليهما فزال تأثير تلك المعصية فلذلك قال تعالى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) وكان اللّه تعالى يعظم محل الانبياء لعلمهم كيف يتوبون وما الذي يؤدون من الكلمات ثمّ انه تعالى ذكر من يعد نعمه على بني اسرائيل وذكر أولادهم نعمة على الآباء لأن النعمة على الآباء بحيث تخلصوا من قتل الأعداء اياهم نعمة على الاولاد الذين لو لا ذلك الخلاص لم يوجدوا فعلى هذا الوجه خاطبهم بهذه النعم وأمرهم بالوفاء بعهده لقوله تعالى (وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وهو المجازاة (وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي يجب أن تخافوا معصيتي فان ذلك يوقعكم في العقاب وآمنوا بما أنزلت على محمد صلّى اللّه عليه وسلم ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب (وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا) فقد كانوا يطمعون في الضعفاء فيضلونهم ويصرفونهم عن اتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلم فلذلك قال (وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا) ثمّ قال (وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وتَكْتُمُوا الْحَقَّ) فدل بذلك على وجوب اظهار الحق بالدعاء اليه ودل به على ان من لبس الحق بالتشبيه فقد أقدم على عظيم وبين ان المرء كما يجب أن يدعو الى الخير يجب أن يتمسك به ومن لم يتمسك به لم يؤثر دعاؤه للغير فقال (أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ واسْتَعِينُوا)
(بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ) فجمع بذكر الصبر جميع ما منع تعالى منه وبذكر الصلاة جميع ما أمر به وبين ان الصلاة كبيرة (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي ثواب ربهم فيعلمون المجازاة فيعظم خوفهم ويعلمون انهم اليه راجعون. وبين لبني اسرائيل ولنا بقوله (وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ولا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ولا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) ان من حكم ذلك اليوم ان المرء ينتفع بعمله دون هذه الامور وان أهل العقاب لا يتخلصون الا بما يكون منهم في الدنيا من التوبة وتلافي المعصية ثمّ قال عز وجل (وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) فمنّ عليهم بما كان منه تعالى من نجاة آبائهم على ما ذكرنا وذكر نعمه حالا بعد حال إلى قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا) وقوله في خلال هذه الآيات (وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) يدل على أن الرؤية على اللّه تعالى لا تجوز وقوله (وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) يدل على قدرة اللّه تعالى على الأمور العجيبة وان عصا موسى كانت من الآيات العظام فمرة كانت تصير بيده ثعبانا فيتلقف إفك السحرة ومرة كان يضرب بها على الحجر فينفجر منه من الماء ما يحتاجون اليه ومرة كان يضرب بها على البحر فينفلق ويصير لهم طريقا يبسا ولما ذكر قوله (وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ظن بعضهم ان بني اسرائيل أفضل من سائر الانبياء وليس الامر كذلك وانما أراد به فضلهم على عالمي زمانهم وكذلك كانوا في أيام موسى صلّى اللّه عليه وسلم دينا ودنيا.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) كيف يدخل قتل النفس في التوبة. وجوابنا انه تعالى أوجب أن يقتل بعضهم بعضا لعلمه بأن ذلك صلاحهم لا ان ذلك من شروط التوبة لان التوبة مقبولة اذا صحت بدون غيرها.
[مسألة]
وسألوا عن معنى قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والنَّصارى والصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) فقالوا كأنه قال ان الذين آمنوا من آمن منهم وهذا كالمتناقض. وجوابنا ان المراد في الذين آمنوا الاستمرار على ايمانهم وفي الذين هادوا الانتقال الى الايمان وذلك صحيح وقد قيل ان المراد بأن الذين آمنوا من أظهر الاسلام والمراد بمن آمن منهم كمال الايمان وذلك مستقيم.
[مسألة]
وقد قيل كيف قال (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ) ونحن نعلم ان المؤمنين قد يخافون ويحزنون. وجوابنا انه تعالى أراد ذلك في الآخرة كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) وقال (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) وكل ذلك ترغيب في التمسك بالايمان والطاعة.
[مسألة]
قالوا في قوله تعالى (وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) كيف يأمر بذبح بقرة لها صفة ثمّ باخرى لها صفة أو ليس ذلك يدل على البداء «و جوابنا» أنه أمر أولا بذبح بقرة على أيّ صفة كانت فلما عصوا كان الصلاح التشديد عليهم ثمّ كذلك حالا بعد حال الى أن أمرهم آخرا بذبح بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها فيقال طلبوها فاشتروها بمال عظيم لأنه لم يوجد بتلك الصفة سواها وكان السبب في ذلك ما بينه بقوله (وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها واللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى) وكان هناك قتيل وكتموا القاتل فأخفوه فأراد اللّه تعالى اظهاره باحياء القتيل عند ضربه ببعض البقرة ليذكر ذلك المقتول قاتله فيقام عليه حد اللّه تعالى واللّه تعالى وان كان قادرا على احياء ذلك
القتيل من دون أن يضرب ببعض البقرة فقد كان لطفا لهم لان عادتهم كانت التقرب بذبح البقرة كما تعبدنا اللّه تعالى بذبحها في الاضحية وكان ذلك من معجزات موسى عليه السلام.
[مسألة]
يقال وقد قال تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) كيف يجوز أن يفضل قلبهم في القسوة على الحجارة والحجارة لا قسوة فيها أصلا وكيف قال (وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) وذلك لا يصح على الحجارة. وجوابنا ان ذلك على وجه المثل ضربه اللّه تعالى لقلبهم في القسوة لان الظاهر ان القسوة تكون لصلابة القلب فكذلك القول في الخشية أورده على وجه المثل وقد قيل أن المراد ولو جعل الحجز حيا لكان يحصل فيه من الخشية ما ليس في قلبهم والاول أقوى لأنّ الحجارة اذا جعلت حية لا تكون حجارة.
[مسألة]
قالوا كيف يقول تعالى (أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) يعني اليهود ثمّ يقولون من بعد (وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) فنفى في الاول وأثبت في الثاني وذلك تناقض. وجوابنا ان المراد (أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا) ايمانا ظاهرا وباطنا والذي عناه في قوله (وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) ما أوردوه ظاهرا على وجه النفاق فالكلام مستقيم ولذلك قال (وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) فذمهم بذلك على هذه الطريقة التي هي النفاق وبين انهم يحرفون التوراة ويشترون بها ثمنا قليلا وانهم كانوا يفعلون ذلك ليستأكلوا ضعفائهم فقال تعالى (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) ودل بذلك على ان كتمان الحق في الدين يوجب الويل وقوله تعالى (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) زجر عظيم لمن يعصى ربه كما ان قوله تعالى (وَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ترغيب عظيم في التمسك بطاعته. ثمّ ذكر انه أخذ ميثاق بني اسرائيل في أن لا يعبدوا الّا اللّه وفي أن
يتمسكوا بسائر ما ذكر بعد ذلك وانهم خالفوا وتولوا الا قليلا وانهم سفكوا الدماء. وبين تعالى ان جزاء ذلك الخزي في الحياة الدنيا وان يردوا الى أشد العذاب وزجر بذلك عن مثل فعلهم وذمهم على التكذيب بالقرآن بقوله (وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا ويَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) كل ذلك رجز عن فعل مثلهم.
[مسألة]
وقالوا قال تعالى (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ) فقالوا كيف يجوز تعليله لإنزاله القرآن بأنهم أعداؤه. وجوابنا انه أراد توكيد ذمهم بانه بالمحل الذي ينزل به الوحي والقرآن لاجله على الرسل وزجرهم بذلك عن عداوتهم ثمّ بين ان من كان عدوا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال فاللّه عدوه بقوله (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ).
[مسألة]
وسألوا عن قوله (وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) وقالوا الآية تدل على ان السحر من عند اللّه وان الملائكة أنزلت به وعلى انه اذا أدى الى مضرة فبإذن اللّه. وجوابنا انه تعالى حكى عن اليهود انهم نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم وانهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين والمراد بذلك ما تخبر به الشياطين على ملك سليمان ويكذبون عليه فانهم يتبرءون من نبوّته أعني اليهود وينسبوه الى السحر كما حكت الشياطين فقال تعالى (وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ) نزهه عن السحر الذي نسبوه اليه ثمّ قال (وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) بان نسبوا السحر الى سليمان على وجه الكذب وجحدوا نبوّته ثمّ قال تعالى في وصفه الشياطين (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) على وجه الاضرار ثمّ قال تعالى (وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ) فبين انه تعالى أنزل ببابل السحر عليهما ليعرفا الناس فيتحرزوا من ضرره لان تعريف الشر حسن ومعه يصح الاحتراز
ولذلك قال تعالى (وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) يعني الملكين (حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) فبين ان مرادهم بتعليم السحر لا أن يعمل به ثمّ قوله تعالى (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وزَوْجِهِ) وهو ذم لمن يتعلم من الملكين فلا يتحرز بل يعمل به فهو بمنزلة أن يعرف من الرسول الزنا وغيره من الفواحش فبعضهم يعمل بذلك فلا يخرج بيان النبي صلّى اللّه عليه وسلم لذلك من أن يكون حسنا فكأنه قال (وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) واتبعوا (ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) فيما يعملون على وجه الذم لهم. وقد روي عن الحسن انه كان يقرأ (وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ) ويقول كانا علجين أقلفين يأمران بالسحر ويتمسكان به والقراءة المشهورة خلاف ذلك وقد قيل في تأويله ان المراد واتبعوا ما تتلوا الشياطين أي تحكي وتخبر على ملك سليمان وما أنزل على الملكين ببابل فكأنهم كما كذبوا على ملك سليمان كذبوا أيضا على ما أنزل على الملكين لا أنهما أنزلا ليعلما السحر ويكون قوله (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) أي من السحر والكفر والوجه الأول أقوى.
فان قيل وما السحر الذي هو كفر أ تقولون ان جميعه كفر أو بعضه وما حقيقته. قيل له ان السحر في الأصل هو ما لطف مأخذه مما يقصد به الاضرار والاحتيال لكن في الناس من يوهم انه يفعل ما لا حقيقة له كما يدعي بعضهم أنه يطير بلا جناح ويركب المكانس وغيرها فيبعد بالوقت اليسير وانه يخيط الناس ويصور المرء بخلاف صورته الى ما شاكل ذلك وهو قال صلّى اللّه عليه وسلم (من أتى كاهنا أو عرافا فصدقهما فيما يقولان فقد كفر بما أنزل على محمد) لانهم يوهمون انهم يعلمون الغيب وذلك كذب منهم ربما صدق في هذا الزمان بعض المنجمين في مثل ذلك وهو عظيم يوجب الطعن في نبوّة الانبياء صلوات اللّه عليهم الذين انما عرفت نبوّتهم بان أظهروا علم الغيب نحو قوله عز وجل في وصف عيسى عليه السلام (وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) فمن أوهم ذلك فهو كافر في
في الحقيقة فاما السحر الذي يصح وقوعه فهو ما لم يلطف من هذه الافعال التي تجري مجرى الحيل فالأول هو الكفر والثاني يحتمل أن يكون كفرا ويحتمل خلاف ذلك فان أوهم انه يفرق بين المرء وزوجه بان يفعل في قلب الزوج أو قلبها ما لا يمكن ويكون معجزا فهو كالأول وان أوهم انه يزيل العقل ويحدث العيوب في أحدهما فهو كالاول وان ذكر انه يحتال بما يمكن للمرء أن يفعله حتى يفرق بينهما أو يقتل أو يفعل ما يؤدي الى المرض فذلك فسق ليس بكفر وقد ذكر بعض مشايخ المتكلمين ممن عمل كتاب المتشابه ان رجلا تزوج امرأة على أخرى فعظم ذلك على الأولى وانها استعانت بغيرها فتوصل الى أن قال للثانية ان أردت أن تنغرس محبتك في قلب الزوج ليختارك على الاولى فخذي موسى فاقطعي ثلاث شعرات من لحيته وهي ما يقارب الحلق وألقى الى الزوج بأن هذه المرأة ستحتال عليه بالقتل فلما قرّبت الموسى منه في المحل الذي حرره لم يشك الزوج بان الامر على ما قال الرجل من انها قصدت قتله فقام اليها وقتلها وكان ذلك تفرقة وقيل توصل اليها بهذه الحيلة فما يجري هذا المجرى يكون فسقا ولا يكون كفرا وكل ذلك مما يصح تعرفه من الانبياء لكنهم يعلمون ذلك لكي يتحرز منه فيحسن ذلك والشياطين يعلمون ليعمل به فيقبح ذلك فهذا تأويل الآية وقوله تعالى (وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) يحتمل أن يكون المراد بهذا الاذن العلم دون الأمر ويحتمل أن يكون المراد فعلهم نفسه فيما عنده بفعل اللّه تعالى ما يضر من يضر غيره فيكون ذلك منسوبا الى اللّه تعالى وما يفعله من حيث يقع بارادته يجوز أن يقال انه باذنه وبين ان من يفعل ذلك ماله عند اللّه من خلاق وزجر بذلك عن التمسك بالسحر والحيل ثمّ قال (وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) لأن من باع نفسه بما يأتيه من السحر فهو خاسر الصفقة في هذه التجارة.
[مسألة]
قالوا ما معنى قوله تعالى (وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ) وكيف تكون المثوبة خيرا من السحر
والسحر لا خير فيه. وجوابنا ان قوله (وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا واتَّقَوْا) يدل على ان الايمان باختيارهم يقع وانهم اذا لم يؤمنوا فهم مقصرون بخلاف من يقول انه تعالى يخلق ذلك فيهم ورغب بذلك في الايمان والتقوى ومعنى قوله في المثوبة انها خير أي أن ما يؤدي اليها اولى أن يتمسك به وهذا كقوله تعالى (قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) وإنما أراد ان جنة الخلد هو الخير دون النار.
[مسألة]
يقال ما معنى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وقُولُوا انْظُرْنا واسْمَعُوا) ومعنا هما واحد فكيف يصح الامر بكلمة والنهي عن الاخرى والفائدة لا تختلف. وجوابنا ان المنقول في الخبر ان اليهود كانت تقول للنبي صلّى اللّه عليه وسلم (راعِنا) بكسر العين وتقصد الهزء وقوله تعالى (وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وطَعْناً فِي الدِّينِ) يدل على ذلك فأمر اللّه تعالى بالعدول عنه الى نظيره وهو قوله (انظرنا) وفي ذلك دلالة على وجوب تجنب الكلمة اذا أوهمت الخطأ وقوله تعالى في آخر الآية (وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) يدل على ما قلناه من انهم قصدوا أمرا مذموما في راعنا فلذلك نقل اللّه تعالى المؤمنين عنها الى قوله (انظرنا).
[مسألة]
وقالوا كيف يجوز أن ينسخ تعالى شيئا بشيء كما قال (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وهل يدل ذلك على ان لآية لا تنسخ الا بآية. وجوابنا انه يتعبد المكلف في كل وقت بما هو مصلحة له واذا كان في زمن الوحي ربما يكون الصلاح انتظار نقل المكلف من عبادة الى عبادة فعلى هذا الوجه ينسخ تعالى العبادة بغيرها كما يفعل تعالى البرد بعد الحر والليل بعد النهار وقوله (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أي بما هو أصلح من الاولى ولا فرق بين أن يعلمنا ذلك بقرآن أو بوحي الى الرسول صلّى اللّه عليه وسلم
ثمّ بين انه تعالى على هذه المصالح قدير بان يبينها كما شاء فلا يدل ذلك على ان كل شيء داخل في قدرته كنحو أفعال العباد من كفر وايمان وقد يقال هو قدير على كل شيء لانه الذي يقدر غيره كما يقال للملك انه مالك للبلاد وما فيها لما كان مقتدرا على ان يملك الغير ويسلبه ملكه ولذلك قال (أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نَصِيرٍ) وزجر المرء عن أن يتكل الا على عبادته.
[مسألة]
قالوا كيف قال تعالى (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) وكيف منع من مسألة الرسول وقد نصبه اللّه تعالى معلما ومبينا. وجوابنا ان المراد المنع من مسألته على الرد والتعنت لا على وجه التفهم ولذلك قال (وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).
[مسألة]
وربما قالوا كيف يبدأ تعالى بقوله (أَمْ تُرِيدُونَ) وعند العرب لا يبتدأ بذلك الاستفهام بل يبنى على كلام متقدم. وجوابنا انه قد يحذف المتقدم اذا دل الكلام عليه وذلك كقوله (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ) ثمّ قال (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) وقد قيل ان معناه بل تريدون أن تسألوا رسولكم يقول ذلك لليهود وقد تقدم ذكرهم.
[مسألة]
وسألوا فقالوا كيف قال (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) أ فتقولون كانوا يعرفون الاسلام والنبوّة مع اظهارهم اليهودية. وجوابنا ان ظاهر الآية يدل على ذلك لأن كثيرا منهم كان يعرف ذلك ويبقي على اليهودية لاعراض الدنيا وقوله تعالى (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) يدل على ان حسدهم للرسول وللمؤمنين لم يكن من خلق اللّه تعالى والا لم يضفه الى أنفسهم ورغب تعالى بقوله
(فَاعْفُوا واصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) وبقوله (وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) على هذه الأعمال.
[مسألة]
وقالوا ان قوله تعالى (وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) لا يصح لان الذين كان يحكى عنهم ان كانوا من اليهود لا يقولون ذلك في النصارى وان كانوا من النصارى لا يقولون ذلك في اليهود فكيف تصح هذه الحكاية. وجوابنا ان الفائدة معقولة والمراد ان اليهود قالت (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) والنصارى قالت لن يدخل الجنة الا من كان نصارى لان ذكر أهل الكتاب قد تقدم وحالهم في طعن كل واحد منهم في الآخر معلومة فلا بد من أن يكون المراد ما ذكرنا ثمّ بيّن تعالى ان تلك أمانيهم لا برهان عليه ثمّ قال (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) يعني بالتعبد (وَ هُوَ مُحْسِنٌ) وأراد بذلك مجانبة المعاصي (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فجمع بين الأمرين في حصول الثواب لئلا يغتر المكلف فيقصر في أحدهما.
[مسألة]
وربما قيل ما فائدة قوله (وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) وذلك معلوم من حالهم فأيّ فائدة في وصفهم بذلك. وجوابنا ان الفائدة بذلك قوله (وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) فبين انهم ذهلوا عما تدل عليه كتبهم من تصديق البعض للبعض فيما أودعه اللّه تعالى في الكتب وقد يقال ان فلانا ليس على شيء وان كان في جملة ما يقوله ما هو حق اذا لم يتكامل تمسكه بالحق كما يقول فيمن يخالف في التوحيد والعدل ليس هو على شيء وان كان يقول بالحق في بعض الاشياء ولذلك قال تعالى بعده (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
[مسألة]
وقالوا قد قال تعالى (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) كيف يصح ذلك ومعلوم انهم قد يدخلون المساجد وليسوا مخالفين وما معنى سعيهم في خرابها ولم يتفق ذلك. وجوابنا انه قد روى ان أبا بكر الصديق كان بنى مسجدا بمكة يدعو الناس الى اللّه تعالى فسعى الكفار في تخريبه فانزل اللّه تعالى ذلك وقد قيل ان المراد منعهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلم والصحابة حتى اضطروا الى الهجرة فبين اللّه تعالى انهم كما أخافوهم حتى فارقوا مسجد مكة فسيرفعه بحيث لا يدخلونه الا خائفين ومعنى قوله وسعى في خرابها في المنع عن عمارتها بالصلاة وسائر ما يبنى له المسجد كقوله (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ وأَقامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكاةَ ولَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) فكما جعل ذلك عمارة له جعل المنع من ذلك سعيا في خرابه فان حمل الكلام على المسجد الحرام لم يكن لهؤلاء الكفار ان يدخلوها الا على وجه الخوف والا فان حمل على سائر المساجد كما قاله قوم فالمراد انهم اذا دخلوا يكونون خائفين من المسلمين فلا يدخلونها الا لمحاكمة او غيرها فيكونون خائفين ثمّ قال تعالى (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ولَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).
[مسألة]
وربما قيل أما يدل قوله (وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ والْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) على المكان قلنا المراد ان هناك يوجد رضا اللّه كقول القائل لغيره من شغلك ان تصلي لوجه اللّه أي طلبا لمرضاته لا على وجه الرياء والسمعة ولو كان المراد بذلك المكان لوجب ان يكون تعالى في وقت واحد في أماكن بحسب صلاة المصلين وقد يذكر الوجه ويراد به ذات اللّه وقد يقول القائل لغيره وقد سأله حاجة أحب أن تفعل ذلك لوجه اللّه تعالى اي تقربا الى اللّه فاما معنى قوله (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ان ذلك لكم بحسب تنزيه القرآن (3)
الاجتهاد اذ يراد به في الظلمة اذا عميت القبلة او في النافلة في السفر او في المسايفة وذلك مذكور في الكتب.
[مسألة]
وسألوا عن قوله تعالى (وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) فقالوا كيف يكون ما ذكره آخرا مبطلا لما قالوا. فجوابنا انه بين ان من يخلق هذه الامور ويعمل عليها لا يكون الا قديما مخالفا لمن تصح عليه الولادة ولذلك اتبعه بقوله (بَدِيعُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فبين تعالى بكل ذلك انه مخالف للاجسام التي تصح عليها الولادة وقالوا ان قوله اذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون يدل على ان كل ما يفعله يفعله بهذا القول وان ذلك يوجب ان قوله وكلامه ليس بمحدث لانه لو كان محدثا لكان يحدثه بقول آخر ويؤدي الى ما لا نهاية له فجوابنا ان ما قالوه متناقض لان الظاهر يقتضي أنه يقول له كن وهذه اللفظة مشتملة على حرفين أحدهما يتقدمه الآخر والآخر يتأخر عنه على اتصال بينهما وما هذا حاله لا يكون الا محدثا فلا يصح اذا ما قالوا ولان قوله (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يقتضى انه يقول ذلك مستقبلا وذلك علامة الحدوث ولانه عطف المكوّن على القول بحرف الفاء ومن حقه ان يكون عقيبا له وما كان المحدث عقيبه لا يكون الا محدثا وعندنا ان المراد بذلك انه اذا قضى أمرا يكوّنه ويفعله من غير منع وذكر هذا القول على وجه التوسع ومثل ذلك في اللغة كما قال الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطنى. والحوض لا يقول ولكن المراد انه اذا امتلأ فحسبه من الماء وأراد تعالى بذلك ان الاشياء لا تتعذر عليه كما تتعذر على سائر القادرين وقوله تعالى عقيب ذلك (وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) ومعناه هلا يكلمنا اللّه يدل على انه تعالى يفعل الكلام في المستقبل فكيف يجوز ان يكون قديما وقوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً ونَذِيراً) والمراد بشيرا لمن اطاع ونذيرا لمن عصى وهو ترغيب في الطاعة
وزجر عن المعاصي وقوله من بعد لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم (وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نَصِيرٍ) دلالة على ان النبوّة لا تعصمه من الوعيد اذا عصى فكيف يكون حال غيره.
[مسألة]
وما معنى قوله تعالى (وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) كيف يجوز في كلمات اللّه ان يتمها ابراهيم. وجوابنا ان المراد فيه انه ابتلاه بما يدل عليه الكلمات من العبادات وانه بامتثال ذلك أتم ما يلزمه وقد قيل انه علمه من أسمائه الحسنى ما يصير بذلك من أهل النبوّة ولذلك قال تعالى بعده (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فبين ان هذه الكلمات هي كالمقدمة لذلك وبين تعالى انه قد يكون في ذريته من يكون ظالما فلا يستحق النبوّة والامامة فقال (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبين تعالى انه جعل بيته الذي هو الكعبة (مَثابَةً لِلنَّاسِ وأَمْناً) يثوبون اليه حالا بعد حال للعبادة فقد كان في شريعة ابراهيم صلّى اللّه عليه وسلم الحج على قريب مما هو في شريعتنا وجعل اللّه تعالى الحرم آمنا في أشياء كثيرة ثمّ أمر أن يسأل ربه أن يجعل الحرم آمنا وأن يؤتيهم من الطيبات وقد فعل تعالى لكنه سأل ذلك للمؤمنين فاجابه اللّه تعالى للكل فقال (وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) وذلك لان عادة اللّه تعالى في الدنيا أن يعم خلقه بالارزاق بحسب المصالح فلا يحرم العاصي بمعصيته ولا يفضل المؤمن لإيمانه لكنه يدبرهم بحسب الصلاح ودل قوله تعالى (وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإِسْماعِيلُ) على انهما تعبدا ببناء البيت فلذلك قالا (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) الى سائر ما دعوا اللّه تعالى.
[مسألة]
قالوا ما معنى (رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) ان كان الاسلام من فعل العبد. وجوابنا ان
المراد مسألة الالطاف والتسهيل في أن يصيرا مسلمين لان المرء وان كان يفعل الاسلام فلا يستغني عن زيادات الهدى والالطاف ولو لا ذلك لما صح الأمر والنهي بالاسلام والكفر ولما جاز المدح عليه ولم يكن لقوله تعالى (وَ أَرِنا مَناسِكَنا وتُبْ عَلَيْنا) معنى والوالد اذا توصل الى تأديب ولده بأمور جاز أن يقال جعله أديبا عالما لفعله الأسباب التي عندها تعلم وقيل ان المراد بذلك الانقياد لا الاسلام الذي هو تمسك بالعبادات ودلوا على ذلك بالاضافة في قوله (مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ودلو عليه بما بعده من قوله (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ومن يفعل الاسلام التي هي العبادات لا يوصف بانه اسلم للّه ويوصف اذا أريد به الاسلام والانقياد وقوله من بعد (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) والمراد اختاره لكم يدل على ان الاسلام فعلهم.
[مسألة]
ان قيل لم قال (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وما فائدة تعليق الاسلام بالموت وهو واجب في كل حال. وجوابنا انه لما كان المرء يخاف الموت في كل وقت صار ذكر الموت دلالة على وجوب التمسك بالاسلام والخوف من تركه في كل وقت ويكون ذلك في التحذير أقوى.
[مسألة]
وسألوا فقالوا كيف قال (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) مع قوله في غير موضع انهم غيروا الكتاب وحرفوه. فجوابنا انه تعالى أراد القرآن وأراد من أهل الكتاب من آمن ولذلك قال (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) والكتب المتقدمة لا يجب فيها هذه التلاوة وقد قيل ان المراد يتلون التوراة على حقها من غير تحريف لان من آمن بالرسول كان هذا حالهم فهذا أيضا يحتمله الكلام.
[مسألة]
وسألوا فقالوا كيف يقول تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) فكيف يصح ان ينفى ان يكون
عليهم حجة ثمّ يقول الا الذين ظلموا فيكون لهم الحجة. وجوابنا لكن للذين ظلموا الحجة فانهم يحتجون عليكم بالباطل وذلك استثناء منقطع.
[مسألة]
وقالوا كيف قال تعالى (وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) فخصهم بهذا الهدى. وجوابنا ان هذا الهدى من جنس اللطف الذي يتأتى في المؤمنين كقوله (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وقد بينا ان الهدى العام هو الدلالة ومتى أريد به الاثابة أو الالطاف فذلك خاص.
[مسألة]
وسألوا عن قوله (وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) وقالوا كيف يصح ذلك في الايمان وقد تقضى. وجوابنا ان المراد ابطال ثوابه وقد قيل انه نزل في صلاتهم الى بيت المقدس فبين انه وان نسخها فثوابها محفوظ لمن لم يفسد ذلك بكفر أو كبيرة.
[مسألة]
وسألوا عن قوله (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) قالوا لو عرف أهل الكتاب نبوّته لما صح مع كثرتهم أن ينكروا ذلك ويجحدوه فكيف يصح ما اخبر به تعالى عنهم.
وجوابنا ان المراد من كان يعرف ذلك منهم وهم طبقه من علمائهم دون العامة منهم ولذلك قال (وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وهُمْ يَعْلَمُونَ) ولا يجوز ذلك على جميعهم لعلمنا باعتقاداتهم وتجويزه على من ذكرناهم يصح.
[مسألة]
قالوا ان قوله (وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) يدل على انه تعالى انما يعلم من يتبع الرسول ومن لا يتبعه عند جعل القبلة كذلك وهذا يوجب ان علمه تعالى محدث.
وجوابنا أن المراد الا ليفعلوا اتباع الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فذكر العلم وأراد المعلوم لان
المعلوم لا يكون الا بحسب العلم فذكر العلم يدل على حال المعلوم وذلك كقوله تعالى (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) والمراد حتى يجاهدوا ونحن بذلك عالمون وقد قيل انه تعالى ذكر نفسه وأراد رسوله كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ) والمراد يؤذون أنبياءه وكأنه قال الا ليعلم الرسول من يتبعه.
[مسألة]
وسألوا عن قوله (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) فقالوا كأنه قال أفيضوا أيها الناس من حيث أفاض الناس وذلك لا يفيد.
وجوابنا انهم قبل الاسلام كانوا يقفون بمزدلفة وبعضهم كان يقف بعرفة فأمروا في الاسلام أن يقفوا بعرفة ثمّ يفيضوا منها الى المزدلفة وجعل ذلك شرعا وقال بعضهم أراد بقوله من حيث أفاض الناس أي ابراهيم ومن يتبعه لانه صلّى اللّه عليه وسلم في الحج أمر في أكثره باتباع طريقة ابراهيم صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
قالوا وقال تعالى (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) ثمّ قال (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) وليس لذلك تعلق بالأول فما الفائدة في ذلك. وجوابنا ان المراد فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم بأن تسألوه مصالحكم في الدين والدنيا ولذلك قال (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) فكأنه قال اذكروا اللّه في امر دينكم ودنياكم كما ان هؤلاء الناس يقولون ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وضرب اللّه تعالى المثل بالآباء لان المعتاد ان المرء ينشأ على محبتهم وذكرهم والا فنعم اللّه تعالى أعظم من ذلك فذكرهم اللّه يجب أن يكون اكثر من ذكرهم لآبائهم.
[مسألة]
قالوا في قوله (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) كيف يصح الرجوع الى اللّه وليس هو في
مكان، وجوابنا ان المراد به الرجوع الى اللّه حيث لا حكم ينفذ الا للّه تعالى كما يقال في الخصمين رجع أمرهما الى الحاكم او الى الأمير والمراد انه هو صار المتولي لذلك وقد جرت العادة في الدنيا ان غير اللّه يملك الأمور بان ملكه اللّه وفي الآخرة خلاف ذلك وهذه الآية تدل على ان غير الانبياء يجوز أن يقال فيهم صلّى اللّه عليه وسلم لان اللّه تعالى ذكر في الصابرين على المصائب (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ) وان كانت العادة في تعظيم الانبياء قد جرت بان يخصوا بذلك وزجر تعالى عن كتمان الحق زجرا عظيما بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ والْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) وقد قيل ان المراد باللاعنين الملائكة وذلك نهاية الزجر في كتمان الحق. ثمّ بين أن هذا اللعن يزول بالتوبة فقال (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وأَصْلَحُوا وبَيَّنُوا) ما كتموه ونبه تعالى بقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وماتُوا وهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ والْمَلائِكَةِ) على ان من تاب من الكفار خارج عن هذا الحكم وبين تعالى بقوله (وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ان الواجب في العبادة أن توجه اليه وحده وبين الأدلة عليه وعلى وحدانيته بقوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ) فذكر هذه الآيات الدالة على اللّه تعالى وعلى ان المنفرد بالألوهية وبين في آخره بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) انّ الواجب على العقلاء أن يتدبروا هذه الامور في سائر حالاتهم كما قال تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وقُعُوداً وعَلى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا) فالمعلوم ان العبادة بالصلاة والصيام وغيرهما تلزمهم في حال دون حال والعبادة بذكر اللّه ومعرفته والتفكر في نعمائه والقيام بشكر إفضاله تلزم في كل حال وعلى هذا الوجه قال (أَ ولَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ
السَّماواتِ والْأَرْضِ وما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) فذم من لم ينظر في هذين أحدهما التفكر في سائر ما خلق ليقرر به توحيده والآخر التفكر في قرب الاجل وللحذر من ترك التوبة والاستعداد فنبه تعالى على وجوب هذين في كل حال يذكرهما المرء.
وبعد ذلك قال تعالى (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) وبين ان الذين آمنوا أشد حبا للّه أي لعبادته وتعظيمه وبين أن هؤلاء اذا رأوا العذاب علموا أن القوة للّه جميعا دون الانداد وتتبرأ من اتبع ممن اتبعهم عند رؤية العذاب والذين يتبعون يتمنون الرجوع مرة أخرى حتى يتبرءوا ممن تبرأ منهم ثمّ بين انه يريهم أعمالهم حسرات عليهم ومن تفكر في هذه الآيات يستغني بتأملها عن كل تذكر. ثمّ قال (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً) فشرط فيه كلا الشرطين (وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) الذي يزين لكم اللهو والهوى فانه عدو مبين. فخالفوه الى ما هو حلال وان شق عليكم ثمّ قال (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ والْفَحْشاءِ وأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فحذر من الشيطان بهذا النوع من التحذير وقبح قول من حكى عنهم اذا قيل لهم (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فاختار تقليد الآباء واتبع طريقهم على ما بينه اللّه تعالى من الحق ومثلهم بقوله (وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً ونِداءً) فوصف المنعوق بأنه وان سمع فهو بمنزلة الصم البكم لما لم يؤثر قول من دعاه الى عبادة اللّه فيه وبين بعد ذلك ما أحل وما حرم فقال (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الْخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) وبين ان ذلك وما أشبهه هو الحرام الا للمضطر وأعاد زجر من يكتم الحق ويشتري به ثمنا قليلا وبين انهم يأكلون في بطونهم نارا تحقيقا لما يستحقونه من العذاب وانهم اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب
بالمغفرة فما أصبرهم على النار ثمّ انه تمم هذا الزجر والوعظ بقوله (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ) وبين ان ذلك غير مقبول الا بأن يؤمن المرء باللّه فيعرفه حق المعرفة ويؤمن بالملائكة والنبيين ويؤتي المال وهو يحبه (ذَوِي الْقُرْبى والْيَتامى والْمَساكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسَّائِلِينَ وفِي الرِّقابِ) ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويوفي بعهد اللّه اذا عاهده وبعهد الناس ويصبر على البأساء والضراء يعني فيما ينزل به من جهة اللّه من الشدائد والأمراض قال تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) وذكر في موضع آخر (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) وبين تعالى حكم القصاص في آيات فقال (وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) لان من تصور انه اذا قتل يقتل كف عن القتل فيبقى حيا من قتله ثمّ ذكر تعالى فيمن يحضره الموت الوصية للوالدين والأقربين وهذا وان نسخ وجوبه فهو مرغوب فيه من الثلث او ما دونه ثمّ قال (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ترغيبا في ازالة الخلاف وبقاء الالفة، ثمّ بين تعالى حكم الصيام في آيات كثيرة وأوجب صيام شهر رمضان على المقيم الصحيح وزجر عن خلافه.
[مسألة]
فان قيل فلما ذا قال (وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ).
وجوابنا ان ذلك كان من قبل فانه كان المرء مخيرا بين الصيام وبين الإطعام ثمّ نسخ بوجوب الصيام وانما رخص في ذلك لمن لا يطيق أو لمن خاف من الصيام ودل تعالى بقوله (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) على انه اذا كان لم يرد التشديد في الصوم مع السفر والمرض رحمة بالعبد فبأن لا يريد منه ما يؤديه الى النار أولى وقوله تعالى (وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) لم يرد به تعالى قرب المكان وهذا كقوله (وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وكقوله (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) وكقوله (وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ ولا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) وذلك مثله يحسن في الكلام البليغ وقد يقول المرء لغلامه وقد وكله في ضيعة على وجه التهديد له اني معك حيث تكون يريد معرفته باحواله واللّه تعالى بكل مكان على وجه التدبير للاماكن وعلى سبيل المعرفة بما يبطنه المرء ويظهره فهذا معنى الكلام ولو لا صحة ذلك لوجب أن يكون قريبا ممن بالشرق وممن بالغرب وان يكون في الأماكن المتباعدة تعالى اللّه عن ذلك فانه قد كان ولا مكان وهو خالق الامكنة. وبين تعالى انه يجيب دعوة الداع اذا دعاه لكن ذلك بشرط أن لا تكون فسادا والذين يدعون لا يعرفون ذلك فلأجل ذلك ربما تقع الاجابة وربما لا تقع وربما تقدم وربما تأخر، وقد كان من قبل يحرم على الصائم الأكل إلا عند الافطار ثمّ أباحه اللّه تعالى وأباح غيره طول الليل فهو معنى قوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) فقد كان من بعض الصحابة اقدام على الوطء ثمّ تاب من بعد ذلك فهو معنى قوله (فَتابَ عَلَيْكُمْ وعَفا عَنْكُمْ) ثمّ أباحه بقوله (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) وروي عن بعض الصحابة ومن بعدهم انه كان يبيح الأكل الى قريب من طلوع الشمس والصحيح انه انما يحل الى طلوع الفجر الثاني وهو الذي عليه العلماء والظاهر يدل عليه.
[مسألة]
وسألوا عن قوله (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ) فقالوا ان ذلك يدل انه استبطاء النصر من جهة اللّه فكيف يجوز ذلك على الأنبياء. وجوابنا انهم لم يقولوا ذلك استبطاء بل قالوه على وجه المسألة والدعاء وخوفا على ما يلحق المسلمين من جهة الكفار فبين تعالى ان نصره قريب وأمنهم مما خافوه وذلك مما يحسن.
[مسألة]
ويقال كيف يجوز أن يقول تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) وما كتبه اللّه علينا لا يجوز أن يكره لانه من مصالحنا. وجوابنا أن المرء تنفر نفسه عن ذلك لما فيه من المشقة وليس المراد انه يكره ذلك كيف يصح هذا وقد أوجب اللّه تعالى أن يعزم عليه وأن يراد وكذلك معنى قوله (وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) والمراد به كراهة المشقة والنفار والمراد بقوله (وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) محبة الميل والشهوة وقوله من بعد (وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يبين صحة ما ذكرناه وهو أنه عالم بالمصالح وبما يؤدي اليه ما يشق من المنافع وبما يؤدي اليه ما يتلذذ به من المضار.
[مسألة]
وقيل كيف يقول تعالى إن في الخمر والميسر منافع للناس مع الإثم العظيم وجوابنا انه لا يمتنع أن يحصل في شربه منافع ترجع الى مصالح البدن فاما ان يراد به منافع الآخرة فالذي بينه من أن الاثم في شربه أكثر من نفعه يبطل ذلك وهذه الآية من أقوى ما يدل على تحريم الخمر لان اثم شربها اذا كان كبيرا فيجب ان تكون محرمة ومعنى قوله (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) يدل على اباحة خلط أموالهم بأموالنا واستعمال الاجتهاد فيما يكثر منها ويحصل فيه النماء وكان ذلك في أول الاسلام ثمّ نسخ بأن ينظر في أموالهم متميزة من أموالنا وتطلب لهم فيها المنفعة.
[مسألة]
وقيل كيف قال تعالى (وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) ثمّ قال بعد ذلك (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) وكذلك الفساق ربما دعوا الى النار ويحل نكاح نسائهم. وجوابنا ان الكفار قبل قوة الاسلام في حال غلبتهم كان اللّه تعالى حرم نكاح نسائهم لهذه العلة ثمّ أباح نكاح الكتابيات وقد قوي الاسلام وذلوا باداء الجزية فخرجوا من أن يكون
فيهم هذه العلة ولذلك قال تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ والْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ والْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فنبه تعالى بقوله (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ) على ان ذلك شرع متجدد وهذا قول عامة الفقهاء وان كان في الناس من يحرّم نكاحهن في هذا الوقت أيضا فأما الفاسق من جملة من ينتحل الاسلام فانه لا يوصف بانه يدعو الى النار.
[مسألة]
وربما سألوا فقالوا قد قال (وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) ومع ذلك فعندكم ان الحرة الكتابية يقدم نكاحها على نكاح الامة فكيف يصح ذلك وجوابنا ان المراد تقديم الأمة المؤمنة على الأمة الكافرة فلا يدل على ما ذكرته كأنه تعالى لما أباح نكاح الحرائر نفى تحريم نكاح الاماء منهن أصلا أو تحريم تقديم نكاحهن اذا كنا إماء على نكاح الأمة المؤمنة وقد حصل في الكتابية اذا كانت أمة النقص من وجهين فلذلك تقدم الأمة المسلمة على نكاحها عند كثير من العلماء.
[مسألة]
وسألوا عن قوله تعالى (وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا) قالوا فكيف يمنع من ذلك مع البر وذلك غير مكروه. وجوابنا ان المراد ان لا تبروا ومثل ذلك شائع في اللغة كقوله تعالى (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ومعناه أن لا تضلوا وقد قيل ان المراد كراهة الاكثار من اليمين وان بر فيه الحالف فيعظم ذكره جل وعز عن هذه الطريقة.
[مسألة]
وسألوا عن قوله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) فقالوا كيف يصح وقد يقع ذلك تعمدا. وجوابنا أن المراد أنه تعالى لا يؤاخذكم به على حد المؤاخذة بالايمان اذا كان ذلك يقع منه لا عن
قصد الى عقد اليمين وان كان قاصدا الى نفس الكلام وهذا كما تعلم ان الأكل في شهر رمضان سهوا لا يؤاخذ به من حيث قصد نفسه الأول وان كان ذلك الأكل مما يقبح.
[مسألة]
وسألوا عن قوله تعالى (وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) فقالوا كيف يصح ذلك وقد ثبت في الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم انه تعالى لا يؤاخذ أمته بما تحدث به نفسها ما لم تعمل به. وجوابنا ان كسب القلب اذا كان من باب الاعتقاد أو من باب الارادة والكراهة يؤاخذ المرء به وانما أراد تعالى بهذا الكلام مؤاخذة الحالف على ما يقصد اليه من الايمان والمراد أيضا المؤاخذة في باب ما يلومه فيه الكفارة وليس لحديث النفس في ذلك مدخل ولا يؤاخذ المرء بحديث النفس اذا كان على وجه من التمني فانه يتمنى أن يرزقه اللّه تعالى مال زيد أو امرأة زيد اذا مات على الوجه المباح فالمرء الذي يعمل في ذلك عملا غير محرم لا يكون عليه في ذلك اثم.
[مسألة]
وسألوا فيما قيل (إِنَّ الصَّفا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) فقالوا جعلهما من شعائر اللّه وذلك يقتضي التعبد ثمّ قال (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وذلك يدل على الاباحة فكيف يصح ذلك. وجوابنا ان في المتقدمين من قال أن المراد بذلك فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما كانه تعالى بين ان ذلك وان كان من الشعائر فليس بواجب وفي الناس من قال قد كان المشركون يمنعون من ذلك أشد منع فورد عن اللّه تعالى ازالة هذا المنع بقوله (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ولا يمتنع ان ذلك ينصرف الى ازالة المنع من التعبد ويقولون قد صح عنه صلّى اللّه عليه وسلم انه قال اسعوا فان اللّه كتب عليكم السعي وقوله (وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) عقيب ذلك كالدلالة على ان ذلك تعبد لكنه يقوي الوجه الأول في انه ليس بواجب.
وبعد فان رفع الجناح يقتضي ان ذلك ليس بقبيح ثمّ الكلام كيف حاله هل هو واجب أو ليس بواجب يقف على الدليل فليس في الآية تناقض كما زعموا.
[مسألة] وسألوا عن معنى قوله (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فقالوا كيف جعل له أن يقصر في حقها لمكان اليمين.
وجوابنا انه تعالى منع من ذلك بقوله (فَإِنْ فاؤُ) فان المراد فان فاءوا فيها وخالفوا ما اقتضاه يمينهم فان اللّه غفور رحيم فمنع الزوج من أن يفعل ما يقتضيه يمينه فالأمر بالضد مما سألوا عنه والمراد يقوله فان فاءوا العود الى خلاف ما منع نفسه منه باليمين وأباح له مع ذلك الطلاق اذا أراد بشرط أن لا يقصد الى مضارتها لمكان اليمين ثمّ بين انه ان طلق فعلى المطلقة العدة وبين تلك العدة فبين ان في حال العدة لبعولتهن الرجعة ان أرادوا بذلك. وبين ان بعد الرجعة لهن حق كما أن عليهن حقا فبين كيف يطلق المرأة وكيف يخالع امرأته عند المضارة فبين في الطلاق الثلاث انها تحرم الا بعد زوج وان ذلك مخالف للطلقة والطلقتين.
فبين تعالى ما فيه الرجعة مما لا رجعة فيه. وبين ان هذه الحدود متى لم يتمسك المرء بها عظم اثمه ثمّ بين في هذه الآيات ما يلزمه من أدب الدين في أحكام الزوجات وأحكام الرضاع وأحكام العدة وغيرها الى قوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الْوُسْطى) فاكد وجوب المحافظة على هذه الوسطى ولم يبينها فربما يكون ترك بيانها أصلح كما نقول في ليله القدر لانها اذا لم تبين مفصلة يكون المرء أقرب الى ما يلزم في حق عبادته وان كان العلماء قد اختلفوا في ذلك فذكروا الصبح والظهر والعصر وذكروا المغرب والذي يقوي في الخبر هو العصر.
[مسألة]
وقالوا كيف يقول (وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ثمّ يقول (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً). وجوابنا أنه فصل تعالى بين حال الأمن وبين حال الخوف الشديد لكن يتمسك المرء بالمحافظة وان لم يتمكن من القيام والتوجه في سائر الأركان كما يجب فقد روي في الخبر ان المراد بقوله (فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً) مستقبلي القبلة وغير مستقبليها اذا كان حال
المسايفة والمحاربة ولذلك قال تعالى (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ) أي كما حده وبينه من أركان الصلاة.
[مسألة]
وربما قيل ما حده اللّه تعالى في المعتدة عن وفاة زوجها من الحول الذي بينه في قوله (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) كيف أن يكون منسوخا بقوله (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْراً) مع أنه المتأخر في القرآن فكيف يجوز في المنسوخ أن يكون هو المتأخر ومعلوم من حال الناسخ أن يكون آخرا وجوابنا انه متأخر في نظم التلاوة وهو متقدم في الانزال على الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وهذا هو المعتبر وهذا بمنزلة ما يثبت أن الناسخ فيه مقارن للمنسوخ وان وجب أن يكون متأخرا. ومن أصحابه أيضا أن ينزل تعالى المنسوخ أولا ويتعبد بالتوقف فيه ثمّ يرد الناسخ فعنده يؤمر بالعمل به ثمّ بالعمل بالناسخ ويكون معهما قرائن وجعل اللّه على النساء الفراق بالموت أو الطلاق أو الفسخ مدة عدم احتياط الانسان فاذا لم يقع الدخول فلا عدة في الطلاق وتجب العدة في الوفاة. وجملة العدة تكون في الوفاة أربعة أشهر وعشرا اذا لم يكن حمل فان حصل الوضع قبلها انقضت العدة به وفي الطلاق بانقضاء أيام الحيض وهي ثلاث حيض واذا لم يكن الحيض ممكنا فبالشهور وهي ثلاثة أشهر في الحرائر وفي الاماء على النصف من عدة الحرة وكل ذلك ما لم يكن حمل فاذا كان فالعدة تنقضي بوضع الحمل وقد بين اللّه تعالى كل ذلك وبين أيضا ما يجب للزوجات من نفقة وغيرها.
[مسألة]
وقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) وهو أمر بالاعتداء وكيف يجوز ذلك والاعتداء قبيح. وجوابنا انه تعالى أجرى اسم الاعتداء على ما هو مقابل له من الجزاء كقوله (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ)
(سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ولا يجوز عليه تعالى أن يأمر بالاعتداء مع قبحه.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) كيف يصح أن يريهم ذلك في الآخرة.
وجوابنا أنه يحتمل أن يريهم ذلك في الصحف ويحتمل أن يريهم ثواب عملهم من الجنة لو كانوا لقد أطاعوا فاذا صرف ذلك الى غيرهم كثرت حسراتهم.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) وكيف يصح ذلك ويتعالى اللّه عن جواز الاتيان عليه. وجوابنا ان المراد إتيان الملائكة أو متحملي أمره كما قال تعالى في سورة النحل (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) وهذا كقوله (وَ جاءَ رَبُّكَ) والمراد رسل ربك.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) ولا يجوز عليه أن يزين الكفر. وجوابنا انه لم يقل من الذي زين والمراد الشياطين وغيرهم ممن يحسن ذلك للكفار ويحتمل ان يراد ان اللّه تعالى زين الحياة الدنيا بالشهوات ليكون المكلف بالامتناع من ذلك مستحقا للثواب وهذا يكون من قبل اللّه تعالى لكنه يضيف الى ذلك النهي والزجر ولذلك قال (وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) ومعلوم في الثلاثة والسبعة انها عشرة فأي فائدة في ذلك وجوابنا ان المراد انها كاملة في الاجر لانه كان يجوز ان يقدر ان الهدى أعظم أجرا من هذا الصيام اذا لم يجد الهدى فبين تعالى انه مثل ذلك في الاجر ويحتمل أن يكون المراد أن أجرها في الكمال كأجر من أقام على احرامه ولم يتحلل ولم يتمتع وقد قيل ان المراد أن صوم
السبعة وان فارق صوم الثلاثة فهو كامل كما يكمل لو اتصل. وقيل ان المراد بكاملة مكملة فكأنه قال تعالى فاكملوا صومها وقيل إن المراد قطع التوهم بوجوب شيء آخر بعدها.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ولا اتصال لذلك بما تقدم. وجوابنا ان المراد انه سميع لقول القائل عليم بفعله رغب بذلك في الجهاد والقيام به كما يجب.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) وعندكم قد هدى اللّه كل الخلق.
وجوابنا أنه خصهم لما اختصوا بان قبلوا وعملوا كقوله في أول السورة (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) ولا ولا يجوز عليه عندكم ذلك. وجوابنا ان قوله لو يدل على نفي ما ذكر فدل بذلك على انه تعالى لا يشاء ما يكون قبيحا من العنت وغيره.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله في قصة طالوت (وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) وعندكم ان الملك في الظلم لا يكون من قبل اللّه تعالى.
وجوابنا أن المراد بالملك الاقتدار والنعمة والرأي الصادر عن العقل وكل ذلك من جهة اللّه أما نفس الظلم فلا يكون من فعله وهو سيئة.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله عز وجل (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) ان ذلك يدل على ان كل غلبة من المحاربين من قبل اللّه. وجوابنا ان الاذن قد يراد به التخلية وذلك يكون من تنزيه القرآن (4)
قبله تعالى لأنه لا يأمر بما يقبح فأما الغلب في الجهاد فانه من قبل اللّه من حيث وقع بأمره وترغيبه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وجُنُودِهِ) كيف قطعوا بذلك وهو حكاية عن طالوت والذين آمنوا معه. وجوابنا ان المراد بذلك انه لا طاقة لنا الا من قبله على وجه الاتكال على اللّه تعالى واضافة الحول والقوة اليه وقد قيل ان ذلك هو من قول أهل الشرك فيهم لا من قول المؤمنين.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وكيف قال (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) أو ما يدل ذلك على انه يريد القتال من الكفار أيضا وانه لم يرده من المؤمنين.
وجوابنا أن المراد مشيئة الاكراه والمراد لو شاء اللّه أن يلجئهم فلم يقتتلوا لكن لم يشأ ذلك بل مكن من الأمرين تعريضا للثواب وقيل ان المراد بذلك ولو شاء اللّه أن لا يقتتلوا بسلب عقولهم لفعل ذلك لكن اختلفوا لما أعطاهم العقول في القدر ولما اختلفوا فلو شاء اللّه أيضا ما اقتتل الذين من بعده بأن يمنعهم من القتال بالقتال.
[مسألة]
وربما قيل إن قوله في قصة طالوت (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) يدل على ان الصبر من قبل اللّه وأنتم تقولون انه من فعل العبد.
وجوابنا انهم سألوا من الألطاف فيقوي نفوسهم على الصبر على القتال كما ذكرناه في قوله (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) وقالوا ان ذلك يدل على ان الاسلام من فعل اللّه فيهم. وجوابنا ان ذلك كقوله (وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ)
ومعلوم انهم لم يفعلوا فيهم الكفر لكنهم رغبوا ودعوا الى ذلك فالمراد انه تعالى يخرجهم من الظلمات الى النور بالالطاف التي يفعلها في هذا الباب والاخراج من الكفر والايمان في الحقيقة لا يجوز وانما يذكر على وجه المجاز والتشبيه في انتقال الأجسام.
[مسألة]
وربما قالوا ان قوله تعالى (وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) يدل على انه تعالى عالم بعلم وأنتم تقولون أنه عالم بذاته. وجوابنا ان المراد بذلك المعلومات ولذلك قال (إِلَّا بِما شاءَ) فأدخل فيه ما يدل على التبعيض وذلك لا يتأتى الا في المعلومات.
[مسألة]
وربما قالوا كيف قال (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والْأَرْضَ) أ فما يدل ذلك على انه يستوي على الكرسي. وجوابنا ان المراد بهذه الاضافة انه مكان لعبادة الملائكة كما يقال في الكعبة إنها بيت اللّه وقد قيل ان المراد بالكرسي العلم والقدرة والاول أصح أراد تعالى أن يبين قدرته على العظيم من خلقه لتعلم بذلك قدرته على ما عداه.
[مسألة]
وربما قيل ان قوله (وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) يدل على جواز الشك على الأنبياء في مثل ذلك. وجوابنا أن طلبه لذلك أن يريه ذلك عيانا من غير تدريج كما يخلق تعالى الحي من النطفة والعلقة لا انه لم يعرف اللّه فطلب زيادة شرح الصدر ولذلك قال (بَلى ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).
[مسألة]
وربما قيل في قوله (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) ان قوله بعد قول ذلك الكافر (أَنَا أُحْيِي وأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) يدل على ان ابراهيم انقطع في القول الأول وذلك لا
يجوز على الانبياء. وجوابنا في ذلك من وجوه (أحدها) ان خصمه المنقطع لان ابراهيم عليه السلام أراد إحياء من لا حياة فيه فلم يكن له في ذلك حيلة وادعى الاحياء على وجه التبقية ومع ذلك زاده بيانا آخر لا يمكنه التمويه فيه (و ثانيها) انه أراد اثبات الالوهية بأمر لا يصح منا وذكر إحياء الميت لدخوله في هذه الجملة فاذا عدل الى ذكر الشمس وطلوعها فانما عدل عن مثال الى مثال لأن الأمثلة تذكر للايضاح (و ثالثها) انه بين له انه لم يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب مع ان ذلك من جنس الحركات التي يقدر العبد عليها فكيف يصح منه ما ادعاه في إحياء الميت (و رابعها) أنه استأنف له حجة أخرى لما انقطع في الاول وادعى ما هو خارج عن طوق الاحياء (و خامسها) أن المحاجة من الأنبياء تقع على طريقة الاستدعاء فلهم ان يؤدوا حالا بعد حال ما يكون أقرب الى الاستجابة ولا يقع ذلك على طريقة المناظرة، واذا كان اللّه تعالى نبه المكلفين بذكر الأدلة على وجه التحقيق يكلهم بذلك الى التدبير والتفكر.
فالأنبياء صلى اللّه عليهم مثل ذلك بحسب ما يغلب في ظنهم من تأثيره فيمن يخاطب بذلك فلذلك قال تعالى بعده (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) لانه في الفصل الثاني تحير ولم يتمكن من إيراد شبهته كما أورد في الفصل الأول (فان قيل) فلو إنه قال لإبراهيم صلّى اللّه عليه وسلم عند قوله (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) إن كان اللّه تعالى يأتي بها من المشرق فليأت بها من المغرب فكيف يكون حاله (قيل له) لو قال ذلك يسأل ربه أن يأتي بها من المغرب حتى يصير مشاهدا لها وقوله تعالى بعد ذلك (وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يدل على أنه أراد بالهداية الاثابة أو طريقة الجنة أو الألطاف التي هي زيادات الهدي فان الهدى الذي هو الدلالة قد هدى به الظالمين كما هدى به المتقين. وفي هذه الآية دلالة على بطلان التقليد لانّ الأنبياء صلّى اللّه عليهم وسلم اذا لم يقتصروا على قولهم بل استعملوا المحاجة مع خصومهم فكيف يسوغ لأحد في الديانات التقليد.
[مسألة] وربما قيل ما فائدة قوله في الذي (مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ) وأي معنى في هذا السؤال. وجوابنا التنبيه على قدرته تعالى لانه ظن انه لبث يوما أو بعض يوم فأراه اللّه تعالى في أمر الطعام والشراب والحمار ما عرف به قدرته ولا يجوز في جوابه أن يحمل الا على الظن لأن الميت لا يعرف مقدار ما بقي ميتا إلا ان أحياه اللّه وكل ذلك يظهر ويكون معجزة لبعض الأنبياء.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والْأَذى) كيف يبطل ذلك. وجوابنا ان المراد بطلان ثوابها بما يقع من المتصدق من المنّ عليهم وأذية قلوبهم نحو أن يقول المتصدق للفقير ما أشد إبرامك وخلصنا منكم اللّه الى ما يجري هذا المجرى فأدب اللّه تعالى المتصدق بأن لا يكسر قلب الفقير فكما أحسن في الفعل يحسن في القول ولذلك مثله (كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً) وأدب أيضا بقوله (وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) لان ما ينفق للّه وطلبا للثواب يجب أن لا تكون منزلته دون منزلة ما يتلذذ به في الدنيا وهذا تأديب حسن. وأدب أيضا بقوله (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) فيبعث على البخل وترك الصدقة (وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وفَضْلًا) فيبعثكم على الصدقة وعلى خلاف الفحشاء والمعاصي. وبعث اللّه تعالى أيضا على إخفاء الصدقة بقوله (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وإِنْ تُخْفُوها وتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) والعلماء يقولون ان الأولى في الواجب أن يظهر وفيما عداه أن يكتم فيكون أقرب الى أن يكون مفعولا لذات اللّه تعالى.
وربما قيل ما معنى قوله تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ولكِنَ
اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) مع أن اللّه تعالى بعثه هاديا ومبينا. وجوابنا ان المراد ليس هو الدلالة لان اللّه تعالى قال (وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بل المراد اللطف لان ذلك ليس في مقدوره صلّى اللّه عليه وسلم ولا يعلم الحال فيه فلذلك قال (وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ويحتمل ان يريد به الثواب لان ذلك في مقدوره تعالى، فقد كان صلّى اللّه عليه وسلم يغتم اذا لم يؤمنوا فبين ان ان ذلك ليس اليه.
[مسألة]
وربما قيل ان قوله (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) كيف يصح ذلك وعندكم ان الشيطان لا يقدر على مثل ذلك. وجوابنا إن مس الشيطان إنما هو بالوسوسة كما قال تعالى في قصة أيوب (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ) كما يقال فيمن تفكر في شيء يغمه قد مسه التعب وبين ذلك قوله في صفة الشيطان (وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) ولو كان يقدر على ان يخبط لصرف همته إلى العلماء والزهاد وأهل العقول لا الى من يعتريه الضعف واذا وسوس ضعف قلب من يخصه بالوسوسة فتغلب عليه المرة فيتخبط كما يتفق ذلك في كثير من الانس اذا فعلوا ذلك بغيرهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) فجعل العلة ما يعتري من النسيان وذلك قائم في الرجلين أيضا فكيف يقتصر عليهما في الشهادة وجوابنا ان الأغلب في النساء لنقصهن جواز النسيان وليس كذلك في الرجال فلذلك فصل بين الامرين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) ان هذا يدل على جواز تكليف ما لا يطاق والا لم يكن لهذه المسألة معنى. وجوابنا ان مسألة الشيء لا تدل على أن خلافه يحسن أن يفعل يبين ذلك قوله تعالى (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) ولا يجوز أن يحكم بغيره وقول ابراهيم عليه السلام (وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) ولا يجوز أن يخزي اللّه تعالى الانبياء فبطل ما ذكرته وبعد فيجوز أن يكون المراد بذلك (وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من العذاب في الآخرة والطف بنا حتى ننصرف مما يؤدي الى ذلك.
سورة آل عمران
[مسألة]
ربما قيل اذا كان في القرآن ما يخالف ما في التوراة والانجيل من النسخ وغيره فكيف يقال (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ). وجوابنا ان الناسخ به لا يكون مخالفا لان المنسوخ تعبّد به في وقت والناسخ تعبّد به بعد ذلك الوقت فلا خلاف فيه وفي شريعتنا ناسخ ومنسوخ وليس ذلك بموجب ان لا يصدق بعضه بعضا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ والْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) أ فما يدل ذلك على ان ننظر فيهما كما ننظر في القرآن وجوابنا ان من عرف تلك اللغة وأمن التحريف يحسن منه أن ينظر فيهما لكنه لا يجب من حيث كان العقل والقرآن يغني عن ذلك وانما يمنع من النظر فيها لما يجري من التحريف الذي لا يميزه مما لا تحريف فيه.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) كيف يجوز أن ينزل ما يشتبه والمراد البيان. وجوابنا ان ذلك ربما يكون أصلح وأقوى في المعرفة وفي رغبة كل الناس في النظر في القرآن اذا طلبوا آية تدل على قولهم ويكون أقرب اذا اشتبه الى النظر بالعقل ومراجعة العلماء وهذا يجوز ان يعرف المدرس انه اذا ألقى المسألة الى المتعلم من دون جواب يكون أصلح ليتكل على نفسه وغيره.
[مسألة] وربما قيل فما معنى قوله (وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) كيف يجوز في بعض القرآن أن لا يعلمه العلماء وانما يؤمنون به وقد أنزله اللّه بيانا وشفاء. وجوابنا ان في العلماء من يتأوله على ما تؤول اليه أحوال الناس في الثواب والعقاب وغيرهما فبين تعالى انه جل جلاله يعلم ذلك وهو تأويله وان الراسخين في العلم يؤمنون بجملة ذلك ولا يعرفونه ولم يمن بذلك الأحكام والتعبد وهذا كقوله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) وأراد به المتأول وقال بعض العلماء المراد ان الراسخين يعلمون أيضا وهم مع ذلك يؤمنون به فيجمعون بين الامرين بأنه قد يعلم معنى الكلام من لا يؤمن به وقد يؤمن به من لا يعلم معناه بقوله تعالى (وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي والا الراسخون في العلم ويقولون مع ذلك (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) وكلا الجوابين صحيح وبيّن تعالى ان من في قلبه زيغ يتبع المتشابه كاتباع المشبهة والمجبرة ظاهرة ما في القرآن فذمهم بذلك. والواجب اتباع الدليل وليس في المتشابه آية الا ويقترن بها ما يدل على المراد. والعقل يدل على ذلك فاللّه تعالى جعل بعض القرآن متشابها ليؤدي الى اثارة العلم والى أن لا يتكلوا على تقليد القرآن ففيه مصلحة كبيرة. وقد قيل ان المراد لا يعلم تأويله على التفصيل عاجلا أو آجلا الا اللّه تعالى وان كان الراسخون في العلم يعلمون ذلك على الجملة دون التفصيل.
[مسألة]
وربما سألوا في قوله في أول السورة (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) ويقولون انه تعالى ذكر ذلك ثمّ كرره بقوله (وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ) وأنتم تمنعون من مثل هذا التكرار في كتاب اللّه تعالى. وجوابنا ان المعنى والغرض ذا اختلفا لم يكن تكرارا ففي الاول بين انه أنزل الكتاب بالحق وأنه مصدق لما بين يديه من الكتب وفي الثاني ان
التوراة والانجيل كما جعلهما هدى للناس كذلك الفرقان جعله هدى ومفرّقا بين الحق والباطل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ما فائدة الشهادة منه تعالى ومن لا يعلم ويعرف بصفاته وعدله لا يوثق بقوله؛ وكذلك شهادة الملائكة فما الفائدة في ذلك. وجوابنا أنه تعالى قد نبه على طريق معرفته في مثل قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) وفي آية المحاجة لإبراهيم صلّى اللّه عليه وسلم وغير ذلك فأراد تعالى أن يحقق التوحيد بذكر شهادة الملائكة والعلماء ومثل ذلك بعد البيان يكون مصلحة وليس المراد بذلك الشهادة التي هي مثل البينات في الحقوق بل المراد التنبيه على وضوح الشيء ووضوح أدلته وبعث السامعين على تأمل طريقته.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) ان ذلك كالدلالة على أنه يزيغ قلوب البعض من العباد وانه يصرفهم عن الهدى.
وجوابنا ما تقدم من أن السائل قد يسأل ما المعلوم أنه تعالى لا يفعل خلافه فليس في هذه المسألة دلالة على أنه تعالى يفعل ببعضهم زيغ القلب كما ليس في قوله (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) دلالة على انه يحكم بالباطل والمراد انهم سألوا أن يلطف بهم في أن لا يزيغ قلبهم بعد الهدى لأن المهتدى قد يحتاج الى الالطاف ليثبت على ذلك ويزداد هدى الى هدى.
[مسألة]
وربما قالوا فعلى هذا التأويل سألوا اللّه تعالى أن يلطف لهم في أن لا يزيغ قلبهم عن الهدى وهو اللطف فيجب في قوله (وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أن يكون تكرارا لأنّ الاول أيضا رحمة ونعمة. وجوابنا ان المسألة الاولى هي اللطف في باب الدين والثانية في التفضل في المعجل في مصالح الدنيا فالمعنى مختلف.
[مسألة]
قالوا لم ذكر تعالى في قوله (وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ولا تعلق لوصفه تعالى بأنه سريع الحساب بقوله ومن يكفر بآيات اللّه فكيف يصح ذلك. وجوابنا ان المراد بالحساب المجازاة على ما يأتيه المرء لان العلماء في الحساب مختلفون فمنهم من يقول المراد به بيان ما يستحقه المرء على عمله ومنهم من يقول بل المراد نفس المجازاة وعلى الوجهين جميعا للثاني تعلق بالأول فكانه قال (وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ) المحاسبة له ولغيره فيظهر ما يستحقه ويحل به وهذا نهاية في التهديد وفي بيان العدل لانه تنبيه على ما ينزل به من العقاب فهو بحسب ما يستحقه لانه يفعل به على وجه المجازاة ولذلك قال تعالى بعده (وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) لما كان من باب التفضل.
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ويَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ما الفائدة في ذكر قتل الأنبياء بعد الكفر وقتل المؤمنين ومعلوم انهم يستحقون العقاب على كفرهم وان لم يفعلوا شيئا من ذلك. وجوابنا ان ما بشر به من العذاب لا يجب أن يرجع الى مجموع ذلك بل يرجع الى كل خصلة منه فكأنه قال (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ويَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فكمثل ذلك فلا يدل ذكر الكل على ما ذكره لان الوعيد راجع الى كل واحد وقد قيل ان الآية نزلت في اليهود الذين كان سلفهم بهذه الصفات.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) إنه يقع من العباد فكيف أضافه اللّه اليه. وجوابنا ان النصر قد يقع من العباد بعضهم على بعض والأكثر منه ما يقع من اللّه بأمور يفعلها فتقوى
القلوب عندها في الجهاد وغيره.
[مسألة]
وقالوا في قوله (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والْبَنِينَ) الخ: اذا كان تعالى زينه فكيف يعاقب العبد على ما زينه له. وجوابنا انه تعالى لم يذكر من الذي زين فيحتمل أن يريد من يدعو الى المعاصي من شياطين الانس والجن ويحتمل أنه تعالى زين لهم بالشهوات وخلق المشتهى لكنه يضم الى ذلك فيما هو معصية التخويف والوعيد وذلك مما يحسن ولذلك ذكر المال والخيل والأولاد ثمّ قال في آخره (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) فرغب في الآخرة العاقبة وزهد في العاجلة فلهذا تأولناه على ان المراد ما جبل العباد عليه من الشهوات واللذات ولذلك قال بعده (قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ) ثمّ وصفها بما ذكره بعده وأضاف الى ذلك رضوان اللّه تعالى ثمّ اتبعه بقوله (وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ليتصور المرء في كل ما يأتيه أنه تعالى مطلع عليه وذكر في وصف الجنة (وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) والمراد بذلك انهن مطهرات مما ينفر في الدنيا من حيض وغيره وقيل من الذنوب والاول أقرب لأن فيهن من لم يكلف، ومن كلف منهن فليست الحال حال تكليف فيذكر ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) كيف يكون العلم وحصوله طريقا للاختلاف المذموم. وجوابنا ان من علم فعاند وبغى فذلك يكون عقابه أعظم فيحتمل أن يريد بذلك أهل الكتاب الذين عرفوا فعاندوا، ولذلك خص اللّه تعالى أهل الكتاب بالذكر، ويحتمل أن يكون المراد بقوله (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) الدلالة وما هو طريق العلم لان من قصر في النظر فيه يعظم عقابه ويوصف بأنه قد بغى في ذلك.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ومَنِ اتَّبَعَنِ) فيقولون كيف يبطل بذلك محاجتهم. وجوابنا ان المحاجة اذا كانت بغير الحجاج لا تدفع الا بمثل ذلك فاذا كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم قد بيّن وكرر ذلك البيان ثمّ وقع منهم محاجة صح دفعها بمثل هذا الكلام والواحد منا اذا بيّن لمن خالف الحق حالا بعد حال لصح من بعد؛ وقد كرر على المخالف أن يقول أنا أتوكل على اللّه وأستسلم له وأسلمك فيما تأتيه الى خالقك وربما يكون ذلك أوكد وأرفع لباطله ممن أراد الحجاج عليه حالا بعد حال ولذلك قال تعالى بعده (وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ والْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) فنبه بذلك على ان الابلاغ قد تقدم منه صلّى اللّه عليه وسلم حالا بعد حال.
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ) فقالوا أضاف تعالى ملك الملوك الى نفسه وانه يفصل بين الظالم والعادل وقال مع ذلك (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) والطاعة أجمع من الخير فيجب أن تكون من فعله. فجوابنا أن الأصل في كل ملك هو العقدة والعقل والتمكين ولا يكون ذلك الا منه تعالى وانما يختلف حال الملوك فيما عدا ذلك فمنهم من يفعل بعد ذلك أنواعا من أنواع الظلم فيقوى بها. ومنهم من لا يتعدى. فاذا حملنا الملك على ما ذكرناه أولا، وهو الاصل فكل ذلك مضاف الى اللّه تعالى، وهو الذي يؤتيه وهو الذي ينزعه فأما العز فلا يكون في الحقيقة الا من اللّه تعالى؛ على كل حال لان من يعز بالمعاصي فهو ذليل، ولذلك لا يعد الكفر عزا وان كان بعضهم يعز بعضا بذلك. وبعد فانه تعالى ذكر أولا انه مالك الملك وان ما يملكه يؤتيه من يشاء وينزعه عمن يشاء فلا يدخل في ذلك ما لا يضاف الى ملكه من ظلم الظلمة.
فأما قوله تعالى (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) فالمراد انه لا وصول الى الخير الا باللّه
تعالى وعلى هذا الوجه نقول في الطاعات إنها من اللّه لما كان المطيع لا يصل الى فعلها الا بأمور من قبله وقصده بتلك الامور أن يفعل الطاعة فينال الثواب ولذلك قال تعالى بعده (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) فذكر ما هو كالاصول لمنافع الخلق وسائر ما يصلون به الى الملك وغيره.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) كيف يصح ذلك ومعلوم من حال كثير أنهم يتخذونهم أولياء. وجوابنا ان ذلك بمعنى النهي ولذلك قال بعده (وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) فان قيل فما المراد بهذه الولاية.
فجوابنا انها الولاية الراجعة الى الدين دون ما يتصل بأمور الدنيا، لان للمؤمن معاملة الكافر ومعاوضته ومعاشرته في الاكل وغيره وانما يحرم عليه ان يتولاه في باب الدين بالمدح وبالذب عنه فيما يتصل بالدين.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله (وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) ان المحذّر غير المحذّر منه فكيف يصح ذلك. وجوابنا انه تعالى يذكر نفسه على وجه التأكيد وطريقة اللغة تشهد بذلك والمراد بذلك التحذير من عقوبته ليتوق المرء من المعصية لاجل ذلك، وذلك معقول في الشاهد لان الوالد قد يقول لولده وقد نهاه عن العقوق وغيره، وأنا أحذرك نفسي فاتق اللّه فيما تأتي وتدبر ويعني بذلك المجازاة والتأديب ولذلك قال بعده (وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) لأن من جملة الرأفة هذا التحذير الذي هو طريق الثواب وزوال العقاب.
[مسألة]
وربما سألوا في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) وذلك يدل على أنه يخصهم بهذا الفضل؛ وذلك يوجب أن، فضلهم من قبل اللّه تعالى. وجوابنا ان المراد أنه
اصطفاهم بالنبوة والرسالة وذلك لا يكون الا من قبله تعالى وان كان جل وعز لا يختارهم إلا لأمور كثيرة كانت من قبلهم وتكون أيضا من قبلهم فيما بعد.
وربما أورد ذلك من يقول ان الانبياء أفضل من الملائكة. وجوابنا أن المراد بذلك اصطفاهم بالرسالة على عالمي زمانهم، وذلك لا يتأتى في الملائكة لأن الملائكة كلها رسل على ما ذكره اللّه تعالى. واختلفوا في العالمين فقال بعضهم يدخل فيه كل الخلق وقال بعضهم العقلاء ومن هو من جنسهم، وقال بعضهم الناس دون غيرهم لانهم الذين يظهر فيهم الجمع والتفريق ولذلك يقول القائل جاء في عالم من الناس ولا يقول جاء في عالم من البقر وكل ذلك يزيل هذه الشبهة خصوصا وقد ثبت بآيات كثيرة أن الملائكة أفضل كما ثبت أن نبينا صلّى اللّه عليه وسلم أفضل فكما لا يمكن في هذه الآية أن يقال ان هؤلاء الانبياء أفضل من رسولنا صلّى اللّه عليه وسلم فكذلك ما ذكرناه في الملائكة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ) انه يدل على أنه جعلها صالحة لانها لم تكن نبية.
وجوابنا أنه تعالى خصها بولادة عيسى عليه السلام من بين سائر الانبياء وذلك من قبل تعبدها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) كيف يصح تحرير ما في البطن.
وجوابنا ان المراد بذلك أنها نذرت أن يكون ما في بطنها مسلما للّه تعالى ذكرا كان أو انثى موفرا على عبادة اللّه تعالى. وقد كان مثل ذلك من عبادات ذلك الزمان فلذلك قال تعالى (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) ولذلك قال (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) وكل ذلك لما في المعلوم من أمر عيسى عليه السلام.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)
ما الفائدة في ذكر ذلك. وجوابنا ان التعبد فيما يحرر من الحمل في الذكر يخالف التعبد في الانثى فلذلك قال (وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) فبين حكم الانثى وبين انه مخالف لحكم الذكر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) كيف يجوز ذلك وليست نبية والمعجزات لا تظهر الا على الانبياء. فان قلتم ظهر على زكريا فكيف يصح أن يسألها فنقول هو من عند اللّه وعليه ظهر.
وجوابنا ان ذلك من معجزات زكريا فانما قال لها أنى لك هذا لا لأنه لم يعلم أن ذلك من معجزاته لكن ليعرف حالها وما تعتقده في ذلك، فلذلك قال تعالى (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) لأنه عرف منها اليقين فلما أعجبه ذلك سأل اللّه أن يرزقه ولدا فبشره اللّه بيحيى على ما نطق به الكتاب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) كيف يصح ذلك وقد كان هذا الخبر موجودا عند النصارى وغيرهم.
وجوابنا أنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يخالطهم مخالطة يقف بها على تفصيل هذه الامور وكان كسائر العرب. فبيّن تعالى انه قد خصه بهذا الغيب ليعرف به صحة نبوته ولذلك قال (وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) فحكى تفصيل ما كان يجري في أمر مريم وذلك من أعظم معجزاته صلّى اللّه عليه وسلم وربما قيل في قوله (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) كيف قالت الملائكة لها وليست بنبية. وجوابنا أنها قالت في زمن نبي وهو زكريا وذلك مما يجوز عندنا وعلى هذا الوجه يحمل ما روى أن جبريل عليه السلام ظهر في صورة دحية الكلبي بحيث يراه الناس.
تنزيه القرآن (5)
[مسألة]
وربما قيل ما معنى يبشرك بكلمة منه وما فائدة تسمية عيسى عليه السلام كلمة مع انه جسم والكلمة لا تكون الا عرضا. وجوابنا أن ذلك في وصف عيسى مجاز عندنا والمراد أنه يكون حجة ودلالة كالكلام وان كان في العلماء من يحمله على الحقيقة ويزعم أنه مخلوق من كلمة كن فهو اذا كلمة وربما جعلوه كلمة لا من جنس الكلام والذي قلناه أصوب.
[مسألة]
ويقال كيف يجوز أن يتكلم في المهد وذلك مخالف للعادة وكيف يقوى لسان الصبي على الكلام ويتكامل عقله. وجوابنا أنه من حيث خرج عن العادة صار معجزا وانما قواه اللّه على الكلام وأكمل عقله في ذلك الحال وجعل ذلك معجزة لشدة الحاجة في براءة ساحة امه عما كان يذكر عند ولادتها ولو تأخر ذلك لكان مفسدة ومتى ظهر ذلك منه وهو صغير كان أقوى في الباب والبالغ انما يكمل عقله وقوته بعد ذلك، فاللّه تعالى هو قادر على ذلك في حال الصغر وانما لا يفعل في غيره الا في حال الكبر للعادة والمصلحة.
فان للآباء مصالح في نشوء الاولاد على هذا الترتيب ولو لا ذلك لكان الصغير كالكبير في جواز كمال العقل ولذلك يختلف كمال العقل فهو في واحد اسرع منه في آخر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) لا يجوز ان يكون عيسى خالقا. وجوابنا انه من حيث اللغة كل من قدر فعله ضربا من التقدير يوصف بذلك وان كان من حيث الشرع لا يطلق فيه بل يقيد كمالا يقال ان فلانا رب دون أن يقيد بذكر داره وعبده (فان قيل) أ فكان يحيى الموتى كما أضافه اللّه تعالى إليه (قيل) له ليس كذلك لانه تعالى أضاف اليه خلق الطير من الطين ولم يضف اليه الاحياء بل قال وأحيي الموتى باذن اللّه فأضافه الى اللّه لما كان هو المحيي عند ادعائه النبوة وانما أضيف اليه من حيث كان هو السبب في ذلك. وجعل من معجزاته أيضا انه ينبئهم بما يأكلون وما
يدخرون في بيوتهم لان مثل ذلك لا يعرفه الغائب الا من جهة اللّه تعالى فلذلك قال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إِلَيَّ) كيف يصح مع أن اللّه لم يتوفه بل رفعه اللّه. وجوابنا ان العطف بالواو لا يوجب الترتيب فرفعه اللّه ثمّ توفاه وذلك جائز أيضا أن يكون توفاه من حيث لم يشعر به ثمّ رفعه فأعاد حياته وربما سألوا في ذلك عن قوله (وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وما الفائدة في ذلك. وجوابنا أن المراد يطهرك من أعمال الكفار ومن أحكامهم ومن الاضلال بهم على وجه يؤثر في حال النبوّة. وربما سئل أيضا عن قوله (وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فقيل ما معنى ذلك ومعلوم أن من اتبعه لا شك أنه فوق الكفار. وجوابنا ان المراد أنه جعلهم فوقهم في كثير من مصالح الدنيا لان ذلك هو يصح الاشتراك فيه دون ما يتصل بأمر الآخرة مما لا يصح الاشتراك فيه بين المسلم والكافر ولذلك قال (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ) فيقال انهم في الدنيا يتمتعون لا يلحقهم شيء من العذاب فكيف يصح. وجوابنا أن ذلك في الكفار المخصوصين في أيام عيسى عليه السلام فلا يمنع أن يلحقهم بعض عذاب الدنيا ولو لم يكن الا الذم واللعن والحدود لكان ذلك كافيا في عذاب الدنيا، والكفار في أيامنا قد يلحقهم العذاب من القتل والقتال ومن أخذ الجزية الى ما شاكله واختلفوا فقال بعضهم في أمراضهم أنها تجوز أن تكون عذابا وان كان في العلماء من يمنع ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) كيف يجوز ان يخلقه ثمّ يقول (كُنْ فَيَكُونُ) وقد تقدم خلقه له وذلك يتناقض. وجوابنا ان المراد خلق آدم من تراب ثمّ قال له كن حيّا وعلى سائر الصفات فالذي كونه من حياته وغيرها هو غير الذي خلقه من قبل. وكذلك القول في عيسى أنه خلق الصورة ثمّ قال له كن على هذا المثال هذا متى حمل قوله كن على الحقيقة فاما اذا أريد بذلك أنه كوّنه حيّا بعد ان خلق الشخص فلا تناقض في ذلك وانما بيّن تعالى بأنه مثل آدم أنه مخلوق لا من شيء متقدم يجري مجرى الاصل له كالنطفة والعلقة لتعرف قدرته على ابتدائه وليعلم اصحاب الطبائع بطلان قولهم فقد كان في ذلك الزمان فيهم كثرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ) كيف ترفع محاجة النصارى في عيسى اذ قالوا انه اللّه وانه ابن اللّه ومحاجة اليهود إذ كذّبوا بولادته من غير ذكر بالمباهلة التي ذكرها اللّه. وجوابنا ان الحجة في ابطال قولهم اذا ظهرت ولم يقع القبول وعلم اللّه تعالى ان في المباهلة مصلحة لم يمنع ذلك ومعلوم ان عند المباهلة والملاعنة يخاف المبطل فربما يكون ذلك من اسباب تركه الباطل إما ظاهرا واما باطنا ولذلك قال تعالى بعده (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) لان ما ينذر ويخوف يوصف بذلك ثمّ قال (وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) دفعا لقول النصارى في باب التثليث ثمّ قال (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) ثمّ قال تعالى (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً) دفعا لقول النصارى ثمّ قال (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ثمّ بيّن بطلان قولهم ان ابراهيم كان على ملتهم بقوله (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ
وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ والْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ) وبيّن بقوله (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ان المقلد والمبطل في المحاجة مخطئ لانه يحاج فيما لا علم له به وبعث بذلك على النظر في الأدلة لأن هذا الناظر العالم هو الذي اذا حاج غيره يكون محاجا فيما له به علم.
وبيّن ان أولى الناس بابراهيم من اتبعه ونبينا صلّى اللّه عليه وسلم لأنه على ملته في الحج وغيره وأنما وصف ابراهيم بأنه كان حنيفا مسلما لأنه كان على هذه الملة وان كان في شريعة نبينا صلّى اللّه عليه وسلم زيادات وتفصيلات وفي قوله بعد ذلك (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) دلالة على ان اللّه تعالى لا يضل عباده ولا يخلق الضلال والكفر فيهم لانه لو كان كذلك لما نسب الاضلال الى أهل الكتاب ولما نسب اضلالهم الى أنفسهم.
[مسألة]
ويقال كيف قال تعالى (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) ثمّ قال (وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) كيف يكونون كفارا بما يشهدون. وجوابنا أن المراد انهم يكفرون بالآيات وهم يعرفونها ويشاهدونها فينصرفون عن النظر فيها ويتبعون الشبهة والتقليد ولذلك قال بعده (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ولا يمتنع انه كان فيهم من يعرف الحق في نبوّة نبينا صلّى اللّه عليه وسلم ويعاند فقد كان فيهم من علم البشارة بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم في الكتب وكانوا يلبسون ذلك على العامة ثمّ ذكر بعده (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) يعني الالطاف وانه يخص بذلك من يشاء فمن المعلوم أنه عند ذلك يختار الايمان. ثمّ بين تعالى بقوله (وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ويَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ان ليهم ألسنتهم بذلك من فعلهم لا من خلق اللّه فيهم ولو كان من حق من ينسب ذلك اليه هو اللّه تعالى لوجب أن يقال هو من عند اللّه ولما صح أن يقول تعالى (وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) ونزّه تعالى عيسى عن قول النصارى لقوله (وَ ما كانَ لِبَشَرٍ)
(أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ والْحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) فان أكثر النصارى يقولون بعبادة عيسى صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ولَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً) كيف يصح ذلك وقوله (أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) يدل على نفي الاسلام عنهم وقوله (وَ لَهُ أَسْلَمَ) يدل على اثبات الاسلام وهذا يتناقض. وجوابنا ان المراد بقوله (وَ لَهُ أَسْلَمَ) الاستسلام والانقياد وليس المراد اختيار الدين والاسلام فبين تعالى انه قادر على أن يجعلهم كذلك لكنه لا ينفعهم الا اذا اتبعوه اختيارا فلذلك قال طوعا وكرها وأمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يقول (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ) الى قوله (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) فبين انه قد آمن ومع ذلك هو مسلم أي منقاد للّه تعالى على وجه الاختيار وان هذا هو الذى ينفع، وبيّن بقوله (وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ان الدين كله هو الاسلام والاسلام هو الدين وان ما عدا ذلك ليس من الدين والاسلام وبيّن أن من ليس بمسلم من الخاسرين في الآخرة.
[مسألة]
وربما قيل كيف يقول تعالى (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) وعندكم أن اللّه قد هدى الكافرين. وجوابنا انه قد هداهم بالأدلة والمراد بهذا الهدى هو الثواب وطريق الثواب ولذلك قال بعده (وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فخصهم بنفي الهدى عنهم ثمّ بين ما نفاه عنهم بقوله (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ والْمَلائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) فبين انه لم يهدهم الى الجنة بل عاقبهم بهذه العقوبة.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) وكيف يجوز أن يتوبوا فلا تقبل توبتهم مع بقاء التكليف. وجوابنا أنه لم يذكر متى تابوا فيحتمل انهم كفروا ثمّ تابوا وأرادوا الكفر ومن ازداد كفرا فتوبته المتقدمة لا تؤثر لانه قد أفسدها بزيادة الكفر، ولذلك قال بعده (وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) وهذا خبر عن قوم مخصوصين كان هذا حالهم فلا يمكن أن يقال ان توبة كل كافر لا تقبل ويحتمل أن توبتهم عند المعاقبة لا تقبل وقد روى أيضا أن الآية نزلت في قوم ارتدوا وقالوا ما نقيم أقمنا على ارتداد فاذا حصلنا عند أهلنا أظهرنا التوبة لتقبل ذلك منا فمن يظهر التوبة وباطنه بخلاف ذلك لا تقبل توبته ومعنى قوله ثمّ ازدادوا كفرا انهم جحدوا بنبوّة محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وقد ينفق المرء ما لا يحبه ويعد في البر. وجوابنا ان كل ما يخرجه المرء من وجوه البر لا بد من أن يحبه المرء ويريد الانتفاع به ولو لا ذلك لم يستحق الثواب عليه، ويحتمل أن يريد تعالى ترغيب المرء في أن لا يتصدق الا بأحب الأموال وأنفسها كما قال تعالى (وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) ولذلك قال بعده (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازي بحسب ذلك.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) والتحريم يكون من قبل اللّه تعالى لا من قبل الانبياء. وجوابنا انه لا يمتنع في شريعته أن يحرم على نفسه الشيء فيحرم، كما ان في شريعتنا أن نوجب على أنفسنا أشياء بالنذر فتجب، فهذا أقرب ما يتأول عليه وذلك لأن سبب التحريم والإيجاب من قبل العبد وان كان اللّه تعالى أوجب ذلك وهذا كما اذا أحرم المرء لزمه من المناسك ما كان لا يلزمه لو لا احرامه وذلك كثير في العبادات.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وهُدىً لِلْعالَمِينَ) ومعلوم ان قبله كانت الدنيا والمنازل. وجوابنا ان معنى قوله (وُضِعَ لِلنَّاسِ) ليعبد اللّه عنده فهو أول بيت وضع لذلك ولذلك قال (وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ) في وصفه ولذلك قال بعده (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ ومَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ولذلك قال بعده (وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) وهذا من أقوى ما يدل على ان الانسان قادر قبل أن يحج وقبل دخوله في الحج بخلاف قول المجبرة والقدرية.
[مسألة]
وربما قيل فلما ذا قال (وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وما المراد بذلك وما الفائدة في أنه غني عنهم اذا كفروا وهذه صفتهم لو آمنوا أيضا. وجوابنا ان المراد ومن كفر بأن جحد وجوب الحج وقصد هذا البيت وبين بقوله (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ان ما لزمهم عند هذا البيت انما أوجبه لمصالحهم لئلا يقدر أنه تعالى يوجب لا لهذا الوجه فلذلك أطلق قوله بأنه غني عن كل العالمين وقد روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ان المسجد الحرام أول مسجد وضع ثمّ المسجد الأقصى وروي أن اليهود فضلت بيت المقدس على الكعبة وفضل المسلمون الكعبة فنزلت هذه الآية تصديقا لقول المسلمين.
[مسألة]
ويقال ما معنى قوله (وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وفِيكُمْ رَسُولُهُ) ومعلوم ان هذين الامرين قد كفر بهما الخلق وهما لا يوجبان ايمان المكلفين فما الفائدة في ذلك.
فجوابنا ان قوله (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) هو على التوبيخ والذم لهم من حيث كفروا مع ظهور آيات اللّه وظهور أمر الرسول مع ان ذلك يوجب الايمان ايجابا وانما يقتضي أن يختار المرء للايمان وقد ظهرا واتضحا ولذلك قال بعده
(وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) والمراد من يعتصم بكتابه وبرسله فيعمل بما يقتضيان العمل به (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومن لم يفعل فقد ضل وكفر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) انه يدل على لزوم التقوى فوق استطاعته فقد روى عن بعض من لا يحصل انه منسوخ بقوله (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). وجوابنا ان حق تقاته لا يكون الا ما يستطيعون لانه تعالى لا يكلف نفسا الا وسعها فلا اختلاف بين الآيتين ولذلك قال (وَ لا تَمُوتُنَّ) فان من حق تقاته ان يتمنى المرء حتى يموت مسلما ولذلك قال بعده (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً) فدعا الى الاجتماع أيضا وعلى التقوى وترك الاختلاف فيه ولذلك قال بعده (وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) فان من أعظم نعم اللّه زوال التحاسد والتباغض والتنافس عن القوم ولهذا أقوى أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لما انقادوا له على عظم محلهم وكان من قبل لا ينقاد بعضهم لبعض وحبل اللّه هو دينه وشرعه والتمسك بكتابه وسنة رسوله ولذلك قال (وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) ولذلك قال (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) والمراد لكي تهتدوا فدل بذلك على انه أراد الاهتداء من جميعهم وقوله تعالى بعده (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) يدل على انه أوجب على طائفة ممن يهتدون بالآيات أن يدعوا الى الخير ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وانهم المفلحون وهم العلماء الذين يدعون الى اللّه ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلم، العلماء أمناء الرسول على عباد اللّه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) فيقال أ فما يدل ذلك على
ان ليس في المكلفين الا كافر ومؤمن بخلاف قولكم ان بينهما فاسقا لا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر. فجوابنا ان ذلك ان دل على ما قلت فيجب أن يدل على أن ليس فيهم الا كافر مرتد لقوله (أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) وقد ثبت خلاف ذلك واذا جاز اثبات كافر أصلي لم يذكره تعالى جاز اثبات فاسق لم يذكره تعالى ومعلوم ان الموحد المصدق باللّه ورسوله اذا أقدم على شرب الخمر والسرقة والزنا لا يوصف بأنه مؤمن مطلقا لأن المؤمن هو الذي يمدح ويعظم وهؤلاء يلعنون. ولا يوصف بأنه كافر لأن الكافر هو الذي يختص بأحكام من قبله وغيره وليس في اثبات وصفين دلالة على نفي ثالث واتبعه تعالى بقوله (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) فبين انه لا يريد الا الحق ونزّه نفسه عن ارادة الظلم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) كيف يصح ذلك وفي جملة أمته الفساق ومن يفسد في الأرض ومن هذا حاله لا يوصف بهذا الوصف. وجوابنا ان ذلك اشارة الى أمة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم في أيامه والمراد ان الخيار فيهم أكثر والتفاضل اذا كان في جميع لا يراد به كل عين فمتى قيل ان أهل بلد أصلح من أهل بلد آخر لا يراد به ذكر كل واحد بل المراد ما يرجع الى جماعتهم من كثرة خيارهن وبيّن ذلك بقوله (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وذلك لا يرجع الى كل واحد. وقد قيل أراد تعالى أهل الصلاح فيهم فلا يدخل من عداهم فيه بدليل قوله من بعد (وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) فبين في هذه الآية انها خالصة عن الشر بخلاف أهل الكتاب وفي قوله (وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) ما يدل على صحة الجواب الاول فنبه بأن الاكثر منهم فساق بخلاف هذه الامة التي الاكثر منها أهل الخير ويقوى من يقول بالوجه الآخر قوله تعالى (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وهُمْ)
(يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ) فدل ذلك على ان المراد بالاول من يختص بالخير دون أهل الشر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ ولا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) ثمّ قال (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) كيف يصح ذلك والمعلوم من حال الكفار انه ينتفع بما ينفقه في وجوه البر ويكون ذلك تخفيفا في عقابه. وجوابنا أن المراد بذلك ان ما ينفقه لا يحصل له ثمرته من الثواب وان كان عقابه أقل من عقاب كافر لم يفعل من البر ما فعله ولذلك قال تعالى بعده (وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ولكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وهذا دلالة على انه تعالى منزه عن الظلم ولو كان هو الذي خلق الكافر وكفره ليدرجه الى النار لما صح هذا التنزيه.
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله (لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) واللّه تعالى قال بعده (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) وذلك تناقض.
وجوابنا أن المراد لو آمن من لم يؤمن منهم لانه لا يصح الا فيهم وقوله (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) يعني من تقدم ايمانهم فلا تناقض في ذلك.
[مسألة]
وربما قالوا كيف يقول تعالى (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) والاذى هو الضرر فكأنه قال لن يضروكم الا ضررا. وجوابنا ان المراد انهم لا يتمكنون الا من الضرر اليسير بما يكون من كلامهم ولذلك قال بعده (وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) وقال (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) وبين انهم لا يضرون المسلمين الضرر الذي يظنون وانما ينالهم من جهتهم التأذي فالكلام متفق.
[مسألة]
وربما قيل ثمّ وصف جل وعز أهل الكتاب الى أن قال
(وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ثمّ قال (لَيْسُوا سَواءً) فما المراد بذلك وقد وصفهم بالكفر وبهذه الصفات. وجوابنا انه لما قصد وصف الكثير منهم بذلك بين انهم يقاربون في ذلك لئلا يقدر بأن حالتهم واحدة ويحتمل ان بعضهم آمن فلذلك قال (لَيْسُوا سَواءً) وقوله من بعد (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ) يقوى الوجه الثاني.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ ولا يُحِبُّونَكُمْ) الى قوله (وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) كيف يجوز أن يحبهم مع نفاقهم وجوابنا ان المنافق والكافر يلزمنا ان نحب صلاحه في الدين والدنيا وان كانوا لا يحبون شيئا من مصالحنا وهذا كما يريد تعالى صلاحهما وان يلطف لهم وان كان هم لا يحبون طاعة ربهم وعبادته.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) كيف يصح أن يكون محيطا بعملنا والإحاطة لا تجوز الا على الأجسام وما يجري مجراها وجوابنا ان المراد احاطة علمه بما نعمل وذلك مشبه بالجسم المحيط بغيره فكما ان ذلك الغير لا يخرج عن ما أحاط به فكذلك أعمالنا لا تخرج عن أن تكون معلومة للّه وذلك من اللّه تعالى ترغيب في عمل الخير وتحذير من المعاصي.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) كيف يوصف الفضلاء من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بأنهم أذلة وجوابنا انه تعالى نبه بقوله (وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ) على ان المراد بقوله (وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) قلة العدد والعدة والآلات والخوف من غلبة الكفار ولم يرد الذل الذي يجري مجرى الذم والنقص ومنه يقال لقليل العدد
اذا كان في مقابلتهم الجيش العظيم انهم أذلة ولذلك قال بعده (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) فبين انه نصرهم بهم وأخرجهم من أن يكونوا أذلة.
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز (أن يمدّهم بثلاثة آلاف من الملائكة) من ان صورة الملائكة بخلاف صورة البشر منا فكيف يصح ذلك وجوابنا انه تعالى يغير خلقهم حتى يكون الظاهر منهم مثل صورة الانس رجالا وركبانا، واللّه تعالى قادر على ذلك وبهذا القدر لا يخرجون من ان يكونوا ملائكة لان ما لأجله صاروا ملائكة من الصورة ثابت فيهم.
[مسألة]
وربما سألوا فقالوا كيف يقال للكفار (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) فيأمر نبيه بأن يبقوا على الكفر لانهم إن لم يبقوا عليه لم يموتوا بغيظ المؤمنين.
وجوابنا ان ذلك بصورة الامر وهو دعاء بهلاكهم كما يقول الانسان لمن يخالف في الحق مت كمدا وذلك مشهور في اللغة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ان ذلك يدل على ان فعل المجاهد خلقه. وجوابنا أن المراد ان مجموع النصر لا يتم إلا بأمور من قبله وان كان لا بد من سعي المجاهد وهذا كما تقول في فضل الابن وعلمه انهما من جهة الوالد لما كان ذلك لم يتم الا من قبله ولذلك قال بعده (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) انه قد نفى ان يكون له صلّى اللّه عليه وسلم فعل وصنع وذلك بخلاف قولكم.
وجوابنا أن المراد أنه ليس له في تدبير مصالح العباد وما يكون صلاحا لهم في الدين شيء لان كل ذلك من قبله تعالى وليس المراد نفي صنعه وفعله وكيف يجوز
ذلك وقد نصبه مبشرا ونذيرا وقال (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وأضاف له الطاعة ومدحه بضروب المدح وقوله تعالى من بعد (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) يدل على ان المراد بذلك ما قدمنا لانه بين أن صلاحهم يحصل بالتوبة ولا يحصل بمحبته صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) كيف يصح أن يصفها بأنها أعدت للكافرين ويقولون فيمن ليس بكافر من الفساق إنه يدخلها وكيف يصح من العباد اتقاء النار وهم يقهرون عليها. وجوابنا أن المراد بقوله (وَ اتَّقُوا النَّارَ) اتقاء المعاصي التي توجب استحقاق عقاب النار وذلك ظاهر اذا قيل للمرء اتق ربك واتق السلطان أن المراد اتقاء ما يؤدي الى تأديبهم فأما قوله (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فلا يمنع من كونها معدة لغيرهم لان ذلك الشيء بحكمه لا ينفي ان ما عداه مثله وهذا كقوله تعالى في وصف النار (وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) ومعلوم ان من لا يوصف بذلك من الحور والاطفال يجنبون النار أيضا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ والْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) كيف يصح في الجنة وهي في السماء أن يكون عرضها السموات والارض. وجوابنا أنه قادر في نفس السماء والارض أن يزيد فيها أضعافا كثيرة وكذلك يقدر على الجنة التي عرضها كعرض السماء والارض وزيادة على ذلك. وقوله تعالى بعده (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) وان كان يدخلها من ليس بمتقي فبطل قولهم انه لما ذكر (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) دل على أنه لا يدخلها سواهم ثمّ بين تعالى صفة المتقين الذين يستحقون الجنة فقال (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والْكاظِمِينَ الْغَيْظَ والْعافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ والَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ومَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ولَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) ثمّ قال تعالى بعده (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ثمّ قال تعالى بعده (وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) وكل ذلك ترغيب التمسك بطاعة اللّه وبالتوبة والانابة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) فعم ثمّ قال (وَ هُدىً ومَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) لما ذا فرق بين الأمرين وعندكم انه بيان للكل وهدى وموعظة للكل. وجوابنا أنه بيان وهدى للكل لكنه تعالى في كونه بيانا عم وفي كونه هدى وموعظة خص المتقين من حيث تمسكوا به فصار كأنه ليس بهدى ولا موعظة الا لهم كما ذكرناه في أول سورة البقرة في قوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) كيف يصح أن يقول ذلك في الكافرين وكيف يصح أن يقول (وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) واللّه تعالى عالم لم يزل قبل أن يمس القوم القرح الذي ذكره.
وجوابنا أنه تعالى قد قوّى الكافر ومكنه بالآيات وغيرها وأمره ونهاه كما فعل ذلك بالمؤمن وانه خص المؤمن بالالطاف وغيرها فصح لذلك أن يقول في تلك الايام (نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) ولذلك قال بعده (وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) وقال (وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الْكافِرِينَ) فجعل تعالى المداولة محنة على الكافرين ونعمة على المؤمنين وأما (وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) فالمراد وقوع المعلوم ونبه بذكر العلم عليه لما كان معلوم العلم يحب ان يكون على ما تناوله العلم ولذلك قال اللّه تعالى بعده (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ولَمَّا)
(يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) فنبه بذكر العلم على وقوع الجهاد منهم لان ذلك هو الذي يستحق به الجنة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) كيف يصح أن يلقى الموت وهو ينظر. وجوابنا أن المراد رؤيته أسباب الموت ومقدماته دون نفس الموت لان الميت لا يتمكن من أن يكيف الموت ويراه وهو كقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) والمراد به المرض الذي يخاف منه وهو كقوله تعالى في قصة ابراهيم عليه السلام (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) والمراد الاضجاع الذي هو مقدمة الذبح. وربما سألوا في هذه الآية فقالوا أ ليس تمنيهم الموت هو تمني قتل الكفار لهم وذلك مما يقبح فكيف يصح ذلك. وجوابنا ان الموت غير القتل أو يكون من قبل اللّه تعالى لا من قبل الكفار فيصح أن يتمنوه تخفيفا للتكليف عليهم. فبعث بذلك على الجهاد لكي لا يزهدوا فيه خوف الموت وقد يتمنى ذلك على وجه لا يحصل معه من الثواب ما يحصل بالموت في الجهاد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) ان ذلك لا تعلق له بما تقدم من الترغيب في الجهاد. وجوابنا ان المروي في ذلك انهم قالوا لما انهزم أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قد قتل فنحن نعود الى ديننا الاول فقال اللّه تعالى (أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) وقال أيضا (وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) فلما انهزمتم وقد رغبكم اللّه في الثواب العظيم ان انتم ضربتم وان أتى القتل عليكم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا) ان ذلك يدل على ان قتل الكفار لهم يوم أحد من قبل اللّه لا من فعل الكفار. وجوابنا انه تعالى اراد بالاذن العلم والكتابة ولم يرد الأمر لأن الموت لا يؤمر ولا الميت يؤمر بالموت ويحتمل اذنه تعالى الملائكة بالتوفي والاماتة وليس في الآية ذكر القتل ولو دخل فيها كان لا يمتنع لان المجاهد في الاكثر يجرح ثمّ تكون الاماتة من قبل اللّه تعالى وفي العلماء من يقول انه وان دخل فلا بد من وجود الموت من قبل اللّه تعالى فيه ونبه بقوله تعالى من بعد (وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ومَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) على أن اختيار الراحة بترك الجهاد ليس فيها الا النفع المعجل وفي المصابرة على الجهاد ثواب الآخرة فرغب تعالى بذلك في المجاهدة.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) بعد ذكر الموت وانه لا يكون إلا باذنه تعالى. وجوابنا أنه أراد مجازاة الصابرين على الجهاد وجعل صبرهم على الجهاد شكرا من حيث عبدوه تعالى تقربا اليه وطلبا لمرضاته وهذا كقوله تعالى (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) فجعل عبادتهم شكرا للّه تعالى لما فعلوه تعظيما له كما يشكر المنعم على وجه التعظيم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ) كيف يصح ذلك ونحن قد نجد في الذين كفروا من لا رعب في قلبه وربما يكون الرعب في قلوب المؤمنين.
وجوابنا انه لا كافر يلقى الحرب مع المسلمين الا وفي قلبه رعب كما ذكره اللّه تعالى لانه لا يرجع في مقاتلته الى دين يسكن اليه كالمؤمن، ولأن المؤمن يزداد تنزيه القرآن (6)
لطفا الى لطف ويعرف ذلك عنه الكافر وهذا كقوله (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وقيل ان ذلك نزل في كفار مخصوصين يوم أحد وهم الذين قال اللّه تعالى بحقهم (وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) فبين تعالى انه سيلقي الرعب في قلوبهم فيغلبهم المسلمون.
[مسألة]
وربما قيل قد قال (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) وذلك في يوم أحد وهو كالدلالة على أنه تعالى يفعل فيهم الاقدار والصرف.
وجوابنا أنه تعالى ذمهم في قوله (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) فأراد انه يوم بدر أراهم ما يحبون لما لم يعصوا ويوم أحد عصوا وقد كان صلّى اللّه عليه وسلم رتب لهم في مجاهدة الكفار ترتيبا خالفوه فلما لم يثبتوا في المحاربة على ما رسمه لهم لم يلطف لهم لاجل المعصية بل شدد التكليف عليهم فجاز ان يقول (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) ولذلك قال تعالى (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي ليمنحكم بمصالح العاقبة ثمّ قال (وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) ولو كان الصرف من خلق اللّه تعالى فيهم لم يكن لذلك معنى وانما ضمن لهم النصرة بشرط طاعة الرسول فلما خالفوه ولحقهم بذلك الغم الصارف جاز أن يصفهم تعالى بذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) وفي قوله من بعد (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ان ذلك يدل على ان لا صنع للعبد. وجوابنا أنه تعالى حكى عنهم ما ذمهم عليه وهو قوله (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) فلا دلالة فيما حكاه عنهم فأما قوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) فالمراد به ما يتصل بالنصرة والتمكين ولو لا ذلك لما أمرهم بالجهاد ولما ذمهم على تركه ولذلك قال بعده (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) فنبه على انه تعالى يعلم من حالهم ما لا يعلمه صلّى اللّه عليه وسلّم وقوله تعالى بعد ذلك (وَ لَوْ)
(كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ترغيب للرسول صلّى اللّه عليه وسلم في جميل الاخلاق ليكون قبولهم أقرب ويدل على أن صرفهم فعلهم لانه لو كان خلقا من اللّه فيهم لما صح ان يقول (فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) لانه لا يصح منا أن نشاور فيما يخلقه تعالى ولما صح قوله (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) ولما صح قوله (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) لان ما يوجد في الغالب والمغلوب هو من قبل اللّه تعالى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) كيف يصح ذلك على الانبياء. وجوابنا ان المراد ما كان له أن ينسب إلى ذلك في إحدى القراءتين وفي القراءة الاخرى ما كان له ان يفعل فنزهه عن الأمرين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً) كيف يصح ذلك وقد قتلوا وماتوا. وجوابنا ان المراد شهداء يوم أحد بين تعالى أنه قد أحياهم فلا ينبغي أن يظن فيهم انهم أموات وذلك صحيح وقد قال بعضهم مثل ذلك في كل الشهداء اذا ماتوا على توبة وطهارة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) كيف يصح أن يبقيهم لتقع منهم المعاصي. وجوابنا أن المراد عاقبة أمرهم وذلك كقوله تعالى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وحَزَناً) والا فمراده من جميعهم العبادة والطاعة كما قال تعالى (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ)
(قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا) كيف يصح ذلك ممن يدين بالإله أن يقول ذلك. وجوابنا أن حكاية اللّه تعالى عنهم وقد ثبتت حكمته لا طعن فيه فمن سلم حكمته فلا كلام له وان لم يسلم دللنا على الأصل ولم نتكلم في الفروع فقد كان في العرب على ما ذكره اللّه تعالى في سورة الأنعام من يقول ذلك حتى يجعل من الانعام نصيبا من اللّه ولا يمتنع في المشبهة أن يكون فيهم من يقول ذلك فاذا جاز أن يدينوا بأنه تعالى رمدت عينه فعادته الملائكة الى غير ذلك لم ينكر ما حكاه اللّه عنهم، ومن اليهود من يقول بنهاية التشبيه فيصح أن يكون هذا قوله.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ويُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) فما الفائدة في أن كرر قوله (وَ لا تَحْسَبَنَّ). وجوابنا أنه قد حكى ان قوما من اليهود كانوا يفرحون باضلالهم الناس واجتماع كلمتهم على تكذيب الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ومع ذلك يقولون نحن ابناء اللّه وأحباؤه فقوله أولا (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) أراد به ما ذكرناه أولا وقوله (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) أراد به ما ذكرناه ثانيا ويصح ايراد ذلك اذا طال الكلام بعض الطول فيكون من باب التوكيد الذي يحتاج اليه ثمّ ذكر تعالى قوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لَآياتٍ) والمراد بذلك أن يعتبر الخلق بالنظر في ذلك ويستدلون به على اللّه تعالى وقوله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وقُعُوداً وعَلى جُنُوبِهِمْ) يدل على ان الواجب على المرء أن لا يفارق ذكر اللّه تعالى على اختلاف أحواله ولذلك قال تعالى (وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ) ويقولون (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا) ولو كان تعالى يخلق الظلم وسائر القبائح لما صح ذلك ولما صح قوله (سُبْحانَكَ) لان معنى ذلك تنزيهه تعالى عن كل سوء كما روى عنه صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (رَبَّنا وآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) كيف يصح أن يسألوا ذلك وخلافه لا يجوز على اللّه تعالى. وجوابنا أن المسألة بالمعلوم أنه تعالى يفعله تحسن اذا كان فيه فائدة للمكلف وعلى هذا الوجه يقول في الدعاء اللهم صل على محمد ويقول اللهم اغفر للمؤمنين ولذلك قال (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) فبين أنه يفعل ذلك وأنه لا يضيع أعمال المكلف بل يجازي عليها على ما فيه من التفاضل والتفاوت وفي ذلك اثبات العمل للعبد لانه تعالى لو خلق ذلك لكان انما يجازي على عمل نفسه واللّه يتعالى عن ذلك.
سورة النساء
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ والْأَرْحامَ) ما الفائدة في ذكر الارحام مع ذكر اللّه. وجوابنا أنه تعالى ذكر الارحام ليرغب الناس فيما يلزم من حقها وذكرها مع ذكره إعظاما لذلك ولذلك قال بعده (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) يعلم ما تقدمون عليه في حق عبادته وما تفعلونه في حق ذى الارحام فهذا هو الفائدة.
[مسألة]
وربما قيل في معنى قوله تعالى (وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) وأي تعلق لهذا بحديث الايتام. وجوابنا أن في الرواية أن من كان يقوم بحق اليتامى كان ربما يطمع في تزوجهن والبسط في أموالهن ويقفون أنفسهم عليهن للطمع فأباح اللّه تعالى هذا النكاح من غيرهن وحرم البسط في أموالهن ولذلك قال من بعده (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) وقال بعده (وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ولا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) وكل ذلك يؤيد ما قلنا وأمر من كان غنيا في أموال اليتامى أن يستعفف ومن كان فقيرا أن يأخذ من أموالهم ما يجري مجري الاجرة على ما يأتيه من الاحتياط في أموالهم ثمّ قال تعالى (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) لان ذلك هو الاحتياط من وجهين أحدهما أن لا يقصر فيما سلف والآخر ان يعرف حال اليتامى فيما دفع اليهم من افساد واصلاح.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ والْأَقْرَبُونَ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ والْأَقْرَبُونَ) ما الفائدة في ذكر النساء مع الرجال وذلك معلوم. وجوابنا انهم كانوا من قبل يورثون الرجال دون النساء وكان ذلك عادة له فأنزل اللّه تعالى ذلك ليعلم ان النساء كالرجال في حق الارث ثمّ بيّنه تعالى فيما بعد قطعا لهم عن العادة المتقدمة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى والْيَتامى والْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) ما الفائدة في ذلك ولا حق لهم في التركة. وجوابنا أن ذلك كان قديما مما أوجبه اللّه كما كان تعالى أوجب الوصية للوالدين والاقربين اذا لم يرثوا ثمّ نسخ ذلك بآيات المواريث فبين اللّه تعالى فيها حق كل ذي حق وصارت هذه العطية مندوبا اليها وتكون عطية من جهة الورثة، وندب تعالى الى حفظ المال لمكان الورثة بقوله (وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ) وعلى هذا الوجه ثبت الحجر بالمرض المخوف لحق الورثة خصوصا اذا كانوا ذرية ضعافا وبين في آيات المواريث ما أنعم اللّه تعالى به عليهم وان كان سببه موت المورث فذكر جملة المال وأنه يرثه من له حق التعصيب إما بانفراده وإما مع الاناث، وذكر في الانصباء الثلثين والنصف والثلث والربع والسدس والثمن فهذا جملتها التي يقع عليه القيمة في المواريث ثمّ قال تعالى معظما للتعدي في ذلك (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) فأوجب النار لمن تعدى فيما يتولى جل وعز قسمته.
[مسألة]
وربما قيل كيف أوجب تعالى فيمن يأتى الفاحشة من النساء الامساك في البيوت وقد أوجب فيهن الحدود والرجم وكذلك في اللذين يأتيان النساء أوجب الأذى مع ايجاب الحد. وجوابنا ان ذلك كان قديما ثمّ نسخ بالجلد والرجم فالجلد في البكرين والرجم في المحصنين اذا حصلت شرط الاحصان ويوجب تعالى في العبد النصف من الجلد وذلك مبين في كتب الفقه.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) كيف يصح أن لا تفيد هذه التوبة. وجوابنا ان ذلك ورد فيمن أيس من الحياة لأنه عند ذلك يصير المرء ملجأ إلى ترك المعصية وانما يقبل التوبة ممن يتردد بين خوف ورجاء فيشق عليه التوبة، فأما في حال الإلجاء فذلك لا ينفع كما لا ينفع أهل النار التوبة والندامة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) ما الفائدة في ذلك ولا يحل أخذ المال من أحد كرها. وجوابنا انه انما خص النساء لما يحصل لهن من الاختلاط بالأزواج حتى يتوهم في مال أحدهما انه مال الآخر فبيّن تعالى أن ذلك لا يمنع من تحريم أخذ ما لهن من دون الرضا ولذلك قال (وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ) والمراد بذلك المنع من الطمع فيهن وعلى هذا الوجه حرم اللّه تعالى الخلع الا عند ضرب من الخوف على ما ذكره في قوله (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) كيف يصح ذلك، وانما يحسن أن يكره ما يكون قبيحا ولا يجوز أن يجعل اللّه تعالى في القبائح خيرا
كثيرا. وجوابنا أن المراد بالكراهة في هذا الموضع نفار الطبع لا الكراهة التي هي في مقابلة الارادة فذكر اللّه تعالى ذلك في كراهة النساء بأن يكون نافر الطبع عن عشرتها وبيّن إن ذلك إذا صبر عليه ربما حصل الخير الكثير في عاقبته لأن المرء قد يكره بعض النساء في وقت ثمّ يتفق فيما بعد أن يعظم محبته لهن وانتفاعه بهن فلا ينبغي لمن تزوج أن يقدم على ما يقتضيه نفار طبعه بل يتوقف ويتبصر لجواز تغير الحال عليه وعليهن فهذا هو المقصد واللّه أعلم. ويحتمل وعسى أن تكرهوا فراقهن ويكون في ذلك خير كثير على نحو قوله تعالى (وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) ولذلك قال تعالى (وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) وبيّن أن ما يؤتيهن من الصداق لا يحل له أن يأخذ منه شيئا.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله (وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وإِثْماً مُبِيناً) كيف يكون أخذه ما أعطاهن من الصداق بهتانا والبهتان من صفات الكلام فهو الكذب وجوابنا انه شبهه بالكذب من حيث كان أخذه كالنقض للعطية والخلف لها فعظمه اللّه تعالى بأن شبهه بالكذب الذي مخبره على خلاف ما هو به من حيث كان كالمتكفل بالعقد والدفع اليها بأن لا يأخذ ذلك فاما كونه إثما مبينا فبين، لان وصفه وتجليه وظهوره مبين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) كيف استثنى ما سلف من هذا النهي ومثل ذلك يستحيل لأنّ ما سلف لا يصح أن يباح ويحظر. وجوابنا ان النهي يتضمن التحريم واذا كان محرما بالشرع في المستقبل وما سلف جرى على حد الاباحة لم يمتنع ذلك فكانه قال ما نكح آباؤكم من النساء حرام عليكم
الا ما قد سلف فانه وقع مباحا ويكون المعنى صحيحا وقد قيل ان المراد به سوى ما قد سلف، كما يقول الرجل لمن ينهاه عن بيع متاعه بعد ان كان قد أذن له، لا تبع متاعي الا ما بعته ويحتمل أن يكون المراد الا ما قد سلف فلا تؤاخذون به وقوله بعده (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتاً وساءَ سَبِيلًا) يقوي التأويل الأوّل لانه كانه قال إن ذلك فاحشة دون ما سلف فانه ليس كذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وبَناتُكُمْ) أ ليس ذلك يقتضي اباحة سوى من ذكر لقوله وأحل لكم ما وراء ذلكم. وجوابنا أنه قد دخل تحت الأمهات كل من له حظ في الولادة وذلك معلوم بالاجماع وان كان نفس اللفظ لا يوجبه لأن الأم اذا أطلق فالمراد به من لها لولادة خاصة وعلى هذا الوجه لم يعقل من قوله تعالى (وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) الجدة فحرم اللّه تعالى على الانسان أمه وكل أم له بواسطة، وحرم عليه ابنته وكل ابنة له بواسطة، وكما حرم عليه ذلك حرم عليه الاخوات وأولادهن وان كان ذلك بواسطة، وحرم عليه بنات جده من العمات والخالات ولم يحرم أولادهن فجلة ما حرم من النساء لمكان النسب هذه السبعة وحرم بالنسب أيضا سبعة فحرم حليلة الابن وحرم أمهات نسائه وحرم بنات نسائه وهن الربائب بشرط الدخول بالأم، وحرم الجمع بين الاختين وحرم بالرضاع مثل ما حرم بالنسب فقد روى عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وان كان تعالى انما نص على الامهات والأخوات وقد ثبت بالسنة تحريم الجمع بين العمة وبنت أخيها والخالة وبنت أختها وأجرى ذلك مجرى الجمع بين الأختين فهذا هو طريق يبين ما حرم اللّه تعالى من النساء في عينهن وعلى وجه الجمع بين ما أحله من ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)
ان ذلك يدل على ان المتعة تحل كما يحل النكاح. وجوابنا ان من تعلق بذلك فقد اغتر بهذه اللفظة وانما أراد تعالى ان ما أحله من النساء محصنين غير مسافحين فله أن يستمتع ولم يذكر تعالى سبب الاستمتاع في هذه الآية وقد ذكر من قبل في قوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) فانما أباح الاستماع بشرط النكاح على ما ذكرنا ولذلك قال من بعد (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) وذلك لا يليق الا بعقد وقد ثبت فيه الاجر المسمى ولذلك قال (وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) يعني بنقصان وزيادة ولذلك قال (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) فكل ذا يزيل هذه الشبهة وانما ورد في الخبر المتعة وانه صلّى اللّه عليه وسلم أباحه في حال الضرورة ثمّ حرمه وقد حرمه اللّه تعالى في كتابه بقوله (وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) وظهر عن الصحابة تحريم ذلك فان عمر بن الخطاب خطب بتحريمه على المنبر وأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم متوفرون فصار ذلك كالاجماع وأنكر ذلك علي عليه السلام لما بلغه اباحة ذلك عن ابن عباس انكارا ظاهرا وقد حكى عنه رضي اللّه عنه الرجوع عن ذلك فصار حظره اجماعا من كل الصحابة وذكر تعالى عقيب هذه الآيات التي بيّن فيها ما يحل وما يحرم من النساء ما يريد من العبادة فقال تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ويَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ويَتُوبَ عَلَيْكُمْ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ واللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ويُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) فبين انه يريد الهداية والبيان والتوبة والعبادة دون اتباع الشهوات فأبطل بذلك قول من يقول إنه تعالى كما يريد الحسن يريد القبيح تعالى اللّه عن قولهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) كيف يصح أن يأكل مال نفسه بالباطل. وجوابنا ان اللّه تعالى ذكر الاكل وأراد سائر التصرف ويحرّم على المرء في مال نفسه أن يتصرف فيه بالامور المحرمة وأن يسرف في ماله ويبذر وأن يتجر فيه بالربا وغيره فهذا هو المراد فأما أكل مال الغير بالباطل فالامر فيه ظاهر ولذلك قال تعالى (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) كيف يصح النهي عن ذلك ومعلوم ان الانسان ملجأ الى أن لا يقتل نفسه. وجوابنا أن المفسرين حملوه على ان المراد أن لا يقتل بعضهم بعضا على حد قوله (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) وقد ذكر فيه أن المراد، وأن لا يتعرض المرء لاسباب التلف فيكون في حكم القاتل لنفسه على حد قوله (وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ويحتمل ان يكون المراد، بذكر القتل الهلاك ويكون معناه مفارقة المعاصي لأنها تؤدي الى الهلاك ولذلك قال تعالى بعده (إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ومَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) ثمّ بيّن تعالى بعده ما يدل على ان الكبائر لا تغفر فقال (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) فشرط تعالى في تكفير السيئات التي ليست كبائرا اجتناب الكبائر فدل بذلك على أن المؤاخذة تقع بها ولا تقع المغفرة بنفس الكبائر وهذا أحد ما يدل على أن أهل الصلاة فيما يفعلون من الكبائر اذا أصروا عليها يؤاخذون بها بالصغائر جميعا ودل قوله جل وعز (وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) أن تمني ما يكون حسدا يقبح وان الواجب على المرء أن يتمنى ما يدبر عليه في احوال الدنيا من نقصان وزيادة ولذلك قال (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) وفي الروايات ان العادة كانت في
الميراث وغيره أن يختص به الرجال في أول الاسلام فنزلت هذه الآية وعلم بها ان النساء كالرجال وأن لهن حقا في الميراث وفي سائر أسباب التملك ثمّ ذكر تعالى أن الواجب على المرء أن يسأل ربه ما يريده من الفضل في الدنيا ويعدل عن طريقة التمني، فلذلك قال (وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) كيف يصح ذلك وبالمعاقدة لا يرث المرء. وجوابنا أن ذلك قد كان في أول الاسلام ثمّ نسخ بآية المواريث كما قد كانوا يرثون بالهجرة ثمّ نسخ.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) كيف أوجب ذلك لأجل انه فضل بعضهم على بعض ولأجل انفاقهم لأموالهم فقد تكون المرأة أفضل من الرجل وأكثر انفاقا. وجوابنا أنه تعالى جعل ذلك علة في جملة الرجال لا في آحادهم لأن الغالب انهم أفضل في التدبير والرأي وطلب المعاش من النساء في أحوال كثيرة وانهم الذين يتولون الانفاق والعلة اذا صارت للجملة لم يطعن فيها بالأندر في الآحاد واللّه تعالى جعلهم بهذا الوصف في مقابلة انه جعل النساء حافظات للغيب على الرجال مؤتمنات على ما يتصل بتدبير المنزل فلكل فريق في ذلك من الحظ ما ليس للآخر.
[مسألة]
وربما قيل كيف يصح قوله تعالى (وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ) ومعلوم أن نشوزهن اذا زال بالوعظ لم يحسن الهجران والضرب فكيف جمع تعالى بين الثلاثة. وجوابنا أن المراد بذلك الترتيب لا الجمع فمن يؤمل زوال نشوز امرأته بالوعظ لم يحسن منه الهجران ومن يرجو ذلك بالهجران لم يحسن منه الضرب واذا لم يرج زوال ذلك إلا بالضرب على وجه التأديب يحسن منه ذلك، فكأنه تعالى قال فعظوهن واهجروهن اذ لم ينفع ذلك أو اضربوهن ان
لم يؤثر ذلك وانما صح ذلك لأن مراد المرء فيما يغمه من غيره أن لا يقع ذلك فاذا أمكنه التوصل الى أن لا يقع بالسهل لم يكن له أن يعدل الى ما فوقه وهكذا مذهبنا في النهي عن المنكر ومثل ذلك يتعلق حسنه باجتهاد المرء فكأنه تعالى بيّن أن الذي يحسن منه عند نشوز المرأة أحد هذه الثلاثة على الترتيب الذي ذكرناه ولذلك قال تعالى (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) فنبه بذلك على ان لا سبيل لكم عليها اذا أطاعت بالموعظة فدل بذلك على صحة ما ذكرناه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) بعد قوله (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) كيف تعلق ذلك بهذا النهي.
وجوابنا انه تحذير من هذا الفعل لأن معنى قوله ان اللّه كان عليا كبيرا انه مقتدر على المؤاخذة بما نهاكم عنه وكذلك قوله (كَبِيراً) فحذر تعالى من المخالفة بذكر هذين الوصفين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما) فما يدل ذلك على انه تعالى يفعل فيهما الموافقة وان فعلهما من خلق اللّه تعالى. وجوابنا ان التوفيق لا يكون الا من قبل اللّه تعالى وهو الأمر الذي يدعو العبد الى الصلاح فعند الشقاق أمر تعالى بالحكمين من قبل الرجل والمرأة ثمّ بيّن ان ذلك معني وأن بذل الجهد غير التوفيق من اللّه فليس الأمر كما قدروه بل يدل على ان فعل العبد من جهته لأنه لو كان من خلق اللّه تعالى فيه لاستغنى عن التوفيق ولذلك قال تعالى في هذا التوفيق ان من شرطه أن يريدا اصلاحا لا افسادا ليتخفف ذلك الواقع من قبله تعالى.
[فصل] ولما بين لنا ما نعامل به النساء عند الصلاح وعند النشوز وعند الشقاق بيّن، أيضا ما يلزم المرء أن يفعله لصلاح دينه فقال (وَ اعْبُدُوا اللَّهَ ولا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) وذلك يجمع كل العبادات والطاعات التي تختص به ثمّ قال (وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وبِذِي الْقُرْبى والْيَتامى والْمَساكِينِ والْجارِ ذِي الْقُرْبى والْجارِ الْجُنُبِ والصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وابْنِ السَّبِيلِ وما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يجمع تعالى بذلك الاحسان الى كل محتاج وان كان بعضهم أقرب الى المرء كنحو ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وملك اليمين وبعضهم أبعد كنحو اليتامى والمساكين وابن السبيل فأمر بالاحسان الى الكل ثمّ من بعد ذلك نبه المرء على طريقة التواضع فقال (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً) فهذه الآية جامعة لكل ما يحتاج المرء اليه فتدخل فيه العبادات بكمالها وضروب الاحسان والانفاق في سبيله والمنع من ضروب التكبر والعدول عنه الى التواضع فهو على اختصاره بجمع ما يدخل في المجلدات الكبار ثمّ قال تعالى (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ويَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) فجعل ذلك من صفات من يكون مختالا فخورا فنبه بذلك على ان الانفاق هو الذي يخرجه من أن يكون فخورا ومن أن يكون بخيلا فالذي يخرج من ذلك لا يكتم ما آتاه اللّه من فضله فيرى شكورا معترفا بنعم اللّه قولا وفعلا فكل ذلك تأديب من اللّه تعالى في باب الدين. وبين من بعد كيف ينبغي أن ينفق في ذات اللّه تعالى فقال (وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ولا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ومَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً وما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ وأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً) فرغب في ذلك حتى ختم الكلام بقوله جل وعز (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ويُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) فبين كيف يدبر المكلفين ولا يظلم أحدا منهم حتى يمنعه المصالح ويمنعه الثواب أو يزيد في عقابه وبين انه في الحسنات
يضاعف ثوابها وبيّن أنه يؤتى المرء الاجر العظيم على ما ينزل به من الشدائد ودل بقوله إنه لا يظلم مثقال ذرة على بطلان قول هؤلاء القدرية الذين يقولون لا ظلم الا من قبل اللّه وبخلقه وإرادته. تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا ثمّ بيّن تعالى أنه صلّى اللّه عليه وسلم يكون شاهدا على أمته بما يقع منهم من خير وشر فحذر بذلك من المعاصي وأن المرء اذا علم ان الرسول صلّى اللّه عليه وسلم مع عظم محله يشهد عليه كان أبعد من المعصية وبين أن شهادته تكون يوم القيامة وان (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) فيتمنون أن يبقوا في التراب وفي القبر لما رأوه من العذاب ويصيرون بحيث لا يكتمون اللّه حديثا حتى تشهد عليهم أيديهم وألسنتهم بما كانوا يعملون فلو لم يتدبر المرء الا هذه الآيات لكفاه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) كيف يصح ذلك والسكران لا يخاطب لزوال عقله. وجوابنا ان المراد المنع من السكر الذي لا يمكن اقامة الصلاة معه لا انه اذا سكر يؤمر وينهى هذا هو الوجه.
وروى عن بعض الصحابة انه جعل ذلك أول دلالة على تحريم الخمر ودل قوله (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) على ان الصلاة لا تصح إلا بقول فذلك احد ما يدل على وجوب الذكر والقراءة في الصلاة ويدل أيضا على ان المصلي يجب ان يكون عالما بصلاته وبقراءته متدبرا لها فلا يصلي وهو غافل ونهى تعالى الجنب ان يقرب الصلاة الا عابر سبيل حتى يغتسل فدل بذلك على انه متى لم يكن مسافرا لم تصح صلاته الا بالاغتسال ونبه جل وعز على انه اذا كان مسافرا يجوز ان يصلي بلا اغتسال بل بالتيمم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ) تنزيه القرآن (7)
(وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ) كيف يصح أولا ان يكون القرآن مصدقا لما معهم وكيف يصح في الوجوه ان ترد على أدبارها وذلك يخرجها من أن تكون وجوها. وجوابنا أن القرآن مصدق لكتبهم من حيث فيها البشارة بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ومخالفة شريعتهم لما في القرآن لا تمنع من أن يكون مصدقا كما أن ثبوت الناسخ والمنسوخ في القرآن لا يمنع من ذلك. فأما طمس الوجوه وردها على أدبارها فمن عظيم ما يخوف به المرء من المعصية ولم يقل تعالى انه بعد ردها على ادبارها تكون وجوها لهم ولو قيل ذلك كان لا ينكر لان صورة الوجه اذا لم تتغير اجرى عليه هذا الاسم وبين تعالى من بعد انه لا يغفر ان يشرك به والمراد الاصرار على الشرك ثمّ انه (يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) والمراد مع الاصرار واذا صح ذلك فانما أراد أصحاب الصغائر دون أصحاب الكبائر لقوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ والطَّاغُوتِ) وليس في اليهود من يعبد الصنم ويؤمن به فكيف يصح ذلك. وجوابنا انه ليس المراد بالجبت والطاغوت الأصنام بل المراد به الشيطان والسحرة على ما روي عن الحسن وغيره والمروي عن ابن عباس ان كعب بن الاشرف قال لقريش أنتم خير من محمد ووعدهم بمعونة عليه فقالوا له أنتم أهل الكتاب ولا نأمن ان يكون ذلك خديعة فان أردت أن نثق بقولك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل فنزلت هذه الآية «و قد قيل ان المراد به الكهنة والسحرة كقوله يريدون ان يتحاكموا الى الطاغوت» وبعد فليس في قوله (أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) انهم أهل كتاب لان كثيرا ممن بعث اليه موسى وعيسى صلّى اللّه عليهما وسلم يدخلون في هذا الوصف وان لم يؤمنوا فلا يدل على ما ذكروه وقد يقال لمن تبع طريقة من يعبدون الاصنام انه يؤمن بها كقوله تعالى (اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) لما اطاعوهم وكل ذلك يسقط هذه الشبهة.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ان ذلك يوجب تعذيب من لم يذنب أو تعذيب بعض من العاصي لم يكن بعضا له في حال الذنب ويوجب أيضا ان يصير الواحد من أهل النار على الايام في نهاية العظم بأن يخلق له الجلد حالا بعد حال وكل ذلك لا يحسن. وجوابنا ان المراد بهذا التنزيل انه تعالى يغير ذلك الجلد عن صورة الاحتراق الى صورة الصحة فيقال انه بدل وان كان الجلد ثانيا هو الذي كان أولا كما يقال في الماء انه قد تغير وتبدل اذا اذا صار ملحا بعد ان كان عذبا. وقد قيل ان اللّه تعالى يخلق جلدا بعد جلد ولا يوجب ذلك فسادا لان المعذب هو العاصي دون ابعاضه ويصح عندنا ان يعظم اللّه تعالى جسد أهل النار على ما روى في الخبر ويعذبون وهذا كما يذم ويلعن الكافر وان صار بعد كفره سمينا ولا يؤدي الى العظم الذي ينكر فانه تعالى كما يخلق جلدا بعد جلد يفنى ذلك حالا بعد حال ولذلك قال تعالى (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) فجعل ذلك عذابا لهم لا للجلد.
[فصل] وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) يدل على ان العبد هو الفاعل والا لم يكن لهذا الامر معنى ولا للوعظ فائدة اذا كان تعالى هو الخالق لرد الامانة وللحكم وأي نفع في هذا الوعظ ان كان مراده تعالى ذلك وأي تأثير بهذا الوعظ حتى يصفه بهذا الوصف وحتى يمن تعالى على عباده بذلك وكذلك قوله تعالى من بعد (أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) لا يصح الا اذا كان العبد هو المختار لفعله فيكون موافقا لما في الكتاب ولسنة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم
ولطريقة العلماء. وقد اختلفوا في أولى الامر منكم فمنهم من قال الامراء ومنهم من قال العلماء وقوله من بعد (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ) يدل على انهم الفاعلون لهذا الرد عند التنازع والا كان قوله (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ) لا يفيد اذا الفائدة في ذلك ان إيمانكم باللّه يقتضي امتثال أمره بهذا الرد وصف تعالى بعد ذلك المنافقين بانهم يزعمون انهم آمنوا باللّه والرسول ويريدون مع ذلك (أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) والمراد بذلك شيطان الانس أو الجن على ما تقدم ذكره ولذلك قال بعده (وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) كيف يصح ان يكلفهم قتل أنفسهم مع ان الانسان ملجأ الى ان لا يقتل نفسه. وجوابنا ان المراد قتل بعضهم لبعض كقوله تعالى (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) وعلى هذا الوجه تأوله المفسرون ويحتمل ان يكون المراد التعرض لاسباب الهلكة وقد يقال لمن يفعل ذلك انه قتل نفسه ولذلك قال بعده (وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) فنبه بذلك على ان الايمان منهم مما يصح ويصح خلافه وذلك يدل على ان ذلك فعلهم لانه لا يقال لمن لا يصح منه الا القيام فقط لو فعل القعود لكان خيرا له وبيّن من بعد حال المطيع بما يرغب نهاية الترغيب في الطاعة فقال (وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً) ثمّ رغب تعالى في الجهاد فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) ووصف
بعده حال المنافقين بقوله (وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً ولَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) ثمّ رغب تعالى في الجهاد وبيّن ان للمجاهد الثواب قتل أو غلب فقال (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ومَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) لان الذي يحصل له هو لتحمله المشقة لانه يقتل وقتل الكفار له مصيبة فبيّن انه سواء قتل أو غلب فله الثواب الجزيل على ما تحمله من الكلفة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) كيف يصح ذلك ان يحكى عن الولدان وهم لا يعرفون ربهم. وجوابنا انه تعالى ذكر جملة من يحب ان يهاجر ويتخلص من القرية الظالم أهلها والمراد بقوله ربنا أخرجنا من يصلح ان يقول ذلك كما يقال ان أهل البصرة معتزلة يقولون بالعدل والتوحيد ويراد بذلك كبارهم وان لم يفصل ولذلك قال (وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) ومثل ذلك لا يقع من الولدان فهو كقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) والمراد انه من تصح منه العبادة.
[مسألة]
وربما قالوا كيف قال تعالى (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ ولَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) ما فائدة ذلك وقد علم كل أحد ان آخر أمره الموت. وجوابنا انه تعالى بعث على الجهاد وبيّن ان المؤمن
يقاتل في سبيل اللّه والكافر يقاتل في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان ان كيد الشيطان كان ضعيفا. ثمّ بيّن ان من كتب عليهم القتال قالوا (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وبيّن ان حياة الدنيا قليل وان الآخرة خير لمن اتقى ثمّ بين ان الذي لأجله تحذرون الجهاد نازل بكم وان كنتم في القصور والبروج فلا وجه لرغبتكم عن الجهاد مع الثواب العظيم حذرا من ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أو ما يدل على ان الحسنات والسيئات من خلق اللّه. وجوابنا أن المراد بهذه الحسنة الخصب والرخاء وبهذه السيئة الشدة والأمراض فقد كانوا يقولون في مثل ذلك انها بشؤم محمد صلّى اللّه عليه وسلم ينفرون العوام عن اتباعه ولذلك قال تعالى عنهم (وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) والأمر يذهب في السيئات الى انها من عند غير المكتسب وغير اللّه يدل على ذلك قوله تعالى من بعد (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وأراد بذلك ما يفعله المرء من الطاعة والمعصية ولو لا صحة ما ذكرناه لكان الكلام متناقضا ولقالت العرب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنت تزعم في القرآن انه لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقد وجدنا ذلك وانما عدلوا عن هذا القول لأنّ المراد بالأوّل المصائب والأمراض وبالثاني المعاصي فأضافها الى نفس الانسان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا) كيف يصح أن يستثنى القليل وفضل اللّه ورحمته على الجميع وجوابنا أن هذا الاستثناء قد اختلف فيه فقال بعضهم انه راجع الى ما تقدم وهو قوله (وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) فكأنه قال أذاعوا به الا قليلا منهم وقال بعضهم هو راجع الى قوله (وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) الا قليلا وقال بعضهم هو راجع الى قوله (وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ) فكأنما كان يصح طعن هذا الطاعن لو لم يصح رجوع هذا الاستثناء الى هذا الوجه الآخر فأما اذا صح رجوعه الى الوجهين الأوّلين فقد زال الطعن ومع ذلك فانه يحتمل في هذا الفضل أن يكون المراد به باللطف في باب الدين فبيّن تعالى انه لو لا ذلك اتبعوا الشيطان الا قليلا فانهم مما لا لطف لهم واذا لم يكن لهم لطف لم يكن لفعل ذلك بهم معنى فهم يطيعون مع عدم هذا الفضل فهذا الطعن زائل على كل وجه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) ان ذلك يقتضي أنه المخصوص بتكليف الجهاد.
وجوابنا أن المراد أنه لم يكلف هو الجهاد الا في نفسه ولم يكلف جهاد غيره وانما كلف في غيره البعث على ذلك والأمر به ولذلك قال تعالى بعده (وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ) انه يدل على انه يضل الكافر. وجوابنا ان ذلك دليلنا لانه تعالى قال في المنافقين (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ واللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) فبين تقدم نفاقهم وبيّن نزول اللعن بهم ثمّ قال (أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا) وأراد هنا الثواب والمدح من أضل اللّه على ما تقدم من كفره وقد بيّنا ذلك في أول الكتاب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ
مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) أنه يدل على أن له أن يقتل خطأ. وجوابنا ان المراد ان ايمان المؤمن لا يثبت مع قتل المؤمن وقد ثبت مع قتل الخطأ فكأنه قال لا يصح وهو مؤمن أن يقتل مؤمنا الا أن يكون قتله خطأ ثمّ بيّن حكم قتل الخطأ في الكفارة وقد قيل أن المراد لكن أن قتله خطأ وأنه استثناء منقطع والأوّل أبين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) أ فما يدل ذلك على أن توبة قاتل العمد لا تقبل كما روى عن بعضهم. وجوابنا أنه تعالى قد قدر في العقول أن التوبة من كل المعاصي مقبولة وبيّنه أيضا في القرآن بقوله (إِلَّا مَنْ تابَ) في سورة الفرقان بعد تقدم ذكر الكفر والقتل والزنا، فالمراد اذا فجزاؤه جهنم ان لم يكن معه توبة بيّن ذلك قوله (وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ) ومعلوم من حال التائب انه حبيب اللّه وأنه لا يلعن ولا ينزل به الغضب من اللّه بل يناله الرضا من جهته.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) ما فائدة هذا التخصيص وهو عالم بسرائر القلوب. وجوابنا ان ذلك تهديد من اللّه تعالى واذا خص قلوبهم بالذكر كان أقوى ولا يمنع من كونه عالما بكل شيء اذ العادة جارية في الوعيد أن يخص كقول القائل لوكيله احذر مخالفتي فاني عالم بما تأتيه.
[مسألة]
وربما قيل ما فائدة قوله تعالى (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ). وجوابنا أن ذلك كالدفع لتقدير من يقدر أن المراد في اكتسابها للطاعات ناقصة عن الرجل كنقصان حظها في الميراث فبيّن تعالى ان حالهم في الآخرة لا تختلف فلذلك قال من بعد (وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) فبيّن أنه في مصالحهما لا يتغير ما يفعله كما لا يتغير ما يستحقانه من الثواب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) لما ذا كرر والمراد واحد ولما ذا قال (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) ولم يقل بهما.
وجوابنا ان من المعاصي ما يكون خطأ ومنها ما يكون عمدا فالاثم لا يكون إلا عمدا والخطيئة قد تقع وهو غير عالم بها وذلك نحو أن يأكل ويعلم أنه صائم وأن يأكل ولا يعلم ذلك وان كان في الأمرين قد يكون عاصيا فلذلك ذكرهما تعالى ومعنى قوله (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) أي يرم بذلك فأشار إلى ما تقدم فلذلك لم يقل بهما.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) كيف يشهد على نفسه. وجوابنا أن المراد بذلك ليس الشهادة التي تؤدى بل المراد المعرفة بما يأتي ويذر فأوجب أن يعرف من نفسه ما يكون معروفا وما يكون منكرا فيتركه ويتوب كما ينكر ذلك على غيره ولذلك قال بعده (أَوِ الْوالِدَيْنِ والْأَقْرَبِينَ) (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) وتوعدهم بقوله (وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ) كيف يصح ذلك. وجوابنا ان المراد من آمن فأمره اللّه أن يدوم على ذلك ويثبت عليه في المستقبل ويحتمل أن يريد مجموع ما ذكره في قوله (آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ والْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ والْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) ان مجموع ذلك ربما لا يحصل للكثير من المؤمنين ولذلك قال بعده (وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ) فتوعد بكل ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ)
(بَعْلِها نُشُوزاً) هلا قال علمت وذلك مما يعلم. وجوابنا ان النشوز من الزوج وان ظهر فان ذلك يبدو منه لا محالة ولا يعلم وانما يخاف ولا جل ذلك يستحب الصلح فلذلك ذكر اللّه تعالى الخوف دون العلم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) كيف يصح ذلك والكثير منهم مات على كفره. وجوابنا انه خاص بقوم منهم ويحتمل أن يكون المراد عند المعاينة يعرفهم اللّه تعالى ذلك ويؤمنون به وان كانوا ملجئين الى ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) كيف يصح لاجل ظلمهم ان يحرم عليهم ولهم في اجتناب ذلك ثواب وهو نفع لهم فكيف يعاقبون به. وجوابنا ان المراد ان عند ظلمهم كان الصلاح تحريم ذلك الا انه عقوبة لان التكليف نعمة وليس عقوبة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ والْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) كيف قال تعالى بعده (وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) وذلك لا يجوز في اللغة. وجوابنا ان بعضهم قال هو نسق على ما التي في قوله بما أنزل اليك فكانه قال انهم يؤمنون بما أنزل اليك وبالمقيمين الصلاة وقيل أيضا قال بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك وبالملائكة المقيمين الصلاة وقيل كانه قال ويؤمنون بالمقيمين الصلاة وقيل كانه قال وباقام الصلاة وقيل لما طال الكلام نصب المقيمين على وجه المدح.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أ ليس ظاهر الآية أنه يخص من
يشاء بالتزكية. وجوابنا أن التزكية من اللّه هي المدح والثناء وذلك لا يكون الا من قبله أو بأمره.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ) أ ليس يدل على أنه يضل وأنه لا سبيل لمن ضل الى الهدى. وجوابنا ان المراد من أضله اللّه عن الجنة لا يصح أن يهديه الى الجنة والثواب وقد حكم عليه بالعقاب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) أنه يدل على أن يسلط الكفار على المؤمنين. وجوابنا أن المراد به لو شاء لفعل لكنه لا يفعل لقبحه وذلك جائز عندنا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) ان ذلك يوجب انه تعالى جسم يحيط بالأشياء. وجوابنا ان المراد به إحاطة العلم لقوله تعالى (وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ) كيف يصح ذلك وقد أمرنا أن نعدل بين النساء. وجوابنا أن المراد بذلك أن نعدل بينهن في الشهوة والمحبة لا فيما يتصل بالنفقات والقسم وغيرها وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم انه قال هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك فانه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقسم الليالي بين نسائه على السواء لكنه فيما يرجع الى شهوة القلب كان لا يمكنه التسوية لان الشهوة من قبل اللّه تعالى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ولا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا). فبيّن انه لا سبيل لهم الى
ترك الكفر وهذا خلاف قولكم ان اللّه تعالى قد مكن وأزاح العلة. وجوابنا أن المراد انه لا يغفر لهم في الآخرة ولا ليهديهم سبيلا الى الثواب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) ان ظاهره يدل على انه منعهم من الايمان.
وجوابنا ان المراد بالطبع والختم قد فسرناه وانه علامة وليس يمنع ولذلك قال تعالى (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) ولو كان منعا فمنع القليل كما يمنع الكثير وربما قيل في قوله تعالى (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) انه قال بعده (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) فدل بذلك ان الايمان من فعله.
وجوابنا انا نقول في الايمان انا وصلنا اليه باللّه تعالى وبفضله وألطافه. وبعد فليس في الظاهر ما قالوه بل المراد فمنّ اللّه عليكم بالأدلة والبيان وإرسال الرسل وذلك صحيح.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ولا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) كيف يصح أن يهديهم الى طريق جهنم والهداية لا تكون الا في المنافع.
وجوابنا ان ذلك مجاز فشبه ذلك بالهداية الى الثواب لما كان طريقا اليها ويحتمل أن يريد لكن يسوقهم الى جهنم فيكون في حكم المبتدأ من الكلام.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) ما الفائدة في اثنتين وقد عرف ذلك بقوله كانتا. وجوابنا إنه كان يجوز أن يقال بعد قوله كانتا صغيرتين أو صالحتين الى غير ذلك من الصفات فأفاد بقوله اثنتين ان المراد العدد وذلك فائدة صحيحة.
سورة المائدة
[مسألة]
وربما سألوا في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) كيف يليق بذلك قوله من بعد (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ). وجوابنا أن قوله عز وجل أوفوا بالعقود قد دخل تحته عقد التكليف كما يدخل تحته العقود في المعاملات وغيرها فجعله تعالى مقدمة لذكر التعبد فلذلك قال (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ثمّ بين بعده ما حرمه من الميتة والدم وغيرهما ومثل ذلك يعظم موقعه من الحكيم اذا قدمه امام أمره ونهيه كما يحسن من أحدنا أن يقول لولده التزم عهدة البر فمن سبيلك أن لا تخالفني في كيت وكيت فالكلام متسق والحمد للّه وقيل ان تقدير الكلام كأنه قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يا أيها الذين آمنوا أحلت لكم بهيمة الانعام فعلى هذا الوجه يكون الكلام أبين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ولَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) كيف يصح أن يحل الأماكن والأوقات. وجوابنا ان المراد لا يحل ما حرم في هذه الاماكن والاوقات فلا يجري ذلك مجرى الأمور التي يحل التصرف فيها مطلقا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) كيف يصح ذلك ولم يكن الدين من قبل ناقصا اذ لا يجوز أن يقال كان دينه صلّى اللّه عليه وسلم قبل ذلك اليوم ناقصا. وجوابنا أن المراد الكمال الذي لا يتغير
بعده ولا ينسخ ويقال انه آخر ما أنزله اللّه على الرسول. والدّين وان كان كاملا في كل وقت من حين بعثه اللّه تعالى فقد يصح فيه الزيادات في الادلة وفيما يلزم المرء يبين اللّه تعالى استقرار ذلك وكذلك قوله تعالى بعد ذلك (وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أن المراد انه استقر حتى لا يتغير لا انه كان من قبل غير مرضي وقد يكون الشيء كاملا مرضيا وهو أنقص من شيء آخر كامل وعلى هذا الوجه فقول في الايمان والاسلام والدين انها تزيد وتنقص وعلى هذا الوجه يكون دين المسافر كاملا وان قصر في الصلاة وأفطر في الصيام كما يكون دين المقيم كاملا وكذلك القول في الغني والفقير.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ والْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ والْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) كيف يصح ذلك وقد كان قبل ذلك اليوم حلالا وكيف يصح ذلك وقد أكمل اللّه تعالى الدين من قبل. وجوابنا أن في جملة ما أحله اللّه ما لا يعلم الا بالشرع وهو نكاح الكتابيات وعلى هذا قال الفقهاء ان بذلك نعلم إباحة نكاحهن حتى قال بعضهم ان ذلك ناسخ لقوله تعالى (وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) وقال بعضهم بل هو مخصص فلما كان ذلك في جملة ما أحله اللّه تعالى جاز أن يقيده باليوم.
وبعد فقد يقال اليوم أحل كذا وأن كان حلالا من قبل وهذا هو اليوم الذي ذكر اللّه تعالى انه أكمل فيه الدين فذلك داخل تحت الدين هذا هو مذهب أكثر القدماء وقد قال بعضهم إن المراد بقوله (وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من أسلم منهن ولم يجوز نكاحهن وهن على كفرهن والقول الاول أبين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ
فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) كيف يصح الكفر بالايمان وانما يكفر المرء باللّه تعالى.
وجوابنا ان المراد جحد الايمان فان من جحده فقد غطاه فشبه ذلك بالكفر الذي هو التغطية كما يقال يكفر بالسلاح وعلى هذا الوجه قال تعالى في آية الحج (وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ويقال ان فلانا كفر بالصلاة وكفر بالنبي والمراد ما قدمنا لكنه لا يطلق ذلك الا في جحد هذه الشرائع أو الجهل بها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ومِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وأَطَعْنا) كيف يصح ذلك والمكلف منا ومن غيرنا لا يذكر ذلك ويعلم ان القول لم يقع منه قبل التكليف. وجوابنا ان ذلك أمر من اللّه تعالى أن يذكروا ذلك والذكر هو العلم بما يتجدد من النعم حالا بعد حال ونفس العلم ربما علم باضطرار وان كان انما يعلم انه من نعم اللّه باستدلال فأما الميثاق من اللّه تعالى فهو العلم بما أودع في العقل من التكليف ولا عاقل الا ويقر بانه يقبح منه الظلم القبيح فيجب عليه الانصاف وغيره فهذا هو المراد ولذلك قال بعده (وَ اتَّقُوا اللَّهَ) يعني فيما ألزم وكلف (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) وقال قبله عند ذكر التيمم (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) فدل تعالى بذلك على انه لم يضيق على المكلف بالطهارة والماء معوز بل وسع فألزم التيمم بالموجود من التراب فكيف يصح مع ذلك أن يقال انه تعالى يكلف المرء الايمان وسائر الطاعات وهو لا يطيقه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) ان ذلك يدل على انه تعالى يخلق قسوة القلوب وسائر المعاصي. وجوابنا ان قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) دلالة على انهم نقضوا وأنه لاجل ذلك لعنهم فجعل قلوبهم قاسية ولا يصح ذلك الا والكفر قد تقدم منهم واذا صح ذلك وجب حمل
قوله (وَ جَعَلْنا) على ان المراد حكمنا بذلك كما يقال جعلت الرجل بخيلا اذا سألته فظهر بخله ويحتمل ان يريد تعالى أنه جعل قلبهم على صفة يحتاجون معها الى مزيد تكليف في الطاعة ومثل ذلك يكون من قبل اللّه تعالى كما تقول في الجبن والشجاعة والذكاء والبلادة ولفظة الجعل وان دلت على الفعل فقد يراد بها غير ذلك كقوله تعالى (وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) والمراد اعتقدوا ذلك فسموهم وكقوله في القصاص (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) والمراد حكمنا بذلك وقد قيل ان المراد به انا خليناهم وقد يقال للرجل اذا ترك ان يعمر أرضه قد جعله خرابا واذا لم يؤدب ولده يقال قد جعله فاسدا الى غير ذلك ولو لا صحة ما ذكرناه لما قال بعده (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ونَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) فذمهم على ذلك.
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز أن يقول تعالى (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ والْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) واللّه تعالى لا يغري بالعداوة ولا يبعث عليها. وجوابنا أن اللّه تعالى ذكر بني اسرائيل ووعدهم بشرط أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بالرسول ثمّ قال (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) ثمّ قال (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) ثمّ قال من بعد (وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) ثمّ قال (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ) لما لم يتمسكوا بالميثاق والمراد بذلك انه خلاهم عن الالطاف التي لو تمسكوا بطاعة اللّه لكان يفعلها بهم فلما لم يتمسكوا بها لم يكن ذلك اللطف لطفا لهم فجائز أن يقال أغرى بينهم وهذا كقوله تعالى (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) لما لم يلطف بهم وهذا كما يقال فلان يرسل كلبه اذا لم يمنعه وقد قيل ان ذم اليهود والنصارى على التثليث وذم النصارى لليهود على تكذيب عيسى مما يحسن فاذا أغرى تعالى بينهم في ذلك حسن وعلى هذا
الوجه يحسن من أحدنا معاداة الكفار ويحسن من الكافر الذي يعبد الصنم معاداة المبتغى للشبهة معاداة عابد الصنم ومثل هذه المعاداة ربما تكون لطفا في التمسك بالحق.
[مسألة]
وربما سألوا في قوله تعالى (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) فقالوا كيف خص هؤلاء بأن يهديهم بالقرآن.
وجوابنا لانهم اذا اختصوا بقبوله جاز أن يخصهم كما ذكرناه في قوله تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) ان ذلك يدل على أن ترك الكفر وفعل الايمان من قبل اللّه تعالى. وجوابنا أن الظاهر أن الكتاب الذي هو القرآن يخرجهم من الظلمات الى النور باذن اللّه ومعلوم انه لا يخرج في الحقيقة عن الكفر الى الايمان وإنما يقال ذلك لما كان سببا لإيمان الكافر فأما قوله باذنه فالمراد انه بأمر اللّه وعلمه وذلك صحيح لانه تعالى ألزم أمر الايمان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) كيف يصح ذلك وليس في النصارى من يطلق ذلك. وجوابنا ان من يقول منهم بأن اللّه تعالى اتخذ المسيح فصار لاهوتا بعد ان كان ناسوتا وانه يحيي الموتى وانه يلزم عبادته فهو قائل بهذا القول في المعنى ولذلك قال تعالى بعده (وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ) فنبه بذلك على أن المراد ما ذكرناه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) كيف يصح تحريم الجنة عليهم ولا اختيار لهم تنزيه القرآن (8)
فيها. وجوابنا ان ذلك يقال فيما يقع للناس فيه من المنافع تشبيها بما يلزم المرء أن يتجنبه من المحرمات وذلك معقول في اللغة والتعارف ولذلك قال تعالى بعده (وَ مَأْواهُ النَّارُ وما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ونبه بذلك على ان من يستحق العقاب والنار لا ناصر له.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) كيف يصح ذلك وليس في النصارى من يقول هذا القول بل يقولون الاله واحد لكنه يوصف بأنه ثلاثة أقانيم أب وابن وروح القدس. وجوابنا انه تعالى لم يحك عنهم انهم يقولون ثالث ثلاثة آلهة، بل قال انهم يقولون ثالث ثلاثة وهو معنى قولهم اذ أثبتوا ابنا وأبا وروحا قديمات وعلى هذا يقول في هؤلاء المشبهة انهم يثبتون معبودهم ثالثا ورابعا وعاشرا اذا قالوا ان معه علما وقدرة وحياة قديمة ولا معتبر بالعبارات في ذلك ولو لم يصح ما ذكرناه لقطعنا على انه كان فيهم من يقول ذلك ولم نعلمه ولذلك قال بعده (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) كيف يصح أن يقول ذلك وقد كان في زمانه مثل يوشع بن نون وغيره مما صار نبيّا.
وجوابنا (إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وأَخِي) أراد ملكا مخصوصا حتى يجري أخاه مجرى نفسه في كل وجه ولم يكن ذلك حال غيرهما فلا يصح ما ذكرته.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) كيف يصح أن يبقوا يتيهون فيها هذه المدة الطويلة وعلى ما يقال تلك البقعة انما هي فراسخ قليلة. وجوابنا ان ذلك جائز في قدرة اللّه تعالى بأن يكونوا اذا قربوا من الطرف يحول اللّه تعالى
الطرف وسطا فيكون حالهم أبدا وكذلك جائز في أزمان الأنبياء فيكون معجزة لهم ويجوز أيضا ان تتغير دواعيهم ومقاصدهم حالا بعد حال بأن يكون تعالى يطرح قلوبهم بأن يصرفهم عن الخروج عن التيه والتحير فيه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وإِثْمِكَ) كيف يجوز أن يقول هابيل هذا لقابيل والاثم يختص هو به في قتله أو ليس ذلك يدل على ان من ليس بعاص قد يلحقه اثم العاصي. وجوابنا ان الذي فعله به من القتل لما كان متعلقا بهابيل جاز أن يقول ذلك وكانه قال (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي) يعني قتلي واثمك يعني سائر ما فعلته حتى وصلت الى قتلي وقد قيل كيف يصح أن يريد ذلك وهو قبيح. وجوابنا ان المراد ارادته للذم والعقاب لا لنفس القتل الذي هو معصية ولذلك قال بعده (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) فكأنه أظهر انه مريد لوقوعه في النار من حيث فعل ذلك ليصرفه عن هذا القتل بهذا القول.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) أ ليس ذلك يدل على ان نفس الانسان سوى شخصه وهو يطيعها فيما يفعل. وجوابنا ان مثل ذلك قد يطلق في اللغة فيقال أطاعه نفسه وعصت فيمن يتبع الهوى والشهوة أو يخالف فلا يدل على ما قاله ولذلك قال تعالى (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) ولم يقل فأصحبت نفسه خاسرة.
[مسألة]
وربما قيل كيف خفي عليه بعد قتله له أن يدفنه في الأرض حتى ينبه على ذلك بما بعثه اللّه تعالى من الغراب فأراه ذلك.
وجوابنا ان ذلك كان ابتداء القتل والموت لا تمتنع الشبهة فيه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ)
(أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) هو كيف تصح التسوية بين من يقتل الواحد ومن يقتل الخلق جميعا وذلك بعيد عن متعارف الشرع وطبيعة العقل. وجوابنا ان بيان عظم هذا القتل في العقاب وانه من حيث يقتدي به ويسهل سبيل القتل وغيره عظم اثمه كما قال صلّى اللّه عليه وسلم من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة (فان قيل) أ فتقطعون على ان من قتل هذه النفس فعقابه كعقاب من قتل الناس جميعا (قيل له) ذكر اللّه تعالى ذلك في بني اسرائيل خاصة فلا يمنع مثل ذلك فيهم وان لم يجب في غيرهم لان عظم المعاصي يختلف بالاوقات واختلاف الأحوال ويحتمل أن يراد به فكأنما قتل الناس جميعا في عظم ما فعل، وان لم يبلغ ذلك الحد في العقوبة لأن الظاهر لا يدل الا على هذه الجملة. ومتى قيل فما معنى قوله تعالى (وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) وذلك ليس في مقدور أحد. فجوابنا ان المراد التخليص من القتل والهلاك وذلك يعظم في الواحد كما يعظم في الجماعة (فان قيل) أ ليس يدل على قوله تعالى (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) على انه ندم والندم توبة.
وجوابنا انه لم يندم من حيث انها معصية وقبيح. بل ندم لما افتضح وكان ظن ان ذلك يخفى فلما ظهر قتله ندم لشيء يخصه.
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله تعالى (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ) وكيف يصح أن يحاربوا اللّه. وجوابنا ان المراد محاربة أنبيائه فقدم ذكره تعالى تعظيما لذلك وبين ان من عادى رسله وحاربهم، فقد عادى اللّه تعالى فنبّه بذلك على عظم هذا الفعل وفخامته والمراد بالمحاربين من ذكره العلماء من الكفار والمفسدين في الصحارى والبلاد ثمّ بيّن ان حكمهم فيما يأتون من القتل وأخذ الاموال لا يخرج عما ذكر تعالى من أن (يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ)
(أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) فيلزم ذلك فيهم بحسب جناياتهم ولذلك قال تعالى أولئك (لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ولَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وبيّن أن من تاب قبل القدرة عليه فهذه الاحكام عنه زائلة فيما كان من حق اللّه تعالى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) كيف يصح وهم ملجئون الى أن لا يفعلوا القبيح وارادتهم ما حكم اللّه تعالى بخلافه تقبح. وجوابنا ان لعلماء التوحيد في ذلك جوابين (أحدهما) أنه يصح أن يريدوا ذلك ويحسن وان كان اللّه تعالى لا يفعله وعلمهم بأنهم لا يخرجون من النار لا يمنع من حسن ذلك لو وقع.
فهذا القائل يحسنه على ظاهره (و الثاني) ان المراد انه يقع منهم ما يقع من المريد في دار الدنيا فوصفهم تعالى بالارادة لاجل ذلك ولذلك قال تعالى بعده (وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) كيف يصح ذلك في المنافقين واليهود وقد أراد اللّه عز وجل عندكم تطهير قلوب الخلق المكلفين من الكفر والمعاصي ومن قبل ذلك (وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً).
وجوابنا ان الفتنة قد يراد بها التشديد في التكليف وقد يراد بها العقوبة واللّه يريد كلا الأمرين فأما تطهير القلب فالمراد به انه عز وجل علم أن لا لطف لهم حتى يريده فيصير صارفا لهم عن المعاصي ويحتمل أنه لقي قلوبهم ليس عليهم سمة الايمان كما قال تعالى (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ).
[مسألة]
وربما قيل كيف يصح قوله (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ومعلوم ان كثيرا منهم ليس بكافر عندكم وقد كرر اللّه تعالى ذلك فقال مرة هم الكافرون وأخرى هم
الظالمون واخرى هم الفاسقون وجوابنا ان المراد به اليهود لان هذه الآيات واردة فيهم ولأنه تعالى قال بعده (وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وذلك صفة اليهود وهم كفار وقد قيل فيه ان المراد به من لا يحكم بما أنزل اللّه مستحلّا له وقيل ان المراد ومن لم يحكم بشيء مما أنزل اللّه فلا يلزم ما قالوه وان تعلق بذلك الخوارج فلم يصح لأكثرهم ففيهم من لا يقول بأن من لم يحكم بما أنزل اللّه يكون كافرا اذا كان صغيرا أو كان على التأويل أو على السهو فلا بد من أن يرجع الى ما ذكرناه من التأويل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً ونُورٌ ومُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) كيف يصح ذلك وشريعة عيسى مخالفة لشريعة موسى. وجوابنا أن وقوع النسخ في الشرائع لا يخرجها من أن تكون متفقة كما أن اختلاف الشرع في الغني والفقير والمقيم والمسافر لا يخرج الشرع من أن يكون متفقا، لأن كل شيء من ذلك صلاح في وقته وعلى هذا الوجه بيّن تعالى في القرآن أنه مصدق للتوراة والانجيل والزم رسوله اذا حكم بينهم أن يحكم بالقرآن وأن لا يتبع أهواءهم التي هي بخلاف القرآن. وبيّن بعد ذلك بقوله (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً) أن الذي يجمع الكل في كونه مصلحة يخرجه من أن يكون مختلفا بل يكون بعض مصدقا لبعض ولذلك قال تعالى بعده (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فجعل اختلافهم ثابتا في المذاهب التي هي مخالفة للحق لا في الشرائع الحقة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ والنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) كيف يصح مع الذي بينهما من المعاداة. وجوابنا انه تعالى لم يعين البعض وبعض من النصارى
أولياء بعض منهم وكذلك بعض اليهود ومع ذلك فاليهود والنصارى يتولى بعضهم بعضا فيما يتفقون عليه من التكذيب لشريعة نبينا صلّى اللّه عليه وسلم ولذلك قال بعده (وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فنبه بذلك على أنه أراد بالتولي الاجتماع على ما ذكر وذكر بعد ذلك أحوال المنافقين الذين يتولون الكفار في الباطن فقال (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) وبين طريقهم مع المؤمنين وانهم يقولون (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) ثمّ بيّن بعد انهم سيندمون اذا ظهرت النصرة من اللّه تعالى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم (عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ومعلوم من حال المؤمن انه يعز المؤمن ويعظمه ويتولاه. وجوابنا أن مراده تعالى بيان ما يحصل بهم من القهر والغلبة للكفار وما يحصل لهم من اللين والخضوع للمؤمنين فوصف ذلك بالعزة وهذا بالذلة، وهذا كما يقال لمن يخضع لغيره انه يذل له ويذلل ولذلك قال تعالى بعده في وصفهم (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) وبيّن تعالى ان جهادهم على هذا الوجه فضل من اللّه من حيث يوفق لذلك ومن حيث يؤديهم الى النعم العظيمة من الثواب. وبيّن بعده عز وجل بقوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ) صفة من يتولى المؤمنين وأنه تعالى يتكفل بنصرتهم وغلبتهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ والْخَنازِيرَ وعَبَدَ الطَّاغُوتَ) كيف
يصح وصف من تقدم ذكره من أهل الكتاب والمنافقين بذلك ولم يكن فيهم من يعبد الطاغوت. وجوابنا انه تعالى قد ذكر من قبل أهل الكتاب بقوله (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) فلا يمتنع أن يرجع هذا الوصف اليهم ويحتمل في الطاغوت أن يراد به شياطين الانس والجن فقد كان فيهم من يضل العوام ويدعوهم الى الكفر ومن يطع هؤلاء يسمى عابدا له كما قال تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) لما أطاعوهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) كيف يصح ذلك وليس فيهم من يقول هذا القول لا على ظاهره ولا على وجه التخيل. وجوابنا ان في التوراة أن قوما منهم كانوا يستبطئون الرزق من جهة اللّه تعالى وينسبونه الى البخل ففيهم نزلت هذه الآية. فبيّن تعالى ان يده مبسوطة العطاء والافضال والرزق لكنه ينفق كيف شاء بحسب المصلحة، ولم يرد تعالى بذكر اليدين الجارحة ولا صفة مجهولة كما يذهب اليه المشبهة بل أراد تعالى النعم وانما ثنى ذلك لأنه أراد نعم الدنيا والدين والنعم الظاهرة والباطنة ولو أراد تعالى الجارحة لم يكن لذكر البسط والانفاق معنى لانه لا يثبت التكذيب في قولهم الا بالانفاق، فزال ما نسبوه اليه من البخل وليس للجارحة في ذلك مدخل.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ والْإِنْجِيلَ وما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) وكيف يكون الاكل على هذا الوجه.
وجوابنا أنه تعالى في كثير من القرآن يذكر الاكل ويعني سائر وجوه الانتفاع نحو قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) ومعلوم من حال الانتفاع انه يكون سببه ما ينزل من السماء وما ينبت من الأرض وعلى هذا
الوجه قال تعالى (وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وما تُوعَدُونَ) فكنّى تعالى عن ذلك بهذين الحرفين اللذين يجمعان كل المنافع. ثمّ بيّن تعالى ان منهم أمة مقتصدة وهم الذين أسلموا وسلكوا طريق الحق من قبل فنبّه بذلك على ان كل أهل الكتاب ليسوا بالصفة التي ذكرها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) معلوم انه اذا لم يبلغ الرسالة فما فائدة التكرار. وجوابنا ان المراد بقوله بلغ ما أنزل اليك من ربك هو القرآن. وبيّن انه ان لم يبلغ القرآن لا يكون قد بلغ الرسالة أجمع فليس ذلك بتكرار بل هو تنبيه على ان في جملة ما حمل من الرسالة ما لا ينطق القرآن به ومتى لم يبلغ القرآن لم يتم ابلاغ الرسالة أجمع، فالفائدة في ذلك عظيمة ولذلك قال تعالى بعده (وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فأزال عن قلبه الخوف من ابلاغ كل الرسالة وعلى هذا الوجه نقول ان الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لا يجوز أن يكتم شيئا من الشرائع ولا ان يغير. وبين بأنه تزال عنه سائر الموانع في ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصَّابِئُونَ والنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ) كيف يصح ذلك فكأنه قال ان الذين آمنوا من آمن منهم. وجوابنا ان قوله تعالى (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) يرجع الى الذين هادوا الى الصابئين والنصارى دون المؤمنين فالكلام مستقيم، فكأنه قال ان الذين آمنوا ومن آمن من اليهود والنصارى والصابئين وعمل صالحا وبعد فلو رجع الى الكل لكان المراد الايمان في المستقبل فكأنه قال ان الذين آمنوا من ثبت على ايمانه في المستقبل واستمر عليه وعمل صالحا فيستقيم الكلام.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ)
كيف يصح ذلك ومعلوم من حالهم انهم ماتوا ولم يمسهم من العذاب ما ذكره تعالى. وجوابنا أنه أخبر عن المستقبل ولم يذكر اللّه ان ذلك يمسهم في الدنيا.
فالمراد انه يمسهم ان ثبتوا على الكفر العذاب الأليم في الآخرة وان تابوا أزال ذلك عنهم وقد قيل ان المراد بذلك ما ينالهم من الذل والجزية وغيرهما لان ذلك صغار وعذاب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) ما الفائدة في ذلك. وجوابنا انه بيّن بذلك أنه رسوله لا معبود ولا إله لان من جاز ذلك عليه واحتاج الى الطعام لا يجوز أن يكون إلها معبودا. فبيّن بذلك بطلان قول النصارى ولذلك قال بعده (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ثمّ قال بعده أيضا (قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولا نَفْعاً) ثمّ قال بعده (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وأَضَلُّوا كَثِيراً وضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) وكل ذلك يبين صحة ما قلنا وعظم تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله جل وعز (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) الى آخر الآيات ثمّ عظم اثم من يتولى أعداء اللّه بقوله جل وعز (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) ثمّ قال تعالى (وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ وما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) فدل بكل ذلك على ما يجب من تولي المؤمنين ومعاداة الكافرين والفاسقين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) كيف يصح ذلك وما يستحقه من الاثم في اليمين أو في الحنث لا يزول بذلك.
وجوابنا ان لهذه الكفارة حظا في التكفير وان لم يزل الكل فلذلك سمي بهذا الاسم لا انه اذا فعلها لاجل يمينه وحنثه زال كل عقابه بل خففه فلذلك يحتاج الى التوبة ليقطع بها على زوال العقوبة لان قدر تأثير الكفارة غير معلوم وقد يقال ان ذلك كفارة لا لانها تكفر الاثم، وعلى هذا الوجه يكون كفارة في عظم الامور ويكون كفارة فيما هو طاعة أيضا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها واللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) كيف يصح المنع من المسألة والتكفير وهي تعرف بحال ما سأل عنه السائل. وجوابنا أن المسألة في باب الدين تعرف الحق لا ينكر وليس هذا هو المراد بل المراد المسألة على وجه التعنت لقوله تعالى (وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الآيات فان ما جرى هذا المجرى يقبح وربما عظم حتى بلغ حد الكفر اذا اقترن به القدح في النبوّة وبين تعالى بقوله (ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ولا سائِبَةٍ ولا وَصِيلَةٍ ولا حامٍ) وبقوله (وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) ان كل ذلك من فعلهم ولو كان ما فعل العبد مخلوقا من جهة اللّه لما صح ذلك وبين بقوله (وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ان تقليد الآباء وغيرهم في باب الدين جرم عظيم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ان ذلك يوجب أن يتشاغل المرء بنفسه ولا يفكر في حال غيره فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر. وجوابنا ان الأثر المروى عن ابي بكر الصديق في ذلك هو الجواب، فانه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ان الناس اذا رأو الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم اللّه بعقاب. فبين ان منع الغير من الظلم والمنكر من الواجبات على من يتمكن فيضره اذا لم يمنعه والمراد بذلك ان أحدا لا يؤخذ بذنب غيره واذا لم يؤخذ فكيف يؤاخذ اللّه تعالى بما يخلقه فيه فيوجبه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا) كيف يصح منهم هذا القول وقد علموا بما ذا أجابهم من دعوة الى الدين من الأمم. وجوابنا ان المراد لا علم لنا الا ما أنت يا رب به أعلم ولذلك قال بعده (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ويحتمل أنهم قالوا لا علم لنا بباطن أمورهم لأنهم انما يعلمون الظاهر واللّه تعالى هو العالم بباطن ما فعلوه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) كيف يجوز من الحواريين أن يحملوا قدرة اللّه تعالى على ذلك.
وجوابنا انهم ذكروا الاستطاعة وأرادوا نفس الفعل ولذلك (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) ولذلك صار جواب قولهم أن عيسى عليه السلام قال (اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) ولو كان مرادهم القدرة فقط ما كان لذلك معنى. ويحتمل أن يكون المراد انزال مائدة تكون مصلحة للكل لأن ذلك ربما لم يدخل تحت القدرة كما نقول في باب الألطاف ولذلك قال تعالى بعده (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ)
(مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كيف يصح ذلك وعيسى لم يقل ذلك للناس وكيف يصح أن يقول (وَ إِذْ قالَ اللَّهُ) وذلك يخبر به عن الماضي ولم يتقدم ذلك منه تعالى في الدنيا.
وجوابنا ان ذلك من اللّه تعالى على وجه التوبيخ والتقريع لمن قال ذلك، وقد يجوز من الحكيم أن يخاطب بذلك متهما بفعل ليكون ردعا وتوبيخا لمن فعل واللّه تعالى عالم بالأمور، ولا يصح الاستفهام عليه فالمراد ما ذكرنا فقد كان فيهم من يزعم ان عيسى صلّى اللّه عليه وسلم أمرهم بأن يتخذوهما إلهين فيعبدوهما ويطيعوهما كطاعة المرء للّه ولذلك قال بعده (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) وقد قيل ان هذا القول وقع منه تعالى في مخاطبة عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة عند ما رفعه الى السماء فلذلك قال تعالى (وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وقيل أيضا واذ قال يستعمل في المستقبل اذ قدر فيه تقدير الماضي كقوله تعالى (وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) لما قدر فيه تقدير الماضي ولذلك قال تعالى بعده (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أ ليس ذلك من قول عيسى صلّى اللّه عليه وسلم يدل على انه كان لا يعرف انه تعالى يعذب الكفار لا محالة.
وجوابنا ان المراد تفويض أمرهم الى اللّه وأنه يفعل بهم ما يريد مما يكون عدلا وحكمة ويحتمل أن يكون المراد بقوله (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) من استمر على كفره وبقوله (وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) من آمن.
سورة الأنعام
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) كيف يصح ذلك في الجميع وقد بين في غير موضع انه خلقهم من نطفة.
وجوابنا ان المراد أصل الخلقة في آدم لانه خلق من طين على ما ذكره تعالى فلما كان الكل يرجع في خلقهم الى آدم صح أن يقول تعالى خلقكم من طين.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (ثُمَّ قَضى أَجَلًا وأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أ ليس ذلك يدل على أن للانسان أجلين وأنتم تمنعون من ذلك.
وجوابنا ان أجل الانسان في الحياة هو وقت حياته وأجله في الموت هو وقت موته فاذا كان موته لا يقع الا في وقت واحد في الدنيا كان مقتولا أو غير مقتول فأجله واحد والمراد بذلك، ثمّ قضى أجلا في الدنيا لانها دار الفناء وأجل مسمى عنده وهو أوقات حياتهم في الآخرة التي لا انقطاع لها بين ذلك، أن الآخرة دار البقاء ولذلك قال بعده (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) فانما وقع ذلك منهم في باب الاعادة في الآخرة.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وفِي الْأَرْضِ) كيف يصح أن يكون في مكانين وكيف يصح مكان للّه تعالى وقد كان موجودا ولا مكان أصلا. وجوابنا ان المراد أنه في السموات والارض بأن يعلمهما ويحفظهما ويدبرهما وقد بيّن ذلك تعالى بقوله من بعد (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) ان الكذب يكون قبيحا وأهل الآخرة ملجئون الى ان لا يقع منهم القبيح.
فالمراد بذلك (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) أي في الدنيا لانهم كانوا يحسبون انهم بخلاف ذلك ثمّ قال (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي في دار الدنيا لانهم أخبروا عن أنفسهم بنفي الشرك وهم كانوا مشركين في الحقيقة. فالكذب انما وقع منهم في الدنيا وأخبروا في الآخرة عن أحوالهم في الدنيا ومثل ذلك يكون فتنة في الآخرة عليهم لانهم يخبرون بما ليس بعذر، فلا ينفعهم ذلك ولذلك قال تعالى بعده (وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) يعني ذهب ذلك عنهم وظنوا خلافه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وفِي آذانِهِمْ وَقْراً) كيف يصح ذلك وقد أمرهم بهذا الاستماع، فكيف يمنعهم بالوقر والكن.
وجوابنا ان ذلك تمثيل لا تحقيق من حيث لم يسمعوا ما أمروا فصاروا بمنزلة من في آذانه وقر ولم ينتفعوا بما فهموا فصاروا كمن في قلبه كن. وقد قيل ان المراد بذلك انهم كانوا يؤذون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم اذا قرأ القرآن فحجبوا عن استماعه من حيث كان المعلوم انهم لا ينتفعون به ولذلك قال بعده (وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) وبين اللّه تعالى بعد اقامة الحجة ان الحجب مانعة عن معرفة كثير من الآيات اذا كان المعلوم ان يكذّب ولا ينتفع به ولذلك قال تعالى بعده (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وكانُوا) وذمهم بذلك ولو كان المنع وقع منه لما صح أن يذمهم على منعهم منه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ ولا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ونَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ثمّ قال تعالى (وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) كيف يصح ذلك. وجوابنا انهم تمنوا الرد الى دار الدنيا والتمني لا يقع فيه الكذب وجد الأمر على ما تمنى أم لم يوجد، وانما يقع الكذب في الاخبار فمعنى قوله (وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) انهم بمنزلة من يكذب من حيث لو ردوا لعادوا.
فان قيل أ تقولون بجواز ردهم الى الدنيا حتى يقال لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه (قيل) اما من اضطره اللّه تعالى الى معرفته عند المعاينة أو بعدها فلا جائز ان يكلفه بعد ذلك لكنه لما كان يجوز أن يرد من دون هذا الاضطرار جاز أن يتمنى ذلك وجاز أن يخبر تعالى عن حالهم بما وصفه على وجه التقدير.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) ما فائدة ذلك. وجوابنا شدة محبته صلّى اللّه عليه وسلم لإيمانهم وقبولهم كان يوجب أن يغتم باعراضهم ويكبر ذلك عليه فبين تعالى أن ذلك ليس في طوقه وهو متعلق باختيارهم فلو فعل ما فعل لم يجد منهم الانقياد ولذلك قال تعالى بعده (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) والمراد لو شاء أن يلجئهم الى ذلك الفعل لكنه تعالى أراد ايمانهم اختيارا لينتفعوا بالثواب. ثمّ بين تعالى بقوله (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) من ينتفعون بقبولهم (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) فيجازيهم على ما فعلوا.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ) تنزيه القرآن (9)
(آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ولكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما الفائدة في ذلك. وجوابنا انه تعالى بيّن أن ما يلتمسونه من الآيات مقدور للّه تعالى لكنهم لا يعلمون ان ذلك بمنزلة ما قد أظهره من الآيات في انهم لا يؤمنون عنده.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أ ليس يوجب ذلك ان كل حي مكلف. وجوابنا أن المراد بقوله أمم جماعة فكأنه قال ما من دابة ولا طائر الا وهم جماعة من الجنس الواحد فأما أن يريد بذلك انهم مكلفون فمحال لأنا اذا كنا نعلم ان الصبيّ قبل البلوغ لا يكلف لفقد العقل فالبهائم والطير أولى بذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) كيف يصح ذلك ونحن نعلم انه ليس في القرآن بيان أشياء كثيرة.
وجوابنا ان المراد الشيء الذي يحتاج اليه في باب الدين لأنه الذي اذا لم يبينه تعالى يكون مفرطا، اذ المفرط يكون مفرطا بأن لا يبين ما يجب بيانه وجميع أمور الدين قد بينه اللّه تعالى في القرآن إما مجملا وإما مفصلا ولذلك قال تعالى بعده (وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) نبه بذلك على انهم بمنزلة من هذه حاله لعدو لهم عما يجب أن يتبعوه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وأَبْصارَكُمْ وخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) كيف يصح أن يذكر أشياء ويجمع ثمّ يوحد بقوله يأتيكم به. وجوابنا ان المراد يأتيكم بما تقدم ذكره وقد يصح في ذلك أن يوحد كما قد يصح أن يجمع. وبين تعالى بذلك انه آتاهم هذه الآيات من سمع وبصر
وقلب لينتفعوا بها فلما لم ينتفعوا بها فكأنها مفقودة ولذلك قال بعده (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) موبخا لهم على عدو لهم.
[مسألة]
وربما سألوا في قوله تعالى (وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) كيف يصح أن ينهاه عن ذلك مع وصفه لهم بالعبادة والخشية. وجوابنا انه صلّى اللّه عليه وسلم ربما كان يقدم الأكابر من العرب محبة منه لإيمانهم وتألفا لهم فأدبه اللّه تعالى بهذه الآية في المؤمنين لئلا يقدم غيرهم عليهم ولذلك قال تعالى بعده (وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) نبه بذلك على ان المقدم هو من يعلمه اللّه تعالى عابدا شاكرا ثمّ قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم (وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) فأمره بأن يحييهم ويعرفهم عظم منزلتهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) كيف يصح أن يؤاخذ من عمل السوء ولا يعرفه. وجوابنا ان كل عامل السوء والمعصية يوصف بأنه عمله بجهالة وان كان عالما به والمراد بذلك أنه عمل ذلك على غير ما يقتضيه عقله فان الذي يوجبه العقل التحرز من ذلك؛ وعلى هذا الوجه يوصف كل من يقدم على المعاصي بأنه جاهل ولا يراد بذلك الاعتقاد الذي هو جهل فلذلك قال تعالى (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ما فائدة ذلك واللّه عليم بكل شيء. وجوابنا انه تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما سيحدث من الامور. لكن تستدل الملائكة متى
وجدته على علمه وقدرته وهذا كما يحاسب يوم القيامة ويوكل الحفظة بالمكلف لاحصاء ما يأتيه ويفعله ليكون مصلحة له في الدنيا وتبكيتا له في الآخرة.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) أنه يدل على جواز المكان له. وجوابنا ان المراد فوقهم في القدرة والقهر لا في المكان ولذلك قال بعده (وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) الى غير ذلك مما يدل على قدرته.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) فجمع وقال في موضع آخر (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) فوحد وذلك مناقضة. وجوابنا ان ملك الموت هو الموكل بقبض الأرواح وله جمع عظيم من الملائكة يأمرهم بذلك فلا مناقضة في هذا الباب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) كيف يصح والمكان مستحيل عليه. وجوابنا ان المراد ردوا الى حيث لا مالك ولا حاكم الا هو وقد تقدم نظائر ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) كيف يصح ذلك وليس يثبت مولى باطل فيتميز مولى الحق عنه. وجوابنا ان المراد (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أنه الذي خلقهم فأحياهم وبلغهم هذا الحد ولا يجوز أن يشاركه غيره في ذلك وهذا هو المراد ولذلك قال بعده (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) فانه اذا جعل المكلف بهذه الأوصاف جازاه في الآخرة بحسب ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ والْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أما يدل ذلك على انه تعالى أرسل الى الجن رسلا منهم كما أرسل الى الانس. وجوابنا ان قوله (مِنْكُمْ) لا يدل
على المشاركة في انه من الجن بل قد يجوز أن يريد المشاركة في أنه من المكلفين العقلاء الذين يصلحون لذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أن هذا يدل على المنع من النظر في الأدلة. وجوابنا أن المراد خوضهم في الآيات على وجه الرد والوقيعة كما كان كثير منهم يفعله وكيف يصح ذلك وقد بعث صلّى اللّه عليه وسلم بالآيات في الدعاء اليه.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) أ ليس ذلك كفرا من قائله فكيف يجوز ذلك على ابراهيم. وجوابنا ان ذلك في حال النظر ذكر على وجه الاستدلال لا على وجه الخبر ولذلك قال بعده (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) فاستدل بحركته وغيبته على انه ليس برب وكذلك قال في الشمس والقمر وقال في آخره (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والْأَرْضَ حَنِيفاً وما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فعرفه تعالى استدلالا بالسماوات والأرض كما نقل عنه الاستدلال على اللّه تعالى وقد قيل إن المراد بقوله هذا ربي على وجه الاستفهام والنظر ومثل ذلك قد يتفق من المستدل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وقَدْ هَدانِ ولا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) وان ذلك يدل على انه تعالى يجوز أن يشاء الشرك. وجوابنا ان المراد إلا أن يشاء ربي شيئا مما أخافه، فرجع الاستثناء الى أسباب الخوف لا إلى الشرك. ولذلك قال بعده (وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) وقال بعده أيضا «فأي الفريقين أحق بالأمن» فنبه بذلك على انه لا يخاف الا ما يكون من قبل
اللّه تعالى دون ما يتوهم للاصنام ثمّ قال بعده (الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) فبين ان الأمن في الآخرة والاهتداء الى الثواب انما يحصل لمن يتحرز من الظلم وكل المعاصي تعد في الظلم ولذلك قال تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ثمّ بيّن قوله تعالى (وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) الى آخره ذكر الانبياء ثمّ قال بعده (ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فبيّن أن الحجة على توحيد اللّه واحدة في الانبياء وغيرهم. ثمّ قال من بعد (وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فبيّن أن الشرك يحبط كل هذه الطاعات ثمّ قال (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فنبه بذلك ان الدلالة واحدة.
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (وَ مِنْ آبائِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ وإِخْوانِهِمْ واجْتَبَيْناهُمْ وهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أ ليس ذلك دلالة على أنه خصهم بالهدى. وجوابنا ما تقدم من أنهم لما قبلوا خصهم بالذكر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) كيف يصح وليس في الناس من يجعل للّه شريكا من الجن. وجوابنا ان المراد انهم جعلوا الملائكة شركاء الجن من حيث اتفقوا في انهم لا يرون. وقيل ان ابليس يعبده كثير من الناس كالشريك للّه على ما يحكى عن بعض المجوس.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وعن قوله تعالى (اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وقالوا يدل ذلك على صحة قول المجبرة. وجوابنا عن ذلك ان المراد وخلق كل شيء مما يوصف بأنه مخلوق لان كل ذلك من قبل اللّه تعالى وهذا كقول القائل
أكلت كل شيء يريد مما صح كونه مأكولا فلا يدل على ما قالوه وقد أجيب عنه بأن المراد التكثير والمبالغة لا أنه عموم في الحقيقة كقوله تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) وقوله (وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وذلك مذهب العرب في المبالغة وبين ذلك قوله (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) فبيّن حسن ما خلق فلا يصح أن يضاف اليه شيء من القبائح وقيل أيضا ان المراد قدر الأشياء لا أنه أوجدها وأحدثها فما هو من فعله قد قدره وما ليس من فعله قدره أيضا بأن بيّن أحواله وذلك كقوله تعالى (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) والمراد الأخبار عن حالها، فأما دلالة قوله عز وجل (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) على أنه تعالى لا يجوز أن يرى بالأبصار فبيّن وذلك مشروح في الكتب وأما قوله تعالى (وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فالمراد به لطيف الفعال لان اللطف عليه في ذاته يستحيل كما يستحيل عليه الصغر تعالى اللّه عن ذلك، وقوله تعالى من بعد (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا) فالمراد به لو شاء أن يمنعهم ويحول بينهم وبين الاختيار لما وقع الشرك منهم ويحتمل ولو شاء ان يلجئهم الى خلاف الشرك لما أشركوا ومن عظيم آداب القرآن قوله تعالى (وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) فنهاهم عن سب آلهتهم لئلا يقع منهم ذكره تعالى بما لا يليق به على وجه المقابلة لأن من ظن أنه اذا سب آلهتهم وقع منهم ذلك يكون قد أغراهم بهذه المعصية.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أ ليس ذلك يدل على انه تعالى قد زين عمل الكفار والعصاة وذلك بخلاف قولكم وقول المسلمين. وجوابنا ان المراد به ما ألزمهم تعالى من العمل وشرعه لهم وليس المراد ما وقع منهم وعلى هذا الوجه يقول الوالد للولد قد زينت لك العمل الذي رسمته لك فخالفتني فيسمى ما لم يقع منه عملا من حيث الامر والالزام وبين ذلك قوله تعالى من بعد (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ
فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» على وجه الدفع لهم عن الكفر وغيره فكيف يصح أن يكون مع ذلك مزينا لما فعلوه وقد بيّن تعالى في غير موضع أن الشيطان هو المزين لعملهم وقد قيل ان المراد زينا أعمالهم من حيث ميل الطبع والشهوة وأمرناهم مع ذلك بالمخالفة والجواب الأول أبين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأَبْصارَهُمْ) ان ذلك يدل على انه تعالى يخلق في قلوبهم الكفر والايمان قالوا ويقوي ذلك قوله (وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
وجوابنا ان المراد بذلك أنه يجعلهم كذلك في الآخرة فتقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار تنكيلا لهم وأما قوله (وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) فالمراد أنه يخلي بينهم وبين ما اختاروه فلا يمنعهم كما نقول فيمن بصرناه برشده فلم يقبل قد تركناه ورأيه لأنا لم نكره ذلك منه وبين صحة ذلك قوله تعالى من بعد (وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) فنبه بذلك على انهم خلاهم لعلمه بسوء فعالهم وانهم لا يعدلون الى الطريقة المثلى ومعنى قوله (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) ان يلجئهم الى الايمان لكن ذلك لا ينفع وانما ينتفعون بما يفعلونه اختيارا فيستحقون به الثواب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) وان ذلك يدل على أن مكرهم بكفرهم من قبله تعالى. وجوابنا ان المراد بينا ذلك من حالهم كما يقال في الحاكم انه جعل الشاهد مزورا اذا بيّن ذلك من حاله ويقال ان المعتزلة جعلت المشبهة كفارا لما بينوا ذلك من حالهم كما يقال ان الحنفي جعل الوتر واجبا لما ذهب هذا المذهب فأما قوله تعالى (لِيَمْكُرُوا فِيها) فالمراد
أنه جعلهم في كل قرية وأمرهم بالطاعة وعاقبتهم هذا المكر وهذا كقوله تعالى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وحَزَناً) وانما التقطوه لغير ذلك لكن لما كان مآل أمرهم الى العداوة كما يقال خلقت الدنيا للفناء لما كان ذلك عاقبتها ولذلك قال تعالى (وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) فذمهم على ذلك.
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) كيف يصح ذلك عندكم وأنتم تقولون أراد من الكل الهدى وكيف يصح ذلك ونحن نعلم ان الكافر لا يكون ضيق الصدر بكفره بل ربما يكون أشرح بما هو عليه من المؤمن. وجوابنا ان المراد فمن يرد اللّه أن يهديه بزيادات الهدى كقوله تعالى (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) لشرح صدره للاسلام لان زيادات الهدى أحد ما يقوي صدر المؤمن على ايمانه وقوله (وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) أي عن هذه الزيادات من حيث يعلم انه لا ينتفع يجعل صدره ضيقا حرجا فتضطرب عليه اعتقاداته الفاسدة اذا فكر فيها. وهذا يدل على قولنا في العدل إنه تعالى يفعل بالمؤمن ما يكون أقرب إلى ثباته على الايمان من شرح الصدر بزيادات الادلة ويفعل بالكافر ما يكون أقرب الى ان يقلع عن الكفر من ضيق الصدر والا فقد هدى الجميع بالأدلة وأزاح لهم العلة حتى لم يؤتوا الا من قبل انفسهم وكل كافر اذا فتشت عنه متى نوظر وكلم يضيق صدره بما هو عليه من الكفر عند ايراد الادلة عليه لكنه يكابر ظاهرا ويوهم انه على بصيرة ولذلك قال تعالى من بعد (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).
[مسألة]
وربما سئل عن قوله تعالى (وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) كيف يصح منه تعالى ان يوليهم مع ظلمهم أو ليس قد قال
في سورة البقرة (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). وجوابنا ان ذلك شبيه بقوله تعالى (وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فاللّه تعالى يقوي الظالم على غيره من الظلمة ليدفعه عن الظلم ولو لا ظلمه لكان لا يمكنه من ذلك وذلك ليس مخالفا لقوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) اذ المراد بذلك النبوة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أما يدل ذلك على جواز المكان للّه تعالى. وجوابنا ان هذه الاضافة إضافة إعظام وإكرام كما يقال ان لزيد قدرا عظيما عند عمرو لا يراد به المكان ولذلك قال تعالى بعده (وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أو ليس في ذلك دلالة على أن في الجن والانس الكفار من لا يخلد في النار. وجوابنا ان المراد ما شاء اللّه ممن لا يبقى على كفره ولأنه تعالى (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها) ومن الجائز ان يؤمن بعضهم فقال (إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أ ليس يدل ذلك على وجوب حق يوم الحصاد خاصة. وجوابنا في ذلك انه قد روى وجوب هذا الحق من قبل وانه نسخ بالعشر والزكاة وروى أيضا ان المراد به نفس العشر لانه يدخل تحت قوله وآتوا حقه يوم حصاده، والتوقيت بذلك الوقت انما دل به على الايجاب والكلام في كيفية اخراجه يرجع فيه الى دليل الشرع.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ثمّ قال في آخره (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) كيف يصح ان يجازيهم على بغيهم بتحريم ما يحرمه ولهم في اجتناب ذلك المحرم
ثواب فيصير من هذا الوجه نعمة فكيف يصح أن يكون عقوبة. وجوابنا ان المراد جزيناهم على بغيهم بتحريم ذلك عليهم من حيث نعلم ان جزاء البغي لا يكون ما يؤدي الى النفع والى الثواب وذكر بعده ما بيّن به من وجوه أنه تعالى لا يريد الشرك والكفر فقال (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) وهذا مقالة المجبرة فقال تعالى (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) والمراد كذب الرسل الذين دعوهم الى خلافه وهو قولنا انه تعالى لا يشاء الشرك ولا سائر القبائح ثمّ قال (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) وهو العذاب. والعذاب لا يذاق الا على القول القبيح ثمّ قال (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) ولا يقال ذلك الا للمبطل ثمّ قال (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) ولا يقال ذلك للمحق ثمّ قال (وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) والمراد تقدرون ما يكون كذبا أو في حكم الكذب كما قال تعالى (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) ثمّ قال بعده (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) عاطفا على ما تقدم ثمّ قال (وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بين به انه انما أراد خلاف الشرك منهم اختيارا ليفوزوا بثوابه ولو شاء ان يهديهم لهداهم اجمع. ثمّ انه تعالى عهد الى عباده بعهد جامع ووصاهم به فقال (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ومن تأمل هذه الآيات وعمل بها اغنته عن كل دليل ثمّ قال في آخره (وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فبين ان كل ما تقدم ذكره من وصاياه جل وعز لعباده والوصايا في الشاهد يجب القيام بحقها فوصية اللّه تعالى أولى بذلك خصوصا وانما وصاهم بذلك لحظهم ولما يعود عليهم من النفع.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ)
(عَشْرُ أَمْثالِها) كيف يصح ذلك في كل الحسنات. وجوابنا انه قد قيل في ذلك ان المراد به التفضل الزائد على الثواب فمنّ اللّه تعالى بذلك في كل حسنة ترغيبا في الطاعة وقيل فيه أيضا إن المراد فله عشر أمثالها في أنها حسنة وان كان الواحد من ذلك ثوابا عظيما والثاني تفضل وهو دون ذلك الثواب فاذا تأولناه على هذا الوجه زال القدح.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) كيف يصح ذلك مع تقدم اسلام سائر الانبياء وأممهم. وجوابنا ان المراد بذلك وأنا أول المسلمين من قومي لأنه قد تقدم قوله (قُلْ إِنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ومعلوم أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان أول من أسلم بذلك من أمته وقوله تعالى (وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) دليل بيّن في أن الفعل للعبد وأنه لا يؤاخذ بما يكون من فعل غيره وأن قول من يزعم أن أطفال المشركين يعاقبون بذنوب آبائهم خطأ عظيم ومعنى قوله (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) ان اليه المرجع خاصة دون غيره لا كما قد عهد في الدنيا أن غير اللّه قد يرجع اليه في الامور ولذلك قال تعالى (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ولو كان المراد الرجوع الى المكان لم يصح هذا القول ولم يكن فيه فائدة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) بعد ذكر القرآن وهذا يوجب أنه آتاه الكتاب بعد القرآن وذلك لا يصح.
وجوابنا أن لفظة ثمّ ربما دخلت لفظا لا معنى ويكون المراد ترتيب الاعراب والاخبار كما يقال علمت فلانا العلم ثمّ ربيته فيكون قصده اعلام انعامه عليه لا ترتيب ذلك فكأنه قال ثمّ نعلمك يا محمد انا أتينا موسى الكتاب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ
ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) أ ليس ذلك كالاغراء بالتكذيب. وجوابنا ان المراد لمن يتوب منهم ولذلك قال (وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ويحتمل فان كذبوك فقل ربكم عاجلا ذو رحمة واسعة في الرزق وغيره فيمهل ويرزق ولا يعجل بالعقوبة. ويحتمل فقل ربكم ذو رحمة واسعة علينا وعلى من خالفنا لا يرد باسه عنه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) كيف قال ذلك وهو يؤخره الى الآخرة. وجوابنا انه وصف قدرته على ذلك على وجه الردع وليس المراد بيان كيف يقع، وبعد فان سريع يستعمل على وجه الاضافة الى ما هو أعظم منه في المدة او لانه يعقب الموت ثمّ يقال بتقدير السريع لان ما بين الامانة والاعادة طويله كقصيره.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) كيف يصح ذلك.
وجوابنا انه تعالى أخبر بذلك عن شركائهم فقال شركاؤهم ليردوهم فلا سؤال علينا في ذلك.
سورة الاعراف
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) كيف يصح أن يقول لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم والحرج هو الشك والشك لا يجوز عليه في القرآن. وجوابنا أن ذلك نهى وقد ينهاه عز وجل عن المعلوم انه لا يقع كما قال اللّه تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وبعد فليس الحرج هو الشك فيحتمل أن يريد به لا يكن في صدرك الضيق من القيام باداء القرآن وابلاغه ولذلك قال بعده (لِتُنْذِرَ بِهِ وذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) واذا بعثه اللّه تعالى على الأداء وتوعده على تركه فغيره بذلك أولى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً) كيف يصح بعد اهلاكهم أن يعاقبهم. وجوابنا ان المراد أهلكناها بما جاءهم من بأسنا كما يقال أهلكنا القرية فخربناها وليس الاهلاك غير التخريب وانما بيّن وجه التخريب وقد قيل ان فيه تقديما. وتأخيرا فكأنه قال وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) كيف يصح ذلك ولم يمنع من أن لا يسجد وإنما منع من السجود.
وجوابنا ان المراد ما منعك أن تسجد وهو كقوله (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) والمراد لكي يعلموا وكقوله (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) والمراد أن لا تضلوا فاذا كان تعالى أمره بالسجود كما قال (ما
مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) فقد نبه بقوله اذ أمرتك على أن المراد ما منعك أن تفعل ما أمرتك وذلك يدل على قدرة ابليس على السجود كما نقوله وان لم يفعله.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) لما ذا خص ذلك المكان بأنه لا يتكبر فيه دون غيره والتكبر محرم في كل مكان. وجوابنا ان في الأماكن ما يكون له منزلة فنفس المقام فيه يكون كالتكبر. فلما جعل تعالى ذلك الموضع مقرا للانبياء جاز أن يقول ذلك لا أن التكبر يحسن في غيره ولذلك قال بعده (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) كيف يصح وقد كفر ابليس أن يجيب دعاءه. وجوابنا ان فعل ما سأل العبد قد لا يكون اجابة متى فعل لا لمكان المسألة في أنظاره بل لأن في تبقيته مصلحة العباد ليتحرزوا من المعاصي ومصلحة له في التكليف.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) كيف يصح من اللّه تعالى أن يفعل به أو بغيره ذلك وهو قبيح. وجوابنا أن المراد بما أحرمتني الثواب وخيبتني منه وليس المراد به الضلال بل المراد به الحرمان ولذلك قال بعده (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ومِنْ خَلْفِهِمْ) الآية ولا يليق ذلك الا بأن يقول اذا أحرمتني الثواب وخيبتني وقطعت رجائي لأفعلن كيت وكيت.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) كيف الحكم في ذلك وهو كالغيب. وجوابنا أنه يجوز أن يكون
قد عرف ما سيكون من الناس من حيث أعلم اللّه بذلك الملائكة فقالوا (أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها). فجوابنا في هذه المسألة كالجواب في تلك المسألة.
[مسألة]
وربما قيل اذا كان اللّه تعالى قد أخرجه من الجنة وقال لآدم (اسْكُنْ أَنْتَ وزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) فكيف يصح أن يوسوس كما قال تعالى (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ). وجوابنا أنه يجوز أن يخاطبهما وهو خارج الجنة ويجوز منهما أيضا أن يخرجا من الجنة فيراهما فليس في ذلك مناقضة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) كيف يصح ذلك على الأنبياء. وجوابنا أن الذي وقع منهما من الصغائر وقع على وجه التأويل لكن الأنبياء لما عظم اللّه من محلهم تعظيم الصغائر عند أنفسهم فعلى هذا الوجه (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) وقد يكون المرء بالصغيرة ظالما لنفسه من حيث حرمها الثواب الذي نقص لمكان الصغيرة ومن حيث يجب عليه التأسف والندم ولذلك غم عظيم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) كيف يصح ذلك وقوله للملائكة كان قبل ان خلقنا وصورنا. وجوابنا ان المراد خلقنا من هو أصلكم فذكر أولاده من حيث تفرعوا عنه فالمراد خلق آدم وهو كقوله جل وعز في سورة البقرة لأهل الكتاب (وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ) والمراد آباؤهم الذين أولادهم لم يحصلوا على هذا الوصف.
تنزيه القرآن (10)
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) كيف يصح وعندكم أنه قد هدى الجميع. وجوابنا ان المراد في الآخرة وفي الآخرة يكون الهدى بمعنى الثواب كانه قال فريقا هداهم الى الجنة بحسن طاعتهم وفريقا حق عليهم الضلالة وذلك اخبار عن حال ما يعاد لكي يكون أقرب الى الطاعة ولذلك قال بعده (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) يعني ان الضلالة حقت عليهم لهذه الطريقة التي كانت منهم في الدنيا.
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ) أ ليس ذلك يوجب أن أحدا لا يقدر على قطع الأجل بالقتل وغيره على ما يقوله بعض المجبرة. وجوابنا ان الأجل هو الوقت الذي يعيش المرء اليه فسواء انقطعت حياته بالقتل أو باماتة اللّه تعالى إياه، فذلك الوقت هو أجله لا أجل له سواه، والعبد قادر على كل أحد، لكن ما المعلوم خلافه لا يقع لانه لا يصح أن يفعله.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكِنْ لا تَعْلَمُونَ) كيف يصح الضعف في العقاب وليس العقاب مما يصح فيه الزيادة فان الزيادة عليه ظلم وجوابنا انهم أرادوا الدعاء عليهم بمزيد العقاب فليس من يضل ولا يضل ولا يقتدى به بمنزلة من يضل ويضل ومعنى قوله تعالى (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أنه لا أحد منهم الا ويستحق من العقاب زيادات على قدر معاصيه إما في الوقت أو في الأوقات.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) كيف يصح ذلك والجنة ما خلقت بعد ولا دخلوها ولا دخلوا النار. وجوابنا أن التقدير في ذلك أنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ أني
سأكلف الناس، فمن أطاع منهم أدخله الجنة ومن عصى أدخله النار فعند ذلك ينادي أهل الجنة أهل النار. وينادي أهل النار أهل الجنة وليس كل ما كتب في اللوح المحفوظ ينزله تعالى الى الرسول صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) كيف يصح والنسيان على اللّه تعالى لا يصح. وجوابنا أن المراد فاليوم لا نجازيهم بالحسنى كما لم يحسنوا بالطاعة وأهل اللغة يستعملون النسيان بمعنى الترك وحقيقته ما ذكرناه. وفي قوله (لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) دلالة على أن كل آية ذكر اللّه تعالى فيها اللقاء وذكر نفسه أراد به غيره من اليوم أو الثواب أو غيرهما.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) كيف يصح ذلك وأبواب السماء لا تفتح لغيرهم أيضا. وجوابنا ان المراد لا تفتح لصحفهم التي فيها أعمالهم كما قال تعالى (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) وان كتاب الأبرار لفي عليين وتخصيصهم بالذكر لا يمنع من كون الفساق بمنزلتهم وقوله تعالى (وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) وهو على وجه التبعيد يحقق أن دخولهم الجنة لا يقع وقوله من بعد (وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) يدل على ان الفاسق بمنزلتهم وذلك اذا مات على فسقه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) ما فائدة هذا السؤال في الآخرة وكلهم يعرفون ذلك. وجوابنا انهم قالوه على وجه التوبيخ لهم لا على طريق المسألة والتعرف وقوله (نِعْمَ) كالاعتراف بتقصيرهم في الدنيا وانهم
أهل الانكار والتوبيخ ولذلك قال بعده (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ويَبْغُونَها عِوَجاً).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ونادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وهُمْ يَطْمَعُونَ) كيف يصح وصفهم بذلك لأنه ان أراد أصحاب الأعراف فهم عالمون ولا يوصف العالم بأنه يدخل الجنة انه طامع وان أريد أهل النار فهم عالمون بدخول النار فكيف يطمعون في ذلك.
وجوابنا أن المراد به أصحاب الأعراف ويوصفون بالطمع وان كانوا من أهل الجنة تحقيقا لذلك ولأنهم لا يعرفون وقت دخول الجنة في حال شهاداتهم للناس وعليهم.
[مسألة]
وربما سأل الحشو عن قوله تعالى (أَلا لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ) ان ذلك يدل على أمر اللّه تعالى في القرآن ليس بخلق ولا مخلوق.
وجوابنا ان المراد أن له الخلق والأمر من نفس الخلق فهو الذي يبقيه أو يفنيه ويتصرف فيه كيف يشاء فلا يدل أفراده بالذكر على صحة ما قالوه من أنه لم يدخل الأمر تحته كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والْإِحْسانِ) والاحسان من العدل وذلك كثير في الكلام.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) كيف يصح ذلك ومعلوم أن الذي خبث أيضا من البلاد لا يخرج نباته الا باذن اللّه. وجوابنا ان المراد بذلك يخرج نباته موافقا للمراد والنفع لا نكدا ونبه جل وعز على ذلك بقوله (وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) وذلك نقصان في الخروج وبيان النفع به لا يكاد يقع وذلك مثل من اللّه تعالى لمن يعمل العمل الصالح وخلافه ثمّ ذكر تعالى
قصص الأنبياء وأنهم دعوا الأمم الى معرفة اللّه تعالى وخوّفوهم عذابه وأن نوحا صلّى اللّه عليه وسلم قال لقومه (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ان لم تعبدوه وانهم قالوا له إنّك في ضلال مبين وأنه قال لهم (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ولكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وأَنْصَحُ لَكُمْ وأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وهذه الجملة يعرف بها رفق الأنبياء وحسن دعائهم الى الدين وانهم بدءوا بالدعاء الى معرفة اللّه وعبادته وأنهم نزهوا أنفسهم عن الطمع في هذه الحياة وفيها اذا تأملها المرء ما يعتبر به ويعرف آداب الأنبياء صلّى اللّه عليهم وسلم في الدعاء الى الدين وصبرهم على ما نالهم من الامم فيقتدى بهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى في قصة صالح (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) ثمّ قال (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي) كيف يجوز أن يقول لهم ذلك وقد هلكوا بأخذ الرجفة لهم. وجوابنا أن في ذلك تقديما وتأخيرا ومثل ذلك يكثر في الكلام.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) ثمّ قال تعالى (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً) كيف يصح ذلك ومعلوم أنه لغير المؤمنين أيضا وجوابنا أنه أراد بقوله (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) قد نبه على ان ذلك لكل العباد فمراده أخيرا هو أنها للمؤمنين في الحال وفي العاقبة ولذلك قال (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) فان من نال شهوته عاجلا وعاقبته النار لا يعد ما ناله نعمة عليه وقيل ان المراد بذلك ما حرموه من البحيرة والسائبة فبين انها من الطيبات للمؤمنين من حيث عرفوا أنها من رزق اللّه تعالى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) وذلك كالمدح لهم وكيف يصح ذلك في الكفار. وجوابنا أن المراد ينالهم نصيبهم من العذاب المذكور في الكتاب. وقيل ينالهم نصيبهم من نعم الدنيا وقوله تعالى من بعد (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) عند معاينة العذاب يدل على ما قلنا لأنه بيّن به أن ما كانوا يعبدونه لا ينفعهم عند نزول العذاب بهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أ ليس هذا يدل على أن ملتهم كان عليها شعيب من قبل وذلك كفر لا يجوز على الأنبياء. وجوابنا قد يقال عاد في كذا اذا ابتدأه كما يقال أن زيدا عاد الى ما يكرهه أو يحبه وان كان من قبل لم يفعل وقد صح ان الكفر والكبائر لا يجوزان على الأنبياء صلّى اللّه عليهم وسلم فالمراد اذا أو لتدخلن في ملتنا على وجه التهديد قالوه لشعيب فكان جوابه صلّى اللّه عليه وسلم (قالَ أَ ولَوْ كُنَّا كارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا) أ ليس يدل ذلك على تجويز أن يشاء اللّه عودة شعيب الى ملتهم مع أنها كفر. وجوابنا ان المراد بذلك التبعيد فعلقه بالمشيئة التي يعلم أنها لا تكون كقوله تعالى (وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) ويحتمل أنه أراد الملة التي هي الشرائع ويجوز أن يعبد اللّه بمثلها بعد النهي عنه على وجه النسخ.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ
مِنَّا) كيف ذلك من موسى صلّى اللّه عليه وسلم مع علمه بأنه لا يؤخذ بذنب غيره. وجوابنا أنهم سألوه رؤية اللّه تعالى ولم يقنعوا بما يكون من قبل اللّه تعالى فلما سأل صلّى اللّه عليه وسلم بقوله (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) لقومه لا لنفسه قال تعالى (لَنْ تَرانِي) وأكد ذلك بقوله (وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) فشرط استقراره فلما لم يستقر بأن جعله دكا عند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم (وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ) قال هذا القول توبيخا لقومه لأن اللّه عز وجل أخذه بذنب غيره ولذلك قال (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) يعني شدة التكليف وقد كان سأل اللّه الرؤية لقومه ولم يأذن جل وعز له في ذلك والانبياء صلّى اللّه عليهم وسلم لا يسألون ربهم ما يرغبون الا بعد الاذن فعلى هذا الوجه قال ما قال.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) ثمّ قال (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) وبعض ذلك يخالف بعضا. وجوابنا ان المراد بذلك الرحمة الخاصة التي هي الثواب وما تقدم وما تأخر يدل على ذلك لأنه قال من قبل (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ ورَحْمَتِي) فقرنها الى العذاب وقال بعده (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ثمّ وصفهم بالوصف العظيم وإنما قال (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أنها لو قدرت لكل واحد لوسعته أو قاله أيضا على وجه التكثير والمبالغة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ) أ ليس ذلك كالمدح لليهود. وجوابنا أنه مدح من كان على ملته في أيام حياته لأن تكذيبهم بعيسى ومحمد حدث من بعده. ويحتمل أنه مدح لقوم يؤمنون بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما)
(كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) كيف يصح ذلك وقد آمن بعضهم. فجوابنا أن ذلك خبر عن قوم مخصوصين بيّن ذلك بقوله تعالى من قبل (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها ولَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) واذا كان خبرا عن قوم لم يصح هذا الالزام.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) كيف يصح ان يمنع من الوعظ والدعاء الى الخير. وجوابنا أن المراد بذلك اليأس من صلاحهم وتعريف القوم أن الوعظ لا يؤثر فيهم او على وجه التوبيخ للقوم لا انه منع من الوعظ وكيف يكون منعا. وجوابهم (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يبين انهم وعظوا لتجويز التقوى.
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) كيف يصح ان يتجلى وليس بجسم وما فائدة تجليه للجبل. وجوابنا ان المراد بهذا التجلي الاظهار وذكر اللّه الجبل وأراد أهله فكأنه قال فلما بيّن لاهل الجبل أنه لا يرى بأن جعله دكا حصل المراد فيما سألوا وهذا كقوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ والْأَرْضِ) وأراد على أهلها وكل ذلك بمنزلة قوله (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ) وأراد أهلها.
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) كيف يصح ان يصرفهم عن آياته وأدلته. وجوابنا أن المراد سأصرفهم عن الآيات الزائدة التي يفعلها تعالى لمن المعلوم أن ينتفع بذلك ويؤمن عنده ولذلك قال (وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) وهو كقوله تعالى (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً)
فيزيده هدى لأنه ينتفع بذلك دون من لم يهتد وان كان الكل سواء في اقامة الحجة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ومَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أ ليس ذلك يدل على أنه يخلق الهدى والضلال. وجوابنا ان المراد ومن يهد اللّه الى الجنة والثواب فهو المهتدي في الدنيا ومن يضلل عن الثواب الى العقاب (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في الدنيا وسبيل ذلك ان يكون بعثا من اللّه تعالى على الطاعة وكذلك قوله تعالى (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ) المراد من يضلله عن الثواب في الآخرة ولا هادي له اليه ومعنى قوله (وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) انا نخلي بينهم وبين ذلك وان كنا قد أزحنا العلة وسهلنا السبيل الى الطاعة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) وفي الخبر ان جميع بني آدم أخذ عليهم المواثيق من ظهر آدم صلّى اللّه عليه وسلم كيف يصح ذلك. وجوابنا أن القوم مخطئون في الرواية فمن المحال أن يأخذ عليهم المواثيق وهم كالذر لا حياة لهم ولا عقل. فالمراد انه أخذ الميثاق من العقلاء بأن أودع في عقلهم ما ألزمهم اذ فائدة الميثاق أن يكون منبها وان يذكر المرء بالدنيا والآخرة وذلك لا يصح الا في العقلاء وظاهر الآية بخلاف قولهم لأنه تعالى أخذ من ظهور بني آدم لا من آدم، والمراد أنه أخرج من ظهورهم ذرية أكمل عقولهم فأخذ الميثاق عليهم وأشهدهم على أنفسهم بما أودعه عقلهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) كيف يصح فيمن يؤتيه اللّه تعالى
من الآيات والنبوّة أن ينسلخ من ذلك. وجوابنا أن ذلك لا يصح في الانبياء والمراد من آتاه اللّه العلم بالأدلة وفضله بذلك ثمّ انسلخ منه وذلك مما يصح وهذه طريقة كثير من المضلين عن دينه في المسألتين المتشاكلتين في ذلك. ويحتمل ان المراد آتيناه آياتنا فأعرض عن النظر فيها فصار منسلخا عنها لأنه قيل ثمّ انسلخ.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) ثمّ قوله (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) تكرار ذلك ما فائدته.
وجوابنا ان في الاول سألوا عن وقت الساعة فبين ان يحكم بأن علم ذلك عند ربه تعالى وان الصلاح أن لا يبين ذلك ليكون العبد الى الخوف أقرب وأراد بقوله ثانيا يسألونك كانك حفي عنها المسألة عن نفس الساعة فقد كان عالما بها في الجملة فليس في ذلك تكرار.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) كيف يصح ذلك مع كونهم صالحين وانبياء وكيف التأويل في ذلك. وجوابنا ان معنى قوله فلما آتاهما صالحا البنية الصحيحة في الاولاد ولا يمتنع في الصالح أن يكون كذلك ويقع منه الكفر والشرك وليس في الظاهر ان ذلك وقع من آدم وحواء وانما المراد وقوع ذلك من الذكر والانثى من الذرية فهو معنى قوله (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) كيف يقول صلّى اللّه عليه وسلم ذلك مع زهده في الدنيا وهي له معرّضة وجوابنا ان المراد لو كنت أعلم الغيب وقت خروجي من الدنيا لاستكثرت من الخير والطاعة فقد كان صلّى اللّه عليه وسلم لا يعرف قدر أجله ولو عرف
لزاد في الطاعات وليس المراد لاستكثرت من الخير فيما يتصل بلذات الدنيا وقد يحتمل لاستكثرت من الخير في دفع المضار عن نفسي والمؤمنين من أصحابي ولذلك قال بعده (وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
[مسألة]
وربما سألوا عن قول اللّه تعالى (أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) على وجه المحاجة لمن يعبد الاصنام كيف يصح ذلك والمعبود الذي هو الاله لا يوصف بهذه الصفات أيضا. وجوابنا أن فقد هذه الاعضاء والحواس نقص في الاجسام ووجودها فضيلة في الأحياء، فصح أن يحاجهم بذلك واستحالة ذلك على اللّه تعالى هو الذي يوجب صحة الالهية لانها لو جازت عليه لكان محدثا فكيف يصح ما سألوا عنه.
[مسألة]
وربما سألوا في قوله (خُذِ الْعَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) كيف يصح أن يأمر بالمعروف والجهاد والاعراض عن الجاهلين واجتماع ذلك لا يصح. وجوابنا أن المراد أن يأمرهم بالمعروف ويقيم عليهم الحجة فان هم ردوا ذلك فتجاهلوا أعرض عنهم وذلك لا يتنافى ومعنى قوله (وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) التحرز من وسوسة الشيطان لان الشيطان لا يتمكن من الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وربما كان الخطاب بذكر الرسول صلّى اللّه عليه وسلم والمراد غيره.
سورة الأنفال
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) كيف يتعلق الانفال بالتقوى واصلاح ذات البين. وجوابنا ان الانفال التي ملكها اللّه تعالى الرسول وأمره بوضعها في حقها يحتاج فيها الى أن يتقوا اللّه والى أن يصلحوا ذات بينهم فيعدلوا عن الميل والحيف وأن يطيعوا اللّه ورسوله في الرضا بما يأتيه ومفارقة السخط وذلك نهاية في الاحكام ثمّ وصف تعالى المؤمنين بما قال (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فجعل من وصف المؤمن انه عند ذكر ربه يوجل قلبه فيخاف من تقصير في عبادته ويرجو، وعند ذلك يصير المرء وجل القلب وعند تلاوة القرآن يزداد إيمانا بالعلم به والعمل. ويتوكل على ربة فيما يحصل له من الدنيا وفيما يكسبه من المال فيطلبه بالوجه المباح ولا يجزع اذا لم ينله بل يسير على الحال فلا يتعداه فيحصل متوكلا وليس التوكل الكسل كما ظنه بعضهم. ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلم (لو توكّلتم على اللّه حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطّير تغدو خماصا وتروح بطانا) فجعلها متوكلة وان طلبت وجعل من صفتهم اقامة الصلاة والانفاق مما رزقوا وذلك يدل على ان الرزق لا
يكون محرما لان الانفاق من المحرم ليس من صفات المؤمنين وكل ذلك يدل على ان الايمان قول وعمل ويدخل فيه كل هذه الطاعات وان المؤمن لا يكون مؤمنا الا بأن يقوم بحق العبادات ومتى وقعت منه كبيرة خرج من ان يكون مؤمنا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) هو كلام مبتدأ به غير تام لانه لم يتقدم ولم يتأخر عنه ما يشبهه به. وجوابنا ان هذا الجنس من الحذف ربما يعد في كمال الفصاحة. فبشر اللّه نبيه بالنصرة التامة وجميل العاقبة يوم بدر كما سهل له الخروج من بيته من غير قصد الى المحاربة فهذا هو المراد ولذلك قال (وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) والمراد ثقل الخروج عليهم وقوة المشقة لا انهم كرهوا الخروج معه صلّى اللّه عليه وسلم. ومعنى قوله (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) انهم يراجعونك للتبيين لا أنهم يخالفون ثمّ بين عظم المشقة بهذا الكلام ولم يكن القوم ألفوا الجهاد فان ذلك كان مبدأ الأمر بالقتال، فبين تعالى ان ذلك يؤديهم الى الخيرات من الغنائم وغيرها.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) ما معنى ذلك والحق لا يخفى في نفسه. وجوابنا تحقيق ما وعدكم به من النصرة والغنائم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) كيف وقع هذا التثبيت من الملائكة للمؤمنين. وجوابنا انه يحتمل أنهم عرفوا الرسول الرسول عرف المؤمنين تقوية قلوبهم ويحتمل انهم ألقوا ذلك الى المؤمنين بالخواطر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكِنَ
اللَّهَ قَتَلَهُمْ وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ اللَّهَ رَمى) كيف يصح ذلك مع القول بأن اللّه تعالى لا يخلق أفعال العباد. وجوابنا أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يرمي يوم بدر واللّه تعالى بلغ برميته المقاتل فلذلك أضافه تعالى الى نفسه كما أضاف الرمية أوّلا اليه بقوله اذ رميت والكلام متفق بحمد اللّه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) كيف يصح أن يضم الصم البكم الى الذين لا يعقلون. وجوابنا أنه تعالى ذكر قبله (وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وهُمْ لا يَسْمَعُونَ) فذمهم على ترك القبول ثمّ شبههم بالصم البكم على طريقة اللغة في مبالغة ذم من لا يقبل الحق فربما قيل فيه انه ميت كما قال تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) ولذلك قال بعده (وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) يعني القبول ثمّ قال (وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ) فذمهم نهاية الذم وقوله تعالى من بعد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) وهو بعث من اللّه تعالى على الجهاد فكما ذم من قعد عنه ولم يطع الرسول كذلك مدح من قام بحقه وأراد بقوله (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) أن الجهاد يؤدي الى حياتهم من حيث لولاه لقتلهم الكفار فهو كقوله (وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ويحتمل اذا دعاكم للامر الذي يؤدي الى حياة الابد وهو الثواب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وقَلْبِهِ) بالاماتة وبغير ذلك فبعث على الجهاد قبل أن يرد عليهم ما يمنع من ذلك من موت أو غيره.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ والرَّسُولَ) كيف يصح ذلك والمضار على اللّه تعالى لا تجوز. وجوابنا ان اللّه تعالى
ذكر نفسه وأراد غيره على مثال قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ) لأنه قد ثبت أن خيانة الكافر للغير إنما تكون بارادة السوء والمضار وذلك لا يجوز على اللّه تعالى وذلك قوله تعالى (وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ) لكنه من المجاز الحسن الموقع لأن الامانة لا تسلم اذا تخللها الخيانة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأَنْتَ فِيهِمْ وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) كيف يصح ان ينفي ذلك أوّلا ثمّ يثبته آخرا. وجوابنا أنه تعالى نفى ذلك بشرط وأثبته مع فقد ذلك الشرط وذلك متفق وقد قيل انه نفى بالاوّل عذاب الاستئصال وأثبت ثانيا عذاب الآخرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) أ ليس ذلك يدل على ان كل فعل يقع بقضاء اللّه. وجوابنا ان الآية نزلت في وقعة بدر وانه اتفق لهم ما لم يظنوه من الجهاد والظفر وذلك لا شبهة في أنه من قضاء اللّه كقوله تعالى (وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقد يقال في كل معقول انه من قضاء اللّه على وجه الاعلام والأخبار إما مجملا واما مفصلا وقوله تعالى من بعد (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) يدل على أن العبد الفاعل المختار وأنه بعد البينة اختار ما يؤديه الى الهلاك ولو كان اللّه تعالى هو الخالق لذلك فيه لكان وجود البينة كعدمها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) قد أضاف موافقة بعضهم لبعض الى نفسه وذلك بخلاف قولكم.
وجوابنا ان الاسباب التي بها يؤتلف كانت من قبله تعالى فأضاف اليه الائتلاف وهذا كما تضيف الى اللّه تعالى الرزق وان كان المرء يسعى في الاكتاب وأراد تعالى اعظام المنة على رسوله صلّى اللّه عليه وسلم بما سهله من تألف القوم على طاعته وموافقته
مع الذي كانوا عليه من المباينة الشديدة ومن الآنفة والحمية.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) كيف يصح ان يضيف ذلك الى الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وهو منزه عن الرغبة في الدنيا ولا يريد الا ما أراده اللّه تعالى. وجوابنا انه لم يضف ذلك الى الرسول صلّى اللّه عليه وسلم على الحقيقة حتى يلزم ما ذكرته وانما نسبه الى غيره ممن كان بغيته الغنائم وقد يصح ايضا من الانبياء إرادة عرض الدنيا من المباحات وان كان تعالى يريد العبادات ومعنى قوله تعالى (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فالمراد ما كتبه اللّه تعالى في اللوح المحفوظ من كون ما وقع من باب الصغائر المغفورة وقيل لو لا كتاب سبق نزوله ما أحدثتموه من الاسرى والكتاب هو القرآن فآمنتم به واستحققتم بالايمان غفران صغائر ذنوبكم لمسكم فيما أخذتم من الامر عذاب عظيم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أ ليس يدل ذلك على حدوث علم من اللّه تعالى. وجوابنا انه تعالى يذكر العلم ويريد المعلوم من حيث صح أن معلوم العلم يكون على ما تناوله وعلى هذا الوجه يمدح أحدنا صاحبه ويقول قد علمت ما أنت عليه من الخير والفضل وذلك كثير في القرآن.
تنزيه القرآن (11)
سورة التوبة
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ثمّ قوله (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وانسلاخها بانقضاء المحرم وذلك ينقض الأول. وجوابنا انه كان في الكفار من له عهد ومن لا عهد له ومن له عهد يختلف عهده فقوله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) هو لمن هذا عهده وقوله تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) هو لمن لا عهد له أو لمن ينقضى عهده بانقضاء هذه المدة فلا اختلاف بين الكلامين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) كيف يتولون.
وجوابنا ان هذه اللفظة تفيد التهديد والمراد أنه تعالى قادر على انزال العقوبة فلم لا يجوز عليه المنع وما أكثر ما يرد في القرآن هذا اللفظ على الوجه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كيف يصح أن يستثنيهم لمكان العهد وذلك لا ينجيهم من العذاب الاليم. وجوابنا ان قوله وبشر الذين كفروا يوهم أن الاقدام على كل كافر بالقتل يجوز فانزال اللّه تعالى هذا الايهام بقوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) والمراد لكن الذين عاهدتم من المشركين فليس لكم اذا وفوا الا الوفاء لهم ومعنى قوله تعالى من بعد ان اللّه يحب المتقين ان الوفاء بالعهد يحبه اللّه وهو من باب التقوى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) كيف يستقيم تشبيه سقاية الحاج بمن آمن باللّه. وجوابنا ان المراد أ جعلتم القيم بسقاية الحاج كمن آمن باللّه. أو يكون أ جعلتم سقاية الحاج كايمان من آمن باللّه ومثل هذا الحذف يحسن في اللغة اذا كان الثابت في الكلام يدل على المحذوف.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ثمّ قوله (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُمْ صاغِرُونَ) كيف يصح فيمن يكفر باللّه تعالى أن يسوغ له الكفر ببذل الجزية. وجوابنا ان قتلهم لأجل كفرهم وهو شرعي لا عقلي ويجوز ان يكون الصلاح في ذلك ما لم يعطوا الجزية. فاذا أعطوا حرم قتلهم وربما يكون في ذلك هدايتهم للاسلام اذا أقروا ثمّ سمعوا الشرائع وقد قيل ان قتلهم على الشرك لو لم يجز تركه لأدى الى الاكراه وقد قال تعالى (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) فان قيل فأنتم متى قلتم ذلك فان في الكفار من لا يرضى منه الا بالقتل فيجب أن يكون مكرها على الاسلام. وجوابنا انه لا كافر الا وقد يجوز أن يتخلص ببعض الوجوه وان كان مقيما على الكفر فلا يلزم ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) ما فائدة وصف قولهم بذلك وكل الاقوال هذا سبيلها. وجوابنا ان المراد به ان هذا القول لا حقيقة له لانه قد يوصف ما لا حاصل له من الأقوال بذلك وقد يقبل أحدنا على من يتكلم بما لا يصح فيقول هذا قولك بلسانك ولا تقوله عن قلبك ويراد به ما ذكرنا ولذلك قال بعده (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) فبين ان ذلك من الافك الذي لا حاصل تحته.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) كيف يصح ذلك وليس
فيهم من يتخذ أحبارهم أربابا وانما يقول بعضهم ذلك في عيسى فقط. وجوابنا ان المروى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم انه قال في معناه انهم لما أطيعوا فيما أمروا به ونهوا عنه وصفوا بأنهم اتخذوا أربابا وذلك صحيح فيهم وعلى هذا الوجه يوصف مالك العبد بأنه ربه اذا أطاعه فالأمر مستقيم وبين تعالى بعده بقوله (وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ان الطاعة والعبادة لا تحق الا للّه وكل من يطيع غيره فانما يطيعه بأمر اللّه فتكون طاعته طاعة للّه ثمّ قال تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) فوصف باطلهم بهذا الوصف وقال تعالى (وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) فوصف الحق بهذا الوصف لصحته وبيانه ثمّ أردف ذلك بقوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ودِينِ الْحَقِّ) فبين ان الذي يؤديه صلّى اللّه عليه وسلم هو الدين الحق ووصفه بأنه يظهره على الدين كله تحقيقا لقوله جل وعز (وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ثمّ بين ما عليه الاحبار والرهبان بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ والرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) فبين أن طاعتهم محرمة الا من أمر اللّه بذلك فيه على ما قلنا، ثمّ أتبعه بالوعيد العظيم لمن امتنع عن الزكاة بقوله تعالى (وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ) واكثر المفسرين على أن المراد به مانع الزكاة وبين أن الأموال التي منعت منها الزكاة (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ) وذلك من أعظم الوعيد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) كيف خصها بالنهي عن الظلم وحال جميع الشهور سواء في ذلك. وجوابنا ان للاشهر الحرم التي هي رجب وشوال وذو القعدة وذو الحجة مزية في أن الظلم فيها يكون اعظم كما أن لنفس
الحرم مزية على الاماكن في الظلم فلذلك خصه بالذكر ولا يمنع ذلك فيما عداه انه بمنزلته.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) كيف يصح ذلك وقد أمرهم بالجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. وجوابنا انه لما كان في خروجهم مضرة على المسلمين لنفاقهم اذ كانوا يضمرون التخريب جاز ان يقول تعالى ذلك لان الصلاح في صرفهم عن الخروج ولو خرجوا على الوجه الصحيح لما كره اللّه ذلك ولذلك قال تعالى بعده (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا ولَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) وقال (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) وكل ذلك يشهد بصحة ما ذكرناه وبين تعالى بعد ذلك ما يدل على أنه مع الفسق لا يتقبل من المرء شيء من الطاعات فقال (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) والتقبل لا يصح الا في الطاعات فيدل ذلك على أن الفسق والكفر لا يمنعان من وقوع الطاعة وان منعا من التقبل.
[مسألة]
وربما قيل كيف يصح قوله تعالى (وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وهُمْ كارِهُونَ) في صفة المنافقين وفاعل الانفاق لا يجوز أن يكون كارها له.
وجوابنا ان المراد أنهم يكرهون ذلك الانفاق على الوجه الذي أمروا وانما ينفقون خوفا ولا يمتنع ان يراد الشيء على وجه ويكره على وجه آخر كما يراد من الغير ان يصلي للّه ويكره منه أن يصلي على وجه الرياء والسمعة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ ولا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وهُمْ كافِرُونَ) كيف يصح ان يريد تعالى أن يعذبهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا. وجوابنا ان تكثير الاموال والاولاد في
الدنيا لا يكون عقوبة لان اللّه تعالى يفعله تفضلا أو مصلحة في الدين لكنهما لما جاز أن يكونا فتنة ومحنة وسببا للعقوبة من حيث يغتر المرء بهما فينصرف عن طريق الطاعة الى خلافه جاز أن يقول تعالى ذلك بعثا للعباد عن هذا الجنس من الاغترار وهذا كقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) ويحتمل أن يريد أنه يعذبهم في الآخرة بها فيكون التعذيب متناولا الآخرة دون الدنيا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) كيف يصح أن يأمر اللّه تعالى ببذل المال تالفا على الدين ومتى صاروا الى الدين للمال لم ينتفعوا به. وجوابنا ان ذلك وان كان في الحال لا ينتفع به فقد يكون تلطفا في الاستدراج اليه فيصير الواحد منهم بذلك من أهل الدين وقد أمرنا اللّه تعالى بأن نأخذ أولادنا بالصلاة لمثل هذا المعنى وان كانوا لا ينتفعون بالصلاة وليسوا مكلفين. واختلف العلماء في المؤلفة هل يدخلون الآن في سهم من الزكاة فأكثرهم يمنع من ذلك لظهور الاسلام وقوته واستغنائه عن تألف قوم في الذّبّ عنه والمجاهدة فيه ومن العلماء من يقول بل سهمهم ثابت ابدا واذا وجد من ليس يقوى على الايمان ويظن أنه يصير من أهل القوة فيه اذا دفع ذلك اليه فيكون حاله كحال سهم في سبيل اللّه للذين يجاهدون.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ويَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) كيف يصح ان يكون خيرا وما يسمع قد يكون الخير والشر والصواب والخطأ. وجوابنا انه تعالى قيد ذلك فقال بعده (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ويُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ورَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) فبين انه اذن يقبل ما تكون هذه صفته وقبول الخير وما يؤدي الى الخير هو طريقة الصالحين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) فذكرهما ثمّ وحّد كيف ذلك. وجوابنا ان الواجب ان لا يذكر تعالى مع غيره بل يجب أن يفرد بالذكر إعظاما وقد روي انه صلّى اللّه عليه وسلم سمع رجلا يقول اللّه ورسوله فقال اللّه ثمّ رسوله، ولذلك قال تعالى بعد ذكر نفسه ورسوله (وَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) فأفرد ذكره وقد أفرد اللّه ذكر جبريل وميكائيل عن الملائكة تفخيما لهما وتعظيما، فما ذكرناه أحق وأولى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) كيف يصح ذلك وأكثر الفساق لا يوصفون بالنفاق. وجوابنا انه تعالى بيّن في المنافقين انهم كذلك لأن جميع المنافقين هم فاسقون، وانما كان يحب ذلك لو قال ان الفاسقين هم المنافقون.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ) كيف يصح ذلك في تعذيب المنافقين وانما يستعمل حسب في الخير ويستعمل في خلافه حسيب. وجوابنا ان المراد بذلك الزجر عن النفاق كما تزجر من ينهمك في شرب الخمر، فتقول حسبك هذا الفعل فيكون على وجه الزجر لا على وجه الوصف ولذلك قال تعالى بعده (وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ولَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) ثمّ انه تعالى بعد ذكر قصة المنافقين ذكر ما يحقق عدله وحكمته فقال (فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ولو كان الظلم خلقا للّه تعالى لكان هو الظالم دون أنفسهم ثمّ ذكر بعده جل وعز طريقة المؤمنين فقال (وَ الْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) فوقف رحمته تعالى على من هذه صفته، وبين انها صفة المؤمنين وان من ليس هو كذلك لا يمدح بالايمان، وبين انه وعدهم جنات عدن على ما وصف ووعدهم برضوان من اللّه وان ذلك من باب الانعام الاكبر
والاعظم. وبين ان ذلك هو الفوز العظيم لان من اوتي ذلك فقد أدرك نهاية المطلوب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ والْمُنافِقِينَ) كيف يصح ذلك ومن حكم المنافقين ان لا يجاهدوا وان يجروا مجرى المؤمنين في أحكام الدنيا. وجوابنا ان النفاق ما دام مكتوما فحاله ما وصفه فأما إذا ظهر فحال المنافقين في المجاهدة كحال الكفار، وإنما ذكر تعالى ذلك عند ظهور نفاقهم على ما تقدم ذكره ولو صح ما ذكرته لحملنا مجاهدة المنافقين على غير الوجه الذي تحمل عليه مجاهدة الكفار.
ولذلك قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم بعد ذلك (وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ ومَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) وقال بعده (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ولَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) فنبه بذلك على ظهور النفاق.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى في وصفهم (وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) وكانوا لم يزالوا على النفاق. وجوابنا أن المراد أظهروا الكفر بعد إظهار الاسلام وذلك دلالة على ما قلنا من أن نفاقهم ظهر فأوجب اللّه تعالى فيهم ما تقدم ذكره، ولذلك قال تعالى بعده (وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) ثمّ قال تعالى بعده (وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا) فنبه بذلك على عظم الذم في نقض العهد والمواثيق وأن من نقضه يكون أعظم حالا ممن ابتدأ بذلك.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله جل وعز (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) فأضاف نفاقهم الى نفسه وأنه أدامه فيهم
كيف يصح ذلك مع حكمته. وجوابنا أنه تعالى لما خلاهم ونفاقهم ولم يلطف بهم من حيث كان المعلوم أنه لا لطف لهم لتقدم النفاق فيهم جاز أن يضيف ذلك إلى نفسه وذلك قوله (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ) والمراد به التخلية ولذلك قال تعالى بعده (بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ) فبين أن المراد هو ذلك لا أنه خلق فيهم النفاق وقال تعالى بعده (وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ونَجْواهُمْ) وكل ذلك لا يليق الا بزجرهم عن النفاق ولو كان هو الخالق لذلك فيهم لما صح ولذلك قال تعالى بعده (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) فبين أن استغفاره لا يؤثر وكذلك سائر الالطاف (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وآتاهُمْ تَقْواهُمْ) لان تقدم ايمانهم صير ما يفعله لطفا لهم فاذا لم يتقدم حرموا أنفسهم ذلك وخرجوا بسوء اختيارهم عن أن يتأتى فيهم اللطف فيكون ذلك كالجناية منهم على أنفسهم وهو معنى قوله تعالى (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ويقال ان المعاصي اذا اجتمعت وكثرت بلغ القلب في القسوة ما لا تؤثر فيه الالطاف.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً ونِفاقاً) كيف يصح مع ذلك أن يقول (وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ) وذلك كالمتناقض. وجوابنا أن الكلام اذا اتصل دل آخره على أوّله فالمراد بذلك البعض ويحتمل أن يراد بالاعراب من امتنع عن المهاجرة فقد كان يقال مهاجر واعرابي. وبين ذلك قوله تعالى (وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ والْأَنْصارِ) فميزهم من الأعراب الذين أرادهم بهذه الآية.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) ما فائدة ذلك واللّه تعالى يقبل التوبة ممن لم يعمل الا السيئات كما يقبلها ممن خلط الصالح بالسيّئ. وجوابنا أنه تعالى نبه بقوله (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) على وقوع التوبة منهم والندامة فلذلك خصهم بقبول التوبة لا أنه نفى قبول التوبة عن غيرهم ممن ذكره تعالى بقوله (وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) لأن هؤلاء لم يتوبوا بل أصروا فلذلك قال تعالى (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) لأنهم اذا بقوا فاما أن يصروا فالعذاب وإما أن يتوبوا فتوبتهم مقبولة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِها) كيف يصح الأخذ من قبل الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وبفعل غيرهم لا يلحقهم المدح حتى يوصفوا بأنهم مطهرون مزكون وكيف يقول (وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). وجوابنا ان المراد بذلك من تاب وقبل اللّه توبته. فبين أنه اذا أخذ منهم الصدقة فهذه حالهم وأمره بأن يدعو لهم بالرحمة والثواب وهي معنى قوله (وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ) ولذلك قال بعده (أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) والمراد بهذا الاخذ القبول وذلك لا يليق الا بالمؤمن التائب الذي يسر ويرضى بما فعله الرسول صلّى اللّه عليه وسلم من أخذ الزكاة منه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ) كيف يصح من الرسول والمؤمنين أن يعلموا أعمالهم ولا سبيل الى ذلك لا فيما بطن ولا فيما ظهر. وجوابنا أن المراد الاعمال الظاهرة التي يشهد الرسول بها ويشهد المؤمنون كما ذكره اللّه تعالى في الشهداء.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ) كيف يدخل قتل الكفار لهم فيما به يستحقون المدح وذلك كفر منهم. وجوابنا ان قتل الكفار لهم يتضمن وقوع الصبر الشديد على الجهاد فيدل على هذه الطاعة العظيمة فلذلك ذكره تعالى وعلى هذا الوجه الذي ذكرناه يوصف المقتول في الجهاد بانه شهيد لما دل القتل له على ما ذكرناه ودل تعالى بقوله فيما بعد (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ والْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) على ان المؤمن لا يتكامل كونه مؤمنا الا بهذه الخصال ونبه تعالى بقوله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) على انهم مستحقون العقاب لا يجوز لنا أن نستغفر لهم ونترحم عليهم وانما يجوز ذلك في المؤمن الذي نقطع بايمانه أو تظهر منه دلالة ذلك ودل تعالى بقوله (وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) على انه تعالى يريد بالضلال المضاف اليه العقاب وما شاكله فلذلك قال (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) فنبه على ان اضلاله بالعقاب لا يكون الا بعد هذا البيان وأضاف الايمان والكفر الى السورة في قوله (وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) الى آخر الآية على وجه المجاز لما كان الايمان منهم عند نزولها ولما كان الرجس والكفر من الكفار عند نزولها وذلك معلوم وهو كقوله تعالى (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ) اذ معلوم لكل واحد ان المراد أهلها وزجر تعالى عباده بقوله (أَ ولا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ ولا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) فبين أنه لا يدع بما ينزل بهم من الامراض والمصائب والمحن سترا يحجبهم عن الطاعة والتوبة وهم مع ذلك غافلون وذلك زجر عظيم عن الاعراض وترك التوبة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) ان ذلك يدل على أنه جل وعز يصرفهم عن الطاعة فما تأويل ذلك. وجوابنا أن المراد ثمّ انصرفوا بترك الطاعة والتوبة صرف اللّه قلوبهم أي عاقبهم على انصرافهم كما قال تعالى «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ») وقوله (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ان هذا كالنص في انه تعالى خلق الكفر فيهم. وجوابنا أنهم كانوا يؤخرون الحج من شهر الى شهر، فبين تعالى انهم يضلّون بذلك لا ان اللّه تعالى يفعله فالاضلال منسوب اليهم لا اليه تعالى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ان ذلك يدل على أنه يمنعهم من الطاعة. وجوابنا ان كلامنا في الطبع وانه علامة كالختم وانه لا يمنع من الايمان كما تقدم.
سورة يونس
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ان ذلك كالنص في انه تعالى جسم يجوز عليه المكان. وجوابنا ان المراد بالاستواء الاستيلاء والاقتدار كما يقال استوى الخليفة على العراق وكما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
وقد ثبت بدليل العقل أن ما يصح عليه الاستواء من الأجسام. ولا يكون إلا محدثا مفعولا فلا بد من هذا التأويل (فإن قيل) فلما ذا قال اللّه تعالى (ثُمَّ اسْتَوى) ومعلوم أن اقتداره لم يتجدد. وجوابنا ان ثمّ في اللفظ دخلت على الاستواء والمراد دخولها على التدبير وهو قوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) والتدبير من اللّه تعالى حادث.
ومتى قيل فلما ذا خص العرش بالذكر وهو مقتدر على كل شيء فجوابنا لعظم العرش وهذا كقوله تعالى (رَبُّ السَّماواتِ والْأَرْضِ) وان كان ربا لغيرهما ومعنى قوله بعد ذلك (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) ان مرجع الخلق اليه حيث لا مالك سواه، كما يقال رجع أمرنا الى الخليفة اذا كان هو الناظر.
في أمرهم وليس المراد بذلك المكان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) ان ذلك يدل على جواز لقائه بالرؤية والمشاهدة. وجوابنا ان المراد لا يرجون لقاء ثوابنا واكرامنا ولا يرجون المجازاة على ما يكون في الدنيا وهذا كقوله (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) وكقوله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ) وبعد فقد يقال لقي فلان فلانا وان لم يره وقد يوصف بذلك الضرير اذا حضر غيره وقد يرى الرجل غيره من بعد ولا يقال لقيه، فليس معنى اللقاء الرؤية ولذلك قال تعالى بعده (وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا واطْمَأَنُّوا بِها) فنبه بذلك على ان المراد انهم لا يؤمنون بيوم القيامة وقوله تعالى بعد ذلك (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) يدل على أن الهدى هو الثواب فيكون حجة على ما نتأول عليه وربما قيل في قوله تعالى (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ) ان ذلك يدل على ارادته لذلك، وجوابنا أن المراد نخلي بينهم وبين ذلك وان كنا لا نأمر ولا نريد الا الطاعة وهذا كقوله (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) والمراد التخلية وكما يقال أرسل فلان كلبه على من يدخل داره اذا لم يمنعه من الوثوب على الناس.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أ ليس في ذلك دلالة على أنه تعالى لا يعلم الشيء حتى يكون. وجوابنا أن المراد بذلك لننظر نفس العمل وهو تعالى يراه بعد وجوده وأما علمه فلم يزل ولا يزال.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) فعمم ذلك ثمّ قال (وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فخص كيف يصح ذلك. وجوابنا أنه يدعو إلى دار السلام الكافة ومعنى قوله ويهدي
من يشاء أي من قبل ما كلفه دون من لم يقبل. ويحتمل ان يراد بهذه الهداية نفس الثواب فيكون قد دعا كل الخلق وأثاب من آمن منهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وزِيادَةٌ) أ ليس المراد بها الرؤية على ما روي في الخبر. وجوابنا ان المراد بالزيادة التفضيل في الثواب فتكون الزيادة من جنس المزيد عليه وهذا مروي وهو الظاهر فلا معنى لتعلقهم بذلك وكيف يصح ذلك لهم وعندهم ان الرؤية أعظم من كل الثواب فكيف تجعل زيادة على الحسنى ولذلك قال بعده (وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ) فبيّن أن الزيادة هي من هذا الجنس في الجنة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) كيف يصح ذلك وكثير من الأحكام يعول فيها على الظن وجوابنا أنه تعالى ذكر ذلك في محاجة من يعبد الاصنام في قوله تعالى (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) إلى غير ذلك والظن في هذا الحق لا يقبل وانما يقبل الاجتهاد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي ولَكُمْ عَمَلُكُمْ) ما الفائدة في هذا الجواب. وجوابنا أنه لا يقول ذلك على وجه الحجاج لكنه إذا أقام الحجة واستمروا على التكذيب صح أن يزجرهم بهذا القول، وقد كان صلّى اللّه عليه وسلم يغتم بمثل ذلك فكان تسلية من اللّه تعالى له وما بعده من قوله (أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ولَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) وقوله (أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) كل ذلك يدل أن المراد طريقة الزجر لهم ثمّ ذكر تعالى بعده بقوله (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ولكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ان الظلم من قبلهم ولم تنزيه القرآن (12)
يؤتوا فيه إلا من جهة تقصيرهم وأنهم ممكنون من تركه والعدول عنه كما نقول في هذا الباب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلَأَهُ زِينَةً وأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) كيف يجوز من موسى أن يسأل ربه ذلك وأن يعتقد انه تعالى رزقهم لكي يضلوا.
وجوابنا أن المراد أنعمت عليهم بهذه النعم فسيروها سببا لضلالتهم فمعنى قوله (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أن عاقبتهم ذلك كقوله (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وحَزَناً) وأما قوله تعالى (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) فهو دعاء عليهم وقد ضلوا ويجوز أن يدعى على من قد ضل وكفر بضروب العقاب ويجوز أنه يدعو عليهم بالاخترام والاماتة الذين معهما لا يؤمنون حتى يروا العذاب الاليم في الآخرة لأنه من المعلوم أنه لا يؤمن أبدا كلما عجل اخترامه يكون عقابه أخف وبين تعالى بقوله (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) ثمّ قال (آلْآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أن الايمان مع الالجاء لا ينفع وانما ينفع والمرء متمكن من اختيار الطاعة والمعصية وداعيته مترددة بين الامرين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) كيف يصح في العلم ان يكون سببا للاختلاف والقول الباطل.
وجوابنا أن المراد بذلك انهم اختلفوا وقد أقام الحجة وأوضح الطريق لهم على جهة الندم لهم، ولذلك قال بعده (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ)
(الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز أن يقول تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) ومعلوم ان الشك في ذلك لا يجوز عليه. وجوابنا انه تعالى ذكره والمراد من شك في ذلك على وجه الزجر أو قال ذلك لاهل الكتاب الذين يجوز أن يسألهم غيرهم عما في الكتب من تصديق محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) أ ليس ذلك يدل على ان تقدم كلمته تعالى يمنع من الايمان. وجوابنا ان المراد ان من المعلوم انه لا يؤمن وقد سبقت الكتابة من اللّه تعالى بذلك في اللوح المحفوظ لا يؤمن لكنه انما لا يؤمن اختيارا وكما سبق ذلك في الكتاب فقد سبق فيه أيضا انه يمكن من الايمان فيعدل عنه بسوء اختياره ولذلك قال تعالى (وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) ولو كان ذلك يمنع من الايمان لم يكن في مجيء الآيات فائدة وقوله تعالى من بعد (وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) دلالة على انه لم يشأ إيمانهم على وجه الاكراه مع قدرته على أن يكرههم عليه وأنما سأل ذلك على وجه التطوع والاختيار لكي يفوزوا بما عرضوا له من الثواب، وقوله تعالى من بعد (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا والَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) بعد تقدم ذكر العقاب يدل على ان من ليس بمؤمن من الفساق والكفار لا ينجيهم اللّه من العقاب.
[مسألة]
وربما قيل كيف جاز أن يقول موسى للسحرة (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) وذلك معصية لا يحسن الأمر بها. وجوابنا انه قال لهم لا على وجه الأمر لكن على وجه التعريف بأنهم مبطلون وان باطلهم ينكشف بما
سيأتيه فهو قريب من تحدي الانبياء بالمعجزات.
[مسألة]
وربما قيل ما فائدة قوله تعالى (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) والتنجية لا تكون الا بالبدن. وجوابنا ان المراد انا ننجيك خاصة دون غيرك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما تُغْنِي الْآياتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) كيف يفعل من ذلك ما لم يغن عنهم شيئا.
وجوابنا ان ذلك كالزجر من حيث ينصرفون عما فيه حظهم ويحتمل انه لا يغني عنهم في الآخرة اذا عوقبوا من حيث تركوا القبول.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) كيف يجوز وقد سألوه أن يقتصر على الجواب واليمين دون الحجة. وجوابنا انه قد أقام الحجة وانما أراد منه الفتوى فأفتاهم وأكد ذلك باليمين.
سورة هود
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) كيف يصح ذلك والتفصيل ليس بشيء غير الأحكام. وجوابنا أن اللّه تعالى كتب القرآن في اللوح المحفوظ ثمّ أنزله مفصلا الى الرسول لا جملة واحدة بحسب المصلحة فهذا معنى قوله ثمّ قال (ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) لانه تعالى أمر بانزاله على هذا الحال من التفصيل بعد إحكام الجميع وهذه الآية تدل على أن القرآن فعله تعالى من حيث وصفه بأنه أحكمه وذلك لا يتأتى الا في الافعال ومن حيث وصفه بأنه فصلت آياته ومن حيث وصفه بأنه من لدن القديم تعالى وانما يقال ذلك في الأفعال كما يقال ان هذه النعم من فضله وبين ما تقتضيه آيات الكتاب بقوله (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ وأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فبين ما تضمنه الكتاب وبين حال التائب وانه يمتعه متاعا حسنا (وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) وبين حكم المصر بقوله (وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) ثمّ بين ان المرجع الى اللّه تعالى والمراد الى يوم لا حاكم ولا مالك سواه وهو يوم القيامة وبيّن بقوله تعالى (وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) تكفله بإرزاق كل حي. ومتى قيل فاذا تكفل بذلك فلما ذا يلزمه السعي. فجوابنا أن تكفله هو على هذا الوجه لا على حد الابتداء كما ان تكفله برزق الولد هو على وجه المباشرة لا على وجه الابتداء وبين ان كل ذلك مكتوب
في الكتاب المبين وفائدة كتابة ذلك في اللوح المحفوظ ان الملائكة تعتبر بذلك وتعرف قدرة اللّه تعالى وعلمه اذا وافق ما يحدث من الامور ذلك المكتوب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ما الفائدة في خلقهما في هذه الايام وهو قادر على أن يخلقهما في لحظة واحدة. وجوابنا انه تعالى خلقهما في هذه المدة مصلحة للملائكة لكي يعتبروا بذلك كما انه قادر على جمع كل رزق لنا في يوم واحد لكنه للمصلحة يفعله حالا بعد حال ولذلك قال بعده (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وبين تعالى بقوله ولئن قلت انكم مبعوثون من بعد الموت انكارهم للاعادة وبين بقوله (وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) استعجالهم بما كان يخوف به الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وبين آخرا بقوله (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) ان ذلك مؤخر لانه تعالى حليم لا يعجل العقوبة ويمهل توقعا للتوبة وبين تعالى طريقة الانسان المذمومة بقوله (وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ ولَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) فبين انهم عند الاحسان اليهم يفرحون فاذا نزع ذلك لمصلحة يوجد منهم كفر النعمة واذا أجزل النعم عليهم يسلكون طريقة الفخر والفرح دون الانقطاع الى اللّه وتعالى والتواضع له وذلك تأديب من اللّه تعالى فيما ينبغي أن يفعله المرء عند الغنى والفقر وفيما يكره منه ولذلك قال بعده (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فاستثناهم من القوم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) ما الفائدة في هذا الابتداء ولا خبر له.
وجوابنا ان الخبر قد يحذف اذا كان كالمعلوم والمراد أ فمن كان بهذا الوصف كمن هو يكفر ولا يسلك طريقة العبادة وما توجبه البينة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) أنه يدل على جواز المكان عليه لان العرض لا يصح الا على هذا الوجه. وجوابنا أنهم لما عرضوا في الموضع الذي جعله اللّه تعالى مكانا للعرض صح ذلك ومعنى قوله تعالى من بعد (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وما كانُوا يُبْصِرُونَ) انهم من حيث لم يقبلوا ولم ينتفعوا بما سمعوا ورأوا كانوا في حكم ما لا يسمع ولا يبصر ولو أراد الحقيقة لما ذمهم من قبل بقوله (وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أن ذلك على أنه تعالى يريد الضلال. وجوابنا أن مراد نوح عليه السلام عند مخاطبة قومه بذلك انه ان كان تعالى يريد حرمانهم وخيبتهم من الفوز بالثواب وانزال العقاب فنصحه لا ينفع وذلك احالة على المعلوم من حالهم أورده على وجه الزجر لهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) أ ليس في ذلك دلالة على انه تعالى وعده تخليص ابنه مع القوم ثمّ لم يقع فكيف يصح ذلك. وجوابنا أنه تعالى قد كان وعد بنجاة أهله وأراد من آمن منهم وظن نوح أن ابنه منهم ولذلك قال تعالى بعده (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) ان ذلك يدل على أن الطاعات
من فعل اللّه تعالى. وجوابنا أن التوفيق من فعل اللّه تعالى في الحقيقة وهو ما يفعله مما يدعو العبد إلى العبادة كخلق الولد والغنى وما شاكله فنحن نقول بالظاهر والقوم لا يمكنهم ذلك إذ قالوا إن اللّه تعالى يخلق أعمال العباد لأنّ خلقه ذلك مما يغني عن اللطف والتوفيق والمعونة والهداية فكان ذلك على مذهبهم يحب أن لا يصح.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ والْأَرْضُ) أ ليس ذلك يدل على انقطاع العذاب من حيث وقته بدوام السموات والارض الذين يفنيان وأنتم تقولون بالخلود فكيف يصح ذلك.
وجوابنا ان للنار سماء وأرضا وكذلك الجنة ولا يفنيان فهذا هو المراد وقد قيل ان المراد بذلك تبعيد خروجهم فعلقه تعالى بما يبعد في العقول زواله على مذهب العرب في مثل قول الشاعر.
اذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ان ذلك الاستثناء يدل على انقطاع العقاب فكيف يصح ذلك مع قولكم بالخلود.
وجوابنا أن المراد أوقات الموقف للمحاسبة قبل دخول النار وعلى هذا الوجه ذكر اللّه تعالى في السعداء مثل ما ذكره في الأشقياء فقال (وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ والْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) وقوله تعالى من بعد لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) على وجه الزجر لغيره على نحو ما قدمناه من قبل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ
رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) كيف يصح أن يوفيهم نفس العمل. وجوابنا أن المراد جزاء العمل من ثواب وعقاب وهو الذي يصح أن يفي به وعده.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) كيف يصح ذلك وقد أبيح لنا مخالطتهم.
وجوابنا أن المراد الركون اليهم فيما يتصل بالمدح والاعظام ويجري مجرى الموالاة ولم يرد ما يتصل بالمعاشرة ومعنى قوله من بعد (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ان التوبة تزيل عقاب المعاصي وكثرة الطاعات تكفر السيئات ومعنى قوله تعالى (وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) بالالجاء والاكراه لكنه انما شاء منهم ذلك على وجه الاختيار لكي يفوزوا بالثواب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ولِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أ ليس ذلك يدل على أنه خلقهم للاختلاف الذي في جملته المعصية وذلك يدل على أنه تعالى مريد منهم ذلك. وجوابنا أن المراد للرحمة خلقهم لانه قال (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ولِذلِكَ خَلَقَهُمْ) فلذلك راجع الى الرحمة لا الى الاختلاف والرحمة من اللّه تعالى لا تكون الا بارادته فكأنه قال ولكي يرحمهم خلقهم وهو أقرب مذكور اليه وقد ثبت بالدليل أن الاختلاف الباطل لا يريده اللّه تعالى بل يكرهه أشد كراهة فقد نهى وزجر عن فعله.
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) كيف يصح ذلك اذا لم يكن هو الخالق لتصرف الحيوان.
والجواب عنه أن المراد أنه قادر على تصريفها كما يشاء والعرب تذكر ذلك على هذا المعنى فتقول ناصية فلان بيد فلان.
[مسألة]
وربما سألوا في قوله تعالى (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) كيف يجوز منه وهو نبي أن يجادل الملائكة في ذلك. وجوابنا أنه جادل ليعرف ما لأجله استحقوا العذاب وهو أحد الوجوه التي يجادل المجادل لأجلها.
سورة يوسف
أول ما نذكر في هذه السورة أنها مشتملة من آداب الانبياء صلوات اللّه عليهم ومن آداب الاخلاق والتمسك بالصبر والحلم وتوقع الفرج بعد حين والتشدد في الصبر على المعاصي واحتمال المكاره على ما لو تأمله القارئ وتمسك بكله أو بعضه لعظم موقع ذلك في دينه ودنياه، فليتأمل القارئ أولا رؤيا يوسف للكواكب والشمس والقمر وان أباه صلّى اللّه عليهما وسلم كيف تقدم بكتمان ذلك عن اخوته والصبر في كتمان ذلك صعب فاحتمله تحرزا من حسدهم. وليتأمل ثانيا كيف جاد به على اخوته لئلا يستوحشوا وظن السلامة مع خوفه منهم عليه حتى أقدموا على ما أقدموا. وليتأمل ثالثا أنه بعد ظهور ذلك منهم كيف احتملهم ولم يجازهم على ما فعلوه بقطعهم واخراجهم عن محبته وعن النظر لهم.
وليتأمل رابعا صورة يوسف فيما وقع اليه من امرأة العزيز وكيف تشدد في الاحتراز عنها واحتمل لذلك الحبس الطويل حتى كانت عاقبة صبره ما حصل من اعتراف الكل بصيانته ووصوله الى الملك والبغية. وليتأمل خامسا ما دفع اليه اخوته في تلك السنين الصعبة من التردد الى يوسف يطلبون من جهته القوت واحتمالهم لما عاملهم به. وليتأمل سادسا كيف صبر عليهم وكيف احتمل في تخليص أخيه الى حضرته واحتباسه عنده على مهل وقد كان يمكنه التعجل.
وليتأمل سابعا كيف حسنت معاملته مع اخوته حين ظفر بهم وقد كانوا عاملوه من قبل بما عاملوه به. وليتأمل ثامنا كيف توصل الى ازالة الغمة عن قلب أبيه وصبر الى أن ظفر بالوقت الذي أمكنه فيه احضاره عنده على أحسن
الوجوه. وليتأمل تاسعا كيف كان صبر يعقوب صلّى اللّه عليه وسلم في بابه وفي باب غيبة أخيه وهو كالراجي لعودهما اليه واجتماعه معهما. وليتأمل عاشرا كيف قبل يوسف عذر إخوته وقد اعتذروا اليه مع تلك الجنايات العظام فكان جوابه (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ). وليتأمل حادي عشر كيف قبل يعقوب أيضا عذرهم وزاد بان قال (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الى وجوه أخر تركنا ذكرها ثمّ أنه تعالى قال في آخر السورة لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم ولجماعة المكلفين (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وهُمْ يَمْكُرُونَ) فنبه بذلك على وجوب التمسك بهذه الاخلاق والآداب وكذلك قال تعالى في أول السورة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) لان النفع يعظم بذلك لمن تأمله وهذا معنى قوله (أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) لان من تدبر القرآن وتمسك باحكامه وآدابه وأخلاقه انفتح قلبه للخيرات دينا ودنيا فاذا قرأه من غير تدبر يصير قلبه كأنّ عليه قفلا لا يتغير عما هو عليه فهذه المقدمة التي قدمناها في هذه السورة تنفع فيها وفي القرآن ثمّ نذكر ما فيها من المتشابه على طريقتنا في هذا الكتاب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى لرسوله (وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) كيف يقول ذلك ولم يكن موصوفا من قبل بذلك.
وجوابنا أن المراد من الغافلين عن هذه القصة وما شاكلها والا فمعلوم من حاله صلّى اللّه عليه وسلم التيقظ لكل ما يتعلق بالدين.
[مسألة]
وربما قيل كيف قص يوسف رؤياه على يعقوب كأنه مصدق بها وكيف أمره أبوه بكتمان ذلك بقوله (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) كانه عالم بصدق الرؤية مع أنها قد تخطئ وتصيب وكيف قال (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) فأخبر عن أمر مستقبل لا يعرفه. وجوابنا
أن مثل ذلك قد يعمل فيه بالظن فلا ينبغي أن لا يفعل الا اليقين ويحتمل انه عرف من اخوته من قبل ما يوجب أن يأمره بالكتمان وما يعلم عنده انهم لو وقفوا على هذه الرؤيا لكادوا له ولو كان مثل ذلك لا يصح الا مع العلم لقلنا إنه تعالى قد أوحى اليه أما جملة وأما مفصلا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ) أ هو من قول يعقوب أو من قوله تعالى، فان كان من قول يعقوب فكيف عرف ذلك. وجوابنا انه من قول يعقوب وقد كان اللّه أعلمه ذلك، يبين ما قلناه قوله أخيرا (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). فان قيل فاذا عرف ذلك فكيف يجوز أن يغتم على ما ذكره اللّه تعالى في الكتاب ويخفى عليه حال يوسف. وجوابنا انه قد عرف ذلك من جهة اللّه تعالى على شرط أن يبقى، فلذلك كان خائفا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) كيف يجوز ذلك منهم وهم أنبياء أو مرشحون للنبوة. وجوابنا ان محل الولد من أبيه أن ينزله منزلة سائر أولاده فلا يقبح قولهم ان أبانا لفي ضلال مبين اذ مرادهم ذهابه عن انزالهم هذه المنزلة أيضا وبعد فلو قبح لكان ذلك قبل حال التكليف على ما يدل عليه قوله تعالى (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ ويَلْعَبْ) لان هذا القول لا يليق الا بحال الصبي وفقد كمال العقل وقولهم (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ) انما صح أيضا لان الحال حال الصبا وفقد كمال العقل فكذلك سائر ما فعلوه بيوسف لما أرسله يعقوب معهم (فان قيل) كيف كانت الحال حال الصبا وقد قال تعالى بعده (وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وهُمْ لا يَشْعُرُونَ). وجوابنا انه يحتمل أن يكون بمنزلة قوله تعالى (وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)
ويكون بطريقة الالهام أو اظهار أمارة ويحتمل في هذا الايحاء أن يكون الى يعقوب لتقدم ذكر يعقوب.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) وما معنى (وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) فكيف يصح منهم الكذب ووصف الدم بالكذب. وجوابنا انه يحتمل في قولهم أكله الذئب انهم قالوه تعريضا لا خبرا على التحقيق ويحتمل أن يكونوا قد كذبوا لكنه وقع منهم في حال الصبا فاما قوله (بِدَمٍ كَذِبٍ) فمن أحسن ما يوجد في مجاز الكلام فانهم صوروه بخلاف صورته فصار كالكذب ويحتمل أن يكون المراد بدم واقع من كاذب على معنى قوله (وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) أي أهلها وسكانها وقوله تعالى (وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وعِلْماً) يدل على ما قلناه من انه كان ذلك في حال الصبا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها) أ ليس ذلك كان بعد البلوغ والنبوّة فكيف يصح من الانبياء العزم على الزنا.
وجوابنا ان المراد بقوله (هَمَّتْ) العزيمة منها وبقوله (وَ هَمَّ) الرغبة والشهوة وان كان شديدا في الانصراف عن ذلك وقد يقال هم فلان بكيت وكيت بمعنى اشتهى ويحتمل ما قيل انه هم بها لو لا أن رأى برهان ربه فنفاه عنه بشرط قد وجد ولذلك قال تعالى (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشاءَ) وقال بعد ذلك بآيات حاكيا عنها انها قالت (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وهُوَ مِنَ)
(الصَّادِقِينَ) كيف يصح الحكم بمثل ذلك مع تجويز خلافه. وجوابنا انه لا يمنع في شريعة ذلك الزمان الحكم بمثل ذلك وقد يجوز مثل ذلك في شريعتنا أيضا في أشياء كثيرة كالحكم بالقافة عند بعضهم وكإلحاق الولد بالفراش عند جميعهم وكرد للقطة بالعلامات عن بعضهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) كيف يصح ذلك من جماعة العقلاء حتى يتفق منهن قطع اليد عند مشاهدته. وجوابنا ان حديث يوسف اذا كان قد تمكن في قلبهن لما سمعن من خبر امرأة العزيز وشدة كلفها به لم يمتنع وبين أيديهن فاكهة ومعهن ذلك السكين أن يخرجن في حال ارادتهن لقطع ذلك وأكله الى أن يقع منهن خطأ وليس في القرآن ان ذلك القطع كيف كان وفي أي موضع كان في اليد ولا في القرآن كم كان عدد النسوة ولا فيه ان ذلك وقع من جميعهن أو من أكثرهن ومثل ذلك لا يستنكر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى في جواب منام الفتيين كيف يصح أن يقطع بذلك فيقول (أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ) ويقول (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) وذلك كلام قاطع بهذا الأمر. وجوابنا انه يجوز أن يكون قاله من وحي، فقد كانت الحال حال نبوّة ولو لم يثبت ذلك لجاز أن يحمل على وجه الظن على أن الخبر في ذلك كان يثبت لديه، فالقرآن يدل على ان نفس يعقوب ونفس ابراهيم صلّى اللّه عليهما وسلم كانوا قد أوتوا المعرفة بتأويل الرؤيا وقد قيل في الخبر أنهما قالا بعد اظهارهما ما رأياه أنهما كذبا، فقال يوسف (قُضِيَ الْأَمْرُ) وذلك لا يكون إلا عن وحي.
[مسألة]
وربما قيل كيف يصح وهو في السجن أن يظهر أن آباءه ابراهيم
واسحاق ويعقوب ولا يظهر ذلك في القوم وكيف يصح ممن نجا منهما أن لا يذكر يوسف الا بعد زمان والا بعد رؤيا الملك أو ليس كل ذلك نقيض العادات.
وجوابنا أن يوسف عليه السلام كان في صورة العبد الرقيق لذلك الملك وكان يخاف أن يظهر من كلامه ما يدل على خلاف ذلك خاصة فيمن كان خادما لذلك الملك وراجيا لان يعود الى الخدمة فلذلك أخفى نسبه فأما النسيان فقد يصح في مثل ذلك اذا قل الحرص في مثله فلذلك قال تعالى (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) وقال (وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) ثمّ ما كان من جوابه لرؤيا الملك وموافقة الصدق في ذلك، يدل على نبوّته.
[مسألة]
وربما قيل أن يوسف لما أجاب في رؤيا الملك (قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) ولم يذكر له جواب الرؤيا، كيف يصح ذلك وجوابنا أنه في هذه السورة قد ذكر تعالى أشياء حذف جزء منها اختصارا ولدلالة الكلام عليه وذلك يحسن.
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز وقد أمر الملك أن يخلص من السجن ان يختار أن يبقى فيه ويقول (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) وقد كان يمكنه ان يخرج ثمّ يفتش عند ذلك. وجوابنا أنه رأى وقد أحب الملك حضوره عنده أن التفتيش عن ذلك يكون أقوى وموقعه أحسن فأوهم أنه لا يخرج من السجن إلا وقد ظهرت براءة ساحته كالشمس فلذلك قال ما قال فلما قلن ما قلن من قولهن (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) أيقن بظهور أمره فيما كان اتّهم به فعند ذلك خرج الى حضرة الملك.
[مسألة]
وربما قيل كيف جاز من يوسف ان يمدح نفسه فيقول
(اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ومدح النفس مكروه ومنهيّ عنه بقول اللّه تعالى (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) وكيف يجوز للنبي أن يتولّى من قبل الكفار. وجوابنا أن مدح النفس عند الحاجة إليه يحسن فلا يكون المراد المدح بل يكون المراد ذلك الوجه الذي يقع به النفع وعلى هذا الوجه قال صلّى اللّه عليه وسلم «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» فنبه بقوله ولا فخر على أن مراده ليس مدح النفس فيوسف صلّى اللّه عليه وسلم أظهر ذلك لما كان في توليته الخزائن من المصلحة خصوصا في تلك السنين الشديدة فاما تولي ذلك من جهة الكفّار فانه يحسن اذا لم يمنع الشرع منه فان كان ذلك الملك كافرا فذاك حسن وان كان مؤمنا فلا سؤال.
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز في اخوته وهم جماعة ان لا يعرفوا يوسف كما قال تعالى (فَعَرَفَهُمْ وهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) وذلك بخلاف العادة في الجماعة. وجوابنا أن القوم فقدوا يوسف وهو في سن الصبي فتغير وجهه وقد كان لباسه أيضا من قبل بخلاف لباسه وقد صار له الملك وكذلك سائر أحواله وكان القوم يتهيّبونه عند المخاطبة لشدة الحاجة اليه وكلّ ذلك مما يجوز أن لا يعرفه القوم فيجوز أن حالته في معرفته لهم بخلاف حالهم لتمكنه من الامور وفراغ قلبه لتأملهم.
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز مع المجاعة الشديدة أن لا يكيل لهم مع الحاجة حتى يأتوا بأخيه ومثل ذلك لا يحل. وجوابنا أنه عرف أن الحاجة ليست في ذلك الوقت وكان له بغية في حضور أخيه وأنه سينتهي ذلك الى حضور أبويه أيضا فلذلك فعل.
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز أن يخفى خبره عليهم المدة الطويلة مع قرب المسافة بين مصر وبين البدو الذي كانوا فيه حتى يجري الأمر على ما ذكره تنزيه القرآن (13)
اللّه عز وجل في كتابه. وجوابنا أن إخوة يوسف لما أقدموا على ما فعلوه في أمر يوسف وجملة جماعة من السيارة وقد اشتروه بثمن بخس ظنوا فيه خلاف ما ظهر فقلّ تفتيشهم عنه ولما حمل واشتراه ذلك العزيز لامرأته واتخذاه كالولد كان كالمكتوم عن الناس مع حسن صورته ومثله ربما يخشى ظهوره ثمّ أقام محبوسا ما أقام وتردد في المجلس فعمي أمره وقد طالت المدة فلذلك ولأمثاله خفي خبره على أبيه وإخوته فأما خبرهم فلم يخف عليه لأن الذي عامل به اخوته يدل على أنه كان بذلك عارفا وكان يتلطف في تحصيل أخيه ثمّ أبيه بالوجوه التي أباحها اللّه تعالى ومثل هذا السبب قد يخفى عنده الخبر فلذلك خفي على يعقوب وعلى اخوته خبره (فان قيل) كيف يجوز مع شدة محبة يعقوب أن لا يفتش عن خبره وقد كان قال لهم ما يدل على أنه اتهمهم في أن الذئب أكله. وجوابنا أن يعقوب ما كان يعرف الاخبار الا من جهة أولاده لأن سائر الناس كان يقبض عنهم وأولاده كانوا لا يفتشون عن ذلك لأن سبب الجناية كان منهم وظنوا أنه مفقود في الحقيقة ولأن شدة حزنه وما لقي من المحن في تلك السنين كان يشغل عن مثله (فان قيل) كيف يجوز من يعقوب وهو نبي ان يحزن كل ذلك الحزن على يوسف أو ليس ذلك يصرف عن أمور الآخرة. قيل له قد أبيح للوالد محبة الولد والسرور بأحواله خصوصا اذا كان الولد على مثل صفات يوسف أو ما يقاربها ويحتمل أيضا أنه كان اشتد حزنه لانه ظن أنه قصّر في حفظه وأنه فرّط في أن سلمه من اخوته فتضاعف حزنه لذلك أيضا. فان قيل له كيف جاز أن يقول يوسف وقد جعل السقاية في رحل أخيه إنهم لسارقون وهذا في الظاهر كذب. وجوابنا أن جعل السقاية في رحل أخيه يجوز أن يكون من قبله بأمره فأما ما قاله المؤذن من أنهم سارقون فهو من قبل المؤذن لا من قبل يوسف. فان قيل فكيف قال (فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ). وجوابنا أن كل ذلك ليس من قول يوسف فأما تملك السارق فقد كان بين ذلك الملك ويجوز ان يكون في بعض شرائع الانبياء فلذلك قالوا فهو جزاؤه. فان قيل
وكيف قال تعالى (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) وأخذه على هذا الوجه معصية لا يجوز أن يشاءه اللّه فكيف يصح ذلك. وجوابنا أن المراد مشيئة حصوله هناك حتى يصح أخذه لأنّ كل ذلك مما يجوز أن يشاءه اللّه ولذلك قال بعده (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ). فان قيل كيف يصح أن يقول يعقوب صلّى اللّه عليه وسلم (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) فيضيف اليهم التنفيذ والذم له وكيف جاز أن يقولوا له (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) فينسبون الضلال اليه. وجوابنا أنه لا يمتنع أن يجد ريح يوسف وأمارات حياته وأن يكون اللّه تعالى قوي ذلك لما أراده من اجتماعهم وأما الضلال في اللغة فهو الذهاب عن الشيء الذي فيه نفع فأرادوا بقولهم إنك لفي ضلالك القديم انك تجري على عادتك في العدول عما ينفعك ومثل ذلك قد يجوز أن يقال للانبياء فيما يتعلق بأمور الدنيا فان قيل كيف يعود بصيرا بالقاء القميص اليه قيل له أنه نبي وفي أيام الانبياء قد يصح ظهور ما يخرج عن العادة فان لم يكن من معجزات يعقوب فهو من معجزات يوسف فلا سؤال في ذلك. واختلفوا فقال بعضهم كان بصره قد ضعف لا أنه قد زال ومثل ذلك كالمعتاد اذا كان المرء شديد الخوف ثمّ يعود له الفرج والسرور فتعود قوة بصره ومنهم من قال بل كان بصره قد زال على ما يدل الظاهر عليه فيكون الجواب ما تقدم. فان قيل كيف قال وقد عاد بصره (أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أو ليس ذلك يدل على أنه كان عالما بحياة يوسف. وجوابنا انه لا يمتنع أن يكون عالما بذلك من جهة الوحي ولا يمتنع أن يكون ظانا لذلك لعلامات وأمارات واذا علم فقد يجوز أن يكون عالما بشرط لا يحل معه القطع ويجوز خلافه وأحواله كانت تدل على أنه لم يكن قاطعا على موته ولا يمتنع أن يكون قد أوحي اليه بما يدل على عوده اليه آخرا. فان قيل كيف يجوز أن يقولوا (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) وهذا كلام معتذر تائب فيكون جوابه (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) فلم يقبل عذرهم
في الحال وذلك لا يجوز على الانبياء. وجوابنا أنه قبل عذرهم في الوقت وانما وعدهم باستغفار مستقبل يقتضي استدعاء حصول المغفرة من قبل اللّه تعالى فاراد الدعاء للّه تعالى وذلك مما لا يجب في الوقت وانما الذي يلزم في الحال قبول العذر فقط كما قال يوسف عليه السلام (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ويحتمل أنه عليه السلام لم يعرف أن مقصدهم بقولهم (اسْتَغْفِرْ لَنا) الاعتذار الخالص وان كانوا قد تابوا من قبل فقال سوف استغفر لكم ربي اذا عرفت منكم الاخلاص. فان قيل كيف قالوا وقد دخلوا عليه أنك لأنت يوسف وقد ترددوا عليه حالا بعد حال حتى قال (أَنَا يُوسُفُ وهذا أَخِي) وكيف يخفى عليهم حديث أخيهم خاصة وكيف قال لهم (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) وكانوا أنبياء. وجوابنا ما تقدم من أن حال يوسف كان قد تغير في صورته وفي محله وكانوا لا يتأملون تأمل متعرف فلذلك خفى عليهم فأما أخوه فكانوا يعرفونه ولم يقل يوسف (وَ هذا أَخِي) لانهم لم يعرفوه لكنه أراد اظهار نعمة اللّه عليه باجتماع أخيه معه ولذلك قال (قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فاما قوله (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) فالمراد به أيام الصبا وقد يقال لمن لا يعرف الامور انه جاهل لا على طريق الذم. فان قيل فما معنى قوله وقد آوى اليه أبويه (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) وكانوا قد دخلوا. وجوابنا انهما التقيا به خارج مصر فقال ما قال وذلك صحيح وهذا كما يستقبل المرء من يعظمه خارج البلد وأراد بذلك تعريفهم انهم تخلصوا مما كانوا عليه من المحق والمجاعة في ذلك البدو. فان قيل فما معنى (وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) وكيف يسجدون له وذلك من العبادات التي لا تليق الا باللّه تعالى. وجوابنا ان رفعه لهما على العرش كان على وجه الاعظام وايصال السرور اليهما برفعهما على السرير المرتفع فاما السجود فقد يحسن شكرا للّه اذا وصل المرء الى نعم عظيمة فيجوز أن يكون سجودهما له على هذا الوجه وأضيف السجود اليه لما كان سبب ذلك كما يضاف
السجود الى القبلة على قريب من هذه الطريقة. ويحتمل في السجود أن يكون وقع منهما على وجه الاعظام له فان ذلك يحسن على بعض الوجوه. وقد قيل ان اللّه تعالى ذكر السجود وأراد الخضوع بضرب من الميل الى الارض أقرب الى الظاهر بين ذلك قوله تعالى (وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) ودل بقوله (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إِخْوَتِي) على انه قد زال عن قلبه ما عملوه به فاضافه الى الشيطان تحقيقا لذلك ودل بقوله وقد جعله اللّه نبيّا (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ) بعد التحية وقوله (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) على وجوب الانقطاع الى اللّه تعالى والخضوع له في المسألة مع العلم بالغفران فمنّ اللّه تعالى على نبينا صلّى اللّه عليه وسلم بقوله (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) لان في قصة يوسف من العجائب والعبر ما يوجب الشكر ودل بقوله (وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) على ان من يؤمن من الناس قليل من كثير وان كان الانبياء يحرصون على ايمانهم ودل بقوله (وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) على ان دعاء الغير الى الايمان لا يكاد يؤثر الا مع رفع الطمع ودل تعالى بقوله (وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) على ان الواجب على العاقل التفكر في الآيات اذا شاهدها وان ذلك من أعظم ما يأتيه المرء وكذلك قال بعده (وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ) ثمّ بين ما يلحقهم إذا أعرضوا عن الآيات من العقاب فقال (أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) فنبه بذلك على وجوب الحذر من قرب الساعة وقرب الاجل ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه وسلم بأن يقول (هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي) ودل بذلك على ان هذا الدعاء كما يلزم الرسول يلزم من اتبعه من أهل المعرفة واليقين ودل بقوله (وَ سُبْحانَ اللَّهِ وما أَنَا مِنَ)
(الْمُشْرِكِينَ) على وجوب تنزيه اللّه تعالى ممن يدعو الى الدين عما لا يليق به وقوي من نفسه صلّى اللّه عليه وسلم من بعد بقوله (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) وبين ما في قصص الانبياء من النفع في الدين فقال (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) وهذا أحد ما يدل على ان الواجب أن يقرأ القرآن بتدبر حتى ينتفع المرء بذلك.
سورة الرعد
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) كيف يصح أن يرفعها بعمد ونحن لا نراها.
وجوابنا ان المراد انه يرفعها ويمسكها لا بعمد أصلا ودل بذلك على قدرته لان أحدنا لا يصح أن يرفع الثقيل الا بعمد وعلى هذا الوجه قال (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) وذلك من عظم نعم اللّه تعالى فلولا ذلك لم يصح التصرف على الارض ولا أن يدور الفلك والشمس والقمر والنجوم.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) اذ لم يجز عليه المكان. وجوابنا ان المراد الاستيلاء والاقتدار وذكر ثمّ في الاستواء والاقتدار وأراد ما بعد من تسخيره الشمس والقمر لان اقتداره ليس بحادث ولا متجدد فكأنه قال ثمّ (سَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ) وهو مستول على ذلك مقتدر ثمّ يدبر الأمور التي قدر آجالها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ما الفائدة في قوله اثنين وقد عقل ذلك مما تقدم. وجوابنا انه تأكيد يفيد فائدة زائدة لأن الزوجين قد يراد بهما أربعة فبين بقوله اثنين المراد وهو خلقه من كل شيء الذكر والانثى وما يجري مجراه وفي قوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ) دلالة على نعمه وان الواجب التفكر فيها
ليستدل بها على قدرته وليعرف ما يلزم من شكره وعبادته وجعل جل وعز ذلك مبطلا لقول من أنكر الاعادة فلذلك قال (وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).
[مسألة]
وربما قيل ما فائدة قوله تعالى (وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) وانما يحسن ذلك منا لانا لا نقدر على التعذيب والمنع الا بالآلات.
وجوابنا انه تعالى يزجر المكلف عن المعاصي بما جرت العادة أن يعظم خوفه لاجله كما يرغب في الطاعة بما جرت العادة به من الملاذ والمناظر والا فهو قادر على أن يؤلم المعاقب بغير هذه الامور.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أما يدل ذلك على ان كل شيء مخلوق من جهته. وجوابنا انه تعالى ذكر ذلك بقوله (اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وما تَزْدادُ) فبين بعده ان كل شيء عنده بمقدار لانه عالم بكل ذلك وقد يقال عنده ويراد به في علمه كما يقال ذلك ويراد القدرة ويراد الفعل ولذلك قال بعده (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ومَنْ جَهَرَ بِهِ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أ ليس ذلك يدل على انه الفاعل لهذه التغيرات.
وجوابنا انه أضافها اليهم كما أضافها الى نفسه والمراد انهم اذا غيروا طريقتهم في الشكر والطاعة غير اللّه تعالى أحوالهم بالمحن وغيرها زجر بذلك المكلف عن المعاصي. فان قيل فقال بعده (وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) وذلك يدل على ان السوء من عنده. وجوابنا ان المراد المحن والشدائد وتوصف بالسوء مجازا وليس في الآية انه يفعل ذلك وانما فيها انه اذا أراده لا مرد له لان ما يريده اللّه تعالى يكون أبدا بالوجود أولى اذا كان ذلك المراد من فعله. فأما اذا أراد من عباده الطاعات فانما يريدها على وجه اختيار وقد يجوز أن لا تقع لسوء اختيار المكلف.
[مسألة]
ومتى قيل فما معنى قوله تعالى (وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) وكيف يصح التسبيح من الرعد. وجوابنا ان المراد دلالة الرعد وتلك الاصوات الهائلة على قدرته وعلى تنزيهه وذلك كقوله تعالى (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ) لدلالة الكل على أنه منزه عما لا يليق ولذلك قال (وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) ففضل بين الامرين وقوله بعد (وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً) معناه يخضع فالمكلف العارف باللّه يخضع طوعا وغيره يخضع كرها لانا نعلم ان نفس السجود لا يقع من كل واحد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى والْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ والنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أ لا يدل ذلك على انه الفاعل لكل شيء وعلى ان العبد لا يفعل والا كان يتشابه فعله بفعل اللّه. وجوابنا ان قوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى والْبَصِيرُ) زجر للعاصي والكافر بان شبهه بالأعمى وترغيب للمؤمن بأن شبهه بالبصير ونبه بقوله (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) على ان عبّاد الاصنام بمنزلة العميان في عبادتهم لها مع انها لا تنفع ولا تضر فهو معنى قوله (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) ثمّ بين انه الخالق للنعم التي يستوجب عندها العبادة فلا تليق العبادة الا به ولا مدخل لافعال العباد في ذلك وقد بينا من قيل وجوها في ان قوله تعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) لا يدل الا على ان المقدر من هذه الاجسام والنعم من قبله فلا وجه لا يراد ذلك وبيّن تعالى ما أراده بقوله من بعد (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) فدل بذلك على مراده وقال بعده (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ والْباطِلَ) ثمّ قال بعده (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى والَّذِينَ
لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) بأن عصوا وخالفوا ثمّ قال (أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) وبين صفة ذوي الالباب فقال (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ولا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ والَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ويَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ والَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وأَقامُوا الصَّلاةَ وأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وعَلانِيَةً ويَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ومَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وأَزْواجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ والْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) فانظر أيها القارئ لكتاب اللّه كيف صفة من ينال الحسنى ويفوز بثوابها وكيف صفة ذلك الثواب العظيم فانه جل جلاله لم يقتصر على أن لهم الجنة حتى بين أن من صلح من الاقربين يحصل معهم هتاك ممن كلف ويحصل معهم من لم يكلف أيضا من الذرية وأن اللّه تعالى يأمر ملائكته بالدخول عليهم في كل وقت بالسلام والتحية ويعرّفونهم أن كل ذلك جزاء لهم على ما صبروا فانهم صبروا قليلا فدام لهم ذلك الملك والنعيم فهو معنى قوله (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) لانها دائمة على عظم نعمها وخلوصها من كل شائبة ثمّ انه تعالى ذكر خلاف ذلك فيمن خالف ربه وعصى فقال (وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) فالملائكة تلعنهم حالا بعد حال عن أنفسهم وعن ربهم ولهم سوء الدار وهو النار الدائمة التي عقابها خالص عن كل روح وراحة وقد حكى بعض الأئمة أنه سئل عن وصف المؤمن فتلا هذه الآية ولو أردنا أن نفسرها لطال الكتاب فان قوله (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) يدخل فيه القيام بسائر الواجبات التي عهدها الينا والقيام بكل الامانات والوفاء بكل العقود وكذلك كل فضل منه ثمّ بين تعالى (أنه)
(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ويَقْدِرُ وفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) يعني أهل النار ثمّ قال (وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) وقوله بعد ذلك (وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) يدل على أن المراد بالهداية ما نقول من الاثابة وغيرها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) أ ليس ذلك مخالفا لقوله في المؤمنين حيث قال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). وجوابنا أن الطمأنينة المذكورة هاهنا المراد بها المعرفة وسكون النفس الى المجازاة مع الوجل والخوف من المعاصي فالكلام متفق لان المؤمن ساكن النفس الى معرفة اللّه تعالى والى المجازات على الطاعات ومع ذلك خائف مما يخشاه من التقصير ووجل القلب فظن في مثل ذلك أنه مختلف اذ قد نادى على نفسه بقلة المعرفة ولذلك قال تعالى بعده (الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وحُسْنُ مَآبٍ) وبين تعالى عظم شأن القرآن بقوله من بعد (وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى). وجواب ذلك محذوف والمراد لكان هذا القرآن وذلك يدل على أنه في الفصاحة قد بلغ نهاية الرتبة وأنه صار معجزا لذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أ ليس يدل ذلك على أنه الفاعل لكل شيء وقوله من بعد (أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) أ ليس ذلك يدل على أنه لم يشأ من جميعهم الايمان وإلا لهداهم. وجوابنا أن المراد به أنه هدى بعض الناس دون من لم يجعله بصفة المكلف ويحتمل أن يكون المراد لهداهم بالالجاء حتى يجتمعوا على الايمان وقوله (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) صحيح لان المراد اقتداره على كل شيء وأن ما يريده لا يصح فيه المنع وقوله تعالى من بعد (إِنَّ اللَّهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعادَ) يدل على أن وعده ووعيده لا يقع فيهما خلف.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أ ليس ذلك يدل على أن اللّه يصد الكافرين عن طريق الخير ويفعل الاضلال وذلك لا يجوز. وجوابنا أن ذلك يدل على أن هذا التزيين من الشيطان ومن أنفسهم ولو لا ذلك لوجب أن يكون تعالى صادا لهم عن السبيل مع علمنا بأن ذلك لا يجوز عليه وأنما أراد بقوله (وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ) أي بالعقوبة على ما فعله فما له من هاد الى الجنة ولذلك قال (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ولَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ) أ ليس فيه الدلالة على أن الجنة مخلوقة الآن وذلك بخلاف ما تقولون. وجوابنا أن جنة الخلد والثواب ليست بمخلوقه الآن وذلك بخلاف ما تقولون. وجوابنا أن جنة الخلد والثواب ليست بمخلوقة الآن لفنيت اذا أفنى اللّه تعالى العالم فكان لا يكون أكلها دائما فدل ذلك على أنه تعالى يخلقها في الآخرة فيدوم أكلها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ) أما يدل ذلك على جواز البدء على اللّه تعالى. وجوابنا أن المراد بذلك أنه جل جلاله يمحو عن المؤمن الصغائر لانها مغفورة ويحتمل أنه المنسوخ والناسخ ويحتمل أنه يمحو ما لا مدخل له في الثواب والعقاب ويثبت ماله مدخل في ذلك ويحتمل انه يمحوا ما كتب من آجال وأرزاق من مضى ويثبت ذلك فيمن يبقى ويحدث.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) كيف يصح المكر على اللّه إذ بين أنه من
صفات الذم. وجوابنا أن المراد انزاله بهم العقاب وما شاكله من حيث لا يعرفون كما ذكرنا في سورة البقرة في قوله (يُخادِعُونَ اللَّهَ والَّذِينَ آمَنُوا) وما شاكله.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) فيقولون كيف يصح ذلك.
وجوابنا أن حفظهم وان لم يقع من الامر فانه يقع عند تقدم الامر فالمراد يحفظونه عن أمر اللّه وقد يذكر الأمر ويراد به التقوية والتمكين فلما كانوا يحفظونه بأن يمكنهم ويقويهم جاز ذلك.
سورة ابراهيم
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) كيف يفعل الرسول ذلك والجواب أن المراد يدعوهم الى العدول الى الايمان عن الكفر ويبين لهم ذلك فوصف بأنه يخرج لما كان يفعل السبب الداعي الى ذلك ولذلك قال (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) اذا المراد ان ذلك بأمره ووحيه وهذا أحد ما يدل على الايمان وما عدلوا عنه من الكفر فعلهم فيكون بيانه سببا لاختيارهم العدول عن الكفر الى الايمان وقوله تعالى (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) يدل على أن ما يقع منهم من جهتهم لانه لو كان خلقا للّه فيهم لما صح أن يستحبوا شيئا على شيء.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أما يدل ذلك على أنه بعد البيان هو الذي يضل ويهدي. وجوابنا أن المراد أنه يضل عن طريق الجنة الى النار ويهدي الى الجنة من أزاح علته ببيان الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لكي تكون الحجة للّه عليهم وهو كقوله (وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) وقوله (وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ ومَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) يدل على أنه يكلف الناس لينفعهم ولحاجتهم الى ذلك وأنه غني عن كل شيء.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ)
(قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ والَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) أ ليس ذلك يتناقض بأن يقول آخرا لا يعلمهم الا اللّه ويقول اولا (أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). وجوابنا أن المراد بآخره هو قوله (وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) وأتاهم خبرهم على الجملة دون التفصيل فالكلام مستقيم ويحتمل أن يريد أنه أتاهم نبأ هؤلاء على الجملة ويريد بقوله (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) التفصيل من أحوالهم فلذلك قال بعده (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) وقد ذكرنا من قبل أن ذلك ذم لهم وهو كناية عن ترك القبول منهم لان هناك استعمالا لليد في رد قولهم وبيانهم ولذلك قال (أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ والْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) فبين أن مراده تعالى بتكليفهم هذا الغفران.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فأضافوا ايمانهم الى اللّه تعالى. وجوابنا أن المراد بذلك الارسال والنبوّة لان قومهم قالوا انهم بشر مثلنا فأجابوهم بقولهم (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ولكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وأرادوا النبوة واظهار المعجزات هذا ونحن نضيف الايمان أيضا الى اللّه تعالى ونقول انه من نعمه لما كان الوصول اليه بيسره وألطافه مع التمكين وكذلك نقول في الطاعات إنها من اللّه ولا نقول ذلك في المعاصي وقد نهى عنها وزجر عن فعلها ولذلك قال تعالى بعده (وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وقَدْ هَدانا سُبُلَنا ولَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا).
[مسألة]
وربما قيل كيف ذكر أولا جل وعز قولهم (وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ثمّ كرره ثانيا ما الفائدة في ذلك. وجوابنا
أنهم في الأول قالوا (وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وأرادوا فيما يتصل بالنبوّة ثمّ قال ثانيا (وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) وأرادوا في صبرهم على ما يعرض في النبوّة فأحد الامرين غير الآخر.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وما هُوَ بِمَيِّتٍ) أ ليس ذلك يتناقض. وجوابنا ان ذلك كناية عن شدة عذابهم وان لم يكونوا أمواتا وهو كقوله (وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وما هُمْ بِسُكارى) ولذلك قال بعده (وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) وبين تعالى ان عمل الخير من الكفار لا ينفع فقال (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) فبين أن كفرهم يحبط كل خير عملوه وبين ان ذلك هو الضلال البعيد ثمّ بين تعالى بعده بقوله حكاية عمن استكبر عند قول الاتباع (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) انهم (قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ) وذلك في الآخرة فمرادهم اذا لو هدانا اللّه تعالى الى الجنة وعدل بنا عن النار لفعلنا ذلك بكم وهذا يدل على ان الهدى قد يكون على هذا المعنى كما قد يكون بمعنى الدلالة والبيان وقوله (سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) يدل على ان العذاب دائم لا كما يقوله بعض الجهال من انه ينقطع وقوله تعالى من بعد حكاية عن الشيطان (وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ووَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي ولُومُوا أَنْفُسَكُمْ) يدل على ان الشيطان لا يقدر الا على الوسوسة وعلى ان وسوسته لا تزيل الذم والعقاب عمن قبل منه وان اللوم في كل تنزيه القرآن (14)
فاعل على نفسه يرجع وقوله من بعد (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يدل على ان الظلم من الذنوب العظام التي يستحق بها العذاب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ان ذلك يدل على ان ايمانهم من فعل اللّه فيثبتهم عليه. وجوابنا ان المراد يثبتهم على الخيرات دينا ودنيا لاجل ايمانهم فلذلك قال (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وفِي الْآخِرَةِ) ولذلك قال بعده (وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) أي يضلهم عما يفعله بالمؤمنين دينا ودنيا ولذلك قال بعده (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً) تعجبا منهم من حيث لم يعرفوا موقع نعم اللّه تعالى وعدلوا عن شكره وطاعته ورغبنا عاجلا في الطاعة فقال (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خِلالٌ) فبين أن الذي ينفعهم في الآخرة أن يطيعوا بأنفسهم وبأموالهم قبل اليوم الذي فيه لا ينتفع أحد بمكسب وتصرف. ثمّ بين تعالى أنواع نعمه بقوله جل وعز (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ) الى قوله (وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) ترغيبا للعبد في شكر هذه النعم حالا بعد حال ثمّ قال تعالى من بعد (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) كيف يصح أن يسأل ربه هذين الأمرين ثمّ يوجد خلاف ذلك فانا نجد البلد يجري فيه الخوف العظيم ونجد في أولاده من يعبد الاصنام. وجوابنا أن قوله آمنا لا يدل على كل شيء فقد يكون آمنا من ضروب الخوف غير آمن من سواه ومعلوم ما يحصل بمكة من الامن ويحتمل أنه دعا ربه أن يجعله آمنا في ايامه حتى يؤمن بعضهم
ويتألفوا على طاعته والمراد بقوله (وَ اجْنُبْنِي وبَنِيَّ) من هو موجود منهم وقد نزههم اللّه تعالى عن ذلك وقوله بعد ذلك (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) يعني الاصنام فمراده أنهن صرن سببا للضلال لا ان الصنم يصح أن يضل ويهدي ولذلك قال بعده (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ومَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني بالتوبة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) كيف يصح ذلك وهو الذي بنى البيت على ما ذكره اللّه تعالى في كتابه بقوله (وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإِسْماعِيلُ). وجوابنا انه يحتمل في قوله عند بيتك المحرم أن يكون المراد عند تلك البقعة التي بني فيها البيت.
ويحتمل ان بناء البيت كان قائما ثمّ اختل فبناه ابراهيم فيكون الكلام مستقيما ومعنى قوله من بعد (وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ) ان عنده انزال العقوبات بهم من حيث لا يشعرون وسمّاه مكرا مجازا ومعنى قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ والسَّماواتُ) انهما يصيران على خلاف هذه الصورة سماه تبديلا كما يقال ان فلانا قد تبدل اذا تغيرت أخلاقه. ويحتمل أن يكون اللّه تعالى يبتدئهما فيخلق أرضا غير هذه في القيامة وسماء غير هذه فيكون أقرب الى الحقيقة.
سورة الحجر
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) كيف يجوز ذلك ولا شك في انهم يتمنون في الآخرة ذلك فما فائدة (رُبَما). وجوابنا ان ذلك من باب الردع وربما يكون أقوى فأحدنا يقبل على ولده وقد عدا عن التعلم فيقول ربما تندم على ما أنت عليه فيكون في الزجر أبلغ ولأن الكافر قد يسلم ويتوب فلا يقطع منه على ذلك ومعنى قوله بعد (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) تبين صحة ما قلناه لأن ذلك وان كان بصورة الامر فهو تهديد وزجر عظيم.
[مسألة]
وربما قيل ما فائدة قوله تعالى (وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا ولَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) وكل شيء يفعله فهو في معلومه ويثبت في أم الكتاب فأي فائدة في هذا التخصيص. وجوابنا ان القوم كانوا يستعجلون العذاب من الانبياء اذا توعدوهم فبين تعالى ان ذلك مؤقت بوقت لا يقدم ولا يؤخر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) كيف يصح ذلك مع جحدهم لنبوّته وانكارهم ان اللّه تعالى أنزل ذلك عليه. وجوابنا انهم قالوا على وجه ان ذلك صفته عند نفسه لأنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يدعى ذلك وهذا كرجل يدعى انه صانع فينادي بما يدعيه وان كان المنادى لا يعترف له به وبين ذلك ما ذكروه من بعد
(إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وبين تعالى لهم انه ما ينزل الملائكة الا بالحق ومتى أنزلهم لم يكن انكار وامهال وقوله تعالى من بعد (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) يدل على ان القرآن لا يغير ولا يبدل ولا يزاد فيه ولا ينقص وشبههم بمن يجهل ما يشاهده بقوله جل وعز (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ولَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) فبين انهم في العدول عن التمسك بالنبوات والقرآن بهذه المنزلة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أما يدل ذلك على أن أفعال العباد من خلقه لدخوله في قولنا شيء.
وجوابنا ان المراد ان عندنا علم كل شيء ولذلك قال (وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أو يكون المراد عندنا القدرة على ما ذكرنا من النعم فلا ننزّل ذلك الا بقدر الحاجة إليه بيّن ذلك أنه تعالى قال من قبل (وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) فبين بعده انه قادر على إدامة ذلك وكنّى عن القدرة التي لا آخر لها بذكر الخزائن ولذلك قال بعده (وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) فذكر ما ينزله من الأمطار وما ينبته من الاقوات ثمّ قال (وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) ثمّ قال (وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي ونُمِيتُ ونَحْنُ الْوارِثُونَ) دل كل ذلك على عظم نعمه على عباده مرغّبا لهم في شكره وطاعته ثمّ بين تعالى كيف خلق آدم من (صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وكيف خلق الجان ليعتبر بذلك وكيف أمر بالسجود لآدم وتقدم القول في ذلك وبين بقوله تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ان الذي يقال من أن الشيطان محبط لا أصل له وإنه إنما يوسوس فلا يكون له سلطان
إلا على من يتّبعه فيقبل منه الوسوسة وعلى هذا الوجه كرر تعالى في القرآن التحذير من الشيطان فحاله في ذلك دون حال الواحد من الانس إذا رغب غيره في المعاصي فعلى هذا الوجه قال تعالى (وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) التابع والمتبوع ثمّ بين تعالى ما للمتقين من المنزلة بقوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) الى آخر الآيات وأدب اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه وسلم بقوله (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ واخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) فأمره بتحقير ما عليه الكفار من متاع الدنيا وأمره بالتواضع لمن آمن به وأمره بأن يقوم بالانذار في كلا الفريقين فلا يمنعه تمنع القوم عن الانذار كما لا يمنعه ايمان من آمن به عن ذلك. ثمّ أقسم تعالى بعد ذلك على أنه يسألهم أجمعين عما كانوا يعملون ولم يقتصر على الخبر حتى اكده بالقسم زجرا للناس عن المعاصي فان من تصوّر أن معاصيه طول عمره محصية عليه يصير في الآخرة كالمشاهد لها جميعها يزجره ذلك عن الاقدام عليها وترك التوبة منها ولذلك قال بعده للرسول صلّى اللّه عليه وسلم (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فقد أقمت الحجة عليهم (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) الذين يقع في قلبك الخوف منهم فشبّهه تعالى بالصّادع في الابلاغ والانذار ليكون مقيما للحجة على من آمن وكفر واكد تعالى بقوله (وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) فقد كانوا ينسبونه مرة الى السحر ومرة الى الجنون ومرة الى الفرية ومثل ذلك يعظم على المرء ويأنف منه فقوّى اللّه تعالى قلبه على احتماله وعلى ألا يجعله سببا للفتور في الابلاغ والبيان فلذلك قال بعده (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) وهذه الآداب وان خص اللّه تعالى بها الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فهي عامة في سائر الناس وهي من عظيم نعم اللّه تعالى على خلقه إذا تأملوه وتمسكوا به فما أحد من المكلفين إلا وله وليّ وعدو يتردد بين محن ونعم فكل ذلك تأديب له.
سورة النحل
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) وكيف يكون إنزالهم بالروح وكيف يكون الروح أمرا. وجوابنا أن المراد به ذلك القرآن والشرع كما قال (وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وسمّى القرآن روحا لأنه بمنزلة الرّوح الذي يحيا به أحدنا من حيث يحيا به الانسان في أمر دينه وأنه يؤدي الى الحياة الدائمة فإن قيل فما معنى قوله (أَتى أَمْرُ اللَّهِ) وهل المراد به هذا الامر الذي تنزله الملائكة قيل له بل الأقرب في أتى أمر اللّه أنه الوعيد ولذلك قال بعده (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) لأنهم كانوا يستعجلون العذاب كقولهم (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) وكما قال (وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) فبين أن أمر اللّه قد أتى بالوعيد في الآخرة واللّه تعالى حليم لا يعجل فلا تستعجلوه ثمّ قال تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وعنى به الاحكام وسائر الشرائع التي بيّنها اللّه تعالى في القرآن وعلى لسان الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ولذلك قال بعده (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) ثمّ قال بعده (خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) وبيّن أنه خلق ذلك لكي يؤمن العباد وذلك يبطل قول من يقول خلق بعضهم ليكفروا وكيف يقول جل وعز (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) وهو الذي يخلق فيهم الشرك ويجعلهم بحيث لا يقدرون الا عليه.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ)
وإنما يخلق ما يخلقه لمصالح المكلفين. وجوابنا أن ما لا يعلمه الملائكة قد يكون صالحا لنا وقد يجوز فيما يخلقه أن يكون نفعا لنا وان لم نعلمه أو نفعا لبعض الحيوان أو تفضلا فلا يلزم ما قالوه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ومِنْها جائِرٌ) كيف يصحّ في قصد السبيل أن يكون على اللّه وكيف يصح أن يكون منها جائر. وجوابنا أنه تعالى لما بيّن من قبل نعمه وبين من جملتها الأنعام والخيل والبغال وكيف خلقها نفعا للمكلفين قال بعد ذلك إن على اللّه قصد السبيل والمراد بيان ما يلزم المكلف وازاحة سائر علله فلا يجوز أن يكلفه ما لا يصح إلا بالأنعام وغيرها إلا ويخلقها له وكذلك سائر ما يحتاج اليه وبيّن بقوله ومنها جائز أن في جملتها ما يخرج المكلف عنه ويعصى مع أن في جملتها ما يقبل ويطيع ولو شاء (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بالالجاء لكن ذلك لا ينفع.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ) أما يدل ذلك على أنه لا فعل إلا للّه. وجوابنا أنه تعالى بيّن من قبل أصناف النعم من انزاله الماء وإنباته أنواع الخيرات والثمرات وتسخيره الليل والنهار والبحر وما فيها من النعم والنجوم ودلالتها على الامور فقال بعده تنبيها للخلق عما يلزم شكره وعبادته (أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) فبعث بذلك على عبادة اللّه تعالى وبكّت به من يعبد الاصنام وغيرها ممّا لا تصحّ منه هذه النعم ولا يدخل في ذلك أفعال العباد لأنه نبّه بذلك على أن الواجب أن يفعلوا الطاعة والشكر والعبادة وكيف يكون نفس الفعل خلقا من قبل اللّه تعالى ولذلك قال بعده (وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) فبين أن الذي قدم ذكره من نعمه هو قليل من كثير النعم التي يفعلها اللّه تعالى حالا بعد حال في جسم الانسان وحواسه وجوارحه وغير ذلك ثمّ قال (وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وما تُعْلِنُونَ) يخوّف بذلك
العبد من أن يخالف ما يظهر من الطاعة ويبعثه على أن يكون باطنه في الاخلاص كظاهرة والذي بيّن ما قلناه قوله تعالى من بعد (وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ومِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) كيف يصح أن يحملوا أوزار غيرهم ولئن جاز ذلك لم يمتنع أن يعذب اللّه تعالى أطفال المشركين بذنوب آبائهم. وجوابنا إن الذين أضلوهم لما كانوا سببا لضلالهم جاز أن يقول تعالى ذلك والمراد أنهم لما ضلوا وأضلوا كانت أوزارهم أعظم كما روي عنه صلّى اللّه عليه وسلم (فيمن سنّ سنّة سيّئة أنّ عليه وزرها ووزر من عملها) والمراد مثل ذلك لا أنّ عين ما يستحقه من يتأسّى به يستحقه من سنّ فعل السنّة السيّئة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ ومِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أما يدلّ ذلك على أنه تعالى يهدي ويضل وان ذلك من خلقه. وجوابنا أن المراد فمنهم من هدى اللّه الى الثواب لتمسكه بالعبادة ومنهم من حقّت عليه الضلالة عن الثواب الى العقاب بمعصيته وهذا كقوله (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ) فسمّى نفس العقاب ضلالا كما سمّى نفس الثواب هدى في قوله (الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بالَهُمْ) والهدى بعد القتل لا يكون الا بالاثابة ولذلك قال بعده (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) فنبّه بذلك على ما ذكرنا ويحتمل أن يريد بالهدى زيادة البصيرة فيفعله بمن قبل وأطاع عنده دون من علم أنه لا يقبل كما قال تعالى (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) كيف يصح أنه يوحي الى ما لا يعقل وعندكم أنه تعالى إنما يوحي إلى الأنبياء. وجوابنا ان المراد بذلك ألهمها هذه الامور وخلق فيها العلم بهذه الأشياء ولم يرد بذلك الوحي الذي يكون بانزال الملائكة وكل أمر يلقى الى الغير على وجه الاخفاء والاستسرار يوصف بأنه وحي فلما كان ما ألهم جل وعز النحل على هذا الحد جاز أن يقول أوحى اليها ونبه بذلك على عجيب أمر النحل فيما تتعاطاه من هذا الطعام الذي هو أشرف الاطعمة وكيف تلتقط ذلك من الشجر المختلف حتى يحصل منه هذا الطعام وكيف تتولى مكان ذلك وكيف ترتبه ومتى تأمل العاقل ذلك عرف به من عجيب نعم اللّه تعالى ما لا يكاد يوجد في سائر الحيوان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) أما يدل ذلك على أنه تعالى يخلق فيها الطيران. وجوابنا أنه تعالى لما جعل في الجو الهواء المتكاثف الذي يصح من الطير أن يطير فيه ويتوقف عليه جاز أن يضيفه الى نفسه بأنه سخرها لما فعل ما لولاه لم تثبت في الجو لأنه تعالى جعل ذلك الهواء اللطيف بمنزلة الماء الذي يسبح فيه وهذا هو وجه الكلام ثمّ إنه تعالى بعد ذلك رغب في عبادة اللّه تعالى بأقوى وجوه الترغيب فقال (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ) فنبه بذلك على أن ما عندنا له نهاية وآخر وان الذي يدوم من النعم هو ما يجازي جل وعز عباده المطيعين به فرغب بذلك في فعل ما يؤدي الى هذه النعم الباقية ولذلك قال بعده (وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) كيف يصح ذلك والاستعاذة تتقدم قراءة القرآن لا أنها تتأخر عنه. وجوابنا أن المراد فاذا عزمت على قراءة القرآن
وهممت فاستعذ باللّه من الشيطان الرجيم وهذا كقوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) والمراد اذا أردتم ذلك ومثل ذلك يستعمل في اللغة بقول القائل لغيره اذا سافرت فاستعد لسفرك يريد اذا هممت بذلك وقوله تعالى من بعد (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) يدل على أن سلطان الشيطان ليس الا بالوسوسة فقط فمن يقبل منه يوصف بأن له عليه سلطانا دون من لا يقبل ولذلك قال (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ واللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) كيف يصح أن يفعل تعالى ما يدعوهم الى تكذيبه وذلك مفسدة. وجوابنا أنه تعالى ذكر ما يقولون عند إبدال آية مكان آية ولم يذكر أنه السبب في هذا القول بل كانوا في تكذيب الرسول على طريقتهم ومثل ذلك جائز عندنا ولا يكون مفسدة وانما يكون مفسدة متى وقعت المعصية عنده ولولاه كانت لا تقع. وبيّن تعالى ما به يدفع عنهم هذه الشبهة فقال (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) وانما أحالهم على علمهم برتبة القرآن في الفصاحة ولو لا ذلك لقالوا له ومن أين روح القدس أنزله فبطل بذلك ما أوردوه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ) أ ليس هذا يدل على أن من لم يؤمن لم يهده اللّه كما يقوله المخالف. وجوابنا أن المراد لا يهديهم الى الجنة والثواب من حيث لم يؤمنوا ولذلك أتبعه بقوله (وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أ ليس ظاهرة يقتضي اباحة الكفر والكذب وذلك قبيح لا يجوز على اللّه تعالى. وجوابنا أن قوله
(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) استثناء منقطع ومعناه لكن من اكره وقلبه مطمئن بالايمان. فان قال قائل إن السؤال عليكم في ذلك لازم لأنه كأنه قال لكن من أكره على الكفر والكذب والاكراه لا يحسن ذلك. قيل له إنه تعالى لم يبين ما يكره عليه وما يأتيه المكره والذي يكره عليه هو غير الذي يأتيه المكره لان المكره انما يكرهه على الكفر والكذب والذي ينبغي أن يأتيه المكره هو ما أباحه اللّه تعالى له من التعريض فكأنه يقول ان لم تقل ان اللّه ثالث ثلاثة قتلتك فيقول هو عند الاكراه ذلك على وجه الحكاية أو على وجه دفع الضرر من غير أن يقصد الخبر فيحسن منه ذلك عند الاكراه فأما نفس الكذب فلا يحسن من العاقل على وجه وفي العلماء من يقول اذا كذب فالاثم مرفوع عنه وان كان قبيحا لمكان الاكراه والذي قدمناه هو الصحيح ولذلك قال تعالى بعده (وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فمدحه ثمّ ذمه بقوله (وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ) اذ كانوا مختارين والاكراه زائل وقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) يدل على قدرتهم على الطاعة والمعصية فصحّ بذلك أن يؤثروا أحد الامرين على الآخر لان قوله استحبوا الحياة الدنيا المراد به آثروا ما يشتهونه من الباطل وقوله (عَلَى الْآخِرَةِ) المراد به على ما يؤدي الى عمارة الآخرة من الحق ثمّ قال تعالى (وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) مع علمنا بأنه قد بين لهم ودلهم على ما يلزمهم ولو لا ذلك لما كفروا يدل على أنه أراد بما نفاه الهدى الى الثواب والجنة على ما بيّناه من قبل ثمّ بين تعالى حال الكافرين بأنه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم والمراد به تشبيه حالهم بحال من هذا صفته ولو لا ذلك لم يكن ليذمهم ولذلك قال بعده (وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) ومن يمنعه اللّه من هذه الافعال لا يسمى غافلا ثمّ حقق ذلك بقوله (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) وقوله تعالى من بعد (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) يدخل في
جملته من أكره على الكفر بمكة حتى صبر وعرّض ثمّ تخلص بالهجرة وذلك يبين أن كلا الامرين يحسن من المكره وأن الأفضل أن يصبر على ما يخوف به ولا يدخل على طريق الاباحة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أ ليس ذلك يدل على اثبات نفسين لنا وذلك لا يصح عندكم.
وجوابنا ان المراد بالنفس غير المكلف فكأنه قال يوم تأتي كل مكلف تجادل عن نفسه وهذا أحد ما يدل على صحة القول بالعدل لانه لو لم يكن له فعل وكان اللّه تعالى يفعل فيه ان يشاء الكفر وان يشاء الايمان لم يكن للمجادلة وجه ثمّ قال تعالى بعده (وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) والمراد جزاء ما عملت لان نفس عملها وقد تقضي لا يجوز أن توفاه فليس الا ما ذكرناه ولذلك قال بعده (وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ) والظلم انما يصح في المجازاة لا في نفس العمل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ والْخَوْفِ) بعد ذكر كفرهم أ ليس ذلك يدل على انه تعالى يعاقب في الدنيا الكفار وعندكم ان ما يلحقهم من فقر ومرض لا يكون عقابا. وجوابنا انه يحتمل ان الصلاح عند كفرهم ما يفعله بهم من جوع وخوف لأن ذلك عقوبة كما تأولنا عليه قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) أ ليس الفاعل مع الجهالة معذورا فيما يأتيه فكيف أوجب الغفران بالتوبة من ذلك. وجوابنا أنه قد يقال ذلك فيمن دخلته الشبهة فيعمل السوء عندها فلا يكون معذورا والاصل في الجهالة انه موضع للذم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أ ليس ذلك يوجب انه متعبد بشرائع ابراهيم صلّى اللّه عليه وسلم
وذلك بخلاف قولكم. وجوابنا انه اذا كان يتبع ما يعرفه من شرائعه فذلك جائز عندنا وانما ننكر كونه صلّى اللّه عليه وسلم متعبدا بشرائع من تقدم على معنى انه عرف ما دعوا اليه فتمسك بذلك من دون أمر مبتدأ من قبله تعالى أوحى به اليه ثمّ أوجب تعالى بقوله (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) على رسوله صلّى اللّه عليه وسلم أن يدعو الى توحيد اللّه وعدله والى سائر ما يكون دينا وحقا وبين له كيف يدعو وذلك واجب على غير الرسول صلّى اللّه عليه وسلم أن يفعله بمن يجهل الدين كما قال تعالى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ ناراً) وبين هذا بقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) على ان من أقدم في باب الدين على ما لا يحل فهو مؤاخذ على ذلك. ودل به على ان الضلال والاهتداء من قبل العبد وقوله تعالى (وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) وهو مجاز لأن ما يفعله العبد لا يكون عقابا في الحقيقة فهو كقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ثمّ بين تعالى ان الصبر على ذلك والاخذ بالعفو خير من الانتقام وبين ان صبره صلّى اللّه عليه وسلم يكون باللّه تعالى بقوله (وَ اصْبِرْ وما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) فدل بذلك على ان الصبر وسائر الطاعات انما تقع عند الطاقة وتيسيره وتسهيله وبيّن بقوله تعالى من بعد (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) انه تعالى يخص بالغفران والرحمة من يوصف بانه متق ومحسن وذلك يدل على قولنا في الوعيد.
سورة الاسراء
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) كيف يصحّ قطع هذه المسافة في هذه الاوقات القصيرة وما فائدة ذلك ويصحّ منه تعالى أن يريه الآيات من دون ذلك وان كان المراد أنه عرج به الى السماء كما روي في الخبر فذلك ممكن من المدينة. وجوابنا ان ذلك من معجزاته صلّى اللّه عليه وسلم ولا ننكر في يسير من الاوقات ذلك كما جعل اللّه تعالى معجزة سليمان الريح بقوله تعالى (وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ ورَواحُها شَهْرٌ) واذا كان الصلاح أن يريه الآيات التي ببيت المقدس فلا بد من أن يسري به الى هناك. وما روي في خبر المعراج ففيه ما يجوز أن يصحّ وفيه ما لا يصحّ كما ذكر فيه أنه تعالى في مكانه وأنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يذهب اليه ويعود. تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا وقوله تعالى من بعد في كتاب موسى (وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يدل على ان الهدى هو الدلالة والبيان لا نفس الايمان كما يقوله المجبرة. وقوله تعالى من بعد (وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) فالمراد به الاعلام كقوله تعالى (وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) ولذلك أضاف الفساد اليهم بقوله تعالى (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) وقوله تعالى (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) يدل على قدرتهم على الامرين وأنهم إذا أساءوا فمن جهتهم وبيّن تعالى بقوله (إِنَّ) تنزيه القرآن (15)
(هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ويُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) ان الواجب على من يتلوه أن يتدبر ذلك فيكون داعية له الى التمسك بما هو اقوم وصارف عن طريقة من لا يؤمن بالآخرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ والنَّهارَ آيَتَيْنِ) كيف يصح ذلك ومعلوم ان كون آية النهار مبصرة دون الليل لا صحة له مع وجود القمر. وجوابنا ان ذلك يدل على انه تعالى يحرك الشمس في سمائها فاذا كانت بحيث يصحّ أن ترى كان نهارا واذا كانت بخلافه كان ليلا وان ذلك لا يكون بالطبع ولا بغيره على ما ذهب اليه بعض الملحدة وذلك من عظيم نعم اللّه تعالى كما قال (لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسابَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ان ذلك لا يعرف في اللغة لأنه لا يقال فيمن له الحق أو عليه أنه طائر في عنقه. وجوابنا ان كتاب اللّه تعالى وصف بأنه عربي فما يوجد فيه يجب أن يعلم أنه لغة إما مجاز وإما حقيقة واذا كنا نقبل ذلك متى ورد به شعر منظوم أو كلام منثور فلأن يلزم ذلك لما ذكرنا أولى والمراد ألزمناه جزاء عمله وما يستحقه وذلك من فصيح الكلام وقد يقال فيما يخرج من سبب وحظ خرج لفلان الطائر بكذا فلا وجه لما قالوه والوجه فيه ظاهر لان الطائر يلزم المرء لا بحسب اختياره وربما يجتهد في دفعه فلا يصح فجعل تعالى ما يستحقه على ذنوبه بهذه المنزلة ولذلك قال تعالى (وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) فبين أن المطوي المكتوم الذي يمكن المرء إصلاحه بالتوبة يصير في الآخرة ظاهرا ولذلك قال تعالى بعده (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) قال الحسن البصري لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك فكل ذلك زجر عن المعاصي وبين بقوله تعالى (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أن
الاهتداء بالايمان والضلال بالكفر من قبل العبد وحقق ذلك بقوله تعالى (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وأن أحدا لا يؤاخذ بما يفعله غيره أكّد ذلك بقوله تعالى (وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) فإذا كان تعالى لا يعذب حتى يقيم الحجة بالرسل وبالبينات فكيف يجوز أن يعذب المرء على أمر لم يقدر عليه وكيف يجوز أن يعذب الطفل بذنب أبيه وهو من لا يقدر ولا يعرف الخير من الشر وكل ذلك يبطل قول هؤلاء المجبرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) أ ليس ذلك يدل على أنه أراد منهم ذلك الفسق. وجوابنا أنه تعالى لم يذكر ما أمرهم به ومعلوم أنه لم يأمرهم بالفسق بل أمرهم بخلافه فكأنه قال تعالى (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) بالطاعة (فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي الوعيد والهلاك المعجل ولذلك قال بعده (وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) وقد قرئ (وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها) فتأويله أمرناهم بمنعهم عن المعاصي ففسقوا فيها وقد قيل ان معنى قوله (وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) ارادة الطاعة منهم والعبادة دون الهلاك فان ذلك قد يستعمل في اللغة على هذا الوجه فقد يقال إذا أراد العليل الهلاك تعاطى التخليط في المأكل لا أنه في الحقيقة يريد الهلاك وإن أراد التاجر ان تأتيه البضائع من كل جهة فعل كيت وكيت لا أنه يريد ذلك في الحقيقة وما قدمناه أولا أقرب الى المراد والذي يحكي من القراءة الثانية وهو قوله تعالى (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) فالمراد به يقرب مما قدمناه إذ المراد كثرناهم ليطيعوا ففسقوا فيها ولذلك قال بعده (وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) وكل ذلك ترغيب في الطاعة وتخويف من خلافها وقوله تعالى من بعد (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) دلالة على انه يمكن العبد من الطاعة والمعصية فاذا أراد العاجلة وما
يتصل بالهوى والشهوة لم يمنعه النعم وان كان يزجره عن ذلك وقوي هذا الزجر بقوله (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) ثمّ قال تعالى (وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) يعني الفعل الذي يؤدي الى الثواب في الآخرة (وَ سَعى لَها سَعْيَها وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) واذا وصف تعالى سعي العبد بأنه مشكور فقد عظم موقعه ثمّ بيّن أنه لأجل المعصية لا يمنع من الانعام المعجل فقال (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) فان عطاء المعجل تفضل وقد تكفل تعالى بهذا التفضل للعاصي وللمطيع وإنما يخص المؤمن بالثواب لأنه مما لا يحسن أن يفعل إلا بمن يستحقه كما لا يحسن منا الاعظام إلا لمن يستحق وان حسن منا الهبات لمن يستحق ولمن لا يستحق. ثمّ بين أنه فضل بعضهم على بعض وان الفضل العظيم هو الفضل في الآخرة فقال تعالى (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ولَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) وبين تعالى في قوله (وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقضاؤه لا يكون الا حقا ان المراد بذلك الالزام وبين في هذه الآيات جل جلاله جملة مما إذا تمسك بها المرء عظمت منزلته الى قوله (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) فدل بذلك على أنه كاره للسيئات لا كما يقوله كثير من العامة أنه يريد ذلك ويشاؤه كيف يجوز ذلك مع شدة نهيه عنها وزجره وتخويفه ووعيده وذكر تعالى في هذه الآيات من الآداب والاحكام نحو عشرين خصلة إذا تدبرها القارئ عظم نفعه بها وفي جملتها ما يلزم في حق الابوين وما يجب أن يتعاطاه في تدبير النفقات وما ينبغي أن يستعمله في حق الاولاد واليتامى وبسط ذلك يطول. فان قيل كيف يقول تعالى (وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) وذلك مما لا يقع من أحد فكيف نهى عنه قيل له ليس المراد بذلك ما يقتضيه ظاهره بل المراد أن لا يضيق على نفسه وعلى من تلزمه نفقته وهذا من أفصح الكلام في وصف البخل ولذلك قال تعالى بعده (وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) منع بذلك من التبذير ثمّ نبه على
ما يقتضي ذلك من الحسرة فيما بعد فقال (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) ثمّ بين تكفله تعالى بالرزق فقال (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ويَقْدِرُ) يعني بحسب المصالح وبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلم على تدبر هذه الآيات بقوله تعالى من بعد (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) والمرء يلزمه أن ينظر ويتدبر في وصية اللّه للصالحين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ والْأَرْضُ ومَنْ فِيهِنَّ وإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) كيف يصح ذلك من الجمادات. وجوابنا أن من تدبر ذلك عرف المراد فانه تعالى قال من قبل (سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) يعني اتخاذ قوم لآلهة سواه ثمّ أتبعه بذكر الدلائل على التوحيد فقال (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ) يعني انها تدل على توحيده وتنزيهه عن الاشباه فالمراد بتسبيح السموات والارض ومن فيهن ما ذكرناه لا أن المراد به القول الذي يسمّى تسبيحا لأن دلالة هذه الامور على توحيد اللّه تعالى أوكد من دلالة القول فهذا معناه وكذلك قوله تعالى (وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) يجب أن يحمل على ما ذكرناه لأنه لا شيء إلا وله حظ في الدلالة على توحيد اللّه وكذلك قال تعالى (وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لأن ذلك إنما يعرفه من ينظر ويتدبر ومن هذا حاله قليل في الناس.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) كيف يصح أن يمنعهم من سماع القرآن الذي فيه الشفاء والبيان. وجوابنا ان المراد بذلك من المعلوم انه لا ينتفع بل يظهر منه الاذى للرسول ولذلك قال تعالى (أَكِنَّةً) والمراد انهم لشدة انصرافهم عن الانتفاع به صار قلبهم بهذا الوصف وصاروا كالصم ولذلك قال تعالى (وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ
(وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) فبين انهم لا ينتفعون ويؤذون ولذلك قال من بعد (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) ثمّ قال (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) أما يدل ذلك على أنهم لا يقدرون على خلاف هذا الضلال. وجوابنا انهم لا سبيل لهم بالطعن في نبوّتك إلى تحقيق ما نسبوه إليك من سحر وغيره وليس المراد أنهم لا يقدرون على الطاعة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) كيف يجوز في تكذيبهم من قبل أن يكون مانعا لذلك. وجوابنا أن المراد الآيات التي لا ينتفع القوم باظهارها فقد كانوا يطلبون عين المعجزات الظاهرة على الأنبياء كقوله تعالى (وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الى غير ذلك فبين تعالى أن جرى العادة بتكذيب الامم بمثل ذلك يمنع من أن يفعله تعالى ويحتمل أن يريد بذلك اهلاك المكذبين الذين لا يؤمنون كما جرت به عادته تعالى فيمن يكذب الأنبياء من الغرق وغيره من ضروب الاهلاك ولذلك قال بعده (وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) فأما قوله تعالى (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) فالامر فيه ظاهر أنه ليس بأمر وكذلك قوله (وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أنه تهديد وزجر فليس لأحد أن يسأل عن ذلك ولذلك قال بعده (وَ عِدْهُمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) وبيّن من بعد أنه لا سلطان للشيطان إلا من جهة الوسوسة الضعيفة فقال (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ويحتمل أنه يريد تعالى بذلك أهل الايمان والصلاح من حيث لا تؤثر فيهم وسوسة الشيطان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) كيف يصح ذلك مع علمنا بخلافه. وجوابنا أن المراد من ذهل عن تمييز الخير والشر في الدنيا فهو بأن يذهل عن ذلك في الآخرة أولى وليس المراد اثبات العمى في الحقيقة بل هو ترغيب في التمسك بالطاعة وبين تعالى بعد ذلك ألطافه التي خص بها الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بقوله تعالى (وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وبقوله (وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) وانما صلّى اللّه عليه وسلم يمنع من هذه الامور بما جرت به عادة اللّه تعالى من صرفه عنها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) كيف يصح منهم اخراجه من الارض. وجوابنا ان المراد الارض المعهودة فهذه الالف واللام دخلتا على معهود فبيّن تعالى ما كانوا عليه من شدة المعاداة حتّى همّوا بإخراجه من الأرض المعروفة به صلّى اللّه عليه وسلم وبين أن ذلك لو تم لما لبثوا إلا قليلا على سنة اللّه تعالى فيمن تقدم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وضِعْفَ الْمَماتِ) ما فائدة اضافة الضعف الى الحياة والى الممات. وجوابنا أن ذلك وعيد بالعذاب المعجل في حال الحياة في الدنيا والمؤخر الى الآخرة فاضاف ذلك العذاب الى الممات لما كان لا يموت الا بعده.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) ما الفائدة في ذكر الحمد في استجابتهم يوم القيامة. وجوابنا أن المراد إنكم حامدون للّه تعالى على نعمه المتقدمة وأن أمر بكم الى النار والى المحاسبة الشديدة ويحتمل (فَتَسْتَجِيبُونَ) استجابة حامد شاكر لا يمكن من جهتكم الامتناع.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) كيف يصح ان يخصه بأنه مشهود واللّه تعالى شاهد لكل شيء وكيف يضيف القرآن الى الفجر. وجوابنا أن المراد أقم القرآن الفجر فنبه بذلك على وجوب القراءة في الصلاة وبين ما لهذه الصلاة من الخصوصية بأنه يشهدها ملائكة الليل والنهار وقوله تعالى من بعد (وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) يدل على أن موقع هذا التهجد عند اللّه عظيم وإن كان نفلا ومعنى عسى هو وقوع ذلك لا بمعنى الشك وعلى هذا الوجه قال المتقدمون في عسى ولعل انهما من اللّه واجبان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أ ليس يوجب ذلك أن بعضه شفاء ورحمة دون بعض. وجوابنا أن المراد أنه ينزل ما يدعوهم الى التمسك بالايمان ولا يجب ذلك في كل القرآن وبعد فان ذكر بعضه بهذا الوصف لا يدل على ان سائره بخلافه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) كيف يصح أن يكون هذا جوابه. وجوابنا أن المراد أنهم سألوه عن الروح ولما ذا يحتاج الحيّ منا إليها فبيّن تعالى أن ذلك ممّا لا يعلمه إلا اللّه تعالى ولم يسألوه عن نفس الروح ما هو وقد قيل إنهم سألوه عن جبريل صلّى اللّه عليه وسلم في وقت نزوله بالوحي دون آخر وذلك مما لا حاجة بهم الى معرفته ولذلك قال بعده (وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ثمّ بين تعالى عظم شأن القرآن بقوله (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ والْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) فنبه بذلك على أن له من الرتبة في
الفصاحة ما لا تدركه العباد انفردوا أو اجتمعوا ولو كانوا يقدرون عليه وإنما صرفوا عنه لم يكن لهذا القول معنى وبين تعالى بقوله (وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) أنه تعالى لا يجعل معجزات أنبيائه ما يوافق شهوة القوم وإنما يظهر من ذلك ما يعلمه أصلح فلذلك قال وقد طلبوا تفجيرا لينبوع وطلبوا البيت من الزخرف وأن يرقى في السماء وأن ينزّل عليهم الكتب والجنة من النخل والعنب وإسقاط الكسف من السماء وأن يأتي باللّه والملائكة قبيلا بالكلمة الواحدة ما كان جوابا لهم وهو قوله تعالى (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا) والمراد ان معرفتي بالمصالح مفقودة وأنه تعالى هو العالم بذلك. فبين أن بعثة الملك ليست لصلاح كبعثة البشر بقوله تعالى (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا) فبين أن قبول الشرع للبشر من البشر أقرب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وبُكْماً وصُمًّا) كيف يصح ذلك وهم يسمعون في الآخرة ويتكلمون. وجوابنا أنه تعالى لم يذكر الا أنهم يحشرون كذلك لا أنهم يكونون بهذا الوصف أبدا فلا تناقض في الآيات الواردة في ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ والْأَرْضِ) كيف يجوز أن يقول لفرعون ذلك مع ادعائه أنه الاله دون اللّه تعالى. وجوابنا أنه لا يمتنع أن يجحد ذلك وان كان يعلمه طالبا لثبات ملكه وقد اتفق منه أشياء تدل على ذلك نحو قوله (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) وغير ذلك وانما يصح أن يسأل عن ذلك على أحد القراءتين فإما اذا قرئ لقد علمت فانما المراد موسى وقد عنى نفسه بذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) كيف يصح ذلك والمدعو هو اللّه تعالى. وجوابنا أن المراد الدعاء بذكر اللّه تعالى أو بذكر الرحمن فنبه تعالى على أنه متى دعا داع بأي اسم من اسمائه الحسنى جاز ولذلك قال تعالى (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى).
سورة الكهف
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) كيف يصح أن ينفي عنه أن يكون قيما كما نفى عنه العوج. وجوابنا أنه لم يدخل في العوج وصار قوله قيّما من صفات الكتاب كما أن قوله لينذر من صفات الكتاب فكأنه قال (وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) وجعله (قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) وقد قيل إنه مؤخر في الذكر وهو مقدم فكأنه قال الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا وذلك في المعنى يؤدي الى ما قدمناه في الفائدة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) كيف يصح ذلك وعلى الارض ما لا يصح كونه زينة للارض كالحشرات وغيرها. وجوابنا أن المراد على الأرض من شجر وزرع ونبات دون غيره لان قوله زينة لها يدل على ذلك ولان عد ذلك في جملة النعم يدل عليه ولذلك قال بعده (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وبين بعده بقوله (وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أنه يجعل الأرض عند الحشر بخلاف ما هي عليه الآن.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ والرَّقِيمِ) كيف يصح أن يبتديه بذلك وهو لم يعرف شيئا من
أحوالهم. وجوابنا أن مثل ذلك قد يقال في اللغة ابتداء لتوكيد ما يورد من الحديث وعلى هذا الوجه قال تعالى (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) وقد قيل إنه صلّى اللّه عليه وسلم سئل عن ذلك فصح أن يعلمه اللّه تعالى به على هذا الوجه من القول.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وهُمْ رُقُودٌ) كيف يصح ذلك ومعلوم أن صفة الراقد خلاف صفة المستيقظ فيما يشاهد.
وجوابنا انهم كانوا وهم رقود بصفة المستيقظ في فتح العيون والتبسم وذلك من آيات اللّه تعالى العجيبة وظاهر ذلك أنهم بقوا تلك المسافة الطويلة رقودا وذلك من آياته العجيبة وان كان في الناس من تأوّل الآية على أنهم كانوا موتى لاجل قوله تعالى (وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) ولا يقال ذلك إلا فيمن أحياه اللّه تعالى بعد الممات والاقرب الاول لانه اذا جعلهم راقدين هذه المدة الطويلة صح أن يقول بعده (وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أ ليس ذلك يدل على أنه تعالى يشاء كل أمر واقع قبيح وحسن. وجوابنا أن ذلك تأديب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ولأمته في أن لا يقع منهم القطع على ما ذكر أنهم يخبرون به من الافعال لان القاطع على ذلك لا يأمن أن يكون كاذبا فينبغي أن يقيده بالمشيئة لأنها تخرج الخبر من ان يكون مقطوعا به ولو لا صحة ذلك لوجب أن يكون صلّى اللّه عليه وسلم لا يخبر بأمر المستقبل إلّا مع العلم بأن اللّه تعالى قد شاءه وذلك لا يصح وقد كان صلّى اللّه عليه وسلم يعزم على المباح كما يعزم على ما هو عبادة واللّه تعالى لا يشاء الا الطاعة ولو لا صحة ذلك لحسن من أحدنا كما يقول تقول الصدق غدا إن شاء اللّه أن يقول أسرق وأزني ان شاء اللّه وذلك محظور على لسان الأمة فالمراد إذا تعليق الكلام بالمشيئة ليخرج من أن يكون خبرا قاطعا لا ان تعلقه به على وجه الشرط.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ
عَنْ ذِكْرِنا) أ ليس أضاف جل وعز ذلك الى نفسه. وجوابنا أن المراد من وجدناه غافلا ولو لا ذلك لما صح أن يقول تعالى من بعد (وَ اتَّبَعَ هَواهُ) وأن يذمه على ذلك وقد قيل إن المراد جعلنا قلبه خاليا عن الكتابة التي ذكر اللّه تعالى أنه يسم بها قلوب المؤمنين في قوله (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) فلما أخلى قلبه عن ذلك وصفه بهذا الوصف فأما قوله تعالى (وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) فهو تهديد ولذلك قال بعده (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) وذكر الحسن بن أبي الحسن رحمه اللّه في قوله تعالى (وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ) ان ذلك يدل على انه تعالى لا يشاء الا الطاعة فكأنه قال قلت القول الذي يشاؤه اللّه دون ما أوردته من قولك (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) وبين تعالى بقوله (وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) كيف يتحسر على ما أنفقه وأمل فيه المنافع اذا خاب أمله وجعل ذلك لطفا في المحافظة على طاعة اللّه تعالى على ما يستحقه من ثواب الآخرة ثمّ ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا فقال (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) وبعث بذلك المكلف على الحرص على عمل الآخرة من حيث يدوم نعيمها وبين تعالى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات أولى بتكلف المرء لها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) كيف يصح في جميعهم أن يكونوا كذلك في حال المحاسبة. وجوابنا أنه ليس المراد أنهم يعرضون صفا واحدا بل المراد أنهم يعرضون من دون اختلال واختلاط فيشاهد بعضهم بعضا فمن ظهر أنه من أهل الخير يكون سروره بمعرفة الناس بحاله أعظم لوقوف الخلائق على صورة أمره ومن هو من أهل النار يعظم
غمه وهو معنى قوله (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) وبين تعالى بعده التخويف الشديد من المعاصي بقوله (وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ويَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) وذلك يدل على ان المرء يؤاخذ بالصغائر كما يؤاخذ بالكبائر اذا مات على غير توبة ومعنى (وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) ثواب ما عملوا حاضرا لأن عملهم قد فنى في الحقيقة وقوله من بعد (وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) يدل على أن المعاقب يستحق العقوبة على فعله وعلى أنه تعالى منزه عن الظلم وسائر القبائح وقوله تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ) يدل على انه ليس من الملائكة وقوله (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) يدل على أن الفسق هو الخروج إلى عداوة اللّه وقوله (أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) تحذير شديد عن اتخاذه وليّا والقرب منه ولذلك قال (وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) وقوله تعالى (وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) يدل على أن المضل لاجل إضلاله لا يعينه تعالى ولو كان الاضلال من قبله كما يقول المجبرة لما صح ذلك وقوله تعالى (وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) يدل على أن الفعل للعبد فلذلك بكّتهم على اتخاذ الشركاء من دون اللّه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) وصفهم بالظن وهم يعلمون ذلك في الآخرة.
وجوابنا انه أراد بالظن العلم ولذلك قال عقبه (وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) وقد يذكر في الامور المستقبلة الظن مع العلم لأنه من باب ما يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع فمن حيث كان هذا شأن الشيء في نفسه وهذا حاله جاز أن يعبّر عنه بذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا
الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) كيف يصح ذلك وإنما ذكر تعالى فيه بعض الامثال. وجوابنا ان ذلك مبالغة كقوله تعالى (وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ومذهب العرب في ذلك معروف والمراد من كل مثل يحتاج العباد اليه في أمر دينهم وما هذا حاله موجود في القرآن من صفات الامور الدنيوية وصفات الآخرة وغيرهما وقوله تعالى (وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) يدل على أنه الفاعل فيصح أن يجادل عن نفسه ولو كان كل تصرف مخلوقا فيه لما صح ذلك وقوله تعالى (وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) من أقوى الادلة على ان الايمان فعلهم والامتناع منه كذلك لأنه لا يصح أن يقال للمرء ما منعك أن تكون طويلا صحيحا أو مريضا لما كان ذلك من خلق اللّه فيه وقوله تعالى من بعد (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) يدل على ان الهدى هو البيان والدلالة ويدل على ان الاهتداء بهذا الهدى من قبله وقوله تعالى من بعد (وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ) يدل على ان العبد يستحق على فعله الطاعة ما يبشر به من الثواب وعلى المعصية ما ينذر به من العقاب ولو كان الأمر كما يقوله المجبرة في أنه عز وجل يخلق الافعال فيهم وان له أن يعاقب من أطاعه ويثيب من عصاه لما صح ذلك وقوله تعالى (وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) لا يصح لو لا أن الكفر من قبلهم ولو كان اللّه هو الخالق له فيهم لكان لهم أن يقولوا لا عيب علينا في ذلك وان كان باطلا لأن اللّه جل وعز خلقه فينا ولما صح أن يقول تعالى (وَ اتَّخَذُوا آياتِي وما أُنْذِرُوا هُزُواً) وقد منعوا من خلاف ذلك وقوله تعالى من بعد (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) كيف يصح أن يبالغ تعالى في وصفه بظلم نفسه وهذا الاعراض من قبل اللّه تعالى ولو شاء خلاف ذلك لما صح وبعد ذلك وصفهم بالاكنة والوقر لمّا لم يقبلوا ما أمروا به على وجه المبالغة والمراد ان ذلك ما يؤنس منهم ان يختاروه فصاروا بمنزلة ما لا يفقه ولا يسمع ولذلك قال تعالى (وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) ثمّ بيّن تعالى رحمته بتأخير العقاب عنهم
وهذه حالتهم فقال (وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) ولذلك يوصف تعالى بأنه حليم محسن الى من أساء كما أنه محسن الى من أحسن فيمهل ولا يعجل لئلا يكون للمعاصي حجة يتعلق بها وليصح أن يقال له ما أوتيت فيما قدمت عليه الا من قبل نفسك وقوله تعالى (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) يدل على ان وعيده تعالى حق لا يقع فيه خلف.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما) فاضاف النسيان اليهما ثمّ قال تعالى من بعد (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) ثمّ قال (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) حاكيا عن فتاه ثمّ قال تعالى (وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) وذلك كالمتناقض.
وجوابنا انه تعالى أضاف اليهما النسيان لما بلغا مجمع بينهما ثمّ أضاف ذلك الى الفتى لما جاوزا واذا اختلف الحالان صح وقد يصح فيما تحمله المسافران أن ينسب الحال فيه اليهما لما كان لا يتم ذلك إلا بهما وقوله تعالى (وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) دليلنا على ان الفعل للعبد لأنه لو كان خلقا للّه تعالى لكان قوله لو قال وما أنسانيه إلّا الرحمن أولى وأصوب ومتى قيل النسيان عندكم من فعل اللّه تعالى فكيف يصح ذلك. فجوابنا ان المراد بالنسيان هنا التقاعد والاهمال وذلك من فعل العبد فعلى هذا الوجه حصلت الاضافة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) كيف قطع في ذلك وهو أمر مستقبل لا يعرفه إلا علّام الغيوب.
وجوابنا ان ذلك من قول صاحب موسى وكان نبيّا فيجوز انه تعالى عرفه ذلك ويحتمل انه لما كان عارفا بأن الذي يفعله من خرق السفينة وقتل الغلام بالغ في التعجب منه مبلغا عظيما وان ذلك مما يتعذر الصبر عن معرفة علته (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) لما قوي ذلك في ظنه ولذلك قال تعالى (وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) وقول موسى صلّى اللّه عليه وسلم
(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً) يدل على قوة عزمه على الصبر ثمّ قال بعده (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ان ذلك يثقل عليه فقد يقال إن فلانا لا يقدر على سماع كلام فلان وأراد أنه يثقل عليه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) عند خرق السفينة وقتل الغلام أ ليس ذلك يدل على أن القدرة مع الفعل فنفي استطاعته عن الصبر لما لم يصبر. وجوابنا ان المراد ليس هو الاستطاعة التي هي القدرة بل المراد ثقل ذلك عليه لما رأى الامر العجيب ولم يعرف تأويله ووجه الحكمة فيه فلذلك قال تعالى (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) فبين انه انما لم يستطع الصبر لأنه لم يعرف تأويله ولو عرفه كان يستطيع وهذه الاستطاعة هي بمعنى ما يثقل على المرء ويخفف.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) ثمّ قال تعالى (وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) فانه اذا كان يأخذ كل سفينة فكيف يصح أن يقول ذلك. وجوابنا ان المراد يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا وذلك ما يعقل من الكلام بقوله تعالى (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) لانه نبه بذلك على ان ذلك الملك كان ينصرف عن أخذ المعيب من السفن الى أخذ الصحيح فاما قوله جل وعز (وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وأَقْرَبَ رُحْماً) فان من تدبر يعرف به حكمة اللّه تعالى وعدله وأنه يفعل بالمكلف أقرب الأشياء الى طاعته وانه تعالى ينفي تنزيه القرآن (16)
عنه ما يدعوه الى معصيته فامر عز وجل صاحب موسى بقتل الغلام لما كان لو بلغ بلوغه داعية كفرهما ويدل أيضا على ان الكفر من فعلهما لأنه لو كان خلقا من اللّه تعالى لم يصح ذلك وقوله عز وجل (وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) يدل على ان ذلك كان من أمر اللّه تعالى وإذنه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) كيف يصح أن يجدها تغرب في شيء من الأرض وهي إنما تغرب في مجاري غروبها. فجوابنا انها تغرب على وجه يشاهد كذلك كما توجد الشمس تغرب في البحر اذا كان المرء على طرفه وكما يقول المرء ان الشمس تطلع من الأرض وتتحرك في السماء والمراد بذلك ما ذكرناه من تقدير المشاهدة وقوله تعالى من بعد (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) يدل على ان ذلك الظلم فعل العبد وعلى ان هذا التعذيب فعل ذي القرنين فلذلك أضاف العذاب المتقدم الى نفسه ثمّ العذاب المتأخر الى ربه.
[مسألة]
وربما قيل في قصة يأجوج ومأجوج كيف يصح وصفه لهم بأنهم (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) ثمّ وصفهم بأنهم يفسدون وكيف يصح قوله تعالى (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ومَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) وكيف يصح أن يبقوا على الزمان لا يستطيعون ذلك حيث يقول تعالى (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) يعني الحشر. وجوابنا ان قوله (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) يحتمل مع كمال عقلهم للمباينة في اللغة ويحتمل خلافه فلا يدل على ما ذكروا وقوله (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) يحتمل أن يكون مع كمال العقل ويحتمل مع فقده كما يقال فيمن لا عقل له انه يفسد الزرع بل يقال ذلك في البهائم وذلك السد معمول بالصفر وما يجري مجراه فصح ان لا يمكنهم التأثير فيه لفقد الآلات ولقوة السد وإحكامه ويحتمل أنه تعالى يصرفهم عن الشغل بذلك فيبقى الى يوم القيامة. واختلفوا في يأجوج ومأجوج
فمنهم من قال هم غير مكلفين ومنهم من قال يجوز أن يكون تكليفهم بجميع العقلي والشرعي بأن يسمعوا الأخبار ممن يقرب من السد فتتواتر عندهم ومنهم من قال بل تكليفهم بالعقلي دون الشرعي الذي لم تبلغ دعوته اليهم ثمّ ذكر تعالى من بعد ما تعظم الفائدة به لمن تدبره فقال سبحانه (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) فبين تعالى ان أعمال من لا يحفظ عمله فيفسدها بالكفر والفسق تكون الى خسار وتبار وتصير كالحسرة في الآخرة فلذلك قال الذين ضل سعيهم والمراد ذهب هدرا ولذلك قال آخرا (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) فنبه على ان كل من حبط عمله يكون حكم سعيه في الخيرات هذا الحكم ثمّ بين أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلم يحبطوا ما فعلوه (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا) فان مساكن الدنيا قد يبتغي المرء عنها حولا وليس كذلك الجنة وفي قوله تعالى عز وجل (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) ما اذا تأمله العاقل علم ان كلمات اللّه تعالى لا تحصر وأنه قادر على ما لا نهاية له ومن هذا حاله كيف يصح أن يقال محدث أو مخلوق.
سورة مريم
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أ ليس يدل على ان صلاحه من قبل اللّه تعالى؟ وجوابنا ان الرضا قد يكون كذلك بأمور يفعلها اللّه به من كمال العقل والحزم ومن النبوة وغير ذلك فلا يصح تعلقهم به.
[مسألة]
وربما سألوا وقالوا كيف خاف زكريا صلّى اللّه عليه وسلم الموالى فرغب الى ربه أن يرزقه ولدا يرثه حق الانبياء ولم الفكر في أمور الدنيا؟ وجوابنا انه لم يعن وراثة المال بل عنى وراثة العلم والدين والنبوة فأراد أن يكون ذلك في داره ولم يذكر أيضا ما الذي خافه من الموالي وقد يحتمل أن يكون خاف منهم التغير اذا مات فأحب أن يكون هناك من يقوم مقامه في النبوة حتى لا يتغيروا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) ما الفائدة في ذكر الاسم واللقب والكل في ذلك سواء وما الفائدة في قوله (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) ولو جعل له سميا لم تتغير البشرى؟ وجوابنا ان من تمام نعمة اللّه أن يرزقه المسمى ويتولى اسمه لان ذلك يكون في الانعام أزيد وكذلك اذا لم يكن له من قبل من يساويه في الاسم كان الاحسان أعظم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ
وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) كيف يستبعد ذلك وهو نبيّ وقد بشّره اللّه تعالى به لأجل ما ذكره؟ وجوابنا أن ذلك استبعاد من حيث العادة لا من حيث القدرة وذلك يصح في الانبياء كما يصح في غيرهم ولو أن نبيّا من الانبياء بشر من بالبادية بنهر جار لجاز أن يقال كيف يصح ذلك في هذا المكان فيكون استبعادا من حيث العادة لا من حيث القدرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئاً) أ ليس ذلك يدل على أن المعدوم ليس بشيء؟ وجوابنا أن المراد ولم تك شيئا على الوصف الذي أنت عليه من الفضل والنبوة فإذا صح أن أخلقك على هذا الوجه صح أن أرزقك ولدا مع كبرك فلا تستبعد ذلك في القدرة وجواز مثله في العادة وقوله تعالى (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) فيدل على ان القوة قبل الفعل على ما نقول والا كان لا يصح ذلك كما لا يصح ممن لا يد له أن يقال خذ بيدك فأما قوله تعالى (وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) فيدل على أن مخالفة الصبي للبالغ هو من حيث العادة لا من حيث القدرة وقوله (وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا) أراد به الانعام العظيم عليه بأن جعله نبيا وناصحا وباعثا على الخيرات وقوله تعالى (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) لا يدل على أنه لم يكن واثقا بما بشّر به على ما روي عن بعضهم أنه شك في البشرى بل مراده بذلك التوكيد لما بشر به اذا لم يجعل له آية تدل على الوقت الذي يرزق فيه الولد وان كان قد عرف بالبشارة ذلك لكنه جوّز التقديم والتأخير.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أ ليس ذلك يتناقض لأنه اذا كان تقيا استغنى فيه عن التعوذ وكان الاقرب أن يقول: إنّي أعوذ بالرّحمن منك إن لم تكن تقيا؟
وجوابنا أنها قالت هذا القول وهي لا تعرفه فقالت أعوذ بالرحمن منك ان
كنت ممن يتقيه ويخشى عذابه على وجه التخويف كقول القائل ان كنت مؤمنا فلا تظلمني وقوله تعالى (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) يدل على أن خلقة الملائكة مخالفة لخلقة الناس فتمثل بهذه الخلقة ويدل على تقارب خلقتهم في البنية لخلقة البشر وان كانت لهم آلات وعظام ويجوز أن تنفصل وتتصل وانما أنزل اليها جبريل صلّى اللّه عليه وسلم وان كان نزوله من المعجزات علما لزكريا صلّى اللّه عليه وسلم فقد كان نبيا في الوقت وقول مريم (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) لا يدل على كراهتها لما قضاه اللّه فيها وفي ولدها وإنما تمنت ذلك من حيث يعصى الناس في أمرها لخروجه عن العادة ولما يلحقها من الخجل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أُخْتَ هارُونَ) كيف يصح أن يقال لها ذلك وبينها وبين هارون أخي موسى الزمن الطويل؟ وجوابنا انه ليس في الظاهر أنه هارون الذي هو اخو موسى بل كان لها أخ يسمى بذلك واثبات الاسم واللقب لا يدل على أن المسمى واحد وقد قيل كانت من ولد هارون كما يقال للرجل من قريش يا أخا قريش.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وجَعَلَنِي نَبِيًّا وجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وأَوْصانِي بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) فكيف يصح للطفل أول ما يولد أن يتكلم بذلك وأن يكلف الصلاة والزكاة وأي فرق بين من يجوز ذلك وبين من يجوز تكليف الموتى؟ وجوابنا أنه تعالى قادر على اكمال عقله وتقوية جسمه في تلك الحالة وان كان كلا الامرين يحصل فينا في العادة في الوقت الطويل بالتدريج واذا كان كذلك وألهمه اللّه تعالى هذا القول صح أن يقول ما قال وصح سائر ما وصف به نفسه أو ليس يوجب قوله وأوصاني
بالصلاة والزكاة أنه في هذا الوقت خاصة لان الوصية تتقدم وتتأخر وإنما جعل اللّه معجزة عيسى صلّى اللّه عليه وسلم في حال ولادته لما كان في ذلك من ازالة الريب بذلك عن القلوب وبغير هذه الآية لا يكاد يزول.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) كيف يصح في أمر محال أن يقال ما كان للّه أن يفعله وانما يصح ذلك فيما يصح ويمكن ولذلك لا يقال ما كان لزيد وهو شاب أن يلد رجلا شيخا لأن ذلك يستحيل؟ وجوابنا أن القوم كانوا ينسبونه الى ذلك فنفى عن نفسه على الوجه الذي كانوا يضيفونه اليه ولذلك قال (سبحانه) فنزه نفسه عن ذلك وبين أن كل الأولاد من خلقه وأنه قادر على خلقهم فلا يجوز عليه الولادة وقد يقال ذلك بمعنى البيان والدلالة إذا دلّ وبين أن ذلك لا يجوز عليه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) كيف جاز من ابراهيم عليه السلام أن يقول ذلك ولم يكن أبوه ممن يعبد الشيطان؟ وجوابنا أنه أراد لا تتبعه ولا تطعه كما روي في تفسير قوله تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) فقال صلّى اللّه عليه وسلم لم يتخذوهم أربابا بالعبادة لكن أطاعوهم في التحليل والتحريم ولذلك قال ابراهيم صلّى اللّه عليه وسلم (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ) لانه كان يعبد الاصنام فلا يجوز أن يريد بقوله (لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) الا ما ذكرنا ولذلك قال من بعد (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) ومعنى قوله من بعد (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) انه ان تاب وقبل قول ابراهيم يستغفر له ويرجو له الثواب والنجاة لأنه لا يستغفر له وهو على اصراره على الكفر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ) كيف يصح ذلك وولادة
اسحاق كانت بعد ذلك بزمان وولادة يعقوب أبعد من ذلك؟ وجوابنا أنه تعالى بين أنه لما اعتزلهم لم يدعه فريدا وحيدا بل خلق له الاولاد وليس في ذلك ذكر وقت مخصوص.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وعَشِيًّا) كيف يصح ذلك وليس في الجنة ليل يتلوه نهار؟ وجوابنا ان المراد بذلك تقدير وقت الأكل فقدّر جل وعز بما جرت به العادة لا أن هناك نهارا بعده ليل أو يجوز أن يكون لهم علامات تتقدر بها هذه الاوقات على حسب أوقات الليل والنهار بعده ليل أو يجوز أن يكون لهم علامات تتقدر بها هذه الاوقات على حسب أوقات الليل والنهار وقد قيل إن هناك من الحجب وغلق الابواب ثمّ فتحها ورفع الحجب ما يدل على ذلك وبيّن تعالى من صفتهم ما تشتد فيه الرغبة فقال تعالى (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) وقال (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وما خَلْفَنا) ما المراد بذلك؟ وجوابنا أنه بيّن به أنه مالك الافعال في الاوقات الماضي والمستقبل والدائم وأن التقديم والتأخير سواء في أنه عالم به ولذلك قال بعده (وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) وربما يتعلق بعضهم بقوله (رَبُّ السَّماواتِ والْأَرْضِ وما بَيْنَهُما) وقال بينهما أفعال العباد فيجب أن يكون ربها وذلك يدل على أنه يكون خالقها. وجوابنا أن ما بينهما هو الاجسام كالهواء وغيره فلا مدخل لافعال العباد في ذلك وبعد فقد يقال أنه تعالى ربنا ورب أفعالنا لما صح منه انه يمكن منها ويمنع منها ولذلك قال بعده (فَاعْبُدْهُ) وذلك بين خروج العبادة وما جرى مجراها مما ذكر أولا ومعنى قوله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي مثيلا ونظيرا فذكر الاسم وأراد المسمى فليس لأحد أن يسأل عن ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) بعد ذكر جهنم أ ليس يدل ذلك على أن كل من يحشر يرد النار فكيف يصح ذلك في أهل الثواب.
وجوابنا أنه بمعنى القرب منها لا بمعنى الوقوع فيها كقوله تعالى في قصة موسى (وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) وهذه طريقة العرب في الورود بمعنى القرب ولذلك قال بعده (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) لانهم إذا قربوا سلك بأهل الثواب مسلك الجنة وأدخل أهل العقاب النار ولا بد أن يتأول على ما ذكرناه فإنه تعالى بين أن أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ومن هذه حالته لا يجوز أن يلقى في النار ويظن به ذلك وبين تعالى بعده بقوله (وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) أنه عز وجل يخص المهتدي بألطاف من حيث آمن واهتدى وأن ذلك يؤديه الى الباقيات الصالحات. وذكر قبله (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) أنه تعالى يبقيهم ليزولوا عن الضلالة ويفعل بالمهتدين الهدى ليثبتوا على الايمان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) كيف يصح قولكم أنه تعالى زجرهم عن الكفر بأقوى زجر وعن القبول من الشيطان وهو يقول ذلك.
وجوابنا أن المراد خلينا بين الشيطان وبينهم ولم يمنع من ذلك لما فيه من المصلحة وعلى هذا الوجه يقال فيمن ربط الكلب على باب داره ولم يمنعه من الوثوب على من زاره قد أرسلت كلبك على الناس وفي قوله (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ونَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) دلالة قوية على ما تأولنا عليه قوله تعالى (وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.)
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ)
(وَلَداً) كيف يصح أن يعظم ذلك هذا التعظيم ثمّ يأمرنا بأن نقرهم عليه بأخذ الجزية. وجوابنا ان اللّه تعالى ما عظم الا العظيم من القول والكفر وقد كان يجوز أن لا يخلق من يكفر لكنه تفضل وكلف لكي يؤمنوا وكذلك لا يمنع أن يأمرنا بأن نقرهم على وجه أقرب الى أن يؤمنوا عند المخالطة وسماع التوحيد وعند ما ينالهم من الذل بدفع الجزية وبين أن كل من في السموات والارض خلقه وهو قادر على اضعافه فلا يجوز أن يتخذ منهم ولدا مع قدرته على أن يكونوا له عبيدا.
سورة طه
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ والسَّماواتِ الْعُلى) ما الوجه في أن يقول بعده (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)؟ وجوابنا أنه تعالى عظم شأن القرآن من حيث كان تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ والسَّماواتِ ثمّ أتبعه بما هو أعظم من ذلك فقال (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) والمراد استولى واقتدر عليه لأن العرش من أعظم ما خلق فنبّه على أنه اذا كان مقتدرا عليه مع عظمة وعلى السموات وعلى الارضين ويملك ما في السموات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى فاعلموا عظم محل القرآن لصدوره عمّن هذا وصفه وتمسكوا بآدابه وأحكامه فذلك بعث من اللّه تعالى على تدبر القرآن وقد بينا من قبل بطلان قول المشبهة بأنه تعالى استوى على العرش وقلنا ان من يصح ذلك عليه يكون حسّا ذا صورة ومن هذا حاله يكون محدثا محتاجا إلى مصور فالمراد الاستيلاء والقدرة كما ذكرناه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفى) ما معنى قوله (وَ أَخْفى) ولا شيء أخفى من السر؟ وجوابنا ان ما يخطر بالقلب ويحدث المرء به النفس أخفى من السر فنبه على عظم شأنه والعلم بذلك ثمّ قال (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فنبه بذلك على ما يجب من ذكر أسمائه التي تفيد عظم شأنه على ما قدمه من قوله (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ) ولا فائدة في ذكر
أسماء اللّه إلّا بأن ينوي المرء بها ما تفيده مما يقتضى تعظيمه واجلاله.
[مسألة]
وربما قيل ما فائدة قوله تعالى (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) وإذا جاز أن يكون عليه سائر ثيابه فما المانع من أن يكون لابسا لنعليه مع كونه في الوادي المقدّس؟ وجوابنا ان النعلين تلبسان لا على حدّ ما يلبس سائر الثياب ولذلك لا يلبسهما المرء في بيته وإنما يلبسهما لدفع الأذى في المواضع التي تخشى فيها النجاسات وغيرها وعلى هذا الوجه جرت العادة فيمن يعظم المكان أنه يخلع نعله فأراد تعالى تنبيه موسى على عظم محل الواد المقدس وأحب أن تلحقه بركة ذلك الوادي وهو يباشره برجله وأحب أن يعرّفه عظم محله بهذا الصنيع وقد روي في نعليه أنهما كانا من جلد حمار ميّت فإن كان كذلك فهما أولى ما يخلع وإلا فالذي قدمناه وجه صحيح.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ما فائدة قوله (لِذِكْرِي) والصلاة لا تقام الا لذكره تعالى؟ وجوابنا ان قوله (لِذِكْرِي) يرجع إلى الصلاة والى العبادة جميعا فكأنه قال فاعبدني لذكري وأقم الصلاة لذكري وهما جميعا لا يصحّان إلا إذا كان المرء ذاكرا للّه تعالى وتوحيده لان الغافل عن ذلك لا يعتد بما فعله وعلى هذا الوجه يجتهد المرء في الصلاة أن يتحرز من السهو فيكون ذاكرا للّه قاصدا بما يأتيه الى عبادته وخص تعالى الصلاة بالذكر وإن دخلت في جملة العبادة تفخيما لشأنها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) ما فائدة قوله تعالى (أَكادُ أُخْفِيها)؟ وجوابنا ان المراد أخفى ما فيها لما في ذلك من المصلحة فإن أراد تعالى أخفى موت كل أحد ففي ذلك مصلحة لأنه متى علم وقت موته كان ذلك إغراء بالمعاصي أن تطاول وإلجاء الى الطاعة أن تقارب وإن أراد تعالى ما يظهر من زوال التكليف وحصول أشراط
الساعة فقد أخفاها والمصلحة فيها ظاهرة لما بينا فلما كان ذلك مصلحة أخفاها تعالى وذكر ذلك بهذا اللفظ معتاد لقرب الامر والفائدة فيه أن يظن قربها فيكون المرء الى الطاعة أقرب ولذلك قال تعالى (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ) لحن ظاهر فكيف يجوز ذلك في القرآن؟ وجوابنا أن كثيرا من القراء قرأ إن هذين وهي مروية عن الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعمرو بن عبيد وعيسى بن عمر وعاصم وقد حكى عن الزهري وغيره أنه قرأ (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) بتخفيف ان وروي أيضا ذلك عن عاصم وبعد فإذا جاز في الحقائق أن يعدل عنها الى المجاز في كتاب اللّه لم يمتنع مثل ذلك فيما ذكرته فيكون تعالى ذكر إن وأراد غيره كما قيل إن معناه نعم وأجل وقد قيل إن ذلك لغة بني الحارث بن كعب يقولون رأينا الزيدان وقيل شبهت الالف بقول القائل يفعلان فلم تغير قال الزجاج فيها اضمار والمعنى إنه هذان لساحران وقيل لما كان هذا يستعمل في موضع الرفع والنصب والخفض على أمر واحد لم تغير التثنية وأجريت مجرى الواحد وإذا كان في القرآن يدعى الحذف في مواضع كثيرة ليصح المعنى فما الذي يمنع من أن يدعى في ذلك حذف يخرج معنى الكلام من أن يكون لحنا وإذا صحّ ذلك فالحذف الذي يصحّ فيه كثير لا معنى لعده.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ بَلْ أَلْقُوا) كيف يصح من موسى عليه السلام أن يأمر بذلك وهذا الفعل منهم قبيح؟ وجوابنا أنه أمر بشرط فإنه قال إن كنتم محقّين فيما تدّعون فافعلوا وهذا كما يقول الحاكم للمنكر احلف على ما أنكرت فيكون مراده مثل ذلك ولا يمتنع أن يقال إن الالقاء اذا انكشف به المعجز من موسى صلّى اللّه عليه وسلم جاز أن يحسن من وجه فلا يكون قبيحا من كل وجه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) كيف يخاف موسى وهو عالم بما يظهر عليه وانه يكشف عن بطلان ما أتوه؟ وجوابنا أنه يجوز أن يكون خائفا على قوم قد شاهدوا ما فعلته السحرة أن يفسدوا ويثبتوا على فسادهم خصوصا أن تأخر امره تعالى بإلقاء العصا ومن تأمل حال فرعون وقومه مع كثرتهم كيف ذهلوا عن القبول من موسى صلّى اللّه عليه وسلم مع ظهور أمره علم أن شهوة المرء وهواه مسلّطان عليه فيجب أن يتحرّز التحرّز الشديد من أتباع الهوى وإيثار الدنيا على الآخرة ويبذل الجهد في اتباع الحق وإن شق وأوجب مفارقة الإلف والعادة ومفارقة السلطان والرئاسة وكذلك القول في السحرة الذين آمنوا بموسى صلّى اللّه عليه وسلم لما رأوا أمره الذي بهرهم كيف انقادوا واختاروا الايمان وحسن العاقبة على القتل والصلب فالمحكي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال أصبحوا من أهل النار وأمسوا من أهل الجنة كلام هذا معناه وروي انه أكرههم على ذلك السحر لقولهم (وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ واللَّهُ خَيْرٌ وأَبْقى) ثمّ قال سبحانه قالوا (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيى ومَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) فإن كان هذا من قول السحرة دلّ على استبصار منهم وإن كان من كلامه تعالى دل على أنّ دار المجرمين غير دار الصالحين المؤمنين وقوله تعالى (وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وما هَدى) يدل على شدة الذم له وعلى أنه تعالى لا يضلّ عن الدين وانه أراد باضافة الضلال الى نفسه ما تأولناه من أن المراد به العقاب وما يتصل به ولذلك قال تعالى (وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) ثمّ قال (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) الى غير ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ
مِنْ بَعْدِكَ) ما الوجه في ذلك وقد آمنوا به. وجوابنا ان المراد بذلك تشديد المحنة على أمة الرسول لأن في حال حياته تكون المحنة أخف منها بعد وفاته وكذلك حال حضوره تكون المحنة أخف من حال غيبته ولذلك قال تعالى (وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) بما اتخذه من العجل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) والوصف المتقدم هو الاهتداء. وجوابنا انه لزم هذه الطريقة وحفظها لما كلف من الطاعات لينتفع بذلك.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى حكاية عمّن لم يعبد العجل من بني اسرائيل (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) وما الفائدة في ذلك لأن هذا الكلام لا معنى له؟ وجوابنا ان مرادهم إنا لم نجد السبيل إلى ردّ من عبد العجل ولم نتمكن من ذلك فلم نخلف ما كنا وعدناك من إنكار مثل ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ولا بِرَأْسِي) كيف يجوز ذلك على الانبياء وقد أدبه اللّه تعالى بقوله (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً) فأمره بذلك في معاملة فرعون ويفعل بأخيه مثل هذا الفعل. وجوابنا أن ظاهر ذلك لا يدل على ان موسى فعل وإن كان هارون جوّز أن يفعل والذي في القرآن أنه أخذ برأسه يجره إليه ليظهر لبني إسرائيل غضبه عليهم ومثل ذلك يحسن كما يحسن ان يأخذ نفسه فأحب هارون أن لا يفعل ذلك وإن كان فيه إنكار وإظهار للغضب ويفعل ما يقوم مقامه.
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز في نبيّ من أنبياء اللّه أن يقول (وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي) فسمى العجل الذي اتخذه إلها؟ وجوابنا أن مراده ما اتخذته إلها على وجه التوبيخ ولذلك قال بعده (لَنُحَرِّقَنَّهُ) تنزيه القرآن (17)
(ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) كيف يصحّ أن يخفى عليهم ذلك مع كثرتهم لأنه تعالى قال (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ونَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) وجوابنا أن المراد لبثهم بعد الممات فان ذلك يخفى ولا يعلم ولم يتفقوا على ذلك كما قال تعالى (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) كيف يصحّ هذا الوصف وقد ثبت أنهم في الآخرة يبصرون كما قال تعالى (وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) وكيف يصح أن تكون معيشتهم ضنكا وفيهم من ليس هذا وصفه؟ وجوابنا أنه تعالى يحشرهم عميا ثمّ يبصرون لأن أحوال الآخرة مختلفة وقد قيل مشبها بالاعمى لما ينزل به من الحيرة ومتى قيل كيف يصح ذلك مع قوله تعالى من قبل (وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) وهذا صفة للبصر. فجوابنا أن المراد نحشرهم زرقا عميا ثمّ يبصرون. وقد قيل شبه الاعمى بالازرق لذهاب السواد عن البصر وقوله من بعد (وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً ولا هَضْماً) يدل على أنهم مع معرفتهم بالآخرة فإنهم آمنون.
سورة الانبياء
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ والْأَرْضِ وهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) ما فائدة تكرار هذه الكلمة وكيف ترتبط بما تقدم ولم يتقدم في الكلام جحد فتليق به هذه الكلمة؟ وجوابنا أنه تعالى قد ذكر عن الكفار الجحود بقوله (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فبين تعالى بعده أنه عالم بجحودهم ثمّ ذكر (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) فبين اختلاف اقاويلهم وأن فيهم من قال إن الذي يأتينا من المنامات المختلفة وقال بعضهم افتراه وقال بعضهم هو سحر وأنهم تحيروا في أمره فذكر تعالى إنكارهم لنبوته وحقق ذلك بما حكاه عنهم بقوله (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) وبين بقوله (وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) أنه في إزاحة العلة ببعثه الانبياء قد بلغ الغاية فلم يبعث من نسب الى نقص فيكون في بعثته تنفير عن القبول منه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) كيف يعرف أنه لم يرسل إلا الرجال فيرجع الى مسألة أهل الذكر؟ وجوابنا أن أهل الذكر والعلم يعلمون أن بعثة الانبياء اذا كانت للمصلحة والدعاء إلى الطاعة فلا بد من أن يكون المبعوث لا نقص فيه ولا عيب ينفر عنه وبيّن تعالى بقوله (وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ والْأَرْضَ وما)
(بَيْنَهُما) لا يحسن أنه خلق ذلك على وجه الحكمة وعرض للثواب العظيم وخلق ما يكون لعبا وهو معنى قوله تعالى (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) ومعنى قوله (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) ثمّ حقق ذلك بقوله تعالى (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) وقال لمن خالف الحق (وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) ثمّ بين تعالى حال عبادة الملائكة له وخضوعهم وأنهم لا يستكبرون عن عبادته وكل ذلك ترغيب لنا في الطاعة ثمّ قبح تعالى فعلهم فقال (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) تبكيتا لهم ثمّ بين فساد ذلك بقوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) فبين أنه لو كان يدبرهما آلهة لفسد ما هما عليه بأن يريد أحدهما أن يكون ليلا والآخر نهارا أو يريد أحدهما أن يكون حرّ والآخر برد فكان التدبير فيهما يفسد وهذا هو دليل علماء التوحيد في أنه لا ثاني للّه تعالى قد نبّه سبحانه عليه بهذه الكلمات اليسيرة ونزّه نفسه عن هذا القول بقوله (فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ثمّ بيّن تعالى حكمته في فعله لقوله (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْئَلُونَ) لأن من كل أفعاله حكمة لا يسأل عن فعل وإنما يسأل من في فعله سفه كما أن من في فعله قبح وذلك يبطل قول هؤلاء المجبرة لأنه لو كان كل ظلم وقبح من فعله كان يجب أن يسأل عما يفعل تعالى اللّه، وبين بقوله (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أنّ من لا حجة معه فيما يأتيه فهو جاهل وفي ذلك دلالة على فساد التقليد وأن كل قول لا برهان معه لا يصح ثمّ قال (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) فنبه بذلك على ان المحق هو الاقل ثمّ نبه على بطلان قول النصارى فقال (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) فبيّن ان منزلة عيسى وسائر الانبياء أنهم مكرمون ومعظمون
وأنه منزه عن الولادة ونزّه نفسه عن ولادة الملائكة كما كانت العرب تقوله من أنهم بنات اللّه تعالى فقال (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وبين أنهم (لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) وبيّن بذلك ان الشفاعة لا تكون إلا لمن ارتضى الطريقة وبيّن أنهم مع عبادتهم العظيمة يشفقون وكل ذلك ترغيب لنا في العبادة وفي العدول عن الاباطيل من المذاهب وبين تعالى بقوله (وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أن من تكبر وأنزل نفسه عن منزلته فهو معذب عليه وان كل من قال ذلك فهذا سبيله ثمّ بيّن تعالى دلالة حدوث الاجسام بقوله (أَ ولَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ والْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) وهذا هو دليل علماء التوحيد لأنه إذا لم يخل من الاجتماع والافتراق وهو الرتق والفتق يجب أن يكون محدثا فلو لم يكن في كتاب اللّه من التنبيه على أدلة التوحيد والعدل وغيرهما الا ما ذكرناه في هذه الآية لكفى وكيف يذهب عن ذلك من يزعم انه ليس في الكتاب التنبيه على علم الكلام ولا في السنن مع الذي ذكرناه ثمّ بين تعالى عظم نعمه بقوله (وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) الآيات وقوله تعالى (وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) فنبه بذلك على انه خلق هذه النعم للمكلفين وان تكليفهم منقطع وان مراده تعالى أن يهيئهم لدار أخرى وهي دار الخلود دون هذه الدار فلذلك قال (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ونَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ والْخَيْرِ فِتْنَةً) فبين أنه يكلّف ثمّ يميت ثمّ يجازي.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ والْخَيْرِ فِتْنَةً) أ ليس يدل ذلك على أن الشر كالخير في أنه من قبل اللّه تعالى؟
وجوابنا أن البلوى إنما تقع بالامر والنهي ولا شبهة في أنه جل وعز لا يأمر
بالشر فالمراد به في هذه الآية الميثاق والآلام وأنه تعالى يبلو المكلّف بذلك كما يبلوه بالخير وينزل به المصائب والامراض كما يعاقبه وبين أن حال الدنيا ليست كحال الآخرة التي لا يتغير ما بأهلها أما عقاب يدوم وإما ثواب خالص يتّصل بهم ولو كان الشر من قبل اللّه تعالى لوجب أن يوصف بأنه شرير إذا أكثر منهم وعندهم لا شر إلا من قبل اللّه واللّه تعالى عن قولهم علوا كبيرا وقوله تعالى (وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) يدل على أن المراد ما قدمناه وأنه يجازيهم على ما ابتلاهم به عند رجوعهم اليه والمراد بقوله (وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) الى حيث لا حاكم ولا مالك سواه لأنّ في دار الدنيا قد فوض تعالى هذه الامور الى غيره وفي الآخرة لا حاكم سواه وهذا كما اذا تنازع الخصمان فانهما يقولان يرجع أمرنا الى فلان والمراد هو الذي يفصل في ذلك ويحكم فلا دلالة للمشبهة في شيء من ذلك.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله جل وعز (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) ومعلوم أنه ليس بمخلوق من ذلك بل لا يصح ذلك فيه. وجوابنا أن ذلك من الكلام الفصيح في الانكار والتبكيت فمن يكثر غضبه يقال له كأنك خلقت من الغضب ومن يكثر نسيانه يقال فيه ذلك فنبه تعالى على أن الواجب على المرء التوقف والتثبت وتأمل ما يلزمه من الادلة وغيرها فلذلك قال بعده (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) وقال تعالى (وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يستعجلون لأنفسهم العذاب جهلا منهم كما قال تعالى (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها والَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها ويَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) ولذلك قال تعالى بعده (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ ولا عَنْ ظُهُورِهِمْ ولا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها ولا هُمْ يُنْظَرُونَ) ثمّ أنه تعالى عزّى رسوله صلّى اللّه عليه وسلم في اختلافهم عليه وفي عنادهم فقال
(وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فبين أن الواجب فيما يفعل أن ينظر في عواقبه فإذا كانت العاقبة مكروهة لم يحسن أن يغتبط بها فخلافهم عليك يا محمد إذا كان يعقب مثل ذلك فهو وبال ودمار ثمّ بيّن تعالى أنه على اختلال أحوالهم حافظ لهم ودافع للمكاره عنهم فقال (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ) يبعثهم بذلك على طاعته لإدامة النعم عليهم ونبههم بذلك أن لا إله سواه يدفع عنهم المكاره فلذلك قال (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) فهجّن بذلك صنيع عبّاد الاوثان وبين تعالى أنه مع ذلك متّعهم بالبقاء لكي يؤمنوا وأطال عمرهم فقال (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) كيف يصحّ تعلق ذلك بقوله (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ)؟ وجوابنا أنه بيّن قدرته على إفناء كثير من الخلق وخصّهم بأن متّعهم فقد روي عن بعض المفسرين أن المرات موت العلماء وروي عن بعضهم أن المراد به إنزال أسباب الهلاك على قوم منهم وذكر تعالى الارض وأراد هلاك أهلها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ولا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) كيف يصحّ أن يصفهم بالصمم ثمّ يذمهم بقوله (وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا)؟ وجوابنا أن ذلك جرى منه تعالى على مذهب العرب في وصفهم بما هو مبالغة في الاعراض عن سماع الآيات لأن من اشتد اعراضه يوصف بأنه أصم لا يسمع كما قال تعالى (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ولا)
(تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) وكما قال عز وجل في وصف الكفار (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وكما يقال حبّك للشيء يعمي ويصمّ.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) وأي مدخل للموازين في أعمال العباد وفي المجازات؟ وجوابنا أن المراد بذكر الموازين العدل في باب المجازاة ولذلك قال تعالى بعده (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وكَفى بِنا حاسِبِينَ) فهذا جواب بعض علماء التوحيد وقال بعضهم بل هناك موازين يوزن بها ما تظهر به حال المرء في أنه من أهل الثواب أو من أهل العقاب ومن قال بذلك يقول توزن الصحف التي فيها ذكر الحسنات والسيئات فيتبين الرجحان وقال بعضهم يجعل تعالى في إحدى الكفتين علامة من نور فتكون علامة الثواب وفي الاخرى ظلمة فتكون علامة العقاب والفائدة في ذلك أن يعرف في دار الدنيا ما يخاف في الآخرة عند ذلك من الفضيحة لمن عصاه فيزداد بذلك غما ويصرفه ذلك عن المعاصي وما يحصل من السرور لأهل الثواب في ذلك الموقف العظيم فيصير زائدا في المسألة والطاعات ونبّه بقوله جل وعز (وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ) على ما ذكرنا من أنه يتولى عز وجل المحاسبة. ومتى قيل كيف يتولاه فجوابنا أن يفعل كلاما في بعض الاجسام فيظهر به حال المكلف واذا جاز ونحن في الدنيا أن يرزقنا وإن كان لا يرى ولا مكان له جاز أيضا في الآخرة أن يكلم المكلف وأن يتعالى عن الرؤية والمكان وبين تعالى بعده أنه آتى موسى وهارون الفرقان وما هو ذكر للمتقين الذين يخشون ويشفقون ثمّ قال (وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) يعني الفرقان أ فأنتم له منكرون وذلك تبكيت لمن أنكره ثمّ بين تعالى قصة ابراهيم صلّى اللّه عليه وسلم ليبعث بذلك على الطاعة وما تحمله من الشدة في مخاطبة أبيه وقومه وصرفهم عن عبادة الأصنام الى عبادة اللّه تعالى ونبه بقوله تعالى (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) على فساد التقليد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ والْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) كيف يكون مجيبا لهم بهذا الكلام وبهذه الشهادة؟ وجوابنا أن قوله (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ والْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) كاف في بيان جوابهم لان معرفة اللّه تعالى إنما تحصل بأفعاله فلما تم ذلك خصه بقوله تعالى (وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) لا أنه جعل الحجة بشهادته بل أورده توكيد للدلالة.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) أ ليس ذلك يدل على أن ابراهيم صلّى اللّه عليه وسلم كذب في هذه الحال وأن الانبياء لا يجوز عليهم الكذب وأنتم تمنعون من ذلك؟ وجوابنا أنه صلّى اللّه عليه وسلم أورد ذلك على وجه التوبيخ لهم لينبههم على أن الذي تعبده القوم لا يصح منه نفع ولا ضر ولذلك قال بعده (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) قال (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) ثمّ قال بعده (أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً ولا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ) وكل ذلك يدل على ما قلناه.
[مسألة]
وربما تعلق بعض المجبرة بقوله تعالى (وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) وأن ذلك يدل على أنه الخالق للطاعة؟ وجوابنا في ذلك أن المراد جعلهم أنبياء بإظهار المعجزات وذلك من قبله جل وعز وان كانوا لا يتأهلون لذلك إلا بعد تقدم عبادات وطاعات من جهتهم ولذلك قال بعده (وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) فأضاف الخيرات الى فعلهم وقال (وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ) فمدحهم باضافة العبادة اليهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) كيف يصح ذلك مع قوله (وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وعِلْماً)؟ وجوابنا أن الذي
حكم به داود كان حقا في وقته وفهم سليمان نسخ ذلك فلا يدل على مناقضة في الكلام.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ) كيف يصح التسبيح من الجبال والطير وما معنى قوله بعد ذلك (وَ كُنَّا فاعِلِينَ) وقد أفهم ذلك بقوله (وَ سَخَّرْنا)؟
وجوابنا أن تسبيح الجبال هو ما يظهر من دلالتها على أنه تعالى منزه عمّا لا يجوز عليه كما ذكرنا في قوله جل وعز (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ) الى غير ذلك فلما سخر ذلك لداود على خلاف المعتاد فكان يتصرف فيه كما يريد جاز أن يقول (يُسَبِّحْنَ) بظهور أمر معجز فيها وفي الطير فهذا معنى الكلام وأما معنى قوله (وَ كُنَّا فاعِلِينَ) فهو إخبار عن طريقه جل وعز في فعل مثل ذلك فلذلك أتبعه بما أظهره عليه وعلى سليمان صلّى اللّه عليه وسلم من العجائب وبما أظهره على أيوب وسائر الأنبياء صلوات اللّه عليهم وبين تعالى بعد ما اقتصه من أخبارهم وما أظهره من العجائب فيهم عظم منزلتهم فقال تعالى (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ويَدْعُونَنا رَغَباً ورَهَباً وكانُوا لَنا خاشِعِينَ) فبعث بذلك على التمسك بمثل هذه الطريقة ولذلك قال تعالى بعده (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) فبعث بكل ما تقدم على إخلاص العبادة له ونبه على عظيم المجازاة في العبادة بقوله (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) فبين أنه يجازي على سائر ما فعل ثمّ بين من بعد أشراط الساعة بقوله (وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) وبين كيف ينزل بهم أنواع الخيرات إذا عاينوا العذاب فأما قوله تعالى (إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) فالمراد به الاصنام والاوثان ولا يدخل في ذلك المسيح كما ظنه بعض من لا يعرف وذلك محكي عن بعض المتقدمين بيّن ذلك أنه قال
تعالى (وَ ما تَعْبُدُونَ) ولو كان المراد العقلاء لأورده بلفظ من وظاهر ذلك أنه جل وعز يعيد هذه الاصنام ويجعلها كالحطب في النار فيشاهدها من كان يعبدها فيكون حجة أعظم وبيّن بعده الفضل بين منزلة هؤلاء وبين منزلة الذين سبقت لهم منه الحسنى فقال تعالى (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) وبيّن أنه لا يحزنهم الفزع الاكبر وأن الملائكة تبشرهم بمنزلة الثواب وبيّن بقوله تعالى (نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا) أنه تعالى قد أوجب على نفسه إعادة الخلق وما يتصل بهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) كيف يصح ذلك وهو لا يحكم الا بالحق وما الفائدة في أمره بهذا الدعاء؟
وجوابنا أن الدعاء بما لا يجوز خلافه قد يحسن وعلى هذا الوجه ندعو اللّه للأنبياء والرسل ونقول اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم ونقول اغفر للمؤمنين والمؤمنات وعلى هذا الوجه قال ابراهيم (لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) فكيف ننكر ذلك وكيف نظن أنه يجوز أن يحكم بالباطل تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا.
سورة الحج
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) كيف يتعلق وصف الساعة بالتقوى؟
وجوابنا أنه بيّن أنّ ذلك الأمر العظيم يزول عن المتقين فيأتون ما يخافه المجرم وذلك ترغيب في التقوى وتزهيد في خلافها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) كيف يصح ذلك وليس هناك رضاع ولا حمل؟ وجوابنا أن ذلك كالمثل في عظم أهوال الآخرة وأنه يبلغ في العظم مبلغ ما يلهي المرء عن ولده في باب الرّضاع والحمل وذلك لأن من أعظم الاشفاق إشفاق المرضعة على ولدها والحامل على حملها هذا وقد يجوز أن يعيد اللّه المرضعة على الولد والحامل على صفتها وقد روى عنه صلّى اللّه عليه وسلم أن كل أحد يموت يبعث على ما مات عليه فيكون ذلك كالحقيقة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وما هُمْ بِسُكارى) أ ليس ذلك متناقضا؟ وجوابنا أن المراد أنهم قد بلغوا في التحيّر إلى حد السكران وإن لم يكن هناك سكر ويحتمل أنهم سكارى من الخوف والحيرة وما هم بسكارى من الخمر ومثل ذلك يدخل في نهاية الفصاحة فكيف يعدّ مناقضا وقد يقبل المرء على من لحقه الدهش والحيرة فيقول مثل ذلك فلذلك قال بعده (وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) فنبه على انه وصفهم
بذلك لخوفهم من هذا العذاب وقوله تعالى بعد ذلك (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يدل على أن معرفة اللّه تعالى مكتسبة وأن من لا علم له لا يحل ان يجادل بل الواجب أن ينظر ويتعلم وفيه دلالة على بطلان التقليد وقوله (وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) يدل على أن هذا الاتباع فعله ولذلك ذمّه عليه وقوله (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ويَهْدِيهِ) المراد به يصرفه عن طريق الجنّة ولذلك قال (وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ونبّه تعالى على قدرته على الاعادة بقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) فدل بخلقه الانسان على هذا الترتيب وبقدرته عليه على جواز الاعادة ودلّ أيضا بقوله (وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) على مثل ذلك ثمّ حقق ذلك بقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ما قدمت من قدرته على الاعادة ومعنى ذلك أن إلهيته ووحدانيته هي الحق فوصف بذلك نفسه وأراد ما ذكرنا وذلك مجاز لأن الحق هو عبارة عن صحة الامور التي يعتقدها المحق ولذلك اتبعه بقوله (وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) فبطل بذلك ما كان عليه فرقة من العرب من إنكار الاعادة كما وصفهم بقوله تعالى (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وهِيَ رَمِيمٌ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) ما المفهوم من ذلك ولا يعرف ذلك في اللغة؟ وجوابنا أن المنافق يظهر العباد ويبطن خلافها فشبه تعالى ظاهر أمره بحرف لأن الحرف هو طرف الشيء والمرء يحتاج في العبادة أن يظهر باطنا وظاهرا فلمّا أظهر المنافق ذلك من أحد الوجهين وصفه تعالى بذلك ولذلك قال بعده (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ)
(الدُّنْيا والْآخِرَةَ) وهذا الجنس من التشبيه يبلغ من الفصاحة ما لا تبلغه حقائق الكلام ولذلك قال تعالى (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ) فبين أنه يعبد الاصنام وبيّن أن ضرر ذلك أقرب من نفعه وكل ذلك يحقق أن العبادة من فعل العبد وقوله تعالى (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) يدل على ان العبد هو الفاعل لأنه إذا خلق فيه كل أفعاله فأيّ فائدة في النصرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) ان ذلك يدل على أنه يهدي قوما دون قوم بخلاف قولكم ان الهدى عام.
وجوابنا ان المراد يكلف من يريد لأن في الناس من لا يبلغه حد التكليف أو يحتمل ان يريد الهداية إلى الثواب لأنها خاصة في المطيعين دون العصاة ورغّب تعالى المؤمن في تحمل المشاق واحتمال ما يناله من المبطلين بقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصَّابِئِينَ والنَّصارى والْمَجُوسَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فبيّن حسن عاقبة المؤمن عند الفضل ليكون في الدنيا وإن لحقه الذل صابرا وعلى هذا الوجه قال صلّى اللّه عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الْأَرْضِ والشَّمْسُ والْقَمَرُ والنُّجُومُ والْجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوَابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) كيف يصح السجود من هذه الامور أكثرها جمادات؟ وجوابنا ان المراد بهذا السجود الخضوع فالمراد بذلك أنه تعالى يصرفها في الامور ولا مانع ولأجل ذلك لما ذكر الذي للمكلفين خص ولم يعم فقال تعالى (وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) لان فيهم من ينقاد فيطيع وفيهم خلافه ويحتمل أن يراد بالسجود دلالتها على تنزيه اللّه تعالى فلما لم يصحّ فيها السجود أريد ذلك ولما صح ذلك في الناس أريدت
الحقيقة فخصه ولذلك قال (وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) لما لم يفعل السجود والعبادة وقوله من بعد (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) المراد به ما يشاء أن يفعله لا ما يشاء من غيره فليس للمخالفين أن يتعلقوا بذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) كيف يصح أن يريدوا ذلك مع اليأس من الخروج وهذه الارادة تكون قبيحة ولا يقع من أهل الآخرة القبيح عندكم.
وجوابنا أن في العلماء من قال ذكر تعالى الارادة وأراد ما في نفوسهم من الميل الى ذلك كما قال تعالى (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) وقال بعضهم يحسن أن يزيدوا ذلك وان لم ينالوه على وجه الاستغاثة كما يحسن منهم الصياح والصراخ على هذا الوجه فلهم في ذلك غرض يحسن منهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) ما فائدة ذلك في وصف المؤمنين في الجنة ومعلوم انهم يعرفون الطيب من القول أن يهدوا إليه؟ وجوابنا أن المراد به ما يعرفون من تحية البعض للبعض وذلك مخالف لما يقع في الدنيا لاغراض تتصل بمنافع الدنيا وبالتكليف ويحصل في هذا القول من السرور بالتعظيم ما لا يوجد مثله في دار الدنيا ومعنى قوله تعالى (وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) ما ينالهم من السرور بشكر نعم اللّه تعالى ويحتمل أن يكون المراد بذلك ما يكون في دار الدنيا وأنهم هدوا إلى الاخلاص والى اتباع طريقة الحق.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ والْبادِ) كيف يصح ذلك في الحرم وقد ثبت أنه مملوك؟ وجوابنا ان المراد نفس المسجد دون الدور والمنازل وفي ذلك خلاف شائع وعظم اللّه تعالى المعاصي في المسجد الحرام بقوله (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)
وبقوله (وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْقائِمِينَ) وبقوله (وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) ولذلك قال بعده (ذلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ومعنى قوله تعالى (وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) مواضع النسك لا نفس النسك الذي هو فعلها فليس للمخالفين أن يتعلقوا بذلك ونبّه بقوله تعالى (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ولا دِماؤُها ولكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) على ان الذي ينتفع به الاخلاص دون صورة العمل ونبه بقوله (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) على ان ذلك من قبل العبد لأنه لو كان من خلقه تعالى لما جاز أن لا يحبه ولا يريده.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ) كيف يصح هدم الصلوات؟ وجوابنا ان المراد أماكن الصلوات في غير المساجد ثمّ أتبعه بذكر المساجد ومثل ذلك مفهوم كقوله (وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) الى ما شاكل ذلك ولذلك قال بعده (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) كيف يصحّ ذلك وفي جملة المؤمنين من يغلب؟ وجوابنا ان النصر على وجوه فلا بد فيمن ينصر ربّه بالطاعة والجهاد أن يكون اللّه تعالى ناصره ببعض الوجوه هذا والغلبة على المؤمن لا تخرجه عن أنه المنصور لأنه المحمود العاقبة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ما الفائدة في ذلك ولا رسول إلّا وهو نبيّ عندكم؟ وجوابنا ان معنى وصف الرسول بأنه نبي إثبات ما يختص به من الرفعة العظيمة فلما كانت الفائدة في ذلك تنزيه القرآن (18)
مخالفة للفائدة في وصفه بأنه رسول جاز أن يذكرهما فإن قيل فما المراد بقوله (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) وكيف يصحّ ذلك على الانبياء؟ وجوابنا أن المراد إذا تلا القرآن يلحقه السهو في قراءته وذلك معروف في اللغة فلذلك قال بعده (فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ) ولو كان المراد غير ما ذكرناه من التلاوة لم يصح ذلك فامّا ما يرويه الحشوية من أنه صلّى اللّه عليه وسلم ذكر في قراءته أصنامهم وقال إن الغرانيق العلا شفاعتهن ترجى حتى فرح الكفار فلا أصل له ومثل ذلك لا يكون إلا من دسائس الملحدة فبيّن تعالى بذلك أن السهو في القراءة جائز على النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأنه من يعد يبيّن الفضل من السهو ويبيّن الصحيح منه ولذلك قال بعده (وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وقال بعده (وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) كيف يصح ذلك والملك في كل حال للّه عز وجل؟ وجوابنا أن المراد أنه في دار الدنيا ملك كثيرا من الناس الامور وفي الآخرة لا حاكم سواه البتة ولذلك يحكم بينهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) كيف يصح هذا الجواب وهو تعالى عالم بكل شيء؟ وجوابنا أن ذلك تحذير من مجادلتهم فحذّرهم بذلك بعد البيان ولذلك قال قبله (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) ثمّ قال (وَ إِنْ جادَلُوكَ) فاذا تقدم البيان جاز من الرسول صلّى اللّه عليه وسلم الاقتصار على هذا الجنس من التحذير ولذلك قال بعده (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وبيّن تعالى أنه عالم بكل شيء فقال (أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ والْأَرْضِ) وبين أيضا أن ما علمه من الامور التي تحدث قد كتبه ليستدل بها
الملائكة فقال (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) وحذر بذلك عبّاد الاصنام فلذلك قال بعده (وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) ثمّ بيّن بعده ضعف المخلوقين بقوله (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) واكد ذلك بقوله (وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) فبين أنه على حقارته يغلب المرء فلا يتمكن الانسان من استنقاذ ما سلبه وقد حكي عن أبي الهذيل رحمه اللّه تعالى أن بعض الملوك سأله وقال ما الفائدة في خلق الذباب فأجاب بأن في ذلك إذلال الجبابرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا ومِنَ النَّاسِ) أ ليس يدل ذلك على نقيض قوله تعالى (فاطِرِ السَّماواتِ والْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا) فأيهما هو الصواب أ يكون بعضهم كذلك أو كلهم أجمع؟ وجوابنا أن بعضا منهم يكون رسلا إلى الانبياء دون الكل ولئن كان جميعهم من الرسل فلا تناقض في ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) كيف يصح ذلك ولغة العرب صادرة عن إسماعيل؟ وجوابنا ان المراد المعني دون نفس الاسم فكأنه وصفهم بتمسكهم بالملة وبأنهم من أهل الثواب وهو المفهوم من وصفنا لهم بأنهم مسلمون ومؤمنون.
سورة المؤمنون
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) ثمّ قوله آخرا (وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) فكرر ذلك وكيف يجوز مثله؟ وجوابنا أنه في الاول وصفهم بالخشوع في الصلاة وفي الثاني وصفهم بالمحافظة على أوقاتها وليس ذلك بتكرار.
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) ومعلوم أن معنى الميراث لا يصح فيهم؟ وجوابنا أنه شبة وصولهم الى الفردوس من دون سبب يأتونه بوصول المرء الى الاملاك بالميراث عند الموت وهذا من أحسن ما يجري في الكلام من التشبيه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) كيف يصح ان يتكرر خلق الشيء الواحد فكيف يصح فيما خلق من طين أن يوصف بأنه مخلوق من نطفة؟ وجوابنا أنه تعالى ذكر الانسان وأنه خلق من طين وهو آدم والنطفة لمّا كانت منه جاز أن يقول (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) يعني الأولاد وأما قوله (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) فالمراد ما به صارت علقة وهذا كما يقول المرء عملت من الخشب بابا والمراد أنه عمل ما به صار بابا فالخلق في الشيء الواحد لم يتكرر وإنما يحدث فيه شيئا بعد شيء.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أ ليس ذلك يقتضي أنه غير ما تقدم ذكره؟ وجوابنا أنه لما صار بالحياة التي خلقها اللّه تعالى فيه على صفة لم يكن عليها جاز أن يقول ذلك مجازا وقد يقول الرجل في ولده وقد تأدب وتعلم وتغيرت أحواله أنه غير الذي رأيتموه وذلك ممّا يكثر في الكلام.
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) كيف يصح ذلك ولا خالق سواه؟ وجوابنا أن ذلك من حيث اللغة فوصف كل من تدبر فعله وأتى به على وجه الصواب أنه خالق وذلك مشهور في اللغة فعلى هذا الوجه يصح ما ذكره تعالى وانما منع أن يجري هذا الوصف الا على اللّه تعالى مطلقا من حيث كل أفعاله لا تكون إلا مقدّرة على وجه الصواب كما لا يقال مطلقا في أحد سواه أنه ربّ وإن كان قد يقال في زيد أنه ربّ داره وعبده فمن حيث التعارف لا يوصف بذلك سواه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) كيف يصح ذلك والماء إنما ينزل من السحاب؟ وجوابنا أن الصحيح أنه ينزل من السماء ويحمله السحاب ثمّ ينزل الى الارض وإنما يذكر ذلك بعض الأوائل لقولهم أن الماء يصعد من الارض كالبخار ويحمله السحاب ثمّ يصفو وينزل وليس الامر كما قالوه وكتاب اللّه أصدق من قولهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) كيف يصح ذلك في اللغة وهي لا تنبت بالدهن ولا الدهن ينبت؟ وجوابنا أن المراد ينبت ما هو أصل الدهن وهو الزيتون الذي منه يخرج الدهن وتنبت أي تخرج وقد يقال في الشجرة إنها تخرج كيت وكيت ويقال أيضا انها تخرج بكيت وكيت وقد قال أن الباء كالبدل من اللام
لان ذلك من حروف الجر فكأنه قال تنبت الدهن فالكلام صحيح على كل حال.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) كيف يصح وقد كان بين الرسل فترات وكيف يصح قوله تعالى (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) وذلك تكرار؟ وجوابنا أنه تعالى وصف بعض الرسل بذلك ولذلك قال بعده (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى) وتقدم من قبل ذكر الرسل فلا يمتنع من ذلك البعض أنه أرسلهم على اتصال ولا يمتنع اذا تقارب بعثة بعضهم بعد بعض أن يقال ذلك فأما قوله فأتبعنا بعضهم بعضا فانه يعني في الهلاك ولذلك قال بعده (وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) فالمراد بذلك الامم التي كان اللّه تعالى تعجل إهلاكها وقوله من بعد (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) دلالة على أن الذين ينجون من العذاب هم المؤمنون ومعنى قوله من بعد (وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ آيَةً) أي دلالة ومعجزة فإنه تعالى نقض العادات فيها وفي ابنها وقوله تعالى من بعد (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صالِحاً) يدل على أنه أباح الطيبات وأنه لا يدخل في جملة الورع اجتنابها أكل ذلك وقوله من بعد (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) المراد به التخلية كأنه تعالى يعزي الانبياء فقد كانوا يتشددون في الدعاء إلى اللّه تعالى ويغتمون بترك القبول وقال تعالى (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) أي في حيرتهم التي أوتوا فيها من قبل أنفسهم حتى حين وذلك كالتهديد لانّ قوله تعالى (حَتَّى حِينٍ) تنبيه على عذاب الآخرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ والْأَرْضُ) كيف يتعلق فساد السموات والارض باتباعهم أهواءهم؟ وجوابنا أن المراد من كذب بالرسل وباللّه تعالى واثبت آلهة سواه ولو صح مع اللّه تعالى آلهة إلا اللّه لفسد التدبير وهذا هو المراد بالآية كما نقوله في دلالة التمانع في قوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا)
ولذلك قال بعده (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) ثمّ قال منزها لنفسه (سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ والشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) فحكى جل وعز عنه ذلك ثمّ قال (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) ما الفائدة في ذلك وهو معلوم من قبل؟
وجوابنا أن المراد هذه طريقة في هذه الكلمة أنه يكررها ويتمنى عوده من حيث لا يتلافى ويقتصر على التمني.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ولا يَتَساءَلُونَ) كيف يصح نفي الانساب وهي ثابتة في الآخرة كما قال تعالى (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وصاحِبَتِهِ وأَخِيهِ) وقد يدعي الرجل في الآخرة بالآباء؟ وجوابنا أن المراد انقطاع النفع بعد نفخ الصور بالانساب وقد كان ينتفع بها في الدنيا وإلا فالنسب الذي قد ثبت وتقضي لا يزول ولذلك قال تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وأُمِّهِ وأَبِيهِ) وانما سينتفع بذلك أهل الصلاح فلذلك قال تعالى في سورة الرعد (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) فوصفهم ثمّ قال في آخره (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ومَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وأَزْواجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ) فعند ذلك يعظم السرور بالاجتماع وبعد ذلك قال تعالى حاكيا عمن خفت موازينه (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) وبيّن تعالى عظم ما أقدموا عليه بقوله (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا وأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)
(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) فدل بذلك على عظم هذا الجرم ثمّ بين ما لهم من المنزلة بقوله (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ).
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز أن يقولوا (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وذلك كذب منهم لأنه جواب لقوله (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ)؟ وجوابنا أنهم لم يريدوا بذلك أحوال حياتهم بل أرادوا حال الوفاة ولم يريدوا بقولهم (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) التحقيق لأنهم لو أرادوا الخبر لكان هذا القول متناقضا وكأنهم أرادوا أنهم وان كثر لبثهم فهو قليل في حكم يوم أو بعض يوم في أنهم لم ينتفعوا بالتلافي والاستدراك ولذلك قال بعده (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وقال بعده (وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) فنبه على تقصيرهم حيث أمكنهم التلافي وأنهم فيما بعد فاتهم ذلك وقوله تعالى من بعد (وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) دلالة على أن كل قول لا حجة فيه فهو محرم ولذلك قال تعالى (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ).
سورة النور
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) كيف يصح انزال السورة وذلك يستحيل فيها؟ وجوابنا عن ذلك وعن سائر ما في القرآن نحو قوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) الى غير ذلك هو أن المراد به إنزال السورة بانزال من يحملها وعلى هذا الوجه نصف القرآن بأن اللّه أنزله وهذا كما يقال أنزلنا الماء ويراد بذلك الظرف ونزحنا الماء من البئر الى غير ذلك وكما يقال إن فلانا أظهر علمه والمراد أودعه الكتب فمن هذا الوجه يستدل بهذه الآيات على حدوث القرآن لأن ما هو قديم لا يجوز فيه انزاله بنفسه ولا بغيره وفي قوله تعالى (وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) والآيات هي الادلة دلالة أيضا على حدوثه وفي قوله (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) دلالة على أن اللّه تعالى أراد من جميعهم التذكر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) كيف يصح هذا الخبر ونحن نعلم أن الزاني قد يطأ وقد يعقد على غير الزانية؟ وجوابنا أنه وان كان في صورة الخبر فالمراد به الأمر.
واختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال هو منسوخ ومنهم من قال بل هو ثابت وأن المراد أن الزاني لا يحل له التزويج بالعفيفة حتى أنهم يقولون اذا حدث الزنا منه بطل النكاح ومع ذلك فان ظاهره انما يقتضى أنه في حال زناه لا
ينكح إلّا زانية لان الزاني هو الواطئ بغير شبهة وبغير نكاح وملك ومن هذا سبيله فهو غير ناكح إلا الزانية ومن يقدر فيها هذا التقدير.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) كيف يصح في افكهم أن يكون خيرا مع قبحه وعظم الاثم فيه؟ وجوابنا أن المراد به خير لهم من حيث نالهم به من الغم ما صبروا عليه وان كان كذبا قبيحا فالمراد هو ما قد ذكرناه ولذلك قال تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) فذمهم وبين أن الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ومعلوم أن هذا الصنيع منهم كان كالسبب في تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه وسلم والمتصلين بعائشة فصار الصبر عليه عظيم الثواب ولذلك يقال الآن فيمن زنى بأهل له أنه اذا صبر فله ثواب واذا ظلم المرء فلم يخرج الى المقاتلة على ذلك بل صبر فله ثواب وهذه القصة انما ضمت الى هذه السورة لتعلقها بالقذف والرمي اللذين بين اللّه تعالى حكمهما في الاجنبي وفي الزوجيات وهي تشتمل على أحكام وأدب يمكن أن يقال ان جميع ذلك من الخيرات فبين تعالى أن من يتولى كبر الشيء أعظم إنما ممّن هو كالتابع وبيّن أن الواجب على من يسمع مثل ذلك أن لا يظن صحته بمن عرف عفته ويؤيده قوله (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) وفيه أن الواجب في مثله الاعتماد على الشهادة فاذا انتفت وجب الكف وهو معنى قوله (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) لان المراد هلّا فعلوا ذلك (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ).
[مسألة]
ومتى قيل أ ليس من لم يأت بالشهود قد يكون صادقا فكيف يصح ما ذكره تعالى؟ وجوابنا أنه وصف قولهم في هذه القصة خاصّة بأنه
كذب وما يذكر في كتب الفقهاء من أن الملاعن يكذب نفسه وان ذلك منه كالتوبة يجب أن يكون كالمجاز لان الزوج إذا رمى امرأته فقد يكون صادقا ويكذب نفسه فان كذب نفسه على الحقيقة فذلك ذنب ثان لأن تكذيب الصادق كذب وبين أنه لو لا فضل اللّه عليهم لمسهم في ذلك عذاب عظيم وما يمسهم فيه العذاب لا يكون خيرا ونبّه بقوله تعالى (وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) على أن الخبر بلا علم يقبح وبين أن الذنب قد يعظم عند اللّه وإن حسبه المذنب هيّنا وبين أن الخبر في مثل ذلك يسمى بهتانا فدل بذلك على عظمة لان في تلك الاخبار ما لا يسمى بذلك وان كان كذبا وبين يقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) أن محبة القلب بانفراده قد تكون ذنبا عظيما فيبطل بذلك ما يظنه كثير من الناس من أنه لا يؤاخذ المرء بما يقع في قلبه إذا لم يعمل ولو لا خوف التطويل لذكرنا سائر ما في هذه القصة من الفوائد فأما ما قاله آخرا من قوله سبحانه وتعالى (وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ولكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) فالمراد به اظهار الفضل والمدح وذلك يصح من اللّه تعالى وليس المراد نفس الطاعة فليس للمخالفين التعلق بذلك وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ) يدل على أن ذلك من الكبائر العظام ويدل على أنه ملعون في الآخرة إذا لم يتب والملعون في الآخرة لا يصح ان يكون من أهل الجنة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) كيف تصح الشهادة من اللسان؟ وجوابنا بأن ينطقه اللّه وكذلك الكلام في أيديهم وفي أرجلهم وفي ذلك زجر عظيم لأن المقدم على الذنب إذا تصوّر أنه يجزي عليه في الآخرة بهذه الشهادة كان ذلك من أعظم زواجره. فان قيل فاللسان واليد والرجل هي المتكلمة بهذه الشهادة. قيل له هذا هو الظاهر واللّه
عز وجل قادر على أن يحييها مفردة لتتكلم بهذه الشهادة كما روي عنه صلّى اللّه عليه وسلم في الذراع أنها كلّمته وقالت لا تأكلني يا رسول اللّه فإني مسمومة وفي العلماء من يقول هذه الشهادة من فعل اللّه تعالى فإن وجدت في الاعصاب فيكون اللّه تعالى المتكلم وأضيفت الشهادة إليها على وجه من المجاز.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ) أ ليس يدل ذلك على أنه جسم وعلى أنه أحسن الاجسام كما قاله بعضهم؟ وجوابنا أن المراد أنه منوّر السموات والارض بين ذلك أنه قال تعالى (مَثَلُ نُورِهِ) فأضاف النور إليه وقال آخرا (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) ويحتمل أن يكون المراد نفس النور ويحتمل أن تكون الادلة وفي الوجهين من يفعل ذلك يوصف أنه منور وإنما وصف نفسه بذلك مبالغة من حيث أن كل الانوار من قبله كما يوصف بأنه رجاء وغياث الى ما شاكل ذلك ولذلك قال تعالى بعد (وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).
[مسألة]
ومتى قيل كيف يصح قوله عز وجل (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ) ولا ثالث لهذين؟ وجوابنا أن المراد أن مكانها ليس مما تطلع عليه الشمس فقط ولا تغرب أي تظهر عليه الشمس عند الغروب فقط بل مكانها المكان الذي لا تنقطع منه الشمس وذلك بيّن في وجه المنفعة للاشجار.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) بعد أن وصف الظلمات العظيمة كيف يصح ذلك؟ وجوابنا أن بعضهم قال لا يراها أصلا وقال بعضهم بل الظلمات وان عظمت مما تقرب المرء من تحريك أعضائه وقد يجوز ان يراها فليس في ذلك مناقضة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)
(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ومِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ومِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كيف يصح الاقتصار على هذه القيمة وفي الحيوان ما يمشي على أكثر من أربع؟ وجوابنا أن تبيان هذه الاوصاف لا يمنع فوق رابع لو صح ما قاله فكيف وما يظهر له من الارجل أكثر من أربع انما يمشي من جملتها على أربع فالكلام تام.
سورة الفرقان
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أو ما يدل ذلك على أنه الخالق لأفعال العباد؟ وجوابنا أن المراد به الاجسام التي ننتفع بها لأنه تعالى ذكر ذلك عقيب قوله (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والْأَرْضِ ولَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) وقد بينا من قبل أن اللّه لا يجوز أن يمتدح بفعل القبائح فالمراد ما ذكرنا وقوله تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) يدل على أن مراده بهذه الآيات ما يكون حسنا وحكمة فاللّه تعالى استفتح هذه السورة بما يدل على قولنا وهو قوله تعالى (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) فبين أنه أنزله لينذر ويخوف كل واحد من العالمين، والتخويف انما يراد منه الانصراف عن الكفر والمعاصي فكيف يصح أن يبعثه ليصرفهم عما هو الخالق له فيهم ولا يمكنهم وهو الخالق فيهم الانصراف عن ذلك ولو اجتهدوا كل الاجتهاد وقوله تعالى من بعد (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) أراد تعالى أنهم لا يستطيعون السبيل الى القدح في نبوّته فلا يصح للمخالفين أن يسألوا عن ذلك في أن القدرة مع الفعل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) تنزيه القرآن (19)
(سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وزَفِيراً) كيف يصح ذلك في النار حتى توصف بأنها تراهم وهي جماد وحتى توصف بأن لها تغيظا وزفيرا وذلك لا يصح إلا في الحي الذي يغتاظ مما يرى؟ وجوابنا أن المراد بذلك التمثيل دون التحقيق فمن يقرب من الشيء يقال يراه وقد يشبه صوت النار عند التلهف بالزفير الذي يظهر من المغتاظ ويحتمل أنه تعالى ذكر إذا رأتهم وأراد خزنة جهنم فإنهم يغتاظون فيكون لهم من الزفير بعد علمهم بما يقتضي ظهور ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) كيف يصح ذلك ولا خير في النار أصلا؟ وجوابنا ان المراد أيهما أولى بأن يكون خيرا وقد يقول الحكيم لغيره من العصاة ان التمسك بالطاعة خير لك من المعصية والمراد ما قد ذكرنا.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) وذلك خلاف قولكم. وجوابنا أن المراد أنه متعهم فاختاروا عند ذلك نسيان الذكر والمراد بهذا النسيان ترك الواجب لأن النسيان في الحقيقة من فعل اللّه تعالى فلا يجوز أن يذمهم عليه ولذلك قال تعالى بعده (وَ كانُوا قَوْماً بُوراً) وقوله تعالى (وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) أحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يرى والا لم يصح أن يستعظم هذا القول منهم كما لا يجوز أن ينزل الملائكة بدلا من البشر لكن انزال الملائكة مقدور والحكمة تمنع منه والرؤية ليست مما يصح أصلا وفي قوله عز وجل (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) دلالة على أن المضل عن الدين ليس هو اللّه تعالى كما يقوله المجبرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) كيف يصح أن يكون تعالى جعلهم أعداء للانبياء؟ وجوابنا أنه تعالى إذا عظم الانبياء واصطفاهم وخصّهم بالمعجزات وكان ذلك من قبله ولأجل ذلك عادوا الانبياء جاز أن يضيف ذلك إلى نفسه من هذا الوجه بأنه يفعل فيهم العداوة مع زجره ونهيه عن ذلك ومع ايجابه عليهم أن يتركوها إلى الولاية وإلى التصديق والانقياد وحكى تعالى عن الكفار أنهم قالوا (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) كالذي فعله تعالى في كتب الأنبياء وجعلوا ذلك كالطعن فقال جل وعز (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ورَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا) فبيّن أن إنزاله على تصرف الاوقات وتجديد ذلك على قلبه ما يوجب الثبات والصبر وذلك معلوم من حال ما يرد على السمع في الاوقات المتباينة وبعد فإنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يكن يكتب ويقرأ فلو أنزل عليه جملة واحدة لكان مخالفا للحكمة وبعد فإن إنزاله في وقته أحسن موقعا من إنزاله قبله فعند الحوادث إنزال اللّه تعالى ما يتصل بها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) كيف يصح حشرهم على وجوههم؟ وجوابنا أنه تعالى قادر على ذلك ويكون أدخل في الذل والاهانة ويحتمل أن يكون المراد أنهم يساقون وجها واحدا إلى جهنم من دون ميل وتوقف كما يقول القائل جئتك اليوم وجها واحدا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) كيف يصح وصفه بأنه مدّ ولا يتأتّى فيه ذلك؟ وجوابنا أن المراد به أنه مد ذلك أي ادامه كما قال تعالى في صفة الجنة (وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ) لما لم يكن هناك شمس ومعنى قوله تعالى (وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي
دائما لا ينقطع لكنه جعل الشمس عليه دليلا وذلك أحد ما تظهر به نعمه لأنه بالشمس وطلوعها يعرفون كيفية الظل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) كيف يصح وإنما خلق آدم من طين؟ وجوابنا أن ذلك الطين إذا كان بالماء حصل على تلك الصفة فجاز أن يقول ذلك ويحتمل أن يريد سائر أولاده لأنه من النطفة خلقهم فسمّاها ماء ثمّ ذكر تعالى ما يبعث المرء على التمسك به من الآداب والاحكام في صفة عباد الرحمن فقال تعالى (وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) فذكر من صفاتهم ثلاثة عشر خصلة إذا تأملها المرء وتمسك بها عظمت منزلته في الدين ولو لا خوف التطويل لشرحناها ثمّ قال تعالى آخرا (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ويُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وسَلاماً خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقاماً) فان قيل فقد ذكر تعالى في جملته (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) كيف يصح ذلك ومحال في السيئة الماضية أن تصير حسنة؟ وجوابنا أن المراد بالسيّئات عقابها وبالحسنات الثواب فقال تعالى فيهم أنهم إذا تابوا صار لهم بدلا من العقاب الثواب وفي قوله تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ) بعد ذلك الكفر والقتل والزنا دلالة على أن التوبة مقبولة في كل ذنب لا كما يظنّه قوم في انها لا تقبل في القتل.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) وهل المراد بذلك المؤمن أو الكافر؟ وجوابنا أنه تعالى قال ذلك عقيب وصف المؤمن فالمراد به لو لا دعاؤهم الذي هو التوحيد والعدل لم يعبأ تعالى بهم حتى يرقيهم في منزلة الثواب على ما وصف ويكون قوله تعالى (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) يرجع الى من خالف حاله حال
هؤلاء المؤمنين ويحتمل أن يكون المراد الكفار فإنه عز وجل لا يدخلهم في إنزال العقاب بهم لو لا دعاؤهم وعبادتهم لغير اللّه ومعنى قوله (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أي باللّه ورسوله (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً).
سورة الشعراء
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) كيف يصح هذا الجمع في الأعناق وإنما الصحيح أن يقال خاضعة؟
وجوابنا أن قوله أعناقهم يشتمل على ذكرهم وذكر أعناقهم فقوله (خاضِعِينَ) يرجع اليهم وقد كان صلّى اللّه عليه وسلم يغتم بأن لا يؤمنوا فبيّن تعالى أن ذلك موقوف على اختيارهم وأنه تعالى لو شاء لأنزل آية كانوا يخضعون لها فيؤمنون لا محالة قهرا لكن لا ينفع إذ المراد أن يؤمنوا على وجه يستحقون الثواب معه. وقد قيل إن المراد بالأعناق جملتهم كما يقال جاءنا عنق من الناس والأول أبين وبين بعده أنه وإن لم ينزل هذه الآية القاهرة فقد أنزل القرآن فقال تعالى (وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) فبيّن أنه معقول كما نقوله وأنهم مع قيام الحجة به يعرضون عنه فلا عليك يا محمد أن تغتم بكفرهم (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) وبيّن بقوله (أَ ولَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي عزيز ان ذلك من الادلة العظام التي لو نظروا فيها لعلموا أنّ ما هم عليه باطل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) وقد ناداه ربه (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) كيف يصح من ذلك أن يعتل بهذه العلة؟ وجوابنا أنه لم يرد الخوف على نفسه فإن الانبياء لا يجوز أن يبعثهم اللّه تعالى إلّا وقد وطّنوا أنفسهم على احتمال المكاره وإنما أراد أنه
يخاف منهم أن لا يقبلوا وسأل ربه المعونة التي تكون أقرب الى قبولهم فأعانه اللّه عز وجل بأخيه هارون وقال (فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) والاستماع وإن لم يجز على اللّه تعالى لأنه كالاصغاء فالمراد نفس السماع واللّه تعالى يوصف بذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كيف يصح أن يعتدّ لفرعون بمثل ذلك؟ وجوابنا أن ذلك بمنزلة إنكار كونه نعمة لا بمنزلة الاقرار لأن الذي فعله ببني إسرائيل يجري مجرى الظلم العظيم ويحتمل ان يكون المراد عبدت بني إسرائيل وخيبتني مع الذي كان منك من تربيتي وغير ذلك فيكون في الكلام حذف فعند ذلك قال له (وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ) فأجابه رب السموات والارض وما بينهما لأنه تعالى إنما يعرف بأفعاله التي تختص به ولا تجوز عليه المشاهدة فكان الذي أجابه به هو الجواب الحقيقي ولم يزل يكرر مثل ذلك حتى قال إنه لمجنون ثمّ قال (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وليس ذلك بطعن في أدلته واللّه تعالى مسخره لما علم من عاقبة أمر موسى صلّى اللّه عليه وسلم عند ظهور الآيات وما ينزل بهم آخرا من الهلاك وعلى هذا ما فصله تعالى في القصة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) كيف يصح ان يقول فانهم وإنما يقال في الأصنام فانها وكيف يصح ان يصفها بأنها عدو وهي جماد وكيف يصح أن يقول إلا رب العالمين فيستثني من الاصنام رب العالمين؟ وجوابنا أن إبراهيم صلّى اللّه عليه أجرى كلامه على طريقة اعتقادهم وكانوا يعتقدون في الاصنام أنها تنفع وتضر كالناس بل أزيد فلهذا جمعها هذا الجمع ووصفها بهذا الوصف وإلا فهو عالم بأن الأمر بخلاف ذلك
فنبأهم على أن كل ذلك يضرهم وانما ينتفعون بعبادة اللّه الذي خلق ويهدي ويطعم ويسقي الى سائر ما ذكره من نعمه. فان قيل كيف قال في جملة كلامه (وَ اغْفِرْ لِأَبِي) مع اصراره على الشرك؟ فجوابنا أنه دعا له على شرط التوبة والإنابة على ما تقدم قبل ذلك بيانه فإن قيل فكيف قال (وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) وذلك ممتنع في الانبياء. فجوابنا أن الداعي قد يدعو بما يعلم أنه لا يقع على وجه الانقطاع إلى اللّه والتمسك بالخضوع وبيّن أنه في الآخرة لا ينفع مال ولا بنون وإنما تنفع الاعمال الصالحة الخالصة مما يفسدها وهو معنى قوله (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) وبيّن ما يقال لعابد الصنم في الآخرة بقوله (وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) وما يقولون بقوله (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وبيّن بقوله تعالى (وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) بطلان قول من يقول إن اللّه يضلهم فالقرآن يكذب قولهم ثمّ ذكر تعالى بعد قصة موسى وهارون وقصة ابراهيم وقصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ما نزل بهم من الامور وأنزل اللّه تعالى بأممهم من العذاب وكل ذلك ليتأمل القارئ في كتاب اللّه تعالى فيعرف بذلك قدرته وحكمته ويكون ذلك داعية طاعته والانصراف عن معصيته. فان قال ففي جملة كلام موسى صلّى اللّه عليه وسلم (فَعَلْتُها إِذاً وأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) كيف يصح أن يصف نفسه مع نبوّته بهذا؟ وجوابنا أن المراد بالضالين الذّاهلون عن التمسك بالطاعة فيما أقدموا عليه لأن ذلك وإن لم يكن من الكبائر فهو من الصغائر. فان قيل ففي جملته (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) وقال في موضع آخر (كَأَنَّها جَانٌّ) وذلك كالمتناقض. وجوابنا أن المراد أنها كالثعبان في العظم وكالجان في سرعة حركتها من حيث خلقت من نار السموم. فان قال ففي القصة أن رسولكم الذي أرسل اليكم لمجنون فأقر بأنه رسول كيف يصح ذلك؟
وجوابنا انه أراد أنه كذلك في زعمه. فان قيل (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) كيف عرف فرعون ذلك؟ وجوابنا انه أراد بالقائه العداوة بينكم أنه ينحاز بعضكم الى بعض. فان قال فكيف قال (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) وهم في تلك الحال مؤمنون؟ وجوابنا الذين كانوا سحرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أ ليس ذلك يدل على أنه نفسه في زبر الانبياء والمعلوم خلاف ذلك؟ وجوابنا أن ذكره ووصفه في زبر الاوّلين بين ذلك أنه عربي وسائر كتب الانبياء بخلافه ومعنى قوله من بعد (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) يعني القرآن أي جعلناه بحيث يعلم ويقرأ فلم يقع منهم الانتفاع بذلك.
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله (وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) كيف يصح أن يصير ذلك سبب هلاكهم وهو بأن يكون سببا لنجاتهم أقرب؟ وجوابنا أن المراد ما أهلكنا أهل قرية إلا بعد ازاحة العلة بالمنذرين الذين هم الانبياء وبعد كفرهم بهم ونصبهم العداوة لهم فلذلك قال بعده (ذِكْرى وما كُنَّا ظالِمِينَ) وفي قوله من بعد (وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وما يَنْبَغِي لَهُمْ وما يَسْتَطِيعُونَ) دلالة على اعجاز القرآن لانه لو جاز أن يقدر العباد عليه لجاز مثل ذلك في الشياطين الذين لمخالطتهم بنا يعرفون هذه اللغات وأدّبه اللّه تعالى بقوله (وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بعد قوله تعالى (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقبل قوله تعالى (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) فلم يأمره من هذا القول في الكفار وأمره في المؤمنين بما ذكره ومن تأمل ذلك وتمسك بمثله في العدو والوليّ فله الحظ الكثير في استعمال الاخلاق الحسنة ثمّ قال تعالى (وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي
يَراكَ حِينَ تَقُومُ وتَقَلُّبَكَ) فان المرء اذا تصوّر فيما يأتيه أنه جل وعز يراه ويعلم كان أقرب الى أن لا يفعل الا ما يحسن منه والتوكل على اللّه هو أن يلتمس الخير ويبتعد عن الشر فيما عهد اللّه تعالى اليه ولا يفارق هذه الطريقة الى ما يكرهه وليس التوكل ما يدعيه قوم من أعمال الخير وترك التكسب والاشتغال بطلب ما يحتاج اليه من الناس فان ذلك محرم في اكثر الآيات.
سورة النمل
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) كيف يصح انه تعالى يكون مزينا لأعمال الكفار؟ وجوابنا ان المراد زيّنا لهم ما ينبغي أن يعملوه وما يجب عليهم السعي فيه وقد يقال لم يوجد مع ذلك أن عملهم على هذا الوجه ولذلك قال بعده (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) وذكر تعالى ذلك بعد قوله في القرآن (هُدىً وبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ثمّ قال عقيب ذلك إن من لم يؤمن قد زينا له ما يجب أن يأتيه لكنه يعمى عن ذلك وقد قيل زينا بمعنى موافقتها الشهوة والهوى للعلم بأنه تعالى يفعل الشهوة لكنه يصرف عنها والوجه الاول أولى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ومَنْ حَوْلَها) ما معنى هذه البركة وما المراد بمن حولها وهل يتصل ذلك بموسى صلّى اللّه عليه وسلم؟ وجوابنا أن البركة هي بمعنى الثبات والبقاء فبين تعالى ثبات تلك النار لموسى ومن حولها لأن موسى كان قد جاءها وصار هو وأصحابه حولها كما يتفق في العادة حال الناس مع النار وقيل أراد تعالى بقوله بورك من في النار موسى عليه الصلاة والسلام وأراد بمن حولها الملائكة عليهم
السلام لأنهم حضروها ويحتمل في هذه البركة أنها لمكان البقعة التي أصابتها النار ولذلك قال تعالى في سورة القصص (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) وقد قيل في من حولها أنهم لم يكونوا مؤمنين فأثبت اللّه تعالى البركة في النار لما جاءها موسى لما له من الفائدة في حضورها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) كيف يصح هذا الاستثناء من المرسلين ولا يجوز أن يكون فيهم ظالم خائف؟ وجوابنا انه قد قيل الا من ظلم بالاقدام على صغيرة ثمّ تلافاه بالتوبة فانه غفور رحيم وقد قيل ان المراد لكن من ظلم فانه يخاف الا ان يتوب فيكون كلاما مستأنفا في غير الرسل لئلا يتوهم ان الخوف لا يزول الا عن الرسل وقوله تعالى من بعد (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) لا تناقض فيه لانّ الحجة بعد البيان واليقين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وجُنُودُهُ وهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) كيف يصح من سليمان ان يسمع قول النمل وكيف صح من النمل هذا القول؟ وجوابنا أنها لما قربت من موضع مسيره صلّى اللّه عليه وسلم وأنطقها اللّه تعالى بذلك صح ان يعلم ومثل ذلك وان كان معجزا فانه يصح في ايام الانبياء صلوات اللّه عليهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) كيف يصح هذا القول من سليمان صلّى اللّه عليه وسلم في طير ليس
بمكلف حتى يعذبه وكيف يذكر ذلك في جملة الزجر وكيف يزيد ذلك بأن يأتيه بسلطان مبين وكيف يعرف الهدهد ذلك من مراده حتى يأتيه بخبر سبأ؟
وجوابنا ان اللّه تعالى كان سخّر له الطير وفي جملتها ما يكون أقرب الى الفهم ولو كان ممنوعا من النطق ويجوز في تلك الايام ان يكون تعالى قد زاد في علمها بالهام وأن يكون سليمان قد تقدم من قبل بأمور عرفها الطير او الهدهد خاصة فلذلك قال (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) فأما قوله تعالى عز وجل (لَأُعَذِّبَنَّهُ) فالمراد به التأديب فكما يؤدب المرء من قارب البلوغ فكذلك قال للهدهد فأما الذبح فقد يجوز أن يكون جائزا في شريعته كما ثبت في شريعتنا مثله فيما يؤكل فلا مطعن على ذلك بما ذكروه وقوله من بعد في صفة المرأة وأنها تملكهم وانهم يسجدون للشمس من دون اللّه فقد يصحّ وقوع مثله ممن لم يبلغ حد التكليف فلا يصح أن يعترض به على ما ذكرنا وقوله تعالى من بعد (قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) يصح في الهدهد وإن كان لا يعرف التوحيد اذا أجرى الكلام على الحد الذي ذكرنا فان مثله يصح من المراهق لانه يعرف الفصل بين من يظهر التوحيد ويعبد ربه بأفعال وبين من يسجد لغير اللّه تعالى وان لم يكن مكلفا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) كيف يصح نقل عرشها من ذلك الموضع البعيد في هذا القدر من الاوقات وان ذلك معلومة استحالته؟ وجوابنا أن سرعة الحركة والتحريك لا يعلم منتهى حده فلا سريع الا ويجوز أسرع منه فلا يمتنع صحة ذلك اذا كان اللّه تعالى مقويا له عليه ومعنى قبل ان يرتد اليك طرفك المبالغة في الاسراع لان ذلك قد يقال في الامر السريع الشديد السرعة ويحتمل أن طرفه لا يرتد الا بعد اوقات ويكون ذلك كالمعلوم من حاله لأن من نظر الى جهة ربما أطال النظر اليها ثمّ يرتد طرفه ومعنى قوله من بعد في قصة لوط صلّى اللّه عليه وسلم (أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ
وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) الفائدة فيه إعظام ما فعلوه لأنه اذا كان جهرة فهو أعظم من أن يكون خفية وربّ شيء يحسن خلوة ويقبح كونه بحيث يشاهد وما ذكره تعالى من بعد من قوله (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ) فيه تنبيه على عظم نعمة اللّه جل وعز لتدبر فيقام بحق شكره فذكر ما يقارب عشرين خصلة من النعم التي لا يقدر عليها غيره منبها على توحيده ثمّ قال في آخره (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) موبخا لهم على جحد ذلك ثمّ على قول الكفار (وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وآباؤُنا) فانه يقبح منهم هذا القول مع تقدم تلك الدلائل ومع قوله بعد ذلك (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) وقوله (وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ والْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) يدل على أن الحوادث كلها مكتوبة في اللوح المحفوظ ليستدل بذلك الملائكة على قدرة اللّه وعلمه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) كيف يصح أن يحسبها من يشاهدها جامدة ساكنة مع شدة الحركة وسرعتها؟ وجوابنا أن الجمود في العادة الاتصال ولا يكون إلّا مع السكون وعند سرعة الحركة لا يحتمل التفرق فقال تعالى (وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) وهي على حالها التي يظن أنها لا تكون الا مع السكون وقد قيل أنها تبلغ في سرعة الحركة ما لا يكاد يظن أنها متحركة خصوصا اذا كان المرء يتحرك مع حركتها فيكون كراكب السفينة فانه يظن مع سائر الركاب أنهم ساكنون وإن كانوا يتحركون أسرع حركة وقوله تعالى (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أحد ما يدل على ان الكفر والفساد ليس من فعله والا لكان يصح وصفه بانه محكم متقن وقوله تعالى من
بعد (وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) يدل على أن الاهتداء والضلال من فعل العبد وقوله تعالى من بعد (وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) لكي يتصور المرء نفسه فيما يأتي ويذر أنه يبصر ويسمع.
تنزيه القرآن (20)
سورة القصص
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ونَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أ ليس جعل اللّه تعالى لهم أئمة يدل على أنه خلقهم كذلك فاذا كانوا أئمة بأفعال فيجب ان تكون تلك الافعال خلقا للّه؟ وجوابنا أنهم إنما يكونون أئمة بالعقل والخوف والتمكن وبالألطاف من قبل اللّه تعالى وكل ذلك من خلقه وهو الذي أراد تعالى وكل ذلك من خلقه وهو الذي أراد تعالى وقيل ان المراد حكمنا بذلك كقوله تعالى (وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) فالمراد عند الجميع قضينا وحكمنا وبيّن ذلك قوله تعالى (وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) فأراد بذلك نحو ما ذكرنا لأن التركة لا تكون باختيار الوارث وكذلك قال (وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) واذا كان موسى صلّى اللّه عليه وسلم وقومه إنما تم لهم ما تم بما أنزل اللّه تعالى بفرعون وبما خصه به من المعجزات وكل ذلك من فعله صحّ أن يقول وجعلناهم أئمّة وليس المراد خلق فيهم صلاتهم وعبادتهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ولا تَخافِي ولا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) كيف يصح أن يوحى اليها وقد بيّن في غير آية أنه ما أرسل إلا رجالا وكيف يصح وهي لم تكن نبية فيوحى اليها بما لا يعلم إلا من قبله تعالى؟ وجوابنا أنه
يجوز ان يعرفها ذلك على لسان نبي الزمان فلا يلزم ما قلتم ويحتمل انه ألهمها ذلك فقوى في ظنها كل ذلك الى حصول العلم لها به وقد قيل أراها تعالى ذلك في المنام بعلامات مخصوصة فعلمت بها والأقرب ما قدمناه من أن رسولا كان في الزمان فعرّفها أو نزل جبريل فعرفها على ان ذلك من معجزات ذلك الرسول.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وحَزَناً) وكيف يصح ذلك مع قول امرأة فرعون (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي ولَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً)؟ وجوابنا ان المراد بقوله تعالى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وحَزَناً) العاقبة والمراد بقوله تعالى قرة عين ما دعاهم الى التقاطه وذلك لا تنافي فيه وقد ثبت أنّ هذه اللفظة قد يراد بها المآل وما يقصد إليه كقول القائل في المرضعة والوالدة أنها تربّي ولدها لكي تنتفع به ويبقى لها وقد يقال مرضعة للموت إذا كان هذا هو العاقبة وعلى هذا الوجه قال الشاعر:
وأم سماك فلا تجزعي ... فللموت ما علت الوالدة
فاما قوله تعالى من بعد (وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) فالمراد فراغ قلبها من سائر أمور الدنيا سوى أمر ولدها فلذلك قال تعالى (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي تصدق بما أوحينا اليها وقوله تعالى (وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) المراد به الصرف والمنع لا التحريم في الحقيقة وذلك كقوله تعالى في أهل النار (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) فليس لأحد ان يطعن بذلك وكقوله (وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) وقوله تعالى (وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) يدل على أن ذلك الوحي كان مقطوعا به على ما ذكرناه.
[مسألة]
ومتى قيل في قوله تعالى (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وهذا مِنْ)
(عَدُوِّهِ) كيف يصح ذلك وإنما يقال هذا من أعدائه فيستقيم الكلام؟ فجوابنا ان المراد ما ذكرته والعدو قد يقع على الجمع وعلى الواحد على طريقة العرب في المصادر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) كيف يصح من النبي أن يقع منه قتل من لا يحل دمه؟ وجوابنا ان وكزه كان على وجه الدفع لمّا أراد مخاصمته ولم يظن انه يؤدي الى قتله وذلك كالمرء يؤدب ولده استصلاحا له فيؤديه الى الموت وهذا من الصغائر التي نجوزها على الانبياء ولذلك قال (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) وذلك يدل على أن أفعال العباد ليست من خلق اللّه تعالى وإلا كان الأشبه به أن يقول هذا من عمل الرحمن ولذلك قال بعده (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وقوله تعالى (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أحد ما يدل ايضا على ما قلناه لأن فعل المجرمين إن خلق جرمهم فلا فائدة في أن يكون ظهيرا وإن لم يخلق هو أيضا فلا فائدة في ذلك وقوله تعالى (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) يحتمل أنه ظهر منه ما يوجب أن لا يعينه ويحتمل أنه خاف إن أعانه على نفسه منهم فلا مطعن في ذلك وقوله من بعد (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) يدل على التأويل الثاني وانه خاف من ذلك فلهذا امتنع من نصرته وقوله تعالى (وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) أحد ما يدل على وجوب العمل بالخبر فيما يجري مجرى الخوف ولذلك خرج خائفا الى مدين وسأل اللّه تعالى أن ينجيه من القوم الظالمين ولو كان ظلمهم من خلق اللّه لكان ينجيه من نفسه تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا وقوله تعالى من بعد (فَسَقى لَهُما ثُمَ
تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) مع شدة حاجته عجيب في اقتصاره على هذا القدر حتى دعاه شعيب وأمّنه وكفاه وأنكحه ابنته وقضى له موسى بعد ذلك أحسن الأجلين. فالمروي عن المفسرين أنه قضى الاجل الأكمل وقوله بعد (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أحد ما يدل على حدوث كلام اللّه تعالى وإلا كان يجب أن يكون أبدا قائلا لموسى هذا القول.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) كيف يصح على فرعون أن يظن هذا الظن مع كمال عقله ومعرفته بأن القصور وإن بنيت أطول منها فلا يصح فيها ذلك وكيف يصح ان يقول هذا القول مع قوله تعالى في سورة بني اسرائيل (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ والْأَرْضِ) فان كان عالما بذلك فكيف يصح ان يظن الاطلاع إلى إله موسى؟
وجوابنا ان فرعون لما ادعى الالهية وصدقه قومه لجهلهم كان يظهر القدرة ويدعيها وإن كان في الباطن يعلم خلاف ذلك وعلى هذا الوجه قال ما علمت لكم من إله غيري مع علمه باحتياجه الى الاكل والشرب ودفع المضار وعلى هذا الوجه أيضا قال لهامان وذلك لا يمنع من ان يكون في الحقيقة عالما باللّه تعالى على ما يدل عليه قوله (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) فليس بين الآيتين اختلاف.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ) أ ليس يدل على شك منه في النبوة؟ وجوابنا انه تعالى قال ذلك على وجه الحجاج ولذلك قال بعده (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) فأما قوله تعالى بعد ذلك (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) فالمراد لا تثيبه وليس المراد لا تدله ولا تبين وكيف يصح ذلك وقد قال جل وعز (وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أو يقال أنه ظهر منه صلّى اللّه عليه وسلم شدة المحبة لإيمان ابي طالب عمه وأن يكون من أهل الجنة فأنزل اللّه تعالى ذلك منبها به على أن الجنة لا تنال إلا بالعمل الصالح ولذلك قال (وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) كيف يصح أن يصف نفسه بأنه يختار ما اختاروه أو يختار ما لم يختاروه وأي فائدة في ذلك؟ وجوابنا أن المراد ما كان لهم الخيرة في ترك عبادة اللّه واتخاذ الاصنام آلهة ولذلك قال بعده (سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) فبين أنه الخالق لما يشاء وأنه يختار لهم التوبة لان هذه الآية عقيب قوله (فَأَمَّا مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) فبين أنه تعالى يختار للمكلفين ما هو أصلح وأنه ليس لهم الخيرة فيما يختارونه بارادتهم وشهوتهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) كيف يصح أن يبلغ في الغنى هذا الحد ومثل ذلك متعذر في العادة؟ وجوابنا أن العصبة قد يقل عددها ويكثر فلا يمتنع أن يكون اللّه تعالى قد آتاه من الاموال ما فرقه في الظروف الكثيرة وبلغت مفاتيح غلقها ما ذكره اللّه تعالى ولسنا نعلم أن الغلق في ذلك الزمان كيف كان فانه قد يعظم فتعظم لذلك مفاتيحه وقد يصغر ومعلوم أن كثيرا من الملوك يجتمع في خزانته مثل ذلك وأكثر فلا حاجة لاستبعاد ذلك وقوله تعالى (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) لا بد من حذف في الكلام وهو لا تفرح بما حصل فرح من يظن أنه يدوم ويبقى وقوله (وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ
اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) يدل على ما قلناه فكأنهم أشاروا عليه بأن ينفقه في سبيل اللّه وينصرف عن الجمع الكثير وقوله (وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) المراد به التمتع بالقدر الذي يخرج في العرف وقد قيل أن المراد أن يأتي في الدنيا ما يفوز لأجله بالآخرة إذ الدنيا إنما تراد لمثل ذلك إذا وسّع اللّه على المرء ولذلك قال تعالى آخرا (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وعَمِلَ صالِحاً) حاكيا عن أولي العلم منهم ونبه تعالى بقوله (فَخَسَفْنا بِهِ وبِدارِهِ الْأَرْضَ) على أن الاعتداء بالدنيا وان كثرت من أعظم الخطأ وأن الواجب تفريق ذلك في مصالح الدين والدنيا وقال تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ ولا فَساداً والْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) فان من يكون بغيته جمع الاموال وعمارة الدنيا ويلهو عن الآخرة فمراده العلو في الارض والفساد فان أضاف الى ذلك التسلط على الناس لما فضله اللّه به فهو أعظم ولمن يعنى بذلك ارادة العلو في باب الدين فان بلغ الانبياء هذه الرتبة العالية فيجوز أن يريدوا انقياد الناس لهم ودخولهم تحت طوعهم وقوله عز وجل (وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أحد ما يدل على أنه لا يزيد في العقاب البتة وان كان يزيد على الثواب التفضل الكثير وقوله تعالى من بعد (وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فالمراد به أنه يفني جميع الاشياء ثمّ يعيد ما يجب إعادته وقوله إلا وجهه المراد به إلا هو فليس للمشبهة تعلق بذلك ويلزمهم أن أثبتوا للّه وجها ويدا أن يقولوا إن سائره يفنى ويبقى وجهه وليس ذلك مما يعتقده مسلم وعلى هذا السبيل يقال هذا وجه الامر وهذا وجه الصواب فقد يذكر الوجه ويراد نفس الشيء فعلى هذا الوجه نتأول الآية.
سورة العنكبوت
[مسألة]
قد بيّن تعالى في هذه السورة ما إذا وطّن المكلف نفسه عليه كان باعثا له على العبادة وصارفا له عن المعاصي فقال تعالى (أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ) فبيّن أن المؤمن لا يخلو من فتن ومحن وشدائد وأن الواجب أن يعتبر بذلك ويصبر وصبره على ذلك يدعوه الى الصبر على العبادة وعن المعاصي ثمّ بيّن أن هذه عادة اللّه تعالى فيمن تقدم أيضا فقال جل وعز (وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) وذكر العلم وأراد المعلوم لأنه تعالى عالم لم يزل ولا يزال ولا يعلم الشيء عند كونه فقط ومثل ذلك يجري مجرى الوعيد كقول القائل لغيره أنا عالم بتقصيرك إذا قصرت وبوفائك اذا وفيت ثمّ بيّن من بعد بقوله (وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أن من تمسك بعبادته فإلى نفسه أحسن وأنه تعالى ما أراد بتكليفه إلّا أن يعرضه للمنزلة العالية (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وبيّن أنه وصّى المرء ببرّ الوالدين إيجابا لحقهما وأنه يجب أن لا يمتنع من برهما وإن دعواه إلى الشرك لكنه لا يطيعهما في باب الدين ويصاحبهما بالمعروف.
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله (وَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) وأيّ فائدة في هذا الادخال
وقد آمنوا وعملوا الصالحات ولم صاروا هم بأن يدخلوا في الصالحين أولى من أن يدخل الصالحين في جملتهم؟ وجوابنا أنه تعالى قد بين ما للصالحين من المنزلة في الآخرة وما يفعله بهم من معونة ونصرة في الدنيا ثمّ بين أن كل من آمن وعمل صالحا فهو داخل في هذا الوعيد باعثا لهم على التمسك بالايمان وبيّن من بعد أن المعتبر بالاخلاص لا بالقول فقال تعالى (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ) وبين أن النفاق يمنع من دخول المنافق وإن أظهر الايمان فيما وعد به الصالحين فقال تعالى (وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ولَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ).
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله تعالى (وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ولْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ). فجوابنا أن اللّه تعالى أنكر ذلك عليهم بقوله (وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) وانما قالوا ذلك إيهاما للمؤمنين بأنهم ينصرونهم في الدنيا وينفعونهم لا بأنهم يحملون خطاياهم في الحقيقة ثمّ بيّن تعالى أن الامر بالضد من ذلك وأن هؤلاء الكفار يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم لأنهم إذا دعوا غيرهم إلى الكفر والمعاصي كانت هذه منزلتهم.
[مسألة]
ومتى قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) كيف يصح ان يعيش المرء هذا القدر وهذا بخلاف العادة؟ فجوابنا أن من ينكر ذلك فمراده دعاء إلى التعطيل والإلحاد واللّه تعالى قادر على ذلك وعلى هذا الوجه بيّن أمر الجنة وأنه يبقيهم ومن تأول ذلك على أن المراد أن دعوته الى الشريعة بقيت هذه المدة فقد أخطأ وكان صلّى اللّه عليه وسلم يدعو حالا بعد حال ويصبر عليهم كما ذكره اللّه تعالى في نبوّة نوح ثمّ دعا عليهم آخرا بقوله (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) لما علم بأنهم لا يؤمنون وأنزل اللّه تعالى بهم من بعد العذاب وقوله عز وجل (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وهُمْ)
(ظالِمُونَ فَأَنْجَيْناهُ وأَصْحابَ السَّفِينَةِ) يدل على أنه بقي هذه المدة وانه بقي بعدها أيضا ولذلك قال (وَ جَعَلْناها) يعني السفينة (آيَةً لِلْعالَمِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما فائدة قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)؟ والمعلوم أن ذلك خير لهم على كل حال. وجوابنا أن ذلك يقال على وجه التهديد لا لأن علمهم يدخل ذلك في أن يكون خيرا ثمّ بين لهم ان الذين يعبدونهم لا يملكون لهم رزقا ولا نفعا وأن الواجب عبادة من يبتغى من جهته الرزق ومن اليه المرجع في الاثابة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) كيف يصح وقوع الكفر في الآخرة؟ وجوابنا أن المراد بهذا الكفر الجحد والانكار فان المودة بين المبطلين تكون في الدنيا دون الآخرة كما قال تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) كيف خفي على ابراهيم انهم لم يريدوا بالاهلاك لوطا ومن آمن معه حتى قال ما قال فأجابوه بما أجابوا؟ وجوابنا أنه يجوز في الدنيا أن يلحق العذاب بالعصاة ويكون فيهم غيرهم فيكون ذلك محنة فلما كان ذلك مجوزا جاز أن يقول إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلم ما قال ولا يمنع أن يكون في ظنه ان القوم لا يعرفون أن لوطا فيها فعرّفهم ذلك وقوله تعالى من بعد (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) لذكر ما أنزله بأمم الانبياء من العذاب وقوله بعد ذلك (وَ ما كانَ اللَّهُ)
(لِيَظْلِمَهُمْ ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يدل على ان هذه الافعال أفعال العباد ليصح أن يؤاخذوا بها وان ينسب الظلم الى أنفسهم كما نقوله في هذا الباب وقوله من بعد (خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أ يدل على ما نقوله من أنه لا يفعل إلا الحكمة والصواب وفي قوله بعد (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ) ربما يقال إنا نرى من يصلي ولا ينتهي عن ذلك فكيف يصح هذا الظاهر؟ وجوابنا عنه ان الذي تنهى الصلاة عنه هو الذي لا يقع والمصلي وان فعل منهما الكثير فمعلوم من حاله انه غير فاعل لشيء من ذلك في بعض الاوقات فبيّن اللّه تعالى أنه أوجبها لأن عندها ما هو ازيد منه ومعلوم أيضا أنه غير فاعل المصلى لا يختار الفحشاء والمنكر وإلا فالصلاة محال أن تنهى فالمراد ما ذكرناه وهذا أحد ما يعتمد عليه في أنه تعالى لا يعبد بهذه الشرائع إلا لهذا الوجه وقوله من بعد (وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ربما قيل فيه ان ظاهره يقتضي فيمن ظلم منهم أنه يجادل بما ليس أحسن وذلك لا يصح؟ وجوابنا أن من ظلم منهم نفسه وتمرد لا يكون ما يلزمنا أن نرد به عليه مثل الذي نخاطب به غيره وإن كان الجميع حسنا أنّا نفعل مع بعضهم ما غيره أحسن منه وان كان كل ذلك من باب الحسن وقوله تعالى (وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) يدل على ما نقوله من أنه تعالى ينزه الانبياء عن كل أمر ينفر عنهم وقوله تعالى من بعد (وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ربما يتعلق به الخوارج في أن كل فسق كفر وربما يتعلق به من يقول إنه مع الايمان لا يضر شيء. وجوابنا أن ذلك لا يمنع من أن يحيط بغيرهم فلا يدل على ما قالوه وفي قوله تعالى (وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) دلالة على انهم يعاقبون ويعرفون أن ذلك العقاب عدل من حيث عملوا وأذنبوا ولو كان ذلك من خلق اللّه تعالى فيهم لما صح ذلك وقوله تعالى من بعد (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)
ربما يقال ما الفائدة في ذلك وهو معلوم للمخاطب؟ وجوابنا أن المراد فاياي فاعبدون ولا يصدنكم عن العبادة عدم الاستقرار في مكان واحد بل يجب أن المرء يكون الوفاء بعبادة اللّه تعالى ولو مع التحول ان تحول فأرض اللّه واسعة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) كيف يصح ذلك في وصف الدار التي هي جماد؟ وجوابنا انه تعالى بيّن بهذا المجاز ما لا يفهم بالحقيقة إذ المراد أن هذه الدار من حق الحياة فيها أن تدوم ولا تنقطع ومن حقها أن يدوم نعيمها بلا بؤس وأن يتصل ولا مشقة.
سورة الروم
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) كيف يصح أن يفرحوا بغلبة بعض الكفار لبعض؟ وجوابنا أنه تعالى لما بشر المؤمنين بأنهم سيغلبونهم ذكر ذلك فلو لم يكن إلا ما يظهر من صدق هذا الوعد لكفى فكيف وقد ينصر المؤمن مما يجري من الذل على الكفار من قبل الكفار أيضا ولذلك قال تعالى بعده (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ) وبيّن ان الاكثر من الناس لا يعلم الا ظاهر الحياة الدنيا دون ما يتعلق بالدين بقوله تعالى (وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ومتى قيل في قوله تعالى (وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) لما ذا كرر وما الفائدة فيه وهل يحمل على التأكيد أو فيه مزيد فائدة. فجوابنا «*»
__________________________________________________
(*) جواب هذا السؤال لم نجده في شيء من نسخ الكتاب وانما وجدنا مكان الجواب بياضا هكذا وقد ذكر الزجاج في تفسيره فقال هم الاول مرفوعة بالابتداء وهم الثانية ابتداء ثاني وغافلون خبرهم الثانية والجملة الثانية خبر الاول والفائدة في الكلام ان ذكرهم الثانية وان كانت ابتداء يجري مجرى التوكيد كما تقول زيد هو عالم وهو اوكد من قولك زيد عالم ويصلح ان تكون الثانية بدلا من هم الاولى مؤكدة أيضا كما تقول رأيته اياه ورأيت زيدا نفسه ولعل قاضي القضاة لم ير منه جوابا شافيا وأراد اشفاء منه فتوقف فيه ولا يمتنع أن يكون قد أجاب عنه في نسخة أصله وان لا يكون قد وقع البيان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ) كيف يصح أن يسمى ما يفعله بهم تعالى سوءا وذلك لا يكون إلا قبيحا؟ وجوابنا أنه أجرى هذا اللفظ على ما هو جزاء عليه كقوله (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وذكره كثير في اللغة والا فما يفعله تعالى لا يكون الا عدلا وحكمة وذلك لا يوصف بهذا الوصف ولذلك لا يحسن وصف اللّه تعالى بأنه مسيء.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) ثمّ قال (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا) فبين أنهم عند قيام الساعة يتفرقون الى هذين القسمين كافر ومؤمن فقولك أن الفاسق له منزلة بينهما يبطل. وجوابنا أنه تعالى قال يتفرقون ثمّ ابتدأ بقوله تعالى فأما الذين آمنوا وأما الذين كفروا فذكرهما ولم ينف ثالثا لهما وقد ثبت حكم ذلك الثالث بسائر الآيات.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والْأَرْضِ واخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أ ليس يدل ذلك على ان كلامهم من خلق اللّه تعالى؟ وجوابنا أن اختلاف خلقة الالسنة من قبله تعالى ولأجل هذا الاختلاف يدرك كلامهم مختلفا فمن كان في لسانه رقة لا يكون كلامه بمنزلة كلام من في لسانه غلظ وكذلك اختلاف منافذ الرياح والنفس فبيّن تعالى ان في ذلك آية وعبرة وهذا الجواب اولى من قول من يقول ان المراد به اختلاف اللغات وانها من باب التوقيف وتضاف الى اللّه تعالى لأن الوجه الذي به يقع الاعتبار في اختلاف الألسنة هو في كيفية ادراكنا لان الكلام في اللغات هل هي توقيف او اصطلاح فيه الخلاف الكثير ومعنى قوله تعالى من بعد (وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ والْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أنهما تقومان بفعله وارادته وذكر الامر على وجه التفخيم لشأنه كأن هناك أمرا هو قول وهذا
كقوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله تعالى من بعد (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) يجري هذا المجرى لانه تعالى لا يدعوهم في الحقيقة لكنه يجيبهم ويكمل عقولهم ويمكنهم فيخرجون ويرجعون الى اللّه تعالى بمعنى الى حيث لا حاكم سواه وقوله تعالى من بعد (وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ربما قالوا فيه ان ذلك يدل على جواز الضعف عليه. وجوابنا انه بمعنى هيّن كما اذا قلنا في اللّه انه أكبر وأعظم فالمراد به كبير عظيم وكما قال الشاعر:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
والمعنى أنه عزيز طويل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) كيف يصح ظهور الفساد لاجل كسبهم؟ وجوابنا أنهم اذا أفسدوا في الارض وظلموا ومنعوا الحقوق يظهر بذلك الفساد في الموضعين واذا قلت النعم من جهة اللّه تعالى لاجل ذلك كان ردعا لهم عن أمثال ما فعلوا وبذلك قال تعالى (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ولا يمتنع أن يكون الصلاح عند كسبهم أن يقع من اللّه تعالى التضييق في المعيشة على وجه الاعتبار كما فعله تعالى بأمم الأنبياء من إنزال العقاب بهم ولذلك قال تعالى بعده (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) فبيّن ما نالهم لاجل شركهم وقوله من بعد (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) هو خطاب للكل وإن كان لفظه خاصا والمراد بالوجه نفس الانسان فكأنه قال فأقم نفسك للدين القيم حتى لا تحول عنه ولا تزول فلا تأمن في كل وقت من الاخترام فاذا ثبت على الاستقامة كنت من الفائزين تنزيه القرآن (21)
ولذلك قال تعالى بعده (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) وقوله تعالى من بعد (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) يدل على أنه من فعله والا كانت اضافته الى خالقه أولى وقوله تعالى (وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) يوجب أن ذلك من فعلهم أيضا وقوله تعالى من بعد (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) يدل أيضا على ذلك لان المجازاة من اللّه تعالى على نفس ما خلق لا تصح وقوله تعالى من بعد (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) يدل أيضا على ذلك لأن الكفر إن كان من خلقه فقد أراده وأحبه وإذا أراده فقد أحب الكافر إذ محبة الكافر هو محبة كفره وقوله تعالى من بعد (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) يدل على ان الجرم من قبلهم وقوله تعالى من بعد (وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) يدل على ان ايمانهم من قبلهم إذ لو كان خلقا من اللّه لكان ناصرا لنفسه وذلك محال وقوله تعالى من بعد (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) هو على وجه المبالغة لتركهم القبول والتفكر وكذلك قوله (وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) ولذلك قال تعالى بعده (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) ولو أراد حقيقة الصم لكان حالهم في الاقبال كحالهم في الادبار ولذلك قال تعالى بعده (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) فأما قوله عز وجل (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) والضعف عرض لا يصح أن يخلق الجسم منه فالمراد المبالغة في ضعفه وهو على ما هو عليه وبيّن ان آخر أمره أن لا ينتظر له قوة بعد ضعف وبقوله تعالى (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وشَيْبَةً) وكل ذلك تحريك لهم على التدارك الى التوبة خصوصا وقد أدرك حال الشيبة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) كيف يصح أن يخبروا بذلك ويقسموا عليه وهو كذب وعندكم أنهم في الآخرة هم ملجئون
الى أن يفعلوا القبيح؟ وجوابنا أن المراد بذلك إخبارهم عن أنهم ما لبثوا غير ساعة عند أنفسهم لأنّ ما بين الموت والاعادة وان طالت مدته فهو كالقصير من الاوقات في أن المعاد لا يتبين له ذلك وقوله تعالى (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) يدل على ما نقول لأنه أن كان ظلمهم من خلق اللّه فهم مستغنون عن المعذرة.
سورة لقمان
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) كيف يصح مع ثقلها وعظمها أن تقف لا على عمد؟ وجوابنا أنه تعالى اذ اسكنها حالا بعد حال وقفت وان كانت ثقيلة كما أن أحدنا يمسك يده وقد بسطها فمن حيث يفعل فيها السكون حالا بعد حال تثبت ولذلك متى لم يسكنها سقطت لانّ أحدنا يغفل ويلهو واللّه سبحانه يتعالى عن ذلك واختلف المفسرون في ذلك فقال بعضهم الفائدة فيه نفي نفس العمد أصلا على ما ذكرنا وقال بعضهم الفائدة فيه انا لا نرى العمد والاول هو أقوى وهو داخل في الاعجوبة وقوله تعالى من قبل (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يدل على أن المضل هو الانسان وأنه مذموم ويدل على أن كل قول قيل بلا علم في الاديان فهو مذموم وقوله تعالى المتصلة من بعد (وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) يدل على أن العشرة بأحوال الدنيا قد تحسن مع المباينة في الدين ثمّ بين أن من أناب الى اللّه يجب أن يتبع فقال (وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ) الى قوله تعالى من بعد حاكيا عن لقمان (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) القصد فيه أن يتأمله المرء فيعمل به فان هذه الوصية جامعة للانقطاع الى اللّه تعالى بعد المعرفة بعلمه وقدرته لان قوله تعالى (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) يؤذن بأن ما أقدم المرء عليه دق أم جل فهو معلوم للّه وتكون المجازاة بحسبه وذلك ردع عظيم وهي جامعة القيام بالعبادات وهو بقوله (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ واصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) وهي أيضا جامعة للآداب وما ينبغي أن يتمسك به المرء من الاخلاق والتواضع وهو بقوله (وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ولا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) الى آخر الكلام وقوله من بعد (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يدل على أن التمسك بالمذاهب إنما يحسن اذا كان عن علم وقوله (وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ ولَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) مما لا مزيد عليه في بطلان التقليد لأنه تعالى بيّن أنهم اذا جاز أن يتركوا الدليل اتباعا لآبائهم من دون دلالة فقد جاز أن يرجعوا إلى اتباع الشيطان فيما يدعوهم اليه لأن ما في كلا الموضعين هو اعتماد على القول من دون دلالة وهذا هو الذي نعتمد عليه في بطلان التقليد ونقول إنه إذا جاز تقليد الآباء في الاسلام فيجوز تقليد أولاد النصارى لآبائهم لأن كل ذلك اعتماد على قبول القول من غير دلالة وقوله تعالى (وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ والْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ) يدل على أن كلام اللّه مقدور له يحدث حالا بعد حال لا كما قاله قوم من أنه متكلم بذات أو بكلام قديم لا يصح فيه زيادة ولا نقصان.
[مسألة]
وربما تعلقوا بقوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) وقالوا يدل ذلك على أن جريه من فعل اللّه تعالى ليكون مضافا الى اللّه تعالى ولو لا ذلك لوجب أن يكون مضافا الى الملاح ولما صح أن يكون آية وقد قال تعالى (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) وجوابنا أن وجه الاعتبار في ذلك خلقه تعالى للماء في البحر على الصفة التي معها تجري السفن
وخلقه الرياح على هذا الوجه ولو لا ذلك لما صح جريها بفعل العباد وفي ذلك آيات اللّه تعالى ونعمه لأنه لو لا ذلك لما صحّ التوصل الى قطع البلاد وجلب النعم وقوله تعالى (وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) يدل على أن الجحد لا يكون من خلق اللّه تعالى إذ لو كان من خلقه لما صح أن يذمه هذا الذم العظيم وقوله تعالى من بعد (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أي عقاب ربكم بالتحرز من المعاصي وقوله تعالى (وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ولا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) من أقوى دلالة ما يدل على أن وعده ووعيده لا يجوز أن يقع فيهما خلف ومن أقوى ما زجر اللّه به عباده عن المعاصي فإذا تدبر المرء عند قراءته ما ذكرنا عظم انتفاعه بذلك؛ ولذلك قال بعده (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) يعني بذلك متاعها (وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) زجر بذلك عن قبول كل قول يغر المرء ويصرفه عن التمسك بطاعة اللّه ثمّ بين تعالى ما يختص به عز وجل من العلم ولم يطلع العباد عليه بالادلة وان جاز أن يطلع أنبيائه على بعضه ليكون معزا لهم فقال جل من قائل (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنَزِّلُ الْغَيْثَ ويَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) وفي ذلك دلالة على بطلان قول من يحكم أن أحكام المنجمين صحيحة فيما جرى هذا المجرى.
سورة السجدة
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ) أ ليس ذلك صريحا في أنه تعالى في السماء؟ وجوابنا أنه جعل جل وعز السماء مكانا للملائكة وللأرزاق التي بها يحيي الناس ولذلك قال تعالى (وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وما تُوعَدُونَ) فلاجل ذلك قال (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) ومعنى قوله (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أي الى المكان الذي لا حكم فيه الا حكمه لانّ الملائكة طوع اللّه ولا يفعلون إلا بأمره.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ). وجوابنا أن المراد بهذه الآية نزول الملائكة بالوحي وغيره من السماء الى الارض ورجوعها الى مكانها فلا يكون ألف سنة بل بين السماء والارض مسير خمسمائة عام وأما الآية الثانية فالمراد بها يوم القيامة ويدل عليه قوله تعالى (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ونَراهُ قَرِيباً) فبين أنه يطول ذلك الزمن على الكفار لشدته فيساوي لاجل تلك الشدائد خمسين ألف سنة وقوله من بعد (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) يبين أنه لا قبيح في قوله ولا أسمائه فان قيل ففي جملة ما خلق ما يقبح في الصورة.
فجوابنا أن المراد نفي ما يقبح في العقل من فعله لا ما يستقبح في الصورة بين ذلك ان هيئة الانسان في صلاته وقضاء حاجته والنهي عن المنكر قد يستقبح في المنظر وتوصف مع ذلك بأنها حسنة وحكمة وقوله تعالى (أَ إِذا ضَلَلْنا فِي)
(الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) يدل على بطلان تعلقهم في باب الرؤية بذكر اللقاء لانّ اللّه عز وجل بين أنهم كافرون بلقاء ربهم وأراد كفرهم بالاعادة وبالثواب والعقاب وقوله عز وجل من بعد (وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) المراد به يقولون ربنا وحذف مثل ذلك يحسن في الكلام اذا كان فيه ما يدل عليه ولا يجوز أن يتمنوا ذلك ويسألوه الا والعقاب من جهتهم يقع وباختيارهم يكون وقوله تعالى (وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) فالمراد به على وجه الالجاء الذي وقع لم ينتفعوا به لانهم انما ينتفعون بما يفعلونه طوعا ليستحقوا به الثواب ولذلك قال تعالى (وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وقوله (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) يدل على أن اللقاء ليس بمعنى الرؤية وأراد تركتم النظر والعلم بالاعادة وقوله تعالى (إِنَّا نَسِيناكُمْ) والنسيان على اللّه تعالى لا يجوز والمراد به عاقبناكم على ترككم على مثال قوله تعالى (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وقوله تعالى (أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) يدل على أن الفاسق ليس بمؤمن لانه تعالى ميز بينهما فجعل للمؤمنين جنات المأوى وللفاسقين النار.
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله تعالى (وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). وجوابنا أن المراد ما عجله من الآلام لكي يصلحوا فسماه عذابا مجازا ويجوز أن يريد بذلك عذاب القبر أو الحدود التي تقام على بعضهم فمن يعلم ذلك يكون أقرب الى أن يرجع عن معاصيه وقوله تعالى (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أحد ما يدل على أن العبد مختار لفعله والا فالاعراض ممن لا يقدر على الشيء وتركه محال لأنه لا يقال في أحدنا أنه أعرض عما يعجز عنه
وقوله تعالى من بعد (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) والمراد به العقاب يدل على أن كل مجرم وان كان من أهل الصلاة فاللّه تعالى ينتقم منه إلّا أن يكون تائبا أو جرمه صغيرا وقوله تعالى من بعد (وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) المراد به جعلناهم أنبياء وعلماء يقتدى بهم لأجل صبرهم فدل بذلك على أن الانبياء لو لا صبرهم عن معاصي اللّه لما جعلوا أنبياء فيبطل بذلك قول من يجوز عليهم الكفر والكبائر قبل البعثة وقوله تعالى من بعد (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يحمل على أنه تعالى يفصل بينهم بالعلم فينقاد المبطل ويعرف المحق حاله في ذلك فان كان الفصل يقتضي نقل الاعراض فسيفعله تعالى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) وكيف يصح والقوم يكذبون بذلك كما قال تعالى بعده (وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ومن لا يؤمن بيوم القيامة كيف ينتظر ذلك؟ وجوابنا أن موتهم لما كان مقدمة الاعادة جاز أن يقول ذلك ويحتمل أنهم على غير يقين مما قالوا فهم على شك وتجويز فحكمهم حكم المنتظر.
سورة الاحزاب
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ما معنى ذلك فان كان تعريفا لنا فهو معلوم؟ وجوابنا ما جعل لأحد ما يتسع به في النظر في الامور وفي الامور وفي الاجتهاد وفي الرأي حتى لا يشغله بعض ذلك عن بعض بين ذلك ان المراد مقصور على ما جرت به العادة على النظر في الدين والدنيا وقد قيل انه كان في الصحابة من يلقب بذلك ويعتقد فيه الاتساع في الرأي والمعرفة فانزل اللّه تعالى ذلك لان المنافقين زعموا أنه له قلبين.
[مسألة]
ومتى قيل ما المراد بقوله (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) كيف يصح أن يكون أولى بهم من أنفسهم وكيف يصح في أزواجه أن يكنّ أمهاتهم؟ وجوابنا أنه أولى بهم فيما يقتضي الانقياد في الشرع وأولى بهم فيما يتصل بالاشقاق أو المراد أنه أولى بهم من بعضهم لبعض كقوله تعالى فسلموا على أنفسكم واما أن أزواجه صلّى اللّه عليه وسلم أمهات المؤمنين فالمراد تأكيد تحريمهن على المؤمنين وتبرئة رسول اللّه عن ان يخلفه في أزواجه غيره ولذلك روي عن عائشة في امرأة قالت انك أمي انها أنكرت ذلك وقالت انما أنا أم رجالكم لأن التزويج في الرجال يصح فأكد ذلك بأن شبههن بالامهات وربما حذف في التشبيه اللفظ ليكون على وجه التحقيق كما يقال للرجل
البليد هو حمار ولمن لا يصغي ولا يفهم انه ميت قال تعالى (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى).
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله (وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) وقوله (وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) ما هذا الميثاق المأخوذ من أمم الانبياء؟ وجوابنا انه تعالى لما أعلمهم بوجوب طاعته وطاعة الرسول ودلهم على ذلك ببعثة الرسل وغيرهم وألزمهم القيام بذلك كان ذلك أوكد من المواثيق بالايمان المغلظة وأعظم في وجوب الحجة عليهم في الآخرة ولذلك قال تعالى بعده (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) كيف يجوز أن يزيد في عقابهن وذلك ظلم يتعالى اللّه عنه؟ وجوابنا ان مكان اتصالهن برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وعظم نعمة اللّه عليهن بذلك وبغيره يوجب ان ما يقع منهن من المعصية يكون أعظم عقابا لان المعصية تعظم بعظم نعمة المعصي كما ان معصية الولد لوالده وله عليه الحقوق العظيمة أعظم فبيّن اللّه تعالى ان عقاب معصيتهن لو وقعت منهن يكون أعظم لان ذلك عين المستحق فان قيل فقد قال تعالى (وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) فانه كان عظم المعصية لعظم النعمة فيجب في الطاعة ان يكون موقعها منهن أخف لان عظم النعمة كما يعظم المعصية يخفف أمر الطاعة. وجوابنا عن ذلك ان الطاعة للّه تعالى تعظم لوجه آخر وهو ان الناس يقتدون بهن لعظم منزلتهن في القلوب كما قال صلّى اللّه عليه وسلم مثل ذلك في من سن سنة حسنة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) أ ليس ذلك يدل على انه تعالى يفعل فيهم الصرف عن المعاصي؟ وجوابنا ان المراد بهذا انه تعالى يلطف لهم زيادات الالطاف فلا يختارون الا الطاعة فهذا معنى الاذهاب بالرجس ولذلك قال بعده (وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله في قصة زيد (وَ تَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ). وجوابنا أنه تعالى أحب فيما أراده من تزوج النبي صلّى اللّه عليه وسلم بامرأة زيد ان يكون مظهرا لذلك لانه من باب ما قد أحله اللّه تعالى له وأن لا يكون في قلبه من الناس ما يتكلف لاجله ابطان ذلك ولذلك قال (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) وقوله تعالى (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) مع انه مقدم في الانزال على قوله تعالى (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) وهي التاسعة لان المعتبر في الناسخ أن يكون متأخرا في التعريف والانزال لا في التلاوة وقوله تعالى (وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ) فيها اختلاف فبعض المفسرين يزعم أن ذلك مقدار ثابت بيّن به تعالى أنه يحل له التزوج فلا يدل على أنه صلّى اللّه عليه وسلم مخصوص بذلك كما خص باباحة الزيادة على أربع ومنهم من يثبت الموهبة ولذلك قال تعالى (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).
[مسألة]
ومتى قيل في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ) بعبارة واحدة ذلك عندكم ممنوع منه وكيف يصح الصلاة من اللّه تعالى ومن الملائكة على الرسول؟ فجوابنا أن قوله تعالى (يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) يرجع الى الملائكة فقط لانه تعالى يعظم أن يذكر مع غيره ولكنه يعقل بذلك أنه جل وعز أيضا يصلي على الرسول وصلاته جل وعز معناها الرحمة العظيمة والانعام الجسم وصلاة الملائكة الدعاء وقد قال تعالى قبل ذلك (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ومَلائِكَتُهُ) وذكر ذلك في عباده والمراد أنه يرحمكم بالهداية لتصلوا الى الثواب وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ) المراد الدعاء له بالمغفرة والرحمة العظيمة وفي الفقهاء من استدل بذلك على وجوب الصلاة عليه وعلى وجوبها في التشهد ومن حيث قال (وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً) فقال بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قد عرفنا معنى السلام عليك فكيف الصلاة عليك فعلمهم كيف يصلون عليه فيوردون ذلك في الصلاة كما علمهم التشهد من قبل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ) كيف يصح ذلك؟ وجوابنا أنه تعالى يفعل ذلك في الحقيقة لانه قادر على ذلك فيكون أزيد في غمهم وقوله تعالى من بعد (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) في السادة الذين اتبعوهم صحيح لان من سن سنة سيئة يزاد في عقابه فأما قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا) ففي المفسرين من قال دخل ليغتسل فلما خرج وثيابه على حجر عدا الحجر حتى رؤي مكشوفا فبرّأه اللّه مما كانوا يضيفونه إليه من أنه عليه السلام آدر وهذا مما أنكره مشايخنا وقالوا إن ذلك لا يجوز على الانبياء وأن المراد بالآية أنهم اتهموه بأنه قتل هارون أخاه لانه مات قبله وكان في هارون ضرب من اللين وفي موسى صلّى اللّه عليه وسلم خشونة فلميلهم إليه قالوا هذا القول فبرّأه اللّه اعاده حتى برئ موسى من هذه التهمة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ والْأَرْضِ والْجِبالِ) كيف يصح ذلك فيها وهي من جملة الجمادات التي لا يصح أن تعرف وتعلم؟ وجوابنا أن المراد عرضنا الامانة أي تضييع الامانة وخيانتها على أهل السموات والأرض وهم الملائكة (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وأَشْفَقْنَ مِنْها) والاشفاق لا يصح إلا في الحي الذي يعرف العواقب ثمّ قال تعالى (وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) ولو حمل نفس الامانة لم يصح ذلك فيه.
سورة سبأ
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) كيف يصح ذلك وقد زال التكليف؟
وجوابنا انه وان زال فالشكر والحمد للّه في الآخرة يكثر لانهم يسرون بذلك فيشكرون نعم الوقت حالا بعد حال ويشكرون النعم المتقدمة وما يفعله المرء لربه لا يكون داخلا في التكليف.
[مسألة]
ومتى قيل كيف يصح في قوله تعالى (وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى ورَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وما تعلق به قوله تعالى (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) مما تقدم وجوابنا ان من اقيمت له الدلالة على بطلان ما هو عليه مجوز اذا ذكر مذهبه أن يكون هذا جوابه لينبه على تقصيره فبيّن اللّه تعالى بأنه عالم الغيب وأنه يجازي كل أحد يوم القيامة بما استحقه على ما ذكره من بعد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ والطَّيْرَ وأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) كيف يصح أن يأمر اللّه تعالى الجبال والطير وكيف يلين الحديد وفي تليينه إبطال كونه حديدا؟ وجوابنا أن ذلك بمنزلة قوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وليس ذلك بأمر فالمراد بيان أن الجبال والطيور لا تمتنع عليه فيما يريده فأما تليين الحديد فمعلوم أنه يلين بالنار ولا يخرج من ان يكون حديدا فجعله اللّه تنزيه القرآن (22)
عز وجل لداود صلّى اللّه عليه وسلم بهذه الصفة أو جعله من حيث القوة بحيث يتصرف فيه كتصرف أحدنا في الطين وكل ذلك صحيح ولما بيّن عظم نعمه على داود وسليمان بالامور التي سخرها لهما قال تعالى من بعد (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) بالامور التي سخرها لهما قال تعالى من بعد (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) وذلك يدل على ان النعم توجب مزيد الشكر والقيام بالطاعة على وجه الشكر وبيّن تعالى بقوله (وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) ان التكليف وان عم الكثير فقليل منهم يقوم بحق شكره وذكر تعالى ذلك ليجتهد كل أحد أن يكون من جملة هذا القليل فيفوز بالثواب فاما قوله تعالى من بعد (وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) فلا يصح للخوارج الذين يقولون ان كل ذنب كفر ان يتعلقوا به لان المراد وهل نجازي بما تقدم ذكره إلا الكفور وقد أجرى اللّه تعالى العادة بانه لا يعذب بعذاب الاستئصال في الدنيا إلا من كفر وقوله تعالى (وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) ربما يتعلق به المجبرة انه تعالى يفعل السير وذلك بعيد لان المقدر للشيء لا يجب أن يكون فاعلا له لان من بين الشيء كيف يفعل يوصف بانه قدره وان كان الفعل من غيره ولذلك قال بعده على وجه الامر (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وأَيَّاماً آمِنِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) كيف يصح من العقلاء أن يسألوا ربهم أن يباعد بين أسفارهم وهي قريبة؟ وجوابنا ان ذلك منهم جاء على وجه الجهل كقوله تعالى (وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) هذا إذا قرئ على هذا الوجه وقد قرئ ربنا باعد بين أسفارنا وذلك على وجه الجبر لانه غير أحوالهم فنالهم من المشاق في أسفارهم خلاف ما كانوا عليه وقد يقول الضعيف بعد عليّ الطريق لمزية مشقته وان كان حال الطريق لم يتغير.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) كيف يصح أن يصف نفسه بانه يعلم بانه لم يكن له عليهم سلطان وهو عالم بنفسه؟ وجوابنا انه تعالى
يذكر العلم ويريد المعلوم كما ذكرنا من قبل فالمراد به أنه لا يقع من إبليس إلا الوسوسة والترغيب في المعاصي وعند ذلك يتميز من يؤمن ممن يشك ويجهل ولذلك قال بعده (وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي هو انه عالم بهذه الامور قبل أن تقع.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) من المراد بذلك وما معنى قوله لمن بعد (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ) وما الفائدة في هذا الجواب؟ وجوابنا ان المراد بذلك الملائكة بيّن تعالى انهم لا يشفعون إلّا بإذنه وأنهم بخلاف الشياطين فلا يقع منهم إلا ما هو طاعة للّه تعالى وفي الخبر عن ابن مسعود أنه تعالى إذا أراد أن يكلم ملائكته بما لا يريد ظهوره لغيرهم يحدث في السماء صوتا عظيما يفزع منه سائر الملائكة فإذا انجلى يقولون للملائكة الذين كلمهم اللّه ما ذا قال ربكم فيجيبون بقولهم قالوا الحق أي قال ربنا الحق فيعلمون أن ذلك من الباب الذي يجب أن لا يظهر فهذا معناه وقد قيل ان الملائكة الذين ينزلون لكتب أعمال العباد إذا نزلوا فزع من هو دونهم من ذلك وتوهموا أن ذلك لقيام القيامة فيسألون ويجابون بما تقدم فأما قوله من بعد (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ والْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فالمراد بيان الحق وتمييزه من الضلال كما يقوله أحدنا لمن يستدعيه لأنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يعلم أنه على هدى وأن المشركين على ضلال وقوله تعالى من بعد (وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) دليل قوي على ان العبد هو القادر عليه لأنه تعالى لو كان هو الخالق فيهم الايمان لما صح أن يقولوا لو لا انتم
لكنا مؤمنين بل الصحيح أن يقولوا لو لا خلق اللّه تعالى الكفر فينا لكنا مؤمنين فذلك يدل على قدرتهم على الايمان واعترافهم يوم القيامة بأن الذي صرفهم عن الايمان دعاء هؤلاء الرؤساء وانه لو لا دعاؤهم لكانوا يختارون الايمان وقوله تعالى من بعد (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) يدل أيضا على ما ذكرنا لأنهم بينوا أن الذي وقع منهم لم يكن صدّا لهم عن الهدى وقد ظهر لهم وتجلى أن ما وقع منهم إنما وقع باختيارهم ولو كان تعالى يخلق فيهم لكان أقوى حجة لهم أن يقولوا أ نحن صددناكم بل اللّه خلق فيكم ذلك وقوله تعالى من بعد (وَ ما أَمْوالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صالِحاً) بيان من اللّه تعالى بان الاموال والاولاد لا تنفع في الآخرة وأن الذي ينفعهم إيمانهم وعملهم الصالح وبيّن من بعد بقوله تعالى (وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) ما يقوى قلب المرء على الانفاق في طاعة اللّه فإن قيل فنحن نرى من ينفق ولا يخلف اللّه عليه شيئا. وجوابنا أن المراد فهو يخلفه متى كان صلاحا ولم يكن فسادا ولم يوقت ذلك بوقت وذلك يبطل السؤال.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) كيف يصح ذلك وفيهم من لم يكن يعبد الملائكة بل أكثرهم ليس بهذه الصفة؟
وجوابنا أن الغرض إبطال عبادة اللّه دون بيان لمن كانوا يعبدون من ملك أو جنّ أو صنم ولذلك قال تعالى بعده (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً ولا ضَرًّا) فاذا أقبل على الملائكة جلّ وعزّ ونبّه على أن من عبدهم فقد عبد من لا يملك له ضرّا ولا نفعا فقد نبّه بذلك على ان عبادة الجن والصنم بهذا التوبيخ
أولى وقوله تعالى من بعد (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) فيما يدل على الضلال من قبل العبد ولا يضاف إليه من حيث زجر اللّه تعالى عن فعله والاهتداء والايمان وإن كان من فعله فإنه يضاف الى اللّه تعالى من حيث أمر به ورغب في فعله ولطف فيه وأعان وذلك صريح قولنا فيما يضاف الى اللّه تعالى وما لا يضاف.
سورة فاطر
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ) وذلك متناقض. وجوابنا أنه لا يمتنع أن يكون بعضهم رسلا إلى بعض ويكون ذلك توكيدا في ألطافهم فأما قوله تعالى (أُولِي أَجْنِحَةٍ) فالمراد أنهم بهذا الوصف فبعضهم له مثنى وبعضهم له رباع ويحتمل أن يكون الملك متمكنا من أجنحة هي ثلاث ومن أجنحة هي مثنى ومن أجنحة هي رباع لأن الجناح لا حياة فيه وهو آلة الطيران فقد يجوز فيه الزيادة والنقصان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) أ ليس ذلك يدل على أن كل محدث مخلوق فاللّه خالقه لا خالق سواه وذلك بخلاف قولكم لانكم تقولون أنه من فعل الشيء مقدرا فهو خالقه وتستدلون بقوله (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). وجوابنا أنه تعالى انما نفى خالقا سواه ورازقا لنا لأنه قال هل من خالق غير اللّه يرزقكم من السماء والارض ولا خالق بهذه الصفة إلا هو وقد بيّنا من قبل أن إطلاق هذه اللفظة لا يصح إلا في اللّه تعالى فلا وجه لإعادته.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) كيف يصح أن يرى القبيح حسنا؟ وجوابنا أن
الداعي له الى القبيح زينه في عينه حتى اعتقده بهذه الصفة وهذه طريقة اتباع من يضل ويفسد وبيّن تعالى بعده أنه الذي يضل عن الثواب فقال (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) كيف يصح ومن ليس بعالم قد يخشى عقاب اللّه؟ وجوابنا أن المراد الخشية الصحيحة فإنها لا تقع إلا من عالم باللّه تعالى على حقه ومن عالم بثوابه وعقابه ومن عالم بما تؤدي هذه الخشية من العبادات وبما معه يثبت ما يخشاه فهذا معنى الكلام ثمّ أنه تعالى رغّب في طاعته نهاية الترغيب بأفصح قول فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وأَقامُوا الصَّلاةَ وأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ويَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.)
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) كيف يصح في الانبياء أن يكون بعضهم ظالمين وبعضهم مقتصدين وبعضهم سابقين بالخيرات والواجب أن يكون جميعهم من السابقين؟ وجوابنا ان المراد أنه تعالى أورث الكتاب الانبياء الذين بعثهم من جملة عباده والاقسام المذكورة لم ترجع إليهم بل ترجع إلى عبادنا فكأنه قال ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من جملة عبادنا وعبادنا منهم ظالم لنفسه وهم الذين يعصون ربهم بكفر أو فسق ومنهم مقتصد وهو المؤمن التائب
الذي لم ترتفع منزلته في باب الثواب ومنهم سابق بالخيرات وهم الذين علت منزلتهم فهذا معنى الكلام وفيه وجوه من الاقاويل لكن الذي ذكرنا أبين وهذه طريقتنا في اقتصار الاجوبة رغبة منا في أن لا يطول وقوله تعالى (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) وقوله تعالى لهم (أَ ولَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وجاءَكُمُ النَّذِيرُ) من أقوى ما يدل على أنهم كانوا يقتدرون على الايمان وانهم قصدوا أن لا يختاروا ذلك.
سورة يس
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) كيف يصح اثبات مكلفين لم ينذروا؟ وجوابنا أن ذلك يصح إذا كان المعلوم من حالهم انهم يعصون في كل شيء على كل حال فجاز أن يقتصر بهم على التكليف دون الانذار الواقع من الانبياء وعلى هذا الوجه تأخر القرآن في الزمن فان قيل فان كان كذلك فلم ذمّهم تعالى بقوله (فَهُمْ غافِلُونَ)؟ فجوابنا لأنهم عصوا من حيث لم ينفع فيهم الانذار ولذلك قال تعالى (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ثمّ ذمهم بأن شبّه حالهم بالمغلول وبمن سدت عليه الطريق وقد مضى الكلام في أن مثل ذلك يقع منه تعالى على طريقة التشبيه والتمثيل لحالهم بحال من هذا وصفه وقد قيل ان المراد لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم على هذا الحد من الشرع والأول أقرب إلى الظاهر وقوله تعالى من بعد (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) ربما تعلقوا به في أنه تعالى لم يهد إلا من كان قد اهتدى وقد تقدم القول في تأويل مثل ذلك في قوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) في سورة البقرة وبيّنا أن من لم يقبل شبه بمن يتعذر عليه القبول لما تعلمه من حال الرسول وأنه أنذر الكفار كما أنذر المؤمنين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) ما الفائدة في ارسالهما اذا كان لا بد
من ثالث؟ وجوابنا ان المصلحة ربما تكون في الاقتصار على اثنين في الارسال في وقت ثمّ فيما بعده تكون المصلحة في ضم ثالث إليهما لان المصالح تختلف بالأوقات ومتى قيل كيف يصح بعثه الرسل في حالة واحدة والشرع واحد وما الفضل بين الجماعة في ذلك وبين الواحد؟ وجوابنا أنه إذا قدّر إرسال بعض دون بعض فلاختلاف المصالح في الاوقات واذا جمع بينهم في الارسال فلان المصلحة في جماعتهم ولا بد في المعجز من أن يظهر على كل واحد أو على جماعتهم وقوله من بعد (وَ ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يدل على أنه لا نبي الا وقد بلّغ ما جاء به قبل أم رد وقوله عز وجل (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) المراد به من جاء من أقصى المدينة يسعى وظاهر ذلك يقتضى أن دخوله الجنة واقع وانها ليست جنة الخلد ولا يمتنع في بعض من يحبه اللّه تعالى أن يدخله بعض جنان السماء كما ذكرناه في الانبياء والشهداء فلا يصح أن يجعل حجة في أن جنة الخلد مخلوقة ويدل ذلك على سرور المرء بوقوف قومه على عظم منزلته واجتماعه معهم لا يكاد يعدله غيره من السرور.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ جَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وأَعْنابٍ وفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أ ليس يدل ذلك على أنه تعالى جعل ما عملته أيديهم كما جعل الجنات وذلك يدل على ان أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى؟
وجوابنا ان قوله (وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) يرجع الى قوله (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) فكأنه قال ليأكلوا من ثمره وليأكلوا ما عملته أيديهم بالمكاسب وغيرها فبين أنه جل وعز خلق لهم النعيم ومكنهم أيضا من اكتساب النعيم فيبطل ما قالوه وقوله تعالى من بعد (وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أحد ما يدل على وجوب النظر في الآيات وفساد التقليد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) ما معنى ذلك وهل يصح وقوعه من عاقل؟
وجوابنا أن الجاحد لربه والمنكر للقول بان هذه النعم من جهة فاعل حكيم قد يجوز أن يقول لمن يعتقد ربه وان النعم من قبله هذا القول لظنه انه كالشبهة فيما ذهب اليه القول اذا كان الاطعام والارزاق من قبله تعالى فما الفائدة في ان يحوج العبد الى غيره وهلا كفاه بنفسه فعلى هذا الوجه يقع مثل هذا الكلام من العاقل ولو علموا ان الاحسان من اللّه على العبيد لا بد ان يكون بحسب المصالح وأنه قد يجعل حاجته الى غيره ويحمله الكلفة في ذلك لكي ينتفع فكون له مصلحة في الطاعة التي يلتمس بها الثواب وازالة العقاب لعلموا أن ذلك هو الحكمة والصواب وقوله تعالى (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) أحد البواعث على المبادرة الى الطاعات والى الثواب من حيث لا يأمن المرء الاحترام في كل وقت ولذلك قال تعالى (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ولا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) وقوله تعالى من بعد (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ولا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يدل على ان العبد يفعل ويستحق على فعله الثواب أو العقاب وأنه لا يجوز أن يؤاخذ بعمل غيره وأنه لا يجوز منه تعالى أن يعذب الاطفال بذنوب الآباء وقوله تعالى من بعد (أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) المراد به القبول من الشيطان على ما تأولنا عليه قوله تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) قال صلّى اللّه عليه وسلم لما أحلوا وحرموا بقولهم وصفهم بذلك وقوله تعالى من بعد (وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) يدل على ان الاضلال في الدين لا يكون من قبله تعالى كما يقوله القوم والا كانت الاضافة الى الشيطان لا وجه لها وقوله من بعد (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) احد
ما اذا تصوره المرء يكون زاجرا له عن المعاصي لئلا تشهد عليه جوارحه بها يوم القيامة فتكون الفضيحة الكبرى وقد بينا من قبل ان هذا الكلام يفعله تعالى فيصير بصورة أن يكون الكلام كلام اليد والرجل وأن هذا أقرب من قول من يقول هو كلامهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) كيف يصح ذلك والمعلوم من حال كثير ممن يعمر انه لا ينكس في الخلق؟ وجوابنا انه لا بد من تقدير شرط في الكلام فان التعمير هو تطويل العمر واطالة العمر قد تختلف فاذا بلغ حدا مخصوصا فلا بد من ان ينكسه في الخلق فتغير أحواله فيجب أن يكون هذا هو المراد.
[مسألة]
وربما تعلقوا بقوله تعالى (وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ) كيف يصح ذلك وهو صلّى اللّه عليه وسلم أفصح العرب؟ وجوابنا أن المراد أن ما علمناه إنشاء الشعر فيكون حاله كحال من اتسع في معرفة اللغة فما هو منهم ولا يجوز حمله على أنه لم يكن يعرف أوزان الشعر أو لم يكن يحفظ الشعر فإنه كان يحفظه ولا ينطق به فإذا صار ذلك عادة له معروفة أبعد من التهمة فيما جعله اللّه معجزة له ولذلك قال تعالى (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُبِينٌ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ ولَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) أ ليس ذلك يدل على أن للّه تعالى يدين؟ وجوابنا إن دل فيجب أن يدل على أيدي ولا يقول بذلك أحد وإذا وجب أن يتأول ذلك فكذلك سائر الآيات وذكر تعالى الأيدي على طريق توكيد اضافة العمل إليه كما قال تعالى (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) وكما يقال في كلام وقع من المرء هذا ما عملت يداك وإنما تذكر اليد من حيث أنها
أقوى آلات الافعال وختم جل وعز السورة بالرد على من انكر الاعادة والذي أورده من أقوى ما يورد في ذلك وهو انه إذا ابتدأ الحي وصح منه ذلك وهو عالم لذاته صح أن يعيده إذا أفناه لان حال المعاد في صحة وجوده لا تغير حال القديم تعالى في صحة إيجاد ما يقدر عليه.
سورة الصافات
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) كيف يصح ذلك والكواكب لا اتصال لها بسماء الدنيا لأنها جارية في أفلاكها؟ وجوابنا أنها في المنظر كذلك فصحّ أن يصفها تعالى بهذا الوصف وكل ما علا يوصف بأنه سماء.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (بَلْ عَجِبْتَ ويَسْخَرُونَ) وأنه قد قرئ بالضم وذلك يوجب جواز التعجب على اللّه تعالى. وجوابنا أن المراد قل يا محمد بل عجبت ويسخرون فيكون فيه هذا الحذف ويحتمل أن يكون المراد استكثاره تعالى لذلك الامر فأجرى هذا اللفظ عليه مجازا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) كيف يصح ذلك على الأنبياء وعندكم ان أحكام النجوم باطلة؟ وجوابنا أنه ليس في الظاهر أنه أراد أحكام النجوم فيحتمل أنه نظر في نفس النجوم ويحتمل أنه أراه نجوما كان تعالى قد جعلها علامة له فيما يريد معرفته أو كانت علامة لهم فيما كانوا ينظرون فيه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله جل وعز (إِنِّي سَقِيمٌ) كيف يصح على الانبياء الكذب؟ وجوابنا أنه يجوز في حال ما قال هذا القول أنه أصابه ببعض العلل فقال ذلك ويحتمل أنه يريد سأسقم كقوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ) أي ستموت وكقوله (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً).
تنزيه القرآن (23)
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ) أ ليس في ذلك تصريح بخلق أعمال العباد؟
وجوابنا ان المراد واللّه خلقكم وما تعملون من الأصنام فالاصنام من خلق اللّه وانما عملهم نحتها وتسويتها ولم يكن الكلام في ذلك فانه صلّى اللّه عليه وسلم أنكر عبادتهم فقال أ تعبدون ما تنحتون وذلك الذي تنحتون، اللّه خلقه ولا يصح لما أورده عليهم معنى إلا على هذا الوجه وذلك في اللغة ظاهر لأنه يقال في النّجّار عمل السرير وان كان عمله قد تقضى وعمل الباب ونظير ذلك قوله تعالى في عصا موسى (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) المراد ما وقع أفكهم فيه فعلى هذا الوجه نتأول هذه الآية ومعنى قوله من بعد (وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) وقوله من بعد (فَلَمَّا أَسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ونادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) وقوله من بعد (وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) سؤالات منها ما رآه في المنام كيف يلزمه والانبياء إنما تعمل على الوحي ومنها أنه كان يجعل ذلك كالأمر وكيف يصح أن يأمره بذبحه ثمّ يزول ذلك وهل هذا إلا كالبداء ومنها أنه كان الفداء بذبح فكيف يصح من غير جنس ما جعل فدية له؟ وجوابنا أن رؤيا إبراهيم في المنام يجب أن تكون قد تقررت بما يعلم به أن ذلك بالوحي ولولاه لما قال (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) ولما أخذ في ذبحه فإنه إن يفعل فقد مات الذبيح مع شدة إشفاقه على ولده ولذلك قال ولده (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) فلولا علمهما أن هذا أمر من اللّه لم يصح فأما هذا عندنا فهو أمر بمقدمات الذبح وعظم ذلك عليه لظنه أنه سيؤمر باتمام الذبح لأن العادة جارية بأن الإضجاع وأخذ الآلة لا غرض فيه إلا الذبح فعلى هذا الوجه فعل ما أمر وما ظنه لم يؤمر به فلا يؤدي إلى البداء
وقد قيل أنه فعل الذبح لكنه عز وجل كان صرفه عن موضع الذبح وكان تعالى يلهمه فعل ما يفعله الذابح وبقي الذبيح حيا لما فعله اللّه تعالى وقيل غير ذلك فأما الذبح الذي أمره اللّه بان يفدي به فذلك صحيح وإن لم يؤمر بالذبح ويكون فداء عما لو أمر به لفعله ولا يجب في الفداء أن يكون من جنس ما يجعل فداء منه ولذلك يصح في الشاة أن يكون ذبحها فداء عن حلق الشعر في المحرم إلى غير ذلك وقوله عز وجل من بعده (وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) بعد ذكر الامر بالذبح يدل على ان الذبيح هو إسماعيل على ما روي عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال أنا ابن الذبيحين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) كيف يصح ذلك ولا احد يجعل بين اللّه وبين الجنة نسبا؟ وجوابنا انه يحتمل ان يريد الملائكة وقد تقدم ذكرهم لانهم لا يرون كالجن وقد كانوا يقولون في الملائكة انها بنات اللّه. تعالى اللّه عن ذلك ويحتمل أنهم عبدوا الجن كما عبدوا اللّه بأن اطاعوهم ويبين ذلك قوله (وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي في العقاب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) كيف يصح ذلك ومنهم من غلب وقتل؟ وجوابنا ان النصرة ربما تعتبر فيها العاقبة فمن عاقبته محمودة فهو منصور على من غلبه وعاقبته ذميمة فالنصرة أبدا تكون للمطيعين خصوصا ولهم نصرة بالحجة والادلة وغيرهما.
[مسألة]
وربما قيل فيما تقدم من قصة يونس صلّى اللّه عليه وسلم (وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) كيف يصح ذلك وظاهره الشك في هذا العدد وفي الزيادة؟ وجوابنا ان المراد به ويزيدون أو بل يزيدون على ما روى عن المفسرين وقد يجوز أن يزيد في منظر عيون من يشاهدهم من دونه ما اللّه تعالى يعلم عددهم مفصلا.
سورة ص
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) إن في هذه الآيات مطاعن منها تسورهم عليه وهم خصمان كيف يصح ومنها انه جمع بقوله تسوروا وثنّى بقوله خصمان وبقوله (إِنَّ هذا أَخِي) وبقوله (لَقَدْ ظَلَمَكَ) ومنها ان في الخبر ان ذلك ورد في قصة اوريا ورغبة داود في امرأة أوريا وانه عليه السلام عرضه للقتل رغبة فيها إلى غير ذلك مما يذكره الجهّال. وجوابنا ان الصحيح إن كانت تلك المرأة التي رغب فيها قد صارت أيّما بلا زوج فخطبها وكان من قبل ذلك خطبها غيره فسكنت اليه ولم يفتش عن ذلك فصار ذلك ذنبا صغيرا وعلى هذا الوجه نهى صلّى اللّه عليه وسلم ان يخطب المرء على خطبة اخيه ويدل على ذلك قوله (وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ) فنبه بذلك على ما ذكرناه والذي يرويه من لا معرفة له بأحوال الانبياء صلّى اللّه عليهم وسلم لا معتبر به فاللّه تعالى لا يبعث إلا من هو منزّه عن هذه المعاصي حتى انهم لا يقدمون لا على كبيرة ولا على صغيرة يعرفونها قبيحة وإنما عاتبه اللّه تعالى ونبهه من حيث صار غافلا عن خطبة متقدمة كان يمكنه أن يفتش عنها فلا يقدم على الخطبة بعد تلك الخطبة. فأما التّسوّر فإنه غير قبيح من الملائكة في زمن الانبياء ليكون ما يؤدونه أقرب الى التحريك والتنبيه وأما التثنية والجمع فيجوز في اللغة في هذا المكان فان قوله خصمان يدل على اثنين وقد يذكر ذلك ويراد أكثر بأن
يكون مع المتداعيين غيرهما وإنما وصفا بذلك من حيث تصورا بصورة الخصمين كيما ينبها داود عليه السلام. فان قيل كيف قال (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) ولم يعلم صحة ما ادّعى. وجوابنا أنه لا بد من أن يكون في الكلام حذف فكأنه قال إن كنت صادقا فقد ظلمك وإلا فالمعلوم أنه لا ظالم هناك وقوله تعالى (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) يدل على ان ذنب داود ليس إلا ما قلناه من أنه رغب في ضم هذه المخطوبة إلى نسائه على الوجه الذي ذكرناه وقوله تعالى (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) من بعد يدل على ان الذي فعله كان في تلك الشريعة محرما ولو لا ذلك لجوزناه حلالا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) ان ذلك يدل على ان تصرفه من خلق اللّه. وجوابنا أنه إنما يدل على فوض إليه هذه الأمور فأما ما يأتيه من تصرفه فهو فعله ولذلك صار مؤاخذا بذلك الصغير الذي فعله على غفلة ولذلك صح قوله (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوى) لانه إن كان ما يحكم به من خلق اللّه فكيف يضاف ذلك الى الهوى وكيف يقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) كيف يصح ان يعزل عن النبوة ويصير على كرسيه بعض الشياطين على ما يروى في ذلك؟ وجوابنا ان الذي يروى في ذلك كذب عظيم والصحيح ما روي من أنه تفكر في كثرة نسائه ومماليكه فقال وقد آتاه اللّه من القوة إني لأطؤهن في ليلة واحدة فيحملن ويحصل لي من الاولاد العدد الكثير ففعل ولم تحبل الا واحدة وألقت جسدا غير كامل الخلقة فحمل ذلك الجسد الى كرسيه فنبهه عنده على ان الذي فعله من التمني كالذنب وانه قد كان من حقه ان ينقطع إلى اللّه تعالى فيما يرزق
من الأولاد قلّ أو كثر فأناب عند ذلك وتاب مما كان منه فأما أن يعزل ويؤخذ خاتم ملكه ويصير الى بعض الشياطين ويطأ ذلك الشيطان نساءه فذلك مما لا يجوز على الأنبياء وقد رفع اللّه قدرهم عن ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (رَبِّ اغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) كيف يصح من الانبياء أن يسألوا ذلك مع دلالته على الرغبة في الدنيا وعلى ما يجري مجرى المنافرة والحسد؟ وجوابنا انه لا يمتنع وهو نبي ان يرغب الى اللّه عز وجل فيما يظهر به فضله وكرامته عند اللّه وليس في ذلك ما يشبه الحسد المذموم لانه انما يكون حاسدا اذا أراد انتقال نعيم غيره اليه. فأما إذا أراد لنفسه أعظم المنازل من اللّه تعالى ابتدا مع إرادته بقاء سائر النعم على أهلها فلا وجه ينكر في ذلك ولذلك قال تعالى (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) الى سائر ما ذكر مما يدل على انه أجابه وأظهر فضله بهذه الأمور التي اختص بها ثمّ ذكر تعالى من بعد قصة أيوب صلّى اللّه عليه وسلم وانه سأل اللّه عز وجل كشف الضر عنه فأجابه اللّه الى ذلك وزاده فالذي يرويه الجهال في قصته من كيفية البلاء إلى غير ذلك لا يصح والذي يصح انه تعالى انزل به الأمراض والعلل والفقر والحاجة لما علم من المصلحة ثمّ أزال ذلك عنه بالنعم التي أفاضها عليه على ما نطق به الكتاب فأما قوله تعالى في قصة ايوب صلّى اللّه عليه وسلم (وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنَثْ) يدل على أنه يحسن الاحتيال في التخلص من الايمان وغيرها وقد ذكر ذلك الفقهاء في كتبهم.
سورة الزمر
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أ ليس قد نفى أنه يهدي الكافر وأنتم تقولون قد هداه كما هدى المؤمن؟ وجوابنا أن المراد لا يهديه الى الثواب في الآخرة وقد تقدم ذكر ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أ ليس ظاهر ذلك أنه خلق زوجها بعد أن خلقنا فكيف يصح ذلك؟ وجوابنا أن ثمّ قد تدخل في خبر مستأنف فلا يوجب الترتيب في نفس المخبر عنه كقوله الرجل لغيره قد عجبت مما فعلت اليوم ثمّ ما صنعته أمس أعجب وقوله من بعد (وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) المراد به من كل جنس زوجين ذكرا وأنثى فهي وإن كانت أربعة أجناس إذا قدر فيها ما ذكرنا صارت ثمانية وقوله تعالى من بعد (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) يدل على أنه إنما يكلفنا لمنافعنا وحاجتنا ويدل على انه تعالى لا يريد المعاصي لان الرضا يرجع في المعنى الى الارادة فلو كان مريدا للكفر كما قاله القوم لوجب اذا وقع ان يكون راضيا به لأن المريد لا يصح أن يريد من غيره أمرا فيقع ذلك الامر على ما أراده إلا ويجب أن يكون راضيا به وقوله تعالى من قبل (لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ذكره تعالى لا على وجه أن ذلك مما يصح ان يراد لكن على وجه الاحالة بين به ان القادر على
أن يخلق ما يشاء لا يجوز أن يتخذ ولدا فعلى هذا الوجه ذكر ذلك وقوله تعالى (وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) ربما سألوا فيه وقالوا كيف أنزلها؟
وجوابنا أنه تعالى خلقها في السماء ثمّ انزلها إلى الأرض كما خلق آدم في السماء ثمّ اهبطه إلى الأرض.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) والمعلوم انه خلق واحد. وجوابنا ان المراد خلق ما تتغير به النطفة فتكون علقة الى ان يستقر الخلق التام فهذا هو المراد وقوله تعالى (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) يدل على ان احدا لا يؤخذ بذنب غيره فيبطل بذلك قولهم ان الطفل يعذب بكفر ابيه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) كيف يصح ان يكون أول المسلمين وقد تقدمه من المسلمين ما لا يحصى عدده؟
وجوابنا ان المراد وأمرت أن اكون أول المسلمين من قومي وذلك معقول من الكلام وفي قوله تعالى (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً) دلالة على ان الاعمال لا يستحق بها الثواب الا على هذا الوجه وقوله (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يدل على ان النبوة لا تمنع من هذا الخوف فكيف يمنع منه ان يكون المرء من أولاد الانبياء كما يقوله بعض العامة من الامامية حتى يزعمون أنّ من ولد من فاطمة عليها السلام قد حرّم اللّه تعالى النار عليه وقوله تعالى من بعد (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) هو على وجه الزجر والتهديد لا انه أمر في الحقيقة وقوله تعالى من بعد (أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) يدل على ان الوعيد الوارد عن اللّه تعالى واجب لا يجوز خلافه واذا لم يجز أن ينقذ الرسول من النار فكيف يصح ما يقوله القوم من انه صلّى اللّه عليه وسلم بشفاعته يخرج الكثير من أهل النار؟
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) انه يدل على أن الاسلام من قبله تعالى. وجوابنا ان شرح الصدر بالاسلام غير الاسلام فلا يدل على ما قالوه وانما المراد بذلك أنه تعالى يورد عليه من الطاقة ما يدعوه الى الثبات على الاسلام كما ذكرنا في قوله (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) وقوله (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) وهو القرآن فيدل على انه محدث من حيث أنزله ومن حيث سماه حديثا ومن حيث وصفه بانه متشابه وما هو قديم لا يصح ذلك فيه وقوله (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) يدل أيضا على حدوثه وقوله (ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) يدل أيضا على ذلك وقوله (وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) المراد من يضلل اللّه عن طريق الجنة الى النار كما قدمناه من قبل وقوله (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) يدل على حدوثه وعلى انه حدث بعد لغة العرب ليصح أن يوصف بانه عربي وقوله (وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) لا يدل على ما قالوه لان المراد ومن يضلل عن طريق الجنة الى النار فما له من هاد اليها ومن يهده الى الجنة فما له مضل على ما تقدم ذكره وقوله من بعد (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ ومَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) يدل على ما قدمنا ذكره من ان الاهتداء يضاف الى اللّه تعالى دون الضلال وان كانا جميعا من فعل العبد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) انه يدل على أنه لا مؤمن الا ويغفر له اللّه تعالى وان ارتكب الكبائر.
وجوابنا ان المراد انه يغفر ذلك بالتوبة بدلالة قوله (وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) والآية في الكفار وردت فلا شبهة في أنهم من أهل النار ويدل على ذلك قوله (وَ أَسْلِمُوا لَهُ)
وقوله من بعد (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها واسْتَكْبَرْتَ وكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) وقوله تعالى من بعد (وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) مما روى فيه عن الحسن البصري رحمه اللّه أنه قال ما ورد ذلك الا فيمن كذب على اللّه بان أضاف الكفر اليه وزعم أن خلقه وأراده وكذلك سائر المعاصي وقوله من بعد (وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ) يدل على أن المتقين في الآخرة لا ينالهم من أهوالها كما يظنه بعض من خالفنا في ذلك وقوله من بعد (اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) قد تقدم معنى الاضافة وأن المراد به الأجسام التي قدرها اللّه تعالى الى سائر ما يتصل بها دون أفعال العباد وإذا كان اللّه تعالى تمدّح بانه خالق كل شيء فكيف يدخل فيه الكفر والكذب والفواحش مع أن خلق ذلك الى الذم أقرب وقوله تعالى (وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) أحد ما يدل على قولنا لأنه تعالى لو كان خالقنا للكفر فيهم لكانت الحجة لهم بأن يقولوا وما ذا ينفع مجيء الرسل الينا مع ان اللّه تعالى خلق الكفر فينا وأراده وقضاه وقدره.
سورة غافر
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) كيف يصح ذلك وقد يجادل فيها المؤمنون؟ وجوابنا أن المراد المجادلة الباطلة في آيات اللّه ولذلك ذمهم بذلك فهو كقوله (وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ومَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) كيف يصح مع عظم العرش وانه لا خلق أعظم منه أن يكونوا حاملين له ولئن جاز ذلك فما الذي يمكن في نفس الأرض ان تحمله الملائكة؟ وجوابنا أن العرش في السماء في أنه مكان لعبادة الملائكة كالبيت الحرام في الأرض ولذلك قال تعالى (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) حواليه ولا يمتنع مع ذلك أن يكونوا حاملين له اذا كان اللّه تعالى قد عظم خلقتهم وقواهم على ذلك. إما في كل حال وإما في بعض الأحوال.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ) أن ذلك يدل على ان السيئات ليست من فعلهم. وجوابنا ان هذه المسألة من الملائكة لاهل الآخرة فالمراد بذلك ان يقيهم جزاء السيئات وهو العقاب والا فنفس السيئات من فعلهم في دار الدنيا وليست الآخرة مما يقع تكليف فتقع هذه المسألة من الملائكة للمؤمنين ولذلك قال تعالى بعده (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ
فَتَكْفُرُونَ قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) ولو لم يصح عذاب القبر لكانت الاماتة مرة واحدة وقولهم (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) يدل على ان الذنوب من قبلهم ولو كانت من خلق اللّه تعالى فيهم لكانوا بدلا من اعترافهم يقولون ما ذنبنا اذا خلقت فينا ولم يمكننا أن ننفك منه وقوله تعالى من بعد (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) فالمراد به ما يرفعه من درجات غيره فليس للشبهة بذلك تعلق.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) كيف يصح ان يقول ذلك وقد أفنى الخلق على ما يروى في الأخبار ولا يكون فيه فائدة وان كان يقوله تعالى وقد أعاد الخلق فما الفائدة فيه وقد عرفوا في الآخرة أن الملك للّه الواحد القهار؟ وجوابنا أنه تعالى يقوله وقد أعاد منبها بذلك على انه لا حكم في الآخرة الا له ولا ملك الا له وان الآخرة مخالفة للدنيا فانها وان كان الملك فيها للّه لكنه قد فوّض الى الغير النظر في ذلك وما يرى من أنه تعالى يقوله ولا أحد ولا يصح بل القرآن يشهد بخلافه وهو قوله تعالى (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) ثمّ قال تعالى (لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) فانما يقول ذلك في ذلك اليوم ولذلك قال تعالى بعده (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) والمعروف للمكلفين من أهل الثواب والعقاب أن الواقع بهم هو المستحق وأنه لا ظلم هناك وأنه بخلاف أيام الدنيا التي يجري فيها الظلم وغيره وقوله تعالى (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) يدل على أن العبد هو الذي يفعل المعصية ولو كان تعالى يخلقها فيه ثمّ يعذبه أبد الآبدين لكان ذلك ظلما ويدل أيضا على ان أطفال المشركين لا يعذبون لانهم لو عذبوا ولا ذنب لهم لكان العقاب من أعظم الظلم وقوله تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يدل على أنه تعالى ليس بجسم وإلا كان يجب في محاسبة الخلق أن تطول كما يطول ذلك منا فإنما يكون سريع الحساب
بأن يفعل المحاسبة في أجسام وأن يكون الكل في حال واحد وقوله تعالى (وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) ثمّ قال تعالى من بعد (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولا شَفِيعٍ) يدل على أن الشفاعة لا تكون الا للمؤمنين فتزيدهم منزلة على وجه التفضل ولو كانت الشفاعة لاهل الكبائر المصرّين لم يصح هذا الظاهر وقوله تعالى من بعد (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ) يدل على أن الذي لأجله حسن منه أن يعاقبهم أن الرسل جاءتهم بالبينات ومع ذلك اختاروا الكفر ولو كان تعالى خلق ذلك فيهم لكان مجيء مرسل اليهم وأن لا يجيئوا اليهم سواء.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) كيف يصح ان يكون كاتما لإيمانه مع أنه حكى عنه (وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) ثمّ قال (وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) ولو كان مظهرا لإيمانه لم يزد على ذلك. وجوابنا أنه يحتمل في الاول أن يكون كاتما لإيمانه ثمّ من بعد لما جربهم وسلم منهم أظهره وذلك لا يستحيل ويحتمل ان يكون معرضا بتلك اللغة وحكى اللّه عنه على حسب مراده فيكون بالعربية تصريحا وان كان بتلك اللغة تعريضا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) كيف يصح ذلك منهم مع علمهم بأنه لا يخفف البتة؟ وجوابنا أن مثل ذلك لا يقع من الممتحن على وجه الاستعانة بالغير والاسترواح الى هذا القول وان علم ان ذلك لا يتم. وقد قيل ان ذلك يحسن في الآخرة لقوله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) كيف يصح ذلك وانما كان هذا القتل في حال ولادة موسى لا في هذه الحال؟ وجوابنا أنه في تلك الحال كان يأمر بقتل الاولاد لمّا ظهر في الاخبار أنه سيكون هناك من يغلبه من الانبياء وفي هذه الحال أمر أيضا بهذا القتل لئلا يكثر أتباع موسى فهما حالان مختلفان فأما قوله تعالى من بعد (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) وقوله تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) يدل على أن الايمان فعل للعبد وأنه اذا فعله طوعا ينتفع به واذا فعله على وجه الالجاء لا ينتفع به ولو كان خلقا للّه لم يصح ذلك.
سورة فصلت
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وفِي آذانِنا وَقْرٌ ومِنْ بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ) كيف يصح ذلك مع التكليف؟ وجوابنا ان ذلك حكاية تشددهم في الامتناع من القبول لا انهم بهذا الوصف ولذلك ذمهم وزجرهم بقوله تعالى (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) وقوله تعالى من بعد (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً ونَذِيراً) يدل على أن القرآن محدث من جهات وقوله تعالى (وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) يدل على ان كفرهم لا يمنع من وجوب الصلاة والزكاة عليهم وإن كان فعلهم إنما يصح بأن يقدموا الايمان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ثمّ قال (وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) فتلك ستة ثمّ قال (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) فصارت ثمانية كيف يصح ذلك مع قوله تعالى في غير موضع (خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وتلك مناقضة ظاهرة؟
وجوابنا أن قوله (وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وبارَكَ فِيها) تنزيه القرآن (24)
(وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) المراد به مع اليومين المتقدمين فلا يكون ذلك مخالفا للآيات الأخر وقد يقول المرء لولده أ ليس علمتك القرآن في سنة وفقّهتك في الدّين في سنتين يعني مع التي تقدمت فأما قوله تعالى من بعد (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وهِيَ دُخانٌ) فالمراد به قصد خلق السماء فالاستواء في الحقيقة لا يصح على اللّه تعالى وقوله تعالى (فَقالَ لَها ولِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فالمراد أنه أراد منهما الانقياد لما يريده فاستجابا وذلك كقوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) والمراد أن تكون وقد يقول القائل أردت كذا وكذا فقالت نفسي لا تفعل وقد يقال أتت السحاب فأمطرت قال الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني. وذلك كقوله تعالى (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) وكل ذلك ظاهر في اللغة وإنما يلتبس على من يقل تأمله وقوله تعالى (وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) يدل على انه تعالى قد هداهم بأن دلهم وبين لهم وأنهم لما لم يقبلوا لم يهتدوا فالاهتداء فعلهم والهدى من قبل اللّه تعالى لا كما يقول من خالفنا في ذلك وزعم ان الهدى هو الايمان وقوله تعالى (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأَبْصارُهُمْ وجُلُودُهُمْ) فالمراد به الردع عن المعاصي لأنه إذا فعلها بهذه الجوارح شهدت عليه في الآخرة وقد ذكرنا من قبل أن هذه الشهادة من فعل اللّه تعالى فيها وقوله تعالى (قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فالمراد به ما ذكرنا من أنه فعل فيها ما صورته صورة الشهادة وقوله تعالى (وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ) فالمراد به ما كنتم تظنون ذلك ولذلك قال تعالى (وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) وقوله تعالى من بعد (وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) فالمراد به التخلية فلما لم يمنعهم من ذلك جاز أن ينسبه الى نفسه وذلك كقوله تعالى (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)
وكقول القائل لغيره قد أرسلت كلبك على الناس إذا لم يطرده عن بابه وقوله تعالى من بعد (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) يدل على أنه لا بد مع التوحيد من الاستقامة في الأفعال والأحوال حتى يصير المرء من أهل الثواب وقوله تعالى من بعد (وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وعَمِلَ صالِحاً) يدل على أن من أعظم الأعمال الدعاء ويدل على أنه إذا لم يقترن به العمل الصالح لم ينتفع به. فان قيل فقد قال (وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وانتم تمنعون ذلك؟
وجوابنا أن المراد من المنقادين للحق وذلك أوجب عندنا وقوله من بعد (وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) يدل على أنه تعالى فعله فجعله عربيا وكان يجوز أن تجعله أعجميا.
سورة الشورى
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) كيف يصح ذلك مع قوله تعالى (وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)؟ وجوابنا ان المراد ويستغفرون لاهل الارض الذين هم المؤمنون لا لأهل السماء لأن أهل الأرض هم المحتاجون الى الاستغفار ويحتمل أن يكون المراد ويستغفرون لأهل الأرض لإزالة عذاب الاستئصال عنهم والأول أقوى لأن إحدى الآيتين يجب أن تبنى على الاخرى كما يبنى المجمل على المفسر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ومَنْ حَوْلَها وتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) وهو يوم القيامة كيف يصح ان ينذر يوم القيامة والتكليف منقطع؟ وجوابنا ان المراد ينذرهم ما يلقون يوم الجمع وهم يخافون فحال الانذار هو حال التكليف ولذلك قال تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) فبين وجه التخويف في ذلك وقوله تعالى (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) المراد ان يلجئهم الى الايمان لكنه لم يشأ الا على وجه الاختيار تعريضا للمثوبة وقوله تعالى من بعد (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ربما قالوا فيه أن ظاهره يتناقض لانه يقتضى ان لمثله مثلا ولو كان كذلك لما صح النفي لانه يقتضى الاثبات. وجوابنا ان ذلك وإن كان مجازا فهو مؤكد للحقيقة على ما جرت به عادة العرب وهو أوكد من قول القائل ليس مثله شيء وقوله تعالى من بعد (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) فالمراد به أنه شرع لكل الانبياء أن يقيموا الدين فيما يتصل بالاعتقاد والتوحيد لان ذلك مما لا يقع بينهم فيه خلاف فأما الشرائع المختلفة فلكل منهم دين وما هو دين أحدهم بمنزلة ما هو دين غيره لأنه دين لهم مضاف اليهم ولذلك قال بعده (وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) فنبه بذلك على ما ذكرنا وقوله (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) المراد به ويهدي الى رضوانه وثوابه من ينيب فلا تعلق للمخالفين بذلك وقوله تعالى (وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) ربما سألوا فيه وقالوا كيف يؤدي علمهم الى التفرق؟ وجوابنا انه تعالى أراد بالعلم البيان وأنهم تفرقوا بعد البيان وبعد قيام الحجة ويحتمل ان يكون المراد تفرقوا بعد العلم على وجه البغي كما ذكره تعالى والمراد المبطلون دون المحقّون.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَنا أَعْمالُنا ولَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ) كيف يصح أن لا يكون له عليهم حجة؟ وجوابنا ان المراد إنا قد بالغنا في إقامة الحجة حتى لم تبق باقية فلا حجة بيننا وبينكم وهذا على وجه التوبيخ وإلا فمعلوم من دين الرسول صلّى اللّه عليه وسلم أنه كان لا يعذر القوم بل له الحجة العظيمة عليهم ولذلك قال بعده (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وقال تعالى بعده فيمن يحاج في اللّه من المبطلين (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ولا يجوز ذلك الا وحجة المحقين ثابتة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ والْمِيزانَ) كيف يصح القول بأنه أنزل الميزان وهو أمر يتولى فعله الناس؟ وجوابنا ان المراد أنه انزل الكتاب بالحق وانزل التمسك بالميزان في باب المعاملات وقد قيل انه في الابتداء أنزله اللّه تعالى وعرفهم كيف يتعاملون
وقد قيل ان المراد بالميزان العدل نفسه وقوله تعالى من بعد (وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أحد ما يرغب في التوبة ويخوف من تركها وذلك لطف عظيم للمكلفين.
[مسألة]
وربما قيل كيف يصح قوله (وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ومعلوم ان فيمن يريد حرث الدنيا من له نصيب في الآخرة. وجوابنا ان المراد من كانت إرادته مقصورة على حرث الدنيا لأن من هذا سبيله لا نصيب له في الآخرة وبين تعالى أنه لا يبخل عليه بما أراده من أمر الدنيا وان كانت هذه حاله وقوله من بعد (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أحد ما يدل على أن من لم يتب من الظلمة سيعاقب لا محالة. ثمّ ذكر تعالى من بعد رحمته فقال (وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ويَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) وقوله تعالى من بعد (وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) يدل على انه لا يفعل إلا ما يبعث على الطاعة والعبادة فلذلك قال (وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) وقوله تعالى من بعد (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) فالمراد به الجزاء على السيئة وذلك مجاز مشهور في اللغة ولذلك قال تعالى بعده (فَمَنْ عَفا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) والمراد بذلك من عفا عن السيئة ولم يقابل بمثلها ولا كافأ عليها ولذلك قال بعده (وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) فبيّن أنه إذا انتصر وقد ظلم فلا سبيل عليه ولو كان ما فعله سيئة لما صح ذلك ولذلك قال بعده (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ويَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) وبعث تعالى على الصبر فقال (وَ لَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وقوله تعالى (وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) المراد من يضلله بالعقوبة وبالصرف عن الثواب فلا ولي له
لأنه لا ناصر له وهذه حاله ولذلك قال بعده (وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) فيتمنّون الرجعة لكي يؤمنوا وعند ذلك بين اللّه عز وجل أن المؤمنين يقولون (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) اذا عاينوا ما أنزل بهؤلاء الظالمين ولذلك قال بعده (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ وما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقوله تعالى من بعد (وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) أحد ما يذكر في ان الرؤية على اللّه تعالى لا تجوز وإلا فقد كان أصح انه يكلم البشر على غير هذه الوجوه وربما قالوا في ذلك ما معنى قوله (إِلَّا وَحْياً) وهل معناه غير ما ذكر في قوله (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) وما معنى (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) والحجاب على اللّه تعالى لا يجوز. وجوابنا عن الاول أن المراد على وجه الخاطر والالهام وقد يوصف ذلك بأنه وحي من اللّه. وعن الثاني بأن الحجاب في نفس الكلام يصح وان كان على اللّه تعالى لا يصح وقوله تعالى من بعد (وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ ولَا الْإِيمانُ) أحد ما يدل على انه من قبل النبوة لم يكن مكلفا بشريعة ابراهيم ولا غيره ولا كان يعرف الايمان وقوله تعالى من بعد (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) المراد به من يكلفهم دون غيرهم فلا يدل على انه تعالى هدى بعض المكلفين دون بعض ولذلك قال بعده (وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومعلوم أنه هدى كل المكلفين.
سورة الزخرف
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) كيف يصح في القرآن ذلك وانما أنزله على الرسول صلّى اللّه عليه وسلم؟ وجوابنا ان المراد انه كتبه في اللوح المحفوظ على الوجه الذي تعرفه الملائكة ثمّ حصل الانزال الى السماء الدنيا في ليلة مباركة كما ذكره تعالى ثمّ حصل الانزال حالا بعد حال بحسب الحاجة إلى الاحكام والقصص وفي كل ذلك مصلحة فاما في الأول فالملائكة يعرفون به ما يدعوهم الى طاعته ويعرفون به أنه من عالم الغيب لأنه تعالى ذكر عند إثبات القرآن في اللوح المحفوظ ما سيكون من حاله وحال الرسول صلّى اللّه عليه وسلم من المصالح المعروفة فلا تناقض في ذلك وقوله تعالى من قبل (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أحد ما يدل على حدوثه من وجوه وقد بينها من قبل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كيف يصح ذلك وفي الانبياء من قبلوا منه وعظموه؟ وجوابنا ان المراد بذلك من دخل تحت قوله (وَ كَمْ أَرْسَلْنا) وذلك لا يعم جميع المرسلين ولذلك قال بعده (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً ومَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ والْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا
عَلى ظُهُورِهِ) كيف يصح بعد ذكر الانعام ان يقول على ظهوره ولا يقول على ظهورها؟ وجوابنا ان ذلك يرجع الى لفظة ما فقد يصح ان يفرد ما يرجع اليه كما يصح ان يجمع وهذا كما نقوله في لفظة من أنها تارة يجمع ما يرجع اليها وتارة يوحد وفي قوله (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) دلالة على ما يلزم العبد من الشكر عند كل نعمة دقت أو جلت ثمّ قبح تعالى ما قاله بعض العرب من أن الملائكة بنات اللّه تعالى وبيّن أن ضربهم المثل للّه تعالى بما يعدونه نقصا من عجائب كفرهم فقال (وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وهُوَ كَظِيمٌ) وبين بقوله (أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) ان كل قول لا علم معه بصحته يصير وبالا وقوله من بعد (وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) يدل على انه تعالى لا يشاء عبادة غيره ولو لا ذلك لما قال (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) وقبح التقليد بقوله (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) ثمّ قال (وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) وقال بعد ذلك (قالَ أَ ولَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) وهذا هو الذي يبطل التقليد ويعلم أن الواجب اتباع الهدى والدلالة وقوله تعالى من بعد (وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) أحد ما يدل على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا يدعو إليه لأنه إن كان هو الخالق له فلا فائدة في هذا وانما يكون له فائدة إذا كان الكلام مع المختار للكفر فعند هذا الضرب من النعم يختار ما لولاها كان لا يختاره ثمّ بين تعالى أن كل ذلك متاع الدنيا وأن الآخرة عند اللّه للمتقين والاتقاء معناه أن لا يتخذوا زخرفا في الدنيا من المعصية فيترك المعصية ويتقي النار وذلك لا يصح الا وهم المختارون لذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ
الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) كيف يصح ان يكون تعالى يمنع من اتباع الشيطان ويقيضه للعبد؟ وجوابنا أن المراد من يعش عن ذكر الرحمن في الدنيا نقيض له شيطانا في الآخرة فيصير قرينه كما ذكره اللّه تعالى في غير موضع ولو لا هذا التأويل لحملناه على معنى التخلية كما تأولنا عليه قوله تعالى (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) ولذلك قال بعد (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) ولذلك قال بعده (وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) وكل ذلك يبين صحة ما تأولنا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) ما فائدة هذا الكلام وكيف ينتفعون بالاشتراك في العقاب؟ وجوابنا أن المراد أن كل ممتحن في دار الدنيا إذا انفرد بالمحنة تكون محنته أثقل وأعظم وأغلظ منها إذا كان له شركاء فيها فبين اللّه تعالى أن هذا القدر من الروح والخفة لا يحصل في الآخرة لأهل العذاب إذا اشتركوا فيه وقوله تعالى من بعد (أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) أحد ما يدل على أنه تعالى يذكر مثل هذا الوصف فيمن يمتنع من الإصغاء والقبول على ما تأولناه من قبل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) كيف يصح أن يصفوه بأنه ساحر ويسألوه أن يدعو ربه وذلك متناقض؟ وجوابنا أن المراد أنهم قالوا بحسب اعتقادهم وقالوا إن لم تكن كذلك على ما نعتقده فادع لنا ربك وقد قيل إن هذه اللفظة تستعمل في اللغة فيمن يعتقد فيه التقدم في معرفة الأمور فعلى هذا الوجه قالوا ومعنى قوله تعالى (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أغضبونا فالأسف في الحقيقة لا يجوز إلا على من يجوز عليه الحزن والغم وقد قيل ان المراد آسفوا رسلنا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) كيف يصح أن يجعل من الناس ملائكة؟ وجوابنا أن المراد بقوله (مِنْكُمْ) ليس ما ذكرته بل المراد ان ينزل الملائكة بحيث يرون في جملتهم فيكونون منهم بين اللّه تعالى بذلك أن عيسى وأن فارق حاله في كونه لا من أب حالهم فليس ذلك ببعيد عند اللّه تعالى كما لا يبعد أن يجعل مع الناس ملائكة واللّه تعالى أنشأهم بلا ولادة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) ما المراد بذلك؟ وجوابنا أنه قد ظهر في الأخبار نزول عيسى عليه السلام عند الساعة وأن اللّه تعالى جعله دلالة للساعة فلذلك قال تعالى (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) لأن العلم والدلالة تمنعان من المرية وقوله تعالى من بعد (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) يدل على أنهم في الآخرة بخلاف ما هم في الدنيا ففي الدنيا يحبّ بعضهم بعضا وفي الآخرة يغلّظ اللّه قلب بعضهم على بعض ويكون ذلك زائدا في غمومهم وقوله تعالى من بعد (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ولا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) يدل على ان المتقين لا تلحقهم أهوال الآخرة وتعلق بعضهم في ان اللّه تعالى يرى لجهله بقوله تعالى (وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وزعم ان من أعظم لذات العين رؤية اللّه تعالى وهذا جهل عظيم لأن الواجب ان يثبت أولا أنه يرى ثمّ يقول ذلك كما لو قال قائل إنه داخل تحت قوله تعالى (وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) بالمعانقة والملامسة لكان إنما يبطل بأن يقال يجب ان تثبت أولا أنه جسم يصح ذلك عليه ثمّ تقول هذا القول وقوله تعالى من بعد (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) يدل على أن غير الكفار من المجرمين هذا وصفهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونَجْواهُمْ بَلى ورُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) كيف يصح
أن يكتبوا السر وهم لا يعلمونه؟ وجوابنا أنه تعالى يعرف الحفظة ما يفعله العبد بأمور من قبله فتكتبه إذا كان ذلك مما لا يشاهد فهذا الوجه وجه الكلام.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) كيف يصح أن يكون أوّل عابد لمن له ولد؟
وجوابنا ان المراد فأنا أول الآنفين من عبادة من هذا حاله وقد ذكر عن الفرزدق أنه قال:
واعبد أن يهجي كليب بدارم. وأراد به الآنفة ويحتمل أن يريد بذلك تبعيد أن يكون له ولد لأن عبادته له تمنع من ذلك وقوله تعالى (وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) يدل على أنه يجوز عليه المكان وأنه يدبر الاماكن ولو كان على العرش كما قالوا لم يصح ذلك.
سورة الدخان
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) كيف يصح ذلك وانما أنزله في المدة الطويلة حالا بعد حال؟
وجوابنا أنه أنزله الى السماء الدنيا في ليلة مباركة على ما تقدم ذكره ولذلك قال (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) لأنه تعالى أمر في تلك الليلة بأن الملائكة ينزلون القرآن حالا بعد حال بحسب الحاجة اليه والمصلحة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) ما المراد بذلك وكيف يرتقب ما لا يوجد في الدنيا؟
وجوابنا أنه يحتمل ان يريد فارتقب ذلك للكفار والعصاة على وجه الردع لهم ويحتمل أن يكون هذا الدخان أحد المعجزات كما روي عن ابن مسعود في انشقاق القمر وقوله تعالى من بعد (وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) المراد به امتحناهم وكلفناهم وليس المراد انا خلقنا الكفر فيهم كما يزعمه بعضهم ولذلك قال تعالى (وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) كيف يصح أن يخوف تعالى بشجرة الزقوم وهي لا تعرف؟ وجوابنا أنه اذا وصف حالها صح التخويف بها ولذلك قال تعالى (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) وقوله تعالى من بعد (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) المراد به ذق العذاب إنك أنت الموصوف بذلك في الدنيا ولذلك قال تعالى بعده (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) كيف يصح استثناء الموتة الاولى من حالهم في الجنة؟
وجوابنا أن المراد توكيد نفي الموت عنهم بذكر ما عرفوه من الموتة الاولى فالمراد سوى الموتة الاولى التي عرفوها.
سورة الجاثية
[مسألة]
إن اللّه جل وعز جمع بقوله تعالى (إِنَّ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وفِي خَلْقِكُمْ وما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بيّن كل الأدلة على اللّه تعالى لانها إما بالنظر في الاجسام فيعلم أنها محدثة من حيث لا تنفك عن المحدثات ويعلم ان فاعلها مخالف لها وإما بالنظر في أنفسنا بتجدد أحوالها على من برأها وإما بالنظر في سائر الدواب والحيوان فيعلم بتغير أحوالها المدبر لها ولا دليل على اللّه تعالى إلا وقد دخل تحت ما ذكرناه ولكنه تعالى أراد ذلك أيضا بذكر اختلاف الليل والنهار وما أنزل اللّه من السماء من رزق وتصريف الرياح ثمّ قال في آخره (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) فبيّن أن العدول عنها الى سائر الاحاديث ترك لما يجب من النظر ثمّ قال تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) وتوعد على ترك هذه الطريقة فقال تعالى (يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وكل ذلك بعث من اللّه تعالى على النظر والتذكر في هذه الأدلة وفي هذه النعم ليقوم بشكرها ثمّ قال من بعد محققا لما ذكرنا (هذا هُدىً والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) فأشار الى ما تقدم من الأدلة وبيّن أنها هدى ولو لا أنها هدى للكافرين لما توعدهم بالعذاب إذا عدلوا عنها ثمّ اتبعه بقوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) نبّه تنزيه القرآن (25)
بذلك على أن الغفران يكون من قبلهم إذا تمسكوا من طاعة اللّه بما يوجب الغفران ثمّ قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ومَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) فنبه بذلك على ان أمر الآخرة موقوف على هذين فمن عمل صالحا فله الجنة ومن أساء فهو من أهل النار.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) كيف يصح أن ينهاه عما تمنع النبوّة منه. وجوابنا ان النبوة لا تمنع من القدرة على ذلك والتمكن منه وإنما لا يختاره فالنهي عن ذلك يصح ويكون أحد ما يدعو النبي إلى ترك ذلك وقوله تعالى من بعد (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً) يدل على ان الوعيد لاحق بهم وانهم من أهل العذاب لانهم لو صاروا من أهل الجنة لكان تعالى قد سوى بينهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) كيف يصح اتخاذ الهوى إلها؟ وجوابنا أنه يطيع الهوى ويعدل عن طريقة العقل وذلك تشبيه يحسن في اللغة ومعنى قوله تعالى (وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ) أنه أضله عن الثواب الى العقاب ومعنى قوله تعالى (وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) ما قدمناه من العلامة التي يفعلها اللّه تعالى وقد تقدم القول في ذلك وقوله من بعد (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من أقوى الصوارف عن المعاصي فانها اذا تفرقت على الاوقات ثمّ جمعت في الصحيفة عظمت على من عرضت عليه وقوله تعالى من بعد (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) يدل على أن الأعراض عن الآيات من أعظم الذنوب وكذلك الاغترار بالدنيا.
سورة الاحقاف
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ) كيف يصح ان يقول صلّى اللّه عليه وسلم ذلك وهو كلام شاك في أمره وأمرهم؟ وجوابنا أن المراد ما أدري ما يفعل بي ولا بكم فيما يوحى إليّ فبيّن أن الوحي يأتي في المستقبل بما لا يعلمه في الوقت وقال تعالى بعده (وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) فبيّن انه بعد نزول الوحي ينذر ويحذر وقوله تعالى من بعد (وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) يعني القرآن يدل على حدوثه لان ما تقدمه غيره لا يكون الا محدثا وكذلك قوله تعالى (وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا) يدل على ذلك وقوله تعالى من بعد (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ) يدل على أن من هذا حاله لا تؤثر فيه أهوال الآخرة وقوله تعالى (وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) يعني من جزاء ما عملوا لانهم يتفاضلون في ذلك وكذلك قوله (وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي جزاء أعمالهم وقوله في الكفار (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا واسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) يدل على أنهم استحقوا العذاب لاستكبارهم وفسقهم على ما نقوله في ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً
مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) أ ليس ذلك يدل على أنه خلق حضورهم؟
وجوابنا ان قول القائل صرفت الى فلانا فلانا يريد انه فعل ما عنده حضر من الأسباب وليس المراد أنه فعل نفس حضوره ولذلك قال تعالى (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) فأضاف الحضور إليهم وفي الآية دلالة على أن في الجن من آمن بالرسول وعلى أنهم مكلفون وفيهم مؤمن وكافر وعلى أنهم من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وأنه صلّى اللّه عليه وسلم دعاهم كما دعا الانس فلذلك قالوا في وصف القرآن (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أن ذلك يدل على أن في الرسل من هو أولي العزم وفيهم من ليس كذلك وأنتم تنكرون هذا القول. وجوابنا أن مثل ذلك قد يذكر ويراد به الكل فالمراد بقوله (مِنَ الرُّسُلِ) تمييز أولي العزم من غيرهم دون التبعيض فلا يدل على ما ذكروه.
سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلم
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) ومعلوم انهم في بعض حروبهم نصروا اللّه بأن جاهدوا ومع ذلك فلم ينصرهم ولم يثبّت أقدامهم؟ وجوابنا أنه لم يرد بقوله إن تنصروا اللّه بالاستقامة على الطاعة ينصركم في الدنيا إذ يحتمل انه يريد ان ينصركم في الآخرة ويثبت أقدامكم على الثواب لان ذلك نصرة لهم فيجري مجرى قوله (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) فكأنه قال إن تنصروا اللّه يجازيكم على النصرة ويحتمل أنه يريد أن الغلبة لكم على كل حال وإن غلبتم في الظاهر لأن المغلوب إذا كان مستحقا للثواب فهو المنصور والغالب اذا كان من أهل العقاب فهو مخذول غير منصور فان قيل فقد قال تعالى بعده (وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) وكيف يصح ذلك مع الوعد لهم بالنصرة؟ وجوابنا أن المراد لانتصر منهم بالاهلاك لكنه تعالى يمهلهم وربما قالوا في قوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) كيف يجوز أن ينفى كونه مولى الكافرين وهو مولاهم وخالقهم ورازقهم؟ وجوابنا أن المراد بأنه مولى المؤمنين أنه المتولي لحفظهم ونصرتهم في باب الدين وذلك منفي عن الكافرين.
[مسألة]
وربما قالوا إن قوله (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ) الى قوله (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) كيف يصح اتصال هذا الكلام بما تقدمه وانما يحسن ذلك إذا قيل أ فمن هو في الجنة كمن هو
في النار؟ وجوابنا ان معناه أ فمن كان في الجنة التي مثلها هذا المثل ووصفها هذا الوصف كمن هو في النار وفي الكلام حذف لما فيه الدلالة على ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) كيف يصح أن يقول ذلك لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم وعلمه به متقدم مستقر؟ وجوابنا أن المراد الثبات على هذا العلم في المستقبل فان قيل فكيف قال (وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وهو مغفور له. وجوابنا أن يجتهد في التوبة من ذنبه لعظم منزلته لأن حال الانبياء فيما يقدمون عليه أعظم من حال غيرهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وأَمْلى لَهُمْ) كيف يصح أن يملي لهم والاملاء هو الابقاء ولا يصح أن يكون إبقاؤهم من قبله بل هو من قبله تعالى؟ وجوابنا أن (سَوَّلَ لَهُمْ) المراد به زين لهم المعاصي والمراد بقوله (أُمْلِي لَهُمْ) أنه غرّهم بأن بسط لهم في الآمال وغلب في قلبهم أنهم يبقون فيتلافون وفي السورة أدلة على مذهبنا منها قوله تعالى (وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بالَهُمْ) فان ذلك يدل على ان الهدى قد يكون إلى الثواب لأنه بعد القتل لا يصح سواه وهو معنى قوله (وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي طيبها لهم وقوله (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) يدل على ان الضلال قد يكون الا هلاك ولذلك قال (وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) ومنها قوله (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) فانه يدل على أن الالطاف والأدلة والخواطر التي ترد على المؤمن توصف بأنها هدى وأن للمؤمنين من الحظ في ذلك ما ليس لغيرهم ومنها قوله تعالى (أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) فانه يدل على وجوب النظر وعلى ان التدبر فعلهم فأما قوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ) فالمراد بالمرض ليس هو الكفر بل هو ما لحقهم بظهور أمر
الرسول صلّى اللّه عليه وسلم من الغموم؟ ومنها قوله (وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فذلك يدل على ان المكلف قد يبطل ثواب ما تقدم من عمله بالكبائر والكفر لأن ابطال نفس العمل لا يصح فالمراد به جزاء العمل فأما قوله (وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) فالمراد به حتى يقع الجهاد وقد ذكر العلم وأراد المعلوم لأن علم اللّه تعالى لا يتجدد. تعالى عن ذلك.
سورة الفتح
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ) كيف يصح أن يستثنى في خبر بشر الرسول به وما فائدة ذلك؟ وجوابنا انه كان مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلم من المعلوم أنه يموت فلا يقع منه الدخول فلذلك استثنى وقد قيل ان الاستثناء متعلق بالامن فكأنه قال لتدخلن المسجد الحرام وأنتم آمنون إن شاء اللّه لأن الأمن في داخل المسجد الحرام قد يتغير وقد قيل الفائدة أنه علّمنا كيف نخبر عن الأمور وأن نستثني في ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله من قبل (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ) كيف يجوز فيما لم يقع من الذنب المتأخر أن يغفره؟ وجوابنا ان المراد ما تقدم من ذنبك قبل النبوة وما تأخر عنها وكلاهما مما يقع فيصح فيه الغفران فان قيل فما تعلق الغفران بالفتح حتى يقول تعالى فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك اللّه؟ وجوابنا انه لا يمتنع في الفتح ان يكون سببا في طاعات عظيمة مستقبلة تؤثر في غفران الذنب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ما الفائدة في هذا الكلام؟
وجوابنا ان المراد انه أقوى منهم وأقدر وفي ذلك زجر لهم عن نكث البيعة فأما من يزعم أن للّه تعالى يدا تبعا لهذا الظاهر فقد أبعد لأنه يلزمه إثبات يد
فوق أيدي الناس وفوق لا يستعمل الا على وجه لم يجوزه أحد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) ان ذلك توجب أنه لا حرج عليه في شيء. وجوابنا أنه لا حرج عليه ولا على المريض والأعرج في بعض العبادات كالجهاد وغيره وهذا معقول من الكلام.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) أ ليس ذلك يدل على أنه تعالى خلق فيهم ذلك الكف؟ وجوابنا أنه لا يقال إن فلانا كفّ فلانا عن كيت وكيت إلا بأن يبعثه على الكف ويسبب له ذلك فهذا هو المراد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) ما المراد بهذه الرؤيا؟ وجوابنا انه صلّى اللّه عليه وسلم رأى كأن قائلا يقول له (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) فحكاها اللّه تعالى كما رآها فهذا معنى الكلام نبه بذلك على أن في الرؤيا ما يصدق وما يكون خاطرا من قبل اللّه تعالى.
سورة الحجرات
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) كيف يصح أن تنسب إلى أحدنا محبة ذلك مع كونه كارها وكيف يجوز تشبيه ذلك بأكل لحم أخيه ميتا؟ وجوابنا ان قوله تعالى (أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ) نفي للمحبة لا إثبات لها فكأنه قال كما لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكذلك حال الغيبة يجب أن يكرهها ككراهة أكل لحم الميت فأما هذا التشبيه فمن أحسن ما يضرب به المثل وذلك لان المرء نافر النفس عن أكل لحم أخيه الميت لقبحه فبين اللّه تعالى أن غيبته تجري في القبح وفي أنه يجب ان ينفر عنها هذا المجرى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أ فليس قد ميّز بين الايمان والاسلام؟ وجوابنا ان الاسلام في اللغة هو الاستسلام والانقياد وذلك ليس باسلام في الدين على الحقيقة ولذلك قال (وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ومن يكون مسلما في الحقيقة فقد دخل الايمان قلبه ولذلك قال بعده (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) فبيّن تعالى أنّ الاعراب لم يكونوا كذلك بل كذبوا في قولهم آمنا وفي السورة أدلة على ما نقول منها قوله (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ)
فبين به أن رفع الصوت بحضور الرسول يحبط سائر طاعتهم حتى يصيروا كأنهم لم يفعلوها ومنها قوله (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) فدل بذلك على ان الفعل لا يحسن إلا مع المعرفة دون أن يتبع في ذلك الفعل قول قائل مع الشك ومنها قوله (وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ والْفُسُوقَ والْعِصْيانَ) فدل بذلك على أن في الفسوق ما ليس بكفر وفي العصيان ما ليس بفسق ولو لا ذلك لم نميز بين الثلاثة ومنها ما نجعله أصلا في النهي عن المنكر وهو قوله (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) فأمر بالاصلاح أوّلا ثمّ قال (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ) فأمر بالقتال ثانيا ونبه بالطرفين الذين هما الاصلاح والقتال على ما بينهما من الوسائط فان قيل فقد سمى الطائفتين مؤمنين وعندكم أنهما إذا اقتتلا لم يصح ذلك فيهما؟ فجوابنا أنه أثبتهما مؤمنين قبل البغي والقتال لان قوله (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) معناه اختاروا المقاتلة في المستقبل ومنها قوله (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) فدل بذلك على أن الفسق يخرج فاعله من أن يكون مؤمنا ومنها قوله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) لأن ذلك يدل على أن الايمان من نعمة اللّه تعالى من حيث ألطف لنا وسهل سبيلنا إلى فعله.
سورة ق
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ق والْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أن قوله (وَ الْقُرْآنِ) قسم فكيف يصح أن يقسم بالقرآن وليس هناك شيء مقسم عليه؟ وجوابنا أن المقسم عليه قوله (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وعِنْدَنا) وما بعده فأكد هذا الخبر بالقسم على عادة العرب ونبه بذلك على ما يكون ردعا عن المعاصي من حيث لا يعرفون طريق الاحتراز ومن حيث يعلم ما يأتون ويذرون وحكي عن الحسن أن المراد تأخير القسم فكأنه قال (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) والقرآن يؤكد بذلك ما تعجبوا منه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ) كيف ثنّى ذلك والامر هو لواحد؟ وجوابنا أن في النار خزنة ولهم عدد فلا يمتنع أن يكون خطابا للاثنين وأن يكون كما جعل على المكلف في الدنيا رقيبين فكذلك في الآخرة يوكل به ملكين من الخزنة وقد قيل إن الواحد قد يعبر عنه بالتثنية ويكون ذلك كالتوكيد كأنه قال ألق ألق كما يؤكد المرء أمر غيره بأن يقول اضرب اضرب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) كيف يقول ذلك وقد أطغاه والكذب في الآخرة لا يقع؟ وجوابنا أن المراد
ما أكرهته على الطغيان ولا ألجأته إليه لكنه اختار ذلك كقوله تعالى (أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) كيف يصح مخاطبتها وهي جماد؟
وجوابنا في ذلك ان المراد نقول لخزنة جهنم وهذا كقوله وأسأل القرية ويحتمل أن يكون المراد استجابة جهنم لما يريده اللّه من حصول أهلها فيها كقوله تعالى (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) واللّه تعالى قد أخبرنا فقال (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فبيّن انه سينتهي الحال إلى أن يملأها بعد المحاسبة.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) وكل المكلفين لهم قلب؟ وجوابنا أن المراد لمن كان مستعملا قلبه في التفكر والتدبر فان فيهم من ليس هذا سبيله.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ما معنى ذلك؟ وجوابنا أن المراد المعرفة وأنها قوية في الآخرة فالشبهة زائلة فشبهت في القوة بالحديد لأن معرفتهم في الآخرة ضرورية وإلا فالقوم ينظرون من طرف خفي وفي السورة أدلة على ما نقول منها قوله تعالى (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) ولو كان الكافر ممن لم يعط قدرة الايمان وخلق الكفر فيه لكانت الحجة له فكان لا يجوز أن يقال له ذلك ومنها قوله (وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) لان ذلك يدل على أن ما توعد اللّه به لا يتخلف ومنها قوله تعالى (وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لأنه يدل على أنهم قد فعلوا ما استوجبوا به العقاب ولو لا ذلك لكان كل العقاب من باب الظلم والعبث من حيث خلق فيهم ما عاقبهم لاجله ومن حيث خلقهم للكفر ومن حيث خلقهم للنار فلو ابتدأهم بها لكان أقرب من
أن يستدرجهم إليها ومنها قوله تعالى (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) فذلك انما يصح اذا كانت الخشية تصرفه عن الفعل ولو كان مخلوقا فيه لما صح ذلك وقوله تعالى (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ولَدَيْنا مَزِيدٌ) يدل على انه تعالى يضم الى ثوابهم التفضل ولا نمنع من أن يكون ذلك عند شفاعة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فليس لمن خالفنا في الشفاعة أن يتعلق بذلك وقوله في آخر السورة (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) يحقق ما نقوله في الوعيد وبين أن ذلك يصرف عن المعاصي فلذلك أمر اللّه جل وعز نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يذكرهم به ولو كان ذلك خلقا فيهم من جهة اللّه تعالى لما صح ذلك.
سورة الذاريات
[مسألة]
وربما قالوا كيف أقسم بالذاريات التي هي الرياح وبغيرها؟
وجوابنا أنه تعالى قد بيّن مراده بقوله تعالى (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) وبقوله تعالى (فَوَ رَبِّ السَّماءِ والْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) وبين الرسول حيث قال من كان حالفا فليحلف باللّه فيجب إذا أن يكون المراد بكل ذلك ورب الذاريات ورب الطور ورب القرآن وهذا أحد ما يدل على ان القرآن من جملة أفعاله وأن اللّه تعالى ربه ومعنى رب الذاريات أنه المالك ولا يجوز ان يملك إلا ما يفعله ويقدر عليه فجميع ما أقسم اللّه تعالى به في أوائل السور يجب أن يحمل على هذا الوجه لكن مع ذلك فيه فائدة وهي تعريف العباد إنعامه بما ذكر كقوله تعالى (وَ الْفَجْرِ) وكقوله (وَ الضُّحى) وكقوله تعالى (وَ التِّينِ والزَّيْتُونِ) الى غير ذلك.
[مسألة]
وربما قيل لما ذا قال تعالى (وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وما تُوعَدُونَ) ومعلوم من رزقنا أنه في الارض. وجوابنا أن المراد ما هو الاصل لأرزاقنا وهو الماء النازل من السماء ولولاه لما حصل ما نأكل ونشرب ونلبس الى غير ذلك وقوله تعالى (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يدل على ان الايمان تنزيه القرآن (26)
والاسلام واحد والا كان لا يكون لمن نفى من المسلمين تعلق بمن أخرج من المؤمنين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) أ ليس ذلك يدل على جواز الجوارح على اللّه تعالى؟ وجوابنا ان المراد به القوّة والقدرة ولو لا ذلك لوجب إثبات أيدي كثيرة له تعالى عن ذلك.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) وفي الاشياء ما لا زوج له كالجمادات وغيرها. وجوابنا أنه لا شيء الا وقد خلق اللّه تعالى ما يخالفه بعض المخالفة ليدل بذلك على قدرته ولتتكامل به نعمته وهذا كالذّكر والأنثى وكما نعلمه في الثمار والفواكه وكالليل والنهار وكالحجر الصلب والرخو من الاشياء وذلك تنبيه من اللّه تعالى على عظم قدرته وانعامه فلذلك قال تعالى (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فأما قوله تعالى (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) فلا يدل على أنه تعالى في مكان بل المراد الفرار إلى طاعته وعبادته والتخلص من عقابه فلذلك قال تعالى (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) فأما قوله جل وعز (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فدلالة على أنه تعالى أراد من جميعهم عبادته وأنه خلقهم لذلك لا كما يقوله المخالف من أنه أراد من المؤمنين الايمان ومن الكافرين الكفر وأنه خلق بعضهم للنار وبعضهم للجنة وقد بينا أن قوله تعالى (وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ والْإِنْسِ) لا يعارض ذلك لان المراد ذرأناهم للعبادة لكن مصيرهم الى جهنم من حيث لم يختاروها فهذه اللام لام العاقبة كقوله عز وجل (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وحَزَناً) وقوله من بعد (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) فالمراد به وصفه بالاقتدار على الامور لا أن المراد اثبات قوة له تعالى اللّه عن الحاجة علوّا كبيرا ولو كان المراد ظاهره لوجب مع قوته أن يوصف بالمتانة التي هي الصلابة وذلك من صفات الاجسام.
سورة الطور
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أن ذلك يدل على ان للّه علينا كما يقوله بعض المشبهة. وجوابنا أنه إن دل على ذلك دل على عيون وليس أقله بأن يدل أولى من أكثره وليس ذلك قولا لأحد فالمراد به أنك بمرأى منا ومسمع وإنا نعلم تعيين أحوالك وذكرها تعالى ليبعثه على التشدد في الابلاغ والصبر على كل عارض دونه.
[مسألة]
وربما تعلق بعض المجبرة بقوله تعالى (وَ الَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وزعموا أن ذلك يدل على أن الايمان من فعل اللّه. وجوابنا ان المراد من يبلغ من الذرية ويؤمن فبين تعالى أنه لأجل مشاركتهم لهم في الايمان ألحقهم بهم وبين ذلك قوله (وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) والعامل لا يكون الا مكلفا وقوله تعالى من بعد (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) يدل على أن احدا لا يؤخذ بكسب غيره فيبطل قول من خالفنا وزعم أن أطفال المشركين يؤخذون بذنب آبائهم.
سورة النجم
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) أن ذلك يدل على انه صلّى اللّه عليه وسلم رأى ربه مرة بعد أخرى. وجوابنا أن المراد بذلك جبرائيل عليه السلام لأنه المذكور من قبل بقوله تعالى (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) ثمّ قال بعد ذلك (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) فأثبته رائيا له ثمّ قال (وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) فأثبته رائيا له ثانيا وأراد رؤيته له على صورته التي هو عليها فقد كان ينزل على غير صورته في سائر الحالات وبين ما قلناه قوله تعالى (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) وذلك لا يليق إلا بجبرائيل عليه السلام وقوله تعالى من بعد (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ والْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) يدل على أنه يغفر إلمام الانسان بصغائر المعاصي إذا اجتنبت الكبائر وقوله تعالى (وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) فيه دلالة على أن أحدا لا يؤخذ بذنب غيره.
[مسألة]
وربما قالوا ان قوله تعالى (وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأَبْكى) يدل على أن أفعالنا مخلوقة للّه تعالى. وجوابنا أن ذلك إن دل فانما يدل على أنه فعل الضحك والبكاء ولا عموم فيهما فان فعلهما تعالى باثنين ثمّ الظاهر فمن أين أن كل ضحك وبكاء من فعل اللّه تعالى. فان قيل فما قولكم في الضحك أ هو من فعل العبد أو من فعل اللّه وقد يتعذر على المرء ترك الضحك فكيف يكون من
فعله. وجوابنا أن الضحك هو التفتح المخصوص الذي يظهر في الوجه وذلك يكون من فعل العبد ولا حال يضحك فيها الا ويجوز أن يتركه لأنه لو خوّف من الضحك لتركه فأما الابكاء فهو من فعله تعالى لأنه إنزال ما يدفع صفة الوجه فحقيقته أنه تعالى تعالى هو الذي يبكي العبد وإن كان العبد قد يتسبب في ذلك وقد قيل ان المراد بقوله (أَضْحَكَ) انه أنعم على اهل الثواب بالجنة والثواب (وَ أَبْكى) انه عاقب اهل النار واستدلوا على ذلك بقوله تعالى (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى وأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأَبْكى) وذلك لا يليق الا بأمر الآخرة فشبه ما ينالهم من النعيم والسرور بالضحك وما ينالهم من العقاب بالبكاء.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) كيف يصح ذلك ونحن نعلم ما لا يخلق من النطفة من الذكر والانثى؟ وجوابنا ان جميع ما فعله من الذكر والأنثى أصل الخلقة فيه النطفة وإن كانت ربما تكون بواسطة وربما لا تكون وما يوجد على غير هذا الوجه لا نعلم فيه الذكر من الانثى وقوله عز وجل (وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) يدل على وجوب الاعادة لاجل الاثابة لان في قوله (وَ أَنَّ عَلَيْهِ) دلالة الوجوب. وقوله تعالى (وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) ظاهره أن بعد عاد عادا ثانيا فيكون هو الاول وقد روى ذلك في الاخبار. ومن قال أنه واحد تأول على ما قاله الحسن لانه قال هم الاول لنا من حيث كانوا قبلنا ونحن كالآخر لهم.
سورة القمر
[مسألة]
وربما قيل كيف يصح قوله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانْشَقَّ الْقَمَرُ) ولو كان قد انشق القمر على الحقيقة لنقل ذلك نقلا ظاهرا؟ وجوابنا ان في العلماء من يقول المراد به وانشق القمر في الساعة لأنه عند السابق ينشق القمر إلى غير ذلك من الشرائط لكن الصحيح ما قاله مشايخنا من أنه في أيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم انشق القمر وهو ظاهر القرآن فإذا كان قد انشق بالمدينة أو بمكة وفي سائر الأماكن غيوم تحجب عن رؤية ذلك وكان اهل ذلك البلد في غفلة عنه إلا طبقة مخصوصة فليس من الواجب نقل ذلك بالتواتر بل يجوز ان ينقله الآحاد وقد نقل ابن مسعود وغيره هذا كما نقل رد الشمس في ايام الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فلم يجب في نقله الظهور لأن ذلك ظهر آخر النهار لقوم مخصوصين. وقوله (وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) على وجه الذم يدل على ان ذلك قد كان. وقوله من بعد (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) الجواب فيه ما قدمنا من قبل. وما كرره اللّه من قوله (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يدل على انه تعالى يكرر هذه الامور لكي يعتبر الناس بها وأنه تعالى أراد من جميعهم الادّكار لا تركه على ما يقوله من خالفنا وقوله تعالى من بعد (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) لا يدل على ما يقوله مخالفنا وذلك لأنه تعالى قال (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ
بِقَدَرٍ) يعني في الآخرة في معاقبة اهل النار لانه تعالى يعاقب كل أحد بقدر استحقاقه ولذلك قال بعده (وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) وذلك لا يليق إلا بالآخرة التي لا يقع فيها من احد مخالفة للّه تعالى. وقوله (وَ كُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) يدل على ان كل ذلك يكتبه الحفظة ثمّ يقع التمييز عند المحاسبة ويحتمل ان يريد ان ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ كما كتب تعالى الآجال والأرزاق.
سورة الرحمن
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أن ذلك يدل على أن علمه بالقرآن والبيان من فعل اللّه تعالى وذلك ممّا لا نخالف فيه وانما القول في العلم باللّه وتوحيده وعدله وأنه اكتساب من العبد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ وَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) ان ذلك تكرارا لا معنى له. وجوابنا ان وضع الميزان المراد به ما تستقيم به المعاملات من الموازين وقوله تعالى (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) المراد به كيفية استعماله في المعاملات فأحد الأمرين مخالف للآخر.
[مسألة]
وربما قيل إنه تعالى ذكر في أول السورة أنّه (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فكيف قال من بعد (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). وجوابنا انه بعد ذلك ذكر مع الانس الجن فقال (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) ثمّ عطف على ذلك بقوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) لأنه كلف تعالى في الأرض الانس والجن وإنما كرّر تعالى في هذه الآيات الكثيرة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) لأنه ذكر نعمة بعد
نعمة فاتبعه ذلك وهذا مما يحسن مما يذكر نعمه وأياديه فان قال ففي جملة الآيات ما ليس فيه نعمة كقوله (يَطُوفُونَ بَيْنَها وبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) الى غير ذلك. وجوابنا ان ذلك من النعم اذا تدبره المرء وخاف منه فصار زاجرا له عن المعاصي.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجانُ) كيف يصح ذلك وإنما يخرج من أحد البحرين؟ وجوابنا أنه إذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما والمراد من هذا المجموع وقد قيل إنه لا يخرج من البحر الذي ليس بعذب إلا إذا مازجه الماء العذب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ ولا جَانٌّ) كيف يصح ذلك مع أنه تعالى قد ذكر أنه يسألهم أجمعين في غير آية؟ وجوابنا ان المراد انهم لا يسألون على وجه التعرف لان ذلك مكتوب معلوم وان كانوا قد يسألون على غير ذلك وقد تقدم كلامنا في مثل هذه الآية.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) كيف يصح ذلك ولا يجوز على اللّه تعالى الشغل والفراغ؟ وجوابنا ان ذلك مما يستعمل في الوعيد لأنه اقوى في الزجر والتهديد فالقائل يقول لمن يخوفه سأفرغ لك إن خالفت فلاجل هذه المبالغة ذكره تعالى وإلّا فالفراغ لا يصح الا على من يشغله فعل عن فعل من حيث يفعل ولا يصح أن يضيف إلى السكون حركة ولا إلى القيام قعودا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) كيف يصح وصف البطائن التي هي دون الظهائر التي هي الارفع؟ وجوابنا انه بذكر البطائن قد دلّ على الظهائر فإن كانت الظهائر ارفع
فقد دلّ بذلك انها ارفع من الإستبرق وقوله تعالى (وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) لا يدل على جواز المكان على اللّه تعالى لأنه تعالى خوّف بذلك والتخويف لا يكون بالمكان فالمراد ولمن خاف مقامه للمسائلة والمحاسبة فأضاف المقام إليه وإن كان مقاما للعبد لأنه معد من قبله لمقام العبد ولوقوفه فيه وقوله تعالى (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) احد ما يدل على قولنا لأنه عز وجل بيّن ان من أحسن جازاه اللّه تعالى بالاحسان وعلى قولهم قد يؤمن ثمّ يخلق اللّه تعالى الكفر فيه فلا يصح ذلك على مذهبهم.
سورة الواقعة
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ والسَّابِقُونَ) كيف زاد السابقين على اصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة وفي سائر القرآن لم يذكر سواهما؟ وجوابنا انه تعالى اراد ان يبيّن أن في العباد من له تقدم في عظم الثواب كالأنبياء وغيرهم فخصهم بالذكر وإن كانوا من أصحاب اليمين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) كيف يصح في الآخرة ذبح الطيور وأكل لحمها وعندكم ان الآخرة ليست بدار تكليف للمرء؟ وجوابنا ان المراد بهذه الأطعمة انها على هيئة لحم الطير وصورته لا أنّ هناك طيورا تذبح.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) كيف يصح التوعد بما لا يعرف من جملة الأشجار؟ وجوابنا ان لفظة الزّقّوم معروفة بأنها تستعمل في الكريه من الأشياء. فجاز ان يتوعّد اللّه تعالى بذكرها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) أ ليس ذلك يدل على ان فعل العباد
مخلوق للّه تعالى؟ وجوابنا ان إنزال النطفة ليس من فعل العبد عندنا ولذلك يختلف الحال فيه فمن النّاس من يمني أسرع ممّا يمني غيره كثر أو نقص وإذا كان ذلك من فعل اللّه وكذلك استقراره في الرحم فلا سؤال علينا في ذلك.
فإن قيل فما قولكم في قوله (أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أ ليس ذلك يدل على أنّ الزّرع من فعل اللّه تعالى؟
وجوابنا أن الزرع اسم للنبات الظاهر وذلك من خلقه تعالى وإنما يفعل العبد مقدمته وبين ذلك أنه اضاف الحرث إليهم ثمّ أضاف الزرع إلى نفسه وبين ذلك انه عدّه في نعمه وطرح البذر ليس بنعمة وإنما النعمة النبات فأما قوله تعالى (وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ولكِنْ لا تُبْصِرُونَ) فلا دليل للمشبهة فيه لأن الكلام فيمن حضره الموت فالمراد إذا إحاطة علمه بذلك فأما قوله تعالى (وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) فقد يقال فيه إن الكذب لا يجور عندكم في الآخرة فما معنى ذلك؟ فجوابنا ان المراد وصفهم بذلك في الدنيا فإن قيل فما تعلق بالكذب بالرزق. فجوابنا انهم كانوا يكذبون على المطر والغيم ويقولون إنا سقينا بنوء كذا فأنكر اللّه ذلك عليهم فأما قوله تعالى من بعد (وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ولكِنْ لا تُبْصِرُونَ) فالمراد به الملائكة الموكّلة بقبض الأرواح وهو كقوله (وَ جاءَ رَبُّكَ) والمراد ملائكة ربك.
سورة الحديد
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ) كيف يصح هذا الوصف للّه تعالى مع تضاده؟ وجوابنا ان المراد هو الاول لأنه لا موجود إلا موجود بعده وهو الآخر لأنه لا موجود إلا ويفنيه فيبقى بعده وكلاهما في وصف اللّه تعالى صحيح. ومعنى قوله والظاهر أنه المقتدر القاهر من ظهور القوم على الفعل كقوله (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) ومعنى الباطن انه عالم بالسرائر وكل ذلك صحيح في أوصاف اللّه عز وجل ويدل قوله (هُوَ الْأَوَّلُ) على بطلان قول من يثبت للّه تعالى علما وقدرة وحياة وقدما لأنه لو ثبت ذلك لم يصح كونه اولا ويدل على انه تعالى يفني الخلق ليصح ان يكون آخرا إذا الأدلة قد دلت على ان الجنة لا يفنى ثوابها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) ثمّ قال في آخر الآية الثانية (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) كيف يصح ان يقول آمنوا (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وجوابنا ان قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) جعله تعالى شرطا في اخذ الميثاق لأنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يأخذه بشرط الايمان ويحتمل ان يريد به إن رغبتم في الايمان وتمسكتم به وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) احد ما يدل على ان مراده بإنزال القرآن إلى
الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وبعثته من بين الجميع ان يخرجوا من الكفر الى الايمان. فان قيل فقد قال تعالى (لِيُخْرِجَكُمْ) فيجب ان يكون الايمان من خلقه.
وجوابنا انه بيّن أنه يخرجهم بهذا السبب ولو كان الاخراج والايمان من خلقه لم يصحّ ذلك لأنه سواء أنزل القرآن أو لم ينزل فالحال واحدة وقوله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) أحد ما يدل على فضل أكابر الصحابة ومن تقدم إسلامه كالعشرة وغيرهم وإنما كان كذلك لأن موقع الانفاق من قبل كان اعظم من موقعه من بعد ثمّ قال تعالى (وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى) منبّها بذلك على ان الثواب يعمّ الكلّ.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ولا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أ ليس ذلك يدل على ان الّذين آمنوا لم يكونوا خاشعين وأنه كان فيهم من هو قاسي القلب وذلك بخلاف قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ). وجوابنا ان المؤمن لا يكون في الجملة إلا خاشعا خاضعا للّه وإنما امر تعالى أن يخشعوا لذكر اللّه وعند سماع القرآن لان فيهم من يسمع غافلا لاهيا فهو كقوله تعالى (أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) فأما قوله تعالى (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فهو من وصف الكفار من قبل وقوله تعالى (وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) انما قاله فيمن أوتي الكتاب ثمّ آمن فيما بعد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) كيف يصح ذلك وفي جملتهم الفساق وأصحاب الكبائر؟ وجوابنا أن المراد بذلك من آمن بالرسول في أيامه وكذلك كانوا ولو
صح فيه العموم لحملناه على التخصيص لان المجاهر بالفسوق والفجور لا يسمّى من الصدّيقين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ والْمِيزانَ) أ تقولون ان الميزان أنزله اللّه؟ وجوابنا انه قد قيل ذلك على ما تقدم ذكره. وقيل إن المراد العدل وبيان صحة المعاملات بالميزان والظاهر هو الأول وكذلك قوله تعالى (وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) يتأول على ما قدمنا وقوله تعالى بعد ذلك (وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) والمراد به وقوع النصرة التي هي حادثة دون العلم فانه تعالى عالم بكل شيء لم يزل.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً ورَحْمَةً) أ ليس يدل ذلك على ان الرأفة والرحمة من خلق اللّه تعالى؟ وجوابنا ان المراد بذلك ما لا ينكر أنه من قبله وهو لين القلب وما به يفارق الرحيم غيره فلا يدل على ما قالوه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ويَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) كيف يصح وقوع المشي بالنور؟ وجوابنا أن المراد بهذا المشي التصرف أجمع. لأن ذلك لا يصحّ إلا بالنور الذي ينفصل من الشمس وبالعقل الذي يوصف بذلك مجازا وبعد فإن حمل على الظاهر جاز لأن المشي يحتاج صحيحه ومقصوره الى ضياء ليقع على الوجه الصحيح وقوله جل وعز (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) لا يدل على ان أفعال العباد يخلقها اللّه تعالى وذلك لأن المراد بهذا الفضل النعم التي هي الاجسام فيدخل فيها الاكل والشرب واللباس وغيرها.
تنزيه القرآن (27)
سورة المجادلة
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) أ ليس ذلك كله يدل على جواز المكان على اللّه تعالى؟ وجوابنا بل يدلّ ذلك على خلافه لأنه قال تعالى (وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ ولا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) فالمراد به العلم والتّبيّن لا أنه كائن معهم ولذلك خصّ تعالى النّجوى التي تستر ليبيّن أنه عالم بكل ما يخفي على سواه ولذلك قال تعالى بعده (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ ونَسُوهُ) ولو لا صحّة ذلك لوجب أن يكون تعالى مع كل واحد منّا حتى يكون في الاماكن كلّها وحتى إذا انتقل أحدنا من مكان إلى مكان يجب أن يكون تعالى منتقلا ليكون معه وذلك يوجب فيه انه محدث تعالى اللّه عزّ وجلّ وقوله تعالى من قبل في صيام الظّهار (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) يدل على قولنا لأن عندهم أن الصحيح القوي لم يدخل في الصوم ولو يستطيع الصيام فلا يكون لهذا الشرط فائدة بل يلزم الكل الاطعام والقول في الاطعام كالقول في الصيام وقوله تعالى من بعد (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) ولم يقل من الرحمن يدل على انه فعل العباد لا خلق اللّه تعالى وقوله (وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) يعني أن كل ضرر من غمّ وغيره يحصل عند الوسوسة
فليس من فعل الشيطان بل هو من قبل اللّه تعالى وهذا خلاف قولهم إن الشيطان يحبط الأعمال.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ ولا مِنْهُمْ ويَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وهُمْ يَعْلَمُونَ) كيف يصح أن يحلفوا على الكذب في الآخرة وقوله تعالى بعده (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ)؟ وجوابنا أن المراد بذلك أنهم يحلفون أنهم كانوا مؤمنين عند أنفسهم لا كفارا فلا يكون ذلك كذبا منهم وقوله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) يعني في الدنيا فلا سؤال علينا فيه وقوله تعالى (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) المراد به فعل ما عنده فسقوا وأطاعوه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أ ليس ذلك يدل على أنه خلق الايمان؟ وجوابنا أن المراد أنه كتب ما يعلم به الملائكة ايمانهم فنحن نحمله على الحقيقة وان كان الايمان من فعل العبد.
سورة الحشر
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ) أنه يدل على ان اخراجهم من خلق اللّه. وربما قيل أيضا ما معنى (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) فسمى خروجهم حشرا؟ وجوابنا أنه تعالى لما فعل سبب إخراجهم أضيف ذلك إليه ولما أمر بإخراجهم أضيف اليه أيضا ولذلك قال تعالى (وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) وذلك لا يصح الا والخروج من قبلهم وانما سمّاه حشرا من حيث وقع خروجهم على وجه الجمع والسوق كقوله تعالى (وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً) وقوله تعالى من بعد (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ ورَسُولَهُ) يدل على قولنا لأن مشاقّة العبد للّه ورسوله بأن اللّه تعالى يخلق ذلك فيه لا تصح وقوله تعالى (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ ولِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) قد قيل فيه ان المراد بالاذن العلم وقد قيل بل المراد فبأمر اللّه ولذلك قال تعالى من بعد (وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أ ليس ذلك كالمتناقض؟ وجوابنا أنه بين بقوله تعالى (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أنه لا نصرة يجدونها بعد هذه النصرة وعلى ذلك صح.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقُوا اللَّهَ) ما فائدة هذا التكرار؟ وجوابنا أن المراد بالاول أن يتقوا اللّه في حفظ ما فعلوا من الطاعات والمراد بالثاني ان يتقوا في جميع ما كلّفوا ولذلك قال (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) وأما معنى قوله تعالى (وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) المراد أنه بتركهم طاعة اللّه خلاهم وخذلانهم ولذلك قال (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) كيف يصح ذلك في الجبل وهو جماد؟ وجوابنا أن ذلك مثل ضربه اللّه تعالى لمن لا يتفكر في القرآن ولا يخشع عنده ولذلك قال تعالى (وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) ويمكن أن يقال إن المراد به أن الجبل لو كان حيا يصح أن يسمع ويتدبر لكان هذا حاله.
سورة الممتحنة
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) كيف يصحّ ان يستغفر له مع كفره؟ وجوابنا أنّ ذلك وعد منه وقد قال تعالى (وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) وذلك يقتضي أنّ استغفاره كان بشرط وعلى وجه يحسن عليه ولو كان استغفاره مطلقا لما قال (وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) فإن قيل فما معنى قوله تعالى من بعد (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قيل له أنهم سألوا ربهم أن يزيل عنهم الامور التي عندها يشمت الكفار بهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) كيف وصفهن بالمؤمنات قبل الهجرة وقبل القبول من الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لانه قال «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ»؟ وجوابنا أن المراد بذلك المظهرات للايمان الراغبات في ذلك فلا تناقض في هذا الكلام لأنّهن يظهرنه ويرغبن فيه ثمّ يدّعين ويختبرن فتعرف حالهن.
سورة الصف
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ) أنه جعلهم مع الكبيرة مؤمنين وذلك بخلاف قولكم. وجوابنا أنه قد يكون مؤمنا وإن وعد بما لا يفعل إذا كان وعده خبرا عن عزمه فلا يكون كاذبا ولكنه إذا أطلق الوعد ولم يستثن ثمّ لم يفعل يقبح منه وقد حكي عن الحسن أنه قال المراد المنافقون أظهروا الايمان وحالهم هذه والاول أقرب وقوله تعالى من بعد (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) فالمراد به عاقبهم على زيغهم على نحو قوله تعالى (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها).
سورة الجمعة
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ) كيف يصح أن يزكّيهم قبل أن يظهر منهم القبول والطاعة؟ وجوابنا أن المراد ويزكيهم على الوجه الذي يحسن كما يتلو عليهم آياته على هذا الوجه ويجوز أن يراد به التزكية التي معها يجوز التكليف من عقل وتمييز وغيرهما ويجوز أن يريد ويدعوهم الى ما يتزكون به ولذلك قال تعالى (وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وقوله تعالى (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) لا يدل إلّا على أن النبوّة والكتاب من فضله فليس لأحد أن يتعلق بذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (انْفَضُّوا إِلَيْها) لم لم يقل إليهما؟
وجوابنا أن الكلام إذا دلّ على ذلك جاز مثله وقد قيل إن المراد التجارة لأنها المقصودة من اللهو الذي هو تابع لها فكأنه نبّه بذلك على ما ينفضون أجمع لاجله دون ما يختص به بعضهم دون بعض.
سورة المنافقين
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) كيف يكونون كاذبين في هذه الشهادة التي هي حق؟ وجوابنا أن شهادتهم كالأخبار عن اعتقادهم ولم يكونوا معتقدين لذلك فصاروا كاذبين وقوله تعالى من بعد (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) يدل على ذلك وأنهم أظهروا ما لا حقيقة له وقوله تعالى (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) يدل على أن الافعال من قبلهم لأن اللّه تعالى إن كان خلق ذلك فيهم فكيف يصح كونهم صادّين أو ليس ذلك يوجب أنهم يصدّون الخالق الفاعل وذلك محال.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) كيف يصح في النبي صلّى اللّه عليه وسلم أن يكون استغفاره إذا وقع لا ينفع ولا يجاب إلى ملتمسه؟
وجوابنا أن المراد ما لم يقع وما لم يقع لو وقع فكيف يكون حاله فليس في ذلك أنه لا يجاب الى ما يلتمس وبعد فانه يحتمل أن يستغفر لهم بشرط معلوم من حالهم خلاف ذلك لأن ذلك ورد في المنافقين فيجوز أن يريد استغفاره لهم على الظاهر فاذا علم اللّه تعالى نفاقهم علم أنه لا يغفر لهم ولا يكون في ذلك تركا لإجابته لأن طلب الغفران لهم إن كانوا على صفة ليس هم عليها.
سورة التغابن
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ ومِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أما يدل ذلك على انه خلق الكافر كافرا وخلق المؤمن مؤمنا؟ وجوابنا انه ليس فيه إلا انه خلقهم ثمّ من بعد قسمهم فلا يدل إلا على أن فيهم كافرا ومؤمنا ثمّ الكلام في أنّ ذلك الايمان والكفر ممّن ليس في الظاهر؛ وقال أويس عليه رحمة اللّه لو كان كما ذكروا لما قال فمنكم كافر ومنكم مؤمن وقوله تعالى من بعد (خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ بِالْحَقِّ) يدل على ما نقوله من أنه خلقه لمنفعة العباد ولكي يطيعوا ووصفه تعالى ذلك اليوم بالتغابن يدل على أن المقصّر بالكفر والمعصية يعلم أنه كان يمكنه أن لا يقصر وقوله تعالى (وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) يدل على ما نقوله من علامات يفعلها ليميز الملائكة المؤمنين من غيرهم.
سورة الطلاق
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أن ذلك يدل على ان الرجعة هو الذي يحدثها؟ وجوابنا أنه تعالى لم يفسر الأمر والمراد عندنا الشهوة ومحبة القلب اللذان يدعوانه الى الرجعة ويغتم لأجلهما بما فعل من الطلاق وقوله تعالى من بعد (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) وقد تقدم ذكر المعنى وأن المراد حكمه في هذه الامور وقوله تعالى (وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ) المراد به من ضيّق عليه رزقه أمره بأن لا يبسط يده إلى ما لا يحلّ له بل ينفق مما آتاه من الخيرات.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) كيف يصح ذلك وفي الناس من لا يجد اليسر بعد العسر؟ وجوابنا أنه لا أحد ممّن ضيّق عليه اللّه تعالى إلا ويؤتيه يسرا بعد عسر من جهة أرزاق الدنيا أو من جهة ثواب الآخرة اذا صبر واحتسب.
سورة التحريم
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أ ليس ذلك يدل على ان اللّه تعالى يأمرهم ويكلّفهم وعندكم ان الآخرة ليست بدار تكليف؟
وجوابنا انه في الآخرة يجوز أن يأمر تعالى ولا يكون أمره تكليفا كما تقوله في قوله تعالى (كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئاً) وانما نمنع من ثبوت الأمر في حال التكليف ولا يكون تكليفا واللّه تعالى يأمر الملائكة الموكّلة بعذاب أهل النار بما يتلذذون به من عذاب أعداء اللّه فلا يعصون كما ذكره اللّه تعالى ولا يجوز في الأمر إذا كان بشيء يلتذّ به أن يكون تكليفا وفي هذه السورة أدلّة على قولنا منها قوله تعالى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ ناراً) فلو لم يكن تصرف العبد من فعله لما صح ان يقي نفسه وغيره ومنها قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) لأنه لا يجوز أن يقول لا تعتذروا ولهم عذر لأن ذلك سفه فالمراد لا تعتذروا فما عذر لكم ولو كان تعالى خلق الكفر في الكافر وأراده وأوجده فيه بالقدرة والارادة لكان ذلك من أوكد ممّا يعتذرون به ولكان لهم أن يقولوا لو أقدرتنا على الطاعة لفعلنا وإنما أوتينا من جهة أنك لم تقدّرنا ولم تخلق فينا الايمان بل خلقت فينا ضدّه ومنها قوله تعالى (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فانه يدل على ان العمل من العبد والجزاء من اللّه تعالى.
سورة الملك
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) كيف يصح في النجوم ان يجعلها رجوما للشّياطين وهي ثابتة أبدا في مكانها؟ وجوابنا أن المراد ما ينفصل منها ممّا يشاكلها فيصح بذلك إضافة الرجوم إليها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) أ ليس ذلك يدل على أنه الخالق لقولهم وسرهم؟ وجوابنا ان المراد ألا يعلم من خلق الصدر ما يودعون فيه من سر وجهر فكأنه بين انه عليم بذات الصدور ومقتدر عليها ومن هذا حاله لا تخفى عليه خافية وقوله من بعد (أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) لا يدل على أن السماء مكانه لأن المراد من في السماء ملكه وقدرته على الخسف والكسف وكذلك قال بعده (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) وقوله تعالى (أَ ولَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ ويَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) ربما تعلقوا به في انه الخالق فيهم الوقوف في الهواء. وجوابنا أن المراد أنه الفاعل في الهواء ما عنده يصح منها الطيران والوقوف.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) كيف يصح ذلك ومعلوم أن الماء المعين يخرجه من معه الآلة؟ وجوابنا أن المراد ان يصبحوا والماء قد غار ويبس وذلك يدل على انقطاع الماء في ذلك المكان ولا يعمل بالفأس إذا انتهى مكان الماء إلى هذا الحد وبعد فلولا أنه تعالى يمد بالماء لمكان الفأس لم تؤثر في ذلك.
سورة ن
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ويُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) كيف يصح أن يكلف في الآخرة بالسجود من لا يستطيعه؟ وجوابنا أن ذلك ليس بدعاء على وجه الأمر بل هو توبيخ وتبكيت لهم من حيث تركوا السجود وهم متمكنون ولذلك قال بعده (وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وهُمْ سالِمُونَ) ولو كان الأمر كما يقوله المجبرة لكان الدعاء في الدنيا والآخرة سواء في أنه إن خلق فيهم السجود صاروا ساجدين وإن لم يخلق كانوا تاركين وفي قوله تعالى من بعد (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) دلالة على أنه تعالى يكتب في اللوح المحفوظ الكثير من الغيوب وأما ذكر السّاق فالمراد به شدّة الامر كقوله تعالى (وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) يعني الشدة بالشدة يوم القيامة.
[مسألة]
وربما تعلق بعضهم بقوله (وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) فقالوا إن العين حق.
وجوابنا أن المراد النظر المكروه منهم عند قراءة القرآن عليهم يبين ذلك أن العين لو كانت حقا كما يقولون لكانت تؤثر فيما يعجب به ويعظم لا في خلافه.
سورة الحاقة
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) كيف يصح ذلك ومن خوطبوا بذلك لم يحملوا في سفينة نوح؟ وجوابنا ان المراد حملنا من أنتم من نسله فهو بمنزلة قوله تعالى في سورة البقرة (وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) والمراد من أنتم منهم ونجاتكم بنجاتهم.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ ولا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) أ ليس ذلك خلاف قوله (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)؟ وجوابنا انه لا يمتنع في قوم أن لا طعام لهم إلا من ضريع ويجوز أن يكون المراد ليس لهم طعام إلا من ضريع ولا شراب إلا من غسلين وهو ما يسيل من صديدهم فسمّاه طعاما من حيث يستطعم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) كيف جعله قول جبريل وهو كلام اللّه تعالى؟ وجوابنا أنه إذا سمع منه جازت هذه الاضافة لانه منه علم ولولاه لم يعلم فاما قوله من قبل (وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) فلا يصح أن يتعلق به المشبهة لأن العرش في السّماء مكان لعبادة الملائكة فيحملونه ويطوفون حوله ويضاف إلى اللّه تعالى من حيث خلقه كما يضاف العبد الى اللّه تعالى وقوله تعالى (وَ لَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) لا يصحّ تعلقهم به لاثبات اليمين له تعالى لأن المراد القدرة على ما بيناه في غير موضع وعلى هذا الوجه يقال إن فلانا يملك فلانا ملك يمين إذا أمكنه التصرف فيه وإن لم يكن له يمين وعلى هذا الوجه قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
يعني ببأس وقوة.
تنزيه القرآن (38)
سورة المعارج
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ) أ ليس ذلك يدل على جواز الصعود والنزول عليه؟ وجوابنا أن إضافة الشيء لغيره بهذا اللفظ قد تكون بأن يفعله وقد تكون بخلافه وللّه تعالى معارج خلقها للملائكة ولذلك قال (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ) فلا تعلق للقوم بذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ونَراهُ قَرِيباً) كيف يصح وهو متناقض وكيف يصح القرب على اللّه تعالى؟ وجوابنا ان المراد يوم القيامة وقوله تعالى (يَرَوْنَهُ بَعِيداً) بمعنى الظن (وَ نَراهُ قَرِيباً) بمعنى العلم وذلك لا يتناقض ولا يجوز أن تراد به الرؤية وذلك اليوم معدوم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) أ ليس يدل على أن هلعه من خلق اللّه تعالى؟ وجوابنا أن المراد انه خلق وهو على حد من الضعف يصيبه الهلع به عند الحوادث ولذلك قال تعالى بعده (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ما
فائدة ذلك وهل هو تعلق بما وصفه من طمعهم وكيف يعلمون ممّا ذا خلقوا؟
وجوابنا أن ذلك ورد في الكفار الذين قال تعالى فيهم (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) ولا يمتنع فيهم أنهم كانوا يعرفون مع كفرهم انهم خلقوا من نطفة وان ذلك الخلق من فعله تعالى فيصح قوله تعالى (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) في الجملة وفائدته أنه بين أنّ من خلق من ماء مهين لا يجوز أن يستوجب الجنة وإنما يستوجبها لعلمه إذ الفضل يقتضي ذلك ويحتمل أن يريد خلقناهم مما يعملون من التكليف فكيف يصح أن يطمعوا فيما طمعوا فيه ولا أثر لهم فيه ولا عين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ والْمَغارِبِ) كيف يصح ذلك وقد ذكر في موضع (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ ورَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) وفي موضع (رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ)؟
وجوابنا أن المراد بالمشرق والمغرب جنس ذلك أو واحده في كل يوم والمراد بالمشرقين مشرق الشتاء ومشرق الصيف ومغربهما والمراد بالمشارق ما نعلمه من اختلاف المطالع في كل يوم فلا تناقض في ذلك.
سورة نوح
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ويُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ثمّ قال بعده (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) وهذا متناقض؟ وجوابنا أنه لا تناقض في ذلك، لأن ذلك الأجل المقدّر الذي ضمنه إذا عبد اللّه تعالى وأطيع لا يتأخر وهذا الأجل عندنا مقدّر غير محقق لأنهم إذا لم يعبدوه فأجلهم هو المكتوب ولا تأثير يقع فيه. فان قيل فكيف قال تعالى (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ وأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ومن عبد اللّه واتقاه استحق غفران كلّ ذنوبه؟ وجوابنا أن من قد تدخل زائدة كما تدخل للتبعيض وهي هاهنا زائدة ويحتمل أنه يريد ان الغفران يكون في هذا الجنس كما يقال باب من حديد وقوله تعالى من بعد (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا ونَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) المراد به تشدد القوم في الانكار والجحود والنفور من قبول الحق ولذلك قال تعالى (وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ).
[مسألة]
وربما تعلقت المشبهة بقوله تعالى (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً)؟ وجوابنا في ذلك أن المراد ما لكم لا تعظمونه حق عظمته إذ الوقار الذي يظهر في الاجسام يستحيل عليه تعالى ولذلك قال تعالى بعده (وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) فالمراد ما يتعلق بخلقه من شكر عباده.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) كيف يصح ذلك ونور القمر يكون على الأرض لا فيما بين السموات؟ وجوابنا أن المراد وجعل القمر بينهن وبين الارض نورا أو لما جمع السماء أجمع بلفظة واحدة جاز في نور القمر وهو ينالها أيضا كما ينال الأرض ان يقول ذلك.
[مسألة]
وربما سألوا في قوله تعالى (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) كيف يصح ذلك وأكثر أهل الأرض من الكفار وكيف يصح ان يظهر خلاف ما قدره اللّه تعالى من بقاء هؤلاء الكفار وكيف قال تعالى بعده (وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) والمولود لا يكون بهذا الوصف؟ وجوابنا ان مراد نوح عليه السلام الكفار الذين كانوا في زمنه ومن أعلمه اللّه أنه لو أبقاهم أبدا لم يؤمنوا فدعا اللّه تعالى عليهم بهذا الدعاء وأجاب اللّه دعوته بأن أغرقهم فأما قوله تعالى (وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً) فالمراد من سيفجر ويكفر نبّه بذلك على أنه كما ان المعلوم أنهم لا يؤمنون فمن المعلوم أيضا أنه لا يكون في نسلهم مؤمنون.
سورة الجن
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ) كيف يصح ذلك؟ وجوابنا أن المراد ميلهم اليهم وإلى القبول منهم ومن أطاع غيره وعظمه يوصف بذلك كما قال تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) بأن أطاعوهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) كيف يصح ذلك مع انقضاض الكواكب والشّهب عليهم ومنعهم من ذلك؟ وجوابنا أن المراد طلبنا لمس السماء والقرب منها لتعرف الاخبار فلذلك قال بعده (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وشُهُباً) وذلك بيان منهم انهم منعوا من ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) كيف يتعلق ما أمر به من ترك عبادة غير اللّه بأنّ المساجد للّه؟ وجوابنا أنها مكان العبادة ومبنية لذلك فقال فلا تعبدوا فيها سوى اللّه.
اللام لام العاقبة؟ فأما الكلام في الضلال والهدى فقد تقدم وقوله تعالى من بعد (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ وما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) فالمراد به الذكر الذي هو الطاعة لأنه من قبيل ما لا يصح من العبد أن يشاءه إلا واللّه قد شاء منه وكلفه إياه.
سورة القيامة
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أنه اقوى دليل على أن اللّه تعالى يرى في الآخرة؟ وجوابنا أن من تعلق بذلك إن كان ممن يقول بأن اللّه تعالى جسم فإنا لا ننازعه في أنه يرى بل في أنه يصافح ويعانق ويلمس تعالى اللّه عن ذلك وانما نكلمه في انه ليس بجسم وان كان ممن ينفي التشبيه على اللّه فلا بد من أن يعترف بأن النظر الى اللّه تعالى لا يصح لان النظر هو تقليب العين الصحيحة نحو الشيء طلبا لرؤيته وذلك لا يصح إلا في الاجسام فيجب أن يتأوّل على ما يصح النظر اليه وهو الثواب كقوله تعالى (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ) فإنا تأولناه على أهل القرية لصحة المسألة منهم وبين ذلك ان اللّه ذكر ذلك ترغيبا في الثواب كما ذكر قوله (وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) زجرا عن العقاب فيجب حمله على ما ذكرناه وقوله من قبل (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ولَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) يدل على أنه لا عذر للعبد إذا هو عصى ربه ولو كان الكفر مخلوقا فيه لكان له أوكد العذر على ما قدمنا من قبل؟ وقوله تعالى من بعد (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والْأُنْثى أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) هو الذي يورده العلماء على جواز الاعادة وصحتها فانه تعالى إذا قدر على الاحياء أولا على هذا الحد الذي نجد الاحياء عليه فيجب ان يقدر على اعادة ذلك.
سورة المزّمل
[مسألة]
ربما قالوا في قوله تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) ما معنى وصف الوحي بالثقل؟ وجوابنا أن المراد ثقل العمل بما فيه وتدبره والمعرفة بمراد اللّه تعالى؟ ويحتمل أنه كان يثقل عليه ان يحفظه وأن يبلغه وكان يحتاج في ذلك إلى تكليف وربما قيل في قوله تعالى (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) كيف يصح وصف اليوم بذلك وكيف يضاف إليه؟ وجوابنا أن المراد ما يحصل في ذلك اليوم من الأهوال فضرب له هذا المثل كما يقال مثله في المخاطبات عند ذكر الامور الهائلة.
سورة المدّثر
[مسألة]
ربما قيل ما معنى قوله تعالى (وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) وكيف يتعلق أحدهما بالآخر؟ وجوابنا ان المراد لا تستكثر ما تنعم به على غيرك بعثا له على الزيادة في الانعام ويحتمل ان يكون المراد لا تستكثره على وجه الامتنان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) كيف يصح مع فضلهم أن يجعلهم أصحاب النار وكيف يصح قوله تعالى (وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وأي تعلق لعدتهم بافتتان الكفار؟ وجوابنا ان المراد الموكلون بعذاب أهل النار لأنهم يضافون إلى النار بأنهم أصحابها بل إضافتهم الى ذلك أحق لأنهم يتصرفون في التعذيب بها ومعنى قوله تعالى (وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً) أن المعلوم من كثرة عددهم أنه اقرب إلى غمهم وحسرتهم وكل ذلك بعث من اللّه سبحانه على الطاعة وزجر عن المعصية فلذلك قال تعالى (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ويَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) وقوله تعالى من بعد (وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ والْمُؤْمِنُونَ ولِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ) قالوا فيه كيف يصح أن يجعل تعالى لهم عدة لهذا الوجه الذي يقبح منهم فعله؟ وجوابنا أن هذه
سورة الانسان
[مسألة]
وربما قيل في قوله (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) كيف يصح وقد وصفه بأنه إنسان وأتى عليه حين من الدهر أن لا يكون مذكورا ولا شيئا؟ وجوابنا أن المراد لم يكن له عند هذا الوصف من البنية والحياة والعقل ما أخبر به اللّه تعالى في خلق آدم صلّى اللّه عليه وسلم ثمّ قال تعالى بعد خلق آدم صلّى اللّه عليه وسلم (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً) أما يدل ذلك على أنه ليس في المكلفين إلا كافر أو مؤمن؟ وجوابنا أن الشاكر قد يكون شاكرا وان لم يكن مؤمنا برّا تقيا لأن الفاسق بغضب أو غيره قد يكون شاكرا فلا يدل على ما قالوا بل في الآية دلالة على ما نقول من أن الكافر والمؤمن هما سواء في أن اللّه تعالى قد هداهما لا كما قالت المجبرة أنه تعالى إنما هدى المؤمنين والمراد به أنه دلّ الجميع وأزال علتهم فمن عصى فمن جهة نفسه أتى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) كيف يصح الترغيب في ذلك وليس هو بمستطاب في الدنيا؟ وجوابنا أن رائحة الكافور لا شبهة في أنها مستطابة واليسير منها مستطاب فرغّب تعالى في ذلك على الجملة كما رغّب في
الخمر، وان كان طعمه في الدنيا لا يستطاب وقد قيل ان المراد يشربون من نهر تربته الكافور وكذلك إذا سألوا عن قوله (كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا) إذا المراد التنبيه على الجملة وإن كان شراب أهل الجنة في نهاية اللذة.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) وهذا متناقض فلا يكون من فضة ويكون قوارير؟ وجوابنا أن المراد أنها من فضة وقد بلغت في الصفاء والحسن بحيث يرى ما فيها حتى لا تكون حاجزا ولا حائلا كالقوارير وهذا نهاية ما يقع به الترغيب فأما قوله (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) فالمراد به ما تشاءون من اتخاذ السبيل الى الرب إلا واللّه قد شاءه والمراد انه شاء العبادات ولذا أنكره على القوم أنهم يصرحون بأنه تعالى قد شاء الفواحش واللّه يتعالى عن ذلك.
سورة المرسلات
[مسألة]
وربما طعنوا على تكرير قوله تعالى (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وجوابنا ان القصص اذا كانت مختلفة رجع الكلام الى كل واحد منها فيحسن كما ذكرناه في سورة الرحمن.
[مسألة]
وربما قالوا في قصص الانبياء لم كرّره اللّه تعالى؟ وجوابنا أنه تعالى أنزل ذلك تسلية للرسول صلّى اللّه عليه وسلم فيما كان المشركون يأتون به فكان ينزل مرة بعد مرة ليسليه في حال بعد حال ولأن التالي يعتبر بذلك اعتبارا بعد اعتبار وقوله تعالى (أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) وربما تعلق به بعض المجبرة على أن افعال العباد مخلوقة من جهته تعالى وذلك بعيد لأن كون ذلك الماء في الرحم من فعل اللّه تعالى وقد بيّنّاه من قبل. وقوله تعالى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ولا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) من أقوى ما يدل على قولنا في العدل لأنهم إذا لم يعتذروا ولهم عذر فذلك لا يصح وقد نزل بهم من العقوبة ما لا دليل عليه فالصحيح أن لا عذر لهم وذلك لا يصح مع القول بأنه تعالى هو الذي خلق فيهم الكفر وقدرة الكفر وإرادة الكفر.
سورة عمّ يتساءلون
[مسألة]
وربما قيل لما ذا قال تعالى (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) كيف يصح مع القول بخلودهم في النار أن يقدر كونهم فيها بالأحقاب؟ وجوابنا أن المراد أحقاب لا آخر لها كما يقال أوقاتا وساعات لا نهاية لها لا أن المراد أحقاب منقطعة والآية وردت في الذين لا يرجون حسابا وهم الكفار فلا يمكن أن يتأول على فساق أهل الصلاة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً ولا شَراباً) كيف يذاق البرد وإنما خلقت هذه الحاسة ليذاق بها الطعم؟ وجوابنا ان البرد قد يذاق بحاسة الطعم لا من حيث كانت حاسة لكن لأن محل الذوق يدرك به البرد ومعلوم من حال المشرب أنه يكون باردا يبلغ في اللذة ما لا يبلغه ما ليس كذلك فهذا معنى الكلام. وربما قالوا في قوله تعالى من قبل (وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) كيف يصح ذلك والسبات والنوم واحد فكأنه قال وجعلنا نومكم نوما؟ والجواب أن السّبات هو نوم مخصوص يجد الانسان فيه من الراحة ما لا يجده في غيره ولذلك يوصف ذو النوم عند التعب بأنه في سبات ولا يوصف بذلك إلا وقد غرق في النوم فبين تعالى نعمته بهذا النوع وقوله تعالى (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) فالمراد به أنها طريق الكل ثمّ بالقرب منها يتميز المثاب من غيره كما قال تعالى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ونَذَرُ
الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) وأما قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والْمَلائِكَةُ صَفًّا) فقد قيل إن المراد به جبريل عليه السلام وقد قيل هو ملك في صورة آدم صلّى اللّه عليه وسلم وقد قيل بل المراد من له الروح وهم بنو آدم فذكر تعالى انهم يقومون والملائكة بهذا الوصف وأن جميعهم لا يتكلمون إلا بإذن الرحمن وأنهم لا يتكلمون في الآخرة إلا بالصواب نبّه تعالى بذلك على الفصل بين الآخرة والدنيا.
سورة النازعات
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً) ان ذلك قسم فعلى ما ذا وقع القسم؟ وجوابنا ان القسم قد يحذف جوابه اذا كان في الكلام دليل عليه فكأنه قال لتحشرن ولتبعثن أو لترون يوم ترجف الراجفة تعظيما لحال ذلك اليوم وبعثا على الخلاص من أهواله.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وأَغْطَشَ لَيْلَها) كيف يصح والسماء لا ليل فيها لأن الليل إنما يثبت بحركات الشمس فإذا ظهرت فهو نهار وإذا غابت فهو ليل وذلك متعذر في السماء؟ وجوابنا أن اضافة الليل إلى السماء كإضافة الشمس والقمر والنجوم الى السماء؟ لما كان لولاها، ولو لا حركات الشمس في الأفلاك لم يكن ليل ولا نهار.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ان ذلك مخالف لقوله (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ). وجوابنا ان المراد بهذه الآية خلق نفس الأرض وأنه قبل السماء والمراد بقوله (وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) إنها وإن كانت مخلوقة فإن دحوها وبسطها متأخر فلا اختلاف في ذلك فأما قوله تعالى من بعد (وَ الْجِبالَ أَرْساها) فهو تشبيه بإرساء السفن إذا استقرت فالمراد أنه وقفها في أماكنها لا تزول ولا تحول وقوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ طَغى وآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) من أقوى ما يدل على أن
العبد هو الفاعل لأنه لا يقال طغى في فعل شيء إلا مع التمكن من فعله، ولا يقال آثر شيئا على شيء إلا وهو قادر على فعله وقوله تعالى (وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) يدل أيضا على تمكنه لأنه لا يوصف بذلك إذا كان الفعل مخلوقا فيه وفي قوله (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) مع أنه منذر للكل فائدة وهي أن من يخشى هو القابل للانذار والمنتفع به.
تنزيه القرآن (29)
سورة عبس
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) كيف يصح وصفه للرسول بالتلهّي؟
وجوابنا ان العادل عن غيره لتشاغله بسواه يقال لهي عنه فليس ذلك من اللهو الذي هو اللعب والتشاغل بما لا يفعله العاقل، وعظم اللّه قدر القرآن بقوله (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) ثمّ إنه تعالى وصف الانسان بما يكون بعثا له على الطاعة فقال (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ). فجمع هذه الكلمات ما يقتضي الخضوع للمعبود فقد خلقه كاملا ثمّ درجه الى أحوال الآخرة من الحشر والنشر ثمّ بيّن كيف قدر له الطعام مع ذلك بإنزال الماء والإنبات وكيف قدر له أنعاما أيضا للطعام ثمّ بيّن مع ذلك أن يوم القيامة (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وأُمِّهِ وأَبِيهِ وصاحِبَتِهِ وبَنِيهِ) فان قيل كيف يفرّق في الآخرة ولا مفر؟ فجوابنا أن المراد عدوله عنهم لعلمه بأنه لا ينتفع بهم ولا ينتفعون به فيزول عن قلبه تلك الرقة والشفقة الى غير ذلك من الأحوال ولذلك قال تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها
قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أما يدل ذلك على أنه ليس مع أهل الجنة الا الكفار؟ وجوابنا أن اثبات وصف الأمرين لا يدل على نفي ثالث إذا دل الدليل عليه فيجوز أن يكون بينهما من على وجهه غيرة ولا تلحقه القترة وهم الفساق الذين ليسوا بكفار بين ذلك قوله (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) وفي الكفار من لا يوصف بأنه فاجر فلو قيل للخوارج هل يجب في كل كافر أن يكون فاجرا لم تجد في ذلك من الجواب إلا ما ذكرنا.
سورة التكوير
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني جبريل عليه السلام، كيف يصح إضافة القرآن اليه وهو كلام اللّه؟ وجوابنا أنه المظهر لذلك حتى لولاه لما عرف فصحّت إضافة القرآن إليه وقد يضاف كلام الغير إلى من تحمله وذلك كثير في اللغة. فأما قوله من قبل (وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) وقوله (وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) فيدل على انه تعالى يعيد كل هؤلاء يوم القيامة ويدل على أن من لا ذنب له لا يجوز أن يؤلم فيضل بذلك قول من يزعم في أطفال المشركين أنهم يعذبون بذنوب آبائهم ويدل على بطلان القول بأن المعاصي مخلوقة من اللّه في الانسان لأنه يجب أن يكون تعالى يعذّبه ولا ذنب له وقد نفى اللّه تعالى ذلك وأبطله وقوله تعالى (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) المراد به الاستقامة فأما غير ذلك فموقوف على الدليل.
سورة الانفطار
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) كيف ينكر ذلك عليه مع وصفه نفسه بالكرم؟
وجوابنا أن المراد ما غرّك بذلك في ارتكاب المعاصي العظيمة ولذلك قال تعالى بعد ذكر نعمه (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) وهذا أحد ما يدل على قدرة العبد على أن يعصي ولو لا ذلك لم يصح أن ينسب إلى الاغترار وقوله تعالى (وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) هو بعث للمرء على الطاعة لأنه إذا تحقق في كل ما يأتيه أنه محصى مكتوب في صحيفته محاسب عليه زجره ذلك عن فعله وقوله تعالى (وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) يدل على أن الفاجر من أهل الصلاة مخلد في النار لأنه إذا لم يغب عن النار ولم يمت فهو كائن فيها، ويدل على أن الشفاعة لا تكون منه صلّى اللّه عليه وسلم لهم وإلا لم يكن ليعم كل فاجر بهذا الحكم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) أن ذلك تكرار لا فائدة فيه؟ وجوابنا أنه لما ذكر الأبرار وما ينالونه من النعم والفجار وما ينزل بهم من العذاب جاز أن يقول (وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) فيما يظهر فيه للابرار (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) فيما يحصل فيه للفجار وذلك يفيد تعظيم شأن ذلك اليوم.
سورة المطففين
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) كيف يصح والمطفف قد يطفف اليسير وذلك من الصغائر؟ وجوابنا أن المراد ويل له بشرط أن لا يكون معه من ثواب طاعاته ما هو أعظم وبشرط أن لا يكون معه توبة فلا يلزم ما ذكروه؛ وبيّن تعالى أنهم إذا اكتالوا لأنفسهم يستوفون وإذا كالوا غيرهم يخسرون وينقصون ثمّ زجر عن ذلك بقوله تعالى (أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) فإذا كانت هذه حالة مطفّف فكيف حال من يأخذ أموال الناس بغير حساب وقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) لا يدل على قوله المشبهة لان المراد تعظيم شأن ذلك اليوم في العقاب والثواب ولا يعظم بأن يكون تعالى قائما فيه تعالى اللّه عن ذلك فالمراد إنزاله بأهل الثواب والعقاب ما يستحقون ولذلك ذكر بعده الفجار والأبرار لبيان حال كل واحد منهم وعظم شأن الابرار بتعظيم كتابهم وحقر شأن الفجار بتحقير الكتاب، ثمّ بيّن تعالى ما ينال المؤمن في الدنيا عن المجرمين وأنهم يضحكون منهم وما يؤول أمر المؤمنين إليه في الآخرة من النعيم العظيم فقال (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) فنبه بذلك على أن صنيع الفجّار وبال عليهم وأنه منقطع كأن لم يكن، وصنع المؤمنين بالفجار ما ذكره تعالى مع كونهم في نعيمهم يكونون أبدا.
سورة الانشقاق
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أين الجواب لهذا الكلام؟ وجوابنا أن المراد واذكر إذا السماء انشقت وتدبر إذا السماء انشقت فهو تنبيه على حال ذلك اليوم وترغيب في الطاعة فلذلك قال تعالى بعده (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) وذكر تعالى من أوتي كتابه بيمينه وكيف يكون حسابه وانقلابه إلى أهله مسرورا وكيف حال من أوتي كتابه وراء ظهره وأنه الآن يدعو ثبورا ويصلى سعيرا وقد كان من قبل في أهله مسرورا، واذا ميّز التالي لهذه السورة بيّن هذين الامرين اللذين أحدهما يدوم ولا يبيد والآخر ينقطع ويصير وبالا رغبة ذلك في الطاعة وعمارة أمر الآخر وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) وقد دخل تحته المؤمن والكافر يدل على أن المراد بكل لقاء ذكره اللّه تعالى في كتابه لقاء ما وعد وتوعد لا كما يتعلق به من يقول إن اللّه يرى فيظن أن اللقاء إذا أضيف الى اللّه تعالى دلّ على الرؤية.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ويَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ويَصْلى سَعِيراً) كيف يصح ذلك وقد ذكر تعالى في عدة مواضع
اليمين والشمال وذلك مختلف؟ وجوابنا أنه لا يمتنع فيمن أوتي كتابه بشماله أن يكون فيهم من أوتي كتابه بشماله فقط، وفيهم من يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره فلا يعد ذلك مختلفا ويحتمل أن في كل من يؤتى كتابه بشماله أن يؤتى على هذا الوجه فلا يتناقض ذلك أيضا. وربما يقال في جواب (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) انه في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) فكأنه قال انك كادح (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ).
سورة البروج
[مسألة]
وربما يقال أين جواب القسم في قوله (وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ)؟ وجوابنا انه قوله (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) وقد قيل إنه محذوف ويحتمل ان يكون قوله (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) وقد قيل إنه محذوف ويحتمل ان يكون قوله (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ) جوابه وقوله (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) لا يدل على قول المشبهة في أن العرش مكانه لأن هذه الاضافة تصح في فعله كما تصح في المكان وقوله (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) انما يدل على أن ما يريده يفعله ولا يدل على أن كل فعل يقع هو مراده.
سورة الطارق
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ ولا ناصِرٍ) كيف يصح أن لا تكون له قوة وإن كان يصح أن لا تكون له نصرة؟ وجوابنا أن المراد لا قوة له على دفاع ما ينزل به كما لا ناصر له وذلك من اللّه تعالى زجر وتخويف وفيه دلالة على ما نقوله وذلك لأنه لو كان لا قدرة له في الدنيا على الايمان لم يكن ليصح أن يهدّد بذلك ويبكّت ويدل على أنه لا شفاعة لأهل العقاب لأنه لو كان لهم شفيع لكان لهم أقوى ناصر وقوله (وَ أَكِيدُ كَيْداً) فالمراد به إنزال العقاب بهم من حيث لا يشعرون في الآخرة ويحتمل أن يريد إنزاله الخذلان بهم في الدنيا من حيث لا يشعرون وذلك تشبيه لا تحقيق.
سورة الأعلى
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) كيف يصح والتسبيح هو التنزيه أن ينزه الاسم وإنما يصح تنزيه المسمى الذي هو اللّه تعالى؛ وهلا دلّ ذلك على أن الاسم عين المسمى؟ وجوابنا ان الاسم غير المسمى لأنه حروف مؤلفة تسمع وتكتب وليس كذلك المسمى لكن المراد تنزيهه تعالى فذكر الاسم وأريد المسمّى تعظيما وتفخيما، وربما يقول القائل في نبينا صلّى اللّه عليه وسلم صلوات اللّه على ذكره ويريده نفسه فيكون ذلك أدخل في الاجلال ولذلك قال تعالى بعده (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) وذلك من صفاته لا من صفات الاسم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) كيف يصح ذلك والنسيان من فعل اللّه تعالى لا من فعل العبد؟
وجوابنا أن المراد سنقرئك فلا تترك تعهد ما أنزلنا عليك ولا تدع التمسك بالعمل به ويكون معنى قوله تعالى (فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) بطريقة النسخ فإنه إذا نسخ تلاوة شيء كان متروكا ولا يجب أيضا العمل به إذا نسخ معناه وحكمه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) كيف يصح ان يأمره بأن يذكر من تنفعه الذكرى وقد علمنا أنه يلزمه أن يذكر من هذا حاله ومن لم تنفعه الذكرى بأن لا يقبل ويتمرد؟ وجوابنا أن
المراد تجديد الذكرى على من هذا حاله وإن كان البيان من جهته قد حصل بكل ومن المعلوم أن من حاله أن تنفعه الذكرى يكون في جملة ألطافه تكرير الذكرى عليه ويحتمل أن يريد الكل سواء قبلوا أم لم يقبلوا لأنهم إن لا يقبلوا لا يخرجوا من أن تكون الذكرى قد نفعتهم كما ينتفع الجائع بتقديم الطعام إليه وإن لم يختر الأكل.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيى) كيف يصح أن يكون في النار لا حيّا ولا ميتا؟ وجوابنا أن المراد أنه لا يموت فيستريح من من ذلك العقاب ولا يحيى حياة ينتفع بها.
سورة الغاشية
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) كيف يصح ذلك في الوجوه وذلك من صفات الحي الذي الوجه بعضه؟ وجوابنا أن المراد جملة المرء دون العضو وقد يذكر الوجه ويراد به نفس الشيء كما يقال هذا وجه الأمر وعلى هذا الوجه تأول العلماء قوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ولذلك قال تعالى بعده (تَصْلى ناراً حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وذلك منه تعالى زجر عن المعاصي التي تؤدي إلى هذا الوصف وقوله تعالى (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) تدل على قدرتها على خلاف ذلك لان من خلق فيه الشيء لا يوصف بهذا الوصف ثمّ بيّن تعالى الفضل بينهم وبين أهل الجنة فقال تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) فرغب بذلك في الطاعة ثمّ عطف على الجميع فقال تعالى (أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) بعث بذلك على النظر في أدلّة اللّه تعالى ونعمه ثمّ قال (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) فبيّن أن الذي اليه هذا القدر قبلوا أو لم يقبلوا. ودل بذلك على أنهم ممكنون لان الامر من اللّه تعالى لرسوله بأن يذكر لا يصح والمرء قد خلق فيه ما يمنعه من الكفر وقدرة الكفر.
سورة والفجر
[مسألة]
ربما تعلقت المشبهة بقوله تعالى (وَ جاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا). وجوابنا أن المراد أمر ربك فلو جاز المجيء عليه لجاز عليه المشي والانتقال ومن هذا حاله لو جاز ان يكون قديما لم نثق بأنّ العلم محدث وهذا كقوله تعالى (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ) فاذا لم يمكن توجه السؤال اليها حملناه على من يصح أن يسأل وكذلك قوله تعالى (وَ جاءَ رَبُّكَ) وقوله تعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) دليلنا على أن العبد في الدنيا قادر على الايمان وان كان كافرا والا ما كان يصح أن يتمنى ما لا يقدر عليه ولا كان يصح أن يوصف بأنه يتذكر وأنى له الذكرى لأنه على قولهم في الدنيا أيضا كان لا تمكنه الذكرى.
سورة البلد
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) ما معنى ذلك وانما خلق الانسان في بطن امه؟ وجوابنا أن المراد أحد الأمرين أما ما ذكر عن الحسن أنه خلق يكابد السّرّاء والضّرّاء وشدائد الدنيا، أو يكون المراد مكابدته في الوضع فانه تلحقه الشدة في ذلك وقوله تعالى (أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ولِساناً وشَفَتَيْنِ وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) يدل على أنه قد هدى الكل من كافر ومؤمن.
سورة والشمس
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها) بعد قوله تعالى (وَ نَفْسٍ وما سَوَّاها) أ ليس يدل ذلك على أن الفجور والتقوى من خلق اللّه تعالى؟ وجوابنا أن المراد بقوله تعالى (فَأَلْهَمَها) أعلمها وبيّن لها الفجور لتجتنب ذلك والتقوى لتقدم عليها فلا يصح ما قالوه وقوله تعالى من بعد (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) لا يدل على أنه تعالى يخلق في العبد ما به يتزكى لأن المراد قد افلح من زكّى نفسه بأن يفعل ما به يصير زكيّا او يكون المراد من وصف نفسه بالايمان والطاعة لا على وجه التفاخر لكنه على وجه دفع التهمة عن نفسه فلا يدل على ما قالوه.
سورة والليل
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى واتَّقى وصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أ ليس قد خص من هذه صفته بأنه يسّره للايمان فيجب أن يكون مخلوقا من قبله فيهم وكذلك قوله تعالى (وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنى وكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)؟ وجوابنا أن المراد باليسرى الثواب العاجل والآجل وبالعسرى العقاب العاجل والآجل فلا يصح ما قالوه ويحتمل أن يكون المراد فيمن صدّق بالحسنى تيسيره للالطاف التي لأجلها يثبت على الايمان وفيمن كذّب بالحسنى تيسيره لأمور لأجلها يفضل الثبات على ما هو عليه فيكون كقوله تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) وقوله تعالى (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) يدل على ان الهدى هو البيان فانه تعالى بالتكليف قد أوجبه على نفسه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلَّى) أ ليس يدل ذلك على ان من لم يكذب ويتولى لا يصلى النار وهذا يدل على ان فساق أهل الصلاة
تنزيه القرآن (30)
آمنون من النار؟ وجوابنا ان المراد به نار مخصوصة لا يصلاها إلا هؤلاء الكفار لأن هناك نيرانا ولها مراتب فلا يدل على ما قالوه وبيّن ذلك ان في الكفار من لا يوصف بأنه يكذب ويتولى فلو سئلوا عنهم لم يكن جوابهم إلّا هذا الذي ذكرنا فلا يمتنع في الفساق أن يكونوا في غير هذه النار وبين في الفساق ذلك بقوله تعالى (وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي) فمعلوم أن غير الأتقى يجنبها أيضا كمن ليس بمكلف من المجانين والاطفال.
سورة والضحى
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) أ ليس ذلك يدل على جواز الضلال على نبينا صلّى اللّه عليه وسلم وعلى سائر الانبياء؟
وجوابنا أن المراد بذلك ضالّا عن النبوّة والرسالة وسائر ما خص اللّه تعالى به نبينا صلّى اللّه عليه وسلم من التعظيم وغيره فهداك اللّه إليها لأنه في اللغة قد يقال ضلّ عن كيت وكيت إذا كان ذلك طريق منافعه ولم يقل اللّه تعالى ووجدك ضالا عن الدين حتى يصح تعلقهم وقوله تعالى (وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) يدل على وجوب الشكر للّه تعالى على نعمة ظاهرة لا خفيّة ويدل قوله تعالى (وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) على وجوب الاحسان الى السائل إما بالعطية وإما بالبشر والطلاقة كما روي عنه صلّى اللّه عليه وسلم (اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة فإن لم يكن فبكلمة طيّبة).
سورة أ لم نشرح
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ان ذلك يدل على ان إيمانه من اللّه تعالى لأن شرح صدره إنما يقع بالايمان.
وجوابنا أن شرح الصدر ليس من الايمان بسبيل وان كان قد يتقدم الايمان ويتبعه والمراد بذلك تكرير الأدلة والمعجزات عليه على ما بيّنه اللّه تعالى في كتابه في غير موضع وأما قوله تعالى (وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) فلا يدل على جواز الكبائر عليه وقد يقال إنه تعالى امتن عليه بأمر كان يجوز أن يفعله ولو كان ذلك من الصغائر لم يصح ذلك فيه؟ وجوابنا ان الكبائر لا تجوز على الانبياء والمراد بذلك ما يتفق على وجه السهو من الصغائر؛ والصغائر يضعها اللّه تعالى ويرفعها وقد يكون ذلك مما لا يجوز في الحكمة أن لا يفعله وقوله تعالى من بعد (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) في وصف ما وضعه من الوزر لا يدل على أنه من الكبائر إذ المراد أنه انزل به الشدائد من حيث يلزمه من التوبة والندامة ما فيه كلفة فأما قوله تعالى (وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) فمن جملة ما امتن به من النعم لأن ذلك مما يقتضي سرورا عظيما وقد ذكر في الخبر أنى لا أذكر إلا ذكرت معي كما في الآذان وغيره.
سورة والتين
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) كيف يصح ذلك ونحن نعلم ان في الصورة المقدور عليها ما هو أحسن من خلق الانسان؟ وجوابنا ان المراد بذلك البنية التي خصّ اللّه تعالى بها الانسان فهي أحسن من سائر البني التي خلق عليها سائر الحيوانات وإن كانت صورة الانسان تتفاوت وتتفاضل.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أما يدل ذلك على انه رده من الايمان إلى الكفر؟ وجوابنا أن المراد رددناه إلى العقاب الذي هو على الوصف اذا تمرد وعصى زجر بذلك العبد عن المعاصي ولذلك قال بعده (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) وهذا الاستثناء لا يليق الا بما قلنا.
سورة العلق
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أ ليس ذلك يدل على أنه أغناه وإن ادى ذلك الى الطغيان وهذا هو المفسدة التي تنزهون اللّه تعالى عن فعلها؟ وجوابنا انه ليس في الظاهر انه تعالى فعل ذلك حتى ذلك السؤال وقد يجوز ان يقول (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ويغنيه مع ذلك ويجوز أن يقول ولا يغنيه لأجل ذلك ومع ذلك فليس فيه دلالة على انه لو لم يستغن كان لا يطغى بل يجوز ان يطغى على كل حال عند ذلك وعند عدمه فلا يدل على ما قالوه ويجوز ان يكون المراد يطغى بما يتمكن منه عند الاستغناء، ولو لا ذلك كان لا يتمكن كالانفاق في وجوه المعاصي فيكون ذلك تمكينا لا مفسدة وهذه الآية تدل على ان العبد يتمكن من الطاعة إذا عصى لأنه لا يجوز في الاستغناء أن يدعوه الى المعصية إلّا وهو متمكن من الامرين ولو كان ما فيه من الكفر خلقا للّه كان لا يصح ذلك وقوله تعالى من قبل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أحد ما استدل به العلماء على أن القرآن مخلوق لأنه تعالى ذكر اسم ربه ثمّ وصفه بأنه خلق فيترجح أن يكون هذا الوصف راجعا إليه وان جاز ان يرجع الى غيره.
سورة القدر
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) كيف يصح أن يراد به القرآن ولم يتقدم له ذكر؟
وجوابنا انه قد تقدم ذكره في قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) وغير ذلك، واذا صار الامر معروفا جاز ان يحذف ذكره لعلم التالي به.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) كيف يصح ذلك وهل المراد به خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ونفس الليلة كيف يصح ان تكون خيرا؟ وجوابنا ان المراد العمل فيها خير من العمل في الف شهر تخلو عن ليلة القدر وليس في الآية تفصيل ذلك وان هذا الخير في كل المكلفين أو بعضهم في كل الاعمال أو في بعضها فيحتمل أن يريد انها خير على الجملة للعباد ويحتمل لكل مكلف ويحتمل ان تكون خيرا من ألف شهر لما يفيضه اللّه فيها من الأرزاق والنعم فلا يصح ما سألوا عنه ولذلك أتبعه تعالى بقوله (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) فنبه على ما ذكرناه.
سورة البينة
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ويُقِيمُوا) ما الفائدة في قوله تعالى (حُنَفاءَ) واذا عبدوا اللّه واخلصوا كفى ذلك؟ وجوابنا ان المراد مستقيمي الطريقة لأنهم أمروا بأن يعبدوا اللّه مخلصين له الدين على هذا الوجه وقد قيل في الاخلاص أن المراد به تخليص الطاعات من الكبائر فيشهد لما ذكرناه ويجوز أن يراد به وما أمروا إلا بذلك على هذا الوجه السهل كما قال صلّى اللّه عليه وسلم بعثت بالحنيفيّة السّمحاء وهذه الآية دالة على أن كل عبادة من الدين وعلى أن ما يعبد اللّه به يجب أن يفعل على هذا الوجه وفعله على هذا الوجه دون غيره لا يتم إلا والعبد متمكّن من فعله على غير هذا الوجه وقوله تعالى (وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) يدل أيضا على ما ذكرنا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ والْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ) أ ليس يدل ذلك على ان في الكفار من ليس بمشرك وكذلك قوله تعالى في أول السورة يدل على ذلك؟
وجوابنا انه في أصل اللغة المشرك هو الكافر المخصوص الذي يتخذ مع اللّه شريكا لكن من جهة عرف الشرع أطلق ذلك على كل كافر كما عقل من قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ
لِمَنْ يَشاءُ) ومن قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فلا يمتنع أن يفضل بينهما في بعض المواضع وهذا كما يقال مثله في المسكين والفقير وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) الى قول اللّه (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) يدل على ان العلماء خير البرية لقوله (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وانت إذا جمعت بين الآيتين تثبت ما ذكرناه.
سورة الزلزلة
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) أ ليس ذلك يوجب ان الكافر والفاسق إذا فعلا طاعات يريان ثوابها وذلك خلاف قولكم؟
وجوابنا ان الخير المستحق على الطاعة هو الثواب وانما يستحقه فاعل الخير اذا لم يكن معه معصية أعظم من الطاعة فأما اذا كانت معاصيه من باب الكفر والفسق فلن يرى ذلك لأن الوعد والوعيد مشروط بما ذكرنا في الثواب والعقاب وبعد فإن من يفعل الخير اذا كانت أحواله سليمة يرى ثوابه واذا كانت غير سليمة باقدامه على المعصية يرى أيضا التحقيق بذلك من عقابه فيستقيم الكلام على هذا الوجه.
سورة العاديات
[مسألة]
وربما قيل كيف يصح ان يقول تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) وليست هذه حال كل انسان؟ وجوابنا أنه تعالى أتى بوصف لهذا الانسان يدل على المراد به الخصوص وهو قوله تعالى (وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) ويحتمل أن يراد ان الجميع كذلك لكن بعضهم يصرف نفسه عمّا حيل عليه من الهوى والشهوة وبعضهم على خلاف ذلك فيكون الكل داخلين فيه ويكون المراد هذه طريقة من انصرف عن هذا الامر أو أقدم عليه وذلك زجر من اللّه تعالى عن المعاصي ولذلك قال بعده (أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) واذا تصور المرء في كل ما يأتي ويذر أنه تعالى عالم خبير كان ذلك زاجرا له عن المعاصي.
سورة القارعة
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) أ ليس ذلك يدل على موازين لكل أحد وما معنى قوله (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) وكيف تكون جهنم أمّا للبشر؟ وجوابنا أنه ليس هناك ثقل في الحقيقة لان اعمال المكلف قد تقضّت وهي مع ذلك عرض لا ثقل فيه وإنما أراد بذلك رجحان طاعته على معاصيه فشبه بما يوزن من الاشياء الثقيلة ولا ينكر مع ذلك أن يكون هناك موازين يوزن بها صحائف أعمال العباد فيبين حال من رجح في باب الطاعة وإنما قال تعالى (وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) تنبيها بذلك على لزوم العقاب له كلزوم الأم للشيء وذلك ممّا إذا تبيّنه التالي عرف كثرة وجوه الفائدة في هذا الكلام القليل وعرف به مزيّة القرآن في الفصاحة.
سورة التكاثر
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) كيف يحسن هذا التكرار؟ وجوابنا أن المراد بهما مختلف فالمراد بالأول (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما ينزل بكم في الدنيا في حال الحياة والممات، والمراد بالثاني (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما يكون لكم في الآخرة من ثواب وعقاب وهذا بعث من اللّه تعالى على التمسك بطاعته وقوله تعالى من بعد (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ) المراد به التنبيه على تقصيرهم في المعرفة وذلك خاص ببعضهم وقوله تعالى (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) يدل على ان الواجب الشكر للّه تعالى على نعمه وان من لم يفعل يسأل عن ذلك وهذا يدل على قدرته على القيام بحق الشكر وإلا لم يكن يسأل عنه بل كان يجب ان كان تعالى يخلق فيه كفر النعمة أن يكون سائلا نفسه ومحاسبا لنفسه تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
سورة العصر
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) كيف يصح ذلك واللّه تعالى خلقه لينتفع؟ وجوابنا ان المراد المكلف دون غيره فبين أنه لفي خسر إلا الذين آمنوا ثمّ بيّن صفتهم فقال تعالى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ولم يقتصر على ذلك حتى وصفهم بالنظر في أمر غيرهم لأن المكلف كما يلزمه ما يخصه من ايمان وعبادة كذلك يلزمه ما يتعلق بغيره من أمر بمعروف ونهي عن منكر وتعليم للدين وصرف عن الباطل فلذلك قال تعالى (وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) وهاتان الكلمتان قد دخل فيهما كل امر يلزم المرء في غيره وان فسرناه طال القول فيه.
نسخة: حاشية وجدت بخط اليشكري من أصحاب أبي رشيد سألت قاضي القضاة عن الامر الذي يلزم المرء في غيره ما هو قال هو كثير من جملته ما يدخل في قوله تعالى (وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ) والدعاء الى الدين والتوحيد والعدل والانصاف في المعاملات والامر بالمعروف والنهي عن المنكر واصلاح ذات البين ويدخل في قوله (وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ) وهو الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي والصبر على ما يلحق المرء من المحن والشدائد والمصائب من جهة اللّه تعالى ومن جهة عباده الظلمة بان لا يجزع ولا يهلع ولا ينتصف من ظالمه بأكثر من حقه ولا يريده بأكثر مما حده الله فيه ولا يحمله الغضب والجزع على ان يتعدى فيه الى حد ذم فان من الناس من اذا لحقته محنة من ظالم يريد ان يلحق سائر الناس مثل ما لحقه ولو تمكن منه ومن التشفي به لفعل وربما سعى به الى السلطان وكل هذا مما نهى اللّه عنه والواجب على المؤمنين ان يوصى بعضهم بعضا بذلك كما ندب اللّه اليه. وفقنا اللّه للعمل بما يرضيه ويزلفنا اليه والسلام اه.
سورة الهمزة
[مسألة]
وربما قيل هل يدخل في قوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) غير الكافر او لا يدخل فيه الا الكفار؟ وجوابنا ان ذلك محتمل لاجل قوله تعالى (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) وذلك مما لا يليق إلا بالكفار الذين لا يعتقدون في أموالهم انها من قبل اللّه تعالى فلذلك رجحنا قول من صرف ذلك إلى الكفار.
سورة الفيل
[مسألة]
وربما قيل فيه كيف يصح في الطير الصغير أن يرسل الحجر فيؤثر في الناس التأثير الذي ذكره اللّه تعالى في هذه السورة؟ وجوابنا ان ذلك يصح من احد وجهين إما بأن يزيد اللّه تعالى في قوة الطّيور فلزيادة قوتهم يؤثر ذلك الحجر التأثير العظيم، فقد روى ان ذلك الحجر كان ينفذ في الراكب وفي فرسه حتى يخرقهما جميعا والثاني ان يكون اللّه تعالى عند رمي الطير كيف يفعل فيه من الانحدار الشديد ما يؤثر هذا التأثير. فان قيل كيف يصح ذلك ولم يكن في الزمان نبي وهذا من المعجزات العظام؟ وجوابنا أنه لا بد من نبي في الزمان يكون هذا الامر معجزة له وقد كان قبل نبينا أنبياء بعثوا الى قوم مخصوصين فلا يمتنع أن يكون هذا الأمر ظهر على بعضهم كما روى انه صلّى اللّه عليه وسلم قال في خالد بن سنان ذلك نبي ضيعه قومه، وكما قال في قس بن ساعدة أنه يبعث يوم القيامة امة واحدة لقلة من قبل عنه فهذه طريقة الكلام في هذا الباب.
سورة قريش
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) كيف يصح ذلك ومعلوم أن فيهم من لم يطعمه اللّه من جوع كالذين يقطعون الطريق ويفسدون في الارض وفيهم من لم يؤمنه من خوف كالذين يخافون الفتن وغيرها في تلك البقعة وغيرها؟ وجوابنا أن قوله تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) مخصوص لأنه راجع إلى قوله تعالى (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ) فانما ورد في هؤلاء التجار وهؤلاء لا يمتنع أن يكون ما ذكره اللّه تعالى واقعا فيهم فأطعمهم اللّه جميعهم من جوع وآمنهم من خوف، فان قيل فان كان اللّه تعالى أطعمهم فيجب أن يكون هو الخالق للأكل فيهم كما يقوله أهل الاجبار؟ وجوابنا أنه من جهة العادة يقال ان فلانا أطعم القوم اذا مكنهم من الأكل وأباح ذلك لهم فلما كان تعالى أباح لهم التصرف في التجارات وغيرها ورزقهم من ارباحها ما يكون طعاما لهم جاز أن يصف نفسه بأنه اطعمهم من الجوع وآمنهم من الخوف ومعلوم أنه قد خص اللّه تعالى هذه البقعة من الأمن بما باينت به غيرها من البقاع ولم يقل تعالى وآمنهم من كل خوف فورود بعض أسباب الخوف عليهم لا يخرجهم من أن يكونوا قد آمنوا من بعض آخر.
تنزيه القرآن (31)
سورة الماعون
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) كيف يصح مع السهو؛ والسهو من قبل اللّه تعالى والساهي معذور فيما سها عنه فكيف يكون له الويل؟ وجوابنا أن المراد بقوله تعالى (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ليس هو السهو الذي يفعله تعالى فيهم بل هو ما ينالهم من الغفلة لقلة توفرهم على الصلاة وقد اوجب اللّه تعالى على المكلف ان يتوفر بقلبه وبدنه ولسانه على الصلاة فاذا قصر في ذلك مع التمكن جاز ان يوصف بأنه سها عن صلاته فهذا هو المراد ولذلك قال تعالى بعده (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ويَمْنَعُونَ الْماعُونَ) والمرائي بما يفعله لا يجوز ان يكون ساهيا على الوجه الذي يكون معذورا معه في تلك العبادة.
سورة الكوثر
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ) ما وجه تعلق النحر بالصلاة حتى يعطف عليها وما وجه تعلق هذا الامر بانعام اللّه تعالى عليه بالكوثر؟ وجوابنا أنه قد روي عن امير المؤمنين أن المراد به وضع احدى اليدين على الاخرى عند الصدر ولذلك تعلق بالصلاة لأنه أحد ما سن فيها على ما روى عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال ثلاث من سنن المرسلين احدهما وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وقد قيل ان المراد بهذا النحر ما له تعلق بالصلاة يوم الاضحى وفي المناسك وقيل إنه تعالى ذكر في العبادات ما هو الاشق من الصلاة وأتبعه بما هو الأشق في نفار الطبع.
سورة الكافرون
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) كيف يحسن ذلك في الحكمة مع التكرار الذي فيه؟
وجوابنا أنه لا تكرار في ذلك لان قوله تعالى (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) المراد به في المستقبل وقوله تعالى (وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) المراد به في الحال (وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) المراد به في المستقبل وفي الحال أي لا أعبد ما تقدمت عبادتكم له، ومن يعد ذلك تكرارا فمن قلة معرفته وتدبره لأنه ينظر الى اللفظ ويعدل عن تأمل المعنى.
سورة النصر
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ما وجه تعلق الأمر بأن سبح بما تقدم ذكره ومعلوم أنه مأمور بذلك في كل حال؟
وجوابنا ان المراد (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) لاجل هذه النعمة العظيمة وهي النصر والفتح وتوفر الناس على الدخول في الدين لأن كل ذلك من النعم الزائدة على محمد صلّى اللّه عليه وسلم وعند كل نعمة متجددة يجب الشكر المتجدد فأمره اللّه تعالى بذلك وبالتوبة والانابة لأنه ما من حال يجب فيها شكره وتنزيهه الا ويجب معها التوبة وقد قيل ان السورة نزلت آخرا وقد نعى الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نفسه فنبه بهذا الكلام على ما ينبغي أن يتسدد فيه عند مفارقة الدنيا.
سورة المسد
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وتَبَّ) كيف يصح أن يعرّفه اللّه تعالى بأنه سيصلى النار وأنه لا يؤمن ومثل ذلك اذا عرفه المرء صار كالصّارف عن الإيمان والإغراء بالكفر؟ وجوابنا أن في العلماء من قال ان هذا الخبر مشروط كما شرط اللّه تعالى في الوعد الثبات على الطاعة واجتناب الكبائر وشرط اللّه تعالى في الوعيد أن لا يتوب ولا يأتي بطاعة أعظم من معاصيه واذا كان مشروطا فيجوز أن يؤمن فيخرج عن أن يكون خاسرا وأن يكون ممن يصلى النار قطعا ومن العلماء من قال يجوز أن يكون مقطوعا به وإعلامه بذلك لعلم اللّه تعالى فيه أنه لا يؤمن ولا يمنع ذلك من حسن التكليف لانه في أن لا يؤمن إنما يؤتى من قبل نفسه وعلى هذا اختلفوا أيضا في تعريف اللّه له هل هو بأنه لا يؤمن أو بأنه يبقى الى حين.
سورة الاخلاص
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (اللَّهُ الصَّمَدُ) أ ليس في الرواية أنه المصمت الذي لا جوف له وذلك يدل على ما تقوله المشبهة؟ وجوابنا أن المروى عن ابن عباس أن الصمد السيد والمروى عن الحسن وغيره أنه الذي يصمد اليه في الحوائج ويفزع اليه في الطلبات وكلاهما من أوصاف اللّه تعالى التي تمنع من أن يكون جسما لان السيد الذي لا يتقدمه غيره في السؤدد وغيره لا يجوز أن يكون جسما ولأن من يفزع في الامور على كل حال لا يجوز أن يكون جسما. وفي الخبر ان بعض أهل الكتاب قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلم أنعت لنا ربك أ من ذهب أم فضة فأنزل اللّه تعالى هذه السورة وبين لهم فيها فساد ما اعتقدوه لان قوله تعالى (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يتضمن أنه الذي تحقّ له العبادة وذلك لا يصح إلا للقدرة على خلق من يستحق أن يعبده والانعام عليه بالعقل وغيره ثمّ قال في وصفه إنه أحد ولا يكون واحدا لا عديل له إلا وهو قديم لا يشبه الاجسام ولا مثل له ولا نظير في الآلهية وثمّ قال تعالى (اللَّهُ الصَّمَدُ) فأعاد ذكر الآلهية عند وصفه إليه في الأمور ثمّ قال تعالى (لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ) فبيّن أن ذلك مستحيل عليه ولو كان جسما لم يستحل عليه ذلك ثمّ قال تعالى (وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ليعلم انه لا نظير له ينازعه في الملك وهذا إذا تأمله المرء عرف دخول كل أوصاف اللّه تعالى من الوحدة والعدل في جملته لأن الآلهية تقتضي على الاجسام والفعل والحياة وغيرهما وتقتضي العلم بأن المكلف كيف يعبد وكيف
يصل إلى الثواب ويقتضي ذلك أنه حيّ لان القادر العالم يجب أن يكون حيّا؛ والحي اذا انتفت عنه الآفات يجب أن يكون سميعا بصيرا مدركا للمدركات ولا بد من أن يكون موجودا ليصح أن يكون قديما موصوفا هذه الاوصاف والالهية تفيد الحكمة، والحكمة تقتضي أن لا يفعل القبيح فليس لأحد أن يقول كيف يصح في هذه السورة أن تكون جوابنا لقولهم الذي قالوا.
سورة الفلق
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) إن ذلك يدل على أن الشر من قبله كما أن الخير من قبله؟ وجوابنا أنه لو كان كما قالوا لوجب ان يكون شرّيرا لكثرة الشر الذي يقع منه وأن يوصف بأنه من الاشرار فالمراد من شر خلقه، فالشر يضاف الى خلقه لا إليه. تعالى اللّه عن ذلك وفي جملة ما خلق ما يكون الشر منه كالحيّات والعقارب وغيرهما وعلى هذا الوجه أمر اللّه تعالى بأن يتعوذ من شرّ حاسد إذا حسد، ومعلوم انه ليس يقع منه عند الحسد إلا ما يجري مجرى الحيل ونبه تعالى بذلك على ان الواجب التحذر مما يضر في الدنيا بالقول كما ينبغي ان يتحرز بالفعل وجعل ذلك كالسبب في التحرز من المعاصي لأنه اذا شدّد في التحرز من هذه الامور التي تقل مضارها كان التحرز من عقاب الآخرة أقرب.
سورة الناس
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) أ ليس ذلك يدل على ان الشيطان يؤثر في الانسان حتى أمرنا بأن نتعوذ من شرّه وانتم تقولون إنه لا على شيء من ذلك؟ وجوابنا أنه تعالى بيّن أن هذا الوسواس من الجنّة والناس ومعلوم ان من يوسوس من الناس لا يخبط ولا يحدث فيمن يوسوس له تغيير عقل وجسم فكذلك حال الشيطان ومع ذلك فلا بد في وسوستهم من أن يكون ضرر يصح ان يتعوذ باللّه تعالى منه وهذا يدل إذا تأمله المرء على قولنا بان العبد مختار لفعله وذلك لأنه تعالى لو كان يخلق كل هذه الامور فيه لم يكن لهذا التعوذ معنى لأنه إن اراد خلق ما يضره فيه وخلق المعاصي فيه فهذا التعوذ وجوده كعدمه وانما ينفع ذلك متى كان العبد مختارا فاذا أتى بهذا التعوذ كان أقرب الى ان لا يناله من قبل الجنة والناس ما كان يناله لو لا ذلك.
[خاتمة في أسماء الله تعالى وأوصافه]
وقد ذكرنا في أول هذا الكتاب ان التالي للقرآن يجب أن يتأمل أسماء اللّه تعالى وأوصافه ويعرف معانيها على الجملة لينتفع بالدعاء والثناء ونحن الآن نذكرها على اختصار فإنا إن بسطنا القول فيها كان كتابا مجردا فاعلم أن في أم الكتاب خمسة أسماء منها قوله اللّه ومعناه أن العبادة لا تحق إلّا له من حيث انعم علينا بما لا يصح إلّا منه. من الخلق والقدرة والآلة والعقل حتى صرنا ممن يصح أن يعبده ويقوم بشكره. ومنها الرب ومعناه المالك لوجوه التصرف فيما هو ربه. ومنها الرحمن ومعناه المتناهى في الانعام الى الحد الذي لا
يصح إلا منه. ومنها الرحيم ومعناه المكثر من فعل النعم. ومنها الملك والمالك ومعناه القادر على التصرف في الاجساد إذا كانت معدومة وبالتقليب من حال الى حال اذا كانت موجودة وعلى هذا الوجه قال تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ويوم الدين هو يوم القيامة وهو معدوم الآن فأما في سورة البقرة فأسماء كثيرة.
منها المحيط وهذا الاسم حقيقة انما يصح في الاجسام التي تحتوي على الشيء كاحتواء الظرف على ما فيه ويقال ذلك في اللّه من حيث يعلم أحوال العباد من كل وجه فيجب أن يريد الداعي بهذه اللفظة ما ذكرنا وانما قال تعالى (وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) ليكون ردعا لهم عن الاقدام على المعاصي. ومنها القدير وذلك حقيقة في اللّه يفيد المبالغة في القدرة. ومنها العليم وهو للمبالغة في كونه عالما ومنها الحكيم ويقال ذلك على وجهين أحدهما بمعنى عالم والآخر بمعنى أنه فاعل لحكمة وكل ذلك صحيح. ومنها التوّاب ومعناه المبالغة في قبول التوبة من العباد وذلك كالمجاز الذي قد صار بالعرف كالحقيقة. ومنها البصير ومعناه أنه يدرك المبصرات إذا وجدت. ومنها الواسع وذلك مجاز في الأصل لأنه يستعمل في نقيض الضيق فهو حقيقة في الاجسام فيراد به كثرة رحمته وجودة إنعامه وافضاله ومنها البديع والمراد بذلك المبالغة في اختراع الأمور من الاجسام وغيرها. ومنها السميع والمراد بذلك أنه يدرك المسموعات إذا وجدت. ومنها الكافي والمراد بذلك أنه متفضل على العباد بمقادير كفايتهم إما بسبب أو بغير سبب. ومنها الرءوف وفائدته الاكثار من فعل الرأفة.
ومنها الشاكر وذلك في اللّه مجاز وإن كثر فيه التعارف لأن الشاكر في الاصل هو المنعم عليه اذا اعترف بالنعمة وذلك محال في اللّه تعالى فالمراد به أنه مقابل على الشكر بالثواب كما يفعله الشاكر في مقابلة النعم او يكون المراد أنه المجازى على الشكر وقد يجري اسم الشيء على ما هو جزاء عليه. ومنها الواحد والمراد بذلك انه لا ثاني له في قدمه وأوصافه. ومنها الغفور والمراد بذلك انه لا يفعل بالعصاة اذا تابوا وكانت معاصيهم صغيرة ما يظهر به حالهم فهو مأخوذ من الستر كما يقال ذلك في المغفرة وغيرها وذلك وان كان مجازا في الأصل فقد صار
في التعارف كالحقيقة. ومنها الحليم وفائدته أنه لا يتعجّل العقوبة خشية الفوت كما يفعله أحدنا. ومنها القائم والمراد بذلك الدائم الذي لا يجوز عليه الفناء وهو مخالف لقولنا قائم بمعنى مضاد قاعد. ومنها الباسط والمراد بذلك بسطه النعم والارزاق لخلقه وذلك أيضا من حيث التعارف كالحقيقة. ومنها الحي والمراد بذلك أنه مباين لما لا يصح أن يكون قادرا عالما. ومنها القيّوم وهو مبالغة في دوام الوجود. ومنها العليّ والمراد بذلك الرفيع في قدرته وسلطانه. ومنها العظيم والمراد بذلك عظم شأنه في قدرته وعلمه. ومنها الوالي والمراد بذلك توليه لمن يطيعه. ومنها الغنيّ والمراد بذلك نفي وجوه الحاجات عنه مع كونه حيّا. ومنها الحميد وهو مبالغة فيما يلزم من الشكر والحمد له ومبالغة في إكرامه لمن أطاعه من عباده. وفي آل عمران أسماء.
منها القائم وقد مضى معناه. ومنها الوهاب وفائدته المبالغة في الانعام الذي هو تفضل من اللّه. ومنها السّريع. وذلك كالمجاز في الاصل والمراد به نفي التأخير عن تفضّله بالأرزاق وغيرها. ومنها المجير. وفي النساء اسماء. منها المقيت ومعناه القيّم بالأمور. ومنها الوكيل ولا يقال ذلك في اللّه مطلقا بل يقال هو وكيل علينا. ومنها الحسيب وهو المبالغة في معرفة أحوال الخلق.
ومنها الشهيد وهو مبالغة في العلم بأحوال المكلفين. ومنها العفو ومعناه معنى الغفور ومنها الرقيب ومعناه المعرفة بأحوال الخلق. وفي الانعام اسماء.
منها الفاطر ومعناه المخترع للأشياء. ومنها الظاهر والمراد به القاهر الذي لا يجوز المنع عليه ومنها القادر والمراد به صحّة الأفعال. ومنها اللطيف والمراد بذلك المبالغة في اللطف والاحسان الواقعين منه. ومنها الخبير ومعناه انه عالم بالامور لا يخفى عليه منها خافية. وفي سورة الأعراف المحيي ومعناه فاعل الحياة فينا. ومنها المميت ومعناه فاعل الاماتة وكلاهما نعمة لأن الموت وإن قطع عن نعمة الدنيا فله حظّ عظيم في التوصّل به ومعه إلى نعمة الآخرة. وفي الانفال المولى والنصير ومعنى الاول الناصر لنا في أمر الدين والدنيا إذا لم يكن ذلك من باب الفساد والنصير يفيد المبالغة في النصرة. وفي
سورة هود الحفيظ وهو مبالغة في دفع الآفات عنا وعلى هذا الوجه نسأل اللّه ان يحفظنا في السفر والحضر والقريب والمراد به العالم بأحوال العباد وهو في الأصل تشبيه لمن يقرب فيعرف بقربه حال غيره ثمّ صار كالمتعارف. والمجيب وفائدته انه يجيب ادعية عباده وينيلهم ما يطلبون من قبله بشرط الصّلاح.
والقويّ والمراد به انه قادر. والمجيد والمراد به انه كريم عزيز وعلى هذا الوجه وصف تعالى القرآن بأنه مجيد. والودود والمراد به المبالغة في محبة من أطاعه وإرادة الاحسان اليهم. والفعّال وهو مبالغة في الاكثار من الفعل لكنه يقل دخوله في الاسماء التي تجري مجرى الثناء إلا انه يقبل. وفي سورة الرعد الكبير المتعال والمراد بالاول انه عظيم الشأن في قدرته وعلمه والمراد بالثاني انه منزّه عما لا يليق به. وفي الحجر الخلاق والمراد به المبالغة في الاكثار من الخلق وفي مريم الصادق والمراد به إثبات اخباره صدقا. والوارث والمراد بذلك عود النعم التي ملكها العباد إلى ان تكون ملكا للّه. وفي الحج الباعث والمراد به بعثته للرسل والى الرسل وبعثته بعد الاماتة ليوم الحشر. وفي سورة المؤمنين الكريم والمراد به انه عزيز او المراد به الاكثار من فعل الكرم وفي سورة النور الحق وهو في الاصل مجاز لأنه حقيقة فيما يضاد الباطل من الاعتقادات والمذاهب وغيرها فإنما يوصف تعالى بذلك على وجه المجاز ويراد به ان الحق من قبله وأنه لا باطل في افعاله او يراد به انه مما لا يجوز ان يفنى فيجب ان يبقى. وفي هذه السورة المبين والمراد به الفاعل لما به يتبين الخلق أحوال الاشياء وأحكامها. ومنها النور وذلك مجاز ولا يجوز أن يستعمل في اللّه تعالى على حقيقته لقوله (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ) فإن معناه منوّرها بما خلقه من شمس وقمر أو يكون المراد به أنه بالادلة قد صيّر ما دل عليه منكشفا كما ينكشف الشيء بالنور وفي الفرقان الهادي والمراد بذلك أنه فعل هداية الخلق ليفصلوا بين الحق والباطل وفي سبأ الفتّاح والمراد به أنه يفتح لخلقه طريق الخير والمعرفة ويفتح عليهم بالنّصرة ما طلبوا منه. وفي المؤمن الغفار ومعناه ما تقدم في غفور وفيه القابل ومعناه قبوله للطاعات
والتوبة ومجازاته عليهما. وفيه الشديد وذلك مجاز لأن أصله الصلابة في الاجسام فقيل في اللّه تعالى لشدّة عقابه على وجه الردع. وفي الذاريات الرزّاق وفائدته المبالغة في فعل الرزق وفيه ذو القوة ومعنى ذلك أنه قادر قوي. وفيه المتين وذلك مجاز لان المتانة إنما تصحّ في الاجسام الشّديدة فلا يجوز إطلاق ذلك على حقيقته. وفي الطور البرّ والمراد بذلك إكثاره من فعل البر والإنعام على خلقه.
وفي اقتربت المليك ومعناه ملك ومالك على ما قدمنا. وفيه المقتدر ومعناه المبالغة في قدرته على الاشياء. وفي سورة الرحمن الباقي والمراد أنه لا يجوز عليه تجدد الوجود والحدوث أبدا لم يزل ولا يزال. وفيها: ذو الجلال ومعناه معنى قولنا عظيم وكبير وجليل وفيها: ذو الإكرام ومعناه انه فاعل لذلك وأنه يليق به ما تأتيه من المدح والثناء عليه. وفي الحديد الأول والمراد به الموجود قبل كل موجود. والآخر والمراد به الموجود بعد الموجودات كلها.
والباطن والمراد به أنه عالم بالسرّ والظاهر وقد مضى معناه في سورة الانعام. وفي الحشر القدوس وفائدته المبالغة في تنزيهه عما لا يليق به.
والسّلام والمراد به ان السّلامة من قبله وهو مجاز في الاصل. والمؤمن والمراد به انه امّن من غيره من الخوف وغيره وفيه. المهيمن ويقرب معناه مما ذكرنا وفيه. العزيز والمراد به انه لا يضام ولا يمنع من مراده وفيه. الجبار والمراد به انه يقهر غيره ولا يصح ان يقهره وفيه. المتكبر والمراد به المبالغة في صفات المدح وذلك كالذم فينا لأنا إذا تكبّرنا صوّرنا انفسنا بحالة ارفع مما نحن عليه ولا حال يليق باللّه تعالى ولا حال أرفع منه وفيه. الخالق والمراد به إيجاده للمخلوقات وفيه. البارئ ومعناه ابتداعه لما خلق وفيه. المصور والمراد به فعله لهذه الصور العجيبة وفي البروج. المبدئ المعيد. والمراد بالأول أنه تعالى المبتدئ بالخلق. والمراد بالثاني أنه بعد الفناء يعيدهم. وفي الاخلاص الاحد. معناه ما قد ذكرنا والصّمد وقد ذكرنا معناه قال وهذه الاسماء وغيرها مما لم يذكر فإنما يذكر في الدّعاء وفي مقدمات ما يطلب من قبل اللّه تعالى ليكون الدعاء أقرب إلى الاجابة ولو قال قائل يا اللّه يا رحمن اغفر ذنوبنا لحسن
ذلك ولو قال يا موجود يا شيء لقبح ذلك. وإنما يحسن أيضا من المرء أن يطلب من اللّه ما يحسن ان يفعله دون ما يكون فسادا فالداعي يجب ان ينوي ذلك ويقصده أو يظهر ذلك بكلام فلو قال الدّاعي اللّهمّ ارزقني اولادا وفي المعلوم انه إن رزق يرهقونه طغيانا وكفرا لم يحسن ذلك فيجب ان ينوي إن لم يكن فسادا في دينه وكذلك القول في سائر ما نطلبه من اللّه تعالى وعلى هذا الوجه لا يحسن منا أن نقول اللهم اغفر للكفّار والفسّاق ويحسن ذلك في المؤمنين وعلى هذا الوجه قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) في قوله (وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) وعلى هذا الوجه ايضا قال تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) وكذلك القول فيما يتصرف فيه لان التاجر يجب ان يطلب الربح في تجارته بشرط أن لا يكون فسادا وكذلك الحرّاث والمحترف فالفعل في ذلك إذا كان يطلب بدعاء شرط ان لا يكون المطلوب فيه فساد في الدين وينبغي للمؤمن ان يتفكر في ذات الخالق تعالى لئلا يؤدي به إلى الكفر.
قال تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وقُعُوداً وعَلى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا) مدحهم تعالى على تفكّرهم فبيّن انه ينبغي أن ينظروا ليعلموا انه تعالى ما خلق ذلك باطلا ليصحّ منهم هذا القول وليصحّ منهم ان يقولوا (سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) لأن ذلك تنزيه به عمّا لا يليق به فيجب ان تتقدم المعرفة في ذلك. وإنما عظّم شأن القرآن لا لأنه يتلى ويحفظ فربّ صبيّ لم يبلغ حدّ كمال العقل يسابق الكبار من العقلاء في حفظه وإنما عظّم ذلك من حيث إذا تدبّره المرء وتمسك بآدابه وأحكامه عظم نفعه دينا ودنيا. وقد ذكرنا هذا في الكتاب والحمد للّه على نعمه ما ينبه من نظر فيه على عظم شأن القرآن من أدلة على معرفته وعلى معرفة عدله ومن
ضروب من التنبيه على ما اودعه من وعظ وتذكير وانذار وتبشير ووعد ووعيد. وذكرنا أيضا على وجه الاختصار ما يعرف به عظيم الغلط ممن طعن في القرآن بذكر الشبه دون قصد الاستعلام على ما ظن أنه بخلاف الحكم الشرعي اما ذكر الشبه للاستعلام أو لبيان اجوبتها فلا يعدّ من الطعن في القرآن؛ قال تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). والحمد للّه الذي اعانني على إتمام هذا الكتاب وخدمة القرآن الكريم.