الكتاب : تحفة الأسماع والأبصار المؤلف : المطهر بن محمد الجرموزي |
تحفة الأسماع والأبصار
بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار
تم تحميل هذا الكتاب إلكترونيا من
شبكة حليف القرآن الإمام زيد بن علي (ع)
http://www.imamzaid.com
أعده إلكترونيا
قطب الدين بن محمَّد الشَرْوَني الجعفري
للتواصل
viva_intifada@hotmail.com
www.izbacf.org
الإهداء
إلى التي كان لها دورٌ عظيم في أن ترى هذه الرسالة النور... زوجتي الغالية
(أم خلدون)
مقدمة
إن الصلة بين الماضي والحاضر صلة حميمة، فلولا ذلك الماضي لما كان هذا الحاضر، ولهذا حاولت أن أفتش في ذلك الماضي، عندما راودتني العديد من الموضوعات لاختيار موضوع دراستي في التاريخ الحديث والمعاصر، ومن خلال مسحة لتاريخ اليمن الحديث وجدت أنّ هناك ثغر تمثلت في فترة زمنية هامة من تاريخ بلادنا وهي فترة ما بعد الخروج العثماني الأول من اليمن، فترة توحدت فيها الأرض اليمنية، وكان لها شأن عظيم بين الدول المجاورة، والدولة الإسلامية والأروبية.
هذه الفترة كانت بين الأعوام[1054هـ-1087هـ/1644-1676م] وهي فترة لم يتطرق إليها العديد من المؤرخين، إلا عبر كلمات قليلة جاءت بين السطور، وبناء عليه قررت استقاء موضوعي من خلال المخطوطات التأريخية، لأن ما كتب عن الفترة لا يمثل إلا قطرات في بحر واسع.
وبعد البحث في المخطوطات التاريخية والتي اطلعت عليها في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، وجدت ما أصبوا إليه في مخطوطة تحمل اسم (تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار) للمؤلف مطهر بن محمد الجرموزي (ت1077هـ/1666م).
إن تلك المخطوطات والتي ترقد في مكتبة الجامع الكبير وبعض المكتبات الخاصة التي تمثل تراثاً وطنياً، وهو بالطبع يعد جزء من تراث الأمة العربية الإسلامي.. ولذا وجب التعرف عليه واحيائه عبر جمعه وتدوينه، ومن ثم تحقيقه ونشره ليكون في متناول الجميع.
وتكمن الأهمية الزمنية للمخطوطة بأنها أرخت لفترة استقل فيها اليمن بعد خروج الأتراك الأول (1045هـ/1635م) وصولاً إلى توحيدها في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل، وتبرز أهمية المخطوطة أيضاً في دقة معلوماتها وشموليتها، إلى جانب أن مؤلفها كان شاهد عيان لأحداثها؛ بل وأكثر من ذلك قربه من الإمام المتوكل على الله إسماعيل.
وهناك بعض الكتابات التي أرخت لهذه الفترة مثل يحيى بن الحسين في مؤلفه (بهجة الزمن في حوادث اليمن) وعبدالله بن علي الوزير في مؤلفه (تاريخ الحلوى وصحائف المن والسلوى)، إلاَّ أنهما لم يكونا شاهدا عيان كمؤرخنا، أيضاً هناك بعض البحوث والدراسات تناولت فترة حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل، مثل ما نشرته الباحثة السعودية سلوى سعد الغالبي والتي نالت درجة الماجستير في بحثها عن الإمام المتوكل على الله إسماعيل ودوره في توحيد اليمن، وقد أشارت إلى أن مخطوطتنا كانت العمود الرئيسي في موضوع دراستها، إلاَّ أننا نرى أنها لم تستفد منها كثيراً، كما كانت استقت منها معلوماتها بعلاتها دون تمحيص أو تدقيق.
ولقد أعطت المخطوطة صورة متكاملة لتلك الحقبة الزمنية من تاريخ اليمن المستقل.
ورغم أن المؤرخ الجرموزي، كان منحازاً للأئمة، كما يتضح من تلك العبارات التي ترد في المخطوطة من خلال تهجمه على الأتراك، إلاَّ أن ذلك لا ينقص من أهميتها ولا يؤثر على محتواها فهي تحتوي على تاريخ مفصل لفترة من أهم فترات تاريخ اليمن الحديث، فإلى جانب اهتمام المؤلف بالتطور السياسي حينذاك فإنه تطرق إلى ذكر النواحي الإجتماعية والإقتصادية كما أنه رصد النهضة العلمية التي شهدتها الفترة ويتجلى ذلك في ذكره العديد من العلماء والفقهاء الذين ساهموا في النهضة.
ونلمس أهمية المخطوطة بالنظر إلى ما قدمته لنا في صورة واضحة عن العلاقات الخارجية التي تربط اليمن بالأقطار العربية والإسلامية. حيث وثقت لتلك الرسائل التي تبودلت بين الإمام والأشراف في مكة واليعاربة (سلطنة عمان حالياً) وكذا الدولة المغولية (الهند) وغيرها.
أما النسبة لمؤلف المخطوطة فهو المطهر بن محمد بن أحمد بن محمد المنتصر الهدوي الجرموزي، ولد سنة (1050هـ/1595م) في بني جرموز من بني الحارث شمال صنعاء.
ولقد عايش مؤرخنا الإمام القاسم محمد (ت 1029هـ/1619م) وابنيه المؤيد بالله محمد بن القاسم (1054هـ/1644م) والمتوكل على الله إسماعيل (ت 1087هـ/1676م).
وتبوأ مؤرخنا مناصب عليا في الدولة القاسمية، في مجال القضاء كان آخرها أيام المتوكل على الله إسماعيل حيث شغل منصب قاضي في (عتمه).
ولقد كتب ثلاث سير تناول فيها حياة القاسم وولديه كلِّ على حده، وهذه السير تعد تاريخاً هاماً لفترة هامة، من تاريخ بلادنا، فترة نضال ضد الأتراك وخروجهم منها، وصولاً إلى توحيد اليمن تحت حكم الإمام المتوكل، وقد أفردت في دراستي التمهيدية وبشكل موسع ترجمة عن المؤلف (مولده. نشأته. مؤلفاته. وفاته. ومنهجه في الكتابة).
ولقد اعتمدت في تحقيقي للمخطوطة على أربع نسخ وهي:
1- نسخة المكتبة الغربية في الجامع الكبير وقد أشرت إليها في الرسالة بالرمز(أ).
2- النسخة الثانية وهي موجودة أيضاً في المكتبة الغربية في الجامع الكبير ورمزت إليها بالرمز (ب).
3- نسخة مكتبة الأحقاف بتريم وأشرت إليها بالرمز (ح).
4- نسخة الفاتيكان وأشرت إليها بالرمز (ف).
أمَّا بالنسبة لنسخة الوالد القاضي محمد القاسم الوجيه فقد إكتَفيتُ بالإستئناس بها وقسمت الدراسة إلى قسمين:
القسم الأول: واشتمل على الدراسة التمهيدية، والتي تناولت من خلالها ترجمة عن حياة المؤلف، ونسبه، مولده، نشأته، مؤلفاته، فمنهجه في الكتابة.
اتجهت بعدها لمعالجة المخطوطة ببيان أهميتها واستعراض محتوياتها بكافة جوانبها السياسية والإقتصادية وكذا النهضة العلمية.
ثم تطرقت إلى المخطوطة، وكيف تم البحث عنها، واختيار النسخة الأم، وعرض الأسباب في اختيار هذه النسخة دون غيرها مما وقع بين يدي من نسخ لهذه المخطوطة، يلي ذلك تفصيل لكل نسخة من هذه النسخ عبر عملية وصفية لكل واحدة منها.
وخلصت في نهاية دراستي التمهيدية إلى منهج النشر الذي اعتمدت عليه أثناء تحقيقي للمخطوطة.
القسم الثاني: وأمَّا بالنسة لهذا القسم، فقد ضم تحقيقاً للمخطوطة، عمدت من خلاله تناولها بالتحقيق العلمي المتعارف عليه أثناء عملية البحث والتحقيق لكل ما ورد فيها ويتضح ذلك جلياً في هوامش النص.
وذيّلت الدراسة بعدد من الملاحق احتوى الملحق الأول على جدول توضيحي لأسرة الإمام القاسم بن محمد، فيما احتوى الملحق الثاني على أسماء الكتب التي ألفها الإمام المتوكل على الله إسماعيل ويأتي بعدها ملحق ثالث يضم أشهر الألقاب التي وردت في المخطوطة.
أما الملحق الرابع فقد خصص لخريطتين تفصيليتين للدولة اليمنية في عهد المتوكل.
وفي الأخير لابد أن تجد آيات الشكر والعرفان طريقها إلى من استحقها فنكران الجميل جحود والمقدم عليه لا يفلح.. وهنا أوجه الشكر العميق- مع علمي بأني مهما قلت في هذا الخصوص فسأبقى عاجزاً عن الإنصاف- إلى الأستاذ الإنسان صاحب الفضل الأول والأكبر عليَّ أستاذي الفاضل المشرف على الرسالة الدكتور/ حسين بن عبدالله العمري. والذي لولاه ما كان لرسالتي أن ترسو واثقة مطمئنةً كما هي بين يدي القارئ. فله مني التحية والإجلال.
ولا أنسى أيضاً من تقديم شكري وتقديري للأستاذ الدكتور/ سيد مصطفى سالم الذي مد يد العون والمساعدة، ولم يبخل عليَّ بالنصيحة والمشورة طيلة فترة عملي في الرسالة.
ولا أنسى كذلك أهل بيتي الذين تحملوا معي عبء الحياة لترى هذه الدراسة النور.كما لا يفوتني أن أشكر كل أخ وصديق على كل ما قاموا به من مساعدة عند إعداد هذه الرسالة.
وفي الختام أرجو من الله العلي القدير أن أكون قد وفقت في دراستي هذه، وأملي أن تكون سنداً للباحثين والمهتمين في التاريخ اليمني الحديث.. وإن كان هناك ثمة قصور. فحسبي أني أديت ما استطعت إليه سبيلا، والكمال لله سبحانه وتعالى.
والله ولي التوفيق ،،،
عبدالحكيم عبدالمجيد الهجري
صنعاء: في 25/3/1997م.
الدراسة التمهيدية
ترجمة المؤرخ: المطهر بن محمد الجرمزي
تمهيد:
مثلت الفترة التاريخية للوجود العثماني الأول في اليمن(1538-1635م) مرحلةً هامةً في التاريخ اليمني الحديث، حيث ارتبطت تلك الفترة بأحداثٍ سياسيةٍ، نتيجة تصادم العثمانيين باليمنيين، وخاصة (بالأئمة الزيديين، والذين تمكنوا بالتالي من قيادة الثورات الوطنية حينذاك ضد العثمانيين، مما ساعدهم في النهاية على أن يلعبوا الدور الرئيسي في تاريخ اليمن) .
ونشطت نتيجة للأوضاع السياسية الناجمة عن هذا الصراع، حركة التأليف التأريخي آنذاك، حيث صاحب ذلك التصادم نهضة فكرية وثقافية: (إذ كان من الطبيعي أن يشترك القلم في المعارك القائمة حينذاك، وتظهر كتابات ومؤلفات) أسهمت في رصد وقائع الأحداث -في الحرب والسلم على السواء- وبالتالي فقد شكلت تلك المؤلفات، مصدراً هاماً، يستند إليه كل من أراد التأريخ لهذه الفترة، ويعّول على مصداقيته باتجاه طرح رؤاه وتحليلاته عنها.
تلك الكتابات والمؤلفات لم يزل الكثير منها مخطوطاً يرقد في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، وغيرها من المكتبات العامة والخاصة، وهي بلا ريب تمثل تراثاً وطنياً ثرياً، ينبغي الكشف عنه وجمعه والتعريف به في فهارس وصفية منظمة، ومن ثَمْ تحقيقه ونشره ليكون في متناول الجميع، وبالذات المهتمين بقضايا التراث دراسة وتحليلاً.
من ذلك الكنز الكبير من المخطوطات (تُحفة الأسماع)-موضوع دراستنا- كواحدة من النماذج لمؤلفات ذلكم العصر، للمؤرخ المطهر بن محمد الجرموزي، باعتباره أحد المعاصرين لفترة نشوء الدولة القاسمية، على يد مؤسسها الإمام القاسم بن محمد (ت1029هـ/1619م)، إبّان الإحتلال العثماني الآنف الذكر.
وتُعَدُّ (تحفة الأسْمَاع والأبصار) واحدة من ثلاث مؤلفات -سيأتي الحديث عنها- للمؤرخ الجرموزي، تناول فيها التأريخ لسيرة الإمام القاسم محمد، وسيرة كلٍ من ولديه الإمام المؤيد بالله (ت1054هـ/1644م)، والإمام المتوكل على الله إسماعيل (ت 1087هـ/1676م)، وهو بذلك يكون قد استوفى التأريخ لفترة عُدَّت من أهم فترات التأريخ الحديث للدولة اليمنية.
ونستعرض في ما يلي بالشرح والإيضاح، ترجمة الجرموزي، مستقصين أخباره مما وقفنا عليه من مصادر، نورد فيها نبذة عن حياته وسيرته.
نسبه
هو السيد العلامة المجاهد فخر الدين الجرموزي الحسني الهدوي ، المنتهي نسبه إلى آل البيت، فهو: المطهر بن محمد بن أحمد بن أحمد بن عبدالله بن محمد المنتصر بن محمد بن أحمد بن القاسم بن يوسف بن المرتضى بن المفضل بن منصور بن الحجاج بن عبدالله بن علي بن يحيى بن القاسم بن يوسف الداعي بن يحيى الناصر بن أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب . واشتهر بالجرموزي نسبة إلى قرية بني جرموز، من بلاد بني الحارث شمال صنعاء .
وكان أول من انتقل إليها من أسلافه، جده الثالث محمد بن المنتصر . وقد لاحظنا أن الكثير من كتب التراجم قد أغفلت ذكره، منها على سبيل المثال، أننا لم نقف على ترجمة في كتاب (مطلع البدور ومجمع البحور) لصديقه القاضي، أحمد بن صالح بن أبي الرجال، ولعل السبب في ذلك أن أبا الرجال لم يتناول في تراجمه سوى من تفقه بالمذهب الزيدي، بينما أن مؤرخنا الجرموزي قد وصف بالعلامة عند ذكره لاسمه في عنوان (الجوهرة المضيئة)- الذي تناول فيه سيرة الإمام المؤيد بالله محمد- وكذا في مقدمة ترجمته في كتاب (عقود الجوهر).
أمَّا العلامة المؤرخ محمد بن علي الشوكاني ، فلم يتناول هو كذلك ترجمته في كتابه (البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع) وما أثبتناه من إكمال عمود نسبه أفدناه من الترجمة التي تناولها نسابة اليمن ومؤرخها، محمد بن محمد زبارة، في كتابه (نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف) توضيحاً لما أورده عن حفيد المطهر، أحمد بن الحسن ، في كتابه (عقود الجوهر في أبناء السادة آل المطهر) .
مولده ونشأته
ولد الجرموزي في (جمادى الآخرة سنة 1003هـ/1594م) ، ولم يسعفنا ما بين أيدينا من مصادر بالتفاصيل الخاصة بنشأته، أو المشائخ الذين أخذ عنهم، ولم يكن ما وقفنا عليه في هذه المصادر سوى أنه نشأ في كنف والده، والذي كان أحد المشاركين في المعارك التي قادها الإمام القاسم بن محمد ضد العثمانيين، وواحدٌ ممن كان لهم (سبق الجهاد في الدولة القاسمية) . وقد نال حظاً وافراً من العلم لقربه من الأسرة القاسمية، فصار عالماً فقيهاً ذا فضل في هذا الفرع من العلوم، وصاحب دراية ومعرفة دقيقتين بعلوم الدين لا سيما الأصول والفقه منها . وهو ما نلمسه بجلاء في كتبه التي ألَّفها عن الدولة القاسمية.
قرَّبه الإمام القاسم منه، وولي القضاء على نواحي آنس ووصاب وعتمة ، في عهد الإمام المؤيد بالله محمد، ثم في عهد أخيه الإمام المتوكل على الله إسماعيل. ويبدو أن (حياته العملية وإنشغاله في الوظائف الإدارية والسياسية) ، إلى جانب قربه من البيت الحاكم طيلة حياته، قد كان لها الأثر الكبير في تكوينه مؤرخاً.
وفاته
إختلفت المصادر التي أرخت للجرموزي في تاريخ وفاته، فمنها ما ذهب إلى القول بأنها كانت في (27 ذي الحجة سنة 1077هـ/1666م) ، بينما ذهب البعض الآخر إلى أنها كانت في (يوم الاثنين سادس شهر ذي الحجة سنة 1079هـ/ التاسع من مايو 1665م)، وهو ما ذكره يحيى بن الحسين في كتابه: (بهجة الزمن) ، باعتباره أحد المعاصرين للجرموزي. يشاركه في ذلك إسماعيل بن أحمد، صاحب (مختصر طيب أهل الكساء) حيث يقول في ترجمته الموجزة في ثنايا كتابه: (وفي سنة 1076هـ) توفي المطهر بن محمد الجرموزي بعتمة بلد ولايته) ، ويوافقهما في ذلك الجنداري ، في كتابه(الجامع الوجيز). وربما كان الأرجح بينهما جميعاً، ما ذهب إليه حفيد مؤرخنا الجرموزي، أحمد بن الحسن ، في كتابه (عقود الجوهر في أنباء السادة آل المطهر)، حيث يقول: (واستمر في آخر أمره على عتمة حتى توفي في شهر المحرم من سنة سبع وسبعين وألف، وقد قارب الستين السنة، وقبره مشهور مزور بسماه من نواحي عتمة) ، وهو ترجيح يعود إلى أن هذا الأخير-أحمد بن الحسن- يعد الأقرب إلى الجرموزي، بين من أوردنا ذكرهم، فهو حفيده، ولابد أنه قد سجل تاريخ الوفاة، مستنداً على مصادر وثيقة مثل أبيه الحسن بن المطهر الجرموزي.
الجرموزي مؤرخاً
أثرت الفترة التاريخية التي عاشها مؤرخنا الجرموزي (1003-1077هـ/1594-1666م) تأثيراً كبيراً في تكوين شخصيته سياسياً ومؤرخاً، فرجل مثله عاش مراحل طفولته الأولى في كنف والده والذي لم يعرف إلاَّ أنه كان مقاتلاً في صفوف جيش الإمام القاسم إبان ثورته ضد العثمانيين (1006-1029هـ/1597-1619م)، ثم-ما إن شب عن الطوق- عاش وضعاً سياسياً حافلاً بالأحداث لتلك الفترة، ويأتي في مقدمتها ما شهدته اليمن حينذاك من صراع حاد بين اليمنيين والعثمانيين.
وعندما تسّنم الإمام المؤيد بالله محمد، سدَة الحكم، عقب وفاة أبيه، اشتدت الأوضاع السياسية تأزماً- فراوحت حالة السلم واللاسلم- بين القوتين المتنازعتين، اليمنيين والعثمانيين، فكان أن واصل الإمام المؤيد ما كان قد بدأه أبوه من خوض غمار الحرب ضد العثمانيين، والتي انتهت بإجلائهم الأول عن اليمن في عام (1635م)، وبعد وفاة الإمام المؤيد بالله محمد (1054هـ/1644م) أوكلت الأمور إلى أخيه الإمام المتوكل على الله إسماعيل، فدخل-الإمام المتوكل- معتركاً سياسياً هاماً، على طول سني حكمه، تمثل في بسط نفوذ الدولة على أرجاء اليمن كافة.
ومما لا شك فيه بأن صلة الجرموزي الوثيقة بأحداث هذه الفترة وارتباطه المباشر بأركان الدولة القاسمية -الأئمة- كونه أحد المسؤلين فيها، تُعدُّ من أهم العوامل التي أثرت على نتاجه الفكري، الذي تبلور في ما تركه لنا من مؤلفات تاريخية هامة، ركزت إهتمامها بسير الإمام القاسم بن محمد، وولديه الإمام المؤيد بالله محمد، والإمام المتوكل على الله إسماعيل.
ولقد عاش مؤرخنا نحو نصف قرن بعد وفاة الإمام القاسم، مثل المرحلة الثانية بعد الإنسحاب العثماني من اليمن . فكانت سيره الثلاث تلك مصادر هامة للتاريخ اليمني الحديث، لأن الجرموزي شهد أحداثها ودوّن وقائعها، وهو بذلك يكون قد رسم لنا صورة شاملة واضحة لمجريات أحداث تلك الفترة بكل ظروفها وملابساتها السياسية، تناولتها قلة قليلة-لا تتجاوز في عددها أصابع اليد- من معاصريه، ولكن بصورة لا ترقى إلى تلك الصورة التفصيلية المتناهية الدقة التي عرضها مؤرخنا الجرموزي في كتاباته، وهي تساعد (باستمرار على توضيح وجهات النظر المختلفة مما كان يعمق في النهاية لتطور الأحداث) .
ويعد الجرموزي بذلك كما قال عنه الدكتور سيد مصطفى سالم: (نموذجاً بارزاً بين مؤرخي السير في عصره، وذلك لغزارة مادته التاريخية، ولعمق نظراته، وتحليلاته) .
ونلمس ذلك جلياً في كتاباته، نورد منها على سبيل المثال، سرده لوقائع الأحداث لمعركة دارت رحاها في عهد الإمام المتوكل-موضوع دراستنا- في سنة (1065هـ/1654م) بين قوات الإمام، وقوات الرصاص في يافع، أثناء استيلاء الإمام المتوكل عليها، لبسط نفوذه على امتداد اليمن الواحد، نجده يقول: (وكان قد جعل الرصاص وأصحابه في النجد وغيرهم من المواضع سوراً بالغوا فيه على صفة المترس الحصين، عمروه أياماً ولا يظنون أن أحداً يقربه فضلاً عن أن يتجاوزه، وقدموا مقدماتهم عليه بالرصاص كحاصب البرد) .
ونجده في عبارة أخرى يتطرق إلى ذكر الصعوبات التي واجهها القائد العسكري، أحمد بن الحسن أثناء تقدمه بقواته للإستيلاء على حضرموت، يقول: (وأخبرني بعض الخواص مكاتبة، أن الإمام -عليه السلام- قال وقد شكى عليه مولانا، أحمد بن الحسن، -أيده الله-، عظم ما لقي من التعب في هذا المخرج) .
إن اتصال الجرموزي بكبار معاصريه من رجال الدولة قد ساعده في تعميق كتاباته، وفي رفع شأنه بين مؤرخي عصره، ويرجع ذلك إلى عدة نواحي منها: أنه من السادة الأشراف؛ يضاف إلى ذلك خدمته للأئمة، بتوليه مناصب هامة في الدولة، منها شغله منصب عامل على نواحي آنس ووصاب ، ثم بلاد عتمة في آخر أمره.
ولعل من المهم أن نشير إلى أن مؤلفاته التاريخية لم تقتصر في محتوياتها على الجانب السياسي الذي شكل المحور الرئيسي في كل منها، بل تناولت أحوال الناس المعيشية -الإقتصادية، والإجتماعية- حيث يذكر على سبيل المثال، في كتابه-موضوع دراستنا- ضمن أحداث عام (1064هـ/1953م). أن أسعار العلف الخاص بالحيوانات قد ارتفعت نتيجة لقلة الأمطار في أغلب مناطق البلاد، بما فيها الأماكن المشهورة بزراعة هذه المادة، وهما مدينتا صنعاء وذمار، اللتان تضررتا هما أيضاً، فقل انتاج الأعلاف مما سبب ارتفاع أثمانها، يصور لنا ذلك بقوله: (وبلغ ثمن العلف في صنعاء وذمار، وهما محل العلف وأوسع البلاد، وما أحدث الله فيهما من الأنهار الأخيرة، الحمل التبن بستة حروف، وثمانية حروف، ومن القصب الحزمة التي تحيط بها الإبهامات، عشرة كبار وتسعة كبار...) .
صورة أخرى يرسمها لنا الجرموزي، يشير فيها إلى نقص في المواد الغذائية الحبوب، نتيجة الجدب الذي أصاب بعض المناطق، فيقول: (ذكر ما وقع في الجدب، وكان ابتداء نقص بعض الثمار من عام تسع وخمسين وألف، وأكبرها في بلاد القبلة وبلاد صعدة والشرفين وشهارة ونواحيها وصبيا وجهاتها) .
كما اهتم مؤرخنا-فضلاً عما ذكرناه- بالنهضة العمرانية، التي واكبت النمو الإقتصادي، وذلك من خلال تدوينه كلما تم بناؤه أو إصلاحه وترميمه من المساجد والمدارس ونحو ذلك مما كان موضع اهتمام كبار أولي الأمر من رجال الدولة، فنجده يذكر الأعمال العمرانية التي تم انجازها في مدينة ذمار، على يد محمد بن الحسن على نحو قوله: (... وسع الجامع الكبير، وعمر مرافقه وتفقد أوقافه...وعمر ما بقي في الجامع المقدس من معمور الحصين في ضوران... وعمر الصروح والمنازل التي بالقرب من القبة الشريفة وأقام الدرس والتدريس...) .
وأمَّا ما يتصل بالنواحي الإجتماعية، فقد حرص الجرموزي على تضمين مؤلفه بعضاً من عادات الأهالي وتقاليدهم في بعض المناطق، أو ما كان سائداً في أوساط الناس بين طقوس إجتماعية أو دينية، فهو يتناول -على سبيل المثال- واحدة من الظواهر الشائعة والأكثر انتشاراً في غالب المناطق اليمنية، وهي ظاهرة الشعوذة؛ ففي يافع -كما يخبرنا الجرموزي- أن رجلاً يدعى (الحبيب بن سالم) كان قد ادعى المعرفة بأعمال الغيب، فأمَّه عدد هائل من الناس، وكان مما ينسب إليه أنه يذهب إلى الصلاة في أوقاتها إلى مكة المكرمة، وجسده لا يبرح منزله بين أفراد عشيرته، ويصور لنا الجرموزي ذلك على لسان من زار هذا الرجل بقوله (... وكنا كذلك فنادى المؤذن لصلاة الظهر فقال: من حضر الحبيب ذهب، قال: وإذا به ساكن لا يتحرك حتى كأنه ميت وهم يتلاكون بأنه ذهب إلى مكة، فانتظروه وقتاً طويلاً، وإذا به قد تحرك وتكلم فقاموا للسلام عليه...) .
ولم يقتصر الجرموزي على ذكر النواحي الإقتصادية والإجتماعية فحسب، بل إنه تعرض إلى الظواهر الطبيعية والبيئية التي حدثت في تلك الحقبة من الزمن، ومن ذلك يذكر أن ريحاً عاصفة هبت على مدينة ذمار سنة (1056هـ/1646م)، فدمرت فيها المباني وزلزلت البيوت، وقد وصف ذلك بقوله (وفي سنة ست وخمسين وألف، وقع في محروس ذمار ريح زعزع لم نعهد مثلها أخربت بيوتاً من ضعف عماراتها وزلزلت البيوت الكبار...) .
وفي موضع آخر نجده يهتم برصد بعض الأوبئة التي كانت منتشرة في أوساط المجتمع آنذاك؛ كذكره لتفشي مرض الجذام في مناطق صعدة، حيث يقول: (...ولما كان عام ثلاث وستين وألف، انتشر الجذام وعظم في بلاد صعدة ونواحي قحطان...) .
على أن اهتمامات الجرموزي بالتأريخ للوقائع والأحداث، لم تصرفه عن الأدب، فاتخذ له مساحة لا بأس بها في اهتماماته عامة، فكان ممن يقرض الشعر، إلا أن المصادرالتي تناولت ترجمته قد أغفلت الإشارة إلى مثل ذلك، عدا ما جاء في كتاب (عقود الجوهر) حيث تورد الترجمة التي تضمنها هذا الكتاب مقطعات من الشعر للجرموزي، إلى جانب قصيدة تقع في ست وخمسين بيتاً، قد أوردها مؤرخنا في نهاية كتابه النبذة المشيرة، وكان قالها في الإمام القاسم بن محمد، حيث يقول في بعض أبياتها:
كالقاسم المنصور شمر العدى .... وفارس الهيجاء ليث الضراب
محيي رسوم الدين من بعد ما .... أضحت مبانيه جميعاً خراب
قام فجلى نوره ظلمة الفح .... شاء وأحيا الدين بعد الذهاب
وهنا يبدو واضحاً أن هذه الأبيات وأمثالها تنم عن ملكة شعرية كانت لديه. مما يجعلنا نرجح أن كتباً بين تلك التي تناولت أخبار الدولة القاسمية ولا تزال مخطوطة لم نطلع عليها، لابد وأنها قد حفظت له من شعره الكثير والجيد.
وهكذا نرى أن الجرموزي كان على اطلاع ومعرفة بعلوم عصره، ينبئنا بذلك كتابه الذي نتناوله بالدراسة، فهو إلى جانب اهتمامه بالتاريخ وتتبعه بالرصد لمجريات العصر وأحداثه، كان على جانب كبير من الإلمام بالعلوم الأخرى، حيث نجد كتابه زاخراً بالإستشهاد بالآيات القرآنية والآحاديث النبوية، فضلاً عن قصائد الشعر والأمثال.
ولعله في ذلك شأنه شأن غيره من معاصريه الذين تكّونوا بالثقافة الإسلامية التي سادت في تلك الفترة الزمنية.
مؤلفاته
كتب الجرموزي خلال فترة حياته الحافلة بالعطاء أربعة مؤلفات، ثلاثة منها عن الدولة القاسمية، أرخ فيها للأئمة الثلاثة: الإمام القاسم بن محمد، وولديه الإمام المؤيد بالله، والإمام المتوكل على الله.
أما مؤلفه الرابع فقد تناول فيه أخبار ملوك اليمن منذ عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى زمنه.
ولم نقف في ما وقع بين أيدينا من مصادر ترجمته على إشارة تثبت إنشغاله بالكتابة في مجالات أخرى غير التأريخ، سوى كتابه (عقود الجوهر). ويكون بذلك كمن تخصص في علم التاريخ فأبدع فيه. وفيما يلي نتناول بالتفصيل نتاجه الفكري، متمثلاً في مؤلفاته الأربع:
1- النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة
ويتناول هذا الكتاب سيرة الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد (ت 1029هـ/1619م) ولا يزال مخطوطاً وتعرف هذه السيرة أيضاً باسم (الدرة المضيئة في السيرة القاسمية). وقد تعرض فيها لجوانب حياة القاسم الشخصية والعلمية، والسياسة والحربية .
وكان الحافز على تأليفه لهذا الكتاب هو ما يذكره الجرموزي نفسه في مقدمة كتابه هذا، بقوله: (...فإني قد سمعت كثيراً من أخبار مولانا وإمامنا المنصور بالله القاسم بن محمد، فرأيت أن أعلق في هذا المختصر ما أمكن ممن بقي، وأجعله في هذه الأوراق اليسيرة، توقيعاً لما أمكن من الجمل...) .وذلك أنه لم يكن خلال الفترة الأولى من حياة الإمام القاسم شاهد عيان وحسب، بل و..(سجل حوادثها المعاصرة له كذلك..) . وحرصاً منه على ألا تضيع أحداث هذه الفترة ووقائعها في طي النسيان، عمل على تدوينها وجمع أخبارها ممن شاهد أو شارك أو اتصل بالأحداث في حينها. وقد أورد نسب الإمام وذكر الرسائل التي كانت تتبادل بين الإمام القاسم بن محمد وبين أشخاص ممن ناصروه، وبعض العهود لتعينيات لأشخاص تولوا الحكم في بعض الأقاليم التابعة للإمام . وتناول أيضاً ما قام به الإمام من اصلاحات في مجالات عديدة، كبناء المدارس والمساجد وشق قنوات للمياه المستخرجة من الينابيع...إلخ.
أمَّا القسم الأخير من الكتاب فقد أفرده للحديث عن ثورة الإمام، وهو الجزء التاريخي الهام من هذه السيرة، حيث تناول فيه تفصيلاً شاملاً لمقدمات الثورة التي قسمها إلى أربع فترات، امتدت الأولى من بدء دعوة الإمام القاسم سنة (1006هـ/1597م) حتى خروجه إلى برط، والثانية من خروجه من برط إلى إنعقاد الصلح بينه وبين سنان باشا، ثم جعفر باشا سنة (1017هـ/1608م)، واختصت الثالثة بحملته ضد جعفر باشا سنة (1022هـ/1613م).
أما الرابعة فشملت معاركه ضد محمد باشا، ثم وفاته في (12) ربيع الأول من سنة (1029هـ/1619م).
كما اشتمل الكتاب ما تناوله المؤلف من تراجم لعدد من العلماء والفقهاء، وغيرهم من الأدباء ممن عاصروا الإمام القاسم.
وانتهى مؤرخنا من تأليف كتابه في عام (1065هـ/1654م)، أي في حياة الإمام المتوكل على الله إسماعيل، وهو ما أشار إليه المؤلف نفسه، في نهاية كتابه بالقول: (حُررت في أيام مولانا أمير المؤمنين، المتوكل على الله إسماعيل لعشر مضت في شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وألف من الهجرة النبوية...) .
وتجدر الإشارة إلى أن هذه السيرة تعد- بلا ريب- مصدراً موثوقاً لمادة تاريخية غاية في الأهمية.
2- الجوهرة المنيرة في تاريخ الخلافة المؤيدية
أفرد الجرموزي كتابه هذا -والذي لا يزال مخطوطاً - للحديث عن سيرة الإمام المؤيد محمد بن القاسم، منذ توليه الإمامة بعد وفاة أبيه سنة (1029هـ/1619م)، وحتى وفاته سنة (1054هـ/1635م) تطرق فيه إلى ما تمتع به الإمام من سجايا كريمة، كالورع والكرم، وكذا علمه، وما إلى ذلك من الخصال الحميدة.
وقد أبدى الجرموزي اهتماماً خاصاً بتسجيل ثورة الإمام المؤيد وحروبه التي خاضها ضد الأتراك من سنة (1036هـ/1626م) إلى أن تم إجلاؤهم من اليمن عام (1045هـ/1635م). يضاف إلى ذلك تلك الثورات التي قام بها نفر من المعارضين للمؤيد أمثال أحمد بن الحسن بن القاسم .
كما تناول تراجم للمعاصرين من علماء، وفقهاء، وأدباء، ممن عاصروا المؤيد ووالده الإمام القاسم، بالإضافة إلى من اشترك في المعارك التي دارت رحاها ضد العثمانين .
ويتضمن الكتاب أيضاً تلك الرسائل والعهود التي كان يرسلها الإمام إلى أشخاص وجماعات في داخل اليمن وخارجه، تحتوي نصائحه وأراءه في تسيير شئون الدولة .
واهتم الجرموزي في نهاية مُؤْلَّفه بسرد مجريات الصراع الذي دار بين الإمام المتوكل على الله إسماعيل وأخيه أحمد، حول أحقية أي منهما في تولي الإمامة بعد وفاة الإمام المؤيد بالله محمد سنة (1045هـ/1635م).
3- تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار
وهو الكتاب الذي نُعنَي بدراسته، وتناول فيه الجرموزي سيرة الإمام المتوكل على الله إسماعيل، فعرض في مقدمته للصراع الذي نشب بين أفراد الأسرة القاسمية، على تولي الإمامة بعد وفاة الإمام المؤيد وهو الصراع الذي انتهى بتولي الإمام المتوكل على الله إسماعيل إدارة شئون البلاد في عام (1054هـ/1644م).
كما تناول فيه حياة الإمام المتوكل على الله، السياسية والعلمية، إلى جانب إصلاحاته الإقتصادية، واهتم بشكل كبير بإيراد أخبار حروبه التي خاضها لبسط نفوذه على مناطق اليمن قاطبة. حيث استطاع ولأول مرة في تاريخ اليمن الحديث توحيدها تحت مظلة دولة مركزية واحدة.
وتطرق مؤرخنا في كتابه للعلاقات الخارجية التي أقامها الإمام، مع الدول العربية والإسلامية والأجنبية، وسوف نتناول ذلك تفصيلاً في مَعْرِضِ حديثنا عن الأهمية التأريخية للفترة الزمنية للموضوع.
وتوقفت أحداث الجرموزي في كتابه هذا عند سنة (1074هـ/1663م) ولا نعلم سبباً لتوقفه عند هذه السنة بالذات، فالفترة بين وفاته (1077هـ/1666م) وبين التوقف تمتد لثلاث سنوات. ولعله إنشغل فيها بكتابة مؤْلَّفه موضوع الدراسة.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه السيرة كانت مصدراً هاماً ورئيسياً لمادة تأريخية إعتمدت عليها باحثة سعودية ، ونالت بها درجة علمية-ماجستير- من جامعة الملك عبدالعزيز بجدة.
4- عقد الجواهر البهية في معرفة المملكة اليمنية والدولة الفاطمية الحسينية
وهو رابع مؤلفات الجرموزي بعد سيره الثلاث الآنفة الذكر. إلا أنه لم يقدر أهمية هذا الكتاب، كما يقول الدكتور حسين العمري: (سوى أناس قليلين منهم الشيخ أحمد الجاسر الذي يمتلك نسخة عن الأم المجهولة...) .
تناول مؤرخنا في هذا الكتاب أخبار من ملك اليمن منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم انتهاءاً بعصره، فقسمه إلى خمسة عشر فصلاً، خصص لكل دولة فصلاً (وانتهى فيه إلى سنة (1007هـ - 1598م) في النسخة التي سمعنا بها، ولا يعرف ما إذا كان لها بقية أو أن ثمة نسخة اخرى أكمل منها..) .
وصف المخطوطة
البحث عن النسخ واختيار النسخة الأم
بادئ ذي بدء، أود الإشارة إلى أنني لما عزمت على تحقيق مخطوطة (تحفة الأسماع والأبصار بما في السير المتوكلية من غرائب الأخبار)، للمؤرخ (المطهر بن محمد الجرموزي)، والتي تُعنى بتاريخ اليمن الحديث-لإتصال ذلك باهتمامي وتخصصي- برزت أمامي العديد من الإجراءات التي كان عليَّ اتباعها، سبيلاً في الإهتداء إلى النسخة الأصلية أو أي نسخ أخرى...إن وجدت.
وكانت أولى خطواتي في البحث هي التوجّه إلى فهارس المخطوطات في المكتبات العامة والخاصة، مبتدءاً بفهرست دار المخطوطات التابع للمكتبة الغربية بالجامع الكبير، والتي تضم عدداً غير قليل من المخطوطات، فُهرستْ بطريقة علمية، وبعد جهد مُضنٍ من البحث وفقاً لما هو متبع ومتعارف عليه في مثل هذه العملية، إتضح لي وجود نسختين للمخطوطة، الأولى برقم (2505) بينما حملت الثانية رقم (2504) فأخذت لكل واحدة منهما صورة.
وأود الإشارة بأن نسختي المخطوطة-في الدار- كانتا بورق قديم، بدا في حالة جيدة، وقد جُلِّدتا تجليداً سميكاً، إمتد من الغلاف الأول لكل منهما لسان مثلث سميك ليلتف حول المخطوطة، إمعاناً في الحفاظ عليها من التلف، وهي عادة جرى عليها نظام التغليف قديماً.
إلاَّ أن ما اهتديت إليه لم يكن نهاية المطاف، بل عمدت إلى البحث في المصادر والمراجع اليمنية التي تطرقت إلى الحديث عن الأعلام (الأدباء، المؤرخين...إلخ) مثل (مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني) للدكتور (حسين العمري)، و(حوليات يمانية) للحبشي.
ولم يكن ما ذهبت إليه عبثاً، وإنما ليطمئن قلبي، خاصةً وقد ساورني الشك حينها في إحتمال وجود نسخ أخرى غير ما اهتديت إليه، فأردت بذلك أن أقطع الشك باليقين، وبالفعل فقد وُفّقتُ من خلال البحث في تلك الكتب في العثور على إشارة تفيد بوجود نسخة للمخطوطة في مكتبة الأحقاف بتريم في سيئون.
أمَّا ما يخص البحث في المكتبات الخاصة-لدى الأهالي- والتي تزخر بالعديد من المخطوطات القيّمة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مكتبة القاضي زبارة، فلم أعثر في إحداهن على أية نسخة للمخطوطة، وزد على ذلك ما وقع بين يدي مؤخراً وهو كتاب للأستاذ عبدالله الحبشي (فهرست مخطوطات بعض المكتبات باليمن) ويتناول الكتاب في طياته بالذكر العديد من المخطوطات المتواجدة في المكتبات لخاصة، والتي لم أجد بينها بعد بحث وتحرّ دقيقين-في الكتاب- أي ذكر للمخطوطة، وبعد فترة من العمل الشاق في رسالتي هذه حصلت على نسخة مصورة بحوزة الوالد العلامة، القاضي (محمد قاسم الوجيه) رئيس المحكمة الاستئنافية سابقاً، وكنت قد أنجزت (حينها) شوطاً كبيراً في نسخ المخطوطة التي اخترتها من بين النسخ التي حصلت عليها.
وتوخياً للأمانة العلمية، وجب عليَّ أن أشير في هذا الموضع إلى أن الأستاذ (عبدالله الحبشي) أخبرني ذات يوم بأن هذه النسخة ربما تكون النسخة الأم؛ فحسبما جاء على لسانه وبالرغم من أنني كنت قد قاربت على الإنتهاء من عملية النسخ المضنية لمخطوطة، إلاَّ أنني لم أتردد عن إحاطة أستاذي المشرف-الدكتور حسين لعمري- علماً بهذا الأمر، فما كان منه إلا أن وجهني باستكمال ما تبقى من النسخ، والإكتفاء بالإشارة إلى ما ذهب إليه الأستاذ الحبشي.
وفي الثاني عشر من مايو 1996م، أي بعد أن كنت قد فَرغتُ من العمل في إعداد رسالتي، تسلمت نسخة أخرى للمخطوطة (مكتبة الفاتيكان)، أرسلها لي أستاذي لمشرف مشكوراً من مقر عمله في لندن، إلاَّ أن هذه الأخيرة -نسخة الفاتيكان-لم تُشر إليها أي من الفهارس (آنفة الذكر).
وقد سبق أن تحدثت مع أستاذي بشأنها، وذكرت له ما كان من أمر الباحث عبد الله الحييد، وتطرقه بالإشارة إليها في بحث كان قد أعده عن المؤرخ الجرموزي في مجلة (المؤرخ العربي) .علماً بأنه كان قد تعثر عليَّ الوصول إليها-أي المجلة- لعدم احتواء أي من المكتبات الخاصة منها والعامة على نسخة منها. ولذلك حرصت على طلبها من بغداد-مقر صدورها- عن طريق أحد الطلاب الدارسين هناك، والذي قام-مشكوراً- بتصوير البحث من العدد المذكور للمجلة، وإرساله إليَّ، كما تجدر الإشارة إلى أنني حاولت مع أستاذي المشرف غير مرة الحصول على نسخة لهذا المخطوط، ولمّا لم تُجدِ محاولاتنا هذه، قام أستاذي-بعد تعيينه سفيراً في المملكة المتحدة- بإرسالها إليَّ مشكوراً من لندن، بعد أن توجه بطلب إلى مكتبة الفاتيكان في الحصول على نسخة منها.
وأمَّا بالنسبة للنسخة التي اعتمدت عليها-واعتبرتها النسخة الأم- عند قيامي بعملية النسخ، فهي نسخة المكتبة الغربية في الجامع الكبير، والتي تحمل رقم (2505)، وأشرت إليها في رسالتي هذه بالرمز (أ). وقد انطلقت في إختياري لها مستنداً إلى جملة من الأسباب، نتعرض لها تفصيلاً في إطار الحديث عنها.
وفيما يلي وصف للنسخ التي اعتمدت عليها عند تحقيقي للمخطوطة، كل على حدة:
1- نسخة المكتبة الغربية في الجامع الكبير، ويشار إليها ضمن الرسالة بالرمز (أ)، حملت رقم (2505)، تقع في (301) ورقة، وتضم كل صفحة منها(27) سطراً، كُتبت بخط نسخي مُعتاد، وبعض كلماتها غير منقوطة؛ ولم يذكر اسم ناسخها.
2- النسخة الثانية، وتتواجد هي كذلك في المكتبة الغربية في الجامع الكبير، أشرت إليها بالرمز (ب)، حملت الرقم (2504) وتقع في (202) ورقة، ضمت كل صفحة فيها (31) سطراً؛ كُتبت بخط نسخي معتاد ضعيف خالٍ من النقط في معظمه؛ فرغ ناسخها الهادي بن الحسن القرشي المروني من نسخها في شهر محرم من السنة (1093هـ/1682م).
3- نسخة مكتبة الأحقاف بتريم، وأشرت إليها بالرمز (ح)، حملت رقم (316)، تقع في (300) ورقة، ضمت كل صفحة فيها (26) سطراً بمقياس (19×29) سم؛ لم يُثبت اسم ناسخها فيها.
4- نسخة مكتبة الفاتيكان، وأشرت إليها بالرمز (ف)، تحمل رقم (971)، تقع في (221) ورقة، ضمت كل صفحة فيها (27) سطراً، كُتبت بخط نسخي واضح، لم يرد اسمٌ لناسخها.
5- وأخيراً نسخة الوالد القاضي محمد القاسم الوجيه، ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الموضع هو أن هذه النسخة مصورة هي كذلك، حيث كان الوالد (محمد قاسم الوجيه)، قد صورها-حسبما رواه لي- من شخص يدعى (الحضرمي)- وقد أطلعني على عنوانه، ورغبة مني في تقصي النسخ من مصادرها الأصلية، سعيت جاداً في البحث عن هذا الشخص-للإهتداء إلى موضع المخطوطة- ولكن للأسف، باءت محاولتي الجادة هذه بالفشل، حيث تعثر عليَّ الإهتداء إليه، وتقع النسخة في (562) صفحة، تضم كل صفحة فيها (27) سطراً؛ كتبت بخط نسخي معتاد، وقد اكتفيت بالإستئناس بها.
ولما كُنت أمام هذا العدد من النسخ لنفس المخطوط، توجّب عليَّ إجراء مقارنة دقيقة بينها، وهو ما أفضى إلى ترجيحي للنسخة الأولى (أ)، وهي النسخة التي نُقِلتْ عن نسخة المؤرخ الأصلية، واعتبرتها النسخة الأم للمخطوطة، ذلك لأني لم أعثر على نسخة المؤرخ الأصلية.
ويعود ما ذهبت إليه في ترجيحي لها، إلى جملة من الأسباب الجوهرية، أوجزها فيما يلي:
1- إن النسخة (أ) لا يعتريها نقص، كماتلتزم أحداثها التسلسل الزمني حسبما أرادها المؤلف، إضافة إلى أنها تنتهي عند السنة (1074هـ/1663م) وتحديداً في الورقة الأخيرة من أوراقها، بالعبارة: (ثم ارتحل إلى أقر من بطنة حجور وأقام فيه، ثم صعد شهارة المحروسة بالله في منتصف جمادى الآخرة من سنة أربع وسبعين وألف) ، في الوقت الذي تنتهي فيه النسخة (ب) بالعبارة: (ولا تزال بعوثه إلى الأطراف لتنفيذ الأحكام، وبلاغ شريعة النبي عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم) . وتكون بذلك مقارنة بالنسخة (أ) لم تستوف الأحداث، وهو ما يعني نقصاً بمقدار ثمانية أوراق، استناداً للنسخة (أ).
2- من الملاحظ أن الناسخ في النسخة (ب)، قد قدَّم وأخّر في ترتيب تسلسل الأحداث؛ وهو ما يتضح جلياً في الورقة (124/أ)، وتحديداً في السطر (السابع عشر) منها، فنجد أن الناسخ في النسخة (ب) وبعد أن تم تدوين زيارة الإمام المتوكل على الله إسماعيل لمدينة إب، يواصل أحداث نسخته بالعبارة: (وتشدد بالأمر بالمعروف...). وهو مغاير لما هو مثبوت لسياق الأحداث في النسخة (أ)، حيث أن العبارة وما بعدها، وقد كُتبت في الورقة (67/أ) من النسخة (أ).
وكمثال آخر لما جرى من تقديم وتأخير للأحداث في النسخة (ب)، نجد أنه في الوقت الذي ابتدأت فيه الورقة (46/ب) من النسخة (أ) بنص هذه العبارة: (ووجه غيره أيضاً إلى جهات للتذكير...) يرد ذكر أحداث هذه الفقرة في الورقة (176/ب) من النسخة (ب).
وقد عمد الناسخ في النسخة (ب)، علاوة على ذلك لإضافة بعض العبارات في حواشي النسخة، ليس لها علاقة بما جاء في المتن، ولا تحمل أي دلالة تثبت أنها من نفس سياقه، فعلى سبيل المثال يرد في حاشية الورقة (50/أ) عبارة: (هذه مفخرة للإمام المهدي، عادت بركاته...) ونجد أيضاً في حاشية الورقة (53/ب) عبارة: (وبعضهم في جهة آنس قطع صفا، فوجد في قلب الصفا حنش...وعنده تراب يأكل منه...).
ويمكن أن نستشف من هذا كله، أن الناسخ في (ب) بما قام به من إضافات من ذات نفسه، إنما أراد ضرباً للأمثلة، أو تزويداً للقارئ بمعلومات إيضاحية أكثر.
كما يلاحظ أن الناسخ في النسخة (ب) عمل على تصغير الخط، الأمر الذي أدى إلى رص الأسطر بعضها فوق بعض، في مسافات متقاربة جداً يصعب معها قراءة المخطوطة، يضاف إلى ذلك أن الناسخ لم يشر إلى ما سقط من كلمات أو عبارات أثناء عملية النسخ-كما كان متبعاً حينذاك- وهو ما نوهنا إليه في هوامش النص.
وأمَّا بالنسبة لنسخة مكتبة الأحقاف بتريم (ح) والتي قام بتصويرها لي -في إلتفاتة كريمة منه يشكر عليها- الأستاذ أحمد باوزير (عضو مجلس النواب سابقاً)، وأحد المهتمين في مجال المخطوطات، تُعَدُّ في وضوح خطها الأفضل بين النسخ الأخرى، حيث كُتبت بخط نسخي جميل، ويتضح ذلك جلياً بما أولاه الناسخ من عناية بالعناوين الرئيسية والبارزة في المخطوطة- والتي كتبت باللون الأخضر والأحمر- بوضعها في مستطيلات، إضافة إلى ضبط الكلمات بالشكل (الفتح، والضم...إلخ)، ووضعه كذلك الأبيات الشعرية في مستطيلات عمودية، وقد أشارت فهرست مكتبة الأحقاف عند تناولها للمخطوطة إلى أنها نسخة خزائنية للمولى (الحسين بن الحسن) -رحمه الله-، كتبت في القرن الحادي عشر تقريباً، نتيجة -وكما أشرنا آنفاً- لعدم ثبوت اسم الناسخ فيها، أو ذكر السنة التي نُسخت فيها، ومما يجدر التنويه إليه هو أن النسخ يشوبها بعض العيوب وهي:
1- أن عدد الأوراق من (1-34/ب) قد كتبت بخط مغاير لخط الناسخ، يعود إلى فترة زمنية معاصرة -وقتنا الحالي-، وأخبرني الأستاذ أحمد باوزير فعلاً عن علي سالم بكير(مسؤل مكتبة الأحقاف) أن هذه الأوراق حديثة، كتبها المؤرخ (محمد عبدالقادر بامطرف) بخط يده، حيث كانت الأوراق الأصلية-الآنفة الذكر- قد نُزِعَت من المخطوطة، وقد حاولت تقصي الحقائق لمعرفة الأسباب التي أدت إلى هذا العمل الهمجي بحق التراث، فلم أهتدِ إلى نتيجة.
2- يلاحظ على النسخة (ح) ظهور بعض الإضافات بين الأسطر، ومثال ذلك ما جاء في الورقة (97/ب) في السطر (الثاني والعشرين) منها، حيث ترد العبارة: (وأناله السلطان) وقد كُتبت أعلاها عبارة (سلطان الهند) وتحديداً فوق كلمة السلطان كتعريف به. وقد تمت الإشارة إلى هذه الكلمات أو العبارة الخارجية عن متن النسخة (ح) في العديد من هوامش النص.
3- عمد الناسخ إلى إغفال الإشارة إلى ما سقط من كلمات أو عبارات أثناء نسخه للمخطوطة، كما جرت عليه عادة النُسَّاخ حينذاك، ويظهر ذلك على سبيل المثال في الورقة (145/ب) حيث يتضح وجود نقص فيها بمقدار سبعة أسطر عما هو مثبوت في النسخة (أ)، وبالتحديد في الورقة (262/ب) منها، وقد تمت الإشارة لمثل ذلك في هوامش النص.
4- يلاحظ كذلك أن الناسخ لم يتقيد بما ذهب إليه النُسَّاخ عند نسخهم، نقلاً عن المخطوطات الأصلية، بترك مساحات بيضاء في بعض الأوراق، وهو تقليد اتبعه أيضاً مؤلفوا هذه المخطوطات أنفسهم، للدلالة على أن هناك حدث معين-لم يَدوّن- مثل الرسائل أو قصائد الشعر، بل عمد إلى مواصلة الأحداث إذا ما صادفه مثل ذلك، مكتفياً بالإشارة في حاشية الورقة لمثل هذه العبارات (بياض رسالة) أو (بياض شعر)، ويبدو ذلك واضحاً على سبيل المثال في الأوراق (50/أ)، (53/أ)، (128/أ).
5- وجود نقص في نهاية المخطوطة نحو ثمانية أوراق، عند مقارنتها بما هو مثبوت في النسخة (أ).
وبالنسبة لنسخة الفاتيكان (ف)، فلم تخل هي الأخرى من عيوب ظاهرة، على الرغم من وضوح خطها، حيث نجد نقص في بدايتها قرابة ست وخمسون ورقة مما هو مثبوت في النسخة (أ)، الأمر الذي يعني نقصاً ليس بالهين، أضف إلى ذلك ما أسقط في نهايتها من أوراق قاربت الثمان.
كما يتضح أيضاً مخالفتها لاتباع التسلسل الزمني في الأحداث -كما جاء في النسخة (أ)- وتكون بذلك قد نهجت نفس المنوال المتبع في الن×خة (ب)، الأمر الذي يمكن أن يتخذ كدليل على أن كلتا النسختين (ب) و(ف) قد نسختا من نسخة واحدة، لم نوفق في الإهتداء إليها، على أننا لم نجزم في ما ذهبنا إليه بهذا الخصوص، وإنما هي مجرد فرضيات لا أكثر.
وصف النسخة الأم
وهكذا تتضح-كما ذكرنا آنفاً- دواعي وأسباب ترجيحي للنسخة (أ)، باعتبارها النسخة الأم، ومن ثم الإعتماد عليها عند نسخ المخطوطة-لتحقيق المخطوطة- وتكون النسخة (أ) بذلك قد ألمت - دون سواها من النسخ التي أشرنا إليها- بأحداث سيرة الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن الإمام القاسم بن محمد، حتى السنة (1074هـ/1663م)، وهي السنة التي توقف عندها مؤلف السيرة (المطهر بن محمد الجرموزي)، كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك عند حديثنا عن حياة المؤلف.
وبالنسبة للوصف العام للمخطوطة، فسنجد أنها كُتبت في أوراق قديمة، بحالة جيدة، احتوت كل صفحة منها على (27) سطراً، جُلّدت تجليداً سميكاً، يمتد من غلافها لسان مثلث سميك يلتف حول المخطوطة إمعاناً في الحفاظ عليها، كما جرت عليه عادة التغليف حينها، وقد نُقشت علي جهتي الغلاف وكذا اللسان، نقوش عربية إسلامية.
ويلاحظ على ورقة عنوان المخطوطة تعليقات تدلل على مطالعة العديد من الأشخاص لها، كان آخرهم العلامة عبد الله بن أحمد بن محمد الوزير، والذي صارت في حيازته في شهر (جمادى الأولى سنة1332هـ/1913م). توجد الآن -كما ذكرنا- في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء
أما نسخها فقد كان بخط نسخي معتاد، مهمل النقط، وتحمل الرقم (2505). وقد استهل الناسخ عند كتابته لسيرة الإمام المتوكل على الله إسماعيل بالبسملة.
كما حرص عند كتابة عنوان أو فصل أو سنة، على أن يكون بارزاً وبخط كبير، مستخدماً لذلك اللون الأسود، ويمزجه في بعض المواضيع باللون الأحمر. كما ميز لفظ الجلالة- عند كتابته له- باللون الأحمر وكذا اسم الإمام، وأفعال الرواية مثل (قال، أخبرني، ونذكر).
أما ماحدث بالفعل من سقوط لبعض الكلمات أو الجمل أثناء عملية النسخ لهذه المخطوطة فيعد أمراً طبيعياً يحدث في أي عملية للنسخ مشابهة لهذه. وللإشارة إلى مواضع السقوط هذه، عمد الناسخ- أثناء نسخه للسيرة- إلى التقليد المعتاد باستخدام إشارة سهم مقلوب ( ) ثم قام باثبات ما سهى عنه في حواشي الأوراق.
ونلمس أثناء تصفحنا للمخطوطة حرص الناسخ على دقة ووضوح متنها، وهناك أمور عدة تترجم هذا الحرص، مثَّلها إهتمامه بايضاح الجُمل، بما استخدمه من فواصل (،) بين الجمل، مع رسم هذه الفواصل باللون الأحمر؛ وللتدليل على نهاية الجملة أو فقرة ما وضع الناسخ حرف الهاء (هـ)؛ بينما يورد كلمة (انتهى) ليعني بذلك خاتمة الرسالة أو الحدث؛ وإضافة إلى ذلك استخدام الناسخ أيضاً إشارات الفواصل بلونها الأحمر، لتشطير الأبيات الشعرية، ثم رسمه عند نهاية كل بيت لهذه الإشارة (0).
وكما هو معروف، فقد حرص المؤرخون أثناء تأليفهم الكتب، على توخي الدقة في صياغة الأحداث، فعمدوا- كما جرت العادة حينذاك- إلى توثيقها بما يقع بين أيديهم من رسائل، وذلك لإضفاء المصداقية لما يكتبون، وأحياناً يحدث أن يفتقر هذا المؤرخ أو ذاك لمثل هذه الأشعار أو الرسائل، لسبب أو لآخر، فيلجأون في مثل هذه الحالات حرصاً منهم على أمانة مؤلفاتهم، على ترك بياض في الأوراق التي يرغبون في تثبيت ما يأملون بها.
لذا فقد التزم النسّاخ-أثناء نسخهم- بما وقفوا عليه في هذه المؤلفات، ونسخوها كما جاءت، وما يدلل على هذا هو ترك الناسخ للمخطوطة (أ) مواضعاً عدة من أوراقها، خالية من الأحداث [بياض] وكما أسلفنا الذكر، أن أغلب كلمات المخطوطة مهملة النقط، لا سيما وأنها عادة اتبعها النساخ حينذاك، على أن ناسخ المخطوطة (أ) حرص على وضع إشارات معينة للدلالة على الحروف غير المعجمة، فوضع- على سبيل المثال- إشارة ( ّ ) أعلى حَرْفي (الراء والعين)، كما هو مشاهد في هاتين الكلمتين (المرّ، عّلب)، كوسيلة لتنبيه القارئ أنهما غير منقوطتين، وبالتالي تجنبه أي التباس يمكن أن يقع فيه أثناء القراءة.
أمَّا بالنسبة لحرفي (الطاء، الدال) فقد وضعت أسفل كل منهما إشارة (.)، كما هو ملاحظ في هاتين الكلمتين (طالب) و(دله) وهو أسلوب سرى استخدامه- في المخطوطة- بتواتر مطرد من قبل الناسخ.
وتفادياً لأي إرباك قد يتولد لدى قارئ المخطوطة بخصوص تسلسل صفحاتها أثناء سردها للأحداث، عمد الناسخ إلى كتابة الكلمات الأولى من الصفحة الثانية (ب) في نهاية الصفحة الأولى (أ) من كل ورقة.
ومن جانب آخر أغفل الناسخ استخدام الهمزة في كل المواضيع التي تستوجب استخدامها، كما نهج في رسمه للعديد من الكلمات الرسم القرآني مثل (الصلوة، الزكوة، السموات) وهو ما سنتناوله عند الحديث عن منهج التحقيق.
وسنرى أن الناسخ حرص على تمييز أحداث رحلة الحبشة للعلامة الحيمي عن بقية أحداث المخطوطة، كما وردت في الأوراق(87/ب-101ب) ليطابق بذلك ما ذهب إليه مؤرخنا الجرموزي في مخطوطته الأصل، حيث كتب في وسط الورقة(87/ب) وبشكل مثلث العبارة التالية (هذا بحث دخول القاضي العلامة حسن بن أحمد الحيمي- أسعده الله- في صفة دخول الحبشة عند سلطان الحبشة وما قاساه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً).
منهج المؤلف
عاصر المؤلف- كما سبق وأن أشرنا- ثلاثة أئمة، فترة زمنية هامة من التأريخ اليمني الحديث، كتب عنها كشاهد على ضوئه منهجه أثنا كتابته مؤلفاته.
ومن خلال دراستنا لمؤلفه (تحفة الأسماع) تبدو لنا معالم منهجه واضحة، فنجده يحدد في بداية كتابه الغرض من تأليفه، حيث يقول: (وقد دعاني محبة العترة النبوية كما أمرني رب البرية وجاءت الآثار المصطفوية ...) وإنه قد تناول قبل هذه السيرة سيرتي الإمام القاسم بن محمد ، وولده المؤيد بالله، ثم يبين الاختلاف الذي نشا عقب وفاة المؤيد الأمر الذي تمثل في ظهور أكثر من شخص يدعي أنه الأحق بالإمامة .
ثم يبين بعناية بالغة، وتفصيل دقيق، المنهج الذي سار عليه في تناوله مؤلفه سيرة الإمام المتوكل على الله إسماعيل، في شتى جوانبها الشخصية والحربية والسياسية، حيث يقول في مقدمة مؤلفه: ( فصل في ذكر نسبه، ومولده، ونشأته، وحليته، وخصايصه، وعلمه، وشجاعته، وورعه، وسجاياه، وصبره، ونفقته على الأمة، ودعوته، وكراماته، ونبذة من رسائله في الدعاء إلى الرشاد، ويسير مما امتدحه أهل العصر من العلماء والشعراء وعيون مما عاصره من العلماء...) ويفرد بالحديث بعد عرضه لموضوعات كتابه كل عنصر ذكره بشكل منفصل، فيقول: أما نسبه الشريف فهو أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين، المتوكل على الله العزيز الرحيم، إسماعيل بن القاسم بن محمد ..) .
ويختلف نهج الجرموزي في تناوله للأحداث عن نهج من عاصره من المؤرخين ممن كتبوا عن الفترة، أمثال يحيى بن الحسين في مؤلفه ( بهجة الزمن) (والتي لا تخرج عن إطار المدرسة العربية الإسلامية الكلاسيكية) بالتزامها بترتيب الأحداث على طريقة الحوليات حيث اتبع أسلوب السرد القصصي في كتاباته، إلى جانب اهتمامه -بالطبع- بالتوقيت الزمني ورصد الأحداث بتبيان تواريخها.
وبحكم موقعه بصفته واحداً من كبار مسؤولي الدولة، ولسعة اطلاعه وقربه من الأحداث، كان يستقي معلوماته من مصادرها المباشرة، أمثال كبار موظفي الدولة ومستشاري الإمام، وغيرهم من القادة العسكريين الذين عاينوا وقائع الأحداث عن قرب وتتبعوها عن كثب، فهو في موضع-على سبيل المثال- يدّون حديثاً دار بينه وبين الإمام، عند موت فاطمة بنت الحسن، زوج الإمام، في عام (1065هـ/1054م) فيقول: ومما أخبرني به مولانا أمير المؤمنين-أيده الله- أنها جمعت حليها والفاخر من ثيابها وأرسلت بها إلى والدتها...لتقطع نفسها عن الداعي إلى لبس شيء من ذلك...) ، وفي موضع آخر يستقي معلوماته من المقربين للإمام والقائمين على خدمته، فنجده يقول: (وأخبرني بعض الخدم لمولانا الإمام وهو من الترك الذين لا يعرفون هذه المقاصد) .
وقد شكلت تلك الرسائل والتي كانت تصل إلى الجرموزي، سواءاً أكانت من لدن كبار المسؤلين في الدولة، أو من لدن من يستعين بهم الإمام في تسيير أمور البلاد -وهم بمثابة المستشارين في وقتنا الحاضر- مصدراً آخراً من مصادر توثيق أحداث كتابه، فنجده عند وصفه للصعوبات التي قابلها قادة القوات الإمامية أثناء سيطرتهم على حضرموت سنة (1072هـ/1661م) يقول: (أخبرني بعض الخواص مكاتبة أن الإمام -عليه السلام- قال: وقد شكا عليه مولانا الصفي أحمد بن الحسين ما لقي من المتاعب في هذا المخرج...) ولم يكتف المؤلف في رصده للأحداث على هذا النمط في استقصائه الأخبار، بل عمد أيضاً إلى شهود العيان ممن شهدوا وقائع الحدث الذي يرونه ساعة حدوثه، فوثق تلك المشاهد في كتابه، دليلاً على مصداقية الحدث ووقوعه الفعلي. فعلى سبيل المثال عند تناوله لما كان من أمر أحمد بن الحسن، وسيطرته على عدن في سنة (1055هـ/1644م) بهجومه على أميرها الحسن بن عبدالقادر، بغية بسط نفوذه وإحكام سيطرته على المدينة...، يسوق الجرموزي هذا الحدث عن شاهد عيان أثناء تواجده وقت وقوع الحدث، فيقول: (...وأخبرني من شهد ذلك أن مولانا أحمد-حفظه الله- تقدم إلى بيت الأمير المذكور...) .
ومصدرٌ آخر أيضاً من مصادر تسجيل الأحداث، كان قد لجأ إليه الجرموزي، هو استقاؤه المعلومات عن طريق رسله الذين مثلوا حلقة الوصل بينه وبين الإمام في نقل قضايا ومتطلبات ناحيته عتمة، التي كان حاكماً عليها حينذاك، حيث يقول: (...مما أخبرني بعض المترددين من رسلي وقد وصف كثيراً من سعة صدره وضيافته...) .
وسنلمس في ثنايا الكتاب أسلوباً آخر لمؤرخنا يتمثل في رصده بعض أحداثه، وكأنه يكتب مذكراته، فهو مثلاً يسرد لنا حدثاً ما، وفجأة يتوقف تاركاً أكثر التفاصيل لنتائج ذلكم الحدث، لينقلنا إلى حدث آخر-كان قد شرحه من قبل- فيضيف أشياءً قد استجدت عن الحدث نفسه، وكان قد رصدها في مذكراته، غير أنه لم يدونها في كتابه، ومن ثم يعود إلى السرد التاريخي بعبارته التقليدية ، على مثل هذا النحو: (ولنرجع إلى أخبار صنعاء، وقد تقدم أن مولانا محمد بن الحسن...) أو: (رجعنا إلى أخبار صعدة، قد ذكرنا خروج مولانا أحمد بن الحسن...) .
ولم يكن الجرموزي يختلف عن سائر مؤرخي عصره فيما يتعلق بتوثيق المعلومات والأحداث، فنقل عن كتب المؤرخين المعاصرين له. وهو بذلك قد اعتمد على مصادر لروايات بعض الأحداث، كان القصد منها التثبت من صحتها، وذلك ما يتضح في كتابه (النبذة المشيرة) حيث وثق كثيراً من أحداثها مما استقاه من كتاب (روح الروح في ما جرى بعد المائة التاسعة من الفتن والفتوح) لمؤلفه المؤرخ: عيسى بن لطف الله ، كقوله: (قال عيسى بن لطف الله: إن قائفة قتلوا من محطة العجم فوق ستمائة...) .
وفي موضع آخر يورد-نقلاً عن كتاب (اللآلئ المضيئة في أخبار الأئمة الزيدية) - قوله: (...قال السيد العلامة أحمد بن محمد الشرفي: ومن كتبه -عليه السلام- جواباً عليَّ...) .
وفي مواضع أخرى كثيرة يكتفي الجرموزي بالإشارة إلى اسم المؤلف فقط، كما يرد في عبارته هذه: (ذكرها السيد أحمد في كتابه) أو هذه (قالها عيسى بن لطف الله).
ونود أن نوضح أن ما كان من أخذه عن هذه المصادر، قد اقتصر -على النقل الحرفي ليس أكثر، فلا هو علق عليها اثباتاً أو نفياً أو ترجيحاً ولا هو عابها منتقداً.
ونشير-في هذا الموضع- إلى أن الجرموزي قد أفرد اهتماماً خاصاً بتلك الرسائل التي كان الإمام المتوكل على الله إسماعيل يتبادلها مع قواده أو حكام الأقاليم، والتي كانت تحمل أوامره وتعليماته وتوجيهاته لتدبير شئون الدولة، وكذا تلك التي كان يرسلها إلى أمراء ورؤساء الدول الأجنبية. وهكذا قام المؤلف بإثبات نصوصها في كتابه، فمثّلت مادتها بذلك وثائق بالغة الأهمية عن هذا العصر وما اتصل به من ظروف محلية وعلاقات كانت قائمة-بين الدول- آنذاك.
من ذلك رسالة وجهها الإمام إلى السلطان بدر بن عمر الكثيري حاكم حضرموت، يأمره فيها بحل وثاق عمه واطلاقه من السجن وتوليته على ظفار، كي تستقر له الأمور في حضرموت. والجرموزي ينقل نص تلك الرسالة، فيقول: (... وامتثال ما أمرناكم به من استقلاله إن شاء الله بأعمال ظفار يأمر فيها -إن شاء الله- بالمعروف، والنهي عن المنكر...) وفي موضع آخر يورد رسالة بعث بها الإمام إلى شريف مكة، تتضمن عدداً من القضايا والمواضيع التي تهم الجانبين، فنجده يقول: (...الصنو السيد المقام ملك أهل البيت الكرام زيد بن محسن بن حسين بن أبي نمي بن بركات بارك الله عليه كما بارك على آبائه...) .
ومن منهجيته في الكتابة إهتمامه بما يرد بمطالع الرسائل ونهاياتها من البسملة والحمدله والشكر والثناء لله تعالى، يضاف إلى ذلك تسجيله للقصائد لولعه بالشعر الذي كان له فيه حظ وافر.
واهتم أيضاً بذكر عدد من الأعلام المعاصرين للإمام المتوكل من علماء وفقهاء وأدباء .
وأخيراً فإنا نلمس عند استقرائنا تاريخ الجرموزي، أن كتاباته تتسم بالتحيز الشديد للإمام المتوكل على الله إسماعيل، فما صادف اسم الإمام مرة-على طول السيرة- إلاَّ وأحاطه بألقاب التعظيم وهالات التقديس ، ولم يذكره مجرداً ولو مرة، كأن يقول مثلاً: (...أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين..المتوكل على الله..إسماعيل...) .
وقد كشف الجرموزي عن تحيزه هذا صراحة في مقدمة كتابه أثناء حديثه عن الغرض من تأليفه، حيث يقول: (ولقد دعاني محبة العترة النبوية...) . ويبدو ذلك أكثر وضوحاً في تخصيصه لصفحات عديدة يذكر فيها كرامات الإمام المتوكل، وفضائله، وكرمه، وحميد صفاته، وتبرز هذه الحقيقة بشكل أوسع عند ذكره للعثمانيين- سواء في كتابه هذا أو في غيرها من كتبه- فتكاد عباراته لا تخلو من السب والشتم والتحقير لهم، حتى أنه لا يأت بذكرهم إلا مشفوعاً بعبارات الدعاء عليهم، كأن يقول: (أقماهم الله) أو: (مع الترك أخذهم الله) أو (لعنهم الله). غير أن ما أظهره المؤلف من تحيز شديد لا يقلل من أهمية الكتاب وقيمته.
لغته
اللغة أداة الكاتب التي يوصل من خلالها أفكاره ومشاعره وغير ذلك مما يهدف إلى إيصاله إلى قرائه، فهي جزء لا يتجزأ من شخصيته، ولذلك تبرز أهمية لغة المؤلف وأسلوبه في أنهما يكشفان عن هويته، ولذا وجب عليه الإلمام التام باللغة وتراكيبها وصياغتها.
ويتضح مما تقدم أهمية اللغة عنصراً أساسياً لقوام أي عمل كتابي وأي عيب في اللغة من ركاكة في التركيب أو تنافر في اختيار الألفاظ، إنما هو عيب في مادة التأليف. وقد لا يكون لهذا الأمر نصيب كبير في المخطوطات التي تعتبر خلاصة تراث الأمة وعصارة أفكارها وقيمها وكل ما ينظّم أمور حياتها آنذاك. إلاَّ أن هذا لا يمنع وجود مثل تلك العيوب اللغوية في هذا المخطوط أو ذاك.
فأين يقع المؤرخ الجرموزي من كل هذا؟ إنّ من يقرأ كتاباته يستشف إلماماً باللغة، ومقدرةً فائقةً على التصرف بألفاظها وتوظيفها في تحقيق ما يصبو إليه. وانعكس ذلك في رصانة أسلوبه وسلامة لغته وسلاسة عباراتها. ولقد كانت مؤلفاته مصدراً هاماً لدراسة عدد من الباحثين-أشرنا إليهم آنفاً- منهم المستشرق سيرجنت .
ونستثني بالقول أنه-أي الجرموزي- وغيره من المؤرخين يقعون أحياناً في مزالق اللغة، وهي ظاهرةٌ يمكن تفسيرها على نحو أنهم يهتمون بالمضمون والمعنى أكثر من اهتمامهم بالأسلوب، وقد أشرنا لمثل هذه الأخطاء في منهج النشر. ويمكننا أن نُجمل القول بأن الجرموزي عموماً ، كان كما ذكرنا، ذا اطلاع واسع باللغة واتسم برصانته اللغوية، فهو وإن كان مؤرخاً، إلا أننا نجده بين الحين والآخر، يذهب إلى استخدام أسلوب أدبي بديع، يمكن الإستدلال عليه من عبارة كهذه: (ولما سكن الليل همس بخفاف ركابه...) أو من قوله في موضع آخر: (...رسم له أعمالاً يمضيها وحدوداً يقيفها...) . وعبارات كهذه تكشف عن مؤلف لا يلم بتركيب لغته وعباراتها وحسب، وإنما يردف ذلك ولع بجماليات اللغة ومحسناتها البديعية من جناس وطباق ونحوهما، كما في العبارتين السابقتين.
ونجده أيضاً في عبارات أخرى يستخدم السجع، وهي عادة جرى عليها المؤلفون في ذلك العصر، كأن يقول: وخيلهم مع ذلك تبارى في أعنتها لم يمسها لغوب، ولا يُرَ عليها أثر الركود والنضوب...) .
ونجده في أماكن أخرى يستخدم أبياتاً شعرية جزيلة المعنى، وجرياً منه وراء تعميق فكرة يريدها، مثل قوله:
رقود جباء الخيل تكبو في الجوى
تغير إلى شرقٍ وغربٍ وتارةٍ ... وهن أبران فيه عوائد
تأم بقيضة الفراقد
وأما ما خطه قلمه من كلمات اللغة الدارجة فهي قليلة الاستخدام عنده، وهو بين الحين والآخر يورد بعض المصطلحات الغير العربية، منها ما هو مثل (جوامك) و(جبودي كرنبودي، أيشناء) .
أهمية المخطوطة ومحتوياتها
(أ): أهمية المخطوط
تعتبر المرحلة التي تناولتها المخطوطة من أهم المراحل التاريخية لليمن الحديث، كونها قد حددت الملامح والمعالم للسياسة اليمنية في القرن السابع عشر الميلادي بمافيه من مجريات الأحداث التي أفرزها الواقع السياسي خلال هذا القرن. حيث أطلت اليمن في هذه الحقبة التاريخية على العالم كدولة مستقلة عن الدولة العثمانية تحظى بمكانة مرموقة.
وجاء تناول المخطوطة لهذه الحقبة الزمنية من تاريخ اليمن الواحد متسماً بالوضوح والجلاء التامين، فأبرزت الميزات الهامة والفريدة لهذه الفترة والتي تمثلت في الحنكة السياسية والشخصية القوية للإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد الذي يعد -بحق- إحدى الشخصيات اليمنية الهامة في تاريخ البلاد، فقد استطاع أن يحدد موقع اليمن على الخارطة السياسية حين بدأ بتوحيد اليمن تحت لواء دولة مركزية تحافظ على سيادته واستقلاله، خصوصاً بعد استقلاله عن الدولة العثمانية في عام (1045هـ/1635م) بينما كان معظم العالم العربي-ما عدا المغرب- يرزح في هذا الوقت تحت سيطرتها، الأمر الذي جعل من هذه الفترة نقطة تحول هامة رسمت بعمق ملامح اليمن المستقل.
وللحديث عن الأهمية التاريخية للمخطوطة، فإنه يمكن القول أنها قد اكتسبت أهميتها من أهمية الفترة التي أرخَّت-كما أشرت آنفاً- إلا أنه توجد هناك عدة جوانب أضفت عليها المزيد من الأهمية والفوائد الأخرى، ذلك أنها تناولت هذه الفترة الهامة، على نحو أوفى حيث غطت جميع أحداثها ومجريات الأمور فيها، في الوقت الذي لم يتطرق إليه المؤرخون المعاصرون لها أو ممن كتب عنها على النحو الذي تناولته هي، ولم تَعْدُ دراساتهم سوى إشارات سريعة لسرد حوادثها، ومن المؤرخين المعاصرين لتلك الحقبة: المؤرخ يحيى بن الحسين صاحب(بهجة الزمن في حوادث اليمن)، والمؤرخ عبدالله بن علي الوزير صاحب (طبق الحلوى وصحائف المن والسلوى) وهما رغم معاصرتهما للمرحلة إلا أنهما لم يتناولاها بالصورة التي تناولها بها مؤرخنا الجرموزي.
ويضاف إلى هؤلاء بعض من الدارسين والباحثين المعاصرين، ممن تناولها بالدراسة، مثل الباحثة السعودية سلوى الغالبي التي نالت درجة الماجستير على رسالتها الموسومة (الإمام المتوكل على الله إسماعيل ودوره في توحيد اليمن) .وكان اعتمادها كلياً وبشكل رئيسي على المخطوطة-موضوع الدراسة- ومن خلال استقرائنا لرسالة الباحثة اتضح لنا أنها لم تستفد منها كثيراً كما أنها استقت منها معلوماتها بعلاتها دون تمحيص أو تدقيق، وجانب آخر كان له قدر كبير من إضفاء الأهمية على المخطوطة، تمثل في معايشة مؤرخنا الجرموزي الفعلية لوقائع ومجريات الأحداث لهذه الفترة الزمنية، وكان لقربه من الإمام المتوكل على الله إسماعيل، رجل الدولة الأول، أهمية كبيرة في تسجيل الوقائع والأحداث من مصادرها-كالإمام نفسه- أو عبر المراسلات الشخصية إليه من قبل قادة الجيش والمقربين إلى الإمام.
ولقد رَكّزَتْ بشكل كبير على الأوضاع السياسية التي صاحبت عصر المتوكل، وذلك من خلال تناول مؤرخنا للأحداث التاريخية للفترة، فتطرق إلى كيفية تسَّنم الإمام لمقاليد السلطة، والعقبات الأولى التي طفت على السطح حينذاك، كدعوة أكثر من شخص بالإمامة لنفسه، ونشوب بعض الصراعات القبلية في صعدة وصنعاء. والأهم من هذا كله ما تناوله مؤرخنا من التفصيلات الدقيقة لتلك المعارك التي خاضتها قوات الإمام في مناطق أبين وعدن ولحج ويافع والشعيب وحضرموت لبسط نفوذه عليها ومن ثم ضمها تحت لواء الدولة الواحدة.
ونلمس أهمية المخطوطة بالنظر إلى ما قدمته لنا من صورة واضحة عن العلاقات الخارحية التي أقامها الإمام مع عدد من الأقطار العربية والإسلامية، حيث عنى مؤرخنا بتوثيق تلك الرسائل التي تبودلت بين الإمام والأشراف في مكة، واليعاربة (سلطنة عمان اليوم) والحبشة، وكذا الدول المغولية في الهند، وغيرها، كما جاء في ذكره أثناء تناولنا بالحديث عن الأوضاع السياسية.
وتبرز أهمية المخطوطة أيضاً في أنها تطرقت بين دفتيها إلى الجانب الإقتصادي، وهو ما يتضح تماماً من خلال ما ذكره الجرموزي أثناء سرده لما حدث من جدب ومجاعات في بعض المناطق، وارتفاع في الأسعار كمظهر لشحة الموارد الإقتصادية في منطقة دون أخرى، يضاف إلى ذلك تأكيده لاهتمام الدولة بالتجارة في البلاد، والأنظمة والقوانين التي حددت التعاملات في السوق. وجانب آخر يكتسب قدراً كبيراً من الأهمية ألا وهو الأوضاع الإجتماعية، فقد تطرق مؤرخنا إلى بعض العادات والتقاليد التي كانت في مجتمعه كالاعتقاد بالشعوذة ، وملابس الناس ومناسباتها.
كما رصد الجرموزي النهضة العلمية التي شهدها عصر الإمام المتوكل على الله إسماعيل، ويتجلى ذلك في ذكره لعددٍ كبير من العلماء والفقهاء ، والذين كان لهم اليد الطولى في هذه النهضة، ومما أضفى من أهمية على المخطوطة كذلك هو اهتمام مؤرخنا بذكر أحوال العالم الخارجي عبر ما كان يصل إليه من معلومات أو رسائل. فعلى سبيل المثال يذكر وبشكل موسع الأحداث والصراعات التي نشبت بين الأشراف في مكة والحجاز نتيجة لخلافات أسرية حول السلطة. كما أنه ذهب لأبعد من ذلك فسجل وقائع رحلة العلامة الحيمي (ت 1071هـ/1660م) المشهورة إلى الحبشة كاملة، يضاف إلى ذلك تدوينه للرحلات التي قام بها بعض الرحالة الذين قدموا إلى اليمن أمثال الرحالة أحمد بن أحمد القيرواني ، والذي رصد مؤرخنا وصفه لما شاهده خلال زيارته للعديد من البلدان.
ومن الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أن المستشرق البريطاني الكبير الراحل سرجنت (ت 1993م)-وهو أحد كبار المختصين المعاصرين- قد أوضح في كتابه (صنعاء: مدينة إسلامية عربية) أهمية المخطوطة بقوله: (إنها تُمثل قطعة كتابية جيدة وبارزة، بالنظر إلى مدى تغطيتها للأحداث، واختياراتها، وعرض مادتها، ونادراً ما تقارن بالتواريخ العربية لأي فترة) .
يتضح لنا مما سبق ذكره، الأهمية التاريخية لموضوع دراستنا. وحتى تتبلور موضوعات المخطوطة بشكل أوسع فسأفرد بالإيضاح كل ما أشرنا إليه من المواضيع الأساسية كلاً على حدة.
(ب): محتويات المخطوطة
1- الأوضاع السياسية
أ- السياسة الداخلية
يمثل عصر الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد مرحلة سياسية هامة في التاريخ اليمني الحديث، حيث برز كشخصية تاريخية يمنية مهمة في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، وهو القرن الذي شهد منعطفاً تاريخياً هاماً تمثل في: (التداعي البطئ والطويل للإمبراطورية العثمانية...والتوسع الأوربي إلى كل جزء من المحيط الهندي) .
فكان أن مهد خروج العثمانيين الأول من اليمن عام (1405هـ/1635م) للخطوة الأولى نحو إقامة دولة مركزية، حيث تولدت هذه الفكرة في أول أمرها في ذهن الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم بن محمد، وازدادت معالمها وضوحاً إبان حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل، الذي خلف أخاه المؤيد بعد وفاته عام (1054هـ/1644م).
وقد ذكر مؤرخنا الصعوبات التي واجهت المتوكل على الله في بداية عهده بالحكم، والمتمثلة في تلك الدعوات التي زاحمت المتوكل في دعوى الإمامة ، والتي حسمت في نهاية الأمر عبر مُناظرة -مع غيره ممن دعا لنفسه بالإمامة- في التاسع من شوال سنة (1054هـ/1644م) احتواها (مجلس عام لجميع أهل العلم وأهل الفضل) . حيث أفضى إلى تأكيد المجتمعين لأحقية الإمام المتوكل بالإمامة، لتوافر جميع شروطها فيه.
ثم عمد الإمام المتوكل بعد أن وطد دعائم حكمه، إلى اتخاذ ضوران عاصمة له، لوقوعها في جانب آنس الحصين، والذي يصعب السيطرة عليه، إضافة إلى كونها مركزاً سياسياً وقتئذٍ. ولكي يثبت سلطته-كما يذكر الجرموزي في سيرته- شرع الإمام في إخماد عددٍ من حركات التمرد والعصيان في أكثر من منطقة، كما حدث مع الشيخ يحيى بن روكان، في بلاد خولان .كذا ما جرى في شرعب سنة (1059هـ/1649م) حين رفض أهلها تسليم ما يخص الدولة من واجبات . والحوادث غير هذه كثيرة.
وقد قام الجرموزي بإعطاء صورة متكاملة عن الكيفية التي درج عليها الإمام في تعامله مع مدبري حركة العصيان تلك، فيذكر لنا أن الإمام بعد أن قبض على الشيخ بن روكان-الآنف الذكر- عفا عنه وحذره من أن يعود لمثل ذلك، بقوله: (أذن له بعد أن أعطاه كثيراً، وأحسن إليه إحساناً غفيراً) .ولم تكن تلك الإجراءات نتيجة لضعف الدولة في السيطرة على الأوضاع، وإنما كان ذلك لضرورة حتمتها هذه الأوضاع، تمثلت بالحاجة إلى كسب هؤلاء حتى لا يتكرر ذلك في قبائل أخرى. هذا إلى جانب أن فعلاً من هذا القبيل يترك الأثر الطيب في نفوسهم-أي المذنبين- ونفوس العامة على حدٍ سواء، مما ينعكس أثره إيجابياً بالإمتثال والطاعة للدولة. يضاف إلى ذلك أن الإمام اتبع سياسة الترهيب مع رؤساء القبائل، وذلك من خلال ما جسدته رسائله التي كان يوجهها إليهم للدخول في طاعته، والإنضواء تحت الدولة الأولى، وأبرز مثال على ذلك رسالته التي أرسلها للرصاص-حين تقدمت القوات الإمامية لمقاتلة لإنهاء تمرده- والتي رصدها مؤرخنا على هذا النحو، فيقول: (إنك إذا لم تطع الله سبحانه وتعالى بطاعة إمام الزمان، فأرفع الحُرم والأطفال ومن لا حاجة إليه في القتال، فإني أبرئ الله مضرة تلحقهم بسببك...) .
ويورد لنا مؤرخنا نموذجاً آخر من أشكال التمردات، تمثل في موقف الطائفة الإسماعيلية (المكارمة)، وهي أقلية توزعت بين همدان المجاورة لصنعاء، ويام نجران في الشمال منها، وحراز غرباً، وقد شكلت بمواقفها العدائية للأئمة-على مر تاريخ الأئمة في اليمن- مصدر إزعاج وإقلاق للدولة وأمنها. فيذكر الجرموزي أنها بدأت تنشط وبشكل كبير في تلك المناطق . وقد كان أن عالج الإمام هذه المسألة باستخدامه وسائل التهديد والوعيد لمن ينخرط (في هذا المذهب) ...بل وأعظم من ذلك أنه (استباح دمه وماله) .
ويوضح الجرموزي في سيرته السياسة التي اتبعها الإمام مع الأهالي، وما أولاه من إهتمام بأمور معيشتهم، حيث يذكر أنه كان يتفقد: (المظالم التي بين القبائل عموماً، وبين أهل كل بلدٍ خصوصاً وأقام القضاة للفصل) في قضايا الناس.
هذا فضلاً عن تتبعه-أي الجرموزي- للزيارات التي يقوم بها الإمام للعديد من المناطق لتفقد أحوال الرعية والنظر في شكاويهم والبت فيها، حيث تمكن الإمام بنهج سياسته هذه من خلق جوٍ من الشعور بالأمان والطمأنينة بين الأهالي، خاصة بعد ما عاشوه من قلق وخوف، وعدم إستقرار أثناء التواجد العثماني، لما مارسه ضدهم من ظلم، وما جلبته عليهم الحروب من ويلات ومآسي.
ورسم مؤرخنا وبدقة متناهية صورة واضحة للسياسة التي أتبعها الإمام كخطوة أولى لمد نفوذه إلى مدن ومناطق عدن ولحج وأبين والشعيب ويافع وبني أرض، وبلاد الرصاص وبلاد العولقي والفضلي ، بغرض ضمها في إطار الدولة الواحدة. وقد لجأ الجرموزي بتقديم هذه الصورة عن سياسة الإمام في المرحلة الأولى، إلى رصد الوقائع والأحداث والمعارك -على نحو مفصل- التي خاضتها قوات الإمام بقيادة أحمد بن الحسن بن القاسم مع قبائل تلك المدن والمناطق.
كما بين وبشكل أوسع العملية النهائية، والهادفة إلى توحيد اليمن تحت لواء دولة مركزية واحدة، امتدت سطوتها فسيطرت على حضرموت ، وما جاورها من مشرق اليمن وجنوبه، وشكلت بذلك مورداً اقتصادياً هاماً، كونها حلقة وصل بالتجارة الخارجية، ولإحتوائها على عدد من الموانئ-كالمكلا والشحر- يضاف إلى ذاك تأمين حدود الدولة الجديدة مع جيرانها في الجانب الآخر.
وأثبت لنا مؤرخنا-في هذا الخصوص- عدداً من الرسائل التي جرى تبادلها بين الإمام والسلطان بدر بن عمر الكثيري، قبل وبعد السيطرة -على حضرموت وظفار والشحر.
أما بالنسبة إلى الناحية الإدراية فلم يُفصَّل مؤرخنا أي إستحداث لأية أنظمة إدارية في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل، إلا أنه من الواضح أن أمور الدولة وتسيير مصالح الأمة لم تكن تخرج عن دائرة السلطة للإمام وحده، يساعده في ذلك ولاة المدن وحكام النواحي الذين أوكل إليهم-الإمام- إدارة شؤنها، وهؤلاء كانوا على اتصال مباشر بالإمام، وكان ارتباطهم به عبر ما يصلهم من أوامره وتوجيهاته- عبر رسائله إليهم- يحثهم فيها على رعاية مصالح الناس وتسير شؤن حياتهم .
ويذكر مؤرخنا في هذا الشأن أيضاً ما كان يقوم به الإمام من جولات تفقدية في العديد من المناطق للإطلاع عن قرب على أحوال الأهالي. ويذكر الجرموزي-منها- زيارته لصنعاء حيث مكث فيها أربعة أشهر في عام (1072هـ/1661م)، تفقد في مقامه (قانون صنعاء ، وغيّر أموراً أنكرها، ودقق في معرفة المنكرات حتى لا يكاد يُخفي شيء...) .
ولكي يضمن ولاء الأهالي للدولة، سعى الإمام إلى تعيين ولاة وحكام من أقربائه وخاصته، حيث أبقى- كما يذكر الجرموزي- أخيه أحمد بن القاسم على صعدة- وكان والياً عليها منذ تعيين أخيه الإمام المؤيد له- ثم عين عليها بعد وفاته-أي أحمد- ابنه الحسين بن أحمد.
وبالنسبة لما كان يسمى باليمن الأسفل -إب وتعز- فقد ولى عليها ابن أخيه محمد بن الحسن، وأمر أن (يستعمل على بلاد يافع السيد المجاهد شرف الدين بن المطهر...) ، وعيّن (على بلاد الرصاص ودثينة وما والاها الفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل...) .
وإذا ما انتقلنا للحديث عن التقسيمات الإدارية فسنجد أن مؤرخنا لم يتطرق إلى ذلك في سيرته، حيث لم يذكر أي إجراء يتعلق بهذا الجانب ولو ضمناً، وهو ما يمكن تفسيره من أن الإمام المتوكل على الله إسماعيل قد أبقى على التقسيمات الإدارية العثمانية السابقة.
وللحديث عن الجيش يمكن القول أن السيرة -كما لمسنا من مطالعتنا لها- لم تشر إلى قيام جيش منظم بالمعنى الصحيح-كما هو في عصرنا الحالي- حيث كان غالب الجيش عبارة عن فرق من القبائل، ممن كان يهمها كسب المغانم كما هي العادة أثناء الحروب، وسنرى أن تلك الفرق لم تكن مستقرةً في أماكن أعدت خصيصاً لهذا الغرض-معسكرات- وإنما كانت القبائل إذا ما دّعت الضرورة تلبي-كما يقول الجرموزي- نداء الحرب عند سماعها (النفير) .
ويتضح من خلال السيرة أن الإمام كان هو السلطة المطلقة على الجيش-يقابله في عصرنا الحاضر القائد العام للقوات المسلحة- وأسند مهمة قيادة وتنظيم وصرف رواتب الجنود إلى أبني أخيه أحمد بن الحسن ، ومحمد بن الحسن ، ويساعدهما عدد من القادة ممن يعيّنهم الإمام.
ب- السياسة الخارجية
لم يقتصر مؤرخنا الجرموزي في سيرته على ذكر سياسة الإمام الداخلية فحسب- كما أشرنا آنفاً- بل اهتم بتتبع السياسة الخارجية ورصد معالمها، وما كانت عليه من نهج، وذلك من خلال ذكره- في سيرته- لتلك العلاقات التي أقامها الإمام المتوكل، مع عدد من الأقطار العربية والإسلامية، وبعض من الدول الأوربية.
لذا اختص العديد من صفحات السيرة ليضمنها تلك الرسائل التي تبودلت بين الإمام وعدد من رؤساء تلك الأقطار.
ومما يورده الجرموزي في هذا الجانب ذكره لما شهدته علاقة الإمام بأشراف مكة من تطور كبير وملحوظ- وهي العلاقة التي كان أخوه الإمام المؤيد بالله محمد قد بدأها بعد خروج العثمانيين من اليمن- وأسس لها في عهده، وهو ما سنلمسه بوضوح من خلال تلك الرسائل التي وثَّقها-مؤرخنا- في سيرته التي تبودلت بين الجانبين.
فمثلاً يذكر الجرموزي أنه في سنة (1064هـ/1653م) قام الشريف زيد بن محسن بإرسال رسالة إلى الإمام يشرح له فيها تطورات الأحداث في بلده، وما كان من تبعات نتيجة خلافه مع ابن عمه الشريف عبدالعزيز بن إدريس ، يناشده فيها (إمداده بالمال ويستطلع رأيه... في معاملة ابن عمه) إلا أن الإمام-إلتزاماً منه بثوابت سياسة الدولة الخارجية- رأى ذلك شأناً داخلياً بين الأشراف في مكة فدعا إلى ضرورة الصلح بين الأطراف المتنازعة .
وفي ظل تنامي قوة الإمام كان أن ارتأى بسط نوع من النفوذ الإسمي على الحجاز تبعاً لما يذكره الجرموزي في سيرته، ففي عام (1068هـ/1657م) قام الإمام المتوكل بإرسال الفقيه الحسين بن يحيى النحوي إلى بلاد ينبع وما والاها من بلاد الحجاز (للتعليم والإرشاد) فرحب به أهل ينبع حيث (أقيمت الجمعة ودعوا الناس للإمام، ورفعوا مناره وأعلنوا شعاره) . على أن الشريف زيد بن محسن قد رأى أن تصرفاً كهذا يُعَدُّ تدخلاً في شؤنه الداخلية، هذا إلى جانب خشيته من العثمانيين -الذين كانوا يفرضون سيطرتهم آنذاك على مكة والحجاز- ومن بطشهم فـ (عظم عليه...أن يُتَّهَم من قبل السلطنة . وحسماً لتفاقم الأمر بين الطرفين، وتردي العلاقات بينهما، أمر الإمام بعودة الفقيه النحوي في سنة (1071هـ/1660م) إلى البلاد .
ولم تكن علاقة الإمام تنحصر بأشراف مكة والحجاز، بل إنها امتدت لتشمل الأحساء والقطيف -من جهات نجد- فكان أن وصل اليمن عام (1095هـ/1649م) الشريف عبدالقادر بن نعمة الله بن الحسين، على رأس وفد كبير، كسفير من حاكم الأحساء لتعميق أواصر العلاقة بينهما، والتي لم تقف عند حدود تبادل الرسائل والهدايا بين الطرفين وحسب، بل جاوزت ذلك إلى (...موالاة أهل تلك الأطراف بحسن الولاء والإجابة والإشادة بذكر الإمام في تلك الأقطار، والدخول في الطاعة...) .
أما بالنسبة لعلاقة الإمام بالحُكَّام اليعاربة (سلطنة عمان حالياً) فقد كانت على الضد من علاقته بالأشراف في مكة، حيث ظلت في تأرجح مستمر مداً وجزراً. ومثلت فترة ضم الإمام لحضرموت والشحر وظفار أكثر المراحل اشتداداً وتأزماً في هذه العلاقة، حيث وجد الإمام نفسه -بعد سيطرته على تلك المناطق- أمام قوة بحرية كبيرة- في يد الطرف الآخر تتحكم بخطوط سير السفن البحرية، مما حتم عليه أن يحمي منافذه البحرية التجارية على طول الساحل الممتد من حضرموت إلى الشحر.
ولعل ذلك يتضح عند ذكر مؤرخنا للهجوم الذي قامت به قوات اليعاربة على جعفر بن عبدالله الكثيري، الذي كان والياً على ظفار بحجة اعتداءاته على السفن التجارية في البحر، وقد تمت مراسلة القائد العسكري أحمد بن الحسن، أثناء تواجده في حضرموت حين أفاده (إن الله سبحانه وتعالى مكنّا من هذا الضال الضلول، وقد أخرجناه من البندر، والتصرف لكم فيه وفينا...) .
وأشار مؤرخنا-في سيرته- إلى واحدة من العلاقات المهمة والتي حرص الإمام على إبقائها وهي علاقته بالدولة العثمانية.
والعلاقة وإن كانت غير مباشرة بالسلطان العثماني، إلا أننا نلمسها بوضوح من خلال إستقرائنا للمخطوط، مثلَّها تعامله -أي الإمام- مع الدويلات التي كانت تخضع للسيطرة العثمانية. فهو مثلاً يذكر أن الإمام رفض مد الشريف زيد بن محسن بالمال والسلاح لحسم خلافه مع ابن عمه الشريف عبدالعزيز بن إدريس ، في عام (1064هـ/1653م) لأنه كان يرى أن تدخله سوف يثير عليه الدولة العثمانية التي كانت تبسط نفوذها على أراضي مكة والحجاز آنذاك.
ومما يدعم ما ذهبنا إليه في وجود علاقة كهذه- علاقة الإمام بالدولة العثمانية- هو ما كان من رفض الإمام للتعاون مع درويش بن محمد، الذي قام بثورة على الوالي العثماني أحمد باشا في الحبشة .
ويبين مؤرخنا علامات ذلك الحرص، بشكل أكثر وضوحاً عند ذكره ما كان من تجاهل الإمام لمطالب وفد قدم من العراق، من مدينتي البصرة وبغداد عام (1074هـ/1663م)، يحمل شكوى ضد الوالي العثماني حسين باشا، لما يمارسه من ظلم ضد الأهالي هناك، وكان يطلب (...المعونة...على إستنقاذهم من أيدي الروم...) .
وتطرق مؤرخنا أيضاً إلى تلك العلاقات التي أقامها الإمام المتوكل على الله إسماعيل مع الدولة الصفوية (إيران حالياً) حيث ربطته علاقة ودٍ وصداقة قوية، يمكن الاستدلال عليها من خلال تلك الرسائل والهدايا المتبادلة بين الجانبين، والتي وثقها الجرموزي في سيرته.
ولقد شهد عهد الإمام المتوكل على الله تطوراً ملموساً، على مستوى العلاقات مع الدولة المغولية (الهند حالياً)، حيث تبودلت العديد من الرسائل بين الإمام والسلطان شاه جهان ثم من بعده ابنه السلطان محمد أوزنكريب .وسنرى أن الإمام حرص من خلال هذه الرسائل على إيضاح فضائل آل البيت على المسلمين ووجوب طاعتهم، كما شدد على ضرورة إقامة الشريعة الإسلامية، وهو ما يمكن أن نلمسه في إحدى رسائل السلطان محمد أوزنكريب إلى الإمام عام (1071هـ/1660م) يستأذنه فيها تطبيق أحكام الشريعة في بلاده، وكان أن رد عليه الإمام-كما ذكر مؤرخنا-بالموافقة على طلبه هذا بقوله: (...وجعلنا لكم ولاية عامة في جميع الأقطار التي تحت وطأتكم...وأذنّا لكم في جهاد المخالفين ومنابذة الظالمين، وإقامة الحدود على أهلها، وأخذ الحدود من أربابها...) . ونستشف من خلال هذه الرسالة، نوعية العلاقة القائمة بين الإمام وسلاطين الدولة المغولية، حيث كانوا يرون في الإمام مرجعيتهم الدينية-كإمام الأزهر حالياً- يرجعون إليه في العديد من أمورهم الدينية.
إلا أن ما زاد من توثيق الصلة بين الجانبين يرجع في نظرنا إلى عامل هام يتمثل في العلاقة التجارية التي كانت قائمة بين اليمن والدولة المغولية (الهند) حينذاك، ويتضح ذلك بشكل أكبر من وجود ذلك العديد الكبير من التجار البانيان في أكثر من موضع في اليمن، وهو ما سيتم الإشارة إليه عند تناولنا للأوضاع الإقتصادية.
وارتبط الإمام المتوكل على الله إسماعيل كذلك بعلاقة جيدة مع بلاد الحبشة -والتي كانت تضرب جذورها منذ القدم- بحكم علاقة الجوار بين البلدين. وقد قدم لنا الجرموزي صورةً واضحةً لعمق تلك العلاقة، من خلال توثيقه لرحلة الحبشة كاملة في سيرته، والتي قام بها الحيمي بناءاً على تكليف من الإمام لمقابلة إمبراطور الحبشة فاسيلاداس (ت 1078هـ/1667م).
وسنرى أنه في الوقت الذي شهدت فيه اليمن قيام علاقات بينها وبين بلدان من العالمين العربي والإسلامي؛ نجد أنها لم ترتبط بأية علاقات مع الدول الأوربية، بإستثناء بعض التبادل التجاري مع كل من هولندا وبريطانيا . ولم يذكر لنا الجرموزي تفاصيل تذكر وجود تبادل تجاري بين تلك الدولتين واليمن، عدا ذكره من أنه كان لهاتين الدولتين (...مواضع في المخاء معتادة...تجتمع إليهم بضائعهم وغالبها الجوخ وما غلا من الأمتعة...) .
كما رصد -مؤرخنا- بالتفصيل أعمال القرصنة التي كانت تمارسها سفن هاتين الدولتين، طمعاً منها في السيطرة على التجارة المارة في البحرين الأحمر والعربي، وأتبعها -أي الجرموزي- بذكر الإجراءات التي اتخذها الإمام لحماية بلاده إزاء مثل تلك الأعمال.
2- الأوضاع الإقتصادية
مما لا يختلف فيه اثنان أن الجانب الإقتصادي رديف أساسي للجانب السياسي لاكتمال بناء الدولة، ولعله ومن حسن الحظ أن الجرموزي لم يغفل الحالة الإقتصادية في البلاد وتسقط أخبار الأسعار ومواسم الحصاد، لهذا نجد أن السيرة قد حوت بين دفتيها مادةً غزيرةً عن هذا الجانب، وعن نواحي البلاد بشكل عام. والجرموزي في هذا المنحى شأنه شأن غيره من مؤرخي المدرسة العربية الإسلامية الكلاسيكية.
واهتم مؤرخنا بشكل خاص برصد المتغيرات الإقتصادية التي حدثت إبان حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل.
وفيما يلي سنحاول إيضاح ما ذهب إليه مؤرخنا من خلال مجالات هامة وهي:
أ- المجال الزراعي.
ب- المجال التجاري.
جـ- النهضة العمرانية.
أ- المجال الزراعي
نجد أن الجرموزي عند ذكره -في سيرته- للمجال الزراعي قد رسم لنا صورةً حيةً عن الوضع الزراعي في اليمن خلال حكم الإمام المتوكل، واستوفى-إلى حد ما-جوانبها عرضاً وتفصيلاً، تؤكد أن اليمن قد اعتمد اعتماداً كلياً على انتاجه المحلي من الحبوب.
على أننا نعلم جميعاً أن المناطق شحيحة الأمطار، كثيراً ما تكون عرضة لحوادث أزمات غذائية -كالمجاعات- يصاحبها ارتفاع في أسعار الأغذية بجميع أنواعها، واليمن وهي إحدى الدول التي تتخذ من مياه الأمطار مصدرها الوحيد للزراعة، تتعرض بين فترة وأخرى لشحة في الأمطار، مما ينجم عنه الكثير من المشاكل في هذا الجانب.
ومما أورده الجرموزي -في هذا الخصوص- ذكره لما أصاب اليمن من نقص شديدٍ في المواد الغذائية، وبالذات الحبوب-وهي المصدر الرئيسي للغذاء- وذلك لشحة في الأمطار في العام (1064هـ/1653م) فيقول: (ارتفعت الأسعار في السهل والجبل، وكان فيهاشدائد هائلة.. اجتمع أهل الأسباب في تهامة إلى الحجاز، وبلاد صعدة، واليمن الأسفل، وجهات عدن، وذكروا السعر واستوائه... وأن الطعام صار كالفلفل يكاد أن يباع بالميزان...) حيث بلغ سعر (حمل الذرة خمسين حرفاً..) .
ولعله من نافلة القول أن نوضح ما لهذه الأزمات وما يصاحبها من تردٍ في أوضاع الأهالي، من أثر بالغ ينعكس سلباً على الوضع بصورة عامة، من معاناة الأهالي وعجزهم من توفير لقمة العيش الضرورية، وقد أصبحت حينها صعبة المنال؛ وما تولده هذه المعاناة من تذمر وسخط، مما يدفع الأهالي-في الغالب- إلى إعلان تمردهم على الدولة، والدخول في صراعات وخلافات في ما بينهم بحجة تامين لقمة العيش. الأمر الذي أوضحه مؤرخنا عند ذكره فيما سبق لارتفاع الأسعار بقوله: (ويكاد الناس يأكل بعضهم بعضاً...) .
وبعد أن فصّلنا ما جاء في ذكر الجرموزي لهذه الخانقة التي حلت بالبلاد في عهد الإمام المتوكل على الله، سنأتي على ماذكره من موقف الدولة والتدابير التي اتخذتها بشأن الأزمة، حيث يذكر أنها كانت تضع تجاه مثل هذه الصعوبات والأزمات تدابيراً وحلولاً كفيلة، ولو بصورة مؤقتة لمواجهة ما يحدث من الصعوبات جراء نقص الحبوب، وعلى سبيل المثال يذكر أنه في عام (1064هـ/1653م) أصاب مناطق بلاد ضوران آنس حاضرة المتوكل ومركز حكمه نقص شديد في الحبوب، فقامت الدولة على إثره بتوزيع الحبوب على المتضررين من مخازن (الحصن المحروس بالله... من الطعام من أيام مولانا الحسن ومولانا الحسين -رحمة الله عليهما-..) وفي كثير من المناطق في عموم البلاد كان الأهالي يتخذون -حيطة منهم- هذه المخازن وهي ما كان يطلق عليها سابقاً بالمدافن (كصوامع الغلال اليوم)لخزن كميات من الحبوب كاحتياط لمواجهة الأزمات. ويتضح ذلك جلياً من مطالعتنا -في السيرة- لما حدث عند سيطرة قوات الإمام على مناطق الرصاص في عام (1065هـ/1654م) حيث قامت بإخراج ما في مخازنه من الحبوب والتي لكثرتها جعلتهم أن (...باعوا القدح ببقشة...) أما في حالة نفاذ مخزون الدولة من مادة الحبوب فكان كما يقول مؤرخنا: (يُطلب الطعام من الجهات المبتعدة) والتي تمتلك مخزوناً فائضاً عن حاجتها لتوزيعه على المناطق المتضررة.
كما أوضح الجرموزي -إلى جانب ما تقدم ذكره في هذا المجال- إهتمام الدولة بالمجال الزراعي، ومثّل إقامة السدود وتعميرها واحداً من جوانب هذا الإهتمام، يذكر منها الجرموزي ترميم سد الإمام في صنعاء -على سبيل المثال- والذي استفادت من ترميمه عدد من الأراضي الزراعية حيث (..سقى أهل شعوب أموالهم من الجراف والروضة والحشيشة..) ولم يقف هذا الإهتمام عند هذا الحد، بل تعداه إلى شق القنوات وحفر الغيول .
ب- المجال التجاري
لم يكن النجاح الذي حققته الدولة في المجال التجاري بأقل منه في المجال الزراعي، فقد شهدت اليمن خلال حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل حركةً تجاريةً واسعةً، وهو الأمرالذي عاصره الجرموزي، حيث رصد- في سيرته- جانباً من مظاهر الحياة التجارية حينذاك، فهو يشير مثلاً إلى وجود التجار البانيان -وهم من الهند- بأعداد هائلة حتى وصل الحد بهم -لكثرتهم- أن (كل مدينة أو سوق لم يخل منهم...) .
ولقد لعب هؤلاء التجار كما يوضح ذلك مؤرخنا، دوراً كبيراً في التبادل التجاري وشئون المال، فمال الناس (إليهم للشراء منهم والإستدانة والمرابحة في أموالهم...) . إلاَّ أن الإمام رأى أن وجود هؤلاء التجار البانيان بأعداد كبيرة، وما يمارسونه من إحتكار للتجارة واستغلال لظروف الناس المعيشية -بما يمارسونه من مرابحة في أوساط الناس- قد يؤدي إلى إحتكار قبضتهم على إقتصاد البلاد. وهو ما كان يستدعي تحركاً من قبل الدولة لتفادي الوصول إلى وضعٍ كهذا.
فكان أن قام الإمام سعياً منه للحد من نفوذهم التجاري ببعض الإجراءات، والتي يذكر منها مؤرخنا ما قام به في عام(1059هـ/1649م) من فرضه للجزية عليهم، على أن يكون (...على كل نفر قرشاً في كل شهر...) مقابل إقامتهم في البلاد، غير أن غالبيتهم رفضت دفع الجزية (...وعادوا إلى الهند وهو الذي أراد -عليه السلام- من تقليلهم...) يضاف إلى ذلك أنه حدد أماكن خاصة بهم للبيع والشراء ، بعد أن تم رفع العديد من الشكاوي ضدهم من قبل الأهالي بسبب تعاملهم بالربا. وهو ما كان من شأنه أن شل حركتهم، وحد من انتشارهم في العديد من المدن والمناطق، مما أدى بالتالي إلى تضاؤل نسبة بيع بضائعهم وانحسار تجارتهم.
وقد بين مؤرخنا في سيرته حرص الدولة في تأمين وسائل العيش للتجار القادمين إلى المدن سواءً الأجانب منهم أو التجار المحليين، حيث أشار إلى إنشاء أماكن خاصة بإقامتهم.
ففي صنعاء مثلاً أنشأ محمد بن الحسن سمسرة (لم يُعمّر في صنعاء مثلها، ولا في اليمن ما يشاكلها اشتملت على طبقات تحتوي على مائة واثنتين منزلاً...، فتبادر إليها التجار وأخذوا من مرافقها خطوطاً...) .
وشمل ذلك الإهتمام بالمدن الساحلية، وبالتحديد الموانئ البحرية فيها، وهو ما أشار إليه مؤرخنا حين ذكر أنه أثناء زيارة أحمد بن الحسن لمدينة عدن في عام (1072هـ/1661م) أمر ببناء (الداير المتصل بالساحل مما يلي البحر نحو نصف ميل . كما أبدى الإمام المتوكل على الله إسماعيل حرصه الشديد على سن الأنظمة والقوانين التي تحدد معايير التعامل بين التجار والأهالي، وهو ما وضحه الجرموزي، حيث أشار إلى تفقد الإمام في إحدى زياراته لمدينة صنعاء في سنة (1072هـ) (قانون المدينة) -وهوالمسمى بقانون صنعاء-والذي سنه في عام (1066هـ/1655م).
وبإزدياد حركة النشاط التجاري بين اليمن والعالم الخارجي، ابتدأ تأسيس نظام جمركي للبضائع الواردة، وقد أورد الجرموزي في مخطوطته أرقاماً لما تم توريده لخزينة الدولة من رسوم جمركية على البضائع، حيث يذكر أن السلطان بدر الكثيري أرسل في سنة (1067هـ/1656م) رسالة إلى الإمام يوضح فيها إجمالي الرسوم المستحقة على التجار البانيان في ميناء الشحر لمدة ثلاثة أشهر، ومقدارها (مائتان وعشرون قرشاً وثلاثمائة حرف وخمسة عشر ذهباً أحمر) .
ولما كانت العملة تعد أساساً للإستقرار الإقتصادي والمعيشي في أي بلد، ولذلك نجد أن مؤرخنا الجرموزي لم يغفل هذا الجانب في سيرته وقد ذكر -كمبدأ متعارف عليه- أن الإمام أمر أثناء إقامته في شهارة سنة (1056هـ/1646م): (بإقامة دار الضرب فيها، وجعلها أربعة أنواع: درهماً كبيراً على وزن الدرهم الإسلامي في نهاية من طيب الفضة، مكتوب في أحد جانبيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الآخر: المتوكل على الله أمير المؤمنين إسماعيل وتأريخ الضربة، ومحلها بمحروس شهارة.
والنوع الثاني قطعة أغلظ منها وأثقل في الوزن مكتوب في جانبه اسمه -عليه السلام- وشهارة المحروسة، فالثمان من الأولى حرف واحد، ومن الثانية الخمس منها حرف واحد، فيكون الحرف من الأولى ثماناً ومن الأخرى خمساً.
والنوع الثالث: كل بقشة بقشتين يكون الحرف منها عشرين كبيراً.
والنوع الرابع كما سبق قبلها من ضريبة اليمن البقشة برأسها، والحرف أربعون كبيراً .
فكان لهذه العملة كما يشير الجرموزي رواجاً كبيراً، وتداولها الناس حتى أنها وصلت إلى (مكة والمدينة) .
ولقد تطرقت السيرة إلى تلك العلاقات التجارية التي أقامها الإمام المتوكل على الله إسماعيل مع الهند، ويتضح ذلك جلياً من خلال التجار الذين كانوا يصلون إلى اليمن، فعلى سبيل المثال يذكر الجرموزي أنه في عام (1072هـ/1661م) وصل إلى ميناء عدن عدد من التجار الهنود على مركبين كبيرين، وكان كل مركب منهما- كما يصفهما الجرموزي- قد (شُحن بأربعمائة بندلة... وكل بندلة لم يسعها باب الفرضة وإنما أخرجوها من باب الساحل . ويوضح لنا هذا حجم البضائع التي كانت تستوردها الدولة، يضاف إلى ذلك وجود العديد من التجار البانيان -كما أشرنا آنفاً- الذين كانوا يمارسون النشاط التجاري في أغلب مدن اليمن كصنعاء وعدن والحديدة...وساحل الخليج العربي .
ولم تكن العلاقات التجارية تنحصر بالهند وحدها، بل كانت هناك علاقات تجارية مع دول أخرى كتلك التي مع كل من مكة والحجاز ، وإيران ، والحبشة .
وأما بالنسبة للدول الأوربية فيوضح مؤرخنا أن اليمن أقامت علاقات غير مباشرة مع كل من هولندا وبريطانيا، فهو يذكر أنه كان لتجار تلك الدولتين (مواضع في المخاء لبيع التجارة مثل الجوخ والأمتعة الغالية) ، إلاَّ أن تلك العلاقات لم تشهد تطوراً ملحوظاً -كما أشرنا- ويعود السبب كما يشير مؤرخنا إلى قيام السفن البريطانية والهولندية بأعمال القرصنة في البحرين الأحمر والهندي ضد السفن المارة فوق مياههما، وبالذات تلك المتجهة إلى اليمن فترتب على ذلك أن قلّ التبادل التجاري مع تلك الدولتين حينذاك.
ج - النهضة العمرانية
لقد كان من الطبيعي أن يصاحب ذلك الإنتعاش الإقتصادي والتجاري حركة دللت عليها الكثير من الشواهد التي أبدى الجرموزي حرصه في تدوينها في مؤلفه، وكان أبرزها ما يذكره من الأعمال التي قام بها الإمام نفسه، وكذا كبار مسؤلي الدولة كمحمد بن الحسن بن القاسم، والذي كان مسؤلاً عن إدارة مدينتي إب وتعز، حيث قام بتوسيع الجامع الكبير بذمار، وأصلح مرافقه؛ يضاف إلى ذلك قيامه بعدد من الإصلاحات في العاصمة (ضوران)، حيث أصلح مرافق الجامع المقدس في الحصين، وأضاف في بنائه، فضلاً عن اهتمامه بالنواحي الخدمية للعاصمة، ومن أهمها: إستخراج المياه الجوفية لتلبية مطالب المدينة منها؛ كما أنه بنى (حصن كحلان في نواحي خُبان) . وأقام عدداً من الأماكن الخاصة لطلبة العلم في مدينة دمُتْ، ولعل أهم ما قام به هو إنشاؤه للسمسرة التي في مدينة صنعاء كنزل للتجار القادمين إلى المدينة، وكذلك (الدار الكبرى الواقعة على المدينة بالقرب من المدرسة الشرقية) .
وأوضح مؤرخنا كذلك اهتمام الدولة بالمدن الرئيسية التجارية، والتي تعكس الصورة الحضارية في اليمن أمام العالم الخارجي. فهو يذكر أن أحمد بن الحسن أقام العديد من المنشآت الحيوية في مدينة عدن (1072هـ/1661م) حيث استدعى عدداً من (العمارين من بلاد يافع واليمن وصنعاء لتعمير الدوائر وخاصة الدائر المتصل بالساحل، وكذلك عمر دار السعادة والتي كانت دار إلإمارة، ثم عمر ستة دوائر غيرها) يضاف إلى ذلك قيامه بترميم وإصلاح بعض مدارس العلم في المدينة.
3- الأوضاع الاجتماعية
في إطار حديثنا عن الأوضاع السياسية والاقتصادية، يمكن ملاحظة الأثر الكبير الذي انعكس على الوضع الإجتماعي، وبهذا الخصوص أورد مؤرخنا بين دفتي مخطوطته ما يوضح ذلك، حيث برزت -إستناداً للجرموزي- في مناطق ألوية صنعاء وحجة شمال البلاد قبيلتان هما: حاشد، وبكيل، ظهرت أهميتهما بالعديد من الفخوذ والبطون المتحدة والمتفرعة منها.
وفي مناطق تعز وإب -ما كان يسمى باليمن الأسفل- برزت مجموعة من القبائل -كما يتبين في المخطوطة- كان لها محيطها المؤثر.
أما بالنسبة لمدينة عدن ولحج ويافع وحضرموت، فكان للقبائل فيها دورها البارز الذي لعبته في التاريخ السياسي لفترة حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل، حيث يشير مؤرخنا إلى أن قبائل (يافع، بني بلاد الرصاص..المصعبين..العوالق، آل كثير، وبلاد الفضلي والعمودي، وما والاها إلى حضرموت) جابهت القوات الإمامية في بدايات مد نفوذه إليها.
ويورد مؤرخنا الجرموزي في مخطوطته ذكر عدد من حركات العصيان والتمرد لعدد من القبائل في السنوات الأولى لتسنم الإمام المتوكل لزمام السلطة، فعلى سبيل المثال يذكر أنه لما أعلن إبراهيم المؤيدي في سنة (1054هـ/1644م) دعوته ومعارضته لدعوة الإمام قام بتجميع عدد من قبائل صعدة حوله، مما اضطر الإمام إلى الإسراع في قمع عصيانها . وتكرر مثل ذلك العصيان -في صعدة- مرة أخرى في سنة (1061هـ/1650م) بمساندة من قبائل مداك وعرو آل بوصان . ويبرز مؤرخنا في موضع آخر صورة أخرى من صور العصيان القبلي تمثلت في امتناع بعض القبائل من تسليم الزكاة كما فعلت أهالي بلاد خولان العالية ، أو الامتناع عن تسليم الواجبات كما في حال قبائل شرعب ، وقبائل يافع .
كما رسم مؤرخنا الجرموزي عبر صفحات مخطوطته صورة واضحة للفئات والشرائح الإجتماعية القائمة آنذاك، ويمكن تقسيمها حسب درجات القرابة والعلاقة والتعامل العلمي -تبعاً للجرموزي- إلى أربع طبقات:
الأولى: وهم طبقة الأشراف من (أهل بيته وشركاه في نسبه الطاهر) .
الثانية: وهم الذين عاصروه من أصحاب أبيه وأخيه، الإمام المؤيد بالله من الحكام ورؤساء القوات الإمامية والمقربين إليه.
الثالثة: وهم (الذين فقهوا في زمانه وانتشر علمهم وفضلهم في أوانه) .
أما الرابعة: فتمثلها العامة من الناس.
ولقد أوضح مؤرخنا -كما أشرنا آنفاً- هذا التقسيم أثناء رصده لممارسات الإمام لحياته اليومية، فهو مثلاً يذكر أن الإمام أمر في إحدى زياراته لمنطقة كوكبان سنة (1064هـ/1653م) لتفقد أحوال الرعية هناك، بـ (أن يكتب له أسماء كبار الأشراف في كوكبان، ثم من بعدهم في طبقاتهم، ثم لكل بما يليق به، وأعطاهم، ثم من بعدهم كذلك...) .
ومما لا شك فيه هو أن ما يكون من عادات وتقاليد لأي أمة، لا يمكن تجاهله أو إغفاله مطلقاً عند الحديث عن نوع الحياة الإجتماعية السائدة فيها، ذلك أنها جزء لا يتجزأ من مجمل النشاط الإجتماعي لأفرادها. والجرموزي وهو يسعى لتصوير الحياة الإجتماعية لمجتمعه في هذه الفترة من حكم المتوكل، وقد رصد -بين ما رصده من ممارسات وطقوس إجتماعية ودينية- لواحدة من أبرز الظواهر التي درج على ممارستها أفراد مجتمعه حتى كادت كل منطقة من اليمن لا تخلو من نوع من ممارسنها، وتلك هي ظاهرة الشعوذة والإعتقاد بالمشعوذين. وهي الظاهرة التي لا تزال قائمة إلى حد التاريخ.
أمَّا ما ذكره الجرموزي عند تناوله لهذه الظاهرة، فيمكننا أن نورد واحدة من الصور التي احتوتها مخطوطته، وهي الصورة التي نقلها لنا من يافع، حيث يذكر أن رجلاً كان بها يُدعى الحبيب بن سالم، وكان من أمره أن كان يدعى المعرفة بأعمال الغيب، فكان أن (أمه كثير من الناس للإستشفاء به...وكان يوهم الناس أنه يذهب إلى الصلاة في أوقاتها إلى مكة...) بينما جسده باقٍ في منزله!.
وهكذا تتواتر جهود الجرموزي وهو يرصد مجتمعه في كل حركته وسكناته في كبير أمورها وصغيرها، حيث نجده يصف في موضع آخر، عادة كانت تمارسها الناس، وهي الملبس والسلاح، حين يذكر لنا طريقة لبس السلطان صالح من بلاد يافع، ومعه سائر أفراد قبيلته، فيقول: (وإنما لباسهم...كسائر مشائخ المشرق، ميزر ولحفه...وسلاحه البندق كغيره ويبالغ في حليتها وحلية العدة وكذا كبار أصحابه غالب سلاحهم ذلك.. ولا يركبون الخيل هو ولا آباؤه، وإنما يسير مع أصحابه كأحدهم ويطولون الشعر ويسرحونه) .
ونراه في موضع ثالث يتتبع نشاط بعض من المذاهب الدينية، فهو مثلاً يذكر أن الإمام تصدى للطائفة الإسماعيلية -والتي كانت تشكل على امتداد تأريخ الأئمة مصدر قلق وإزعاج لها- مخافة اتساع محيط دائرتها في أوساط المجتمع خاصة، وقد بلغه أن في (همدان، صنعاء، وحراز، من أتُهِم ببقائه على باطنهم الخبيث، وأنهم ألحقوا القديم بالحديث...) .
وقد رصد مؤرخنا -في مخطوطته- إحدى رسائل الإمام الموجهة إلى دعاة الطائفة، يدحض فيها بالبيان والحجة ما تدعو إليه هذه الطائفة، ويذكر أن الإمام قد استمال بعض الدعاة، ممن كشفوا له النشاط السري لأفراد الطائفة مثل عبدالله بن سعيد، الذي (باين الدعاة وخالفهم ودلّ على عوراتهم...) .
وسنرى أنه ونتيجة لما كانت تسببه هذه الطائفة من إقلاق وإزعاج للسلطة، بأن الإمام قد حصر نشاطها، وهوما يتضح جلياً من خلال أوامره باستباحة دم ومال من ينخرط فيها . يضاف إلى ذلك ذكره -أي الجرموزي- لانتشار الجبرية، والإباحية في حضرموت.
ولعلنا نقول: إن الناحية الدينية قد برزت إلى السطح كجزء من الصراع السياسي في بعض المناطق، وهو الأمر الذي يذكره الجرموزي عند إشارته إلى أن قبائل يافع كانوا (يكرهون الزيدية خصوصاً...) ، الأمر الذي استغله رؤساء قبائل يافع في تأجيج قبائلهم وحثهم على محاربة قوات الإمام عقب سيطرة الإمام -كما أشرنا عند حديثنا عن الناحية السياسية- على هذه المناطق، وضمها تحت لواء الدولة اليمنية الموحدة.
وفضلاً عن ذلك كله تطرق الجرموزي إلى ظاهرة انتشار الأوبئة والأمراض التي كانت تصيب الأهالي. فهو يذكر مثلاً أنه في سنة (1063هـ/1652م) (انتشر الجذام وعظم في بلاد صعدة ونواحي قحطان ..) .
4- الأوضاع العلمية
شهد عصر الإمام المتوكل على الله إسماعيل نهضةً علميةً وفكريةً لا مثيل لها، كانت وليدة للإستقرار السياسي والإقتصادي، حيث (نبغ علماء وأدباء كبار في اليمن في حقبة تدنى فيها الفكر العربي الإسلامي...) .
ولنا أن نشير في هذا السياق إلى أنه لم يكن الإستقرار السياسي والإقتصادي هو العامل الأول والوحيد في إرساء القواعد الصلبة والثابتة لنمو نهضة علمية وفكرية بذلك المستوى الرفيع الذي ظهرت به أيام المتوكل، بل إن هنالك عوامل أخرى لا تقل أهمية عن هذا العامل -إن لم تكن أيضاً تتفاوت أهميتها نقصاً وزيادة لهذا الأخير - كانت قد لعبت دوراً فاعلاً في إرساء المناخات الصحية اللازمة- كما هو الحال في كل زمان ومكان -لبلوغ المجالات العلمية والفكرية مقاصدها وتحقيقها أعلى مراتب التفوق والإنجاز. ويمثل الفكر الزيدي واحداً من أهم تلك العوامل، كان لها الفضل الكبير في أن تكتسب النهضة العلمية والفكرية شأواً عالياً في مجمل الحياة العامة.
ويعود ذلك إلى أن هذا المذهب لم يكن كغيره من المذاهب حيث (تميز بالحرية الفكرية والحرص على ضرورة حض العلماء على الإجتهاد والبحث عن حلول لما يواجههم من المشكلات الشرعية والإجتماعية ورفض المقولة التي تذهب إلى أن باب الإجتهاد قد أوصد منذ زمن بعيد في نظر بقية علماء المسلمين ومقلديهم...) .
وليس بغريب أن تشهد الحركة العلمية ذلكم النمو والإزدهار، طالما ووجدت الدولة التي ترعى متطلبات نهوضها، والدولة في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل، كما يذكر لنا الجرموزي، قد جسدت هذه الرؤية خير تجسيد، فكانت النموذج الأول في ذلك، حيث أولت العلم والعلماء النصيب الأكبر من جل إهتماماتها المختلفة، وحفظت لهم مكانتهم العالية ومرجعية ذلك هو أن الإمام نفسه كان -وهو أكبر باعث لهذا الإهتمام- أحد علماء زمانه، وكان قد برع في علوم الدين، وتتلمذ على يديه العديد من طلبة العلم. ولم يكن الإمام صاحب قدر بسيط في علمه، بل إنه عَلَمٌ من أعلامه، وواحد من جهابذته، ذاع صيته عالياً في الداخل والخارج، حتى أن ذِكْرَهُ كما يقول الجرموزي (ملأ الرقاع والبقاع) .
ولقد قرّب العلماء منه وأجزل لهم العطاء، وكان إذا ما زار مدينة أو قرية اصطحب معه (أكابر العلماء وطلبة العلم يأخذون عنه ما يريدون، وهو يبذل ويفيض عليهم من بيوت الأموال ما يحتاجون إليه...) . وقد أثرى المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات في مجال الفقه والحديث والتي ما تزال مخطوطة .
ولعل هذا الإهتمام الذي أبداه الإمام المتوكل على الله إسماعيل بالعلماء قد كان له وقعه وأثره الفاعلان على رجال الدولة في العناية بطلاب العلم. وهذا ما رصده مؤرخنا في سيرته، فعلى سبيل المثال أشار إلى قيام محمد بن الحسن بإنشاء وإصلاح العديد من دور العلم في كل من ذمار وإب لتلقي (الدرس والتدريس) وكذا قيام أحمد بن الحسن في سنة (1072هـ/1661م) بإصلاح وترميم بعض المدارس في مدينة عدن .
وكانت المساجد هي مراكز تلقي العلم، حيث لم تكن توجد في تلك الفترة، أماكن بعينها عُدت لهذا الغرض -كالمدارس والجامعات، وغيرها من دور العلم الحديثة- فكانت المساجد بمثابة المدارس .
وإزاء تزايد أعداد طلاب العلم، وخصوصاً الوافدين إلى المراكز العلمية في المدن، اهتمت الدولة ببناء المنازل لغرض (إقامة الدَرَسْة) وهيأت لهم الظروف المعيشية فيها؛ ولأن صنعاء قد مثلت أيامها واحداً من أهم المراكز الإسلامية العلمية البارزة في ذلك الوقت، فقد أمّها عدد غير بسيط من العلماء العرب والمسلمين، أمثال الشيخ العلامة أحمد بن محمد الجوهري ، والشيخ العارف منصور بن يوسف بن منصور المصري الأزهري ، ويذكر مؤرخنا الجرموزي في مخطوطته، بأن هؤلاء العلماء قد تلقوا كل إهتمام ورعاية من قبل الإمام، حيث أمن لهم محل إقامتهم، وهيأ لهم سائر جوانب معيشتهم الأخرى. بل وأكثر من ذلك، حيث يشير إلى تلك الجلسات العلمية التي عقدها الإمام معهم، والتي تبودلت خلالها العديد من المناقشات والمناظرات الدينية القيمة، ولقد اتخذ بعض من هؤلاء العلماء من اليمن مقراً دائماً لإقامتهم، مثل الإمام المحّدث عبدالرحيم اللاهوري الهندي الذي (تعلق بجانب الإمام للحمة العلم) .
ولم يقتصر ذكر الجرموزي على إهتمامات الإمام بالجانب الديني وحسب، بل تعداه إلى جوانب أخرى كثيرة، شملت الأدب الذي كان -كما يقول مؤرخنا- محل اهتمام خاص لديه، الأمر الذي يفسر تصدر الشعر في العديد من المناسبات، والتي رصدها لنا الجرموزي في مخطوطته، وهي دليل على ازدهار الأدب، وبالذات الشعر حيث احتّل موقع الصدارة بين غيره من الأجناس الأدبية الأخرى.
ولابد من الإشارة إلى أن الإمام كان ممن يقرض الشعر، وقد أورد مؤرخنا بعضاً مما قال في إحدى قصائده عند بسط نفوذه على حضرموت، حيث قال:
يقول إمام الحق والله عونه .... على خاذل للحق رام التباسه
عزمنا على اسم الله ننصر دينه .... ونهدي إليه من أراد اقتباسه
وقد ضمن مؤرخنا بين دفتي مخطوطته ذكر العديد من العلماء الذين عاصروا الإمام المتوكل على الله إسماعيل، وكانت لهم بصماتهم على الحياة الفكرية، وأثروا المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات. نذكر منهم على سبيل المثال أحمد بن صالح بن محمد بن أبي الرجال (ت 1092هـ/1681م)، والحسين بن يحيى بن محمد السحولي (ت1073هـ/1662م)، وأحمد بن سعيد الهبل (ت1061هـ /1650م)، وعبد القادر المحيرسي (ت1077هـ/1666م)، وأحمد بن يحيى بن أحمد حابس الدواري (ت1061هـ/1650م).
5- الظواهر الطبيعية
لم يقتصر مؤرخنا الجرموزي في مخطوطته على التطرق للموضوعات السياسية والإقتصادية والإجتماعية منها، بل سعى إلى رصد الظواهر الطبيعية، كَسْير النجوم ومواسم الأمطار، وسقوط الشهب، ووقوع الصواعق، وهبوب العواصف، مماعاصر حدوثها أيام حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل.
فهو على سبيل المثال، قد رصد وقوع كارثة ألمت بذمار سنة (1056هـ/1646)، عندما هبت رياح شديدة -ما يسمى بالإعصار في وقتنا الحاضر- على المدينة وأدت إلى حدوث أضرار مادية جسيمة فيها. حيث نجده يذكر هذا الحدث بقوله: (وفي سنة ست وخمسين وألف وقع في محروس ذمار ريح زعزع لم نعهد مثلها، وأخربت بيوت مما ضعف عمارتها، وزلزلت البيوت الكبار) .
وفي موضع آخر نجده يصف وقوع صاعقة شديدة على مدينة صنعاء في سنة (1055هـ/1645م)، أدت -كما يقول- إلى سقوط الأجزاء العلوية من (المنارة الشرقية في الجامع الأعظم، وشقت الجدار الشرقي من الجامع وجمعت فراش شرقي الجامع بعضه على بعض) .
ونجده أيضاً يتتبع مواسم هطول الأمطار، حيث يسجل لنا ما أحدثته هذه الأمطار في آخر سنة (1072هـ/1661م) من خراب في مدينة صنعاء، نتيجة لهطولها المتواصل، فيقول: (وفي أواخر سنة اثنتين وسبعين وعشر من ثلاث وسبعين وألف حصل المطر، السانع في اليمن، غالب أوقات الليل والنهار وطال، فخرب من دور صنعاء نحواً من سبعين داراً، وقل ما بقى من بيوتها ومساجدها لم يتشقق) .
ويتطرق مؤرخنا كذلك إلى ذكر ظواهر كونية، فهو مثلاً يصف تساقط بعض النجوم سنة (1062هـ/1651م) حيث يقول: (وفي عام اثنتين وستين وألف، انتشرت النجوم وتساقطت في نحو ثلثي الليل حتى ظن من رآها أنها تقدم من السماء) .
وفي موضع آخر نراه يتتبع سير أحد النجوم، في سنة (1062هـ/1665م) فيقول: (وفيها أو بعدها بعام طلع نجم صغير له شعاع يقدمه ويعقبه شعاع حتى غلب ذلك الشعاع جرمه، فصار كأنما هو شعاع ابتداؤه من جهة الجنوب، ويسير جهة الشمال، ويمضي في كل ليلة نحو ثلاث منازل حتى قطع أفق السماء ما بين عدن والمشرق إلى جهة القبلة في نحو عشرة أيام) وهكذا يكون مؤرخنا قد استوفى في مخطوطته، ذكر وقائع الأحداث لما شاهده أو نُقل إليه من أخبارها خلال معاصرته لفترة حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل، الأمر الذي جعل من مخطوطته ودراستها وتحقيقها وإخراجها إلى حيز الوجود ضرورة تستوجبها الأهمية التي اكتسبتها هذه المخطوطة، إلى جانب الأهمية التي اكتسبتها الفترة الزمنية التي أرخت لها، والتي تعد واحدة من أهم الفترات الزمنية- كما أشرنا في بداية دراستنا- في التاريخ اليمني الحديث.
منهج النشر
إن الغرض من تحقيق أي مخطوط هو ضبط نصه، كما أراده صاحبه، فإن كان بخطه فهو الأصل، وإن كان للمحقق تصحيحات عليه فله أن يضعها في الحاشية.
أما إذا كان من نُسخٍ ليست أمهات-أصول- فله أن يأخذ من أقدمها وأفضلها الأصل وما عداها مساعداً، وفي هذه الحالة وعندما يوجد خطأ ما في الأصل وكان هنالك ثمة تصحيح في النسخ الأخرى فلا مانع من تثبيت الصحيح والإشارة إلى ما جاء في أصل النص في الحاشية، وإذا كان هناك خطأ إملائي كرره المؤلف أو الناسخ مراراً، ففي حالة كهذه يتم تصحيحه على ما هو دارج في كتب اللغة والأدب.
ولعلي أستطيع -على ضوء ما سبق- أن أقول إني قد إتبعت عند تحقيقي مخطوطة تحفة الأسماع والأبصار -موضوع الدراسة- أصول وقواعد المنهج العلمي المُتَّبعُ في تحقيق النص. واعتمدت عند تحقيق المخطوطة أربع نُسخ، اخترت أفضلها، لأسباب أوضحتها في معرض حديثي عن نسخ الكتاب.
وعند نقلي لخط الناسخ صادفتني بعض الصعوبات، تمثلت في صِغَرْ حجم كلمات المخطوطة، نتيجة التصوير على الميكروفيلم مما أدى بالضرورة إلى استخدامي لعدسة مكبرة بشكل مستمر- وهو ما عانيت منه الأمرين-. يضاف إلى ذلك وجود عدد كبير من الكلمات المهملة، قمت توخياً للدقة والأمانة بنقل هذه الكلمات عن طريق فك رموزها وتقريبها إلى معانيها الصحيحة بعد مقارنتها بالنسخ الأخرى؛ ذلك أن أي خطأ في تصويب المعنى سيؤدي بالنتيجة إلى تغيير لمعنى العبارة كاملاً، وأمَّا التي لم استطع التوصل إلى فك رموزها، فلم يكن أمامي من حل سوى تركها كما هي برسمها، مشيراً إلى ذلك في الهامش بعابرة (كذا في الأصل) أو بعبارة آخرة (لعلها كذا).
وقد عمد الناسخ عند نسيانه لكلمة ما أو لعبارة ماء أثناء نسخه وضع إشارة (7) أو (صح) تنبيهاً للقارئ لما أراد الناسخ أن يوصله إليه، وإزاء ذلك قمت متوخياً الدقة التي انتهجتها في نسخ المخطوطة، بوضع الكلمة في مكانها الصحيح مع الإشارة إلى ذلك في الهامش.
وقد كان من الضروري التنبيه إلى الأخطاء واللحن عند مؤرخنا كي لا يظن القارئ أن ما كتبه المؤلف صحيحاً، ومن ثم عملت على تصحيح ما هو مهم في الأصل، والإشارة إلى ذلك في الحواشي مثل: (..وهو حينئذٍ لم يكن قد كتب..) سنجد أن العبارة في الأصل: ( وهو حينئذ لم قد كتب...) وتمَّ -لهذا الغرض- إضافة كلمة أو حرف ووضعها بين حاصرتين معقوفتين من لدينا ليكتمل بذلك المعنى، وأشرت في الهامش: (وهو لحنٌ وقومته).
وصحِّحت الأخطاء الإملائية -بما يتوافق وأسس الكتابة المتداولة في عصرنا- كأن تكون التاء التي استخدمها الناسخ مفتوحة على أنها مربوطة، فأقوم بتعديلها إلى الصحيح مثل زكوات صلوات فصارت زكاة، صلاة.
أمَّا ما يخص الأخطاء النحوية واللغوية فلم أصحح منها إلا ما كان مُخِلاً بالمعنى، أو مثل تصحيحه ضرورة مُلِحة، فمثلاً: الهمزة: دأب الجرموزي على إهمالها أو عدم وضعها في مكانها الصحيح مثل: فقاها (فقأها)؛ وفي موضع آخر عمد مؤرخنا على تخفيف الهمزة، واضعاً عوضاً عنها ياءاً كأن يرسم وسائط بهذا الشكل (وسايط) أو الفائضة بال(فايضة)، وهو ما لم أذهب إلى تغييره، بل تركته كما في المتن، لكونها
-أي مثل هذا الرسم للكلمة- تعود إلى لغة العصر، مع الإشارة إلى ذلك مرة أو مرتين، وإيضاح أن ذلك لن يتكرر.
وأمَّا ما تم اضافته من النُّسخِ الأخرى إلى النسخة التي اعتمدت عليها- في نسخي للمخطوطة- من عناويين أو مواضع أو تواريخ فقد تم وضعها بين حاصرتين معقوفتين.
وبالنسبة لأسماء الأعلام والمواضع والمصطلحات عملت على تضمين رسالتي بتعريف لكل منها كما خرجت الآيات والآحاديث، تاركاً بعض الأماكن التي لم أعثر لها على تعريف المصادر، سواء كانت (معجم البلدان لياقوت الحموي) أو (معجم القبائل والبلدان للحجري) أو (اليمن الكبرى للويسي) وكذا (كتاب الإحصاء الصادر عن الجهاز المركزي للتخطيط). والظاهر أنها قد اندثرت أو أنها أماكن صغيرة أو غير مأهولة بالسكان حالياً، فكان أن أغفلتها هذه المراجع.
وما جاء في النص من الأعداد قد صاحبتها الأخطاء بشكل أو بآخر، فقمت بتصحيحها وأنوه هُنا إلى أنني اتبعت نمطاً واحداً في صياغة الأعداد، فمثلاً عمد الناسخ إلى كتابة العدد بهذا الشكل، أربع مائة، ومرة أخرى أربعمائة، فجعلت رسم العدد على النحو التالي: أربعمائة ونحوه، مكتفياً بالإشارة لمثل ذلك مرة أو مرتين في الهامش.
كما عمدت إلى وضع ما صادفني من إضافات كُتبت بغير خط الناسخ في الهوامش مع الإشارة إلى ذلك.
ومما لفت انتباهي أثناء عملية النسخ، وجود بياض في أكثر من موضع فعلى سبيل المثال، يسرد المؤلف أبياتاً من الشعر بمناسبة معينة، فإذا ما انتهى منها يورد هذه العبارة: (ومما قيل في هذه المناسبة) ولا يأتي بالقصيدة، إلا أن الناسخ كان يشير في بعض جوانب تلك الأوراق بعبارة (بياض في الأم) وهو ما أشرت إليه بوضع نقاط على السطور أثناء النسخ [....] لنذكر في الهامش أن الورقة بياض، مع الإشارة إلى مقدار ذلك البياض في ورقة المخطوط.
وقمت بوضع عناوين جانبية للمخطوطة والتي أوردها الناسخ على حواشي أوراق المخطوطة، وقد أشرت إلى ذلك في هوامش النص.
أمَّا بالنسبة للعناوين التي تدخلت في وضعها فقد أبرزتها ما بين معقوفتين، ونوهت إلى ذلك في هوامش النص بالعبارة التالية (ما بين المعقوفين عنوان أضفناه على طريقة النسخ).
وأمَّا بخصوص الآيات القرآنية التي جاءت أكثريتها ناقصة، فقد اكملتها في الحواشي، وفيما يتعلق بالأحاديث الشريفة فقد اقتصرت على الإشارة إلى أوثق المراجع وأكثرها أهمية، أورد ذكر هذه الأحاديث التي تضمنها النص، وكانت هذه المراجع التي أشرنا إليها في الهوامش متأخرة أو أقل أهمية من الكتب الستة.
ولقد أورد مؤرخنا الجرموزي في مخطوطته وقائع وأحداث رحلة الحبشة التي قام بها العلامة الحسن بن أحمد الحيمي -كما أشرنا سابقاً- ولم يقم مؤرخنا سوى بنقلها كما أوردها مؤلفها -الحيمي- إلى مخطوطته.
ونود الإشارة إلى أن الرحلة قد تم تحقيقها -قام بنشرها الباحث المصري مراد كامل- لذا اكتفيت بتثبيتها دون الدخول في تحقيقها توخياً للأمانة العلمية، والحفاظ على متن المخطوطة دون اسقاط أي حدثٍ منها.
وستغني هذه الرسالة المكتبة اليمنية بالعديد من أسماء القرى والمدن وأسماء الأعلام.
وما قمنا به من عمل متواضع، مثلته هذه الدراسة التي بين أيدينا، نأمل أن يكون سنداً للباحثين في التاريخ اليمني الحديث، كما ونرجو أن تكون علامة مضيئة يهتدي بها كل قارئ يهتم بمعرفة تاريخ هذا البلد العظيم بلدنا اليمن.
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين رب يسر وأعن. الحمد الله القيوم على خلقه بلا مراس، الموجود فلا حد لوجوده ولا قياس، الذي لا يدرك بالحواس، ولا تحيط به الأكوان ولا تحله الأنفاس، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له إلى الجنة والناس، الذي أنزل عليه الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، صلى الله عليه وعلى آله المطهرين من الأرجاس، وأشهد أن علي بن أبي طالب خليفته بالدليل الذي لا شك معه ولا إلباس، وأن الإمامة في ولده بالإجماع الذي عليه كافة الناس، وأنهم قرناء الكتاب والشهداء على الناس.
وبعد: فإنه حداني محبة العترة النبوية كما أمرني رب البرية، وجاءت به الآثار المصطفوية أن كتبت جملاً من وسيع سيرة مولانا وإمامنا ومجدد عصرنا، والمشبه بموسى الكليم فينا، بإهلاك الله سبحانه على يديه عدونا، ونفيه الذل عن أعناقنا، الإمام الأعظم، وحجة الله على أهل عصره من الأمم، المنصور بالله أمير المؤمنين القاسم بن محمد بن رسول الله -صلوات الله وسلامه على روحه الطاهرة في الدنيا والآخرة- ولما كان بركته فينا وخليفته علينا بالحجج الباهرة والأدلة الظاهرة ولده الإمام الكامل، والخليفة العادل، المؤيد بالله أمير المؤمنين محمد بن أمير المؤمنين-صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين-. فألفت لذلك كذلك جملاً من سيرته، وزبداً من فوائد دعوته، ونبذاً من غرائب ما أعطاه الله من بعض الوصف لصفته. فلما قبضه الله إليه واختار له ما لديه مقبولاً عمله، مشكوراً سعيه، محموداً فعله، بعد أن أظهر حجته وأعلى كلمته، ونشر دعوته، فأظلمت على أهل الإسلام معالمهم فماجوا ، وتعتع أهل الأمان فهاجوا ، وأشفقوا من الخلاف المفرق وطاشوا وعاجوا، وكان مولانا السيد الأفضل، والعلم العلامة الأطول، ربي حجر الخلافة النبوية، ورضيع أخلاف الدوحة العلوية، صفي الدين أحمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله رب العالمين -أطال الله بقاه- في مقام أخيه الإمام، وشقيقه الهمام، فرع العيون إليه، ولمقامه رضى أن يكون وإن خالف الأقلون حفظاً للموجود وصيانة للحدود، وإن الحال[1/ب] المعهود فبايعوه وشايعوه عقب الزوال من يوم الخميس في سابع وعشرين رجب الأصب سنة أربع وخمسين وألف[6ديسمبر
1644م] بمنزل الإمام -عليه السلام- الشرقي من داره الطاهرة من سعدان ومحروس شهارة -عمرها الله بالتقوى-، ولم يعرف حينئذٍ وفاة الإمام إلا الخواص وهم: مولانا السيد العلامة شرف الدين الحسين بن أمير المؤمنين المؤيد بالله، ومولانا العلامة الفاضل صارم الدين إبراهيم بن أحمد بن عامر بن علي ، والسيد العلامة الطاهر التقي عبدالله بن أحمد بن إبراهيم القاسمي الشرفي ، والسيد العلامة حسام الدين ناصر بن محمد بن يحيى المعروف بصبح القاسمي الغرباني ، والسيد الزاهد العلامة محمد بن شرف الدين الحمزي الكحلاني ، والسيد الكبير الأعلم شرف الدين الحسن بن محمد بن علي بن صلاح القاسمي الشرفي ، والسيد الحبر العلامة شرف الدين الحسن بن علي بن صلاح القاسمي العبالي ، والسيد العلامة المتقن ضياء الدين عز الدين بن دريب بن مطهر السليماني التهامي والسيد العالم الكبير الحسين بن محمد بن علي الحسني الحوثي وغيرهم.
ومن الفقهاء سيدنا القاضي العلامة في كل فن، ولسان أهل الحق في قطر اليمن، شمس الدين وقميطر علوم آل طه، أحمد بن سعدالدين بن الحسين بن محمد المسوري -أطال الله بقاه- والقاضي العلامة الفاضل جمال الدين علي بن سعيد الهبل الخولاني ، والقاضي العالم الأكمل، والمعول عليه في ما أشكل، صلاح بن نهشل الذنوبي الحجي ، والقاضي العالم المجاهد شرف الدين الحسن بن علي بن صالح الأكوع ، والفقيه العالم الفاضل عماد الدين أبو المساكين يحيى بن محمد بن حسن حنش أمين مال المسلمين، وولده العلامة شرف الدين الحسين بن يحيى وغيرهم من الفضلاء. ثم انتقلوا إلى الإيوان الكبير المنصوري الغربي وقد ظهر للناس وفاته-صلوات الله عليه- فهم يموجون حيرة ويصيحون حسرة، كما يقول السامع إن القيامة قد قامت، ولقد رأيت كثيراً يسعون لغير مقصد، وأخبرني غير واحد أنهم رأوا مثل ذلك واتصل سماع الأصوات بجبال الأهنوم فاجتمع عيون الأهنوم من السادة والفقهاء والمشائخ وغيرهم إلى شهارة قبل الطفل آخر ذلك النهار والبيعة مستمرة يقتدي الآخر بالأول، وكانت لبلاد شهارة والظواهر والمغرب إلى بلاد صعدة وجهات المشرق نحو الشهر.
نعم! ولما فرغ مولانا أحمد من صلاة المغرب وقد قام لجهاز الإمام -عليه السلام- من قام من الفضلاء، كسيدنا الفقيه[2/أ] العالم عزالدين محمد بن ناصر الغشمي وغيره من الخواص، فبعث مولانا أحمد -أطال الله بقاه- كتبه مضمونها الإعلام بوفاة الإمام -عليه السلام-، وما توجه عليه من القيام ووجه بها الرسل في الليل، وكان أولها إلى مولانا أمير المؤمنين-صلوات الله عليه- وإلى مولانا محمد بن الحسن-أيده الله- ثم إلى سادتنا إلى صنعاء، ثم إلى صعدة ثم إلى كل جهة، وترى الطرق كلها سعاة، وسبحان مقلب القلوب، فإني أقسم بالله صريح قسم، لا صريح خط يُعلم، ما رأيت كبيراً ولا صغيراً، ولا عالماً ولا متعلماً يقطع على تمامها أو يعتقد التزامها، أو لم يشرط عند طلبها ما لم يلزمه من أحكامها، إما ديني أودنيوي، وإنما يقول كل واحد إنما رأيناه عسى ينتظم بها أمور الناس، وتقربها الأمور على معهود الأساس، إلا أربعة من العيون المذكورين أظنهم والله أعلم قطعوا على التمام وإنها نفع للإسلام والله اعلم.
ومن عجيب ما رأيت بعض بعد صلاة المغرب وقد ملت إلى جنب جدار الإيوان، فقعد إلى جانبي أحد العلماء المذكورين، فقلت له: يا سيدي قد ورد أن بعض أهل الكتاب الأول قال: (ما كنتم يا معشر العرب إذا هلك أمير تأمرتم بآخر ما زلتم بخير) رواه العامر بن مسلم، فقال لي: وا عجباً لك ترى هذا الأمر يتم؟ فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: لا يأتي جواب بتمام من جميع البلاد أو ما ترى الحاضرين ومقالهم فكيف بمن غاب! ولكن والتفت إليه مولانا أحمد، وقال: الله يعينه الله يلاطفه فقد وقع في ورطة! أو كما قال. ثم قال أيضاً: إذا جعل له لقباً، فليقل المُفوّض إلى الله! وهو حينئذ (لم يكن قد كتب) اسمه في قليل أو كثير، فكان كما قال: من خرج من شهارة ما عاد إليها!.
[دعوة المتوكل على الله إسماعيل]
ثم وصل الخبر بدعوة مولانا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وخليفة الصادق الأمين، المتوكل على الله العزيز الرحيم، إسماعيل بن أمير المؤمنين-أيده الله تعالى- آمين.
فازداد ذلك وتقّوى الخلاف كذلك، وظهر من الجمهور ما أضمروه وكثر، حتى لم يبق في شهارة المحروسة بالله تعالى إلاَّ من لم يجد سبيلاً إلى الخروج إما رهبة أو حياءً من اسم الهرب.
وصار من في شهارة المحروسة بالله إلى اجابة مولانا-أيده الله تعالى- متفقين الكلمة، وإنما اختلفوا في كيفية المخرج، وكان كل واحد يستدعي صديقه أو أصدقاؤه ولا هم لهم إلا الخلاص، ثم استوحش منهم مولانا أحمد فازدادوا نفوراً، وامتنع الأكثرون من نائله إما استقلالاً وإما شكاً، وقد صار معظم عسكره في صنعاء المحرسة بالله. وقد مد من أجابه بالمال، وأما الرجال فلم يقف أحد على رأيه[2/ب] وكان ما سيأتي إن شاء الله تعالى، والدخول في هذه البيعة والخروج منها لم أر أحداً رجع فيهما إلى الشرع أو إلى فتوى عالم، وإنما الناس يدخلون كما تقدم ويخرجون كذلك.
نعم! فقد حصل من سياق هذه المقدمة صفة بيعة مولانا صفي الدين -أطال الله بقاه- ودعوة مولانا أمير المؤمنين -أطال الله بقاه-، وكان مولانا -عليه السلام- في حصن ضوران المحروس بالله، بعد أن طلع من تعز العدنية وجهاتها ومولانا عز الإسلام محمد بن الحسن-أطال الله بقاه- في محروس مدينة إب فأما الإمام -عليه السلام- فإنه لما وصله الخبر بوفاة الإمام [المؤيد] -عليه السلام- عقب الزوال من يوم الأحد سلخ رجب الأصب، أو غرة شعبان عام أربع وخمسين وألف[1644م] عظم عليه الخطب، وحل لديه الكرب، فدخل منزله وخلى بنفسه، وطفق ينظر في أمره وقد رأى أن دعوة صنوه الصفي غير راجعة إلى شروط الإمامة المعتبرة، وإنما مركزها النظر في الحادثة، وعظم عليه الشقاق والوفاق وأن الإمامة من أصول الدين واستمرار التكليف بها إلى يوم الدين، ولا عذر عن التزامها لجميع المكلفين. فقام لذلك وقعد، وأتْهم وأنجد، وحلّ وعقد، وقد اجتمع إليه العيون من العلماء الفضلاء، فيهم سيدنا القاضي العلامة الحَبْر الفهامة وحسنة الدهر صارم الدين إبراهيم بن حسن العيزري الأهنومي ، والقاضي العالم المحقق عزالدين محمد بن صلاح السلامي ، والقاضي العلامة صلاح الدين بن علي الوشاح الحاكم الآنسي ، وغيرهم، فنصوا عليه، ووجهوا أمر الخلاقة إليه، وسيأتي إن شاء الله تعالى الدليل على استحقاقه المقام بما هو كالضياء من الظلام، والله المُوفق والمُسَدّدُ.
[دعوة محمد بن الحسن]
وأمَّا مولاي العزي محمد بن الحسن -حفظه الله تعالى- فإنه لما بلغه وفاة الإمام -عليه السلام-، ودعوة عمه الصفي كما تقدم اجتمع إليه عيون من السادة والفقهاء، وعولوا عليه في القيام فأجابهم وأنشأ دعوة مشروطة، لعلها في يوم الاثنين شهر شعبان، إن لم تتقدمه [دعوة] أولى ونأتي بها إن شاء الله عند ذكر تعارض الدعوات.
وأمَّا صعدة المحروسة بالله تعالى وجهاتها فإن السيد العلامة صارم الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عزالدين المؤيدي لما بلغه وفاة الإمام -عليه السلام- أنشأ دعوته في العُشّة من أعمال الحقل وحضرها جماعة من الفضلاء، ونأتي بها إن شاء الله كما تقدم.
فحصل من هذا أن الدعاة أربعة في قطر واحد، ومذهب واحد، وبصحة إمامة مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وخليفة كتاب رب العالمين، ورسوله الأمين المتوكل[3/أ] على الله العزيز الرحيم، يعرف الحق ويظهر الصدق:
وكيف يصح في الأذهان شيء .... إذا احتاج النهار إلى دليل
فصل: والدليل على إمامة مولانا أمير المؤمنين-صلوات الله عليه- استكمال شروطها بالإتفاق من أهل عصره، وممن تقدمه وتأخر عنه من الدعاة، فإن من تقدمه مولانا أحمد ومولانا إبراهيم فعذرهما عدم عِلمهما بدعوته الجامعة وإمامته النافعة، وللحادثة وتباعد المسافة، ومعنى إجماعهما على إمامته أنهما لم ينفياها لنقص فيه، وإنما حجة كل واحد منهما التقدم عليه، وتنقطع حجتهم بما سيأتي إن شاء الله تعالى، فحصل الإجماع فيه منهما والخلاف فيهما منه ومن غيره والله أعلم.
والمتأخر عنه مولانا عزالدين محمد -أطال الله بقاه- فإن دعوته مشروطة كما تقدم، فلما نظر وأجال الفكر، وقدّم وأخّر عرف الحق الأبلج، ولم يجد عند الله سبحانه وتعالى عن المبايعة المخرج، وهذا هو الذي صرح به أهل المذهب بلا عوج، إن للناظر نظرة في اجابة الإمام ولو طال لتبين له المنهج. كما روي عن أمير المؤمنين زيد بن علي -صلوات الله عليه- أنه قال: (البصيرة البصيرة ثم الجهاد)، فلما لزمته الحجة واستبانت المحجة قام وشمر وأوى ونفر، وشن الغارات بالفجاج الأكبر، وكان ما سيأتي إن شاء الله تعالى، فحينئذٍ قام الإجماع بدليلها وكفى به هادياً، وعلى صحتها منادياً.
وأمَّا ما سيأتي من أيام خدار وثلا وما يتعلق بهما من ذي الأذى فإن ذلك لم يكن لتناهب وتغالب وإنما ساقها حكمة إلهية، وآية سماوية، يعلم ذلك من شهدها أو صدَّق شاهدها، رحمة من الله لعباده- ونعمة منه على بلاده، وسنرى في سياقها آية ذلك إعلاناً، وليس الخبر كالعيان ، فصح بهذه الجملة ما قلناه من الإجماع بدليلها على إمامته -عليه السلام- التي يمكن التدليل عليها من الكتاب والسنة والإجماع، بما يستدل على إمامة أمير المؤمنين زيد بن علي-صلوات الله عليه- ومن بعده الأئمة كما هو مذكور في مواضعه من كتب أئمتنا -عليهم السلام-وشيعتهم-رضي الله عنهم- ونورد إلى ذلك ترجيحات، ولما تقدم مؤكدات، وهي ما يُحتج بها على السيد صارم الدين كما سنرى إن شاء الله تعالى في الرد عليه وهي كثيرة، ونذكر منها ما أمكن إن شاء الله تعالى.
[علمه وفطنته]
الأولى: ما زاده الله من سعة العلم، ولا سيما الفقه الذي المدار عليه والمرجوع إليه، فإن كل فقيه من أهل العصر قطع فيه تحقيقه وكفى دليلاً على صدقهم ما يراه المتأمل والسائل، إن الجواب في مذهبه وحكاية غيره كأنما هو في راحة يده اليمين، أو في طبق من صين وقد صرح بذلك الإمام الهادي -صلوات الله عليه- وغيره أنه من المرجحات.
الثانية: جودة الفهم والذكاء والفطنة، فلم أر أجلى الأمور المشاهدة مثله، وكذا سمعت كثيرين يذكرون ذلك، أمَّا في العلم وما يتعلق به فظاهر، وأما في فصل الخصومات[3/ب]، أو المواعظ النافعات، أو الكلام الذي يتعلق بالبيان والتعليمات، فكأنه لا يعرف شيئاً منه قبل الكلام فيه، فإذا التفت إلى باب منه فكأنما أطل على حقيقته وشاهد كُنّه دخيلته وكأنما يغرف ذلك من بحر، ولا يتكرر شيء من درر كلامه كما يجري لكثير من غيره، ولقد عرفته قبل الدخول في الإمامة، وهو لا يعرف كثيراً من أحوال الناس لما كان عليه من الخلو بالعلم، والشغف به، وكان لا يخالط غير أهله، ولا يأنس إلى سواه في نهاره وليله.
ولما حضرت معه بعض المجالس في يوم المظالم في الشهر الثالث والرابع من دعوته فكأنما شاهدت غير من عرفت، وأُقسم بالله إني تأملته فإذا هو خلاف ما عهدته من جميع أحواله، وأنه فصل خمس خصومات في خمسة مقايل في كل مقيل دعوى وبينة لقوم آخرين مع غير ذلك مما عرض في ذلك المجلس من وافد وسايل ومسلِّم وهذه الزيادة هي أعظم ترجيح، وقد ذكرها علمائنا، حتى قال بعضهم لم يشترط السلف مع الورع غيرها.
الثالثة: الرفق بالرعية والتواضع لضعفاء الأمة المحمدية، والتحنّن عليهم، وإيثارهم غالباً على كثير من أغراضه وأغراض خاصته ما شاهد الحال يغني عن السؤال، والوصف يقبح بالمحسوس بالبصر.
ورابعها: وهو ما سيأتي في الحجَّة على ترجيح إمامته على السيد إبراهيم وهي وجود الناصر، فإنه لم يحصل لأحدٍ من الأئمة -عليهم السلام- ما حصل له-عليه السلام- مع هذا الإختلاف من إقبال القلوب إليه من كل قريب وبعيد، مع أن غالب الأئمة -عليهم السلام- إذا قام الإمام كثر عليه الإختلاف وقل الائتلاف، لغنى أهل الدنيا عنه بما في أيديهم، ولتفرَّغ كثير ممن يدعي العلم للتعليل بالقوادح عليهم كما ترى في كثير من أحوال الماضين، وهي كثيرة وهو - عليه السلام- لم يلق أحد دعوته بغير القبول، وتكاثرت نذوره فكانت أكثر من نذور أبيه وأخيه مع كثرتها- سلام الله عليهم أجمعين- وفي كل عام بل شهر بل يوم زيادة والحمدلله رب العالمين.
ويكفي دليلاً لهذه الجملة أنه دعا ولم يكن عنده إلا دون المائة الرجل فتفرقوا رسْلاً.
وأمَّا رتبة الحصن المحروس بالله، فإنهم اشتغلوا به كما سيأتي إن شاء الله تعالى، مما أخبرني من شهد ذلك أنه كان يسود خطوط الدعوة على ضرب من الاختصار، وكان كل من حضر مجلسه يسود لنفسه ويأتي إلى الإمام فيعلّم عليها فما كان ثاني شهر أو ثالثه إلاَّ وقد جمع الله تعالى له اليمن من مكة إلى عدن، وقد صارت عساكره وخيله لا تكاد تنحصر، فهل المراد بكلام أهل المذهب لم يتقدمه مجاب عبارة (الأزهار) أو انهض منه[4/أ] كعبارة (الأثمار) أو أكمل كعبارة (الفتح الغفار) غير هذا مع غير ذلك من الترجيحات، مما أقصر الفهم عن إدراكه وكَلّ الوهم لضعف التصرف في جوامع ملاكه، وأعلم أن الله سبحانه وتعالى ألقى في قلوب المسلمين لمولانا أمير المؤمنين الميل الشديد والحب الأكيد، والأمل الصالح، والفضل الراجح، غير أنهم ربما يرون في أيام دعوته الميمونة أنه -عليه السلام- لا يقوى على هذا التكليف العظيم، والفرض والواجب العميم، لما عليه الناس من الاختلاف، وذلك أنه -عليه السلام- في أيام أخيه مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله لا يعرف أحوال الناس لانشغاله في الطلب والإكباب عليه سمراً وسحراً، وآصائلاً وبكراً، فلما صار الأمر إليه، ودارت حوائج الإسلام عليه زاده الله في هذا الشأن، ما ظهر لأهل الإيمان وفاق به الأقران، وإن الله سبحانه وتعالى ألقى عليه الهيبة والجلالة، والقدرة في كل حالة على القيام بهذا الفرض العظيم والتكليف الجسيم، بما لا يقال له فيه قرين، ولا ما يقرب منه في أمر الدنيا والدين، فإنه -عليه السلام- يلي أكثر الأعمال بنفسه الشريفة، ويباشرها بيده
الكريمة حتى في نفقات الوافدين من الأمراء والسلاطين، والفقراء والمساكين، على ضرب من التفضيل. مما أخبرني الثقة ممن شهد ذلك أنه -عليه السلام- ظن في مخازن بيت المال تقصيراً فقصد المَخْزَن وأمر بالصرف في الناس حتى أتى على آخرهم، ومن ذلك أن أغلب خزاين بيت المال وصرفها بيده وأن ما يوجه اسماً لمُعيَّن إلى خازن مُعيّن، ولم يكن في يديه غير ما أعطاه -عليه السلام- وعيَّنه.
ومما سمعت من حي القاضي الخبير في القضاء، الألمعي في الاستنباط والإمضاء، عبدالهادي بن أحمد الثلائي المعروف الحسوسة-رحمه الله-، وقد سمع من بعض الأصحاب الخوض في التفضيل كما يحصل في المجالس من القال والقيل، إن قال: اعلموا يا أصحاب أن الأمور إلى الله سبحانه، والخيرة بيده، فلا يستعظم الكبير، ولا يُستحقر الحقير، فإن الأمر لله العلي الكبير، أو لا ترون أن الإمام الشهيد أحمد بن الحسين -عليه السلام- اتفق أهل زمانه أنه أكثرهم علماً، وأرجحهم حلماً، غير أن في سيرته ما يخالف الصواب، فهو لأجله غير فاضل [ولما علم الله سبحانه منه خلاف ما قالوا نشر فضله في الآفاق] ومع ذلك يزداد إلى يوم التلاق حتى أنهم الآن لا يلحقون به أحداً ممن سبقه من الأئمة -عليهم السلام- ولا ممن لحقه، وكذا حي الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى -عليه السلام-، اتفق أهل زمانه على فضله وأنه السابق في محامده ونبله، غير أنه قاصر في فقهه، وإن كان عربياً مفسراً ومحدثاً، ونحو ذلك فنشر الله فقهه في الأرض، ورجع إليه أهل عصره ومن بعدهم[4/ب]في السنة والفرض، أو كما قال -رحمه الله-. وهذا الآتي من ذاك، فإن
علماء عصر مولانا -عليه السلام-شهدوا له بكل فضيلة، وأنه المعصوم من كل رذيلة، إلا النهوض في العزيمة في المضاء والزجر، فأظهر الله سبحانه وتعالى ما أغمضوه ، ونشر في الآفاق ما أنكروه، حتى فتح الله تعالى عليه الأرض ذات الطول والعرض، بما لم ينله أحد من الأئمة -عليهم السلام- فكم مخافة به أمنت، وكم مفازة خالية سُكنت، وكم ضُلامة به رجعت، وكم شريعة به رُفِعت، وكم بدع به قُطعت، والحمدلله على ما أعطى، والشكر والمنّ على ما أولى، وذات يده وهو في كلها واضح الجبين، قليل على الصبر عليه القرين، ومن ذلك قيامه -عليه السلام- في عصابة يسيرة وقد حشدت عليه العساكر من صنعاء وشهارة وغيرهما، وأيضاً مع تفرق أصحابه وقلتهم فخرج من الحصن المحروس في أنفار للقاء تلك العساكر المتكاثرة، وغير ذلك مما يشهد له بالثبات.
[نسب الإمام المتوكل على الله إسماعيل]
فصل: في ذكر نسبه الشريف، ومولده، ونشأته، وحليته، وخصايصه، وعلمه، وشجاعته، وورعه، وسجاياه، وصبره، ونفقته على الأمة، ودعوته، وكرامته، ونبذ من رسائله في الإرشاد والدعا إلى الرشاد، التي أشار الله سبحانه إليها وحث عليها بقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } ويسير مما امتدحه أهل الإجادة من العلماء والشعراء وعيون من عاصره من العلماء، ومن ولي منهم القضاء وتعداد عُمّاله -عليه السلام- من العلماء الكملاء وعيون الكبراء.
أمَّا نسبه الشريف فهو أظهر من الشمس وضحاها والقمر إذا تلاها، ونذكره تبركاً لا إظهاراً، ونرقمه لنبدأن إخباراً! فهو أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين، المتوكل على الله العزيز الرحيم: إسماعيل بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن الرشيد بن أحمد بن الأمير الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن الإمام يوسف الأصغر الملقب بالأشل بن الإمام الداعي يوسف الأكبر بن الإمام يحيى المنصور بالله بن الإمام أحمد بن الناصر لدين الله بن الإمام يحيى الهادي إلى الحق بن الحسين الحافظ بن الإمام القاسم ترجمان الدين نجم آل الرسول إبراهيم الغمر طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم المشبه برسول الله بن الإمام الحسن الرضى المثنى بن الإمام الحسن السبط أمير المؤمنين بن علي أمير المؤمنين وسيد الوصيين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأمه -عليها السلام- الشريفة الفاضلة الطاهرة، أم المساكين تقية، بنت شمس الدين بن الحسن الجحافي من أشراف حبور، وذرية الإمام القاسم بن علي العياني -عليه السلام-.
[مولده]
وامَّا مولده الشريف فإنه ولد في منتصف شعبان من عام تسع عشرة وألف في محروس شهارة -حرسها الله بالتقوى-.
وروي أن والده الإمام -عليه السلام- لما وصلته البشرى بمولده الشريف سُر كثيراً، وتناول المصحف الشريف وفتحه متبركاً به وليسأل الله سبحانه التوفيق إلى اسمه، فكان أول ما فتحه من المصحف الكريم[5/أ] قول الله عز وجل {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} فسماه بذلك واستبشر به كثيراً، ثم ولد بعده شقيقه الفاضل إسحاق بن أمير المؤمنين -عادت بركاتهما-، وهو المقبور في صرح مشهد أبيه، مات صغيراً وله من العمر[...] ، وكان الإمام -عليه السلام- كثيراً ما يحمله [في صغره يعني مولانا -عليه السلام- ولقد رأيت حي والده-صلوات الله عليه- يأمر بحمله] بين يديه وهو يجهز السرايا والبعوث مع غيره من أبنائه، غير أنه كان أخصهم وأصغرهم سناً، فكان يضعه في حجره إذا دعا مع إرساله السرايا والغارات ويأمرهم بالتأمين على دعائه، ولذلك تراه يحفظ كثيراً من أفعال والده -عليه السلام- وأقواله وهو في تلك السن، وإنما ذلك لفرط ذكائه.
[نشأته]
وأمَّا نشاته الطاهرة، فإنه معروف بالطهارة ومخايل الفضل عليه ظاهرة.
مما أخبرني به -صلوات الله عليه- أنه كان مع والده -عليهما السلام- طعاماً فوجد في المرق عظماً (من بقرٍ فيه) شبه المغرفة فشرب بها مرقاً كما يفعله الصبيان وهو في ما دون أربع سنين فانتهره الإمام -عليه السلام- وأخذ العظم ورمى به كراهة للتشبه بأهله.
قال -عليه السلام-: فبكيت، وقلت: فلم أما فلان، وذكر بعضهم وقد رأيته يشرب كذلك؟ قال: ففعل الإمام -عليه السلام- بمن ذكرته ما منعه من ذلك فأنا إلى الآن والحمد لله والله ما أعلم أني أهويت بها إلى فمي أو كما قال.
[أوصاف الإمام المتوكل على الله]
وأمَّا حليته -عليه السلام- فإنه معتدل القامة، أسمر اللون، مقرون الحاجب، عظيم اللحية، أشعر الذراعين، مسيح البطن، قوي الحركة، كثير التبسم، رفيق بالأصحاب، رحيم بالضعفاء، حسن الخلق والسمت، إذا قعد في العلماء كان لسانهم الناطقة، وكلمتهم المارقة، داخل في أهل الدنيا لمعرفته لأحوالهم، خارج عنهم وعنها لاعتزالها ولاعتزالهم:
تجاوز حد المدح حتى كأنه .... بأحسن ما يثنى عليه يُعاب
وأمَّا خصائصه فكأنه في جميع أحواله وأوقاته كالعبد الذليل بين يدي مالكه الجليل، عليه السكينة والوقار، لا يفتر لسانه عن ذكر الله، حتى إنه إذا تحدث مع خاص أو عام يحرك شفتيه بعد ذلك بذكر الله سبحانه، وغير ذلك مما يطول تعداده، ويعسر ايراده، ومن ذلك ما جعله الله سبحانه عليه من الوقار والمهابة، ويجري في مقامه الكريم اللَّغط والخصام والضنك والزحام، مع أجناس العوام لما هو عليه من الغي في الكلام، فقد يتكلم بعضهم بما يظهر منه الخطأ في الكلام، في حق الله جل وعلى[5/ب] وحق الإمام، فيتأذى من ذلك من بحضرته من العلماء الأعلام، وربما يظهر منهم الاستنكار، وقد يضحك بعضهم لذلك وهو -عليه السلام- على أتم صفة الوقار، وأعلى منزلة في النظر والاستبصار، وتعداد ذلك يطول، ولا يقدر الحاكي لجلاله وشريف خلاله غاية المقول.
[علمه]
وأمَّا علمه -عليه السلام- فالمشهور من غير نزاع، وأن ذكره ملأ الرقاع والبقاع، فصار كما قال بعض أصحاب والده -عليه السلام- وقد ذكر علم أخيه مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله -عليه السلام-:
وعن علمه فاسأل إذا كنت جاهلاً .... تنبئك عنه كتبه والرسائل
[مؤلفات الإمام المتوكل على الله إسماعيل]
ومن مصنفاته النافعة ما ظهر واشتهر، منها ما قاله القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال -أسعده الله- فاكتفينا بما ذكره -أيده الله تعالى- فقال: منها (العقيدة الصحيحة في علم الاعتقاد من غرر الكتب كل ما تضمنه مقتبس من كتاب الله تعالى ونحا ذلك النحو ليكون الخلاف بين المنازع له وبين ربه، فإنه ما حكى منه عقيدة في الغالب إلا بلفظ الذكر الحكيم، وشرحها بشرح مفيد من أعجب الكتب، وابتكر فيه أدلة في بعض المواضع مما ألهمه الله قاطعة للخصم، قرأت عليه مراراً في مواقف حافلة يحضرها الخصوم، ويتكلمون بما عرض وشرحها جماعة، منهم الفقيه الفاضل صالح بن داود الآنسي وبعض أهل الاحساء، وبعض المصريين، وهو الشيخ حجازي، وبعض قضاة الفقهاء الشفعوية ، واشتهرت في الأقطار في أسرع وقت.
ومن مصنفاته (المسايل المرتضاة إلى جميع القضاة) فيه ما يعتمدونه في الأحكام، وفيها آداب أيضاً لهم.
وله حاشية لم تكمل على منهاج الإمام المهدي -عليه السلام- في علم الأصول، وله من الرسائل ما يضيق بذكره الكاغد مع أنه في غاية الإتقان، من ذلك رسائله في الطلاق الثلاث متكررة مكرسة نقل فيها من وافق أهل البيت من فقهاء المذاهب الأربعة، وأبسطها الموجهة إلى القاضي عبدالقادر المحيرسي ، ومنها رسالة في المحايرة مبسوطة، ورسالة في ابطال الدور، ورسالة في الخلع إذا كان العوض من الغير، ورسائل على كلمات من الحديث، وقواعد معرفة في أصول الفقه، ورسائل مبسوطة فيما يؤخذ من الجبايات، وفي إهدار ما وقع من أيام البغاة مكرسة أيضاً.
[شجاعته]
وأمَّا شجاعته شهد بها جماعة من مخالطيه، وأخبرني أيضاً من سمعها من حي الحاج المجاهد سيف الإسلام أحمد بن عواض الأسدي[6/أ]-رحمه الله- وقد حج معه في اثنين وأربعين[وألف] فعرفها لمرجيها في السفر الميمون كغارته الهائلة إلى المشرق لاستدراك ولد أخيه مولانا الصفي-أيده الله- فإنه اقتحم مخاوف ومواضع لم يتصل بها من أهله غيره، مع قلة عسكره وذات يده . وهو في كلها واضح الجبين، قليل على الصبر عليه القرين.
ومن ذلك قيامه -عليه السلام- في عصابة يسيرة وقد حشدت عليه العساكر من صنعاء وشهارة وغيرهما، وأيضاً مع تفرق أصحابه وقلتهم؛ فخرج من الحصن المحروس في أنفار للقاء تلك العساكر المتكاثرة، وغير ذلك مما يشهد له بالثبات.
[ورعه]
وأمَّا ورعه الشحيح ، وتقشفه الصريح فمما لا يفتقر إلى بيان، ولا يختلف فيه اثنان، فإنه مشهور بترك كثير من المباحات والمعتادات بقدرةٍ يوجبها المقدور، وعزيمة لا يتعلق بها غبار الأماني والغرور، وأبوابها غفيرة وأعدادها كثيرٍ.
قال القاضي المذكور ما لفظه: ومن عجائب عزماته ما أخبر به عن نفسه الكريمة، قال: لما أشتد الأمر بيننا وبين الصنو أحمد أيام الدعوة وتوجهت جماهير العساكر إلى صنعاء ثم إلى خدار ونحوه، تأملت فقوي عزمي على أن أترك خليفة في الحصن المبارك، وأترك العساكر المتصادمة كما هي، وأتوجه من طريق الحيْمه ونحوها حتى لا يشعر الصنو أحمد إلا وأنا في جبال الأهنوم ويكون العراك هناك، فإني أعلم أن قلوبهم عندي فخرجت بما أحتاجه إلى ساحات ضوران فاتفقت بالسيد الجليل هاشم بن حازم ، ولم يكن دخل في السفينة فتريثت عنده حتى صلح أمره وبايع ثم تجدد من الأنظار ما هو أرجح، أو كما قال القاضي المذكور [أيده الله] : ومن ورعه -عليه السلام- أني كنت عنده في شناضبة من أعمال جهران فأخذ الجند في الرمي بالبنادق وشاركهم -عليه السلام-، فأعطاه بعض الجند بندقاً من أحسن البنادق، فمنع أن يرمي بها فسألته، فقال: هذه البندق أرسلها القاضي الحسن بن علي الأكوع وأظن بعضها من آداب وبعضها من زكاة.
ومن ذلك أن السيد الحسن بن المنتصر الهادوي عامله على بلاد الحرجة أشترى له جارية بستين قرشاً منها خمسون دفعها من نذر قبضه للإمام، وعشرة اقترضها من الزكاة، فلما وصلت إلى الإمام -عليه السلام- ودخلت إلى بيته، أخبره بذلك فعتب الإمام كثيراً، وقال لي: هذا السيد ما أحسن في تصرفه، ولقد والله تحرجت عن النظر إليها، فهل عندك مصرف للزكاة؟ قلت: نعم. فقال: أطلبه الآن يخرجها من بيتي، فطلبت بعض الفقهاء، فخرجت إلى بيت الفقيه المذكور ووهب له من ثمنها خمسون[6/ب] قرشاً من النذر كما ذكرنا، وسيظهر كثير من ذلك في أثناء السيرة والله الهادي.
[تدبيره]
وأمَّا تدبيره النافع فلا أعظم وأجلى المعلومات المشاهدة من الإعتراض عليه من ذوي الحنكة والتدبير في تدبيره ولا جرى للمعترض لسان في تهجين أموره مع كثرة من يريد ذلك، وهذه النبذة كافية والله أعلم.
وأمَّا سخاؤه فأظهر من الملوان ، ومما لا يختلف فيه إنس ولا جان، ومن عرف سير الأئمة -عليهم السلام- وجده سابقاً لكثير منهم -صلوات الله عليهم- فما أحقه بما قيل في جده أمير المؤمنين -عليه السلام-:
أمواله للسائلين غنيمة .... وله بأخذهم لها استغنام
وبما قيل في مثله من الأئمة -صلوات الله عليهم-:
سألت عنه فقالوا ليس سلمه .... إلا بأمرين مشهورين فأعترف
سخاء كف وإن لم يبق باقية .... وبذل روح ولو أدى إلى التلف
وقد ذكر طرفاً مما يدل على ما رواه من ذلك أن صاحب البصرة حصل بينه وبين ابن أخ له يسمى فتحي باشا من ملوك العجم اختلاف فوصل إلى الإمام -عليه السلام- في عام إحدى وستين أو اثنتين وستين [وألف] [1650م] ويريد العود إلى ديار الروم لمنازعة أخيه فأعطاه -عليه السلام- مالا يضبطه الواصفون بعدد، من ذلك أن حي السيد العلامة محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين-رحمه الله- أرسل من المخاء إلى الإمام -عليه السلام- بنفايس من جميع الأجناس التي لا يقدر الحاكي تقديرها ولا قيمتها، فأرسلها الإمام -عليه السلام- نحو (ألفها وخواتمها) إلى الباشا في ساعة واحدة، فقال حي السيد -رحمه الله-: إنا جمعناها في كذا سنين، وخرجت لهذا في وقت واحد.
وقال القاضي المذكور -أيده الله-: ومن عجيب ما رأيت من عطاياه أنه وفد إليه الشريف عمار بن الشريف بركات الحسين المكي فأعطاه ما يشق ذكره في هذا المقام فأخبرني من لفظه -حفظه الله- أن فيها ثلاثين خلعة لا يعرف لها اسم إلا أنَّها من تحف الملوك، وأعطاه نقداً ثلاثة ألف قرش، ومن الخيل عدد كبير من جملتها حصان من مراكيبه -عليه السلام-.
[كرمه]
ومن كرمه ما أخبرني سيدي إبراهيم بن محمد المؤيدي بصنعاء، قال: وصلت إليه، وقلت له: قد وفد معي من الضعفاء والأشراف من رأيت، وأنا أستحي من إتعابكم في السؤال لهم مع عزمي لا أذكر شيئاً مما يحصل، فقال له الإمام -حفظه الله-: يا صنو إبراهيم هذا مال ليس لي ولا لك إنما هو للمسلمين، فإذا عرفت إستحقاق أحد فيدك مثل يدي قد فوضتك، قال: فأعطيته الرقاع فكان جملة ما علم فيه ثمانية آلاف حرف. انتهى.
وأمَّا الوفود من جميع الجهات عموماً وملوك المشرق خصوصاً فما لا يحيط به الوصف، ولا يتمكن جامعه من الرصف [7/أ] أخبرني الوالد السيد الحسين-أسعده الله- أنه سمع من السلطان بدر بن عبدالله صاحب حضرموت الآتي ذكره وقد حدث بعض الفتن أنه حسب ما صار إليه في ليلة العيد من الإمام -عليه السلام-[من له] ولمن يتعلق به فكانت قيمته كخراج حضرموت في عام واحد، ومن ذلك أنه قل ما يعود بشيء من ثيابه في كل يوم وإنما يهبها إما ابتداءً، وإمَّا لذوي السؤال الملح والوجه الكلح وإني سألته عن صحة صلاة من يفعل ذلك فإنه ربما يأخذ كسوته من لا يعتاد لبس مثلها ولا حالة له. وقلت: إنما ذلك من شدة الحياء وما أخذ بمثله فذلك المحرم، فقال: مقسماً بالله لا يجد في نفسه من ذلك شيئاً أو كما قال. وكم عسى أن أذكر مما شاهده العيان من الإنس والجان ولكن أزيد على ذلك اليسير أمرين:
أحدهما: تحمله من المشاق وإخراجه من الأموال مما لا يحصى ولا يقال له جامع فيطاق،[منها] ما أخرجه من الأموال والخيل والجمال، وما يلحق بذلك مما لا يحصيه إلا الله ذو الجلال في فتح حضرموت وما والاها، وإنه لما ملكها بعد ذلك وهبها للسلطان بدر بن عمر الذي لجأ إليه. وكان من أسباب ما كان وقع عليه مما هو مذكور كما سيأتي إن شاء الله تعالى فإنما مثل هذه الواقعة إلا ما يروى عن يوسف الصديق-صلوات الله عليه- في إرجاع ملك مصر لملكها بعد حين، ورده على أهلها أثمان ما أكلوه في السبع السنين.
الثاني: ما صار الناس فيه من السِّعة بعد أن كانوا بخلاف فإن دعايم الإسلام انتصبت بالأمر من عيال أولاد المنصور -عليه السلام- وما ذلك إلا لسعة خاطره الكريم، لتوفير ما في أيديهم بعدم المشاحة فكانوا ملوكاً للإسلام يتمكنون من الإحسان والإنعام، ولإعداد ما يجب إعداده لحوادث الأيام، ومن ذلك ما يراه -عليه السلام- من ظهور السعة والتصرفات الواسعة على كثير من عماله وخواصه، وخصوصاً أولاده من الكفايات وما يظهر معهم من الآلات والعمارات والضياع والمستغلات، كما ذكر نحو ذلك السيد الإمام حجة الإسلام الهادي بن إبراهيم المعروف بابن الوزير-رضوان الله عليه- في كتابه المسمى (كاشفة الغمة) واصفاً لسخاء الإمام الناصر لدين الله صلاح الدين -عليه السلام- بقوله: فكم من دور من فضله عمرت، وضياع مُلكت، ومضايق توسعت، أو كمال قال: وما ذلك إلا لكرم طبعه وسعة صدره، وإن الحد المذموم، والغل المشؤم، وسوء الظن الذي لا يغل معه الصديق لا يعرض له وكأنه محفوظ عنه يحفظه الله سبحانه وتعالى، وهذا إنَّ جعلناها من السخاء فأخلق بها من مثله، وإن جعلناها من الصبر وحسن التدبير وتحمل الأمر العظيم كما ذكرناه في صاحب حضرموت فأحق أن تلصق[7/ب] بشريف خلاله وزكي أحواله.
[صبره وشفقته]
وأمَّا صبره على تحمل الأعباء، والكدح الشديد لما يبلغ من الأنباء، ويحفظ عليه من المعالم الدينية والدنيوية شرقاً وغرباً وبعداً وقرباً، فمما لا يمكن حصره، ولا يدرك قعره، لا سيما مع الشدائد التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى وانثيال أهل الحاجات إليه مع طمعهم في نايله الذي لا يحد ولا يحصى له عد. فمما يمكن أن يدعي له المدعي عدم المشاركة من آبائه -عليهم السلام- والله أعلم.
وأمَّا شفقته على الأمة عموماً وعلى الضعفاء خصوصاً فيشهد بذلك ما تراه في أثناء سيرته النافعة من جمل ذلك.
وأمَّا الإحاطة بها فما أبعدها لا سيما على مثل جامع هذه التوقيعات من ذلك غالب أوقات طعامه لا تكون إلا ومعه مسكين أو ملهوف يأكل معه ويختص به، وإني قلت له مرة وهو في محروس الحصين -عمّره الله- وقد رأيت رجلاً ترك الإمام -عليه السلام- إلى أن سلم من صلاة الجمعة فترامى إلى أمامه داخل المحراب، وحال بين الإمام والانصباب على الدعاء المعهود، فرده برفق حتى أعاده إلى موضعه الأول، فقلت له -عليه السلام- في غير ذلك المقام: لو تركت الخدم يمنعونه كما منعوا غيره، فقال: مقسماً بالله إني قد قضيت حاجته في سواد هذه الليلة، وذلك إني سمعته يتظلم وقد مضى من الليل شطر وقد رقد كل واحد فيما أعلم وقلت لنفسي: بقي لي من القدرة ما أنظر في قضاء حاجة هذا الملهوف، ولا وجدت من يستدعيه فقمت وفتحت له الباب وأسرجت له الشمعة، وأوصلته مرقدي مكان خاصاً والله قسماً ما قد دعوتك إليه يعنيني! قال: ثم غسلت له يده وطلبت له الطعام وسألته حاجته، وقضيت ما إليَّ منها، وأحلت بينه وبين خصامه إلى الشرع الشريف أعزه الله، والمناظرة عند القاضي فعاودني بما رأيت وكذا غيره مما لا أحيط به.
[دعوة الإمام المتوكل على الله]
وأمَّا دعوته فقد تقدم أنه لما بلغه وفاة الإمام المؤيد -عليه السلام- وعوّل عليه من عول بالقيام فبشر بدعوة جامعة، وحجة قاطعة، صفتها: إنه كان يوافق كل طائفة من المسلمين على وجوب الإمام بالجملة، ثم استحقاقها ووجه لزومه بالقيام لها، ثم يعظ ويذكر ما لم يسمع بمثله من غيره، حتى أنهم يتفرقون على تحقيق ذكر ما سمعوه، ويخبر كل واحد في بلده وما أروع أسماعهم، ثم يذكر فضايل الله عز وجل على ضرب من التفصيل بعد أن يقدم على ذلك حمداً لله الذي لا إله إلا هو بجماع المحامد كلها، ثم يصلي ويسلم على نبيه صلى الله عليه وسلم كذلك، ثم يبايعهم كما بويع عليه الأئمة[8/أ] -عليه وعليهم السلام-........... .
[كرامات الإمام المتوكل على الله]
[8/ب] وأمَّا كراماته -عليه السلام- فلنذكر منها يسيراً، من ذلك أنه دعا وليس عنده مال ولا رجال فاستنزل بالله سبحانه معارضيه في أقل من شهر كما هو في السيرة، ومن ذلك البركة في الأموال فإنه -عليه السلام- وضع على الرعية كثيراً من المعاون المعتادة التي كان يستعين بها والده وأخوه-صلوات الله عليهما- وكثر الله في الرزق والخيرات وتمت البركات، ومن عرف الحال سابقاً وعرفه لاحقاً عرف أن ذلك من خوارق العادات وأن النفقات في وقته -عليه السلام- تضاعفت فكان من ترضيه الخمسة الحروف والعشرة يطلب في أيامه الخمسين الحرف والمائة ويحصل له.
ومنها ما أخبرني به ثقات أصحابه -عليهم السلام- وسمعت منه -عليه السلام- شيئاً من ذلك أن النفقات على جميع أصناف المرتزقة تقل وتعدم، فإذا شغلته حاجاتهم جاءه أضعاف ذلك المحتاج إليه، من حيث لا يحتسب، ولو نذكر الحكاية في تفصيل ذلك لطال.
ومن ذلك عمارة البلاد ومساجدها ومناهلها تضاعفت في أيامه مع الشدائد المذكورة في السيرة، ولا نرى منه -عليه السلام- ولا من ولاته[إلا] كل الإلتفات إلى ذلك، وإنما ذلك بركة، واقتدى به وبأفعاله المخالفون في المذهب.
ومن ذلك ما رواه القاضي العلامة المكين الحسن بن أحمد الحيمي في خبر مسيره إلى ملك الحبشة.
ومن الكرامات الخارقة منها عظم هيبة أصحابه -عليهم السلام- وكانوا نحو ثلاثين نفراً، وكانوا يمرون على العظماء من الكفار ومن في جوارهم من المسلمين ولهم الهيبة في أرض لا لملك الحبشة عليهم سلطان، وكذلك في قرار مملكته ومحل سلطانه، كان هؤلاء النفر لهم حامية وعليهم الهيبة والجلالة، والعادة الجارية أن ملك الحبشة تغفل عن رسل ملوك الإسلام من الروم والهند وغيرهم، وربما لا يجدون السبيل إلا العودة كما جاؤا.
وأمَّا رسله -عليه السلام- فعظموهم التعظيم الذي لا وراه وإن بعض النساء في ذلك المحل من مكان السلطان أسلمت ولاذت بأصحاب القاضي خوفاً من أن يردوها إلى النصرانية، وقد سمع صاحب القاضي كثرة الكلام فخرج والسيف مغمد في يده فهرب الذين أرادوا إرجاع المرأة فرقاً وخوفاً.
قال القاضي -أيده الله-: ولا يقال بأن ذلك خوف من ملكهم فهو نصراني، ولا يرضى الإسلام لنفسه كيف لغيره، وأيضاً فإنهم فرقوا من السيف لما رأوه فلو كان خوفهم من السلطان لمنعهم ذلك من إرادة الهجوم على مكان المسلمين. انتهى.
ومن مثل ذلك كثير مما حكاه القاضي شرف الدين -أيده الله- كما في سيرته، من أعظمها أن القاضي -أيده الله- ومن معه من المسلمين لم يقطعوا بين بلاد المسلمين التي فيها الأتراك وبين بلاد المشركين التي يليها صاحب الحبشة فاجتمع عليهم قوم أعتام حرباً للمسلمين والمشركين فكادوا يأخذونهم وحاصروهم في هضبة من غير ماء، فأمدهم الله تعالى بغارة من المسلمين لم يكن لهم علم بقربهم منهم، وإنه خلف أولئك القوم غدرة الكفار خصوم لهم[أي الكفار] نهبوا أهاليهم وأموالهم باعوهم في بلاد المسلمين وهم ينظرون.
ومن ذلك تحكم أهل الحرمين الشريفين لأوامره والإعتزاء إليه وقبول قوله من غير شوكة تنالهم، ولا كفاية من المال تصلهم، فإنما أرزاقهم من مصر والشام والعراق وغيرهم كما ذلك معلوم.
ومن ذلك الكرامة العظمى وهي قضية السلطان جعفر بن عبدالله بن عمر الكثيري ، فإنه وصل إلى الإمام -عليه السلام- وبايعه وأحسن إليه وأعطاه ما لا يقدر قدره، وذهب إلى حضرموت، ثم غدر بعمه السلطان بدر بن عمر وهو والٍ للإمام -عليه السلام- على ظفار وما والاها من البلاد المنسوبة إلى حضرموت كما سيأتي، وقتل ولده وأخذ ظفار، ونجا عمه إلى الإمام -عليه السلام- من طريق البحر الأحمر وبلاد المهرب فكان معه تلك المخارج التي لم يسبق إلى مثلها في أرض اليمن، والأهوال التي لحقت المسلمين في الزمن، وعاد جند الإمام من حضرموت -وهو أي جعفر المذكور- في ظفار على عتوه وغفلة، وعادت تلك المحاط المنصورة التي يقال أولها في تريم وأقاصي حضرموت، وآخرها في حصن ضوران من غير أن يقضوا حاجة من الظفر بالمذكور، واستقروا في صنعاء المحروسة بالله من محرم إلى شهر شعبان من العام المذكور آنفاً، ولم يشعر الإمام -عليه السلام- ثم وصل إلى الإمام -عليه السلام- ولم يكن بينه وبينه إلا مسافة الطريق.
وأخبرني بعض الخواص مكاتبة أن الإمام -عليه السلام- قال: وقد شكى عليه مولانا الصفي أحمد بن الحسين -أيده الله- عظم ما لقى من التعب في هذا المخرج وأنه لم يحصل له المقصود من الظفر بجعفر هذا المذكور، فقال الإمام -عليه السلام- وقد وقع في نفسه الرقة لمولانا أحمد للمسلمين: وأنا أطلبه من الله سبحانه وتعالى، وأساله أن يُمكن منه بحوله وقوته، وأخذ في الدعاء على ذلك فكان ما ذكرناه من وصوله بغير شعوره.
[قضية الفضلي وغدره]
ومن ذلك قضية الفضلي أنه غدر ونكث وأثار الفتنة التي[9/أ] خرج لأجلها مولانا الصفي-أيده الله تعالى- في شعبان سنة إحدى وسبعين [وألف] وأنه طلب الأمان من مولانا أحمد وضمانة بعض سلاطين المشرق، وفعلوا له ذلك مرة أو مرتين ثم نكث وأخذ في الهرب إلى مغاور وبلاد لا تليها دولة حق ولا غيرها، فتجرد لطلبه ولدا مولانا الصفي أحمد بن الحسن -أيدهما الله- فيمن خف فأدركوه في بعضها من غير عهد ولا عقد، ووصلا به إلى والدهما أحمد بن الحسن -حفظه الله- وقد تجرد من ألفافه وثيابه ليخفي حاله فأمكن الله منه، ووصل إلى الإمام -عليه السلام- كما وجدوه على حالته عارياً منفرداً.
قال القاضي أحمد بن صالح -أيده الله-: وفي أثناء هذه الغزوة كرامة عظيمة.
قال مولانا صفي الإسلام -حفظه الله-: توجهنا إلى محل قريب من جبل أهل فضل، وكان هنالك في المخيم الذي أردنا فيه الإقامة بقرب الجبل بيران فيهما ما لايعرف قدره،، فكنا تقدمنا متوكلين على الله، ومستندين إلى ما بلغنا أنهما بيران، فلما وصلنا وضربت الخيم ولم أكن [قد] استقريت في محلي، وإذا قائل يقول: فرغ الماء ولم يبق شيء، قال: فأخذني ما قدم وما حدث، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وتفكرت كيف يكون العمل إن عدنا إلى المخيم فهو بعيد، وما عندنا من الماء ما يبلغنا إليه، وإن تقدمنا فالأمر عظيم لذلك رجعت إلى الله تعالى، فلم يكن إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى انصبت السماء بما فيها، وأقام الجند هنالك على خير مقام وهذه مشهورة متواترة.
قال المولى: سبحانه وتعالى هو مولانا نعم المولى ونعم النصير. انتهى.
[قدوم قوم الدعاجنة]
ومن ذلك أنه وصل إلى الإمام -عليه السلام- قوم يسمون الدعاجنة من بلاد بني حزام، وأهل طريق مراحل الحجاز يشكون من شيخ لهم يسمى: مرعي بن بشار، من البلاد التي لا يقدر عليها في العادة ملك الحجاز، ولا ملوك اليمن وإنه غزاهم واستعان عليهم ببعض قبائل الحجاز، وقتل منهم نحواً من أربعين رجلاً، واستاق من أموالهم خمسمائة من الإبل ومثلها أو أكثر من البقر، وعشرة آلاف من الغنم، فبعث معهم الإمام -عليه السلام- الشيخ الرئيس الكامل عامر بن صلاح الصائدي ، وهذا الشيخ من أهل الصبر على إصلاح مثل هذا الداء، فسار من محروس الدامغ أكثر من عشرين يوماً وعالجهم حتى أرجعوا ما كانوا أخذوه ووصل بهم إلى أبي عريش وحكموا للشريعة، وأرجعوا لكل واحد من المذكورين حقه من دم ومال، واستخلص منهم فوق ألفي حرف مصري[10/أ] كعقوبة ولم يكونوا قبلها متحكمين لأحد ولا يطمع في إيواء من وصلهم إلى بلادهم منهم، فضلاً أن ينقاد للشريعة المطهرة أعزها الله تعالى ونحو ذلك كثير.
ومن ذلك ما رواه الشيخ سعيد بن علي القحطني وغيره ممن حضر حصار العسكر من أصحاب الإمام -عليه السلام- في أحور بعد الغدر، الذي كان من آل ذيب وآل كازم أن العسكر المذكورين انحصروا في بعض بيوت أحور ولم يجدوا من البارود والرصاص شيئاً إلا ما في عددهم، وقد تكاثرت عليهم جموع القبائل فكانوا كاليائسين من أنفسهم، فإذا بهم وجدوا في البيت الذي هم فيه جراباً مملوءاً باروداً ورصاصاً، والرصاص مصبوب كأنه لكل بندق بقدرها كأنها صبت عليها ولم يكن لأهل أحور علاج في البنادق فهذا من الكرامات الخارقة وسيأتي إن شاء الله.
ومن ذلك حصول الجراد مع قدوم عسكر الإمام -عليه السلام- لحرب صاحب حضرموت وجموعه المذكورين في السيرة، فإنه ظهر الجراد إلى وجوه أهل حضرموت أمام العسكر الإمامي فانهزموا ولم يكن الجراد يظهر قبل تلك الساعة ولا رأوها بعدها.
ققال بعض العسكر وكان الجراد كله أبيض على لون واحد.
ومن ذلك ما أخبرني به كثيرون من خاصته من أهل شهارة، إنه لما رجع -عليه السلام- من السُودة إلى شهارة لافتقاد أعمالهم وتقرير أحوال أهلها، وكان الماء إذ ذاك منقطعاً وإنما كان يأتي به الشقاة من خارج شهارة، وإنه دخل بيته الشريف الذي بالقرب من مشهد الإمام ذي الشرفين -عليه السلام- وأخبره أهل البيت المذكور أنهم لا يقدرون على تحصيل الماء مع ما عرف من أحوال غيرهم من البيوت، فأغلق على نفسه في حجرة من أعلى داره مفتوحة إلى السماء وأخذ في الدعاء إلى الله والتضرع باكياً، فأرسل الله سبحانه وتعالى مطراً غزيراً فكان عليه من أوله إلى آخره، وقد سأله أهله أن يُكنن معهم فما عاد إلا وقد إلتفت عليه ثيابه، والماء يسيل من لحيته الطاهرة، وكانت آية باهرة، فارتوى الناس ودخل برك المساجد ما كفى والحمد لله رب العالمين.
وقال القاضي المذكور -أيده الله-: ولم يعزم الإمام إلى شهارة إلاَّ بعد أن بلغ إلى أهلها من الشدة فعزم إليها قاطعاً من الله بحل العقدة.
ومن ذلك ما كان في شهر رمضان في ليلة العيد[10/ب] فإنه كان في ليلة العيد قد أهّب -عليه السلام- أشياء كثيرة لجمع الناس في السمرة كما جرت العادة، وأتم كل واحد افطاره عند العتمة، ولم يكن ثَمّ مطر، فلم يشعر الناس إلا بمطر، فقال بعض القائلين: أظن والله اعلم أن الإمام سأل الله أن يمد بهذا المطر ليكون عذراً عن السمر إلى الناس يقبل على الطاعة، فلما أصبح العيد حكى الإمام -حفظه الله- ذلك عن نفسه، وإنه قال: لما أتممت الإفطار دار في خلدي أن هذه ليلة متاجرة لله وأورد الصلاة، فأنا أسال الله أن يمن بمطر يكون عذراً، فما كان إلا هنيئة وقد جاد[ت] السحاب بما فيها.
ومن ذلك ما تيقنته من جماعة حضروا عنده بوادي الفروات من أعمال سنحان وسمعته منه -عليه السلام- أيضاً اتفق خبرهم أنه -عليه السلام- بات في دار عمرو وعند طلوعه صنعاء، وكان منفرداً عن الأجناد طلباً للرفق بالرعية، وفرقهم في جهات تقوم بهم، فلما بعد هوني من الليل خرج إلى الصحراء ومعه أربعة أنفار من خدمه الثقات، منهم الحاج محمد الجرباني وغيره، وكان معهم شمعة، فقال الإمام -عليه السلام-: أطفؤها لئلا يكون عَلماً في الصحراء فأطفأؤها، وبعد في المذهب حتى قضى ما أراد، ورجع إلى جماعته، وقال: ليت لنا ماءً نستنجي به. قالوا: نحن لا نعرف هذه الجهة، فبينما هم كذلك إذ أقبل رجل بماء، قضى من ذلك ما أراد من الإستنجاء، ثم عادوا فلما أخذوا في الطريق آتين أنارت الشمعة، وعادت كما كانت مضيئة والحمد لله رب العالمين.
ومن كراماته -عليه السلام- بإجابة الدعوة، ما أخبرني به الوالد الحسين -أسعده الله- أن رجلاً كان يتردد في الباب الشرقي الإمامي في معمور الحصن يسمى علي الجوفي أكثر على الإمام -عليه السلام- قرع باب المسجد الصغير الذي تعود الإمام الصلاة فيه، وراتب القرآن بمعمور الحصين وهو ما أسسه مولانا الحسن-رحمه الله- فكان من الجوفي المذكور الأذية للإمام بالأصوات والبذاء، فقال الإمام -عليه السلام- ادفعوا عنا هذا الله يصيبه ويشغله كما شغلنا، فلما سار خُطاً يسيرة ووجد أهل البارود يحملونه يريدون أن يرموا بالطلاعات لبعض الأسباب، فأراد هذا أن يحمل شيئاً على المعهود من جفنه فعلقت النار بالذي عليهم من غير فعل فاعل، فحرق المذكور دون غيره وبقي يتقلب في جراحاته حتى هلك بعد ثلاث أو أربع [أيام] .
ومن ذلك قضية (عبد) الجمَّال وكان يلي جِمال مولانا -عليه السلام- وذلك أن الإمام -عليه السلام- رأها غير موافقة[11/أ]، وكان قد طلب شيئاً منها لبعض الغزاة إلى جهات المشرق، فعتب على الجمَّال المذكور، فقال الجمَّال للإمام -عليه السلام- في محضر الناس: إنك لا تستر مني ولا من الجمال، وضعف أمره -عليه السلام- وتأفف بخدمته، فقال الإمام -عليه السلام- احبسوه أصابه الله تعالى، فما وصل الحبس إلا ومات في تلك الليلة أو التي بعدها.
ومن ذلك أن بعض النساء لبعض أهل خدمته أدعت عليه نقصاً في معتادها، وكلمته بالتعدي في القول، وهو إذ ذاك في قصر صنعاء بعد صلاة الفجر مشغول بأوراده ، فقال لبعض أهل بيته: شغلتنا هذه شغلها الله بنفسها، فاصرفوها عني أو كما قال، فما أمست تلك الليلة وقد خرجت عليها عقرب لسعها في مواضع من بدنها وهي تصيح (أنا جار الله وجار الإمام)، وتقول استحلوا لي منه فشفيت بعد ثلاثين يوماً أو نحوها.
ومن ذلك ما اشتهر في أيام الجراد المذكورة في هذا المختصر، إنه كان من نذر من الزراع على الإمام -عليه السلام- دفع الله تعالى عنه الضراء أو بعضها وكثرت لذلك النذور، وأن رجلاً من عتمة يسمى صالح بن عمر بن عامر من بلاد الثلاثاء نذر على الإمام -عليه السلام- بزبدي من الطعام فأخذت الجراد الزرع الذي تحت ماله والذي فوقه وحفظ الله زرعه، وصار علماً بين ذلك وغير ذلك مما يطول.
ومن ذلك أن رجلاً آخر من أهل المغرب الصغير يسمى يوسف بن محمد الربيعي لما رأى الجراد وصلت نذر على الإمام بشيء من ثمرته وعاد إلى بيته ومنع أن يحمي زرعه، فأخذ الجراد ما فوقه وتحته وبقى ماله سالماً دون غيره.
[كتابه في التحذير من المعاملة في الربا]
وأمَّا رسائله ومكاتباته -عليه السلام- فمنها هذا الكتاب في التحذير من المعاملة في الربا.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، كتابنا هذا إلى من بلغه من المسلمين كثرهم الله وأعزهم، وعلى من بلغه أن يُبلَّغه إلى من لم يبلغه إن شاء الله. سلام الله عليكم وإنا نحمد الله إليكم ونصلي ونسلم على محمد وعلى آل محمد، وإني آمركم بتقوى الله في جميع أمركم، وفي سركم وعلانيتكم، فاتقوا الله وأطيعون {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} وأُرغبكم فيما رغب الله من طاعته التي ثوابها الجنة ونعيمها، وأحذركم ما حذر الله من معصيته التي جزاؤها النار وجحيمها، ثم اعلموا أن من أعظم ما أوعد الله عليه النار، وأوجب على من لم ينته عنه غضب الجبار، الربا الذي حرمه الله[11/ب] وشدَّد في تحريمه أعظم تشديد، وأنزل في التخويف منه أعظم الوعيد والتهديد، فقال عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ الله الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} فصور الله عز وجل في
هذه الآية الكريمة عاقبة آكل الربا عند قيامه إلى الحشر بأقبح الصور التي لا يرضاها أحد لنفسه، وهي صورة الذي يتخبطه الشيطان من المس، ونقم على أهله مساواتهم بين البيع وبين الربا، فأخبر الله عز وجل أنه تبارك وتعالى أحل البيع وحرم الربا، وليس ما حرم الله تعالى وأوعد عليه النار كما أحله ووعد فيه البركة، ثم أخبر عز وجل أن من جاءه موعظة من ربه فانتهى عن الربا غفر له ما كان سبق منه مع وعيده بأن مرده وأمره إليه، وأن من عاد من أهل النار خالداً فيها مخلداً، ثم شنع عز وجل الربا بأن الله يمحقه وما محقه الله فأي خير فيه وأي بركة عنده، ثم سمى صاحب الربا الذي لا ينتهي عنه بأقبح الأسماء ووصفه بأشأم الصفات بقوله{وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } ثم قال عز وجل بعد هذه الآيات: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .
فأخبر أن الذين يؤتيهم الأجر، ويؤمنهم من الخوف والحزن هم من اتصف بصفات المؤمنين الذين حرموا ما حرَّم الله من الربا، وأحلّوا ما أحل الله من البيع، وعملوا الصالحات التي أمر الله بعملها وصلّوا وزكوا، كما قال عز وجل فيهم في آية أخرى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} ، لا للذين أحلَّو ما حرَّم الله وارتكبوا الربا وقد وعظهم الله تعالى، ثم أكد تحريم الربا بقوله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فأعاد تبارك وتعالى ذكر الأمر بترك الربا، وآذن من لم يفعل بما هو أعظم الأمور وأشدها، وما لا تقوم له الجبال الرواسخ والشم الشوامخ، ولا السماوات ولا الأرض من حرب الله[12/أ] ورسوله. فيقال لصاحب الربا: خذ أهبتك وسلاحك للحرب، فأي قوة له على ذلك، وأي تهديد أعظم من ذلك، وأي أمرٍ أفجع وأفظع على العبد الضعيف من محاربة الله ورسوله، وكيف لا ينتهي عما نهاه الله عنه وهو يعلم ضعفه وعجزه، وقدرة الله عز وجل عليه، ويغتر بشيء حقير يناله من الدنيا الفانية يستبدل به هذا
الوعيد الشديد، وعداوة الله القوي المبيد، فاتقوا الله عباد الله، وإياكم والدخول في شيء من شُبه الربا، فإن الربا شِعبٌ كثيرة كلها مهلكة مردية موبقة مشقية، ومن ذلك ما نعيذكم بالله منه مما اتخذه بعض المرابين والظلمة من عباده طريقاً إلى الربا، من أعطى الحبَّ للمحتاجين وقت الحاجة على صورة القياضة والبيع والتأجيل توصلاً إلى أن يقبضوا منهم عند الرخص أضعافه التي قال الله عز وجل فيها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ، وَأَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
ومن ذلك بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل التأجيل من بُرّ وغيره، وأعظم من ذلك من يبيع بدين قد أغلاه، ثم ينقد لمن اشتراه منه دون ما باعه منه ويشتريه منه، وهو من مسألة العينة التي عظم النهي عنها ووقع كثير من الناس فيها.
ومن ذلك صرف نحو القروش بالبقش مصريها وعدديها، وصرف المصري أيضاً بالعددي لتفاوت وزنها وعدم تيقَّن المساواة فيها، وقد شرط نبيكم صلى الله عليه وآله في حلها التساوي فقال: ((الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد)) فحرم صلى الله عليه وآله البيع والشراء فيها إلاَّ أن تكون متساوية وحاضرة، وقال في آخر الخبر: ((فمن زاد أو ازداد فقد أربى)).
وأمثال ذلك كثيرة ما يسببه جهل المبايعين، وعدم تفققهم في الدين، وقد ورد في الأثر الصحيح عن سيد الوصيين علي بن أبي طالب-كرم الله وجهه- أنه قال: (الفقه ثم الفقه ثم التجارة، إنه من باع أو اشترى ولم يسأل عن حرام ولا حلال ارتطم في الربا، ثم ارتطم فاسألوا عن ذلك وعن أمور دينكم) كما قال الله عز وجل{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون َ} ولا تفعلوا بفتوى من يتبع بكم الرخص وزلات العلماء، فإن ذلك يهلك نفسه ويهلككم، ولكن اسألوا من ظهرت عليه التقوى، وعرف تجنب الهوى، ودلكم على ما فيه اجتناب الشبهة، والورع عن مواضع الريبة، واتعظوا بما ختم الله به آيات النهي عن الربا من قوله عز وجل:{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ[12/ب] مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} اللهم هذه معذرة إليك، وبلاغ إلى عبادك فمن أطاع واتقى نسائلك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد، وتبارك له في نفسه وماله وولده وتجارته، ومن لم يقبل الموعظة وأعرض عنها، فلا تبارك له في نفسه ولا ماله ولا ولده، وامحق ما لديه، وانزع البركة من بين يديه، وأذقه سوء عاقبة ما اختار لنفسه، إنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم اعلموا أن حكم البايع في ذلك والمشتري من غضب الله ووعيده في ذلك على سواء، فلا يغتر المحتاج أن حاجته تسوغ له الدخول في الربا، فإن رسول اللهً لعن الربا وآكله ومؤكله وبايعه ومشتريه وكاتبه وشاهديه، كما لعن الخمر وشاربها وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه نعوذ بالله من لعنة الله، ولعنة رسول الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[جواب الإمام المتوكل على الله على القطابري]
ومن ذلك ما أجاب به -عليه السلام- على السيد صفي الدين أحمد بن محمد القطابري إلى مدينة صعدة يتضمن فوائد جليلة.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمدلله رب العالمين، الوالد السيد الأمجد العلامة الأوحد شمس الدين أحمد بن محمد القطابري -حفظه الله- وأتحفه بشريف السلام[ورحمة الله] وأزكى التحية والإكرام. وبعد فإنه وصل كتابكم الكريم، وما ذكرتم من دخولكم إلى محروس صعدة، واتفاقكم بالصنو صفي الدين أحمد بن أمير المؤمنين -حفظه الله-فقد أصبتم وأحسنتم، وجزاكم الله خيراً وبارك فيكم. وزكَّى أعمالكم وأصلح بكم وما ذكرتم من ضعف ثمرة البلاد، وأنه لولا ذلك لعّولتم على الصنو صفي الدين الخروج بنفسه لإزالة ما بتلك البلاد من المنكرات وأحكام الطاغوت، فنسأل الله أن يعين على ما يرضيه، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ولا بسيئات أعمالنا إنه هو الغفور الرحيم، وليعلم الوالد -رعاه الله وحفظه- أن البداية في هذا الشأن بالجانب الأعلى الذين هم ورثة الأنبياء وأهل بيت المصطفى في استقامة دينهم، والتوقف على حدود ربهم، وتجنبهم أكل الحرام، وتوقفهم على شريعة جدهم سيد الأنام، هو المقدم الأهم والمقصد الأعظم، فإنه لا يستقيم الناس إلا بإستقامة سراتهم وعلمائهم، فإذا كانوا يأكلون ما حرّم الله عليهم من الزكوات، ويطلبون في ما يجب لهم أحكام الطاغوت، ثم يرومون من الناس الاستقامة، وهم على هذه الحالة فقد خانوا وخدعوا، وكيف يقوم الظل والعود أعوج [وكيف يقوم الفرع والأصل منحني] .وقال تعالى{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ
وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتناصحوا ولا تكتموا فإنه[13/أ] بلغنا أن السيد فلان لما ذهب عليه شيء يسير من عنبه لم يرض فيه بحكم الله، وإنما طلب فيه حكم الطاغوت حتى ذبح له رأساً بقر وأكل هو وأهل بيته نصفها، وتبع ذلك من الغرامة ما لا يحتاج إلى تعديده لعلمكم به، ومثل هذا التذكير من الله سبحانه مما ابتلى به من نقص الثمرات والخوف من أشرار القبائل، إنما هو لتذكير من يرجع إلى الله ويتوب إليه عن معاصيه الظاهرة والباطنة، ومن أعظم ما يجب إصلاحه وعدم التهاون به أنا رأينا بيان زكاة الجهة الجماعية على حقارته قد صُرِفَ عن مصارفه، وَوُضِعَ في غير محله، وجُعِلَ لخاصة الخاصة من بني هاشم وهم الفاطميون منهم، كأنه ضاق عنهم واسع رزق الله الذي وسع من طلعت عليه الشمس فيما بين مشرق الأرض ومغربها إلى هذا الذي ألزم الله نبيه بتنزيه ولده ومن قرب إليه عنه، ولم يقع في ذلك تناه ولا يعقل لمراد الله لهم ولا لما أراده من وضعه في المصارف التي بينها في كتابه الكريم، فعكس المراد في ذلك حتى حرَّم المصارف عنها بأجمعهم وصرفت فيمن حرمها الله عليه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإن قالوا: الحاجة والفقر ألجأنا إلى تناول ذلك، قلنا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } فهذه بلوى قد اختبر بها عباده،
وقال:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} .
ثم ليتفكروا كم من الناس وما حاجتهم من حاجاتهم، وهل سمعوا قول الله تعالى{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } وقول الله تعالى{وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَج اً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} . وانظروا مثل الذين خلوا من قبلكم من سلفكم وأهل بيت نبيكم، واسمعوا أخبارهم فإنهم كانوا أشد احتياجاً منكم، ولم يحملهم ذلك على ارتكاب ما لا يحل لهم، ولكن صبروا وعَفُّوا {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } وإنما الأحق بأهل هذا البيت الشريف، والمنصب العالي المنيف، أن ينفقوا أموالهم في الوجوه التي أمر الله تعالى بالإنفاق فيها، ومدح المنفقين فيها، وذم البخل بها في معظم كتابه المبين، وعلى لسان رسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين، وأن يكونوا من أهل اليد العلياء، وأن يدّ المعطي خير من يد المستعطي، وإنما الفضل بالإنفاق في سبيل الله لا بأخذ ما أحل الله، كيف بمن أخذ ما حرم الله{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ[13/ب] وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ
وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، وليس لمعتلي أن يعتلي بعد اليسار الكثير، فإن جهد المقل أفضل الصدقة، وقد مدح الله تعالى الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وذم الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، والذين لا يجدون إلاَّ جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
ولما كنت أيها الوالد -حماك الله وعافاك- من أهل التقوى[وممن تحب الآخرة لا الأولى] وحملة العلم، رأينا أن نجعل هذا الكلام في كتابك لتبلغه إلى كافة من عندك من أهل البيت الشريف، ولتكون مُعيناً بما تعلمه من الكتاب والسُنة، فإنا وإن كنا نرى جواز التأليف منها للهاشمي، فإن تبليغ ما أنزل الله على لسان رسوله ً من أعظم الفروض وآكدها، فأردنا الخروج عن العهدة وإبلاغ الحجة وإظهار ما نهى الله [عز وجل] عن كتمانه في نحو قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وفي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} .
فمن لم يخف من هذا الوعيد فما يخاف بعده؟ اللهم إن الحلال ما أحللت، وإن الحرام ما حرَّمت، وأنا أبرأ إليك من تحليل ما حرمت، وتحريم ما أحللت، فمن كان جاهلاً لمقالتي فهذه مقالتي{أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
ومن أسباب الرزق الجهاد في سبيل الله، فهذه القبائل المعطلة للأحكام، التاركة للصلاة والصيام، قريب منكم جاهدوهم واستعينوا عليهم، وسيفتح عليكم من الغنائم ما يغنيكم به الله عن ارتكاب المآثم{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [14/أ]وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .وحسبنا الله ونعم الوكيل.
[رسالة إلى الحكام والولاة في تحريم الأجرة]
وهذه الرسالة له -عليه السلام- إلى جميع الحكام، والولاة في الجهات المحمية، يحذرهم وينصحهم ويلزمهم التنزه عن مواقع التهم من أخذ الأجرة التي بلغه عن بعضهم أنه يشترطها لنفسه إن احتاج إلى سيره مسافة، أو لأعوانه في أمر يريد تنفيذه، ويقول ذلك من فرض العامل الذي عليه تنفيذ أحكام الشرع.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد: حمداً لله على نعمائه، وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ودعائه بأسمائه، وأن محمداً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، والصلاة والسلام عليه وعلى أهل بيته وأمنائه، فإن أحق من توقى مواقع التهم في الإسلام، من ترد إليه الأحكام، وترجع إليه من القضاة والحكام، لأنهم يبلغون عن الله عز وجل ورسولهً، فشأنهم أن يتنزهوا عما نزّه الله عنه رسوله ورسله-صلوات الله عليهم- من أن يظن بهم طلب الأجر المعجل، وإيثار هذا التافه من الدنيا الذي ليس عليه معوَّل، وفي ذلك ما حكى الله عن نبيه محمد ً فيما علمه من قوله: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } . وقال عز وجل:{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} .
وحكى ذلك عز وجل عن جميع أنبيائه -صلوات الله عليهم- كما حكى في سورة هود عن نبيه نوح:{وَيَاقَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ } ، وعن هود:{يَاقَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي } وحكى في سورة الشعراء صفة واحدة عن جماعة من أنبيائه: {فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} .
فجعل نفي ذلك عن نفسه ثالثاً للأمر بتقوى الله وبطاعته، وما شأن حكم الشريعة فيما يأمر أو ينهى عنه، إلا حكم المبلغ لحكم الله، والمرشد لعباده إلى أمر الله، سواءً تولاه بنفسه أو بعث عليه نايباً، كما هو كذلك في حق الأنبياء-صلوات الله عليهم- ومن يبعثونه من الرسل للتبليغ عنهم، بل تعلق التهمة والعياذ بالله لمن انتصب لفصل شجار المسلمين، وتصدر للحكم بنفس أو مال لرجل على آخر أعظم من تعلقها بمن لم يكن إلاَّ متجرداً للدعاء إلى الله، والنهي عن عبادة غير الله، مع اقتران تأييد الله له على التصديق والتنزيه بالمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة، كما لا يخفى ذلك على من تأمل بل أشار[14/ب]إلى ذلك عموم صفة النبيً بأن يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وعموم قوله صلى الله عليه: ((هدايا الأمراء غلول )) مع أن في كل من العمومين خصوصاً معنوياً لكنه في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن التهمة نادرة.
وفي جانب غيره من العمال بأنها أكثرية ظاهرة حتى جاء عن أمير المؤمنين وسيد الوصيين -كرم الله وجهه- في بعض الصور، وعند بعض الحوادث صيغة العموم في إلحاق الهدية بالصدقة وقوله: فكل ذلك محرم علينا أهل البيت، وإن كان المراد به شهادة القراين تلك الصورة الخاصة بيّنها على اختلاف مواقع التهمة، وأن المقترن بها تلحق بمعلوم الحكم حرصاً على التبليغ عن الله عز وجل وعلى وجه لا تشوبه الأغراض الدنيوية ليكون خالصاً لله عز وجل من جميع وجوهه، ولتكمل به الحجة على عباده، وتتم به المعذرة لمن يبلغ عن الله ورسوله، ومع ذلك فإن الله عز وجل ومع ضمانه لرزق عباده في مثل قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} لما علم أن التكليف لا يتم إلاَّ بإن تجري أرزاق الأنبياء-صلوات الله عليهم- ومن يبلغ على الوجه الذي تجري عليه أرزاق سائر عباده من التعليق بالأسباب والوجوه، عوض نبيه صلى الله عليه وسلم أطيب رزق من المغانم، وعوّض من يتصدى للأحكام ونحوها أرزاقاً من أموال المصالح التي لا منَّة فيها ولا تهمة ولا مسوغ لأحد، مثل الحاكم لما يأخذ من رزق الله الجاري على أيدي الأنبياء والأئمة-صلوات الله عليهم- إلاَّ قيامه بفرض ما هو فيه، ومنعه عما عداه، فعليه مع ذلك تولي كل واقعة بين الخصوم يحتاج إلى توليها بنفسه، أو من يقوم مقامه ولو برحلة قريبة أو بعيدة من غير أن يأخذ على ذلك أجراً من المتحاكمين إليه؛ لأن ثمرة حكمه هو ذلك وبه يتم وما لا يتم الواجب إلاَّ به
حكمه، وإنما يسوغ فرض شيء من الأجر لغيره لا لنفسه، مثلاً لو أضطر مع إذن الإمام لضرب من المصلحة كعدم ما يرزق النائب في تلك الحال أو دفع مفسدة، كما إذا أذن الإمام في العقوبة عند استحقاقها من المال، وهذا بفضل الله في زمننا لا يلجأ إليه.
أما الأول: فإنه ما من حاكم ولا متعلق به إلاَّ وله رزق معلوم ونصيب في بيت المال مقسوم.
وأمَّا الثاني: فإن الآداب المتوجهة لدفع المفاسد لها مصارف معينة، غير أعوان القضاة الذين قد تقررت أرزاقهم، وهو الجند والعسكر الذي يقع بهم التنفيذ، وعليهم تدور دفع المفاسد، ولمثلهم أرصدت الآداب، ولمثلها[15/أ] أرصدوا، وذلك من فرض الولاة الذي ينهي إليهم الحكام حال المتمرد عما وجب عليه من حق فيحسب ذلك من أرزاقهم الذي ليس لهم غيرها، ويلتحق بذلك ما قد تدعو إليه الحاجة من أجرة ما يحتاج منه إلى عمل ممن لا تعلق له برزق من المغانم ولا من المصالح ولا من الآداب المفروضة لدفع المفاسد، كمن يستعين به من الزُرعة إلاَّ جانب في قسمة أو تقويم تعود مصلحته على المتحاكمين، وترجع منفعته إلى المتخاصمين وهوفي حقيقة الأمر عامل لهم مع عدم من يقوم بذلك على وجه ممن استقر رزقه في أموال الله، وإنما دعت إليه الضرورة، إن الحاكم ومن ينوب من قبله غير بصير في المطلوب منه، وأجرته بتراضٍ بينه وبين الخصمين إن أمكن، وإلا فرض له الحاكم بالعدل والقسط على وجه لا يقارنه تهمة ولا جور، للإضطرار إلى مثل ذلك في بعض الأحوال، بل لأنه يكون أقرب إلى العدل وأبعد عن تعلق التهمة بالحاكم، ويوهم الإدلاء إليه في أكل أموال الناس بالباطل، كما قال
الله تعالى:{وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} وهذه الآية وما يشابهها من كتاب الله عز وجل من أعظم ما ينبغي أن يعتبر بها حكام الشرع المطهر أعزه الله، ويحملون أنفسهم على التباعد عن موضع كل تهمة أو مضنتها ولذلك كان مرجواً مع الكلام النبوي قوله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم )) .
وقص الله عز وجل ما تقدم ذكره في حق أنبيائه -صلوات الله عليهم- وأشار في معنى توخي التهمة في القصص أيضاً عن أنبيائه وأوليائه-صلوات الله عليهم- بما يقتضي أن توخى تهمة الطمع أو الجور أو ارتكاب المفسدة، وإن عارضته مفسدة أخرى تجب إشارة لأربابه على مقابله. فحكى عن يوسف-صلوات الله عليه- {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} مع ما يترتب على ذلك من أذيته بالسجن وغيره، كما كان ذلك أهون من نسبة ما أرادت نسبته إليه إذ إذائه -عليه السلام- بالسجن وغيره من كبار المعاصي، وكمل ذلك في قصته -عليه السلام- وقد أرسل إليه الملك ليطلقه عن السجن وهو من المصالح بل من دفع المكاسب أن قال:{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } الآيات. مع أنه تذكير بأمر منسي. ولما أذن الله عز وجل بأخذ أخيه توسل إليه بما شرعه الله له وأذن فيه من الذريعة التي تنفي عنه
-عليه السلام- الظلم والجور، وإن كان فيها نسبة السرق إلى أخيه لتفاوت ما بين حالتيهما في اعتبار دفع المفسدة [15/ب]، وحكي عن مؤمن آل ياسين -سلام الله عليه- لما أعياه أمر قومه، وهو كاتم لإيمانه أنه صرح بقوله للمرسلين: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } مع أن ذلك أفضى كما في الأخبار إلى قتله؛ لكنه كان مفسدته أهون من مفسدة اعتقاد أنه لم يؤمن، ولذلك قال: فاسمعون، وجاء في الخبر عن النبي ً قوله: ((إنها صفية))، لمن رآه فسايرها لما كان مفسدة تجويز أن يظن بهً سوء طهره الله عنه أهون من مفسدة تجويزه أن الرائي ممن يظن ذلك، مع أنه قد جوز في حقه المعصية وهي ظن السوء به ً، وجاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: (فإن أسكت يقولوا جزع من الموت، وإن أقل يقولوا حرصاً على الملك)، ولا واسطة بين القول والسكوت. فاختار السكوت -عليه السلام- كما ذلك معلوم من حاله لما كان مفسدة اعتقادهم أو دعواهم عليه أنه حرص على الملك أعظم من مفسدة اعتقادهم أنه جزع من الموت، إلى غير ذلك مما لا يحصى مما يستنبط من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيهً، ومن أقوال أئمة الهدى وسيرهم.
وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[رسالة في الحث على الصلاة وحجاب النساء]
وهذه الرسالة أرسلها -عليه السلام- إلى البلاد تتضمن الحث على الصلاة، سيما إلى الجهة التي بلغه عنها التساهل بها والحجاب من النساء.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وكتابنا هذا معذرة إلى الله وبلاغ إلى جميع المسلمين المكلفين من الرجال والنساء سلام الله عليكم فإنا نحمد الله إليكم، ونصلي ونسلم على محمد وعلى آل محمد ونأمركم بإقامة هذه الصلوات الخمس، وتعلم ما تجب به الطهارة، والأوقات والقبلة والأذكار والقراءة والركوع والسجود، وأن لا تتهاونوا بها ولا تضيعوها، فإن الله عز وجل لم يحقن الدماء إلاَّ بها، ولا أوجب الإسلام إلا لأهلها فقال عز وجل{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
وحكى تبارك وتعالى جواب أهل النار لما سئلوا:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ، فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} .
وجاء عن رسول الله[16/أ]ً: ((إن الصلاة هي الفارقة بين الكفر والإسلام )).
وأنه ً كان إذا غزا قوماً انتظر وقت الصلاة هل ينادون إليها، فإن نادوا إليها وإلا صبحهم واستباح أنفسهم وأموالهم وسبى نسائهم وذراريهم، فأي واجب أعظم من هذا الواجب الذي من أخلَّ به من الرجال والنساء كان حكمه حكم المشركين الذين أباح الله دمائهم وأموالهم وسبيهم، وأي واجب أعظم من هذا الواجب الذي أخبر أهل النار، نعوذ بالله منها أنهم سلكوا في سقر من أجله، ومن الذي يرضى بمثل ذلك لنفسه أو لأهله أو لولده وهو يسمع قول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
هذا وبلغنا أن النساء مع قطعهن للصلاة وتهاونهن بها لا يحتجبن عن الأجانب، ولا سيما ابن العم والخال وأقارب الزوج، ولا ينهاهن الرجال القوامون عليهن وأزواجهن عن ذلك، فكانوا شركاء لهن في الإثم، والله يقول:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} إلى آخر الآية الكريمة.وفيها {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}.
وقال عز وجل مؤدباً لأصحاب نبيه ً: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} . مع جلالة قدر أصحابه، وجلالة قدر أزواجه. فاتقوا الله وتقربوا إليه. تنالوا إن شاء الله خير الدارين، والله حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
[رسالة للإمام حول الغلاء وقلة الثمار والأمطار]
وهذه تذكرة منه -عليه السلام- في غرة سنة أربع وستين وألف[1653م]. وقد استمر الغلاء سنين لقلة الثمار والأمطار:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى. كتابنا هذا تذكرة إن شاء الله تعالى لأنفسنا ثم للأخص فالأخص فسائر المسلمين كثر الله جماعتهم، وجمع على[16/ب] التقوى والخير قلوبهم وأيديهم ونياتهم واعتقاداتهم سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فإني أحمد الله إليكم وأسأله أن يصلي ويسلم على محمد وعلى آل محمد، وأذكركم ونفسي بنعمة الله علينا جميعاً.
أما نحن أهل بيت رسول الله ً، فيما فضلنا الله به بعد الإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر من ولادة نبيه ً، التي هي من أعظم الفضائل والنعم الجلائل، ثم الولاية على عباده والوساطة بينهم وبين ربهم بما ينالون به ثوابه ويتقون عقابه. وفي مثل ذلك يقول الله عز وجل:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِين} . وتطهيره لنا عن أوساخ ما في أيدي الناس كالزكوات.
وأمَّا سائر المسلمين فيما أنعم الله عليهم من الإسلام، واتباع نبيه ً وأهل بيته وسائر النعم، وبأن النعمة على المتبوع نعمة على التابع. كما أن النعمة على الوالد نعمة على الولد. ولذلك حكى عز وجل عن نبيه:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} .
وحكى عن عباده المتقين له مثل ذلك في قوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} .
وقال عز وجل: {إِذْ قَالَ الله يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} .فجعل نعمته على عيسى-صلوات الله عليه- نعمة على أمه، ثم أمره بذكر نعمته عليه وعليها، وإنه لا غنى لي ولا لكم عن الله عز وجل وذكره وشكره، والاعتصام بحبله، والإلتجاء إليه في السراء والضراء، والشدة والرخاء، والعافية والبلاء، وفي كل خطرة وطرفة، وفي ما دون ذلك. وإن الله ذكرنا جميعاً في هذه السنين بشيء من نقص الثمرات ونحوها ليبلونا بذلك، ويعرضنا للتذكير والتذاكر والصبر والتواصي به، وبالحق كما قال تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ[17/أ] الْمُهْتَدُونَ} .
وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} .
ومع ذلك فإنه لم نبتل من ذلك وله الحمد إلا باليسير المذكر للغني والفقير. وأما الغني فليغنم النفقة في سبيل الله، وأما الفقير فليغتنم الصبر على اختبار الله، وليكون ذلك موقظاً للإنابة إليه عز وجل، والتضرع لجلاله، والإلتجاء إليه وحده، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} . مع ما ابتلى به عز وجل من عظمت عليه نعمة الله من ولاة الأمر من النظر للمسلمين في أحوالهم، وما فيه حفظ نفوسهم وأموالهم، وحراسة جوزة الإسلام -زاده الله تعالى عزاً وحراسة- وتعظيم أمر الإسلام بالشعارات التي لا تنفذ دعوة الحق إلا بها، ولا كلمة الله إلاَّ عنها وما تعدلها. ونقصد به وجه الله من موادها وما للمساكين وابن السبيل والضعفاء والأيتام والأرامل ومن له حق في أموال الله من مهاجري وأنصاري، ومن في قوته قوة الإسلام -أعزه الله تعالى وحفظ معالمه- والأخذ على أيدي العصاة، ومن تسارع إلى الظلم، كأجناد الحق، وأعوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البر والبحر، مع ما منَّ به اتساع نطاق الإسلام-أعزه الله- ودعوة أهل الحق أعلاها الله، وكلمة آل محمد صلى الله عليه وسلم التي هي كلمة الله، وما يتم به إن شاء الله معنى قول الله عز وجل :{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ الله مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .
وبعد هذه الشدة الرخاء بعد الضيق بفضل الله وإحسانه وجميل عوائده الواسعة ، وقد قال عز وجل{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اشتدي أزمة تنفرجي )) .
وقال ً: ((لئن أكون في شدة أنتظر الرخاء أحب إليَّ من أن أكون في الرخاء أنتظر الشدة ))، لكنا جميعاً محتاجون إلى أن نذكر بعضنا بعضاً.
أمَّا نحن ولاة أمور المسلمين فنحسن النية إن شاء الله وقصد وجه الله فيما نأتي وفيما نذر، وما نقوله وما نفعل، وما نأمر وما ننهي، وما نعطي وما نمنع، وأن نؤدي أمانة الله لأهلها كما أمر الله تعالى.
وأما سائر أهل بيت رسول الله ً فبالتجنب بما أمكنهم لما حرم الله عليهم من هذه الزكوات، وماله حكمها والإلتجاء إلى الله عز وجل، فإن الله لا يضيعهم، ولا ييأسوا إن شاء الله مع تورعهم فيها[17/ب]فإن الأرزاق بيد الله الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو عز وجل يقول:{إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } . وبالتورع عن ذلك يفتح لهم أبواباً لم تكن في حسابهم، كما قال عز وجل وهوأصدق قائل، وأوفى واعد:{وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَج اً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } . وقال الله عز وجل:{وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } .وقال عز وجل{وَمَنْ يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } . ويرضون بما يسر الله لهم مما يحل لهم، إما على أيدي ولاة أمر المسلمين أو بالسعي حيث أذن رب العالمين.(والعض على الصبر بالنواجذ) . فهم أهل بيت النبوة ومنازلهم منازل الصبر.
وأما غيرهم فبالتعفف ما أمكنهم عن تناول شيء مما غيرهم أولى به وأحوج، وقبول ما يوعظون في هذه الساعة إن شاء الله مما لا يجدون عنه بداً، حتى يفرج الله عز وجل علينا وعليهم، وعلى جميع العباد باتساع الثمار ونزول الأمطار، التي نأمر أنفسنا ونأمرهم جميعاً باستنزالها إن شاء الله تعالى، واستجلاب بركتها بالتوبة والاستغفار، فإنه عز وجل يقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} .
ويقول عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ، أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ الله إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِير، وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِير، إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ويقول عز وجل:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} . وبالتواصي بالحق والصبر، والرحمة، والتآمر بالمعروف، والتناهي عن المنكر، واقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت الحرام، وتحليل ما أحل الله، وتحريم ما حرم الله، وحسن الإخاء في الله، وتطهير القلوب عن الغل والحسد والكبر والرياء والمباهاة وحب الدنيا، وكثرة التضرع إلى الله عز وجل بالتوبة والإستغفار والخشوع له عز وجل، والخضوع. فإن الله عز وجل يقول: { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ[18/أ] حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ
يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} .
[رسالة الإمام المتوكل لأهل البيت حول الزكاة]
وهذه الرسالة أنشأها -عليه السلام- في غرة سنة أربع وستين وألف[1653م] تتضمن النصح لأهل بيت النبوة، والأغنياء عن تناول الزكاة المحرمة عليهم وإن جاز له اعطائهم حرم عليهم قبضها، وكان إنشاؤها في محروس حبور :
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. الحمدلله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلى الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى الإنس والجن أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الذين أراد الله تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم، وسلم عليه وعليهم، وعلى عباده الذين اصطفى، ورسله الذين اختارهم واجتبى.
أما بعد: فإن أقبح العصيان ما وقع منه على علم واتقان، كمعصية العلماء الذين جعلهم الله [تعالى] ورثة الأنبياء، ولا سيما إن كانوا من أهل بيت المصطفى لما في ذلك من الانسلاخ عن ما آتاهم الله من الآيات، وبيع العظيم مما أوتوا بالثمن القليل من متاع الدنيا واتباع الشهوات: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ [تَتْرُكْهُ] يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
والإنسلاخ من آيات الله تعالى هو أن تعلم ما علمه الله تعالى ورسوله ولا تعمل به إخلاداً إلى الأرض واتباعاً للهوى، ومخادعة لله:{يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . فما أظلم من يتلو وتُتْلَى عليه:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } وما أقبح من يروي ويروى له، أنها لا تحل لذوي القربى، وما أسوأ من يملي وتحكى عليه أنها لا تحل للأغنياء وهو يرى نسبه في الهاشميين الخيار أو من أهل الجدة واليسار، ولا يرفع (لذلك) الذي تلى وتُلي عليه، وأُنبئ ولا يبني عليه فيما بينه وبين الله أساساً كأن لم يقرع سمعه قول الله تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وقوله تعالى:{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [18/ب].
وقوله:{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} . وإلا فما العذر بعد العلم بذلك وبأن الله هو الرزاق دون الإقتحام على المهالك، ولو أنه اعتمد التقوى وترك ما لا يحل له ولا يجب لصدق وعد الله له في قوله: {وَمن يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأََكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} . وقال:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاََسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً } . وقال:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ
أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى، أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} .
يعني ذوي العقول فيعلمون أن التهاون بأوامر الله ورسله هو الذي أهلك القرون الماضية، والأمم الفانية، وأي تهاون أعظم من الإستمرار على أكل ما حرم الله من الزكاة بما في ذلك من أنواع المعاصي التي أولها ترك الطاعة لله ورسوله.
وثانيها إن عدم الحظ على طعام المسكين من موجبات تصلية الجحيم، فكيف من أكل ما عينه الله له وفرضه على غيره في كتابه وعلى لسان نبيه ً.
وثالثها: إن الله ما حرم الزكاة على الهاشمي إلا تنزيهاً لرسوله (ص) وتشريفاً، فأكلها من ذوي قرباه ً لم ينزه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يشرفه لتلوثه . بما أمر بتنزيه فرع رسول الله وفرع أصول عنه.
ورابعها: إن البر والخير إنما هو في الإنفاق، لا في الأخذ ولو من وجوه الحلِّ وطيّب الأرزاق، وأكل ما حرم عليه تاركاً للإنفاق الذي دعا الله إليه المقل والمكثر، والموسع والمقتر، وذم التساخر ممن أعطي اليسير وسخر منه، وأوعده العذاب الكثير، وقد ضم إلى ذلك أن أخذ من غير وجه الحل الواضح بل من الحرام المخزي الفاضح، واستلذ به المأكل والمشرب والمناكح، وكأنهم لم[19/أ] يعلموا ما مضى عليه السلف الصالح، من صبرهم على ما يحل وإن جاعوا، وعضهم النواجذ على دين الله ولو أنهم هلكوا حتى مضى على آل محمد الأيام والليالي، ولم توقد في بيوتهم النار، ورقعوا ثيابهم مرة بعد أخرى، ولم يخشوا من العار .
[إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه .... فكل رداء يرتديه جميل]
وأطعموا طعامهم لوجه الله، وصبروا على قشف العيش ابتغاء مرضات الله، أفلا تخشون أن تكونوا كالذين قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى الله إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} . فليتذكر المؤمنون بما ابتلاهم الله من بعض الثمرات ولا يغفلوا عن ذلك فلأمرٍ ما قص الله علينا في كتابه الكريم أخبار الماضيين، وأخبر أن سنته فيهم هي سنته في الباقين، فقال:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
فإن ظنوا أن اعطاء الإمام يحل من ذلك ما حرمه الله عليهم فقد أعظموا الذنب وأفرطوا في الجهل، فإنه قد شرع الله للإمام أن يتألف من الزكاة، ولم يخص أحداً دون أحد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعطي الرجل العطية يخرج بها يتأبطها ناراً )) .
وقد كان المنافقون يلمزون رسول الله ً في الصدقات، فإن أعطاهم منها رضوا وإن لم تحل لهم؛ لأنهم إنما رضوا لما أعطوا لا لما أوجب الله تعالى عليهم من الطاعة لله ولرسوله، وقال فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله رَاغِبُونَ، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ الله وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
فبين الله في هذه الآية مصارف الصدقات بياناً شافياً على لسان رسول الله ً إنه قدم إعطاء المؤلفة على كثير من ذوي الإستحقاق، وإن الذين لم يعطهم خيراً من الذين أعطاهم، فقال فيما رواه[19/ب] البخاري ومسلم وغيرهما حديث: ((إني لأُعطي قوماً أخاف ضلعهم وجزعهم وأُكِلُ قوماً إلى ما جعل الله تعالى في قلوبهم من الخير والغنا منهم عمر بن يغلب)) .
وقال: ((إني أعطي رجالاً أتألفهم ، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برحال رسول الله، فولله لما يتقلبون به خير مما تتقلبون به إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض)) .
وقال: ((إني أعطي قوماً أتألفهم لأنهم حديث عهدٍ بجهالة )) .فأخبر بوجه التأليف، وأنه لا يحل لمن أعطاه على ذلك شيئاً مما أعطاه، فاتقوا الله ولا تغيروا نعمة الله، واتقوا الشبهات وتجنبوا المحرمات {ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[رسالة من الإمام للشاه عباس الحسني]
ومن مكاتباته -عليه السلام- إلى السيد السلطان شاه عباس الحسني ضمنه شفاعة لرجل أتاه من بلاد السلطان المذكور يسمى صفي الدين قلي، واستعطافاً لقلب السلطان عليه:
بسم الله الرحمن، الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، المقام الذي أيد الله به العترة النبوية، والمحل الذي مجد الله به العصابة العلوية، والشرف السامي الرفيع الذي به ازداد شرف الملة المحمدية، والفخر العالي المنيع، الذي لا يزال يصعد به السعد إن شاء الله إلى كل رتبة علية، حيث استقر ركاب أخينا وابن عمنا كريم المناصب، شريف المراتب، طاهر المناسب، فخر الإمام، الوصي الأمين، الأنزع البطين، المختم باليمين، علي بن أبي طالب، السلطان الأعظم، والشاه الخطير الأكرم، عباس شاه الحسيني -أحسن الله إليه- وأتم نعماه عليه، وبلغه صالح الآمال فيما لديه، ولا برح ناصراً للدين الحنيف، حامياً لحمى أهل البيت النبوي الشريف، قامعاً بسيف سطوته إن شاء الله وجهاده لكل ذي زيغ وتحريف، يهدي إلى سوحه الكريمة، ومعاليه الفخيمة شرائف تحياته المباركة الزاكية وانعاماته المتداركة النامية، وكراماته التي هي إن شاء الله بخير الدارين[20/أ] متممة، وبكل مقصد صالح وافية.
وبعد: حمداً لله إليه على ما أنعم به وأولى، وسؤاله[أن يصلي] لنبيه المصطفى، ووليه علي المرتضى، وأمته فاطمة الزهراء، وصفوته الحسن والحسين، إمامي الهدى، وهؤلاء[هم الأئمة] الذين أورثهم الكتاب والحكمة، واختصهم بالكرامة والعصمة، ومنح الأئمة منهم الرأفة والرحمة، صلواته وبركاته وترحماته وتحياته وسلامه الذي يرفع لهم به الدرجات في دار السلام، ويؤتيهم به الوسائل في أرفع مقام وأعلى سنام، فإنه كما أن شيمة أهل البيت النبوي، والمنصب المصطفوي، والنسب الشريف الفاطمي العلوي، ما خصهم الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ حدود الله والدعاء إلى سبيل الله، والجهاد لمن حاد الله ورسوله ولذلك صدقهم ما وعدهم من اظهار دينهم الذي هو دينه، وعلو كلمتهم التي هي كلمته، فلم تزل رايات الحق بهم في أقاصي البلاد وأدانيها سابقة، وسيوفهم الماضية في كل زمان ومكان بين الحق والباطل فارقة ، كما بلغكم جدد الله سعيكم من ظهور دعوة الله وله الحمد، ودعوة أهل بيت رسوله ً في هذه الديار، وبلغنا كذلك ظهورها على أيديكم في تلك النواحي والأقطار، فإن من شيمتهم -صلوات الله وسلامه عليهم- ما هو من خلق جدهم-صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الكرام- وصفته التي وصف بها في التوراة والإنجيل والقرآن، وأدبه الله بها في قوله:{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } . وقوله:{وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} . ولا سيما بعدما من الله به من القدرة وتفضل به من التأييد والنصرة، وإن تعفوا أقرب للتقوى، وهو من شكر نعمة الله عز وجل على ما أولى وبلغ من الرجوى.
ولما وصل إلينا متحمل كتابنا صفي الدين ابن إمام قلي حقق لنا ما تفضل الله به علينا وعليكم وعلى المسلمين من استعادتكم لما كان خرج على الحوزة فيما مضى من بلاد قندهار وما تيسر لكم والفضل لله من الإذالة من العدو وأخذ الثأر، وطلب منا هذا الكتاب إلى شريف ذلك المقام ليكون إن شاء الله وسيلة له تراحمكم بالعفو عنه والصفح والتجاوز كما هو مقتضى خلائفكم الكرام، لعلمه بأن[20/ب] مثلنا ومثلكم وإن تناءت الديار، وحالت عن تكرار التواصل متباعدات الأقطار، فالقلوب إن شاء الله في أمر الله وأمر رسوله وأهل بيته بقلب واحد، والأيدي في التظافر إن شاء الله والتظاهر على حب الله عز وجل وحب رسوله وعترته الطاهرة كف وساعد، وكيف لا والنسب الفاطمي يجمعنا، وذلك من فضل الله ومنته، والفخار العلوي شملنا، وذلك من أجل إحسان الله ونعمته، والبيت النبوي وكساءه يضمنا، فالحمد لله بكل محامده، ونسأله أن يجعلنا لربنا من الشاكرين، وأن يدخلنا في رحمته، فأسعفناه إلى ذلك، وطال ما تشوقنا إلى الأسباب، وسارعنا إلى مطلبه رغبة في التواصل الذي شرعه الله بين الأهلين والأرحام وكمل به التواد والتحاب، وقلنا كما يقال (جزى الله الأيام خيراً) إذ فتحت لنا هذا الباب، ورفعت الحجاب، راجين من فضل الله أن يجمع لنا بين أداء حقه في ما يجب للأخ المسلم على المسلم فضلاً عن ما يجمع لذي الرحم على
ذي الرحم، مما مدح الله به عباده المؤمنين من التواصي بالحق والصبر، والتواصي بالصبر والمرحمة، والتواصل على ما يحبه منا ويرضى به عنا من إقامة ما شرع من دينه على ما أمر به، وجمع الكلمة والإشتراك إن شاء الله في الدعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، فنكون إن شاء الله ممن شملته دعوة أبوينا إبراهيم وإسماعيل-صلوات الله وسلامه عليهما وعلى آلهما- فيما حكى عنهما في قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} وبين تصديق أمل الوافدين إن شاء الله فينا وفيكم بما أنتم أهله من الإحسان والبر والتجاوز، والستر والأمانة إن شاء الله على نفسه وماله وأهله واندراجه إن شاء الله تحت فضلكم كما أتاكم الله من فضله، حامدين الله في انتهاء الخطاب، كما حمدناه في أول الكتاب، مصلين ومسلمين على نبييه ووصيه، وأهل بيته المطهرين الذين أنزل الله فيهم{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} . وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
حرر بتاريخ شهر شوال من عام إحدى وستين [سبتمبر 1650م] وألف بمحروس شهارة -حرسها الله-.
[رسالة الإمام المتوكل على الله الشريف زيد بن محسن]
وله -عليه السلام- إلى الشريف الأكرم الأعظم زيد بن محسن بن حسين[21/أ] بن حسن بن أبي نمي .
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، غرر المجد النصيرة، ودرر الفخر المنيرة، وسحب الخير المطيرة، ورياض الكرم الوريفة الشرف الدهيقة ومجامع الفضل التي هي بكل مجد رفيع خليقه، وبكل ثناء ومحمد حقيقة، ما جمعته أخلاق الصنو السيد الشريف المعظم الخطير المكرم، حامي حمى حرم الله الأمين المُحْرَِّم: زيد بن محسن بن حسين بن حسن بن محمد بن بركات بن أبي نمي -بارك الله لنا وللمسلمين في أفعاله كما بارك في أسمائه-، وزاده مما أولاه من خير دينه ودنياه وسابغ نعمائه وأهدى إليه من شريف سلامه واكرامه وانعامه واعظامه ما بلغه إن شاء الله في طاعته ورضاه غاية مقصده ومرامه.
وبعد: فإنه وصل كتابكم الكريم الشريف الوسيم صحبة الأديب الأريب حسين بن علي -رعاه الله- جواباً على جوابنا عليكم في شأن ما يتعلق بالصنو السيد الأنجب مهنا بن قتادة، والشريف الأوحد محمد بن حسين -رعاهم الله- وحرصنا في أمرهما كما ذكرناه لكم من إنجاد الحال في أمر الله والتعاون على البر والتقوى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الضعيف وابن السبيل عن عبث المفسدين، فإن ذلك لا يتم إلاَّ بالإجتماع وحسن النية في الجميع من الجميع، وإن كرهته النفس فقد قال عز وجل: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } وقد وصينا الجميع بذلك وأخذنا عليهما ولا نترك إن شاء الله جهداً في اصلاح الحالين، كتفقد الوالد أمر ولده إن شاء الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم عرفنا ما اشتمل عليه كتابكم الكريم من تلك النصائح، وتحقيق الأحوال والأراء الميمونة المباركة إن شاء الله، واستمداد ما عندنا من ذلك بعد استخارة الله عز وجل والإعتصام بقوته وحوله إنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأنتم حفظكم الله لم تدعوا في ذلك إلاَّ خيراً، ولا دللتم إلاَّ على رشد، ومثل ذلك فرضنا وفرضكم، ومطلبنا ومطلبكم، والذي نقول إن شاء الله على التقرب إلى الله عز وجل به، ودعا عباده إليه والإستعانة به تبارك وتعالى، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإنما بدافع الأيام والليالي ما هو المقصد الأعظم والمطلب الأكبر، وقوفاً عند حد التكليف وحاله في زمانه ومكانه ورجاله، فإن الله عز وجل بنى ذلك على البلوى والإمتحان، ومعاناة هذا الخلق من صديق وعدو، وقريب وبعيد[21/ب] وابتلينا جميعاً وابتلوا بسد علم الغيب مع ما عليه من الدنيا وأهلها، كما أشرتم إليه من إيثارهم لجانبها وعدم نظرهم في عواقبها واستحكام الأهواء على أكثر أهلها، ووقوفهم تحت ظلها، وهو كما قال عز وجل في ذلك الآيات: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} وقال:{الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .
فنسأل الله أن يجعلنا ممن تلقى التكليف الوارد عنه عز وجل بالقبول له والصبر عليه والتأدب بأدابه، فإنه عز وجل نوَّع التكليف مع العدو أنواعاً فتارة جهاده بالحجة والملاينة في القول والمعاملة والإعراض عن كثير مما يكره من أحواله، كما قال عز وجل: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
وتارة بالجهاد بالسيف الذي هو أعظم الدرجات وأرفعها، وإليه تنتهي المقاصد، وعليه يدور التكليف، وبه يبلج وجه الحق، قال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} .
وتارة بالجنوح إلى السلم عند جنوح العدو إليها، كما قال عز وجل:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
ولكل من ذلك وقت وقد نصب الله الأمارَات عليه، والإشارات إليه بحسب حال الطالب والمطلوب، والصبر على تحمل مشاق كل حد من ذلك في وقته وحاله، فإن الصبر ملاك كل خير، وأصل بركة ورشد، وعنه يتفرع غلبة الرسل والمؤمنين التي وعدهم الله بها ورغبهم فيها[22/أ] فقال عز وجل:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } وقال عز وجل{كَتَبَ الله لاََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
وقال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وكم كرر عز وجل في كتابه الكريم الأمر لنبيه ً بالصبر، وحكى. كذلك آمن به رسله وصالحي أتباعهم، وما نالوا من حسن عاقبته وظفره وعزته التي هي لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال عز وجل {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} وقال{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} ، وقال عز وجل{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} وقال عز وجل:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} إلى غير ذلك من آيات الكتاب الحكيم، وصبرنا وصبركم إن شاء الله على مثل ما أشرتم إليه من معاناة هؤلاء الظلمة، ومن يميل إليهم، واستعدا الله عليهم في رد كيدهم في نحورهم، وايقاع شرهم بهم، اقتداء بأولئك الذين قال الله فيهم{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } وقد فعل سبحانه وتعالى فله
الحمد، فما أعظم من مكر من أشرتم إليه فيما مضى في بيت الله الحرام ومشاعره العظام المرة بعد المرة فكانوا كأصحاب الفيل، وكما قال الله عز وجل:{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} وكما قال عز وجل:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } وقال عز وجل: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} وإنما نستعين الله عز وجل لنا ولكم على أداء حقه تبارك وتعالى في توخي هذه الحالات والتارات ، واعطاء كل فريضة منها حقها، فعند الحرب ما قال الله عز وجل: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} وقال عز وجل{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ الله لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ[22/ب]، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا
لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} وعند العهد والميثاق الوفاء به والصبر عليه وعض الناجذ وخياطة أطرافه وجوانبه من غير دخل في الهدنة ولا غشي لخديعة، فإن الله عز وجل قال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً } وعند البلوى بالخلطة لاقامة شعائر الله عز وجل ومعالم دينه الذي في مثلها يقول:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } ويقول{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} كهذا الشعار الأعظم، والحج الأكبر لديكم الذي قال عز وجل فيه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} واغتفر الله عز وجل للمؤمنين إن يطوفوا بين الصفاء والمروة والأصنام عليها منصوبة، وقباب الكفر بها مضروبة، فقال عز وجل:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} وقال عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقال عز وجل:{وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفرضنا وفرضكم الأخذ إن شاء الله بالحزم والحذر، مع ما يقام به ذلك الفرض ويؤدي ذلك الركن، وأنتم به أمانة وفد الله عز وجل، وحفظهم وحراستهم عن المتمردين من الدفع بالتي هي أحسن، ومع شدة الشكيمة على أهل العدوان عليهم والمضارة لهم، والتحكك بضعفائهم، وكما عوَّد الله عز وجل في ما مضى الجميل، ونرجوه لنا ولكم وللمسلمين في المستقبل إن شاء الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وسنفعل إن شاء الله في إقبال وفد الله إليكم، وحجاج بيته عليكم، مما أشرتم إليه ما نجد إليه سبيلا، بحسب مقتضى الحال، وما نرجوه إن شاء الله مع كفاية الله عز وجل المعونة على أداء حقه وحق المسلمين واثقين لنا ولكم بقوله عز وجل:{إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [23/أ]وقوله عز وجل: {عَسَى الله أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ} مع التآسي بقوله عز وجل{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}
والتوسل إليه برحمته وجميل عوايده أن يهيء لنا ولكم أسباب التدبير الإلهي، بما يقطع به دابر القوم الذين ظلموا ويمحو بدعهم، بحسب ما كَلَّفَ والإستبشار بمثل قوله{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} .
وأمَّا ما ذكرتم-حفظكم الله- في شأن كتابنا إليكم من أجل حسن بن علي -رعاه الله- وتلك الحركة التي لم تخف عليكم ما ترتب عليها من إخافة السبيل والضعيف، الذي فرضنا وفرضكم وفرضه الدفاع عنهم، فإنما أردنا بذلك الإعذار إلى الله عز وجل وإليكم وإليه بما أمكن من النصيحة التي هي أقل حق المسلم على المسلم، وأقامها ً مقام النصرة الحقيقية، إذ قال ً: ((انصر أخاك ظالماً -فقال- أو مظلوماً ، فقيل له: يا رسول، أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً. فقال: نصرك إياه ظالماً أن ترده عن ظلمه)) أو كما قال.
ولم يرد أن تتحملوا من ذلك ما لا جهد لكم به ولا طاقة، فإن الأمر إذا بلغ ذلك سقط عنا وعنكم فرض الأخذ على يده، ولم يسقط عنا وعنكم فرض القول بحسب الإمكان، ولذلك قال الله عز وجل لنبيه ً:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } [فقال وحرض المؤمنين] بعد قوله لا تكلف إلاَّ نفسك تدل على تحريض المؤمنين من تكليف نفسه، فإن لم يمكن، فإنكار المنكر بالقلب كما ورد في الحديث النبوي، إن ذلك أضعف الإيمان، فإن لم ينكر القلب المنكر مكر فجعل أعلاه أسفله، ونعوذ بالله لنا ولكم من ذلك، وعلينا وعليكم ابلاغ الجهد، والأخذ إن شاء الله بعزيمة الصبر والمصابرة والمرابطة لأمره، كما قال عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والتوسل إلى الله بضعفنا إلا بقوته، وعجزنا إلا بمعونته، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. بتاريخ شهر شعبان عام اثنين وستين وألف [يوليو1651م][23/ب].
ومما امتدحه به أهل الإجادة من الشعراء ما قاله الشيخ أبوالفرج الجزايري المكي :
تركن ذوي الألباب خيراً عقولهم .... مهتكة الأستار في الوصل والصد
ففي القرب بالإدلال ينهين لينّا .... وفي البعد والهجران وقد على وقد
بكل تداوينا ولم يشف ما بنا .... على أنَّ قرب الدار خير من البعد
بلى ليس بعد الدار يا صاح ضايرٌ .... إذا كان إسماعيل منتجع الوفد
شهنشاه شاهٍ شاه شاهٍ إمامنا .... ووالى ولاة الأمر مسرعة الرفد
إمام سمى فرع السماكين راقياً .... إلى رتبة عليا راق على السعد
[24/أ]إمام ففي الهيجاء عذر بأسه .... أسود السرى هيهات ما صولة الأسد
إمام إذا ضاق الزمان توسعت .... خلايقه الحسنى فجاءت على القصد
وإن ناب أمر معضل قام رأيه .... مقام جيوش عرفت في صفا السرّد
ودبر فالأملاك حافلة به .... فيتضح المطلوب من غير أن يبدي
تضل ملوك الأرض خاضعة له .... فجبارهم عند الملاقاة كالوغد
ذليلاً حقيراً ليس يعرف ما الذي .... يدبره من حاله الذل والكد
به الحمد مقروناً كسى الله وجهه .... بهاءاً ونوراً شاهدين على الحمد
فطالعه المسعود والجَد جَدَهُ .... كذا السعد رق قام منزلة العبد
وللنصر إقبال عليه ترفعاً .... إلى أن رقى الأعداء بالعزم والجد
فإقباله للزائرين جنابه .... كإقبال عطشان على أعذب الورد
إذا شئت أن أحصي صفات كماله .... فذلك شيء ضاق عن حصره جهدي
يعم جميع العالمين نواله .... فيوسعهم جوداً يفوق عن العد
يفكر في أمرٍ إذا زاد أمره .... وإلا فأمر همه ليس عن عمد
وقام مقام الجيش إسفار وجهه .... فلا مقطب يوماً ولا هو بالصلد
ترى القطب والنيرين شسعاً لنعله .... كذا الشمس من خدامه وذوي الوجد
هو البطل المنصور ذو الفجر والعلى .... ورب الندى والأمر والحل والعقد
ورب المعالي والعوالي وبيضها .... وفارسها حقاً إذا قل من يُحدي
ولابس صافي النسج من جود حوكها .... كدُرّ كدرّ كالثواقب كالمد
صنايع داود مواريث أحمدٍ .... ملابس إسماعيل مالكنا المهدي
توارثها من والدٍ بعد والدٍ .... إليه فقرَّت واستقرت من الرد
وأكرم فضل الله في كل أرضه .... فدام ودمنا راتعي عيشه الرغد
له غرةٌ موروثة عن جدوده .... يقصر عنها كل ذي حسب عد
نجوم سماءٍ بل بدور كواكبٌ .... شموس أراضٍ في أراض من المجد
صغيرهم في المهد للأمر خاطب .... كبيرهم للنيرات على مهد
يمهد سبل الحق منذ كان منهم .... إمام ترقى صهوة الطهم الجرد
وما زال منهم حيث كانوا جنوده .... له الفضل بعد الله من فيض ما يسدي
فيا أيها المنصور بالسعد جده .... ويا أيها المشكور بالحمد والمجد
خذ الفوز في إسعاف حالي تجد به .... ثواباً فإني والزمان على حقد
وإني وإن كنت الغريب فإنني .... تجاه أمير المؤمنين ذوي جد
ألا لا أري الأيام فيّ شماتة .... إذا كنت لي فالدهر يخدمنى وحدي
لقد طال مكثي يا ابن بنت محمد .... فخذ بيدي واغنم ثناي مع حمدي
[24/ب]ولا تستمع قول الوشاة فقلَّما .... يحاول واشٍ غير أغراض ذي ود
فخذها ابن أم الجود من فكر خادم .... بمدحكم أغلى من العسجد النقد
بقيت لنا كهفاً لهفاً وموئلاً .... وبحر نوالٍ لم يزل دائم المد
عليكم سلام الله ما هب شمألٌ .... على أثلاث الجزع فالبان فالرندِ
وللولد السيد شرف الدين الحسن بن المطهر-حفظه تعالى-:
لك الخير دعني أي هذا المعنف .... ونفسي فمنك النصح قولٌ مزخرف
بسمعي عن العذال وقرٌ فلم يصخ .... وقلبي عصي عنهم متعنف
أإن سمتني ذا لوعةٍ وصبابة .... ودمعي على الخدين هامٍ يكفكف
حسبت بأني هايم القلب في الدمى .... ثكلت وإني بالخرائد مكلف
وإني سباني طرف أغيد أكحل .... وإني سباني مايس القد أهيف
فتعساً لقلبي إن هواها وشفه الـ .... ـظمى نحو لميا ريقها العذب قرقف
ولكنني أهدى المعالي عزيزة .... فيا ناقتى سيراً ويا عُذَّلي قفوا
وحثي حتى تدركي العز والعلى .... إلى حيث أثمار المعالى تقطف
إلى حضرة السامي على الخلق عن يدٍ .... وأكرم من يولي الجميل ويُنصف
إمامُ الهدى سُم العدى واسع الجدا .... بحار الندا عن كفه ليس تنزف
إمام به الأيام تضحك فرحة .... عليها طيور السعد والنصر عُكَّفُ
بدا في سماء المجد بدراً فأشرقت .... به الأرض وانجابت بذلك أسدُف
به رفعت أعلام آل محمد .... كما خفض الشرك الذي أهله نفوا
وللعدل والتعريف كل مكدر .... على الدين ممنوع التغايير يصرف
ومن سنة المختار كل منكر .... غدا وهو للناس الجميع معرَّف
بدولته الإيمان واليمن سحبه .... على اليمن السامي به هن وكف
لهم حرم والناس في ساير الدنا .... ومن حولهم مع ما لهم يتخطف
هو الناس إلاَّ أنه غير قُلَّبٍ .... هو البدر إلا أنه ليس يَكْلَفُ
هو البحر إلاَّ أنه الحلو مشرباً .... هو البَرُّ إلاَّ أنه ليس يخَلِفُ
هو الليث إلا أنه غير موحش .... هو الغيث إلا أنه ليس يصدف
يداه لمن يبغي نداه تسارعا .... ببحرٍ مديدٍ من نضار فيغرف
[25/أ]وأفكاره كم أنتجت من جواهر .... العلوم التي ما قد نحاها مصنف
يقسم في الطاعات لله وقته .... وذلك طبع لا زم لا تكلف
فطوراً لرب العرش يبكي تذللاً .... بمحرابه والدمع في الخد يذرف
وطوراً يحل المشكلات وتارة .... أوابدها اللاتي شردن يولف
وطوراً لشمل المشركين مبدِّدٌ .... وطوراً لشمل المسلمين مؤلف
وآونةً في جحفل ترتمي به .... عناجيح للبيد التناييف تخطف
ينهل مهما شاء كل عصبصب .... ويدني بعيد الأمر منه ويزلف
فيحشد أرضاً أمها الأرض كلها .... وتلك به تزداد قدراً وتشرف
إذا قال فالدر الثمين جنادل .... وإن صال فالشم الشوامخ ترجف
بذا اقتربت أعداؤه مذ تلاهم .... إذا جاء نصر الله والفتح مرهف
وكم صنعوا من إفك أسحارهم له .... وألقوه لما جمَّعوه وألفوا
فألقى عليهم عزمه متوكلاً .... فكان عصا موسى له يتلقف
وجمعهم مثل والهشيم مكسر .... وريح مواضيه البواتر جرجف
حوى المجد طراً والفضايل عن يدٍ .... فمن رام يحصيها فذاك التصلف
هي الشمس ألا أنها الشهب كثرة .... ولا الشهب محصاة ولا الشمس توصفُ
فيا ابن رسول الله يا خير قائم .... على منبر العلياء والعدل يعرفُ
ويا نجل من ضاء الزمان بنورهم .... ومن قبل قد مدت من الشرك أسجفُ
ويا وارث المجد التليد وشايداً .... قواعده من بعد ما هو أحنفُ
ويابن أمير المؤمنين وصنوه .... وأنت أمير المؤمنين المشرفُ
لك الله ما هذا الفخار الذي له .... دلايل اعجازٍ وآيٍ يكشفُ
سموت فأرباب الفضائل كلهم .... على زعمهم من دون شأواك وُقَّفُ
بقيت لنا ذخراً وكهفاً ومعقلاً .... منيعاً بألطاف المهيمن تحفف
وللدين عمَّاراً وللشرك هادماً .... وللأفق بدراً نيراً ليس يخسف
وهاك نظاماً ظاهر النقص زانه .... مديحك لا اللفظ البديع المرصف
أروم به منك الدعاء الذي به .... لفضلك كم قوم ذوي سقم شفوا
تشريف نظمي والتماس تبركٍ .... فمدحك أعلى كل مدح وأشرف
وخذها وأسبل ثوب ستر تفضلاً .... إذا شابها نقصانها والتعسف
فلولا ودادك الذي قد غديته .... رضيعاً بحمد الله والله أعرف
لما ساعدتني مع فهاهة باقلٍ .... على عظم المرمى قوافٍ وأحرفُ
[25/ب]ودم رافلاً في ثوب نصرٍ وسؤدد .... وكل الذي تهوى وترجوه مسعف
عليك صلاة الله بعد نبيه .... كذا الآل ما لبى الأنام وعرفوا
............................................................
[26/أ]...................................................
[26/ب][فصل في ذكر عيون العلماء في وقته والقائلين بإمامته من الذرية النبوية والفرقة الزيدية وغيرهم]
وهم طبقتان كما تقدم في سيرة أبيه وأخيه-عليهما السلام-:
الأولى: الذين عاصروه من أصحاب أبيه وأخيه ومن في طبقتهم وقد تقدم ذكرهم ونسبهم وبعض من شريف خلالهم وإعادة ذكرهم هنا لشهادتهم بإمامته واستنادهم إلى ولايته.
والطبقة الثانية: الذي فقهوا في زمانه وانتشر علمهم وفضلهم في أوانه من أهل البيت -عليهم السلام- وشيعتهم-رضي الله عنهم-.
منهم السيد العلامة، البحر الفهامة، شيخ آل الرسول، وحجة ذوي العقول، أحمد بن محمد بن صلاح القاسمي الشرفي وقد تقدم.
ومنهم السيد العلامة علي بن إبراهيم الحيداني، وقد تقدم، توفي في شهر شوال سنة إحدى وسبعين وألف[يونيو 1660م].
ومنهم السيد العلامة حسام الدين ناصر بن محمد بن يحيى المعروف بصبح القاسمي الغرباني، وقد تقدم، توفي عام اثنين وسبعين وألف[1661م] في شهر رجب.
ومنهم السيد العالم الزاهد الورع العابد المحتاط عزالدين محمد بن الحسن بن شرف الحمزي الكحلاني، وقد تقدم (توفي في سلخ شعبان من سنة ثلاث وستين وألف) [1652م].
ومنهم السيد الفاضل فخر الدين عبدالله بن أحمد بن إبراهيم القاسمي الشرفي، وقد تقدم (توفي سنة إحدى وستين وألف) [1650م].
ومنهم السيد (الفاضل الطاهر) العالم (فخر الدين) أحمد بن محمد بن صلاح اليحيوي القطابري وقد تقدم (توفي سنة سبعين وألف) [1659م].
ومنهم السيد العلامة المجاهد الصمصامة شمس الدين أحمد بن علي الشامي وقد تقدم، توفي يوم الأحد في شهر شوال عام إحدى وسبعين وألف[1660م].
ومنهم السيد الفاضل العالم علم الدين القاسم بن نجم الدين الهادوي من هِنْوَم، توفي سادس شهر الحجة الحرام عام أربع وستين وألف [29 أكتوبر 1653م] في بلدة من جبل ذري .
(ومنهم السيد الجليل العالم النبيل شرف الدين الحسين بن محمد المحرابي) وقد تقدم.
ومنهم السيد الجليل المجاهد العلامة فخر الدين عبدالله بن عامر بن علي [ابن] عم الإمام -عليه السلام- كان-رحمه الله- عالما متفنناً على طريق قدماء العترة -عليهم السلام- كثير الرواية عنهم، مشغوف بها، كثير الصدقة لا سيما على ضعفاء الأشراف، وله مؤلفات نافعة وأشعار كثيرة، توفي في شهر رجب سنت ستين وألف[أكتوبر 1650م].
ومن أهل بيته الطاهر[27/أ] وشركائه في نسبه الطاهر، وفرع مشكاة نوره الزاهر، وهم طبقتان أيضاً كلهم حرصوا على العلم فكانوا قراره، وولعوا بجماع الحمد فكانوا شموسه وأقماره، زادهم الله فضلاً ونبلاً.
منهم مولانا السيد الإمام، ومليك العترة الكرام، وتاج الشرف في جماعتهم الأعلام، محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين المنصور بالله، له العلم الغزير، والفضل الشهير، مشغوفاً بهما، حريصاً عليهما، أشبه الناس بعمه أمير المؤمنين المؤيد بالله -عليه السلام- مع النهضة والرئاسة، والحلم والأناة والسياسة، يلي غالباً أعمال الخاصة والعامة بنفسه، ويجمع بقلمه الشريف أرزاقهم والنظر في أرفاقهم في القرب والبعد بما لا يعلم في غيره، وله صفات مفيدة، ومسايل عديدة، ورسائل بالغة -أمتع الله بحياته- وقد تقدم.
ومن كراماته الشهيرة ما كتبها القاضي العلامة الورع الفهامة محمد بن إبراهيم بن يحيى السحولي -أطال الله بقاه- ما لفظه: ومن الغرايب أنه وصل إلى صنعاء في تاريخ واحد وعشرين من شعر صفر سنة اثنين وسبعين بعد الألف[26 اكتوبر 1661م] كتاب من سيدي جمال الدين علي بن أحمد بن أمير المؤمنين-حفظه الله- ما صورته: بسم الله الرحمن الرحيم، شهد من سنذكر والله خير الشاهدين بأنه لما كان آخر شهر محرم سنة اثنين وسبعين بعد الألف [26 أغسطس 1661م] ذبح الجزار علي بن صالح بن علي رأس غنم في مجزرة مدينة صعدة المحروسة بالله فوجد في بطن ثوب الكبش مكتوباً بقلم القدرة الإلهية محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين-وفقه الله-وكتب سيدي جمال الدين شهادته ومن وقف على ذلك، فقال: علي بن أحمد بن أمير المؤمنين وفقه الله أحمد بن صلاح الوحشي-وفقه الله- السيد حسين بن غوث الدين الذي حضر على القليل وغيره مراراً كثيراً، وعبده علي شجرة الوادعي، قال: اطلعت على كسرة من شحم ثوب بطن مكتوباً فيها بعروق الدم ما هذا شكله: محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين وشهد صلاح بن علي الهدوي-وفقه الله-.
ومنهم مولانا السيد العلامة جمال الإسلام والمسلمين علي بن أمير المؤمنين المؤيد بالله، عالماً، متبحراً، من أوعية العلم المصون، وهو مع ذلك ورع زاهد خفي الزهد لا يعلم أنه عمر حجراً على حجر ولا توسع كغيره مما وسع الله به على المسلمين على يدي سلفه -صلوات الله عليهم- وقد تقدم.
ومنهم أخوه السيد العلامة السخي، الرئيس الناهض الكمي، شرف الدين الحسين بن[27/ب] المؤيد بالله معروف السخاء والصبر وكمال المروة، وطهور الفتوة وقد تقدم.
ومنهم السيد العلامة الفهامة عزالدين محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله، كان ذكياً فهماً، كاتباً، بليغاً، أميراً، منصوراً، وقد تقدم، توفي -رحمه الله- ثاني شهر شوال عام سبعة وستين وألف[14يوليو 1656م] وقبر في باب السبحة في نعيٍ مشهور هنالك، وفيه مراثي ما قاله الفقيه وجيه الدين عبدالرحمن بن محمد الحيمي -رحمه الله تعالى-:
أيدري من يضمنه اللحود .... وأي فتى يكنفه الصعيدُ
وأية بضعة للمصطفى قد .... حواه القبر واللحد المشيدُ
وأي مهذب لاعيب فيه .... سوى أن ذكر علياه تزيدُ
ففيه الغيث والغوث المرضى .... وفيه المجد والبحر المديدُ
سقاك محمد غيث ملت .... صدوق الودق هطال يجودُ
شرفت معالياً وسموت مجداً .... لذكر لا يزول ولا يبيدُ
فيا نجل الحسين انعم طويلاً .... بدار عيشها عيش رغيدُ
وللفقيه العلامة جمال الدين علي بن محمد بن سلامة -عافاه الله تعالى-:
هي القصة العظمى خطوب تعاظمت .... فيا ما أجل الخطب هذا وأفجعا
نديم التقى قد صار ينعي فينبغي .... بأن خطوب الدهر أن تتوقعا
فيا ناعياً للمجد والجود والتقى .... أخالك مسلوب التقى ومروعا
بنعيك هذا أنهدَّ ركن مشيد .... من المجد والدين الحنيف تضعضعا
وأضحت ربوع المجد وهي عطيلة .... وتجري من الأحزان والوجد أدمعا
أتدري بفيك الترب من ذا نعيته .... نعيت التقى والعلم والمجد أجمعا
عجبت لشخص كيف أصبح ناعياً .... أعزَّ بني الأيام قدراً وأرفعا
سليل الحسين المتقى خير من رقى .... رقا المجد حتى إذ علاه تصدعاً
كبدر تمام تم في الكون نوره .... فعاد إلى نقص من العمر مسرعا
أبا أحمد من للعلوم ونشرها .... وكل فتى يبكي عليك توجعا
وكنت لأرباب الهداية رافعاً .... وكادت جبال الأرض أن تتزعزعا
أبا أحمد من للنوايب إن دهت .... وفي نشرها والدرس قد كنت مولعا
[28/أ] أبا أحمد من للكريهة والوغاء .... وكنت على الأعداء فضاً ومقضعا
لئن مات عز المسلمين محمد .... فمن بعده ساداتنا أنجمٌ معا
فأبناؤه لاحت فضايلهم لنا .... وقد كنت ترمي الجيش بالجيش متبعا
وآبناء عم كالليوث حمامهم .... فمن بعده سادوا وجاءوا أنوعا
نجوم هدى فيهم أبو البدر حاملاً .... إلهي فقد شادوا من المجد أربعا
إمام التقى إسماعيل أفضل قايم .... لأعباء هذا الدين أفضل من دعا
ففيه لنا خيرٌ لكل مصيبةٍ .... فلا زال للإسلام كهفاً ومرجعا
ولا زال ملجا للأنام جميعهم .... ودام لنا ذخراً وحصناً ممنعا
وبعد صلاة الله تغشى محمداً .... مع آله خير البرية متبعا
ومنهم السيد الكبير، والعالم الشهير، سيف الخلافة النبوية، وعميد العصابة العلوية، أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين المنصور بالله، له في العلم الحظ الأوفر، ومن وظائف الطاعات النصيب الأكثر، وفي الجهاد الفعل الأشهر، إنما هو عميده، وقرن جديدة، أمتع الله بحياته.
ومنهم السيد الفاضل الطاهر الكامل التقي السخي العلامة صارم الدين إبراهيم بن أحمد بن عامر بن علي ، له في فنون العلم اليد الطولى والرتبة العلياء قرأ على خاله (أمير المؤمنين) المؤيد بالله -عليه السلام- وكان له عنده المنزلة العظمى، وله مع سعة علمه وشحيح ورعه والإحتياط السخا الذي فاق به أهل زمانه، لا يعوّل على الدنيا ولا يطلبها، كثير الصمت والصدقة، مألوف بالمساكين لا سيما الأشراف، وله أولاد فضلاء يتلونه في طريقته بلَّغهم الله رضاه في طاعته، توفي (رحمه الله) سابع عشر من شهر رجب سنة ست وخمسين وألف [1646م] وقبره إلى جنب أمه-رحمة الله عليهما- في صرح قبة جده أبي أمه المنصور بالله-صلوات الله عليه-.
ومنهم السيد الفاضل، العلم العامل، الزاهد العابد، عماد الدين يحيى بن الحسين زين العابدين بن أمير المؤمنين المنصور بالله، هو أشبه أهل بيته بطبقة علي بن الحسين زين العابدين -عليه السلام- في العزلة عن الدنيا وأهلها، والإقبال على العلم والأوراد الصالحة، والإنقطاع إليها، وهو على ذلك زاده الله شرفاً في مسجده المعروف في باب السبحة من صنعاء المحروسة بالله.
ومنهم السيد العلامة الفاضل، والعلم الشهير الطايل بالكرامات[28/ب] الشهيرة القاسم بن أمير المؤمنين المؤيد بالله بن الإمام المنصور بالله - عليهما السلام- معروف بسعة العلم والعمل مع معرفة أمور الناس وأحوالهم.
ومنهم صنوه الفاضل العالم الكامل أحمد بن أمير المؤمنين المؤيد بالله -عليه السلام- هو تلو أخيه في شريف خلاله، وجميع كماله -أمتع الله بحياته-.
ومنهم السيد الجليل الكامل العالم العامل علي بن يحيى بن أمير المؤمنين المؤيد بالله -عليه السلام- [كان] عالماً، حافظاً، وربيباً، ناهضاً، له في كل فن قراءةٌ ورواية -أمتع الله بحياته-.
ومنهم السيد الطاهر والنجم الزاهر يحيى بن الحسين بن أمير المؤمنين المؤيد بالله -عليه السلام- [كان] عالماً كبيراَ شهيراً، يومى إليه بالإجتهاد ودرجة الإقتصاد مع الورع الشحيح، مما أخبرني من خالطه من الأصحاب ونقلوه من بعض أخباره منهم الولد الحسين-أسعده الله- أنه صحبه في بعض الأيام فلم ير له وقتاً يتعلق بثوايب الدنيا، وإنما دأبه العلم والأوراد ليلاً ونهاراً، وأنه إذا ورد عليه من يذكر الدنيا وحوائجها والناس وأمورهم، ابتدأه بالحديث الذي يتعلق بالعلم والمواعظ. قال: ولما رأيت ذلك من دأبه، ومقدم آدابه، قلت له: يا سيدي مثل هذا الرجل إنما هو من أهل الدنيا في اختلاف أغراضهم، يريد منك الخوض في ما يتعلق بغرضه، فقال: أنا أعلم ذلك ولكن أحب أن أشغله بحديث لا يحبه فيسارع إلى القيام عني لئلا يشغلني أو يذكر أحداً عندي بما لا يجوز من غيبة أو نميمة أو نحوهما، ولرجاء أن يقل المخالطون من مثله فلا خير في مخالتطهم أو كما قال.
ومنهم السيد العلامة الرئيس الكامل جمال الدين علي بن أحمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله[كان] عالماً كاملاً، وملكاً عادلاً، إليه ولاية صعدة وما والاها، وله في سياستها وحفظ أمورها ما يأتي بعضه في السيرة إن شاء الله تعالى.
وفيهم -أيدهم الله- غير ما ذكرنا ممن هو في طلب عالي منازلهم، والناس بأفعالهم وأقوالهم، وهم عيون منهم أولاد مولانا المتوكل على الله وغيرهم من بني عمومتهم -أمتع الله بحياتهم- الإشارة إلى ذكرهم جامعة، والتفصيل لما سيأتي عن الخلق متقطعة، والله الموفق.
ومنهم السيد العلامة المصّقِع الفهامة عماد الدين يحيى بن أحمد بن محمد بن صلاح القاسمي الشرفي، من عيون العترة علماً وعملاً، وورعاً وزهداً، يبلغ درجة الإجتهاد مع ماله[29/أ] من الذكاء والفطنة مع معرفة أمور الناس -أطال الله بقاه- أخذ العلم عن والده -رضوان الله عليه- وعن الإمام المؤيد -عليه السلام-.
ومنهم السيد الفاضل العالم العامل محمد بن الحسين بن محمد المحرابي، أخذ العلم عن كثير من العلماء منهم أبوه وعمه وغيرهم، يروى عنه زهادة وورعه واحتياط، توفي[ ] .
ومنهم السيد الجليل العالم النبيل جمال الدين علي بن يحيى بن عبدالله الهادوي من هجرة مدوم من بلاد الشرف ويسكن قرية المدان من جبل هنوم.
ومنهم من سادة صعدة المحروسة بالله السيد العالم الصابر المرابط، ذو العلم الأوفر والجهاد الأكبر محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين الحسن بن علي بن داود بن الحسن بن الإمام علي بن المؤيد بن جبريل بن الأمير المؤيد بن أحمد بن الأمير يحيى شيخ آل الرسول بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الناصر بن الحسن الإمام المعتضد بالله عبدالله بن أحمد بن الإمام الهادي يحيى بن الحسين-صلوات الله عليه- كان عالماً، كاملاً، رئيساً، ناهضاً، فارساً، مقداماً، جمع كثيراً من فنون العلم مع السياسة الحسنة، والرئاسة الصالحة، توفى أواخر شهر الحجة الحرام عام اثنين وستين وألف [3نوفبمر 1651م] في بندر المخاء المعروف، وكان إليه ولايته مع المِخْلافُ الجَعْفَري . وحمل إلى مدينة حيس بوصية منه -رحمه الله- وكان إليه ولايتها أيضاً، ودفن هنالك.
ومنهم السيد العالم البليغ المصّقِع شرف الدين الحسن بن أحمد بن محمد بن الجلال اليحيوي له في فنون العلم اليد الطولى، وله مجموعات فيه تحتوي على علوم واسعة، يبلغ درجة الإجتهاد، أخذ عن كثير من العيون، منهم مولانا شرف الدين الحسين بن أمير المؤمنين وغيره، وبعد فتح صنعاء المحروسة لقي عالمها الكبير، ومفتي الفرق الشهير، محمد بن عزالدين بن صلاح بن الحسن بن الإمام الهادي علي بن المؤيد -رحمه الله- وأخذ عنه علماً كثيراً، وتزوج ابنته وسكن في صنعاء، ويغلب عليه اختيار الجُرَاف وطناً.
ومنهم السيد العلامة الفاضل الطاهر الكامل عزالدين بن دريب بن مطهر بن عيسى بن دريب بن أحمد بن محمد بن عيسى بن واصل بن مضا بن سرور بن وهاس بن سلطان بن منيف بن إدريس بن محمد بن أويس بن يحيى بن علي بن داود المحمود بن سليمان بن الجواد بن عبدالله البر بن موسى الجون[29/ب] بن عبدالله الكامل بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عليهم السلام- الموسوي، الحسني، التهامي، وله في فنون العلم اليد الطولى والمحل الأسمى، قرأ كثيراً على الإمام المؤيد -عليه السلام- وعلى غيره من كبار العلماء، واختص بملازمة حي السيد العلامة أحمد بن محمد لقمان بن أحمد بن شمس الدين بن الإمام الأعظم المهدي لدين الله أحمد بن يحيى -عليه السلام- واستقر في نواحي كوكبان - أطال الله بقاه-.
ومنهم السيد العلامة الفاضل الحاكم العادل علي بن الحسن بن محمد بن الحسن النعمي التهامي عالماً عاملاً، ولي للإمام -عليه السلام- القضاء في صبيا والمخلاف، ويروى عنه نهضته وقوة في القضاء.
ومنهم السيد العلامة الفاضل المتفنن شرف الدين الحسن بن علي بن صلاح القاسمي العبالي ، كان عالماً، عاملاً، كاملاً، توفي عام خمس وخمسين وألف [1645م] بظفير حجة، وله عقب فضلاء، أمهم الشريفة الفاضلة الطاهرة جُمانة بنت أمير المؤمنين المنصور بالله -عليه السلام-.
ومنهم أخوه السيد العلامة الفاضل المجاهد الحسين بن علي بن صلاح، من أهل الفضل والعلم والورع، سكن شهارة والظفير .
قرأ على الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- وعلى والده الإمام المنصور بالله -عليه السلام- وغيرهم.
ومنهم السيد الجليل الفاضل، العالم المجاهد، أحمد بن الهادي بن هارون بن الحسن الهادوي ، له في العلم حظ وافر، وفي الجهاد والورع والاحتياط أثر طاهر، توفي في صنعاء يوم الخميس في شهر جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين وألف[يناير 1660م] ودفن في جربة الروض المشهورة.
ومنهم السيد العلامة المجاهد المهدي بن الهادي اليوسفي الهادوي ، سكن النُوعة من بلاد خولان عالماً مجاهداً، توفي في شهر صفر أو ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وألف[1662م] بعد أن عاد من غزوة فَيْفا الآتي ذكرها، وله في هذه الغزوة خاصة جد واجتهاد، قيل: أنه جهز خمسين أو مائة رجل من ماله وأنفق عليهم، وتوفى عقب ذلك.
ومنهم السيد الفاضل العالم جمال الدين علي بن محمد بن المنتصر اليوسفي الهادوي فقيهاً محققاً مدرساً-أطال الله بقاه-.
ومنهم السيد الزاهد، العالم الورع، محمد بن علي المعروف بالفوطي فإنه سكن فوط من بلاد خولان، له ورع ونُسك وتقشف كثير فضعف قواه لذلك وخولط في عقله، وقد تقدم في سيرة الإمام االمؤيد بالله شيء من أحواله، ولما خرج من الحفظ عليه في صعدة[30/أ] عاد لحاله الأول ولا إليه التفات إلا بمعرفة فضله مع اختلال عقله، وكان كذلك في بعض مخاليف صعدة ومساجدها يظهر التخوف ولا طالب له حتى توفي في الطويلة من مِخلاف صَعْدة في عام سبعين وألف أو تسع وستين ويشاح على قبره أهل صعدة وأهل الطويلة والمخلاف وهو هناك مزور مشهور.
ومنهم السيد الجليل العلامة فخر الدين أبو المساكين عبدالله بن عامر بن علي عم الإمام -عليه السلام- [كان] عالماً، كبيراً، كثير الرواية عن قدماء العترة -عليه السلام-، مشغوفاً بها، كثير الصدقة والبر، له مؤلفات نافعة، وأشعار واسعة، توفي في شهر رجب سنة ستين وألف[يونيو 1650][في هجرة حوث ] .
ومنهم السيد العلامة الكامل الفهامة صارم الدين، سليل الأئمة الهادين، إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عزالدين بن علي بن الحسين بن الإمام عزالدين بن الحسن بن الإمام علي بن المؤيد بن جبريل بن الأمير المؤيد بن أحمد الملقب بالمهدي بن الداعي إلى الله شيخ آل الرسول يحيى بن أحمد بن يحيى [كان] عالماً، متفنناً، وله دعوة بعد وفاة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- وله فيها أخبار طويلة، نأتي بما أمكن منها إن شاء الله. ولم نسمع عن أحد من علمائنا وصفه بنقص في العلم إلاَّ بما سيأتي إن شاء الله من الترجيح لتأخره في ذلك.
ومن أهل شهارة السيد الجليل العالم المفيد شرف الدين الحسين بن محمد بن علي الحسيني الحوثي ثم الظفري، له معرفة تامة في جميع الفنون، معدود في العلماء العيون-أطال الله بقاه-.
ومنهم السيد الفاضل العالم العامل شرف الدين الحسين بن صلاح بن عبدالرحيم بن الباقر بن نهشل من أولاد الإمام المطهر بن يحيى -سلام الله عليه- [كان] فقيهاً، عالماً، مفيداً، مدرساً في جامع شهارة المحروسة بالله- أطال الله بقاه-.
ومنهم السيد العلامة الفاضل الورع الكامل، صارم الدين إبراهيم بن يحيى الجحافي القاسمي [كان] ورعاً مدرساً، مفيداً، ولي القضاء في بلاد ظُلَيْمَة ونواحيها، إلى أن توفى في شهر شعبان سنة ثمان وستين وألف [مايو 1657م] في ظُلَيْمَة.
ومنهم السيد الفاضل العالم الكامل ضياء الدين إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى الحجافي تلو أبيه في الكمال ومحامد الخلال -أطال الله بقاه-.
ومنهم السيد الجليل العالم الفاضل جمال الدين علي بن يحيى بن علي بن إبراهيم بن المهدي الجحافي [كان] مدرساً في حبور، توفي [ ] .
ومنهم السيد الفاضل العالم الكامل عزالدين محمد بن إبراهيم بن المفضل بن علي بن أمير المؤمنين يحيى شرف الدين -عليه السلام- [كان] عالماً، عاملاً، مدرساً مفيداً، له اليد الطولى في كثير من العلوم سيما[30/ب] في علم العربية، مقيماً في محروس كوكبان -حرسه الله بالتقوى-.
ومنهم السيد الجليل الأديب النبيل صفي الدين أحمد بن الحسن بن أحمد بن حميد الدين بن المطهر بن أمير المؤمنين [كان] عارفاً، كاملاً، توفي في شهر محرم عام اثنين وسبعين وألف[أغسطس 1661م] .
ومنهم السيد الشهير ذو العلم الكثير عز الدين بن علي الهادوي العبالي الحجي -أطال الله بقاه-.
ومنهم السيد الكبير والأمير الشهير هاشم بن جازم بن راجح بن أبي نمي الحسني المكي ، كان عالماً كبيراً، مجاهداً، فارساً، شجاعاً، بطلاً، له المقامات المحمودية، والمآثر المشهورة، ولي تِهَامة جميعاً بعد فتح زَبيِد وقبله، توفي -رحمه الله- في شهر جمادى الأولى أو ربيع الأخرى عام خمس وخمسين وألف[1645م]، وقبره في زبيد من باب الحداد مزور مشهور-رحمة الله عليه-. آمين.
ومنهم السيد العالم الحاكم جمال الدين علي بن صلاح العباسي العلوي الضلعي من بلاد كُحلان تاج الدين، إليه القضاء في كحلان وبلاده، والتدريس في أيام الإمام المؤيد بالله، والمتوكل على الله-عليهما السلام- وله نهضة في القضاء وعزيمة في الإمضاء، مع الورع والإتقان -أمتع الله بحياته-.
ومنهم السيد الأعلم فخر الدين عبدالله بن الهادي بن محمد بن علي المحرابي إليه القضاء في حضرة مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن-أيده الله- ثم ولي القضاء في اليمن الأسفل -أمتع الله بحياته- وببقصور هنا عيون، والمتروكون أكثر للعصور.
ومنهم السيد الكامل صلاح بن علي بن الحسين بن أخي السيد العلامة محمد بن علي الملقب بأبي علامة المؤيدي ، كان سيداً وحيداً في الكمال والأراء، وله شرح حسن على (الكافل في أصول الفقه).
ومنهم السيد العلامة المدرس الحسين بن محمد المفتي التهامي ، كان إماماً في الفقه، قام بالتدريس في جامع صنعاء وانتفع به الناس، توفى يوم[ ] في شهر[ ] عام اثنين وسبعون وألف[1661م].
ومنهم السيد العابد العارف المهدي بن محمد المفتي، التهامي ، كان فقيهاً فاضلاً، رأى في بعض الليالي ملك الموت يطوف به بساتين وحدائق، وقال: هذه لك وقد دنا أجلك، وهو إذ ذاك في صعدة فاستمهل منه لزيارة رحمه في تهامة، فقال: هيهات ذلك، ولم يزل يراجعه حتى قال: وفاتك الأثنين فاشتغل السيد -رحمه الله- بأهبته ثم مات والأصحاب في منزله[31/أ]، كذا حكاه القاضي شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال-أطال الله بقاه-.
ومنهم السيد الجليل العالم النبيل [عزالدين بن علي بن الحسن بن محمد] النعمي قاضي الحج عن أمر مولانا أمير المؤمنين-أيده الله-.
ومنهم السيد العلامة جمال الدين علي بن الحسين بن علي بن إبراهيم الجحافي عالماً مجدداً تلو أبيه الحسين -رحمة الله عليه-.
ومنهم صنوه عبدالله بن الحسين بن علي، له (الفهم الوقاد والتمييز النَّفاذ) أثنى عليه القاضي المذكور عن خبرة ودراية تركناه إيثاراً للإختصار.
ومنهم السيد العابد المثل عماد الدين يحيى بن إبراهيم بن المهدي .
قال القاضي المذكور: وقد أغرق في وصفه بما يطول، هو الآن قاضي حبور المحروسة وعامر مفاخر آبائه المأنوسة-أطال الله بعمره-.
ومنهم السيد العابد المتأله شيخ وحده، وفريد وقته، محمد بن عزالدين المؤيدي، عُرف -رضي الله عنه- بإبن العنز؛ لأنه رضع من عنزة، وله في ذلك أخبار تدل على كرامته على الله، وكان من عباد الله الصالحين، وله كرامات تذكر، وفضائل تشهر، توفي [ ] .
ومنهم السيد العلامة المجتهد، جمال الدين الهادي بن عبدالنبي بن حطبة الهادوي من ساكني بلاد خولان، له أخبار وآثار في وظايف الطاعات مستحسنة، توفي [ ] .
ومنهم السيد العارف، بدر سماء الفضل والمعارف، عز الدين محمد بن إبراهيم بن المفضل بن علي بن أمير المؤمنين المتوكل على الله يحيى شرف الدين.
قال القاضي أحمد بن صالح في بعض وصفه: هو لسان العلوم، ولسان المنطوق منها والمفهوم، إلى قوله: حافظ متقن، ارتحل إليه الطلبة وانتفعوا به في العلوم جميعها، وهو على ذلك وفوق ذلك -أمتع الله به الإسلام-.
[علماء الشيعة الذين أيدوا دعوة الإمام المتوكل على الله]
وأمَّا عيون الشيعة والأخيار، والعلماء الأقمار الأبرار، الذين قاموا بدعوته واستندوا إلى إمامته، منهم: القاضي العلامة، البحر الفهامة، الحبر، شمس الدين أحمد بن سعد الدين بن حسين بن محمد المسوري -أطال الله بقاه- هو لسان العلماء في وقته وخطيبهم في مدته، وله مع سعة العلم من الزهادة والورع والاحتياط[31/ب] ما يليق بمثله، معروفاً بالبلاغة وخلوص التشّيع، كتب مع الإمام المنصور بالله -عليه السلام- في آخر أيامه، واختص بالكتابة لإمامنا المؤيد بالله -عليه السلام- ثم للإمام المتوكل -عليه السلام- والخطابة مع الإمامين، عالماً عاملاً، لا يعلم له في زمانه بنظير في العلم والعمل والإخلاص لله عز وجل.
أمَّا العلم النافع فكما قال بعض علمائنا: إنه في هذا الأوان كالقاضي جعفر بن أحمد بن عبدالسلام في الماضي من الزمان.
وأمَا الكتابة وخطابات العلماء من أهل المذهب والملوك على اختلافها، والعامة من العامة فمما لا يمكن حصره ولا يدرك غوره.
وأمَّا الشعر في المواعظ والرد على ما خالف الحق والمدائح النبوية والتوسل إلى الله سبحانه وأهل بيت نبيه، فمما يقال فيه جزماً عزماً إنه لم يحذُ أحد مثاله ولا يجري منواله.
قال بعض الفضلاء: إنه توسم قدر المدائح النبوية، وما يتصل من ذكر العترة المطهرة الزكية، إنها أكثر من مأتي قصيدة، منها ما تجاوز المائة البيت، وأنه يبعث في كل عام قصيدة تلقى في الحجرة النبوية، وكذلك الخطب لا يعد خطبهُ وإنما يخترع كل جمعة خطبة غير الأولى، فإذا نزل من المنبر أعطاها أول سائل له، وله في السخاء والإيثار والمروة ما يليق بمثله وينيف على شكله، لا سيما الضعفاء الأشراف، ولو يذكر بعض تفصيل لهذه الجملة لطال -أمتع الله بحياته وأعاد من بركاته- [توفي في محروس شهارة في شهر محرم الحرام سنة تسع وستين وألف[1658م] رحمه الله] .
ومنهم القاضي المكين، ذو العلم الرصين، الأصولي المحقق، المحدث المدقق، شمس الدين أحمد بن صالح العنسي العياني، وقد تقدم، توفي في صنعاء عام ثمان وستين وألف[1657م].
ومنهم القاضي العلامة صلاح الدين بن على الوشاح الحاكم الهدادي الآنسي وقد تقدم، توفي عام ست وخمسين وألف[1646-1647م] كان عالماً فقيهاً، ولي القضاء في ألهان ثم في الحصين من ضوران، وقبره مشهور في بلده من هَداد .
ومنهم القاضي العلامة الفقيه المحقق عماد الدين يحيى بن محمد بن علي بن معوضة الشبيبي الجودي ولي القضاء في بلده، ثم في مدينة ذمار، توفي عام خمس وستين وألف[1654م].
ومنهم ولده القاضي الفاضل الورع جمال الدين علي بن يحيى الشبيبي ولي القضاء في مغارب ذمار والتدريس-أمتع الله بحياته-.
ومنهم القاضي العلامة الحبر المفيد شمس الدين أحمد بن سعيد بن صلاح الهبل الخولاني وقد تقدم، توفي عام واحد وستين وألف [1650م] في صنعاء، ودفن إلى جنب[32/أ] السيد عبدالله الديلمي عند المسجد الأبهر .
وأخواه العالمان الفاضلان علي بن سعيد والمهدي ين سعيد ، توفي المهدي في أواخر عام ثلاث وستين وألف[1652م] في الرَوْضَة من أعمال صنعاء.
ومنهم أخوهم الرابع العلامة المحقق عبدالقادر بن سعيد الهبل - أطال الله بقاه-وهو من أئمة الفقهاء في صعدة غير منازع، قل من يأخذ عنه من أهل صعدة ومن هاجر إليها.
وأمَّا القاضي علي بن سعيد مشهور الفضل والورع والزهادة، وكف بصره بعد أيام من وفاة حي مولانا المؤيد بالله- سلام الله عليه- واشتغل بنقل القرآن ودرسه ليلاً ونهاراً وقد تظهر للفتيا.
وأمَّا القاضي المهدي فعلى طريقتهم في الفقه، وله مع ذلك حسن تصرف في الأعمال ولهم إخوة وأولاد نجباء فضلاء من فضلائهم القاضي الفاضل الزاهد شمس الدين أحمد بن صالح بن صلاح الهبل، [كان] عالماً، فاضلاً، مدرساً، إليه ولاية القضاء في بلاد رازح وما والاها- أطال الله بقاه-.
والقاضي الفاضل العالم العامل جمال الدين علي بن جابر بن صلاح الهبل، [كان] عالماً مدرساً في صنعاء المحروسة على طريق عمه وبني عمه-أطال الله بقاه] .
ومنهم القاضي العالم المحقق عزالدين محمد بن صلاح السلامي الآنسي وقد تقدم، كان فقيهاً عالماً [مدرساً] مبرزاً[في الفقه لا يبلغه أحد من أهل وقته] وفي أصول الدين بلغ فيه الدرجة القصوى، شايع حي مولانا الحسن في محروس ضوران واشترى له مولانا الحسن بيت في الحرف ، وقرأ عليه في الفقه، ثم أخذ عليه حي ولده شمس الدين محمد بن الحسن [ ] أحمد علي القاضي إبراهيم[ ] وعلى القاضي صلاح الفلكي وعلى والده صلاح بن علي، ثم شايع المتوكل وأول من بايعه، والمسارعة في البيعة منه أمر عجيب يدل على بركته للإمام المتوكل وثبوت الإمامة فيه، وهي أنه عزم من بيته وأمسى في قرية سما عن قريب من ضوران وفيها وليان صالحان عليهما مسجد، فأمسى القاضي المذكور في ذلك المسجد، فلما كان إلى الليل نبهه ذلك الولي، ويقول: بايع الإمام بايع الإمام، فقام القاضي فطلب [من] القَّيم سَرج ذلك المسجد، وشدّ وعزم وبايع الإمام في وقت وصوله -رحمه الله تعالى- توفي في ثلاث وستين وألف[1652م].
ومنهم القاضي العالم الزاهد[المحقق] عزالدين بن محمد بن صالح بن عبدالله بن حنش، كان عالماً، فاضلاً، زاهداً، ورعاً[وقد تقدم] ولي القضاء والتدريس في مشهد الإمام المهدي أحمد بن الحسين في ذي بين توفي -رحمه الله- [عام أربع وستين وألف [1653م] في شهارة المحروسة بالله تعالى ودفن في مسجد ذي الشرفين ] .
ومنهم الأخوان العالمان جمال الدين علي بن محمد بن سلامة [كان] عالماً، مجتهداً، له مصنفات مُفيدة، والحسن بن محمد بن يحيى بن سلامة [كان]عالماً، زاهداً.
ومنهم [القاضي] العلامة المجتهد الفهامة صارم الدين بن يحيى السحولي ، كان عالماً فاضلاً، ورعاً، كاملاً، ولي القضاء في مدينة صنعاء [المحروسة بالله] إلى أن توفي عام [واحد] وستين وألف[1650م].
ومنهم الفقيه المحقق أبو القاسم بن الصديق البشي التهامي [كان] عالماً، عادلاً، مدرساً، كاملاً -أطال الله بقاه-. [ولي القضاء في زبيد المحروسة بالله بعد فتحها وهو عليه إلى تاريخه] .
ومنهم[32/ب] القاضي العلامة المحقق فخر الدين عبدالله بن يحيى بن حنش .
ومنهم الفقيه الفاضل العالم الصالح التقي حفظ الله بن أحمد بن سهيل ، فقيهاً، فاضلاً، ورعاً، ذكياً، مع سعة العلم والفهم والورعة، بحيث أنه لم يتناول شيئاً من بيت المال.
[ومنهم الفقيه العالم الصالح صلاح الدين صالح بن مسعود الحاجب الشظبي وقد تقدم] .
ومنهم وجيه الدين عبدالحميد بن أحمد بن يحيى بن عمرو بن المعافا [كان] عالماً، أديباً.
ومنهم القاضي الحبر العلامة، العادل الفهامة، صارم الدين إبراهيم بن الحسن العيزري من العلماء الأبرار الصالحين الأخيار، وله مع كمال علمه والورع الشحيح والصبر على أمور المسلمين، وسلامة الصدر، ولو نذكر تفصيل ذلك لطال، توفي -رحمه الله- يوم الجمعة ثاني وعشرين شهر ربيع الأول عام واحد وسبعين وألف[1660م]وصلى عليه الإمام -عليه السلام-، ودفن في جربة الروض مع كثير من العلماء] .
ومنهم القاضي العلامة، التقي، الفاضل، الفهامة، عزالدين محمد بن علي الجملولي ولي القضاء في كوكبان أيام مولانا المؤيد بالله -عليه السلام- وولي القضاء أيضاً في بندر المخاء أيام مولانا -عليه السلام- توفي في شهر رجب سنة اثنين وسبعين وألف[1661م].
ومنهم القاضي الصمصامة برهان الدين المهدي بن عبد الهادي بن أحمد السلامي عالماً، كبيراً، محققاً، يلحق بوالده بالعلم والفضل.
[ومنهم أخوه القاضي، العلامة الذكي، الورع الألمعي، جمال الدين علي بن عبدالهادي عالماً محققاً، متفنناً بارعاً، تلو أخيه -أطال الله بقاهما-] .
ومن فقهاء شهارة المحروسة بالله: الفقيه العلامة [المحقق] عزالدين محمد بن ناصر بن دغيش الغشمي ، فقيهاً، عارفاً، وورعاً محققاً، توفي -رحمه الله- [سنة واحد وسبعين وألف] [1660م].
ومنهم العلامة المفيد المهدي بن جابر بن نصار العفاري فقيهاً، عالماً، إليه القضاء والتدريس في شهارة المحروسة بالله.
ومنهم الفقيه العالم المحقق شمس الدين أحمد بن جابر بن شرف الدين العيزري الأهنومي .
ومنهم الأخوان العاملان، فخر الدين عبدالله بن أحمد الجربي ، وبدرالدين محمد بن أحمد الجربي [الصنعاني] ، مات في عشر الستين بعد الألف[1650م]-رحمهما الله تعالى-.
ومنهم سيدنا العلامة الأفضل، المجاهد الأكمل، وجيه الدين عبدالقادر بن علي بن يحيى المحيرسي ، من جبل عنس، عالماً كبيراً، وعلماً شهيراً، ورعاً، زاهداً،[انتفع به الناس في القضاء والتدريس] بلغ في جميع فنون العلم مبلغاً عظيماً، ولي القضاء [أخيراً] في بلاد عنس وبلاد كوكبان[33/أ] والحيمة وحران وإن كان[ثمة] قضاة فإنما هم في حكم التأبين عنه.
ومنهم القاضي الصدر الفهامة الحاكم شمس الدين أحمد بن يحيى بن إبراهيم بن صلاح الآنسي، من هجر مسطح من بلاد بني قُشَيب له في القضاء والصبر اعتبار وأي اعتبار تقصده مع بلاد آنس غيرها من بلاد الحجرة وعاين حراز ورَيْمَة وغيرها، وله أولاد وقرابة فضلاء أهل علم وإفادة.
ومنهم القاضي العلامة عين الشيعة المحققين عزالدين محمد بن صلاح بن محمد الفلكي الذماري المذحجي كان فقيهاً عارفاً، فاضلاً، إنما هو في ذمار وبلادها والبلاد المذحجية فريدة الدهر وآية العصر، وكان إليه التدريس والإفتاء والخطابة، وله من التحقيق لمذهب الهدوية ما يضرب به المثل. [توفي في شهر جمادى الأولى عام ثلاثة وسبعين وألف 1662م] .
ومنهم ابن عمه القاضي الفاضل عماد الدين يحيى بن علي بن محمد بن صلاح الفلكي، كان إليه القضاء في مدينة إب وذي جبلة ، توفي[سنة واحد وسبعين وألف] [1660م].
ومنهم القاضي العالم الحاكم المرضي شرف الملة والدين الحسين بن يحيى بن محمد السحولي الحاكم بصنعاء المحروسة بالله عالماً متفنناً[ورعاً شديد التواقيع والتحري] توفي في شهر[محرم] سنة ثلاثة وسبعين وألف[1662م].
[ومنهم ولد أخيه العلامة الزاهد وحيد الزمان، وحليف القرآن، محمد بن إبراهيم بن يحيى، كان عالماً، كبيراً، زاهداً، عابداً، [إليه الخطابة في جامع صنعاء والتدريس على طريقة والده] .
[ومنهم الفقيه الفاضل المعلم العلامة المحقق على بن [جابر] الشارح انفق عمره في طلابه في التدريس في محروس صنعاء في المسجد الجديد، ورعاً، زاهداً، راغباً في طلب العلم، ليس له مادة في بيت المال، توفي [في سنة 1068هـ] [1657م] .
ومنهم الفقيه الفاضل، الحافظ الأديب، الواعظ البليغ المنزل عبدالرحمن بن محمد بن نهشل الحيمي، سكن صنعاء اليمن فظهر عليه علمه وأدبه وحلمه، توفى [سنة سبعة وستين وألف] [1656م].
ومنهم القاضي العلامة الكامل الحسن بن أحمد بن [صلاح] اليوسفي من أهل العلم الغزير، والتحصيل الكثير، كان له علو همة وكمال في محاورة الكبراء وهو سفير مولانا -عليه السلام- إلى ملك الحبشة الآتي ذكره، وكذا إلى سلطان حضرموت كما سيأتي، توفي رابع عشر شهر الحجة عام واحد وستين وألف[1650م] وقبر في شبام كوكبان.
[ومن فقهاء ذمار: العلامة شهاب الدين إسماعيل بن [ ] الجباري، كان فاضلاً، نبيلاً، له قيام في ناشئة الليل، إمام في المسجد الأخضر.
ومنهم الفقيه المدرس بالمدرسة المباركة، علي بن أحمد المجاهد فقيهاً في الفقه، عالماً، مبرزاً، استعان على التدريس والسكون في ذمار من أعمال التجارة توفي [ ].
ومن فقهاء صعدة المحروسة بالله: القاضي العلامة الفهامة شمس الدين وشحاك الملحدين أحمد بن يحيى بن أحمد بن [حابس] الدواري ، كان عالماً متبحراً في فنون العلم، من أهل الإجتهاد المطلق، والنظر في علوم جميع الفرق، له [ ] نافلة مشهورة النفع ولم أذكرها للأختصار، ولي القضاء في صعدة المحروسة بالله بقوة وعزم وشدة في الأمر بحيث أن غالب القضاء بين المتخاصمين وهو قائم متخذٌ[33/ب] محلاً ليرى من بعد عنه كمن قرب، وله كاتبان يملي عليهما وهما قاعدان، وله في ذلك من الورع الشحيح ما يطول ذكره، توفي في شهر[ربيع الأول] عام واحد وستين وألف[1651م].
ومنهم القاضي العلامة الصدر الفهامة شرف الدين الحسن بن يحيى بن أحمد بن حابس الدواري متبحراً جيد الفهم، حسن التصرف في أموره، قوي الحركة في تدبيره في صعدة وفي صنعاء المحروسة بالله بعد شدة نفار عنه.
[ومنهم العلامة المجتهد صديق بن ناصر السوادي أصله مولى من بلاد الجوف] انقطع إلى العلم الشريف في صعدة، ولي القضاء في بلاد خولان أخيراً.
ومنهم العلامة شمس الدين أحمد بن صالح بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال [كان] عالماً، متفنناً، فطناً، أديباً، اختص بملازمة مولانا -عليه السلام-.
ومنهم القاضي العلامة الفقيه المحقق محمد بن علي بن جعفر الربيدي الخولاني .
قال القاضي العلامة أحمد بن صالح في صفته: إنه جل من عرفت وقال متمثلاً:
ولا عيب فيها على حسنها ... سوى أنها من بنات البلد
وإنه من أهل الهمة السامية، والطريقة العالية، له في كل مقصد صالح اليد الطولى، وهو المحقق في (علم المعقول) ودرسه، وما من علم إلا وقد ضرب فيه بسهم، وله مؤلفات ذكرها وهو من أهل الورع الشحيح.
ومنهم الفقيه العلامة محمد بن يحيى الكليبي ، كان متكلماً، نحوياً، نافذ الفهم، وله سرعة في المناظرة، وكان جنَّاح إلى طريق الجارودية ويقول: إنه قد جنح لمذهبه في ذلك بأربع مائة دليل.
ومنهم الفقيه الفاضل العلامة محمد بن إبراهيم المتميز، كان على منهاج أبيه في الفضل والعلم والصلاح وقراءته على الفقيه على العصار.
ومنهم الفقيه الفاضل جمال الدين علي بن محمد العصَّار ، كان من عيون العلماء في صعدة يعتمده العلماء في ترجيحه وآرائه في العلم، كان صاحب ليل وعبادة خفية قل أن عرفها أحد إلا بعد وفاته، وكان وضاءً جميلاً، توفي [ ] .
ومنهم الفقيه الفاضل العارف علي بن الهادي الشقري ، كان فقيهاً، محققاً، وله عبادة ورياضة وعزم في الله عز وجل. قرأ على شيخ الشيوخ في صعدة عز الإسلام أحمد بن يحيى بن حابس-رحمه الله-.
ومنهم الفقيه الفاضل العالم عماد الدين يحيى بن الحاج أحمد بن عواض الأسدي شبيه أبي السرايا في عزماته، نشأ هذا الفقيه عماد الدين في حجر أخواله أولاد القاضي إمام[34/أ] الفقه سعيد بن صلاح، ونشأ في مهاد الفضل، وبرز في علم السمع والعقل، وله مصنفات وموضوعات، وله أخ من أفاضل عصره وهو الحسين بن أحمد، كان مشغولاً بالعمل مع شطر نافع من العلم على طريقة الكينعي -رحمه الله- في الزهادة والعبادة.
ومنهم القاضي العلامة عبدالله بن يحيى الفهد الصعدي من أهل العلم الواسع والفضل الجامع، يضرب به المثل في صعدة بالخشوع وكثرة البكاء، حتى أنه يقطع كثيراً من أوقاته في زيارة القبور.
ومنهم الفقيه الفاضل المثل محمد بن أحمد السهيلي ومن ولد سهيل بن عمرو صاحب صلح الحديبية، قاله القاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال -أطال الله بقاه- وقال فيه: هو من أهل الطريقة الأويسية، ثم قال: من عجائبه إذا قام للصلاة انقبض ظهره كأنه مكسورٌ، وعند تلاوة الفاتحة يرصف كأنه مرتعش من مماسة الثلج.
[مبايعة علماء حجة للإمام المتوكل على الله إسماعيل]
ومن فقهاء حجة ونواحيها: الفقيه العلامة اللغوي فخرالدين عبدالله بن المهدي بن مسعود الحوالي، ومما وصفه القاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال في ترجمة له واسعة كان ممن أجمع الفضلاء على تفضيله، وكان تعلقه بعلم النحو وما يلصق به من علم اللغة فكأنه مستدرك على الجوهري وغيره، ووصف من نبله وزيادة فضله كثيراً.
ومنهم القاضي المكين، ذو العلم الرصين، وجيه الدين عبدالجبار بن سعيد الحوالي الحجي، من قرابة العلامة شيخ الشيوخ الفقهاء إبراهيم بن مسعود، فقيهاً، محققاً، عالماً، مدرساً، ولي القضاء في ظفير حجة، وله مع أهله أخبار فيها طول من تحمل المشاق والتكليف الشاق لتصعيبهم عليه، ثم أظهر الله الحق على يديه واستقل المقام فيهم لذلك بعد أن بقي مدة كذلك في خلافة مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله
-عليه السلام- ثم في خلافة مولانا -عليه السلام- فنقله الإمام -عليه السلام- إلى بلاد مَسْوَرْ وجهاته، وضم إليه القضاء في حجة أيضاً وهو الآن على ذلك -أطال الله بقاه-.
ومنهم القاضي الشهير ذو العلم الغزير المهدي بن جابر بن نصار العفاري من هجرة وكية، فقيهاً أخذ عن القاضي عامر وغيره، ثم ولي القضاء في شهارة المحروسة بالله وما إليها، ولما استرجح الإمام -عليه السلام- قضا القاضي عبدالجبار في بلاد مسور وما والاها وحجة وما والاها، ولاه القضاء في الظفير فحصل به الإنتفاع[34/ب] واشتدت وطأته على المتكبرين والرعاع، وهو على ذلك -أطال الله بقاه-.
[مبايعة فقهاء ضمد وصبيا الإمام المتوكل على الله] .
ومن فقهاء ضِّمدُ وصبيا ونواحيهما: الفقيه العالم المجتهد عبدالعزيز بن محمد بن النعمان الضمدي كان عالماً، راسخاً، مصنفاً، له جهاد في الحجة لمن خالف الحق، وله مصنفات مفيدة ورسائل عديدة تركنا تعدادها كما تركنا غيرها من غيره، ولي القضاء في جهة جَازَانُ وأبي عريش ، ثم المخاء.
ومنهم القاضي العلامة أحمد بن الهادي بن أبي السعود الضمدي فقيهاً، فاضلاً، مدرساً.
ومنهم القاضي العلامة الفقيه الفاضل للأدب الأديب الحسين بن محمد بن يحيى بن محمد بن علي بن عمر الضمدي من أهل الأدب الكامل، والفضل النبيل الفاضل، وله أشعار حسنة.
ومنهم الفقيه الكامل، المحقق، المحدث، الأديب، المطهر بن علي النعمان وشيخ شيوخ الجهة في عصره، وله مصنفات في علم الأدب منها: (المنقح على الموشح) وغيره.
ومنهم الفقيه النحوي المحقق علي بن محمد قاضي، من آل النعمان، كان عالماً في العربية متفنناً فيها.
ومنهم القاضي العلامة بدر الشيعة وصدر الشريعة، الحاوي لعلوم الإجتهاد، الموصوف بالحفظ والانتقاد، محمد بن علي بن صالح العنسي البرطي ، عالماً، فقيهاً، مفسراً، يلي غالب القضايا في حضرة الإمام -عليه السلام-.
ومنهم القاضي (الريِّس) العالم الكامل أحمد بن علي بن قاسم العنسي، وكان من أهل الجد والإجتهاد، والسعي في مصالح العباد، توفي-رحمه الله- في أواخر ربيع الآخر سنة واحد وسبعين وألف[1660م] في محروسة صنعاء، وقد وفد إلى الإمام -عليه السلام- ومن أهل هذا من تقدم ذكره في أصحاب مولانا المؤيد بالله -عليه السلام- وامتدت حياته إلى مولانا -عليه السلام-.
ومنهم العلامة الأصولي المتكلم أحمد بن صالح العنسي له اليد الطولى في كل فن لا سيما علم الكلام، وله فيه مصنفات، توفي [1069هـ] [1658م] [35/أ] ............ .
[35/ب] فصل: وقد تقدم أنها لما ظهرت هذه الدعوة الميمونة تلقاها الناس عموماً بالقبول، والتفتوا إليها بالأسماع والأبصار والعقول، وقد ذكرنا أن مولانا أحمد -أطال الله بقاه- بعث العساكر إلى جهات متفرقة لحفظ الأطراف من غير إيذان بحرب، وإنما أراد حفظ الموجود والقيام بالمعهود، وكان في أول حصول الثمرة وجعل جمهور عسكره في صنعاء، وتكاثروا حتى كانوا فوق أربعة آلاف، منهم جمهور حاشد وبكيل والحيمة وغيرهم.
وكان في صنعاء عيون، منهم: مولانا علي بن أمير المؤمنين المؤيد بالله مولانا أحمد بن الحسين بن أمير المؤمنين، ومولانا محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين، وصنوه الفاضل العابد يحيى بن الحسين بن أمير المؤمنين، والسيد (الريِّس) الكامل محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله المؤيدي، وولده مولانا أحمد بن محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين، وقد جعل أمر الجميع إليه وإلى مولانا علي بن أمير المؤمنين، فأخرجا عسكر مع السيد (الريِّس) صالح بن ناصر الحمزي من عقبات إلى بلاد الحِجْرة، وآخرين مع الشيخ الأمجد عامر بن صلاح الصايدي إلى جهات حراز، وأعطوا العسكر حصة ستة أشهر في مقام واحد وأسبوع واحد، غير أنهم لم يعمموا بذلك وإنما خصوا وزادوا ونقصوا، ويقال والله اعلم أن ذلك لقصد التفريق للعسكر ممن حفظ صنعاء ومن نصره مولانا أحمد، فكان كذلك من خرج من صنعاء لم يعد إليها كما سيجي قريباً إن شاء الله تعالى، هذا وأرسل مولانا -عليه السلام- دعاته عموماً وخصوصاً إلى كل واحد في صنعاء وغيرها، وكان في معمور ذمار مولانا عبد الله بن أمير المؤمنين المنصور بالله قد أظهر البيعة والخطبة لمولانا أحمد، وطلب عسكر من صنعاء لحفظ ذمار، فلم يتمكن مولانا أحمد من تحصيل واحد، فإن من في صنعاء لم يتضح موالاتهم، ولا كادوا يجتمعون لقراءة كتبه، كيف العمل بها! فعيَّن على السيد عزالدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين المسارعة إلى ذمار، ضمن خِفّ من العسكر وأن ينضم إلى مولانا عبدالله، فعرف السيد محمد أن ذلك لا يتم له ولا يراه في حينه، فأظهر المسير إلى شهارة للإعتذار
من التوسط في مثل هذه المخاطرة في الدين، فلما انتهى إلى ريدة البون عاد إلى جهة المشهد بذيبين، ثم استصحب من أخرجه الجوف وصار إلى عيون[36/أ] الأشراف فيه، واستضافهم وعول عليهم باصطحابه إلى جهة خولان العالية ليكون هنالك حتى ينظر في أمره، وحصل معه في هذا الطريق[بعض] الصعوبات وانتهت بعض أمتعته، فكان في بلاد خولان كما سيجي إن شاء الله.
[مبايعة أحمد بن الحسن للإمام المتوكل على الله]
وأمَّا مولانا أحمد بن الحسن فكان في صنعاء، ينتظر والده أمير المؤمنين المؤيد بالله -عليه السلام- ولم يكن معه إلاَّ خدمة ما يتجاوزون الخمسين النفر خيلاً ورجلاً، فتلعثم عن إجابة دعوة عمه أحمد، وأظهر وكتم، وصرح وجمجم حتى وجد المخرج وتجرد إلى ذمار المحروسة خفية، ولما وصل إلى رزاجة كتب إلى مولانا -عليه السلام- بالبيعة والإجابة، وكان قد أعطاه ذلك في صنعاء كغيره مما سيجي إن شاء الله تعالى، وقال للإمام -عليه السلام- كما أخبرني كثيرون ممن حضر عند الإمام -عليه السلام- أنه راعه تقديم الوصول إلى صنوه مولانا محمد -أطال الله بقاه- ليكون أقرب إلى التمكن من السعي للصلاح والإتحاد والتسليم كما سيجي إن شاء الله تعالى.
ولما وصل إلى محروس ذمار، وقد كتب إلى صنوه مولانا محمد -أيده الله- يستورد رأيه الكريم؛ فأمره بحفظ ذمار وأمده بجمهور خيله وكثيراً من رجاله وأمره بحفظ المدينة، ففعل وأقام الخطبة فيها لمولانا محمد، كان الأسبوع الذي قبله والخطبة فيها لمولانا أحمد بن أمير المؤمنين، ومع هذا رسايل مولانا الإمام -عليه السلام- ورسله إلى مولانا محمد مرة بواسطة صنوه الصفي، ومرة من غير طريقه حتى حصل الإتفاق بأن ضربوا لقاء نظر الدخول في البيعة النافعة، فتجرد الإمام -عليه السلام- في [ ] بقية من شهر شعبان فيمن خف معه ممن قد انظم إليه، وكان أكثرهم رتبة الحصن المعروف فإنهم أجابوه وبايعوه واشتغلوا كثيراً بحفظ الحصن كما سبق، وتقررت الأحوال وسكنت الهزاهز بعض السكون، وكان موعد الإجتماع بموضع من قفر حاشد مما يلي بلاد عتمة يسمى الزعل، وتجرَّد مولانا محمد -أيده الله- من محروس مدينة إب في عيون أصحابه وكبرائهم منهم الأمير عبدالله بن منيف الحمزي المنصوري .
ومنهم الأمير عبدالله بن صلاح العفاري الحمزي وغيرهم من الرؤساء، وعن السادة أهل العلم والرئاسة السيد العلامة عبدالله بن الهادي المحرابي وابن عمه السيد الجليل علي بن الهادي بن الحسن والسيد (الريِّس) المجاهد محمد بن عبدالله العياني ، والسيد المجاهد المهدي بن الهادي المعروف بالنوعة الهادوي، والقاضي العلامة يحيى بن علي الفلكي الذماري [36/ب]، والفقيه الأفضل علي بن عز الدين الأكوع [والقاضي العلامة محي الدين عبدالله بن محمد بن محمد صلاح السلامي] ومحمد بن شمسان مع عيون أهل اليمن وغيرهم.
ثم إن مولانا أحمد بن الحسن -أطال الله بقاه- هبط من ذمار في خاصته أيضاً متفقاً بالإمام -عليه السلام- وليحضر هذا المقام الذي فيه صلاح الإمام، وكان [هو] -أيده الله- عميد السعادة فيه من الأنام.
ولما اجتمعوا في هذا الموضع المبارك وقد وصل مولانا محمد -أيده الله- بخيام ومضارب؛ فأمسوا فيه وتناظروا في [حال] الأوفق من مراد الله، وما الواجب حينئذ في حق الله، فسّلم مولانا محمد -أيده الله- لوالده مولانا الإمام -عليه السلام- وعرف استحقاقه للمقام، وبايعه في مشهد عام ثم صنوه مولانا أحمد، ثم من حضر من العيون، ثم العسكر ثم القبائل من الحدأ وغيرهم، وكانوا قد اجتمعوا إليهم وكان يوماً مسعوداً، ومقاماً مشهوداً، وقد تكاثروا في ذلك المحل حتى [ملأو] الشعاب، ثم عاد مولانا -أيده الله- بجميع من قدم معه، ورجع الإمام -عليه السلام- وقد كثر عسكره المنصور، وتلاحق إليه عالم من الناس، وعاد مولانا -أيده الله- كذلك معه أيضاً فأمسوا في جانب وادي الحار ، ثم صعدا إلى ذمار وقد خرجت الخيل الذين هم رتبة في ذمار من أصحاب مولانا محمد، وأصحاب مولانا أحمد وكثر الناس من جميع الأصناف، وكان الإمام -عليه السلام- آخرهم، ومولانا أحمد يقدمهم ويوزعهم، وكان لذلك في عيون الأولياء والأضداد موقع.
[أخبار صنعاء]
ولنرجع إلى أخبار صنعاء[37/أ] قد تقدم أن مولانا محمد بن الحسين فيها، وكان على نحو ما تقدم من أحوال مولانا أحمد بن الحسن -أيده الله- يقدم ويؤخر ويأمر ويأتمر حتى وجد موضعاً (للإنسلال) من صنعاء فأصبح في جانب رتبته أعشار في أكثر من مائة خيلاً ورجلاً، ثم منها إلى المشرعة بلد الأشراف، ثم وصل إلى الإمام -عليه السلام- في اليوم الذي تهيّأ للقيا مولانا محمد بن الحسن -أطال الله بقاه- وكان الإمام -عليه السلام- أستخلف على الحصن والحصين وما إليهما الحاج المجاهد سرور بن عبدالله المعروف بشلبي، فوصل مولانا محمد بن الحسين -أطال الله بقاه- وكان على الجميع حتى وصل الإمام -عليه السلام- فما وصل الإمام -عليه السلام- بايعه وقد أتهم أهل صنعاء بعضهم بعضاً، وكثر الإختلاف.
[فصل في أخبار خِدار وثُلأ ]
وذلك أنه كان في بلاد الروس من سنحان عامل من قبل الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- ولما توفي -صلوات الله عليه- انضم إلى ولده مولانا علي -أيده الله- وبقى في صنعاء، وكان قد حصل بنظر العامل المذكور بعض طعام من الثمرة، ثم إنه دخل صنعاء أيضاً بعض أهل خدار ومن إليهم لمواصلة مولانا علي-عليه السلام- إلى الدامغ المحروس.
وكان من سار منهم إلى صنعاء وضوران يقول: لمن يكون الطعام المجموع، فوصل الذين ذهبوا إلى ضوران بعامل لقبض ذلك الطعام، وما يحصل من الثمرة الحادثة، ووصل من صنعاء بعامل كذلك فلما اختلفوا، وكان الذين ساروا إلى ضوران قد بايعوا الإمام -عليه السلام- والذين إلى صنعاء كذلك أرسل صاحب عامل صنعاء إلى صنعاء أن أهل البلد المذكور عصوه وكذا، فأجابهم مولانا علي: إن الحال واحد دعهم وما اختاروه لأنفسهم، والذي وصل من عند الإمام -عليه السلام- كذلك كتب أنهم أهملوه وعصوه فأجابه الإمام -عليه السلام-: إن الحال منا ومن الولد علي واحد فيتركوهم وما اختاروه كذلك.
ولما بلغ مولانا محمد بن أحمد غاضبه وقد كثر[37/ب] العسكر في صنعاء ومؤنهم بغير فائدة، فأرسل السيد الأمجد عبدالله بن مهدي حيدرة الغرباني، في نحو مائتين من العسكر، وأمرهم بطرد من وصل من ضوران، وحفظ البلاد ويحمل الطعام أيضاً إلى صنعاء، فوصل السيد المذكور الوثن من أعمال بلاد الروس، وقد امتنع أهل خدار وأهل خبَّة وغيرهم وأرسلوا إلى الإمام -عليه السلام- يمدهم بمن يحفظ البلد، فأرسل الإمام -عليه السلام- النقيب حسن بن هادي البطة الشعبي وجماعة ليسوا بالكثير مع أهل البلاد المذكور، وأمرهم أن يمنعوه من خدار وما إليها بعد حرب خدار وما يعقبه من الفتوح، ثم أن السيد عبدالله قَدّم بمن معه فناوشه القبايل للحرب ثم انهزموا، ودخل قرية خبّة وقتل من أهلها ومن معه ستة أنفار وأسر جماعة ونهب البلد.
ثم تقدم إلى خدار أيضاً فانهزم من فيها وملكها عليهم، وقد أرسلوا الصريخ إلى الإمام -عليه السلام- وطلبوا منه المدد، والسيد المذكور أرسل إلى صنعاء أيضاً بطلب المدد، وقد صار في حكم المحتار في خدار لا يقدر على الرجوع لكثرة القبائل، فأرسل الإمام -عليه السلام- النقيب المجاهد سرور بن عبدالله المعروف بشلبي من موالي مولانا الحسن-رحمه الله- زهاء أربعمائة، وانظم إليه من قبائل [بلاد] الروس وأهل مخلاف بمائتين مثلهم، ووصل أيضاً من صنعاء مدد مع الشيخ -أطال الله بقاه- سفيان القارني وصار إلى السيد عبدالله وحفظوا البلاد.
ولما وصل النقيب عزوز ومن معه أهاجوا الحرب على أنهم يخرجونهم من خدار، وعظم القتال فاختلطوا في شوارع البلد، وقُتِل من الفريقين نحو عشرين نفراً، ثم إن أهل صنعاء أرسلوا للمد والغارة، فأمدوهم من صنعاء بالسيد العلامة عزالدين بن دريب وأهل الحيمة، فوصلوا ثاني يوم الحرب الأول، وعظم بينهم الحرب أيضاً، فقُتل من الفريقين قريب من المقتولين[38/أ] في اليوم الأول، وقد أرسل مولانا الإمام -عليه السلام- ولده محمد بن الحسين مدداً، وعظم بينهم الحرب أيضاً، وانهزم مولانا محمد بن الحسين والنقيب سرور إلى نقيل يسلح ، وقد نزلت الخيل قرية النقيل وبقيت المراكز مقابلة لخدار في أعلى النقيل.
وقد تقدم استقرار مولانا أحمد بن الحسين -أطال الله بقاه- في محروس ذمار في جمهور خيل صنوه مولانا العزي -أطال الله بقاه- وكانت زهاء ثلاثمائة فارس وعسكراً كثيراً وأعياناً مثل الأمير الكبير عبدالله بن منيف الحمزي وغيره من خواص مولانا محمد بن الحسين -أطال الله بقاه- وقد ذكرنا أن مدينة رداع والمحطة التي فيها إلى جانب مولانا أحمد -أطال الله بقاه- عليها السيد الأمجد (الريّس) -أطال الله بقاه- شرف الدين بن مطهر بن عبدالرحمن بن مطهر بن الإمام شرف الدين -أعاد الله من بركاته- وقد امتنع فيها وراسله مولانا محمد بن الحسن فبعد عليه فوجه لحربه عسكراً مع قَيْفَة ووقع بينهم حرب انجلى على قتل أنفار، ثم والى بعد ذلك واستسلم ووصل مع قيفة بعسكره وكانوا زهاء مائتين وأربعين فارساً إلى مولانا أحمد بن الحسن، ووصل خلال ذلك إلى مولانا أحمد من خولان العالية قبائل وتكاثرت العسكر مع الخيل مع حوادث خدار، فأمر الإمام -عليه السلام-مولانا أحمد بن الحسن بالغارة إلى جهات كَنَن فسار بمن معه من الخيل والرجال إلى زراجة وكل هذه الحوادث في العشر الأواخر من شهر رمضان عام أربعة وخمسين وألف[1664م] وكان [قد] خرج من صنعاء من جهة مولانا محمد بن أحمد الشيخ (الريِّس) شرف الدين حسن بن الحاج المجاهد أحمد بن عَوْاض ، وانتظم إليه غيره من الرؤساء ذلك على أنهم يحفظون أطراف بلاد سنحان ونواحي الذراح ثم خرج بعدهم من صنعاء أيضاً الأمير الكبير حسام الدين الهادي بن مطهر بن الشويع الحمزي في محطة القبتين، وأن يكونوا هنالك لحفظ تلك الأطراف.
ولما وصل مولانا أحمد بن الحسن زراجة بات بها ليلة، وكتب الإمام -عليه السلام- [مواعظه] إلى كل واحد من المخالفين والمسالمين، وهو مع ذلك يتضرع إلى الله سبحانه ويبتهل ويسأله جمع كلمة المسلمين، ويأمر مع ذلك بقراءة [38/ب] القرآن.
ولقد أخبرني من شاهد ذلك مما يعلم الله سبحانه وتعالى مقصده الصالح في جمع الكلمة واطفاء نائرة الفتنة ويبذل أيضاً مع ذلك الإنصاف ويدعو إلى التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وشهادة [أن لا إله إلا الله] علماء الإسلام، فمال الشيخ حسن بن الحاج ومن معه جميعاً إلى مولانا أحمد بن الحسن ووالوا مولانا الإمام -عليه السلام- وأظهروا التوبة.
ثم محطة أخرى كانت [رتبة] في بعض قرى الذراح مع الشيخ قاسم بن خليل الهمداني، كذلك والوا وبايعوا.
ولما بلغ الأمير الهادي ما كان سرى ليلاً إلى صنعاء وترك القبتين وكثيراً من الأثقال، وقد خاف أن يقطعه الخيل، فتقدم مولانا أحمد بن الحسن إلى القبتين، ثم أشرف على خدار وجهاتها، واجتمع بمولانا محمد بن الحسين -أطال الله بقاه-.
[ذكر حصار صنعاء]
ورأوا من التدبير ترك خدار ومن فيها عن الحرب والمحاصرة وأن يقصدوا صنعاء والكتب إليهم منها اسراراً واعلاناً، وقدموا الخيل إلى وادي الضروات ، فضربت يميناً وشمالاً، ثم عادت إلى مولانا أحمد بن الحسن إلى كنن.
وأمَّا مولانا محمد بن الحسين فانتهى هو وأصحابه إلى حِزْيَز من سنحان وهي أقربها إلى صنعاء، وكتب من هنالك إلى الإمام -عليه السلام- وأرسل السيد الأديب أحمد بن محمد الآنسي أبياتاً منها قوله:
صدرت ونحن وخيلنا في حزيز .... متسربلين بكل أبيض مخرز
متقلدين صوارماً كالملح معتقلي .... الذوابل لا تلين لمغمز
لله درك من رواق فوقنا .... بالفتح والنصر المبين مطرّز
سجته خيل كالتعالي شرب .... فغدى رواقاً من قيام المركز
يدعو إلى المتوكل الخير الذي .... خلاَّ على متفنن وملزز
بحر العلوم خضمها تيارها .... ما في علاه لنابزٍ من منبز
وهي أكثر من هذه غير أنه أقذع فيها.
ثم تقدم الجميع إلى علب وضربت الخيل يميناً وشمالاً، واختلف أهل صنعاء، فرأى مولانا علي ترك الحرب وأن الحال من الجميع واحد، وهذه بيوت أولئك يدخلونها، ورأى مولانا محمد بن أحمد الحرب ومنعهم وغلب على المدينة رأي من رأيه الحرب فرتبوها وحفظوها على خوف ممن فيها، فكان لا يقر لهم قرار من مخافة الغدر والإختلاف[39/أ] والبنادق التي ترمي من السور، وكانوا يرمون من داخل صنعاء بالمدافع، فمنعهم من يحب الصلاح، وكان في ما بلغني من وصلته رصاصة من خارج المدينة يلتذ بها ويفرح، حتى أن بعضهم كان يقول: مرحباً إسماعيل، وطلع مولانا محمد بن أحمد إلى القصر، وقبض مفاتيحه وجعل عليه رتبة من عنده من الخواص، عليهم الفقيه الأفضل عبدالله بن عزالدين الأكوع ، وأقام الرتب والمحارس وأنفق عليهم النفقات الواسعة، وجعل من حرس في جهة ليلة كانت الليلة المقبلة في جهة أخرى احتراساً من أن يدخل عليهم المدينة لميل القلوب إلى الإمام -عليه السلام- وقد تقدم مولانا أحمد بن الحسن -أيده الله- إلى بير العزب في جمهور الخيل والرجال وجعل في فروة ووهب رتباً أيضاً، والرمي ليلاً ونهاراً، وقد بعث لبني الحارث وغيرهم فوصل منهم الأكثر.
وأمَّا مولانا محمد بن الحسين -أطال الله بقاه- فإنه مال بأصحابه إلى حدة ، فوصله أهل حضور وجهات الحازة ثم تقدم إلى بيت ردم بالمكاتبة من الإمام -عليه السلام- وكانت بلاد حضور وبني مطر وما يليها إليه من وقت والده-رحمه الله- فوصلوه جميعاً وعظم جانبه، وكثر عسكره.
وأمَّا المحطة التي في خدار مع السيد عزالدين والسيد عبدالله بن حيدرة وسفيان، فإنما بقي عليهم القبايل فقط، وقد استوحش منهم الناس واستوحشوا منهم كذلك، وقد بلغهم حصار صنعاء فخرجوا من موضعهم الأول يريدون بني مطر ثم يتصلون بكوكبان.
[فتح كوكبان]
وكان الأمير الكبير حسام الدين الناصر بن عبدالرب بن علي بن شمس الدين بن أمير المؤمنين المتوكل على الله يحيى شرف الدين -عليه السلام- من أهل البيعة الأولى، وكان قد أرسل محطة إلى خدار أيضاً، ثم وصلته كتب الإمام -عليه السلام- وأثرت فيه وعرف الحق فتاب ورجع إلى موالاة الإمام -عليه السلام- واستدعى أصحابه من خدار قبل خروجهم منه، ولما خرج من في خدار لاحمهم القبائل بالحرب وهم يدافعون على أنفسهم مرة بالقتال ومرة بالنوال حتى خرجوا على مشقة، وقد خرج منهم أنفار وأخذ من أثقالهم ورافقهم بعض بني مطر إلى حصن بيت ردم، وكان فيه قبل وصول مولانا محمد بن الحسين صنوه الفاضل يحيى بن الحسين، كان عيّن عليه عمه صفي الدين أحمد بن أمير المؤمنين[أطال الله بقاه] حفظ بلاد حضور، فلما وصل مولانا محمد بن الحسين، صار إليه، ثم والى جميع من في بيت ردم من الرؤساء والعسكر وصاروا في جملة مولانا محمد بن الحسين إلاَّ السيد عزالدين دريب فإنهم أرسلوه إلى كوكبان، وكذلك الشيخ سفيان[39/ب] القارني، ثم تقدم مولانا محمد بن الحسين إلى كوكبان وتلقاه أهل كوكبان وأوقدوا النار إشعاراً لموالاة الإمام.
[خروج أحمد بن القاسم من شهارة]
ذكر خروج مولانا أحمد بن أمير المؤمنين -أطال الله بقاه- من شهارة -المحروسة بالله-.
قد ذكرنا ما ألقى الله سبحانه في القلوب من كراهة إمارته، وإنما كان في شهارة من كل واحد ينتظر الفرج وحسن المخرج، وإنما أبقاه إما لخوف أو حياء من اسم الغدر وأشار عليه من أشار أنه يتقدم إلى صنعاء للتفريج عنها ويستعيد ما فات من البلاد، وذلك مع أول وصول الخبر بحصار صنعاء، وقبل أن يبلغه خروج عسكره من خدار، وقد عظم في شهارة الإرجاف، وشعّبوا عليه بالغدر حتى لقد هموا به في ما بلغني وكادوا يتظهرون بخدعه وهو بين أظهرهم، فخرج من شهارة المحروسة بالله عقب صلاة الظهر سادس وعشرين من شهر رمضان وأمسى في أقر ، وأخذ بعض ما يحتاج إليه من هناك والعسكر نحو الألف النفر من عيون الناس، وهم ينقصون حتى إذا ما وصل خمر يوم الأحد إلاَّ وقد تأخر بعضهم، وأقام في خمر يوم الاثنين، وسار صبح الثلاثاء والعسكر يقلون، وقد كتب إلى المشرق والمغرب لطلب الغارات، وكان قد أرسل مولانا السيد إبراهيم بن أحمد بن عامر بعسكر ليسوا بالكثير وأنهم يتصلون بصنعاء فوصلوا عمران فوجدوا ما بين صنعاء وعمران قد خالفوا عليهم وصاروا إلى مولانا -عليه السلام- فأقام في عَمْران .
ولما وصل مولانا أحمد ريدة وصله الخبر بخروج من في خدار ومصيرهم مع مولانا محمد ين الحسين، وموالاة كوكبان لمولانا -عليه السلام- وأن من في عمران لم يتمكنوا من[الاتصال] بمن في صنعاء، أرتأى وتحير ولم يطلب رأياً من أحد، وقد طلب القاضي شمس الدين أحمد بن سعد الدين -أطال الله بقاه- فتشاورا كثيراً ثم قام للمسير إلى عمران، وكان هذا من ألطاف الله الخفية والتدابير الإلهية، فإنه لو بقى في خمر أو مال إلى الصيد أو تقدم إلى ذيفان لوصله عموم أهل المشرق، ولحقه كثير من أهل القبلة، ولعظم عسكره، وطال الاختلاف والفتنة وذهبت نفوس وأموال والله غالب على أمره.
[دخول أحمد بن القاسم عمران]
ولما وصل عمران قبل غروب الشمس ليلة الأربعاء جمع فرق الناس للمساء فيه، وبقى ينظر ماذا يفعل وقد بلغه أن في مدينة ثلاء رتبة وخيلاً، وفي بني ميمون وعيال سُريح عسكراً، ولم يكن معه من الخيل ما يحفظ أطرافه، فضلاً عن غير ذلك فأرسل إلى ثلاء من يأتيه بخبر الرتبة التي فيه فعاد الخبر بقلتها، وقد خاف أن يحاصر [و] هو في[40/أ] عمران كما تقدم ذكره أن يخرج إلى جهة عيال يزيد فعزم على قصد هذه الرتبة التي في مدينة ثلاء وهو قاطع بأخذها وأن تكون مظاهراً للحصن وللمغارب، فارتحل في الربع الأخير من ليلة الأربعاء، وتسحر في بني الجرادي من حازة البون، وطلع العقبة المعروفة بحجر العيد، فلما عاين ثلاء أمر بالغارة وقد ترك في عمران من العسكر رتبة، وانخذل كثير من الأهنوم وغيرهم، وعادوا جهة شهارة، ولم يمسوا إلاَّ في السودة، وبقى معه نحو من أربعمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون، وكان على الرتبة في ثلاء السيد (الريِّس) -أطال الله بقاه- المجاهد عزالدين محمد بن عامر بن علي بن عم الإمام، فلزموا البيوت التي يقدرون عليها وتركوا الكثير، وحفظوا أنفسهم، وكان الرمي عليهم من الحصن فإنهم على موالاة مولانا أحمد.
ولما وصل ثلاء وهو في أول عسكره ودخل المدينة تفرق أولئك الباقون في البلد، وبقي مع المشايخ من العلماء يدور في الشوارع، لا يتمكن من اخراج السيد محمد بن علي وأصحابه، وقد وصل مولانا محمد بن الحسين والأمير الكبير حسام الدين الناصر بن عبد الرب، بغارة خيلاً ورجلاً، واستقام الحرب من بعد طلوع الشمس إلى غروبها حرباً كان من بيت إلى آخر[وكان مولانا أحمد[قد] خاف] أن يُغلب على باب الحصن، فتقدم إليه، فكان فيه حتى غربت الشمس وخرج من خرج ممن كان قد كاتب ووالى، وبقي من بقي، وخرجوا إلى مولانا محمد بن الحسين والأمير الناصر بن عبد الرب، وبقي مولانا أحمد في الحصن يوم الخميس ويوم الجمعة، ولم يبق معه أحد ممن يعوَّل عليه للحرب إلاَّ الرتبة، وقد ضعف في أعينهم واحتقروه فجرى الخطاب على نزول القاضي شمس الإسلام أحمد بن سعد الدين -أطال الله بقاه- فنزل وطلع ونزل أيضاً على أن مولانا أحمد ينزل ويجتمع بمولانا أمير المؤمنين-حفظه الله تعالى- ويكون بينهما مناظرة، ووجه في ما دخل فيه، وأن المراتب ترتفع من حصار عمران، ومراتب صنعاء يبقى حالها حتى يحصل الإتفاق، وخرج يوم الأحد قبل الزوال بعد أن حصل من الرتبة عليه اضطراب وسوء معاملة، وتلقاه الناس بالتعظيم، وتقدم الإمام الناصر وأصحابه أمامه للخدمة، ومولانا محمد بن الحسين -أطال الله بقاه- خلفه في تلك الساعة إلى الحصن وقرر رتبة الحصن، واستخلف عليهم من أمنه من أصحابه، ثم لحق بوالده وهو لا يكاد يقابله اجلالاً وحياء، وكان المساء في حاز من بلاد همدان، وكان قد وصل إلى مولانا أحمد -أطال الله بقاه- بعد
استقراره في بير العزب، مشايخ همدان[40/ب] وعيال سريح للموالاة، فأرسل معهم النقيب المجاهد سرور بن عبدالله، ومن كان معه في حرب خدار من الخيل والرجل إلى بني ميمون كما تقدم، ولما وقع الحرب على ثلاء وصل مغيراً آخر نهار الحرب.
ولما كان يوم العيد وجهه مولانا محمد بن الحسين والأمير الناصر بمن معه لفتح عمران، وكان فيه الشيخ (الريِّس) ناصر بن عبدالملك بن عمران، في رتبة وكثيرين ممن تأخروا عن مولانا أحمد، منهم، السيد الأعلى (الريِّس) المهدي بن الهادي المعروف بالنوعة، فإنه طلع من اليمن مُريداً لبلاد صعدة داعياً إلى مولانا محمد بن الحسين، قبل التسليم لمولانا الإمام -عليه السلام- وكان قد بلغ مولانا أحمد فلزم عليه الطرقات، فلما لم يجد موضعاً للمضي إلى الشام، وصل إلى شهارة المحروسة بالله، وأظهر أنه يريد الشام لاعتزال الجميع حتى يجتمع الناس على الرضى، فجاراه مولانا أحمد واحترز على حفظه، ثم أخرجه من شهارة، ولما صار في عمران بقي فيه عن رأي مولانا أحمد لغدر ذكره فأجابه، وأمر الشيخ ناصر بن عبدالملك بحفظه، وكان معه دراهم وساعة تخصه يريدها لما تقدم من إعطاء من ينبغي أولتكون له، وغالبها من ماله، وأرسلها إلى بعض القرى من البون مع بعض ثقاته ليكون هناك حتى يحتال بالخروج من عمران، فإن الشيخ ناصر بن عبدالملك يشدد في حفظه كما أمره مولانا أحمد.
ولما وصل النقيب سرور فيمن معه من المجاهدين ولا يجدون شيئاً للنفقة، فأخبره بعضهم بمكانها فقبضها، وأعطى العسكر أرزاقهم منها، والسيد المذكور في عمران في جملة المتحاربين، حتى كان من أمره ما سيأتي إن شاء الله، ولما وصل السيد المهدي إلى الإمام -عليه السلام- أخبره بما وقع فأرجعها له، يعني قضاه إياها.
[وصول أحمد بن القاسم إلى ضوران]
ولنرجع إلى وصول مولانا أحمد إلى ضوران وقد حاول وهو في حاز من بلاد همدان رفع الحصار عن عمران، وفيه كثير من خزائنه مع طعامات كثيرة، فلم يتم له ما أراد لاختلاف مقاصد الحرب، فأشار عليه من أشار بترك ذلك حتى يتصل بصنوه أمير المؤمنين-أيده الله- فساروا جميعاً إلى الضِلَع من همدان في خامس شهر شوال وأراد أن يبقى حوالي صنعا، ويرتفع الحصار عنها، وإن الإمام -عليه السلام- يلقاه إلى ذلك الموضع فلم يتم ذلك.
ولما سار من ضلع تلقاه مولانا أحمد بن الحسن -أطال الله بقاه- في كثير خيل ورجل، وكانوا مع من وصل من ثلاء فوق خمسة آلاف منها نحو أربعمائة فارس من غير من في عمران[وغلبها] وأمسى[41/أ] الجميع في حدة وغيرها.
وأمَّا مولانا أحمد بن الحسن فإنه عاد إلى محطه الأول بعد أن استطاب نفس عمه أحمد، ورأينا عليه بعد الاتفاق أثر النفس من الكرب العظيم الذي خالطه، فإني كما علم الله خفت عليه الهلاك من عظم ما وقع [معه] من التقلبات والغدر من كل واحد، ثم ارتحلوا من حدة إلى وعلان من بلاد الروس، ثم إلى معبر وقد أمر الإمام -عليه السلام- بضيافته هنالك؛ فأمسى الجميع في معبر، وذلك يوم الخميس لعله سابع أو ثامن شوال، وتلقاه الإمام -عليه السلام- إلى طرف الحصين، وكثير من الناس، وسُر المسلمون بما أغمده الله من سيف الفتنة، ونايرة الفرقة، وما كفاهم به من المحنة وبما ساقه من الألطاف، مما أمن به الكافة من الخلاف وعظيم الأخواف، والإمام مع ذلك يبذل ما يقدم من الإنصاف، والتحكيم للشرع الشريف والبراءة ممن خالفه.
[مؤاساة المؤلف للأمير أحمد]
ولما كانت ليلة الجمعة بعد مضي وهن من الليل قال لي مولانا أحمد: أترى هذا الحال؟ فقلت: نعم، يا سيدي، وهذا الذي كنت فيه لا يخلو أن يكون لدينا وحاشاكم من ذلك، وهذا سلطانكم لم يخرج من بينكم، وإن كان للدين فقد عذرك الله سبحانه وتعالى لعدم الناصر وقل المعين وحصول هذه الأهوال فقد أعذرت، فقال: نعم لقد عزمت على التسليم والمبايعة.
[مبايعة أحمد بن قاسم للإمام المتوكل على الله]
ولما كان صباح الجمعة تاسع شهر شوال سنة أربع وخمسين وألف[1664م] وكنت قد أخبرت بعض الخواص بذلك، وأن يعرف الإمام بما عزم عليه صنوه من التسليم، فعمد للإجتماع مجلس عام لجميع أهل العلم، وأهل الفضل فمجلس الإمام -عليه السلام- إلى جنب أخيه -أيده الله- وصدره في المجلس وعليه السكينة والوقار والخشوع غاية من التواضع، وعليه عمامة صغيرة قدر أربعة أذرع وفرو صغير من أكسية حيس وقميص واحد، وتكلم بما لا أضبطه إلا بالمعنى، وهو أنه حمد الله تعالى بمحامده كلها، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأطال فيهما، ثم تكلم في الإمامة ولزومها، وقيام التعبد بها، وعلى التزام الحجة بأحكامها وشرايطها المجمع على اعتبارها، ثم ذكر صنوه وقال: هذا شيخنا وكبيرنا ولا يزال بين الأخوة شيء، وكذا ساير القرابة، وهذا أخي والحمد لله لم يكن بيني وبينه شيء من ذلك بخلاف إخوتي، فقد ربما يكون شيء، وقد قام بهذا الأمر وأنا أعلم قصوره عنه بما يطول، وأنتم يا إخوان تعلمون ذلك وأنا أعرض عليكم صحة ما أقوله إن شئتم، وإلاَّ فقد جرت الأمور إلى ما ترون، وأنا الآن أعطي من نفسي ما بذلته بالأمس فمن كان في شك مما دعوت إليه، فهو معذور عن البيعة[41/ب] ممهل في النظر، فإن يجد مخرجاً عن هذه الإمامة فلست عليه بوكيل، والخطاب إليه والحق لله سبحانه وتعالى، وأكثر من الكلام مما هذا معناه، وتكلم مولانا أحمد -أطال الله بقاه- وقال ما معناه: إني لم أسارع في هذا الأمر منافسة في الرياسة، وإنما قصدت حفظ الموجود، والقيام بالمعهود، وتأكدت
الحجة والعقود، برأي من عرفتهم من هذه العيون، وتعويلهم عليَّ في القيام، والآن فقد عرفت عدم إجابتي، وقد أبليت إلى الله معذرتي، وأنا راضي ببيعة أخي، ولا أشرط عليه إلا حفظ أهل البيعة الأولى، وأن لا يسلط عليهم أهل الأهواء، ثم قال متمثلاً بما قاله الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله -عليه السلام- في بيعة الإمام أحمد بن الحسين -عليه السلام-:
رضنياك للدنيا وللدين فارتفع ... على النجم مسموعاً لك النهي والأمر
فقال الإمام -عليه السلام-: وعليَّ من ذلك ما استطعت، ثم بايعه مولانا أحمد وتلاه مولانا صارم الدين إبراهيم بن أحمد بن عامر، ثم القاضي شمس الإسلام أحمد بن سعيد الدين، وقال: لم يكن بيننا وبين الحق عداوة، وإنما أردنا نفع الإسلام وجمع كلمة الأنام، وقد حصل والحمد لله كثيراً، ثم تلاه السيد العلامة محمد بن الحسن بن شرف الدين الحمزي الكحلاني، ثم القاضي العلامة جمال الدين علي بن سعيد الهبل الخولاني، ثم من حضر ممن لم يبايع قبل ذلك، وسر المسلمون بهذا الإتفاق بعد الشقاق، وسارت الكتب بعد ذلك شرقاً وغرباً وبعداً وقرباً، وكان ذلك في يوم الجمعة تاسع شهر شوال عام أربع وخمسين وألف [1644م].
[رؤيا للعلامة الهبل]
ومن عجيب ما سمعته في هذا الإتفاق ما أخبرني به الفقيه الفاضل العالم الزاهد (شمس الدين) أحمد بن صالح الهبل -أسعده الله- في شهارة المحروسة بالله في العشر الأواخر من رمضان، أنه رأى في المنام كأنه في حضرة مولانا أحمد-أطال الله بقاه- وصله بعض أهل الخطوط التي يسودها الكتُّاب لأهلها بالجلالة كما يفعل الأئمة -عليهم السلام- وطلب من مولانا أحمد العلامة عليها، فاعتذر ورده عليه، وقال: لا يمكن العلامة عليها.
قال الفقيه المذكور: فقلت لمولانا أحمد: لم لا تُعلم على هذه الأوراق وأنت أمير المؤمنين؟ فقال: أخّروها إلى عاشر شوال فإن تتم الإمامة في ذلك اليوم علَّمت عليها وإلاَّ فلا أو كما قال، فكان في اليوم العاشر هذا المجلس الذي سلّم فيه لأخيه أمير المؤمنين-سلام الله عليه-.
وأخبرني القاضي الأعلم جمال الدين علي بن محمد العنسي الآنسي، عن الفقيه الفاضل أحمد بن سعيد المسوري وهو ممن يختص بمولانا -عليه السلام- أنه قال له في تلك الأيام[42/أ]: أترى شهارة وصنعاء مقبلة عليك ومتفقة على عداوتك وأنت ساكن في موضعك؟ قال: فقال له الإمام: ما يكون شهر إلاَّ والصنو أحمد ومن معه عندنا وفي جماعتنا أو كما قال.
ومن مثل ذلك ما أخبرني به الحاج الصالح محمد بن قاسم المسرحي النّجار، وقد احتجته لبعض عمل في البيت من شهارة فجرى ذكر هذا الإختلاف، فقال: هوكالقاطع -وهو مع ذلك من حذاق العوام وله مع ذلك ديانة حسنة-: الإمامة في إسماعيل من عند الله سبحانه وتعالى على سبيل الجزم، فقلت له: إن كنت تريد استكمال الشرائط فلا نزاع، وإن كنت تريد غير ذلك مما الناس عليه فأخبرني الخبر، فقال: إنه أخبره الثقة أنه رأى رؤيا في حياة الإمام المؤيد بالله -صلوات الله عليه- كأن قنديلاً مضيئاً ما بين السماء والأرض في شبه الحبل، فالأرض به ضياء نافع شديد فطفي ذلك القنديل فأظلمت الآفاق، فطلع من موضع القنديل الأول قنديل أصغر منه، ثم طلع من جانب آخر من جهة العدن قنديل صغير بعيد عن الأول كذلك، ثم لا زال هذا الذي من بعيد يعظم ويكبر حتى كان أكبر ضياءً من الأول، والصغير الذي كان ظهر في موضعه الأول يصغر قليلاً قليلاً حتى ذهب شعاعه ثم طفي، فكان تفسير ذلك ما وقع، والحمد لله رب العالمين.
ومن مثل ذلك ما أخبرني حي الشيخ علي بن ناصر بن محمد الأعور الحكمي الأهنومي أنه رأى في المنام في أيام الإمام المؤيد بالله، كأنه غشي دار الإمام في أقر نور مرتفع وإذا خيّال على سرير الإمام -عليه السلام- يحمله إلى جهة القبلة وفهم الرأئي أنه يرتفع إلى السماع فصاح مع غيره ممن حضر بالعويل والبكاء على الإمام، فالتفت الإمام -عليه السلام- وهو على السرير ورمى بعمامته، وقال: إسماعيل إمامكم أو قال: كافيكم ضعوا عليه هذه العمامة.
ومن مثل ذلك ما أخبرني الشيخ علي بن إبراهيم النقيح من بلاد ريمة، أنه أخبره ثقة فيهم وعدل ومن بلادهم أنه رأى في المنام مع ذلك الإختلاف جمعاً من العلماء والفضلاء وصفهم بالكثرة، وفيهم مولانا الإمام -عليه السلام- وكله نور يشبه النار التي يصطلى عليها من غير أن يكون لها لهب أو حريق والعلماء محدقون به، ويستضيئون بذلك النور.
ومن ذلك أنا حضرنا مع الفقيه (الريِّس) الكبير عماد الدين يحيى بن أحمد المخلافي الحيمي فذكر مثل هذا وقال: ومن عجب ما رأيت أنا كنا في صنعاء وقد اجتمعنا مع جماعة من الأعيان[42/ب] على مأدبة سمّاها، فتكلم بما شاء في هذا التعارض ما زاد ونقص من كلام المجالس، ثم اتفقنا على أن نفتح مصحفاً عندنا في كوة، وننظر فيه من يختاره الله سبحانه وتعالى للخلافة، وقرأنا الفاتحة ودعونا جميعاً وفتحتُ المصحف فكان أول سطر من الجانب الأول: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} إلى قوله: {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} وقال: فقلنا: أعيدوا ذلك فكانت الآية الأولى، ثم قرأنا ودعونا وفتحنا ثالثة فكان كذلك، فقال فلان من أهل ذلك المجلس: ادعوا واقرأوا، هل فلان من أهل المعارضة يصلح، وإذا في السطر الأول{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } أو ما هذا معناه، الشك مني، ثم أعادوه فكان كذلك أظنه قال ثلاثاً.
[المعارضين لإمامة المتوكل على الله]
فصل نذكر فيه قضايا تتعلق بهذا التعارض. قد ذكرنا أن تعز العدنية كان فيها الشيخ (الريِّس) محمد بن ناصر بن علي المحبشي على عسكر تعز وكانوا زهاء من ألف نفر، وكان الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- استخلفه عليها بعد وفاة حي الشيخ (الريِّس) المجاهد المنصر بن عبدالله الطير رحمه الله(تعالى) ولما وصله الخبر بوفاة الإمام المؤيد بالله -سلام الله عليه- ودعوة مولانا أحمد -أطال الله بقاه- والأكثر ممن حضر هذه البيعة وغاب عنها رجع فيه إلى القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن سعد الدين -أطال الله بقاه- لعلمهم نصيحته للمسلمين واختصاصه بالقرب من أمير المؤمنين.
وأخبرني ممن حضر سوق وادعة أنه لما وصلتهم دعوة مولانا أحمد تلكأوا وبعدوا عنها، ثم قالوا: انظروا هل هي بخط القاضي صفي الدين أم لا؟ فلما عرفوا خطه انقادوا.
وأخبرني القاضي -أيده الله- أنه اتفق الكتاب إلى وادعة كان بخطه كذا وكذا غيره ممن سطر في الشام واليمن، وهذا الشيخ محمد ومن معه كذلك؛ فامتنع على مولانا محمد بن الحسن -أطال الله بقاه- ثم على مولانا الإمام -عليه السلام- وماطلهما جميعاً وحفظ المدينة فقط، وبقى فيها حتى وصل مولانا أحمد ضوران كما تقدم، وسلمها إلى مولانا محمد بن الحسن -أطال الله بقاه- بعد أن كان مُحِطاً عليها بنفسه وكذا صاحب حِصن القاهرة وهو الشيخ قاسم بن ناصر الأبيض الكلبي، فإن والده كان عند مولانا أحمد وأمر ولده بحفظ الحصن ففعل، ولما وصلتهم كتب مولانا أحمد بالتسليم سلموا واعتذروا عن تخلفهم بأنه قد سبق منهم عهد، وقبل منهم مولانا محمد بن الحسن -أطال الله بقاه- وعظمهم كثيراً[43/أ] وكان له الحجة عليهم لكونهم ولاة أبيه -رضوان الله عليه- وكان العفو عنهم من مناقبه في العفو وإسبال الستر والمكافأة عن الإساءة بالإحسان، وكان قبل قضية خدار، وصل إلى مولانا الإمام السيد العلامة صفي الدين شيخ العترة الهادي أحمد بن علي بن الحسن الشامي ثم المسوري -أطال الله بقاه- من صنعاء بخطاب في ترك الحرب وأن يبقى أهل القبلة وصنعاء وجهاتها على البيعة الأولى، وأهل اليمن الأسفل وغيره إلى مغارب ضوران وجهاته على البيعة الأخرى حتى ينظر لنفسه، وكان الإمام -عليه السلام- جنح إلى ذلك حذراً من سفك الدما، والفتنة (في) الدهماء، فوقع ما وقع خلال ذلك.
ومن مثل ذلك أن السيد العلامة الكبير ذا الفضل الشهير والعلم الغزير أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي -عادت بركاته- لما وصله الخبر بوفاة الإمام -عليه السلام- أجاب في ليلته بتصويب أهل البيعة الأولى، وقرأ جوابه بالجامع المنصوري بمحروس شهارة، ثم إنه رجع عن ذلك وصرح بأنه مغرور وأن الإمام عنده إسماعيل -عليه السلام- وكتب رسالة نسختها[43/ب] ....... .
ولما ظهرت هذه الرسالة رجع كثير وأيس المخالفون من البيعة الأولى إلى الخلاف كما سيجيء إن شاء الله تعالى مع ما تقدم.
ومن ذلك أن السيد العلامة رضى الدين وعمدة المجاهدين هاشم بن حازم بن راجح بن أبي نمي الحسني المكي -رحمه الله- كان على مدينة زبيد وبلاد تهامة كلها غير بلاد حيس وموزع والبنادر وبلاد أبي عريش ولديه عسكر كثيرون خيلاً ورجلاً، وهو مع العلم والرئاسة من أهل الورع والإحتياط، فلما حصل التعارض وصل إلى الإمام (عليه السلام) إلى ضوران في نحو مائة فارس، وثلاثمائة راجل يسأله عما في نفسه، ويريد أن يتوسط بما يصلح الله به البلاد والعباد، فخفض له الإمام -عليه السلام- الجناح، وبسط له الإنصاف والصلاح، حتى بايع وتابع، ووقعت القضايا المذكورة وهو في ضوران، وبقى أياماً وعاد إلى زبيد، ثم توفي -رحمه الله- كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك تمام أخبار السيد العلامة (الريِّس) -أطال الله بقاه- الصمصامة، عز الدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله -سلام الله عليه- فإنه بقى في خولان، ثم تقدم إلى الإمام -عليه السلام- وبايع ووافق وصوله إلى ثلاء وما يتعلق بها.
ومن ذلك أن الفقيهين العالمين الفاضلين يحيى بن أحمد البرطي والحسن بن أحمد صالح الحيمي -أسعدهما الله- وصلا إلى شهارة المحروسة بالله على نحو من سبق من السيد العلامة أحمد بن علي الشامي (أطال الله بقاه) فأجابهم مولانا أحمد بمثل ما أجاب مولانا -عليه السلام- السيد أحمد، ووصلا إلى الإمام -عليه السلام- فبايعاه، ولم يجدا من الدخول في الإمامة عذراً فكانا مع الإمام -عليه السلام-.
[أخبار صنعاء]
ومن ذلك تمام أخبار صنعاء المحروسة بالله فإنهم خرجوا إلى الموالاة وحفظ المدينة، ولم يقع على أحد فيها كدر وانجد الحال، وبقى مولانا علي بن أمير المؤمنين -أطال الله بقاه- عليها موالي مولانا أحمد بن الحسين -أيده الله- بلاد أبيه من بلاد صنعاء وبعض بلاد همدان وبلاد ثلاء الذين واجهوا إليه والباقي من بلاد مولانا أحمد مع الروضة إلى ولده عزالدين محمد بن أحمد -أطال الله بقاه- وصلح الحال.
وأمَّا بلاد عمران وحصارها فبقي فيها الشيخ (الريِّس) ناصر بن عبدالملك بن عمران، حافظاً لها حتى وصل كتاب مولانا أحمد بن أمير المؤمنين مع كتب مولانا الإمام -عليه السلام- بعد الإجتماع المتقدم ذكره، وخرج منها وكان محاصراً لعمران النقيب المجاهد سرور بعد الإجتماع المتقدم ذكره، ولم يقع في عمران خلل أيضاً، وقد قُتل من أصحاب النقيب سرور ثلاثة أنفار ومن أهل[44/ب] عمران نفر واحد، ووصل الناس إلى الإمام -عليه السلام- أفراداً وأزواجاً حتى ضاق الحصن بمن فيه، نعم وتدبير اليمن ذمار إلى المخاء وكلها إلى مولانا الحسن -أطال الله بقاه- وقد عادت خيله وعساكره إليه بعد فتح مدينة صنعاء، وهو يتابع الإمداد للإمام -عليه السلام- من الطعام والبر والدراهم على أنواعها والإمام -عليه السلام-، يعطي كل ما وجد حتى إنه لا يحصى عطاؤه في الواحد، فهو -عليه السلام- كما قال القضاعي :
ملت جهابذ فضل وزن نايله .... ومل كاتبه إحصاء ما يهب
وأقبل الناس إليه حتى أنه إذا جلس في الوسيع ضاق بهم الفضاء فيتزاحم الناس عليه، وإنه إذا خرج لا يحفظ نفسه إلا على فرسه من تهافتهم عليه عند رؤية طلعته الكريمة، وفي كل يوم إلى زيادة إلى يوم الناس هذا -أطال الله عمره وتايع نصره- والحمد لله رب العالمين.
ووردت عليه التهاني.................. [45/أ]................. .
نعم وكان قراءة الفضلاء قبل الدعوة في كتاب (الكشاف) على الإمام، واستمر على ذلك تقدماً مع الاشتغال بهذه العظائم، ثم إن الإمام -عليه السلام- استرجح الفتح لمولانا أحمد إلى صنعاء وجهاتها، وأن يقيم فيها أياماً ريثما يصلح حاله ويجتمع بأهله في صنعاء والروضة، ويسير إلى بلاد صعدة، وقد جعل ولايتها وبلادها إليه إلا مواضع سمّاها، وصلح الحال وأنجد، وتمم الله سبحانه وتعالى ما قصد، وأرسل معه لسد الجناح مولانا إبراهيم بن أحمد بن عامر وسيدنا العلامة شمس الدين أحمد بن سعد الدين، والسيد العابد والزاهد العلامة محمد بن الحسن بن شرف الدين، والقاضي العالم جمال الدين علي بن سعيد الهبل ، ثم جهز معه الفقيه المجاهد (الريِّس) -أطال الله بقاه- محمد بن علي بن جميل السيراني في نحو أربعمائة نفر من خاصة العسكر، وأمره أن يكون معه حتى يجتمع إليه أصحابه، وجهز ما يحتاجه لسفره، وكان قد تفرق أعوانه وأحواله.
[دخول أحمد بن الحسن صعدة]
ذكر دخول مولانا أحمد -أيده الله- صعدة وجهاتها وما وقع في الشام وبلاد صعدة والظواهر، وبلاد شهارة من الأحداث والهزاهز، وكذا تمام ما وقع في جهة اليمن خارج تهامة؛ فإنها صلحت للسيد هاشم -رحمه الله- ونذكر جملها شيئاً فشيئاً، ونقدم أخبار جهات اليمن على بلاد صعدة.
فأما بلاد رَيْمَة فوقع فيها بعض اختلاف، فأرسل الإمام -عليه السلام- الفقيه بدر الدين محمد بن علي بن جميل، وكان مولانا أحمد أرسل عسكراً كذلك من طريق تهامة فصار غالب ريمة مع أصحاب الإمام -عليه السلام- وواليها السيد الجليل الكامل علي بن إبراهيم بن المهدي بن جحاف، وكان في شهارة المحروسة بالله حضر البيعة الأولى مولانا أحمد، وبقي ولده السيد ضياء الدين زيد بن علي فيها حتى وصل والده، وترك العسكر الذين معه من جهة مولانا أحمد في بعض تهامة، ووجد الطريق إلى الإمام -عليه السلام- فوصل إليه وكذا ولاه البلاد الحرازية والمغربية وصلح الحال.
[موالاة شهارة ومن فيها]
وأمَّا شهارة المحروسة بالله وبلاد الظواهر فقد ذكرنا صفة دخولهم وقد استخلف عليها وعلى بلادها ولد أخيه مولانا الحسين بن أمير المؤمنين المؤيد بالله بعد تلاح طويل، وكلام غير قليل، والأهنوم وجهاتها[46/أ] مايلون إليه فحفظهم من الاختلاف، ولما صح له ما اتفق لعمه في ثلاء أظهر أمره وجمع من في شهارة المحروسة بالله مع الأهنوم وعسكر أبيه وأخبرهم بما وقع وعرفهم بما عنده من الرأي، فكان كمحرك المشتاق، ومعلم الفارس السباق، وكان الجواب عليه:
أَملت هوى قد كان من قبل مايلا .... وهِجْت غراماً كان من قبل حاصلا
وأملت فهداً كي تصيد فلم ترم .... ضبياً وجرةٍ حتى ولجن الحبايلا
فاجتمعوا وبايعوا، وإلى موالاة إمامهم سارعوا، ووجهوا الكتب إلى الإمام -عليه السلام- بمثل ذلك، وكان [قد] حدث في بلاد عذر أحداث كثيرة وطالت، ثم في وادعة الظاهر، فأمَّا عذر فإنه كان وقع بينهم في الأسبوع الذي توفى فيه الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- اختلاف بين عذر الغربي وقتل منهم قتيلان، وأمر الإمام -عليه السلام- عسكراً وتوفي وكفوا الشر للإنشغال بالحادث العظيم، وهيبة مولانا أحمد، فلما خرج من شهارة وحصل الإشتغال بما تقدم أضرموا الفتنة، وكثرت وتداعت الإختلافات ، وانقطعت الطرقات، وكثر القتل بين القبائل والإشتغال بما تقدم، فجمع مولانا الحسين عسكراً وانتهب قوماً، وغزى آخرين، وأخذ رهاين، وكانت قد عظمت الفتنة حتى لقد اقتتل عذر في سوق الهجر وقتل بعضهم في أعمال السوق، وما زالت بينهم الفتن إلى قريب السنة، ووصل الإمام -عليه السلام- كما سيأتي، وأطفأها الله بما سيجي إن شاء الله تعالى من الأخذ عليهم بالأشد.
[ذكر الإختلاف في وادعة الظاهر]
وأمَّا بلاد وادعة الظاهر فإنهم وصلوا إلى شهارة للتعزية في الإمام -عليه السلام- وكان العامل عليها السيد الفاضل القاسم بن حمزة بن يحيى الغرباني ، وكان قد وصل معهم إلى مولانا أحمد ومولانا الحسين -أطال الله بقاهما- فرجح لهم من رجح أن يكسوا مشائخهم ويعطوا عامتهم ما يقوم ببعض كسوتهم من الدراهم، فكره الذين لم تصل إليهم كسوة، ووقع في نفوسهم عليه، وخرجوا مغاضبين، ولحق في أثرهم السيد القاسم (والمشايخ وقد غلبت صدور العامة وتعاقدوا أن السيد قاسم) غير وال لهم وأن المشايخ كذلك.
فلما وصل السيد القاسم بلادهم هاجوا عليه مع اشتغال مولانا أحمد بما تقدم وأرادوا به العظيم وحاصروه في بعض بلاد المُقابلة، ثم أخرجوه من البلاد على مشقةٍ، ولما اتسق لمولانا -عليه السلام- الأمر وانفصل زيد من عمرو كره أن يكرههم بولاية السيد القاسم فأجابهم إلى إبداله، وقد وصل إلى الإمام -عليه السلام- العلامة فخر الدين[46/ب] (عبدالله بن عامر بن علي -رحمه الله تعالى- وكان مقيماً في بيته من هجرة حوث ، وكان مقيماً في حكم المعتزل وله رسالة سماها [ ] يحث فيها على الوفاق ويحذر من الشقاق والإفتراق) .....[47/أ]..... .[47/ب] ولما وصل إلى الإمام -عليه السلام- ولاه بلاد وادعة وما إليها، وكانت فيما سبق في أيام حي مولانا الإمام المنصور بالله -عليه السلام- ولايته له، وإلى صنوه المجاهد (الريِّس) محمد بن عامر -أطال الله بقاه- ثم إنه وقع في آخر أيام الإمام المؤيد بالله من النظر في التصرفات، فاعتذر إلى الإمام -عليه السلام- من العمل، فأعفاه بعد طول مراجعته، وكان السيد القاسم في حكم النايب عنه إذا رجع لعمله، ولما ولاه الإمام -عليه السلام- (وكانت قد افترقت) بلاد وادعة، وقتل منهم من قبل وظهرت فيهم المنكرات، وقطعوا الأعناب وأرسل الإمام (عليه السلام) عليهم العقوبات فلم تنجح فيهم، وكان حي السيد عبدالله -رحمه الله- قد صبر على كريه أحوالهم، فإنه رأى منهم غير ما يعرف من سابق أعمالهم، فكتب إلى الإمام -عليه السلام- بالبراءة منهم، وذهب مغاضباً إلى حوث، وهو مقره وإقامته فيه، وعظمت الفتن بينهم والمفاسد، فأرسل الإمام -عليه السلام- الفقيه بدر
الدين محمد بن عزالدين الأكوع والياً عليهم، وأرسل معه مشايخ وادعة الذين وصلوا إليه، وكانوا زهاء من خمسين رجلاً، فلما وصل الفقيه محمد كره المشايخ الأولون إقامة المشايخ الآخرين مقامهم وتقدمهم عليهم، وكثرت المغازي والغيارات ، ورجموا الفقيه محمد في مواضع ولم يتلقوه بما يحق؛ لكراهة بعضهم بعضاً، فكاتب الفقيه محمد إلى الإمام -عليه السلام- بما وقع واستدعى عقوبات وظن أنها تردعهم عن ذلك، وقد عظمت بينهم الإحن وتكاثرت الفتن، فعادوا على أنفسهم باللوم واجتمعوا وقصدوا السيد العلامة عبدالله بن عامر إلى هجرة حوث، ولاذوا به واسترضوه، وقالوا كلما وقع معنا مما تراه عقوبة لنا لعدم قبولنا أمرك أو كما قالوا، وها نحن تايبون من مخالفتك، وكانوا مع مسيرهم إليه فوق ألف نفر مع وجوههم، وكان السيد المذكور-رحمه الله- عزة وصدق حديث مع مكارم أخلاق وحسن رجوع بعد الحدة، فأعتقد أن هذا مما يوافق الإمام -عليه السلام- وأن ولايته باقية؛ لكونه الذي ترك البلاد باختياره، ولما كان يألف من الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- من القبول لقوله، فأخرج الرايات وشد الخيل، وسار معهم إلى بلاد وادعة، وكانوا قد تعطشوا له كثيراً، وقد طلع معهم من أهل هجرة حوث جماعة من السادة والفقهاء من الذين كانوا يألفونه وقصد الحصن، ومشهد السيد الفاضل الطاهر القاسم بن جعفر -عليه السلام- وهو الذي عمّر مرافقه المشهورة ووسع مسجده فهو في حكم هجرته ومكانه.
وأمَّا الفقيه محمد فهرب إلى جهات مرهبة [48/أ] بعد أن سمع من وادعة المكروه، وكتب إلى الإمام بما وقع في نفسه من الوهم، وأن السيد عبدالله أفتى بقتله وهوّل بما طلع به من حوث، وأوهم الإمام -عليه السلام- وغيره أنما يريد الشقاق للإمام -عليه السلام- والمعارضة، فكتب الإمام -عليه السلام- إلى ولد أخيه مولانا محمد بن أحمد، وهو حينئذٍ في خمر من بلاد بني صُرَيْم بما سيأتي من الأسباب، أن يتقدم بجميع من معه من العسكر إلى وادعة، وأن يحرب السيد عبدالله ومن صار إلى رأيه، فتقدم إلى الحصن وهو الموضع الذي فيه السيد عبدالله معظم الموقع، وأنه محمول على أنه أضعف محمل، وكان الإمام -عليه السلام- أيضاً[قد] أرسل صنوه السيد المجاهد محمد بن عامر للسعي في الصلاح والإعذار إلى صنوه فوصل السيد محمد إلى وادعة وقد عرف السيد معظم الموقع، فانسل في خواص من طريق أخرى إلى الإمام
-عليه السلام- فوافاه في صنعاء المحروسة بالله كما سيأتي إن شاء الله من أسباب اقامته فيها، وعرف الإمام -عليه السلام- فاستحى منه كثيراً وآنسه وأعطاه أشياء كثيرة مع جارية، وعرف أنه عجل عليه.
وأمَّا المحطة التي في وادعة فإن وادعة تشوَّشوا منهم، فوقع بينهم اختلاف كذلك، وقتل من وادعة نفران، ومن العسكر ثلاثة وخيلٌ عقرت، وكان ذلك مع السيد محمد بن عامر، فتوسط مع جماعة ممن تحب الصلاح في صلاحهم وطاعتهم، ووجه الإمام -عليه السلام- عليهم آداباً وغرمهم ما انتهبوا على العسكر ودية من قتل وصلح الحال.
وأمَّا الغيارات والمفاسد فكثرت كما سيجي إن شاء الله، وللسيد فخرالدين عبدالله بن عامر -رحمه الله- أشعار منها:............... .
[48/ب]............... [49/ب].............. [49/ب]............... .
[دخول أحمد بن القاسم إلى جهات صعدة]
رجعنا إلى توجه مولانا أحمد بن أمير المؤمنين -أطال الله بقاه- إلى جهات صعدة، قد ذكرنا مسير الفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل معه فيمن صحبه من العسكر، فلما اشتغل مولانا أحمد في صنعاء بالعيد وافتقاد ما يحتاجه لسفره أمر الإمام -عليه السلام- الفقيه المذكور بمن معه من العسكر بالتقدم إلى بلاد (الظواهر) وقد وقع بينهم اختلاف مع الاشتغال المتقدم، وحصل قتول وقضايا دون ما وقع في وادعة، فوجه الإمام -عليه السلام- عليهم العقوبات، وأمر الفقيه المذكور أن يطأهم بالعسكر المنصور، فصلحوا واستقاموا وكذا جهات شظب وظُلَيْمَة، وخرج مولانا أحمد من الروضة في صنعاء في آخر عام أربع وخمسين وألف[1664م] وقد اجتمع له أصحابه، وتشدّد الإمام -عليه السلام- في توقيرهم وحمل أثقالهم، وسار معهم إلى خمر، وأقام فيها أياماً لأمور استدعاها من شهارة المحروسة بالله، وسار من طريق خَيْوان وعيان ووصل صعدة المحروسة بالله في شهر محرم سنة [ ] .
[أخبار السيد محمد بن علي الفوطي]
[50/أ] وكان على ولاية صعدة المحروسة بالله من قبل مولانا المؤيد بالله، السيد الفاضل شرف الدين الحسن بن أحمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله الحسن بن علي بن علي المؤيدي، وكان لما بلغه وفاة الإمام -عليه السلام- في صعدة السيد الزاهد الفاضل محمد بن علي الهادي الفوطي وقد تقدم ما كان منه في أخبار مولانا المؤيد بالله -عليه السلام- وأنه ضعيف البنية، كثير الصيام والتقشف، فحصل في عقله ضعف فتصور في نفسه التصورات المُغيِّرة، فأظهر أنه المهدي المنتظر، واغتر به رعاع الرعايا، وطعن في السيرة، وشوش عليهم، وكانوا يحملونه على ظهورهم لضعفه فحصل بسببه قتول وفتنة في بلاد رازح وبني جماعة.
وقد تقدم في سيرة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- ذكرها، وصار بعدها إلى صعدة المحروسة بالله، وبقي في بعض مساجدها، فخاف السيد الحسن أن يحدث منه مثل ما تقدم؛ فاعتقله وبقي في الإعتقال إلى صبيحة اليوم الذي وصل فيه مولانا أحمد إلى صعدة، وهرب فلم يكد يلتفت إليه أحد في تلك الأيام، فكان في حكم الداعي الخامس، لكن لا التفاف إليه من أهل العلم وجمهور العامة، وحج بعدها في خمس وخمسين وألف[1645م]، وكان طريقه بيشة بن المهدي، وقد اجتمع للحج وركب قحطان المعروف بالكثرة، فأخذ يعاقدهم ويبايعهم على أنهم ينصرونه، ويظهر أمره في مكة المشرفة، ويخطب في المسجد الحرام فأجابه أقلهم.
ثم خرج سره في مكة، وبلغ الشريف زيد بن محسن، وكان في الحج القاضي العلامة الحبر صفي الدين وشيخ المسلمين أحمد بن سعد الدين -أيده الله- فأخذته عليه الشفقة وعلى المسلمين، وأن يحدث عليهم بسببه مشقة، فأرسل إلى الشريف في أمره فقبض عليه حتى قضى الناس مناسكهم، وقد شاع خبره في مكة، وحضرت أول جمعة بعد أيام التشريق، فاجتمع الأمراء وكل منهم ومن أعوانهم يتوقعون الحادث العظيم، وقدموا الخطيب المعتاد وأقاموا حوله بالسيوف مسلولة، ولما فرغ الخطيب قام للطواف واستلام الركن، فقام من رعاع الناس من يسلم عليه لاعتقادهم أنه المهدي، ثم آخر، ثم قام الأمراء وأصحابهم بالسيوف على أولئك، فحصل في المسجد فزع كبير، وانجزل أهل اليمن إلى جانب من مكة وغيرهم إلى الجانب الآخر، وذهب في ذلك الوقت أمتعة كثيرة، وما كاد يسكن ما وقع من الرهج ، فلولا ما تفضل الله من القبض على ذلك الشريف لهلك وهلك معه عالم والحمد لله رب العالمين.
ولما وصل مولانا أحمد -أطال الله بقاه- صعدة المحروسة بالله[50/ب] وقد اجتمع له عسكره وخزائنه، ووصل أهل الشام من بلاد صعدة وشرقاً وغرباً وكان قد غلفتها الفتن كما سيجيء قريباً إن شاء الله تعالى، فأحسن إلى عموم أهل تلك الجهات وكثر عطاؤه لهم وإحسانه إليهم مع لين جانب، وكانوا يعرفون من صحة الأمر والعزيمة والهيبة التي تمنعهم من الطمع والفساد، ثم خرج منهم من خرج إلى الإمام -عليه السلام- فأعطاهم أيضاً فوق ما يحتسبون كما ذلك دأبه المعهود، وسبيله ومنهله المورود، فهانت عندهم الدولة الإمامية، وأخذوا في بعض ما أعطوه من الطاعة الشرعية.
[دعوة إبراهيم المؤيدي]
ذكر ما وقع في بلاد صعدة في الفتن بعد وفاة الإمام المؤيد بالله-عليه السلام-.
قد ذكرنا دعوة السيد إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عزالدين بن علي بن الحسين بن الإمام عزالدين بن الحسن بن الإمام علي بن المؤيد بن جبريل بن الأمير المؤيد بن أحمد بن الأمير شمس الدين يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الناصر بن الحسن بن المعتضد بالله عبدالله بن المنتصر لدين الله محمد بن الإمام المختار لدين الله القاسم بن الناصر للحق أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق-صلوات الله عليهم- وأنه دعا يوم الأحد سلخ رجب أو غرة شعبان، وكان متقدماً (على الإمام) بساعة أو ساعتين من ذلك اليوم، ونشر دعوته إلى الإمام -عليه السلام- وإلى جميع الجهات، فألتفت إليها جماعة من بلاد صعدة وأبى ذلك الأكثرون، فأجابه الإمام -عليه السلام- بهذه الرسالة....... [51/أ]...... [51/ب] ثم لا زالت المكاتبة بينه وبين الإمام -عليه السلام- وهو يوهم الإمام -عليه السلام- أني قد دخلت في أمر أعلم قصوري عنه، وإنما المراد معرفة الوجه الذي يحصل به التسليم، ويقرب تارة ويبعد تارة أخرى، وقد حصل في بلاد صعدة فساد كثير وسفك دماء ومنكرات.
[ما حدث في صعدة من مشاكل]
من ذلك القضية العظمى فيما بين قبايل سحار ومن إليهم من بني جماعة وأحلافهم وبين آل عمَّار من بكيل ومن إليهم من دهمة وأحلافهم، وكان لا يزال بينهم العداوة المتقدمة، وقتل من الفريقين نحو سبعين قتيلاً في هذه القضية، وقد ألّبت دهمة مخالفها وهموا بصعدة وما حولها، ودخلوا مواضع مما يلي القبلة والمخلاف.
وفي هذه الوقعة ظهرت كرامة باهرة وآية ظاهرة كما أخبرني الفقيه علي بن محمد بن عشوان العمّاري، وهو من يكتب الدرسة في المشهد الهادوي -عليه السلام- أنه رأى في اليوم الذي دخلت فيه القبايل المواضع المذكورة، وهو وآخر معه فارساً على حصان أخضر خارجاً من معلامة القرآن في شرقي المؤخر من الجامع المقدس وخرج من الباب المقفول وهما ينظران.
قال الراوي: وأخبرنا شيخنا هل رآه كذلك؟ فقال: لا، فأخبرناه بما شهدنا، فقال: غارة هدوية تدفع عن صعدة وأهلها هذه المخاوف، وكان كذلك، وما بلغنا إلا هزيمتهم في ذلك اليوم وليلته. انتهى.
فالذين صاروا إلى السيد المذكور أعطوه ظاهر الطاعة، ولا يكاد يمضي حكمه فيهم مع حضورهم مجلسه كيف من غاب عنه.
أخبرني النقيب الناصح المجاهد صالح بن سعيد بن عواض المذعوري ، وهو من أهل صدق الحديث مع الديانة الحسنة إنه خالطه في تلك الأيام، وأنه على قوم ممن بايعه ممن تقرب من هجرة فللة آداباً، فقال له السيد المذكور: يكون نصف ذلك إلى صعدة لوالي الإمام -عليه السلام- ونصف لنا، ولا يعرفون أن ذلك إلينا بل يقبضوه ويعطونه على صفة لا يعرفها أحد، يجعلها لهؤلاء الذين معنا وغير ذلك من ضعف الحال وعدم القدرة والنهضة.
وكان قد اجتمع له سواد من الناس وقصد رازح وبلاده وصار إلى رأيه السادة آل المؤيد إلا القليل، وكان في رازح والٍ من جهة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- وكان الإمام -عليه السلام- قرره على ولايته هو والفقيه الأفضل عماد الدين يحيى بن سيلان المصّرف العياني فدافعهم بمن أجابه ثم غلبوا عن الجبل، فانحاز إلى حصن عَمَّار ، ووقع فساد وخراب منازل وحرب قُتل فيها أنفار، وغلب السيد إبراهيم على أكثر البلاد[52/أ] إلاَّ بلاد خولان، فإنه كان فيها من قبل الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- السيد المجاهد العلم شمس الدين أحمد بن الهادي بن هارون بن الحسن الهادوي -أطال الله بقاه- ولأهل الشام إليه ميل يعرفون فضله الشهير، فمنع أكثر بلاد خولان وأجابوه ووقع اختلاف بين القبايل كما تقدم، فَقَلّ بلاد لم تقع فيها الحرب والفتنة، وعظمت المنكرات، وخشي على صعدة الإنتهاب حتى لقد وقع القتل والفساد فيها، واستجار من ضَعُفَ من تُجارها بالقبايل، ولما وصل مولانا الصفي -أطال الله بقاه- هابه الناس وأجلّوه، فارتفع السيد إبراهيم من رازح وقل الفساد.
أخبرني النقيب المجاهد صالح بن سعيد المذعوري أنه كان رسولاً لمولانا أحمد [ابن الحسن] إلى السيد إبراهيم وعلى بلاد رازح، وكان بصحبته جماعة من العسكر، فوافى السيد إبراهيم عند مُنْصرفه من رازح، قال: فلما لقيته مال معي من الطريق وسألني عن مولانا أحمد ومن معه، وقال لي: هذا الوالد أحمد سلم الأمر وبايع، وهو أقدر مني وأنا واضع يدي في يده، ومسلم للإمام -عليه السلام- فهو أولى مني وأنفع للإسلام أو كما قال.
ولما وصل إلى هجرة فللة ونحن معه، كاتبه من صعدة من يريد الاستظهار ببقائه على المعارضة لأغراض، وأمدوه بمال، قال: وإذا قد سمعت منه فللة غير القول الأول، والكتب بينه وبين الإمام -عليه السلام- لا تزال، وقد وصل إلى الإمام -عليه السلام- بعض السادة آل المؤيد والإمام -عليه السلام- يلين (له) ويبسط الإنصاف ويعرفه أنه لا يريد إلا الحق والإئتلاف، فكن مكانك على ما أنت عليه ولا تعداه، حتى يحصل الإجتماع وننظر نحن وأنت الصواب المطابق للسنة والكتاب، فإن كان الحق في يدك فلست أولى بإتباعه مني، وإن كان عندي فليس على متبع الحق غضاضة أو كما قال.
أخبرني بعض الخواص أن الإمام -عليه السلام- جعل للسيد إبراهيم ولاية فيما بينه وبين الله سبحانه، إن علم الله سبحانه بطلان إمامته وأخذ منه مثل ذلك، ولم أقف على حقيقة وإنما ذلك من طريق واحدة، والكتب لم تزل وهي كثيرة منها هذا الكتاب وهو أجمعها................ .
[52/ب] ولما وصل مولانا أحمد كما تقدم وهو على دعواه كان يحضر معه في صعدة في جماعته وكان يكثرون إلى خمسمائة وأكثر وأقل، فإذا كان يوم الجمعة يخرج يصلي خارج صعدة [ ] الخلاف والفساد والإمام -عليه السلام- يكثر التواصي بابقائه على حاله حتى حصل المراجعة والبصيرة، فانضم إلى ذلك كا تقدم من [ ] القبايل وعدم التعويل على الدولة الإمامية، وقل المدخول، وحصل الاشتغال بهذ الإختلاف عن جميع الحقوق التي بها قوام العسكر وأهل الحقوق، فكتب مولانا أحمد إلى الإمام أن هذا الصلح كان فيه فساد الأمر، ولم يقف السيد إبراهيم على الحد الذي أوقفتموه عليه؛ فكتب الإمام إلى السيد المذكور ما هذا نسخته] .......................... .
[53/أ]................. .
[53/ب] ودارت المكاتبة على أن السيد المذكور يلقى الإمام إلى صنعاء، وتقدم الإمام -عليه السلام- في أواخر شهر رجب عام خمسة وخمسين وألف [أغسطس 1645م] إلى مَعْبَر وأقام فيه ليال، ثم سار مُغذاً إلى صنعاء المحروسة بالله، وأخبرني بعض الخدم لمولانا الإمام -عليه السلام- وهو من الترك الذين لا يعرفون هذه المقاصد الشرعية ولا السبب الداعي إلى هذه الحركة المتوكلية، إنه نام تلك الليلة في معبر إلى جانب شفير البير المعروف ببير الهداء في معبر، فأيقظه صوت يتكلم من البير المذكورة: قم فالحق بالإمام، ولا تجده [إلاَّ] في صنعاء، فاستيقظ ووجد الناس يتلاحقون، فلم يدركه إلا في صنعاء، وفي لفظ الهاتف المذكور باسم الإمام وتسميته (الإمامة) والخبر بقصده صنعاء (ولا يعرف) التركي أن المقصد فوايد لا تحصى، وإيماء إلى حقيقة هذه المشكاة لا تطفى. انتهى.
وكان قد عظم الفساد في بلاد صعدة فأرسل الإمام[54/أ] مولانا محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله -عليه السلام- في نحو ألف من العسكر وعدة من الخيل، وأمره أن يشدّ عضد عمه الصفي -أيده الله- وأن يستعجل السيد إبراهيم للقاء المضروب، وبضبط البلاد من الفساد الذي بين القبايل.
ولما وصل إلى صعدة انقبض السيد إبراهيم في فللة وانحاز إلى البلاد التي كانت موالية، فراسله مولانا محمد بن الحسين وبعث إليه بكتب الإمام -عليه السلام- وأخبره أن الإمام -عليه السلام- أمره لأحد أمرين:
إما الوصول للمناظرة على الوعد، كما جاءت به السفراء أو الخلاف ووجب جهادك أو كما قال، فأجاب السيد: إني عازم على لقاء الإمام، ثم قدَّم وأخر وأهل الغرض يصرفونه عن ذلك حتى ضرب موعداً ووصل إلى صعدة على حاله الأول بجمع من أصحابه، فأنزله مولانا أحمد أحسن منزل، وقال: تجهز على اسم الله إلى الإمام -عليه السلام- فتلكأ وأهل الأغراض يطولون لئلا يخلو الشام من التعارض، وقد كثر العسكر في صعدة فيحتاجون إلىطلب الحقوق المهملة، ويقيمون التناصف في الفتن ويعاقبون أهلها، فأظهر السيد إبراهيم أن أموره لما تنتظم، وأنه يعود إلى فللة ويأتي فيما بعد صفة فقلت: حتى يتمكن مما قد تصور له من البقاء على المعارضة، وقد حضروا في القصر وفي دار المطهر أيضاً، وكان خالياً لمولانا محمد بن الحسين وأصحابه، فأظهر مولانا أحمد الجدّ، وقال: قد فسدت البلاد بهذه المواعيد، والآن قد صار الفساد في المدينة وفي الجُند فلا افتراق من هذا المجلس إلا بالعزم إلى الإمام -عليه السلام- طوعاً أو كرهاً كما قال.
فتكلم بعض السادة من آل المؤيد وقال: عبت وغدرت يا كذا، وهَمَّ بمولانا أحمد بالسلاح كما أخبرني من شهد ذلك فقام الحاضرون من أصحاب مولانا أحمد وقبضوا على السيد المذكور، فجرد بعضهم سلاحاً أيضاً فقبضوا بعد ذلك على الجميع من السادة آل المؤيد، وصاح مولانا أحمد بابن أخيه مولانا محمد بن الحسن، وقال: اذهب إلى الإمام لم تستح مني في يوم ثلاء أو كما قال، فتوجه مولانا محمد بن الحسن إلى الإمام -عليه السلام-.
وأمَّا السادة فجعلهم مولانا أحمد في الحديد ولما وصل به مولانا محمد بن الحسن العَمَشِّية وقد جعل معه ثقاته لحفظه انسل بعد صلاة العشاء الآخرة إلى الهرب، فأدركه الموكلون به، وأعادوه على حالة غير[54/ب]موافقة، ثم قدم إلى الإمام -عليه السلام- إلى صنعاء.
[وصول إبراهيم المؤيدي إلى الإمام]
ولما وصل إلى الإمام -عليه السلام- شكى أنهم حملوه كرهاً، وشكى أيضاً ما وقع في الطريق.
قال الإمام -عليه السلام-: هذا الولد محمد نقيدك منه ونأخذ لك منه حكم الله سبحانه وتعالى، وأما الحمل إلينا كرهاً فها أنت في سعة نعيدك إلى محلك الأول سالماً غانماً، وهذا الرسول مني لاطلاق أصحابك الذين في صعدة وبذل له الإنصاف، وتايع له الإجلال والإتحاف من جميع أبوابه، وبسط له الإحسان من وجوه أسبابه.
وأمَّا مولانا محمد فعفى عنه في الحال وبقى يرتأي العود إلى محله الأول أو التسليم، وكان لا يحضر صلاة الجمعة، بل إذا قامت مال بمن معه من أصحابه إلى بعض مساجد صنعاء فيصلي ظهراً والإمام -عليه السلام- مع ذلك يتابع له الإحسان ويبسط له الجناح والأمان.
[مبايعة إبراهيم المؤيدي للإمام]
ولما كان إلى يوم في رمضان أتى إلى الإمام -عليه السلام- وعرّفه أنه يريد الدخول في ما دخل فيه الجمهور، وأنه متابع مبايع، وأن ذلك يكون بمحضر من العلماء والفقهاء والرؤساء ليشهدوا عليه، فأرسل الإمام بجميعهم فاجتمعوا في الديوان الكبير في قصر صنعاء، منهم السيد الحبر الفهامة المجاهد أحمد بن علي الشامي ، والقاضي العلامة الفاضل إبراهيم بن يحيى السحولي الحاكم في صنعاء، والقاضي العلامة صفي الدين، وبركة المسلمين أحمد بن سعد الدين، والسيد العلامة شرف الدين الحسن بن أحمد بن الجلال اليحيوي، والقاضي العلامة صارم الدين إبراهيم بن الحسن العيزري الحاكم، والقاضي العلامة شمس الإسلام أحمد بن سعيد بن صلاح الهبل . وغيرهم ممن يطول ذكر مشاهيرهم مثل: الفقيه علي الشارح الذماري المدرس في العلم الشريف، والسيد الجليل شرف الدين بن الحسين التهامي، [وكان] عالماً عاملاً إلى أكثر من مائة وسواهم من أعيان الناس وكبارهم وقد جلس الإمام -عليه السلام- على كرسي والسيد إبراهيم إلى جانبه، فلما حصلوا قام السيد المذكور فخطب خطبة بليغة وذكر قيامه ودعوته وأنه لا يريد بها إلا الله سبحانه وتعالى، وأنه الآن قد عرف فضل الإمام -عليه السلام- واستحقاقه المقام دونه، ثم قال له: وأنا أشهدكم بالبيعة والدخول فيها في ما دخل فيه الناس وكان من ألفاظه............ . ثم تقدم وبايع، وأظهر التوبة مما وقع بسببه وسُر[55/أ] المسلمون بذلك، ثم فتح قراءة على الإمام -عليه السلام- وحضر الجمعة وتكلم القاضي العلامة صارم الدين وبركة المسلمين إبراهيم
بن يحيى السحولي -قدس الله روحه في الجنة- وذكر بيعته وتسليمه في الخطبة الثانية ، فقال فيها: الحمد لله الذي حبب إلينا الإنصاف، وجنبنا طرق المتاهة والإعتساف، وجعلنا للحق تابعين، ولأئمة العترة الطاهرة -صلوات الله عليهم- مشايعين، إذ خصهم الله بالتطهير، وفرض مودتهم وجعلهم سفن النجاة، وباب حطة الذي من دخله أدرك ما رجا، لا يدرك رائحة الإيمان إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يبوء بالخسران المبين إلا من أنكرهم وأنكروه، وأرشدنا وله المنة لمعرفة حقوقهم، والإهتداء بأنوارهم وسلوك طريقهم، فنحن بلطف الله وتوفيقه أمة يهدون بالحق بعون الله متعاضدة متناصرة، وقلوبنا بهداية الله فيه مجتمعة متظافرة، لا نألوا جهداً في جمع شمل الإسلام وصيانته عن الإختلاف أمراس التعاضد والتناصر فيه والإئتلاف حفظاً لحماية حوزة الإسلام، وصيانة لجنابه المنيع زاده الله حماية وصيانة عن أن يُهضم أو يضام وتيمماً لسعي أئمة الهدى الذين درجوا، وانتهاجاً لسبيلهم القويم الذي سلكوه ونهجوه، وكان من أفضل[من سلك هذا المسلك العظيم، ومشى على هذا الصراط المستقيم السيد العلم العلامة البحر المدره الفهامة، برهان الدين علم السادة الماجدين إبراهيم بن محمد بن أمير المؤمنين، فإنه -أسعده الله في الدارين- عرف الحق فاعترف، وشرح الله صدره فما شك ولا انحرف، وعلم أن مولانا هذا إمام المسلمين المتوكل على الله رب العالمين، أحق العترة الطاهرة بهذا المنصب الشريف، وأولاهم بالنهوض بأعباء هذا التكليف، خليق باقتعاد تخت الإمامة حقيق بما أهله الله له من خلافة النبوة، المرتبة العظمى في الزعامة،
قائماً بواجب حقوقها لأشراطها سالكاً مسلك آبائه الكرام مستقيماً على صراطها، فبذل هذا السيد الكريم لهذا الإمام العظيم عهد البيعة الميمونة مختاراً لإمامته، طائعاً متقلداً عهد ولايته ونصيحته ونصرته، مطيعاً سامعاً عاقداً عزمه على نصرة هذا الإمام المتوكل على الله بالقلب واليد واللسان، وجهاد أعداء الله بين يديه عن أمره بالسيف والسنان، مطرحاً لما كان يحمله من الأعباء عادا لذلك من ذخاير العقبى، وتأديته ما أوجبه الله من حق أئمة الهدى أولي القربى، وهاهو -أسعده الله- حاضر للجمعة[55/ب] والجماعة، يسمع هذا الخطاب، متقلداً هذا العهد الذي طوقه الله الرقاب، وأكد أمره في السنة والكتاب، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، وشرح الله صدره وأصلح شأنه وزاده في درجات الفضل مكانة إنه على كل شيء قدير جدير. انتهى.
وأقام السيد المذكور في نهاية الإعظام، وغاية الإكرام في حضرة الإمام
-عليه السلام- ثم استأذن في العود إلى بلاده لافتقاد خاصته فجهزه الإمام -عليه السلام- بما يكثر تعداده وأركبه من نجايب الخيل وقد أرسل من يطلق أصحابه المحبوسين في صعدة، وفارق الإمام -عليه السلام- شاكراً مشكوراً، راضياً مرضياً. ولما وصل إلى عيان وزار القاسم -عليه السلام- أخذ ذات اليمين حتى طلع طشة برط ، وكان القاضي الأعلم أحمد بن علي بن قاسم العنسي قد بايعه ودعا إليه في جهات برط بمن أطاعه، وأضافوه وكتب من هنالك رسايل إلىكل جهة أنه باق على دعوته، وإنما كان منه من التسليم تقية وخوفاً:
أيكذب فيكم الثقلين طرا .... ونقلبكم لأنفسكم شهودا
فلم يلتفت إلى ذلك أحد وصغر في أعين الناس، وعرفوا أنما كان هذا منه إلا طمعاً في الرئاسة والتنافس على الدنيا، وكان قد ظهر منه في خطبته في صنعاء عند البيعة التألم لآل المؤيد، واشترط له ولهم فصغر أيضاً في أعين الحاضرين، وربما وأمكن للمتناول منه أن يتناول، ولما أضاف إليها هذه الأخرى قطعوا بذلك.
مما أخبرني بعض الفقهاء من خواص حي مولانا السيد العلامة شيخ العترة أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي -نفع الله به- قال: كنت عنده -رحمه الله- وقد أوجد من الكبر، فقيل له: هذا رسول من السيد إبراهيم فأذن له بالدخول إليه على مشقة، فلما وصل أعطاه رسالة السيد.
ولما وقف عليها رمى بها إلى الرسول وقال: لا جواب لك عندي، ثم قال أحملوها إلى الوالد يحيى والجواب منه، ثم أخذ القلم وكسره، وقال: لا خطاب إليَّ في هذا أو كما قال، فلما خرج الرسول سألت السيد -رحمه الله- عن السيد إبراهيم، فقال: ما أحوجه إلى القراءة في صعدة.
نعم! وأقام السيد إبراهيم في برط أياماً ثم طلب من أهل برط من يسير معه حتى يتصل ببلاده من أعمال[56/أ] فللة وجهاتها، فساروا معه ليلاً، ولما كانوا بالقرب من مخلاف صعدة وقد بلغ مولانا فأرسل كميناً خيلاً ورجلاً فأخطاه بعض الكمين، ووقع مع بعضهم فقتل من أهل برط ومن أصحاب مولانا أحمد ستة أنفار، ونجا السيد إبراهيم وقد أخذ أهل برط على أصحاب مولانا أحمد فرساً أو فرسين ثم لحق فللة وخاف، فسار إلى نواحي قراض وقد قل أتباعه كما تقدم.
[ذكر وفاة الأخوين آل أبي نمي]
ولنعد إلى أخبار مولانا -عليه السلام- في ضوران وقد ذكرنا وفاة السيد العلامة رضى الدين هاشم بن حازم بن راجح بن أبي نمي في زبيد، وتوفي أيضاً صنوه السيد فايز بن حازم بعده بأسبوع، وكان وفاته في بلاد الشقيق من تهامة الشام، وكان إليه ولايتها وبلاد الشقيق هذه إلى القنفذة مما افتتحها الإمام المؤيد بالله -عليه السلام-.
ولما كتب الشريف الجليل المعظم زيد بن محسن -أطال الله بقاه- إلى مولانا الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- فيما بلغني أن بلاد مكة محيطة بها أعتام ولاة العجم فإذا تطرق لهم تناول شيء منها كان فيه اختلال نظام الأشراف، فرأى الإمام -عليه السلام- الوفاء بالحقين نحو الشريف صاحب مكة، وحق الرعية الذين أولوه بأن جعل ولايتهم لشريف من أصحاب الشريف ممن يقف على المراسم الإمامية والحدود، فوقع الاختيار على السيد فايز، فكان فيها بنظر الإمام -عليه السلام- حتى مات، ثم هم على ذلك الآن الولاة من قبل الإمام -عليه السلام- يصلح فيها من الأشراف أهل مكة.
نعم! وقد ينقد بعض ما كان عليه السيد هاشم -رحمه الله- من الورع والاحتياط، ثم إنه أوصى وصية تليق بمثله، وخلَّف كثيراً من النقود والآلات والخيل وغيرها لبيت المال، وأن سبيلها أن تصرف إلى الإمام -عليه السلام- وعظم موقع وفاته -رحمه الله- على أهل تهامة والجبل؛ لما كان فيه من العدل مع الحزم، وخَّلف أربعة أولاد أكبرهم سناً علي بن هاشم، فأقره الإمام -عليه السلام- على ولاية أبيه واستصغره مولانا محمد بن الحسن -أطال الله بقاه- وهم أن يولي غيره إذ تهامة ولايته، فلم ير ذلك الإمام -عليه السلام- فوصل السيد علي بن هاشم بأكثر خيل أبيه وحفدته إلى محروس الدامغ في شهر محرم سنة خمس وخمسين بعد الألف[فبراير1645م] فأرسل مولانا محمد بن الحسن الشيخ محمد بن ناصر المحبشي لولاية مدينة زبيد وما إليها، وأن تبقى[56/ب] للسيد علي بن هاشم ولاية بيت الفقيه[أحمد] بن عجيل وولايته بيت الفقيه الزيدية وساير تهامة، وكانت تهامة ملكها في ولاية مولانا محمد [بن] الحسن -أطال الله بقاه- كما تقدم فكره الإمام ذلك، وتابع الرسل في عود الشيخ محمد المحبشي، وكره مولانا محمد عوده عقيب وروده، وأن يظهر في رأيه الخطأ، فوصل مولانا أحمد بن الحسن -أطال الله بقاه- وكان في ذمار إلى الإمام -عليه السلام-وطلب منه أن السيد علي يمضي على مولانا محمد إلى إب، ويوليه كما كان مولياً لأبيه، ليبقى لمولانا أحمد التصرف في ولايته، فخلع [عليه] الإمام -عليه السلام- وعلى كبار أصحابه ووجهه لعمله وأن ريعه يكون على مولانا محمد -أطال الله بقاه- فلما وصل إلى محروس ذمار لازمه ألمٌ ليس
بالكثير ثم تزايد، فلما وصل يريم انتقل إلى رحمة الله وصلى عليه مولانا أحمد ودفنه، وأقام على القراءة وعظم مصابه عند الجميع رحمة له ولمن بعده. ولم يبق إلا أطفال صغار فنصب عليهم الإمام -عليه السلام- وقرر ولاية الشيخ محمد المحبشي على زبيد بنظر مولانا محمد بن الحسن -أيده الله- ثم ولي بيت الفقيه بن عجيل وما إليه السيد المعظم زيد بن علي بن إبراهيم بن جحاف وترك ما بقى من تهامة بنظر مولانا محمد على عادته، وجعل لأولاد السيد هاشم ولمن يتعلق بهم الكفاية الفايضة من بيت الفقيه من زبيد، وعُمر على السيد هاشم مشهد مزور في باب الحداد خارج زبيد، وكانت وفاته -رحمه الله- في شهر القعدة سنة أربع وخمسين وألف [ديسمبر 1644م]، ووفاة ولده -رحمه الله- في أواخر شهر محرم سنة خمس وخمسين وألف [فبراير 1645م].
[الإستيلاء على عدن ولحج وأبين]
فصل نذكر فيه خروج مولانا الصفي أحمد بن الحسن -أطال الله بقاه- إلى عدن ولحج وأبين والاستيلاء عليها
وقد تقدم في سيرة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- صفة موالاة الأمير الكبير عبد القادر بن محمد بن علي بن سليمان، صاحب خنفر وحسن موالاته ، وأنه كان يروى عنه عزم وصحة موالاته مع السخاء الذي لا وراءه، وفيه نزاهة وملازمة لوظائف الصلاة، وكان فيما أخبرني حي الشيخ المجاهد علي بن شمسان الغربي الجبري-رحمه الله- وكذا حي الفقيه علي بن المعافا الذماري وأخبرني أيضاً بجملة ما فصّله القاضي حسام الدين الهادي بن عبدالله الحارثي، أن سلطان سحرت من بلاد الحبشة صاحب مدينة منسبة، كان نصرانياً فخالطه تجار من المسلمين ومن أشراف حضرموت[57/أ] المعروفين ببني باعلوي فأسلم وأسلم معه جمهور أهل مملكته، وحارب ملك النصارى صاحب الحبشة، وتكاثرت عليه المشركون فَقُتِل فاستولوا على مدينته ومملكته، وكان قد تزوج امرأة من الأشراف آل باعلوي، وولد منها ولد أسماه محمداً فأُخذ من جملة من أُخذ أصحاب السلطان وأمه وقد اشتهر عندهم أنها شريفة، وكان يدعى ولدها لذلك بالشريف محمد. فلما صاروا عند صاحب الحبشة، وأخبروه بأنها شريفة فعظمها وجعل لها ولولدها إقطاعات، وجعل على مكانها حريماً لا يخالطها إليه غير من لا غنى لهم عنه، ثم أنه أدخل ولدها هذا المكتب وعلموه مع أولادهم الإنجيل وصبغوه بالنصرانية حتى كان من العلماء فيهم ومن وعاظهم، فكانت والدته تخوفه بالله وتنكر عليه فعله، ثم إنها تلت عليه شيئاً من القرآن فذاقه وتلهف على حفظه،
وكانت أمه لا تحفظ كثيراً من القرآن، فوصفت له تجار الإسلام، وطلبت منه أن يأتيها برجل ممن يخالط إلى حضرموت فأدخل إليها أحدهم، فكتبت معه إلى أهلها أن يحتالوا لها بقارئ يصل إليها يقريها هي وولدها ففعلوا، وقرأت هي وولدها على غاية من الإختفاء، ثم رجع ولدها إلى الإسلام وقد كبر اسمه في النصارى وظهرت رهبانيته وزهادته، وقد جعل نفسه واعظاً، وكان يزوره الكبراء، وينقل معهم إلى المدائن حتى احتال بمسيره بوالدته إلى منبسة، وكان على ذلك واعظ، وقلعة منبسة عليها والي غير صاحب المدينة في نهاية من القوة سلاحهم البنادق والمدافع، فكان هذا الشريف الواعظ يخالط صاحب المدينة ويتجنب صاحب القلعة، ويظهر البعد عنه وعنها وعن أهل الدنيا، وعظم ذكره، فراسله صاحب القلعة أن يخالطه كما خالط صاحب المدينة وغيره، فاعتذر إليه، وبعُد عنه، ولما كثر من صاحب القلعة المُطالبة فقال لأجل وجوب حقك وسؤالك أصل معك الباب فقط، فنزل صاحب القلعة وعيون أصحابه وعليهم السلاح والزينة، وكان هذا الشريف يلحق به كثيرون لملازمته وللتبرك به، فقرأ لهم ما قرأ من المواعظ ورغبهم في حديثه فأحبوه واعتقدوا فيه كغيرهم، ولم يزل يتردد إلى ذلك الموضع لاستدعائهم وقد عرف[57/ب] بقية من المسلمين وممن كان مع أبيه وغيرهم ممن يقدم الإحسان إليهم، فدعاهم إلى الإسلام وأن يثور بهم على الكفار، ويستنقذهم مما هم فيه من الإهانة والصغار، فعاقدهم وكان فاتكاً شجاعاً.
ولما صار إلى باب الحصن وقد أمنه صاحب الحصن، فكان يحضر معه من غير سلاح، وهذا الشريف الواعظ عليه وعلى أصحابه السلاح، فقتلوا صاحب القلعة وأصحابه، وثاروا فيمن بقى فيها فقتلوهم وهم على غير أهبة، وأمنوا من بقي وقد قتلوا منهم نحو ثلاثمائة رجل، وكان في هذا الحصن مدافع وبنادق تمنع المدينة من الداخل إليها براً أو بحراً، والخارج منها كذلك إلا برأي صاحب الحصن، ولما ملك الحصن ومنع الداخل والخارج أظهر المسلمون أمرهم، واستأصلوا من بقي من المشركين، واستعاد مملكة أبيه على طول في وصف القضية، وخرجت عليهم النصارى فقاتلهم وأعمل فيهم الحيل والمكايد في البر والبحر، حتى أهلك منهم كثيراً وعظم ذكره، وأقلقهم خوفه، افتتح كثيراً من بلاد المشركين، ثم تكاثروا عليه، وتظاهر ملوك الكفار على حربه، فراسل إلى بلاد المسلمين للغارة فلم تنجع .
قال الشيخ جمال الدين علي بن شمسان: إنها وصلت مراسلته إلى مولانا الحسن
-رحمه الله- وهو في اشتغال بحرب تهامة وفتحها، ثم إنهم غلبوا على بلاده وقُتِل كثير من أصحابه، ونجا بخاصته في مركبين وصار إلى ساحل عدن، وأرسل الأمير عبدالقادر فأمده بما يقوم به وأخرجه إلى موضع سمَّاه، وعرض عليه الوصول إلى مولانا الحسن -رحمه الله- ، فقال: بل أقدَّم الحج، خرج بحراً في عام ست وأربعين وألف[1636م] وفي خلاله كان وفاة مولانا الحسن، ثم حصل الإشتغال بعده بما وقع، ثم مات الأمير عبد القادر، وكانت أثقال هذا السلطان وأمواله مع ثقاته بنظر الأمير عبدالقادر، ثم مات الملك المنسبي بعد عوده من الحج في القنفذة في عام خمسين أو تسع وأربعين وألف[39-1640م]، ومات الأمير عبد القادر كما تقدم، وخلفه ولده الحسين بن عبدالقادر ، وكان والده قد أقصاه و[أ] بعده عنه لما فيه من البطالة.
ولما صار الأمر إليه هدم قواعد الإسلام وأظهر المنكرات، وجعل للبغاء جوانب وللخمور كذلك، وأما اللعب بالمعازف والبطالة الجامعة لكل رذيلة فعامّهم وخاصهم[58/أ] على ذلك وقد أخذ أموال المنبسي، وقتل من قتل من ثقاته، وحبس من بقي منهم في مواضع من بلاد خنفر لا يُرفع لهم منها خبر، ولا يُعلم لهم أثر، وبلغ الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- فراسله في ذلك، ثم اشتغل عنه بمهمات مما سبق في سيرته عليه السلام حتى توفى -رحمه الله- ولما استتب لمولانا -عليه السلام- أمره رأى أن عليه إنقاذ من ذكر، فأعذر إلى هذا الأمير، وكتب إليه كتاباً وأرسل به الفقيه جمال الدين علي بن المعافا الذماري، وكان من أهل اللسان وممن لا تخفاه لوايح الإنسان، وأمره أن يسأل عمن بقي من أصحاب المنبسي.
ولما وصل الفقيه المذكور أبين وقد عرف كثيراً من الأحوال عاد بجواب غير وافٍ بالقول فضلاً عن الفعل وكانت نسخة الكتاب إلى الأمير المذكور........... [58/ب]......... [59/أ]....... وقد تقدم ذكر وصول مولانا أحمد بن الحسن -أطال الله بقاه- إلى الإمام -عليه السلام- ولا خبر عن سبب وصوله إلا لنظم حال أولاد السيد هاشم -رحمه الله- ثم تجهز من عند الإمام -عليه السلام- ولما وصل إلى حضرة صنوه العزي -أطال الله بقاه- إلى محروس مدينة إب، وقد جمع العسكر والأموال، فكان عسكره ألفين فيها من الخيل ما يدنو من أربعمائة، وأرسل الإمام -عليه السلام- محطة أخرى نحو الألف مع الفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل السيراني، وسمعته -عليه السلام- يقول: قد صار مع الولد أحمد -حفظه الله- الكفاية، وإنما نريد قطع إياس هذا الأمير الشَّر وأصحابه منا ولتعلموا أن ذلك عن أمرنا أو كما قال.
وكان خروج مولانا أحمد من إب في شهر صفر سنة خمس وخمسين وألف[إبريل1645م] وأمسى في النجد الأحمر ثم إلى الجند وكان طريقه من الدمنة من بلاد السلمي، وتقدم من الدمنة إلى الأعمور ، ومنها إلى موضع يسمى وادي الحجر ثم إلى حائط الليم، وكان الأمير حسين قد حشد وجمع مع خيله ورجاله قوماً من المشرق ومن يافع ، ثم قدم محطة إلى لحج وموضع منه يسمى الرعارع خيلاً ورجلاً.
صفة الحرب في الرعارع
إنه خرج من البغاة طليعة من الخيل فوافوا مقدمة مولانا أحمد -أيده الله- فهزموهم، ووصلوا معهم إلى محطة مع هربهم، وهم جمهور ألفاف من جموع الأمير المذكور، وقد طاروا على وجوههم واختار منهم نحو ثمانمائة [مع] أكثرهم بنادق، ونحو أربعمائة من الخيل، وبقوا في الرعارع وأحربوا، وقتل من الفريقين نحو خمسة عشر رجلاً، وسلموا في اليوم الثالث بأمان وصاروا إلى مولانا أحمد.
ولما انهزم الباقون إلى خنفر وقد عرف مولانا الصفي[59/ب] -أيده الله- الطريق ومواضع غلبهم فيها أعمل فيهم الإقدام المعروف، والبسالة التي لا تجارى، واستعان الله سبحانه وتعالى، وعبَّأ راياته وخيله وسرى في الليل حتى أصبح في مكان قريباً من أبين يسمى محل الشيخ، وبلغه الخبر بهرب هذا الأمير، فتجرد بنجائب خيله وفرسانه، ولحقه قافياً أثره إلى مواضع قد بلغه أن المذكور فيها، وأبقى أمراء العسكر عليهم وتشدد عليهم في البقاء في موضعهم حتى يأذن لهم، وقد خاف أن يدخل العسكر المدينة فيتفرقوا ولا يأمن الكرة عليهم، ولما حاذى خنفر إلى جهة المشرق صح له أن الأمير قد هرب في الليل وعرف أنه قد فاته، وأن جموعاً باقية في خنفر. ثم لما ظهر مولانا أحمد قصدوه بحرب شديد وكانوا كثرة، فأرسل إلى عسكره وهم في الموضع الأول ليبادروا الغارة،
وكان ذلك من التدبير النافع مع نصر الله العزيز وحفظه الحريز فإنهم لو كانوا قد تقدموا لما تمكن من جمعهم للحملة، ولما اجتمعوا به حمل بهم وهزم الله عدوهم، ثم إنهم قاتلوا في البيوت والمواضع المرتفعة، فكان البغاة في الظل وعندهم الماء والمجاهدون في السموم ولا ماء معهم، فصبروا ومنحهم الله النصر، فهزموا أولئك وأخرجوهم من البلد وقتلوا منهم زهاء من ثلاثمائة.
وأخبرني من شهد ذلك أن مولانا أحمد وقف للعسكر الذين قطعوا الرؤوس فما زالوا يطرحونها بين يديه حتى قابلت الرؤوس فرسه، ثم انتقل إلى موضع آخر فكان كذلك وغنم الناس ما لم يحتسبوا، ومنهم من ظفر بخزائن من المال، ومنهم من ظفر بسلاح وفضة، وتقدم مولانا أحمد -حفظه الله-[إلى] بيت الأمير المذكور وقبض] ما فيه من الخزائن بعد أن جمع محارمه إلى موضع وجعل عليهم ثقاته معظمين مكرمين وجعل معهم خدمهم، ثم أرسل معهم بعد ذلك الشيخ (الريِّس) المجاهد حسن بن الحاج أحمد بن عواض الأسدي في قوم فسَّلموا بندر عدن بعد أن حاصروا رتبة فيه من أهل يافع، فأقام مولانا أحمد في أبين أياماً ينادي بأمانهم وقد طاروا إلى جهات متفرقة، وكذلك الأمير المذكور قد صار في يافع، وطمع في غارة منهم وهيهات أن يقوى على أكبر مما كان فعل.
وكان مولانا محمد بن الحسن لما جهز صنوه من مدينة إب انحدر في من بقي معه إلى تعز العدنية ، ثم أرسل الإمداد والرتب لحفظ الطريق، وأعد خيلاً تسير مع القوافل، وبذل العطاء والإحسان في أهل المشارق، فقطعوا ما بينهم[60/أ] وبين هذا الأمير من العلايق، وقد احتاط أيضاً بأن أرسل الأمير الكبير عبدالله بن منيف المنصوري الحمزي في عسكره إلى مدينة رداع، وكاتب الرصاص وأحسن إليه، وهو مع ذلك يكاتب الإمام -عليه السلام- بأن يتابع الإمداد، فأرسل مولانا محمد بن الحسن -أطال الله بقاه- ومع عسكره إلى مدينة ذمار لينظر ما يصح من أهل المشرق من التخلية لهذا الأمير أو غير ذلك، فسكتت لذلك الرعاع، وقرت الأمور على المحبوب .
وأمَّا مولانا أحمد -أطال الله بقاه- فإنه قام في خنفر نحو عشرة أيام، وأمر بنقل أولاد الأمير عبدالقادر ومحارمه، وجعل عليهم أخا الأمير المسمى ناصر بن عبدالقادر مع خدمهم وثقاتهم إلى لحج، وقد بحث أيضاً عمن بقي أيضاً من أصحاب المنبسي في حبس الأمير المذكور وأخرجهم ورفقهم من جملة أولاد الأمير عبدالقادر، ثم نقلهم إلى تعز المدينة، وأجرى عليهم الإمام -عليه السلام- النفقات الوافرة، والكفاية الفايضة من كل شيئ.
وأمَّا الأمير حسين فبقى في يافع أياماً، ومولانا محمد يلطف به ويكاتبه ويكاتب من يكاتبه، ويبذل له من الإنصاف، ثم عاد إلى خنفر وجعل له عوايد آبائه من عدن ولحج، وجعل له بلاد أبين أيضاً، وأقره الإمام -عليه السلام- على ذلك وصلح الحال.
[تعيين الحاج ياقوت إسماعيل على عدن]
واستعمل مولانا الصفي-حفظه الله- على بندر عدن مولاه الحاج الصالح المسمى ياقوت إسماعيل، وفي لحج أيضاً بعض خواصه وعاد بالغنايم الواسعة، وفيها جملة من العبيد والإماء، وتحدث من تخفى عليه الحقيقة وأهل الحسد والطعن أنها ملكت الحراير، وكان الأمر كما كان في سيرة الإمام الأعظم المنصور بالله عبد الله بن حمزة -عليه السلام- في جارية صارت إليه من غزاة المحالب، وهي أم ولده الحسن والقصة مشهورة.
نعم! إنه لم يحصل شيء من ذلك مع أنا لو فرضنا صحة ذلك فهو أقل حالاً مما سباه الصحابة -رضي الله عنهم- من مثلهم، وكذا أئمة الهُدى -عليهم السلام- وبنو حنيفة أمثل من هؤلاء طريقة، وأقرب إلى التقوى حقيقة، وكذا بنو ناجية والمطرفية وغيرهم ممن سباهم أئمة الهُدى، وقد تقدم ذكر شيء من أحوال هذا الأمير والدار وأحكامها وما يترتب على ذلك والله الموفق والهادي.
ومما قيل في هذه الوقعة من الشعر....................... [60/ب] -أطال الله بقاه- إلى محروس تعز، وأقام أياماً[ثم انتقل] إلى ذمار المحروسة بالله، ثم إلى الإمام -عليه السلام- إلى محروس الدامغ.
نعم! وكان الإمام -عليه السلام- أرسل قبل فتح عدن وجهاتها السيد الأعلم الأفضل بدر الدين محمد بن عبدالله بن علي بن الحسين بن الإمام عزالدين بن الحسن بن الإمام علي بن المؤيد بن جبريل بن الأمير المؤيد أحمد بن يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى إلى سلطان حضرموت والشحر وجهاتها، وبعث معه كتاباً نسخته......... .
[وأرسل معه من العسكر نحواً من أربعين رجلاً من كبار الجند، وأمره بإقامة الجمعة في تلك النواحي، وأمره أن يضرب المرفع بتلك البلاد ويظهر الشعار والتأذين النبوي حي على خير العمل، وتم له ذلك، وكان لذلك موقع، وعاد جواب السلطان بما هذا نسخته.....] والإمام حينئذٍ في محروس ضوران جاهداً مجتهداً في صلاح الإسلام، مُفرقاً للدعاة والولاة إلى جميع البلدان، وبعث رسايل إلى الحجاز وغيره، منها هذه الرسالة......... وإلى جهات جيلان وديلمان كذلك هذه نسختها.......... [61/أ] وتشدد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفرض للعمال، وقرر الأعمال، وولى على القضاء من الحكام، وأكثر من النفقات على الخاص والعام، ووضع عن الرعايا كثير من المعاون المعتادة مع نشر العلم الشريف، وتقريب أهله وتوظيف الوظائف لأهلها كما يفعله ائمة الهدى-صلوات الله عليهم- ومالت إليه القلوب وأحبه من يعرفه ومن لا يعرفه، وتيمنوا بخلافته وانبسط فيهم عَدْله ورأفتُه.
وكان قد حدث عقيب وفاة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- مع تلك الهزاهز والتقلبات التي ذكرنا جرادٌ في غالب اليمن أكل ثماره إلا القليل، وأشفق المسلمون، وساءت الظنون، وهو -عليه السلام- ينفق ما لديه ويمد كل سايل بما قدر عليه، فأغاث الله عباده برخص الأسعار، فإنه مع ذلك الأمر العظيم رخص الطعام حتى بلغ الزبدي حرفين، مع أنه لا يكاد يوجد الطعام في غير الأسواق، وهذه الآية لم يسمع بمثلها، وشاهدة لما روى القاضي العلامة عمدة الموحدين وشحاك الملحدين، عبدالله بن زيد العنسي في ارشاده بالإسناد الصحيح إلى النبي صلى الله عليه وآله ((إنه لما أمر الله عز وجل إبراهيم -صلوات الله عليه- ببناء الكعبة، سأل الله أن يريه حدود الكعبة فأمر الله الريح فرفعت التراب عن حدود الكعبة حتى ظهرت الأربعة الأركان فوجد مكتوباً على أحد أركانها، وهو الأول منها: أنا الله لا إلا إله إلا أنا رب بكة مغلي الأسعار والأهرا غرار ومرخص الأسعار والأهرا أقفار ))، ثم خلف تلك الشدة الخصْبُ وصلاح الثمار فلم توجد تلك الشدايد أثراً مع عمومها في البلاد، وعَدّ العامة والخاصة أن ذلك من بركات الإمام -عليه السلام- وسعده، فازدادوا إليه قرباً وله حباً، وقد تقدم مثل ذلك.
[فتوى للمتوكل في شأن طفلين يهودي ومسلم رضعا معاً]
ومما حدث في الأيام المذكورة أنه رفع إلى مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن -أطال الله بقاه- أن رجلاً مسلماً من أهل ذي جبلة جاراً ليهودي، وكان المسلم كثير الغيبة عن أهله واليهودي أقل غيبة، فولد لليهودي من اليهودية ولد، وولد للمسلم من المسلمة كذلك، ثم ماتت المرأتان المسلمة واليهودية وبقي الولدان وكانوا أجواراً في حكم البيت الواحد، ورضع كل واحد مع الآخر، وبقي الولدان مع مربية أخرى أظنها يهودية أيضاً، فعاد أبواهما المسلم واليهودي فلم يعرف أحد ولده لاشتباههما؛ فترافعا إلى مولانا محمد بن الحسن -أيده الله- فرفع[61/ب] أمرهما إلى الإمام -عليه السلام-[فأحضرهما الإمام -عليه السلام-]وقال: من أقضى بينكما بتأديب المسلم لمخالطة اليهودي فعزره بالضرب، ثم أجاب بما هذا مثاله الذي نراه والله أعلم: إنه يحكم بابن الذمية بالإسلام؛ لأنه يعلوا ولا يُعْلَى عليه؛...ولأنه صار في دار الإسلام دون أبويه إذ قد صارا مع الإلتباس كالمعدومين،
وأما حكم الصبي في الإرث فمن الأب الكافر لا ميراث لهما لاختلاف الملة، وأما الذمية فلها ميراث ابن؛ لأنها ماتت قبل الالتباس فتقسم بينهم للإلتباس كذلك ومن الأم كذلك، فأما ميراث الأبوين منها فعلى المختار لا شيء لهما إلا تحويل على ما عليه الحق، وأمَّا على القول بالتحويل على من عليه الحق فإذا مات أحد الابنين كان للأب منهما نصف ميراث والأم كذلك، ثم إذا مات الآخر ورثا منه كذلك، ويدخلان على من يدخل عليه الرضيع ويجتمعان للعقد القريب، وهكذا لو كانت الميتة هي المسلمة والإرضاع للمسلمين من الذمية إلا أنه لا ميراث للإثنين من الذميين لاختلاف الملة هذا الذي يقتضيه النظر في هذه المسألة والله اعلم.
[عود إلى أخبار صعدة]
فصل: ولنرجع إلى إلى أخبار صعدة والسيد إبراهيم قد ذكرنا اضطراب الشام واهمالهم حق الله سبحانه وتعالى وحق الإمام -عليه السلام- وأن مولانا أحمد عاملهم بالإحسان فظنوه ضعفاً، ووالى الإمام -عليه السلام- إليهم البر فلم يظنوه عطفاً، وربما ووسايط السوء من الماكرين قطعوا بأن ما كان سببه مقدوراً بين قادرين فقووا ذلك الظن السيء فكثرت المفاسد والحروب بين القبايل، واهمال الحقوق، وظهور المنكرات، فأمر الإمام -عليه السلام- مولانا أحمد بن الحسن -أيده الله- بالتجهز إلى بلاد صعدة، ورسم له أعمالاً يمضيها، وحدوداً يقتفيها، وخرج من محروس الدامغ [......] وأمر إلى مولانا العزي -أطال الله بقاه- أن يمده بالعسكر والعيون والخيل، فأرسل إليه جماعة من الأمراء، كالأمير الكبير عبدالله بن يوسف المنصوري ، والأمير عبدالله بن صلاح الحمزي العفاري، وغيرهم من الأعيان، وأرسل الإمام -عليه السلام- أيضاً محطة أخرى من عنده مع أمرائه فكانوا فوق أربعة آلاف وجهزهم بما يحتاجون إليه وخرج من صنعاء يوم [....] وبات في بلاد همدان، ثم منها إلى عمران وبقي فيه......] . ثم إلى ريدة البون، ثم إلى خمر ثم منه إلى غربان ثم إلى بطنة حجور ثم إلى قرن الوعر، وقد أرسل إليه مولانا الحسين بن أمير المؤمنين -أيده الله- الضيافة والعليق وبقى في قرن الوعر ليلتين، وقد كتب إلى والده الصفي -أطال الله بقاه- إلى صعدة يخبره تقدمه ثم من قرن الوعر مراحل إلى حيدان من بلاد خولان، وتلقاه السيد الفاضل المجاهد شمس الدين أحمد بن الهادي بن هارون، وهو العامل عليها بوجوه
خولان، وقد خاف المحدِثون فلاذوا به، ولما استقر في حيدان أمر بتسليم ما أهملوه من الواجبات، وانصف المظلومين من جميع الجهات، وأخذ رهاين من بعضهم بالطاعة، وصلح الحال وأقام في حيدان أكثر من عشرين يوماً. ثم تقدم إلى وشَحْة من أعمال شعب خولان، وأقام فيها أياماً كذلك ينظم الأعمال، ويقمع الضلال، ويوطي البلاد، ثم تقدم إلى بوصان من أعمال بني جماعة وجانب بلاد بني خولي وأقام أياماً، ودخل يسنم ورغافة وتلك الجهات، وأرسل إلى بلاد رازح عسكراً وصلح الحال، واتفق في أيام اقامته في بوصان أن قوماً اغتالوا نفراً فأراد أن يعاقبهم لما أحدثوه بغزوهم لامتناعهم فتحصنوا في مواضع حصينة، وأرسل عليهم عسكراً قتلوا منهم أنفاراً، وهدموا دورهم وقطعوا أعنابهم، وقتلوا أيضاً من العسكر أنفاراً، ثم قبض رهاينهم، واعتقل منهم وأرسلهم إلى محروس صعدة وعاد إليها.
وأخبرني الفقيه الأفضل علي بن محمد بن عشوان العماري، أن رجلاً في هذه الوقعة هم باغتيال مولانا أحمد بأن يرميه بالبندق وأهلكه الله في ذلك اليوم، نهشته أفعى. قال: والقضية مشهورة في تلك البلاد. انتهى.
وأما السيد إبراهيم فإنه لما بلغه وصول مولانا الصفي -أيده الله- دخل قراض وبلاد آل الخطاب وبقي فيها أياماً، وراسله مولانا أحمد بالمكاتبة فيها تذكيره وتحذيره مما يعظم ضرره عليه وعلى المسلمين، فعاد جوابه بالدخول في الطاعة، واستدعى عدة من الفضلاء يصلون إليه، منهم سيدنا العلامة المجتهد الصمصامة عين الشيعة، وشمس الشريعة، أحمد بن يحيى بن حابس الدواري الحاكم، والسيد الفاضل العالم شمس الدين أحمد بن عبدالهادي بن هارون، والقاضي العالم الكامل شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال، وغيرهم من العيون، فلما وصلوا إليه أظهر التوبة مما كان[62/ب] منه من نكث الأيمان بعد توكيدها، والشقاق الذي فيه تفريق كلمة الحق وتبديدها، وأشهد على نفسه بذلك وأمر القاضي شمس الدين بالشهادة عليه، والحكم بما أظهر من الطاعة، فكتب القاضي حُكماً بتوبته، وحكم بها والرجوع عن معارضته وسارت بها الركبان، وكتب بها البشارات إلى جميع البلدان.
وهذه القاعدة التي كتبها وأشهد عليها عنوانها ما لفظه: سيدي المولى أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين، ومن لديه من السادة الكرام والقضاة الأعلام والمشايخ الفخام، وكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، الحمدلله مدبر الأمور على مقتضى ارادته و{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } المتصرف في مصالح خلقه على مر الدهور بلطيف حكمته من غير موازر ولا ثان، المُملك المُلك من عند من ملكه في الكتاب مسطور في سالف أزليته، فأنّى لغيره سلطان، والصلاة والسلام على الهدى والنور والمبعوث لاعلاء كلمته إلى الإنس والجان، وعلى آله المطهرين (أحسن طهور) من رجس الشيطان ومعصيته فهم لأهل الأرض أمان، وبعد فليعلم من على البسيطة من داني الأرض وأقاصيها، من أتهم بغورها وأنجد بصياصيها ، أن الداعي إلى الله بالمغفرة وراجيها، إبراهيم بن محمد بن أحمد بن أحمد بن عزالدين ثبته الله على قواعد الشريعة ومبانيها، يقول: لما ظهرت الدعوة المتوكلية ظهور الشمس عقب ليل الفتن التي حارت فيها ذووا الألباب، ودان لها ذووا العقول، وخضعت لخضوع الذليل غلب الرقاب، ورفعها المسلمون مُعزين لها ومُكرمين، وذهب إليها العلماء ثباتاً وعزين، ووكل قوماً ليسوا بها بكافرين، حتى صارت ماضية لشأنها، قاطعة لعنانها، قائلة بلسانها:
دعوني أجوب الأرض في طلب العلى .... فلا الكرخ في الدنيا ولا الناس قاسم
وعقد المسلمون للمسرة بها تاجاً، ووهجوا للجذل بها سراجاً وهاجا، ودخل تحت أوامرها المسلمون أفواجا، وجاءوا نحوها أفراداً وأزواجا، وما ذاك إلا أن محتملها ينبوع العلم الفوار، وغيث الفضل المدرار، وزبِرقان الفلك الدوار، وطراز علالة المعالي والفخار:
عليم رست للعمل في أرض صدره .... جبال جبال الأرض من دونها قُف
ذلك فاتح الأرتاج[63/أ] ودرة التاج، المولى أمير المؤمنين، المتوكل على الله رب العالمين، إسماعيل بن أمير المؤمنين فعند أن اختصه الله بالخصايص الجليلة، ورأيت المصلحة في معارضة مثله قليلة، وكان الله قد أمر بالوفاق، ورغب فيه وحث عليه، وقال تعالى{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} سلمت ما كنت تحملته من الأعباء الثقيلة، تسليم راضي لا شبهة فيه ولا حيلة، لوليه وابن وليه الإمام المذكور المشهور، المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم المنصور:
إذا الأمر هذا لا يليق بغيره .... فألقى إليه قوسه ومشاقصْه
ولا شك أن الله راضٍ بدعوة .... إليها قلوب الخلق لا شك شاخصه
ولم يشترط عليه في ذلك تسليم إلا ما شرطه الله عليه ما بقي -أيده الله- على حالته المرضية، سائراً على الكتاب والسنة النبوية، شعر:
رهاناً قد خففت عني ثقلها ... على نية لله والله خالصه
فها أنذا سائرٌ تحت لواه، مهتد بهداه، ملتزم أحكام الطاعة، داخلٌ تحت جمعته والجماعة، على مقتضى ما يريده الحق، من طاعة الأئمة الذين هم أمان الخلق، ما طابقوا مراد الله، والتزموا طاعة الله، فليعلم من وقف على مكتوبي ما التزمته من أحكام الطاعة للإمام، وأن ما تقدم مني من مقتضيات النظر الذي اعتقدت فيه المطابقة لمراد الملك العلام، فإن كنت في ذلك موفقاً لمراد الله فقد ما مضى ما فيه من أجر، وإلا فأنا أستغفر الله وأسأله حسن العاقبة، وإليه ترجع الأمور، والإنسان محل الخطأ والنسيان، والكريم محل المسامحة والغفران، وقد ألزمت النفس طريقة الاقتصاد، والتمسك بالوفاق، وأوقفتها في حلبة السباق، على قصبة المصلين وحديثها عن ادراك (شأو السباق)، ومن سبقت منه إساءة إلى ظن إني بها قمين، فقد سألت الله أن يغفرها له وهو أرحم الراحمين، وجل من لا عيب فيه، وعلا عن كل قول ذميم، وقلَّ ما سلم من الخدش أديم:
ألا لا أبالي من رماني بريبة .... إذا كنت عند الله غير مريب
ولا شك أن مثل هذا الأمر لمثلي في هذا الزمن لا يدخل فيه إلا من جذبته أمراس الاغترار، ولمعت له بوارق الأماني من بين عارض شبه الوجوب، وما هي إلا اعصار فيه نار؛ فعلمت ما كنت جهلته بعد الدخول فيه، وأبقيت بعد الخروج منه أن الله قد خفف عني[63/ب]الأصر، واختار لي ما لا أختار{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وصحبه وآله وسلم.
حررت بتاريخ شهر جمادى الأولى سنة ست وخمسين وألف[يونيو 1646م] وكتب مع ذلك إلى الإمام -عليه السلام-:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} سيدي ومولاي أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، المتوكل على الله رب العالمين، إسماعيل بن أمير المؤمنين -حفظه الله تعالى وحماه وحرسه ووقاه- وأهدى إليه من أخيه في الله الفقير إلى الله إبراهيم بن محمد شريف السلام، وزليف التحية والإكرام، فصدرت معرفة له -أيده الله- بأني ما زلت أستخير الله ونعم المستخار، في كل عشي وأبكار، أن يقضي لي بما هو المختار، في ديني وآخرتي التي هي دار القرار، فقضى سبحانه وهو الناصح الذي لا يغش بالقاء هذا العبء الثقيل وتحميله وليه وابن وليه على محكم كتاب الله وسنة نبيه، من غير أن يشاب ذلك بشائبة من الأمور الدنيوية، بل يكون عملاً من خالص الطوية ، وقد قضى النظر في باديه بوضع كان ارسلنا به إلى الصنو السيد صفي الإسلام أحمد بن الحسن -حفظه الله- ثم أنه تعقب ذلك ما ذكرناه لكم من صنع الاستخارة، فتقدمنا عقيب ذلك إلى محروس قراض، والقاضي صفي الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال وله العناية التامة في النصيحة لله ولكم، فوجدنا فيها الوالد السيد العلامة المهدي بن الهادي -أبقاه الله- وقد تقدم بوضع من الصنو صفي الدين أحمد بن الحسن-حفظه الله- فيه أمان شديد وذكر شيء مما يتعلق بالقرابة، بعد أن كنا أردنا التنبيه عليه-حفظه الله- بما صنعت استخارة الله سبحانه وتعالى فحمدنا
الله على تطابق الكل على مراد الله، ثم إني كتبت إلى الصنو صفي الإسلام-أبقاه الله- بما كانت النية انطوت عليه، وذكرنا له أن النية قد انطوت عقيب استخارته تعالى على التقدم إلى حضرتكم الشريفة المكرمة ليكون ذلك زيادة في الإطمئنان، وحسماً للمادة التي تورث وسوسة في القلوب، أو تسويلاً ممن لا يخاف علام الغيوب، وقد كنا اعتذرنا بادئ الرأي منكم ومنه عن هذا المطلوب، حتى أن الله وله الحمد هيّأ ذلك لنا وطلبنا منه وصول جماعة[64/أ] يحضرون على التسليم منا عن رضا واختيار، وذكر له طلب المكتوب منكم-أيدكم الله- على نحو مكتوبه، واعتذرنا عن الكتاب إليكم حتى يقع الكتاب بعد المحفل العام الذي يرضى به الله سبحانه الملك العلام، ثم رجح عندنا أن نقدم بين يدي ذلك هذا المسطور، ونطلب مكتوباً خالصاً للأمان ليس فيه شائبة من تلك الأمور، وهو على النحو الذي وضعه الصنو أحمد بن الحسن، إلا أنه خال عما يخصنا وقرابتنا ليكون العمل على ما قد قضت به الاستخارة لا يكون مشوباً بأمر غيره، فقد صدر إليكم، فلكم الفضل بوضع خطكم عليه وخط من حضر سوحكم الكريم، وإن كانت الغنية بما فعله الصنو شمس الدين -حفظه الله- إذ هو يد من أيديكم عظمى، لكن ذلك زيادة في الإطمئنان والله المستعان، وعليه التكلان، والدعاء وصيتكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حرر في محروس قراض صبيحة يوم السبت خامس وعشرين في شهر جمادى الأولى سنة ست وخمسين وألف[يونيو 1646م].
وفي كتاب القاضي العلامة صفي الإسلام أحمد بن سعد الدين -أيده الله- الآتي زيادة على ذلك مما نقله من كتبه الآتية، وبعث إليه مولانا أحمد بالعطاء الكثير، واعتذر عن الوصول في تلك الحال وعن الوصول إلى الإمام -عليه السلام- لئلا يقال ذلك منه رهبةً وطمعاً، ولما صار مولانا أحمد بن الحسن -أيده الله- في صعدة، وقد تلقاه والده الصفي -أيده الله- بالإعظام والإكرام، وأفصح بشكره في المقال، وأنشد بلسان الحال:
رقدت وطاب النوم لي وكفيتني ... وكل فتى يكفى الهموم ينام
وقد تكاثر العسكر في صعدة، وثقل بقاؤهم فيها، وأكثرهم لا يحتمل أحوال بلاد الشام، فإنها كما قال الإمام الهادي -عليه السلام-:
بني العم إني في بلاد ضريرة .... قليل وداها شرها متتابع
وليس بها مال يقوم ببعضها .... وساكنها عريان غرثان جائع
فألقى الأمور إلى والده الصفي وعاد إلى جهة اليمن، وكان الإمام -عليه السلام- يحب بقاءه أكثر مما يقع في ما بلغ، ولكنه يرى الحاضر ما لا يراه الغائب، وقد صلح الحال، وأثمرت الأوامر الإمامية -أدامها الله تعالى-.
[ذكر تقدم الإمام -عليه السلام- إلى محروس صنعاء وشهارة]
وقد ذكرنا تقدمه المرة الأولى إلى صنعاء للقاء السيد إبراهيم وبقي فيها[....] ثم عاد إلى جهة ضوران، وبقى[........] ثم تقدم إلى صنعاء وأقام بها أياماً[64/ب] وكان قد ظهر في كثير من البلاد اهمال الحقوق والتظالم، منها في بلاد خولان العالية فإنه امتنع أهل ملاحا عن الزكاة وعن عقوبات بسبب حروب اتفقت بينهم لمفاسد ومنكرات فأرسل الإمام -عليه السلام- عسكراً فامتنعوا عليهم. فأمر إلى مولانا أحمد بن الحسن أطال الله بقاه وكان في صنعاء فخرج عليهم في عسكر وخيل وهدم دوراً وقبض رهاينهم بالطاعة وصلح الحال وكان رجل منهم قد تعمد مولانا أحمد بن الحسن -أيده الله- بالرمي بالبندق بعد أن قرب من المحطة المنصورة في غفلة، ونجاه الله سبحانه وتعالى وأخذ الله سبحانه ذلك الرامي بعدها بالجذام كما أخبرني الفقيه أحمد بن عبدالله خصيب الخولاني وغيره، وأرسل الله سبحانه وتعالى عقب ذلك سيلاً عظيماً فأخرب من الوادي المذكور أكثر ما أخربه أهل الحق وصار عبرةً ظاهرةً والإمام -عليه السلام- حينئذٍ في ضوران، ثم إن بني الحارث ومن إليهم من بلاد صنعاء امتنعوا عن بعض الأوامر، فأرسل الإمام -عليه السلام-مولانا محمد بن الحسن -أطال الله بقاه- بنحو ألف من العسكر المنصور، فوطأهم بذلك العسكر ورفق بهم، وصلح الحال وقد كثر في بلاد شهارة وجهاتها الاختلاف بين الناس كما تقدم، وأقام الإمام -عليه السلام- أياماً[.......] وامتدت الضيافات، وكان السيد العلامة (الريِّس) عزالدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله
قد صنع دعوة حافلة حضرها الإمام -عليه السلام- وأولاده وعيون الناس.
وكان [قد] وصل إلى الإمام -عليه السلام- قوم برط، وهم خمسمائة، فتدافع رجل منهم وآخر من أهل الحيمة في الباب، وكان أهل الحيمة كثرة، فافترق الحيان فأما أهل الحيمة فغلبهم عقلائهم ومنعوهم من الحرب، وأمَّا أهل برط فأكثروا الرجم والأصوات والجلبة، فخاف أهل المدينة وكثرت منهم الأصوات أيضاً، فأمر الإمام -عليه السلام- مولانا علي بن أمير المؤمنين المؤيد بالله بالخروج إليهم لدفعهم وكف المكروه، فلم يندفعوا وقد ركب معه فرسان وصاح صايح لا يعرف ممن كان ابتداؤه أن الإمام -عليه السلام- أهدرهم فأوقع منهم من حضروا ورجمهم أهل الدور منها، وطعن فيهم أهل الخيل، وقتل منهم أربعة أنفار من خيارهم، وصوبوا كثيراً منهم وأنتهبت من سلاحهم، فحصل في نفس الإمام -عليه السلام- كثيراً، وكان قد وفدوه قبلها مراراً، وهو في كلها يحسن إليهم كثيراً[65/أ] لسالفهم مع والده -عليهما السلام- ولبعد جهاتهم، وكان قد قال لكبرائهم: قد أكثرتم التردد والناس يتناظرون، فلو قلتم كان أحب إليَّ أو كمال قال، فحصل معه -عليه السلام- لأجل ذلك تعب حتى قال بعضهم أنه رآه يبكي فأرضاهم واحتمل الديات، وبالغ في الإحسان إليهم والإعتذار، فعادوا وقد طابت نفوسهم.
[دخول الإمام المتوكل على الله شهارة]
ثم تقدم الإمام -عليه السلام- من صنعاء إلى بلد جدر من بلاد بني الحارث، ومنها سرى ليلاً فأصبح في عمران ولم يشرب في بلاد همدان الماء كما بلغ احتياطاً وتقززاً من أن يبقى عليهم شيء من باطنهم الخبيث، وبقي في عمران[ ] ثم تقدم إلى جبل عيال يزيد ثم منه إلى بيت بني علا من الأكهوم ثم إلى السودة وقد تلقاه أهل تلك الجهات من شظب وغربان وبلاد جنب والسودة، وما إليها ثم ظليمة والأهنوم أفواجاً بالضيافات والهدايا والنذور والمصارفات، ولقد أخبرني من شهد ذلك أن الإمام -عليه السلام- لا يجد مع المشي موضع قدمه إلا بمشقة لازدحامهم عليه، وكادوا يتهالكون عند رؤية طلعته الكريمة، وأقام في السودة [ ] ثم تقدم إلى محروس أقر من أعمال البطنة وأقام[ ] ثم صعد شهارة المحروسة بالله تعالى، وكان أهلها قد طال عهدهم بالإمام -عليه السلام- وضاقت صدورهم لاعتيادهم بقاه فيهم فأنسوا به، وكثر الوافد [ون] إليه والزائرون حتى أنه كان -عليه السلام- يجعل لكل قوم مكاناً يكونون فيه فيملئونه بقراً وغنماً وغير ذلك من الضيافات والنذور فإذا فرغوا دخل غيرهم وهو مع ذلك يوسع كفايتهم وينزلهم منازلهم.
مما أخبرني بعض المترددين من رسلي وقد وصف كثيراً من سعة صدره وضيافته لكل ما ينبغي من أكثر من ذلك الوصف، وأنه سمع في الليل رسولاً من الإمام -عليه السلام- يسأل قوم من وادعة فلما وقف عليهم قال: فلان المهتار عندكم، قالوا: نعم، فقال الرسول: هذا عشاءاً له من الإمام يختص به ومصروف ودهنة يدهن بها قدميه وهذه إزار سوداء من صوف الغنم مما يستعمل سجادة للصلاة له أيضاً.
قال الراوي: فسألنا عن سبب ذلك، فقال: إنه -عليه السلام- طلع وادعة مع عوده من زيارة المشهدين المقدسين ظفار وذي بين في أيام الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- ففعل إليه هذا المهتار معروف، وأعطاه دهينة ودهن قدميه مع [65/ب] حاجته لذلك، ثم مسحها بإزار له كذلك سجادة، ومما قيل في ذلك من التهاني................. .
[ذكر ما حصل من الاختلاف في عذر والعصيمات]
[66/أ] فصل نذكر فيه مقامه -عليه السلام- في شهارة المحروسة وما اتفق فيه من الحوداث.
لقد ذكرنا ما حصل من الاختلاف فيما بين عذر، ثم في بعض العصيمات، ثم بلاد بني عريان من أعمال المير وطريق حيدان، فإنها كثرت فيهم المفاسد وظهور المنكرات وقطعوا السبيل، فأرسل عليهم الإمام -عليه السلام- عسكراً أميرهم الفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل فأتاهم من قبل المشرق ومن وجهة الهيجة من بلاد أبي زيد عسكراً أيضاً عليهم [........] من جهة المغرب، فأوقعوا فيهم وانتهبوا أنعامهم وقتلوا منهم وعادوا بالغنائم الواسعة حتى ملئت شهارة وحولها[وبلغ ثمن الرأس البقر الذي بعشرين كبيراً] أربعة دراهم، والشاة الواحدة درهم واحد، فاستقاموا بعدها، وتركوا الفساد، وأمنت السبل، وتسمى[هذه الغزوة] غزوة ذو غيثان، ومن ذلك وقعة في عذر ولعلها قبل الأولى فإن الإمام -عليه السلام- راسلهم إلى الانقياد، فجمحوا وعاملهم بالرفق فطمعوا، فأرسل عليهم عسكراً فانتهبوا أنعامهم وأخذوا منهم أشرافاً، فاستقاموا بعدها وانتهوا عما كانوا عليه وتابوا، وكان أميرهم الحاج المجاهد سرور بن عبدالله بن مولى مولانا الحسن وتسمى غزوة درب الحجر، وكان هذا درب الحجر مخزاناً لذو سلاب ، وكان رأس الفساد في رجل يسمى ابن عليا من ذو منصور قد انتهى فساده إلى مكة المشرفة، ووصلت مطالعة الشريف الجليل زيد بن محسن -أيده الله- فيما أخبرني من أجله الفقيه علي بن قاسم الملك الأهنومي وفاة المذكور هرباً، ثم وصل إلى الإمام -عليه السلام- بأمان، وأظهر توبة، واستحلفه
الإمام -عليه السلام- أن لا يعود، فلما وصل خارج شهارة سأله بعض من يعرف أمره ما فعلت فقال: أعطيته من رأس أصابعي يريد أرضيته باليمين، وأنا عايد لحالي الأول، فأصبح ثاني ذلك اليوم أو ثالثه ميتاً فجأة، وأراح الله منه البلاد والعباد، وبعد أن وطأهم العسكر ،وأخذوا منهم رهاين صلحوا، ثم إنه -عليه السلام- خرج بعدها إلى جبل ذري، ثم إلى جانب عذر، وزار الأمير الشهير مجد الدين يحيى بن الأمير الداعي إلى الله بدر الدين -عليه السلام- إلى الخموس وذلك في شهر[.....] من عام[..........] ثم إنه تعلق بجبال العصيمات بكثرة عسكره غير أنهم منتشرين على صفة الطاغين في البلاد، فارتاع لذلك[66/ب] العصيمات، وعرفوا أنه -عليه السلام- قاصداً لهم، فأقبلوا إليه فلاذوا به وتبركوا برؤيته والإحتكام له، وأضافوه وأكرموا من لحق به، ولقد أخبرني من شهد ذلك أنه صار للرجل الواحد رأساً من الغنم، ثم خرج من بلادهم إلى حوث.
ومما أخبرني به -صلوات الله عليه- في معرض ذكر الظنون وأنها تخطي في غالبها بأن قال: إنه كان بلغه وهو في تعز العدنية في أيام أخيه مولانا المؤيد بالله -عليه السلام- بعض المنكرات وذكر حديثاً طويلاً، أفضى إلى أن غار إلى موضع من بلاد السلمي ولحق العسكر ارسالاً . ولما عاد في الليل وقد لحقه ومن معه تعب، وكان ممن معه من العسكر قوم من العصيمات فذكروا معقلاً في بلادهم يسمى كوكب، فقال قائل منهم: ذلك موضع لم تصله الدولة مذ كان، فقال -عليه السلام-: إن شاء الله نطلعه ونأخذ الحق من أهله.
قال: ثم تدارجت [الأيام] ، ولما صارت الخلافة إليه -عليه السلام- وطلع هو وهذا العسكر الكثير، وأخذ قوماً من العصيمات ووصل بهم هجرة حوث لجراير كانت بينهم، وأقام التناصف في هجرة حوث مما قضاه الشرع الشريف -أعزه الله تعالى- وزجر قوماً وعاقب آخرين.
قال -عليه السلام-: وكانوا يقولون له يا مولانا تحلة قسمك في طريق النجد لتطأ كوكباً، فقال -عليه السلام-: مقسماً بالله أني لم أذكر ما [كنت قد] قلته إلاَّ منهم.
وأخبرني القاضي محمد بن صلاح البشاري العذري أنه وصل إلى الإمام -عليه السلام- محمد بن ناصر بن مطلق الغزني، وأخوه هادي بندر فرده إليهم، وقال بلغني عنهم الربا والمعاملة به، واستتابهم وحلفهم، فما كان نحو اسبوع إلا وماتا وامتحق مالهما. وأقام -عليه السلام- في حوث أربعة أيام ثم عاد إلى زاقر وبقى فيه أياماً وطلع شهارة المحروسة بالله في شهر [........] .
[إقامة دار الضرب]
وفي أيام إقامته في شهارة أمر بإقامة دار الضرب فيها وجعلها أربعة أنواع درهماً كبيراً على وزن الدرهم الإسلامي في نهاية من طيب الفضة، مكتوباً في أحد جانبيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الآخر المتوكل على الله أمير المؤمنين إسماعيل وتأريخ الضربة، ومحلها بمحروس شهارة.
والنوع الثاني: قطعة أغلظ منها، وأثقل في الوزن[67/أ] مكتوباً في جانبه اسمه -عليه السلام- وشهارة المحروسة، فالثمان من الأولى: حرف واحد، ومن الثانية الخمس منها: حرف واحد، فيكون الحرف من الأولى: ثمان، ومن الأخرى: خمساً.
والنوع الثالث: كل بقشة بقشتين، يكون الحرف منها عشرين كبيراً.
والنوع الرابع كما سبق قبلها من ضريبة اليمن البقشة برأسها الحرف أربعون كبيراً ، وأمر بذلك في صنعاء وكوكبان، وانتشرت في البلاد، وتهاداها الناس في أول خروجها وهي النوع الأول التي الدرهم منها خمس وصل به الحاج مكة والمدينة، وكان لها موقع وطارت في الآفاق، وكان فيها هيبة له -عليه السلام- قاطعة لطمع الأتراك في اليمن وغيرهم وذكرها الفضلاء في أشعارهم............ .
[رسالة الإمام المتوكل إلى دعاة الباطنية]
[67/ب] وبلغ الإمام -عليه السلام- أن من همدان صنعاء وحراز من اتهم ببقائه على باطنهم الخبيث، وأنهم ألحقوا ضلالهم القديم بالحديث، فكتب إليهم مرشداً إليهم معلماً ومرشداً ومحذراً لهم من موجب السب، واراقة الدماء، وبرهن على الدليل، وأوقفهم على الحق الذي يعرفه كل عاقل، وأتاهم بما هو الحق الذي لا يخفى على العالم والجاهل، فقال -عليه السلام-: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم صلى وسلم على محمد وآل محمد، وارحم وأهد ولقًّني حجتي ، وأذقني عفوك ورحمتك ولا تحرمني رائحة الجنة يا رحمن، وبعد: فاعلموا أن أوجب الواجبات النصيحة وهي على أئمة الهدى أوجب وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ألزم،[لما] تحملوه عن الله وعن رسوله من عهدة التبليغ، وأمانة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحق ذلك ما حفظ الدين والتقوى، وبلغ إلى منازل رضوان الله الذي هو الغاية القصوى، وأنتم قد اعتزيتم إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانتسبتم إلى محبتهم ولن يتم لكم ذلك إلا باتباعهم في الإعتقاد والقول والعمل، فإن اعتقاد آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والبعث والنشر والحساب والكتاب، والجزاء بالثواب والعقاب{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا
فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} وتصديق جميع ما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما تفهمه العقول والألباب، واللغة العربية، وأن خطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لم تجر إلا على هذا الأسلوب ليس فيه تلبيس ولا تعمية ولا كتمان، ولا إخفاء ولا باطن لاتفهمه العقول ولا الألباب، ولا تدل عليه اللغة العربية.
وأما قول أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو ما علمهم الله عز وجل وأنزله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تبارك وتعالى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا[68/أ] أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .
وأمَّا عملهم فيما نظمه قول الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} وقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} يعتقدون هذه على ظاهرها ومعناها الذي يدل عليه فطر العقول وألباب أهل البصاير، ولغة العرب الفصحى لا يدَّعون لها باطناً، ولا يدينون بخلاف ما يقتضيه أمرها ونهيها ظاهراً، وقد بعّدكم الله وله المنة عليكم في هذا الزمان من مقارنة أهل الضلال، وخدع أهل المكر، ومن يكيد الإسلام، ويريد تبديل الدين، ويغر عباد الله بإدخالهم فيما لا تفهمه عقولهم، ولا تعيه ألبابهم، ولا تقتضيه لغتهم، فإنهم لم يريدوا بدعواهم الباطن غير خدع الجاهلين واضلال العالمين، وابطال خطاب الله عز وجل وخطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم: إن للظاهر باطناً على خلافه لا يطلع عليه غيرهم، وانظروا بعقولكم فنحن نحاكمكم إليها،
ونحيلكم عليها من أحق بالتهمة الله عز وجل مع ما أظهر من آيات قدرته، وبينات آياته ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم مع ما ظهر على يديه من المعجزات، وجرى في تصديقه من البراهين النيرات، أم هؤلاء الذين أدعوا بالباطل بمجرد أقوالهم، لا يحيلون ذلك على عقل عاقل، ولا فهم فاهم، فإنه والعياذ بالله إذا صح التلبيس في خطاب الله عز وجل وهو (العليم الحكيم) وجاز أن يريد بكلامه أمراً باطناً لا يعرف كلامهم الذي ادعوا أنه الباطن أحق بأن تقع فيه التهمة، وتتعلق به الريبة لأنهم ليسوا بأرباب ظهرت آياتهم، ولا أنبياء ظهرت معجزاتهم، وإنما هم من جملة عباد الله وخلقه، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشورا، ولا يدري أحدهم ما ينزل به من فقر ولا غنى، ولا صحة ولا سقم، ولا مرض ولا هرم، ولا موت ولا حياة، وهل يمكن العاقل[68/ب] إذا صدق دعواهم أن يتصرف بعقله، أو فهمه أو لغته أو عرفه في نفسه أو في ولده أو في أخيه أو في مملوكه، أو في أي شيء مما خوله الله من نعمه؟ لأن كلامهم ذلك يؤدي إلى أن نجوز الأمر في حق نفسه على أمر باطل مخالف لما يعرف، وكذلك في ولده وماله وزوجته ومملوكه وأكله وشربه ولباسه، وجميع تصرفاته، فكيف يسوغ الإنتفاع بشيء من ذلك، وهو لا يدري حكمه، ولا ما باطنه؟ تأملوا رحمكم الله تعالى ذلك بعقولكم وأفهامكم فما منكم إلا من له عقل وفهم ونظر، وانظروا إلى كتمانهم لدعواهم هذه لو كانت حقاً لما كتموها عن أتباعهم وأسروها في أنفسهم، فإن الحق والصواب لا ينبغي أن يستر:
والستر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير تسترا
وانظروا إلى ساير المسلمين كيف علومهم منشورة ظاهرة، وغير منشورة لا يستحيون من إظهارها، ولا يغطون شيئاً من أنوارها، فكيف والعياذ بالله يؤثر العاقل قول من لا يدري كيف صحة عقله، فضلاً عن دينه على ما يعمله من حال نفسه، ويدركه فهمه، ويطلع عليه لمعرفته، فاتقوا الله واعلموا أنا قد كتبنا هذا إرشاداً لكم، واعذاراً إليكم، وقد أنصفكم من حكم فيه عقولكم وردكم إلى أفهامكم وألبابكم، ثم اعلموا بعد ذلك والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، أنا سمعنا أو بلغ إلينا أن قائلاً منكم يذكر هذا المذهب الرديء القبيح مذهب الباطن نعوذ بالله منه، أو يدعي على الله وعلى رسوله ما الله بريء منه، فإنه ليس له عندنا بعد ذلك إن شاء الله بحوله وقوته إلا استباحة دمه وماله وحرمه، كما هو حكم الله عز وجل فيمن كان كذلك لا نخاف في ذلك إن شاء الله لومة لائم، ولا عذل عاذل، وأصلحوا عقائدكم، واخلصوا نياتكم، واعملوا وتبرؤا إليه مما خالف دينه ودين نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فإنكم بذلك تصدق عليكم كلمة الإسلام، وتدركون إن شاء الله الدنيا والآخرة، ويلذ لكم العيش، وتطيب لكم الحياة، وتلقون الله عز وجل مؤمنين، وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
نعم! ولما وصلت إليهم هذه الرسالة النافعة وما تضمنته الأدلة القاطعة، تشعشع منها الأنوار الساطعة، مع الوعيد للعنيد من النكال، واصطفاء الأنفس والأموال، ظهر في الأرض[69/أ] ذكرها، وانتشر في الناس أمرها، فكان لها أثر ظاهر، ولقمع أهل ذلك الباطن الخبيث قاهر، وكان بلغه قبلها في مواضع من محلهم الخبيثة أظهروا المخالفة في العيدين والصيام بالتقديم فيهما والتأخير، كما اشتهر عنهم من الاعتلال بتوليد الأهلة، وكذا يفعلون في كل ما خالف المسملين، كما اشتهر عنهم وظهر في البلاد التي تغلبوا عليها، أن منهم إبراهيم بن (محمد) المكرمي، دخل الهند واتصل بأهل ذلك المذهب الخبيث أعاده بولاية من كاهنهم المعروف، فأظهر أمره كذلك فنكل الإمام -عليه السلام- بأولئك وأنهكهم بالعقوبات، وقبض على هذا المكرمي فحبسه في شهارة المحروسة بالله أكثر من إثني عشر سنة، وقد أظهر مع بقائه البراءة من الباطنية، وكذا مما لا يعرف الإمام -عليه السلام- صدق توبته، وهو الآن في شهارة المحروسة بالله في تاريخ اثنين وسبعين وألف[1661م] وأظهر الكثير من أهل هذا المذهب الرجوع عنه والتوبة منه، بمعنى ظهر عليهم أثرها، وانتشر عنهم ذكرها، وإن كانوا قد أظهروا جميعاً ذلك، فمنهم الأمير جعفر بن علي من بني الآنف وأمراؤهم المشهورون، فإنه رجع وتاب وباينهم.
وأخبرني بعض الفقهاء العدول أنه حج في العام الذي حج فيه هذا الأمير وأنه رآه مخالفاً لهم يعني الباطنية في جميع أمورهم، وأنه رءآهم يعالجونه معهم في موضع وقوفهم المعروف وأن يقدم ذلك فخالفهم، وأنهم عادوا من عنده وهم يبكون، وخصهم الشيخ سعيد بن محمد اليعبري كان من كبارهم وأولي المكانة فيهم وله اشتهار في العمل بالباطن الخبيث مما يطول ذكره.
وأخبرني ولده الشيخ عبدالله بن سعيد عنه بالتوبة النصوح، وأنه أوصاه.
وأما ولده الشيخ عبدالله هذا فباين الدعاة وخالفهم ودل على عوراتهم، وصحح اسلامه في حضرة الإمام -عليه السلام- وكتب له الإمام -عليه السلام- ما هذا نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد: حمداً لله الذي جعل دينه دين الإسلام ديناً قيماً لاعوج فيه ولا أمت، وأظهر من آياته عليه ودلالته لمن اهتدى إليه ما لاغمة (فيه) ولا فرقة ولا شت ، وشهادة أن لا لا إله إلا الله وحده لا شريك له دلت عليه[69/ب] صنعته البديعة، ورحمته الوسيعة، وأن محمداً عبده ورسوله أيده بالمعجز الصادق، وأرسله رحمة لجميع الخلايق، وسؤاله أن يصلي ويسلم عليه وعلى أهل بيته الذين أوضح بهم الدليل، وكشف بهم سدفة كل منهج وسبيل، وحكم على ما خالفهم بالهلكة، كما أغرق من لم يركب مع نوح في سفينته، فهم أمناء الله على التحريم والتحليل لما استبان الحق بالبصيرة، واستبان الصدق بالخروج من ظلمات التعمية إلى ربوة الهدي المنيرة، المثمرة العذبة النميرة، بالبراءة من كل اعتقاد أو قول أو عمل تخالف فيه العلانية السريرة، ودان الله عز وجل بما أنزله من بينات الكتاب المبين، وعلمه على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من واضحات الدين، وصادعات اليقين، وحفظه بأهل بيت نبيه الذين قرنهم بالكتاب حفظاً عاصماً لمن شك به عما يلبس على المهتدين، وهو المنهج الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأهل بيتهما وذريتهما الذين أتموا من بعدهم لمن فتح الله باب الجهاد، وكافح بعزيمته وجوه الغي والبغي والفساد، ونشر ذكره وفخره على قصر المدة في الأغوار والأنجاد، الإمام الشهيد الولي بن الولي بن الولي زيد بن علي بن الحسين بن علي -سلام الله على روحه الطاهرة، وأرواح آبائه
وبركات الله جميعاً في غدو كل يوم ومساءه - وأعطانا على ذلك عهد الله وميثاقه، إن العهد كان مسؤلا، وأعلن عنه عمن وراءه من قبائله بالتوبة عن الإقتداء بغير أهل الحق تجميلاً وتفصيلاً، كان من الحق الواجب أن يعانوا على ذلك برفع الذكر وإعلان الأمر، وما تقر به العين ويشرح الصدر، من القواعد الشريفة، والشواهد العالية المنيفة، النبوية العلوية الفاطمية الحسنية الهادوية الناصرية المنصورية المؤيدية المتوكلية -أعز الله بها دين الإسلام- وأنفذ بها كلمة الحق التي أظهرها بفضله في الشرق والغرب واليمن والشام، تشهد له ولقبائله الذين اتبعوه على ذلك، ولجأوا إلى سفينة النجاة من المهالك، من اليعابر ومن إليه من أهل سبع هوزن، بالإجلال والإكرام، والرعاية والإحترام، والعناية الوافرة الأقسام، والدخول في جملتنا، والإنضمام إلى جماعتنا وشيعتنا، الذين لهم ما لنا وعليهم ما علينا، لا يخالفون إن شاء الله لله ولا لرسوله ولا لنا أمراً ولا نهياً، ولا يضمرون في دين الله الذي بينه وأظهره وأوضحه خيانة ولا كتماً [70/أ] ولا غياً، ولا يدينون إليه إلا بما دان به نفسه، وعظم به قدسه، ونطق به كتابه، وظهر به خطابه، ولا سبيل عليهم لأحد من الدعاة في شيء من الأعمال وجميع الأحوال، وأمرهم إلينا بواسطة عاملنا ووالينا في واجباتهم وتصرفاتهم وجميع متعلقاتهم[والذي وضعناه] لأولاد الأمير إبراهيم بن حسن من الحصة في تلك الجهة يصيره إليهم العامل من يده بعد قبضته من غير سبيل لهم على أولئك القبائل وللشيخ المذكور ما وضعناه لوالده ثم له لا ينقص إن شاء الله عنه ولا يحط على
حسب التفصيل الذي وضعناه والتمسك الذي حررناه، وعليه يستقيم إن شاء الله على مقتضى ما ذكرناه، ويوافق ظاهره فيه وباطنه على ما بيناه وقررناه، ونحن نسأل الله لنا وله ولقبائله ولجميع المسلمين الهداية إلى سبيل الحق الواضح، والدين الرابح، والنية الخالصة، والقول الصادق، والعمل الصالح، وأن يصلي ويسلم على محمد وآل محمد، ويجعلنا بهديه مهتدين، وبنوره مقتدين، ولا مبلسين ولا معتدين، كمن قال عز وجل فيهم{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى الله لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآل محمد وسلم.
حرر بتاريخ الثالث عشر من ذي القعدة الحرام عام ثمان وستين وألف[13 اغسطس 1657م].
[ذكر أحداث مكة]
وفي عام أربع وستين وألف[1653م] ظهر من الشريف مبارك بن شنفر بعد ما سبق من عمه الشريف عبدالعزيز بن إدريس بن حسن بن أبي نمي والأمير غيطاس صاحب جدة، منازعة الشريف الكبير، والسلطان الشهير، زيد بن محسن بن حسين بن حسن بن أبي نمي -أيده الله- وقد تقدم اعتزاؤه إلى الإمام وتحكمه له، وحيث قد ذكرنا ولاية المذكور، فلنذكر صفة مصير الأمير إليه، وإلى أبيه على جهة الاختصار واعتزائهما إلى الإمام بعد الإمام -عليهما السلام-.
مما أخبرني الشيخ حسين بن نعمان القحطاني، ثم عثرت على صحة ذلك من طريق متعددة، أنه تولى مكة وما إليها الشريف الكامل، والملك العادل حسن بن أبي نمي وكان أنهض إخوته وأحزمهم[70/ب] مع غلظة فيه عليهم وعلى غيرهم، وكان عظيم الهيبة، وكان أخوه الشريف قاتيباي بن حسن كثير الغزو إلى مشارق مكة المشرفة، وكان يغلب وينتصر ثم إنه بدى له أن غزا يام إلى مخاليف نجران فقتلته يام، ولما ملك الشريف أبو طالب أراد أن يأخذ بثار أخيه، وربما كاتب صاحب صنعاء من ولاة الأتراك -أقماهم الله تعالى- وتجهز لذلك بقوة من العدد، وأضعاف من المَدد، وجمع من أطاعه، وخرج على البلاد المخالفة فذلَّلها وسهل ما عسر منها، فهلك (في موضع) من تلك المفاوز وكتم إخوته وأصحابه موته، وائتمروا في القايم بعده، واتفقوا على الشريف الكامل عبد مناف بن حسن وطلبوا منه أن يقبل منهم الطاعة وأن يقوم بأمرهم، فامتهل منهم إلى ثاني يوم وفاة أخيه، وقد تفرقوا للميت، وكان في محطته في جانب من المحطة العظمى، ولما سكن الليل هَمَس بخفاف ركابه، ولم يزل يجد السير، حتى فارقهم نحو عشر مراحل، وصار في مشارف المدينة المنورة، وكتب إليهم: يا بني حسن إني هربت منكم لا تهلكوني أظلم لكم وفد الله، وأتسبب إلى إيصالكم مطالبكم وعوايدكم بما حرم الله أو كما قال، ففزعوا إلى صنوه الشريف الأكرم إدريس بن حسن، وقالوا له: لا بد مما تلي أمرنا، وتجمع شملنا، فاعتذرهم ثقل ذات اليد، فأقترضوا له من أخ له يسمى الشريف فهيد بن حسن، وكان ذا مال معروف بجمعه ثمانين ألفاً من الذهب الأحمر، وكتبوا فيه على الشريف إدريس
الأشراف.
ولما عادوا إلى مكة المشرفة انفتحت على الشريف إدريس أسباب النفقات والعطايا، وكان معروفاً بالسخاء، فعجز عن قضاء ذلك القرض، واتفقوا أنه سوق للشريف فهيد من حقه ربع ما حصل من المدخول حتى يستوفي ويكتب عليه ما صار إليه، فلم يحصل الوفاء إلا بعد سنتين، فقيل لفهيد: قد حصل لك وفاء مالك، فقال: لابد من استمرار الربع، وقد صارت أمواله متضاعفة، وتعلقت به الآمال، وعرف الشريف إدريس أنه أقدر منه على النفقات فأجرى عليه الربع، وشرط عليه أن يحمل معه من عوايد السلطان الربع.
ثم إن الشريف محسن بن حسين خرج من مكة مغاضباً لعمه الشريف إدريس، وله أخبار طويلة، وكان من أهل الفتك والهمة العالية، وغزا في أخبار ساقها الرواة فيها طول، فصالحه عمه إدريس بتهامة، وبندر القنفذة وما إليها إلى بيش من أعمال تهامة اليمن وثقل[71/أ] على الشريف إدريس بن فهيد، فراسل إلى محسن بن حسين أنك تعود إلى مكة وتعينني على فهيد، وأجرى عليك الربع الذي في يده.
ولما صار الشريف محسن في مكة المشرفة على صفة الاقتضاب، اجتمع بعمه الشريف إدريس، ثم احتالوا على فهيد، فحاصروه أياماً، ثم أخرجوه من مكة المشرفة، فصار إلى مشارف الحجاز ونواحي العراق يغري العصاة أجل الأطماع، ثم أنه غزا قوماً من بني خالد فأخذوه أسيراً، واصطفوا أمواله، وأولاده في أخبار طويلة، فهام على وجهه إلى صاحب الروم والتمس منه ولاية مكة المشرفة، وعرف صاحب الروم أنه إذا ولاَّهُ احتاج إلى سفك الدماء في حرم الله، وترويع أهل الحرمين، فألحقه بخاصته، وجعل له وظيفة أمير من أمراء مصر، فكان هناك حتى هلك.
وأما الشريف إدريس والشريف محسن فاستمرت أيديهما وقوي سلطانهما، وكان الشريف محسن في حكم الوزير لعمه، وإليه تدبير أكثر أموره، وعظم ذكر الشريف محسن، فرغب الأشراف في ولايته، وخلع عمه إدريس فأجابوه وصالح أمراء الأتراك كذلك، وأخرج عمه الشريف إدريس في عام أربع وثلاثين وألف[1624م] واستولى على ولاية مكة حرسها الله وما والاها، وقد صار الشريف إدريس شيخاً كبيراً فانتهى إلى جبل يسمى شمر من مشارف مكة مشهور بالحطب وكثرة القبائل فلاذ بهم فآووه، وكان هناك حتى مات في ذلك العام الآتي الذي يليه واستمرت الولاية للشريف محسن.
[ما حدث أيام المؤيد بالله في الحجاز]
ولما فتح الله لمولانا المؤيد بالله بن الإمام المنصور بالله -عليه السلام- كاتبه الإمام فأظهر الموالاة للإمام -عليه السلام- ووقع بينه وبين الأتراك عداوة، فكان من أمره ما تقدم ذكره في سيرة مولانا الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- ولما عاد ولده الشريف زيد بن محسن إلى الحجاز وهو موالٍ للإمام -عليه السلام- وقد أيده الله بإمداده من المال والرجال، ومات الشريف مسعود بن إدريس بعد أن ولى مكة نحواً من ستة أشهر، وصار أمر مكة فوضى، فاجتمع الأشراف على الشريف زيد بن محسن، والشريف محمد بن عبدالله بن حسن، فكان عليها إلى عام إحدى وأربعين بعد الألف[1631م] وعاد طائفة من الأتراك-أقماهم الله تعالى- الذين كانوا باليمن، وكان أمراؤهم من أصحاب الباشا الهالك في جده المخرج للشريف محسن من مكة، كما هو في السيرة المؤيدية مستوفى، فرشوا أخاً للشريف أحمد بن عبدالمطلب يسمى نامي ودخلوا مكة عنوة[71/ب] وقتلوا جماعة من الأشراف مع كثير من غيرهم، منهم الشريف محمد بن عبدالله بن حسن ونجا الشريف زيد بن محسن وأنفار حتى استجاروا بالمقام النبوي والحرم المصطفوي، وكان هنالك.
ولما خرج الأمراء من أهل مصر على أولئك الذين عبثوا وأفسدوا في مكة، استخرجوا الشريف زيد بن محسن، وولده وخلعوا عليه، وأعانوه بالمال والرجال، وذلك في أول عام ثلاث وأربعين وألف[1633م] وحسده الأشراف وخرجوا عليه، والإمام المؤيد بالله -عليه السلام- يداري من لجأ إليه منهم، وتتابعوا إلى الإمام المؤيد
-عليه السلام- وهو يقرر لهم العطاء الواسع، والكفايات الفايضة ويمد الشريف، فمن ذلك أن الشريف عبدالعزيز بن إدريس وإخوته كانوا بمكة المشرفة ويظهرون للشريف زيد الطاعة، وهمهم الغوايل والفساد عليه، وكان يروى للشريف عبدالعزيز وأخيه مبارك بعض نسك، فمال إليهم الأشراف ومناهم الأمير المتولي من قبل الأتراك في بندر جدة، وهو الأمير غيطاس من عظمائهم بولاية مكة وأنه يعزل الشريف زيداً وعظم ذكر ذلك، وكاد الشريف عبدالعزيز يظهر أمره بمكة، وكان ربما يأمر وينهي في مكة قبل أن يظهر أمره، وتوصل إلى حصول الإختلاف بينه وبين الشريف زيد فتفرق الأشراف عليه، وقد وعده بذلك أكثرهم سراً، ولكنهم ممن لا يقدر على المشاق بمكة، والشريف زيدٌ -أيده الله- قد عرف ذلك فتغافل عنه مدة، واستمد من صاحب مصر عسكراً.
ولما كان في عام أربع وأربعين وألف[1634م] وهبط الشريف عبدالعزيز إلى جده، وأظهر أمره وأمر صاحب جدة بأن ينادي بولاية الشريف عبدالعزيز، وأخذ في مكاتبة الأشراف والترغيب والترهيب، واتهمهم الشريف زيد بن محسن أيضاً فانقبض عنهم وأقل ذكرهم، وكادوا يخلون من مجلسه، ثم إنه خرج الشريف عبدالعزيز وصاحب جدة بمضاربهما ومن أجابهما مع رتبة جدة من الأتراك لإرادة الصعود إلى مكة المشرفة، وقد قيل للشريف زيد بن محسن بذلك فسكن في موضعه وجعل العيون عليهم، ثم إنه خف من فرسانهم أنفار إلى حدّه -بالحاء المهملة- ووصل الخبر إلى الشريف زيد فقام من حينه، وأمر بخفق الطبول وما يجمع من الأشراف في عادة مكة، وركب فاستل سيفه، وكان أول من حضر عند الطبل المسمى الزير، وقلب فرسه -عليه السلام- حركة الطبل وهي الإمارة في عرف أهل مكة، فحضر الأشراف جميعاً، فكانوا كذلك فأغار بهم إلى جهة طريق جدة، ولهم شعار وحامية[72/أ] حكى ذلك من شهده، فوجدوا أولئك الفرسان قد رجعوا إلى محطهم الأول، فعاد للشريف زيد بن محسن ظنه في الأشراف، فأوقفهم على أمره يستنصحهم وأفاض عليهم الإحسان، ثم إن الشريف عبدالعزيز والأمير صاحب جدة، قدما قريب من طريق العمرة، وقد جمع الشريف زيد جموعه وأخرج مضاربه إلى خارج الحرم وعسكر هنالك.
ولما طلعوا عليه قسم الأشراف من خاصته مثل الشريف الكامل أحمد بن الحارث ذات اليمين وذات الشمال، فكانوا كالجناحين وبقي هو في المضرب المتوسط ظاهراً لم يركب، وجعل في القلب حماة أصحابه، وحصل الطراد ثم الرمي بالبنادق وقتل من الأشراف الذين كانوا مع عبدالعزيز فارسان من عمدة أعوانه وأنفار من العسكر، وقد أمر الشريف زيد أصحابه أن لا يعترضوا للأتراك بشر مهما وجدوا إلى سلامتهم سبيلاً خوفاً من العواقب.
وكان لمولانا محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين رسول إلى الشريف زيد بن محسن لبعض الأغراض، فوافى هذا الحرب، واستعار من الشريف أو من بعض أصحابه بندقاً ورمى بها فأصاب أحد الأشراف المقتولين من أصحاب الشريف عبدالعزيز وغيره، وكان هذا الرسول من أهل الحيمة، ثم أُصيبت الجمال التي تحمل الماء للشريف عبدالعزيز وللأمير المذكور وعقرت، (ثم آنيتها تقطعت) فانكفى ماؤهم فأجهدهم العطش والسموم، وانقطعوا من ورائهم، فانجزل الشريف عبدالعزيز إلى الأشراف الذين في الميمنة واستجار بهم، ثم فعل من بقي من أصحابه كذلك، وبقى صاحب جدة وأصحابه وكانوا زهاء من خمسمائة، فراسله الشريف زيد بن محسن، وأطلق له دخوله مكة إن شاء الله أو العود إلى جدة، فعاد في حكم المؤَّمن إلى جدة، وكتب الشريف زيد بذلك الواقع إلى صاحب مصر وإلى ملك الروم، وكتب الأمير المذكور كذلك، وكان الجواب راجعاً بعزل ذلك الأمير، وابدال ولاية البندر بغيره رعاية للشريف زيد، ولتسكين فتن اليمن التي قد عرفوا مواقعها فيهم، وكتب صاحب مصر إلى الإمام -عليه السلام- بإرسال ذلك الأمير إلى جدة وفيه خضوع وخنوع
من معنى لفظه: وصدر الأمير فلان إن وافقكم وإلا أبدلناه أو كما قال.
كما أخبرني بعض الأصحاب مكاتبة، وقد تواردت كتب الشريف إلى الإمام -عليه السلام- يطلب منه المدد[72/ب] بالمال ويستطلع رأيه الكريم في معاملة ابن عمه الشريف عبد العزيز فأجابه -عليه السلام- بما لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم صلى وسلم على محمد وآل محمد، واعن وأهدِ إلى هذه المراشد يا الله يا رحيم، شد الله أزر دينه الحنيف، وحمى جوزة أهل بيت نبيه الشريف، وحفظ حرمة بيته الحرام، وحرس سوح مشاعره العظام، بما أجراه من جميل العوايد، وأحسن به من غيظ كل حاسد، بما طلعه الصنو السيد الشريف الأعظم، وملك أهل البيت في الحرم المحرم، والذاب لمن أراد فيه بإلحاد يظلم، والدافع عدوان من أراد فيه أن يسلك في سبيل عدوان وهضم، زيد بن محسن بن حسن زاده الله من جميل ما عوده وثبته في ما يأتي ويذر، وما يقول وما يفعل، وسدده ورفع شأنه في درجات خاصة عباده وأسعده، وأهدى إليه شرايف التسليم، وزلايف البركات والتكريم، وعواطف العون الإلهي على مقصده الصالح ومنهجه القويم، وبعد: فإنه كان وافانا كتابه الكريم، وخطابه الشريف الوسيم، على يدي الفقيه شهاب الدين أحمد الحُليبي بتحقيق ما كان[قد] وقع من صاحب جدة من تلك النزعة الشيطانية التي دارت دوايرها عليه.
وكان الله عز وجل وله الحمد بما أيدكم من المعونة بتولي دفعها من لديه، وعوده خائباً بعد أن قتل من أعوانه، واختيار الله وله الحمد الشهادة للسيد ويس بن محمد -رحمه الله- ورفع في درجات الشهداء من شأنه، ثم تعقبه كتابكم الكريم صحبة المحب المخلص حسن بن علي الصنعاني -بارك الله فيه - بما تجدد بعد ذلك من أخبار، ورفع يد المشار إليه عن جده، وما تضمنه من الأغراض المترتبة على ذلك في شأن أهل الأسباب والمسافرين، وتنزيلهم من بندر القنفذة -حرسه الله تعالى- وذكر ما كان اقتضاه الحال من استمداد ما استمددتم من القرضة، وإلى الآن لم يذكر لنا أحد منهم شيئاً من ذلك لحسن ظنهم بوعدكم الكريم، وما يعرفون أنكم لم تستمدوا ذلك إلا لعارض مهم، وتحبون مشاركتكم فيه، ومعونتكم عنده، ولا يفوتكم إن شاء الله ما لديكم، وكيف معولهم بعد الله سبحانه في الإستيفاء ممن يقدر قُوتِه على الله وعليكم، وتعقب ذلك الكتاب الكريم الثالث، وتحقيق عزل الأمير الغيطاس، وورود من يقوم مقامه من جماعة الباشا، وأن تلك العوارض إن شاء الله بفضل الله قد زالت[73/أ] والأحوال بحول الله وقوته قد انتظمت، وقد حمدنا الله وهو أهل الحمد على جميع ما ذكرتم من تفضلاته عز وجل ومننه، التي من أهمها وأولها اجتماع قلوب أهل هذا البيت الشريف وحرمهم المنيف، ثم بما من به من عودة كيد الكايد عليه، ورجوع ضرره إليه، ورجونا أن يجعل الله تعالى ذلك إن شاء الله عنواناً لكل خير في الدين والدنيا، وبلاغاً لكل عمل صالح وتقوى، وكفَّا لأكف كل عاد أثيم وحسماً لطمع كل عدو لئيم{ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، والفقيه حسن بن علي الصنعاني أدى ما ذكرتم أنكم أودعتموه إياه من القول، وحقق من الأحوال ما نسأل الله صلاحها إن شاء الله في الحال والمال، من كرم الله وعونه وهو ذو القوة والحول، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، وقد توجه إليكم مصحوب السلامة والكرامة، بما تطلعون إن شاء الله عليه، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم كتب -عليه السلام- إلحاقاً في طي ذلك لفظه: حاوي خير إن شاء الله تعالى، وقفنا على الملحق الكريم بتحقيق حال الخاصة، وما لحق من الخاصة، وقد عوّد الله الجميل وحسبنا الله ونعم الوكيل، ووعده عز وجل باليسر على أهل ملك البقاع الشريفة صادق، وعود الحال لأحسن ما كانت عليه منتظر، فثقوا بوعده وتوسلوا إليه تبارك وتعالى بما أشرتم إليه من حسن مقصدكم، وحميد صالح نيتكم في صلاح البلاد والعباد، وحفظ جوزة هذا الحرم الشريف، والبناء النبوي الحنيف، عن عدوان أهل الفساد فلا تلجأوا إلاَّ إليه، ولا تعتمدوا إلا عليه، وابشروا إن شاء الله بالظفر وحسن العاقبة إن شاء الله والأثر، فإن العاقبة لمن اتقى وصبر، والذي التمستموه من الرأي بعد استخارة الله.
أمَّا ما يتعلق بجماعتكم الأشراف جمع الله شملهم، وألف بين قلوبهم، فما يسع إلاَّ احتمالهم كيف كانوا والصبر عليهم، وإن يكونوا فإن لهم أولاً حق الرحم، إنما هم والد وولد وأخٍ، وهم العدة إن شاء الله على الأعداء والأعوان عند الحقائق على النوايب (والمرءِ كثير بأخيه) ومثل هذه الحادثة قد أبانت بفضل الله عن حفظهم لشرفهم، ورعاية حق سلفهم:
فاحفظ أخاً لك على ما كان فيه ولو
ضاقت به النفس واحذر قول كل خلي
وكن حريصاً لما فيه اجتماعكما
فإن ذلك أزكى القول والعمل
[73/ب]وقد قال أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- في وصيته للحسنين - سلام الله عليه وعليهما-: ((أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى الله عز وجل، ونظم أموركم وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدكما ً يقول: ((صلاح ذات البين أفضل عند الله من عامة الصلاة والصيام )) .
وأما شأن الرعية والأعراب فإنما يُستجلبون بالرفق والتيسير، ومداوات علل رؤسائهم وكبرائهم، بشيء من الدنيا، ويحسن الوفاء لهم بالوعد واصطناع المعروف، فهم تبع في الغالب لا كما توهم وإنما يتوهم في بعض الأحوال فإنهم لا يرجعون إلى غيرهم عند النوايب، وأما أمر العدو الثالث فاستكفئوه بالله عز وجل{عَسَى الله أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} وبالتوسط في المعاملة بين التفريط والإفراط، ما دامت الضرورة مُلحِّة إلى معاملته ومداجاته لحفظ جملة الإسلام، ومعالم الدين فلا يوحش حتى تخفف العداوة فتحمله على الشطط، ولا يطمع فيخيل الضعف والوهن فيتحكم ويتجرأ، وإن كانت حوايل دفاع الله حايلة إن شاء الله بينه وبين ما يروم، ثم انتظار فرج الله يصلح جميع ذلك إن شاء الله. انتهى. وكتب في عام ثلاث وستين [وألف] .
وقد عظم حال الشريف مبارك بن شبر بن حسن بن أبي نمي، وهو بقية من عظمائهم، وعمدة من زعمائهم، مما أخبرني به مولانا أمير المؤمنين -أيده الله- إن الشريف زيد بن محسن -أيده الله- طالعه في مكاتبة في تحويل إمارة مكة إلى الشريف مبارك مرة، أو قال مرتين وإنه في بعض طلب من الأشراف إقالتهم الإمارة وأن يعينها وإياهم لهذا الشريف وأن الإمام (عليه السلام) لم يرد ذلك في كلام ساقه عليه السلام في ذلك فعظم هذا الشريف عند تعيينه، وطلب من الشريف زيد أن يجعل له الربع، فلم ير ذلك الشريف وقال: أردتك للجميع وتحمل مؤن الجميع، وتتركني أكون في الحجاز، ولا أطلب منك شيئاً وأجاهد العصاة أو كما قال، فخرج هذا الشريف مبارك من مكة لإرادة الشقاق، وكان مولانا عز الإسلام محمد بن الحسين -أيده الله- المتوسط في إصلاحه فلم ير ذلك الشريف زيد بن محسن صيانة لجانب مولانا محمد بن الحسين، لما يعرفه [من] جهل صاحبهم بما يحق له من التعظيم، فلم ير ذلك مولانا محمد -أيده الله- أو قال: إني أخاف من الإمام -عليه السلام- [74/أ] أن ينسبني إلى التقصير، أو كما قال، فوصله إلى خارج مكة وهو معسكر هنالك، فلم يكد ينصفه في السلام فضلاً عن الكلام، وأظهر غلظة البدوان التي ربوا عليها، وأخلاقهم التي لجأو إليها، وطلب من مولانا محمد أن يضمن له بما لا يحتمله الحال، وعاوده أخرى إلى ذلك المحل فتكلم بما لا ينبغي، كما أخبرني بعض أصحاب مولانا وتركه وعاد إلى اليمن، ومكث الشريف مبارك أياماً وهلك.
[مراسلة الإمام المتوكل على الله إلى الشريف زيد بن محسن]
ومن كتب الإمام -عليه السلام- إلى الشريف زيد بن محسن بن حسين -أسعده الله- في ذلك مالفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد الله وسلام على عباده الذين اصطفى:{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } حامي حمى العترة المكرمة، وراعي وفد الله إلى مشاعره المعظمة، وسيد سادات هذه العصابة النبوية الغراء، وغرة وجه أبناء الوصي والبتول الزهراء، ودرة تاج مفخرهم، الذي هو لكل منقبة أولى وأحرى، الصنو السيد المقام، ملك أهل البيت الكرام، زيد بن محسن بن حسين بن حسن بن أبي نمي بن بركات -بارك الله عليه كما بارك على آبائه- وشرف قدره وذكره كما خصه بشرف أفعاله وأسمائه، وأهدى لعالي حضرته، وكريم مقامه، سلاماً يملأ الأرجاء بضيائه، ويصوغ الأنحاء بطيبه وذكائه.
وبعد حمداً لله إليه على سابغ نعمائه، وسؤاله أن يصلي ويسلم على محمد وآل محمد وعترته وأوليائه، فإنه كان وافانا كتابه الكريم، ومسطوره الفخيم، صحبة الولد السيد الأمجد العلامة عزالإسلام محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين -حفظه الله- مشتملاً على التحقيق، ووصل إلينا الولد عزالدين -حفظه الله- ناشراً مطارف الثناء على ذلك المحل الكريم، والمقام الفخيم، الذي هو بكل مكرمة ومنقبة خليق، وبما نرجوه له من معونة الله التي لصاحبه إن شاء الله تعالى في ما يرومه من صلاح بلاد الله وعباده حقيق مفصلاً نظمه ذلك الكتاب الكريم، مما كان وقع ممن أشرتم إليهم من الأهل أصلح الله بالهم وجمع على التقوى شملهم، ونظم أحوالهم من تلك النظرة التي هي والعياذ بالله نزغة أمر الله بالإستعاذة عندها من الشيطان الرجيم، في قوله عز وجل{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .ثم بشر باستبصار المتقين بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا[74/ب] مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} وذلك شأن أهل اليقين، مزيلاً لما كان وقع في النفس من الوحشة لتلك الفرط، ومبشراً لما أعاد الله إليه تلك الأخلاق الشريفة ما هو أولى بهم وأحرى، وكيف لا وهم أحق من دخل في السلم، ولم يتبع خطوات الشيطان، وقال خطه: وتروننا في الجواب عليك في ما تضمنه الإلحاق رجاء تحقيق انتظام ذلك الأمر، ووقاية شر ذلك الشقاق، فورد علينا كتابكم هذا الأخير صحبة محمد بن سعيد اليافعي عاملاً للعيون قرة
والقلوب مسرة، من عود تلك الألفة الشريفة إلى نصابها وإتيان وجوه الرأي التي رأسها وأصلها اجتماع الأبدان والقلوب على ما فيه رضى الله عز وجل وإقامة الدين كما أمر الله من أبوابها، فحمدنا الله سبحانه حمداً كثيراً على ما منح، وشكرناه وله الثناء الحسن على ما حسم من أسباب الإختلاف، فإن الله عز وجل يقول لعباده المؤمنين:{فَاتَّقُوا الله وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} وفي وصية جدكم أمير المؤمنين وسيد الوصيين لأبويكم الحسنيين-كرم الله وجوههم ونضرها- ولمن بلغه كتابه أن قال: (أوصيكما وجميع أهلي وولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله عز وجل ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم وإني سمعت جدكما -ً- يقول: ((صلاح ذات البين أفضل عند الله من عامة الصلاة والصيام )) .
وإنما فضله ً مخبراً به عن الله عز وجل عن عامة الصلاة والصيام التي هي من أعظم أركان الإسلام بما أخذ الله على المكلفين من اجتماع قلوبهم وأيديهم على الحق على كل حال وفي كل زمان أو ألحقها بالمعارف الإلهية، كما ألحق ولاية أهل البيت في قوله ً: ((إن الله فرض فرائض أوجبها في حال وحفظها في كل حال وولايتنا أهل البيت، فإن الله لم يحفظها في حال من الأحوال)) يعني في الخوف والأمن والشدة والرخاء والسعة والضيق، والصحة والسقم، بخلاف الصلاة والصيام، فإنهما وإن كانا من أركان الإسلام، فقد تخفف في بعض الأحوال لتخفيف الله عز وجل عن المسافرين عزيمة الصوم والإجتزاء بالقضاء، وعن المريض ونحوه عزيمة القيام في الصلاة والإجتزاء بالقعود لها، والإضطجاع والإيماء وهذا في الحقيقة هو أعظم أبواب الجهاد، بل هو ثمرة الجهاد وغايته كما أشار إليه قوله عز وجل:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فإذا حصل ذلك بمثل ما علم[75/أ] الله نبيه ً في قوله{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فتلك النعمة
العظيمة، والمنة الجسيمة، ولا سيما حق آل رسول الله ً لا سيما في حق من خص منهم بحماية بيت الله الحرام ومشاعره العظام، وكان على يديه وسعيه وعلو همته أمن وفد الله، وزوار بيته وحفظ حرمة الله، وتعظيم حرماته وشعايره، ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه، ذلك ومن يعظم شعاير الله فإنه من تقوى القلوب، ومن تعظيم حرمات الله وشعايره اجتماع الأيدي في حمايتها، واتلاف القلوب على رعايتها، وقد قال أمير المؤمنين-صلوات الله عليه- في وصيته السابق ذكرها: والله الله في بيت ربكم، لا تخلوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم يناظروا فليكن حفظكم الله حماكم على كل ما يجمع الكلمة، ويمنع الفرقة، ويرد الألفة، ويحرس الشرف، وإن شق فإن التكاليف كلها شاقة، ولذلك سميت تكاليف في ما نرجوه لنا ولكم جميعاً تصديق دعوى الله بالإظهار في الدنيا، والثواب العظيم في الآخرى، ما نعظم به رعيتنا ورعيتكم في الصبر وكظم الغيظ، وصلة الرحم، وحفظ الجماعة جمع الله شملنا وشملكم، وسر بما يرفعه لنا ولكم من العمل الصالح أهلنا من النبيين والصديقين وأهلكم، فقد جاء عن النبي ً أنه قال: ((الوالي العادل المتواضع في ظله وذمته فمن نصحه في نفسه وفي عباد الله حشره الله في وفده يوم لا ظل إلا ظله، ومن غشه في نفسه وفي عباد الله خذله الله يوم القيامة)).
قال: ويرفع الوالي العادل المتواضع في كل يوم وليلة كعمل سبعين صدّيقاً كلهم عامل مجتهد في نفسه ، ومن أعظم العدل والنصيحة حفظ آل رسول الله ً عن الفرقة، والصبر على جمعهم على الألفة، فقد حافظ على الألفة واجتماع أهل الآراء السديدة من العجم والعرب الذين لا يرجعون إلى دين ولا كتاب ولا نبي ما استثمروه منها من حسن العاقبة وبرد العافية، وشفاء صدور الولي وغيظ قلب[75/ب]العدو، حتى قال محسن بن أوس (والحكمة ضالة المؤمن)، وإن من الشعر لحكمة، كما ورد في الحديث المقبول على قائله وآله أفضل الصلاة والسلام:
وذي رحم قلمت أظفار ظغنه .... بحلمي عنه وهو ليس له حلمُ
يحاول رغمي لا يحاول غيره .... وكالموت عندي أن يحل به الرَغمُ
فإن أعفُ عنه أغض عيناً على القذا .... وليس له بالصفح عن ذنبه علمُ
وإن أنتصر منه أكن مثل رايشٍ .... سهام عدو يستهاض بها العظمُ
صبرت على ما كان بيني وبينه .... وما يستوي حرب الأقارب والسلمُ
حتى قال:
فما زلت في لين له وتعطفٍ .... عليه كما تحنو على الولد الأمُ
وصبري على أشياء منه تريبني .... وكظمي على غيظي وقد ينفع الكظمُ
لأستل منه الضعن حتى سللته .... وقد كان أحياناً يضيق به الجسمُ
فأطفأت نار الحرب بيني وبينه .... فأصبح بعد الحرب وهو لها سلمُ
وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلواته وسلامه على نبيه محمد وآل محمد.
حرر بتاريخ ربيع الأول سنة أربع وستين وألف[يناير1653م]بمحروس شهارة-حرسها الله بالصالحين من عباده. انتهى.
[إرسال الفقيه النحوي إلى بلاد ينبع للتعليم والإرشاد]
وفي عام ثمان وستين وألف[1657م]أمر الإمام -عليه السلام- مذكراً إلى بلاد ينبع وما والاها من بلاد الحجاز للتعليم والإرشاد.
وأما قبض الواجبات الشرعية من الأمور فقد دخلت في ولاية الشريف الكبير والسلطان الشهير زيد بن محسن -أيده الله- فأمر الفقيه الصالح التقي الناصح، الحسين بن يحيى بن علي النحوي من بقية الفقهاء آل النحوي كان له معاودة إلى تلك الجهات الشامية والحجازية وأصحبه كتابه (النصيحة الكافية الوجيزة الوافية)، وأمره أن يستصحب من الشريف الأكمل كتباً تتضمن ما أراد الإمام -عليه السلام-، وكتب الإمام أيضاً إلى الشريف بمثل ذلك، فأخبرني الفقيه المذكور أن الشريف عظم عليه الفعل والترك، واطال إرجاء الفقيه المذكور عنده في مكة المشرفة حتى ساء ظن الفقيه، وقد اختلط بعض مشايخ[76/أ] بلاد حرب، وبعض الأشراف، فقالوا له تمضي بكتاب الإمام -عليه السلام- ونحن معك أو كما قالوا. وقال الشريف مرة بمثل ذلك، فقدم الفقيه المدينة المشرفة، فشاع أن هذا والٍ للإمام -عليه السلام- فعظم ذكره، ثم وصله أهل ينبع، وبعض مشايخ بوادي البلاد المذكورة، ومضى معهم إلى ينبع وبلادها، وأقيمت الجمعة، واجتمع إلى الفقيه المذكور فقهاء بلاد ينبع، ودعوا الناس إلى الإمام -عليه السلام- ورفعوا مناره وأعلنوا شعاره، وكتب أعيان السلطنة إلى صاحب مصر، وربما والي الروم مثل ذلك، ثم أن الشريف زيد تشاغل بالمخرج إلى بلاد نجد، وكان له في بلاد المدينة ابن عم يسمى الشريف يعلى بن حمزة يتردد في تلك البلاد وينظر في أمورها،
فاتفق رأيهم أن أرسلوا عن أمر الشريف زيد، بواسطة هذا الشريف من يغتال الفقيه المذكور، وقد عظم على الشريف التظاهر بمعصية الإمام -عليه السلام- وعظم عليه أيضاً أن يُتهم في السلطنة.
قال الفقيه المذكور: ولما تفرق من عندنا من أهل ينبع بعد صلاة الجمعة، وصل اثنا عشر نفراً من أصحاب الشريف زيد وسمعنا بهم، ونظرناهم بعد ذلك، وقيل: إنهم قضوا لمطالبهم من البلاد وولاتها، وكانوا بالقرب منا، ولما تفرق الناس قدموا علينا، ولم يكن عندنا إلا صاحب المنزل ونحو ثلاثة أنفار فهجموا علينا فدافعناهم وحصل فيهم إصابات قاتلة أعظمها من الفقيه المذكور فإنه -عافاه الله-قوي البدن، شديد البأس، وحصل في الفقيه شيء وفيمن حضر، ثم وصلت الغارات، فقلّ من سلم من أولئك وهلك بعضهم في الطريق، ثم إن أهل ينبع دافعوا عن الفقيه وخرجوا معه إلى بلاد جهينة وشام جبل رضوى، فاجتمع إليه قبائل هنالك زيدية، وأرادوا منه إظهار الخلاف على الشريف زيد، وأن يقبض منهم الواجبات للإمام -عليه السلام- وذكروا له كيفية في الإمتناع عن الشريف زيد، وعن الأتراك -أقماهم الله- وشاع في مصر.
قال بعض من وصل من مصر بعد ذلك إنه سمع في مصر أن أول أصحاب الإمام -عليه السلام- في بواديها، وبلغ الإمام -عليه السلام- ذلك فرأى طلب الفقيه المذكور كفاً للشر وعرف -عليه السلام- أن الشريف زيد -أيده الله- لا يرضى ما يخالف الأتراك ولا يأمنهم، وعاد الفقيه المذكور من طريق بيشة والسراة[76/ب] إلى الإمام -عليه السلام- في عام أحد وسبعين وألف[1661م] وهذه نسخة ما كتبه الإمام -عليه السلام- للفقيه المذكور:
بسم الله الرحمن الرحيم. وبعد حمداً لله وشكره، وحسن الثناء عليه بما يجب من تكرير ذكره وتعظيم أمره، وشهادة أن لا إله إلا الله الذي عظم الشريعة وكرمها، وأن محمداً عبده ورسوله الذي فصَّل الأحكام وعلَّمها، والصلاة والسلام على محمد الذي هدى به واضح السبيل، وعلى عترته الذين قربهم لحفظ الحق المبين مع التنزيل، فإنا أمرنا الفقيه الفاضل، سليل الشيعة الأفاضل، شرف الدين الحسين بن يحيى النحوي -أسعده الله ورعاه وبلغه غاية أمله ورجواه- أن يتوجه إن شاء الله إلى الجهات الينبعية والصفراوية وما والاها، وما أمكنه الهداية والإرشاد فيها وفي سواها ليرشد إلى الخير ويدل على سبيل النجاة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحض على تقوى الله عز وجل، وهو الإعتصام بحبله والإقرار بوحدانيته وربوبيته، وعدله في الأقوال والأفعال، وصدقه ووفائه في الوعد والوعيد، وتنزهه عن مشابهة العبيد، والتمسك بكتاب الله وعترة رسول الله كما دل على ذلك على لسان نبيه ً في قوله: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)) وأن يأمر بإقامة الصلاة، وتعلم فرايضها، وفضايلها وطهارتها وحدودها وإيتاء الزكاة من أنصابها، ويصوم شهر رمضان في وقته، وحج البيت الحرام في زمنه، وتحليل ما أحل الله، وتحريم ما حرم الله في النكاح والطلاق والبيع والشراء، ومعاملة بعض الناس لبعض في أداء ما أوجب الله واجتناب ما حرم الله، والإجتماع على دين الله ودعوته وحبه وحب
رسوله وحب أهل بيته، كما قالً: ((أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه وأحبوني لحب الله، وأحبو أهل بيتي لحبي)) وأن يناصح المسلمين في جميع أحوالهم، ويأمرهم كذلك بالتناصح في ما بينهم، والتناصف ودفع التظالم وما أمكنه فصله من الخصومات ورد المتشاجرين فيه إلى الحق من الحكومات فقد أمرناه بأن يتولى ذلك ويرشد إليه، ويقيم فيه الحق ويحكم به، وكذلك ما لا يتولاه إلا أهل[77/أ] العلم والبصاير من حفظ أموال اليتامى والمساجد والغرب والمصالح والمؤلفة عليها والحث على حفظها ورعايتها، وانكاح من لا ولي لها، وغير ذلك مما طريقه الولاية من الأئمة والإذن من دعاة الحق وورثة الحكمة، مما يظامه تقوى الله عز وجل وحفظ عهوده، والوفاء بعقوده، وما يرجع إلى هذه الجملة، وتكون به إن شاء الله كلمة الحق، والدلالة على الصواب، والهداية إلى الرشد، ونحن نسأل الله أن يصلي ويسلم على محمد وعلى آل محمد ويثبته في أقواله وأفعاله، وجميع أحواله ويرشده ويرشد به ويهدي على يديه، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، في تاريخ شهر شوال الكريم من عام ثماني وستين وألف[يونيو1657م].
وكتب مولانا عز الإسلام والمسلمين، محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين مع الفقيه المذكور:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فإن حظنا الكريم، ورسمنا السامي الوسيم، النبوي الإمامي المتوكلي المحمدي -أعزه الله تعالى وأعلاه وأنفذه في الآفاق وأمضاه وأقر عين المتمسك وأرضاه- يشهد بيد القاضي الأعلم الفاضل الورع الهمام الكامل شرف الدين حسين بن يحيى النحوي -أسعده الله تعالى- أنه من أخلص أتباعنا وأجل أنصارنا وأشياعنا يأمر بالمعروف أينما سلك، وينهي عن المنكر أينما ذهب، ويعلم مراشد الدين، ويهدي إلى سنن سيد المرسلين وعترته الأئمة الهادين، ويقوم عنا بهذه الخطة الجليلة المقدار، الحسنة الآثار، في أداني الأرض وأقاصيها، ومعاقلها وصياصيها، حسبما يقتضيه ورعه ودينه ويوجبه إيمانه ويقينه، وكما أمر بذلك مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين المتوكل على الله رب العالمين -حفظه الله تعالى- بما حفظ به الذكر المبين، فليمض لسبيله الأرشد، ومنهجه الأشد، موفقاً إن شاء الله في مقاصده، مسدداً في مصادره بارك الله لنا وللمسلمين فيه، وشكر عن الجميع مساعيه، وتولاه بولايته، وشمله بحياطته وكفايته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، بتاريخ شهر شوال الكريم أحد شهور سنة ثمان وستين وألف[يوليو1657م] وحرر بمحروس ضوران.
[سيرة الحبشة]
ارسال القاضي العلامة الحسن بن أحمد الحيمي إلى سلطان الحبشة[77/ب] ومن ذلك أنه تقدم في سيرة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- مكاتبة من ملك دنيا صاحب الحبشة، وهو ملكها الأعظم، فأرسل إلى الإمام -عليه السلام- مكاتبة وهدية فأجابه الإمام -عليه السلام- بما مر في السيرة المؤيدية، وكان قد طلب من حي الإمام -عليه السلام- رجلاً يلقي إليه ما تحمله الأوراق، ولا يودع صدور الرجال، مع رجل منهم اسمه سالم، وقد فهم الإمام -عليه السلام- أنه يريد مرشداً وداعية يعلمه القرآن وأركان الإسلام، فانتهوا في ما بلغ إلى جانب من الطريق وبلغهم وفاة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- وقيام الإمام بعد الإمام فراسلوا إلى ملكهم بما بلغهم، فأمرهم بالمضي إلى الإمام القايم بعد الإمام، ولبثوا في الطريق نحو السنة كما سيأتي، فلما وصلوا إلى محروس شهارة عمرها الله بالإيمان عظمهم الإمام -عليه السلام- وتابع لهم الإحسان، ثم أرسل معهم القاضي الأفضل، العالم الأعمل، ذا العزيمة الماضية، والهمة السامية، شرف الدين الحسن بن أحمد بن صالح اليوسفي ثم الحيمي -أسعده الله وأطال بقاه- وهذا القاضي من عيون الشيعة، وأهل الحلم والكرم والصبر والأناة، والمعرفة لمخالطة الكبراء، وحسن الدعاء إلى الحق، وأصحبه بما يحتاجه من الكتب، ورغب من صحبه من سفره، وأعطاه مطلوبه وهو مع ذلك يعظمهم ويذكرهم بالله ويوصيهم بتقوى الله، وأن يعلموا أولئك القوم بالفعال قبل المقال، وقال فيما قال للقاضي -أيده الله-: لست رسولي إنما انت تُبلغ عن الله سبحانه، وعن رسوله ً وكثير من نحو هذا
وكتب الإمام -عليه السلام- جواباً على السلطنة هذا نسخته................. [78/أ]................. [78/ب].......... .
[79/أ][وقد ذكر القاضي -أيده الله- سفره هذا من ابتدائه إلى انتهائه بما هذا نسخته وهو أصدق راو وأوفى حاكم، وقد كتب الله له ولمولانا (عليه السلام) أجر ما قصد من الهداية، وعملاً بما ندب الله له ورسوله صلى الله عليه وعلى آله إلى الشمايل الحسنة، في قوله عز وجل {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } وبقوله تعالى{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } صدق الله العظيم.
الحمد لله على ما آتانا من الإيمان والتقوى، ونصبه لنا من البرهان الموصل إلى التمسك بالسبب الأقوى، وعلمنا من البيان ما يؤثر خيره للأعقاب ويروى، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له شهادة أنور من فلق الصباح وأضوى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أسرى بجسده إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، وبعثه إلى العالمين على اختلاف الأديان واتباع الهوى، فأخرج بعث هدايته في رياض قلوب أوليائه عشب الإيمان فأصبح للنظارة أحوى، وهشم به بنية الطغيان فأباد خضراءهم بما سن عليهم من شآبيب كل غارة شعواء، صلى الله عليه وعلى آله صلاة يبلغه بها كل أمل ورجوى، وسلم علهم أجمعين سلاماً لا يقحل غصن دوحته ولا يذوى.
وبعد: فإنه سألني من وجه إلى أمل الإسعاف، فأمرني من لا يسعني مخالفته على طريق المطابقة والإنصاف، أن أصف له ما ينبغي مذاكرته من سفرنا إلى الديار الحبشية، واتصالنا بملك الفرقة النصرانية والملة المسيحية، عن أمر مولانا أمير المؤمنين، وخليفة الله الداعي إلى كتابه المبين، وأمينه على تبليغ ما انزل على قلب جده سيد المرسلين، المتوكل على الله رب العالمين، إسماعيل بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وعليهم وسلم أجمعين.
وكانت هذه جملة كلية، تشتمل على جزيئات تفصيلية، يتعين تعريف مبتدأها وخبرها، وإيضاح ما أراد السائل من عجائب قصصها وعبرها، فأجبته إلى ذلك إيثاراً لقصده، وقضاء لما ثبت عليَّ من حقوق وده، ولما أرجوه من نعش أهل الخمول! والحث على ارتكاب الأخطار العظيمة في طاعة الله عز وجل وطاعة أئمة آل الرسول، ولقد ذكرت [79/ب]عند ذلك شعر الإمام الحسين بن علي الفخي-صلوات الله عليه- حيث يقول:
وإني لأنوي الخير سراً وجهرة .... وأعرف معروفاً وأنكر مُنكرا
ويُعجبني المرء الكريم نِجَارُه .... ومن حين أدعوه إلى الخير شمَّرا
يعين على الأمر الجميل وإن يرى .... فواحش لا يصبر عليها وغيَّرا
وشجعني على رقمه في هذه الأوراق أنه ليس من التأليف المفتقر إلى كمال الإجتهاد، ولا من التصنيف الذي يتطرق إليه انتقاد النقاد، ولا يتعلق بروايته معرفة الإسناد والإرسال، ولا المعلول والإنقطاع والإعضال، وغيرهما من ساير العلل التي لا يبلغ معها درجة الصحة والكمال، ولا معرفة علم الجرح والتعديل في أحوال الرجال، وإنما هو إخبار عن مدركات الحواس، ومشاهدات النظر التي يستوي فيها الكافة من الناس، فلذلك فلم أدخل في قول من قال: من صنف فقد استهدف، وأنا أرجو أن يكون لما نويته ورتبته عليه من حسن القصد وثبته لاحقاً بعلوم الدين، ناطقاً أثره بلسان صدق في الآخرين، فإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئٍٍ ما نوى، وبالله استمد الهداية والتوفيق، وأعوذ بالله أن أكون ممن جذبته الأهواء، فهي تهوي به في مكان سحيق، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، وولي الخيرات وموليها في الدنيا والآخرة.
[وهنا نشرع في] ذكر السبب المقتضى لذلك، وهو أن الملك المعروف بجهة الحبشة المسمى بلغتهم (سجد فاسلداس) بن السلطان سجد سينوس، -ومعنى (سجد) كما ذكره لي بعض أهل لغتهم-: كثير السجود، ومعنى سينوس من أسماء الباري عز وجل بلغتهم- وجه إلى مولانا وإمامنا أمير المؤمنين وسيد المسلمين، ومبيد أهل البدع والمفسدين، المؤيد بالله رب العالمين- سلام الله ورحمته ورضوانه- رسولاً من مسلمي تلك الديار في عام اثنتين وخمسين وألف ووجه صحبته بهدية من الدقيق والزباد وسلاح الحبشة، وضمن كتابه استدعاء رجل يصل إليه من خاصة الإمام -عليه السلام- ولم نكن على اطلاع على خاصة سر هذه القضية ومعرفتها، وإنما أخذت ذلك من رواية سيدنا القاضي العلامة غرة علماء الشيعة والعلامة، وجوهرة عقد أعضاء الخلافة والإمامة، شمس الملة والدين، أحمد بن سعد الدين بن الحسين المسوري -أطال الله عمره- سمعته يملي على مولانا المتوكل على الله -أيده الله تعالى- فكان من حديثه أنه قال مولانا المؤيد بالله-سلام الله عليه- لم يستحسن المسارعة إلى[80/أ] إجابة هذا الملك بإرسال أحد إليه قبل المعاودة منه، وتكرار المراسلة، قال: فإن عاد من كتاب آخر بعد ذلك فلا بأس بإسعافه إلى مطلبه، وانبرم الرأي على الجواب عليه وتأخر[الرسول] المطلوب من أصحاب الإمام -عليه السلام- فكتب جواب الملك ووجه إليه مولانا المؤيد بالله-رضوان الله عليه- هدية سنية، وعطية فاخرة هنية، وصدر رسول من الحضرة المؤيدية، مثنياً عليهم بلسان الثناء، متملياً من أنوار ذلك الفضل والسناء، وتوجه راجعاً من جهة بندر (المخاء) حرسه الله
تعالى.
وقد أمر مولانا أمير المؤمنين -قدس الله سره- النايب في البندر المحروس بتجهيزه في المراكب المعدة من جماعة العسكر المحافظين في ذلك البندر، واعداده عدة المحاربة في تلك المراكب من المدافع والزبارط من البنادق المتخذة سلاحاً للعسكر المنصور، وذلك لأجل لخوف من الأتراك الذين بجانب (سواكن) وبندر (مسوع)-أقماهم الله وقطع دابرهم- فوقع التجهيز من النايب في هذا البندر على هذا التقرير، ومطابقة هذا التقدير، وبلغوا به إلى بندر (بيلول) المعروف بلد السلطان (شحيم بن كامل الدنكي) ورجع العسكر سالمين لم يعرض لهم شيء من جانب الخصم بحمد الله ومنه، وتوجه رسول ملك الحبشة إلى مخدومه بتلك الهدية، والجواب عليه في ما ذكره، وغاب هنالك الرسول سنة ثلاث وخمسين وما بعدها إلى عام سبع وخمسين وألف، ثم إن الملك المذكور عاود مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله -رضوان الله عليه- بكتاب آخر وهدية أخرى، واستعجل الرجل المطلوب وصوله إليه، وذكر في كتابه معناه أن المهاداة بالمال هي نفس المطلوب، وإنما هي تبع للوصول إلى نيل الغرض بإرسال الرجل الذي أستدعينا وصوله، وقد كان سبق قبل هذا وفاة حي أمير المؤمنين مولانا المؤيد بالله ومصيره -رضوان الله- وما عند الله خير للأبرار، فلما وصل رسول الملك إلى بعد أطراف الحبشة، وبلغه خبر وفاة مولانا الإمام -عليه السلام- وأرسل إلى الملك يرفع إليه ذلك، ويعلمه بما بلغ إليه، فرجع له الجواب أن ينفذ لما أمر به، وجعلوا كتاباً إلى مولانا المتوكل على الله-أيده الله- في شهر [.....]من عام سبع وخمسين وألف سنة، وكان خروجه إلى
بندر (المخا) وجاءت طريقه بطن تهامة من جانب مدينة (زبيد)[80/ب]-حرسها الله تعالى- ثم على مدينة (مور) و(الأمروخ) ونفذ إلى (هجر الأهنوم). ووصل إلى إمامنا سلام الله عليه إلى حصن (شهارة) المحمية، ومستقر الأئمة، وعمدة معاقل الزيدية، فأعظم مولانا -أيده الله تعالى- أمره، وأكرم مثواه، وأحسن نزله، فاطلع على كتبه وعرف ما استدعاه الملك من وصول رجل يفيض إليه بسر لا تحمله بطون الأوراق، ولا تطيب نفسه أن يفضي إلى رسوله، لما يخشاه من الحاسد، ويخالطه من الإشفاق، وكان في ما لا يخفى من الإجمال، والتسبب لأن تتعلق به عظائم الآمال، فاختص مولانا -عليه الصلاة والسلام- بذلك الرسول في بعض مجالسه الخالية، وسأله عما في كتاب الملك، وهل عنده ظن بمراده من ذلك، فقال: الذي يبلغ إليه ظني أنه يريد الإسلام، فلما قال ذلك سر به مولانا -عليه السلام- ولمعت أسارير وجه المضيء، وأنبسط نشاطاً خلقه الرضي، وأسرَّ في نفسه أن هذه نعمة جليلة، وأمر عظيم يتوصل إلى تمامه بكل حيلة، ثم التفت بعد ذلك إلى مشاورة أهل حضرته، واستتنصاحهم في ذلك، وما الذي يتوجه فيه الرأي، فاتفق نظر كثير من أهل الفضل، وأرباب القول الفصل، أن إجابة هذا الملك إلى وصول رجل تجب قطعاً، ويتوجه لزومها شرعاً، حيث يعلق الطمع بإسلامه، والإنخراط في سلك هذا الدين ونظامه، فإنه يجب إجابة من نظن فيه، ولو لم يرج إلا صلاحه في نفسه، كيف والمعلوم من طريق العادة أنه يتبعه الجماهير، كما ثبت في قضية العقل وحدسه، وقد وقع في ذلك الرأي من بعض أهل النظر، استناداً إلى ما ثبت لديهم بالفكر وتقرر، وهو أن هذا
الملك الثابت في تخت ملكه، المتقرر لديه أباطيل شركه وزخارف إفكه، لا يغلب على الظن أن هذا المنهج قصده، ولا تحدى فيه عيسه ولا يوري فيه زنده، فأطرح هذا الرأي لما كان القايل به القليل، والترجيح بكثرة الرجال دليل وأي دليل، لا سيما وقد طابق ذلك رأي صاحب الحل والعقد، والإبرام والنقض، المهتدى بهداه، الذي يقصر كل نظر في مصالح الدين عن منتهى نظره ومداه، مولانا أمير المؤمنين -أيده الله تعالى- بمواد التسديد والنصر المبين، مع الإستظهار بذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لأن يهدي الله رجلاً على يديك خير لك مما طلعت عليه الشمس )) وليس الطريق إلى إمكان الهداية إلا الظن، فأستقر الرأي على وجوب إجابة الملك إلى وصول رجل إليه، يبحث عن سره، ويطلع على حقيقة أمره، وكنت في تلك السنة في سفر الحج إلى بيت الله الحرام، وزيارة الضريح النبوي على صاحبه وعلى آله أفضل الصلاة وأشرف السلام[81/أ]، وكان من فضل الله عليَّ أن هذه الحِجة هي الثالثة، فلله الحمد على ذلك حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
ولما رجعنا من ذلك السفر الميمون ووصلنا إلى الحضرة المولوية -أعزها الله تعالى- في غرة شهر ربيع الأول من تلك السنة المذكورة، وهذا الخبر شايع أمره، ذايع سره، كنت ممن تشرف بالمفاوضة فيه من مولانا أمير المؤمنين -أيده الله تعالى- وكنت أجبت بما ظهر لي من النظر، وسنح لديَّ من خاطري الظن الذي حضر، مما يطابق رأي الأكثر، وكان مولانا -أيده الله- يحرر النظر في تعيين الرجل الذي يتوجه إلى تلك الديار، ويدبر في ذلك جلايل الأنظار؛ ولا أدري هل وجه نظره قبل التعيين عليَّ إلى غيري أم لا، ثم إنه -أيده الله تعالى- أراد أن يخصني بفضيلة هذه العزيمة، ويقلدني القيام بهذه الفريضة العظيمة، وعلمت أنه -أيده الله تعالى- قد أدلى إليَّ بحسن ظنّه، وأن ذلك من فضل الله عليَّ ومنّه، فأجبته إلى ذلك، وسألت الله عز وجل أن يرفع لنا أنوار هذه المسالك، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ثم إن مولانا -أيده الله تعالى- أخذ في تعيين هدية فاخرة، وعارفة تليق بمقامات الملوك، ومكارمه الظاهرة، منوعة أنواعاً، وأسنى من هدية الملك إليه وأطول باعاً، من خلع الديباج العجيبة، ومطارف الملوك السنيَّة القشيبة، والسيوف القاضبة القاطعة، والدروع القاضبة السابغة، والبنادق الفاخرة البالغة، مع شيء من آلات الخيل النفيسة، والأتراس المناسبة لكل حضرة رئيسة، ولما استكمل -أيده الله تعالى- ما يريد من ذلك أمر بإرسال رسالتين، إلى الملك عظيمتين، كنت أحب إثبات ألفاظهما في هذه الجملة إلا أن إحداهما ذهبت بحريق النار الذي سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، والأخرى التي وصلت إلى الملك فاتنا
ذلك منها بفواتها من أيدينا، ولم يخطر بالبال رقمها إلاَّ بعد الذهاب، وقد كان مولانا -أيده الله- أودعنا ما اقتضاه حسن نظره، وكمال تدبيره وهو أن قال: إذا انتهيتم إلى هذا الملك أظهرتم له هذه الرسالة الظاهرة المتظمنة الجواب عليه وذكر الهدية، وأخرتم الرسالة الأخرى حتى تجتمعوا به في موقف خال، وهو لا بد يفيض إليكم ما عنده من الخير الذي يريد إلقاءه، فإن وجدتموه يريد ذلك الأمر الذي يعلق به للأمل، وأنه يريد الدخول في ملة الإسلام المشرفة على ساير الملل، دفعتم إليه الرسالة الأخرى، وخضتم معه في ذلك على ما تقتضيه الحال سراً وجهرا، وإن وجدتموه تائهاً في ضلالته، سادراً في ظلمات جهالته[81/ب] لا سبيل إلى ولوج النصيحة في لبه، ولا طريق إلى تقرير ذلك في قلبه، أعرضتم عنه صفحاً، وطويتم عنه كشحاً، والحاضر يرى ما لا يراه الغايب، والحازم من نفعته النصايح وأفادته التجارب، واعتمدنا هذه الوصية النافعة، ووجدناها ولله الحمد لأسباب الرشاد والخير جامعة، ذكر ابتداء السفر وتوجهنا من حضرة الإمام -عليه السلام- في غرة جمادى الأخرى مقدمين ما بين يدي ذلك حسن التوكل، وخالص التوسل، والمبالغة بتقوى الله عز وجل، وتعليق النية بطاعته وطاعة خليفة الإمام الأجل؛ فإن ذلك أبلغ ما يستعان به على نجاح المقاصد الصالحة، ونمو متاجر الخير الرابحة، كما قال تعالى{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} وكان في
صحبتنا جماعة ممن تليق مصاحبتهم في السفر من الشيعة والعسكر، أهل الصبر والرعاية، والمروءة والحماية، وقدر اثنين وعشرين نفراً، فيهم نحو اثنى عشر بندقاً، وكان مرورنا على السيدين العظيمين، والرئيسين المكرمين، عز الملة والدين وجبل العلم والحلم الشامخ الحصين، وصفي الإسلام والمسلمين، وسيف الحق المنتضى على أعداء الله المفسدين، محمد وأحمد ابني الحسن بن أمير المؤمنين -حفظهما الله تعالى- وهما إذ ذاك بمحروس مدينة صنعاء -حرسها الله تعالى وعمرها بأهل الإيمان والتقوى.
وكان هذا الرسول الواصل من الملك استصحب إليهما كتابين، وما تيسر من الهدية، فأجابا عليه ووجها إليه ما تسنى من الهدية مضافة إلى هدية مولانا أمير المؤمنين -أيده الله تعالى- وكانت هدية من أسنى الهدايا، وعطية من أجل العطايا، واستقبلنا السفر المبارك على تيسير الله وتدبيره وهو الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال والولد، ولا يجمعهما غيره؛ لأن الصاحب لا يكون خليفة والخليفة لا يكون مستصحباً.
ولما انتهينا إلى بندر المخاء -حرسه الله تعالى- وكان مولانا -أيده الله تعالى- قد أمر النايب فيه بتجهيز جميع العسكر المحافظين في البندر بأعظم ما يكون من الإعداد في المراكب لما يتوهم أن يعرض من الأتراك -أذلهم الله تعالى- وتلقيهم من بندر سواكن وبندر مصوع، ففعل نايب المخاء بما أمر به، وتجهزنا من هنالك في نصف شعبان من تلك السنة المذكورة، وكان جملة سفرنا في البحر يومين فقط، والمسألة مع استواء الريح أقرب من ذلك بأنها قد تقطع في يوم واحد.
ولما وصلنا[82/أ] إلى بندر بيلول وكنا استصحبنا إلى السلطان شحيم بن كامل الدنكلي صاحب بيلول كتاباً من نايب المخاء، لما بينهما من الإتصال وحسن المعاملة، وجميل المواصلة، وكان هذا السلطان المذكور غايباً حين وصلنا إلى بندر بيلول، فراسلناه حتى وصل، وكنا قبل وصوله ضاربين خيامنا في مكان خارج البلد بينها وبين البحر؛ لأنا كنا من أهل البلد تشوشاً من وصولنا فبقينا هناك حتى وصل سلطانهم شحيم بن كامل المذكور، وقد كان خرج في صحبتنا جماعة من تجار الحبشة.
ولما وصل السلطان شحيم بن كامل تلقانا بالكرامة، وسني الضيافة، واطلع على أخبارنا، وعلم أنا نريد الوصول إلى ملك الحبشة، وكان هذا السلطان شحيم له اتصال بملك الحبشة؛ لأنه إنما نشأ في ديار الحبشة، وله هناك أهل وأولاد والملك يعده من خاصته وأهل بطانته كما هي قاعدة من هنالك ممن يدعي الإسلام وليس له منه إلا نفس الاسم الذي لا يترتب عليه من الأحكام، كما سيأتي تحقيقه في ما يعرض من ذكر من يطلق عليه اسم الإسلام هنالك إن شاء الله تعالى.
ولما اجتمعنا بالسلطان شحيم وفد معه من رجال البدو المتصلين بذلك المحل خلق كثير، منكرين الصور، خالين عن التحلي بشيء من أحكام الشرع الشريف المطهر، وذلك لما شاهدناه من اختلاط رجالهم بنسائهم وكلهم عراة لا يسترون عوراتهم، ولا يتسترون بمنكراتهم، كان المنكر عندهم من المعروف والبدع لديهم من الأمر المأنوس المألوف، ولسانهم أعجمي بلغة تخصهم ليست من لغة الحبشة فكنا إذا خاطبناهم نفتقر إلى ترجمان وقليل معنا من يعرف لغتهم كل المعرفة إلا من كان منهم يتصل ببندر المخاء فإنه ربما عرف اللسان العربي، وكل من يجي إلينا من هؤلاء البدو المذكورين يريدون مجرد الإطلاع ومعرفة هؤلاء العرب الوافدين، فإذا وصلوا إلينا جعلوا ينظرون إلينا من بعد، وهم يتعجبون بالنظر إلينا، ونحن بالنظر إليهم أعجب {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
ولقد حكى لنا بعض العارفين بأخبارهم أن كبيرهم الذي يقتدون بأقواله متزوج بإثني عشر امرأة وغيره مثل ذلك على ما ظهر لنا ممن يعرف أحوالهم، ومع هذا فإنهم يريدون الإطلاع على أحوالنا والتجسس عليها، وهل يمكنهم الوقوف لنا على الطريق التي نمر فيها، والوصول إلى شيء مما في أيدينا، أو غير ذلك مما يفعله[82/ب] المحتربون والأكراد المختطفون من الفساد.
وكان من فضل الله علينا وما أمد الله به إمامنا -عليه الصلاة والسلام- من حسن النظر، وكمال الرأي، استصحاب البنادق، فإنها من صنع الله وبركة مولانا -أيده الله تعالى- دفعت عنا المكروهات، وكانت لنا مع عون الله من أعظم المعونات، ولقد كانوا يعجبون من رمي البنادق غاية العجب، وأحسب فيما ظهر لي أنهم يعتقدون أن صاحب البندق إذا رمى يتمكن من متابعة الرمي من غير انقطاع ولا تخلل وقت بين كل رميتين، ونحن مع هذا التوهم نوهمهم صدقه ونحرص ألا يظهر لهم خلافه، فما يزالون يتحدثون بذلك وينقلونه لأصحابهم بالأخبار المتداولة حين شاع ذلك فيهم وذاع، وملأ القلوب والأسماع، ثم إذا بقينا في بيلول هذا نحو الشهر، نلازم صلاة الجمعة والجهر بالخطبة لمولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين -أيده الله تعالى- وصمنا هنالك شهر رمضان المعظم وخرجنا لصلاة العيد، والسلطان شحيم معنا بجمعه وأصحابه ناشرين الأعلام، مظهرين شعاير الإسلام، وصلينا في جبانة البلد، وخطبنا كذلك خطبة العيد المأثورة مع ذكر الإمام -عليه السلام- والدعاء له جهراً على رؤوس الأنام.
ثم لما كان العيد المذكور بنحو ثمانية أيام توجهنا من بيلول وفي صحبتنا هذا السلطان شحيم بجماعة من أصحابه نحو ثلاثين نفراً فقط، وأهل القافلة من الجيوش يبلغون كذلك ثلاثين نفراً، وسبب هذا التحير في بيلول أن هذا الطريق كثير الأخطار من كل وجه، منها أنها مفاوز منقطعة عن الماء، وإنما يعرف المياه الدليل الماهر والعارف الخابر، وقليل ما هو، لعدم الإختلاف فيها، ثم إن أهل الأمانة فيهم قليلون، فإن الدليل إذا شاء سلك بالناس حيث لا يوجد الماء فإن شاء أهلكهم وإن شاء تحكم في أموالهم بما يريد. ومنها: الخوف من هؤلاء البدو المتصلين بهذه الطريق. ومنها: الخوف الأعظم من القالة -أبادهم الله- لإمكان وصولهم إلى هذه الطريق، فأحتجنا إلى المبالغة لنفي المخاوف وسد أبوابها، ومراسلات كبار البدو من السلطان شحيم، وبذل الأموال لهم.
وبعد أن قررت هذه الأمور بحسب الظن وقدر الإمكان، توجهنا في ذلك الوقت من بيلول في أرض مستوية كثيرة الأشجار نحو مرحلتين، ثم دخلنا بعد ذلك في أودية بين جبال عالية[83/أ] وفيها ماء جار، وفي هذا المحل جاء إلينا من أخبار البدو أنهم يريدون غزونا في تلك الليلة، فأمرنا الناس في تلك الليلة بالإحتراس، وأن يكونوا على أهبة، فكان من عجايب الإتفاق، أنها جاءت في أربعة فيلة في تلك الليلة، فأدركها الحرس وسمعوا حسها في ذلك الوادي، ففزعوا منها فاجتمع الناس بعضهم إلى بعض، ثم تبينا الأمر فإذا هو تلك الفيلة، فرمت عليهم البنادق فسمع أولئك البدو رمي البندق، فأرهبهم وأرعبهم وفرق شملهم، وبدد جمعهم، ولقد أخبرنا رجل ممن بلغ إليه حقيقة أمرهم أن قدر الجمع الذين كانوا قد اجتمعوا لذلك خمسمائة رجل، فسبحان الملك القدير، الذي حالت قدرته بينهم وبين ما أرادوه، واتصل بعد ذلك سيرنا وتوالت أيام سفرنا قدر اثنتي عشر مرحلة، حتى وصلنا محل يسمى (عين ملى) وهذا المحل وما بعده أعظم خطراً وأكثر مخافة لقربه من القالة -أقماهم الله تعالى وقطع دابرهم- وحال ذلك الوادي من الوحشة وعظيم المخافة، كما قال شحيم بن وثيل شعراً:
مررت على وادي السباع ولا أرى .... كوادي السباع حين يظلم واديا
أقل به ركب أتوه بآيةٍ .... وأخوف إلاَّ ما وقى الله ساريا
تنبيه: اعلم أن هؤلاء القالة أمة شديدة البأس، متينة المراس، كثيرة العدد، مديدة الأمد، إذا توجهوا للحرب على أحد من الناس من الكفار وغيرهم كالمسلمين في جهة مدينة (أوسة) وما إليها فقد يبلغ عددهم نحو مائة ألف أو ما يوازي ذلك، ثم إنهم مع هذا أهل قوة في أبدانهم، وصبر على طول الأسفار واحتمال المضار، ولقد حكى لي من له خبرة بأحوالهم أن الرجل منهم إذا صرخ بأعلى صوته عند ملاقاة الحرب وسمع ذلك بعض الكفار من النصارى انفلق قلبه فيموت من نفس الصوت، وعلى الجملة إن هذه الأمة رأيت أوصافها تلحق أوصاف التتار، في ما نقله عنهم أهل التواريخ والأخبار، ومنهم مسلطون على نصارى جهة الحبشة من جميع جهاتهم، وأطراف بلادهم، لم تجد جهة من جهاتهم خالية عنهم، وأكثر السبي إنما يكون بأيدي هؤلاء القالة وهو من غيرهم نادر. انتهى.
رجعنا إلى ما نحن بصدده ثم أقمنا في هذا المحل المسمى (عين ملى) قدر شهر كامل، وقد كان هذا السلطان شحيم قدم رسولاً من هؤلاء البدو إلى بعض أمراء ملك الحبشة المتولي على أقرب قطر إلينا من بلاده يخبره بقدومنا، وأنه يتلقانا إلى محل معين قد عينه له، بمن أمكنه من جموع النصارى، وهذا الكتاب قد كان سبق من أيام إقامتنا في بيلول، ورجع جوابه[83/ب] إلى هذا المحل المسمى (عين ملى) وبعد رجوع الجواب عليه أظهر المسرة العظيمة، وضرب عليها بالنقارة، واجتمعوا للعب الذي يعتادونه عند حصول المسار، وأراد بذلك السلطان شحيم تبشيرنا وادخال المسرة علينا، وتهوين الشدة، وتخفيف أثقال المخافة.
ثم بعد ذلك أمر السلطان شحيم بالرحيل، فارتحلنا وهو في صحبتنا وسار معنا بعد ذلك قدر خمس مراحل، ثم إنه أشعرنا أنه يريد الرجوع من هنالك؛ لأنه إذا جاوز ذلك المحل لم يتيسر له العود منفرداً بأصحابه خوفاً على نفسه ومن معه؛ لأنه في التحقيق لايتم له السلوك في هذه الطريق، إلا مع انضمامه إلينا، وتقويه بقوتنا التي أمدنا الله تعالى بها وألقاها في قلوب الناس فضلاً منه ونعمة علينا، ثم إنه جمعنا نحن وأهل الحبشة الذين في القافلة، وأخبرنا أنه يريد أن يجعل معنا من يدلنا على الطريق، ويجنبنا مخاوفها وأخطارها، وكان هناك ثلاث طرق:
إحداهن ظاهرها الأمان من القالة، والثانية: تجوز المخافة منهم، والثالثة: مقطوع بخوفها وخطرها؛ لكونها في جانب القالة وبين مراعيهم ومخاليفهم، فأختلف رأي أهل الحبشة في الطريق، فرسول الملك الواصل بكتابه إلى الإمام -عليه السلام- يريد سلوك هذه الطريق المأمونة، وإن كانت بعيدة المسافة، وساير أهل الحبشة يريدون سلوك الطريق الوسطي مع تجويز بعض الخوف، وكلهم لا يريدون سلوك الطريق الثالثة، فقال السلطان شحيم: نجعل لكل فريق منكم دليلاً يدله على طريقه التي يريدها، فطلب لنا رجلاً جمع بيننا وبينه، وأخذنا عليه عهداً أنه لا خاننا ولا غدرنا، ولا سعى لنا في ما فيه ضررنا؛ ولأهل الحبشة رجل آخر كذلك، ثم قال: أما بعد ذلك يكون مسيركم أنتم وأهل الحبشة مرحلتين مجتمعين، ثم تفترقون بعد ذلك، فدليلكم يدلكم على هذه الطريق المتوطأ عليها، وأهل الحبشة في طريقهم كذلك، فقلنا له وللدليل: هل بقي بعد ذلك المحل أحد من البدو نخاف اعتراضه لنا في الطريق ونطلب منه الصحبة أم لا؟ فقال السلطان شحيم وهذا الدليل المذكور: ليس بعد هذا إلا أرض مقفرة حتى تصلوا أرض الحبشة، فودعنا السلطان شحيم وأصحابه في ذلك المحل، وعزمنا على سيرنا في ذلك الدليل، وكنا جميعاً نحن وأهل الحبشة بناءً منا أنا لا نفترق عليهم إلاَّ بعد يومين كما ذكره السلطان شحيم، فاستمر بنا السير ثلاث مراحل متوسطة ليست بالكبار ولا بالصغار، وانتهينا إلى جنب جبل عظيم أبلغ ما يكون من العظم في الإنبساط والإرتفاع[84/أ] ووجدنا هنالك بحيرة يتصل ماؤها بذلك الجبل، وبجبال أخر من أطرافها، ماؤها مالح زعاق، وطولها
وعرضها مستويان، وقياسها بالمساحة نحو بريد كامل أو يزيد عليه قليلاً في ما يغلب به الظن، فلما وصلنا ذلك المحل رأينا من الدليلين مسارره في القول، وأدركنا منهما دلائل الخيانة، فطلبنا دليلنا ولاطفناه في العبارة، ومهدنا له في القول، لعلمنا أنه قد صار المتصرف بنا كيف شاء، فلم يجب علينا بجواب تطيب به نفوسنا، وإنما هو يغالطنا ويماطلنا فتحيرنا في ذلك المحل ثلاث ليال، على مافيه من عظم الوحشة، وكثرة السباع في الليل، وخوف القالة، في ذلك المحل -وما بعده- كنا إذا أردنا إيقاد النار تخلينا في سترها عن جانب القالة، إما بمكان مطمئن أو بأن نجعلها جنب صخرة أو نحوها؛ لأنهم يرون النار فيغزون عليها، ويترصدون المسالك، فلم نشعر ونحن في خلال هذه الإقامة جنب ذلك الجبل، إلا وقد انصب علينا من أعلاه ثمانية أنفار، فوصلوا إلينا واجتمعوا مع الدليلين في جانب منا يتشاورون في الحديث يضمرونه من السر الخبيث، وأظهروا لنا أن هذه البلاد بلاد هؤلاء القوم، والتصرف لهم فيها مثل غيرهم من البدو الذين مررتم عليهم، وهم يحتاجون إلى صحبة، ويعزمون مع القافلة، فقلنا لهم: أليس قلتم لنا: إنه لم يبق أحد في هذه الطريق ممن نخاف اعتراضه وتحكمه فينا. فكيف ظهر لنا خلاف قولكم؟ فقالوا: ما شعرنا نحن بهم إلاَّ حين وصلوا، فكان حدوث ذلك علينا وعلى أهل القافلة أعظم الخوف، خشية أن يفضي بنا الحال إلى غير ذلك بعد أن ظهر لنا خيانة الدليلين، وأنهما لا أمانة لهما، فصرنا في حيرة عظيمة، لا يُطلب في تفريجها إلا الله عز وجل، ولا نرجو غيره لذلك الحادث الذي نزل، ولم نجد بداً من
تسليم ما تيسر من المال لأولئك الجماعة. ثم ارتحلنا نحن نسألهم عن الطريق التي نريد سلوكها، فما رأيناهم سلكوا بنا طريقاً واحدة، فتركنا سؤالهم عن ذلك، وشغلنا عن التفكير في ما ينتهي إليه حالنا مع هذين الرجلين الخاينين الناكثين، فإنما نحن نظن إنما نساق إلى الموت، وكنا في سيرنا نتوجه إلى ما بين القبلة وجهة الغرب، فرأينا لجهة التي مالت بنا جهة الغرب مقابلة، ثم بعد ذلك مالوا عن المغرب قليلاً، فعلمنا أنهما قد تاها بنا في غير الطريق المقصودة، وأنهما قد عزما على الخيانة ونكث العهد، وقد كانا قدما إلينا من القول، أن نحمل الماء لمسافة يومين، فلما انتهينا[84/ب] في هذه المرحلة إلى المحل الذي فيه النزول، وكنا نحن في أعقاب القافلة والدليلان في أولها، فوصلنا، وأهل الحبشة قد توثبوا على هذين الدليلين، وأولئك الجماعة الذين معهم وقالوا لهم: قد غدرتمونا وهذه الطريق التي نحن نفر منها، وهذه محال القالة ومراعيهم، فلم يجيبوا عليهم، إلا أن قالوا: أما غير هذه الطريق فليس فيها شيء من الماء، فلم نرجع بعد ذلك إلاَّ إلى الله عز وجل والتوسل إليه ببركة إمامنا -عليه السلام- فهو ما به نتوسل، واختلف الرأي بيننا وبين أهل القافلة بما لا تسعة هذه الكراسة، وقطعنا بحصول الهلاك، إما بالعطش، أو الجوع لنفاد الزاد، أو بأيدي القالة ونحوهم، فأصبحنا ذلك اليوم نسير في تلك الطريق، وقد كان أمير الملك الذي سبق إليه كتاب السلطان شحيم قد أرسل رسولاً يقف في أعلى جبل عال يستطلع أخبارنا، وهل يرى ما يدل على ظهورنا من أي جهة، إما بظهورنا أو غيرها، وقد أعدَّ ذلك
الرسول زاده معه وصار ينتقل في جبال تلك الأماكن، وقد أدرك ظهور النار في شاطي تلك البحيرة التي قدمنا ذكرها من رأس جبل عال على قدر مرحلتين للبريد، ومعم جماعة قد استصحبهم ممن يخالط القالة، وهذا الرجل خبير بتلك القفار معاود في التسيار، يستحق أن يقال في المثل الساير (أهدى من دعيميص الرمل) فأصبحنا ذلك اليوم إلى واد فيه ماء جار، وهذا الوادي ترعى فيه القالة في أكثر أحوالهم، إلاَّ أنهم كانوا في ذلك الوقت في جانب بعيد عنه، بسبب أنهم في العادة يتنقلون في مواشيهم لطلب المرعى، ولما أراد الله عز وجل لنا من السلامة، فلما رآنا هذا الرجل دخلنا الوادي انحدر إلينا من الجبل بمن معه، ولما أبصرنا به منصباً إلينا فزعنا منه، واعتقدناه عدواً يريدنا فتأهبنا للقافلة، وأمرنا أهل البنادق بإحضار أنفسهم فرأينا أحدهم قد انفرد قبلهم يشتد إلينا، ويتكلم بلسان الحبشة، فعرف قوله من كان من أهل الحبشة، وعلموا أنه رسول ذلك الأمير، فقالوا لنا: البشارة هؤلاء أصحابنا، فكان ذلك لنا من بعد الفرج الشدة، ثم إنا ما شعرنا بهؤلاء الجماعة الذين خانونا إلاَّ وقد انسل بعضهم هارباً، ولم يبق منهم إلاَّ رجل فأسره أهل الحبشة، وربطوه، وقالوا: تأخذوا منه الذي قبضه، فلم نستحسن منه ذلك، وأبقينا عليه لأجل ما نخشاه من العودة في هذه الطريق، وأن تكون عاقبة المضرة عايدة علينا.
ولما وصلنا هذا الماء في ذلك الوادي، وشربت منه مواشينا هلك بعضها لانقطاع بطونها من كثرة الماء الذي شربته، ثم أن هذا الرجل الذي[85/أ] وصل إلينا أخبرنا بأخبار سارة، وهي أن الأمير الذي بعثه أمره أنه متى اتفق بنا بعث إليه رسولاً يعلمه ليتلقانا بعسكره، ففعل كما أمره، وأمرنا بسرعة الإرتحال من ذلك المحل، وأمر أصحابه أن يكونوا في أعالي الجبال من يمين وشمال ليكونوا عيوناً، وأحسن التدبير فينا، وكان ينزل بنا في أماكن حصينة لا يكاد يرتقيها القالة إن الذي يلوذ بالجبال لا يطلبونه ولا يعبأون به، وإنما يأخذو من وجدوا في سهول الأرض، فكان ذلك الخبر عنهم يؤنسنا، ويشد عزيمتنا مع حسن التوكل على الله عز وجل، وما نحن عليه من اليقين والإلتجاء إليه، والإعتماد عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وإلاَّ فإن الحال أعظم وحقيقته مما لا يضبطها القلم، واستمر بنا السير في صحبة ذلك الرجل ومن معه قدر أربع مراحل، ثم اجتمعنا بهذا الأمير المذكور المسمى بلغتهم (أحد أنسبة) ومعنى هذا الاسم واحد الأسود هذا اسمه العلم، ولقبه بعل جادة وهذا اللقب يتسمى به كل من يتولى ذلك القطر من قِبَل ملك الحبشة.
ولما وصلنا إليه وجدناه متعلقاً بجبل صعب المرتقى، فلما رءآنا انحدر إلينا واجتمع بنا في بطن الوادي، وضرب فيه خيمته، واجتمعنا به فيها، ولما ضربت البنادق وفيها الرصاص وكان لها صوت عند خروجها هالهم ذلك، واستعظموه، ولقد رأيناهم مع جمعهم العظيم إذا ضربت البنادق انحطوا برؤسهم راكعين إلى الأرض، ولما وقعت أبصارنا عليهم رأيناً صوراً قد أذلها الله عز وجل، وألبسهم لباس الصغر، وهم ينظرون إلينا كالمبهوتين، يتسللون تسلل الأذلين، كأن السلطان لنا عليهم، وهذا الأمير رجل أشيب، مكشوف الرأس على قواعد أهل الحبشة، مطول الشعر والأظفار، أشبه شيء بكبار القردة، غير أني رأيته بعد أن عرفت حال غيره أحسن أهل الحبشة رأياً، وتدبيراً، وصبراً، وسياسة، وقد كان استصحب معه من الطعام المصنوع، والدقيق ما تقضي من حاجة الناس، فأمر إلينا بذلك، ثم قال: يأكل الناس من الطعام الحاصل، ولا يصنعون شيئاً من الدقيق، لأن الإقامة بمقدار الأشغال بمعالجة الطعام خطر عظيم، ففعل الناس ذلك وأسرعوا في الإرتحال، ثم استمر سيرنا صحبة الأمير (بعل جادة) قدر خمس مراحل، حتى وصلنا أول بلد من بلد الحبشة، وهي قرية بين جبلين عظيمين عندها نهر عظيم، يسمى (وسمة) -على وزن زنمة- في ولاية هذا الأمير المذكور[85/ب] وهي طرف بلاده، وثغر من ثغورها عليهم إلتزام حراسة القافلة في كل شهر عشرة أنفار، يتناوبون في جبل يسمى (كحل)؛ لأنه على مسلك القالة لا ينفذون إلى بلاد النصارى من غيره، فإذا علم هؤلاء الحرس بتوجه القالة تولوا إلى قومهم منذرين فيلوذون بالهرب إلى رؤوس الجبال ويخلون بينهم وبين
بيوتهم، وما ثقل من الأموال.
تنبيه: اعلم أن هذه العبارة السابقة لم تشتمل على ما لا ينبغي إغفال ذكره من صفات هذه البلاد التي كان سفرنا إليها من (بيلول) إلى بلاد الحبشة، وما قاسيناه فيها من الشدة الشديدة، والأهوال العديدة، فأعظمها بعد الذي وصفناه من الخوف انقطاع الزاد بسبب إقامتنا الطويلة في (بيلول) ثم في (عين ملى) مع تحيرنا في غيرهما مقدار اليومين والثلاث، وهذه التحيرات ما كانت معروفة لنا في ابتداء سفرنا، نعد لها الزاد المبلغ، فاستغرقنا الزاد مع تجويزنا السفر كل يوم. ولما تقاصر الزاد وكانت هذه البلاد لا يعرف فيها وجود الطعام ولا يزرع فيها شيء من الحبوب، وإنما نفقاتهم اللبن والسمن واللحم، وكنا نحن ومن معنا لا نعد ذلك من معتاد النفقة، على أنا قد اعتمدناه لعدم غيره حيث نجده، وفي أكثرها هو غير موجود، إلا أنا في هذه البلاد المقفرة نشتري الغنم، ونعدها معنا ونذبح منها، ولكن قل ما ينفع ذلك كنفع الطعام، ولا دفع المشقة التي أنهكت القوى، وأنحلت الأجسام، ولقد كان جماعة العسكر يتبعون ثمر الأشجار، وأكثرها نفعاً لهم ثمر الدوم المعروف بالبهش، وليس بالدوم الذي هو ثمر السدر، وكانوا يستصحبونه زاداً في بعض المراحل حيث يخشون انقطاعه، ثم بعد هذا حقارة الماء، وانقطاعه في كثير من المراحل فقد نحمله في بعضها ليومين كاملين، ولا نجده إلا في الثالث، ثم إن في خلال إقامتنا في عين ملى تلك المدة الطويلة، كانوا يأتون به من بعد على مقدار نصف البريد، حتى إن الذي يغدوا للماء بعد صلاة الفجر لا يرجع إلا وقد آن وقت الظهر، ومع هذا كله سوء
مخالطة من يخالطنا من البدو المذكورين، وما نشاهده من البدع في الدين، وكثير ما يتفق بيننا وبينهم من الأسباب، ما يثير دفاين شرهم، ويظهر معه سوء مكرهم، ولا يفزعون إلا إلى أسلحتهم ومن معنا كذلك وقع ذلك مرات متعددة لولا دفاع الله وحمايته وكفايته، فالحمد لله الذي نجانا من مكرهم، وحال بيينا وبين شرهم، حمداً يوازي عظيم نعمته، ويكافي ما نحصيه من جلايل فضله ولطفه ورحمته[86/أ]، ولا حول ولا قوة إلا الله العلي العظيم.
فائدة في تقدير مسافة هذه الأرض المتوسطة بين ساحل بحر (بيلول) وبين بلاد ملك الحبشة وقياسها -على تقدير غالب الظن- مسيرة شهر للقوافل، يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً، وفوق كل ذي علم عليم.
ثم نعود إلى ما نحن بصدده: ولما انتهينا إلى هذا المحل المسمى (وسمة) على وزن زنمة، توجهت الرسل من هنالك إلى الملك من الأمير بعل جادة ورسول الملك الواصل إلى الإمام -عليه السلام- يخبرانه بقدومنا إلى بلاده، سالمين من الأشرار، في حماية من العزيز القهار، ويستأذنونه في كيفية سيرنا في بلاده، وما يتوجه من أهل البلاد من الضيافات وغيرها، وكان ذلك في مشارف عيد الحجة الحرام من تلك السنة المذكورة. ثم تقدمنا صحبة ذلك الأمير المذكور إلى محلته ومسكنه، وقرية مستوطنه في جبل عال اسمه (حنطالوه) واسم هذه البلاد في عمومها (أندرته) وهي بلاد مستوية، كثيرة العشب، والنبات متسعة الخيرات، كثيرة العسل، ولقد كنا نشتري منه بالشقة السودي من بز المراودي ما يزيد على أربعين رطلاً صنعانياً من الشهد الأبيض الذي ما رأت العين مثله، وأقمنا في ذلك المحل أربعين يوماً، وكانت صلاة عيد الحجة فيه، خرجنا لها إلى ساحة البلد، واجتمعنا ومن انظم إلينا من المسلمين، وأقمنا الصلاة وهم ينظرون إلينا، ويتعجبون مما نحن فيه، كما نتعجب مما هم فيه، ووصل إلينا إلى ذلك المحل الفقهاء (آل كبيري صالح)، عرفوا بهذا الاسم وهو اسم تعظيم، يسمون به الرجل المعتقد، وكان بأيدينا كتاب إليهم من مولانا أمير المؤمنين- أيده الله تعالى- وكسوة سنية فاخرة لايقة بحال أمثالهم، فدفعنا إليهم الكتاب وسلمنا إليهم تلك الكسوة، ورأينا عليهم سيما الصلاح، ونور الإسلام، فسررنا بهم غاية المسرة، وكان بعضهم يعرف لسان العرب، فما برحنا نسألهم عن أمور نحتاج إلى معرفتها ونستعين بعلم حقيقتها، ووصل معهم
رجل آخر اسمه (كبيرى خير الدين) له معرفة جيدة بمذهب الشافعي
-رضي الله عنه- وهو أفقه من (آل كبيري صالح) وهم أشهر منه في تلك الجهة، [لعلو منصبهم وهم جميعاً على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه].
ولما مضى أربعون يوماً إقامة في ذلك المحل، رجع جواب الملك صحبة رجل من أهل خدمته وصحبته خمسة أنفار، حين عرف الأمير بعل جادة بوصول رسول الملك أنه صار في طرف بلده، خرج إليه متلقياً له على قواعدهم في رسل الملك أنهم يتلقونهم هكذا، ويقرأون الكتب في المحل الذي يلقونه فيه، فقرأ كتاب الملك وهو قايم، ثم رجع ووصل إلينا يخبرنا بما قاله [86/ب] الملك في كتابه، وما أمر به وغيره من أهل الطرقات من إكرامنا، والقيام بما يتوجه من حق الضيافة لنا، والصحبة في الطرقات في الأماكن المخوفة، فشكرنا ذلك الملك وأحسنا مخاطبة رسوله بما يليق بذلك المقام، ثم إن الأمير بعل جادة صاح بأهل بلاده، أن يصلوا إليه بما نحتاجه من الظهر لحمل أثقالنا، فسارعوا إلى ذلك، وتوجهنا للوصول إلى الملك، كان سفرنا حتى خرجنا من بلاد (أندرته) ثلاث مراحل، ثم وصلنا إلى بلاد (السحرت) وتلقانا أمير تلك البلاد رجل اسمه (إسحاق) واجتمع الأمير المسمى إسحاق بالأمير بعل جادة، وكان قد وصل إلينا رجل في بلد بعل جادة، ودخل في دين الإسلام فقبلنا منه ذلك، واعتقدنا أنه يتكتم أمره، فظهر خبره، وكان أصحاب بعل جادة حاولوا الأخذ عليه بالرجوع إلى دينهم، فمنعهم بعل جادة وقال: هو باختياره إذا أحب الدخول في دين الإسلام فلا نعترضه.
فلما وصل الأمير بعل جادة محل هذا الأمير المسمى إسحاق، سأله عن شأن هذا الرجل الذي أسلم، وقال لبعل جادة: كيف تترك هؤلاء يغيرون ديننا؟ مثل هذا لا يحسن ونحن عازمون على قبض هذا الرجل الذي خرج عن ديننا وقتله، فأجاب عليه الأمير بعل جادة بجواب أهل العقول الراجحة والآراء الناصحة: ألقى الله ذلك في قلبه وقذفه في لبه، فقال له هؤلاء العرب: أهل مروءة وأهل نجدة وشهامة، يرضيهم القليل، ويغضبهم القليل، وما أظن أنهم يتركون هذا الرجل الذي دخل في دينهم يصل إليه مكروه، لو ذهبوا عن آخرهم، وأي فائدة لنا ولك بمثل ذلك والإساءة إلى أضياف الملك، هذا معنى جوابه الذي سمعه بعض من كان متعلقاً بخدمتنا من أهل الحبشة، بينه لنا باللسان العربي، فكفه بذلك وأذله الله عز وجل، ثم إن هذا الأمير ببلاد السحرت أمر أهل بلاده كذلك بالحضور لحمل أثقالنا، ثم طلب منهم جيشاً عظيماً لصحبتنا في الطريق؛ لأجل الخوف فحضر منهم نحو ألفي رجل بالحراب والخيل، وتوجهنا من بلاده فسار بنا نحو خمس مراحل حتى اتصلنا ببلاد (أبرقلي) وهي بلاد وعرة، وجبال عالية، وأوهاط منخفضة، فتلقانا أمير هذه البلاد رجل اسمه (قباقسطوس) فسارع بتجهيزنا من بلده لحقارتها، وارتحلنا منها وسار بنا سيراً متصلاً، ومراحل متسعة، قدر سبع مراحل، كلها خايفة، وله عيون يسيرون معنا في روؤس الجبال، ووجدنا بين هذه الجبال نهراً عظيماً من آيات الله الباهرة، تلحق حكمه بنحو نيل مصر وسَيحُون وجَيْحُون، وفيه حيوانات البحر العظيمة، ولقد[87/أ] وصلنا إليها وظهر لنا شيء كالقبة العظيمة، بين الماء في جانب النهر، فخيل
لنا أنها صخرة، فلما وصلنا إليها وجدناها حيواناً ميتاً يقال له: فرس البحر، الله أعلم ما عرض لها فأهلكها، وهي في الكبر والعظم ما لا أعرف له نظيراً في الحيوان، وهذا النهر لا يتمكن المار منه من قطعه إلا من أمكن مخصوصة، متسعة في عرضها يتبسط فيها الماء، ثم تكون مستوية لا ينحدر فيها الماء؛ لأنه مع الإنحدار تكون له قوة، فإذا كان المكان على هذه الصفة سلك فيه المار والماء يتصل بركاب الفرس السامي، ومقدار العرض في قياس مائة ذراع، وهذا النهر ينصب ماؤه في نيل مصر، على ما حكاه لنا بعض أهل الحبشة، فسبحان الملك القدير الذي أظهر لنا عظيم قدرته، وأرانا عجايب حكمته وصنعته.
ثم إنا بعد تمام سبع مراحل اتصلنا ببلاد (الفلاشة) أولها واد عظيم تحت جبل عال في نهاية السمو، وغاية العلو، اسم الوادي (أُغنة) -بنون قبلها غين معجمة ساكنة قبلها همزة مضمومة- والجبل (سمين) مصغراً، وهو أعظم جبال الحبشة، ولو أقول أعظم جبال الأرض لم يكن بعيداً؛ لأنه يوجد في كل طريق من طرق الحبشة، وهو شديد البرد لا يعرف مثله في شدة البرودة، لا يبرح الماء جامداً فيه شتاءً وصيفاً، وهذه البلاد عهدة ولايتها على بعض وزراء الملك، وأهل الإختصاص بحضرته، رجل منهم اسمه (دموه) وله وكلاء ونواب في البلاد، وأمَّا هو فلا يفارق حضرة الملك، وهذه القبيلة التي يسمونها (الفلاشة) قبيلة كبيرة، من أعظم قبايل الحبشة، وهم على دين اليهودية وشريعة التوراة، وكانوا من قبل خارجين عن طاعة الملك لإختلاف دينهم، وهم أهل نجدة، وشوكة عظيمة، وبسالة، فما زال الملك يغزوهم ويحاربهم ويضايقهم من جميع أطراف بلاده لإحاطة بلاد النصارى بهم، حتى غلبهم واستنزلهم من حصونهم، ودخلوا في طاعته، ودانوا له بمقالته، وجعل ولاية بلادهم إلى ولاية هذا الوزير، ودخل أكثرهم في النصرانية، ولم يبق إلا اليسير، غير أن الملك لم يعترضهم في أمر الدين، وإنما يطلب منهم الطاعة له، واستمر سيرنا في هذه البلاد حتى اتصلنا ببلاد (الأمحرة) الذين هم عشيرة الملك وكرسي مملكته، وأهل نصرته، وكان سيرنا في بلاد (الأمحرة) قدر اثنتي عشر مرحلة، وبعد تمام اثنتي عشرة وصلنا قرية قريبة من مدينة الملك أهلها كلهم مسلمون وفيها مسجد، ومكتب لتعليم صبيانهم القرآن، فاستأنسنا بذلك غاية الأنس، وسررنا بهم أكمل
المسرة، بحيث أنه سرى عنا ما ثقل على قلوبنا مما قد قاسينا من سوء مخالطة[87/ب] الكفار والنظر إليهم، وإلى منكراتهم، إلا أن الله سبحانه وتعالى يسر لي خاصة تجنب طعاماتهم المصنوعة، كما كنت أعد من الدقيق الذي يطحنه المسلمون، وأما بقية المصاحبين فإنهم اضطروا إلى أكل طعامهم المصنوع، وللضرورة أحكام.
ولما وصلنا هذه القرية المختصة بالمسلمين جاء رجل إلى الحاج سالم بن عبدالرحيم رسول الملك الذي نحن في صحبته، يخبره أن رجلين من أصحابه قد اتصلوا بوزراء الملك، وألقيا كلاماً إليهم، معناه أن الحاج سالم قد جاء في صحبته بهذا الرجل العربي وهو من أهل شريعة دين الإسلام، ويريد أن يدخل الملك في دينهم، ويغير دينكم، ويمحوا شريعتكم، وأمرنا هذا الرجل النذير بافتقاد مامعنا من كتب الإمام -عليه السلام- لئلا يكون فيها شيء مما يصدق ذلك الحديث، فجاء الحاج سالم إليَّ مبهوتاً من ذلك خايفاً مرعوباً، وقال لي: انظر في كتاب الإمام -عليه السلام- وتحقق ألفاظه، فإن وجدت فيه ما تخشى عاقبته أصلحته وحولت عبارته، وقلت فيه ما شئت فإنهم قوم لا يفقهون، فأعدت نظراً في الكتاب وهو غير مختوم، فإذا فيه من الكلام ما يجد له عذراً وإن كان فيه نحو قوله تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} إلى آخر الآية، فكنا هيأنا لمثل ذلك عذراً إن جرى فيه المناقشة على أن قلوبنا مع ذلك ساكنة شديدة، لم نجد فيه قلقاً ولا اضطراباً، فكتمنا ذلك في نفوسنا، وأسررناه في ضمائرنا، ثم
تقدمنا ذلك اليوم إلى محل يتصل بمدينة الملك ويعد من جوانبها ووقفنا هنالك، وهؤلاء النصارى على عموم ليس فيهم شيء من المرؤة ومكارم الأخلاق التي لا يمنعها شؤم الكفر ولا تخلت ملة من الملل من الإتفاق على أنها من صفات المحامد وخصال الأماجد، أمَّا هؤلاء القوم فرأيناهم في اللؤم وشدة البخل كأنهم جميعاً أخلاق رجل واحد، إلا أن تكون عليهم يد غالبة وسلطان قاهر، فمن جملة لؤمهم أنا بتنا في هذه القرية طاوين من الطعام، ولم ندخل أماكنهم إلا بالقهر لهم والغلبة عليهم، ثم إنا بعثنا إلى الملك رسولاً يخبره بوصولنا إلى ذلك المحل ويستأذنه بقدومنا عليه فأبطأ الرسول[88/أ] ولم يرجع إلينا الجواب إلا في آخر اليوم الثاني لبعد منال الملك وصعوبة الإتصال به وسوء معاملة وزرائه وأعوانه.
ولما رجع إلينا جواب الملك يأمرنا بالدخول إلى المدينة والمبيت في بعض بيوت الوزراء رجل اسمه (حواريا) فدخلنا بقية ذلك اليوم، وهو يوم الجمعة المباركة، سلخ شهر صفر المظفر عام ثمان وخمسين وألف سنة، فمررنا في أزقة المدينة وقد اجتمع فيها من جموع النصارى الذكور والإناث على قواعدهم في عدم حجاب النساء ما لا يعلم قدره إلا الله، ولا يحصي عددهم سواه، وذلك لما توفرت دواعيهم واشتدت رغبتهم إلى نظر هؤلاء العرب الوافدين، وكونهم شكلاً غربباً وأمراً عندهم عجيباً، فانتهينا إلى بيت ذلك الوزير الذي أمر الملك بالنزول تلك الليلة فيه، ووصلت إلينا الضيافات من بيت الملك ثم من وزرائه طعاماً مصنوعاً وعسلاَ كثيراً وبقراً وغنماً، كل رجل بما تسنى لديه وبحسب حاله، وخلطوا في هذه الضيافة من دنان الخمر العظيمة، يحسبونه من كمال الضيافة، وما يتحفون من الأضياف أشراف التحافة، فأشار إليهم الحاج سالم بن عبدالرحيم رسول الملك أن يرفعوا ذلك، وبين لهم حكمه في دين الإسلام، الذي شرفنا الله به وأيدنا بعزه، فسارعوا برفعه فوراً.
ثم لما كان صبح تلك الليلة المسفر عنها أمر إلينا الملك يستدعي وصولنا إليه، فتقدمنا إلى قلعة الملك، وأشرفنا على دار عالية، وبنية سامية، من أعجب المباني الباهرة، وأحسن العجائب الفاخرة، مبنية بالحجارة والنورة، وليس في المدينة؛ بل ولا في أرض الحبشة غيرها، فهي من أكمل منظر وأجمل صورة، وساير البيوت في تلك الديار جميعها إنما هي عشاش من نبات الأرض، والباني لهذه الدار رجل من أهل الهند، فصفة تفصيلها على أساليب أرضه، وهذه القلعة التي تختص بيوت الملك في جانب المدينة وأعلى محل فيها، وهي تشتمل على دور عديدة وساحات مديدة، وحول هذه الدار مبان أخر أرضية متسعة الأطراف في الطول والعرض والسمو سعة ما رأته العين في شيء من المباني، وهذه الأماكن معدة لقعود الملك فيها، وفي كل مكان منها ينبغي أن يهيأ به من الفرش الرومية المنوعة، ومطارح الهند التي هي بالذهب ملمعة، والأسرة الفاخرة، التي هي بالحلي والجواهر مرصعة، فناهيك بتلك المقاعد زينة للناظر، واستدراجاً لذلك الملك الكافر.
ولما وصلنا إلى الملك[88/ب]وقد انتظم مجلسه في تلك الدار، وتهيأ أهل الحضرة من الوزراء وغيرهم وأعظم أبهة، حيث لبسوا مطارف الديباج المطرزة بالذهب ومطارف الحرير التي يقضي منها الناظر إليها بغريب الصنعة ونهاية العجب، وجعلوا في أوساطهم مناطق الذهب المحلاة بالفصوص الفاخرة، ونفيس الجواهر التي هي لهم في الدنيا ولنا إن شاء الله في الآخرة، ثم أخذوا في أيديهم السيوف السنارية المحلاة كذلك بعين الذهب الخالص، وتعجلوا بهذه النعمة التي هي إلى الزوال أسرع من الظل القالص، ثم انتظموا بذلك المجلس قياماً أحسن نظام مع تمام صورهم، لما خلقهم الله تعالى عليه من بسطة الأجسام، وألوانهم مع ذلك غير مشوهة بالسواد الفاحم، ورؤوسهم مكشوفة عن الشعر الجعيد الناعم، وفي أيديهم أساورة الذهب، وفي آذانهم الأقراط المتلألئة كإشتعال اللهب، وعلى الجملة فما رأيت من صفات الملك غير هذه الأمور المنعوته وما سوى ذلك من الكمال فعراه مبتوكة مبتوتة، فلما رأينا تلك الهيئة وذلك الإنتظام، وقد كان في النفس شيء من ذلك الكلام، الذي قدمنا ذكره، فخطر بالبال أن هؤلاء الوزراء يريدون بهذا الإجتماع، معرفة حقيقة ما نقل إليهم، وقد يمكن أنهم يريدون الإطلاع على كتاب الإمام -عليه السلام- الذي في صحبتنا؛ لأن هؤلاء الوزراء لهم اليد القوية على الملك، والتصرف النافذ على كل حال، ولما نظرنا إلى الملك وجدناه وقد نزل عن سريره وقعد على الأرض إكراماً لنا، وإعظاماً لإمامنا، وقادته التي يعرف عليها أنه لا ينزل عن سريره لوفود وافد، إلا أن يكون في أعلى مراتب الفخامة، ومستحقاً أنواع
الكرامة، ثم إن كل وافد لا يقعد بين يديه إلا بإذنه، ولا يأذن إلا لمن كانت منزلته كذلك، فلما استقر بنا المجلس أقبل علينا الملك، وقد أعد ترجماناً شريفاً يقول إنه من آل الحسين بن علي-رضوان الله عليهما- من أرض بخارى، وهو ملازم حضرة الملك، قد سلب الإيمان، واستحوذ عليه الشيطان، وسلك في مساخط الرحمن، فهو شيطانهم المريد: {إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } وهذا الشريف يعرف لسان العرب أحسن المعرفة، ويعبر عنه أوفى العبارة، فاستقام بين يدي الملك يعبر عنا وعنه، وسألنا عن الأحوال، فأخفا السؤال، وبالغ في التحقيق عن الإمام -عليه السلام- وأولاد إخوانه بأبلغ الإستفصال، ثم إنه بدأنا بالسؤال عن كتاب الإمام الذي في أيدينا، واستدعاه منا بمسمع من أهل حضرته، فتأكد من ذلك الظن حيث ابتدأنا بذلك، فأجبنا عليه إن معنا[89/أ] كتاباً وصحبته هدية من الإمام -عليه السلام- إلى الملك ولإيصاله الهدية مجلس آخر غير هذا، كما هي القاعدة المعروفة، فأجاب علينا الشريف الترجمان قبل أن يبلغ الملك قواعد هؤلاء القوم غير ما عرفتموه، وهي أن الوافد مثل وفودكم هذا يقدم هديته بين يديه حال قدومه، فقلناه له: بلغ الملك ما قلناه، واعتذر لنا في ما جهلناه، فبلغ الشريف ما عرفناه به وقبل عذرنا، ثم قال لنا بعد ذلك: في أي محل تريدون النزول في منازل النصارى أم في منازل المسلمين، وهناك حافة للمسلمين مخصوصة، محصورة في جانب من المدينة، فقلنا له: منازل المسلمين أولى بنا، والكل في جواركم وحماكم، فأمر معنا ذلك الشريف ينزلنا في بيوت تصلح لنا،
ففعل الشريف ذلك، وبقينا تلك الليلة، وافتقدنا كتاب الملك وأسماء الهدية فيه وأعيانها، ثم استأذنا على الملك في اليوم الثاني للوصول إليه بالهدية، فأذن، وتوجهنا إليه بها ووجدنا حضرته كما كانت بالأمس فدفعنا إليه الكتاب، فقرأه الشريف الترجمان جهراً يسمعه أهل الحضرة، وعبر عنه بلسانهم الذي يعرفونه، ثم سلمنا تلك الهدية بأعيانها شيئاً فشيئاً، حتى أتينا على آخرها، ولما فرغنا من تسليمها، سألنا الملك أن يجعل لنا من أصحابه وأعوانه، ومن يتولى رفع حوائجنا إليه مما يعرض لنا فاستحسن ذلك، وعينه على الوزير المقدم ذكره المسمى (حواريا) ثم انصرفنا من حضرة الملك، وقد أمر ذلك الوزير أن يجري علينا من النفقة وتوابعها ما يقوم بكفايتنا، وألزمه أن يحسن التعاهد لنا لأحوالنا، فأجرى علينا من الملك في كل شهر ثلاثين حملاً من الحنطة، وأربعين رأساً من الغنم، وأربع رؤوس من البقر، وعشرين جرة من العسل، وست جرار من السمن، واستمر ذلك مرتباً في كل شهر.
ولما كان بعد مضي ستة أيام من حين وصولنا، طلب الملك وصولنا إليه، وأمرنا نقلل من الجماعة المصاحبين، ففهمنا أنه يريد ذلك الموقف الذي يكون فيه كشف السر الذي إليه يساق الحديث، فتوجهنا إليه وصحبنا من جماعتنا غير أنهم بعد وصولهم حضرة الملك خرجوا من عندنا، ووقفوا في حجرة الدار، ولم يبق في حضرة الملك من وزرائه غير ثلاثة منهم من كبارهم، لم يخرجوا من حضرته وبقية الوزارء والأعيان متوارون عنا يسيراً، وهم يتطلعون إلى سماع ما يقال من الحديث، وليس هناك احتراس على حفظ الأسرار، وصيانتها عن الإعلان والإظهار، وأمر الملك الحاج سالماً رسوله المقدم ذكره أن يترجم عنه وعنا في ذلك الموقف، وأفاض إلينا من مكنون سره، وأعلن بما كان أضمره حتى أتى على آخره[89/ب] والمراد منا هو استيداع ذلك الحديث وحفظه عن الإذاعة، والحرص عليه من الإضاعة، حتى نبلغه عن صفته إلى مولانا أمير المؤمنين-أطال الله له الأيام والسنين- وجوابه ليس مطلوباً منا كما ذلك معروف من سياق مبادئ الأخبار، غير أنا جاريناه في ذلك المقام بما يليق بالحال من ترويج الكلام، وتلقي ذلك الحديث بالإكرام التام، وختمنا ذلك المجلس بأخذ الحقيقة من الملك لما سألناه عن ذلك الحديث، أهو الذي استدعى وصولنا إليه من أجله؟ فقال: نعم! هو هذا بعينه، وهو أمر عظيم لا يصونه إلا مثلكم، فقلنا: هل بقي في نفوسكم شيء؟ فهذا الموقف الحسن ما تستقضي فيه الأخبار، وتباح فيه مستودعات الأسرار؟ فقال: هو هذا، ولم يبق غيره مما نريد نحن وصولكم إلينا من أجله، فانصرفنا من مجلسه ذلك وأخذنا نتصفح أحواله، وهل نجد سبيلاً
إلى الخوض في ذلك الأمر الذي هو غاية الأمل، وقصارى الأرب، فلم نجد في تلك الدار لذلك النداء عريباً، ولا من يكون له مجيباً، فكنا نحن وإياه كما قيل: إنك في واد، ولكم بين مريد ومراد، فأعرضنا عنه صفحاً، وسدلنا دونه ثوباً، وطوينا عنه كشحاً، ثم إنه وصل إلينا عقيب وصولنا حضرة الملك رسول من بعض تجار اليمن بجهة مسوع يرفع ما نريده من أخبار اليمن، وأحوال إمامنا، وانتظام أمور سادتنا -أيدهم الله بعزيز نصره- فسرنا ذلك غاية المسرة، وحمدنا الله عز وجل على تلك الأخبار الصالحة التي هي للعين قرة، ثم أنَّا سارعنا بتحقيق الأخبار إلى مولانا أمير المؤمنين -أطال الله له الأيام والسنين- ورأينا من أهم الأمور، وأولى ما يزحزح به حرج الصدور، تعريف مولانا أمير المؤمنين -أيده الله تعالى- بأنا نريد الخروج من مسوع وأنه-حفظه الله تعالى- يكتب إلى باشا الأتراك هنالك من يستأمن لنا منه، وأن العود من هذه الطريق التي دخلنا منها غير ممكن ولا سبيل إليه، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ففصلنا إلى مولانا -أيده الله تعالى- كتاباً جازماً بذلك.
ثم كان من ألطاف الله الخفية، وعنايته التي طالما أدركنا بها ولله الحمد كل بغية وأمنية، أن وصل إلى حضرة الملك من قبل باشا الأتراك من جهة سواكن موجهاً صحبته بهدية، وهذا الرسول رجل عربي اللسان من أهل سواكن، اسمه الأمير عبدالوهاب، حسن الأخلاق، كامل الصفات، جميل العشرة، سني المحاضرة، كريم الطباع، له نسك أهل الصلاح، يحفظ القرآن غيباً حفظاً جيداً، وعناية تامة، وله مع هذا مشاركة في كتب السير والآداب، وعلى الجملة فإنه من نعم الله تعالى علينا[90/ا] حيث روَّح عنا بأدبه، وانكشف عنا غيابات الكروب بسببه، وأجرى الله لنا على يديه منافع كثيرة، ونعماً جليلة.
ولما رأينا حسن عشرته وخلوص مودته، وظهور صدقه وأمانته، أسررنا إليه ما نريده من الخروج من جهة مسوع، وأنا قد رفعنا ذلك إلى مولانا أمير المؤمنين -أيده الله تعالى- بالنصر المبين، ولا ندري ما يستحسن من ذلك، ونحن نخشى أن يخطر بباله -أيده الله تعالى- أن العود في هذه الطريق التي دخلنا منها متيسر، أو مع احتمال بعض مشقة لا تخلو عنها حال المسافر في الغالب، وإلا فالمعلوم بالضرورة أنه لو يرى ما قد رأيناه ويشاهد منها ما شاهدناه لم يرضها لنا على كل حال، ونحن نريد تمام هذا الرأي على يديك، وتفويض الأمر فيه إليك، فابذل فيه العناية، وأحسن في تدبيره السعاية:
إن أراد الصديق نفع صديقٍ .... فهو أدرى في نفسه كيف يسعى
فأحسن في الجواب وكشف برايق عبارته عن وجه الصواب، وقال: بعد أن سمعت منك هذا الحديث فقد عزمت أن أعطيك عجري وبجري، أعلم أني ما دخلت هذه الهدية إلى الملك إلا متوصلاً بها الإحاطة بأخباركم فإن محمد باشا صاحب سواكن، لما بلغه دخولكم من جهة بيلول أقعده ذلك وأقامه، وأقلقه وطرد منامه، فتوصل إلى حقيقة إدراك هذه الأخبار بما تراه من وصولنا بهذه الهدية، المضمر في طيها استكشاف هذه الخبية، وهذا الأمر الذي استدعيتموه ممكن حصوله، على أحسن الوجوه بفضل الله وإحسانه، ومنه وإمكانه، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والخيرة لله العزيز الحكيم.
واتفق الرأي بيننا وبينه على أخذ الملك في ذلك، وقد عرفنا من مراده أن يدرك أنه لا يحب المرور من جانب الأتراك، لما يلقاه من أهل الحبشة من جورهم وتحكمهم في أموالهم، وسوء معاملتهم، فلذلك إن الملك يحب فتح هذه الطريق من جانب بيلول، وربما كان ضميره المستكن من هذه المواصلة بينه وبين إمامنا-صلوات الله عليه وسلامه- فإنه يعلم أنه لا يتم له فتح هذه الطريق إلا بقوة وعناية، من وجوه عدة، من جملتها معاودة الرسل من قبل الإمام -عليه السلام- في هذه الطريق؛ فإنهم مع قوتهم بمعونة الله تعالى واستصحابهم البنادق يسير معهم كثير من أهل التجارة، دخولاً وخروجاً، فتسهل أوعارها، وتقلل أخطارها، وكان رسولنا إلى الملك لاستئذانه في ذلك، الشريف بن محمد بن موسى البخاري، المقدم ذكره، ولما عرفه بذلك أجاب، الملك في ذلك المقام بالإسعاد إلى ذلك المراد، وكان جوابه هذا[90/ب] صادراً على بديهية الرأي، ولم يبعد أن يكون في تلك الحال متغيراً بكسره، وعلى غير ثبات من أمره، لما ظهر لنا منه بعد ذلك من الندم الشديد على رضاه، والأسف على ذلك الرأي الذي أنفذه وأمضاه.
ولما رجع إلينا جوابه بالمطابقة والموافقة، سارع الأمير عبدالوهاب إلى محمد باشا بكتاب يذكر به مثل ما عرفناه به، وأرسل به رسولاً من فوره، ثم إنه تجدد بعد ذلك اختلاف رأي الملك علينا، وقال: مروركم من جانب الأتراك لا سبيل إليه، ولا يمكن أن يكون ذلك، فإنهم أعداؤنا وأعداؤكم ولا أمانة لهم، فقلنا له: أما عدواتهم فلا ننكرها، وأما الغدر منهم فلا نظن ذلك فيهم، فإن الغدر مذموم في كل ملة وفي حكم كل شريعة، ألا ترى أنا دخلنا بلادكم، ووصلنا إليكم بمجرد كتاب منكم، وأنتم مخالفون لنا في الدين والملة، فأنتم على دين النصرانية ونحن على دين الإسلام، فلو أنا ما وثقنا بقولكم وما وصلنا إليكم، وما رأينا عاقبة ذلك إلا وفاء وكرامة، وعافية وسلامة، وأمَّا الأتراك فهم -على ديننا وملتنا وكتابهم كتابنا، ونبيهم نبينا، فكيف أن لا نقبل منهم الأمان، ونجعله أعظم حجة بيننا وبينهم، وليس المراد للملك إلا الرجوع في طريق بيلول لتلك الأغراض التي يريدها فقط، فما برحت المراجعة بيننا وبينه دايرة، والأقوال مختلفة، وهو يتوسل علينا بكثير من الناس، ويلقي إلى أصحابنا شيئاً من ذلك الحديث سراً وجهراً، ويخوفهم من السلوك في جانب الأتراك بكل مخافة، والملك في ما أعتقد غير محيط علمه بصفات هذه الطريق التي يحاولها من جانب بيلول، وإلا فلو يعرفها حق المعرفة ما أظنه يستحسنها مع وجود غيرها، فلما طال الحديث بيننا وبينه على ذلك، وعرف أنا باقون على تلك النية غير منقلبين عنها، لم يجد بداً من إسعافنا إليها، غير أنه طلب منا شاهداً نكتبه يكون في يده يقضي ببراءته من هذا الرأي،
وأن عاقبته من سلامة أو ندامة لنا وعلينا، فوضعنا له شاهداً، وقبضه منا وقد أشهدنا فيه على أنفسنا وأعطاه ذلك الرسول الذي وصل إلى الإمام، ودخلنا في صحبته؛ لأن الملك عازم على عوده إلى حضرة الإمام -عليه السلام- ثم بعد ذلك خلى سبيلنا في سلوك هذه الطريق التي كانت عاقبتها ولله الحمد أحمد، والرأي في سلوكها هو الرأي الأسعد، وقد أطردنا الحديث على هذا النسق، وبقي لنا أشياء لاغنا عن ذكرها، مما يتعلق بأيام إقامتنا، وقد قدمنا ما ذكر ما أمر به من أمور النفقة المرتبة في كل شهر، على نظر ذلك الوزير المسمى (حواريا) مع مشاركة ساير الوزراء في تلك الأعمال، ومشارفتهم عليها كما هي قواعدهم المعروفة في جميع[91/أ] الأحوال، فإن التصرف والتدبير الذي هو في الحقيقة من التدبير إنما هو في أيديهم، وجار على مرادهم، وآرائهم متطابقة في الإستواء على اتباع الأهواء، لا تظهر فيهم المنازعة، ولا تقع فيهم المدافعة، أعمالهم مبنية على الجور وأكل الرشا، يتعاملون بذلك ظاهراً، ويشطرونها على أهل الحاجات شاهراً، لا يستترون بها، ولا يستحيون منها، وكانوا لهذه الصفات الدنية فيهم يريدون التباطؤ بقضاء أغراضنا وإبلاغ حوائجنا، ليضطرونا إلى الولوج في هذه المخازي، والدخول في هذه النقايص، فتقاصرت عنا آمالهم، ولم تبلغ إليها أعمالهم، لما رأوا من علو منزلتنا عند الملك، والإتصال به في أي وقت نريده، فنافسونا على ذلك، وأدركنا منهم العداوة والبغضاء، والمكايدة والمعاندة، ومما اتهمناهم به أمر الحريق الذي وقع معنا هنالك، فإن فاعله إنما أراد هلاكنا بالنار غير أن الله سبحانه
وتعالى أبقى علينا ستره، وأبطل على الساعي بذلك كيده ومكره، وكيفية الحال في هذا الحريق، أنا لم نشعر في بعض الليالي وقد هدأت العيون بمراقدها، وأخذت الجنوب مضاجعها، إلا وقد اشتعلت النار في جانب العشة التي أنا فيها مع شدة رياح العاصفة، وزعازع منها قاصفة، فأسرعت في الإشتعال، وأتلفت جميع ما لدينا من الآلات وساير الأثقال، ولم نتمكن بعد ظهور النار إلا من النجاة بالنفوس، فالحمد الله الذي نجانا من ذلك البؤس، وكان من أهم ما أهمنا من ذلك حريق الكتب التي كنا استصحبناها، فإنه ذهب منها شيء بالكلية وبعضها بقي منه بقية، وبعضها وقع فيه شين وتناقص عن حالته السليمة السوية، إلا نفس المصحفين الذين كانا في تلك العشة، فإنا وجدناهما سليمين لم يصبهما شيء أصلاً، وإنما وقع في إحداهما شين يسير، في جلده فقط وذلك من فضل الله وكرامة كتاب الله، ووقع معنا من هذا الحريق روعة عظيمة، وفزع كبير، رأينا سلامتنا منه والله الحمد نعمة عظمى، ومنه طلع نجمها في فلك السعادة الأسمى:
إذا سلمت رؤوس الرجال من الردى .... فما المال إلا مثل قص الأظافر
اللهم إنا نعوذ بعظيم عفوك، ونلوذ بخفي لطفك، من عذابك الذي لا يدفعه إلا رضاك، ونار عقابك التي أعددتها لمن خالفك وعصاك، فإنه لا طاقة لنا على عذابك ولا حول ولا قوة إلا بك. ولما بلغت هذه القصة إلى الملك أقامه ذلك وأقعده، وأبرق بسببها على الناس وأرعد، حتى أن الوزراء ما زالوا يخفونها عليه، ويهونونها لديه فغفل عن شأنها، وأعرضوا عن الإحتفال بها[91/ب] وأما نحن فلم نعبأ برفع مثل ذلك إلى الملك وقلنا له حين سألنا عنها ليس في مثل هذا بأس، ولم نظهر له التوجع من أحد من الناس، وإنما استعنا على ذلك بالله عز وجل، وبحسن الصبر، وإعمال الحذر، ومصاحبة الحزم، وإحسان النظر، واشتغلنا بمعالجة الملك في حصول الإذن منه لنا في العود إلى ديارنا، والإقبال على أعمال سفرنا، فما برح يطاولنا في الوعود، ويروح في المماطلة ويعود، حتى مضت علينا تسعة شهور كاملة، إلاَّ أنه عرض من الأعذار للملك في تحيرنا دخول أيام الخريف، وما يعتاد فيها من توالي الأمطار، واتصال ذلك في جميع ساعات الليل والنهار، فيستمر مطبقاً أربعة أشهر لا ينقشع سحابه، ولا ينقطع في تلك الشهر على تلك الديار ودقه وانصبابه، حتى أنهم ليعدون كثيراً من ذخاير النفقات، وما يتبعها من القوانين المصروفات، قدركفاية أيام الإطباق لما يحصل من احتباس الناس، وانقطاع الأسواق، ولقد رأينا تلك الديار مع هذه الأمطار يظهر للعيون بأعجب ما يراه الراؤن من حسن خضرتها، وكمال نضارتها، سهلها وجبلها، وجميع أرجائها وجوانبها، وتزهر مع ذلك بأنواع الزهور البرية، بلون الخضرة الزبرجدية، والحمرة الوردية، والصفرة
العسجدية، وقد يأخذون من هذه الزهور المذكورة ويتخذون منها صبغاً عجيباً يحبسونه بشيء من الممسكات ثم يصبغون به في الثياب وفي شيء من البسط يشبه الرومية، فيكون صبغاً رايقاً، ولوناً مناسباً لايقاً، ومع اتصال تلك الأمطار، وتواليها على عموم تلك الأقطار، لا تتيسر مواد الأسفار، ولا يأمن الإنسان من الوقوع في الأخطار، فأقمنا تلك الأيام كالقبض على جمر الغضا، والصبر على سفح اللظى:
رضيت قسراً وعلى القسر رضا .... من كان ذا سخط على صرف القضاء
ومن عجايب ما نذكره، أنه قد يتفق في هذه الديار الخريف في نزول نار من السماء، يرونها كالدخان العظيم المجتمع في جو السماء، يركمه الرياح بعضه على بعض ثم ينزل مجتمعاً، وهم يرونه بأعينهم حتى يقع على الأرض، فإن أصاب بيوتاً أحرقها، وإن وقع على نفوس أهلكها، وهذا لم نشاهده عياناً، وإنما رواه لنا بعض جماعتنا المصاحبين كان مترحاً في البادية، فوقع ذلك في تلك المحلة التي كان فيها، ولما روى لنا ذلك سألنا عنه كثيراً من أهل تلك الديار، فأخبرونا أن ذلك شيء معروف، وأمر ظاهر مشكوف، فسبحان الملك القدير، المخوف بآياته، المظهر لعباده[92/أ] ما أراهم من دلايل نقماته وسطواته: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ } ولما انقضت أيام الخريف، رجعنا إلى مذاكرة الملك، ومطالبته في شأن السفر، والحث له على الوفاء الذي هو أطيب ما تضمنته السير، وأفضل ما ذكره في طي الذكر، فرجع إلى تلك المماطلات الكذبية، والمواعيد العرقوبية، وغالب أحوالهم أنهم يعدون الكذب شعاراً ودثاراً، ويتعاملون به ولا يرونه عاراً وبواراً، ونحن في خلال هذه الإقامة، نطلب من نجتمع به من أهل شريعتهم وقراء كتابهم، فلم نجد أحداً ممن يعرف بذلك، إلا من كان منهم تسمى باسم الرهبانية والأغلب عليهم عدم الإطلاع على أحكام شريعتهم، وإنما طريقتهم الزهادة، والعبادة والميل إلى الخلوة، واجتناب الأنكحة، فأما هؤلاء فكثير جاءنا منهم، وكنا نخوض معهم في أشياء من علوم الشريعة، فلم نجد عندهم ما يعرف به كونهم من أهل علمهم، فإن محاورة العالم لا تخفى، وقد كان بلغ إلينا خبر رجل عظيم من
عظماء القسيسين وأحبارهم الذين يأخذون عنهم أحكام الدين، ولكنه وقع في قضية اقتضت حبسه بيد الملك، والأخذ عليها بالتضييق الشديد في جزيرة من جزر النيل، وها نحن نذكر ما بلغ إلينا من أمره، وهو أن القسيس المذكور رجل من القبط من أهل مصر، والقاعدة التي جرت عليها سنتهم أنه لا يقعد في هذا المقعد إلا رجل من القبط بأمر البترك صاحب بيت المقدس يوليه ذلك، ويبعث به إلى أرض الحبشة، نصت على ذلك سنن الماضين، واحتذاه من خلفهم الآخرين، ولسان هؤلاء القبط لسان عربي فصيح ويخرج من مصر وكتاب الإنجيل معه مكتوب بالعربي، وجميع ما يستصحبه من كتب شريعتهم وأحكام دينهم كذلك مكتوب بالعربي أيضاً، ومن تصدر لهذا الشأن يسمونه بلغة الحبشة الأبوان، كما يقال في لغة العرب: القاضي وحين يستقر في هذه المرتبة، يشارك الملك في نصف ما يجبى إليه من ولايته من قليل وجليل، وعظم ملكه وتكبر في نفسه، ومالت إليه الأكابر، واعتمدت عليه الرعية والعساكر، واغتار منه الملك، وصار يطلب إعمال الحيل على هذا الأبوان، والأخذ عليه، والإنتقام منه، وكان من الأسباب المهيئة لذلك أنه بطش[92/ب] برجل من المسلمين كان من أهل بطانته، والإختصاص بخواص خدمته، فأنتهبه وهتك ستره، ومع ذلك فإنه -أعني هذا المسلم- من أهل الهمة والأنفة، فما برح يتطلع إلى الإتصال بالملك، لينم إليه بأمور يستنكرونها على الأبوان، وعلم أنهم يؤاخذونه عليها، والملك يطلب مثل ذلك، فاتصل هذا المسلم بالملك، وباح إليه بجميع ما عنده، وما أطلع عليه من أمره، وكشف له ما كان مستودعاً عنده من سره، فاستثبت منه الملك في ما نقل،
ثم طلب الوزراء الأول فالأول، يطلعهم على ذلك ويخبرهم أن هذا الرجل صار يخبط بهم في مهاوي المهالك، وللرهبان كبير يعتزون إليه ويسمونه الأجيق بوزن زنديق، فاحضره في ذلك المجلس، وشاوره في الرأي، فاجتمع رأي الجميع أنهم يصيحون في المدينة، أنه من علم بفاحشة على الأبوان تخالف دينهم وصل إلى الملك في يوم معلوم، فلما سمع الناس ذلك النداء استعد للإجابة إلى الملك خلق كثير من الرجال والنساء، وأحفلوا في مجلس الملك في ذلك اليوم المعلوم، والميقات المحتوم، ورمته ألسن الحاضرين بما علموا من معاصيه، واطعلوا عليه من مخازيه، حتى لقد شهد عليه بعض نساء الملك بما تشاركوا فيه من الفجور، واتفقوا عليه من الفواحش المخزية في يوم النشور، وهم يرقمون شهادة من حضر ذلك الجمع، ويسندون شهادتهم إلى ما أدركته حاسة البصر والسمع، وكاتب هذه المخزيات الشريف محمد بن موسى المقدم ذكره بالقلم العربي؛ لأنهم يريدون رفع ذلك إلى البترك صاحب بيت المقدس وقلمهم هناك عربي، فلما استكملوا ما أرادوه من فضيحته، وعلم الملك أنه قد أدرك ما يريده من حط مرتبته، شاور الوزراء والكبراء ما ذا يفعل به، فقال كثير منهم: يقتل، ورجح للملك أن يحبسه فحبسه في جزيرة بحر النيل كما قدمناه وأخذوا فيه رأي البترك، ورفعوا إليه بتلك الفواحش واستدعوا منه من يقوم مقام هذا الأبوان، فهذا آخر ما نقل إلينا من حديث الأبوان من رواية محمد بن موسى البخاري.
ثم إنه كان في بعض الأيام خروجنا من مدينة الملك للضيافة إلى بعض منتزهاتها، قاصدين إلى محل كان يعتمره هذا الأبوان المذكور، وفيه شيء من كتبه مكتوبة بالقلم العربي، فأحبينا الإطلاع على شيء منها فوصلنا إلى ذلك المحل ووجدناه محلاً نفيساً رايقاً للعيون، ومن أعجب ما رآه الراؤن وفيه جماعة من تلاميذ ذلك الأبوان، فاجتمعنا بهم وخاطبناهم[93/أ] بما نريده، فأدركنا منهم التشوش والإرتياب، والتقلقل والإضطراب، فسكنا روعتهم، وأحسنا مخاطبتهم، حتى اطمأنت نفوسهم وأطالوا معنا في الحديث، حتى أنا لم ننصرف من عندهم إلا وقد أعجبهم ما رأوه منا من الرفق، ونهى المصاحبين لنا من أن يعبثوا بشيء من محاسن تلك البساتين التي معهم، فتحدثوا بذلك بعد رجوعنا من عندهم لكبيرهم، وكان غايباً ذلك اليوم عن ذلك المحل، فأعجبه ما سمع، ووصللنا في اليوم الثاني من يوم خروجنا وجاء إلينا إلى محلنا، وهو رجل عليه سيماء القراء، وتنسك أهل العبادة، وهو يتكلم باللسان العربي من غير واسطة الترجمان، فتيسر له خطابنا ولنا خطابه؛ لأنه من تلامذة الأبوان المقدم ذكره، فوجدناه أحسن في تلك الدار، واسمه خاطروس، فما برح يسألنا عن شريعتنا، وما أركانها ومهماتها، فأجبنا عليه وذكرنا له أركان الإسلام الخمسة، وصفة الشهادتين والصلاة وصفاتها، وما يقدم لها من الطهور، ثم الأذان الذي يدعى به ليحضرها الناس، ثم الإقامة بعد الحضور، ثم التوجه بألفاظه، فأعجبته تلك الألفاظ غاية العجب، ثم أكثر السؤال عن الزكاة في الأموال وتقديرها فأجبنا عليها فيها، ثم قال: من يأخذ هذه أرباب الأموال؟ فقلنا:
الإمام الأعظم، قال: فمن يأكلها؟ فعرفناه مصارفها كل مصرف باسمه وصفته، فازداد عجباً بما شرعه الله عز وجل من العناية بأحوال الضعفاء بمتاع الدنيا، وقال: هذا غاية الرفق، وكمال المعروف.
ثم كذلك أعجبه ذكر السهم الذي يصرف في سبيل المجاهدين، الذين يقاتلون عن الدين الحنيف ويجاهدون الخارجين عنه من الكافرين، وما برح هذا الرجل يعاودنا ويتأسف على ما مضى من الأيام التي لم يجتمع بنا فيها، ونحن كذلك أعجبنا منه ما رأيناه، ثم قال: لولا أنني رجل كبير يظهر للناس خبري ولا يتكتم عنهم أمري، لصحبتكم إلى بلادكم، واستأمنت منكم أن تتركوني على ديني، فقلنا: كم مثلك من اليهود والنصارى يستأمنون من المسلمين، ويدخلون ديارنا بأمان وجوار، فمنهم من يبق مع تسليم جزية معلومة عن رأسه، ومنهم من يقيم الأيام اليسيرة ثم يرجع إلى أرضه، ثم إني سألته عن الإنجيل، وهل يوجد عنده مكتوباً بالعربي؟ فقال: نعم هو عندي ثلاثة أسفار، فطلبت منه عارية السفر الأول، فجاء به إلينا وهو مكتوب في عنوانه مبادئ الإنجيل، فنظرت فيه قدر عشرة أيام وجميع أوائله مواعظ فقط لم أطلع[93/ب] على غيرها، وقال: إن الأحكام في السفرين الأخيرين، وكان بعد تلك الأيام ارتحالنا إلى هناك، وكان هذا الرجل يخبرنا عن أحوال الأبوان المتقدم ذكره، ويروي تلك الأمور المستنكرة، ويهجن عليه بها، وقد كان بلغ إلينا حبس الأبون إلى جانب الطريق قبل وصولنا إلى الملك، فتأكد معنا الظن الذي كنا نؤمله في الملك من الدخول في الإسلام، لا سيما مع انضمام قضية أخرى إلى هذه-قضية الأبون- وهي أن هذا الملك المذكور لما مات
أبوه وله أولاد كثيرة على أمهات متفرقة، وليس لهذا الملك من أمه أخ واحد، فأوصى أبوه إليه وإلى وزرائه أنه إذا مات حبسوا جميع أولاده بالقيود في حصن معروف، ولا يتركوا من الحبس إلا هذا الأخ الذي هو شقيقه من أمه، ليكون عضداً لأخيه، ومظاهراً له في أمره وملكه، ففعلوا ذلك وحبسوا جميع إخوته في ذلك الحصن، وهم خمس عشرة رجلاً، وأجرى عليهم الملك النفقات الفايضة، والإحسان التام من كل وجه، وإنما الغرض دفع منازعتهم الملك، فبقى هذا الأخ مؤازراً لأخيه في أموره، ويقوم بأمور جنده وأحوال غزوه وملاقاة عدوه، حتى أن الملك أدرك أن أخاه يريد قتله والوثوب على سرير ملكه، وهؤلاء الأمحرة معروفون بمتانة الكيد، وأكيد الحكمة في تدبير وجوه الحيل، فما زال الملك يدبر وجه الحيلة على أخيه، كيف يكون السبيل إلى الأخذ عليه، والإنتقام منه، ولم يتيسر ذلك للملك إلا بعد مدة مديدة، وزمان طويل، وشرح حديثه لا يكفي فيه القليل، فما برح في ذلك حتى استمكن من أخيه في جوف الليل وأمر به جماعة من أهل البأس والنجدة والهمة والشدة يخرجون به ليلاً، وقد كانت أمه قد سألت الملك أن يبقي عليه من القتل، وأن يكتفي من ذلك بحبسه فأظهر لها الإمتثال، وأنه أمر به إلى جزيرة بحر النيل، ولما بعث به في جوف الليل، لم يظهر خبره لأحد من الناس، ولا ظهر من وجوده في أي محل من تلك السجون المعروفة، فلم يشك أنه قتله، وكانت هذه القضية مع قضية الأبوان السابقة موهمتين صدق ذلك الظن، وأن الملك إنما بطن بهذين الرجلين ليستقل بذلك الغرض ويتمكن، فلم يكن إلا كما قيل- في كل خيال لم يحصل من فايدة-رب
صلف تحت الراعدة، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء:
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده .... وليس عليه أن تتم المطالب
[94/أ]هذا وقد قدمنا أمر الحريق الذي وقع معنا، وعظم موقعه وهول حادثه، وحملنا علىالعناية والإحتراس، والمبالغة في الإحتفاظ، ثم أنا لم نشعر في بعض الليالي إلا وقد اشتعلت النار في جانب العشة التي نحن فيها، مع هدوء العيون وغلبت النوم على حواس الحراس الموكلين بالحفظ، فكنت أول من أدرك اشتعالها وانتشارها، مع هدوء الريح تلك الليلة، وسلمنا الله عز وجل من ذلك ونجانا بفضله علينا مما أرصده لنا من تلك المهالك، فالحمد لله ولي الحمد ومستحقه، حمداً يقوم بعظيم فضله، وواجب حقه، ولما رأينا هذه المخاوف والحوادث التي تنوب، والكوارث التي هيجت الأحزان والكروب، مع ما رأيناه أيضاً من مماطلة الملك بالمواعيد الكاذبة، ضاق الصدر وحرج، واضطرب الأمر ومرج، وخشينا ألا نجد إلى الخروج من تلك الديار سبيلا، لا سيما قد وقعت مراسلات من الملك وبعض وزرائه لبعض جماعتنا من العسكر المصاحبين يرغبونهم بالبقاء هنالك، ومع ما رأيناه من تخبير عدة من الرسل الذين يصلون إلى الملك بعضهم من أهل أوسة، وبعضهم من جهات سنار، وبعضهم من جهة الأتراك، حتى صاروا في سلكهم، واستعبدوهم كما يستعبدون من وقع في ملكهم، ومع أنا نفكر في الحال، وننظر فيه إلى ما يكون في المآل، فوجدنا خروجنا مع تقدير تيسره، إنما هو من جانب الأتراك على جهة مسوع، فنحن آمنين من مكرهم، ولا واثقين بأمانهم لما هو الغالب من نكثهم وغدرهم، فالتبست الأمور علينا، كقطع الليل
المظلم فلم نجد لنا ملاذاً ومعاذاً غير الإلتجاء إلى الله عز وجل، والتمسك بدرس القرآن العظيم الذي هو من أعظم ما به نتوسل، فيسر الله لنا مع ذلك منامات مبشرات، دالة على السلامة، ومؤذنة بالنجاة من كل ندامة، أذكر منها بعضها وهي: ما رأيت في بعض الليالي من الوفود على إمامنا المتوكل على الله -أيده الله تعالى- فوصلت إلى ديوانه الذي يقعد فيه لقضاء حوايج المسلمين فوجدته مملؤاً من العلماء العظماء، كل منهم فارش سجاد يصلون، وينتظرون نزول الإمام -عليه السلام- إليهم من أعلى الدار لصلاة الجماعة فقعدت مسنداً ظهري إلى جدار الديوان قعود الوافد، فبينما أنا كذلك إذ وصل الإمام -عليه السلام- فقمت إليه، وسلمت عليه، وهو يشق الصفوف حتى تقدم إلى محل صلاته فجعلت أطلب لي مكاناً أقعد فيه للصلاة فلم أر متسعاً إلاَّ في سجادة سيدنا القاضي العلامة وجيه الدين خير[94/ب] القضاة الميامين، عبدالقادر بن علي المحيرسي -حفظه الله تعالى- فقعدت معه عليها، وقضينا الصلاة جماعة، ثم خرجنا من تلك الدار على القاعدة المعروفة، فرفع المسبح صوته وهو يقول:
هات الآحاديث تصريحاً وتنبيها .... لعلها من غليل النفس تشفيها
إن الأمور التي في النفس تخفيها .... لا تخشها إن ذكر الله يكفيها
فخطر ببالي لما سمعت ذلك المُسبح أنه يريد تبشيري بإنفراج ما أنا فيه من الحيرة بفضل الله وأمره والتوسل إليه بجميل ذكره، فقمت من منامي مسرعاً أرقم هذين البيتين، وقد غاب عني من لفظهما من محل (لا تخشها إن) في البيت الثاني، فأصلحت هاتين اللفظتين في اليقظة، وأما البيت الأول وبقية الثاني فعلى صفته في الرؤيا، ثم رأيت رؤيا أخرى كذلك رأيت أن قائلاً يملي علي بيتين من الشعر وهما هذا المذكوران:
وكن حازماً في كل أمرٍ تريده .... فإن صواب الرأي ما كان أحزمه
وشاور عليماً في الأمور مجرباً .... حيلماً إذا ما دبر الأمر أحكمه
ورؤيا أخرى أيضاً وهي: إني رأيت أني أتلو القرآن على سيدنا علي بن سعيد الشريحي القارئ المشهور بمدينة صنعاء-حرسها الله تعالى- فوصلت إلى قوله تعالى{إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ}فقال لي: قف على هذه الآية، فقلت له: تريد إلى تمام السورة؟ فقال: في هذه كفاية، وغير ذلك لم أذكره، والرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، ولشدة ما قاسينا من الضجر ومهاجرة النوم ومحالفة السهر، خطر بالبال وصف ذلك الحال، بما ضمنته في هاتين القصيدتين وإن لم يكن ذلك من بضاعتي، غير أنه مع قصور حاله من النظم المنتظم، ينزل منزل النثر الملتئم، هما هاتان:
الأولى:
على كل سعي في الصلاح ثواب .... وكل اجتهاد في الرشاد صوابُ
وليس على الإنسان إدراك غاية .... ودون مداها للغيوب حجابُ
ولو علم الساعون غاية أمرهم .... لما كان شخص بالشرور يصابُ
فقل لأمير المؤمنين لقد دعا .... وحق له بعد الدعاء يجابُ
ولكن دعا قوماً يظنون أنهم .... رموا غرضاً في دينهم فأصابوا
تراءى لهم لمع فهم يحسبونه .... شراباً فأضحى ذاك وهو سرابُ
يقولون إن الله جل جلاله .... هو الروح عيسى إن ذا لعجابُ
وحينا وقالوا بالأقانيم قرنه .... فتحصرها ضبط لهم وحسابُ
وقالوا هي الرب الثلاثة كلها .... بذلك أفتت فرقة وأجابوا
[95/أ] ولكن يقولون الثلاثة واحد .... ومن لتكميل الإله نصابُ
وهذا ضلالٌ بينٌ وجهالة .... تقطر منه الصم وهي صلابُ
عذيري من دين خسيس مآله .... نكال وخزيٌ دايمٌ وعذابُ
لقد ضاق ذرعي لإحتباس بأرضهم .... وكُدِّرٍ فيَّ مطعم وشرابُ
وحبب أوطاني إليَّ بأن لي .... بها خيرة طاب الزمان وطابوا
وللعدل والتوحيد فيهم مسارحٌ .... وريعٌ منيعٌ شامخٌ وجنابُ
فهل لي إلى تلك المنازل عودة .... وهل لي إليها مرجع ومآبُ
وهل أَردَن للشرع مورده الذي .... يدل عليه سنة وكتابُ
وهل أسمعن صوت المنادي جمعة .... ينادي بأعلى صوته فيجابُ
وهل أنظر الدار التي ضربت لها .... مدارس علم حولها وقبابُ
وهل يُسعدن دهري إلى نيل مطلبي .... فما لي منه غير ذاك طلابُ
فإن لم يكن يادهر عتبي فطالما .... عتبت فلم ينفع لديك عتابُ
ولكنني أقفو مقالة شاعرٍ .... فللقول حكمٌ بالغٌ ولبابُ
إلى الله أشكو بيني في منازلٍ .... تحكم في آسادهن كلابُ
تمر الليالي ليس للنفع موضعٌ .... لدي ولا للمعنفين جنابُ
أرى الكفر مكشوف القناع وأهله .... يظنونه خيراً فخاب وخابوا
فشمر أمير المؤمنين لحربهم .... فهم بقد البيداء وأنت عُقابُ
وأنت سليل القاسم القايم الذي .... رمي شهبه أهل الضلال فغابوا
إذا طلعت منهم طلايع ماردٍ .... تلقاه من تلك الرجوم شهابُ
ونادي بني المنصور من آل قاسمٍ .... تجدهم ليوث الحرب ليس يهابوا
وقل يا بني الهادي أجيبوا إمامكم .... تجيك شيوخ منهم وشبابُ
يفادون بالأرواح دون إمامهم .... ويصدق طعن منهم وضِرابُ
وناد بأبناء المكرم حمزة .... تجبك سيوف منهم وحرابُ
إذا أصبح الأعداء منهم سرية .... أصابوا بها جيشاً وليس يُصابوا
ولا تنس أشراف القواسم إنهم .... أسود لديها صولة ووثابُ
هم السم للأعداء يرون قتالهم .... يسيراً وإن قالوا الحراب صعابُ
وناد بني الجون الكرام بأسرهم .... لتجلب خيل منهم وركابُ
هم القوم كل القوم يا أم مالك .... على الحرب شب الأصغرون وشابوا
ومن كان من آل الحسين فإنهم .... هم الغلب يوماً كان فيه غلابُ
أولئك أبناء الشهيد الذي به .... أصبنا وكم غمّ القلوب مصابُ
ومن بعد هذا ناد من كان يقتدي .... بزيد إماماً حب ذاك صحابُ
[95/ب]فهم نعْم أشياع لآل محمد .... ونعم رجال النايبات حسابُ
إذا أقبلت يوماً طوائف جمعهم .... تضيق بهم عن بسطهن رحابُ
فحسبك بعد الله من قد ذكرته .... ويمطر بالنصر الغزير سحابُ
ولا تسمعن قول العذول فربما .... يشير بقولٍ بالخمول يسابُ
نقول بلاد الكافرين بعيدة .... وقد حال من دون البعيد عبابُ
وكُل مُشير لا يرى غير ظنه .... وليس على ما يقتضيه يغابُ
ورأي الذي قد شاهد الحال راجحٌ .... على رأي من لم يشهدوه وغابوا
ولله علم سابق في أمورنا .... فما كان فيه ليس عنه ذهابُ
فيا رب وفقنا وأيد إمامنا .... فأنت لكل في الأمور مُثابُ
وصل على المختار والآل ما جرى .... على كل حال في الزمان خطابُ
وأصحابه الغر الذين مشوا على .... مناهجه في ما ندين وجابوا
وهذه الثانية:
من لقلب ولطرف ماهج .... ولصب لم يزل حلف الوجع
ولمحزون نأى عن داره .... ومن الأحباب كيف المرتجع
كل يوم وله من همه .... ما أطار النوم عنه ووزع
وأشاب الرأس من أهواله .... وتحلى بالحلى بعد الصلع
أنكرت عيني ما تألفه .... وتجافى الجنب طيب المضطجع
ولقد زاد فؤادي وصبا .... ما رأت عيني من أهل البدع
سرت في أرضٍ قليل خيرها .... وكثير الشر فيها يصطنع
أهلها صنفان أما فرقة .... فنفت خالقها مع ما صنعْ
جعلت رباً نبياً مرسلاً .... جاء بالحق وبالصدع صدع
ثلثوه وهو رب واحدٌ .... جل عن ذلك ربي وارتفعْ
لم يلد ولم يولد ولا .... شاركه أحدٌ فيما ابتدعْ
إن رباً صلبوه عنوة .... بيد الأعداء ما فيه طمعْ
قهروه وهو رب قاهرٌ .... بطل الوصف بهذا واندفعْ
قد زعمتم ذاك فيما بينكم .... كيف رب ظلموه ما منعْ
وجهلتم أن ربي صانه .... وإلى السبع السماوات طلعْ
جاءكم عيسى بقول بينٍ .... سمع البعض وبعض ما استمعْ
إ'نه عبد نبي مرسلٌ .... دينه التوحيد لكن لم يطعْ
إن ديناً هذه أحكامها .... ضيق ليس به من متسعْ
يفضح الإنسان إن دان به .... ويريه الخزي في يوم الفزعْ
[96/أ]ورأينا فرقةً ظالمة .... تركب الفحش وتأتي بالقذعْ
تدعّي الإسلام لكن ما درت .... شارع الإسلام ما كان شرعْ
ينظر المنكر في ساحاتهم .... وعليه الناس جمعاً وجمعْ
لا ترى لله منهم طاعة .... سيما الاثنين وايام الجمعْ
رب مشغول بأسباب الهوى .... تبع اللهو تراه يتبعْ
عشق الخمرة لا يثنيه عن .... حبها لاحٍ ولا عنها نزعْ
أبداً لا يرتجى توبته .... وإذا ما استرجع فيها ما رجعْ
وإذا بصرته سبل الهدى .... فبعينيه عن الرشد قمعْ
قلبه الأغلف في حيرته .... ختم الله عليه وطبَعْ
آمنوا بالخبث من طاغوتهم .... فهو في فصل الشجار المنتجعْ
ما لقول الله أو قول النبي .... أبداً عندهم من مستمعْ
آه من حزن لدين المصطفى .... قد رأيناه على ضلع ربعْ
فلعل الله يرفعه .... ويُرى الكفر يقيناً قد خضع
ويديل الحق من أعدائه .... وضليع الكفر يضحي قد ضلعْ
بيد القائم نجل المصطفى .... الإمام الندب زين المجتمعْ
صفوة المنصور منصور اللواء .... خير من صام وصلى وركعْ
كم جموع للخنا شتتها .... وشتات في رضى الله جمعْ
يا بني المنصور أنتم عصبة .... أسد حرب ليس تثنيها الجزعْ
فانصروا الداعي منكم واذكروا .... يوم بدر ثم ردوه جذع
فالذي قام به والدكم .... وجبال الكفر فيه قد صرعْ
والفتى أن يتبع والدهُ .... فهو شيء لم يكن بالمبتدعْ
جاهدوا الكفار في الله فقد .... شمت برق النصر عن ذاك لمع
طهروا بيعتهم عن رجسهم .... فعسى تطهر هاتيك البيع
أنتم كالشهب مثلاً قاله .... جدكم والشيعة أمثال الفزع
قل لمن فاخر آل المصطفى .... هل محل يُرقى يا لكعْ
فهم حراس دين المصطفى .... وبهم من عاند الشرع انقمعْ
وصلاة الله مني ما سرى .... في الدجى برق وما الطير سجعْ
تبلغ المختار عني دائماً .... وعلى عترته أهل الورعْ
وعلى أصحابه أهل الهدى .... أبداً ما الجو بالسحب التفعْ
انتهى.
ثم عدنا إلى حديث أيام إقامتنا، وما كنا عليه في خلالها[96/ب] من النجدة والصلابة وما ألقاه الله عز وجل في قلوبهم من الجلالة والمهابة، إظهاراً لهذا الدين على ساير الأديان، وإكراماً لأهله بما أظهره لهم من عظيم السلطان، وكم أعدَّ من الأشياء التي يحاولون أن يدركوها منا فيظهر لهم عجزهم، ويهون على ذلك عزهم، ولا يمكن أن يقال أنهم يتقاصرون إكراماً لنا، فقد عرفنا من حالهم خلاف ذلك، وإنما هممهم قاصرة، فإن أحدهم قد يرى بالآخر منهم ما يقتضي منه طلب النصرة له، والدفع عنه فيحيد عنه جانباً ويولى عنه هارباً ولا يلوى عليه، ولا يلتفت إليه، ولا أن يقال أيضاً: إن ذلك لأجل قوة معنا ندفعهم بها، فذلك مما لايقال، على معدود من صريح المحال فلم يبق إلا أن ذلك من فضل الله علينا، وتشريفه لدينا، فلقد كان في بعض الأيام، واتفق أن امرأة من المسلمين استحوذ عليها الشيطان، وزين لها الكفر على الإيمان، فارتدت وتنصرت، ولها ابنتان لرجل مسلم من أهل مسوع تزوج تلك المرأة هنالك، فاولدها هاتين الابنتين، ولهما أيضاً خالة أخت هذه المرأة المرتدة، فهربت بهما خالتهما، ووضعتهما في بيت رجل من أصحابنا الذي هو نازل فيه، فجاءت أمهما التي ارتدت عن دين الإسلام بجماعة من رجال النصارى، ونحو اثنى عشر رجل من كبارهم وأشرافهم، فلما انتهوا إلى باب ذلك البيت الذي فيه ذلك الرجل من أصحابنا، خرج إليهم وحده منفرداً يريد أن يخاطبهم بما يليق من الكلام، وتحسن محاورتهم في ذلك المقام؛ إلا أنه استصحب سيفه في يده، فما هو إلا أن رأوه خارجاًٍ إليهم فولوا ظهورهم هاربين، يشتدون
عدواً شديداً، وخطواً مديداً، ولما علمنا بذلك أعتقدنا أن مثل هذا لا يسكتون عنه، فأمرنا بإدخال هاتين الابنتين في البيت الذي نحن فيه، وانتظرنا ما يجيء إلينا في شأنهما من الملك أو من بعض وزرائه، فلم يذكر لنا من ذلك شيء، وقد شاع خبر تلك القضية في مجالسهم وتحدثوا بها عند رؤسائهم، وأمرنا بمصير هاتين الابنتين إلى أبيهما إلى بندر مسوع، على يد الأمير عبدالوهاب رسول باشا الأتراك، صاحب سواكن المقدم ذكره، والحمد الله الذي أعزنا بدين الإسلام عن ساير الأديان، وشرفنا بشرفه السديد الأركان، الباذخ البنيان، وهو المسؤل أن يختم لنا رضوانه، ويشملنا بعظيم فضله وإحسانه، بحق محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وبهذا يتم ما أردنا ذكره أيام اقامتنا بحضرة الملك، بعد تمام تسعة شهور ألقى سبحانه وجل في قلبه الإذن لنا على تلك الشريطة[97/أ] التي ذكرناها، وأمر معنا ثلاثة من كبار أهل حضرته يسيرون بنا في بلاده للقيام بما نحتاجه من الضيافة المحتومة، ثم توجهنا من حضرة الملك في آخر شهر القعدة الحرام من عام ثمان وخمسين وألف سنة.
ولما انفصلنا من المدينة قدر عشر مراحل، انقضت مسافة أحد الثلاثة المأمورين بمصاحبتنا، وقام بنا فيها ذلك الرجل أحسن قيام، وفعل ما أمر به الملك مع زيادة عليه في الإكرام، ثم اقتضت النوبة إلى الثاني منهم، فبقى معنا تلك الليلة التي هي أول نوبته، ثم فارقنا من اليوم الثاني، وتقدم يقبض الضيافة من الناس، ويأخذها لنفسه، وتركنا وراء ظهره، ولم نجد من يقوم بتضييفنا، ولا ما نرجع إليه لنفقتنا، ومعنا نفوس كثيرة من الرقيق والخدامين، قد صار عددنا يزيد على مائة نفر فلم نجد طريقاً غير الإعتماد على الله عز وجل، وعلى تناول ما يقوم بنا في النفقة في كل قرية مما نجده فيها، وكنا على ذلك كلما وصلنا قرية طلبنا أهلها، وعرفناه بمقدار ما أمر به الملك من الضيافة، فإن سلموها أخذنا منهم، واكتفينا بها عن غيرها، وإن تمردوا عنها سلطنا عليهم من كان معنا فياخذون كفايتهم، ولا يفوتهم منها شيء، وكنا قد أعددنا معنا من سلاسل الحديد التي يربط بها أهل الجرايم حتى يسلموا ما نحتاجه، وقد كان وقع في بعض الرقيق معنا ألم الجدري فاحتجنا إلى اعداد من يحملهم على سرر رفقاً بهم، وحفظاً لهم عن اضاعتهم في أيدي الكفار، وكنا لا نقوم من القرية التي ندخلها إلا وقد قربوا منهم تسعة أنفار لحمل هؤلاء المرضى من قرية إلى قرية لا نعذرهم عن ذلك،، ثم إنا نربط رئيس القرية بالحديد ونسيره تحت الحفظ معنا، ولا نطلقه من أيدي العسكر إلا وقد وصلنا القرية الأخرى ووصل جميع أثقالنا كاملة سالمة، وهلم جرا، ولو لم نفعل ذلك لهلكنا جوعاً، ولذهبنا بأيدي الكفار:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً ... فلا أرى للمضطر إلا ركوبها
ولقد حاول أهل القرية الإمتناع منهم بالهرب، فأمرنا نساءهم بالحمل، وأجبرناهن على ذلك، فلما عرفوا صدق العزيمة رجعوا إلينا مغلوبين مقهورين، وليس مثل هذا يخطر على بال أحد من الناس أنه يتم عليهم مثل ذلك لمثلنا، على أنهم لو اجتمعوا على هلاكنا لم يشعر الملك بشيء من علم ذلك لبعده عن الإطلاع وقعود وزرائه[97/ب] عن مسالك الأبصار والأسماع، فلا شك ولا ريب أن تمام هذه الأمور لنا وظهورنا عليهم إلا بشرف الإسلام، وسر هذا الإمام -عليه السلام- وعلى جده وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام، واتصل سيرنا على هذه الصفة قدر خمس وعشرين مرحلة، وبعد تمامها انقضت مسافة ذلك المأمور المتمرد، ثم أفضت النوبة إلى الثالث منهم فتلقانا بأحسن ما يجب وأكرمنا بأفضل ما نحب، وفعل بما أمر به الملك مع زيادة إليه، وصير إلينا من الزاد ما يبلغنا إلى بندر مسوع؛ لأجل المفازة المتوسطة بين (مسوع) و(دباروى) وهي قدر عشر مراحل للقوافل، وأقمنا في بلد (دياروي) قدر اثنى عشر يوماً نصلح ما نحتاج من أمورنا، ونستزيد ما لا بد منهم من الزيادة التي على زادنا، وكانت القاعدة المتعامل بها أن القوافل إنما تسير من دياروي مع صحبة من السحرات المتصلين بهذه المفازة، وكان من الإمتحان أن وقع عزل الأمير صاحب دباوري مع وقوفنا فيها، فضاق بنا الحال، والجأنا تضايق الأمور إلى سرعة الإرتحال، فتوجهنا منه بغير صحبة ولا دليل، إلا الله عز وجل فهو حسبنا ونعم الوكيل، وهون علينا تلك الشدة ما بلغ إلينا أن مولانا أمير المؤمنين المتوكل على
الله -أيده الله تعالى- قد أرسل رسولاً قاصداً باشا الأتراك صاحب (سواكن) يأخذ لنا منه الأمان، وأمره أن يقف في بندر مسوع حتى نصل إليه فأسرعنا بالسير لما بلغ إلينا ذلك وحمدنا الله عز وجل الذي يسر لنا هذه المسالك، ولما توسطنا في هذه المفازة بلغ إلينا أن جماعة من الأشرار من بدو النصارى مجتمعون في جانب الطريق يريدون اعتراضنا وقد طمعوا فينا لما بلغهم انفرادنا، فأرسلنا رسولاً من أهل الخبرة بالطريق إلى نايب الباشا في بندر مسوع وكتبنا إليه نخبره بما بلغ إلينا من خبر هؤلاء البدو، وما يريدونه من التعدي والعزم على الإقدام إلينا، وبسط الأيدي، وبعد أن نفذنا ذلك الرسول لم ننتظر عود الجواب في ذلك المحل؛ لأنا رأينا البقاء فيه مخاطرة، فلم نجد بداً من السفر والتوكل على الله عز وجل، فلما بلغنا ذلك المحل الذي بلغنا أنهم راصدون فيه، رأينا القوم قد اجتمعوا حول مصرام لهم كبير جمعاً كثيراً، وقد كنا أرسلنا إليهم رجلاً من المصاحبين لنا من أهل الحبشة يخادعوهم في القول، ويلين لهم العبارة، ويطمعهم بشيء من المال، ويكلمهم أن يصحبنا منهم جماعة من كبارهم إلى المحل الذي نريد النزول فيه تلك الليلة[98/أ] وهو قريب من هذا المصرام الذي هم فيه يعلمون أنا لا نفوتهم بالتجاوز إليه، ومرادنا بذلك اطماعهم بالقول، ومطاولة الحديث معهم حتى يرجع إلينا الجواب من أمير مسوع، فأثر فيهم ذلك القول ونقض عليهم ما كانوا أبرموه، واطفأ من لهبهم ما كانوا أضرموه، لولا أنه وقع من بعض أصحابنا ما هيجهم، وأثار حفايظهم، فرجعوا على ما كانوا عزموا عليه من العدوان، وعزموا
على اتباع ما زينه لهم الشيطان، فتركونا حتى تولينا عنهم قليلاً، ثم صرخ صارخهم واحتملوا علينا من جهة اليمين والشمال، ونظرنا إلى ما حولنا من الجبال فإذا هي تسيل بالرجال، وكان غاية همنا حفظ الرقيق خشية أن يسبوا من هو على ديننا، فلما اتصل بنا أوايلهم يتذامرون ويتعادون كأنهم السباع الضارية فرمونا بالحراب من أيديهم ودفعوها دفعاً تعدى حتى تعداهم فأصابوا منا رجلاً ووقع في فرس من خيلنا حربتان، فرمت عليهم البنادق وبأيديهم أتراس متسعة تستر جميع أبدانهم فهم يظنون أنها تدفع عنهم رمي البندق، فوقعت رمية في أحدهم فخرقت ترسه وأصابته في شقه الأيسر حتى خرقته فألقته على جانبه وأثرت فيه تأثيراً هايلاً أرهبهم وأرعبهم، فأنكسرت سورتهم، وانفلتت شوكتهم، ومالوا عنا حتى لذنا بأكمة عالية، وجمعنا فيها أثقالنا، ثم أمرنا العسكر أن يقفوا بالبنادق على أطراف تلك الأكمة، وهم قد أحاطوا بنا من كل جانب، ولكن الله عز وجل ملأ قلوبهم هيبة، ورجع أمرهم بالإخفاق والخيبة، فلم يجسروا على الإقدام علينا والوصول إلينا وإلا فإنهم قد بلغوا نحو خمسمائة رجل أو يزيدون على ذلك سوى من جاء إليهم من آخر ذلك اليوم فإنهم بلغوا جيشاً عظيماً وعدداً كثيراً، فأرسلنا إليهم ذلك الرجل الذي كنا أرسلناه إليهم المرة الأولى، وقلنا له أعرف ما يريدونه منا فإن يكن المال فقل ما شئت وابذل لهم ما رأيت، وإن يكن النفوس فأخبرهم عنا أن الموت ليس باليسير، وإن الهالك منهم بعون الله العدد الكثير، فاتفق الرأي بيننا وبينهم على أن يأخذوا علينا عهداً ونأخذه على كبارهم كذلك بالأمان وعدم
العدوان، ثم نرجع معهم إلى بلدهم وقد كنا جاوزناها بميل ثم يقع الإصلاح هناك على تسليم شيء من المال، فرجعنا معهم إلى بلدهم، ونحن مع ذلك غير واثقين بعهدهم فإن الله عز وجل يقول في أمثالهم: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } وبتنا معهم تلك الليلة، وجاء إلينا كبارهم يخوضون معنا، حتى أصبح الله بالصباح، ونحن نحاورهم ونجاهد مشقة السهر مع خوف الغدر[98/ب]منهم فإنهم مع ذلك قد أحاطوا بنا من جميع الجوانب، وأشعلوا النار من جميع الجهات، فلما كان نهار اليوم المسفر عن تلك الليلة رجع جواب أمير مسوع، وخرج العسكر نحو مائة نفر فيها خمسون بندقاً،.
ولما وصل الرسول بالجواب، وأخبرنا العسكر من الأتراك قد خرجوا في أثره، بدد الله شملهم، وفرق جمعهم، ودفع عنا كيدهم ومكرهم، وكان ذلك من الفرج بعد الشدة، والحمد لله الذين خلصنا من كيدهم سالمين، ونجانا من القوم الظالمين، ثم إنا لما انفصلنا عنهم وهم مجتمعون ذلك الإجتماع ومطبقون نواحي تلك البقاع أرسل الله عليهم جيشاً من أعدائهم، وأحاطت بهم النقمة من بين أيديهم ومن ورائهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم كانت الدائرة على هؤلاء الباغين علينا، والغلبة لعدوهم عليهم، أنتهبوا أموالهم، وقتلوا رجالهم، وسبوا نساؤهم، حتى لقد رأيناهن في سوق بندر مسوع يبيعونهن في عقب وصولنا إليه، وشاعت هذه القضية هنالك، وتحدث الناس من أهل الإسلام في مسوع أن هذه القضية من كرامات إمامنا -عليه السلام- ولا شك ذلك، ولا ريب، فإن حقه على الله أعظم من ذلك، وكم دفع الله عنا ببركته من المهاوي والمهالك.
ولما اتصلنا بجماعة العسكر الواصلين من مسوع، ووجدنا رسول الإمام الذي قدمناه قد خرج مع أولئك العسكر، فسر بوصولنا واستبشر، وحمد الله على ذلك فأكثر، وعلمنا أن الله سبحانه قد نجانا من شر الكافرين وكيد الكايدين، وأوجد الله سبحانه وتعالى في قلوبنا أنساً وطمأنينة، وأبدلها عما كانت فيه من القلق وقاراً وسكينة، وارتحلنا نحن وجماعة العسكر جميعاً في ذلك الحال إلى بندر مسوع، فسرنا بقية يومنا ذلك، وفي اليوم الثاني دخلنا بندر مسوع وقت انتصاف النهار، فتلقانا النايب فيه بأحسن الكرامة، وأسنى ما نحب من البشاشة التي هي دليل رعاية العهد وعنوان السلامة، وأقمنا هنالك ثمانية أيام نهيء ما نحتاج إليه في سفر البحر، وبعد انقضاء تلك الأيام ركبنا في ثلاث سفن متوجهين إلى ساحل بندر (اللحية) فوصلنا إلى جزيرة (دهلك) وتحيرنا فيه قدر أربعة أيام لعدم استواء الريح، ثم بعد ذلك تيسرت الريح المناسبة، فتوجهت الجلاب قاطعة عرض البحر من جهة المغرب إلى جهة المشرق، وعزم ربان السفينة على السفر ليلاً ونهاراً مع الإقتداء بالنجوم التي يهتد بها في ظلمات البر والبحر فسافرنا ذلك اليوم والليلة التي تليه واليوم الثاني إلى وقت العصر، ثم طلع علينا من أمامنا من جهة اللحية سحاب متراكم وثار[99/أ] مع ذلك الريح العاصف المهيج موج البحر المتلاطم، فما زال يقرب منا فإذا البحر قد اضطربت أمواجه، وماجت جوانبه وأثباجه، وأمطرت السماء بما شاء الله أن تمطر، فاجتمع هول المطر مع هول ذلك الريح الذي صرنا معه إلى أعظم خطر، وأهل الجلبة يعالجون أعمالهم، ويتفقدون أحوالهم، وهم ينتظرون
انفراج الشدة في أقرب مدة، فطال عليهم ذلك حتى ضعفت قواهم وتفاقم الأمر، وعظم الحادث، وجارت الألسنة بالدعاء إلى الله عز وجل، والتوسل إليه بكل ذي حق عليه أن يفرج عنا ذلك الهول الأهول، ودام علينا ذلك المطر تلك الليلة مع اليوم التالي لها مع الليلة التي تليه، فكان دوامه ليلتين ويوماً، وكان معنا في هذا السفينة زورق صغير، فرسب في البحر لما امتلأ ماء فجذب السفينة لما كان مربوطاً إليها، وقد كان ربان السفينة وثب منها إلى هذا الزورق ولا ندري بمراده من ذلك، فلما رسب الزورق في البحر تعلق الربان بجانب السفينة وصرخ بصوته إلى أصحابه يستنقذونه فلم يجبه أحد لما نزل بهم من الهول، وأصابهم من ذلك الحادث الذي سلبهم الحركة، وأخرسهم عن القول، فوثب إلى ذلك الربان رجل من أصحابنا فتناوله إليه وأطلعه، وقد أشرفت السفينة على الغرق بسبب جذب ذلك الزورق، فأخذ ذلك الرجل من أصحابنا سفينة وقطع حبل الزورق فانفصل عن السفينة وذهب في البحر.
ثم إن الربان أمر بإلقاء الأحمال من الأثقال التي في السفينة، فألقوا في البحر ما وقعت أيديهم فيه حتى حصل التخفيف، ثم إنا فزعنا مع ذلك إلى الدعاء والتوسل إلى العلي الأعلى، وقد بلغ بنا الحال إلى ما لا يعلمه إلا ذو العزة والجلال، فما برحنا نسأل الله عز وجل بحق محمد نبيه المرسل، وبحق إمامنا المتوكل على الله وساير أهل بيت رسول الله حتى انفرجت عنا الشدة وقد أيقنا بحلول البأس، وضاقت النفوس حتى كادت تخلد إلى اليأس، وأما السفينتان الأخريان، فإن الموج رما بهما إلى جزاير في البحر. وما يزال يحول بهما يميناً وشمالاً حتى لقد تأخرنا عن خروجنا أربعة أيام لا ندري ما هما فيه، والظاهر من الحال أن الريح كانت عندنا أشد؛ لأنا كنا قد تقدمناهما بمسافة كثيرة، وهما سفينتان صغيرتان لا شك أنهما لا تقويان على ما نزل بنا من ذلك، وإنما هي في حكم هذا الزورق الذي غرق في البحر، ولما فرج الله هذه الشدة وسرنا بعد ذلك في البحر يومين كاملين، ودخلنا مرسى اللحية حامدين الله عز وجل، معترفين أنه تبارك وتعالى[99/ب] قد شملنا بفضله فأجزل، وأسبل علينا نعمه فأكمل، فالحمد لله حمداً يصعد أوله ولا ينفد آخره، ويتواصل ويتجدد حتى يرضى ربنا كما هو أهله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولما وصلنا بندر اللحية أسرعنا برفع الخبر إلى مولانا أمير المؤمنين -أطال الله له الأيام والسنين- فكان ذلك لديه أعظم مسرة، وأشرف مبرة، ورجع إلينا جوابه مشتملاً على مقبول الدعوات، ناطقاً بما أجنه ضميره من التحنن الذي نجانا الله به من عظايم الآفات، وتوجهنا إلى حضرته الشريفة تجذبنا أيدي الأشواق، وتمد إليه ركايبنا الأعناق، مؤثرين زيارته على الأهل والأولاد، مسارعين إلى التملي بكريم غرته التي جعلها الله عز وجل قبلة للعباد، وأسعدها باليُمن والإسعاد، فكان وصولنا إليه -أيده الله تعالى- رابع شهر ربيع الأول وخمسين وألف سنة على تمام أحد وعشرين شهراً منذ فارقناه حتى وافيناه:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
فاستبشر بنا -أيده الله تعالى- كما استبشرنا به، وأكرمنا بأفضل ما يكرم به الغايب عند إيابه، وتلقانا بما لا مزيد عليه من مكارم الأخلاق، وبما هو أهل من الشمايل المنطلقة بالفضايل على الإطلاق، وأحسن -أيده الله تعالى- في كرامة أولئك العسكر المصاحبين أتم الإحسان، وصنع إليهم من صنايع الفضل أحسن ما يريده الإنسان، وينطلق به اللسان، وما عند الله خير للأبرار، وثوابه تبارك وتعالى على مثل ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار، وهاهنا ينتهي ما أردناه وينقضي ما أردناه والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبفضله تدرك الإيرادات، ونصلي على نبيه وعلى آله أفضل الصلوات، ونسلم عليهم أجمعين من يومنا هذا إلى يوم الدين، ونستغفر الله العظيم من فرطات اللسان وهفوات الجنان لنا ولوالدينا ولجميع إخواننا من المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العل العظيم.
قال القاضي شرف الدين -أيده الله- في عنوان هذه النسخة ما لفظه: الحمد لله وحده، لما طلع مولانا السيد العلامة إمام الحفاظ، المتصرف بمعاني الألفاظ، ضياء الدين، صفوة العترة المطهرين، إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى الجحافي-حفظه الله تعالى- على هذه الأوراق أشاد ذكرها بما راق وفاق، فقال -حفظه الله-:
اسم سرح طرفك في ذي الجنان .... ورد كوثر الطرف عذب المعاني
وشاهد بدايع هذا الزمان .... فيما حكاه بديع الزمان
[100/أ] تجد نزهة العين والقلب في .... محاسن يحكي ثغور الحسان
بلفظ يفوق حنان الجمان .... ومعنى ينيل بلوغ الأماني
وزادت محاسنها بهجة .... بما ضمنت في إمام الأوان
إمام تفرد بالمكرمات .... فليس له في معاليه ثاني
حمى الدين بالحجج البينات .... وبالمرهفات معاً والسنان
فدين الإله به في حمى .... وأهل الزمان به في أمان
انتهى.
قلت: لا أدري من أي الأمرين أعجب، أمن حرص الإمام -عليه السلام- والدعاء إلى سبيل الملك العلام، حتى طمع في إسلام أعظم ملك من ملوك الكفار الذي يأس منه ملوك الأقطار، من الروم والهند وغيرهم من الملوك الكبار، مع المشاهدة لأحوال من يدعي إلى ما ألف من الضلال، الذي لا دليل عليه إلاَّ تقليد أغتام الرجال، فإنك ترى الواحد منهم يزايل عن القول الباطل، والملك الضيق العاطل، الذي لا يتمارى في بطلانه عاقل، فما ذلك إلا لما جعل الله سبحانه في قلب هذا الإمام الطاهر، من الحنو والشفقة على دينه الظاهر، وما منحه سبحانه وتعالى من الفتوح المتواتر، والنصر القاهر، فذلت له لذلك الرقاب، وتسهلت له الصعاب، مصداق ذلك ما حكاه القاضي العدل المذكور -أيده الله- مما تراه في أخباره من ذكر عظمة الإسلام في ديار الكفر القمين، الذين وصفهم الله في كتابه المبين بأنهم كما قال ولا الضالين، وما جعل في قلوبهم من الهيبة والجلالة لزعيم الإسلام والمسلمين، وولد سيد النبيين والمرسلين-أيده الله- كما أيد به الدين، اللهم، آمين.
أم من عزيمة القاضي الحبر، والغرة الصدر -أيده الله- والمضي إلى ديار الجاهلية النائية، ومحال سلاطين النصرانية، فاقتحم الأخطار في طاعة الله بطاعة إمامه، وخاض البحار وجاب القفار، ليبلغ عن الله سبحانه، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وخليفته -عليه السلام- بالغ أحكامه، فما أشبه حال المُرسِل والمُرسَل بحال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، وحال من بعثه للبلاغ وأرسل، مما رواه أهل السير والآثار أنه صلى الله عليه وعلى آله الأطهار كتب دعوته إلى ملوك الأقاليم، فأخبرهم عن الله سبحانه بما[100/ب] أمره به وأمر رسله الذين من قبله بالبلاغ إلى كل جبل واقليم، فانتدب لذلك من انتدب، بعد أن دعاه إلى ذلك نبي الله وقرب، فساروا لما أمروا أفراداً وأزواجا، وقطعوا ظلمات الشرك بضياء الإسلام الذي جعله الله سراجاً وهاجا، وهذا من ذاك، والحمد لله رب العالمين.
نعم! ومما أخبرني مولانا أمر المؤمنين -حفظه الله وأيده- إنه وصل إليه فقيه عالم صالح ناسك مفلح اسمه [....] إنه خرج من مصر إلى الحبشة أو إنه سمع منهم وأحسبه قال: ومن غيرهم من النصارى عظم موقع وصول القاضي شرف الدين -أيده الله- إلى تلك البلاد، وقوة ورعه، واحتياطه، وصدق عزيمته، واثار الحسن في الإرشاد إلى عز الإسلام، والغنا عن الحطام، ما ملأ الأسماع سروراً، والقلوب حبوراً، والإسلام قوة وظهوراً، حتى كان هذا الفقيه يدعو للقاضي على سماع الإستمرار.
وأخبرني الولد الحسن -أسعده الله- أنه لقي بعد عوده من المدينة النبوية والزيارة لخير البرية ً فقيهين من أهل مصر على مذهب الشافعي -رحمه الله- في بندر جدة ركبا معه في البحر إلى اليمن، قال: فلم أر مثلهما في لزوم مراقبة الله، وتوظيف الأوقات لعبادته، وتلاوة كتابه، والمذاكرة في فنون من العلم، قال: وسألتهما عن سبب خروجهما اليمن، وعن مصر، فقال: إن في مصر علماً ولا نقول إنا العلم لمكان ما فيها من الجور والظلم انقطع، وإنما قل من الفقهاء من لم يكن في جور ظالم من الأتراك فيكون في ظله وبدارته، حتى إنه قد يوجد من الكفار من لم يحتج إلى ما يحتاجه الفقهاء من الجوار، قال: وسألتهما أين يريدان. فقالا: خروجنا اليمن للنظر إلى هذا الإمام ولا غرض غير ذلك فإنا لم نسمع في الأرض بأعدل منه ولا أعلم، أو كما قال.
وأخبرني مولانا أمير المؤمنين -أيده الله- في عام سبع وستين وألف أنه وصله من فقهاء مصر الفقيه الذي ذكرناه من طريق الحبشة، وإنه وصله فقيه على صفته من مصر.
قال -عليه السلام-: وعرفت أنه من أهل العلم، فأمرت له بمكان قريب من الفقيه الأول، قال: فلما حاذى الآخر منزل الأول مال إليه باختياره وصاحب المنزل الأول تلقاه أيضاً، ولا يعرف أحدهما الآخر، وقال الأول: يكون هذا عندي في منزلي، وقال[101/أ] الآخر: كذلك ثم تساءلا، فإذا الآخر ابن الأول، وأنه خرج إلى اليمن يسأل عنه، قال: فتعانقا وبكيا، أظن أن الابن هو الذي ذكره الولد الحسين بن الإمام -عليه السلام- أغفل ذكر الولد المذكور؛ لأنه -عليه السلام- أراد بحديثه أن الأرحام تتواصل وتتعارف في ما أجرى الله من العادة، فلا يبعد أنهما من ذكرهما الولد الحسين والله اعلم.
ومما أخبرني -أيده الله- بأن قال: إن الفقيه المصري لا أدري أهو الأول منهما أو الآخر، سألني أن أكتب له عقيدة واضحة، قال: فحضرني ذلك وجعلته كتاباً أكبر من العقيدة المشروحة بالكتاب المسمى (البراهين الصريحة في شرح العقيدة الصحيحة) وسماه -عليه السلام- ولم أقف عليه.
ذكر معاودة ملك الحبشة بالهدية إلى الإمام -عليه السلام-، في عام اثنين وستين وألف فإنه أعاد على مولانا -أيده الله- المكاتبة ولم أقف على لفظ كتابه، وإنما ينقل عن خط سيدنا القاضي الصدر العلامة الحبر شيخ الإسلام، أحمد بن سعد الدين -أيده الله- جواب الإمام -عليه السلام- عليه وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد الله وسلام على عباده الذين اصطفى، إلى السلطان الملك المعظم، عمدة سلاطين الأمة العيسوية التي هي أقرب الناس مودة للذين آمنوا من الأمة المحمدية، المرجو من الله أن يجمعنا وإياه على كلمة سواء أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به أحدا، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، سجد فاسلداس بن السلطان سجدسينوس سلام الله على من اتبع الهدى، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي ختم به النبيين، وصدق به المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أهل بيته الطاهرين، وأن عيسى بن مريم روحه ونفخه كما خلق آدم بيده، وأقول كما قال رب العزة معلماً لنا في كتابه الذي أنزله، ووحيه الذي فصله أن يقول لأهل الكتاب{وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ، ونرجو أن تكونوا إن شاء الله ممن قال[101/ب] عز وجل فيهم من سلفكم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} .
وإنه وصل إلينا كتابكم بالإعتذار في تأخير رسل الهدية عن رسولنا القاضي حسن -أحسن الله إليه- بما ذكرتم من الأسباب، وإنا لم نختار إرسال القاضي المذكور إليكم لاستمداد شيء من الهدايا الدنيوية التي هي أحقر من أن تذكر، وأهون من أن تؤثر، فإنه يقوم بأمرها أدنى حامل، وأقل راحل، وإنما اخترناه ليحمل عنا إليكم الهدية الدينية، والدعوة الإسلامية المحمدية حين أنسنا منكم القبول، واستدعيتم منا وصول الرسول؛ ليكون وصولنا على أمر الله، وتعارفنا على كلمة الله التي يقول الله عز وجل معلماً لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وبقوله عزوجل {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ، وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ
بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ الله مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} .
فهذه هي الهدية التي قصدناها، والبغية التي أردناها، والغاية التي سعينا إليها، والذخيرة التي حثثنا عليها، ونرجو إن شاء الله من فضل الله أن تكونوا قابلين وبها عاملين، وبسيفها على الأعداء صائلين، ولنا سلف في مثلك جدنا رسول الله ، ولك سلف في مثلها أصحبة النجاشي -رحمة الله عليه- كتب إليه جدنا رسول اللهً:
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، بسلم أنت فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى[102/أ] بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فأقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى.
ولما وصل الرسول بكتاب رسول الله، قال: ما أضخمه إني عليَّ القول وعليك الإستماع، إنك كأنك في الرقة علينا منا، وكأنا بالثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه، ولن نخف على شيء إلا أمناه، وقد أخذنا عليك الحجة من قبلك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور في ذلك الموقع الجز والمفصل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى بن مريم، وقد فرق النبي ً إلى الناس فرجاك بما لم ترجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه، الخير سالف، وأجره ينتظر، فقال النجاشي: أشهد بالله أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وإن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وإن العيان ليس بأشفى من الخبر، ثم كتب النجاشي-رحمه الله- جواب النبيً:
بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحبه، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمته وبركاته، الذي لا إله إلا هو.
أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله في ما ذكرت في أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقاً، وإنه كما ذكرت، وقد عرفت بما بعثت به إلينا وقد مر بنا ابن عمك وأصحابه وشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين،
وإذا كان الأمر كذلك فحق علينا أن ندعوك إلى ما دعا إليه سلفنا، وحق عليك أن تجيب إلى ما أجاب إليه سلفك إن شاء الله، فإن ذلك منا ومنك أنفس الهدايا وأعظن العفايا، وفي مثله يقول ربنا عز وجل{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} هذا وهديتكم هذه التي صحبة رسولكم وصلت إلينا كما ذكرتم في كتبكم، وهي خمسون رأساً من الرقيق الأحمر والأصفر والأخضر، وعشرة رؤوس من السود، وبلغة أخرى بسرج ذهب وعدتها وعذارتها نحاس وقبلناها وصدر في حفظ الله مع رسلكم تقفون عليه إن شاء الله في البيان الصادر طي هذا[102/ب] الكتاب إن شاء الله إلى التوصل على الغرض المطلوب، والأمر المحبوب، ومن الإجتماع إن شاء الله على كلمة الله، والإتحاد في أمر الله، والقول كما علمنا الله عز وجل في قوله {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. انتهى] .
[أخبار بلاد صعدة]
رجعنا إلى أخبار بلاد صعدة، قد ذكرنا خروج مولانا أحمد بن الحسن -أطال الله بقاه- من صعدة المحروسة بالله، وتسلم السيد إبراهيم بن محمد المرة الأولى وبقاؤه في باقم من أعمال بني الخطاب واعتذاره عن الوصول إلى الإمام -عليه السلام- بما تقدم، فلما رجع مولانا أحمد بن الحسن -أيده الله- من صعدة لم تزل المفاسد بين القبايل، فأخذ الإمام -عليه السلام- يتولى إصلاحها ويرسل على أهل كل قضية بما حسم فسادها، وقد قل العسكر عند مولانا، أحمد بن أمير المؤمنين -أيده الله- وتفرقوا، والإمام -عليه السلام- يردهم مرة بالترغيب، ومرة بالترهيب فلم يؤثر، وأرسل عسكراً مرة أخرى، فصلح الحال، واستقامت الأمور.
وقد تقدم ولاية السيد الفاضل العالم المجاهد، أحمد بن الهادي بن هارون الهادي -أسعده الله- في بلاد خولان، وإن الإمام -عليه السلام- قرره عليها، وناط أعماله إلى مولانا أحمد، وجعل في الشام من بلاد بني جُماعة الفقيه، الكامل جمال الدين علي بن صلاح الجملولي كذلك، جعل في رازح السيد الأعلم الأكرم وجيه الدين المهدي بن الهادي المعروف بالهادي النوعة الهادوي كذلك. ثم أبدله بالقاضي الأعلم محمد بن علي بن جعفر الخولاني ، وكان قد حصل في أيام الإختلاف المذكورة أولاً قتول بين القبايل وإحن مع دخول متقدمة، وأن الصدور بينهم لذلك غير سليمة ولا يزال العسكر من عند الإمام -عليه السلام- فمرة إلى بلاد أمْلَح من نواحي المشرق، ومرة إلى نجران وجهاته، وأخرى إلى سحار وإلى عمار وإلى بلاد العر وبني جماعة وإلى بلاد خولان وفي أخبارها طول كبير، وذلك في عام سبع وخمسين وتسع وخمسين، وستين وألف[1647م-1650م].
[تمرد إبراهيم المؤيدي للمرة الثالثة]
قصة نكث السيد إبراهيم في المرة الثالثة ومن صار إليه، ودخول مولانا الحسين[103/أ] بن أمير المؤمنين المؤيد -أطال الله بقاه- بلاد صعدة.
وذلك إن السيد الفاضل أحمد بن الهادي بن هارون، شديد العزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كثير التحري في الأخذ والصرف والإعطاء، وقد كبرت نفوس الكبراء لما يرون من انقياد قبايلهم لهم لحاجتهم إليهم مع الخصومات المتقدم ذكرها، ومع ذلك يرون من الإمام -عليه السلام- الإحسان إليهم والتأليف ولسوابق أهل السبق منهم مع الرفق بهم فازدادوا تكبراً وتصوروا ذلك ضعفاً في الدولة الإمامية فازدادوا شراً وبطراً وتعمدوا السيد أحمد بالأذية، حتى أنه وصل إلى الإمام -عليه السلام- يشكوهم مراراً، ويستعفي من الولاية عليهم كراراً ، فلم يقبل منه الإمام -عليه السلام- وعرف أن ذلك من كبرائهم طمعاً في الإستبداد والتصرف في البلاد، فخرج مولانا أحمد -أيده الله تعالى- من صعدة المحروسة بالله إلى ساقَيْن بمطالعة الإمام -عليه السلام- في عسكركثير، وقد أظهر قوة، وقوَّم من اعوجاجهم ما أمكن، وكان الإمام جهز الفقيه المجاهد بدر الدين محمد بن علي بن جميل في زهاء أربعمائة نفر من العسكر المنصور لأعمال معينة من انصاف المظلومين، مما تكرر ذكره من القتلى والأموال وأخذ المحدثين وعقوبتهم.
وكان أكثر من ينتصب للفساد بلاد خولان، وأذية السيد أحمد بن هارون، الشيخ يحيى بن محمد بن روكان الحي ثم البحري، وقد تقدم في سيرة مولانا الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- أن أخاه الشيخ قاسم الذي انتصب للفساد في صدر خلافته حصل منه وفيه ما تقدم في سيرة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- وإلى آل روكان رياسة أكثر بلاد خولان.
وكان قد وصل هذا الشيخ يحيى إلى مولانا أحمد وأظهر الطاعة والبراءة من السيد أحمد، وكانوا قد أهملوا جانب مولانا محمد وأحدثوا في محطته أحداثاً.
منها: أنهم عقروا من خيله في الليل، فاجتمع لهذه الأسباب أن الإمام -عليه السلام- عين على الشيخ المذكور وبلاده آداباً، فلما وصل الفقيه محمد -أبقاه الله- فتوحش وخاطب إلى مولانا أحمد أنه يسلم ما عليه، ولا يدخل العسكر بلاده، وعرف مولانا أحمد -أطال الله بقاه- أن العسكر إذا لم يدخلوا بلاده ناظرهم غيرهم، فأمر الفقيه بدر بن محمد بالتقدم إلى بلد المذكور وقد طيب نفسه.
فلما لم يجد بُداً من لقاء الفقيه بدر الدين، حشد قوماً وتلقاه للضيافة إلى موضع يسمى الشراة وقدم[103/ب] العسكر إلى الجمعة موضع هناك، وأقاموا نحو الشهر والمفاسد تكثر، فعاد الفقيه إلى الشراة وهو المحل الأول فتلقاه الشيخ المذكور، وطلب تفرق العسكر للضيافة، فأجابه الفقيه بدر الدين إلى ذلك بشرط أن يكونوا قريباً منه لخشية ما وقع، وهذا الشيخ قد أطمع قبايله وحلفائه في حط ما هو عليهم من حق الله سبحانه وتعالى، وهون عليهم أمر العسكر فلم يفعلوا فيهم معروفاً، وطال على العسكر عدم الإنصاف لهم فحصل ما بين جماعة منهم وبعض القبايل اختلاف على شيء يسير طلبه العسكر علفاً لدوابهم فقتلوا من العسكر نفراً أو نفرين وبلغ الفقيه بدرالدين، فأخذ حذره على من بقي عنده (من العكسر وحفظ من كان عنده) من أهل البلاد ليستخرج بهم العسكر المختارين فحال بينه وبينهم القبايل، وقد قتلوا من أهل البلاد أنفاراً، بأن رماهم العسكر المختارون وتكاثرت عليهم القبايل وقتلوا أولئك المختارين من العسكر وكانوا ثمانية عشر نفراً فأمر الفقيه بدر الدين بقتل من عنده من المحبوسين، وخرج العسكر المنصور، فاقتطعوا جماعة من القبايل فقتلوا منهم نحواً من أربعين نفراً، وسار الفقيه بدر الدين في أصحابه إلى موضع يسمى الشراة، ودخلوا البيوت وتحصنوا فيها وقد أخذوا ما يحتاجون إليه من الأقوات، ثم إنها أقبلت عليهم جموع القبايل فحاصروهم فكادوا يهلكون من الجوع، ولم يكن عند مولانا أحمد كثرة عسكر لاستدراكهم، فاحتال على يد السيد أحمد في ايصال المدد إليهم دقيقاً وطعاماً وإداماً فوصلهم على
مشقة ومخاطرة، وبلغ الإمام -عليه السلام- ذلك، فأمر النقيب المجاهد سرور بن عبدالله فيمن حضر من العسكر المنصور، وكان [قد] وصل في ذلك اليوم أو قبله بيوم، أو يومين من سفر الحج الميمون وكان إليه النوبة في ذلك العام فكانوا أكثر من خمسمائة، وأمره بالمدد ثم إن الإمام -عليه السلام- طلب العسكر من جميع جهات شهارة المحمية، ثم طلب العساكر الإمامية من جميع الجهات، وطلب مولانا أحمد أيضاً الغارة فيمن أطاعه من الشام، فحصل من ذلك استخراج العسكر، والفقيه بدر الدين، وأتم القبايل على الخلاف وسار الشيخ يحيى بن روكان إلى السيد إبراهيم إلى باقم مع غيره من أهل الفساد، ورجع السيد إبراهيم إلى حال أشر من الأول وخرج معهم من باقم، وجدد دعوة حاصلها تفريق المسلمين، ونكث بيعة المؤمنين، وظهر لمن كان في شك من أمره أن دعوته الأولى والأخرى الطمع والحسد والميل مع الهوى والدنيا، والله المستعان.
وقال: الآن وجدت الناصر، وفرق الدعاة، ونصب الولاة[104/أ] والقضاة، وخرج إلى بوصان ثم مداك وعُرو وأرسل مع ابن روكان من أطاعه إلى بلاد خولان، وفسدت بلاد صعدة جميعها، واستوحش الناس، وبقي مولانا أحمد -أيده الله- في ساقين وقد انقطع فيما بين ساقين، وكذلك النقيب سرور ومن معه صاروا في موضع يسمى وشحة في حكم المحتارين.
وأخبر الفقيه علي بن عشوان الصماري، أن بعض العسكر كان يصلي فرماه من غضب الله عليه فقتله وهو كذلك وسلط الله على ذلك القاتل البرص القاطع الذي كان به عبرة للناظرين، والسيد إبراهيم يتردد في أطراف بني جماعة، وما يقرب بلاد آل أبي الخطاب وخاف وعاد [إلى] باقم من أعمال قراض، وكان الإمام
-عليه السلام- قد أرسل مولانا الحسين بن أمير المؤمنين -أيده الله- إلى بلاد وادعة الظاهر، وجانب بني صريم وتقدم أيضاً إلى محروس ظفار للزيارة، ثم ذيبين، وأصلح الله به أموراً منها في وادعة قتلى وغارات بأن قبض على أهل الفساد، وتقدم إلى قُبة خِيار ، وقد كادوا يتفانون من أيام الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- بحيث إنه توفي في الحبس والعسكر عليهم فتزايد فيما بينهم الشر مع الإشتغال عنهم، وقتلوا من بعضهم ثمانية عشر نفراً في بلد واحدة، وأتوا على أكثر أعنابهم قطعاً وإفساداً، فهدم دور أكثرهم عن أمر الإمام -عليه السلام- واستقاموا بعدها.
ولما حدث في بلاد صعدة ما تقدم من عظم الفساد، أمره الإمام -عليه السلام- بالوصول إليه إلى معمور (أقر) وقد اجتمع العسكر، فكانوا أكثر من خمسة آلاف، وأمره بدخول بلاد صعدة وأصحبه عدة من العيون وذلك في شهر ربيع الآخر عام إحدى وستين وألف[مارس 1661م] وقد كثرت الرسالات من السيد إبراهيم مما سيجي قريباً إن شاء الله ومن الإمام -عليه السلام- من الجوانب عليها.
ولما استقر مولانا الحسين -أيده الله- في صعدة استأمن من إليه كثير من القبايل فقبلهم، وأحسن إليهم، ووصل إلى مولانا أحمد -أيده الله- من خولان كذلك، وإلى النقيب المجاهد سرور كذلك، وإلى الفقيه جمال الدين علي بن صلاح الجملولي كذلك، وقد جعل الإمام -عليه السلام- تدبير الجميع إلى مولانا الحسين -أيده الله- وصار السيد إبراهيم في باقم، من أعمال آل أبي الخطاب ظناً منه أن العسكر الإمامية لا تصل إليه على ما سبق من الدول الأول أن عساكرها لاتصل هذا الموضع.
[ذكر غزوة باقم]
ذكر غزوة باقم ونواحيه، والقبض على أولاد السيد إبراهيم. ولما لم ينجح في المذكور حسن الدعاء، ولا في الجهات التي صار إليها في إطفاء النايرة، أمر مولانا الحسين -أيده الله- السيد ابن المجاهد بن[104/ب] أحمد بن عبدالله المحرابي، والسيد عبدالله بن مهدي بن حيدرة الغرباني في عسكر مختارين، ومن قبل مولانا أحمد -أيده الله- الفقيه بدر الدين محمد بن علي بن جميل، والفقيه جمال الدين علي بن صلاح الجملولي، والنقيب المجاهد صالح بن سعيد المذعوري في عسكر كذلك وسروا ليلاً ونهاراً، وكان ما بين صعدة وباقم نحو ثلاث مراحل ، فهرب السيد إبراهيم وصار في من بقي معه إلى جُنبه بلد هنالك، واستولى العسكر المنصور على تلك المواضع، وغنم الناس كثيراً، وقتل العسكر من القبايل أنفاراً، واستشهد من العسكر نفراً أو نفران.
ولما صار السيد إبراهيم في جنبه وقد ألَّب من القبايل ألفافاً، وأرسل أولاده إلى جهات ما تتصل ببلاد المرقدين، وقد تقدم صفتهم ودخول بلادهم في سيرة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام-.
[ذكر غزو جنبة وما يواليها]
ثم إن من تقدم من الرؤوساء اجتمعوا لغزو المذكور أيضاً إلى ذلك المحل الذي هو فيه اقتضاباً في وقت واحد. فلما تراى لهم المحل الذي هو فيه أرسل الله سبحانه وتعالى مطراً غزيراً فحجز ما بين الفريقين، وانهزم السيد إبراهيم ومن معه وأحرب بعض أصحابه فقتل منهم العسكر نحو عشرة أنفار، ومن العسكر نفرين أيضاً واستولى جنود الحق على مخيمهم، وقد طاروا على وجوههم، وخرج السيد إبراهيم إلى بلاد سنحان، وبقى فيه أياماً والعسكر المنصور في جُنبه، ولم يكن معهم من المدد إلا ما غنموه.
وقد تقدم أن فيهم النقيب المجاهد صالح بن سعيد المذعوري، وله معرفة بأحوال أهل الشام، ولهم به كذلك فراسلهم ولقوه بخطاب حاصله أن أعطوا رهاين في الطاعة، وعقد لهم مع أمراء العسكر الإمامي صلحاً، وعادوا بالرهاين إلى باقم، وأقاموا فيه شهرين، وكان السيد محمد بن أحمد بن محمد بن عزالدين بن أخي السيد إبراهيم بالقرب من المكالف وأولاد السيد المذكور، وأظهر التوبة ووصل إلى مولانا (الحسين) -أيده الله- إلى صعدة، وكذلك أولاد السيد إبراهيم ارجعوهم إلى صعدة، ووصل السيد محمد بن أحمد المذكور إلى الإمام -عليه السلام- فعظمه وأكرمه وعفى عنه.
ثم إن الإمام -عليه السلام- تابع الرسل إلى مولانا أحمد، ومولانا الحسين -أيدهما الله تعالى- وأمر العسكر الإمامي بأمرهم بلحوق السيد إبراهيم حيث كان ولى إلى بلاد مكة وغيرها، وقد خرج السيد إبراهيم إلى بلاد قحطان ودخل الحرجة يريد الإنتصار بهم، فبعدوا عنه كثيراً، فأظهر أنه يرضيهم وتزوج منهم، فلم يجيبوه إلى غير حفظ نفسه، وأن أمرهم وطاعتهم للإمام -عليه السلام- بحالها، وأرسل مع ذلك عاملاً[105/أ] للحقوق إلى بلاد قحطان، فالتفت الناس إلى عامل الإمام -عليه السلام- أكثر من السيد المذكور.
[إبراهيم المؤيدي يقدم الولاء والطاعة بعد تمرده]
ولما عرف السيد إبراهيم أن أولاده قد صاروا في صعدة والجنود الإمامية في أثره، وعرف ميل قحطان إلى الإمام -عليه السلام- كاتب إلى مولانا الحسين -أيده الله- وطلب منه أنه يرسل إليه القاضي الأعلم شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال، والقاضي الفاضل أحمد بن صالح الهبل وغيرهما ولقيهم إلى باقم، وقد وصله من الإمام من المكاتبة ما سكَّن روعته، وسكنت إليه نفسه ثم استدعى مولانا الحسين -أيده الله- للغاية إلى ضحيان قريب العِشَّة وقد بسط مولانا الحسين -أيده الله- له خصوصاً، وأهل الشام عموماً الأمان والإحسان الكثير والإمتنان.
ولما اجتمع به في الموضع قرر معه التوبة من هذه الأحداث والإعتذار إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى المسلمين ثم إلى مولانا أمير المؤمنين -أيده الله- وذلك في بقية من شهر رمضان المعظم[سنة أحد وستين وألف] [سبتمبر 1650م]وكان نسخة كتابه بالتوبة مما تقدم، ونسخة كتب الإمام -عليه السلام- في ذلك كثيرة نذكر منها جواباً للإمام -عليه السلام- هو أوفاها وأوسعها، وهو المسمى شفاء الصدور[في الرد] عن أقوال الزور:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، والحمد لله الذي هدانا صراط الذين أنعم عليهم من النبيين وملأ قلوبنا إيماناً ونوراً، فعرفنا بفضله الهدى، وسلك بنا سبيل أهل التقوى، وعلمنا وله الحمد من العلم ما لم يعلمه غيرنا ففضلنا عليه، وأورثنا من علم الكتاب والسنة ما جعلنا به سابقين، ونجانا بفضله وله الحمد عن أن نكون من القوم الظالمين حيث يقول في محكم كتابه الكريم {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فأعطانا من فضله علماً نستنبط به الأحكام، ونفرق به بين الحلال والحرام، واختصنا بذلك، وجعل لنا الفضل على من لم يكن كذلك فإذا ردوا إلينا ما أمر الله برده إلى مثلنا في نحو قوله {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} علمناه بفضله، وبينا الحق فيه بواضح دليله، فله أسلمنا، وبه آمنا، وعليه توكلنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى[105/ب] وبيان الشرع والكتاب، وأتاه الحكمة وفصل الخطابً الذين أشار إليهم بقوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } الذين يجاهدون في الله حق
جهاده وإذا أصابهم البغي فهم ينتصرون.
وأنه لما كان من أمر أهل البغي الذي ابتلي بهم أئمة الحق، وقرناء الكتاب والصدق في زمننا هذا مثل ما كان من غيرهم من الذين مرقوا من الدين فإنهم لم ينقرضوا كما أخبر بذلك محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، فيما رواه عنه عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) رواه الترمذي في صحيح مسلم عن عرفجة بن شريح الأشجعي، قال: رأيت النبي ً على المنبر يخطب الناس، فقال: ((إنها ستكون من بعدي هنات وهنات ، فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد أن يفرق أمة محمد كان من كان فاقتلوه، فإن الله مع الجماعة وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض)) رواه أسامة بن شريك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أيما رجل خرج يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه )) .
وروي في صحيح مسلم عن حذيفة في حديث طويل ذكر فيه الفتنة: قلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال نعم! وساق الحديث بطوله حتى قال: ((فما ترى إن أدركني ذلك، قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) وصدق ً ((لن يزال أئمة الحق والعدل يبتلوا من أولي الجهل الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاء، وبأهل البغي الذين لا يعرفون الحق، ولا يقولون الصدق)) فنحمد الله الذي ابتلانا بمثل ما أبتلي به الخيرة من خلقه، ليجعل لنا الحظ الأوفر عنده إن شاء الله بما زاده الله لنا من عظيم فضله ليغفر لنا به السيئات، كما وعد في محكم كتابه، ويمحوا به عنا الخطيئات كما وعدنا على لسان رسله، وليجيرنا من العذاب الأليم، كما وعد من تاجره، وجاهد في سبيله بماله ونفسه، والله ذو الفضل العظيم، الحمد لله الذي جعل الأسوة بالأنبياء وأئمة الهدى، فإنهم -صلوات الله عليهم- لم يخلو من مضل لهم، وهم على الهدى، ولم ينفكوا عن معترض عليهم وهم أئمة التقوى فكذبوهم تارة وسخروا بهم أخرى، وسبوهم فينة وضللوهم أخرى، فلو لم يكن إعتراض هذا إلا علينا، لكان من أعظم الذنوب وأقبحها وأشدها عند الله جرماً، وأفحشها لما تتضمنه من أنواع المعاصي وذلك الكذب فيما[106/أ] رمانا به من المخازي ثم نكث البيعة التي يد الله فوقها مرة بعد مرة، ثم نقض الأيمان بعد توكيدها كرة بعد كرة، ثم البغي بغير الحق، ثم الإغاثة للظالمين، وإجابة أصوات الفاسقين، ثم النهي عن المعروف والأمر بالمنكر، كما بين ذلك إن شاء الله في أبناء هذا المستطر، ثم الغضب للدنيا والميل
إلى جانب أهل الهوى، الذي يسخطون بما يزوى، ويرضون بما يعطي، ثم الإعتماد على الجهل عن الدليل فيما بيناه من واضح السبيل، كيف ظنك بقبح مقالة لم تقتصر على السب لنا وثبت لما يتوقف فيه على ثَلب جانبنا بل جميع ما فيه ثلب على السلف الصالحين، والأئمة الماضين، حيث حكم بأنه من اتبعهم على ضلالة، وأنهم لم يزالوا يتخبطون في الجهالة، وليس لذلك سبب يدعوه إليه غير الغفلة عن الحق والعماية فحكم في مقالته بأنهم ظالمون، إذ أخذوا على زعمه ما لا يستحقون، وهل يلزم من ذلك إلا التفسيق لهم والعياذ بالله، والتضليل لهم والحكم عليهم بالخروج عن الدين والتجهيل، فحين رأينا ذلك وخشينا أن يقف عليه من ضعف عزيمته في الدين أو في قلبه مرض فلا يعرف الموقنين، ممن غفل عن وجوب الرد إلى الله وإلى الرسول، وإلى أولي الأمر الذين يستنبطون الأحكام، ويعرفون ما يجب لله ولرسوله وللإمام، فيضله ذلك والعياذ بالله، أو يوقع في نفسه شبهة والهدى بيد الله، فاجبنا عما قال، وبيّنا طريق الحق وطريق الضلال، وإن كانت الأولى لولا ذلك الإلغاء والإهمال، وعرفناه أنه المتصف بتلك الصفات التي وصف الله بها المؤمنين والمتسم بذلك دونهم، وحاشاهم أن يكونوا من القوم الفاسقين، والظالم من رمى أئمة الهدى بالظلم وهم عنه أبرياء، والجاهل من رمى أولي العلم بالجهل وهم أولوا الحسنة والأولياء، والفاسق من ألزمهم الفسق وهم الأتقياء، وبيّنا له ولمن غفل من المسلمين أنَّا وإياه لعلى هدى أو في ضلال مبين، وظهر لنا بما فعله عند نجوم هذا الحادث من بعض رعايا خولان، إنه من الذين لا يرقبون العهود ولا
الأيمان من الذين يتربصون الدواير عليهم دائرة السوء، وينقضون العهد بعد ميثاقه مرة بعد أخرى، كصفة الذين قال الله فيهم لنبيه ً: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} فبعثوا بأعاذير لنكثهم، وأكاذيب لتلفيق خطاياهم، وكتبوا زخاريف هي الأمن أو الخوف الذي يرده المؤمنون[106/ب] إلى أولي الأمر، كما أمر الله في كتابه، ومن الفتنة التي يزيد الظالمين ضلالاً وخساراً، كما وصفهم الله في قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ، ومن يرد الله فتنه فلن نملك له من الله شيئاً وكفى بالله شهيداً وبه نعتصم، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم، قال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا } وقال:{وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وقال:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } .
واستمع إلى ما أمر الله به، وإلى ما نهى عنه في محكم كتابه حيث يقول: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ الله ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
ونعوذ بالله لنا ولك ولجميع المؤمنين أن نكون من الذين قال الله فيهم{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ، يَسْمَعُ آيَاتِ الله تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِين} .
فالحمد لله الذي جعلنا من الذين إذا ذُكرَّا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} والحمد لله الذي جعل لنا في الوفاء بالعهد نصيباً علمه سبحانه وأظهر بفضله لعباده المؤمنين، ولم يجعلنا من أهل الإضرار الذين يقولون ما لا يفعلون، ويدعون ما لا يستحقون، وإذا ذكروا بآيات ربهم لا يذكرون، وحملتهم محبة الرئاسة، وشنآن الخمول على البغي، ونكث العهد، ونصر الباطل والقيام بدعوى الجاهلية، وتضليل سير الأئمة: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} ، ثم قال هذا المعترض في أول كلامه حاكياً لكلام الله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [107/أ] وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ولعله أنه لم يشعر أنه يحصل بما قال وفعل ضد الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، عن الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر الذي هو فرض على كل مكلف، وأن رسلنا في أمر الحرب الواقع بين بني بحر وشِعْب حي إنما كانوا مرسلين كذلك، وقائمين فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فامتنع بعضهم عن الطاعة، وحاربوا بغير الحق على الجاهلية والعصبية، ثم راموا منه أن ينصرهم على بغيهم وعلى ضلالهم، وأن يتصف والعياذ بالله بصفة المنافقين، الذين قال الله فيهم{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وعنده من العلم ما لا يخفى عليه معه إن شاء الله قبح مرادهم وضلال رأيهم؛ لأنهم من الأعراب الذين حكم الله عليهم بأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله، وقال فيما كتبه حاكياً لكلام الله تعالى{وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فيقول الله أكبر من المفرق للجماعة، ومن الساعي في الخلاف والفرقة، ألست أنت طلبت الفرقة؟ وحركت أنت نائم الفتنة، وقد قال النبي ً: ((من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه )) . رواه مسلم في صحيحه، ورواه أيضاً مسلم وأبوا داود والنسائي عن رسول الله ً أنه قال: ((ستكون بعدي هنات هنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جمع فأضربوه بالسيف كائناً من كان)).
ولم يكن العذر الذي أعتذر به هارون من موسى -عليه السلام- إلا خشية الفرقة، وعذره موسى -عليه السلام- لذلك، كما حكى الله عنه في قوله: {قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} وأراد بقوله: ولم ترقب قولي، ماحكاه الله عنه في قوله: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} وهذا هو بعينه عذر علي -عليه السلام- بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى )) فلو أن علياً -عليه السلام- شق عصا الإسلام، بعد المصيبة العظمى بموت رسول اللهً لكانت وهناً فيه، ولكنه هاب الفرقة واستعظم ما بها ويتم به أمرها، وقالً: ((الفتنة نايمة لعن الله من أيقضها)) .
وقال فيما كتبه مع معرفة من وقع على هذه بسبق دعوتنا وغفل عن شروط السبق وقواعد[107/ب] الشرع، الذي دل عليها العقل والسمع من أنه يشترط في السابق أن لا يكون في عصره أقوم منه لأمر الأمة.
قال أبو طالب : وذلك باجتماع الصحابة، وقال الناصر: ومن خالف ذلك فسق، وقال الإمام المهدي: دليل ذلك معروف في العقول، وقال الإمام عزالدين بن الحسن -عليه السلام- في كتابه (المعراج) : إن هذا القول للزيدية عموماً من غير تبعيض ولا تخصيص بوقت، وقال هذه رواية كثير من أصحابنا، وممن نصَّ على ذلك القاسم والناصر والمؤيد بالله -عليهم السلام-.
قال فيه: قال الناصر: ويفسق هذا المفضول إذا سبق بالدعاء إلى الإمامة. انتهى.
وقال -عليه السلام- في كتابه (الإمامة) الذي عليه الزيدية وبعض المعتزلة: إن إمامة المفضول لا تصح.
قال: وممن نص على ذلك الهادي والناصر، وبفسق المفضول إذا سبق الأفضل بالدعاء إلى الإمامة.
وقال في موضع آخر من كتابه هذا: فإن كان منهم من هو أفضل فهو أحق بالإمامة لاختصاصه بالأفضلية، قال فيه مستشهداً بكلام بعض العلماء: وعلى الجملة فالغرض بالإمام صلاح المسلمين، وحسن الرعاية لهم، ومن كان ظن هذا فيه أغلب فلا تجوز لمن يعلم أن غيره أتم منه سياسةً وصلاحاً للمسلمين أن يقوم بأمر الأمة.
وقال في (المحيط): أجمعت الزيدية والإمامية على أن إمامة المفضول لا تجوز لإجماع الصحابة، فإن من عرف ما وقع في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان علم ذلك، فلو كان سبق الدعوة كافياً بمجرده فقد سبق إليها من لاينكر سبقه.
فصل: وقوله إن الحق للسابق والأفضل إنما هو على زعمه من المصالح المرسلة التي لا دليل عليها عنده لازم له في نفسه، فقد سبقه غيره، وأراد أن يكون أحق منه بالوجه الذي أبطله، وليس لذلك سبب سوى أنه ركب الإعتقاد، ثم أراد أن يرد الأدلة إليه، ولم يتبع الدليل ويرد الإعتقاد إليه.
وقال أيضاً فيما كتبه: إنا إنما صالحنا لمّا عدمنا الناصر كصلح أبينا علي بن أبي طالب فأبوا في هذه اللفظة كمين سره، وأخبر عن حقيقة طويته، فأقر واعترف بأنه باق على دعوته الماضية، وإنما أعطاه من الأيمان والعهود دجل ومخادعة {يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ} . وحسبنا الله ونعم وكفى.
هذه أوراق عهوده، وأوراق تسليمه بخطه، بعد شهادة الله وكفى به، وهؤلاء الأخيار من المؤمنين الذين يبتغوا في صلاحه، وادوا ما يجب عليهم[108/أ] من النصيحة له يشهدون عليه بالحق، ويعلنون بالصدق فأنَّى شهيد بعد الله، وأي عهد أقوى من الحلف بالله، وأي عدل بمن فهه بما أعطاه من البيعة، وأي بيعة أكبر من بيعة يد الله فوقها، ومتى نقض علي بن أبي طالب -عليه السلام- عهداً أو خلف موعداً، سبحانك اللهم، هذا بهتان عظيم، علي بن أبي طالب لم يصالح ولم يسلّم وإنما سكن واستمر سكونه، ولم يفرق جماعة ولا خالف عهداً، ولا نكث يميناً وهو الإمام بلا شك فأغضى صابراً، ولقى الله باراً وافياً، وكم من المرادين، وما أعظم الفرق بين المرادين، بل قال في (نهج البلاغة): وإن عقدت بينك وبين عدو لك عقداً أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وأرع ذمتك بالأمانة، وأجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرايض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفريق أهوائهم وتشتيت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين، لما استوبلوا من عواقب الغدر، ولا تغَّدرن بذمتك ولا تحنث بعهدك، ولا [تختلنَّ] عدوك، فإنه لا يجتري على الله إلا جاهل شقي، وقد جعل الله عهده وذمته آمناً أفضاه بين العباد برحمته، وصريماً يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفاقه بغير الحقِّ، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو
انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وإن يحيط بك من الله طلبة لا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك!! . انتهى. هـ.
وحسبنا وما علمنا من النيات وصلاحها، ونصح الأمة في دينها، وقد قال الله: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } وليست الولاية والإمامة كما بلغنا عنك مثل حق الزوجة يتجدد ويسقط، بل هي أعظم من أن تقاس على ذلك، وليس الدليل على أحقية الأنهض، وأولويته كما زعمت من المصالح المرسلة، بل دليل ثبوتها للأنهض، والأفضل معلوم من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
أمَّا الكتاب فإن الله سبحانه جعل الدليل على ربوبيته وتفَّرده بالوحدانية دون غيره من الشركاء الذين اتخذهم المشركون آلهة، وبطلان قولهم القياس على الشاهد فينا، فقال:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ، فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ[108/ب]، وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} الآيات إلى قوله{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فبين سبحانه أن الشاهد الذي تدركه العقول، وأن القايم بالقدرة على الأشياء الآمر بالعدل أحق ممن لم يكن كذلك وليس بعد الله بيان، وبين إن الهادي إلى الحق بأي طريق قدر عليها أولى وأحق ممن ليس كذلك، وجعل سبحانه ذلك دليلاً على وحدانيته، وأن لا شريك له في الملك وليس كمثله شيء، وهو على كل شيء قدير، وغير ذلك بما هو بهذا
المعنى كثير من القرآن الكريم، بهذا دليل صريح من القرآن، إن الأنهض والأقدر على القيام بالمقدور أولى، ويزيد ذلك تبياناً قوله تعالى، قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، فجعل الإصطفاء مع الزيادة (وجهاً لا حقيقة) ، والأولوية على من يكن فيه تلك الزيادة، ومما يدل على أن القيام بأمور المسليمن والنهضة بها، والفضل فيها هي الموجبة للحق، والولاية قول الله تعالى في تولية الرجال على النساء:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} فبين سبحانه أن القوامين هم الرجال، ثم لم يكتف بتبيان ذلك حتى بين علمه ووجهه، فقال: بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم، ونزيد ذلك تبياناً ووضوحاً جعل الله التولية الضعف وعدم الإستطاعة بقوله تعالى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} .
وممايدل على ذلك إن الإمامة خلافة النبوة، ولما كان نبينا ً أفضل الأنبياء وأقومهم عند الله بما كلف به، بين الله سبحانه في كتابه الكريم أن من فضله -عليه السلام- أنه لو اجتمع به أحد الأنبياء قبله لسلَّموا له، وآمنوا به ونصروه، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، فإذا كان هذا حكم الله في حق الأنبياء -صلوات الله عليهم- الذين هم معصومون لا يأتيهم الباطل، فأولى وأحرى أن يكون في الأئمة كذلك لأنهم خلف الأنبياء وفروعهم، وكانت طريقتهم قولاً من جميعهم، وقولاً وعملاً من بعضهم، ولم يفعل أحد منهم من زمن علي بن أبي طالب إلى زمننا هذا شيئاً من التقلب والتخلف والنكث[109/أ] فكيف به مرة بعد أخرى، بل كثير منهم الذين عاهدوا الظلمة والفساق كالحسن بن علي بن أبي طالب -عليه السلام- وغيره من أولاد البطنين عاهدوا من له حكم الكفر عندهم، وحرفوا لعهدهم واستقاموا على وعدهم، وليس الحلف والنكث من شعار المؤمنين: ((يطبع المؤمن على كل خلق ليس فيه الخيانة والكذب )) ، وقال له سيد المرسلين، بل ولا يرضاه كثير من الفاسقين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به )) رواه البخاري ومسلم.
وروي أيضاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان)) .
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، قال: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به )) .
وروي أيضاً في صحيحه كما نقله ابن حجر عنه، عن النبي ً أنه قال: ((من خلع يداً من طاعة لقي الله ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) . قال ابن حجر ما معناه: وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
وأما ما يدل من السنة على أن الأنهض أحق بالولاية، وأولى فنحو قول النبيً فيما رواه في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قلت يارسول الله ألا تستعملني، قال فضرب بيده على منكبي وقال: ((يا أبا ذر إنك لضعيف وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)). وفي رواية قال: يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمر على اثنين، ولا تولين مال يتيم. فإذا كان هذا في العمالة التي هي فرع من فروع الإمامة والقياس الجلي يقضي بذلك في الأمة، وقد قال بعض العلماء هو أقوى من النص.
وروى السيد الإمام أبو طالب -رضي الله عنه- في أماليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أعان بباطل ليبطل بباطله حقاً فقد برء من ذمة الله وذمة رسوله ، ومن مشى إلى سلطان الله في الأرض ليذله وسلطان الله في الأرض كتاب الله وسنة نبيه أذل الله رقبته يوم القيامة مع ما ذخر الله له من الخزي، ومن استعمل عاملاً وهو يعلم أن في المسلمين أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين، ومن تولى شيئاً من حوائج الناس لم ينظر الله إليه من حاجته حتى يقضي حوائجهم، ويؤدي حقوقهم)) .
وقال علي -عليه السلام- في بعض خطبه: أيها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم وأعملهم بأمر الله فيه، وفي نسخه، وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب أستعتب فإن أبى وقتل.
وأما الإجماع فرواه الأئمة الأعلام كالسيد أبي طالب في (الدعامة) [109/ب] وغيره، وقد تقدم ذلك وكفى بالإجماع دليلاً، وخلاف ممن خالف بعد ذلك لا يقدح في الإجماع السابق، الذي رواه العدل.
قال الإمام يحيى -عليه السلام- ومعنى الإفضلية هنا كونه أفضل في الشروط المعتبرة، ويمكن معرفة ذلك لا كونه أكثر ذنوباً إذ لا سبيل إلى معرفته إلا بالسمع، ثم أخذ يذكر ما نقمه، ويعدد ما ذكره من الإعتراضات في سيرتنا التي هي سيرة سلفنا وأهلنا، ولم ينقم منا ومنهم إلاَّ القيام بحق الله لما تعين فرضه علينا، وإحياء شريعة رسول الله لما جاءنا، وما أزلناه من البدع، ومحوناه من الطاغوت المخترع، وأمرنا به الخلق من المعروف، ونهيناهم عنه من المنكر، وما أعطاهم الله على أيدينا من النعم، وصرفه عنهم بمنعنا من الأعداء والنقم{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} وما أشبه هذا الإعتراض بما أُعترض به على الإمام المهدي أحمد بن الحسين -عليه السلام- وما أحقه بجوابه حيث قال: ولما كان الأئمة هم الهداة إلى الدين، والدعاة إلى الحق الواجب، أوجب الله طاعتهم على الخلق ونصرتهم على أهل الحق، وقضى على المنهاج الذي هم عليه، وهو إحياء السنة، وإماتة البدعة، ندعوا إلى ذلك ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، فأحيي الله بنا ما درس من الدين، وأمات بنا ما كان حياً من جحد الجاحدين، وعتو العاتين، حتى علت كلمة الحق وعظم سلطانه، وخمدت نار الباطل وتضعضعت أركانه، نرجو بذلك ما أعد الله لناصر الحق من الثواب الجزيل.
فلما صارت هكذا استبطأ كثيراً من ضلال هذه الأمة، ورافضي الأئمة بقايا هذه الطريقة المحمودة، وراموا بعشيرة هذه السنة المأثورة المشهودة، جرياً على ما مضى عليه سلفهم الرافض لأئمة الهدى من وقت إمامنا المنصور بالله -عليه السلام-يطعنون على الأئمة ما يجهلون حكمه، يرمون بذلك الترؤس في الدنيا والفساد على من أمرهم الله بإتباع أمره، وكنا نتصور أنهم يذكرون نعمة الله عليهم، فكم من ذليل منهم عز سلطاننا، وكم من فقير غنى، وكم من خامل أنبهنا ذكره، وكم من غي أظهرنا أمره، فجحدوا هذه الأشياء، وأعجبهم ما هم فيه من التقلب في نعم الله تعالى، فنفروا أشراً وبطراً، وهم أبناء الدنيا يعلم ذلك من خبر أحوالهم، وعرف أقوالهم وأفعالهم، وانتهى بهم التمادي في التمرد والضلال إلى أنهم أوهموا الناس أموراً يرومون بها الدنيا، كما تفعله الباطنية، وبثو فيهم دعاة لهم[110/أ] من تأليب أعداء المسلمين يريدون أن يجعلوا من الباطل حقاً وليس كذلك، بل الحق الإنصياع للحق من الباطل. انتهى.
فصل: ولم يعد في اعتراضه إلا ما لا يخفى الحكم عليه عند أولي العلم والتقوى، ومن اختاره الله لحفظ علم الهدى بالبهت والتجاري على الكذب من ناقله، وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون، وقد قبَّح الله ورسوله الكذب في كل أمر وقبح ذلك الفعل، ومن جعل مستندة الكذب فقد آوى إلى أصل منهارة، وأراد أن يبطل الحق بزخارف الأخبار، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
فصل: فمن ذلك الذي ذكره وهو أولها في رسالته، أنه قال: تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأنه لم يعلم أن الله رفع بنا وبسلفنا رضوان [الله عليهم] منار الإسلام، وأحيا بنا وبهم شرايعه، وفضلنا على كثير من خلقه بما جعله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أيدينا، فإن الدليل على ذلك المشاهد والمشاهد معلوم بالضرورة، ولو كان كما قال، فمن هذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في ساير الأقطار، فإنها على ثلاثة أقسام، قسم تحت أيدي الأتراك والظلمة لا ينكر أمرها، وقسم قبايل لا يد عليهم لأحد ولا ينكر أيضاً أمرها، والقسم الثالث ما تحت أيدينا، ولا رابع لهذه الأقسام في زماننا هذا فإذا أخلى عن الأولين قطعاً، ثم خلى عن الثالث لم يبق من هو قايم بذلك، والله يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لن تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)) الخير وغيره وبلى والله قد علم القائمون بذلك والحريصون عليه، وأنه التارك لفرضه، والمعيب دوننا تضييعه واختياره للمقام في دار تجب عليه الهجرة منها، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} ولله القايل: (رمتني بدائها وانسلت) لم تكن أنت الناهي عن الأمر بالمعروف، والآمر بالمنكر بما فعلته من نصرة مرتكبه، وصوبته من عظيم أخطائه، وأما نحن فكل من عرف السيرة ونظر في الأوامر والنواهي الصادرة من في رسايلنا وكتبنا وإرسال رسلنا علم أنه والحمد لله لم يقم أحد مثل قيامنا، وقيام سلفنا في عصرنا[110/ب] هذا فإنا بحمد الله أزلنا أعظم المنكرات، وأشدها ضرراً على الإسلام، وأمرنا بالصلاة في أوقاتها، وأمرنا بالزكاة وبعثنا السعاة لها، وأمرنا بالصيام وسعينا في الحج، ونشر الله على أيدينا فيه وفي طريقه، ومواضع شعاير الله ما لا يخفى، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون، فقد أبلغنا الحجة والحمد لله، والدعاء كما فعل النبي ً فإنه ما بعث إلى اليمن كافة إلا رسولاً واحداً، وأخبره الله أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين، حين يقول: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } وكل واحد يعلم أنه لا يستطيع أحد من الناس أن ينكر أنا قد بلغنا دعوة النبي ً في المسايل العلمية والعملية، وأمرنا بذلك في المجالس والخطب والرسايل ولا يخلو مجلس من مجالسنا من ذلك، وإنا قد
بعثنا بذلك في البلاد، وأمرنا به الولاة مرة بعد أخرى، ولكنه لما ترك فرضه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام في جهات ادعى في كلامه هذا أنه لا يؤمر فيها بمعروف ولا ينهى عن منكر، حرف الكلام عن مواضعه، ورمى بخطيئته غيره، وذلك ثمرة نقض الميثاق وتجنيه، كما قال الله تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} ونسوا حظاً مما ذُكِّروا به فكان هو المرتكب لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولفعل السكون في البلد التي يجب عليه الإنتقال منها.
ثم لم يكتف بذلك حتى دعوه عن المعروف والأمر بالمنكر معنا بباطله لباطلهم، ومتعصباً بجهل لجاهليتهم، وقد روى مسلم عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات مات ميتة الجاهلية )) . فحاصل أمره إنكار المعروف والأمر بالمنكر، عكس ما شرع الله ورسوله فكان من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وروي في (جامع الأصول) عن علي -عليه السلام-أن رسول الله قال: ((كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ، ونهيتم عن المعروف، قالوا: وإن ذلك لكاين قال: نعم وأشد، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً أو المنكر معروفاً)) صدق خبر رسول ً وهو الصادق الأمين، فإنه لم يرد بدعوته هذه إلا إنكار المعروف، والأمر بالمنكر، وإنه ليس أعظم من حرب القبايل وترك النساء، وأحكام الطاغوت، ولم يكن رسولنا هذا الذي نقم عليه ما نقم إلاَّ رسولاً للأمر بالمعروف[111/أ] والنهي عن المنكر والتأديب عليه، فظن بجهله أن المنكر معروف والمعروف منكر، كما أخبر النبي ً بذلك.
فصل: وأعظم من هذا الجهل بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض المكلفين جميعاً لا يختص الإمام منه إلاَّ بالإرسال على المتقلبين وتأديب المتمردين، وأما ما عدى ذلك فإنه يجب عليه وعلى جميع المسلمين القيام بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، ومن علموا أنه متمرد بينوه للإمام عليه السلام باسمه، وأخبروه بصفته فيتمكن حينئذٍ من الإستتابة له، وإقامة ما يجب من ذلك من حد وتعزير.
ذكر معنى ذلك الأخَوَان وساير أهل المذهب في كتبهم واتفق لفظ اكثرهم على لفظ (اللمع) حيث قال: وجملة الأمر إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضربان، فضرب يلزم الكافة بحسب الإمكان، وضرب يلزم الأئمة ومن يقوم مقامهم، فهو سماع الشهادات، وتنفيذ الأحكام، واستيفاء الحقوق ممن لزمته، ووضعها في أهلها، وإلزام من توجه عليه حق أن يخرج منه وتولية الأحكام ونصب القوام للإيتام الذين لا أوصياء لهم، والنظر في الوقوف، وإقامة الجماعات ومراعاة أحوال المساجد، وإقامة الحدود والتعزيرات وسد الثغور، وحفظ بيضة الإسلام، وتجييش الجيوش، ومجاهدة الكفار والبغاة. انتهى.
هذا لفظ الأمير علي بن الحسين ونحوه في التقرير والبيان للسخامي وغيرهما.
قال في نهج البلاغة: ليس على الإمام إلاَّ ماحمل من أمر ربه الإبلاغ في الموعظة، والإجتهاد في النصيحة، والإحياء للسنة، وإقامة الحدود على مستحقها، وإصدار السهمان على أهلها، فبادروا بالعمل من قبل (تصويح نبته) ومن قبل أن تشتغلوا بأنفسكم عن مستند العلم من غير أهله وأنهوا عن المنكر وتناهوا عنه، فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي. انتهى.
وهذه القبايل التي تليه أولى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من التخطي لهم إلى خولان وغيرهم الذين ليسوا فيهم أكبر ما في غيرهم من ذلك، ثم ماذا صنع فيمن ولاه الآن وأطاعه، هل التفت إلى صلاتهم وصلاة نسائهم، واعتنى بما أدعاه من إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم، أو لم يلتفت إلى ذلك ولا ذكر به أحداً؟
فصل: ثم أخذ في تعداد ما زعم أنه نقم علينا فقال الثاني[111/ب] مسألة الأخذ من الرعية إلى آخره.
والثالث: إقطاع الأقارب والأنساب أموال الله إلى آخره.
والرابع: إن خراج اليمن والجزي ما يحصل من البنادر صارت دولة بين المذكورين إلى آخره.
قال: والخامس: ما أخذنا لآل يحيى بن يحيى من عهد الله أنهم قائمون لهم القيام التام إلى آخره.
والسادس: ما صارت عليه الأقارب عليه من التغلب على ما تحت أيديهم إلى آخره.
والسابع: ما صار عليه المسلمون من عدم الإلتفات إليهم والرعاية لحقهم.
والثامن: أنه صار يتولى الأعمال كثير من الرعية من لا يميز بين الطريقة السنية والنبوية، حتى صدر من الفقيه محمد بن جميل ما هو معروف، فهذه الأمور الثمانية جملة ما ينقمه، وظن أن زخارف ألفاظها وأكاذيب سباتها، وما أرتكب من البغي فيها بغير الحق يقيم باطله، أو يضل به من أراد الله هدايته، وكان معتصماً بالله وبكتابه، والله غالب على أمره، ومؤيد لدينه بالعلماء العاملين، وأهل البيت النبوي المتقين، الذين يريدون الإحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، ولزوم جماعتهم والرجوع في مثل هذا إليهم، حيث يقول: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فنقول مستعينين بالله ومعتصمين به وسايلين له الهدى، وعايذين به من الشقاء، هذا جواب عما زعمت من الصواب، وهذا بيان الحق في ما زعمت عنه من الصدق، وهو من أكذب الخطاب الذي ذم الله فاعله، ومستمعه حيث يقول{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } وحيث يقول{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ، لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ الله أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي
الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
فصل: فأما الجواب عما غفل عنه من الإعتراض الثاني، وخفي عليه ما علَّمه العلماء حتى لزم من قوله الثلب على الأول من الأئمة.
والثاني: وهو ما يدعون ويأمرون به ويأخذونه من النفقة في سبيل الله التي أمر الله في كتابه على لسان رسوله، وجرت عليه عادة الأئمة الصالحين، ودعاة الحق وهداة المصلحين الذين هم[112/أ] نصحاء الدين، وعمود المسلمين، وأئمة المتقين، كان المنكر استكثر من الدين وأهله المجاهدين على حفظه، المثابرين على صيانة الإسلام وبيضته، وأخذ يسعى في إبطال هذا الباقي ونحو هذه اللُمَظَة اليسيرة في هذا القطر اليماني الذي لا يقوم أودها ويستقيم عوجها، ويثبت مائدها إلاَّ هذا الجند القايم عليه، والحرب الذي لا يزال حريصاً بالدعاء إليه، فحاول مما دسه من هذه المكيدة، وأظهره من هذه المقالة التي هي عنا بعيدة أي بعيدة، يريد بها إبطال الجهاد بالمال الذي أنزله الله في كتابه وأوجبه على لسان رسوله، وجرت عليه سيرة الأئمة الذين نرجو إن شاء الله أن نكون أفضل من اتبعها وأرشد من دعى إليها بوجوه واضحة، وأدلة قاطعة وبراهين لا يحرفها إلا قاسي القلب، وناكث العهد كما حكى ذلك أصدق الحديث وأفضله، وأحسن المقال وأكمله، وهو كتاب الله الذي لا ينطق إلا بالصواب، ومن حكم به فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب، والنفقة في سبيل الله أصل الجهاد، وأعظم الأوتاد. ولم يذكر الجهاد بالنفقة إلا مقدماً على الجهاد بالنفس غالباً، وذكر الحظ عليها منفردة في غير موضع ترغيباً وترهيباً، والجهاد بالمال والنفس أصل الدين وسنامه، ورأس كل خير وإمامه، فلا تقوم الأركان ولا غيرها من خصال الإيمان إلا بما وزع الله به من أمر السلطان، ففي الحديث: ((إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن )) ولا سلطان
إلا بطايفة على الحق ظاهرين، لا تشغلها المكاسب، تعتذر عن الإسستنفار، وتتبنى من المطالب، إما لقوة دينها وقيامها بمؤنة نفسها أو تحمل أولي الأمر على ذلك مع تحمل كفايتها أو تجمعها بين الصنفين، وإنصافها بالمعينين، وخير القرون في هذه الأمة وأبرها أصحاب رسول الله الذين هم رأس الأمة وصدرها، لم يستغنوا عن الإنفاق، ولم يكتفوا عن الإيزاع والارتفاق، فلم يقم أمر إلا بطائفة مرتفعة ومتفقة تجب على الإمام والمأموم، ومبادرة النبي ً إلى ذلك في السراء والضراء أمر معلوم من الدين لا يتمارى فيه ولا يخفى.
قال في (الكشاف) في تفسير قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس، وأدله على الإخلاص؛ ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو، ومواساة فقراء المسلمين، ولهذا بايع النبي ً الأنصار في بيعة العقبة الثانية على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر[112/ب] بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إلى آخر ما ذكر في الهدي النبوي.
فصل: وبيان ذلك وتحقيقه أن تكليف الجهاد غير ساقط في كل وقت من الأوقات، سواء كان جهاد الكفار أم جهاد البغاة، أم جهاد رفع التظالم، أم جهاد الأعداء وبالعَدد والعُدد والقوة، كما بين ذلك فلا تقوم إلا بالجند، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
وقال النبي ً: ((لن تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)) الخير.
وقال علي -عليه السلام- بعد أن ذكر الجند في عهد الأشتر : (وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجند إلا بما يخرج الله إليهم من الخراج الذي يقومون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما أصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم) وهذه الآيات والأخبار هي معنى ما قاله في سراج الملوك، حيث قال: اتفق حكماء العرب والعجم على هذه الكلمات فقالوا: (الملك بناء، والجند أساسه، فإذا قوي الأساس دام البناء، وإن ضعف الأساس انهار البناء، فلا سلطان إلا بجند، ولا جند إلا بمال، ولا مال إلا بجباية، ولا جباية إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل) ، ويؤيد ذلك أن الله جعل للجند سهماً من الزكاة وأموال الفيء جميعها، وذلك كله من وراء ما أوجبه الله من الجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن والسنة، فهم الذين فرض الله لهم النصيب من الزكاة إذ لم يكونوا مصرفاً لجميعها وخصهم بنصيب من الخمس والفيء، ولم يجعل لغيرهم فيه حقاً كما في حديث مسلم، وأحمد، وابن ماجة، والترمذي، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه الذي قال فيه: ((ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم
إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا فالظاهرة كالظلم وشرب الخمر، والربى والسعي في الأرض بالفساد، وما جرى مجرى ذلك، والحمل على الواجبات، وما يلزم الكافة من ذلك كله للإمام ألزم؛ لأنه أحدهم ولأنه أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم كأعراب المسلمين يجري عليهم ما يجري على المسلمين، ولا يكونوا لهم في الغنيمة الفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين)).
قال المنصور بالله -عليه السلام- (الهداية): وحكم بوادي صنعاء حكم أعراب المسلمين، على عهد رسول الله ، وليس لهم حكم الهجرة، ولا حكم الكفار، وعلى المسلمين نصرهم إن احتاجوا إلاَّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق. انتهى.
وشهد لذلك قوله تعالى في سورة الحشر:{َمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ } إلى قوله{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إلى قوله:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} وإذا ثبت ذلك وجبت النفقة على مستطيعها لهؤلاء القايمين[113/أ] بأمر الجهاد والمعدين له كواجب على الذين طلبوا من ذي القرنين -عليه السلام- المعونة له بالقوة وزبر الحديد والقطر الذي هو النحاس، وبعد أن بلغ بهم الحال إلى أن يجعلوا له -عليه السلام- خرجاً من أموالهم مستمراً، فقال -عليه السلام- أما الخراج الذي لا حاجة[إليه] في كف دفعه فقد مكنني الله خيراً منه، وأما ما لابد منه من دفعه فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما، أتوني زبر الحديد أفرغ عليه قطرا -أي نحاساً-.
قال المنصور بالله: كره الرشوة، وقبل المعونة، كذلك فعل النبي ً أمر بحفر الخندق، ووضع أجرة العملة على من قعد، وكما في حديث أبي داود، وعن عبدالله بن عمر أنه قال: ((للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي )) ، وكما في الحديث المتفق عليه، عن زيد بن خالد، قال: قال رسول الله : ((من جهز غازياً فقد غزا ، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)) .
وروي في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله بعث بعثاً إلى بني لحيان من هذيل فقال: ((ليبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما )) . ويدل على ذلك أيضاً قول الله تعالى{ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
روى أبو داود عن أبي أيوب قال: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه -عليه السلام- وأظهر الإسلام، قلنا: فلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الخبر.
وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } وهذا دليل على ما قاله المؤيد بالله -عليه السلام- فيما رواه عنه في التقرير حيث قال ما لفظه: وإلى جواز أخذ المعونة، أشار المؤيد بالله -عليه السلام- فإنه قال: من كان معه فضل مال فإنه يلزمه انفاقه في الجهاد، ويكون مأثوماً بتركه. انتهى.
ويؤكد ذلك ما رواه مسلم والترمذي عن أبي إمامة، قال: قال رسول الله : ((يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك ، وإن تمسكه شر لك)) الخبر.
ويدل على وجوب الإنفاق أيضاً قول الله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، ولما سمعت اليهود طلب القرض في الجهاد، قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، فنزل قوله تعالى{لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} الآية.
وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ [113/ب] وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال{مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} .
وقال بعض الصحابة: هذا في المنفق وهو قاعد، وأما المنفق بماله وهو مجاهد فله أضعاف ذلك، واستدل بقوله تعالى:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } وبقوله: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } الشك مني وقال:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وقال:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } الآية، وقال:{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} هذا حكم الباخل بذلك من نفسه، فكيف من بخل به في نفسه، وأمر بالبخل عنه، وعوق عنه وشاق بلسانه لما جاءه الأمر، وقد علم أن الله ذكر ذلك في كتابه، ولم يبق له عذر في الجهل حيث يقول سبحانه: {قَدْ يَعْلَمُ الله الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ (يعني القسمة والمال) أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا، يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ
بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} ، وقد قال الله في البخلاء الذين يأمرون الناس بالبخل: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} إلى قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ الله وَكَانَ الله بِهِمْ عَلِيماً} ، وقال تعالى:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} الآيات. {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} إلى قوله{لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ} وقد أمر الله بإطاعة أولي الأمر وامتثالهم (فيما لم) يصرح الله به الأمر به فكيف بما أمر الله به وأكده ورسوله وعلم من الدين ضرورة وأمر به أولي الأمر الذي أمر الله بطاعته في قوله{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ[114/أ] آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية.
قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى{طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ } معناه: طايعين من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين، وسمى الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاق عليهم كالإكراه، قال فيه: إن رؤساء المنافقين كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه، وقد ذمهم الله بقبض أيديهم على الإنفاق حيث يقول: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} تعني عن الإنفاق منزلة التفسير، فأين هذا الوصف عن صفة الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} ، ولم يعذر الله تعالى إلا الضعفاء عن الجهاد بأنفسهم دون أموالهم، وكذلك المرضى، والذين لا يجدون ما ينفقون في قوله: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } إلى قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ويدل على ما قلناه قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} .
وقال النبي ً: ((إذا أمرتم بأمر فأتوا ما استطعتم )) .
وفي صحيح مسلم، عن أنس أن فتى من المسلمين قال: ((يا رسول الله إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به، قال: إيت فلاناً فإنه كان تجهز فمرض، فأتاه فقال إن رسول الله ً يقرئك السلام، وقال: أعطني الذي تجهزت به، قال: يا فلانة أعطيه الذي تجهزت به، ولا تحبسي عنه شيئاً فوالله لا تحبسي منه شيئاً فبارك لك فيه)) وليست مشقة الإنفاق وكراهته من الأعراب حادثة، بل قد كان ذلك في حياة النبي ً، وأخبر الله عنهم بقوله{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فعلم الله حالهم، وأخبر بها ليعرف الفرق بينهم، وبين من قال فيهم: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} وأعراب[114/ب] زماننا هذا كأولئك سواء في هاتين الصفتين، وأدركنا منهم جميعاً هاتين النيتين فمنهم من جعل ما تؤخذ منه من المعاون وغيرها التي يجمعها الإنفاق في سبيل الله، والتعظيم لشعاير الله قربات عند الله، واتباعاً لسنته، وابتغاء لرضوان الله، وصلوات الرسول وخليفته إلا أنها قربة
لهم سيدخلهم الله في رحمته، وأغلب هؤلاء من حنكته التجارب، وخبر ما مضى من الزمان، وعرف المصالح والمفاسد، ومن أمر الجهاد وصفته أن ما عليه الإمام ومن معه من جند وطايفته لا يحلون عنه في وقت ولا ينفكون عنه في لمحة طرف، لما دفعه الله بهم من المنكرات، ولما أقام بهم الواجبات، وكف بوجودهم الفساد، وقمع بهيبتهم من أرباب الظلم والفساد، ودفع بهم من الأعداء، وأزال بهم وله الحمد عن الدين وأهله كل علة وداء، وتظنه من طالبه مآثما، وهؤلاء هم الأشقياء في الدين والدنيا؛ لأنهم كما قيل لا ما له أبقى، ولا ربه أرضى، وأعظم منه في الشقاء من أضله بجهله، وألقى إليه من شبهات غيه ما أمرض به قلبه، وغيره عليه من صالح النية، فحمل وزره مع وزر غيره، كما قال الله تعالى{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أحسبت أن الأعراب ليسوا كالأعراب، وأن الدين الذي نحن فيه غير الدين الذي كان عليه رسول الله ، الذي استغله المنافقون فسعوا في النهي عن تفويته، وأخبر الله عنهم بذلك بقوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا } وكأنك لم يقرع سمعك قول الله: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} بل لو
عقلت وفهمت نعمة الله لرأيتها نعمة عامة للناس، واجبة الشكر لله على ما خفف عن كثير منهم من التكليف، بل عن كلهم وهو التكليف الذي قام به الجند الذين هم حزب الله وجنده الغالب بشيء يسير يبذلونه من أموالهم والإنفاق عليهم، وكان عليك أن تحث من سألك على الرضى بالنفقة في سبيل الله ليثابوا عليها، وأن لا ينعتنهم على صفة المنافقين الذين لا يقبل الله منهم نفقاتهم لكراهتهم لها فيكونوا كما قال الله تعالى{قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ، وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ}إلى قوله{وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} فإن هؤلاء الذين زعمت أنهم يلونك وأنت ساكن بينهم، وأنه لا يؤمر فيهم بالمعروف ولا يُنهي عن منكر، ولا ينفقون نفقة صغيرة[115/أ] ولا كبيرة لا يخلو حالهم من أن يكفيهم مجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، أو لا بد من جند يقوم بذلك، فإن كان الأول فما بالك لم تكتف في ذلك؟ وإن كان الثاني فإن كنت تعلم أنه يقوم بذلك ويفعلونه من غير جند ويتجندون بأنفسهم فما بالك أنت ومن أطاعك لا تفعلون ذلك؟ وإن كنت تعلم خلاف ذلك وأنه لا يقوم أحد يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر حق القيام إلاَّ بالجند منذ [عهد] رسول الله ً إلى يومنا هذا، وإن اختلفت الأجناد لاختلاف الزمان وأهله، فبعضهم ينفقون على أنفسهم وبعضهم ينفق عليهم غيرهم، بل لم يتم [ولا يتم] إمارة حق ولا باطل إلاَّ بجند ينفق عليهم، أو على بعضهم كما في أعظم الخلق وأشرفهم محمد ً وأصحابه
الذين أمر الله عليهم، فأنفق بعض أغنياء المهاجرين كل ماله، وبعضهم جمهور ماله، وبعضهم شطره، وبعضهم أعطى جهده، وشاطر الأنصار أموالهم، ومدحهم الله وأثنى في غير موضع من القرآن ومن ذلك قوله: {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فحصر الفلاح على من وقي شح نفسه بماله .
قال علي -عليه السلام-: فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعزالدين، وسُبل الأمان، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجند إلا بما يخرج لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما أصلحهم ويكون من وراء حاجاتهم. انتهى.
فكيف حال من سعى في قطع سنام الدين الذي جعله الله التجارة المنجية من العذاب الأليم؟ حيث يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ولا عذر لك في التحريف غداً، ولا أقبح من الكذب افتراء ومن أظلم ممن افترا على الله الكذب، وبدَّل كلام الله، ونهى عن شريعة الله، وإن زعمت أن ذلك إنما تجب من الحقوق والزكوات، وأنها تقوم بذلك فإن كنت جاهلاً فليس لك في الجهل عذر، لأن الله قد أخذ على الجاهل أن يتعلم، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون َ} {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83] ولكنك ظننت نفسك عالماً، ولم تزاحم العلماء، وسررت بنفسك لما حرثت في الخلاء فظننت زرعك يافعاً قبل آوانه، واعتقدت أن خيال النايم كعيانه، وأن الكلام عند طغام العوام كالكلام عند العلماء الأعلام، ورأيت كلامك عند الجهال والعوام[115/ب] أحسن مرأى، وهو كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء حتى إذاجاه لم يجده شيئاً، على أن هذا حالكم من أوضح الأحكام عند أولي الهداية، ومن أجلى ما يفهم من القرآن والسنة لولا العماية، وفرض الإنفاق في سبيل الله غير فرض الزكاة يجب الإنفاق في العسر واليسر وبحسب الحاجة، وثوابه أعظم الثواب، وعقاب الإخلال به
من أعظم العقاب، والزكاة واجبة النصاب، وغير لازمة في كل من الأسباب، دل عليها السمع.
قال الهادي -عليه السلام-: ونحن نقول وكل ذي فهم وبصيرة من العلماء أن الإمام المحق العادل المستحق له أن يأخذ من المسلمين العفو من أموالهم اليسير الذي لا يضرهم، ويرده على صلاحهم وصلاح بلدهم، يدفع به العدو الفاجر عن أموالهم وحرثهم، ودمائهم أحبوا أم كرهوا، أطاعوا أم أبوا، ثم يقول إن ذلك من حسن النظر بهم الذي لا يجوز له عند الله غيره، إلا أن يجد منه بداً أو عن أخذه منه مندفعاً، وإن لم يكن إلا انقضاض عسكرهم، وهلاك المجاهدين الذين معه، أو أخذ ما يأخذ من الرعية؛ لأنه إن قصَّر في ذلك أُنقص العكسر وافترقت الجماعة، وذل الإمام والمؤمنون، وهلكت الرعية والمستضعفون، وقوى عليهم الأعداء الفاجرون، وملكهم الجبابرة الطاغون، فأخذوا الأموال، وقتلوا الرجال، وأهلكوا الأطفال، واصطلموا الأموال، ومات الحق وظهر الباطل والفسق، هذا ما لا يحل لإمام الحق أن يفعله، حتى قال -عليه السلام-: وإذا كان كذلك فأخذوا جزءاً من أموال المسلمين فرض عليه في ذلك الوقت، فإن قصر فقد شرك مهلكهم في مهلكتهم، ثم ساق -عليه السلام- كلاماً طويلاً استدل فيه بأن العقل دل على ذلك، وضرب له أمثلة ضرورية عقلية، وسيأتي كلام غيره من العلماء مثل ذلك، وهل سبيل مقالك هذا وإنكارك لفرض قد أكده القرآن إلا سبيل ما دعا إليه مسيلمة، من إسقاط الفروض التي جاء بها محمد ً طمعاً أن ينال بكذبه ما يريده من الرئاسة، وظناً أن ذلك يوهن الحق ويؤيد الضلالة، وكفى بالله وآياته حجة عليك، وحسبي الله ومن
أتبعني، وهو نعم المولى ونعم النصير.
فصل: وليست هذه المقالة مجهولة عند العلماء، ولا مغفول عن ذكرها عند الفضلاء، بل قد أوضحوا فيه الدليل، وأزاحوا به الأباطيل.
قال في التقرير: أما الإستعانة بمال المسلمين، فقال محمد بن عبدالله بذلك، وذكر لفظه في المسألة التي قال: وذكر[116/أ] المنصور بالله أنه تجوز أخذ المعونة من أموال المسلمين لجهاد أعداء الله رب العالمين، وروي ذلك عن الهادي -عليه السلام-، وقال: إنه نص عليه في جوابه لمن اعترض عليه في أخذ المعونة من أهل صنعاء، وذكر في التقرير لفظ الهادي -عليه السلام- بطوله.
قال: وروى المنصور بالله أن القاسم أخذ المعونة من البلاد التي استقرت عليها ولايته غير مرة -يعني القاسم بن علي- لأن القاسم بن إبراهيم -عليه السلام- لم تستقر ولايته في بلد فيما علمنا والله اعلم، وذكر جواز ذلك الناصر بن الهادي في تفسير سورة براءة، وإلى جواز أخذ المعونة أشار المؤيد بالله، فإنه قال: من كان معه فضل مال فإنه يلزمه انفاقه في الجهاد، ويكون مأثوماً بتركه، وقد ذُكر عن المنصور بالله في (هداية المسترشدين) ما لفظه: وكذلك ما فرقناه على العشر من الشاة ديناراً بعد زكوتها، ومن المائة الشاة جعلنا ذلك معونة برأي كبار البلاد وصلاحهم، وشاورنا أهل العلم، وأستقرينا الأثر النبوي، فشاه ذلك لكل وجه، وقد فعل الهادي -عليه السلام- مثل ذلك بصنعاء، ونُقد عليه في ذلك، فأجاب عليه بكتابه المعروف المشهور في (مسائل الطبري) وجعلنا على الظاهر وبلاد بكيل، وبني معمر، قدر خمسة آلاف دينار في كل سنة، ما دامت للغزو شوكة في صنعاء، وقال فيها أيضاً، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ففي المال أولى، وما كان للنبي فهو للإمام إلا ما خصه الدليل على أن لولي اليتيم أن يدفع قسطاً من ماله للدفاع عن سايره، ففي أمر الدين أولى؛ لأن المال يترك للدين، والدين لا يترك للمال، ولا ينكر ذلك من سير آبائنا -عليهم السلام- إلا جاهل، وقال أيضاً: وأما الضرائب وقبالات الأسواق والجلايب وإكراه أهل الذرايع، وأخذ أكثر من الزكاة، فيجوز للإمام من ذلك ما يسد به الثغور، ويصلح به الجمهور، وعليه الإجتهاد مع توفيق الله، وقد كتب
رسول الله ً يوم الخندق لعتبة بن حصن ومن تابعه من غطفان بثلث ثمار المدينة من غير مشورة أهلها، فلما عرَّفوه بحالهم وقوتهم أعطاهم الكتاب فمزقوه، وجوازه للإمام أولى، لأن ما كان للنبي فهو للإمام بعده إلا ما خصه الدليل وقوله تعالى{إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } يحمل على الجهاد بالنفس والمال، وقال صلى الله عليه وسلم: ((اجعل مالك دون دمك ، فإن تجاوزك البلاء فاجعل مالك ونفسك دون دينك))، وقال عز من قائل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[116/ب] ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فجعل تعالى الإيمان به مقروناً بالجهاد بالنفس والمال وتوعد على ترك ذلك، وذلك حكم الواجب بلا شك، وقد خرج المهاجرون من أموالهم ودورهم، وكذلك الأنصار شاطروهم في المال والدار والنسوان، في من له امرأتان، وما أسلفه النبيً فهو دليل على جواز الإفتراض يستدل به. انتهى.
وقال أيضاً: وأما أمر الخرصي فأمرنا فيها بالخمس، فعشر هو الواجب وعشر معونة في الجهاد، وأردنا ذلك من قبل الإشراف ومن لا تحل له الزكاة.
وقال الإمام أحمد بن الحسين -عليه السلام- ما لفظه: وصاحب هذه الرسالة إما أن يكون قائلاً بإمامة المنصور بالله، أو غير قائل بها فنحن آخذون عليه ما أخذ ومتخذون من الولاة فوق ما اتخذ، وإن لم يكن قائلاً بها فهو -عليه السلام- لنا قدوة، ولنا به أسوة، كذلك من مضى من أئمة الهدى، فإنا ما سلكنا إلا منهاجهم، ولا قفونا إلا أدراجهم، وهلم إيضاح الدلالة على هذه المقالة، وهذا إمام الأئمة وواسطة عقد العترة الطاهرين الهادي إلى الحق -عليه السلام- أخذ من أهل صنعاء عند خروج ابن الفضل الملحد ربع أموالهم أفرازاً ومقاسمة ليدفع به كيد عدوهم، وذكر -عليه السلام- أن الإمام يجب عليه أن يطلب المعونة من المسلمين عند خوفه على الإسلام، ومتى ترك ذلك كان مُخلاً بواجب.
انتهى لفظ الإمام أحمد بن الحسين -عليه السلام- وما أحق المعترض علينا أن نقول في جوابه كما قال.
وقال الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام- ما لفظه: الفصل التاسع أعرفكم أن الله تبارك وتعالى كما طلب منكم الجهاد بالأنفس وبذل المهج التي هي أعز الأشياء في سبيل الله، فقد طلب منكم بذل الأموال في سبيل الله وجعلها توأمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فقال تعالى{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } حتى قال -عليه السلام-: فقد صار الجهاد بالأموال في هذا الزمان والحاجة إليه أعظم ما ننصر به الدين، إن أريد إلا الإصلاح مااستطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وقال الإمام الحسن بن عزالدين في القسطاس ما لفظه: وكما إذا خشي على أموال المسلمين من البغاة ونحوهم، فيجوز لمن له الولاية على المسلمين أن يشاطرهم في أموالهم ليدفع بهم من يريد أخذ الكل.
وقال الغزالي: بعد أن ذكر أن للإمام المطاع المتفقر إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك[117/أ] بعد اتساع رقعته، وانبساط خطته علىالأغنياء ما يراه كافياً لهم -أي الجند في الحال- ثم قال بعد كلام طويل ذكره في هذا المعنى ما لفظه: ثم الكلام الشافي للغليل أن السايل إن أنكر وجه المصلحة في ما ذكرناه ورأيناه وقلنا إن لم يفعل الإمام ذلك تبدد الجند وانحل النظام، وبطلت شوكة الإمام، وسقطت أبهة الإسلام، وتعرضت ديارنا لهجوم الكفار، واستيلائهم وأخذهم النفوس والأموال، ولو تُرك الأمر فلا ينقضي إلا قدر يسير، وتصير أموال المسلمين طمعاً للكفار، وأجسادهم درية للرماح، وهدفاً للنبال، ويثور بين الخلق من التغالب والتواثب ما تضيع فيه الأموال، وتُعطل معه النفوس، وتُهتك معه الحرم، ونظام ذلك شوكة الإمام بعدته، وما يحذر إلمامه من الدواهي بالمسلمين، إذا انقطعت عنهم شوكة الجند مستحقر بالإضافة إليها أموالهم، فإذا رددنا بين هذا الضرر العظيم وبين تكليف الخلق حماية أنفسهم بفضلات اموالهم فلا يتمارى في تعيين هذا الجانب إذ لا شك في حماية النفوس والحرم وأكثر الأموال بفضلات الأموال وهذا مما تعلم قطعاً من كل مقطوعي الشارع في حماية الدين والدنيا، قبل أن يلتفت إلى الشواهد المعينة من أصول الشرع، وساق كلامه حتى قال: ثم خاصة هذه المصالح القطعية أنها لا تعدم قط شواهد
من الشرع كثيرة، فأبعدها من الشهادة ظاهراً، وهي أقربها تحقيقاً، هو أن الأب في حق طفله مأمور برعاية الأحسن، وأنه ليصرف ماله إلى وجوهٍ من النفقات والمؤن في العمارات، وإخراج الماء من القنوات، وهو في كل ذلك ينظر له في ماله لا في حاله فكل ما يراه سبباً لزيادة ماله أو لحراسة في المال جاز له تحصيل المال في مصلحته ومصلحة حفظه للإسلام وكافة المسلمين (لا يتقاصر) عن مصلحة الطفل ولا يضر الإمام الذي هو خليفة الله في أرضه ويتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في طفله، فكيف نستخير منصف إنكار ذلك مع الإعتراف بظهور هذه المصلحة، وإن أنكر منكر وجه المصلحة فعلينا تصويرها، والحكم بالتحريم عند انتفاء المصلحة.
وأما الشواهد الظاهرة القريبة من هذا الجنس إن الكفار لو وطئوا أطراف دار الإسلام، يجب على كافة الرعايا أن يطيروا إليهم بأجنحة الجد، فإذا دعاهم الإمام إلى ذلك وجب عليهم الإجابة، وفيه اتعاب النفوس، وانفاق المال، وليس ذلك إلا لحماية الدين، ورعاية مصلحة المسلمين، فهذا في هذه الصورة قطعي وإن نزلنا في التصوير، وقدرنا ما إذا لم يهجم الكفار وكنا نحذر هجومهم ونتوقع[117/ب] ابتعاثهم ولو استشعر الإمام من شوكة الإسلام وهناً وضعفاً وتفرقاً، فالواجب على كافة الخلق إمدادهم، كيف ولو لم نبث جنود الإسلام في بلاد الكفار لانبثوا في ديارنا عن قرب، ولطال ما قيل: (الروم إذا لم تُغز غزت) ومهما سقطت شوكة الإسلام كان ذلك متوقعاً على قرب من الأيام، كيف والجهاد في كل سنة واجب على كافة الخلق، وإنما سقوطه باستغلال أقوام من المرتزقة به فكيف يتمارى في وجوب بذل المال في مثل ذلك وإن نزلنا في التصوير، وقدرنا ضرباً للتمثيل انبساط ظل الإسلام على أقاصي الغرب والشرق وإطباق الدين أطراف الأرض ذات الطول والعرض، حتى لم يبق من الكفار نافخ نار ولا طالب ثأر، فلا يؤمن هيجان الفتن بين المسلمين، وثوران المحن في نزعات المارقين، وهذا الداء العضال وفيه تستهلك النفوس والأموال، ولا كافي لأمثالها إلا سطوة الإمام، ولا كافٍ عن فسادها إلا قهر الوالي المستظهر بجند الإسلام، ولو اتفق شيء من ذلك لأفتقر أهل الدنيا إلى نصب حُراس، ونقض أكياس على آخرهم، ثم لا يغنيهم ذلك فهذه مصلحة ملايمة قطعية، لايتمادى منصف في وجوب اتباعها، فإن قيل في الإستقراض غنية عن المصادرة،
واستهلاك الأموال، وكان رسول اللهً إذا جهز جيشاً وافتقر إلى المال استقرض، قلنا: نقل الاستقراض عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أنه كان يشير إلى مياسير أصحابه بأن يخرجوا شيئاً من فضلات أموالهم، إلا أنهم كانوا يبادرون عند إيمائه إلى الامتثال مبادرة العطشان إلى الماء الزلال، ولسنا نكرر جواز الإستقراض ووجوب الإقتصار عليه إذا دعت المصلحة إليه، ولكن إذا كان الإمام -عليه السلام- لا يرتجي انصباب مال إلى بيت المال يزيد على مؤن العسكر ونفقات المرتزقة في الإستقبال، فعلام هذا الإتكال في الاستقراض مع خلو اليد وانقطاع الأمل في المال.
نعم! لو كان له مال غائب أو حاضر أو جهة معلومة تجزي مجزي الكائن الموثوق به فالإستقراض أولى، وينزل ذلك بمنزلة المسلم الواحد المضطر في مخمصة إلى الهلاك، فعلى الغني أن يسد رمقه ويبذل له من ماله ما يتدارك به حشاشته، فإن كان له مال غائب أو حاضر لم يلزمه التبرع، ولزمه الإقتراض، وإن كان فقيراً لا يملك نقيراً ولا قطميراً فلا نعرف خلافاً في وجوب سد مجاعته من غير اقتراض وكذلك إذا أصاب المسلمين قحط وجدب، وأشرف على الهلاك جمع، فعلى الأغنياء سد مجاعتهم، ويكون ذلك قرضاً على الكفاية، ويخرج بتركه الجميع، ويسقط بقيام البعض به التكليف، فذلك ليس على سبيل الإقتراض، فإن الفقراء عالة الأغنياء يتنزلون منهم منزلة الأولاد ولا يجوز للقريب أن ينفق على قريبه[118/أ] بالاقراض إلا إذا كان له مال غائب، وكذلك القول فيما نحن فيه، فهذا وجه المصلحة، وهو من القطعيات التي لا مرية في اتباعها، إذا ظهرت ولكن النظر تصويب المصلحة على الوجه الذي قدرناه، وأصل أخذ المال متفق عليه بين العلماء وإنما الإختلاف في وجوب تعيين الإستقراض، وفي ما ذكرناه من التفصيل ما يشفي الغليل إن شاء الله تعالى. إنتهى. وقد سوى في شرح الزيادات للعلامة المحقق يوسف بن أحمد بن عثمان -رحمة الله عليه- بين كلام الغزالي هذا الذي أردناه، وبين أئمتنا حيث قال في شرح قوله: وإذا كان لرجل فضل مال يلزمه انفاقه، هذا قول المؤيد بالله، وهو مروي عن الهادي ومحمد بن عبدالله، والناصر بن الهادي، والقاسم بن علي، والمنصور بالله، وذكره الغزالي في شفاء العليل، وإنما يجوز بشروط هي في تعليق اللمع.
انتهى.
فهذا كلام العلماء على اختلاف مذاهبهم متفق في هذه المسألة، وكما قاله صاحب الطبقات أبو جعفر البلخي من الحنفية، فإنه قال في مسألة ما يضرب السلطان على الرعية مصلحة تصير ديناً، واجباً حقاً مستحقاً، كالخراج وضربة المولى على عبده، ورسول الله ً أمر أهل المدينة أن يردوا الكفار بثلث ثمار المدينة،ثم نصفها، وكان ملكاً للناس، ومع ذلك قطع رأيه دونهم، هذا كلامه.
وقد مر ما ذكره من أن النبي ً أمر أصحابه بحفر الخندق حول المدينة، ووضع أجرة العملة على من قعد، وكذا أصحاب السلطان، وروي عن بعض علمائهم أنه قال: مشايخنا وكل ما يضرب الإمام عليهم لمصلحة لهم فالجواب هكذا، حتى أجرة الحراسين لحفظ الطريق، ونصب الدروب وأبواب السكك.
وقال في الهدي النبوي في سياق غزوة تبوك: ثم إن رسول الله ً جد في سفره، وأمر الناس بالجهاد، وحظ أهل الغنى علىالنفقة، والحملات في سبيل الله، فحمل رجل من أهل الغنى وأحسنوا، وأنفق عثمان في ذلك نفقة عظيمة، لم ينفق أحد مثلها.
قلت: كانت ثلاثمائة بعير بأجلاسها وأقتابها وعدتها، وألف دينار عيناً، وقال فيه أيضاً: وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس، لا ريب فيه، فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن وقرينه، بل جاء مقدماً على الجهاد بالنفس في كل موضع، إلا موضعاً واحداً وهذا يدل على أن الجهاد به أهم، وآكد من الجهاد بالنفس، ولا ريب أنه أحد الجهادين كما قال النبي ً: ((من جهز غازياً فقد غزا )) فيجب على القادر عليه بالبدن، ولا يتم الجهاد بالبدن إلا لبذله، ولا ينتصر إلا بالعُدة والعدد، فإن لم يقدر[118/ب] أن يكثر العدد وجب عليه أن يمد بالمال والعدة، وإذا وجب الحج بالمال على العاجز بالبدن فوجوب الجهاد بالمال أولى وأحرى.
وقال أيضاً: إن العاجز بماله لا يُعذر حتى يبذل جهده ويتحقق عجزه.
وقال في موضع آخر بعد أن ذكر ما أعطاه النبي ً لقريش والمؤلفة قلوبهم: وإن النبي ً لم يستأذن الغانمين في تلك العطية؛ لأنهم ملكوها بخوزها والإستيلاء عليها.
قال: فلو وضع الغنايم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة لما خرج عن الحكمة، والمصلحة والعدل ولما عميت أبصار ذوي الحكمة، قال له قايلهم: أعدل فإنك لم تعدل، وقال مشبهه: إن هذه القسمة ما أُريد بها وجه الله، حتى قال: فإن قيل فإن دعت حاجة الإمام في وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدو، هل يسوغ له ذلك؟ قيل: الإمام نائب المسلمين يتصرف لمصالحهم وقيام الدين، فإن تعيّن ذلك للدفع عن الإسلام والذب عن جوزته، واستجلاب رؤوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون ساغ له ذلك بل تعين عليه، وهل تجوز الشريعة غير هذا؟ فإنه وإن كان من الحرمان مفسدة فالمفسدة متوقعة من فوات تأليف هذا العدد أعظم، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدين والدنيا على هذين الأصلين، وبالله التوفيق. انتهى.
وقال في (شرح المنهاج في أصول الفقه) للسبكي : أما إذا خلت الأيدي، ولم يكن في مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولم يفرق العسكر واستغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام، أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة في بلاد الإسلام، فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند، ثم إن رأى طريق التوزيع التخصيص بالأرض فلا حرج؛ لأنا نعلم أنه إذا تعارض ضرران، دفع أشدهما، وما يؤديه كل واحد منهما قليل بإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه، وما لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة تحفظ نظام الأمور، وتقطع مادة الشرور، وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة، فإن لولي الطفل عمارة بدنه وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية وكل ذلك جير حران يتوقع ما هو أكبر منه.
فصل: واعلم أن السبب في الجهل بهذه المسألة التي لا ينبغي لأحد جهلها، ولا يخفى عند محققي العلماء حكمها، هو الجهل، وماهيته اعتقاد أنه ليس إلا القتال وملاحمته وليس كذلك، ولكنه الدعاء إلى الدين، وسواء أكان بالقتال أم بغيره كجهاد المنافقين الذين أمر الله به نبيه ً حيث يقول{جَاهِدِ الْكُفَّارَ[119/أ] وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ومنه العُدد، بكثير العَدد والإيماء عليه بالمال والمدد ومنه ارتباط الخيل، واعداد القوة والذي يجب فيه بذل الاستطاعة، وانفاق ما أمكن ودخل تحت الطاقة، بصريح دليل قوله تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} .
والإمام ومن معه خليفة للنبي ومن معه، يغيظ الله بهم أعدائه، ويعز بهم أولياءه، ويجب على المسلمين انفاق أموالهم [فيما] يعز الله به الإيمان وأهله، ويذل الفُساق وأرباب النفاق، فهم في كل وقت مجاهدون، وعلى اعزاز كلمة الله ونصرته مثابرون، كما قال علي -عليه السلام- في عهده للأشتر: (واجعل لنفسك في ما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، واجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها إذا صلحت فيها النية، وسلمت من الرعية).
وقد روي عن النبي ً أنه قال: ((عامل الزكاة في جهاد)) ، فالجند هم الحُفاظ للشريعة وحدودها سواء قاتلوا على ذلك أو على بعض منه، أم اندفع ذلك بسبب وجودهم، وعظم هيبتهم، فالهيبة والإرهاب من أعظم ما ينصر الله به المؤمنين، ويخذل به الكافرين، ويدل على أنهم في كل وقت)).
كذلك قول النبي ً: ((لن تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين )) فأخبرً أنهم على ذلك لا ينفكون عنه ولا يزولون، ولا يميلون ولا يتحولون، والإمام خليفة الرسول ً وكان حاله ً كما قال في الهدي النبوي: (فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان، والسيف واللسان) فكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ويقدم ما قال علي بن أبي طالب -عليه السلام- في حديث الأشتر: (فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس يقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام [للجنود] إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقومون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه في ما يصلحهم، ويكون من وراء حاجاتهم) فانظر ما أجمع هذه المقالة وما أبين هذه الدلالة، وصلوات الله وسلامه على أئمة الهدى الذين اهتدوا بهدي محمد ً وهديه، وساروا سيرته في رعايته للأمة ونصحه، وانظر إلى وصيه علي -عليه السلام- للأشتر (وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله)، حتى قال: (فربما حدث من الأمور ما إذا عولت[119/ب]عليهم من بعد ما احتملوا) إلى آخر ما قال، فأثبت -عليه السلام- المعونة في أرض الخراج زايداً على ما ضرب عليها من الأمور ما يحتمل ذلك كما ترى.
نعم! قد أطبق العقلاء واتفقوا على جعل جزء من أموالهم لمن يحرسها ويحميها ممن يخاف منه، وحماية الأديان وحفظ بيضة الإسلام، وشوكة الإمام الذي به نظام لا ينقص عن ذلك بل هو أولى قطعاً وأرجح عند أولي الدين والتُقى عقلاً وسمعاً.
فصل: فهذه الأدلة القطعية والبراهين العقلية والسمعية قد دلت على ذلك بأبين الدليل وأصرحه وشهدت على مُنكر ذلك في أنه أعظم الجهل وأقبحه، وكيف إذا أنضاف إلى ذلك ما ينوبه الإمام من التضمين لأهل الحقوق والمظالم، الذين لا يقسمون للنساء، ولا يتحرجون من أكل مال اليتامى، حتى حكم الإمام عز الدين -عليه السلام- في باب الوقف بأنه لا يصح وقف العوام ولا غيرهم، لما علم من مصير أملاكهم ببيت مال؛ لإلتباس أهلها بسبب ترك القسمة لمستحقها من النساء وغيرهم، هذا معنى كلامه، ولم يحضر عندي كتابه حال كتابة هذه المسألة.
وقال صاحب التذكرة في كتابه (التيسير في التفسير) ما حكايته: إن من له الولاية إذا أراد أخذ شيء من مال الرعية، وهو يعتقد أن ما في أيديهم لبيت المال لما شوهد من اختلاط الحلال بالحرام وغيره من الأسباب الموجبة لذلك فهاهنا له أن ياخذ حتى لا يبقى معهم إلاَّ قدر أقواتهم، وفي هذه الحالة ترتفع عنهم الواجبات المالية لعدم ملكهم لما تحت أيديهم من المال، وكيف إذا انضاف إلى ذلك الحكم على ما استولى عليه المجبرة، والمشبهة؟ وظهرت فيها كلمتهم، وكانت الشوكة لهم وسواء كانت عقيدة أهل تلك الجهة كعقيدتهم أم لا، فإن ظهور كلمة الكفر من غير جواز تصير إلى ذلك ما ذكرناه من ساير الوجوه حسب ما يراه الأصلح للمسلمين، كيف إذا انضم إلى ذلك ما ذكرناه من ساير الوجوه في الجواب عليك بصنعاء؟ ولكن ذكر الواضح الجلي والإستدلال عليه بالخفي مضر بالذكي من الناس والغبي{فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } {وَمَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } نعوذ بالله من الضلالة، ونسأله العصمة والهداية، ولم يزل الأئمة -عليهم السلام- وهم أولو العزم عاملين بذلك وسايرين به إلى يومنا هذا ولكن من جهل هديهم عاب علمهم وعملهم، ولن يضر الله شيئاً، وحسبنا الله وكفى.
فصل: وأما ما قال من إقطاع الأقارب والأنساب إلى آخر ما ذكره مما حمله عليه الحسد والبغي بغير الحق، فالله حسبنا وحسبه، ما قال وكفى بالكذب إثماً[120/أ] وبالبغي ظلماً على أنه لو وقع من أحد منهم شيء ونعيذهم بالله مما وقع من غير أمرنا، قلنا فيه كما قال النبي ً في ما رواه أبو داود: ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول )) وكما قال الله تعالى{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون، أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ الله كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} وليس من تكليفنا علم الغيب، ولله در العلماء الذين هم العلماء حقاً، لم يتركوا بياناً مثل ذلك، ولا اهملوا لمن عرف كلامهم واهتدى بهديهم كما قال المنصور بالله في رواية محمد بن الوليد عنه في كتاب (هداية المسترشدين) ما لفظه: ومن شك في الإمامة لأجل تخليط ينسب إلى العمال فهو من الجهال لأن عمال النبيً وعمال الوصي -عليه السلام- حدثت منهم الحوادث الكبار ولم يقدح في النبوة، والإمامة دونها، وأحداث أصحاب علي -عليه السلام- لا تنحصر وقد ذكرها في خُطبه، وكما قال في (شرح الفتح): وليس على الإمام ما فعله الولاة مما لا يأمر به ولا أطلع عليه كيف بمن يأمر بالعدل والرفق، والسيرة الحسنة المعتبرة، وتنصب الولاة لذلك بحمله من أطلع على خلل من فعل الولاة على أنه أمر به أو رضى به فذلك لا يجوز؛
لأنه يجب حمل آحاد الناس على أحسن الوجوه، كيف بإمام المسلمين، وقد ربما ولَّى الإمام من ظهرت عدالته، ثم قد يخالف من يخالف ما أمرهم به، واستدعاهم الطمع ونهم ما ولوا من أمور الدنيا حتى نسوا ما ذكروا به وخرجوا من الطاعة إلىالمعصية، وقد جرى نوع من ذلك مع أمير المؤمنين، وذريته الطاهرين، فإنه صدر من كثير من أصحابه من الخذلان وعدم النصيحة والإمتثال لما امر به ما شرحه يطول وهول، حتى إنه نسب إلى أن لا رأي ولا تدبير إلى آخر ما قال.
فصل: وأما ما أعدوه من الخيل وآلات الحرب مما هو شفاء لصدور المؤمنين وغيظ لقلوب المنافقين، فمن أوكد مروضهم وأعظم واجباتهم، وقد قال الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} على أن الإمام لا حجر عليه في شيء من ذلك إذا رآه صحيحاً، وأداه إليه اجتهاده ونظره، كما نص على ذلك علماء المذهب الشريف فقال في (الأثمار والفتح) واللفظ للفتح وشرحه: ولا يمنع من مباح، ويقطع بيوت الأموال وما هو للمسلمين عموماً إلا الإمام لمصلحة رآها إذ هو خليفة رسول الله ً والرسول خليفة الله في أرضه، فهو رأس المسلمين ومالك أمرهم، وأمين الله على خلقه ينظر فيهم بالأصلح والأرجح فيما يرجع إلى مصالحهم، وتسكين الدهماء، وحفظ بيضة الإسلام [120/ب] فنظره مقدم على كل نظر لا تعارض ينظر. ولا اجتهاد إلى آخر ما قال.
وكانت فدك مما أفاء الله على رسوله، وقال الله فيها على أرجح القول: {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فعد في مصارفها ما عده في مصارف الخمس وأعطاه النبي ً فاطمة -عليها السلام-.
قال في (المصابيح) لأبي العباس الحسني: أخبرنا علي بن سليمان البجلي بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن فدك تسع قريات متصلات، حد منها مما يلي وادي القرى غلتها في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، لم يضرب بخيل ولا ركاب، اعطاها النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة-عليها السلام- قبل أن يقبض بأربع سنين، وكانت في يدها تحمل غلاتها عبد يسمى خيبراً وكيلاً عليها، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذ أبو بكر رجلاً من قريش بعد خمسة عشر يوماً، أخرج وكيل فاطمة منها. انتهى.
وكذلك أعطى العباس عمه من الذهب ما استطاع أن يحمله بجهده، وأقطع الناس شيئاً كثيراً حتى إن عمر بن الخطاب استكثر على بلال من أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم وجرى بينهما ما جرى من المقاولة في ذلك، كما ذكره في (السنن الكبرى) وغيرها.
وأقطع الزبير من مال بني النضير، حضر فرسه فأجرى فرسه حتى قام، وفي رواية حتى مات، ثم رمى بسوطه يزداد من حيث وقع السوط، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أعطوه من حيث وقع السوط )) أخرجه أبو داود ونحو ذلك كثير، كأقطاعه صلى الله عليه وسلم عبدالله بن مسعود، وكذا وايل بن حجر، رواه البخاري وغير ذلك.
فصل: وأما ما زعمت للمسلمين فإن كنت تريد الذي أنت بينهم فليسوا ما ذكرت، وإن كنت تريد ساير المؤمنين فهم الشهداء، وإن كنت تريد الذين اتصفوا بصفة الذين يبتغون الدنيا، وهم من حكى الله عنهم في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} الآية. وفي قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} والذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الهادي -عليه السلام- ورواه أيضاً البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) حتى قال في الثالث: ((ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف، فلن يضروا الله شيئاً وهم أحقر على الله من أن[121/أ] يظفرهم بمكيدة، أو ينيلهم في بغيهم أمنية )) بل ليس لهم إلا ما قاله سبحانه في الناكثين من زلل الأقدام، وإذاقة السوء ولن يخلف الله وعده وهو الشهيد بيننا، وهو حسبنا وكفى.
فصل: وأما ما قلت أنك اخذت لآل يحيى بن يحيى من القيام لهم التام إلى آخر ما قلت، فهذه أوراقك ورسايلك شاهدة عليك بخط يدك، حيث قلت وبعد فصدرت معرفة له -أيده الله- بأني ما زلت أستخير الله وهو نعم المستخار في كل عشي وإبكار، أن يقضي هو المختار في ديني ودنياي وآخرتي التي هي دار القرار فقضى سبحانه وهو الناصح الذي لا يغشني بالقاء هذا العبء الثقيل، وتحميله وليه وابن وليه على محكم كتاب الله وسنة نبيه من غير أن يشاب ذلك شايبة من الأمور الدنيوية، بل يكون عملاً من خالص الطوية، وقد مضى النظر في باديه بموضوع كنا أرسلنا به إلى الصنو، صفي الدين أحمد بن الحسين -حماه الله- وكنا أستخرنا الله سبحانه وتعالى مراراً عقيب الإرسال بالموضوعات الأول، حتى أن الله أختار لنا من فضله وطوله، عدم اشتراط أمر من الأمور إلاَّ ما قد وضعتموه من الأمان، وعرفنا أن مراد الله ذلك منا. انتهى. وكيف تشترط ذلك وأنت تزعم أن ما عدا الزكاة مأخوذ للكذب وقبول له فليست بخُمس هذا العدد ولا سدسه، ولا سُبعه، يعلم ذلك كل من أحب علمه ولا تجتمع في أيدينا في الحول جميعه من ذلك ما يقوم بنفقة بعض من ذكرت، وقد شهد لنا من ذوي الأسنان من آل يحيى الذين يعرفون أحوالهم الماضية، وغيرهم بأنه لم يتصل بهذا البطن في ما مضى من الزمان من بيوت الأموال من الكسوة والمصاريف والكيلات، ونحوها مثل ما اتصل بهم في زمننا هذا وعلى أيدينا وهم إخواننا ونحن راعون لهم بحسب طاقتنا،ولم يمنعهم حقاً بائناً لهم إن لم يكن قد زدناهم على ما هو لهم بالنظر إلى ما في أيدينا، ولو نظرت في علي بن أبي طالب
-عليه السلام- وما فعله مع عقيل في شأن صاع من البر، وبيده -عليه السلام- مملكة الإسلام، إلا ما كان منها تحت معاوية وبنو هاشم في ذلك الوقت عدد محصور، لعلمت أنا لم نفرط في شأنهم ولم نهمل حقهم، بل قد علمت أنا قد أعطيناهم ما لا يحل لهم في ظاهر الأمر أخذه، ويحرم عليهم تناوله لوجوه تنوعت لنا ذلك في ما بيننا وبين الله.
وروى أحمد والبخاري عن عمرو بن تغلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُتي بمال أو شيء فقسمه فأعطى قوماً ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه، فقال: ((إني أعطي قوماً وما أخاف[121/ب] ضلعهم وجزعهم وأَكِلُ قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى منهم عمرو بن تغلب))، فقال عمرو بن تغلب: ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم وأنت لم تذكر ذلك حفاوة بهم فنحن إن شاء الله أحفى بهم منك وأرفق وأرحم بهم منك وأشفق، ويجب لهم أن لا يكونوا مع أهل النار وإن أصابهم من الحاجة في الدنيا ما أصاب، وأن يكونوا من المتقين في جميع الأسباب، ولكن جعلت ذلك ذريعة إلى الطعن ووصله إلى الإعتراض، وشاهد ذلك أنهم متبرأون من فعلك وعاتبون عليك من سوء صنعتك، بل سألت من كان حاضراً عندي من خيارهم لما بلغني ما فعلت قبلع أن يبلغ إليه، فبعد ذلك أشد التبعدي استصحاباً لما تظنه فيك من الدين والرأي السديد، فلما صح له ذلك رأيناه ساءه ذلك منك أعظم مما ساء غيره، وتعب منه تعباً عظيماً، ونظن في سايرهم أنهم كذلك، فإنهم أهل العقول الراجحة والآراء الصايبة في دينهم ودنياهم، والله حسبنا ونعم الوكيل.
ولكنك صرت تطلب لهم الزكاة المحصنة من أيدي العمال عليها الذي تعلم أنه ليس بأيديهم إلا هي، ويسوغ لهم ذلك المعلوم تحريمه عليهم، وتعريض غيرك علينا بذلك، وهو نقيض اعتراضك، ولنا في ما نفعله من ذلك وجه صحيح إن شاء الله تعالى من الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة، وقد يجوز للمعطي أن يعطي ما لا يحل للمستعطي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن شئتما أعطيتكما إنه لاحظ فيها لغني، ولا لذي مرة سوي )).
وروى ابن حبان في صحيحه عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل يأتيني فيسألني فأعطيه فينطلق وما يحمل في حضنه إلا النار )). وفي حديث آخر رواه عمر بن الخطاب قال: ((إنه دخل على النبي ً، فقال: يا رسول الله، أرأيت فلاناً يذكر أنك أعطيته دينارين، فقال رسول الله ً، لكن فلاناً أعطيته ما بين العشرة إلى المائة، فما شكر ، إن أحدهم ليخرج من عندي بحاجته يتأبطها وما هي إلاَّ النار، قال: قلت: يا رسول الله لم تعطهم، قال: يأبون إلاَّ أن يسألوني ويأتي الله تعالى لي البخل)) رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه أحمد وأبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- ولا يعلم في أرض اليمن جميعه مكسباً يحل لبني هاشم أطيب ولا أكثر من باب الحديد في صعدة، وقد صار مستغرقاً لهم [ولغيرهم] ولمن شاركهم في استحقاقه من غيرهم وهم اليسير والكف عن المحرمات أولى من التهور فيها، كأنك لم تستغن بما صح أن آل محمد لم يشبعوا من خبز البر ثلاثاً متوالية، وأنهم كانت تمر عليهم الليالي والأيام لا توقد في بيوتهم نار[122/أ] ولا بما فعل علي -عليه السلام- مع
عقيل حين طلبه صاعاً من قمح.
وقال في نهج البلاغة ما قال: وحقوق الله في ذلك الوقت التي تحل لهم وتحرم عليهم أكثر توفراً مما يعد في ساير الأعصار بإجماع نقلة الأخبار، مع مُلك علي (عليه السلام) لليمن ولما هو فوق اليمن من الأمصار، وكان بنوا هاشم [في] ذلك الوقت دونهم الآن في القدر، وفوقهم المقدار، ولكن: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } أعوذ بالله من العمى، ونسال الله الهدى والتقى، وحسبنا وكفى.
ولعلك لم تعلم إخراج النبي ً التمرة التي التقطها الحسن -عليه السلام- من فيه، وقال: ((أخشى أن تكون من تمر الصدقة )) ولا ما قاله الإمام المنصور بالله -عليه السلام- في جواب المعترض عليه بمثل هذا الإعتراض حيث قال: وقد قضى رسول الله ً يهودياً ديناً فأمرنا به أن يزيده شيئاً لكلمة اغلظ له فيها من صدقة بني زريق فأعطى اليهودي من الزكاة وفي أصحابه من المسلمين ومن معه من الحاجة ما علمه الخاص والعام، والقصة مشهورة عند أهل العلم.
قلت: قد رواها الهادي -عليه السلام- في كتاب (الأحكام) ورواها غيره من أئمة الحديث الأعلام.
قال -عليه السلام-: وأعطى -يعني النبي ً- المؤلفة قلوبهم الأموال الجليلة في يوم حنين، وفي غيره، وفي المسلمين من هو أنصح وأحوج، فلا وجه لذكر الحاجة هاهنا، وقد كان النبي ً يعطي الخمس قوماً من الكفار وغيرهم، وهو حق لأهل بيته بغير مشاورتهم وحاجتهم إليه شديدة حتى بلغ بهم الجهد كل مبلغ، فأعلم ذلك ولم يعامل ً المؤلفة قلوبهم هذه المعاملة لا من قرب إليه كآل أبي لهب، ولا من بعد كغيرهم، بل حصر الآل في الخمسة البطون، وليس منهم غير التقي، وإن كان من الخمسة البطون أيضاً، وقد شهد بذلك القرآن في أبي لهب (لعنه الله) وإذا منع من الخمس لمفارقته في الدين جاز أن يعطى من الزكاة كساير المؤلفين، وكذلك من اتصف بصفته من ساير البطون، ولذلك جعل النبي ً لآل المطلب ما جعل مع بني هاشم، وكذلك علي -عليه السلام- في صدقته بشركهم معهم.
قال الشافعي: ولأجل ذلك يحرم عليهم الزكاة، وانظر إلى ما أجاب الله به نوحاً -عليه السلام- في ابنه فإنه قال: {يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } وأجمع المفسرون على أنه كان ابنه، ولكن المعنى أن عمله غير صالح، وذلك معنى قوله:{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} وقد قال بمثل ما قلناه المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عليه السلام- والإمام يحيى بن حمزة، والإمام علي بن محمد وغيرهم، قالوا: يجوز تأليف الهاشمي من الزكاة إذا تكاملت فيه شروط التأليف؛ لأنه إنما نُزه تشريفاً[122/ب] ولا يستحق ذلك الفاسق فبينت بحمد الله أن العتب عليك في هذا الذي فهمته.
فصل: وأما ما ذكرت من تولية مثل الفقيه محمد بن علي بن جميل -عافاه الله- فهو الخليق بالإمارة والملي بها لا يعلم بنقص في الدين، ولا خلل في الرأي، والحمدلله الذي جعل الإعتراضات الواردات على رسول الله ً، فإنهم اعترضوا عليه بمثل هذا الإعتراض، في ما رواه الشيخان والترمذي عن ابن أبي عمرو، قال: ((بعث رسول الله ً بعثاً وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في إمارته، فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه ، وأيم الله إنه كان لخليقاً بالإمارة وإنه كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ)) وليس علينا أن نتحرى إلا ما رأيناه في ظننا، ورأيناه أقوم وأصلح، كما أن النبي ً أمر أسامة مع كراهة كثير من أصحابه لذلك، وكما أمر خالد بن الوليد وحاله ما عُرف، وفعل تلك الأفاعيل التي أمر النبي ً علياً -عليه السلام- فوداها وأرثها، ثم لم يمنعه ذلك من تأميره مرة أخرى، ولا منع بعده الخلفاء من تأميره، وكما أمر ً عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل على المسلمين، وفيهم أبو بكر وعمرو وغيرهما أكابر الصحابة على أن أحداً من الولاة، ولو أفتات علينا بشي من غير أمرنا لم يكن ذلك قادحاً علينا، فقد أفتأت خالد كما ذكرناه على النبي ً وبعض عمال على -عليه السلام- أفتأت عليه بعمالته جميعاً، وبعضهم فعل أيضاً كذلك، ولم يقدح ذلك في حق علي -عليه السلام- ولم يزل مثل ذلك يجري من العمال والولاة في جميع الأعصار، فإن العصمة لا تشترط إلا في الأنبياء -صلوات الله عليهم- دون غيرهم، ولكن أجبت النكير بالأباطيل وتتبع كاذب الأقوال كما زعمت
في الأقارب من أسرف وأشترى بشمقاً بسبعة عشر قرشاً كذباً وزوراً، ولم يطرق أسماعنا قبل كتابك، ولا يصدق به أحد سمعه، لو نقل عمن أسرف من المسرفين فضلاً عمن علم إيمانه، وظهرت عدالته، ووجبت توليته، ما لم يعلم منه بكبير، وكذلك ساير ما ذكرت حتى حكمت بتعيين فواسد في صنعاء قذفاً بالباطل ورمياً بغير الحق، ثم زدت في تشنيع تلك الفاحشة بقولك: إن عليهن مثل هذا على ما حكى عنك رسولك، وقد قال الله في مثل هذا:{لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} الآيات، وقال:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ الله عَظِيمٌ، وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ الله أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} ولكن حسب[123/أ] القايل قول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} هذا فيمن أحب الإذاعة، فما ظنك بالمذيع فهذه البصيرة للمتقين وهذا البيان للمؤمنين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، والحمدلله رب العالمين{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِْسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} .
والحمد لله الذي شرح صدورنا بالقرآن، وجعلنا على بينة من الهدى والفرقان، وأسلمت وجهي لله ومن أتبعني وعلى الله توكلت وهو حسبي، وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وسلم.
[رسالة القاضي أحمد بن سعد الدين]
وقال القاضي العلامة صفي الدين وشحاك الملحدين أحمد بن سعد الدين -أطال الله بعمره- ونفع بعلومه الطاهرة المنيرة:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد: حمداً لله بما هو أهله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله والصلاة والسلام، الأتمان الأكملان على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، فإن الرسالة المنسوبة إلى السيد صارم الدين، إبراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي-أعاذنا الله وإياه من زلة القدم والقلم- لولا اقترانها بما كان منه أصلحنا الله وإياه من أتباع ناعق بن روكان، حين بغا وطغا، وحارب الله ورسوله، وسعا في الأرض فساداً لم يكد الواقف عليها يصدق أنها منه؛ لأن خطها مجهول، ومعانيها متدافعة؛ ولأن الذي رأيناه عياناً بخط السيد صارم الدين، الذي لا يشك فيه من يعرفه إنه كتب إلى الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين -حفظه الله- في جمادى من عام ست وخمسين وألف [يوليو 1646م] وهو إذ ذاك فسحة من أمره وملك لزمامه غير محاط به ولا مغلوب، بل هو في جهة نازحة، وديار عن المخافة بعيدة ليست كما يدعي في بيعة صنعاء، التي بذلها في شعبان في عام خمس وخمسين وألف سنة [1645م] في مشهد الخاص والعام، وأعطى عليها عهد الله وميثاقه بعد أن عرض عليه الإمام مأمنه، ثم هو وما أختار لنفسه، فكان منه في شهر الله المعظم رمضان ما كان كتب إلى السيد صفي الدين أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين في التاريخ المذكور عام ست وخمسين وألف[1646م] بخد يده ما ألفاظه هذه:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمدلله وسلام على عباده[123/ب] الذين اصفى، سيدي الأخ الشقيق الريسي الأكمل العلم الأوحد الأفضل الأمثل صفي الإسلام والدين، أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين -حفظه الله تعالى- عن طوارق السنين، وأهدى إليه من أخيه في الله إبراهيم بن محمد شريف الإسلام وزليف الإكرام، وبعد فصدرت من محروس قراض بعد الإتفاق بالوالد الأفضل جمال الإسلام المهدي بن الهادي -حفظه الله تعالى- وقد كان أرسل الموضوع الذي وضعتموه إلى بلاد وادعة وكنا قد استخرنا الله مراراً عقيب الإرسال بالموضوعات الأولى حتى إن الله اختار لنا بفضله وطوله عدم اشتراط أمر من الأمور إلا ما قد وضعتموه من الأمان، وعرفنا أن مراد الله ذلك منا، وإنه الناصح الذي لا يغشى، ومع ذلك رجح عندنا أنا بعد تسليم ذلك الأمر العام يقدم إلى جهة المولى -أيده الله- عقب وصوله مكتوبه الكريم الذي هو كوضعكم الذي وضعتموه لنا لنتبارك بخط يده المباركة، وإلا فما فعلتموه فهو كاف وافٍ إن شاء الله تعالى، والقاضي أحمد والسيد أحمد والقاضي حسن ومن استحسنتم وصوله للشهادة علينا بتسليم ذلك يصلون على بركة الله، فقد صرنا منتظرين لقدومهم المبارك إن شاء الله تعالى، ثم إنا لا نستغني عن مكتوب مثل مكتوبكم من والدكم، أحمد بن أمير المؤمنين -حفظه الله- لأنكم قد عرفت كبر سنه؛ ولأنه لا يمهل عن طلب مثل ذلك منه فلكم الفضل بتعيين ذلك من عنده، وقد كُنا استعفينا منكم ومن المولى في القواعد الأولى عن التقدم إليه حتى أنا رأينا أنه لا غنى به من المثول بين يديه ليعرف صدق النية وخلوص الطوية، وإن كان
الله هو الكافي، والمطلع على ما في الضماير إلا من يسمع يخل، وعفا الله عما سلف، ومن شيمة أهل البيت الوفاء والإغضاء، ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور، وإن كنا قد أخطأنا فيغفر الله لنا وهو أهل الغفران، ونحن بنوا آدم محل العصيان، وإن غيرنا الخاطئ والله يغفر له، ويسامح عن الجميع وإن كان المولى -أيده الله- ميّزه الجانب عن تلك الكائنات الأولى؛ لكنها قد وقعت فلتة من أهلها فيغفر الله، وقد أكتفينا بكتابنا هذا عن الكتاب إليه -أيده الله تعالى- ولابد من كتاب إليه عقيب وصول المطلوبين إلينا نعرّفه بما وقع منا، وكتاب إلى كافة المسلمين إن شاء الله تعالى، والله يتولى الإعانة، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام ورحمة الله وبركاته. انتهى بألفاظه من خط يده، ثم كتب إلى الإمام المتوكل على الله -حفظه الله- بما هذا لفظه وبخط يده:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا[124/أ] الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} سيدي ومولاي أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، المتوكل على الله رب العالمين، إسماعيل بن أمير المؤمنين-حفظه الله وحرسه ووقاه- وأهدى إليه من أخيه في الله الفقير إلى الله إبراهيم بن محمد شريف السلام، وزليف التحية والإكرام، وبعد فصدرت هذه معرفة -أيده الله- بأني ما زلت أستخير الله، وهو نعم المستخار في كل عشي وأبكار، أن يقضي لي بما هو المختار في دنياي وآخرتي التي هي دار القرار، فقضى الله سبحانه وهو الناصح الذي لا يخشى بإلقاء هذا العبء الثقيل وتحميله وليه وابن وليه على محكم كتاب الله وسنة نبيه من غير أن يُشاب ذلك بشايبة من الأمور الدنيوية، بل يكون عملاً من خالص الطوية، وقد قضى النظر في باديه بموضوع كنا أرسلنا به إلى الصنو السيد صفي الإسلام أحمد بن الحسن -حفظه الله- ثم إنه تعقب ذلك ما ذكرناه لكم من صنع الإستخارة، فتقدمنا عقيب ذلك إلى محروس قراض، والقاضي صفي الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال، وله العناية التامة في النصيحة لله ولكم، فوجدنا فيها الوالد السيد العلامة المهدي بن الهادي -أبقاه الله تعالى- قد تقدم بوضع من الصنو صفي الدين، أحمد بن الحسن -حفظه الله- فيه أمان شديد، وذكر شيئاً مما يتعلق بالقرابة، بعد أن كنا أردنا التنبيه عليه -حفظه الله- بما صنعت استخارة الله
فحمدنا الله تعالى على تطابق الكل على مراد الله، ثم إني كتبت إلى الصنو صفي الإسلام -أبقاه الله- بما كانت النية انطوت عليه وذكرنا له إن النية قد انطوت عقيب استخارته على التقدم إلى حضرتكم الشريفة المكرمة ليكون ذلك زيادة في الإطمئنان، وحسماً للمادة التي تورث وسوسة في القلوب أو تسويلاً ممن لا يخاف علام الغيوب، وقد كنا اعتذرنا بادئ الرأي منكم ومنه عن هذا المطلوب، حتى إن الله وله الحمد هيأ ذلك لنا، وطلبنا منه وصول جماعة يحضرون على التسليم منا عن رضى واختيار، وذكرنا له طلب مكتوب منكم -أيدكم الله- على نحو مكتوبه، واعتذرنا عن الكتاب إليكم حتى يقع الكتاب بعد المحفل العام، والذي يرضى به الله سبحانه الملك العلام، ثم رجح عندنا أن يقدم بين يدي ذلك هذا المسطور، ونطلب مكتوباً خالصاً في الأمان ليس فيه شايبة من تلك الأمور، وهو على النحو الذي وضعه الصنو أحمد بن الحسن إلا أنه خال عما يخصنا وقرابتنا ليكون العمل على ما قضيت به الاستخارة لا يكون مشوباً بأمر غيره، فقد صدر إليكم فلكم الفضل بوضع خطكم عليه، وخط من حضر سوحكم الكريم، وإن كانت العيبة قد حصلت بما فعله الصنو شمس الإسلام-حفظه الله تعالى- إذ هو يد من أيديكم عظمى لكن ذلك زيادة في الإطمئنان والله المستعان وعليه التكلان، والدعاء وصيتكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحرر بمحروس قراض صبيحة يوم السبت خامس[124/ب] وعشرين في شهر جمادى الأولى سنة ست وخمسين وألف[8يونيو 1646م] وحيث قد وضعتم أماناً كان المعمول عليه، وكان الكافي والسلام. انتهى بألفاظه ومن خط يده، ثم كتب إلى لإمام
-عليه السلام- ما لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الحمد لله الذي ألف بين قلوب أوليائه المؤمنين، وجمع بعد التفرق قلوب المسلمين ونسأله حراسة ذلك ببقاء مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رب العالمين.
المتوكل على الله إسماعيل بن الإمام القاسم بن محمد بن رسول الله، لا زالت أيامه واضحة النعم في الأيام ونعمه مقلدة في أعناقهم (لازمة لزوم الحمام) والله يحمي بحمايته معالم الإسلام، ويهدي إليه من أخيه في الله إبراهيم بن محمد شريف السلام، وزليف التحية والإكرام، وبعد: فصدرت بحمد الله بعد استقامة الأمور على ما يريده الله، واتساقها بفضل الله وطوله على ما أراه وأخار به وارتضاه، وذلك أني لم أزل استخيره بكره وأصيل حتى استخار لي بفضله التخفيف وإلقاء هذا الحمل الثقيل، وتحميل مولاي عهدته، ليفعل ذلك بمراد الملك الجليل، فحمدت الله على أن جعل الإقدام والإحجام على بصيرة وعرفت أن الله سبحانه وتعالى قد حمد السيرة، وقد وافقت مراده السريرة، وسألته أن يحمي الإسلام بحمى المولى، ويطيل له البقاء، وكان تيسير الله لإتمام ذلك الذي جاءك في الصدور وإليه آلت عاقبة الأمر بعناية من حمد الله مساعيه. وشكر أياديه، ذلك الأخ الرئيس الأكمل واسطة عقد السادة ومرجع الكلمة والقادة، صفا الإسلام والمسلمين أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين(حفظه الله) عن طوارئ السنين فإنه ما زال بحسن مقاصده مؤنساً للقلوب، وجاذباً لها إلى المطلوب، حتى أتم الله ما أردناه بحميد السعاية وألمعية الدراية وحسن النية، وخلوص الطوية، فجاء ذلك الأمر مطابقاً للمراد جارياً على وفق السداد، وكان ذلك عقيب أن تقدم إلينا القاضي العلامة الأعمل الأكرم صفي الدين أحمد بن يحيى بن حابس، والقاضي العلامة الأعلم شرف الدين الحسن بن أحمد الحيمي، والصنو السيد الأكرم العلم الأعلم شمس الدين أحمد بن
الهادي، والسيد العلامة أحمد بن محمد القابلي، والوالد جمال الإسلام والمسلمين، المهدي بن الهادي النوعة. وقد تقدم إلينا إلى الجهة الوادعية الفقيه الأفضل العلامة شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال، (حماه الله) بعد أن استدعينا عقيب أن لاحت لوايح الاجتماع فكان المذكوران مع من حضر من الأعيان حاضرين الموقف الكريم شاهدين [125/أ] لنا وعلينا بما انطوت عليه القواعد التي ما بعد تقويم وقد وأنفذنا إلى الحضرة المكرمة المشرفة المعظمة بقاعدة تطلعون عليها، مشتملة على المراد، مبينة مفصلة نفذنا في المقامات التي هي مجامع الأفاضل، بقواعد على نسقها ليكون حسماً لمادة قول كل قائل، وإن كانت الأعمال خالصة لله، ولم يبق فيها بحمد الله اشتباه لكن مثل ذلك زيادة في الاطمئنان، وجار على قواعد الإحسان، ونفى لتسويلات الشيطان، والله المسئول أن يجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم مقرباً إلى جنات النعيم وقد تقدم إليه أيده الله من مبادئ القول والتعريف بما لا يحتاج معه إعادة المقالة، والدعاء مستمد، والسلام [عليكم] ورحمة الله وبركاته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . بتاريخ شهر جمادى الأول سنة ست وخمسين وألف[1646م] . انتهى بألفاظه ومن خط يده.
[رسالة إبراهيم بن محمد المؤيدي إلى الإمام]
وهذه القاعدة التي أشار إليها بخط يده وعليها حكم القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن يحيى حابس (رحمه الله) وشهادة من ذكرهم في الكتاب من السادة والقضاة وهذه ألفاظ ما كتبه بيده فيها كتب في عنوانها. سيدي المولى أمير المؤمنين، المتوكل على الله رب العالمين ومن لديه من السادة الكرام والقضاة الأعلام والمشايخ الفخام، وكتب فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، الحمد لله مدبر الأمور على مقتضى إرادته. وكل يوم هو في شأن متصرف في مصالح خلقه على مر الدهور بلطيف حكمته من غير مؤازر ولا ثان، المملك الملك من عبيده من ملكه في الكتاب مسطور من سالف أزليته فأنى لغيره سلطان، والصلاة والسلام على الهدى والنور المبعوث لإعلاء كلمته إلى الإنس والجان، وعلى آله المطهرين أحسن طهور من رجس الشيطان ومعصيته، فهم لأهل الأرض أمان. وبعد فليعلم من على البسيطة من داني الأرض وقاصيها، من اتهم بغورها وأنجد بصياهيها أن الداعي إلى الله، بالمغفرة وراجيها، إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عز الدين (ثبته الله على قواعد الشريعة ومبانيها) يقول لما ظهرت الدعوة المتوكلية ظهور الشمس عقيب ليل الفتن التي حارت فيها ذوو الألباب، ودان لها ذوو العقول وخضعت لها خضوع الذليل غلب الرقاب، ورفعها المسلمون معزين لها ومكرمين، وذهب إليها العلماء ثبات وعزين، ووكل بها قوماً ليسو بها بكافرين، حتى صارت ماضية لشأنها قاطعة لعنانها. قايلة بلسانها:
دعوني أجوب الأرض في طلب العلا ... فلا الكرخ الدنيا ولا الناس قاسم
[125/ب] وعقد المسلمون بها تاجاً ووهجوا للجذل بها سراجاً وهاجا، ودخل تحت أوامرها المسلمون أفواجا، وجاءوا نحوها أفراداً وأزواجا، وما ذاك إلا أن متحملها ينبوع العلم الفواز وغيث الفضايل المدرار، وزبرقان الفلك الدوار، وطراز علالة المعالي والفخار.
عليم رست للعلم في أرض صدره ... جبال جبال الأرض من دونها قفر
ذلك فالج الأرتاج، ودرة التاج المولى أمير المؤمنين المتوكل على الله إسماعيل بن أمير المؤمنين، فعند أن اختصه الله بالخصايص الجليلة، ورأيت المصلحة في معارضة مثله قليلة، وكان الله قد أمر بالوفاق، ورغب فيه وحث عليه. وقال:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} سلمت ما كنت تحملته من الأعباء الثقيلة، تسليم راض لا شبهة فيه ولا حيلة لوليه وابن وليه. الإمام المذكور المشهور، المتوكل على الله إسماعيل بن الإمام القاسم المنصور:
إذا الأمر هذا لا يليق بغيره .... فألقى إليه قوسه ومشاقصه
ولا شك أن الله راض بدعوة .... إليها قلوب الخلق لا شك شاخصة
ولم نشر عليه في ذلك التسليم إلا ما شرطه الله عليه، مابقى أيده الله على حالته المرضية سايراً على الكتاب والسنة النبوية وها أنا قد خففت عني ثقالها على نية والله لله خالصة. فها أنذا ساير تحت لوائه مهتد بهداه ملتزم أحكام الطاعة داخل تحت جمعته والجماعة، على مقتضى ما يريده الحق من طاعة الأئمة الذين هم الخلق ما طابقوا مراد الله والتزموا طاع الله فليعلم من وقف على مكتوبي هذا بما التزمته من أحكام الطاعة للإمام، وإن ما تقدم مني من مقتضيات النظر الذي اعتقدت فيه المطابقة لمراد الملك العلام، فإن كنت في ذلك موافقاً لمراد الله فقد مضى بما فيه من أجر وإلا فأنا أستغفر الله وأسأله حسن العاقبة وإليه ترجع الأمور والإنسان محل الخطأ والنسيان، والكريم محل المسامحة والغفران، وقد التزمت النفس طريقة الاقتصاد والتمسك بالعرفات وأوقفتها في حلبة السباق على قصبة المصلي وجبتها عن إدراك شأو السباق، ومن سبقت من إساءة إليَّ وظن أني بها قمين فقد سالت الله أن يغفرها له وهو أرحم الراحمين، وجل من لا عيب فيه وعلا عن كل قول ذميم وقل ما سلم من الخدش أديم.
ألا لا أبالي من زماني بريبة ... إذا كنت عند الله غير مريب
ولا شك أن مثل هذا الأمر لمثلي في هذا الزمن [126/أ] لا يدخل فيه لإَّ من جذبته امراس الاعتزاز، ولمعت له بوارق الأماني من بين عارض شبه الوجوب، وماهي إلا إعصار فيه نار، فعلمت ما كنت جهلته بعد الدخول فيه، وأيقنت بعد الخرو منه أن الله قد خفف عني الإصر، واختار لي ما لا أختار: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين} وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وسلم.
بتأريخ شهر جمادى الأولى سنة ست وخمسين ألف[يوليو1646م] انتهى بألفاظه من خط يده.
ثم كتب إلى الإمام المتوكل على الله (حفظه الله تعالى) بخط يده في شهر رجب سنة ست وخمسين وألف[أغسطس1646م] المذكورة في شيء من اعتراضه الخاصة وضَمَّن الكتاب الاعتذار . عن اجتماعه بالسيد صفي الإسلام والمسلمين، أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، (حماه الله تعالى) وإنه عرفه أن الأمر لعذر يرجع إلى خويصة النفس وإنه قد قبل عذره، إلى أنه قد دخل إلى محروس صعدة وأنه إن تراخى في صعدة كانت الطريق في التقدم إلى حضرة الإمام (عليه السلام) عليه وإلا كان الاتفاق إن شاء الله لديه ثم كان آخر ما كتب في ذلك الكتاب ما لفظه: نعم أيدكم الله تعالى كنا قبضنا حصاناً من خيل الوالد أحمد بن الإمام يوم تلقانا إلى الطريق وكانت هذه الأيام واستحسنا عوده إليه فرددناه إليه وأردنا استئذان المولى وإجازة ما فعلنا لأنه من بيت المال، فلكم الفضل بإجازة ذلك، وحيث تفضلتم تأذنوا لنا في صرف واجبنا فالفضل لكم وإلاَّ صيرناه بنظر الففقيه علي الشقري والجواب من المولى للرسول مبادرة فإنه ذو عول وهو في أيام كسب. والسلام. انتهى بألفاظه من خط يده.
ثم كتب إلى الإمام المتوكل على الله حفظه الله تعالى، بخط يده في شهر شعبان من سنة ست وخمسين وألف[سبتمبر1646م] المذكورة كتاباً في أغراض وكتب فيه ملحقاً بخط يده يطلب فيه ولاية للسيد يحيى بن أحمد بن المهدي، فقال فيه ما لفظه إلحاق خيراً (إن شاء الله) إلى المولى أيده الله تعالى قد عرفتم إن الجهة التي كانت بيد الوالد الأفضل العلامة شمس الدين أحمد بن المهدي (رحمه الله تعالى) ما زالت في أيدي آل المؤيد من بعد زمان الأمراء أولاد يحيى بن يحيى رحمهم الله تعالى إلى هذا التأريخ يأمرون فيها بالمعروف ويقيمون فيها اليتيم والضعيف والأرملة والمسكين، حتى كان إلى هذه المدة وتحيط في بعضها الصنو يحيى بن أحمد عاه الله تعالى، ثم الصنو أحمد الأغضب وكان ذلك سبباً لتسليط من لا يرحم صغيرهم، ولا يوقر كبرهم وصرت أرى في الصنو يحيى بن [126/ب] أحمد لوايح الخير في هذه المدة لقريبة، فإن رأى المولى حفظه الله تعالى تعليقة بشيء منها واختاره فقد ضاع بيت السيد أحمد بن المهدي وانتثرت أمورهم، ولكن رأينا الأمور على ما عرفتم وهم بيت كبير ما يسعهم ما يسع غيرهم وفي ذلك نظركم الثاقب والله لتولى الإعانة والسلام. انتهى بألفاظه من خط يده فيكف ينبغي للسيد صارم الدين عافانا الله وإياه أن يقول في تلك الرسالة أنه إنما صالح كصلح علي بن أبي طالب وهو في كل ما ذكر يشهد بما يشهد، وأن جميع ذلك مراد الله لم يبق فيه شبهة ولا حيلة، وكيف يقول إنه لم يزل يذاكر بهذه الاعتراضات مدة سبع سنين، وقد رأيت تاريخ كتبه التي شهد فيها على نفسه بما شهد ونحن الآن في أوائل عام إحدى
وستين، أو إنه شرط وشرط، وهو فيما كتبه ينفي الشروط غير الأمان هذا إن أراد شرطاً يخصه أو يخص من يخصه. فأما شرط العمل بكتاب الله وسنة رسوله ً فذلك شرط الله قبل شرطه وحقه قبل حقه، على أن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وآله لم ينكث عهداً، ولا نقص عقداً بل أغضى وصبر وفي العين قذى، والقلب شجاً يرى برأيه نهباً ويرى ما مني به الناس من تخبط وشماس وتلون واعتراض وهو هو والأمر في ذلك واضح جلي، ولكن ما عشت أراك الدهر عجباً وقد كان من حق تلك الرسالة أن لا تجاب فيها، ولا يلتفت عليها؛ لأنه إن كان صادقاً فيما شهد به وكتبه بخطه للإمام المتوكل على الله حفظه الله، وقد قال الله عز وجل:{بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} وأي حجة علينا إذات علمنا بشهادته فكيف نصدقه الآن فيما سبق في إكذاب نفسه، وإن كان في ما سبق منه الشهادة كاذباً فكيف نصدقه وقد شهد على نفسه بالكذب، ولكن لعل الجواب ينفع إن شاء الله من إذا سمع وعا وإذا وعا رعا. فمن الجواب الحملى عما تضمنته تلك الرسالة أن الإمام المتوكل على الله حفطه الله ليس بأول من ابتلى باعتراض المعترضين، وإفك الآفكين، وكيف والناس قد قالوا في رب العالمين ما قالوا وسبحان الله عما يصفون، ونالوا من عرض رسول الله ً المطهر المصون ما نالوا، فآساه الله بنحو قوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}
وقوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَات ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا [127/أ]وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا الله مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله رَاغِبُونَ} وقوله:{وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} وإنه كان الأحق بالسيد صارم الدين أن يوفي بعهد الله وميثاقه وقد سمع الله عز وجل يقول: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} ...الآيات، وإنما ابتدأ بأخذه على نفسه باختياره عن عزمه على الوصول إلى الإمام ومشاركته ومؤاساته فإن رأى معروفاً أعان على فعله وإن رآى منكراً أعان على تركه ولا يختار لنفسه وأهله مع قول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} المساكنة لقوم شهد عليهم في رسالته هذه بما شهد، وهل اللوم إلا عليه، وهو بينهم إما قادراً فعليه أن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فها هو يدعي أنه لا يقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.فها هويدعي أنه لا يقيم الأمر با المعروف والنهي عن المنكر على وجههما غيره.وانه يريد إقامة هذين العمودين في المشرق والمغرب. وأما عاجزاً فينقل عنهم كما قال النبي ً: ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل )). ولا يرضى لأهله ونفسه والعياذ بالله أن يكون يكونوا ممن قال فيهم عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} الآية. وإما مستضعفاً حقيقة من الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فكف لسانك عمن باع نفسه من ربه وبذل مهجته لخالقه،وواسىالمسلمين بنفسه ونفيسه في ليله ونهاره، ولا يجعل ما صانه الله من اعراضهم دريه لسهامه، وهو يحسب لايصل اليه من الأخبار إلا ما شذ، ولا من المخبرين إلا ما بذى كالذين قال الله عزوجل فيهم :{يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً} .وذلك حرمهم الله نصيبهم من الفي، وقال عزوجل:{مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } .وبأي هذه الوجوه يكون التأس
برسول الله عليه وسلم وبأ هل بيته من محق أومبطل وما أحسن ما أنشده الامام الى الحق عز الدين بن الحسن عليه السلام[127/ب]
كفاني الله شرك يا خليلي .... فأما الخير منك فقد كفاني
وأما التفصيلي إنا لم نعلم من إمامنا هذا المتوكل على الله حفظه الله إلاشحن أوقاته ليلاًونهاراً بتقوى الله وذكره وعبادته، والدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة معاني الإسلام، والتذكير بالله عز وجل بالتخويف من منكراته، والتبشير للمطيع، والإنذار للعاصي، وإقامة الحدود، وحفظ المواثيق والعهود، والوفاء بالعهود، وإقامة الشريعة المطهرة على البر والفاجر، والأمير والمعظم والحقير، والتفقد للضعفاء والمساكين، وذوي الحاجات بمبلغ جهده، وغاية قدرته بلسانه ويده وأعوانه فيما حضره ويبعث المعلمين والمرشدين، وكتبه ورسله وأوامره ونواهيه وعساكره ووزعته لإخافة الظالمين، والمفسدين والمعتدين وأطرهم على الحق، وتشريدهم والانتقام لله منهم فيما بعد من بر وبحر وحتى إلى أقصى حدود بلاد الحبشة والسودان عن بيت الله الحرام، ومشاعره العظام من الأعيان ما ثبته الله به من قوة العزيمة وخلوص النية وصدق اليقين ونصرته من الرعب وألقى عليه من محبة الخلق، هذا إن كان للعيان على الخبر فضل وبين العين والأثر فرق. شعر:
والشمس إن خفيت على ذي مقلة .... نصف النهار فذاك محصول العمى
وأما المأخوذ من الرعية فهو بعد أخذه من نفسه وخاصته أضعاف ذلك بعض ما أوجب الله على الرعية من بذل أموالهم وأنفسهم دون دين الله، وإعانة المجاهدين في سبيل الله وسد هذه الثغور الإسلامية التي وسع الله بتفضيله نطاقها، وإقامة هذه الشعائر الدينية التي نشر الله برحمته أعلامها وحماية هذه الجوزة المحمدية التي أعظم الله وله الشكر حرمتها. وما أوجب من الإعداد لأعدائه من القوة التي لم نجدها نجد، ولم يقصرها عن فرض ولا استثنى دونها ممكناً بل قال عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} وقد تضمن هذا الذب عن أعراض سادة العترة وأمراء شريف هذه الأسرة فيما أعترض به المعترض مما تحث أيديهم الثالث والرابع قال من الأموال والخزائن ونحن نقول بل من العساكر والخيل والسلاح والحصون والذخر ويظهر بتفضل الله ونعمته عليهم وعلى أتباعهم وأعوانهم من الهيبة الحسنة والنعمة الناظرة والغبطة الجليلة التي لا تطلع عليهم ولا عليها شمس يوم ولا تغرب إلا وهم بها غيظ لأعداء الله وشهب ترجم شياطين من حاد الله ورسول تارة في المشرق [128/أ] وتارة في المغرب وتارة في الشام وتارة في اليمن وتارة في البر وتارة في البحر، مفارقون لله في ذلك أهليهم وأوطانهم، وبنيهم، وإخوانهم، إن بذلوا المال فهم له على وجهه باذلون وإن أعدوه
عندهم فهم عند الله من المتصدقين المتقين وانظر إلى قول الله عز وجل في آخر الأحداد {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يعني في الإعداد {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } فلا ينكر ذلك إلا نحو من قال الله عز وجل فيهم: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيماً، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} ومن لايعرف معنى الجهاد ولا ما كان عليه سيره رسول الله ً والأئمة الطاهرين، من أهل بيته الذين منهم لكل قوم هاد، ولم يسمع معنى قول الله عز وجل على من قال فيهم :{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ} فليس الجهاد مقصوراً على الضرب بالسيف والطعن بالرمح، كيف والله عز وجل قول: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ
كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ويقول: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} والمعلوم إنه لم ينصب للمنافقين حرباً بالسيف ولا بالرمح، وإذاً لبطل الرباط الذي هو أعظم مواقع الجهاد، وفيه قال رسول اللهً: ((كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله تعالى فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر)) ومعنى قوله ً ((من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا )) وقوله: ((لينفر من كل اثنين أحدهما والأجر بينهما )) وقد كفى المؤنة بعد كتاب الله وسنة رسوله في ذلك أجوبة أئمة الهدى الماضين صلوات الله عليهم مالهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، والمنصور بالله عبد الله بن حمزة، والمهدي لدين الله أحمد بن الحسن، والمهدي لدين الله محمد بن مطهر (سلام الله عليهم) وغيرهم وأقربهم إمامنا المنصور بالله وابنه المؤيد بالله (سلام الله عليهما) فقد أتينا بسيرة من قبلهما بالخبر وعاينا[128/ب] سيرهما بالصبر، وفيهم وفي آبائهم يقول الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ،
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} وإن كان المعترض قد جاءنا بالعجب إذ ادعى حصر جزية اليهود في اليمن، وخراج عدن، فهل حصر مصارفها حتى يجزي فيه على سنن إذا كان العد عنده ليس إلا ما ذكر عمر بن الخطاب، وما باله لم يجر على ذلك في حق نفسه، وحق آل يحيى بن يحيى، على أنهم رعاهم الله عما هم فيه منزهون، ومن مثل ما سلكه مبرأون، راضون عن الله وعن إمامهم شاكرون لنعم الله عليهم، قارون في هجرهم ومساجدهم وما باله طلب الولاية للسيد يحيى بن أحمد وقال إن تلك الجهة لم تزل في أيدي آل المؤيد، وإن بيت السيد يحيى بن أحمد بن المهدي رحمه الله وأعاد من بركاته ورفع درجاته بيت كبير لا يسعهم ما يسع غيرهم، وما التي في تلك الجهة ما ينفق عليهم وعلى آل يحيى بن يحيى هل الزكاة والفطرة؟ فقد نزههم الله عنها. أو قبالات ومعونة فأين هي؟ وكيف وهو يعدها من أعظم المنكرات عنده التي أجاز دونها القتل والقتال واستباحة النفوس والأموال، وما يجوز حصوله فيها من الحديد، فهل يختص ذلك بأولاد السيد أحمد رحمه عليه دون غيرهم؟ فما المختص أو يعم جميع مصارفه فأين تبلغ؟ الله المستعان وقد زاد في التعجب بل يزيد في العجب إذ قال فيما نقمة على سادات السادات فيما ينفقون إنه بلغه قيمة حاشا المقام كذا، والقميص كذا والبريم كذا، فليت شعره هو لا غيره من هذه الثقة الأمين الذي اطلع على عورات المؤمنين حتى فضل هذا التفضيل ودقق هذا التدقيق، وهل يحكى هذا أحمق فضلاً عن عاقل أو نائم فضلاً عن مستيقظ، ثم هب إن ذلك كان فقد ملكهم الله بسيوفهم وسيوف آبائهم سلام الله
عليهم، وغنهم بزحف صفوفهم، وصفوف سلفهم، نصر الله وجوههم ما أفاض الله به منهم على غيرهم من الأنعام، ما طبق الشرق والغرب واليمن والشام فضلاً عن أهلهم وخاصتهم والله عز وجل يقول وهو أصدق القائلين: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ويقول عز وجل: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } ويقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ويقول عز وجل: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ[129/أ] فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ويقول عز وجل: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } ويقول في نبيه سليمان عليه السلام {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا
آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} ويقول عز وجل:{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} ويقول عز وجل: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ، هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} ويقول عز وجل: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} ويقول عز وجل في نبيه يوسف عليه السلام: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلاََجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وأما ما نسبه إليهم وصانهم الله من عصيان الإمام وعدم امتثال امره فما علمناهم إلا سامعين مطيعين لله ولرسوله ولإمامهم باذلين في ذلك أنفسهم وأموالهم، شاكرين نعمة الله عليهم {خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَاب} فرضنا أن يتلو على من وصمهم أو غمصهم قوله عز وجل: {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً
وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} وقوله عز وجل: {وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ الله أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وأما قوله ما صار عليه المسلمون من عدم الالتفات إليهم والرعاية لحقهم وتنزيلهم منازلهم فالمسلمون والله يفضل عليهم ونعمته وبركات إمامهم وسادتهم في ظل نعمة ورزق، ومهاد عيش هني، وربوة ذات قرار ومعين، قد صدقهم الله وعده عز وجل: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ولكن المعترض أصلحنا الله وإياه في خلا، وكل مخز في الخلا يسر وليته شارك ساعة[129/ب] من نهار فيما يعانيه الإمام (عليه السلام) من التكاليف، وهو يعد ذلك من أعظم نعم الله عليه وإحسانه إليه، حتى يعلم ......في نقص عن الأصل ص414 س11............. أن يمثل المتمثل [هاهنا] بمثل ما تمثل الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (سلام الله عليهما) وبل الشجن من الخلي. الأبيات .. أو الإمام الهادي إلى الحق عز الدين بن الحسن سلام الله عليهما فيما حكاه من قصة
الإسكاف، وما كرر التمثيل من قول من قال:
ولو أنصفت في حكمها أم مالك .... إذاً لرأت تلك المساوي محاسناً
وأما ما ذكر عن الفقيه المجاهد بدر الدين محمد بن علي بن جميل، رعاه الله فما علمناه إلا توجه عن امر إمامه لإنكارعظائم ارتكابها ابن روكان وغيره في نفوس وأموال وحرم معاملة كل بما يقتضيه الحال، مما يردع ويزع وينفع فمااكتفوا بذلك حتى نصبوا الحرب والقتال فجوزوا بما جوزوا من النكال، فلا يبعد الله إلا من ظلم، والسبق محفوظ على من حفظه، وحدود الله قائمة على تعداها ولكن هلم الخطب في إجابة السيد صارم الدين لناعقهم، وإسراعه إلى شق عصى المسلمين بإجابتهم وأما كون ذكره في أول الرسالة وآخرها من مذاكرته بهذه الاعتراضات سبع سنين وإنه أرسل رسلاً ورسائل، وتوسل بالعلماء والحكام وأهل الحل والعقد والإبرام، فما علمنا إلا الكتب التي نقلناها من خط يديه بألفاظها شاهدة على أمره بالبطلان وللإمام المتوكل على الله (عليه السلام) بوجوب الطاعة في التأريخ المذكور بخطه من سنة ست وخمسين، ونحن الآن في أول عام إحدى وستين وألف[1650م] وإلى ما لا يزال من كتبه الخاصة بإعراضه فتقضى، ومطالبه فيعطى، وإلا فأين أولئك الرسل والرسائل والعلماء والحكام، وأهل الحل والعقد والإبرام الذين ذكر أنه توسل بهم فلينظر الناظر وليتأمل المتأمل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ولا حول ولا قوة غلا بالله
العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
جواب القاضي إبراهيم العيزري
وهذا جواب القاضي العلامة صارم الدين إبراهيم بن الحسن العيزري الأهنومي أيده الله.
بسم الله الرحمن الرحيم. رب يسر وأعن يا كريم.
الحمد لله الذي جعل الأئمة من آل محمد المصطفى أعلاماً للهداية، وأمنة لمن اتبعهم، وتمسك بهم من الظلال والغواية. وجعل لنا[130/أ] حظاً في اتباعهم، وسلكنا في نظم أشياعهم وبصرنا بهداهم من العمى، وأرشدنا للاقتداء بأنوار علومهم العظمى، فله سبحانه الحمد الجزيل، والثناء الجميل، على ما خولنا من النعماء، وله الشكر الوافر الأوفى الأنمى، وأشهد ألا إله إلا الله شهادة الإخلاص واليقين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله الهداة المحقين.
وبعد.. فإن الإمامة والرياسة العامة لما كانت صعبة المسلك لا يقوى على زمامها إلا أولوا العزم، شامخة الذرى لا يستطيع صعودها إلا ذو علم راسخ وفهم، ولا يقوم بممارسة الأهوال التي لا تزال مرصدة لمقتعدها إلا من أعانه الله وأيده، وعصمه وسدده، وبألطافه الخفية أمده وشرح صدره لما يريد عليه ووسعه لما يفد إليه من التكاليف العظيمة والخطوب الجسيمة، ولهذا لا يصح لها إلا من كملت فيه الشروط المعتبرة شرعاً، والصفات الحسنة والشيم الطاهرة خلقاً وخلفاً وطبعاً، والأخراق الشريفة، والطريقة المثلى عفة وورعاً، وكان من فضل الله علينا أهل هذا القطر اليماني الميمون، وعنايته سبحانه بنا وإنعامه الميمون، إنه لم يزل به قائم حق من آل محمد ً مظهر للعدل، قائماً بالقسط حاكماً بالحق، إمام بعد إمام، وهاد بعد هاد، حتى اتسق فيه الحق، وأعلن في أقطاره بالصدق وظهرت شوكة العترة الطاهرين، واستحكمت دولة آل محمد الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين، على الحق الواضح الأبلج والطريق السوي المنهج وطهره من أرجاس الظالمين، وتفضل سبحانه بقطع دابر القوم الطغاة المفسدين، وذلك والحمد لله مما أكمله الله لهم وتممه من حميد مساعيهم من قيام إمامنا الأعظم، وهادينا إلى النهج الأسلم، ومن له على المسلمين بعد الله المن الذي لا يقاوم واليد البيضاء التي لا تكفر، والفضل العظيم الذي لا ينكر، أمير المؤمنين وسيد المسلمين المنصور بالله رب العالمين، القاسم بن محمد قدس الله روحه في الجنة، وجزاه أفضل ما جزى الأئمة الهادين ودعاة الحق الأكرمين ثم بعده ولده القائم على نهجه، القافي
لأثره ومنهجه، ناشر رايات الجهاد ومظهر آيات العدل في البلاد، أمير المؤمنين المنصور بالله (عليهما أفضل السلام) وأكمل به[130/ب] وبأخوته السادة المجاهدين ذلك السعي المشكور، وتمم بعلو همهم طهارة هذا القطر من أرجاس أهل الفجور، وبارك في أيام جهادهم حتى توطن الناس ببركاتهم، والحمد لله والمنة له والأمن والإيمان، وتوسعوا في الفضل من الله والإحسان، ونالوا منالاً في الدين والدنيا مالم يكن يخطر ببال إنسان، وذلك مصداق قول الله ذي الجلالة: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فالحمد لله رب العالمين.
ولما اختار الله سبحانه لإمامنا المؤيد بالله (عليه السلام) نقل روحه الطاهرة إلى دار السلام بعد أن أقر عينه، وأطاب سعيه، وحمد أثره في الإسلام، كان بعده من الخطوب العظيمة المظلمة، والفتن الجسيمة المدلهمة ما أذهل العقول، وجاوز حد المعقول من مصاولة الفحول، والتعارض بين أربعة من السادة آل الرسول كلاً منهم دعا إلى نفسه وخطب، وأمام سوق الطعن والضرب فعجل الله سبحانه وله الحمد والمنة بإطفاء نار تلك الفتنة، وألقى في القلوب حسم تلك المحنة، وعصم عز وجل عن التفرق في الدين والاختلاف بين المؤمنين وجمع كلمة الجميع على إمامهم السابق، وهاديهم وقائدهم إلى الخير وداعيهم الإمام الأعظم(العلم الأعلم) الهادي إلى واضح لقم امير المؤمنين المنصور بالله، أيده الله، وأيد به الدين، وأعز به الإسلام والمسلمين، فدخل كل من عارضه تحت دعوته، وأذعن لحكمه وطاعته، وسلم كل منهم له الإمامة لما عرفوا الفضل، وإنه الأحق بالرئاسة العامة والأولى بالقيام بأمر الأمة والزعامة مع ما ألقى الله له وله الحمد في القلوب من المحبة وجبله عليه من كرم الأخلاق وحميد الخلال المنتخبة، وألقوا إليه مقاليد الأمور وفوضوا إليه تدبير الجمهور، وتابعوه وشايعوه، وبذلوا له العهود وعلى رؤوس الأشهاد وبايعوه وصدق الله وله الحمد ما رواه الثقات عن والده المنصور بالله (عليه السلام) إنه كان عنده في المنظرة الكبيرة في بيته بمحروس شهارة، وهو صغير يلعب بين يديه، ويكثر الدلالة عليه والإمام (عليه السلام) [131/أ] مشغول بعمل فأراد بعض الحاضرين يؤخره عنه فقال الإمام القاسم اتركه فلو يعلم
الناس مالهم في ولدي هذا من المصالح العظيمة، والخير لما تركوه يمشي على الأرض. هكذا في روايتهم عنه يريد بذلك المبالغة في صيانته وتعظيمه، والرفع من قدره وإن حق مثله أن يصان عن حشوبة الأرض وأذاها، ولذلك صدق ما ظنه فيه صنوه مولانا الإمام المؤيد بالله (عليه السلام) في كتاب كتبه إليه، وهو بخط يده الكريمة، يذكر فيه ما معناه : وإني أرجو من الله سبحانه أن يجمع بك شمل أهل البيت في كلام ينقل إن شاء الله تعالى إلى هنا بلفظه؛ لأنه لم يكن حاضراً في حال كتابة هذا فاستقامت، والحمد لله عليه الأمور، وصلحت بحميد سعيه بعون الله أحوال الجمهور، وشملت بركاته الخاص والعام، ونمى بحسن عدله وسيرته حال الأنام حتى نفيأوا في العدل ظليل، وقالوا من حسن السيرة في أشرف ماقيل، وقام بما يحب الله أفضل قيام، وراعى حقوق المسلمين والإسلام، ولم يزل حفظه الله تعالى دائباً في صلاح العباد ليلاً ونهاراً ومرشداً لهم إلى الخير سراً وجهاراً آمراً بالمعروف ناهيا عن المنكر بالأقوال والأفعال مجتهداً في صلاح الأمة المحمدية أعظم اجتهاد ممحصاً لكثير من أوقاته في عمارة البلاد، متحرياً وجه الله فيما يأتي ويذر محتسباً في معاناة ذلك ما نرجوه عند الله من عظيم الأجر صابراً على اختلاف أخلاق الناس وطبائعهم، وعلى ما يلقى منهم من التهور والتلون في مطامعهم، حتى إن مشاهده يرثي لحاله، ويعجب من كثرة إلحاح كثير في سؤاله وطموح الآمال منهم إلى ما لم يكن خاطراً بباله، ولم يكن ذلك منه (عليه السلام) ألجأ إلى السؤال وإنما يريد أن يقع كل شيء في محله، وعلى حسب الحال، ومقتضى ما
يتوجه عليه المنال، لما عليه من اختلاف حال السؤال لاختلاط الغني بالفقير وفتح باب الطلب من الكبير والصغير، والتباس حال كثير من الطالبين وتَصنَّع كثير من السائلين والله المستعان على هذا الزمان وأهله، ونسأله أن يثبت الجميع على قدم الصدق بمنه وفضله.
وكان السيد صارم الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عز الدين المؤيدي أقال الله عثرته وأخذ بناصيته إلى الخير أحد الأربعة الذين تعارضوا وبايع مولانا الإمام الأعظم أمير المؤمنين المتوكل على إسماعيل بن أمير المؤمنين أيده الله بالنصر والتمكين بمحروس صنعاء في مشهد عظيم وجمع من العلماء الأخيار ومحفل جامع للرؤساء الكبار وكانت مبايعته بعد ان خيره الإمام (عليه السلام) [131/ب] بين الدخول فيما دخل فيه المسلمون، أو عدوه إلى مأمنه من البلاد فأختار الدخول في الطاعة والتزام أحكام الإمامة وأوامرها المطاعة، ثم توجه من صنعاء إلى بلاده، والقلوب مطئنة والعقائد حسنة إذ لم يكن في الظهار إلا ان المقصد الأهم والأمر المقدم هو العناية بأمور المسلمين والقيام بإقامة معالم الدين وجمع شمل المؤمنين ورفع منار الشرع المطهر وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتقد في الإمام أيده الله بعد ما بايع وبذل من نفسه ما بذل من العهد الوفاء بذلك الذي بذل وعقد البيعة المؤكدة وحمله وجميع الناس على المحمل الحسن وحسن الظن لما عليه ظاهر الحال وإنه ممن يصدق في المقال فلم يشعر بعد انفصاله من صنعاء إلا وهو بجبل برط وقد نبذ تلك البيعة والعهد ونقض مؤكداً ذلك العقد غير مبال ولا متحرج واعتل بعلل ظن إن له بذلك عند
الله المخرج ولم يكن كما يعلم الله خاطره للإمام أيده الله ببال ولا كانت له في ضميره ولا لغيره من قرابته وغيرهم ولو أريد به ما زعم وتفوه به لما اختلج منه أن يطلب البيعة ولا أن يخير بينها وبين العزم إلى مأمنه فقد كان ممكناً منه ولكن الإمام أيده الله خيره إرادة للوفاء لما ذكر إنه وصل صعدة مؤمناً عليه وما ذلك الذي اعتل به بعد البيعة بصنعاء إلا كما قيل( لهوى النفوس سريرة لا تعلم) ثم عزم من برط إلى الشام مصمماً على دعواه، وحصلت أمور هنالك أوجب الافتقاد لها والانتباه فأرسل مولانا المتوكل على الله حفظه الله تعالى ولده السيد الرئيس الأكرام صفي الدين أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين حماه الله في جماعة من العلماء والرؤساء والأجناد المنصورة بالله لإطفاء تلك النائرة والفتنة الثائرة فتقدم بأجناد الحق إلى الجهات الجماعية، وكل من أهل تلك الجهات انتظم في سلك الطاعة والولاية الإمامية فعلم السيد صارم الدين إنه لا يسعه إلاً الدخول فيما دخل فيه الناس وانزاحت عنه الشبهة والإلباس بعد أن انطوى إلى وادعة الشام وكان في محل له في نفسه ما يريد من الدخول في الطاعة ولانتظام في سلك الجماعة أو العزم إلى أي مكان يريد من قريب أو بعيد ولكنه لما عرف الأمور وأحوال الزمان وما عليه أحوال الجمهور رجع إلى ماهو الأولى والأسلم، وصرح بخطأ رأيه، وما سبق من فعله، ويقدم كما في كتابه العام إلى المسلمين في تلك الأيام ما لفظه بخط يده، ولا شك أن مثل هذا الأمر لمثلي في هذا الزمن لا يدخل فيه إلا من جذبته[132/أ] أمراس الاعزاز ولمعت له بوارق الأماني من بين
عارض شبه الوجوب، وما هي إلا إعصار فيه نار، وسنذكره جميعاً بعد هذا إن شاء الله تعالى بلفظه، فرأى ان التنحي به أجمل والدخول فيما دخل فيه المسلمون أحفظ له في دينه وأكمل وأسلم في العقبى من الإصرار والزلل، كما صرح وشهد به على نفسه بعد شهادة الله وشهادة من حضره من العلماء والأعلام، وأهل الإسلام، وكتب قاعدة بيده وهي بخطه ولفظه وعليها شهادة من حضر من العلماء وحكم به القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن يحيى بن حابس رحمه الله، ولفظها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الحمد لله مدبر الأمور على مقتضى إرادته كل يوم هو في شأن، المتصرف في خلقه على مر الدهور بلطيف حكمته من غيرمؤازر ولا ثان، المملك الملك من عبيده من ملكه في الكتاب المسطور في سالف أزليته، فأنى لغيره سلطان، والصلاة والسلام على الهدى والنور المبعوث لإعلاء كلمته إلى الإنس والجان، وعلى آله المطهرينأحسن طهور من رجس الشيطان ومعصيته فهم لأهل الأرض أمان.. وبعد..
فليعلم من على البسيطة من داني الأرض وقاصيها، من أتهم بغوزها وأنجد بصياصيها، أن الداعي إلى الله بالمغفرة وراجيها، إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عز الدين، بيته الله على قواعد الفتن التي حارت فيها ذوو الألباب، ودان لها ذوو العقول، وخضعت خضوع الذليل، غلب الرقاب، ورفعها المسلمون معزين لها ومكرمين، وذهب إليها العلماء ثبات وعزين ووكل بهاقوماً ليسو بكافرين، حتى صارت ماضية ( لشأنها بها) قاطعة لعنانها قائلة بلسانها:
دعوني أجوب الأرض في طلب العلى .... فلا الكرخ الدنيا ولا الناس قاسم
وعقد المسلمون بها للمسيرة تاجاً، ووهجوا للجذل سراجاً وهجا ودخل تحت أوامرها المسلمون أفواجاً وجاءوا نحوها أفراداً وأزواجاً، وما ذاك إلا أن متحملها ينبوع العهلم الفوار، وغيث الفضائل المدرار، وزبرقان الفلك الدوار، وطراز علالة المعالي والفخار:
عليم رست للعلم في أرض صدره .... جبال جبال الأرض من دونها قفر
ذلك فاتح الأرتاج، ودرة التاج، المولى أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين إسماعيل بن أمير المؤمنين، فعند ان اختصه اله بالخصائص الجليلة، ورأيت المصلحة في معارضه قليلة، وكان الله قد أمر بالوفاق ورغب فيه وحث [132/ب] عليه وقال:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} سلمت ما كنت تحملته من الأعباء الثقيلة، تسليم راض لا شبهة فيه ولا حيلة لوليه وابن وليه الإمام المذكور المشهور المتوكل على إسماعيل بن الإمام المناصور:
إن الأمر هذا لا يليق بغيره .... فألقى إليه قوسه ومشاقطه
ولا شك إن الله راض بدعوة .... إليها قلوب الناس ظمأ وشاخصة
ولم نشرط عليه في ذلك التسليم إلا ما شرطه الله عليه، وما بقى أيده الله على حالته المرضية سائراً على الكتاب والسنة النبوية وهأنا قد خففت عني ثقلها، على الله والله خالصة فها أنذا سائر تحت لوائه مهتد بهداه ملتزم أحكام الطاعة داخل تحت جمعته والجماعة على مقتضى ما يريده الحق من طاعة الأئمة الذين هم امناء الخلق ما طابقوا مراد الله والتزموا طاعة الله، فليعلم من وقف على مكتوبي هذا ما التزمته من أحكام الطاعة للإمام وإن ما تقدم مني من مقتضيات النظر الذي اعتقدت فيه المطابقة لمراد الملك العلام، فإن كنت في ذلك مطباقاً لمراد الله، فقد مضى بما فيه من أجر وإلا فأن أستغفر الله وأسأله حسن العاقبة، وإليه ترجع الأمور، والإنسان محل الخطأ والنسيان، والكريم محل المسامحة والغفران، وقد ألزمت نفسي طريقة الاقتصاد وأوقفتها في حلبة السباق على قصبة المصلين، وجذبتها عن إدراك شأو السباق، ومن قد سبقت منه إساءة إل] وظن أني بها قمين، فقد سألت الله أن يغفرها له وهو أرحم الراحمين وجل من لاعيب فيه وعلا عن كل قول ذميم وقل ما سلم من الخدش أديم:
ألا لا أبالي من رماني بريبة .... إذا كنت عند الله غير مريب
ولا شك أن مثل هذا الأمر لمثلي هذا الزمن لا يدخل فيه إلا من جذبته امراس الاعتزاز ولمعت له بوارق الماني من بين عارض شبه الوجوب وما هي إلا إعصار فيه نار، فعلمت ما كنت جهلته بعد الدخول فيه، وأبقيت بعد الخروج منه إن الله قد خفف عني الأضر، واختار لي ما لا أختار: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وسلم.
بتأريخ شهر جمادى الأولى سنة ست وخمسين وألف [يوليو1646م]. انتهى بلفظه من خطه وعنوان هذه القاعدة ما لفظه بخط يده:
سيدي المولى أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين، ومن لديه من السادة الكرام، والقضاة الأعلام، والمشائخ الفخام، وأكد ذلك بعهود الله ولم يبق شك ولا ارتياب واستمر على ذلك مدة[133/أ] من الزمان، واستمد من الإمام أيده الله الرأي في البقاء والوقوف بقراض والإذن في صرف الواجبات التي تخصه، أو تصييرها بنظر الفقيه علي بن هادي الشقري من جملة السادة الكرام، فطلب تقرير ما يحتاج إليه وتقوم بمثله ومن يلوذ به، وأمده الإمام أيده الله ببره المألوف واستقام على ذلك الحال وأحوال الإمام حفظه الله، والحمد لله على حالها، والأعمال متسقة على منوالها، لم يتغير حال ولا اختلف شيء من الأعمال، بل هي ما ازدادت فضلاً وكمالاً واتسقت وترقت إلى ما هو أشرف حالاً والمنة لله سبحانه.
فلما حدث في بلاد صعدة وخولان من الحوادث من التظالم والعصيان وتخويف الطرقات والطغيان، ما يجب افتقاده على إمام الزمان، وتمنع كثير من أهل تلك الجهات عن تسليم الواجبات، وعن امتثال أوامر الشرع المطهر، وما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أرسل مولانا الإمام (عليه السلام)، الفقيه الأجل المجاهد بدر الدين محمد بنظره آداباً على أهل قبائح الأفعال، على كل بمقتضى الحال، وعلى قدر الأعمال، وأمره بإنقاذ ما يجب من الأمور، ورد الظلامات، وأجرى الأعمال على أحسن الحالات، فانطلق لما أمر به، ونفذ فيما وجه إليه، حتى كان آخر عمل عند الشيخ يحيى بن روكان، وامتنع عن والي الإمام وتسليم ما عليه وعلى أصحابه إلى بلاد شعب حي لاستيفاء الآداب من المتوجه عليهم سبب ما جرى فيما بينهم وبين بني بحر من حرب وفتن وقتل امرأة وتظالم لا يجهل، ولا ينكر أن فعلهم ذلك من أعظم منكر، يجب على الإمام ومن يقدر على النكير افتقاده، وإن من تمنع من إنفاذ ذلك وافتقاده يجب جهاده، وأهل شعب حي إذ ذاك في حال اضطراب وتحرب وتشويش قائمين بالسلاح مستعدين للكفاح، حتى نعق بالفتنة ناعق فيما بينهم وبين العسكر فجرى ما جرى من الحرب، التي انجلت عن قتل جماعة من الفريقين وسببها التمنع والاضطراب، وعدم الامتثال والانقياد لما أوجبه الله رب الأرباب من طاعة أولي الأمر، فلما جرى ذلك الحادث ومثله تجرى عزم الشيخ على بن روكان صنو الشيخ آل السيد إبراهيم بن محمد، واستصرخ به على باطله واستنصره على ضلاله وضلال قبائله، وحرف القول عن مواضعه، لم يلبث السيد أن نقض تلك العهود المبرمة،
ونكث البيعة المؤكدة، وجنح إلى إجابة ابن روكان ولم يثبت في دعواه بل أخذ ببادئ الرأي، ولم يكن في ذهنه أن ذلك الحادث وإن فرض إن التعدي[133/ب] فيه من العسكر فلا يبطل إمامه ولا ينقض به عهد، ولا يحل من مبايعة عقد فإنما استفزه ذلك لما وافق أمراً في نفسه هو عليه متهالك. فمع الفرض إن التعدي وقع من الفقيه محمد بن علي وأصحابه على وجه جلي فالواجب في مثل هذه القضية أن يرد إلى الأحكام الشرعية ففي الكتاب العزيز والسنة النبوية وسيرة أئمة العترة الزكية بيان ما أشكل، ومعرفة ما يحكم به في مثلها مما لا يجهل، فإن لها مع ذلك نظاير، أولها قضية خالد بن الوليد من الأعيان بني جذيمة، وتبرأ النبي ً من فعله، ولم يتبرأ منه وأما أهل شعب حي وشيخهم ابن روكان فالأمر فيهم ظاهر، وإنهم متمنعون عن الأوامر متمردون عن طاعة الإمام أيده الله تعالى، وعما يجب فلم يقع منهم امتثال، ولا طاعة لوال، وقد شهد عليهم السيد في رسالته بأنهم قد تمنعوا، وزعم أنه إنما كان عما يطلب منهم من غير الواجبات من المعونة ونحوها، وعن أنفسهم في ذلك دافعوا وقد أوضح الإمام أيده الله بالدليل إنما يطلبه االإمام من المعاون ونحوها من جملة الواجبات، ومن نيل المفروضات له طلبه والأخبار عليه، واجتهاد الإمام يعمل به فيما يرجع اليه.وسارع في نقض ماعاهد اليه.وكانت زلةينبغي له أن يستقبل الله منها وعثرة الواجب عليه أن يبادربتدارك نفسه الى التوبه منها.لم يشعر إلاًببثه الرسايل الى الناس ورفع قناع الحياةولم يتحاش با لإعتراض على الإمام- أيده الله تعالى-في أشياء يقمها من ولاة الإمام عليه
السلام والعمال لم يعلم بوقوعها، ولى سمع بأمرمما نقل عنها لأنها أمورلو كانت لم تخف أكثرها ولظهر أمرها.
ولما أنكتم على الناس خبرها، وإنماجعل ذلك وسيلة لما أحدث من نقض العهود المبرمة، والعهود اللازمة ومن أعجب حاله وتناقض أقواله وأفعاله وما أشنعها من مقاله، وأسقطها من حاله، مازعم إنه من صالح مصالحة لما عدم الناصر كصلح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه، فأظهر من كمين سره، ومكنون مضره، إنه فيما حررمن تلك القواعد بيده، ومانطق به لسانه من تلك الأمور كاذب وإن أيمان الله التي جعلها دخلاً، وعهوده ومواثيقه لعبة لاعب، ولم يعرف أن بين فعله وبين فعل أميرا لمؤمنين كرم الله وجهه بوناً بعيداً وفرقاً. [134/أ] بيناً واضحاً، وإن احتجاجه به من النظر القاصر، والعجز الظاهر، فإن أمير المؤمنين عليه السلام، عاهد وبايع ووفى بذلك وزاد على الوفاء،ولم يخلع يداً عن طاعة ولا فرق جماعة، وألزم نفسه الصبر والتزم أحكام الأمر، وإمامته منصوصه قطعية عند جميع الأئمة، من آل محمدصلوات الله عليه وشيعتهم، وإن من كان في زمانه مقتعداً دست الخلافة أتت مسلم أنه لم تكن أهلاً لها، ولا مستحقاً للدخول فيها إنما هو غاضب ومدع ماليس له بأهل، وأما أنت أيها السيد فقد أقررت على نفسك بالاغترار، وحكمت عليها بما صدر منك من المعارضه مما يمحي بالتوبة والإستغفار، وسلمت أن الإمامة للمتوكل على الله (أيده الله)وافقت محلها، وأنه أحق بها وأهلها: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، فهل بعد هذا يحل لذي بصيرة أن يأتم
به بإمام هذه أحواله أو ينظم في سلك داع تناقضت أفعاله وأقواله، أم كيف يقلد الإنسان في دينه من جعل أيمان الله وعهوده دخلاً ولم يصدق قوله عملاً ياللمسلمين من العماية في الرب، فلو أن السيد إبراهيم (أقال الله عثرته) اقتدى بما كان من الحسنين صلوات الله عليهم وسلامه من المصالحة لمعاوية وصبرهما على الوفاء لهما بالبيعة ولم يستحلا نقض ما فعلا ولا الخروج عما فيه دخلا، مع ما في معاوية من النقص الكثير مما وضع لهما وأذيته بالسب لعلي عليه السلام وأشياعه فصبر الحسن (عليه السلام) حتى لقى الله عز وجل لم ينقض عهداً ولا نقض ميثاقاً ولا عقداً، ولا خرق جماعة وبيعة، والحسين (عليه السلام) وهما إمامان قاما أو قعدا والحق لهما ابتداءً وانتهاءً.
ولما مات معاوية -لعنه الله- ولم يبق في عنق الحسين صلوات الله عليه بيعة أظهر نفسه ودعا إلى الحق، وكان ما هو معروف، وهذا لما جرى ذكر المصالحة، وزعم السيد أنه إنما كان ذلك مصالحة وكلامه في قاعدته، وكتبه يكذب هذا الزعم الذي ادعاه، ويخالف الحال الذي كان عليه بناه، وإلا فإن بين الحالتين أبوان فالحسنان أبناء رسول اللهً وذلك أن أبا سفيان لم يكن للإمامة في قبيل ولا دبير، ولا أهلاً للخلافة في كبير ولا صفير، وإنما كان ذا سلطان تمتع به إلى حين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ولكن اختلفت المقاصد والأهواء، فإلى الله الشكوى، ونعوذ به من شر الفتن والبلوى.
وأما حالك أيها السيد وحال الإمام المتوكل على الله فإنكما من شجرة واحدة، وأصل واحد. وقد سلمت له الاستحقاق، وشهدت على نفسك بالوفاق، وهو (أيده الله) لم يتغير عن الحال التي كان عليها إلى ما دونها بل إلى ما[134/ب] فوقها وما هو أفضل وأعلى منها، والحمد لله، وذلك ظاهر لمن نظر واعتبر، غير خاف على ذي عقل وبصر، ولله در القائل:
وبعض خلائق الأقوام داء .... كداء البطن ليس له دواء
وقد كفى وشفى جواب الإمام (أيده الله) على تلك الرسالة وبين الاحتجاج على اشتراط الأفضلية وكيفيتها ووضح بما تستحق به الإمامة، ونحو ذلك بأدلة الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة من آل المصطفى ً وساير العلماء وكذلك في جواب ما اعترض به المعترض في أمر المعونات ونحوها مما يؤخذ من الناس ووسع بما فيه غاية لمريد الحق وشفاء لما في الصدور، ووفا إن شاء الله لمن أراد الهداية وينكب طرق التعسف والغواية، وإنما أحمل على هذا الجواب، لما كانت الرسالة عامة وعلينا واجب حق الإمامة وإن ترك دفع القول المايل عن الصواب والطعن في سيرة الإمام بالباطل والبهت مما يؤدي إلى الشك والإرتياب، وأن دفع الباطل واجب والقول بالحق وإعلان الصدق أمر لازب، ولا سيما ولنا مالم يكن لغيرنا من الاطلاع على كثير من الأحوال ومعرفة موارد كثيرة من الأعمال، وإلا فأن في مثل تلك الرسالة وما فيها من الافتراء كان حقها الاهمال، ولكن ربما يراها مغتر فيعتقد، إن ترك الجواب عليها لرتب في الأعمال فاستخرت الله سبحانه وتعالى وهو نعم المستخار، وهو المسئول التوفيق لما يختار، وأشرنا إلى جملة من الجواب عن تلك الرسالة
إلى ها هنا وإلى ما أورده من اللاعتراضات الثمانية على الترتيب والله المستعان، وعليه التكلان، في كل حال وفي كل شأن، وهو حسبي وكفى، ونعم الوكيل.
الأول منها: ذكر فيه ما لفظه والذي صرنا نذاكر به إخواننا أموراً أولها وأولاها تعطيل باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين هما ثمرة الإمامة ورأسها بل أصلها وأساسها، فإذا كان الوالي من قبل هذا القايم بهذا الأمر إنما همه جمع الدراهم من غير حمل الناس على الواجبات التي تجب على الأئمة فنقول : هذا الاعتراض صدر عن غفلة كبيرة ودعوى التعطيل لباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يصدر عن بصيرة فإن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم من أبوب الجهاد، وفرض لازم لجميع العباد، ما يعذر عنه عند الله إمام ولا مأموم، ولا يخل بفرضه وقدره إلا وهو ملوم، وهي بحمد الله قايم بعلو همة، مولانا المتوكل وسمو عزيمته أتم قيام[135/أ] ولا يعلم بمنكره فنسكت عنه، ولا إخلال بواجب الأوامر به بالمقال والفعال والتعاهد للناس بالرسل والرسائل والتبليغ على ألسن كثير من الوافدين، والتصدي بالمواعظ لجمهور الواردين، حسب ما تقتضيه الأحوال، ويكون في ذلك مجال للمقال، على ما يؤثر من أحوال المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله وسلامه، ونقله الأخبار والسير عنه (عليه السلام) من تصديه لمن عنده ومن بفد عليه بالمواعظ والتعليم والتفهيم وإرسال رسله للتبليغ والإنذار والتحرير والابكار والتعبير لما يرفع إليه من المناكير وقال فيه عز وجل: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } وقال سبحانه وتعالى:
{ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } تسليمه لنبيه ً وقال سبحانه {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر ٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} فلم يوجب الله على نبيه إلا التبليغ والتذكير والنهي عما علم من المناكير، ونهاه عن التجسس وكشف الستر، وقال ً: ((من أتى شيئاً من هذه القاذورات فليستر بستر الله فمن أبدى صفحته أقمنا عليه حق الله)) وحال إمامنا صلوات الله عليه في هذا أوفى حال قائم يفرضه في الأفعال والأقوال باذل فيه وسعه، مبلغ فيه جهده، على حسب مقتضيات الأحوال علم ذلك من اطلع على أحواله وشاهد ذلك من أفعاله ومقاله، فإنه (أيده الله) لا يزال آمراً ناهياً مرشداً ناهياً رسله إلى كل جهة بترى، ورسايله في كثير من الأقطار تقرى، والخطباء والوعاظ قد أقامهم في الأمصار، وجميع القراء الكبار، وأكثر الصغار وتبليغ الشرايط قد علم، ومعرفة ما يجب لله سبحانه على العباد، غير خاف ولا منكتم، وفرض الطلب لمعرفة ما يجب وجوبه على المكلف، وقد أخذ الله على الجاهل أن يتعلم ولم يجعل جهله عذراً له عن العقاب وأخذ على العالم أن يعلم ويبين الحق ويفهم الصواب، فالجاهل عليه أن يطلب لنفسه النجاة ويقصد، والعالم عليه أن يعلم ويرشد، وعلى هذا مبنى التكاليف والشرايع، وقد أدرك الناس في هذا الزمان والحمد لله ببركات الإمام (أيده الله) وحسن قصده مالم يكن في زمان قبله على ما يسمع ويعرف ممن قبلنا من الطاعة لله عز وجل وكثرة المدارس للقرآن في كثير من البلدان التي لم تعهد فيها مدرسة فيما سبق من الزمان، وتفقه كثير من الناس، وبسط العدل في الجهات،
وتقويم المعوج على أحسن الحالات والصفات لا يعلم بمنكر يحدث إلا وغيره ولا بدعة إلا وقمعت، ولا اختلاف بواجب إلا ويعمل.
وأما حمل الناس على أن يكونوا على صفة واحدة حسنة، وطريقة متحدة مستحسنة، فذلك[135/ب] من المحال ومما لا يوجبه الله على البشر لضعف الحال، قال عز وجل لنبيه صلوات الله عليه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر ٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ الله الْعَذَابَ الأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} وإما على الأئمة التبليغ إلى العباد، والعدل الذي هو عمارة البلاد، والأخذ على أيدي أهل الفساد، وتجنيد الأجناد، على أهل البغي والتمرد والعناد، والحث على الواجبات وإظهار الشرايع البينات، ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } وقال السيد في هذا الاعتراض ما لفظه: وكان الجهاد قد صار حجراً محجوراً، والأخذ على الظالم قد صار شيئاً منكوراً، ودليل ذلك هذه الجهة التي نحن فيها، وما نصاليها والقليل يدل على الكثير، فإن كان لنا سبع سنين نهتف بهم ينظرون فيما أوجب الله فلم يلتفتوا إلى ذلك ولم يعرجوا إلى ما هنالك، فيقال له يا سبحان الله ما أعجب الحال وأيسر المقال، وتشديد الملام إلى الغير، وكأنك لا تكليف عليك، أو لا حق يلزمك ويتوجه خطابه إليك، فهل لا إن كان لك عزيمة وصرامة، وغضب للدين وأهله
وشهامة، ومحبة الخير وصلاح المسلمين، ورغبة الجهاد في سبيل رب العالمين، فلمَ لم تحضر عند إمامك، وتعينه بلسانك وحسامك وتؤازر بجدك وجهدك وتشحذ الهمة في إعلاء كلمة الحق والإعلان بالصدق، ولم جاز لك في دينك أن تؤثر على ذلك السكون والدعة في بلاد أهلها وما أشرت إليهم، وحالهم معروف معلوم، لا يقام فيها حق إلا بجواز، ولا يؤخذ فيها على يد ظالم، ولا ينهى فيها عن منكر، أكثر أحكام أهلها أحكام الجاهلية، وأفعالهم القبيحة غير خافية، فما الذي أباح لك البقاء بينهم والاختلاط بهم فهلا هاجرت عنها أو تحولت منها أو أفرغت جهداً في صلاح أهلها وإرشاد ظالها بل لم يكن همك لما حدث ذلك الحادث في خولان الذي لم يكن إلا لدفع التظالم وكف المآثم، والتأديب لأهل الجرايم، بإجرامهم والانتصاف للمظلومين من ظالمهم، وإدخال المتمرد تحت الطاعة لله سبحانه وحكمه، إلا أن توجهك لدفع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والاستعانة عليهم بأهل الجهة الذين ساكنتهم الذين هم بالصفة، الذين وصفتهم وجمعتهم لصد أهل الحق ولم يكن منك الوقوف بينهم والمساكنة لهم إلا للتربص لمثل هذه الفرصة التي جعلتها ذريعة لإظهار الكامن ونكث العهود والبيعة والتهاون بها وبأمرها وأي تهاون، وذلك [136/أ] عند الله عظيم، وخطرجسيم، وكان الأهم المقدم إرشادهم إن أمكن الارشاد ولمن خلفهم من أهل تلك البلاد الذين لم يعرفوا معروفاً، ولا ينكروا منكراً أو الهجرة عن تلك الديار، والمفارقة لتلك الأقطار فلا تقعدوا معهم إنكم إذاً مثلهم، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وقال ً: ((لا يحل لعين ترى
الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنقتل )) فإن زعم إن له عذراً في مساكنة الظالمين، فليظهر العذر ويتبين، فإن الظاهر عدم العذر المبح وانى ذلك العذر الصحيح، وقد سلم الإمام المتوكل على الله (أيده الله) الإمامة كما صرح به تسليم راض، والتزم طاعته وأحكامه وقال فها أنذا ساير تحت لواه، مهتد بهداه، لازم أحكام الطاعة، داخل جمعته والجماعة، كما ذلك وغيره بخطه موجود، وكلامه بذلك بين رؤوس الناس مشهود، فما عذر من قال بإمامه إمام أن لا يهاجر إليه ويجاهد بين يديه وليس من المستضعفين ولا المعذورين، إلا أن يكون ذلك العذر التربص لمواثبة الفرص وتتبع الرخص، وليت شعري كيف هذه الإمامة التي تكون على هذا الحال ويوثب عليها التوثب ويتهافت عليها هذا التهافت، وكيف هذا الحل لها والعقد مرة بعد أخرى؟ يل متى عن له عان عقدها، ومتى ذهب ذلك حلها ثم عقدها؟ لا لموجب شرعي، ولا لنظر صحيح مرعي، ولا لحالة تجددت، ولا لحادثة حدثت، وما هذا الحل والعقد وما حكم ذلك العهد، وذلك المحضر والمشهد وما الذي وسعه عند الله إن ينكث المبايعة والعقد وهل ذلك إلا أشبه شيء ما باللعب ومناقضة تستدل ببعضها على بعض بالكذب، فهل يسع ذا بصيرة الدخول في مثلها أو عاقل يدخل تحته حكمها ؟ فمن هذا الذي يقلد دينه من هذه صفته أو يؤتم بمن هذه حالته يأبى الله ذلك والمسلمين، فإنه ما احدث الخلل وناقض الأعمال إلا التفرق واختلاف الأهواء، والمعارضات التي أوهت باب الجهاد، ورضى بها معها باستقامة الحال وحفظ رأس المال، وإلا فإن آل محمد صلوات الله عليهم الذين في هذا القطر لو كانوا جميعاً يداً واحدة
على حالة متحدة وسلموا مثل هذه الثوابت واستقاموا على الحمية لمذهبهم، وسابقوا إلى طاعة إمامهم، وحفظ منصبهم وشحذوا هممهم لنصرة الدين واجتمعت أيديهم إلى القيام بأمور المسلمين لقد وسعوا النطاق، وتملكوا الآفاق وأرضوا الخلاق، فالله المستعان إلى متى تبقون على هذه وتهملوا أمة جدهم هذا الإهمال؟
اللهم إنا نشكوا غيبة [136/ب] نبينا وكثرة عدونا وتفرق أهوائنا فنسألك الله نصراً تعجله، وسلطان حق تظهره، تعز به أوليائك، وتدمر به أعداءك، بحق محمد وآله ً.
وثانيهما: ما يؤخذ من المعاون من الرعية ونحوها...الخ فهذا الاعتراض صدر من غير معرفة بالأحوال، ولا اطلاع على الأعمال، وما يحتاج إليه القايم بالأمانة، والناظر في المصالح العامة، من تقوية الأجناد، والاستعداد للجهاد، وإنه لا بد من سد الثغور ودفع التظالم واستخلاص الواجبات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الشرع المطهر، فإن هذه الأمور ما تقوم إلا بالأجناد، والأجناد لا تقوم بهم إلا المال والمنال ولا سيما مع فساد الزمان وأهله، والتكليف باق والأعداء -أقماهم الله- محدقون بالآفاق فالقايم بهذا الأمر مثاعراً، وعلى القبائل مثابراً ناهياً آمراً، لو لا ذلك لقد أرى منهم العجب العجاب ولفتحوا من الفتن أبواب فقد شاهد المعترض ما لديه من أعمال القبائل وتقطيعهم الوصايل وتظالمهم وعدم نفوذ الواجبات فيهم وهذه القبائل في هذه الجهات اليمنية التي الوطأة متمكنة منهم واليد عليهم منبسطة لو يحصل لكثير منهم أدنى إهمال او يشمون رائحة ضعف عزيمة أو وهي قوة لكان لهم صولات صائلة وأمور هائلة إذ هو أقوى شوكة وأسد شكيمة وأعظم عدوان إن استفزهم الشيطان ولولا أن الهيبة قامعة لأكثرهم وخشية الصولة من أجناد الحق قاصمة لأظهرم، لما توقفوا على حد محدود، ولا تركوا في التظالم غاية مجهود فإن قبايل عتمة ووصاب، وهم بالنظر إلى غيرهم ما يعدون في حساب لما حصلت لهم الفرصة في بعضهم البعض جرى بينهم من القتل والقتال وإراقة الدماء التي أفضت إلى النساء والأطفال، وذلك في خلال الفتنة الواقعة بينهم بعد موت سيدي شرف الدين الحسين بن أمير المؤمنين، المنصور بالله
رضوان الله عليهما، واشتغال الأجناد بما جرى من يافع، وتلك الحوادث منهم، ونحوها، وجرى منهم العجب العجاب، وهان عليهم كل الصعاب، ومثل قضية بن راجح وهذا من باب ضرب المثل، ونحو ما جرى في مابين بني صريم، وبين مرهبة في المدة القريبة، انجلت الحرب فيما بينهم في ساعة واحدة، عن نحو عشرة مقاتيل، وامرأة وكانوا متأهبين لما هو أعظم، قد أجاب كل منهم صفة من حاشد وبكيل لولا مبادرة الإمام عليه بعسكر وافر لدفع تلك المفاسد والمناكر وتأديبهم بالآداب الزاجرة وإلزامهم رد الضلامات وتسليم الديات وكم لها من أخوات ومشبهات [137/أ] فإن قطر اليمن لا يزال فيهم الفتن، وإنما قلت في هذا الزمان لقوة هيبة الإمام حفظه الله فيجب على الإمام والرؤساء الذين علقت بهم الآمال الجسام الاعتداد بالعدة الوافرة كما امر الله عز وجل لإرهاب أعدائه ولحفظ المعالم الدينية ودفع التظالم، واليمن حقير وواجباته بالنظر إلى ما يصير للعسكر يسير فمخروج اليمن يقصر عن قدر ماللعسكر وحدهم فقد جمل محصول اليمن وماللعسكر فقصر كبيراً كيف ما يحتاج إليه لغيرهم من أهل الحقوق اللازمة، واهل التأليف والفقراء والمساكين، ومع كل من هؤلاء قصده وواصل إليه مده وشاهد الحال بذلك ظاهرة ولمن خبر الأمور جلي متواتر ولولا فضل الله وجميل تيسيره ومعونته على حسن التصرف وتقديره كيف بالوافدين والقاصدين، واتساع النفقات للواردين، فإنه لو تحصر هذا وذا لعله إنه لم يكن الموفي على جميع ذلك إلا ما أخذ بالديون العظيمة وما هيأه الله ببركات الانفاق وسبب أسبابه من أياديه العميمة، التي لم تكن في حساب وما يتفتح
من البركات والأبواب وتقديم وتأخير على مقتضى الحال، وتهيء الأسباب وهي نفقات في سبيل الله، وقد حض على الانفاق في سبيله بواضح الآيات وصريح البينات وواجب الجهاد بالمال والنفس ولم يعذر ذلك أحداً من عباده ولا حض احداً دون أحد من أهل بلاده، إلا من لا يستطيع لعجزه وفقره، ومن قدر على النفقة وضعف او عذر تعينت عليه، وعلى ذلك حكم سيد المرسلين (صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين) بالاستعانة بالأموال والأنفس، وفرض ذلك على المسلمين وذلك لمن عرف وعلم وصرايح القرآن شاهدة له، ودالة عليه لا ينكر ذلك إلا من جهل، وتبعه على ذلك الأئمة الهادون من عترته، وأعلام الهدى السابقون من أهل بيته إلى يومنا هذه لاينكر ذلك إلا منكر الضرورات، ولا يتعامى عليه إلا من ارتطم في الشبهات ومن زعم إنه ينفذ أحكام الله ويقوم بأمر الله في هذه الأقطار، وتقتصر على الزكاة والواجبات من غير زيادة ويقيم الثغور ويقمع أعداء الدين، وأضداده بغير رجال ومال وعدة واعتداد، وهو من الأعيان ذلك يرى أن أموال الله لا تحول عن مصارفها وإنه لا فسحة في تحويلها عن أهلها، فالواجبات في أغلب الجهات لا تفي لأهلها ولا تقوم بحملها إن أثر به الأجناد حرمهم، وإن قدم المصارف ثم نقض عليهم وقسط سبيل الله لاتقوم بهم فقد كذب نفسه وظهر أفول رأيهن واشتداده في باطل علوايه، فأحوال هذه الأقطار لمن خبرها معلوم ظاهر غير مكتوم، لمن نظر بعين الانصاف ولم يركب [137/ب] متن الإعساف وإنما القايم بأمور المسلمين والناظر في المصالح العامة والأخرى في الدين عليه التحري للأصلح فيدفع الأعظم بالأهون والدون
ويسوس الأمور على قياسها والقانون، ولم تستقم هذه الحالة التي الناس عليها ويجب عليهم شكرها والتحدث بها إلا بعد شدائد وأهوال وأمور عظيمة وخطوب جسيمة، ومصابرة في الجهاد ليالي وأيام، وشهور وأعوام إلى أن شارف الاتساق والانتظام وقامت على قدم الاستقامة أول قيام فأراد الشيطان لعنه الله من هذا المعترض أن يقوم والعياذ بالله على ذلك الأساس بالهدم وان ينقض منه للحكم المبرم وهيأت أن ينخدع بزخارفه ذو عقل أريب او يجنح إلى ذلك من له في الدين نصيب ونظر مصيب اللهم غفراً وستراً ستراً.
وثالثهما: ذكر فيه فقال الثالث إقطاع الأقارب والأنساب اموال الله وتمكينهم من الخزاين حتى صاروا يتباهون بها ويتنافسون بالحلي والحلل والعمارات وحتى أن بلغت حاشا المقام سبعة عشر قرشاً والقميص خمسمائة حرف، والبريم صنع من ألف ذهب عين، وباب بيت بمائة قرش من أموال الله وذلك قطرة من مطرة والفقراء والأيتام ومن له القسط الوافر من أموال الله لا يتلفت إليه، ولا يعرج عليه ...إلخ.
فهذا الاعتراض إن كان عن مشاهدة ويقين فاليقين ما يخفى ونور الحق لا يطفى فأرنا ذلك اليقين أو العدل النافل ليكون على بصيرة في الدين، إن ذلك قد وقع وأخذ من أموال الله التي لا تحل للمتصرفين عليها ولا تسوغ وعلى سبيل الحماية وغش الأمانة فإن الناقل إن الفعل قد كان وإن الآراء لا تمكن، قيل هات البرهان فمع غيرك من الرأين والمشاهدين، وإلا فهذا من الغيبة وثلم الأعراض التي لا تستباح بالظن والتخمين فإن قال البرهان يشق على مثل النعل والقميص والبريم قيل هذا بتهان عظيم إن لم يكن لك عليه شاهد ولا انت له واحد فالباب الذي بمائة قرش لا يمكن أن يخفى؛ لأنه يستر به ولا يستر عليه، فأرشدنا إليه أو هات البينة عليه؛ لأنه من الممكنات والأمور التي يطلع عليها ولا تخفى على من ينظر إليها إذ المشاهد يشترك في رؤيته كل ذي بصر ولو كان واقعاً لقد ظهر واشتهر ونحن من أكثر الناس لهم خلطة واطلاع على كثير من الأحوال وترفع إلينا كثير من الأعمال فلم يسمع ذلك فمما لا ينبغي أن يصغى إليها ولا يعرج عليها {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ[138/أ] مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً } فإنما حمل على ذلك الحسد والمنافسة في الدنيا {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيماً} ولا شك أن الله سبحانه قد خول آل القاسم عليهم السلام اتباعهم من فضله وأوسع من
طوله ما يقصر عنه الوصف وما أرغم الأعداء وأبلج به صدور الأودا وملكهم من الأموال الخاصة بهم مالم يكن لكثير من الناس بسيوف حداد وسواعد شداد وعزز أيام في الجهاد ووقعات في الأعداء شرحت الصدور وغرمات هاشمية بيضت وجه الدين، وأعزبها الإسلام والمسلمين وجلت الكرب عن المؤمنين فتمولوا ومولوا واقتنوا من الأموال التي تخصهم ما قتنوا فإن فرضنا وحاشاهم فإنهم سلام الله عليهم أهل شهامة ظاهرة وعقول راجحة وافرة وأنظار لأنفسهم وللمسلمين صالحة ما يفعلون ما تقم عليه في المروة، ولا يرضون لأنفسهم ان يخرجوا من حد الفتوة فإن لهم أنفساً شريفة وأخلاقاً عفيفة وهمما غالية منزهون عن ذلك وعن غيره فمن ذا الذي حصر عليهم ذلك إن أرادوه، وأو تحجره إن فعلوه من أملاكهم مع اتساعها وترادف البركات عليهم من الله والنعم وإسباغها: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وقال سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فلم يحصر الله رزقه وما تفضل به وإنما أمرنا بالشكر والتحدث بالنعم وإظهارها، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } وقال ً ما لفظه أو معناه:((إن الله عز وجل إذا أنعم على عبده بنعمة أحب
أن يظهر أثرها عليه )) والناس نعدهم بحمد الله وله الفضل والمن وببركاتهم في نعم وافرة وأياد غامرة، وفضائل لا ينكر ذلك منكر ولا يجحده إلا من أخل بفريضة الشكر.
وأما ما زعمه السيد من عدم الالتفات على أهل الحق من الناس وتنزيلهم منازلهم وإبلاغ المستحقين حقوقهم فهذا من الرجم بالغيب من مكان بعيد فلو حضر وشاهد واطلع على أحوال الناس وأعمالهم لعلم خلاف قوله وعلم أن هذا المقام لا يقوم به إلا من ارتضاه الله لأهل الإسلام فلا تقوى التكاليف الشاقة إلا من جعل لنفسه من التقوى أوثق زمام، وباع نفسه من الله ذي الجلال والإكرام لما يرجوه من الأجر عند الله في دار السلام وأما رضى [138/ب] الناس وبلاغ ما يؤملونه من الآمال فمن أعظم المحال، فإن كثيراً منهم لم يرض عن الله عز وجل في كثير من الأحوال فكيف يقدر المخلوق أن يرضي المخلوقين من رام ذلك فقد أبعد المرام بل يخرج من حد أهل العقول إلى عالم الأنعام وإن للتكاليف حكمها والنظر في الإعطاء والمنع والتفرق والجمع لذي الإمامة والرياسة العامة بحسب اجتهاده ونظره في المصالح على ما يوفقه الله إليه ويعينه عليه من الأعيان حسن القصد وخلوص النية فيما بينه وبين الله عز وجل فذاك من تكليفه اللازم وفرضه المهم الذي هو به قايم وعليه التحري جهده لا يكلف الله نفساً إلاما آتاها، ويجب على المؤمن حسن الظن بالمسلمين كيف بإمامهم وأمرائهم الذين امر الله بالرجوع والرد إلى علمهم.
ورابعها: ذكر ما لفظه الرابع : إن خراج اليمن الجزي سبعون ألفاً لخاصته نفر ونصف خراج عدن وهو فوق اللك لآخر.
فنقول هذا جهل عظيم وفرية لا شك فيها ولا مرية فاليمن حقير من حيث هو، وكم أهله فضلاً عن قدر من فيه من أهل الذمة حتى تبلغ جزيتهم هذا المبلغ ثم دعوى قصرها على خاصةرجل واحد فهذا من المحال عادة، ومن الجهالة بالبلاد وأهلها والبلادة، وأما عدن فمعروف لم يعلم في هذه المدة إنه قد زاد على اثنى عشر ألفاً نضير أكثر محصوله للرتبة والأعوان الذين فيه ويصرف ما بقى منه في مصارفه التي وجهت إليه وسبل البر والإحسان ولم يسمع بقصر ذلك على خاصته نفر واحد او على جماعة مخصوصين بل ذلك من سبل غيره من الأموال على مقتضيات الأحوال، وذكر في هذا الاعتراض الرابع إن أكثر بني هاشم الذين وصى الله فيهم لا يجد ما يسد جوعه ويستر عورة هذه هجر آل يحيى بن يحيى صاروا إلا القليل منهم في غاية الحاجة إلى أخر ما ذكره فآل يحيى بن يحيى عليهم السلام من جملة السادة الكرام من آل محمد الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام لا يجهل لهم حق ولا ينقص لهم قدر وهم بحمد الله قد بلغوا من حقوهم ما فيه إن شاء الله وفاء وبلاغ لمن اكتفى وصار إليهم من الإمام (أيده الله) مالم يصر إلى غيرهم فلو نحصر ما صار إليهم مما شملته البينات وتضمنته الدفاتر من البر والنقد والطعامات من التقدير والمؤاساة والصلات لعلم إن ما صار إليهم فيه زيادة على ما يجب لهم ووفاء بنصيبهم وقسطهم.
وأما القيام بالكل او بكل ما يحتاج إليه الجميع فالبشر عجزه عن ذلك معلوم ولا يدخل إلا تحت قدرة الحي القيوم، وقد قسط الله على عباده وقدره ورزقه الوسيع وبيده خزاين السماوات والأرض والبسط والقبض، لما كان أعلم بالمصالح [139/أ] للعباد واجرى أرزاقهم على حسب إرادته بواسطة وبغير واسطة وعلى بعض من غير واسطة أحد على حسب تيسيره ولطفه وتدبيره {لَوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} .
وخامسها: قال فيه ما لفظه: الخامس عدم الوفاء ما أخذ لمن ذكر من آل يحيى بن يحيى من عهد الله وميثاقه من القيام بهم وبأيتامهم وأراملهم ...إلخ فعهد الله وميثاقه لهم ولغيرهم على الأئمة مأخوذ وهم بحمد الله على أحسن حال محمود وعلى تبين العدل فيهم وفي غيرهم بمبلغ المجهود وقد اشرنا إلى ذلك فيما سبق من القول قبل هذا ولما يطلع لهم على عهد خاص ولا ميثاق غير عهد الله وميثاقه الذي هو أوفى بحق العام والخاص ولا أدعوا ذلك لأنفسهم ولا خاضوا فيه وهم في جميع أحوالهم سالكون أيمن المسالك راعون لحق الإمام ملتزمون لأوامره والأحكام إلا من لا يعتد به ولا يعتبر بأمره وقد صرح السيد في كتبه تلك الأيام بعدم اشتراك شرط له ولقرابته وذلك بخط يده قال من جملة كتاب كتبه إلى الإمام (أيده الله تعالى) ما لفظه: واعتذرنا عن الكتاب إليكم حتى يقع الكتاب بعد المحفل العام الذي يرضى به إن شاء الله الملك العلام ثم رجح عندنا أن يقدم بين يدي ذلك هذا المسطور ويكتب مكتوباً خالصاً في الأمان ليس فيه شايبة من تلك الأمور وهو على النحو الذي وضعه الصنو أحمد بن الحسن إلا أنه خال عن ذكر ما يخصنا وقرابتنا ليكون العمل بما قضت به الاستخارة لا يكون مشوباً بأمر غيره فقد صدر إليكم فلكم الفضل بوضع خطكم عليه وخط من حضره سوحكم الكريم، وإن كانت العنية قد حصلت بما فعله الصنو شمس الدين (حفظه الله) إذ هو يد من أيديكم عظمى لكن ذلك زيادة في الاطمئنان والله المستعان وعليه التكلان والدعاء وصيتكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حرر بمحروس قراض صبيحة يوم السبت خامس وعشرين في جمادى الأول سنة ست وخمسين وألف [يوليو 1656م] انتهى.
وإنما وجه السيد صارم الدين هذا الاعتراض بهم لأمر في نفسه وحنيكة في صدره وإلا فإنا نظن إنه لو ملك من الأمر شيئاً لقصر بهم عن كثير من الحقوق ولرأوا منه شيئاً من العقوق كما قد نالهم ذنوب من أمره، ولحقهم طرف من ضره وأما قوله إنه لم يزل يذاكر في شان هذا العهد والوفاء به من عقيب عقد الصلح ويتوسل بالعلماء والحكام وأهل الحل والإبرام والمسألة بالله والأرحام وأرسل رسلاً ورسايل متعددة لتتضح له المعذرة فلم يعلم برسول لذلك ولا رسالة ولا متوسل به إلا ما يجري من الكتب التي تعتاد ومن التعاريف [139/ب] التي تحض وإعانة طالب وشفاعة لسائل وتعريف بحاله، فيقضى من ذلك يقتضيه الحال والمتوسل بهم من العلماء مصادقون والرسل الذين أرسلهم بالرسايل منهم إن كانوا معروفين فليرشدنا إليهم لتصديق المقال وتحقيق الحال وأهل الحق به قائمون وبالعدل ينطقون فالله المستعان وهؤلاء السادة آل يحيى بن يحيى إلى الآن الأحوال شاهدة لهم بالوفاء ولا يعلم منهم إلا المودة والصفاء والرضى بالإمام فيما أنفذ من الأوامر والأحكام، موفون بالعهود وحافظون لها على أفضل حال محمود لم يغرهم في الإمام غار ولا استفز احلامهم الراجحة اعتراض معترض ولا اختدعتهم زخارف الأحوال.
وسادسها: قال فيه ما لفظه: السادس ما صار عليه القرابة من التغلب على ما تحت أيديهم من أموال الله وعدم القيام بحق الإمام كانوا ملتزمين لها على ما يريده الله بل ما وافق هواهم من الأوامر اتبعوه وما خالفه تركوه ...إخ.
فنقول حاشاهم من ذلك وصانهم الله من أن يتعلق بهم ما يصم الأعراض الطاهرة الزكية او يصدر منهم تغلب او تمنع او عدم قيام بحق الإمامة المتوكلية أعز اله بها الإسلام والمسلمين فلم نعلمهم إلا سامعين مطيعين ولامتثال الأوامر والنواهي مسارعين وفي سبيل المعروف غير مقصرين بل كل منهم مبالغ في كونه الأسبق، وإنه المجلي حلبة السبق، وهم لما تحت أيديهم من الأعمال متفقدون وما نعلم منهم إلا خيراً ولا ننقم عليهم ضيراً شحاك للأعداء شديدة وطأتهم على أهل الظلم والاعتداء باذلون أنفسهم في إحياء معالم الدين آخذون من العلم والحلم بأحسن طرايق العترة الطاهرين يجب حملهم على السلامة والمحمل الحسن والتأول لهم بحسن الظن إن صدر شيء على سبيل الندرة وحاشاهم لما هم عليه من الخلال الحميدة والأحوال السديدة، ولا ندعي لهم العصمة بل هم ممن يخطئ ويصيب إلا ان طريقتهم أمثل طريقة قد أخذوا من الفضايل بأوفر نصيب فأفعالهم جميلة وأقوالهم بحمد الله حميدة.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
فإذا نظرت في الناس لم تجد لهم نظيراً، وإذا ما ثلت بهم غيرهم لم تر مثلهم فبركات آبائهم الطاهرين لهم شاملة، وسابقهم بفضل الله فيهم محفوطة والحمد لله فهم احق بما قيل:
محسودون على ما كان من شرف ... لا ينزع الله عنهم ما بهم حسدوا
وسابعها: ما لفظه: السابع ما صار عليه المسلمون من عدم الالتفاف عليهم...إلخ، وقد سبق[140/أ] القول في الجواب عن هذا في الاعتراض الثالث بما فيه كفاية لمن أنصف وإرشاد لمن عرف.
وثامنها: ذكر ما لفظه : الثامن إنه صار يتولى على كثير من الرعية من لا يميز بين السيئة والسوية، حتى صدر من عامله الفقيه محمد بن علي بن حميل في جهة صعدة ما هو معروف، وفي الجهة الخولانية من إحراق المسلمين ومن لا ذنب له على غير المألوف ولم تكن من القبائل الخولاينة إلا السابقة في الإسلام والجهاد بين يدي كل إمام، ومع ذلك فإنهم دفعوا عن أنفسهم ما صار يطلب منهم من الأمور الزائدة على القوانين الشرعية فنقول هذا الاعتراض مما ظنه السيد أخذ الله بناصيته إلى الخير مروجاً لما صدر من البغي والنكث وملتبساً على الناس ليغطي سوء ما أحدث وهذا الذي زعمه قادحاً وللدين فادحاً إنما هو من الظنون السيئة وعدم الخبرة ما عليه الأحوال مبينة وفرض الإمام في ذلك يجري الأصلح وفعل الأرجح فإن النظر إليه وإذا ظن صلاحاً في والٍ وجهه إلى جهة، فذلك الفرض الذي عليه وعليه التحري جهده {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وقد أمر النبي ً الوليد بن عقبة، مصدقاً إلى بني المصطلق، وكان بينه وبينهم إحن فرجع إلى النبي ً فأخبره بارتدادهم، فهم النبي ً بغزوهم، والقصة معروفة فأنزل الله عز وجل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ولم يرسله رسول الله
إلا أنه ظن فيه الخير فأخلف ظنه، فما يعلم ما في القلوب إلا الله سبحانه، فالإمام أيده الله متحر بمن ولاه جهده، وظاهر من ولاه الصلاح والسداد، والجرى على الطريقة المحمودة إن شاء الله تعالى مع أنه لا يزال يتعهد الولاة ويتفقد أمورهم ومن رابه منه ريب عزله ولا نعلم عن أحد منهم إلا ما هو خير وعلى هذا مضى الأئمة الهادون والسلف الصالحون وخيانة الوالي مما لا يتطرق بها إلى نكث بيعة إمام ولا يحل بها من عقد نظام، لأن خيانته عليه ووبال أمره عايد إليه، وإنما على الإمام إن تيقن منه الخيانة، وعدم الأمانة أن يأخذ بخيانته ويؤدبه على غشه لإمامته ومن الولاة من يسعه الإغضاء لهم في ما له فيه الأمر بقتضيه الحال وصلاح الأعمال ولكن من ذلك الوالي الذي عرف منه ذلك وعلم فسكت عنه ولم يؤاخذ مع أن إمامنا (عليه السلام) في التشديد والتفقد لهم والتحويل والتبديل لمن رابه منه ريب[140/ب] أو أطلع منه على عيب أكثر ممن سبقه من سلفه الطاهرين، وذلك معروف لمن عرف الأحوال وهو منتهى ما يجب عليه.
وأما الفقيه بدر الدين محمد بن علي بن جميل وما زعمه عليه إنه صدر منه في بلاد صعدة فإنه أرسله الإمام أيده الله لإزالة منكرات(ورد ظلامات) وزجر لأهل المعاصي وتوجه لها على مقتضى ما أمر به وقاسا من المشاق ما قاس وصبر حتى قضى فيها ما قضى وعلى سبيل رشد مضى، وكان آخر عمل في الجهات الخولانية أمر شعب حي فوقع ما وقع وكان ما كان ومنهم بدأ الظلم وعوده على ما ظهروا اشتهر لما هم عليه من التمنع عن الأوامر الإمامية والدفع الذي شهدت به عليهم وإنهم إنما دافعون عن أنفسهم، ما صار يطلب منهم من الأمور الزايدة على القوانين الشرعية وقد قرر العلماء العاملون وأهل النظر والإجتهاد، إن الإمام الجامع للشروط الثابت الإمامة يجب إمثتال أمره، والوقوف عند نهيه وزجره ولا سيما في مسائل الاجتهاد وفي ما يقوي به أمره ويقوم به شعاره ويقاتل من خالف أمره وقد لزمتك الحجة بإقرارك بالإمامة والشهادة بأنه لا يصلح لها إلا هو، وشهدت على أهل شعب حي بالامتناع عن أوامر الإمام والدفع له عما اوجبه عليهم وفرضه من التأديب لهم وامتناعهم من الامتثال لأمر الوالي بتسليم المعونات، وقد علمت أن ذلك من اجتهاد الإمام وإنه من جملة الأحكام ودليله على ذلك ما احتج به من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة وفعلهم وبما قرره في ذلك علماء الإسلام من الفرق كلها كما ذلك في جوابه أيده الله إن طلب المعونة من الناس فرض واجب على ما يفرضه، وحق لازم له طلبه، وحمل الناس عليه وقتالهم إن امتنعوا عنه وإلا كان في ذلك صدق ما يتمثل به العامة، أنت إمامنا والكلام كلامنا، فإذاً ما فائدة الإمامة إذا كان
محكوماً عليها بعجز العامة فذلك إنما يكون من العجز العايد على المسلمين بالضرر الكبير والوهن والضعف الكثير نعوذ بالله من ذلك ومن مكايد الشيطان، ومن سوء الظن بأهل الإيمان وما أشار إليه من إحراق المسلمين ومن لا ذنب له، فاهل شعب حي هم الذين أشعلوا نار الحرب وأقاموا سوق الطعن والضرب، وإذا قامت الحرب على ساق لم يتوقف الأمر فيها على اختيار مختار، ومعرة الجيش من الاضطرار وظاهر من قاتل وظاهر عدم البراءة، وقد فعلوا مع العسكر ما لم يخف أمره، واجتروا عليهم جرأة لولا نصر الله وتأييده ونصره ما أبقوا عليهم [141/أ] باقية ولو تمكنوا منهم لفعلوا معهم من القبائح والفضائح أعظم داهية ولكن الله سبحانه وقى شرهم ودفع ضرهم ورد كيدهم عليهم وأرجع مكرهم إليهم وما ذكره من إنه لم يكن من خولان إلا السابقة في الإسلام والجهاد بين يدي كل إمام فالسبق لأهله محفوظ وسعى المجاهدين عند الله غير مضيع فلم ينكر سبقهم ولا ضيع حقهم، وإنما ابطرتهم نعم الله عليهم وفضله الذي خوله وما نالوه من بركات الأئمة عليهم السلام، وكسبوه من السلاح وتملكوه من القوة فلو قابل أهل شعب حي ذلك بالشكر لله عز وجل وامتثلوا امر الإمام عليه السلام وواليه كما هو الواجب عليهم لما غير الله عليهم متغير ولكانوا في فضل كبير: {إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } .
وأما الفقيه محمد بن علي بن جميل ومن معه من المجاهدين فكأنه ممن لا يحق له رعاية ولا حرمة، وكأنهم لم يكن لهم سابقة أو حالة لائقة، إذ حالهم في الجهاد مع الأئمة مجهول أو كأنهم أتوا من خلف الردم المردوم. إن لم يكونوا من أهل السوابق الحميدة، والآثار السديدة، وهم لها حافطون وعلى سنن الحق قائمون، وفي طاعة الله وطاعة الإمام مشمرون، آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر ما ينقم الناقم عليهم إلا طاعة الله وطاعة الإمام وقيامهم في الله أشرف مقام، فلو ماثلت بين الفريقين لعلمت أن الفرق بينهما واضح ولو أنصفت لعلمت من الصالح منهم والطالح {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وما ذكر من أنهم عارضون للواجبات الشرعية فكيف ذلك، وهم منعوا العامل والتسليم إليه، وأمرهم في ذلك ظاهر، لمن عرف حالهم، واطلع على أعمالهم، وهل هذا إلا من المناقضة الظاهرة والعصبية للأهواء؟ والدعاوى الجائرة تارة يقول هم عارضون للواجبات وتارة يقول إنما دفعوا عن أنفسهم ما فرضه الإمام من المفروضات وقد دل الدليل من واضح الآيات البينات، والحجج القاطعة الواضحات، إن ما فرضه الإمام من المعونات والعقوبات من جملة الواجبات، وغير المفروضات ولا معذرة عنها، ولا محيص منها، والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. انتهى ما احتمله الاختصار من مهمات الجواب على ما أورده السيد إبراهيم[141/ب] من (الاعتراضات) التي اجترحها والأباطيل التي
اخترجها، وقد ظهر ما أودع من حكاية الإمام (عليه السلام) وحكاية من أجاب عن اعتراضاته من العلماء الأعلام بما يكفي ويشفي.
[جواب القاضي عبد العزيز الضمدي على الرسالة]
نعم! وظهرت نسخة عُزيت إلى السيد المذكور وألقاها إلى القاضي العلامة الفاضل وجيه الدين عبد العزيز بن محمد النعمان الضمدي القاضي في بلاد أبي عريش وما والاه، وبندر المخاء المحروس ومن أتاه. فأجاب عنها وتبين الحق فيها وبعث بجوابه الوافي عنها، وبالنسخة المنسوبة إلى السيد إبراهيم أيضاً.
فأمر الإمام (عليه السلام) القاضي المكين، والعلم الشهير في السبعة المعظمين. شمس الإسلام والمسلمين أحمد بن صالح بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال أطال الله بقاه بأن يتولى جوابها، ويشف نقابها، وحل الشبهة التي اعترضت لموردها وإبانةالحق الصراح بما سرد من نثرها وقصيدها، ولما كان عنوان ما أورده صاحب السؤال شعراً حرره فقال سؤال إلى أعيان أهل المذاهب إلى آخر ما قال. فقال القاضي أيده الله : الجواب المنظوم وشرحه في مقامات امير المؤمنين، ومجالس الفوايد الملتقطة من بعثات خليفة سيد النبيين والمرسلين، وحجة الله الظاهرة في العالمين، وترى في المنظوم من ذلك والمنثور، الكلام الذي يشفي الصدور، ويزحزح الشرور، فقال: المورد لذلك السؤال.
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم:
سؤال إلى أعيان اهل المذاهب .... ومن عنده فهم لقصد المذاهب
ومن غاص في بحر الأصولين فانتهى .... إلى المنتهى منها وأعلى المراتب
ومن كان في علم الحديث مبرزاً .... وحاز من التفسير جم الغرايب
وكان له في سيرة الصحب خبرة .... وفي سيرة الماضين من آل غالب
إذا لم يجد من قام لله ناصراً .... ينفذ حكم الشرع في كل طالب
وأعياه أن يمضي على السيرة التي .... عليها مضى الأخيار كل المذاهب
وليس ببيت المال شيء يعده .... لدفع مهم عارض أو نوايب
فأصبح ركن الشرع والدين واهياً .... لذلك الإحكام رأي صايب
فهل يشتري الأحرار يا علماءنا .... بمال لنصر الحق من غير شايب
[142/أ]ويفرقه حلاًعلى كل موسرٍ .... لحفظ أساس الدين من كل غالب
ويجعل هذا الأخذ من بعد مفسد .... لدفع أهم منه عند النوايب
ويأخذ قدراً منه فيما يظنه .... على السنن المقبول من غير عاتب
قد أزمن أهل التقى فيه والنهى .... قليل فطوبى للقليل الأطايب
وأكثر من فيه بنوا المال فانتبه .... لذلك وافكر ليس عنك بغارب
وذا قد اتى في قصة الخضر التي .... حكى الله في خرق السفين لعائب
وقد نص أهل العلم في قتل مسلم .... يترس أهل الكفر فيه فراقب
وقال إذا ما المال صار محرماً .... جميعاً دفعنا الضر منه لذاهب
وماذا جميعاً غير فعل محرم .... لدفع أهم منه فافقه ما ربي
له ماجد أهل وأصل موصل .... ونص صريح قس عليه وقارب
ولكن على شرط بناه أولوا التقى .... ورأي إمام العصر لا رأي نائب
وأسس أركان القياس له على .... شروط وأوصاف ذكرن لطالب
وما كل ما همت به نفس طامع .... تجيء على هذا القياس لحاسب
أم الحق أن يمضي على الشرع ظاهراً .... وإن بطلت أحكامه للشوائب
ويسعى إلى الخيرات في الله جهده .... وليس عليه من تمام المآرب
فذا العلم آي محكماتٌ وسنةٌ .... فريضة عدل ما عداها فجانب
وليس لنا بالعقل تحليل حرمة .... ولا غير ما يأتي عن الله أو نبي
فقد كمل الدين الحنيف وبُينت .... لنا السنة البيضاء عن شك راتب
فمن يقف في قول وفعل ونية .... سوى إثر المحتار بعز لكاذب
وليس على شيء من الدين والهدى .... فخذ بالذي ترضى به غير هائب
فكل من القصدين ياصاح قد نجى .... فريق من الشم الكرام الأطايب
ولكن أبينوا لي هديتم طريقة .... يرجح ما يرضى الإله لطالب
وتنجو بها من أم قصد سبيلها .... ويظفر في الأخرى بنيل المطالب
هو المنتجى دفع المفاسد بالتي .... أخف هو الأولى لنا في العواقب
لأن به يعلوا ويظهر معظم .... من الشرع فاسبر ما أقول وناسب
فقد قل خير الرسل وهو مصدق .... بما قال في أخباره بالغوائب
[142/ب]بدا الدين في أصل غريب وهكذا .... يعود فطوبى للغريب المواضب
فوفوا لنا ذا الاجتهاد وحقه .... من البحث في طرق الدليل الثواقب
ولا تغفلوا شيئاً بحق فإنني .... شهي إليه راغب أي راغب
وحلوا لنا ما حل في القلب شبهة .... تصير علينا حجة للنواصب
وإلا فقولوا الحق هذا تعارض .... يوفق فيه من حُضى بالغرائب
اعلم أن هذه الأبيات أبرزتها القريحة الجامدة، والفطنة الخامدة، للعرض لها على أنظار العلماء المصاقع، وأفكار النظار بجهة المحافل والمجامع، لاستمداد الفايدة من أنظارهم الشريفة، والتمسك بحسن مقاصدهم في هذه المسألة اللطيفة، وكان السبب المستدعى لتحريرها والموجب عليَّ لتسطيرها ما رأيت من اعتراض كثير من أهل هذه الأزمنة المتأخرة على أنظار متأخري الأئمة، التي ترى في ظاهرها إنها متابعة لسيرة أئمة الجور، من حيث عدم التوقف فيها ظاهراً على أخذ الحقوق المأمور تسليمها إليهم، بل ربما أخذوا من أموال المسلمين الذي لا يحل أخذ شيء من أموالهم إلا بطيبة من نفوسهم أو بحقها قالوا وربما شوهد من هذه السيرة ما يخالف سيرة الأئمة الماضين والخلفاء الراشدين، من عدم الاقتصار على القدر المحتاج إليه في المأكل والمشرب والمناكح والمساكن والملابس. ممن هو قدوة يقتدى به في فعل الخير مع عدم التكثير فيها ممن قام بأمر الأمة، وربما شوهد عدم القيام بحق من يجب القيام بحقه والقيام بحق من لا يجب القيام بحقه عند التعارض ونحو هذا من الأشياء الكثيرة، التي صار النقم بها من كثير من الأفراد ونسبة فعل الأئمة بها إلى الأفراد.
وأنا أقول في الجواب:
اعلم وفقني الله وإياك أن هذه الاعتراضات إنما تصدر ممن صدره ضيق خرج عن المحامل الحسنة او ممن لا خبرة له بالمقاصد المستحسنة فإن الإمامة منصب عظيم وقدره عند الله فخيم، وتكليفه أعظم التكليف يحتاج صاحبه إلى سعة الصدر ونفس البال واحتمال أعباء تلك الخلافة وتلك الأثقال والصبر على كثرة القيل والقال، ومعاداة أكثر الرجال، وبهذا تنال أعلى الدرجات وتتفاوت المقامات وتضاعف الحسنات، وتكفر السيئات، وقد روي على ذهني للإمام الناصر[143/أ] للحق الحسن بن علي الحسيني (عليه السلام) ما معناه إنه كتب إليه بعض أهل زمانه كتاباً ذكر فيه له أشياء انتقص من الإمام في السيرة، وقال إن سيرة اهل الكفر أعدل من سيرته أو نحو من هذا.
فلما قرأ الكتاب عرضه على بعض خواصه ولم يزل له العرق حتى ابتلت ثيابه، وسأل خواصه ما يكون جوابه فقيل له يقتل وقيل يؤدب، وقيل غير ذلك، فلما ذهب عنه الغضب وحكم على نفسه بعد طيشه أمر أن يجاب عليه بما معناه: إنا قد عرفنا بما قلت وإنا من قوم قال الله فيهم: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً } وقد عفونا عنك. والسلام.
واعلم إن في فضل الإمامة وعلو مقام صاحبها أحاديث جمة منها ما رواه الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (عليه السلام) عن النبي ً أنه قال: ((الوالي العادل المتواضع في ظل الله وذمته ، فمن نصحه في نفسه وفي عباد الله حشره الله في وفده يوم لا ظل إلا ظله ومن غشه في نفسه وفي عباد الله خذله الله يوم القيامة.. قال ويرفع للوالي العادل المتواضع في كل يوم وليلة كعمل ستين صديقاً كلهم عامل مجتهدين في نفسه)) وقوله ً ((والذي نفس محمد بيده إن الوالي العدل ليرفع له كل يوم وليلة مثل عمل رعيته وصلاته تعدل بسبعين ألف صلاة )) وعنه ً أنه قال: ((عدل ساعة خير من عبادة سنة ، وإنما قامت السموات والأرض بالعدل)) وعنه ً أنه قال: ((إن أحب العباد إلى الله تعالى وأقربهم منه مجلساً إمام عادل وإن أبغض العباد إلى الله وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر)) ونحو هذه الأحاديث كثيرة واصل مبني منصب الإمامة الذب عن حدود الله والحمل على القيام بحقوقه التي لا طريق لنا إلى معرفتها إلا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة والعترة الطاهرة فقد قال ً ((إن الله تعالى فرض عليكم فروضاً فلا تضيعوها وحد لكم حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان لها ولا جهل فلا تسألوا عنها ولا تكلفوها)) أو كما قال وإذا تقرر أن المراد بالإمامة العظمى هي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنفيذ أحكام الشريعة المطهرة التي لا طريق لنا إليها [143/ب] إلا بما ذكر فإذن ليس للأئمة القايمين بهذا التكليف غير الوقوف عليها دون التعدي عنهما لكنا نقول إن كان القايم بهذا التكليف ممن
يجد له الناصر على إمضاء ما كلف به لوجه الله تعالى كما كان من الخلفاء الراشدين ومن أنصارهم كعمار والمقداد وأبي ذر وسلمان وغيرهم ممن لم يكن همه إلاَّ رفع منار الدين وإعلاء كلمة الله رب العالمين ومناصرة أنصاره فإن من اتفق له هذا كما كان من أهل تلك المرتبة العلية والطريق النبوية فحق الله عليه أن يقتصر على ظواهر الشرع الشريف في أخذ الحقوق الواجبة والزكاة الظاهرة والباطنة والأخماس والغنايم والأموال المجهولة ويضع كل شيء منها في موضعه ولا يتعدى هذا القدر إلى غيره من أموال المسلمين لقيام الشريعة المطهرة بما ذكرنا من غير حاجة إلى غيره، وهذا لا يشك أحد فيه أنه منية الأئمة لو وجدت وطريقتهم المثابون عليها لو سلكت، والمسئولون عنها لو سلمت لكن نظرنا أتم النظرة وتأملنا أكمل التأمل فوجدنا الجم الغفير والطبق الأدهم الكثير، من أهل هذه الأزمنة داخلين في مرتبة المؤلفين الذي دفعت إليهم الإبل والشاة يوم حنين وذهب المهاجرون والأنصار برسول الله بين أظهرهم طيبين الخواطر لم يشب دينهم شايبة ولا لوت أعناقهم بعد ذلك عن نصرة الحق داهمة ولا نائبة ووجدنا القليل البرر من أهل هذه الأعصار فيه رايحة من تلك الآثار جلا إنها عصابة معلومة بالشوايب وقطعة من نور مكللة بالغياهب، فإذا صار أنظار أئمة الآل مع هذه الأحوال في أنظار مختلفات وإن كانت في حقيقة الأمر مؤتلفات فذهب سلف الأئمة من لدن زيد بن علي (عليه السلام) ومن بعده الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (عليه السلام) إلى مسلك الصحابة الراشدين من التمسك بظاهر الشريعة المطهرة على اليقين من غير
التفات إلى تحصيل مال وتأليف مؤلف ونصر مناصر فقفوا على آثارهم واهتدوا بمنارهم فتبعهم أهل الله وأحباؤه وتخلف عنهم أعداؤه وفعل بهم ما فعل وجرى لهم من السيرة ما جرى به المثل من المثلة لبعض والحبس لبعض والقتل لبعض والتشريد لبعض وهم مع هذا غير منحرفين عن إمضاء [144/أ] المستطاع من حق الله فلله درَّهم وقد قال فيهم من قصيدة طويلة بعض أصحابنا المحبين المشايعين لأهل البيت المطهرين من أهل هجرة ضمد وهو الفقيه العلامة علي بن يحيى الهذلي رحمه الله:
لا يخدع الناس عنكم ما ألم بكم .... من كل أحمق غدار ومكار
فإنما هي إحدى الحسنيين لكم .... وللطغاة خلود بعد في النار
ما نالكم غير ما نال الكرام وهل .... بالقتل في الله بالناس من عار
لم تبعثوا الحرب لا بغياً ولا طلباً .... لنيل ملك ولا تحصيل دينار
ولا غضبتم لغيرالله آونة .... ولا طربتم إلى دف ومزمار
بلى نصحتم بني الأيام فاتهموا .... كفعلهم بأبي ذر وعمار
وعزة القوم دنياهم وما علموا .... بأنها ذات إقبال وإدبار
فإن تكن زهرة الدنيا وبهجتها .... جنابكم منها يا سادتي عار
فقد وعدمتم بعقبى الدار وهي لكم .... نصيركم وهي تجزى كل صبار
اخترتم الصوم عن دار الغرور فهل .... ترضون إلا على العقبى بإفطار
دراسة الوحي في الأسحار دأبكم .... والغير يشدو بألحان وأوتار
وأنتم الناس ليس الناس غيركم .... ما كل ماشمت من برق بمطار
وأنتم السادة الشم الذين بهم .... يوم القيامة أرجو حط أوزاري
وقد ركنت إليكم واعتصمت بكم .... طراً وأقرضتكم مدحي وأشعاري
ولا شك أن طريقة الأئمة السابقين التي اختاروها هي طريقة الخلفاء الراشدين لأنهم بذلوا مهجهم لله واشتروا أنفسهم من الله، مع معرفتهم بضعف الشوكة وقلة القدرة لكن بذلوا لله أنفسهم لم يمنعهم عن سلوك ما سلكوه عذل عاذل، ولا ميل مايل، ولا قول قايل، فاستشهدوا حميدين، وفازوا برضا رب العالمين، لما خذلهم الأعوان، وباينهم الأصدقاء والخلان، ولطمع هذه الدنيا الفان، فالله المستعان، وقصصهم وسيرهم مشهورة، وفي الكتب مسطورة مأثورة.
ولما عرف ما جرى لهم مع من مضى من أهل زمانهم وما طبق الأرض في تلك المدة السابقة من الجور والعدوان والتظالم والبغي في الأرض بغير الحق، وعدم جري أكثر الأحكام على مجرى الشريعة المطهرة، بل تعطلت وصار أمراء تلك الأيام آمرين ناهين، على مقتضى أهوائهم[144/ب] وموافقة أغراضهم وعرف المتأخرون من الأئمة أنه لا ينصر الدين، ولا تنفذ أحكام رب العالمين إلا بمال يتألف به من لابد من معونته ونصرته، أو تشد به خلة من أحوج إلى سد خلته ووجدوا أهل هذا العصر على هذا، ورأوا أن تلك الطريقة التي سلكها السلف الصالح وإن كانت هي المنهج السوي والهدى النبوي، لكن لفساد أهل هذه العصور الفساد الزايد عن حد الاعتبار، الذي يعلم بطريق الاستدلال بمن مضى أن السالك له من المتأخرين لا يتبعه فيه متبع ولا يعضده عليه ناصر، إن فرض على القلة لم يتمكن بذلك من تنفيذ حكم فذ، ولا أمر بمعروف فذ إلا قدر ما يتمكن منه الأحاد، بل ربما أدى ذلك إلى سفك الدماء وأخذ ظلامات، ولحوق تبعات، فيكون السالك هذا المسلك كالمسبب لإثارة الفتنة، فاستحسن المتأخرون من الأئمة أن يسلكوا مسالك وإن كان ظاهرها اتباع أئمة الجور في القوانين المعروفة والفرق والضيافات، ونحوها مما ضاهوا فيه سيرة الظلمة وما ذاك إلا لتحصيل ما يتألفون به الأجناد، أو يسدون به خلتهم لقصور الحقوق الواجبة عن القيام بكفايتهم لاستغراقها لمصارفها، بل ربما ضاقت عن أهلها فقرروا تلك الأحوال لهذا المقصد، يقمعون به أهل الفساد ويسدون به الثغور، ويحفظون به الطرقات، حتى يتمكن لهم الوطأة من إمضاء الأحكام الشرعية، والنهي عن
المنكرات الظاهرة والخفية، ولأن الأموال التي تختص المجاهدين، وتقوم بكفايتهم لم توجد في هذه العصور فقد كان الصحابة (رضي الله عنهم) ومن بعدهم يجاهدون كفاراً، ويغنمون غنايم تكافيهم وهذه الأزمنة قد انتشر بحمد الله الإسلام، وعزَّ زاده الله قوة وعزاً، لم يبق للمجاهدين من وجهة ما يسد خلتهم، ففرض الأئمة لهم هذا الفرض والقانون في أموال المسلمين لسد خلتهم أو لتألفهم لدفع المفسدة التي تولد من خذلانهم، وقد ذكر نحو هذا بعض علماء المذاهب الأربعة، فرأوا أن هذه الأفعال وإن كان ظاهرها أنها مفسدة، وإنها لا وجه لها ظاهراً من كتاب الله، ولا سنة نبيه لكنها مفسدة حقيقة مقصود بها دفع مفسدة أو مفاسد أهم وأعظم، وهي ما يتولد من قطع الطرقات، ونهب أموال المسلمين وسفك دمائهم، والتظالم مع ما يحصل بهذه المفسدة من مصالح جمة، وهي إقامة أركان الدين الشريف، وتنفيذ أحكامه على القوي والضعيف، فأرصدوا هذه الأموال لهذه المقاصد الحسنة وهي لها[145/أ] مأخذ-من الشموع جملية، وليس الشرع منافياً نصاً ظاهراً، فقد حكى الله في قصة الخضر (عليه السلام) في حرق السفينة عنه أنه أعابها على أهلها لئلا يأخذها الظالم عليهم أصالة، فرأى أن عيبها على أهلها وإن كانت مفسدة، فهو لدفع مفسدة أعظم وهو أخذها، وإذا تقرر هذا في شرعنا فما قرره شرعنا فهو شرع لنا، وإنما أخذوا هذه الأموال على هذه الصفات والأحوال لأنها وإن كانت مظلمة فقد سكنت نفوس الرعايا إليها، ووطنت أنفسها عليها لا سيما قوانين المجابي، ولو أخذت منهم على غير هذه الصفة المعهودة لزاد التظلم والانتقاد، وعظم
التشكي في البلاد، فإذاً سيرة الأئمة فتفطن لما أقول لك لما كثر الفساد من أهل الزمان لم تكن إلا دفع مفسدة بفعل مفسدة أخف وفي الشرع نصوص إن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإذا أزالت المفاسد عن الأيمة، وصلح الزمان وأهله على الفرض رجعوا إلى جلب المصالح وانتقلوا عن دفع المفاسد، ومثل هذه الأفعال قد نص عليها العلماء في جواز قتل الترس الذي يترس به الكفار دوننا، وهم من المسلمين ويجعلونه دونهم ذريعة إلى استئصال أهل الإسلام.
فإنه إذا لم يُمَّكن المسلمين دفع الكفار إلا بقتل المسلمين المتيرس بهم جاز، وإن كان قتل المسلم مفسدة لدفع مفسدة أعظم وهو حسنة استئصال أمةٍ من المسلمين، ومثل هذه المسألة ما ذكر العلماء أنه إذا طبق الأرض الحرام ولم يوجد الحلال فإنه يجوز سد الضرورة منه مع كونه محرماً لأنه فعل مفسدة أعظم، وهي ذهاب أرواح المسلمين.
ثم إنا نقول بعد هذا إن لأخذ هذا المال مآخذاً في كتاب الله وهو قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وفي آية: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} وليس الجهاد بالمال إلا بذل شيئ منه في سبيل الله من جملة ذلك بذله في إعلاء كلمة الله، وتنفيذ أحكام شرايعه المطهرة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإذا احتاج الأيمة في تمام ذلك وإمضائه إلى المعونة بشيء من أموال المسلمين لإقامة أركان الدين فعلوا ما تغلب على الظن أنه يدفع المفسدة العظمى من غير زيادة عليه، ولا استمرار مع زوال تلك المفسدة المخوفة، إن جوز زوالها على الفرض، وهذا القدر الذي يأخذونه يكون على المياسير مما زاد على كفاية السنة لإجماع الأمة عليه، وتقريره على القوانين المستحسنة أولاً لسكون نفوس أهل المال إليه كما ذكرنا، وقد نص على هذا أعني كون القوانين[145/ب] داخل في باب المعونة بالجهاد الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة، وذكره الفقيه يوسف بن أحمد في الثمرات تفسير الآية.
فإذاً هذه الأفعال وأخذ هذه الأموال لا تخرجهم عن كونهم أئمة الهدى، ونجوم الاقتدى، ومصابيح الدجى، وقدوة من اقتدى، فالملجئ لهم اقتحام هذه الأحوال، وارتكاب هذه الأهوال، هو فساد أهل هذا الزمان، ومصارعة أهل الطغيان، ومعالجة أذوا أهل الخذلان، ثم أن الحق إنه كان ينبغي منهم القدرة أن يضعوا هذه الأموال كل شيء منها على حياله، ويصرفونه في مصرفه، لينقطع عنهم الاعتراض، وخلاف من يقول بيت المال غير منتظم ولا مستقيم، لعدم وضع الأموال في مواضعها، فتفرع على هذه أموراً في مذهبه، فإذا وضعوا هذه الأموال المرصدة لأربابها، وما يؤخذ من المعاون والأخماس والمظالم والغنايم، والجزي في أهلها وما يؤخذ من الحقوق الواجبة كالزكوات والمعشرات في أهلها، فهذه إن حصل التعاون بها والتعاضد والمؤازرة للأئمة، ربما تدخل في المقدور، فهو من جملة ما نقم به بعض الناقمين أعني صيرورة تلك الأموال إلى غير مصارفها، لا سيما صيرورتها إلى منصب الشرف النبوي، والأصل الطاهر المصطفوي، فإنه قد نقل الإجماع على تحريمه عليهم إلا على فتوى بعض متأخري الشافعية، وتأويلات بعيدة لبعض الزيدية، والجزم لأهل الورع منهم عدم قبضها لغير مسوغ، ثم صرف ما يحل لهم من المعاون، والمظالم إلى غيرهم من مصرف الزكوات ونحن لا نحمل الأئمة في ذلك المحمل الحسن، والرأي المستحسن وقد فهمنا من إمام عصرنا أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين، إسماعيل بن أمير المؤمنين، أدام الله أيامه، التصريح بتحريمها على بني هاشم، وعدم صحة نية القرض، كما يروى عن غيره من الأئمة.
إما بالتأليف لمن لا يجوز صرف الواجبات إليه كالأغنياء، وبني هاشم فإن المنافسات في هذه الأزمنة لم تكن إلا في الزكوات، وإما بالقرض بالنية من الزكوات لبيوت الأموال أو من بيوت الأموال لمصرف الزكوات، فقد نص على ذلك بعض علمائنا أنه يجوز لمن هو في محل الولاية وهذا إنما هو للضرورة، وهو كثرة اشتغالهم بمعاناة أهل الأطماع، وعدم التفرغ لفصل كل من هذه الأموال من غيره على حده مع جواز ذلك، أعني نية القرض للمتصرفين، وبعد ثبوت الإمامة لنا وقيام الحجة علينا بوجوب الاتباع يجب الحمل على السلامة، والتأويل فيما للتأويل فيه مجال وما وضح لنا فيه الخطأ بوجه شرعي، فعلينا البحث فيه لهم على وجه السؤال فإن وضح[146/أ] الوجه فذاك المراد، وإلا كان ذلك غاية تكليفنا، من باب المشورة والمؤازرة والمعاونة والنصيحة، فالأئمة بشر مثلنا محتاجون إلى المعونة في تكليفهم.
نعم! ومن جملة ما نقم به بعضهم، إن الأئمة نفسوا على كثير من الولاة، والأتباع والأجناد بالأموال الواسعة حتى توسعوا فيها كلية التوسع، وسلكوا فيها مسلك السرف، وتمهدوا منها مماهد الترف، ولم ينكر عليهم الأئمة ذلك مع قدرتهم على الإنكار.
فنقول: للناقم إن كان مثل هذا صدر من الأئمة الذين هم القدوة في مسالك الأخيار والعين الناظرة في الإيراد والإصدار، فلا شك أن ذلك مما يناقش فيه المناقش، ويعيب فيه العايب، لأن ذلك يعود على عرضهم الذي يدعون إليه بالنقص، لكنهم أجل قدراً عن المناقشة في هذه الدنيا الحقيرة الفانية، وإن كان ذلك إنما هو صادر من بعض الأمراء والأجناد، والأتباع والعمال، فلا غروا إنما ألجأ الأئمة إلى اقتحام تلك الأحوال وارتكاب تلك الأهوال، يأخذ تلك الأموال هذه الأجناس والأشكال، الذين ليس همهم إلا تحصيل ما يتنعمون به من المال، ويتنافسون فيه بأي احتيال، من غير نظر إلى العواقب، ولا قول عاذل ولا عاتب، فلو عرف الأئمة أن الإنكار على مثل هؤلاء يفيد لكان الإنكار عليهم بأخذ الأموال بادي بدء هو الأول، ومن لم يقدر على الإنكار في أخذ المال كيف يقدر على الإنكار في وضعه في تلك الأحوال، إن هي إلا مفسدة من تلك المفاسد، التي يترك الإنكار فيها لخوف أعظم وهو تخذيل خذلان الأئمة وتلاشي أوامرهم الشريفة، حتى على من هو أضعف، فانظر هديت إلى من تصارع هذه الأحوال،
وتلقى مثل هذه الأمور من تلك الإشكال، كيف يتعرض متعرض للاعتراض عليه، ولا شك أن من اعترض عليهم في عدم إنكارهم لم يعرف ما قدر تكليفهم، أو عرفه لكن قصد التثريب بغير حق، والتشنيع بغير سبب فإن الأئمة لما رأوا أكثر الناس على هذه الطريقة، ولم يجدوا إلا أقلهم على الحقيقة، لم يسعهم إلا مصالحة تلك الأذواء، ومداوة أولئك المرضى، والوقوف تحت بعض أراء أهل الأهواء، وما تلك إلا مفسدة لدفع مفاسد، ومحمدة بل محامد، فجزى الله الأئمة عنا أفضل الجزاء.
نعم! والذي في النفس منه الشيء الكثير أمران: أحدهما: عدم التسوية بين الرعايا في المأخوذ، وهو إنا نجد كثيراً من القبايل عليهم مطالب لا تنفك شهرية أو يومية تتألف على الترداد إلى الشيء الكثير وهم بعد هذا غير معذورين عن اللوايق التي تعم ساير الرعايا ولا ظهر لهم في[146/ب] المال مزية تميزهم بهذه الرزية، وبعض القبايل في كثير من الأقطار في غاية الإراحة إلا مالا ينقص حالاً ولا مالاً كالأمور الطواري لعوارض يستحسنها الأئمة ولعل لخصوصهم بهذه الحال سبباً خفي عنا، فإن المطلب الإمامي الذي قد تعين بنظر ذي الولاية واستحسنه ينبغي فيه المساواة بين الرعايا ليحصل به النفع ويندفع الضرر ويحصل به الغرض المطلوب.
الثاني: ما يرى من بعض العمال أنهم لا يتوقفون على الرأي المستحسن من الأدب والفرق ولا يأخذون قدراً يكون برأي صاحب الرأي، فيقتفون آثاره، ويكلون مثل هذه الأمور إليه لأنها لولا ما وضعت له من المقاصد الحسنة، والمرادات المستحسنة، لخرجت عن ظاهر الشرع نصاً وقياساً، وما كان بهذه الصفة سبيل الظلم الخالي عن الوسائل، وهذه الحالة قد تمكن الأئمة التنبه فيها لعمل أهل الولايات، وقصرهم على المستحسن من المرادات، إلا أن يتولد من محاولة ذلك مفسدة أعظم كان تركه من باب دفع مفسدة بأخف، فإن عرف ممن ولاه أنه من أهل الدين والتقوى، وحصل منه شيء لم يبلغ مسامعه فليس من تكليفه إلا بعد بلوغه إليه وإن كان التجويز عنده حاصلاً لهذا وأمثاله، كما يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يبيت ساهراً، يرفع الشكوى إلى الله تعالى، والاعتذار إليه ممن يظلم في ولايته بغير علمه خشية أن يكون سبباً في ظلمه، فإن الأرض لا تخلو من الصالح والطالح، فأما الولاة الصالحون الذين همهم معاونة أهل الحق ومناصرتهم ومعاضدتهم على إقامة كلمة الله وإظهار حكم الله لا ينظرون إلى طمع يلوح لهم إعلامه، ولا هوى تطرقهم أوهامه، بل يحرصون على إقامة الشرع لوجه الله ويطلبون بذلك ما عند الله ويأخذون كل شيء من وجهه، وما أشكل تحروا فيه أو رفعوه إلى من أمره إليه أو استرشدوا فيه أهل الورع والتقوى وكانوا أيضاً مما يأتون منه على وجل وخوف فأولئك هم صفوة الله من خلقه الذين ثبت الله بهم الحجة، وتهتدى بهم واضح المحجة، المراقبون لقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} الآية. فأولئك هم الذين وعدوا بالثواب الجزيل، على عدل ساعة وهم الذين يكون لعمل أحدهم ثواب سبعين كلهم مجتهد، وهم الطايفة الذين لا يزالون على الحق الصحيح، ولا شك أن من أهل الخير بقايا، وفي الزوايا خبايا، بمصداق الحديث النبوي لا يعرفون إلا بحسن السيرة، وصلاح السريرة، لا سيما أهل بيت الشرف النبوي والمقام العظيم المصطفوي، فإنهم أهل[147/أ] الفضايل، ومحل حسن المقاصد والوسايل، لا زال منصبهم الشريف بالحق مقروناً، وعلى أهل الأرض ميموناً.
نعم! والأئمة بعد هذا كله مسئولون عن المستطاع من دفع ما أمكن دفعه، ورفع ما يستحق رفعه وبذل الأموال التي تحت أيديهم على حسب ما تقتضيه أنظارهم الثاقبة، وآرائهم الصايبة، ولكن مع هذا أكثر اعتمادهم مصارعة أهل التأليف، وتقديم أهل الدين الضعيف، وكثيراً ما يتركون ذوي الاستحقاق لضرب من الصلاح وكولاً لهم إلى دينهم وإلى معرفتهم بحال الأئمة، ومن لا يعرف هذه المحن، ويتفطن لأحوال أهل هذا الزمن، ربما يظن أن هذا الحرمان للضعفاء شح من الأئمة بالمال دونهم، وإعراض عنهم وكلا والله إنهم ليعلمون ذلك ولكن نظروا إلى قوله: ً: ((إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار )) .
هذا وقد ورد النهي في التعرض للأئمة بالاستخفاف والانتقاص لهم أحاديث منها قوله ً: ((ثلاثة لا يستخف بحقهم إلا منافق بين النفاق ، ذو الشيبة في الإسلام، وذو العلم، وإمام مقسط)) وفي حديث عنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق بين النفاق ، ذو الشيبة في الإسلام، والإمام المقسط، ومعلم الخير)) وعنه ً: أنه قال: ((لا تسبوا الأئمة وادعوا الله لهم بالصلاح، فإن صلاحهم لكم صلاح)) وعن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أنه قال: ((لا تسبوا السلطان فإنه ظل الله في أرضه )) وعنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أنه قال: ((من أهان سلطان الله في أرضه أهانه الله )) وعنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أنه قال: ((السلطان ظل الله في الأرض فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله )) .
وعنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أنه قال: ((السلطان ظل الله في الأرض فمن غشه ظل ومن نصحه اهتدى )) إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على تحريم الانتقاص بهم، فاحذر هديت من فرطان اللسان، واللمز في أئمة الدين الذين هم رؤوس أهل الإيمان، فإن ذلك فسوق وخذلان، لا يفعله إلا المنهمكون في الأطماع ونهب بيوت الأموال، والمتوصلون بأي صورة من الاحتيال، فإنك إذا تأملت هذه المناقشات لم تجدها تصدر إلا من الذين افتتنوا بمخالطة السلطان، والأمراء والأعوان، طمعاً فيما عندهم حيث أنهم لم يخالطوهم للمؤازرة والمعاضدة لوجه الله تعالى، ولأعطوا حق النصيحة، ولا ما عندهم من الإمامة، ولا بذلوا جهدهم في الشفاعة، ومن لم يعط المخالطة حقها ويف بما يجب عليه فيها فهو مفتون في دينه، مسلوب في عقله، همه تحصيل المطامع وحشد الحافظ والدافع، ولم تجد[147/ب] إذا تأملت حق التأمل من أهل هذه الوظائف من المتاعب للأئمة إلا من وفق الله منهم، وهم قليل، وكان همه صلاح ذات البين، وإرشاد الضال، وأداء النصائح للولاة والعمال، على أحسن الأحوال، وتنبيه الأئمة على ما غفلوا وإعلامهم بما جهلوا والتحنن عليهم فيما كلفوا وشغلوا، وجعل هذه المقاصد الحسنة عنده أهم المقاصد إليه، وأقرب القرب فيما لديه، أولئك صفوة الله من خلقه المعاونين على الخير، ومن أحسن ممن رضى الأئمة عنه ورضى عنهم، ودعا لهم بالخير والصلاح، والإعانة على ما كلفوا به، وصحبهم على الوجه الجميل، المفضي إلى نيل الثواب الجزيل، أو نزه نفسه عن القيل والقال، وهذه الأحوال، واستغنى بما رزقه الله من الكفاف، ولبس ثياب
الخمول والعفاف، فإن الله ييسر له الأسباب، ويهديه إلى شيء من طرق الاكتساب، يدفع بها عن نفسه مكايد الشيطان، ويقطع بها عن الأئمة أذى اللسان، ويشغل بها عن الافتتان، حتى يعلم إنما يعانيه الأئمة من مصارعة الأضداد، ومقاساة أهل البغي والفساد من أرشد الرشاد وأحسن المقاصد يوم يقوم الأشهاد.
نعم! ومما نقم به على الأئمة ما ترى من كثير من المخالفين في المذهب، وبعض أهله من الانتقاد في العقوبة بنهب الأموال وإخرابها والتأديب بالنفاعة ونحوها، يزعمون أن ذلك ظلم من الأئمة وأن العقوبة ليست إلا في البدن.
فنقول: هذه المسألة مما اختلف فيها العلماء، فورد في الحديث أنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) قال في حق المتخلف عن صلاة الجماعة: ((لقد هممت أن أمر بالصلاة فتقام، ثم أمر بحزم من حطب فأحرق على قوم يتخلفون عن الجماعة بيوتهم )) أو كما قال، وهذا المعنى في الكتب الستة، وإذا هم (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) بإحراق مال المتخلفين، فهو لا يهم إلا بالجايز، وقوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((من غل فأحرقوا متاعه )) وقوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) في الزكاة: ((من أعطاها متأخراً له أجرها ، ومن لا فإنَّا آخِذوها وشطراً من ماله، عزمه من عزمات ربنا ليس لآل محمد منها شيء)) وقد زعم بعضهم أن المراد من هذا الحديث وشطراً من ماله – بضم السين، وكسر الطاء مثقلة- بمعنى حصل شطرين وهو تأويل بعيد، خلاف ما نص عليه العلماء.
نعم! وزعم بعض العلماء أن العقوبة بالمال قد نسخت، وعلى هذا بعض الأئمة قالوا: وإنما بقيت العقوبة في البدن بالحبس والقيد والتعزير والحدود، ونحن نقول روي عن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أنه قال: في حرم المدينة فاسلبوه فإن نكث فيه الغلام الذي سلبه سعد بن أبي وقاص [148/أ] فلما روجع فيه منع أن يرده وقال لا أرد طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكذا ما أخرجه مالك في الموطأ في قصة رفيق حاطب بن أبي بلتعة، لما وجدوا ناقة الأعرابي المزني، أو سرقوها فأمر عمر بن الخطاب بقطع أيديهم، وقال للأعرابي: بكم ناقتك فقال: والله يا أمير المؤمنين إني أمنع منها أربعمائة درهم فأمر حاطب بتسليم ثمانمائة درهم، وكان ذلك بحضور الصحابة، فهو دليل على أن العقوبة لم تنسخ، وكذا فعل علي رضي الله عنه في نهب نصف مال المحتكر إلى بيت المال وإحراق نصفه، وإحراقه لدار جرير بن عبد الله لما لحق بمعاوية، وكذا فعل الأئمة السابقين، وعليه أحمد بن حنبل وإسحاق في حق الكافر، بل قال: هو سنة لا سيما إن لم يحصل التكال إلا به، وعلى هذا جمهور الأئمة من الآل، قالوا: لأن المال شقيق الأرواح، وأصل شرع العقوبة الإنزجار، فإذا رأى الأئمة الإنزجار بالمال أكثر فعلوا ذلك لأن المتبع ما ظهرت فيه المصلحة، وفي الناس من تكون العقوبة عليه في البدن أزجر كأعيان الدولة ورؤسائهم، فإذاً التأديب موكول إلى رأي الأئمة فيما يحصل به الإنزجار، وقد استحسنوا الزجر به في هذه الأزمنة لمصلحة الانزجار، ثم مصلحة الوجه الذي التجأوا إليه كما قررنا أولاً، فلا نغتر برأي من
يقدم في آرائهم الصائبة، وأنظارهم الثاقبة، لا سيما ما صدر عن رأي الأئمة، وأما العمال والولاة، فهم فريقان، فريق من التقوى والخوف لله على جانب عظيم، يراقب فيما يأخذ ويذر مراقبة الأئمة في الخوف لله تعالى ولا يتبع هوى نفسه، ولا يأخذه في حق الله لومة لائم، كما كنا نشاهده من حي السيد العلامة هاشم بن حازم بن أبي نمي الحسني المكي رحمه الله تعالى وأمثاله، وفريق همه تحصيل ما يدخره من المال لنفسه، ويكسبه على أي وجه، فيجعل صورة هذه الآداب والقوانين سبباً وذريعةً إلى تحصيل المال من غير مراقبة لتلك المقاصد الحسنة والآراء المستحسنة، وما أعظم الوقوف على هذه الطريق الصعبة المنوطة بأهل الولاية، الماضي قولهم فإن النفوس مبنية على ما جبلت عليه من الهوى، وربما قصر الأئمة هؤلاء عن أفعالهم بعد ظهورها، وربما رأوا أن مثل هذا الجيش ممن يحتاج إليه في النصرة، فأعرضوا عنه لا رضى بما فعل لكن خوفاً مما هو أعظم وكم نجد من مصارعة من الأئمة لهذا الجيش لاقتحامهم على ارتكاب هذه الأخطار، ومخالفتهم لأنظار العلماء النظار، اللهم ارزقنا منك الهدى والعفاف والغنا والتوفيق لما تحب وترضى[148/ب] اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، وهب لنا من لدنك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوفيقاً هادئاً وعملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك، {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين. حرر غرة شهر ربيع الآخر سنة إحد وستين وألف (24مارس 1650م).
[جواب القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال على الضمدي] .
وهذا جواب القاضي صفي الدين أحمد بن صالح، أيده الله، عن أمر الإمام عليه السلام وإطاعته صلوات الله عليه.
بسم الله الرحمن الرحيم. وبه نستعين الحمد لله الذي جعل حرمة عرض المسلم كحرمة دمه، وزلة قلب الإنسان ولسانه أعظم من زلة قدمه ولا سيما إذا كانت زلة القلب تجب التفريق، بعدما شرع الله لنا، ووصى به إبراهيم من إقامة الدين والاجتماع في الطريق، وكانت زلة اللسان بأكلها لحوم العلماء المسمومة لا سيما لحوم العلماء من أشرف أرومة، وأكرم جرثومة، كيف إذا كان الثلب لسيدهم السابق، وعلم علمهم الباسق، من خلف أبيهم المصطفى، ناهج خلافة أبيه المرتضى خذوا النعل بالنعل، والفعل بالفعل، فيا لذلك الثلب ما أخطره، ولصاحبه يوم القيامة ما أحقره، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي أمرنا بالسداد أمراً شديداً وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } . وأن محمداً عبده ورسوله الذي باهل الأساقفة وجادل، وضرب لوافديهم الأمثال وناضل، وبشر المجاهدون بالحجة على لسانه بهداية السبيل وبيان الدليل، وإن كان الحق يقود إلى نفسه ويهدي الطلبة إلى شمسه، والصلاة والسلام عليه وعلى آله الذين لا يزالون على الحق ظاهرين ولا ينفك منهم ولي يعلن الحق وبنوره، ويزيل عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فهم للحق نجوم، وللباطل رجوم، فكم بأسنةٍ كافحوا، وأدلة نافحوا ولحقٍ رفعوا، ولباطل وضعوا فهم للعلوم أفلاك دواره، وللهداية شموس نواره، يقطعون الشبه بالحجج القاضية
والبراهين الثاقبة، ويظهرون الأدلة في [149/أ]مظاهر الأهلة، فلذلك استدارت بهم للدين رجاه، واستقامت بسعيهم القناه، وجاء الحق وزهق الباطل، وابتهج الدين بحلية عبقه العاطل شناشن أحمدية، وطرايق محمدية.
وبعد: فإنه وصل من سيدنا الفاضل العلم العامل، عين النبلاء وزين الفضلاء وجيه الدين عبد العزيز بن محمد النعمان الضمدي، أسعد الله جده، وأصعد مجده، كتاب كريم ومثال فخيم شمل الشعر المطرب والسجع المعجب، والحكم النافعة، والكلم الجامعة، أورد فيه عافاه الله وأتحفه بشريف السلام أسئلة وردت من بعض الناس، وشبهاً من شر الوسواس الخناس قد أجاب عنها بأحسن جواب، وأبان فيها من الحكمة وفصل الخطاب، ووجه ذلك السؤال إليَّ على أنني الحقير، ومن لا أحسب في غير العلوم ولا النقير، لكنه استثمن ذا الورم، ونفخ في غير الصرم، حداه إلى ذلك ظنه الجميل ولأنه وجد أمثاله من العلماء سلكوا ذلك السبيل، وفي ذلك المعاونة المدعو إليها، والمحرض في كتاب الله العزيز عليها، ووافق وصول كتابه الكريم، وصول أسئلة من بعض الناس قد زخرفها وبهرجها لإرادة الإلباس، فأجاب مولانا أمير المؤمنين، وبرهان الله المبين المتوكل على الله رب العالمين، أيده الله، لتأييد الدين بما تقع العلة، ونفع الغلة، وصير تلك الشبهة الرفيعة كأنها سراب نقيعة، واحتج بالآيات القطعية والآثار النبوية وكلام العلماء الرسخ، وأطواد الشرع الشمخ، وعرضت رسالتكم الكريمة عليه، ومكثت ليالي بين يديه، فوافقت عنده من الصواب مجزاً، وألفاها وقد غزت أحسن مغزى، وأمر بنقلها أهل المخابر، وأن يخلدوها في بطون الدفاتر،
وقضى نظري بعد ذلك أن أوجه إلى سيدنا في ذلك مقالاً كالمفاكهة لعلي أحظى للأفاضل بالمشابه:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
على أن هذه المقامات غنية بالحجج القطعية عن تكلم مثلي لكنه جذبني إلى ذلك قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وما حكاه الإمام المطهر بن محمد بن سليمان عن بعض العلماء في تفسير {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أنها نزلت في مثل هذا وكذلك[149/ب] فسرها القاضي عبد الله بن زيد في المحجة البيضاء ولعل السائل الذي أورد السؤال إلى سيدنا عافاه الله وحفظه يفتقر إلى الإطالة، وكثرة تكرار الدلالة فإن من الناس من استحكمت شبهته استحكاماً، وألجمت عقله من النفوذ إلجاماً، فلا تحل إلا بجهد جهيد، وتعب شديد، وإذا كانت الشبهة تحل، وركابها عن القلوب ترحل، توجه على العلماء أن يمدوا إليها الأعناق وعلى ذي الشبهة أرعى سمعه، وأن يطرد عن قلبه وهوى طبعه، وتتيسر الخوض معه طوراً على طريق التجميل، وحيناً على نهج التفصيل، فأما السبيل الإجمالي فيقال له ماذا الذي تغير من السيرة، حتى تغيرت منك السريرة، فإن أظهر والعياذ بالله أموراً ليس للاجتهاد فيها مسرح، فلا جرم إن ذلك أي مقدح، ولكن ذلك والحمد لله لم يبق من إمام فيما يعلم، ولا جعل منقماً على إمام فيما ينقم، فإن عنصر هذا المذهب المنتقى، محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) المصطفى، ثم خليفته المرتضى فهما معيار هذا المذهب، ومثبتا هذا الطراز المذهب، ووقع من الكل انتهاج منهاجهم، وسلوك إدراجهم، فهم في التوحيد
والعدل من نور واحد يقتبسون، ومن محل واحد يقتنصون، وإن أظهر ما تختلف فيه الأنظار، وتحرك فيه ثواقب النظار، وهم فيه كما قال المنصور بالله عليه السلام كالأخذ من معدن النظار، منهم الحايز للكثير ومنهم المحتري باليسير، على حسب حاجته وما تقتضيه حال عصابته فهذا اعتراض غافل وقلب غير عاقل، فإن العلماء بأجمعهم يوجبون على الإمام اجتهاده في النوازل ولذلك اشترطوا أن لا يكون إمعة، وأن يكون العلم والرأي معه، وإن أنفق عند السائل ما يجهل لديه حقيقته، ويخفى عليه طريقته، فليقل لنفسه ليس هذا يغشك فادرجي، فإن لهذا القوس بارياً، ولهذا القدح وارياً، فإذا أحكم الإمام في تلك القضية برأيه المحكم، وجمع شعتها برأيه وأبرم. قال سمعاً وطاعةً لما يأمر به الإمام ويحكم وجهلاً بقول الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} فإن أصاب فأجران يعطى وأجر واحد إن أخطأ.
وقد كان النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) يقول: ((إنما أنا بشر مثلكم وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بما أسمع ، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا تأخذونه، وإنما أقطع له قطعة من نار)) وقد رجع عن أشياء بناها على الاجتهاد[150/أ] فليس المخالفة للرأي عيباً عند أولى الانتقاد، فقد كان أقطع الدهناء ثم رجع، وكان أنجل الأبيض بن جمال ثم منع، وكان قد صالح عيينة بثلث ثمار المدينة وغير ذلك مما يطول ذكره ويشق حصره، فالمعترض على الأئمة كالشقي ذي الخويصرة حين قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله وكمن اتهمه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) في قصة الزبير لما بغى على رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) عدواناً وظلماً.
وأما الجواب التفصيلي على هذا السؤال فسيأتيك مفرقاً في آياته على مقتضى الحال وأما إذا كان غير هذا من الذين عناهم السيد العلامة الهادي بن الوزير فهو ممن لا يعبأ به إن شاء الله ولا ينبغي أن يجاوب، ولا يستحق أن يخاطب، فإن حبه لهواه أصم قلبه وأعماه.
لقد أسمعت لو ناديت حياً .... ولكن لا حياة لمن تنادي
ونار لو نفخت بها أضاءت .... ولكن ضاع نفخك في رماد
وعلى أنه لو أنصف ذو الحجا، واتخذ طريق الصدق منهجاً، لقرت عينه، وقر له دينه، فإنا نحمد الله في نعمة رافعة، ومنة من الله سايغة، بعد أن كنا سرجاً للقوم الظالمين، ونصباً لسهام أعداء الدين، يسوموننا سوء العذاب ويبتغون كبارنا وصغارنا بالسباب، لا يظهر شعارنا في الجوامع، ولا يعلن بآذاننا في الصوامع، ولا نأمن في البيت الذي من دخله كان آمناً، وتنكر معارفنا من الخوف بعرفات ومنى، ثم صرنا بحمد الله نحج أ فواجاً، ونطوف أفراداً وأزواجاً، وعلومنا جابت المغرب والمشرق، وضربت الأعداء في الهامات والمفرق بسعاية مجدد الأئمة، ومحبى عظام الدين بعد أن كادت تكون رمه، إمام بشر به من قبله، وأظهر لأهل عصره فضله ونبله سيف، الله القاطف على أعدائه، وظله الوارف على أوليائه، الإمام القاسم بن محمد خصه الله بأحسن جزاية، ومنحه الثواب أوفر جزاية، وأولاده الذين دمغوا نواتج الظلمة وأناروا من الشرع الشريف بهمه، ورابطة مجدهم وواسطة عقدهم، سهم الله السدد، وخليفته المؤيد، ثم تلاه هذا الإمام الذي شمخت به الإمامة، وزمجت به أنف الزعامة نطاسي العلم الرباني ونور هذا العالم الإنساني ذو العلم الذي علت معاريجه، ودنت ولله الحمد عساليجه، أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين المتوكل على الله إسماعيل بن أمير المؤمنين المنصور بالله بن رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم):
إمامنا خير بني حيدر ... وخضرم الحكمة والبذل
[150/ب]من نفسه درة إكليلنا ... وشخصه عالمنا الكل
لا زال في أعدائه فاعلاً ... فعل حروف الجزم بالفعل
فلقد فسح لنعمة الله في هذا العالم النطاق ونشر على جميع البسيطة أصفى رواق:
أقامت في الرقاب له أياد ... هي الأطواق والناس الحمام
وما أحراه بقول العلامة الجزري :
مليك على الدنيا فطلعة وجهه .... جلال وإجلال وعز مؤيد
فتى ما سمعنا مثله كان قلبه .... ولا بعده والله يبقه يوحد
لا برح لنا أمنا من النوايب، وموئلاً في جميع الحوارب، وطريقاً إلى الجنة، وسبيلاً إلينا لكل منة، ويا لله العجب من هذا المعترض الذي جعل الثلب أو حسب ما افترض، كيف جعل دينه ثلب الأئمة، وحرص على أن لا يبقى إمام في جميع الأزمنة، لجميع الأمة، فإنه ما أبدى اعتراضاً مزخرفاً، ولا أبدي كلماً محرفاً، إلا وقد كان سلف له في ذلك المقال وإمامه.
لمه من الجهال قد تطلبوا الغواية .... ولحقوا الأفراح لحوق بن داية
سر الورى بمساوء الناس مشتغل .... مثل الذباب يراعي موضع العلل
لو كنت كالقدح في التعديل مستوياً .... لقالت الناس لم تخلوا من الميل
فمع سمعه لكل عامل في إمام زمانه، فليسمع ما قيل في كل إمام مضى، وليلق الله وليس له إمام يرتضى وإلا فليفرغ سمعه لما قالته الأئمة لدفع الثالب ويجعل سؤاله كسؤال السايلين، وجواب الإمام كجواب الأئمة كما هو الواجب فما أشبه الليلة بالبارحة، وأحكى الخاتمة للفاتحة، والله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} .
ونسأل الله أن يجعل هذا الجواب، زاملاً في مطارف الصواب، خالصاً لوجهه الكريم، مقرباً إلى جنات النعيم، فإني قصدت به ما علمه الله من إزاحة وسواس إبليس، وترويح شبه أهل التلبيس، فإن الإمامة تجب حفظ القلوب فيها كما تجب حفظها في مسايل التوحيد، ولأنه قد قال الإمام المنصور بالله ما معناه: ليس للإمام في عرضه شيء وإنما عرضه عرض الشريعة، والله حسبنا وكفى. وجعلت الجواب موجهاً إلى سيدنا إذ كان سبب الإثارة، وإلا فالقصد كل سايل (فإياك أعني فاسمعي يا جارة) وقد عقدت ما أمكن من النظم وعلقت هذه التعليقة من كلام سادتي العلماء نفعني الله بهم، وأصلح لي حالي بحالهم، بحق محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فأقول:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين [وسلم] [151/أ]
ألذ وأشهى من زلال الشارب ... ومن رشفات من رصاب الزبارب
كتاب أتانا بالعبير مصمخ .... فعطراً قصى شرقنا والمغارب
عليه جمال من أنامل منشيء .... له رتبة تربى على كل كاتب
فقال رعاه الله في طي شعره .... سؤالاً إلى ذي درية بالمذاهب
له في علوم الآل سهم موفر .... فمن أجل هذه غد عين الأطايب
ومن خاض في بحر الأصولين وارتوى .... بعذب من التفسير صافي المشارب
وحقق أحوال النبي وصحبه .... وأبناء طه نورنا في الغياهب
إذا لم نجد من قام لله ناصراً .... ينفذ حكم الشرع في كل طالب
وأعياه أن يمضي على السيرة التي .... عليها مضى الأخيار كل المذاهب
وليس ببيت المال شيء بعده .... لدفع مهم عارض أو نوايب
فأصبح ركن الدين والشرع واهباً .... لذلك والأحكام في رأي صايب
فهل يشتري الأحرار يا علمائنا .... بمال لنصر الحق من غير شايب
ونفرقه حلا على كل موسر .... لحفظ أساس الدين من كل غالب
إلى آخر الشعر الذي قد نظمته .... وأودعت فيه من غريب العجايب
أقول جزى الله سيدنا خيراً بسؤاله وبجوابه الذي قطع من الشك عرى حباله فلقد أبدع في ما أودعه، ونصح لمن أرعاه مسمعه، وحاصل ما اشتمل عليه أن أئمة الآل نضر الله وجوههم اختلفت سيرهم الميمونة، فمنهم من عول على باب المصالح وولع بباغمها والصادح، وليس ما سلكه للشرع بمغاير بل للمسألة أشباه ونظاير كقتل الترس إذا خيف الاحتياج وكحرق الخضر للسفينة ليغبها بعد الصلاح فسلامة الكل على سلامة البعض راجحة، والدلالة على ذلك من العقول واضحة، ومنهم من قال أخذ تصميم الشرع وتحصنه، ومن أحسن من الله حكماً في مسنونه وفرضه فأي الأمرين أولى، وأي القدحين أعلى، على أن الكل على صراط مستقيم، وعلى هدى من الله قويم، فهذا السؤال قد يورده بعض الأفاضل، والجواب عليه أوضح من البدر الكامل، وسبب الغفلة من الفضلاء عن تفضل الله عليهم بالأيمة كفوهم المؤن، والأئمة لما ولوا هذا الفرض وتوجه عليهم صيانة أهل الأرض كشفوا عن هذا اللثام، ووضعوه بعد تقريره على طرف التمام، على أن كثيراً من جهابذة الأخيار، وأجلة الأخبار، قد وضع فيه موضوعات كما سنبين ذلك إن شاء الله [151/ب] تعالى وسيدنا أبقاه الله قد أجاب كما أشرنا إليه بقولنا:
وأبديت فيه للسؤال إجابة .... ببرهانها المزري بضوء الكواكب
فحالك في هذا السؤال كمن مضى .... بنجد وقدماً قد مضى لاحب
فأخفي سؤالاً هل طويل طريقه .... لمنتهجيه أم قصير لطالب؟
اللمح بهذين البيتين إلى قول أبي الطيب
نحن أدرى وقد[سألنا] بنجد .... أطويل طريقنا أم تطول
وكثير من السؤال اشتياق، وكثير من ردة تعليل، والمعنى في ذلك أن السائل أعلم من المسئول:
وإن الجواب الحق ما قد أبنته .... كما تقتضيه أصل كل المذاهب
وقد كان مولانا الإمام أبان في .... سؤالك قولاً وافياً بالمطالب
وجاء بآيات من الذكر قطعت .... يد الشك تقطيع الضباة القواضب
وضمن أخبار الصحيحين طيها .... وأخبار أبناء النبي الأطايب
وسنحكي بعض ما أملاه مولانا من هذه الرسالة المشار إليها نفع الله بها وبساير علومه:
وبين أشباهاً لها ونظايرا .... فكان بحمد الله إحدى الغرايب
كما دفعوا على الفساد بدونه .... كخمر أحلوه لغصة شارب
المراد بهذا السياق ذكر الأشباه والنظاير وأولها مسألة المغتص فإن العلماء أجازوا بل أوجبوا على الصحيح على من غص بلقمة أن يسيغها بجرعة خمر، ووجه ذلك إنه يتعارض مفسدتان عظيمتان في أمرين عظيمين، حفظهما من الضروريات الخمس التي روعيت في كل شرع، وقد جمعها بعضهم بقوله:
دين ونفس وعقل بعده نسب .... والمال خامسها تلك الضروريات
ففي ترك الغصة بحالها ذهاب النفس، وفي أسباغها بالخمر مفسدة ذهاب العقل، لكن حفظ النفس أعظم باتفاق، وشبه ذلك ما ذكر بعض المذاكرين في أكل القربط إذا كان الخمر يداويه فإن شرب الخمر مرة أهون من المداومة على القربط وقولنا لغصة شارب إذا كانت غصة الشرب مساغ بمثل ذلك فواضح، وإلا فتكون المعنى كخمر حلواً شربه لغصة شاربه بلقمة، وهو واضح أيضاً:
ومسألة الأتراس فيها دلالة .... بوجه جلي قاطع للمطالب
مسألة الأتراس ثابتة باتفاق علمائنا، وقال الريمي: هو مما أجمع عليه الفقهاء الأربعة ووجه قتل الترس فعل النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) في أهل الطايف مع استمالهم على الصبي والمرأة ومن لا يحل قتله، ولأن أهل الحق مجمعون على دفع أعلى[152/أ] المفسدتين بأدناهما وإن لم يصح النقل عن كل واحد، فهذا من الصنف الذي قال الإمام عز الدين بن الحسن عليه السلام أنه يصح دعوى الإجماع فيه، إذ القول بخلافه مكابرة للعقول وقواعد الشرع أيضاً.
قال ابن القيم : بنا الشرع على دفع أعلى المفسدتين بأدناهما، وكذا قال السبكي وقد نبه الله على ذلك في قصة الخضر كما حكاه سيدنا رعاه الله، وأورد سيدنا العلامة بهجة الزمن شمس الدين أحمد بن سعد الدين المسوري أسعده الله، أخذ هذا الاعتبار، من آية الخمر، فقال ما لفظه: ومن أدلة وجوب رعاية المصالح والمفاسد قول الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} وقوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} فلما كانت مصلحة منفعتهما من قوة البدن في الخمر والمال بأثمانها وقمار الميسر لا تقوم بمفسدة إيقاع الشيطان لعنه الله بينهم العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة حرما تحريماً مؤبداً إلا عند نحو الإكراه بقتل أو ضرب، لما كانت مفسدتها أعظم، وهذا أصل كبير والله أعلم انتهى.
ولأن مسألة الترس كقطع اليد المستأكلة، وكمسألة الفصادة والحجامة وشبيه مسألة الترس ما قاله لأصحاب كثرهم الله، ونفع بعلومهم أن للإمام أن يحرق ويغرق ويخنق أن تعذر السيف، ويقم بذلك عند الضرورة المستحق وغيره بل هذا من أصول مسألة الترس والله أعلم.
ومسألة السفر الذين ينوبهم .... مهم وفيهم دافع للنوايب
فقد قال يحي يلزم السفر فرقة .... يؤدونها دفعاً لشر الغواصب
المراد بيحي سيد الأسرة النبوية، وقمر العصابة العلوية إمام المذهب يحي بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل صلوات الله عليهم، فإنه قال ما محصله: إذا دهمت القافلة أو المحلة داهمة جاز لأحدهم أن يدفع عنهم بشيء من أموالهم، ولفظ الرواية عنه في مجموعه من جوابات الهادي عليه السلام على الحسن بن عبد الله الطبري ...إلخ. ويقرب من قوله هذا ما أفتى به مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين، حفظه الله في مسألة المضارب إذا صادره ظالم على أخذ بعض المال، وإلا أخذ الكل، فسلم البعض للدفع على الكل، فإنه لا ضمان عليه، إذ هو مأذون من قبل الشرع، ويدعو من جهته، وبهذه الفتوى أفتى[152/ب] مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله محمد بن القاسم رضوان الله عليهما وأفتى بها القاضي شمس الدين أحمد بن يحيى بن حابس عادت بركاته، وضمنها كتابه الذي سماه (المسلك الحسن الواضح السنن).
كذاك ولي الطفل يفعل ما به .... صلاح يحتم واجب أي واجب
فيدفع عنه الضر حيناً وتارة .... يحصل نفعاً من وجوه المكاسب
ويحفر أباراً ينقد صغيره .... وحيناً يداويه لدفع المعاطب
وبيتان ما بين الوليين ريبة .... كترب حضيض والنجوم الثواقب
ولاية هذا في صغير لقربه .... ولولاهما أضحى كمثل الأجانب
وأما إمام العصر فهو خليفة .... لأحمد خير المرسلين الأناجب
ولايته في كل دانٍ وشاسعٍ .... على أبعديهم نسبة والأقارب
وينظر في كل المهمات للورى .... وأحكامه فيهم أمس اللوازب
لا خلاف إن لولي الطفل أن ينفق من ماله في جلب مصالحه ودفع مفاسده بواسطة هذه الولاية الحقيرة والإمام كما قال القاضي فخر الدين عبد الله بن الحسن الداوري رحمه الله أبو المؤمنين، ويشهد لكلامه رضي الله عنه ما ورد في قراءة ابن مسعود: ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم )) رواه الزمخشري والشيخ عبد القاهر الجرجاني وإذا كان النبي كذلك فالإمام خليفته، ثم له الولاية التي هو بها أولى بنا من أنفسنا لأنه خليفة من قال الله فيه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ومعنى الأولوية الأحقية بالتصرف في الأرواح والأموال بحسب ما يراه صواباً، ذكره الإمام المطهر بن محمد بن سليمان عليهم السلام في كتاب(محجة الأمان) قال الإمام المطهر: وليس المقصود من أولويته في أرواحهم تربيتهم وتغذيتهم، ولا في أموالهم الإتجار فيها بإجماع الأئمة مع كمال عقولهم، وإنما المراد إذا قضى في أرواحهم وأموالهم بقضية من أخذٍ أو تركٍ أو جهاد لم يكن لهم المخالفة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وأخذ هذه الولاية العظمى من ولاية الأب على طفله صريحة جلية، وأصرح منها الولاية على اليتيم، وتوصية الله المسلمين به في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } الاية.. وتصويته سبحانه بذلك لجميع المسلمين.
وطه قضى في خندق بمعونة .... كما قد حكى البلخي أجرالمضارب
هذا أول الاستدلال في المسألة فإنها كما قدمناه ثابتة بأدلة من القرآن وقول النبي[153/أ] وفعله والقياس الذي مر وغيره، وحاصل هذا أن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) يوم حفر الخندق أمر جماعة بالحفر، ووضع أجرتهم على القاعدين، رواه أبو جعفر البلخي الخفي صاحب الطبقات وروى عن صاحب الفتنة من علمائهم أنه قال: وآل مشايخنا وكل ما يضربه الإمام عليهم لمصلحة لهم فالجواب هكذا حتى أجرة الحراسين لحفظ الطريق ونصب الدروب وأبواب السلك:
وقد هم بالإصلاح عن أهل يثرب .... يشطر ولم ينظر حضورا لغايب
وفي يثرب قوم حماة عطارف .... مناقبهم معروفة في المقانب
وقلب رسول الله أشجع مضغة .... فما ذل لكن رشده غير عازب
المعنى في هذا أنه لم يصلح لخوف منهم، ولا جبن فيه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) والله يصونه لكن لرجاح وعلم:
رأى إن هذا الصلح بالمال دافع .... لأعظم منه من سيوف قواضب
فألزمهم مالا يؤدون خرجه .... كتسليم أهل الخرج مال الضرايب
فقال له السعدان إن نفوسنا .... تجب دفاعاً بالقنا والشوارب
فإن كان هذا الصلح وحياً فإننا .... مطيعون ما منا له من مجانب
وإن كان رأياً فالسيوف صلاحها .... أتم عرفناها بطول التجارب
فلما رأى ميل النفوس إلى اللقاء .... رأى صلحهم عن أرضهم بالكتايب
فلولا جواز الفعل ما هم أحمد .... وكان كظلام عنيد وغاضب
هذا الذي ذكرناه من مصالحة الأحزاب رواه أئمتنا عليهم السلام ورواه ابن إسحاق وغيره واستدل به على هذه الصفة والترتيب مولانا الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة في غير موضع، والإمام المطهر بن محمد بن سليمان، والسيد العلامة الهادي بن إبراهيم، والأمير الحسن (عليه السلام)، والقاضي عبد الله بن الحسن الدواري، وأبو جعفر البلخي من الحنفيين وغيرهم، وذلك واضح:
وقد قال في زاد المعاد بأنها .... لأحمد هدي في دفاع النوايب
المراد بكتاب زاد المعاد هو الكتاب الذي صنفه الفاضل ابن قيم الجوزية الحنبلي في الهدي المصطفوي، وتصدر المقالة فيه بقوله: وكان من هديه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) كذا، وهو كتاب غريب الأسلوب جيد ينقل عنه الأفاضل، وأملئ لنا مولانا أمير المؤمنين عنه في هذا المقام ما يشفي الأوام، وذلك من سياق غزوة تبوك ما لفظه: ثم أن رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) جد في سفره وأمر الناس بالجهاد وحض أهل[153/ب] الغِنا على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنا وأحسنوا وأنفق عثمان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، قلت كانت ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وعدتها وألف دينار عيناً، انتهى كلام الهدى.
وفي جامع الأصول عن عبد الرحمن بن حبان قال: شهدت رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وهو يحث على تجهيز جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال يا رسول الله عليّ ثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فإنا رأيت رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ينزل عن المنبر، وهو يقول: ((ما على عثمان ما فعل بعد هذه ، ما على عثمان ما فعل بعد هذه)) أخرجه الترمذي، والمراد بما نقلناه عن زاد المعاد إن طلب النفقة هدي له (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) في دفاع النوايب كما ترى. وقد قال فيه أيضاً وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس لا ريب فيه فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفي في القرآن، وقرينه بل جاء مقدماً على الجهاد بالنفس في كل موضع إلا موضعاً هو قوله تعالى: {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ }
قال ابن القيم في: (الفوايد النكتية) في تخصيص بالتقديم هنا: إن في الآية ذكر الشراء للنفس وإذا اشترى النفس دخل المال منها وهذا يدل على أن الجهاد به أكبر من النفس، ولا ريب أنه أحد الجهادين كما قال النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ((من جهز غازياً فقد غزا )) فيجب على القادر عليه كما يجب على القادر بالبدن، ولا يتم الجهاد بالبدن إلا ببذله ولا ينتصر إلا بالعَدد والعُدد، فإن لم يقدر أن يكثر العدد وجب عليه أن يمد بالمال والعدة وإذا وجب الحج بالمال على العاجز بالبدن فوجوب الجهاد بالمال أولى وأحرى.
وقال أيضاً: إن العاجز بماله لا يعذر حتى يبذل جهده ويتحقق عجزه، وقال في موضع آخر بعد أن ذكر ما أعطاه النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لقريش وللمؤلفة قلوبهم، وأن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لم يستأذن الغانمين في تلك العطية، لأنهم ملكوها بجوزها والاستيلاء عليها، قال فلو وضع الغنايم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل.
ولما عميت أبصار ذوي الحكمة، قال له قايلهم: اعدل فإنك لم تعدل، وقال شبهه إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، حتى قال: فإن قيل لو دعت حاجة الإمام في وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدوه هل يسوغ له ذلك، قيل الإمام نايب عن المسلمين يتصرف لصالحهم، وقيام الدين فإن تعين ذلك للدفع عن الإسلام، والذب عن جوزته واستجلاب رؤوس أعدائه إليه[154/أ] لأمن المسلمون شرهم ساع له ذلك بل تعين عليه، وهل تجوز الشريعة غير هذا؟ فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف العدو أعظم ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما بل بنى مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين، وبالله التوفيق.
ويحيى إمام الآل أورع من مشى .... وأكرمهم في شمة وضرايب
أزال ابن فضل عن أزال وقد عصى .... معاص منها شيب كل الذوايب
ولم يتيسر ذاك إلا بربع ما .... حووه فألفوه حميد العواقب
اعلم أن المقصد بهذا أن النفقة قد أخذها من هو قدوة في الصلاح كما قال السيد الهادي بن إبراهيم رحمه الله: اعلم أن الغرض بهذا الكلام في هذا النمط إنما هو مجرد الاستئناس بفعل الأئمة الهادين، والتقوى بإيراد كلامهم، وإن كان الدليل قد حصل وليس من شرط، هذا القانون في الجواز أن يفعله كل إمام لأنه كما تقدم إنما ألجأت إليه الضرورة ودعت إليه الحاجة، وحالات الأئمة الأطهار في هذا مختلفة جداً. فالصحابة فغرت عليهم الدنيا، وانفتحت لهم الأمصار، وألقت إليهم أفلاذ كبدها، وكان الذهب والفضة في أيامهم تملئ به المخازين وتضعف عن اقلاله الموازين، وقد كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وهو دون من يقدمه فتوحاً في الدنيا وانفتاحاً من أموالها يدخل بيت مال المسلمين، فيرى فيه ضحكات القلوب من البيضاء والحمراء، فيقول: كالمناجي ما يراه من ذلك يا حمراء، ويا بيضاء غري غيري، في كلام طويل، وربما فرّق ما يراه ويجده في بيت المال من ساعته وفوره وكان يقول:
هذا جناي وخياره فيه .... إذا كان يده إلىَّ فيه
وإذا نسيت أن تنظر إلى السعة التي كانوا عليها فانظر إلى كلام أصحابنا في فدك، وكمية خراجها، قال أصحابنا كان خراج فدك ثلاثمائة ألف مثقال ذهباً، وهي سبع قريات متصلات، وكان خراج يهود الرستقاقات من أعمال الكوفة ثمانية عشر ألف ألف مثقال إلى علي (عليه السلام)، وإلى هذه البلد ينسب الفقهاء الرساتقة، انتهى كلامه الذي أحببت نقله فعلمت أن ترك بعض الأئمة للأخذ لا ظاهر له، ولا دلالة فيه على المنع إذا لم تقل من شرط الإمام أن يأخذ حتى يرد هذا، وإنما هذا منوط بالحاجات، فعلي (عليه السلام) به وبالمسلمين غنية عن الأخذ، على أنه (عليه السلام) لم يترك الاستعانة بالمسلمين فإن كل جهاد يستعان فيه بالأنفس مشتمل على الجهاد بالمال، لأنه من البعيد[154/ب] أن يحصل الإمام ما يحتاجون من الأسلحة والمواشي، وإنما كان يهيب بهم فيحضرون بالعظيم، وهو النفس ومعها مالا بد منه من السلاح، وكل مجاهد مأمور بالأعداد بقوله عزوجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ } الآية حتى استثنى للفقير عدة الحرب، وإن بلغت قيمتها نصاباً، وقد قرر (عليه السلام) الأشتر رحمه الله على وعيده لأهل الرقة، وذلك أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما خرج إلى صفين، قال لأهل الرقة اجسروا لي جسراً أعبر عليه من هذا المكان إلى الشام، فأبوا وكانوا قد ضموا السفن إليهم فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج، وخلف عليهم الأشتر، فناداهم وقال: يا أهل هذا الحصن إني أقسم بالله إن مضى أمير المؤمنين ولم تجسروا له عند مدينتكم حتى يعبر منها لأجردن فيكم السيف، فلأقتلن مقاتليكم، ولأخربن أرضكم ولأخذن
أموالكم، فلقى بعضهم بعضاً وقالوا إن الأشتر يفي بما حلف عليه، وإنما خلفه علي عندنا ليأتينا بشر، فبعثوا إليه إنا ناصبون لكم جسراً، وأمر الأشتر فوقف في ثلاثة ألف فارس، حتى لم يبق من الناس أحد إلا عبر، ثم عبر رحمه الله آخر الناس راجلاً وأما من بين علي والهادي رضوان الله عليهم فالأمر فيهم ظاهر، كما أجاب به السيد الهادي بن إبراهيم في مسألة الحجاب، إن الحسنين لم تطل أيامهمها، وكذلك زيد بن علي، ومن حذى حذوه، على أن محمد بن عبد الله (عليه السلام) قد أخذ المعونة كما سيأتي نقله قريباً إن شاء الله تعالى.
وأما الهادي رضوان الله عليه وإلى ما فعله يساق الحديث لأنه القدوة والأسوة، كما قال المنصور بالله (عليه السلام) فإنه أخذ المعونة من أهل صنعاء، قال السيد الهادي بن إبراهيم وذلك معروف سيرته وقد كان عليه السلام في دخوله صنعاء المرة الأولى ترك أخذ المعونة فأدى ذلك إلى خروجه من صنعاء (عليه السلام) لركة حاله (عليه السلام) فلما خرج عن صنعاء، وبلغه ما هم عليه من المنكرات ندم على تركه لأخذ المعونة منهم، وحين أظفره الله بهم في دخوله المرة الثانية لصنعاء أخذ المعونة عليه السلام وفرقها على أهل صنعاء تقوية لجنوده وعساكره، قال السيد العلامة الهادي بن إبراهيم رضوان الله عليه بعد هذا أفلا يكون الهادي قدوة لمن تأخر بعده في أخذ مثل ما أخذ (عليه السلام) ولا أقوى من ذلك إلأخذ به والاقتداء بآثاره والإهتداء بأنواره، وكيف وفضل الهادي (عليه السلام) (أجلى من ابن جلي) فمن أخذ بمثل ما أخذه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله[155/أ] سميع عليم، انتهى كلام السيد رضوان الله عليه في كريمة العناصر.
وقال في كاشفة الغمة (والمعلوم من سيرة الهادي (عليه السلام) أنه أخذ المعونة من أهل صنعاء، وهو (عليه السلام) ممن لا يخفى علمه وفضله وورعه واجتهاده في إصلاح الأمة، ورعاية حقوقهم، واعتبار ما يجوز ومالا يجوز، ففعله (عليه السلام) كاف أيضاً في الحجة على طلب المعونة، وجواز أخذها، ولهذا سارع الإمامان المنصور والمهدي ومن تأخر من أئمتنا إلى إيراد الحجة بفعل الهادي والاقتداء بسيرته والاهتداء بنور طريقته، انتهى الكلام المقصود هنا).
وقال السيد رحمه الله: قال في سيرة الهادي (عليه السلام) أن يحيى بن الحسين طلب المعونة من رجل في وقته يسمى الدعام بن إبراهيم، وكان من أهل اليسار انتهى، وسيأتي عن الهادي (عليه السلام) حكايات في ذلك في أشياء ما يرقم عن الأئمة (عليهم السلام) :
كذلكم المنصور شاطر معشراً .... رمت دينهم لولاه أبدى الشوايب
والمنصور بالله هو بحر العلم الأطم، وطوده الأشم، وبدر الهداية الأتم، أشهر في كل فضيلة من نار على علم، وهو عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن علي بن حمزة رضوان الله عليهم، وهو في العلم الفارس الذي لا يسبق والسابق الذي لا يلحق، اعترف له المخالف والموالف، بأنه بدر هالة العلوم والمعارف، وقال العلماء فيه هو خاتمة أهل النصوص، وقالوا فقهه طري كفقه الصحابة رضي الله عنهم، ولا جرم أنه كذلك، فإنه لم يتكلم في مسألة إلا وأبرز مأخذها من أقوال رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وأحواله كأنه معاين كالصحابة وهو من الورع بالمحل الذي لا ينكر، وقد جعله المتأخرون من العلماء حجة، قال السيد العلامة خير العترة ورباني هذه الأسرة الهادي بن إبراهيم رضوان الله عليه: لنا أيضاً ما فعله المنصور بالله (عليه السلام) فإنه بالغ في أخذ المعاون وغيرها من أهل زمانه، وله في هذا الكلام الواسع المنتشر، ولا يحصى ما ذكره في جواز أخذ المعونة وما شاكلها من القبالات، وقد أفرد العلماء لكلام المنصور بالله (عليه السلام) كتباً منفردة.
وأخبرني الثقة أنه وقف على مجلد كامل من تصنيف المنصور بالله يذكر فيه جواز وضع القبالات التي قدمنا الكلام عليها، وأظن الراوي ذكر أيضاً في هذا الكتاب كتاب المنصور بالله كلاماً في جواز أخذ المعونة قال السيد رضوان الله عليه[155/ب] والكلام في المعونة هو الكلام في القبالات والعكس، إذ كان الكل إعانة على سداد فاقات الجنود والحصون، وما يؤول أمره إلى عز الإسلام وتعزيز قواعده، وإشادة معاليه، وحماية أهله، فالكلام في ذلك متقارب، وإن اختلف في بعض الصور، ومن كلام المنصور بالله (عليه السلام) في هذا المعنى في سياق كلام طويل، وكذلك أمر بأن يؤخذ من البلاد التي قد صح عندنا إنه لولا دفاعنا عنها بدفاع الله سبحانه لاجتاحها الظالمون، وإن جهل ذلك من جهله، فلا يؤثر جهله بوجوب ذلك وحسنه، لأن القبح إنما يقبح لوقوعه على وجه لا بالعلم به، ولا بالجهل به، كذلك ما فرقنا على العشر من الشاة ديناراً بعد زكوتها، ومن الماية شاة، جعلنا ذلك معونة برأي كبار البلاد، وصلاحهم وشاورنا أهل العلم، واستقرينا الأثر النبوي، فساغ ذلك بكل وجه وقد فعل الهادي (عليه السلام) مثل ذلك في صنعاء، ونقد عليه في ذلك. وأجاب عنه بكتابه المعروف المشهور في مسائل الطبري، وجعلنا على الظاهر وبلاد بكيل وبني معمر قدر خمسة آلاف دينار، في كل سنة ما دامت للغز شوكة في صنعاء، فإذا أخمد الله نارهم ترك ذلك عنهم إن شاء الله تعالى، وقسط بينهم على قدر سعتهم وضيقهم وأكثرهم جعل ذلك بغير محضر منا، وجعلها على وجوه تراضوا بها، ومنهم من جعل ذلك على الرؤوس ومنهم على الأموال والسبب في تقرير
هذا المال إنا أمرنا إليهم وسألناهم معونة فاشتور كبارهم وجاءونا وقد قدروا هذا القدر، وهذا كان بثافت وحضره جيل من الناس، وليس عليهم بعد ذلك إلا الواجب أو ضيفه لعسكر وارد.
وأما الخمس فجعلناه في البلاد التي يطأها الظالمون، ولولا عملنا ذلك لأخذ الكل فيما جرت به العادة والحمد لله الذي جعل بلدنا مَفْزَعاً للضعفاء فقد غمرت، وكثر خيراتنا على جهد الزمان وتقطع الأمطار، ولنا في وقت الجهاد ومدافعة الظالمين أن تلزم إنفاق الأموال في سبيل الله والنفس معاً لقول الله تعالى: {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} والمبيع لا يستحق إلا بتوفير الثمن إذا شرط توفيره، وقوله تعالى: [156/أ]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وما كان في مقابلة تركه العذاب الأليم، فهو واجب، ولنا أن نكره الناس على فعل الواجب، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) هذا في ما رويناه عنه: ((اجعل مالك دون دمك فإن تجاوز بك البلاء فاجعل
مالك ودمك دون دينك)). وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب ذكر هذا في كتابه الهداية التي تولى جمعها العلامة عمدة الموحدين، محمد بن الوليد العبثي رضوان الله عليه وقال (عليه السلام) في موضع آخر منها ما معناه: إنا قد وضعنا هذه المعونة وإن كرهها بعض الناس فسرناه عليها لما اشتملت عليه من المصلحة، وقال (عليه السلام) وما يأخذ من الآيتان التي لم تبلغ قيمتها مأتي قفلة يؤخذ على وجه المعونة لخيل الجهاد وقال في موضع من الهداية : إذا لم يتمكن من استئصال المفسدين إلا بهلاك مال اليتيم جاز ولم يلزم ضمان لأنه ليس بأعظم حرمة من النفس عند الترس بالأطفال، فإنه جايز قتلهم لتضعيف حال العصاة انتهى.
ونصوصه في هذا كثيرة، وقوله (عليه السلام) إن ذلك بمشورة العقلاء يظاهرون أقوالهم على أن الحاجة داعية، ولهذا قال في الموضع الذي حكيناه عنه آنفاً أن بعض الناس كره ذلك، ولم يراع الإمام (عليه السلام) رضاه بل أقسره ويقال أن الغز لما غزت في مخاليف الظاهر، وخرجوا عليهم مراراً كثيرة فيما يوصف أنهم خرجوا ليلة عيد الفطر احتاجوا من الناس كثيراً فقال عقلاء همدان لا يحفظنا إلا ذو منعة، مثل الإمام، ونبذل له من المال كذا ويكون منا في بابه كذا وكذا من الرجال لرسم الخدمة فقرر هذا العدد الذي ذكره الإمام (عليه السلام) وهو ستة آلاف دينار، على حاشد وبكيل، قال (عليه السلام) لعله تنجز منها أربعة آلاف لأن منها مقومات، ولولم يثبت أن الغز كانوا يغزون ويقتلون ويأسرون ويسلبون، لكانت الآراء قاضية بأخذ هذا، وقواعد الشرع الجميلة لأن المنصور بالله (عليه السلام) قال شهد لي بعض من حضر هذا الجواب أن خراج الظاهر، كان وقت الظلمة خمسين ألفاً فهل يتردد أحد من العقلاء في ترجيح سلامة أربعة وأربعين ألفاً بستة آلاف كانت مسلمة لا محالة، فإن الستة كما علمت كانت مسلمة للظلمة مع الأربعة والأربعين[156/ب] مع ما في هذه الستة من سلامة الدين والأنفس أيضاً والأموال فإن كيدهم كان لا يؤمن على نفس ولا مال.
وأما الدين فمفسدتهم فيه أجلى من ابن جلي وهؤلاء العقلاء الذين أشاروا على الناس بتسليم ما ذكر الإمام المنصور بالله (عليه السلام) هم كما قال إمامنا المتوكل على الله مد الله مدته، وحرس مهجته من الذين قالوا فيهم: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ الله وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال أدام الله ظله: وقد أدركنا من أهل زمننا من هذه الصفة صفته، ورأينا من صفته صفة الذين أخبر الله عنهم بقوله: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وأغلب الفريق الأول أنهم الذين حنكتهم التجارب، وخبروا ما مضى من الزمان وعرفوا المصالح والمفاسد وعقلوا من أمر الجهاد، وصفته أنه هو ما عليه الإمام ومن معه من جنده وطايفته، لا يبخلون عنه في وقت، ولا يغفلون عنه في لمحة طرف لما دفع الله بهم من المكروهات ولما أقام بهم من الواجبات وكف بوجودهم من الفساد وقمع بهيبتهم من أرباب الظلم والعناد، والمشاطرة المذكورة في البيت يحتمل أنها ما ذكرناه عن المنصور بالله، فإنها اشتملت على شطر من المال واسع وذكر مولانا، أيده الله أنه صرح عن المنصور بالله رضوان الله عليه بالمشاطرة بنحو الربع أو الثلث في غير هذا، ومن بعده المهدي أوجب مثل ذا، على كل طفل في الرجال وشايب، المراد به أمير المؤمنين، الشهيد
السعيد أحمد بن الحسين (عليه السلام) شبيه سمية خلقاً وخلقاً، وعدلاً في الطريقة واستقامة، فإنه أخذ المعونة وشرى براش وفرق ثمنه في ساير بلاده الإمامية، على كل بالغ مكلف خمسة دراهم وكان ذلك من أنبل مقاصده (عليه السلام).
قال السيد العلامة الهادي بن الوزير ولم يعترضه بفعله خاص ولا عام.
قلت: كنا نسمع أن بعض الأغمار اعترض، وكلام السيد رحمه الله الأثبت، فإن مصلحة ذلك لا تخفى على أحد حتى المخَّدرات في الحجال، ومع ظهور ذلك لا يقع الاعتراض، فإن سببه إما جهل المصالح أو مرض القلب ومصلحة هذا لا تجهل ومريض القلب لا يتكلم بهذا لإنه لا يجد لحديثه مسمعاً واعياً، وكان هذا الحصن في يد بعض أقارب سلطان تعز وكان كثير التخلف والاضطراب في أقواله فكان فئة للسلطان ولغيره من المتمردين، وقد شراه الإمام صلاح بن علي (عليه السلام) [157/أ] بقدر ثلاثين ألف دينار مظفرية، وقوله على كل طفل في الرجال وشائب، كنت سمعت عن بعض الشيوخ جزاهم الله خيراً، أن الإمام المهدي فرق ثمن الحصن على كل ذي مال صغير وكبير، وإن وجه الاعتراض هو هذا، لا فرق القيمة على الناس، ولكن السيد الهادي رحمه الله كما ترى، قال: على كل بالغ عاقل وقد عرفت ما سلف عن الإمام المنصور بالله، أنه إذا لم يتمكن من استئصال المفسدين إلا بهلاك مال اليتيم جاز والله أعلم.
ولما وقع الاعتراض من بعض أهل الأهوية على الإمام المهدي في المعونة أجابه بما لفظه، وصاحب هذه الرسالة إما إلا أن يكون قايلاً بإمامة المنصور بالله، أو غير قايل، فإن كان قايلاً، فنحن أخذون دون ما أخذ، ومتخذون من الولاة فوق ما اتخذ، وإن لم يكن قايلاً بها فهو (عليه السلام) لنا قدوة، ولنا به أسوة كذلك من مضى من أئمة الهدى، فإنا ما سلكنا إلا مناهجهم، ولا قفونا إلا أدراجهم، وهلم إلى إيضاح الدلالة على هذه المقالة هذا إمام الأئمة، وواسطة عقد العترة الطاهرة الهادي إلى الحق (عليه السلام) طلب من أهل صنعاء عند خروج ابن الفضل الملحد ربع أموالهم إفرازاً ومقاسمة ليدفع بها كيد عدوهم، وذكر (عليه السلام) أن الإمام يجب عليه أن يطلب المعونة من المسلمين عند خوفه على الإسلام، ومتى ترك ذلك كان مخلاً بواجب انتهى لفظ الإمام أحمد بن الحسين (عليه السلام):
وقد صرح الطوسي في بعض كتبه .... بما يشتفي من ربه كل راغب
المراد به العلامة التحرير الحجة محمد بن محمد الغزالي الطوسي فإنه تكلم بما يشفي الغليل، وهو من الورع بحيث لا يخفى، شاهد ذلك كتابه (الإحياء وبداية الهداية) وما ذكره عنه من اعتزال الناس، وترك التكلم معهم الحين من الدهر لم يقلب لسانه إلا بمناجاة ربه، وساقته لذلك الألطاف إلى حسن الخاتمة، حتى صار من أعيان هذه العصابة الزيدية شرفها الله تعالى كما في الجواب الواردة بين الجيل والديلم إلى شيخ العدل عمران بن الحسن رحمه الله تعالى، وكما ذكره السيد الهادي بن إبراهيم بن الوزير، والذي تكلم به في هذه المسألة كلام لو اكتفى به لكان به الكفاية فإن قضاياه عند الجميع مسلمة ولسنا بذكر جميع ما ذكره، فإنه أطنب غاية الإطناب، وأتى في ذلك بالعجب العجاب، قال في آخر ما قاله: وتم الكلام الشافي للعليل إن السائل إن أنكر وجه المصلحة فيما ذكرناه أيدناه[157/ب] وأريناه، وقلنا إن لم يفعل الإمام ذلك تبدد الجند وانحل النظام، وبطلت شوكة الإمام وسقطت أبهة الإسلام، وتعرض ديارنا لهجوم الكفار، واستلابهم وأخذهم النفوس والأموال، ولو ترك الأمر كذلك فلا تنقضي إلا قدر يسير وتصير أموال المسلمين طمعاً للكفار وأجسادهم درية للرماح، وهدفاً للنبال ويثور بين الخلق من التغالب والتواثب ما تضيع فيه الأموال، وتتعطل معه النفوس، وتهتك معها الحرم، ونظام كل ذلك شوكة الإمام، بعدته ومأمنه، يحذر إلمامه من الدواهي بالمسلمين، إذا انقطعت عنهم شوكة الجند مستحقر بالإضافة إليها أموالهم، فإذا أردنا بين هذا الضرر العظيم، وبين تكليف الخلق حماية أنفسهم بفضلات أموالهم، فلا
تتمارى في تعيين هذا الجانب، إذ لاشك في حماية النفوس والحرم، وأكثر الأموال بفضلات الأموال وهذا مما تعلم قطعاً من كلٍ مقصود الشارع في حماية الدين والدنيا قبل أن يلتفت إلى الشواهد المعينة من أصول الشرع، وساق كلامه حتى قال: ثم خاصة هذه المصالح القطعية إنها لا تعدم قط بشواهد من الشرع كثيرة، فأبعدها عن الشهادة ظاهراً، وهي أقربها تحقيقاً هو أن الأب في حق طفله مأمور، برعاية الأحسن، وأنه ليصرف ماله إلى وجوه من النفقات، والمؤن في العمارات، وإخراج الماء من القنوات وهو في كل ذلك ينظر له في ماله لا في حاله، فكلما يراه سبباً لزيادة ماله أو لحراسة في المال جاز له بذل المال في تحصيله، ومصلحة حيطة الإسلام، وكافة المسلمين لا تتقاصر عن مصلحة الطفل، ولا نظر الإمام الذي هو خليفة الله في أرضه بتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في طفله، وكيف تستخير منصف إنكار ذلك من الاعتراف بظهور هذه المصلحة، وإن أنكر منكر، وجه المصلحة فعلينا تصويرها والحكم بالتحريم عند انتفاء المصلحة.
وأما الشواهد الظاهرة القريبة من هذا الجنس إن الكفار لو وطؤوا أطراف دار الإسلام يجب على كافة الرعايا أن يطيروا إليهم بأجنحة الجد، فإذا دعاهم الإمام إلى ذلك، وجب عليهم الإجابة وفيه أتعاب النفوس، وإنفاق الأموال، وليس المقصود من ذلك إلا لحماية الدين ورعاية مصلحة المسلمين فهذا في هذه الصورة قطعي، وإن نزلنا في التصوير وقدرنا ما إذا لم يهجم الكفار وكنا نحذر هجومهم ونتوقع ابتغايهم واستشعر الإمام من شوكة الإسلام وهناً وضعفاً وتفرقاً، فالواجب على كافة الخلق إمدادهم[158/أ] كيف لو لم نبث جنود الإسلام في بلاد الإسلام لانبثوا في ديارنا على قرب، ولطالما قيل: (الروم إذا لم تغز غزت) ومهما سقطت شوكة الإسلام كان ذلك متوقعاً على قريب من الأيام، كيف والجهاد في كل سنة واجب على كافة الخلق، وإنما سقوطه باستغلال أقوام من المرتزقة به، فكيف يتمارى في وجوب بذل المال في مثل ذلك وإن نزلنا في التصوير وقدرنا ضرباً للتمثيل انبساط ظل الإسلام على أقاص الغرب والشرق، وأطباق الدين أطراف الأرض ذات الطول والعرض، حتى لم يبق من الكفار، نافخ نار، ولا طالب ثأر، ولا يؤمن هيجان الفتن بين المسلمين، وثوران المحن في بزغات المارقين، وهذا الداء العضال، وفيه تهلك النفوس والأموال، ولا كافي لأمثالها إلا سطوة الإمام ولا كاف عن فسادها إلا قهر الوالي المستظهر بجند الإسلام، ولو أنفق شيء من ذلك لافتقر أهل الدنيا إلى نصب حراس، ونقص أكياس على آخرهم، ولا يعنيهم ذلك، فهذه مصلحة ملازمة قطعية لا يتمارى منصف في وجوب اتباعها فإن قيل في الاستقراض عنية عن المصادرة
واستهلاك الأموال، وكان رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) إذا جهز جيشاً وافتقر إلى مال استقرض قلنا: نقل الاستقراض عن رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ونقل أيضاً أنه كان يشير إلى مياسير أصحابه بأن يخرجوا شيئاً من فضلات أموالهم إلا أنهم كانوا يبادرون عند إيمائه إلى الامتثال مبادرة العطشان إلى الماء الزلال، ولسنا ننكر جواز الاستقراض، ووجوب الاقتصار عليه إذا دعت المصلحة إليه ولكن إذا كان الإمام لا يرتجي انصباب مال إلى بيت المال يزيد على مؤنة العسكر ونفقات المرتزقة في الاستقبال فعلى ما هذا الاتكال في الاستقراض مع خلو اليد في الحال وانقطاع الأمل في المال.
نعم! لو كان مال غايب أو جهة معلومة تجري مجرى الكاين الموثوق به فالاستقراض أولى، وينزل ذلك منزلة المسلم الواحد المضطر في محمصة إلى الهلاك، فعلى الغني أن يسد رمقه، ويبذل له من ماله ما يتدارك به حشاشته، فإن كان له مال غايب أو حاضر لم يلزمه التبرع، ولزمه الإقراض، وإن كان فقيراً لا يملك نقيراً ولا قطميراً فلا يعرف خلاف سد مجاعته من غير اقتراض، وكذلك إذا أصاب المسلمين قحط وجدب وأشرف على الهلاك جمع، فعلى الأغنياء سد مجاعتهم، ويكون ذلك فرضاً على الكفاية، يحرج بتركه الجميع، ويسقط لقيام البعض به التكليف، وذلك ليس على سبيل[158/ب] الاقتراض، فإن الفقراء عالة الأغنياء، ينزلون منهم منزلة الأولاد من الآباء، ولا يجوز للقريب أن ينفق على قريبه بالإقراض إلا إذا كان له مال غايب، وكذلك القول فيما نحن فيه، فهذه وجه المصلحة، وهي من القطعيات التي لا مرية في اتباعها إذا ظهرت، ولكن النظر في تصوير المصلحة على الوجه الذي قررناه وأصل أخذ المال متفق عليه بين العلماء وإنما الاختلاف في وجوب تعيين الاستقراض، وفيما ذكرناه من التفصيل ما يشفي الغليل: انتهى ما أملاه علينا الإمام مد الله مدته من كلام هذا العالم من كتابه في القياس المسمى شفاء العليل وأملاه مولانا (عليه السلام) مراراً ومن كتابه (عليه السلام) الذي سماه (شفاء الصدور من مرض البهت والزور) قال أيده الله تعالى: وقد سوى في (شرح الزيادات) للعلامة المحقق يوسف بن أحمد بن محمد بن عثمان رحمة الله عليه بين كلام الغزالي هذا الذي أوردناه، وبين كلام أئمتنا، حيث قال في شرح قوله: وإذا كان لرجل
فضل مال يلزمه إنفاقه، هذا قول المؤيد بالله، وهو مروي عن الهادي، ومحمد بن عبد الله والناصر بن الهادي، والقاسم بن علي، والمنصور بالله، وذكره الغزالي في شفاء العليل، وإنما تجوز بشروط هي في تعليق اللمع، قلت: وفي كلام الغزالي اشتمال على وجوه ثلاثة من الاستدلال.
أولها: السنة بقوله: ونقل أيضاً أنه كان يشير إلى مياسير أصحابه.
ثانيها: الإجماع بقوله: وأصل أخذ المال متفق عليه بين العلماء.
ثالثها: القياس في المسائل المذكورة والله أعلم.
وأما إجماع الزيدية فقد حكاه صاحب الكافي قال فيه: إذا كان لرجل فضل مال لزمه إنفاقه في الجهاد تعينت الحاجة إليه، ويأثم إن لم يفعل عند الزيدية لأن الجهاد بالمال والنفس.
وحققه السبكي وهو محقق ولقد جاء في تحقيقه بالعجايب
المراد به السبكي الشافعي(شارح منهاج القاضي البيضاوي) في علم الأصول قال في شرحه المذكور ما لفظه: كما أملاه علينا مولانا أيده الله، أما إذا خلت الأيدي ولم يكن في مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر وتفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند.
ثم إن رأى طريق التوزيع والتخصيص بالأراضي فلا حرج، لأنا نعلم إذا تعارض ضرران دفع أشدهما، وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه[159/أ] وماله، لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور، ويقطع مادة السرور، وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة فإن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد، وثمن الأدوية، وكل ذلك خبر خسران، نتوقع ما هو أكبر منه انتهى.
وكم من رجال حققوا وبينوا .... وما تركوا في البحث عيباً لعايب
اعلم أن هذه المسألة من مهمات الشريعة، وما ضمنها السلف الكرام كتبهم كما مر شيء من ذلك عن أئمتنا، وسيأتي شيء بعد هذا، وكذلك أصحاب الشافعي كما مر والحنابلة كما تبين من كلام ابن القيم والحنفية، كما رأيت عن أبي جعفر وصاحب الفتنة وسيأتي ما قاله (صاحب الكنز، والشارح) والسبب في غفلة كثير ممن يغفل إن هذه مدار العمل بها على بعض مخصوص، ولم يكن كل من عليه مدارها قد احتاج إلى العمل بها فلم يظهر له قول ولا فعل، وسبب الترك إما الغنية عنها أو قصر الزمان أو خشية حصول مفسدة تربى، فممن حقق ذلك من العلماء رضي الله عنهم (صاحب التقرير) الأمير الحسين بن محمد عادت بركاته، قال في تقريره ما محصله: إن الاستعانة بمال المسلمين قال بها محمد بن عبد الله النفس الزكية (عليه السلام) والمنصور بالله، وحكاه عن الهادي، وذكر لفظه، والقاسم بن علي العياني، انتهى. وقال القاضي عبد الله بن الحسن الدواري رحمه الله: ثم إن كثيراً من أئمة أهل البيت إلا الشاذ النادر استحسنوا المعاون بالأموال للجهاد زيادة على الزكوات، كالهادي والقاسم والمؤيد، وأبي طالب، والمنصور بالله، والإمام أحمد بن سليمان، وكذلك الإمام المهدي علي بن محمد، وظاهر عبارة القاضي عبد الله بن الحسن، إن الذي أخذ المعونة هو القاسم بن إبراهيم نجم آل الرسول، وهو ظاهر عبارة المنصور لأن القاسم عند الإطلاق تبادر إليه وبنى على هذا السيد العلامة الهادي بن إبراهيم عادت بركته وقال ذلك أبياتاً في ذلك فايقة رائقة أخرها:
إذا أخذ الرسي يوماً معونة .... أخذنا بها قولاً تسر به الصدرا
رضينا برأي القاسم البر قدوة ... وحسبك منه أنه الآية الكبرى
لكنه قال الأمير في التقرير: ليس المراد بالقاسم هنا إلا القاسم بن علي العياني؛ لأنها لم تستقر للقاسم بن إبراهيم (عليه السلام) يد فيما عرفنا، وممن ذكره المؤيد بالله (عليه السلام) كما تقدمت الحكاية عنه، قال (عليه السلام): من له فضل مال وجب عليه إخراجه في سبيل الله، ويأثم إن لم يفعل، قال أبو مضر في شرحه (الفضل) ما زاد على ما[159/ب] يحتاج إليه هو ومن يقول إلى الدخل إن كان له دخل، فإن لم يكن له دخل فما يحتاج إليه هو ومن يعول في يومه ويتعين عليه ذلك إن لم يكن مع أحد فضل مال غيره. وإن كان الفضل مع جماعة كان ذلك عليهم انتهى كلامه واستشكل إمام زماننا تفسير أبي مضر، لأن الأدلة الدالة على الإنفاق أوجبته ولم تفصل ولم يستثن الله إلا ما لم يدخل في الاستطاعة في قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ } الآية وإذا وجب بذل المهج والنفوس فبالأولى والأخرى المال، ولم يستثن في خبر الموطأ الذي رواه عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) قال: ((لولا أن أشق على أمتي لأحببت أن لا أتخلف عن سرية تخرج في سبيل الله ، ولا أجد ما أحملهم عليه، ولا يجدون ما يحملون عليه ويشق عليهم أن يتخلفوا بعدي)) الخبر. ولم يستثن شيئاً بل ظاهره أنهم لا يجدون شيئاً مطلقاً، إلا بعد الدخل كما قاله القاضي رحمه الله تعالى: وقال الإمام المتوكل على الله المطهر بن محمد بن سليمان الحمزي بعد أن حكى ما يضاهي قول أبي مضر، هكذا قيل، والصحيح أن ذلك
بضايق الشدة نعوذ بالله منها ولا نسلم ادخار رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) مع شدة الحاجة، لكن لا ينتهي ذلك إلى حد الإجحاف. انتهى.
وظاهر عبارات المنصور بالله (عليه السلام) تقضي بحواز الإجحاف كما تقدم في التكلم على مسألة الترس وله كلام أوضح من ذلك لم يحضرني ويشهد لكلامه القاعدة الأصولية في معارضة الكليات الخمس إنها ترجح الذي لا يراع في ترجيح حفظ النفس والدين على المال، والله أعلم.
وقد تضمن هذا البحث البينة على ما ذكره سيدنا في الرسالة أن المعونة من الفضل والتصريح بعدم اعتبار ذلك وممن أخذ المعونة الإمام محمد بن المطهر سلام الله عليه ووضع قانوناً على أهل صنعاء عند استقراره عليها، واستشكل ذلك بعض الناس، فوجه السيد العلامة محمد بن المرتضى سؤالاً وأجابه الإمام أحسن جواب، ولم يسأل السيد كما صرح به السيد الهادي رحمه الله لاستشكاله هو، وإنما أراد إزاحة الشبهة عن قلب غيره، قال إمامنا طول الله عمره في رسالته (المسماة شفا الصدور) ما لفظه: وقال الإمام يحيى بن حمزة ما لفظه: الفصل التاسع أعرفكم أن الله تبارك وتعالى كما طلب منكم الجهاد بالأنفس وبذل المهج التي هي أعز الأشياء في سبيل الله وجعلها توأمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر، قال: جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، حتى قال (عليه السلام) فقد صار المال في هذا الزمان الحاجة إليه[160/أ] أعظم من الحاجة إلى النفوس، لميل الناس إلى الدنيا، ومحبتهم لحطامها وبذل المال أعظم ما ينصر به الدين، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
انتهى.
ومنهم أقرب الأئمة بنا عهداً الإمام المجدد، المنصور بالله القاسم بن محمد صلوات الله عليه أخذ المعونة، وفي عصره من العلماء الجهابذة أهل المعرفة من لا يرتاب أحد إنهم حجة، وقد ارتكز في كل حيال إن أحوال أصحابه (عليه السلام) أحوال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، وليس ما يخطر بالبال إن ذلك زمان مشاعرة تفرق، ليس معنى هذا الفرق إلا أن الإمام المنصور (عليه السلام) أخذه في وقت حاجة ليدفع به ما هو أعظم، فإذا شاركت هذه الحالات تلك الحالات في وجه المصلحة في نظر الإمام من أنه يدفع بها الآخذ عن المسلمين، ويذاد عن أطرافهم، ويحفظ هذا الموجود، فإنه يقال حفظ الموجود، أولى من طلب المعدوم، وقد صار هذا الحال الذي عليه المسلمون شجا حلوق الأعداء، وقذا عيونهم، فأبواب الملوك تعوزه هذه العصابة، فإنا نعلم حالهم بأنهم لولا ما يرونه من فضل الله وتأييده، لأتوا كما كانوا يأتون والله يقي شرهم، وسيأتي اللمح إلى هذا في الكلام الذي نقله القاضي عبد الله بن زيد، ومثله ذكر الغزالي فيما مضى، على أن عتاة العرب والعجم وقي الله شرهم، لا ينفكون.
وأما الإقليم اليماني فقلما سلم من حركات بين أهليه، أو من ورد عليهم قدر أربعة عشرة سنة، كما ذكره عمارة في تاريخه (المفيد) ثم ولده الإمام المطهر ناشر ألوية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مريح العباد، ومزيح العناد، المؤيد بالله محمد بن القاسم رضوان الله عليهما فإنه (عليه السلام) أخذ المعاون، وحمى بها الإسلام حماية ظهرت للخاص والعام، ونال كل إنسان أضعاف أضعاف ما سلم من المعونة، أما من يد الإمام، أو على يده بأمنه للاضطراب، وسلامته من تعجرف الظلمة، ونفذت بحمد الله سعايته إلى أكثر الأطراف، ولله الحمد، فجزاه الله، وجزى سلفه خيراً. وإن إمام العصر في هذا لحجة كبرى، ومحجة غرى، فإنا والله علمنا مقاصده، وتحققنا مصادره وموارده، فرأيناه للمسلمين كالأب الحنون يود أن يقيهم المنون[160/ب] أصعب شيء يقاسيه إنتوال الأموال، لولا أنها تكليف من الله في تركه الوبال، ولقد علمنا أنه يمد خاصيته قبل الناس، وناهيك ببذله لنفسه الشريفة في الليل والنهار لا يتلذذ ببستان ولا يتنزه ومع ذلك في ماله يقرى منه الوفد الذي يتوجهون إليه لواسطة هذا المنصب الشريف أدامه الله، وحرسه بدوامه وحراسته، وبيته الذي كان تحصيله بحميد عنايته لنفسه، قد جعل فيه منازل للوفد، ولحال المواجهة لهم وافتقاد المتخاصمين، ونحو ذلك مما يرجع إلى الأمر الأعم، وثيابه لا تقر على ظهره، وهو لا يلبس إلا من خالص ملكه، ثم أن خاصته من أهل بيته يقومون بمؤن واسعة من أطعمة يصنعونها في بيته الكريم، وعبيده الذين يملكهم أعدهم للمسلمين، وقد علمنا أنه لا يفرق على الناس إلا بعد تحري وجه
المصلحة وظهور الرجحان، وقيام الدليل عنده قياماً بلغ اليقين، وما كان حرياً مع هذا بالاعتراض، ولا ملياً بالإعنات، مع ما هو عليه من المهمات بإيراد الأسئلة، عما هو من تكليفه، ولا يتطلب هو أقوال أمثاله من العلماء لتقر عيون الناس، ولكن هذا من مزيد التكليف الذي هو سبيل الخير عند الله، وله في هذا سلف جده محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فلقد أوذي وسمي بغير اسمه، وتولى الله سبحانه الإجابة عنه وكفاه المستهزئين، وعصمه من الناس، ومن سلفه أبوه المرتضى فقد قيل له إن فيه دعابة، وإنه امرئ تلعابة وهو والله (عذيقها المرجب، وجذيلها المحلك) .
وفيه الذي فيهم من الخير كله .... وليس بهم بعض الذي فيه من حسن
وهذا فصل عجيب نقلته من خط القاضي العلامة فخر الدين سيد الشيعة المطهرين، عبد الله بن زيد العنسي رضوان الله عليه، ولفظه: فصل منقول من شرح القاضي أبي مضر وهو هذا.
فصل: قال القاضي يوسف كتب إلىَّ الشيخ الأستاذ أبو القاسم بخط نفسه إن الشيخ أبا الفضل ابن شروين، قال: ومن انتصب من عرض الناس، ممن يكون له استطلاع بالأمر بالمعروف، وإزالة المنكر وإرغام الظلمة من البلاد، وجبت معونته على ذلك، إذا كان رشيداً شديداً فإن تمكن من بعض البلاد أعانه المسلمون أيضاً لئلا يعود الظلمة ثانياً، لأن الغرض الأول باق في هذه الحالة أيضاً، وإن كان يقيم الحدود، وينفذ الأحكام ويستوفي الحقوق، ويضعها في مستحقها ويأخذها قهراً كان له ذلك[161/أ] ولم يمتنعوا عن معونته، والحال هذه وإن كان للأئمة ذلك كان لغيرهم أن ينهضوا بها إذا عدم الإمام، ولا يتمكن من نصبه كما يقول في القضاء، وذلك لحفظ الإسلام وأحكامه وإلا تعطل جميع ذلك، وإلى هذا أشار المؤيد بالله قدس الله روحه في باب القضاء في كتاب (الزيادات) يقول عبد الله بن زيد، وهذا مذهب قاضي القضاه وذكره في المختصر المكي، ومذهب غيره من علماء المعتزلة وروى الفقيه جمال الدين صالح بن سليمان أن الفقيه الزاهد علي بن أحمد الأكوع الحوالي الحميري قال: هذا الفصل مما قرأته على الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة وكنت أعلم على ما يختاره، ويذهب إليه(خ)، وما لا يراه (لا)، فوجدت على هذا الفصل أنه مذهبه واختياره، وعند ذكر الحدود فوجدت العلامة أنه لا يرى ذلك، ولا يجوز له عنده إقامتها، هذه الرواية إلى الفقيه علي الأكوع، وكتب عبد الله بن زيد حامداً لله، ومصلياً على نبيه محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم).
وذكر في (كنز الحقيقة) وشرحه للزيلي ما لفظه: وكره التجعل إن وجد فيء، والمراد به أن يضرب الإمام التجعل على الناس، للذين يخرجون للجهاد لأنه يشبه الأجر على الطاعة فحقيقته حرام، فيكره ما أشبهه، ولأن مال بيت المال معد لنوايب المسلمين، وهذا من جملته، قال رحمه الله: وإلاَّ لا إن لم يوجد في بيت المال في لا يكره لأن الحاجة إلى الجهاد ماسة، وفيه يحمل الضرر الأدنى لدفع الأعلى، قد أخذ النبي (عليه السلام) دروعاً من صفوان عند الحاجة بغير رضاه، وعمر كان يغزي العرب، عن ذي الحليلة، ويعطي الشاخص فرس القاعد، وقيل يكره أيضاً والصحيح الأول لأنه تعاون على البر، وجهاد من البعض بالمال ومن البعض بالنفس، وأحوال الناس مختلفة منهم من يقدر على الجهاد بالنفس والمال، ومنهم من يقدر بأحدهما.
وكل ذلك واجب لقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } وقوله تعالى: {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وقال عليه السلام: ((المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضاً )) وأطلق الإباحة في السير، ولم يقيده بشيء واستدل عليه بقوله (عليه السلام) ((مثل المؤمن يغزو بأجر كمثل أم موسى ترضع ولدها بنفسها، وتأخذ عليه الأجر، وكانت تأخذ من فرعون دينارين كل يوم)). انتهى بحروفه.
وهذا زمان أهله في فعالهم .... سباع جياع أفرطت في التكالب
[161/ب]قصاراهم هذا الحطام ونيله .... وإن عرفوا أتعابه في العواقب
فإن نالهم شيء يقولون إننا .... لأنصار دين الله من كل غالب
وتحميه من كيد العدا سيوفنا .... ونحميه من أعدائه بالرواعب
وإن لم ينالوا أقبلوا لمحاسن .... يعدونها بغياً عيون المعايب
وأعداء دين الله جم عديدهم .... رمتهم من الأيام أيدي المصايب
وإن لم يكن فينا إمام يقودنا .... حسبنا على الأديان سلب السوالب
ولو لم يكن عند الإمام جحافل .... تطوف على شرق الدنا والمغارب
وينصف مظلوماً ويأخذ ظالماً .... ويحفظ أمصاراً بقتل المحارب
لكنا وحاشا الله سوما لسارح .... وأموالنا نهباً لأول ناهب
ودين نبي الله ثوباً مخرقاً .... وحيناً نراه لعبة للواعب
فيا رب فاحفظنا بشرع محمد .... صفيك من أزكى جميع المناصب
وحُطْ شرعه يا رب بالعترة التي .... حمت صفوه بالجد من كل شائب
وحطهم جميعاً بالإمام إمامنا .... شبيه أبيهم في جميع المناقب
وأيده بالنصر المبين وحطه بالـ .... ملائكة الأبرار من كل جانب
هذا كلام واضح لا يحتاج إلى الشرح الذي أنا فيه (كمهدي التمر إلى هجر) وكنت قد وقفت على هذا القدر من النظم لأني أول وقوفي على الرسالة أدخلتها إلى المولى، أيده الله، فاستحسن مطالعتها، ورأيت الجواب مع عيبة السؤال عني وذكرت مسألة ضرب الخندق، وكلام زاد المعاد من الأدلة، فلما وقفت على الرسالة بعد أن وجدتكم مصرحين بأن مبنى الأخذ على المصالح، ولكن حملتم فاعله إن شاء الله على نهج السلامة، وإن كان اللايق هو الكف عن الأخذ، كما مر عليه السلف الذين ذكرتم، فرأيت إلحاق هذا، ولا بأس بتقدم ما قد تقدم، وأرى تقديم كلام هنا قبل النظم، وهو أني قد ذكرت حقاً هذه المسألة مع ظهورها لذلك الوجه الذي ذكرته، ولأن أكثر ما أخذت من القرآن، وهو مفتقر إلى أسباب النزول الذي تصير به المظنونات في مقام القطع، وأخذت أيضاً من أقوال للنبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لم تظهر لأن أصحابه رضوان الله عليهم كما قال الغزالي: كانوا يتبادرون إلى ذلك تبادر الضمآن إلى الماء الزلال، وأخذت أيضاً من أفعال له (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) والأفعال قد تشذ على الإنسان الاستدلال بها لأنه لا ظاهر لها، فالاستدلال مستفاد بالنظر إلى ما يقع معها، فإذا تأملت فيما سبق[162/أ] في قضية هوازن وجدتها مع التأمل في هذا المعنى واضحة أو إذا خلى الفهم وبديهته كانت جامحة. ثم انظر ما أخفى ما أفاده ابن القيم في إعطاء الشيء ثم انظر إلى دقيقته، وهي استقرار النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) والمهاجرين معه في بيوت الأنصار، على أطعمتهم، فإنك لا تجد ذلك من باب الضيافة وكم يكون كذلك
ولا العارية لأن بعضها يستهلك. وإنما هو من هذا النوع مجاهدة منهم رضوان الله عليهم ويشهد لذلك أنه قال (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((إن ناقته مأمورة بأمر الله فتركت حتى نزلت بباب أبي أيوب)) وإنه مرتبع له (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) كما حكاه القسطلاني مستبعد عادة أن بناء الطين يبقى هذا القدر، وإن ملكاً يفعل ذلك القدر مع العمارة ما هو عليه من الخطر وإنه لو كان كذلك لظهر. على أنه قد قال (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) في بيوته التي ورثها من أهله: ((وهل ترك عقيل لنا من رباع )) وهذه البداية مما كتبته بعد الإطلاع على أبياتكم والرسالة:
وقولك إن الأخذ للمال لم يكن .... ببرهان شرع كالأهلة ثاقب
وإن له باب المصالح سالك .... وليس على أبوابها من حواجب
وعددت أشباهاً فمن شاء أمها .... وما كان فيما أمَّ قط حواجب
ومن شاء محض الشرع قال نصوصه .... موضحة فيها شفا كل راغب
فإن يصلح الناس النصوص فحبذا .... وإلا فغير الجهد ليس بواجب
أقول حماك الله هاتي أدلة .... تنادي بأعلى الصوت عند التخاطب
فقد جاء في الإنفاق آي كثيرةً .... تخفف ثقل الشك عن كل غارب
وفيه أحاديث فكان بناؤه .... بنص جلي لا بحسبان حاسب
فهذا صميم الشرع وهو موضح .... لديك فليس السر عنك بغارب
فإنك قد أومأت إيماء عارف .... إليها فما رشد عليك بغايب
هذا حفظكم الله فيه إيماء إلى ما في المسألة من الأدلة وقد وضع مولانا أمير المؤمنين رسالة جامعة لكل ذي حجة قاطعة فسننقل منها ما تيسر إن شاء الله تعالى.
قال مولانا حفظه الله ما لفظه: والنفقة في سبيل الله أصل الجهاد وأعظم الأوتاد ولم يذكر الجهاد بالنفقة إلا مقدماً على الجهاد بالنفس غالباً، وذكر الحض عليها منفردة في غير موضع مرغباً ومرهباً، والجهاد بالمال والنفس أصل الدين وسنامه، ورأس كل خير وإمامه فلا تقوم الأركان ولا غيرها من خصال الإيمان، إلا بما وزع الله به من أمر السلطان[162/ب] ثم ساق (عليه السلام) في ذلك إلى أن قال: فإذا ثبت ذلك وجبت النفقة على مستطيعها لهؤلاء القائمين بأمر الجهاد والمقدورين له، كما وجب على الذين طلبوا من ذي القرنين (عليه السلام) المعونة له بالقوة وبزبر الحديد، والقطر الذي هو النحاس، ثم ذكر (عليه السلام) قصة الخندق، ووضع أجرة العملة على القاعدين، قال كما في حديث أبي داود عن عبد الله بن عمر: ((قال للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي )) كما في الحديث المتفق عليه عن زيد بن خالد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)) وروى في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) بعث بعثاً إلى بني لحيان من هذيل فقال: ((لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما )) ويدل ذلك أيضاً قول الله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} روى أبو داود عن أبي أيوب، قال إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه (عليه السلام) قلنا هل نقيم في أموالنا
ونصلحها فأنزل الله: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } الخبر.
وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } إلى أن قال (عليه السلام) ويؤكد ذلك ما رواه مسلم والترمذي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((يابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك ، وإن تمسكه شر لك)) ويدل على وجوب الإتفاق أيضاً قول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ولما سمعت اليهود طلب الله القرض في الجهاد قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء فنزل قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} الآية وقال {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون} وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} .
قال بعض الصحابة: هذا في المتفق وهو قاعد، فأما المتفق عنه وهو مجاهد فله أضعاف ذلك واستدل على ذلك بآية من القرآن وقال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} الآيات إلى قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ [163/أ]وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} إلى قوله: {لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ويسرد حفظه الله آيات كثيرة واضحة في المعنى، إلى أن قال: وفي صحيح مسلم عن أنس: ((إن فتى ممن أسلم قال يا رسول الله إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به، قال ائت فلاناً فإنه قد كان تجهز فمرض ، فأتاه فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) يقرئك السلام، ويقول اعطني الذي تجهزت به، قال يا فلانة اعطيه الذي تجهزت به، ولا تحبسي عنه شيئاً- فوالله لا تحبسي عنه شيئاً فيبارك لك
فيه)) ثم ساق (أيده الله) إلى أن قال عاطفاً على كلام قد سبق: وإنه لم يقم أحد بأمر بمعروف ولا بنهى عن منكر حق القيام إلا بالجند، منذ رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) إلى يومنا هذا، وإن اختلفت الأجناد لاختلاف الزمان وأهله وبعضهم ينفقون على أنفسهم وبعضهم ينفق عليهم غيرهم، بل لم يتم ولا تتم إمارة حق ولا باطل إلا بجند ينفق عليهم، أو على بعضهم، كما في أعظم الخلق وأشرفهم محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وأصحابه الذين أمر الله بالإنفاق فأنفق عليهم بعض أغنياء المهاجرين كل ماله وبعضهم جمهور ماله، وبعضهم شطر ماله، وبعضهم أعطى جهده، وشاطر الأنصار أموالهم، ومدحهم الله بذلك وأثنى عليهم في غير موضع من القرآن، فمن ذلك قوله تعالى:{وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ثم قال ما لفظه: قال علي (عليه السلام) في عهد الأشتر: (فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام إلا للجند، إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذين يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما أصلحهم ويكون من وراء حاجاتهم) انتهى.
ونقل (عليه السلام) بعد كلام طويل قول علي (عليه السلام) للأشتر أيضاً: وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن صلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله حتى قال: فربما حدث من الأمور، ما إذا عولت عليهم من بعد احتملوه إلى آخر ما قال: فأثبت (عليه السلام) المعونة على الأرض الخراج[163/ب] زايداً على ما ضرب عليها إذا حدث من الأمور ما يحتمل ذلك كما ترى انتهى لفظ إمامنا أيده الله.
وكل سؤال في الرسالة وارد .... أجبت عليه بالجواب المناسب
أجاب إمام العصر عنه قبيل أن .... تجيب بأيام قلال قرايب
أجاب جواباً بين الفصل مقنعاً .... لغير عنيد للصواب مجانب
رأى أن ثلب الناس بالبهت دينه .... قد دب إلى أعراضهم كالعقارب
وفي ثلب آحاد الرجال توعد .... من الله والإيعاد ليس بكاذب
فكيف بثلب للإمام وعرضه .... لبعض دخيل في الحوايج واصب
ما أحسن كلاماً ذكره ابن أبي شريف في حواشيه على (شرح السعد للعقايد النفيسة) محصله في الدليل الإقناعي: إن الناس ثلاثة منهم من هو خالي الذهن عن الحكم والتردد فيه، فهذا يكفيه أدنى لفت لنفسه، ولا تعوز إلى نصب القضايا القطعيات، ومنهم من قدح بانه إشكال وشبهه، وهو طالب الحق فهذا يكفيه الدليل الإقناعي السالم ظاهراً عن المعارض والقادح: نحو {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } ومنهم ثالث قد يطلب الشبهة، وعكفت بقلبه، ورانت على لبه، فهو أصم أبكم أغلق القلب إذا سمع الدلالة كأن في أذنيه وقراً قال: فهذا لا تنصب له الدلالة، وإن بلغت في الوضوح ما بلغت والله سبحانه أعلم.
وقالوا بأن الشرع أصبح خالياً .... عن النهي عن منكر وأمر بواجب
فقال إمام العصر والله إنني .... على حفظ دين الله أي مواظب
هذا حماكم الله تعالى من الأسئلة الواردة التي قد أوردها فقلتم في رسائلكم المسجعة عند تعداد الأسئلة الواردة أجبتم عنها ما لفظه ونحو هذا من الأشياء الكثيرة، التي قد صار النقم بها من كثير من الأفراد، فقلت: لعل هذا مما ورد إلى هنالكم، والجواب عنه واضح لا ينخفي أما أولاً: فإنا لا ننكر أن في الناس العاصين المتمردين، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين َ} وأمثال هذه الآية كثير، وقد ألف في ذلك زيد بن علي (عليه السلام) كتاباً، وهذا الخطاب الموجه في القرآن بإجماع أن أصحاب محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) مقصودون به ما لم يمنع مانع، واختلف به فيما جاء على طريقة الخطاب، هل يدخل فيه من سيوحد، أولا يدخل إلا بدليل جديد، فإذا كانت المعاصي تتفق[164/أ] في زمنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وقال الله له: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر ٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} وأمثالها، ولم يقدح ذلك في حق المعصوم، بل طلب الله منه ومن أمته ترك التجسس، وقال (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((من أتى شيئاً ن هذه القاذورات فليستتر بستر الله )) فوصى من فعل بالتستر، ولم ير أن من الواجب أن يتطلب البيان على زلات الناس، حتى تتضح معاصيهم، وقد علمت أن هذه الكباير قد اتفقت في عهده (عليه السلام)، وخفيت عليه في وقتها، ولم تظهر إلا بعد حين طويل وأكثر ما ظهرت بإقرار الفاعلين، وقد أقام الحد
للزنا صلوات الله عليه، وحد الإفك وسمل العتاة، وغير ذلك ولا سبيل لنا إلى أنه لم يعص الله من أصحاب النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) غير من ظهر بل قد جزم كثير أنه لم يعلم (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) كل المنافقين، وإنما علم من ظهر نفاقه، وقد نبه الله سبحانه على ذلك فإن كان مقصد السائل أن معاصي الله صارت تقع فلا يمنع هذا، والأسوة واقعة برسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وبأصحابه، وإن كان مقصده معاصي وقعت، وظهرت عند الجميع، ولم تخف على الإمام والمأموم، فهذه والله دعوى باطلة، لا تحل لأنا نعلم كذبها، وكثيراً ما يعلم الواحد معصية تحرَّج صدره بها، والإمام في صحة منها لأنها لم تبلغه، ولا انتهت إليه، فكل الفرض على هذا الحرج الصدر، مع إنا لو فرضنا وقوع معصية وظهرت للإمام والمأموم فالمعاصي تختلف نفسها وبأهلها، فربما كانت هذه المعصية غير معصية عند الإمام لمذهب له وربما كان فاعل المعصية من ذوي الهيئات، وللإمام تأخير الحدود، وإسقاطها فما ظنك بها دونها من التعزير، وإن كان مقصد هذا السائل أنه لم بعث بمعرفين إلى كل ناحية لكل واجب وكل محرم، فنقول أن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لم يبعث إلى الأقطار المفتيين، قائلاً: لكل واحد من الناس على انفراده أن له كذا وعليه كذا، واستقصى جميع المشروع له وحده، فإن في ذلك من الحرج العظيم ما يوجب أن يكون من غير شرعه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فإنه يبعث بالشريعة السمحة، وميسراً لا معسراً، وإنما كان يبعث مثل معاذ إلى هذا القطر الداخل تحت الدعوة الميمونة، يعرفهم بأهم
الأشياء وهو الإسلام وما ترتب عليه من المهمات حسب إمكانه، وكان الفرض على الناس أن يتعلموا[164/ب] فإن الله يقول: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} وقال (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((اطلبوا العلم ولو بالصين )) ثم انظر إلى حكمة الله بإرسال هذا الرسول الأمين إلى العرب والعجم يعرض نفسه في المواسم، ويظهر الحجج سنين، ثم شرع له الجهاد، ولم يزل يوصيه بنحو: {مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } ونحو {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } وهو واجد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وعلى مثل ذلك نبه الله عز وجل بقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ، فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} وقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} وهذا واضح جلي والله يقول: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ، لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} فعلى الإمام بذل الوسع، وعلى المسلمين أيضاً بذل وسعهم على اختلافهم، فذو العلم بعلمه، وذو الرأي برأيه، وذو القلم بقلمه، وذو السيف بسيفه، ومن علم من نفسه صلاحاً لأمر لا يعلمه الإمام
فليعلم أنه مأمور بأمر الله، وإن لم يأمره الإمام إلا إن تحصل عنه الكفاية، وهذا قد يخفى على الحذاق كثير، وقد صرح به بعض الأئمة، ونصيحة أئمة الحق هي الدين، كما في الخبر الذي في الصحيح ((ألا وإن الدين النصيحة )) الخبر، وهذا هو جواب الإمام معقود في هذا الآتي:
سلوا هل زنا زانٍ وصح ولم أقم .... له الحد أو حداً تركت لشارب
وأرسلت في أمر الصلاة وغيرها .... رسايل تقرأ في جميع الجوانب
ووليت ناساً قد أخذت عليهم .... يذيعون دين الله بين العصايب
وإن رسول الله أرسل واحداً .... إلى اليمن الميمون رحب المضارب
وقال له علم ولست مسيطراً .... عليهم وأنذرهم وبال العواقب
وليس على أهل الولاية متعب .... إذا ما عصى العاصون من خلف حاجب
فقد كان بعض الناس في عصر أحمد .... يعدون إظهاراً كرام النقايب
وربتما يوماً أتوا بمحرم .... أقروا به إقرار عين المكاذب
ولولاهم أبدوه كان بسترهم .... وما كان هذا للنبي بثالب
على أنه ليس الإمام مخصصاً .... بتنكير منكور وتعريف واجب
ولكنه فرض عظيم معظم .... على كل سارٍ في البلاد وسارب
[165/أ] قال في اللمع والتقرير والبيان للسخامي، واللفظ للمع حسب ما أملاه علينا مولانا أمير المؤمنين، أيده الله: وجملة الأمر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضربان، فضرب يلزم الكافة بحسب الإمكان، وضرب يلزم الأئمة، ومن يقوم مقامهم.
فأما ما يلزم الكافة فهو المنع من المناكر الظاهرة كالظلم وشرب الخمر والزنا والسعي في الأرض بالفساد، وما جرى مجرى ذلك والحمل على الواجبات، وما لزم الكافة من ذلك كان للإمام ألزم لأنه أحدهم، ولأنه منصوب لمصالح المسلمين.
وأما ما يختص بالإمام ومن يقوم مقامه، فهو سماع الشهادات، وتنفيذ الأحكام، واستيفاء الحقوق ممن لزمته، ووضعها في أهلها وإلزام من عليه حق أن يخرج منه، وتولية الحكام، ونصب القوام للأيتام الذين لا أوصياء لهم، والنظر في الوقوف وإقامة الجماعات، ومراعاة أحوال المساجد وإقامة الحدود، والتعزيرات، وسد الثغور، وحفظ بيضة الإسلام وتجييش الجيوش ومجاهدة الكفار والبغاة، انتهى.. وهذا كلام الأخوين نسبه أهل المذهب إليهما في أكثر الكتب ومعنى قولهم الحمل على الواجبات من الفروض العامة هو إلزام صاحبها أن يخلص نفسه لا كما يفعله الإمام من الأخذ بل مطلق تشديد منهم كما حكى معنى ذلك في التقرير، والإمام بحمد الله قائم بهذه الفروض أحسن قيام وأتمه، فإن الصلاة مأمور بها مبعوث إليها بالأفاضل في النواحي، والمناكير التي هي فرض الجميع لم نعلم بشيء لم ينه عنه، ولم يمنع فاعله أشد المنع وأغلظه، والحكام بحمد الله خيار هذه الأمة في كل صقع من الأصقاع، وجهة من الجهات وتحت ولايتهم نصب القوام وسماع الشهادات وغيرهما، والمساجد وأوقافها معمورة في كل جهة ناظر ينظر فيها بحسب الإمكان وليس على الإمام غير ذلك.
وأما أنه يعلم أن هذا الوالي لا يعصي ولا يخون، فليس من إمكانه فكيف يكون من تكليفه، وأما المجاهدة والحفظ والجيش، فما يعلم بناجم إلا وصب عليه سوط عذاب بقدرة الله وتأييده، وانظر إلى هذه الطايفة من النصارى سفكوا الدم وظلموا صاحب مصر واليمن والحبشة وفعلوا في سبيل بيت الله ما لم نسمع بمثله، حتى كادت الأفئدة تظن والعياذ بالله، أن يكون ذلك من أشراط الساعة وفزعت من أن يكون البحر قد منع جانبه، فلم يزل الإمام أيده الله، في الطلب لهم[165/ب] فبعث من حضرته المشرفة بجماعة من الجند المنصور، وكتب إلى الجنود في البنادر حتى يسر الله الظفر بهم، وأخذوا وقتلوا تقتيلاً إلا من استجار بكلمة الإسلام فإنه انتظر فيه حكم الله والله الهادي.
فأي نعمة على الإسلام، أظفى من هذا البُرد، وأي مِنَّة أشفى للعلة من هذا البرد، اللهم اجعلنا لنعمائك شاكرين ولآلائك ذاكرين، واجعلنا من الذين عرفوا النعم في وقتها فعرفوا النفس عزيمتها ومقتها، وأدم لنا هذه الدولة النبوية حتى نلقاك أجمعين راضياً عنا غير ضالين ولا مضلين، واحرس حارسها بجنود كلايتك وكن لنه ظهيراً واجعل له من لدنك سلطاناً نصيرا أمين اللهم أمين.
فمن لم يطق كان الإمام ظهيره .... وعونهم الرحمن أغلب غالب
وقد جاء أن الآمرين بواجب .... سيأتيهم نصر سريع الكتايب
اللمح إلى حديث السيلقية وما يشابهه، وينبغي التشريف به قال (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا ، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم تسعدوا، وأكثروا الصدقة ترزقوا، وأمروا بالمعروف تخصبوا، وانهوا عن المنكر تنصروا)) .
وإنا لنرجو الله نصراً معجلاً .... يطأ فوق هامات العدى والمناكب
ويقطع أهل الرفض في كل وجهة .... ويبتك أعناق العداة النواصب
ونرجع إخواناً كصحب محمد .... على حب أبناء النبي الأطايب
فإنهم والله خير عصابة .... إذا ما أتى في الحشر كل العصايب
هم مثل ما في النص أبواب حطة .... فمن يأتهم يسلم شبا كل شايب
عليهم صلاة الله بعد محمد .... ولا نرجو سكان أعلى المراتب
وقالوا بأن القسم للمال حائف .... فما بين مخط في السهام وصايب
وما علموا قسم النبي لصحبه .... فبعضهم أعطاه خير النجايب
وبعضهم أعطاه شيئاً وبعضهم .... رأى صده والمنع أسنى المواهب
وفي بدر البحرين حين تبادروا .... إليها وجاء الناس من كل جانب
فأفعم للعباس ثوباً وغيره .... حباه قليلاً من كرام شناخب
وقد يجب التفضيل عند وجوهه .... وأوجهه ليست تعد لحاسب
اعلم أن القسم لم يكن محدوداً عن الله تعالى بحد معين لا يجوز مجاوزته[166/أ] وإنما حده بتقوى القاسم وأمانته، ونظره في الصلاح والفساد، وليس لأحد أن يدعي أن قسمة رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ومن بعده كانت بمساواة الأجزاء لأن المعلوم خلافه، قال في أصول الأحكام ما لفظه: لا خلاف أن معنى القسم بالسوية بين الرعية على حسب اجتهاد الإمام، وما يعلم فيه من الصلاح للعامة وكما قال الهادي (عليه السلام) فيما يجب على الإمام أن يحكم في رعيته بأحكام الله، ويعدل في الحكم، ويساوي بينهم في قسم الفي.
قال السيد الإمام أبو طالب: المراد به أن يساوي بين المستحقين فيما استحقوه، فلا يبخس أحداً منهم حقه لأنه يجوز أن يفاضل بينهم على حسب اجتهاده، قال: وهذا مما لا خلاف فيه.
قال المنصور بالله (عليه السلام): ويكون معنى التسوية ما ذكر كما نقول في قسمة المواريث أنها عدل وحكمة وتسوية، وإن اختلف أجزاءها، وكذلك الأرزاق، وانظر إلى سيرة رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فإنه خصص ناساً بالأعطية لمصالح علمها وانظر إلى غنايم هوازن وقسمته لها كيف أعطى ومنع في محضر واحد وتقاول هو والأنصار رضوان الله عليهم بما هو معروف، وهو من ثمار سيوفهم، وسلب رماحهم، وانظر إلى قسم مال البحرين لما قدم به أبو عبيدة وسمعت الأنصار بقدومه، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فلما انصرف تعرضوا له فتبسم ثم قال: ((أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء فقالوا أجل قال: ابشروا وأملوا، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، كما انبسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها فتهلكو)) وأعطى العباس ما أعياه أن يحمله ولم يعط غيره كذلك وكان العباس من أغنياء الناس، وانظر إلى أعطائه سعيد بن العاص الحلة المشهورة بالسعيدية، وانظر إلى إعطائه أسامة حلة سيف بن ذي يزن، وكان يعد ثمنها مالاً ولم يعط غيرهما، وانظر إلى إقطاعه الزبير حصر فرسه من أرض بني النضير، فأجرى فرسه حتى قام وفي رواية حتى مات ثم رمى بسوطه، فقال: اعطوه من حيث بلغ السوط، وأقطع بلال بن الحارث معادن القبلية، وأقطاعه الأبيض بن حمال الملح، ثم رجع لما قيل له ما قيل فلولا جوازه ما هم به وإلى إقطاعه حارث بن حسان[166/ب] واجد بكر الدهناء حتى راجعته قيلة بنت مخرمة، وانظر إلى قوله لمن عاتبه ((إني أعطي قوماً أخاف ضلعهم، وجوعهم، وآكل قوماً
إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغناء)) منهم عمروا بن تغلب، فقال: عمرو بن تغلب ما أحب أن لي بكلمة رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) حمر النعم وغير هذا من النظاير:
وقالوا بأن المال صار ولاية .... يعدونه في أكلهم والمشارب
فقلنا إمام العصر ليس بعالم .... الغيب وعند الله علم الغوايب
فمن خان فيما تحته فحسابه .... إلى الله يبليه بحر اللواهب
وإن ظهرت منه الخيانة عجلت .... له قطعة من شر تلك العواقب
فإن كان هذا النقل من متحقق .... فما وجه هذا الطعن في ظهر غايب
يقول فلان خاين لأمانة .... تلذذ فيها آكلاً غير هايب
فينظر مولى المسلمين مقاله .... أقولك صدق أم مقالة كاذب
فليس عليه كلما قال قايل .... يرى قوله في الأمر ضربة لازب
فإن صح هذا النقل حرر فكره .... وقلب عين الفكر في كل جانب
ودان بحكم الشرع حسب اجتهاده .... وتعدوه بعد الجهد عتب العواتب
ولسنا نرى في ذا الزمان جحاجحاً .... كراماً كأصحاب النبي الأطايب
وأنى لنا والقرن ما قد علمتم .... فكيف يساوي شرب بالتغالب
ولكننا نرجو الإله بفضله .... وإحسانه الأهنا حسان العواقب
ونسأله التوفيق في كل حالة .... وعصمتنا من مخزيات المعايب
فليس لنا إلا عليه معول .... وليس لنا في غيره من مطالب
إلهي فاشملنا بفضلك كلنا .... وقض لنا يا رب كل المآرب
وابق لنا المولى الإمام وكن له .... ظهيراً معيناً دافعاً كل نايب
وبلغه ما يرجوه في كل طاعة .... وأنزله في عدن أجل المراتب
وصل على طه صفيك أحمد .... محمد المختار من آل غالب
وصل على أبنائه وصحابه .... وأجزل لهم يا رب أسنى المواهب
هذا السؤال كثير وروده في غالب الأزمنة على الأئمة، وسبب ذلك أولاً: المبادرة إلى الظن المنهي عنه والسبب الثاني: انتفاء العصمة في الولاة وعدم وجود المرضي بكل حال.
[167/أ]ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
وقد أجاب مولانا، أيده الله، بقوله: ليس علينا أن نتحرى إلا من رأيناه في ظننا ورأينا أنه أقوم وأصلح، كما أن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أمر أسامة مع كراهة كثير من أصحابه لذلك، وكما أمر خالد بن الوليد، وحاله ما عرف، وبعد تلك الأفاعيل التي أمر النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) علياً فوداها وارثيها، ثم لم يمنعه ذلك تأميره مرة أخرى، ولا منع بعده الخلفاء من تأميره، وكما أمر النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل على المسلمين وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهما من أكابر الصحابة على أن أحداً من الولاة لو أفتات علينا بشيء من غير أمرنا لم يكن ذلك قادحاً علينا، فقد افتات خالد كما ذكرناه عن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وبعض عمال علي (عليه السلام) ولم يزل مثل ذلك يجري من العمال والولاة في جميع العصور فإن العصمة لا تشترط إلا في الأنبياء صلوات الله عليهم انتهى.
وقال المنصور بالله (عليه السلام): في كتابه (الهداية) وقد ولى رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) عتاب بن أسيد ثاني إسلامه على مكة من دون خبرة، وكان الرجل يأتيه تايباً فيعلمه الإسلام في مقامه، ويرده على أثره داعياً إلى الله، ووالياً على من أطاعه من قومه كأبي أزهر الدوسي وأمثاله كثير، وإذا بطلت ولاية الوالي بالكبيرة رجعت بالتوبة، وقد كان ولاة رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) يعصون ولا يأمرهم بتجديد عقد الولاية كخالد بن الوليد وقبله أهل الغميظا وبني جذيمة وغيره، وقال (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((اللهم إني أبرأ إليك مما فعله خالد )) ولم يعزله ولا جدد له ولاية، انتهى.
ومن كلام الإمام أحمد بن الحسين (عليه السلام) في بعض رسائله: أن الولاية وكالة يتقلدها الأمين وحالة يحيى بها الظنين وقد فعل ذلك سيد المرسلين واقتفاه في فعله أمام المتقين، فولى (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) الوليد بن عتبة وهو أحد صبية النار بنص النبي المختار ومن نص الحكيم على فسقه في آيتين من كتابه الكريم، وولى (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) عمرو بن العاص في البعث الأكبر وخالد بن الوليد سماه سيف[167/ب] الله المسلول، مع أنه حكم في الدم المطلول، برفض المسموع وتحكيم المعقول، وتبرأ (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) مما فعله، ومع ذلك لم يقض (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) بتحريم ولايته وتأخير إمارته، بل جعله بعد ذلك أمير الجيوش الإسلامية واجتمع المسلمون على إمارته بمؤتة، وساق كلاماً طويلاً (عليه السلام).
وقد تولى الجواب على هذا السؤال عدة من العلماء منهم من ذكرناه آنفاً، فأما المنصور ففي مواضع عدة، ومنهم الأمير بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى في رسالة سماها (القاطعة بالأدلة الساطعة) والإمام القاسم بن علي العياني في بعض رسائله، والكلام من هذا من أمثالهم عليهم السلام كثير على أن مولانا أيده الله، إلى الآن لم يول ولاية رجلاً ظالماً وإن الظن في المسلمين جميل ولا نظن في أحد من الولاة المتقدمين ولا المتأخرين إلا خيراً، على أن الأئمة قد أجازوا إبقاء الوالي على ولايته الذي كان عليها، وإن كان متهماً، قال المنصور بالله: وقد أقر الناصر (عليه السلام) أسعد بن أبي يعفر وأحمد بن محمد الضحاك وغيرهما من رؤساء اليمن على رئاستهم وأعمالهم، فلا يحكم على الأئمة عليهم السلام لأنهم معدن العلم وما خرج من علم الآخر أضيف إلى علم الأول، كقوم لهم معدن يستخرجون منه الياقوت والجواهر على قدر ما يرزقهم الله تعالى من كثرة وقلة وتفاضل في الجودة، مع أن المعدن والجنس واحد انتهى. وحسبنا الله وكفى.
وأما ما ذكره سيدنا حفظه الله في أثناء الرسالة من الترفه من العمال فهذا وإن خالف الزهد المرغب فيه فقد وافق قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقد كان السلف يلبسون، روى في بعض كتب الحنفية أنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لبس حلة بأربعة آلاف، وقد بوب الترمذي باباً للبسه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لبس الخبرات ومحبته لها وكان له لباس جميل للوفد وذلك مالا يخفى، وعلي بن الحسين كان يلبس ما علمتوه من رواية الانتصار، والهادي (عليه السلام) لبس في دخوله صنعاء ما هو معلوم في سيرته، ولقد وصى منهم وصى بذلك لعظم موقعها في نفوس الناس فإن الوالي المزدرى ربما[168/أ] تشبه الوالي المهين، وكانت للإمام شرف الدين عمامة يلبسها في غاية النفاسة، وقال في وصيته لأولاده ما عرفتم والأعمال بالنيات، وأما المناكح فهي من السنة أيضاً، وقد علمتم ما كان له (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ولمن بعده.
وقال: ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة )) والحسن بن علي (عليه السلام) كان له من ذلك مالا يخفى، والحكم على أن هذه من أموال الله تعالى. مع أن الوالي له أجره إذا أخذ سهماً لعامل من العمالة الواسعة، وسوغ له الهدية كما سوغ (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لمعاذ جمع الجمهور، مع أن لهم مكاسب، أولا يسلم لهم مع الولاية وينمو، وربما كان في بعضهم الحذاقة في التكسب، والواجب الحمل على السلامة. وأما ما ذكرتم من مسألة الأخذ من الولاة لأشياء لم ينص عليها الإمام، وقد سبق ما ذكرناه أن بعض الولاة قد يفتأت بغياً وعدواناً، وما علمنا مشتكياً رفع شكايته إلى الإمام إلا وأزالها حسب الإمكان، وقد علمنا أيضاً مع طول الممارسة ما يعجب من أحوال الرعية، وكثرة تظلمهم بغير حق، قال الإمام صلاح بن علي في بعض ما قال: لقد علمنا من أحوالهم أنهم يأتون إلى الرجل الفاني الضعيف ويعطونه الثوب الخلق الذي لا تساوي قيمته عشرة دراهم، ويأتي على ضعفه بصبيان معه يصطرخون ويظهرون أموراً ليس عليهم منها شيء، قال: ولقد اتفق لي أن جماعة تظلموا من واليهم، فأمرت بإحضاره وقد كانوا شكوا أنه أخذ منهم أموالاً ذكروها فقلت لهم عند حضوره: هذا الوالي ما تقولون فاشتكوا، فطلبت منه الجواب فأنكر، فسألتهم فقالوا: نعم ما قد طلب ولا أمر لكنا خشينا أن يفعل هذا معنى كلامه، وما ذكره سيدنا حماه الله من السؤالين المشكلين في آخر الرسالة وهي مسألة التفاوت بين الرعية في المأخوذ منهم فمنهم الذي يسلم الكثير، ومنهم المسلم للقليل وما وجه ذلك والمقتضى يقضى بالإستواء ومسألة الولاة الذين يأخذون غير ما أمروا به، فأما مسألة الولاة فقد تقدم جوابها آنفاً.
وأما السؤال الأول فقد صرح الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة، والإمام المطهر أن هذا المأخوذ فرض كفاية، ولا شك كما قالاه: وإذا كان كذلك فللإمام أن يعين فرض الكفاية على[168/ب] بعض المكلفين لرأي يراه، قال بعض أصحاب الشافعي: إذا عين الإمام على رجل غسل الجنازة تعين.
قلت: فبالأولى والأحرى فيما يقوم به الشعار، ويتم به أمر الإمامة، قال مولانا حفظه الله، ومما يدلك على قول الله تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} فنعى الله على الذاهبين بغير رأي رسوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فعلهم، وأذن له (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أن يأذن لمن شاء فدل ذلك على أن له أن يعين للبقاء من رآه ويسوغ الذهاب لمن شاء حسب المصالح، وربما كان ثمة مقتضى من خصب البلاد، وتقدم سابقه في بعض، وغير ذلك كما فعل في أرض الخراج المختلفة بالسقي وغيره، وبأثمار بعضها للقصب السكري وغيره، وربما كان بعض أهل البلاد تسليمهم أكثر لأنهم يحصرون عند الحاجة، وهم في الحقيقة جند كما في بلاد همدان وربما كانت عليهم طرق تستوعب منهم الضيافة شيئاً كثيراً، وغير ذلك مما يعرف عند الممارسة على أن الأرض التي كانت تحت أيدي الظلمة غلتها مستمرة والسيف والمنبر لهم مع سوء عقيدتهم رأى أئمتنا أن للإمام أن يضع عليها ما شاء عند الافتتاح كما يكون ذلك في دار الحرب، والله حسبنا وكفى وهو مولانا نعم المولى ونعم النصير.
وما ذكره سيدنا أصلح الله بوجوده من مسألة التأديب بالمال فقد كفى بالجواب وشفى، فلا زيادة على ما ذكر ولا جواب إلا بإعادة طائفة من كلامه الشافي، ولا حاجة إلى الإعادة، ومذهب أئمتنا الجميع جوازه كما هو من المعلوم من سيرهم وأجوبتهم في المسألة، وليس ذلك عندهم من المصالح بل مما قام دليله، والله حسبنا جميعاً، وكفى هو مولانا وعليه توكلنا وله أخلصنا ونسأله حسن الخاتمة بحق محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) انتهى ما حرره العبد اللاجئ إليه الراجي له، أحمد بن صالح بن أبي الرجال، كما وجد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وكان تحرير هذا الجواب الشافي أوسط شهر جمادى الأولى من سنة إحدى وستين وألف [مايو/1650م].
قلت: وفي هذه الجوابات الشافية، والبيانات الكافية، غاية من نفايع النصائح التي تحب شافيه، فالله المسئول الواسع الفضل الجزاء أن[169/أ] يجزيهم عن الحق بالذب عنه أفضل جزاء، وأن يضعف لهم المثوبة بأوفر الجزاء، ووقع في النفس أنه تسامح في شيء من الجواب لا أدري السهو أو لعدم التصريح بذكره من السائل عما ساقه من الاعتراض وأورده من المسائل وذلك في مسألة القميص والباب والبريم والبشمق التي اسمها غير ذلك ومسألة ما عليه العمال من التوسعة التي ادعاها عليهم وقال إن ذلك مما يعود على المراد من الاعتراض هل في ذكر الثمن أو المثمن واستعماله إن كان في الثمن قيل له هل أردت أنه أخذ من حله أو من غير حله أو مجهول الحال إن كان ذلك الثمن من حله يعين من ماله أو مما فرض له أمامه فلا اعتراض عليه إذ له ماله وما فرض أمره وإن كان من غير محله يسأل الإمام عليه السلام استرشاداً، وعليه الحكم بما صح لديه، والعمل بما وفقه الله إليه وإن كان مجهولاً فالقطع في موضع الشك مما لا خلاف في خطأ قايله، ومما لا يلتفت بالجواب على سائله، وإن كان السؤال في ذلك المثمن فلا يخلو مستعمله من أن يكون ممن يحرم عليه أو تحل له، فإن كان الأول كان السؤال إلى الإمام أيده الله كما سبق مع كمال الشرايط المذكورة في بابه عند أهل المذهب رضي الله عنهم، وإن كان مُستعمله ممن يحل له ذلك، فذلك حلال طيب، وله ذلك بحكم الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) في الخبر المشهور في الذهب والحرير: ((هذان محرمان على ذكور أمتي حلٌ لإناثها )) الخبر، فإذا حل ذلك في
الجملة، ولم يحد الشرع الشريف فيه حداً بقلة أو كثرة، فليس لمعترض إليه سبيل ويتهم أن يكون من أهل الحسد المحرم والله أعلم، وأما الباب فإن صح فما هو بأكثر من الصرف في الدار، لأنه إذا جاز له تحسين بابها، ولا حدٍ للكثرة والقلة، إذ ذلك مما أحل الله لعبده في نحو قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } الآية. وإن أراد أن ذلك مخالف لما عليه صالح السلف رضي الله عنهم من البعد عن زينة الدنيا، وأن الفاعل لما ذكره[169/ب] السائل تارك للأولى فالسؤال إليه أرشده الله، هل للإمام والعلماء وساير المسلمين أن يمنعوا المباحات وأن يعترضوا أهل الأموال في أموالهم أن لا ينعموا فيها، ولا ينتفعوا بما أباح الله لهم منها، وأكثر من نعى عليه من السلف التوسعة عثمان بن عفان، فإنه أول من عمر القصور، وموهها بالذهب والفضة، ولبس الحرير واتخذ له أسناناً من الذهب ولم يعدها المسلمون من أحداثه التي بها استحلوا دمه، وخلعوا طاعته والله أعلم، هذا مع الفرض لصحة ذلك وأنه كان كذلك.
وأما إذا كان رجماً بالغيب وثلماً على الغايب بالعيب، والحكم عليه بالريب، فكفاه من الرد ما بسطه أمامنا، وعلماؤنا فيما وجهوه إليه، وبشروا من دلايل الكتاب والسنة، ما هو كالسيوف والأسنة، وكالضمر المطلقات الأعنة، {ومن يكتسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}.
ويلتحق بذلك ما ذكره المعترض في قوله لا زلت أذاكر علماء الزمان فيما ذكره من المناقم، وإنهم رضي الله عنهم لم يجيبوا عليه بما ينفع الغلة، ويزيح العلة، فلم يدرك فهمي القاصر من جوابهم عليه بما يقطع توهماته، فإنهم رضي الله عنهم جازوه، وقالوا ما علمنا له رسولاً في ذلك فقلت: مع ما سبق من الضعف، وبعد الفهم إن قوله: لا زلت أذاكر به إلى آخره إنه لا يخلو اعتراضه من أن يكون قبل الدخول في الإمامة والتزام الزعامة أو بعدها، فإن كان الأول فالسيره فرع على صحة الإمامة وهي قطعية في الجملة فله السؤال ويعرف الأحوال وإن طال كما ذكره أئمتنا (عليهم السلام). وإن كان بعد بيعة الإمام فلا يخلو الاعتراض من أن يكون مجمعاً عليه أو مختلفاً فيه، فإن كان الأول فله سؤال الإمام بشرطه وإتيانه من بابه، وعليه الرجوع إلى الإمام كما أمره الله تعالى، وإن كان من المختلف فيه فليس له ذلك لجواز أن يكون مذهباً لإمامه، فعليه قبول أحكامه إذ الإمام الحاكم والمأموم محكوم عليه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية، فإذا تقرر هذا الأصل بحكم الكتاب والسنة، فلا وجه للاعتراض بعد صحة الإمامة، فإن الإمام إذا كان كأحد العلماء بطلت الإمامة وانتقصت أحكام الزعامة، فحينئذ لا يخلو هذا المعترض من أن يكون جاهلاً لهذه الأصول أو عالماً بالمعقول منها والمنقول فالأول لا يجوز عليه ولا يعزى إليه[170/أ] إذ هو عالم مضطلع وللعرفان مدرع، فإذا تقرر ذلك فلا حرج على من حكم عليه بما حكم على نفسه، وإلزامها من العداوة والحسد، لمن أوجب الله طاعته على كل أحد، والله يحب الإنصاف، ويكره الظلم والاعتساف، نسأله التوفيق والهداية ونعوذ به من التعويق والغواية انتهى.
[وصول إبراهيم المؤيدي إلى الإمام المتوكل على الله]
رجعنا إلى ذكر وصول السيد إبراهيم إلى الإمام (عليه السلام) وعود مولانا الحسين بن أمير المؤمنين المؤيد بالله، أيده الله، وأقام السيد إبراهيم في صعدة ليالي عيد الإفطار، ثم استرجح القدوم إلى الإمام (عليه السلام) إلى محروس شهارة اقتضاباً وقد جهزه مولانا الحسين أيده الله تعالى، بما يحتاج إليه وزيادة فلم يشعر الإمام (عليه السلام) إلا به في جانب بلاد عذر، ثم الهجر وأمسى فيه، ثم صعد منه إلى محروس شهارة المحروسة بالله، وأمر الإمام (عليه السلام) بلقائه وتعظيمه وتلقاه بنفسه إلى موضع مما بقرب بيته الشريف.
وأما مولانا الحسين، أيده تعالى، فإنه لما وجه السيد إبراهيم إلى الإمام تقدم إلى بلاد خولان، للإتفاق بوالده أحمد بن أمير المؤمنين، أيده الله تعالى، وكان لم يتفق به قبلها كما تقدم، وقد أقام في صعدة المذكورة، وتزوج بنت عمه فيها، وقد استدعى مع وصوله إلى ساقين الشيخ يحيى بن روكان فوصل إليه بأمان، وأحسن إليه، ووجهه أيضاً إلى الإمام (عليه السلام)، وأخذ في تفقد البلاد، وطلب ما أهملوه من الحقوق وقبض سلاح العسكر الذين قتلوا وقد خرب كثيراً من بيوت أهل الفساد، وكانت نحواً من أربعمائمة بيت، وفي رواية أكثر من ذلك وبقى أياماً، ثم عاد إلى صعدة المحروسة بالله تعالى.
وأما مولانا أحمد بن أمير المؤمنين، أيده الله تعالى، فإنه وقع في نفسه التهمة بأن الإمام (عليه السلام) نسب إليه التسهيل، فكان سبباً لهذه المفاسد فتجهز إلى الإمام في شهر[….] ولم يشعر الإمام (عليه السلام) بقدومه إلا وهو في جانب الطريق ووصل إلى محروس شهارة عمرها الله بالإيمان [وتلقاه المسلمون وقد أمرهم الإمام (عليه السلام) بالاجتماع لذلك] وتلقاه الإمام (عليه السلام) وعظمه التعظيم الذي هما أهله، وطابت النفوس واطمأنت وطفت الأوحار وسكنت.
أخبرني من شهد ذلك أن الإمام عليه السلام جعل له صدر المكان ولم ينصب له[170/ب] سرير في حضرته، ومما قيل في ذلك من التهاني………… [171/أ] وأما مولانا الحسين فبقي في صعدة المحروسة بالله تعالى، وقد تكاثرت العساكر لديه، والنفقة عليهم، وعرف أن الشام قد صلح، وكثر تفلت العسكر لألفهم سكون اليمن وطمأنيته فاستأذن الإمام (عليه السلام) في القدوم عليه ولم ينتظر الجواب وكان الإمام (عليه السلام) كما أخبرني بعض الخواص يحب بقاه في بلاد صعدة وينوب عن عمه فيها، فسارع بالوصول إلى الإمام (عليه السلام) لكراهة البقاء في الشام وهو خليفة أبيه في أولاده وأهله، فيحب البقاء في شهارة لذلك وللاحتشام من والده أن يتولى أعماله، فأظهر الإمام (عليه السلام) الرضى بذلك وإن ذلك من مقاصد المصالح، وقد ترك على صعدة وأعمالها ولد مولانا أحمد بن أمير المؤمنين، وهو السيد الفاضل العالم العامل جمال الدين علي بن أحمد بن أمير المؤمنين، وهو إذ ذاك دون العشرين سنة وقد صار لديه علم كثير، وفضل شهير، وسياسة نافعة، ونهضة في الأعمال، فقرره الإمام (عليه السلام) خليفة لوالده.
[وصول الشيخ بن روكان إلى الإمام]
وأما الشيخ يحيى بن روكان فإنه وصل إلى الإمام (عليه السلام) صحبة مولانا الحسن، أيده الله، وكان في صنعاء المحروسة بالله، وكان له به أنس لتعلقه به أيام ولايته لصعدة المحروسة بالله وبلادها، فأذن له بعد أن أعطاه كثيراً وأحسن إليه إحساناً غفيراً واغتفر ما كان منه صغيراً وكبيراً، وكذلك مولانا محمد بن الحسن أيده الله أحسن إليه، وألحقه بخاصته، فأقام أياماً على ذلك ثم انسل من صنعاء يرافقه قوم، وصار إلى بلاده، ولم يظهر خلافاً غير أنه لم يصطبر على المقام في صنعاء.
ولما استقر في بلاده، اجتمع إليه من يريد الفساد فأخذوا في تغيير الحقوق والعصيان شيئاً فشيئاً، وعرف الإمام (عليه السلام) أن ذلك منه ومن أصحابه وإن يد صاحب صعدة لم تشتد على مثله، فأمر مولانا محمد بن الحسين أيده الله أن يسير بعسكره، وكانوا زهاء من ألف، وأن لا يجيء صعدة المحروسة بالله فسار سيراً مستمراً إلى مدينة ساقين من أعلى بلاد خولان وقد أمره الإمام (عليه السلام) أن يتبع المفسدين، ويستوفي الحقوق المهملة وأن يغرم كل جان بما جنى، ففعل ذلك واستوفاه، واستمرت الحقوق، وضيق المسالك على الشيخ المذكور، حتى استأمن إليه، فأمنه على شريطة واحدة، وهو وصوله إلى الإمام (عليه السلام) وله الأمان على نفسه، وكان الإمام (عليه السلام)، يريد[171/ب] أن تكون ولاية الجهات المذكورة إلى مولانا محمد بن الحسين ليلي أمورها ويستدفع به شرورها، فلم تطب نفسه بها عوضاً عن بلاده التي هي صالحة ومطيعة وفيها أولاده وخاصته وقد عرف أن الإمام (عليه السلام) لا يأذن له في القفول فاستتم الأعمال ووصل بالشيخ المذكور، وجميع من اتهم بالفساد، ولا عرف الإمام (عليه السلام) إلا وهو في قرن الوعر، (ولم [تكن] قد وصلته) من الإمام (عليه السلام) العزيمة على البقاء ولا تصريح بولاية تلك البلاد، فلم يكن من الإمام (عليه السلام) إلا قبول عذره، ولم يحصل تقصير من مولانا محمد، أيده الله، عن المقصود، فإنه استوفى ما أمر به الإمام (عليه السلام) على أتم الوجوه، ووصل بهذا الشيخ الشرير وغيره وقوى الإمام (عليه السلام) ولايه صنوه الصفي، وولده علي على الحال الأول وقد أمن الإمام
(عليه السلام) الغيار على المسلمين بالقبض على الشيخ السيء.
ولما سار مولانا محمد بن الحسين أيده الله، من السودة إلى صنعاء تعلق هذا الشيخ المذكور به، وأن يكون يكون في جملة ديوانه فعول على الإمام عليه السلام بذلك فنزله أحسن ما يعامل به وأن يكون بقاه في صنعاء، فكان فيها في جملة أصحاب مولانا محمد بن الحسين أياماً ويتصل بمولانا محمد بن الحسن أيده الله، والإحسان إليه جار من الجميع كما تقدم، مجرون عليه الكفاية وزيادة عليها، فكان كذلك.
ثم انسل مرة أخرى عن طريق تهامة والجهة التي لا يعرف فيها، ثم صعد إلى بلاد حيدان، وبقى يتردد في بيته ما إليه، وينقبض عن الناس بعض الإنقباض، ولم يظهر شيئاً من الأعذار، وكتبه إلى الإمام (عليه السلام) وإلى مولانا محمد: كما بلغ إني خفت ممن له قتل في بلادنا في الحروب الأول، وعلمت أنكم لا تأذنون لي، والآن اتركوني في بلدي، ويخدمكم ولدي، أو كما قال، وغفل عنه الإمام (عليه السلام) مترجياً لصلاحه فعاد لما كان عليه، وأطاعه بعض أهل الفساد.
[توجيه الفقيه جمال الدين علي بن صلاح إلى صعدة للتبع المفسدين]
ولما كان إلى شهر جمادى الأولى سنة سبع وستين وألف [1656م] أمر الإمام (عليه السلام) الفقيه المجاهد جمال الدين علي بن صلاح بن إبراهيم الجمولي في عسكر ليسوا بالكثير، إنما هم نحو المائة بالمسير إلى الشام كعادة الفقيه المذكور في أنه يتتبع المفسدين، ويخص المعتدين بعقوبات ولا علم لأحد إلا أنه يريد صعدة المحروسة بالله لذلك الغرض، فسار مغذاً من محروس الحصين.
ولما وصل بلاد آل عمار جاء طريق ساقين على صفة الغارة ليلاً ونهاراً، حتى أحاط ببيت المذكور، وطرقه ليلاً فاستتر عدو الله ببعض ثياب نسائه وخرج [172/أ] من كوة ونجا في ظلام الليل، وقبض العسكر ما في بيته، وولديه، وأرسل بهما الفقيه علي إلى الإمام وبعم لهما يسمى علياً، فكانوا عند الإمام (عليه السلام) في محروس الحصين، وعليهم الحرس والحفاظ، وأمر الإمام (عليه السلام) بهدم دار الشيخ المذكور، وقد تقدم هدمها، ثم عمارتها، وأظن أن هذه الهدمة الثالثة.
وأما عدو الله فإنه لما هرب استجار بالقبائل فاستعفوه من المعاودة إلى بلادهم وقالوا له: قد أهلكت نفسك وبلادك، فلا تهلكنا أو كما قالوا، وكان مولانا الحسين بن أمير المؤمنين المؤيد بالله، حفظه الله، في الهجر من بلاد الأهنوم، فلم يشعر في بعضها إلا والشيخ المذكور في مقامه الشريف في الهجر من غير عهد ولا عقد فطلب جواره، فقال: أيده الله، لا أقبلك إلا بالنزول على حكم الإمام. ثم أرسله إلى الإمام (عليه السلام) فأمر بإشخاصه فوراً إلى محبس أهل الجرايم في محروس الدامغ، فكان هنالك وطمع في الخلاص من الحبس بأن يكون عليه ضميناً ويكون حبسه في غير ذلك، فلم ير الإمام (عليه السلام) صواباً، ثم إنه احتال بأن عقد على امرأة من أهل الحصن وطلب الإمام (عليه السلام) الإذن بالدخول عليها في بيت أهلها، فقال (عليه السلام) لا يحل لي ذلك وأخاف الله على نفسي، ولا يراني الله كذلك، أو كما قال، ثم مات المذكور لا رحمه الله وأخوه كذلك وأطلق الإمام (عليه السلام) أولاده، وصلحت بعد موته بلاد خولان وساير بلاد صعدة والحمد لله رب العالمين.
فصل.. وأما مولانا محمد بن الحسن، أطال الله بقاه، فقد تقدم استقراره في محروس إب، ثم تقدمه إلى تعز العدنية وبلاد المعافر، وتجهيز العساكر إلى اللحوق بصنوه مولانا أحمد بن الحسن، أيده الله، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك ثم عاد إلى ذمار المحروسة، فكان فيها وأرسل لأهله الذين في صعدة فوصلوا إلى صنعاء المحروسة، وطلع من ذمار بالجنود الواسعة وعمرت أسواقها وكثرت أرفاقها، ودرت أرزاقها، وتفجرت أنهارها كما سيأتي قريباً إن شاء الله.
[أعمال محمد بن الحسن في إب وذمار]
ذكر عماير مولانا عز الإسلام في أيام بقائه في إب وفي محروس ذمار، فإنه وسع الجامع الكبير فيها وعمر مرافقه، وتفقد أوقافه، وكانت الزيادة أكثر من القديم بكثير ووسع المنارة والمطاهر، وعمر ما بقي في الجامع المقدس من معمور الحصين في ضوران الذي كان أسسه والده (رحمه الله) وأدخل فيه زيادات كثيرة، تأتي مثل نصف الأول تقريباً، ووقف[172/ب] على الجامع المذكور أوقافاً كثيرة، وعمر الصروح، والمنازل، التي بقرب القبة الشريفة، وأقام الدرس والتدريس فيها، وقد كثر الله الماء في الحصين ببركة مولانا (عليه السلام) فإنه استخرج عيوناً بإعانة الله له وتيسيره وكانت لا تعرف فيما قبل، وكثر الماء في الحصين، وفاض على كفاية الجامع والمدينة وأهلها، والماء إلى زيادة والحمد لله كثيراً، وكان قد عمر أطال الله بقاه أيضاً مسجداً في بير العيان، وأجرى في متوضاه الماء الكثير، والمطاهر فكان من أحسن المساجد، ذكر ما عمره (أيده الله تعالى) غير المساجد والمدارس منها حصن كحلان بنواحي خبان ومنها عمائر في دمت ومنها الدار المشهور في محروس ذمار، فإنه قل مثلها في حسن العمارة والمرافق.
وأخبرني بعض من يتردد إليها أنه بعد تمامها طلع بعض الخدم بحصانه ولامته كاملة إلى إعلاه، وإنه حركه في صرحه الأعلى، ومنها في صنعاء السمسرة المنسوبة إليه أيده الله تعالى لم يعمر في صنعاء مثلها ولا في اليمن ما شاكلها في العلو والارتفاع والسعة فإنها تشتمل على طبقات تحتوي تقريباً على مائة واثنين وعشرين منزلاً، ولكل طبقة كيفية غير الأخرى، وصارت من أعلى قصور المدينة فتبادر إليها التجار، وأخذوا في مرافقها خطوطاً شريفة، ومنها الدار الكبرى في أعلى المدينة بالقرب من المدرسة الشرقية عمرها الله بالعلم وأهله،بحق محمد وآله، فإنها من أعظم ما عمر في صنعاء المحروسة وعمر غيرها أيضاً مما يقرب عمارتها.
[ذكر الغيول في صنعاء]
وأما الغيول التي فجرها الله سبحانه وتعالى في صنعاء، ففي ذلك آيات للمتوسمين وعبرة للمعتبرين، ونذكر بعض فضل الله سبحانه العميم، على مولانا عز الدين ثم على المسلمين، بهذه الآيات التي ظهرت للآخرين، وذلك أن صنعاء المحروسة بالله لم تخل عن ملك بعد ملك من المحقين والمبطلين، وماؤها كله من الآبار إلا غيل الروضة المعروف بغيل رسلان، وكان مولانا الحسن (رضوان الله عليه) احتفر غيلاً بالقرب منه يأتي مثل ثلثه تقديراً، وانتهى بالحفر فيه إلى مقدار حبال الآبار المجاورة له، وأكثر فهو في الحقيقة إنما استخرج ماء بير عظيمة بالقوة عند انتهاء مساحة قعرها بظاهر الأرض، وهذا ممكن بالحيلة، والصبر عليه، واستخرج بعض المتقدمين غيل آلاف القريب من ارتل ويقال أن الذي أخرجه السيد الإمام الفاضل القاسم بن أحمد المقبور في ذمار، من ذرية زيد بن علي (عليه السلام) وكان عاملاً للإمام الأعظم القاسم بن علي العياني[173/أ] (عليه السلام) وغير ذلك كان لا يعرف في صنعاء.
وأما هذه الغيول التي أظهرها الله، وكثرها فلم تكن من فعل البشر، وإنما وقف بعض أهل شعوب على بلل في طين بالقرب من السد المعروف بسد الإمام فلحقه فظهر فيه ماء، فلما رآه يزداد، أخبر مولانا عز الإسلام (أيده الله) فخرج إليه، وأمر بحفره وتوسيعه وهو يزداد، حتى كان كما سنذكره إن شاء الله، وكان ابتداء استخراجه بعد وجود أوله في يوم[ ] وجعل عليه الأمناء للحفر والعمارة، ثم عمره بالحجارة، وجعل فيه كظائم مستطيلة، فكانت إلى رقم هذا التوقيع[ ] كل كظيمة قريبة من عمارة البير، وجعل عليها مواضع للعبور إلى الطرقات، ومواضع للصابون ولمن أراد الاغتراف وللصلاة وسقي لعامة أهل شعوب أموالهم من الجراف ثم الروضة والحشيشية وهو يزداد في كل حين، وكثر فأخرجه إلى نواحي ذهبان، وأوطان جدر وعلمان، وأحيى الله به عالماً من الناس والأنعام واحتمل مؤن مولانا محمد بالأقوات والنفقات الخاصة على من يعول، ثم علف خيله، وجمع دوابه، وربما وخيل بيت المال وأمد كثيراً من غيرهم، وكل هذه الطرقات إلى الماء ابتداء، لم نلق لها أثر والله أعلم.
نعم! ووجد أهل شعوب أيضاً أمارة للماء في موضع آخر، كما تقدم قريباً من ذلك وأوقف مولانا علي بن أمير المؤمنين (أيده الله) على ذلك فأمر من يحتفره كذلك، فوجدوا أعلاماً داربة تحت الأرض وطرقات للماء وكثر الماء حتى كان قريباً من النهر الذي كان لمولانا عز الإسلام (أيده الله) وسقى كثيراً من أعمال الروضة. ثم ما وراءها، ثم مولانا أحمد بن الحسن (أيده الله تعالى) وجد كذلك، وخرج نهر عظيم دون الأولين، وأساحه لكثير من الضعفاء فانتفع به كثيرون.
ثم إن مولانا محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين وجد نهراً كذلك، دون ما تقدم فكانت البلاد التي حول هذه الأنهار أخصب بلاد كثرت خيراتها، وحييت جهاتها
يحي بهم كل أرض ينزلون بها كأنهم لبقاع الأرض أمطار
وذكرنا هذه المذكورة والزيادة في الماء إلى الآن فيها، وفي كل عام يزداد وقد صارت هذه الأنهار المذكورة ستة أنهار في جانب شعوب.
نعم. ولما وصل مولانا أمير المؤمنين إلى محروس صنعاء في عام إحدى وسبعين وألف [1660م] كما سيأتي إن شاء الله وجد بعضهم كذلك فاحتفر عن أمر الإمام (عليه السلام) نهراً عظيماً دون ما تقدم.
[173/ب]وليس يعلم ما يأتي الزمان به ... سوى عليم قديم الذات مقتدر
[فتح بلاد الشعيب]
ذكر فتح بلاد الشعيب من جهات يافع وكان عليهم أيام الترك أقماهم الله ضريبة يسيرة، وعليهم معها عسكر للخدمة، ولكبارهم جوامكهم أيضاً تصل إلى بلادهم، ولا يدخلها والٍ ويأتي بما عليهم من الضريبة كبارهم بوسايط.
ولما توفي مولانا الحسن (رحمه الله تعالى) وكان قد قرر لهم عليها وساقوها إليه سنين حصل الاشتغال عنهم، وعن غيرهم، فانقطعت مواصلتهم، فلما كان عام إحدى وستين وألف [1650م] طلبهم مولانا العزي (أيده الله) المعتاد فتبعدوا وتغلبوا فأرسل عليهم عسكراً كثيراً، بعد الإعذار إليهم مراراً وكان العسكر فوق الألفين، فوطأهم ذلك العسكر، وقد أحربوا، وقتل منهم العسكر [ ] وأسروا [ ] وقتل من العسكر أيضاً [ ] فأعطلوا الطاعة ورهنوا وعرضوا المعتاد فلم يقبل منهم إلا الواجبات على تمامها، والائتمام بالإمام والتحكم للأحكام الشرعية على التمام، وكان أهل الجهات المذكورة يستصرخون بيافع والمشرق فأيأسوهم وقالوا لا تفتحوا علينا ما نحن منه خائفون، وعنه غافلون، واستقاموا على ذلك، واستعمل عليهم وعادت العساكر الإمامية.
ولما كان شهر [ ] من عام [ ] اختلفوا فيما بينهم، وغلب عليهم رأي الجاهل فرجعوا إلى الحافرة وابتغوا الأولى بالآخرة، فأرسل عليهم مولانا العزي عسكراً كذلك، وأمر السيد الرئيس الأعلم جمال الدين علي بن الهادي بن الحسن بن محمد بن علي المحرابي الهادي، وهو إذ ذاك في تعز العدنية ، وإليه جندها، وكثير من أعمال اليمن الأسفل وخرج من تعز [ ] .
ولما وصل إليهم راسلهم أسفاراً، ودعاهم إلى الطاعة مراراً، فازدادوا نفوراً واستكباراً، فوجه عليهم العسكر الإمامية، فطاروا على وجوههم حتى انتهى أكثرهم إلى بلاد يافع، فاستصرخوهم فأجابوهم بما تقدم، وعاودهم السيد جمال الدين المراسلة وآمنهم، فطمعوا أنه يقيم في بلادهم ليال، ثم إنه لا يجد للعسكر كفاية، فيعود منها ويتركهم فلما طال ذلك تقدم إلى [ ] وأمر بهدم دورهم ومعاقلهم، وتركهم عبرة لغيرهم، وأقام كذلك حتى وصلوا إلى مولانا عز الدين (أيده الله) باذلين الطاعة، منقادين إلى الجماعة، فعفا عنهم وأسقط المطالبة لهم بشيء من الحقوق حتى تعمر بلادهم، وتعود إلى عادتها من الدخول في الطاعة الإمامية والحمد لله رب العالمين.
فصل: ولنعد إلى السيرة [174/أ] النافعة والدعوة الجامعة، وما كان بعد وصول مولانا أحمد بن أمير المؤمنين (أيده الله)، فإنه أقام مع الإمام (عليه السلام) كما سبق من إعظامه وإكرامه، وتشريف مقامه إلى [ ] وعاد إلى روض صنعاء، وتردد في بيوته فيها، وزار أرحامه وقد تلقاه مولانا عز الإسلام، وصنوه الصفي (حماهما الله تعالى)، ومولانا جمال الدين علي بن أمير المؤمنين إلى قرية جدر من أعمال بني الحارث وقدموا الخيل النجيبة والحلي الفاخرة، والضيافات المتكاثرة، وفيها أمر بتمام مرافق جامعه الشهير في الروضة، وتفقد أوقافه وأضاف إليها، وابتنى عليه سوراً كبيراً.
[أحداث بلاد ظفار داود]
ولما خرج الإمام (عليه السلام) من محروس شهارة إلى السودة وأقام فيها [ ] ولا زالت بعوثه وسراياه شرقاً وغرباً وتنفيذ الأحكام، وحفظ صلاح العام، منها بلاد ظفار داود المعروف فإنها كثرت منهم المفاسد، والمظالم فعظمت فيهم الخصومة بقتل النفوس، وانتهاب الأموال، وكان الإمام (عليه السلام) راسلهم كما تقدم في ذكر طلوع مولانا الحسين (أيده الله تعالى) إلى جهاتهم، فلم تنجح فيهم، [وكانت قد عظمت] الخصومة بين الشيخ صالح بن مطهر بن عبد الله بن وازع، ومن تقرب إليه من أفخاذ عيال أسد، وبينه وبين عيال أسد أيضاً والمرازيح والمذاعير، وكانوا اجتمعوا على حربه فحاول الإمام (عليه السلام) الصلح بينهم فلم تتفق له، وقد استدعاه الإمام (عليه السلام) والمشايخ من خصمائه، ورفق بهم، وأحسن إليهم وتألفهم.
ثم إن الشيخ المذكور قل صبره على المقام في الحضرة الشريفة مع أنه في غاية الإكرام وكان منزله منزلة كرام الضيوف، فهرب وعاد إلى التوحش، فتركه الإمام (عليه السلام) حتى ظهر منه خيانة من قبض ولاة أصحابه من ثوابة بغير ولاية، فأرسل الإمام (عليه السلام) مولانا محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين (أيده الله تعالى) بعسكره إلى خمر من جانب مرهبة، وكان مولانا أحمد بن الحسن (أطال الله بقاه)، متجهزاً للحج كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وذلك في أواخر شهر شوال عام اثنين وستين وألف [أكتوبر 1651م] فأمره الإمام (عليه السلام) أن يوجه من قبله مدداً إلى مولانا محمد بن أحمد وهو حينئذ في معمور الغراس، وأعمال ذي مرمر فوجه السيد الجليل الأجل صلاح بن محمد السراجي في نحو أربعمائة، وجاءوا من طريق محصم وأسفال بني زهير ثم خرجوا الحول من أعمال ثوابة من جهة العدن، ومولانا محمد ومن معه قصدوا المراحيب مواضع المذكورين فتحصن الأشرار في معاقل لهم ودار الخطاب[174/ب].
ووصل الشيخ المذكور إلى السيد صلاح ليستجير به، ولرجاء أن يحصل الاختلاف بين العسكرين، فيذهب في الوسط، فلم يقع على غرضه، وهرب إلى جهات المشرق مرة أخرى، فأخذ جنود الحق ما في معاقله من الحبوب الكثيرة.
ثم أمر الإمام (عليه السلام) بهدمهم، فصارت نكالاً، ولغيرها أمثالاً، وكانت فيما مضى لا يتصل بها وال محقاً كان أو مبطلاً، وأقام المذكور في بلاد سفيان جاراً لا يقر به قرار، ولا يأوي إلى حي، وإنما يرعى هو وأصحابه بأنعامهم وفي كل ليلة يمسون بها في جهة.
ثم إنه طلب الأمان فأمنه الإمام (عليه السلام) أخرى بشرط وصوله إلى مقامه الشريف، فوصل إليه (عليه السلام) وبقي أياماً، وبدى له الهروب كما تقدم لألفه البوادي ونفوره عن الحضر ولم يكن منه بعدها خلاف، ولا غيار في تلك الأطراف.
[دخول الإمام ظفار]
ولما كان في شهر جمادى الأولى عام ثلاثة وستين وألف [إبريل 1652م] رأى الإمام (عليه السلام) التقدم للطيافة إلى المشهد المنصوري بظفار.
مسير الإمام (عليه السلام) إلى ظفار المحروس وكان حي مولانا الإمام المؤيد بالله (عليه السلام) أراد عمارة الحجر، ورجوع أهل ظفار إلى بلدهم كما سبق من والده الإمام المنصور بالله (عليه السلام)، فلم يتأت له ذلك وحصلت موانع، وكان الإمام (عليه السلام) في عام تسع وخمسين وألف [1649م] قد أمر الفقيه الفاضل العالم علم الدين قاسم بن علي الخياري، وهو رجل من أهل التقوى والعلم النافع، يعد في الصالحين بالمقام في المشهد المنصوري وأن يشرع في عمارة الحجر، وما أمكن من مرافق المشهد المقدس، فعاد إلى ظفار كثيرون من أهله وآنسوا بالمقام، واستمرت العمارة، وأتم الله لمولانا الإمام ذلك على سهولة، والحمد لله رب العالمين.
ولما وصل مولانا (عليه السلام) إلى ظفار تلقاه أهل المشارق جميعاً فقهاؤها وزعماؤها بالنذور الكثيرة، وتيمنوا بطلعته المنيرة، واغتنم الجميع منهم رؤيته، والتمس كل منهم دعوته، [وكانت قد] كثرت فيهم الفتن وتطاولت الإحن فيما بينهم وبعدوا عن الشريعة، وعن التحكم لها، وكان المطر في تلك الجهة قليلاً والوقت أول حزيران، فحصل مع قدومه (عليه السلام) مطر عظيم، امتلأت منه المناهل وعمت البركات، وكثرت الخيرات، وأخذ (عليه السلام) في تفقد المظالم التي بين القبائل عموماً وبين أهل كل بلد خصوصاً وأقام القضاة للفصل وكانت المفاسد والمنكرات من نحو ما سيجيء إن شاء الله في خبر ابن وازع، فأمرهم بالخروج عن المظالم، فكان الحال كما روي في أخبار إمام الأمة أمير المؤمنين الهادي إلى الحق (عليه السلام) وقدومه[175/أ] صعدة، وما أطفأ الله به من الفتن.
نعم! فقرر الأحكام ونصب الحكام، وأنفذها الخاص منهم والعام وأنس أهل المشارق إلى الشريعة الغراء بعد أن كانوا خائفين منها، وانتصف المظلوم وأمنت السبل، وكانت ثمرة الواديين ثوابة وهران كما صرمت وعرف (عليه السلام) حاجة العسكر المنصور إلى الجلب، وإقامة الأسواق وأهل المشرق لا عهد لهم بجلب العلف، ونحوه من المبيعات.
فسرح عسكراً كبيراً مع الفقيه محمد بن جميل والنقيب الصالح المجاهد سرور بن عبد الله إلى ثوابة وهران، فأقاموا هنالك ليلتين يتصل بهم عبيد الأودية، وحملوا العلف وغيره للبيع، وعادوا إلى الإمام (عليه السلام)، وقد سكنت فورة المشرق، وصلحوا وجلبوا إلى المحطة المنصورة بالله.
ووصل الأمراء من أهل الجوف كالأمير الفاضل صالح بن الحسين بن المطهر بن الشويع وغيره من الأشراف بالزكوات والنذور والهدايا، وأحسن إليهم الإمام كثيراً، ووصل بوصولهم ومن بعدهم أيضاً كبار أهل الجوف لزيارة الإمام ولفصل خصومات، وعادوا بعد ذلك، ولا زالوا يعاهدون كذلك.
[وصول الشيخ وازع إلى الإمام]
نعم ! وأما الشيخ صالح بن مطهر بن وازع فقد تقدم أن الإمام (عليه السلام) أمر بغزوه، وإخراب معاقله، وأنه وصل إلى الإمام (عليه السلام) إلى معمور أقر، ثم هرب فلما وصل الإمام (عليه السلام) إلى ظفار وصل مع عموم الناس، ثم خاف وهرب أيضاً، فأرسل إليه الإمام عليه السلام الشيخ يحيى بن علي الخياري بما معناه إن كان هربك من الحق فلا ينجيك منه أحد، وإن كنت تخاف غيلة فلا بأس عليك، ولك الأمان، وشاور نفسك. فوصل تائباً نازعاً، ووقف في باب الإمام (عليه السلام) حسيباً للشرع الشريف (أعزه الله تعالى)، ولتحكمٍ له، واستقرت الأصلاح على تسليم ديات في القتلى.
وكان الإمام (عليه السلام) يجمعهم في مجالس للمناظرة، فعرف بذلك الباغي من المقتولين والمبغي عليهم، وعرف أيضاً أن الباغي منهم إذا أخبره أنه هدر لم يستمر بينهم الصلاح فيما بعد، فأرجع البصر وشاور عيون من حضر، ثم قال (عليه السلام): إن جعل في الباغي أربعمائة حرف، وفي المبغي عليه ألفاً وتم له ذلك، واستقاموا عليه وكتبوا بينهم شروحاً في ذلك وأمرهم بالتسليم[175/ب] لكل وارث إلى يده وصلح الحال، ومات الشيخ صالح بن وازع بعدها، وقام مقامه صنوه الشيخ أحمد ثم مات، ثم الثالث وصل الإمام (عليه السلام) إلى محروس الدامغ تائباً منقاداً للشرع الشريف ظاهراً وباطناً، والحمد لله رب العالمين، والعمارة بحالها في الحجر وزيادة، وفي كثير من الأيام يباشر العمل بنفسه ويجهدها رغبة في مثوبة الله عز وجل بحياة تلك الجهات، وانقيادهم للشريعة المطهرة (أعزها الله).
ووصلت إليه الوفود إلى هذا الموضع من جهات متفرقة منها من الهند، وفارس، ومكة المشرفة، وغيرها، وكثرت الخيرات والنفقات، والصلات.
فلما قرب شهر رمضان المعظم وكان صنوه مولانا صفي الدين أحمد بن أمير المؤمنين (أطال الله بقاه) في خمر من بلاد بني صريم، وله فيه أهل وأملاك، وصله إلى ظفار، ورجح له أن يكون الصيام في السودة من شظب للرفق بالمسلمين، والقرب من شهارة المحروسة بالله، وللإمام (عليه السلام) في السودة أولاد أيضاً فخرج (عليه السلام) من ظفار سادس وعشرين من شهر شعبان وبات في ملاحة من هربه، مكان الفقهاء آل الأكوع، وهم من عماله (عليه السلام)، وأهل المروة والكمال في الدين والدنيا.
ثم تقدم إلى خمر فأقام فيه يومين، ثم توجه إلى السودة من طريق غربان في أول يوم من شهر رمضان، وكان الماء قليلاً عندهم فأمدهم الله مع وصوله بالمطر الغزير، وخضرت الثمار، وحصل ابتداءً ما يأتي من نقصها، وغلاء الأسعار، والشدائد الكبار، فأرسل السعاة لجمع الثمرة للمسلمين، وتقسيطها في طبقاتهم، وقد تعطلت شهارة المحروسة بالله من الطعام مع كثرة من فيها من المستنفقين، حتى بلغت نفقتهم في الشهر الواحد أكثر من خمسمائة زبدي، هذا الراتب وقد تعرضت مثلها لحوائج الإمام ومن يرد إليه، وقد ظهر أوائل الشدة الآتية مع الوفود من الجهات البعيدة، ممن لهم الحقوق الكثيرة الأكيدة.
[وصول الشريف محمد السليماني صاحب صبيا إلى الإمام]
وممن وصله إلى السودة الشريف الكامل الرئيس محمد بن الحسين الخواجي السليماني صاحب صبيا ، وقد لحقه وبلده المشاق، وتقطع الأرفاق، فتلقاهم الإمام (عليه السلام) بالإعظام، وأعطاهم نجائب الخيل والنقود، والأكسية الكثيرة على أنواعها وأمر أن يساق إليه ألف زبدي، كما أخبرني من اطلع على ذلك ليقيم بها أوده ويعمر بلده فكان ما سيأتي إن شاء الله من ضعف الحال.
[وفاة الأمير أحمد بن القاسم بن محمد]
[وفي شهر شوال] من عام ثلاث وستين وألف (سبتمبر 1652م) استرجع الإمام (عليه السلام) ولاية صنوه مولانا الصفي أحمد بن [176/أ] أمير المؤمنين (أيده الله) صعدة ومخاليفها ونجران وما إليه، فتجهز من السودة في العشر الوسطى من شوال، وشيعة الإمام (عليه السلام) إلى قريب من الموسم من بلاد شظب، وعاد الإمام إلى السودة، وتقدم مولانا أحمد إلى حبور، وتلقاه السادة الكرام آل جحاف بالإعظام والإكرام، ثم تقدم إلى شهارة وأقام فيها إلى شهر القعدة.
ثم تقدم إلى صعدة المحروسة، وكان ظهر من بعض مخاليف المشرق، من جهة أملح أحداث ومفاسد، فأرسل عليهم مولانا الصفي عسكراً فهزمهم، وهدم دور قوم منهم، وقطع أعنابهم، فانقادوا بعدها وصلحوا. وأقام في صعدة المحروسة بالله وعمرها وأهلها بإحياء المدارس والطاعات، وتجرد للإنفاق، وما تجلب إلى تلك المدينة من الأرفاق وقد عظم الجدب وعم في اليمن، وبلغ حمل الذرة خمسين حرفاً، وحملوا من صنعاء الطعام إلى صعدة على مشقة ومخافة، وكاد الناس يأكل بعضهم بعضاً، وتوفي (رحمه الله) بعدها في يوم الأربعاء رابع وعشرين في شهر صفر سنة 1066هـ [23سبتمبر 1655م]، وقبر في صرح جده الإمام الهادي (عليه السلام) وعمر عليه ولده السيد الحبيب الفاضل علي بن أحمد قبة شهيرة، وكان (رحمه الله) كما يليق من النشأة الطاهرة، والمحافظة على الطاعات، والأوراد التي قل مستعملها بعده، وكان له (رحمه الله) هيبة على حفدته وأعوان دولته فلا يكاد يوجد فيهم ذو تسهيل في صلاته وطهارته حتى أخدام المرافع وسواس الخيل، فقل من لم ير عليه منهم أثر الطاعات (رحمة الله عليه)، وبلغني أن له وصية عجيبة فيها أحكام وإحاطة، وتحرٍ للصواب كما يحق لمثله فإن وجدتها أثبتها إن شاء الله في هذا المحل والله الهادي والموفق.
فصل: نرجع إلى بلاد صعدة قد ذكرنا ما وقع فيها من الاختلاف وما لقي الإمام (عليه السلام) من الشدائد في صلاحها، وقد وصل صنوه أحمد أطال الله بقاه كما تقدم، واستخلف عليها ولده الفاضل علي بن أحمد، ثم وصل أيضاً إلى الإمام (عليه السلام) وإلى والده وهَمَّ الإمام (عليه السلام) أن يولي عليها غير صنوه وولده، وهم أيضاً أن يجعلها بنظر ولده من غير واسطة أبيه، وعظم عليه أن يكون صنوه منقطعاً عن أهله أو يكون فيها والتصرف لغيره فقرر ولايتها إليه، وأعادها عليه كما تقدم، وإن عليه صلاحها وسد خللها فتجهز في شوال السنة المذكورة، وقد شملها الجدب وأضعفتها الهزاهز[176/ب] والفتن، وكان كما سيجيء إن شاء الله من الجدب الهايل، والمحل الطايل، والإمام (عليه السلام) مع هذه الأمور يمده بالعسكر إلى أطراف الشام كنجران ومشرق صعدة، وغيرهما وأقام الإمام عليه السلام في السودة إلى سلخ ذي الحجة، وهو في كلها تسخير الله سبحانه، ويرتأي في العود منها إلى شهارة المحروسة بالله، أو التقدم إلى صنعاء وحصن الدامغ، فإن أهله فيها كما تقدم، فتقدم في العشر الأواخر من ذي الحجة إلى حبور من أعمال ظليمة.
[أخبار قرية حبور]
ولنذكر طرفاً من أخبار قرية حبور في الدولة المؤيدية والمتوكلية، وهذه البلد صفة مدينة معمورة بعالم من الناس، سادتهم الأشراف المعروفون بآل جحاف، وهم من ولد الإمام المنصور بالله القاسم بن علي العياني (عليه السلام)، فيهم علم وكرم، وفيهم مع ذلك كمال دنيوي لا يزال منهم مع الأئمة (عليهم السلام) كالإمام الأعظم شرف الدين (عليه السلام)، ومن قبله ومن بعده قضاة وولاة، ومرجعاً في مهمات الأمور.
ثم كانوا مع مولانا المنصور بالله (عليه السلام) كتابه وأعوانه، وقد تقدم ذكر مشاهيرهم وقد ذكرنا فيما تقدم من أخبار الإمام القاسم (عليه السلام)، ما تعمدهم به الأتراك، ومن والاهم من بني المعافا بن عمرو وأهل السودة من هدم دورهم، وتتبع آثارهم، وإن الإمام (عليه السلام) كما أخبرني من أثق به رأى وهو في جبل سيران أن الهدم في بلدهم والحرائق فرق لهم كثيراً، ودعا الله سبحانه وتعالى لهم ولبلدهم بالعمارة والإقالة فكانت عمائر حبور مما يضرب بها المثل في أرض اليمن، وتولوا مع الإمام الأعمال الجليلة، وكان الإمام (عليه السلام) في ستة تسع وخمسين وألف[1649م][ ] تزوج الشريفة الفاضلة [ ] بنت السيد الأعلم الحسن بن الحسين بن علي بن إبراهيم بن المهدي، وأقام في حبور مدة، وتردد إليه مراراً، والسادة المذكورون في إعانته، وتلقى وفوده بالإحسان ما يفوته الحصر، وضاق بالمسلمين، وتقدم إلى أقر المعمور بالله يوزع حوائج المسلمين، ويؤثر المساكين، ولا تزال بعوثه إلى الأطراف لتنفيذ الأحكام، وبلاغ شريعة النبي عليه وآله أفضل الصلاة والسلام منهم القاضي العلامة محمد بن علي بن محمد الجملولي الأهنومي، فإنه أرسله بما هذه نسخته [177/أ]………………… . [177/ب]ووجه غيره أيضاً إلى جهات أخرى للتذكير والبلاغ، ولما أراد المسير إلى بلاد صنعاء وحصن الدامغ صعد إلى محروس شهارة عمرها الله بالتقوى، فتفقد أعمالها، وذخائرها وحوائج أهلها، ثم استخلف ولد أخيه مولانا الحسين بن أمير المؤمنين (أيده الله)، وكان الماء فيها في حكم المعدوم بانقطاعه من المناهل فأمدهم الله سبحانه
وتعالى بالمطر الغزير المتتابع.
[تفقد الإمام لبعض المناطق]
مما أخبرني بعض الخواص عن بعض أهله (عليه السلام) أنه رأى شدة ما الناس عليه، فخلى في موضع من بيته الطاهر مفتوحاً إلى السماء فجعل يبتهل ويتضرع ويبكي فما عاد من موضعه إلا وقد التفت ثيابه عليه من المطر. ثم خرج من شهارة في ثاني وعشرين من شهر ربيع الآخر عام أربع وستين وألف [11مارس 1653م] فأقام في أقر ستة أيام لعارض المطر المانع لمرور الأثقال في أخرف ، ثم تقدم إلى السودة يوم الثلاثاء من ثامن وعشرين شهر ربيع الآخر وأقام في السودة ينظم أعمالها وفيها ولده السيد الطاهر يحيى بن أمير المؤمنين صغيراً بلغه الله وبلغ به رجاء والده أمير المؤمنين.
ثم خرج من السودة المحروسة يوم الخميس سادس شهر جمادى الأولى، فبات في الخدرة من أعمال جبل عيال يزيد، وصلى الجمعة في محروس عمران وكانت ولاية عمران لولد أخيه عز الدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين، وكان إذ ذلك في روضة صنعاء فسارع الوصول إلى الإمام (عليه السلام) بعد صلاة الجمعة وحصل الضيافة السنية، وفتح المخازين المعدة للطعامات .
وكان قد التاث بالإمام (عليه السلام) عالم من الضعفاء كما سنراه إن شاء الله في الفصل الآتي، ثم وصل الأمير الكبير حسام الدين الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن أمير المؤمنين المتوكل على الله يحيى شرف الدين شمس الدين بن الإمام المهدي (عليهما السلام) في عدة من العسكر ووجوه أصحابه، وعول على الإمام (عليه السلام) بالوصول إلى محروس كوكبان فأجابه الإمام (عليه السلام) إلى ذلك فسار (عليه السلام) يوم السبت سابع عشر إلى كوكبان بعد أن دفن حي السيد الماجد المجاهد عز الدين محمد بن عامر بن علي فإنه توفي في صبيحة يوم السبت.
ولما قدم الإمام (عليه السلام) إلى قاع شبام، وقد تلقاه الأمير الناصر أيده الله بجميع عسكره وأهل بلاده وكانوا كثرة، وكان قد وصل إلى الإمام إلى عمران أولاده الكرام وسادة العترة الأعلام مولانا عز الإسلام والمسلمين وفاروق العترة الهادين[178/أ] محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، وصنوه الصفي سيف الإسلام أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، وصنوهما السيد الجليل الكامل شرف الدين الحسين بن الحسن بن أمير المؤمنين، ومن أولادهم النجباء الأبرار يحيى بن محمد ، وإسماعيل بن محمد بن الحسن ، ومحمد بن أحمد بن الحسن، ومع الإمام (عليه السلام) أيضاً في طريقه ولده محمد بن أمير المؤمنين، ومولانا عبد الله بن أمير المؤمنين المنصور بالله، ومن ولد الإمام المؤيد بالله (عليه السلام) السيد الفاضل أحمد بن يحيى بن أمير المؤمنين المؤيد بالله، مع غيرهم من العلماء والرؤساء، وكان يوماً حميداً ووقتاً سعيداً، وكان معهم من العسكر المنصور نحو خمسة عشر ألفاً وألف من الخيل مع رؤساء همدان وغيرهم.
أخبرني السيد الفاضل محمد بن علي بن محمد بن عشيش الحسني الحوثي أن أولهم وصل شبام وآخرهم في وادي تعود مقابلاً لثلاء، وقد أعد أمير المؤمنين (أيده الله) الضيافة التي لا يقدر عليها غيره، وأعد البيوت والمضارب واستعار أيضاً من الإمام (عليه السلام) مضاربه وخياماً كان أرسلها من عمران فكانوا في مدينة شبام والعارضة ثم كوكبان، ولكل من آل الإمام (عليه السلام) بيت مستقل، والضيافة تصل إليه، ولمن معه كاملة في هذه المواضع ولكل من كبار أصحابهم كذلك هذه حضوضات لما ذكرناه.
وأخبرني الصنو السيد الكامل عبد الله بن أمير المؤمنين مكاتبة وكذا غيره من الأصحاب أن الذي احتاجه الأمير ستة عشر سماطاً كل سماط بأكثر من ثمانمائة حرف من غير الحضوضات المتقدمة والتنقلات المفردة، وكان من لم يعرف الأمير قبلها لا يدري أين ينتهي للثناء عليه، ثم قدم الخيول المحلية المنتخبة مما غالب حليتها أن لا يشبه بعضها بعضاً، فكان فيما أخبرني من ذكرناه إلى ثلاثة عشر رأساً ومعها الكسوة والدراهم لخواص الخدم والعطاء على أنواعه لأهل العوائد وغيرهم وأهل المسكنة والضعفاء كما تقدم يسيرون بمسير الإمام (عليه السلام)، ويقيمون بإقامته وهو يتفقدهم بنفسه الشريفة ويخص الذين لا يقدرون على الزحام بحصتهم من يده في غالب الأوقات.
وأخبرني من شهد ذلك أن مولانا[178/ب] عز الإسلام محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين (أيده الله) رأى تزاحم الناس، وربما تغلبهم الكثرة على التناوب في القوت، فجعل سماطاً عظيماً يشبه ما تقدم من أسمطة الأمير (أيده الله)، وجعله لمن لا يقدر على الدخول لضعفه أو لكمال مروته بما يكفيه ومن كان معه.
وقد وصل أهل بلاد كوكبان أيضاً من أهل لاعة وجبل تيس عيونهم لزيارة الإمام (عليه السلام)، فجعل لهم الأمير مواضع في بيوته الشريفة وخصهم بالضيافات أيضاً، وجلس لهم الإمام (عليه السلام) ووصله في يوم الأحد من البز والنذور والمصارفات ما أخبرني بعض الخواص وقد فصله، فقال: إن النقود فوق الألف من القروش والدراهم، ومن البقر ما يدنو من ثلاثمائة، ومن الغنم ألوف، ومن البز الكثير، وهو (عليه السلام) كما قال الشاعر:
لا يعرف الدرهم المنقوش صرتنا .... لكن يمر عليها وهو منطلق
وكما قيل في بعض سلفه:
كأن للمال في كفيه أجنحة .... فإن تقع منه شيء فيهما تطر
ثم إنه (عليه السلام) أمر أن يكتب له أسماء كبار الأشراف في كوكبان، ثم من بعدهم في طبقاتهم، ثم الشرايف من الكبراء، ثم من بعدهم كذلك وأمر لهم الكسوة العظيمة عموماً لكل بما يليق به، وأعطاهم كذلك، وقرر لهم مقررات وتفقد أهل البيوت القديمة، وقد رأى (عليه السلام) من نظم هذا الأمير معالم دينه ودنياه ما راقه كثيراً، وازداد عنده قدره وانتشر في الآفاق ذكره، فإن هذا الأمير (أيده الله تعالى) من صغره معروف بمحبة القرآن، وملازمة درسه، وكان في أيام جده الأمير علي بن شمس الدين ووالده الأمير عبد الرب حليف القرآن والتقوى، وكانوا في أيامهم في تعب شديد ومحن كثيرة بمخالفة آبائه الحق وأهله.
ولما صار إليه الأمر قوم اعوجاج كوكبان، فكان يجمعهم كل غداة وعشية على القرآن والمذاكرة في العلم وتقريب أهلهما، فاستقام له ذلك، واستمر وصار الآن في كوكبان عيون من الفضلاء والسادة النجباء وسمعت غيره مرة من مولانا المؤيد بالله (عليه السلام) يذكر من ذلك تفصيلات كثيرة، جامعة لمحامد الجلال وشرايف الكمال ويحمد الله فيما بين ذلك يدعو للأمير المذكور.
نعم! وكان مولانا الإمام (عليه السلام) أكثر اطلاعاً على شرايف خلال الأمير المذكور لوصوله إلى حصنه هذه المرة[179/أ] ولمخالطته لهم الكرة بعد الكرة، وقد رأيت أنا هذا الأمير أيده الله، لو يبلغ به الحديث كل مبلغ لم يمنعه عن ملازمة ذكر الله، فلا يكاد يفتر لسانه عنه، وهو أهل لذلك، أحسن الله له الجزاء، وأمده من مثوبة بأوفر الأجر، وبعد عشرة أيام خرج الإمام (عليه السلام) إلى مدينة ثلاء، وكان فيما أحسب لم يعرفها قبلها، فزار السيد الفاضل الطاهر عز الدين محمد بن الهادي بن أمير المؤمنين يحيى بن حمزة بن رسول الله، ومن في تلك المواضع من أهل الفضل، وبات بها ليلة، وطلع الحصن المحروس بالله، وطافه وفي كلها يعطي الأجناد أرزاقهم، وساير المسلمين على طبقاتهم، وأنقذ الله به كثيراً من الضعفاء كما ستراه إن شاء الله تعالى في الفصل الذي وعدنا به، ثم خرج من ثلاء يوم السبت لعله [ ] فما شعر به أهل صنعاء إلا وهو في بابها، ودخل القصر في دون عشرة من الفرسان، وحصل مع الناس روعة عظيمة، فإنه كان يبلغهم أن الإمام (عليه السلام) قد عاد إلى ظفار من طريق ثلاء، وكان قد فسح لساداتنا الكرام إلى صنعاء، ولا علم للعامة بما أعدوا أيدهم الله من الضيافة وعرفوا من سر الإمام (عليه السلام) ما لا يعرفه أحد من الناس لا خاص ولا عام، وكان الإمام (عليه السلام) أراد أن يسلك إلى ضوران المحروس من طريق حضور بني شهاب للتخفيف عن أهل صنعاء، وأهل المروات فيما بلغني، فلم تطب نفوس أولاده الكرام بعدم زيارته أرحامه وضيافته في مواضعهم من صنعاء.
[وصول الإمام المتوكل على الله إلى صنعاء]
نعم! فلما سمع الناس بأن الإمام (عليه السلام) وصل صنعاء ماجت المدينة بمن فيها، حتى المخدرات شوقاً إلى رؤية طلعته وتيمناً بوصول ركابه فأقبل الناس إلى القصر يزدحمون كازدحام الهيم على حياضها، والجدايير على مائها، فلولا أنه أغلق باب القصر لهلك كثير من الضعفاء من شدة الزحام وقد حصل في بعضهم ضرر كبير أيضاً.
ثم فتحت الأبواب بعد ذلك ووفد الناس على طبقاتهم كل واحد وقدرته، وقد أخذ مولانا علي بن أمير المؤمنين (أيده الله) في تحصيل الضيافة والمساكن للإمام (عليه السلام) ولخاصته.
وكان للإمام (عليه السلام) عند مولانا علي منازل خاصة وبعض مملوكات ومواضع لأصحابه، ثم افتتح الضيافة الحافلة مولانا علي على نحو ما تقدم في كوكبان، ثم مولانا[179/ب] عز الإسلام محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين (أيده الله)، ثم مولانا أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، ثم مولانا الحسين بن أمير المؤمنين، ثم مولانا عز الدين محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين، وفي كل هذه الضيافات الحافلة، وأهل المسكنة كما سيأتي معه على نحو ما تقدم.
ومع هذه الضيافات السنية، والمجالس البهية، وتقادم الخيل المنتخبة، بما عليها من الحلي الفاخرة له (عليه السلام) ولولده عز الإسلام محمد بن أمير المؤمنين.
ثم افتتح الضيافات العيون من السادة والفقهاء، وكبار أهل صنعاء ثم خرج (عليه السلام) إلى الروضة المعمورة، وقد أعدوا له داراً عظيمة، وما فيها من الأعناب، كان إذ ذاك أول الخريف وتردد (عليه السلام) إلى صنعاء.
[خروج الإمام إلى حصن الدامغ]
ولما كان إلى قبيل الفجر يوم الأربعاء سادس وعشرين شهر شعبان سنة أربع وستين وألف [يوليو1653م] سار إلى معمور حصن الدامغ، ومدينة الحصين عمرهما الله بالتقوى.
ولم يشعر بمسيره من صنعاء إلا مولانا علي بن أمير المؤمنين، والخواص ممن عنده في القصر، وبعث مولانا علي بن أمير المؤمنين فارساً إلى مولانا عز الإسلام وصنوه (حفظهما الله) إلى الروضة، ثم إلى مولانا محمد بن الحسين، ومولانا محمد بن أحمد، فركبوا وساروا في أثره مغذين كل على قدرته، فأدركوه في بعض بلاد الروس من سنحان.
فلما رآهم استقام لهم ونزل وتحدث معهم قليلاً وودعوه وعادوا وقد عرفهم الوجه في اهتمامه وكتم أمره ووصل إلى الحصين آخر ذلك النهار، وكان (عليه السلام) أول من ظهر لأهل الدامغ والحصين.
نعم! والوجه في مسيره (عليه السلام) على هذه الصفة وما تقدم الرفق بأهل الطرقات والتخفيف عليهم، وليقتدي به من يلحق به من الأعيان وكبار الجند مع أنه (عليه السلام) جعل في مواضع الطرقات من يمنع عن الضيافة، وجعل ذلك من بيت المال ومما قيل في هذه الحركة الميمونة ……
[الجدب في بعض بلاد اليمن]
[180/أ]ذكر ما وقع من الجدب، كان ابتداء نقص بعض الثمار من عام تسع وخمسين وألف [1649م] وأكبرها في بلاد القبلة بلاد صعدة والشرفين وشهارة ونواحيهما، وصبيا وجهاتها، وفي عام ستين وألف ظهرت الجراد الكثيرة، وكانت في إحدى وستين [1650م] وفي اثنين وستين وألف [1651م] أكثر أيضاً.
ولقد رأينا وسمعنا من أهل الحصون والجبال المرتفعة في شعبان عام اثنين وستين وألف أن الأرض من الجراد كالركام، في السماء كالغمام، ولا يعرف أحد من أين ابتداؤها، فإنها تطلع من جميع الجهات كالدخان العظيم ومع ذلك لم تأكل شيئاً من الثمرة في الموضع الواحد، وقد تأكل الذي يليه حتى لا تترك منه شيئاً، وتأكل ثمرة وتترك أخرى، فإذا أكلت ثمرة البر والشعير تركت الذرة، وإذا أكلت نوعاً من الذرة كالغربة تركت الأنواع الأخرى منها، وفي مواضع تأكل جميع الثمار، وكان في البلاد مع الناس كثرة طعام فالأسعار لأجل ذلك متوسطة والقلوب مطمئنة، والجراد لم تزل تتزايد.
ولما كان عام ثلاث وستين وألف [1652م] انتشر الجذام وعظم في بلاد صعدة ونواحي قحطان وفي عام أربع وستين وألف [1653م] ارتفعت الأسعار في السهل والجبل وكان فيها شدائد هائلة.
مما أخبرني من يتردد إلى المخاء أنه اجتمع أهل الأسباب من تهامة إلى الحجاز وبلاد صعدة واليمن الأسفل وجهات عدن، وذكروا السعر واستوائه، وقد تشاكوا الغلاء الواقع في المخاء، وأن الطعام صار كالفلفل يكاد أن يباع بالميزان، وأخبر كل رجل عن جهته باستواء الأسعار حتى أن بعض أهل البيع والشراء ترك البيع والشراء في الطعام لعدم الفائدة وإنما كان الناس يرابحون باليسير من سوق إلى سوق.
[وصول قوم من بوادي البصرة إلى اليمن]
وفيها خرج قوم من بوادي البصرة يسمون [ ] وعليهم شارة جميلة وكثرة عدد في كثير من الخيل والإبل وغيرها، وعليهم رؤساء، وتقام لهم الأسواق في البيع والشراء بحيث أنهم يمنعون نفوسهم ممن تعرض لهم من أهل المشرق وأن قوماً أرادوا منعهم من رعي تلك الأطراف فأسروهم.
ثم منوا عليهم فهابهم أهل المشرق وبعد ذلك كثيراً وانقطع السفر بالملح من مارب نحو أربعة أشهر وبلغ القدح الصنعاني من الملح عشرة حروف ثم عادوا إلى بلادهم.
[غزو بلاد العصيمات]
ومن ذلك أن قوماً من بلاد العصيمات قطعوا السبيل وأخافوا طريق[180/ب] الفقمين فأمر الإمام (عليه السلام) وهو إذ ذاك في محروس أقر عسكراً لغزوهم مع النقيب المجاهد سرور بن عبد الله، فقتل منهم نفراً، وأخذ منهم أسراً، وأصيب النقيب المذكور بمزراق وعاد سالماً، ووضح للإمام (عليه السلام) أن الفاعل في قطع السبيل غيرهم فرد عليهم أموالهم، ودية قبيلتهم، واستوثق لأبناء السبيل من أهل الإدراك فيها، وأعطاهم المال، وتألف فيهم، ولقي الإمام (عليه السلام) شدائد من ذلك لما التاث به من أهل الحاجات في هذه السنين المذكورة كان في شهارة المحروسة بالله يصل العشاء بالغداء، وكثروا عليه، فهبط بهم بيت القابعي من أقر فكان كذلك وطلع ظفار، وكان كذلك يبلغ أهل المسكنة والضعف إلى الألوف وفي السودة كذلك، وكان يضرب لهم في بعضها المضارب الكبار رحمة لهم، وشفقة عليهم ويطلع مع ذلك على أقواتهم، وفي العيدين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال الفقيه الفاضل العالم محمد بن ناصر بن دغيش الغشمي: إنه حضر مع الإمام (عليه السلام) وهو في السودة في أيام عطاء المساكين الكسوة، هو على عادته يجعل للنساء مجلساً وباباً يخرجن منه بعد قبض كسوتهن.
قال: ولما حصل البز في منزل قد أعده لمن اجتمع في ذلك اليوم من النساء، وقد اجتمع منهن في ذلك اليوم ما يدنو من الألف، قال (عليه السلام) للأعوان: اذهبوا وأنا أعطيهن من يدي، وقد أمرهن بالستر مع أنه غالبهن.
فلما كثرن عليه وعرف أنه لا يقدر دعاني وأحسبه قال: وأخر من الفقهاء وأمرني بإعطاء من خرج من ذلك الباب وقال لنا: إياكم وأن تسألوا عن المحافظة في الصلاة وغير المحافظة، فكنا كذلمك حتى توسطت امرأة من بدو المشرق كغيرها في الستر غير أنها رفعت صوتها مخاطبة النساء: يا كذا من الكذب تكذبن على الإمام إنكن مصليات، وأنتن غير مصليات، ثم قالت: أما أنا فلا أكذب مثلهن أنا لا أعرف الصلاة، وأكثرت من ذلك.
قال: فأمره الإمام (عليه السلام) ألا يعطيها شيئاً، وسألها التوبة من ترك الصلاة، فازدادت بعداً وإصراراً، وأمر الإمام (عليه السلام) أيضاً بأن يلطف بها وأن ترغب لعلها ترجع عن إقرارها فأصرت وبعدت كثيراً، فأمر الإمام (عليه السلام) بربطها إلى جدار، والشدة عليها، ويسألها التوبة فازدادت نفوراً.
قال: وشق بالإمام (عليه السلام) ربطها وإطلاقها، فاحتال سيدنا القاضي العلامة صفي الدين أحمد بن سعد الدين (أيده الله) بأن سعى إلى بعض أهل البيوت أن يجعلوا من نسائهم من يضمن عليها، ففعلوا وعلموها الصلاة وأطلقت.
وذكرنا هذه لما يترتب عليها من الأحكام في مثل ذلك[181/أ] منها جواز جمع النساء لحوائجهن ومباشرة إعطائهن، ومنها حمل الناس على ظواهرهم.
وقول الإمام (عليه السلام) لا تسألوهن عن الصلاة لئلا يبدو المكروه كما وقع وغير ذلك من الفوائد التي لا تخفى.
وفي أول عام أربع وستين وألف [1653م] خرج بعض بلاد قحطان وخولان وما إليهما من بلادهم إلى اليمن، والتاث بالإمام (عليه السلام) منهم ما لا يذكر على جهة العدد والتحقيق لكثرتهم] ، وكان (عليه السلام) يتفقدهم بنفسه ويؤثرهم والأضعف والأضعف ويطلب الطعام من الجهات المبتعدة.
وأخبرني بعضهم أنه رأى الإمام (عليه السلام) يبكي حيث رأى قصوراً عن كفايتهم مع العدم، وفي كثير يترك القوت بنفسه ومن يخصه ويحمله إليهم وقد سبق مثل ذلك لوالده وأخيه (قدس الله روحهما)، وإن كانت هذه أكثر عدداً وأطول أمداً، وكانت هذه الشديدة مما حرك الإمام (عليه السلام) إلى جهات ضوران، فإن الجمال ضعفت، وضعف أهلها وإذا تكلف أهل جهة من البلاد البعيدة على قافلة من الطعام هلك نحو من نصف الجمال ويتضرر لذلك أهلها والكِرى ، مع ذلك يبلغ قدر ثمن الجمل وبلغ ثمن العلف في صنعاء وذمار وهما محل العلف وأوسع البلاد لما فيهما من الغيول والآبار، وما أحدثه الله فيهما من الأنهار الأخيرة الحمل التبن بستة حروف وثمانية حروف، ومن القصب الحزمة التي تحيط بها الأبهامات عشرة كبار، وتسعة كبار، وقال بعضهم: إنه شرى ذلك باثني عشر كبيراً يأتي أكثر من درهمين، فسار الإمام (عليه السلام) لهذه الأسباب كما تقدم وطوائف أهل الشام وساير المساكين معه، ويرصدهم الكتاب للعشاء، ثم غيرهم للغذاء وهو يوزع لهم النفقة، ويؤثرهم كما تقدم، فلا يكاد يصل إليه في أوقات الطعام أحد لكثرتهم في مواضعه الشريفة.
[وصول الإمام إلى محروس الدامغ]
نعم، ووصل إلى محروس الدامغ من جهة القبلة والحال هذه، ثم استقبل عموم الشدة والحاجة مع أهل بلاد ضوران والمغارب، ووصله كبارهم بالضيف والنذور والهدايا، وامتلأ الحصين وما حوله، وغص كل موضع بمن فيه، وكلهم يطلبون المواساة والقرضة، وكان في الحصن المحروس بالله بقية من الطعام من أيام مولانا الحسن ومولانا الحسين (رحمة الله عليهما)، فأعطى أهل البيوتات القديمة وأهل الحاجات الماسة وأقرض، وكان حول هذه المدافن ما لا يحصى من الدواب والجمال مع الرجال والنسوان حتى كمل ذلك الطعام[181/ب] وأقرض من حضر من ثلاء، ومن حيث يوجد الطعام من سائر البلاد، فاستقامت الرعايا، ورحمهم الله سبحانه وتعالى بقدومه عليهم، وعمرت الأسواق والأماكن وأكل الضعيف مع القوي، والنفقات تزداد فيهم، وفي سائر الطبقات ولا يكاد يمر أحد في شوارع المدينة وما قرب من مساكنه (عليه السلام) لكثرة الضعفاء وتراصفهم، وقد جعل (عليه السلام) للنساء جانباً، وللرجال كذلك، ولكل طائفة أمناء وأعواناً يفرقون فيهم العشاء والغداء، فيجعل للنساء وقتين في النهار ويأمر بخروجهن عن المحطة إلى كهوف مبتعدة، وقل ليل لا يخرج بنفسه الكريمة يتحمل كثيراً من الطعام، ويخص به من يرى عليه الضعف الشديد أو الحياء لدخوله فيما لا يعتاده، ووجد كثيرون كذلك، وقد يغير صفة ملبوسه الطاهر فيكون في جملة أعوانه.
كما أخبرني به من اطلع عليه، فكان كذلك حتى أنه وصل أول الثمار في أول عام خمس وستين وألف [1654م] وكانت الثمار مضطربة من النقص إلى الانقطاع في غالب جهة البلاد، إلا بطن اليمن الأسفل، فإن الله سبحانه حفظ ثمارهم وبارك فيها، وقد ارتفعت الأسعار في أيام الصريم حتى فرج الله سبحانه وتعالى.
نعم! وفي شهر رمضان الكريم ازدادت الحاجة إلى النفقات فازداد الإمام تفقداً لهم، وتحنناً عليهم، ولما كان عيد الإفطار، وصله أهل العوايد للكسوة مع من تقدم من الضعفاء، فأخبرني من يلازم خدمة مخروج البزان الذي أخرجه من وصوله إلى يوم العيد مائة حمل بز من المخزان من غير الحوالات إلى صنعاء وشهارة المحروسة بالله، والسودة والهجر مما أظن أنها تبلغ مثل ذلك كذلك.
[وصول العالم أحمد بن سعادات إلى الإمام قادماً من الهند]
وفي هذا الشهر وصل السيد العالم الكامل أحمد بن سعادات الحسين المتقدم ذكره بالوصول إلى الإمام (عليه السلام) عام تسع وخمسين وألف [1649م] وأخبر أنه سار من عند ملك الهند إلى ملك الروم، وأخبر عن صاحب الروم بانتثار نظام ملكه وخراب جوانبه مع الجور المخالف لعادتهم، وإن كان لهم صفة لازمة [……………] .
ثم لما وصل إلى الإمام عليه السلام عظَّمه كثيراً وأعطاه كذلك، ثم سار إلى الهند، ويروى عن هذا السيد المذكور الكمال ومعرفة لأمور الناس لا سيما ملوكهم، ولا يصف الواصف ما ظهر على ألسنة الناس ثنائية على الإمام عليه السلام وعلى بلاده فإنها معمورة بالعدل مشحونة بأهل الفضل[182/أ] وهي كذلك وفوق ذلك، والحمد لله كثيراً.
ومما سمعت في عام اثنين وخمسين وألف [1642م] في منى المحروسة بالله وقد ارتفعت جبلاً أعلى مسجد الحيف إلى جهة المغرب لإعادة الاعتبار في الجمع العظيم، وما هنالك من الآيات، وعندي خادم بيده أدواة ماء، فتوضأت للظهر، ووجدت صخرة لها ظل، وكان ذلك أول وقت الزوال، فإذا عندها أربعة من أجناس الأمم يتكلفون النطق بالعربية، فسألتهم قال أحدهم: إنه بصري، وكأنه رومي ساكن في البصرة، والآخر فيما أحسب جزائري، والآخر تكروري، وآخر حبشي، فسمعتهم يتحدثون، وقد سأل كل واحد منهم الآخر فكل يصف جوراً في بلادهم بما لا أقدر أضبط تفصيله، فقال الحبشي: لا أعرف في الأرض مثل بلد الشريف صاحب اليمن، فإني سرت فيها شهرين كاملين لا أسمع لهم حديثاً إلا بالشرع الشريف أعزه الله تعالى، والرجوع إليه، فكلهم قال ونحن نسمع كذلك وأثنوا على اليمن كثيراً وفريضة العدل والعمل بالشريعة الغراء لا كلام في حسنة عقلاء، وإنما أردت أن العدل والإنصاف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يثني عليها من لا يعرفها والله الموفق، ونسأله نشر دينه الشريف، ومعالمه المصونة عن التحريف، إنه هو الخبير اللطيف.
وفي شهر شعبان سنة أربع وخمسين وألف [1949م]، وصل إلى الإمام الشيخ الفاضل العالم الكامل، السايح في الأقطار المتطلع بفنون العلم الكبار، أحمد بن أحمد اللساني القيرواني المالكي وقد عاد من بلاد الهند، وكان قد مضى العام الذي قبله في اليمن، وكان هذا الشيخ دأبه السياحة في الأقطار، ويحمل من كتبه القليل، ويستعير في كل قطر ويشتري قدر حاجته، فإذا سار إلى قطر آخر باعها، وله أخبار في ذلك حسنة.
قال القاضي العلامة صفي الدين أحمد بن صالح بن محمد بن أبي الرجال (أطال الله بقاه) في صفة هذا الشيخ ما سيأتي إن شاء الله في الفصل الآتي قريباً الذي يتضمن عبراً وآيات ما سنراه إن شاء الله.
[فضائل وكرامات الإمام المتوكل على الله إسماعيل]
فصل يتضمن فضائل وكرامات، وعبر وآيات مما يتعلق بأيام إمامنا صلوات الله عليه من ذلك ما أخبرني به القاضي العلامة شمس الدين وخلف السلف الراشدين، أحمد بن صالح بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال (أطال الله بعمره) مكاتبة بما هذا لفظه بعد حذف طرة الكتاب: وكتاب مولاي جعلت فداه، وصل وأنا في أثناء الطريق[182/ب] متوجهاً للقاء الوالد وكان لذلك الكتاب أعظم موقع ولما اشتمل عليه من الإحسان أنسب مقام لا أخلى الله عنكم، وجزاكم الله خيراً، واستطلعتم من الداعي لكم خيراً عن شيخه الشيخ السايح العالم النحرير أحمد بن أحمد اللساني القيرواني المالكي، ومتى كان دخوله اليمن ونبذة من صفاته، فالمذكور أبقاكم الله أعجوبة العجائب ولسانه من أغرب اللسان والغرائب، فإنه أسير في الآفاق من مثل شعراً:
لا يستقر بأرض أو يسير إلى .... أخرى بشخص قريب شخصه ناء
يوماً بحزوى ويوماً بالعقيق ويو .... ماً بالعذيب ويوماً بالخليصاء
وتارة بنينوى سلعاً وآونة .... شعب الحزون وحيناً قصر تيماء
فهو أشبه بالسايح الهروي المشهور وأصل اجتماعنا به أني حججت في عام ثلاث وخمسين وألف [1643م] مدة إمامنا المؤيد بالله سلام الله عليه فرأيته لمحة بالقرب من عرفات وهو يمعن النظر في فعجبت لإشخاصة كثيراً، وهو مع ذلك كالمبتسم إليً فقلت في نفسي: أظن هذا الرجل يحييني لما رأيت من بشره، ثم قفلنا فكان في شهر شعبان من سنة أربع وخمسين وألف [1644م] وبلغني قدوم رجل متفقة إلى صنعاء فاجتمعنا به فسألني ما اسمي واسم أبي وقبيلتي؟ ثم سألته عن ذلك! فأخبرني أنه من أولاد أبان بن عثمان بن عفان، ثم قرأنا شفاء القاضي عياض بإملائي وهو يسمع وشهدنا عنده من الأعيان كالقاضي عبد الرحمن الحيمي، وكان يقول لي: إنه قرأ الشفاء على أربعة كلهم شرحوه، وكان يتكلم من حفظه بأقوال العلماء ويجاري المجارة الحسنة وإذا أعوزته المسألة استمهل ويكون في المجلس الثاني ويملي إملاءً عظيماً منسوباً إلى أمهات، ومع ذلك لا نرى له كتاباً في الحضرة على العهود.
فلما نزل إلى تعز العدنية غضب على والي خزانه الغسانيين، وقال له: أمد الطلبة بالكتب، وأما أنا فإن افتقرت إلى كتاب لم احتج إلى طلبك بل استمده من محال آخر، أفهم إنه يستمده من مقام نشأته، وهو مصر، وبلغني هذا عنه ولم أسمعه.
وكان في مقام الإملاء يكشف الفراس، وينظر كثيراً ثم يقطب وجهه لا يعرف وجه ذلك، فمكث عندنا شهر رمضان، وحضرت صنعاء وهو فيها.
وارتحل في شوال إلى عدن ولبث بها حتى حضرها سيدي صفي الإسلام أحمد بن الحسن (حفظه الله)، وهو هنالك.
ثم دخل الهند، وأناله سلطان الهند مالاً فمنع كما بلغنا لأنه صحبه بعض الطلبة، ويقال إنه قبض منه سبحة من جوهر ومصحفاً وعبداً كلها ثمينة، ثم رحل بغداد واستقر بها أياما ، فطالبه الباشا[183/أ] هنالك أن يعلمه الكيمياء فاستعفاه فلم يعفه فخرج منها خائفاً يترقب، وترك ما ناله في رحلته من كتب وغيرها، فأخذها الباشا، ثم جال على عادته إلى سنة أربع وستين وألف [1653م] وقدم إلى حضرة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى بلد السودة وقد اسود لونه، وابيض شعره، فاتفق بالإمام (عليه السلام)، وأعطى الإمام قصيدة رائعة فيها وصف حاله، وأنه أضناه السفر، وأوهنه دوار برأسه فأعطاه الإمام (أيده الله) عشرة قروش من الحضرة ، وقال له: اخرج حتى نطلبك فخرج والإمام لا يعرفه، مع أنه مرتسم في ذهن المولى حماه الله من لساني، فأتى إلى الفقيه العلامة علي بن مرجان الشافعي شيخي في (تفسير الديبع) والعلاقة التي عرفت علي بن مرجان بخلطتي بالشيخ فقال لي: الشيخ أحمد هنا مريض مهيض، وأنا إذ ذاك منقطع بمحلي من عارض قد بلغكم، وقد تفضل الله بزواله وهو إسهال أظنه صفراوياً فوعدني الشيخ بالوصول إلي، وقلت: أنا أصل إليه أنه [يشق لي] للضعف وبعد محله، فإنه في أقصى المدينة، وأنا عند الإمام (عليه السلام) في ساحته فقال: لعلي بن مرجان لا ينزل فلان إلى سآتيه إن شاء الله، وأصحبه إلى الإمام (حفظه الله)، فأخبرت الإمام بوصوله، وقال: نعم قدم إلينا رجل أعطانا قصيدة، وقيل لنا إنه من أهل العلم، ولعله هو.
قال بعض أهل الحضرة: هو هو قطعاً فقال لعبد يسمى صبح من عبيد سيدي أحمد بن أمير المؤمنين (رحمه الله) كان من عيون عبيده: يا صبح هذا الشيخ عهدتك لكل ما يحتاج، وأرسل إليه نفراً عظيما، وطلبه الشيخ أدوية، فأرسلها إليه، ثم طلبه الشيخ بغلة، فأرسلها إليه وظن المولى أنه سيتودع فوصلته البغلة وتوجه صنعاء.
ولم يشعر الإمام (عليه السلام) إلا في أخريات يوم عزم، وكذلك أنا لم أشعر إلا في ذلك المقام، وقال الإمام (عليه السلام): لعل الشيخ فلاناً يعزم بكرة، فقلت: ما سمعت فقال صبح المذكور: قد عزم فأمرني الإمام (حفظه الله) أن أكتب إليه عنه كتاباً وأرسل إليه بتسعين حرفاً وملكه البغلة، وقال: ينتفع بالتسعين ثم يعود ولم يعد جواب ذلك الكتاب إلا بعد أن بلغني موته في صنعاء والحمد لله على كل حال.
وكان هذا الشيخ من أهل الذكاء العظيم وشهامة النفس، وكان يذاكر في سبعة عشر علماً، منها: الحكمة والمنطق، والتشبيه، والخبر، والمقابلة، والطب، وله فيه تصنيف، والرمل، وعلم الحرف، دار بيني وبينه ما يفهم أنه من أئمته والمتقنين له، وله شرح على المدخل في (المعاني والبيان) ومن أعجب ما سمعته عنه وقت القراءة أن في النيار نور يخرج[183/ب] مكتوباً عليه بقلم القدرة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ودخل ديار بكر وتنقل في المغرب حتى ألم بجمهوره ودخل الأندلس ودخل فاس ومالقة، وسهيلة.
وأما بلدة القيروان فليس مما نعده عنده رحلة، ودخل القسطنطينية، ودخل أصفهان وبلاد خراسان، والجيل والديلم واتفق بواليها، وهو شاب حدث ودخل إلى حلب كرَّات ، وبغداد كرَّات أيضاً، وحج نحو أربع سنين، وزار نحو ثلاث، وبالجملة فجولاته عجيبة.
وقال لي: إنما تجنبت اليمن لظني أن علمهم وقواعدهم لا تلائمني، فسمعت رجلاً في الحرم يقول مقدمة لا تسع المقلد جهلها، ويدرس إلى آخر المقدمة فعجبت من هذا الكلام العجيب، وقلت له: من أين أنت؟ قال: من صنعاء.
قلت: وهذا الكتاب ما هو؟ قال: الأزهار.
قلت: من مؤلفه؟ قال: الإمام المهدي (عليه السلام).
قلت: وهل هذا العلم ظاهر بصنعاء؟ قال: أجل وكل فن فتشوقت كثيراً، ولم تزل صنعاء ملئ قلبه وعينه بعد دخولها حتى عاد إليها، ومات بها، والحمد لله رب العالمين على كل حال.
وعنه روايات في ترحاله لا تسعها هذه البطاقة، وقد كتبت على استعجال، ومزاحمة بأعمال، وكان موته نهار السبت الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة أربع وستين وألف [مايو 1653م] وما سألتم عنه من المخزومتين القرشيتين قضية تحقيق نبذة في هذه الورقة فإنه لم يحضرني عند الرقم غيرها وخشيت أن ضيعت ساعة الرقم أن أتعوق عن الكتاب.
قضية المخزوميتين من قريش
من روايته الموعود بها قال في كتابه: نعم ! أنعم الله عليكم ذكرتم أن سيدي عز الإسلام محمد بن مطهر حكى عني شيئاً رويته عن الأفق الشرقي، وإن فيه طائفة واسعة من قريش قد سمعني أصفهم، فالأمر كما وصف لكم سيدي محمد، أول ما سمعت ذكرهم بصعدة عند وصول الشيخ يحيى الحسايي بكتب الباشا، والي الحساء إلى الإمام المؤيد بالله (رضوان الله عليه)، فإن الشيخ يحيى تعوق بصعدة عند رجوعه أياماً وسبب ذلك أنه بلغه أن آل خالد خرجوا نحو ألف فارس عراة إلى أطراف نجران، فخاف منهم، ولم يزل مرتسماً ببالي، حتى كان في شهر رمضان في سنة غاب عني ماهي، وجمعنا حي الأمير الأكرم الرئيس ياسين بن الحسن (رحمه الله) في دار بصعدة للإفطار، وجمع أعيان الفقهاء، وأخذ يحدثهم عن أحوال المذكورين فوصف كل عجيب، وظل ببالي من حديثه ولم ينفك عن خاطري حديث رواه عن صاحب له أعني للأمير ياسين سمى ذلك الرجل مضمون.
قال الأمير: إن هذا المسمى بمضمون من أعيان أهل الدواسر [184/أ] ومحله يجمع ثمانين فارساً.
قال الأمير: فقلت له أخبرني يا فلان بغريب، فقال: إن أعجب ما اتفق معنا أنا كنا مقيمين في فلاة تضرب بخيلنا نتبع الكلأ، وكنا لا نظن غريباً يطمع في سرحنا، إلا بوجه السرق من المرعى، فكنا ذات يوم نطوف على المرعى وعندي ثمانية من الفرسان، وإذا قد أشرف علينا رجل على فرس، ساقاها ساقا نعامة، وأيطلاها أيطلا ظبي، نحيلة ليس عليها شيء من اللحم، قال: فتبعناه، فلم نر إلا عثيره ، وكأنه يطير بين السماء والأرض، ثم رجعنا والتقينا، فكأنه لم يرم عنا بل هو أدنى إلينا من الظل فعطفنا الخيل فرأينا عثير الفرس وهو يسبق الطرف.
قال: فقلت لأصحابي هذا عين قوم اذهب يا فلان قل للسكان يركبون، والمال يجمع، ونحن نتبع هذا الفارس إلى غايته، قال، فتبعناه، فأشرفنا على نحو خمسمائة فارس كأنهم الليل الدامس، قال: فقلت في نفسي هذا العين لهذا القوم، قال: فلم يكن إلا ريثما أدركونا وأسرعوا إلينا، فتلقيناهم وتكاثرت جماعتنا، ودار الطعن، فكان أشدهم لنا نكاية ذلك الرجل الذي أشرف علينا أولاً.
قال لي أصحابي: اكفنا شر هذا الرجل، ونحن نكفيك شر هؤلاء وإن كثروا، قال: وأنا أرمي بالحربة رمياً ما أكاد أخطي الرمية، فانفردت له فأدرك ذلك مني، فتثاقل لي، وعض لجام فرسه حتى قربت، وأرسلت الحربة فأقمت شاكله الفرس، فأرخى يده إلى هنالك وقبض تحت السنان، فلم تصل الحربة إلى الفرس، ثم هز الحربة وقال شعراً:
مولع بطراد الخيل من قبل الوعد .... فارس آل خال أسعد
والتفت إلى عمي وهو رئيسنا وقد علم ذلك بشاهد الحال فرماه بالحربة حتى فلق صدره، وقال هذا فعل الرجال.
قال: فسقط في يدي، وعلمت أنه أسعد المشهور فارس آل خالد، فقلت: اجعلني في حسبك، فقال: قد وهبت لك نفسك يا مضمون أنت ومالك مضمون، فانقلبت إلى المحل أخرجت ثلث المال، وقلت: هو مالي وأعطيناه ومن معه الثلثين، ودار ذكرهم بأكثر من هذا.
ثم لم يزل ذكرهم يتجدد عندي ونسبهم وأنهم من بني مخزوم، وأن خالد المذكور خالد بن الوليد، حتى كان في بعض السنين وأنا مقيم بهجر المكردم، ولي هنالك حلال، فبلغني وصول رجل حسن الشارة جميل الأبهة، معه أثقال واسعة، فتوثقت إليه، ولم أتعرض له بذكر، فأعوزه تحصيل الجمال فقيل له: لو أرسلت إلى فلان ليوجه من يعينك، فأرسل إلي بورقة لطيفة بقلم حسن، وعبارة أعذب من الماء الزلال، ووصف فيها حاجته إلى المعاونة، وأنه[184/ب] بعيد الشقة متحمل لهدية من حيد رنبق-بالقاف المثناة بنقطتين من فوق- ومحمد باشا من أهل الأحساء، فأجبته، ولم أحقق اسمه، بل سميته باسم قد غاب عني غفلة مني، وفعلت ما يتوجه، وعزمته للضيافة فكتب إلي رقعة أخرى على عنوانها:
وما الكتب إلا كالضيوف وحقها .... بأن تتلقى بالقبول وأن تقرأ
كأنه وهم أنه ما تأملت كتابه.
ثم اجتمعنا فرأيت سيداً حسناً، عذب الناشئة عزيز الحفظ للأدبيات محسن الشعر غاية الإحسان، واسمه عبد القادر بن نعمة الله من بني حسن من أهل مكة، فدارت بيننا كؤوس المذاكرات والمحاورات الأدبية حسب الحال فوصف لي عجائب منها شهرة نسب هؤلاء المخزوميين، وعلو صيتهم، وأن من خصائصهم أن لا يرأسوا إلا رأساً واحداً، فهم لا يغلبون لاجتماع كلمتهم، وكثرة عددهم، فإن خيلهم على ما وصف هو أو الأمير ياسين قد فات من بالي نحو ثمانية آلاف، وحديث المخبرين متوافق.
قالوا: إن سلطان الروم وغيره من السلاطين بها دونهم تغطية لشحهم وقد سموا لي الشيخ وفات عن ذهني، وقال لي السيد عبد القادر: هل سمعت بالشيخ اللاحجي اليماني الذي خرج من اليمن سائحاً؟ فقلت: نعم.
قال: وفد إلينا إلى الإحساء، ثم دخل عند هذا المخزومي، فكان يزيد في إكرامه لما هو عليه من السداد، فقال اللاحجي يوماً: يا فلان اعطني جملاً أركب عليه الآن إلى مكة، فقال له المخزومي: هذه متألف ومضامي، ومعامي، على غير ذي الخبرة، أخاف أن يتلف، فقال: اعطني الجمل وعداك اللوم، فأعطاه وزوده، ثم ترحل، ولبث الجمل نحو ثلاثة أيام وجاء وحده ليس عليه راكب، والله أعلم ما كان آخر اللاحجي.
قلت: وهذا اللاحجي اسمه الفقيه أحمد بن عبد الرحمن بن محمد اللاحجي من بيت علم وفضل والدته ابنة سيدنا الإمام الزاهد نجم الدين يوسف بن علي الحماطي (رحمه الله) تعلق هذا الفقيه بالعلم والزهادة، وجمع بينهما، وتحلى بالعبادة فأدركه لنشف ذلك واجتماعه عليه خفة، وهو على حاله الأول معها، ويذكر له كرامات كثيرة والله أعلم.
رجعنا إلى كتاب القاضي:
ثم اتفقت بعد هذا بالحسن بن صدري، والحسين بن صدري، ولاة القطيف ، وفدوا إلى الإمام (عليه السلام)، وعلقوا بمحبتكم علقه بحيث أنهم لم يفارقوا المقام إلا نادراً، فوصفوا أعاجيب واستقصيت منهم أخبار هؤلاء، ولم يخالفوا ما سبق ذكره فسبحان الواسع لخلقه.
نكتة: من عجيب ما حكى لي السيد عبد القادر (رحمه الله) أن هنالك قبيلتين لم أعرف[185/أ] اسميهما، ولا سماهما لي قال: وكانت إحداهما قوية والأخرى ضعيفة، ويتجمعون معاً، ويتبوأون المتبوأ والمنزل معاً، فاتفق أن رجلاً من قبيلة ثالثة غيرهما استجار برجل من القبيلة الضعيفة ولم يزل في جواره، حتى كان من أخي شيخ القبيلة القوية أن خفر حرمة ذلك، وآذى الجار، فشكى الجار على صاحب جواره، فصبر حتى ارتحلوا من ذلك المحل إلى مكان آخر، فكان كل من الناس يختار له منزلاً، والرجل الذي كان عنده طول لفرسه في مرج ورعاها، وهي بأهبة الحرب حتى مر أخو الشيخ الذي خفر الجوار، فقال له: يا فلان، قم فاختر لنفسك منزلاً، فقال: قف، فاستوقفه حتى ركب، ثم قال له: تأهب لنفسك، وحمل عليه فطعنه فقتله، ثم مضى إلى القبيلة، وقال: يا قوم قد أتيتكم بالفاقرة ، قد قتلت فلاناً.
قال: فاجتمعت تلك القبيلة إلى سفح الجبل، وهاجت القبيلة القوية للشر، فقام الشيخ أخو المقتول وقال: يا بني فلان من تقدم قبل أو مضى إلى آل فلان قبل أن أقول لكم فأنا منه بريء، ثم توجه، فقامت تلك القبيلة في وجهه فسكنهم حتى وصل.
قال: يا بني فلان نحن أخوة، وإن فلاناً أخي قد أذى جار فلان أخيكم، وإن أخاكم قد قام بما هو للجار حق يتواصى به، فالله يبيض وجهه، وقد عفوت عن الدم، فإن أخاكم لم يفعل إلا فعل الكرام، فقد أسقطت دمه، وجمعت كلمتكم فاتفقوا كما كانوا.
[ ] الولد محمد عن القاضي (أيده الله) عن الأمير ياسين بن الحسن (رحمه الله) من أخبار بلاد رمل عالج المشهورة وهي التي ذكر فيها الواقعة التي تقدمت أنهم لا يهتدون لطريق الرمل إلا بتقديم جمل ليدلهم مما قد عرف الطريق مراراً، وأن اثنين منهم من أهل الخفة طلبوا الصيد في بعضها فرأوا في أعلى هضبة من الرمل كالشاة أو نحوها فطمعوا فيها بأنه صيد فثارت عليهما فإذا هي عقرب بصفاته المعروفة غير أنها كبيرة كالعنز فما وجدوا لها غير الهرب منها وطال بهما الهرب وبها الطلب فكادت تظفر بأحدهما وبقي في الآخر بعض قوة فحال بينها وبين أخيه فقصدته وتركت الأول وهو الذي أراد بالحيلولة بينها وبين أخيه فأخذ في الهرب وطال عليه فسقط لوجهه وأنس في نفسه فالتفت إليها فإذا هي مثله قد سقطت فقام ونجا وبقي صوته مدة لا يسمع لما لحقه من تكابد النفس.
وأخبر أيضاً عنهما أو عن غيرهما أنهما رأيا في شعب من ذلك الرمل حيواناً بسيطاً كالبساط الكبير العريض يمشي[185/ب]على بطنه.
وأخبر أيضاً أن رجلين منهم عديا على خصم لهما ليقتلاه، فقال لهما: الله جاري منكما ورفيقي، فكف أحدهما عنه، وطعنه الآخر فقتله، ثم مضيا وناما في بعض الرمل فانتبه الذي لم يقتل فلم يجد رفيقه، ووجد سلاحه في موضعه، وكانت ليلة قمراء، والتفت هل يراه فرأى خطاً كبيراً في الرمل كخط الحسنة الكبيرة، فقفا ذلك فوجد رفيقه وقد ألوى عليه ثعبان كأنما هو الحسنة الكبيرة، وهو قابض على وسطه بذنبه، فرمى الثعبان ذلك الرجل ليدفع عن رفيقه شيء فدخل به مغارة، وقد تعرض فيها الرجل فكسره نصفين، فسبحان العزيز جاره القوي سلطانه الحافظ لخلقه.
[وصف قصر غمدان]
أخرى من صفة قصر غمدان البون من بلاد صنعاء وهو معروف جرثومته كغيرها من العمائر الحميرية.
أخبرني من شهد ذلك وهو الفقيه أحمد بن محمد العلفي بعد أن سمعنا من غيره جملة لما سيأتي من خبره أن قدر مساحة كل ربع أربعون ذراعاً، فيكون الجميع مائة وستين ذراعاً، وكان الباشا سنان (لا رحمه الله) في أواخر أيام الأمراء من أولاد السيد الأشهر والملك المظفر المطهر بن الإمام شرف الدين (نفع الله به) عمر المدينة المذكورة وأخذ أعلى القصر وما قدر عليه من الحجارة وعمّر بها سور المدينة.
ولما كان في أول عام سبع وستين وألف [1656م] أراد مولانا محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين أن يحفر ذلك الجرثوم وينتفع به في مخازين لبيت المال وغيرها في ذلك المحل، فانتهى في الحفر إلى قصر في باطن القصر بمعنى أن الصغير في باطن الكبير، وهو أصغر منه بقدر ربعه تقريباً، ووجد عمارته بحجر محكوكة كالعمائر الحميرية. غير أنها مرصوصة بعضها في بعض بالنحاس الذي لم يبق إلا أثره، ولا باب لها فيدخلون إليه إنما الحجارة محيطة بالقصر ولا يوجد فيها محل الإبرة، وكان قد أزاحوا ما حوله من الحجارة والتراب، ثم أنهم فتحوه بالفرص بأيدي المحكمين من أهل قطاعة الحجرة، فأطلوا على قواطع من جنس تلك الحجارة على مقطعة على أربعة أذرع وخمسة وأكثر صفة منازل ولا باب لها إلا لمن صعد بالمعاريج الطوال وكانت مملوءة تراباً وحجارة فلما أخرجوها لم يجدوا فيها نفعاً لعدم القدرة على ثقب أبوابها، فأمر مولانا محمد المفرصين بتقطيع الحجارة التي تحيط بهذه المنازل التي لا أبواب لها ويتركون ما يمكن الانتفاع به فأخرجوا من هذه الحجارة ما يعسر ضبطه ويقدر قدره[186/أ]، والحجارة هذه المعمور بها [في] باطن الأرض والمعمور بها باطن القصر طول كل حجر منها عشرة أذرع وأكثر، واستمرت العمارة بعد ذلك في هذا القصر وحجارتها منه فسبحان القديم سلطانه، المتعالي شأنه، الباقي خلقه بما لا نهاية لبقائه، وأحمده كثيراً وأكبره تكبيراً، وأسبحه بكرة وأصيلاً، وأصلي وأسلم على المبعوث بالحق بشيراً ونذيراً، وعلى آله الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً أبد الآبدين، ودهر الداهرين، انتهى.
[قصة الإفرنج وما أحدثوا من مشاكل في سواحل اليمن]
قصة الإفرنج وما أحدثوا مع بعض الحجاج من اليمن في البحر الذي ما بين حلي بن يعقوب والقنفذة في رابع وعشرين شهر ذي القعدة سنة ستين وألف [1650م]، وذلك أنه خرج أنفار من الإفرنج في قلياطه شبه الغراب الذي هو أصغر من المركب، إلا أنها أحسن صنعة منه وأخف في السير، وكثير ما يستعملها الإفرنج للحرب وكان هؤلاء المذكورون كما أخبرنا بعض أهل مكة من مماليك الباشا المتولي سواكن، وما إليها من الحبشة، وأنهم غلبوا على هذه القلياطة، وجعلوا يقطعون السبل عليها في البحر.
ولما كان في التاريخ المتقدم ذكره، وافوا جماعة في ذلك المحل من أهل بلاد الشرف وتجار من صنعاء منهم: أبو القاسم، السكرده، والعنبري، والشيخ حسين قلعس الأهنومي، وجماعة كثيرين، وكان الإفرنج يستمدون من كل جلبة تمر عليهم من الزاد ما يكفيهم مدة ومن سائر الأمتعة والماء كذلك، وكان الحجاج المذكورون راكبين في جلبة لرجل من أهل جازان يسمى أحمد نامس، وكانوا مائة نفر، وتسعة أنفار لا سلاح معهم.
وكان الإفرنج خمسة وسبعون نفراً، وقيل: أقل، فلما بصروا بأهل الجلبة قصدوهم بالقلياطة ونادوهم: اعطونا مثل ما أعطانا أصحابكم من القوت والماء، فغلبهم الشح، وخاف أهل الأموال على أموالهم أنهم إذا رخصوا بأداء شيء ينالوا غيره من المال، فامتنعوا من التسليم إليهم.
فلما يئس الإفرنج عن إعطائهم ما طلبوا رموهم بالبنادق فأصابوا جماعة، واضطرب الحال بأهل الجلبة وتغيرت صنعتها، واضطرب عمالها من الفزع، ووصلهم الإفرنج بالقلياطة فدخلوا الجلبة وقد قتلوا كثيراً من أهلها بالرمي بالبنادق ولم يقم أحد لدفاعهم لعدم السلاح فاستولوا عليها، وقتلوا من وجدوا، وألقى نفسه في البحر كثيرون، وقبضوا الربان الذي عليه أعمال الجلبة، وكان وقع فيه صايبة، فبادر له بالأدوية فحصل البرد ، وأخبر أحمد نامس صاحبها أنهم لما دخلوا الجلبة[186/ب] رأى أحدهم يتأوه على ما وقع ويقول: أترى هذا مليحاً مما يفهم أن لو أعطيتمونا اليسير لرضينا به، وأخذوا من الجلبة ما وجدوه من الزاد والدراهم، ومضوا.
وكان السيد المقام عز الدين محمد بن صلاح بن هادي النعمي، والحاج سرور بن عبد الله شلبي ومن معهما من حاج اليمن في حلي بن يعقوب، فسار الحاج سرور إلى الدجرية، وأمر بمن قذفه البحر من المقتولين أن يدفنوا هنالك.
ثم قدم إلى القنفذة ووجد الجلبة قد أخرجها الناخوذة المقدم ذكره، وقد تغيرت الأنهار، وكان في الحاج القاضي العلامة محمد بن علي الجملولي، فتقدم مع الحاج سرور، وافتقد ما بقي من المال وقد اختلط، وأرسلوا توقيعه إلى مولانا أمير المؤمنين (أيده الله) فعاد جوابه الكريم أن ذلك يحفظ لأهله، وأمر بعض ورثة المقتولين إلى القاضي وأن من أقام على شيء بينه فهو له.
وكتب أيضاً إلى الشريف الكبير زيد بن محسن بن حسين بن حسن بإطلاق ما خرج إلى البنادر التي ينظر الشريف على أهلها، وكان قد أزف الوقت على الحاج فتقدم سرور مع حجاج اليمن.
وأما الإفرنج (لعنهم الله) فإنهم استقروا في جزيرة جبل الصبايا فيما بين ذهبان وحلي، إلى ثامن شهر محرم الحرام عام إحدى وستين وألف [3يناير1650م]، واستبد بهم الخوف. وكان السيد محمد بن صلاح بن هادي النعمي في حلي لانتظار الحاج، ولما قضى الحجاج مناسكهم عادوا من طريق القنفذة، ووصلتهم الكتب من السيد الجليل محمد بن صلاح يخبرهم ببقاء المذكورين في تلك الجزيرة، فأراد الحاج سرور ومن معه الدخول عليهم من القنفذة فبينما هم كذلك إذ وصلهم كتاب آخر من السيد محمد أنه صح له خروج المذكورين من تلك الجزيرة، ولا زالوا يخوضون البحر إلى جهة المغرب حتى وصلوا قريباً من الحبشة إلى بندر يسمى بيلول من سواحل زيلع ، واستقروا فيه.
ولما بلغ السيد العلامة المجاهد محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين خبرهم، وهو والي المخاء جهز جلاباً، وأرسل عسكراً، ولا علم للإفرنج بهم، فأظفرهم الله بهم، وذلك أنهم وجدوهم خارج المركب يحيطيون فحالوا بينهم وبين المركب فأسروهم وقتلوا منهم أنفاراً، وأسروا الباقين، فضربت أعناقهم في المخاء.
وكان الإمام (عليه السلام) قد أرسل إلى السيد محمد أيده الله القاضي بدر الدين محمد بن علي الجملولي، لعله يعرف شيئاً من الذي غنمة العسكر، وأنه باق لأهله، وأرسل القاضي للقضاء في الموسم أيضاً، وهذه مسألة بقاء مال المسلمين بعد استيلاء[187/أ] هؤلاء عليه وذلك كحكم الدار والله أعلم.
[ظواهر طبيعية]
آيات أخرى عبرة للمخلوقين ودلالة على رب العالمين وذلك أنه حصل في شهر
[ ] لعلها عام خمس وخمسين في صنعاء المحروسة بالله صاعقة نهاراً من غير مطر فأخذت شيئاً من المنارة الشرقية في الجامع الأعظم وشقت الجدار الشرقي من الجامع وجمعت فراش شرقي الجامع بعضه على بعض وحملت بعضاً، وهلك رجلان أحدهما في صلاته.
أخرى في ذمار هاجت ريح هائلة فأخذت كثيراً من المارة في الشوارع وهلك بعضهم، وبعض حملتهم إلى أزقة، وبعضهم إلى أعلى البيوت، منهم امرأة حملها من بعض الشوارع حتى غابت عن أعين الناس، ووقعت ميتة في بعض صحراء المدينة، وكذلك ولد غيرها، وألصقت حجار بعض دار في أخرى غيرها.
ومنها في عام ثمان وستين وألف [1657م]ظهر الجرذان في مواضع كثيرة من اليمن، وأعظمها في مغارب ذمار وأكلت كثيراُ من الثمار وأكلت من الأنعام.
أخبرني بعض الفقهاء أنها أكلت عليه [أحد عشر رأساً من الغنم] وأخبر غيره بنحو ذلك، وأخبرني الثقة أيضاً أنه رآها في فروع الأشجار، ذوات الشوك الكثيرة، وأنهم سمموها بالسم المعتاد فما أثر فيها، ونقبت القضاض في كثير من البيوت.
وفي شهر صفر عام تسع وستين وألف [نوفمبر1658م] نزلت صاعقة في محروس شهارة في دار العقبة، وكان في منزل فيه السيدان الفاضلان العالمان محمد بن إبراهيم بن أحمد بن عامر وصنوه علي بن إبراهيم فشقت ذلك المنزل، وأخذت ما فيه من السلاح والأمتعة، وكان السيد علي بن إبراهيم في المطهر فأخرجته إلى بيت جاره من الصدع الذي حدث من الصاعقة، وأخذت بيت جاره أيضاً، وهو الحاج ريحان مولى مولانا الإمام القاسم (عليه السلام).
وكان بيت الحاج المذكور منخفضاً عن بيت السيد علي بن إبراهيم بأكثر من القامة وموضع المطهار الذي كان فيه السيد علي مرتفع بأكثر من قامتين.
ثم هبط السيد علي من أعلى بيت الحاج ريحان إلى قرار الأرض، وهو طبقتان، وهدمت البيت أيضاً، فوجد بعد وقت في أسفل بيت الحاج تحت الأخشاب والأحجار حياً وقد عمته الصوايب وعاش والحمد لله رب العالمين.
قال[187/ب] بعض أهل شهارة بعد أن أخبر بذلك: ووصلت كتب الأصحاب بهذه الآية أيضاً: أن تلك الصاعقة خرجت إلى جبل ذري، وبني زريب فأخذت رجلين هنالك، ثم عادت إلى بني سعيد من جانب سيران، فأخذت رجلاً قالوا جميعاً وهذا عمل صاعقة واحدة فيما يعلمون، والله أعلم، فسبحان القادر على ما يشاء.
أخرى: في سنة ست وخمسين وألف [1656م] وقع في محروس ذمار ريح زعزع لم نعهد مثلها أخربت بيوتاً، مما ضعف عمارتها، وزلزلت البيوت الكبار، وهلك منها [……] ، روي أن دابة في مضيق احتملتها مسافة، فسبحان من جلت قدرته وتعالت عظمته.
وفي عام اثنين وستين وألف [1651م] انتثرت النجوم وتساقطت في نحو من ثلثي الليل حتى ظن من رآها أنها تقدم من السماء.
وفيها أو بعدها بعام طلع نجم صغير له شعاع تقدمه، ويعقبه شعاع، حتى غلب ذلك الشعاع جرمه فصار كأنما هو شعاع ابتدأه من جهة الجنوب ويسير جهة الشمال، ويمضي في كل ليلة نحو ثلاث منازل حتى قطع أفق السماء من ما بين عدن والمشرق، إلى جهة القبلة، في نحو عشرة أيام.
وفي عام ستة وستين وألف [1655م]أخبر الحاج من اليمن قوة الحجيج في ذلك العام وكاد أن يعدم الماء في الجبل ومكة لكثرة الحجيج، وأنه حج من وزراء ملك الروم وخواصه أنفار، وأن الأمير المتولي لبندر جدة طلع الجبل مع الأمراء من شجرته، وعليه خيلاء غير المعهود، وتكبر أناف به على أولئك بكثير.
ثم أنه نصب فسطاطاً، ثم آخر مثله، منقوشان بطرزات مخالفة لعظماء الروم ممن هو أكثر منه مالاً، وأعظم حالاً، فلما تعالى النهار في يوم الوقفة أرسل الله ريحاً خفيفة لم تضر أحداً، وخصت فسطاط هذا الأمير دون غيره واحتملته وما تحته من الأثقال والآلات، وكشف ما تحته من أمير ومأمور وخصت ذلك الأمير باحتمال ثيابه وعمامته يشهد عندي من رآها أنها جاوزت مبلغ النظر من أفق السماء، وانقطع عن الأعين معرفتها، فسبحان الحليم الحكيم، ونسأله ستره العميم.
وفي رابع أو خامس النحر وقعت صاعقة في مكة المشرفة من غير مطر هلك منها ستة أنفار في جانب في السكة من طريق العمرة دون غيرهم في موضع واحد وقد أفزع أهل مكة المشرفة سماعها فسبحان العظيم حقه، القاهر لخلقه الستار الحليم، العزيز الحكيم.
[188/أ]وفي عام [ثلاث وستين وألف] طلعت شجرة في موضع من بندر جازان من شجر الحمر الذي منه التمر الهندي المعروف تفوت القائم طولاً عريضة يغلب لونها لون ورقها وساقها البياض، وفي كل أوراقها وغصن منها مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، وآية الكرسي بخط بجيل، في غاية البيان والصنع العجيب، وأنهم حكوا المكتوب فوجدوه في أصل العود، وأصول الورق، وعظم ذكر هذه الشجرة، وتبرك بها الناس وزارها البعيد من تلك النواحي وكاد أن تمثل بهم الأمثال فأرسل الله تعالى برقاً أخذها.
وأخبرني الحاج نجم الدين سليمان السماوي بعد كتابة هذه العبرة من إملاء غيره منهم الولد الحسين بن المطهر (أسعده الله)، أنه استظل تحتها، وأن القلم المكتوب فيه ذلك يختلف باختلاف أغصان الشجرة وخشبها فيكون في العود الكبير كبيراً، وفي العود الصغير بقدره، ولم يشهد بآية الكرسي. انتهى.
ومن ذلك هذا ما أخبر به السيد صلاح بن قاسم بن حمزة الجيشي أنه كان في تعز العدنية في عام أربع وأربعين وألف [1634م] أن رجلاً من زراع بلاد تعز نزل إلى أرض له صخرة كبيرة فاستدعى لها بعض مفرصي الحجارة، ففعلوا وكانت شديدة عليهم متعسرة، وبالغوا في كسرها فبقي منها مثل كرش الثور، فقال صاحب الأرض: لا بد من كسرها، وصبروا عليها نحو ثلاثة أشهر، ثم فلقوها فوجدوا بداخلها حنجور من جنس الجراد الأهلية، أخضر اللون، في فمه ورقة خضراء يأكل منها وإليه ضفدع صغير، وعندها ماء وطين، فسبحان من أحاط بكل شيء علمه، ورزق ما خلق بما كان من تدبيره.
نعم! وفي مجلس الرواية المذكورة، قال الفقيه حفظ الدين العيدروس البحري: إنهم فلقوا صخرة كذلك في قبة خيار من بلاد الظاهر فخرج منها حجرة صغيرة، فعالجوا شقها فانشقت بمشقة، فوجدوا فيها حفرة، وضفدعاً حية وماءً وطيناً، فسبحان من علم ما دق واستتر، كعلمه بما ظهر للحواس والبصر. انتهى.
وفي ليلة رابع وعشرين من جمادى الآخرة عام ست وستين وألف [21إبريل 1655م] وصلت بالكتب من صنعاء المحروسة بالله من الأصحاب وأخبروا أنها ظهرت آية كبرى وموعظة زهرى، إن صومعتي الجامع الكبير طلع عليها نور كبير، ارتفع أكثر من ضياء الشمع الكبار، وبقي وقتاً إلى بعد العشاء الأخيرة، وأن ذلك فيما بين صلاتي المغرب والعشاء.
وأخبر أهل مسجد الإمام الأعظم صلاح الدين (عليه السلام)[188/ب] بمثل ذلك على صومعته، وأهل الأبهر شهدوا بمثل ذلك على صومعة الأبهر ، وذكروا جميعاً أن هذا النور لم يكن مستقراً على أصل الصوامع، وأنه أعلى منها بمقدار ذراع ممن شهد بذلك الولد الحسين بن المطهر أسعده الله تعالى وقد تقدم في سيرة مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله (عليه السلام) مثل ذلك.
أخرى في سنة سبعين وألف [1659م] ظهر الجراد الذي لا نعلم مثله في الكثرة، وأكل أغلب الثمار، وقرَّش الشجر، وأبقى الله شيئاً من الثمرة في كل بلاد، وجهة فاستدرك بها سبحانه وتعالى من شاء من عباده، وعم الضرر أكثرهم.
واستمر هذا الجراد أكثر من سنة، وقد يمر على البلد الواحدة من ثلاثة أيام إلى خمسة عشر يوماً متوالية غالبها من الصباح إلى المساء، وكان يقع على الشجرة الكبيرة من نحو شجر الطلح الأحمر، والتالوق، فتقصف الشجرة الكبيرة لكثرة ما يقع عليها من الجراد، وكان يسمع الناس انصياحها إلى البعد من الشجرة، وكان هذا الجراد مختلف الألوان فمنها الأحمر المعتاد منها الملمع بالحمرة والصفرة، ومنها الأبيض الخالص دون اليقق ، والأسود الخالص، والأصفر المعتاد، وفي كل أنواعها شواهة المنظر، والضعف في الحركة قليل اللحم، وفي آخر أيامها ظهر في أكثرها صورة الثعابين الصغار، والدود ذات العدد.
أخبرني بعض العدول أنه وجد في حيوان منها ثعباناً دقيقاً طوله أكثر من ذراع وأما ما طوله الشبر فأكثر وأقل فكثير منها لا يكاد ينحصر، واستمر ذلك وقوت الجراد، وهذا الحيوان فيها المعتاد، وربما يخرج منها هذه الحيوانات من الواحدة من الجراد وهي تطير كعادتها، وشهد كثيرون أنهم رأوا شبحاً تقدمها طوله إلى عشرين ذراعاً وكأنه يكفلها عن المضي، وقال بعضهم: أنه رآه دون العشرين، والله أعلم.
ولما أراد الله سبحانه وتعالى رفعها عن بلاده وإزالة ضررها عن عباده، أرسل طيور السمران ، فكانت تنقطع عن المسير في النهار وتطير في ظلم الدياجي، ويدرك حركتها في الهواء السامعون وبسقوطها على النيار، التي تكون مسوفة فسبحان العالم بما خلق، والكافي لهم بما رزق، انتهى.
أخرى وفي أواخر عام اثنين وسبعين وأشهر من ثلاث وسبعين وألف [1662م] حصل المطر المانع في اليمن وغالب أوقات الليل والنهار وطال فخرب من دور صنعاء نحو من سبعين داراً، وقل ما بقي من بيوتها ومساجدها لم يتشقق، ثم تلاه البرد الشديد الذي[189/أ]لم نعلم مثله حتى يبست الأشجار، وذهب بعضها وأذوى، فسبحان من أحاط تدبيره بالخلق ودلهم على الحق وقسم فيهم الرزق، انتهى.
[وصول الشيخ العارف منصور المصري إلى اليمن]
وممن ورد على الإمام في غرة ثلاث وسبعين وألف [1662م] الشيخ العارف منصور بن يوسف بن منصور المصري الأزهري، وذكر أسباباً لخروجه من مصر إلى أبواب سلطان الروم، وذكر صفة وضايف الروم فيما يتعلق بالقيام والتدريس ، أنها مراتب تسمى الأول سقطة معنى: خادم المدرس، ثم يرتقي إلى أن يسمى طارش هند معناه: أن المدرس يكتب له شيئاً يتعلمه، ثم يرتقي إلى أن يكون ملازماً، ثم يرتقي إلى أن يكون مدرس خمسة، ثم عشرة، ثم خمسة عشر إلى أربعين، فإذا استمر عليها سمي مدرس خارج، ثم خارج الخارج، ثم مدرس داخل، ثم داخل الداخل، ثم مدرس اصطنبول، ثم مدرس الصحن، ثم مدرس تنجي جامع، ثم مدرس أياصوفية، وهذه المدرسة أساسها من زمن عيسى (عليه السلام)، ثم يرتقي إلى تدريس السليمانية، فإذا بلغ ذلك انتقل إلى قضاء مكة المشرفة أو بيت المقدس، أو قضاء مصر، وإن عاد إلى اصطنبول قاضي أناضول معناه أن جميع قضاة السلطان في بلاد العرب من تحت يده، أو يكون قاضي زمل، ومعناه أن قضاة الإسلام ما عدى الروم تحت يده، أو يكون قاضي اصطنبول، ومعناه أن يكون كل قضاة ممالك السلطان تحت يده، هذا أصل ما بنوا عليه قواعدهم، وفي مصر كذلك.
وأما الآن فبالمال والرشا والعرض والهوى، وللمذكور رحل إلى جهات كثيرة يطول سردها، ولا نمرة لعدها، وإنما نذكر منها عبراً للمعتبرين فمن ذلك أنه ارتحل إلى مدينة [بوليه] وهذه البلاد غالبها الجبال العالية والأشجار المرتفعة السامية، منها ما يبلغ مد البصر ارتفاعاً، فيؤخذ منها خشب المراكب، وأنه ارتحل منها إلى بلدة تسمى سيواس، وأخرى توفاد، وهي أول بلاد الأكراد وهي من أكبر بلاد الله نفوساً وأموالاً، وينتمون إلى مذهب أبي حنيفة والشافعي، وهي كثيرة البرد والثلج، وفيها من أنواع النبات والأزهار ما يعجز عنه الوصف، وذكر غيرها. وأنه اتصل بالموصل، وفيه اشتهر قبر نبي الله يونس بن متى، وقبر نبي الله جرجيس (سلام الله عليهما)، وكثير من قبور أهل البيت (عليهم السلام)، وأنها مشهورة تزار، وهذه البلد كثيرة الخصب تبلغ ثمن العشرة الأرطال اللبن نصف درهم، ومن عجيب أمورهم[189/ب] أنهم يصطنعون لعبور الشط أخشاباً تطول وتقصر وتسمى الكلك يجعلون لها ظهراً من الأخشاب، وبطائن على كيفيات تلائم ما أرادوه من صنعتها ويجعلون تحتها قرباً منفوخة على قدر كبر هذا الكلك وصغره، ويحصلون لمن ينفخ القرب مواضع متصلة به لنفخ القرب، وتعويض ما فسد منها، ويسافرون بها نهاراً بالقرب من الجسر مع المد، فيقوم مقام السفن، ويحملونها ما شاءوا من الأثقال، وهذه الأرض المحيطة بهذه الجسر كثيرة السباع، لا يتجاوزها شيء من الدواب، وأن الدابة إذا سمعت الأسد بالت الدم وسقطت، ولا يؤثر فيها كثرة القافلة، وفي أسودها كبر وضراوة وهي بلاد ممتدة ذات أشجار كثيرة تتصل بالنجف ونواحيه.
قال: ودخل بغداد بعد خرابها فلم يجد فيها اسماً للعلم ولا موضعاً للدرس غير ثلاثة أنفس عرباً من بلاد السند، ودخل البصرة ووجدها قريبة من بغداد في الجور والفتن ، ووجد فيها رجلاً يسمى الشيخ عبد الغني يقصد للعلم وميلة إلى التصوف، ودخل بلاد النعمان أيام الحرب على مصر، وهو من بنادر النعمان، وأن النعمان حاربوا الولنديس والإفرنج فأظهرهم الله عليهم وقتلوهم عن آخرهم بعد حرب شديد.
قال المذكور: وقد شهد حربهم وأن المدافع من الفريقين تكاد تصك الأسماع، ودخل السند إلى أرض تسمى تيسة ، وأقام فيها ثلاثة أشهر عند عالمها المسمى ملا آدم، وأن هذا العالم أخبره أنه يعرف في السند أكثر من سبعة آلاف نفس، يحفظون كتاب الله غيباً متقناً، ودخل بلاد بكر بالتشديد، وهي مملكة عظيمة عند أهل الهند، كثيرة قصب السكر، ودخل ملتان ، وهي مملكة عظيمة من أرض الهند أيضاً غالبهم الإسلام، وفيهم أهل علم، أكثرهم على مذهب أبي حنيفة.
قال: ورأى فيهم التظالم الشديد، ودخل مدينة لاهور ، وهي من أعظم مدائن الهند، ومسكن السلطان قديماً، وأما الآن فالاشتهار لمدينة دلي، لسكون السلطان فيها، وهذه البلاد التي تحت السلطان شاه جهان، غالبها اسم الإسلام وعاميتها وحشوها كفاراً ضعافاً على المسلمين بحيث لا ينسب المسلمون فيهم العشر ولا دونه، وفي المسلمين علماء ومفتون دون من تقدم ذكرهم من المسلمين.
ودخل أرض كشمير مصاحباً للسلطان شاه جهان، وهي بلاد عظيمة، غالبها الجبال الشوامخ طبع أهلها الفضاضة وغلظ الطبع وأنهم يقتلون بعضهم بعضاً في أقل قليل، ولقد يقتل الرجل ولده إذا غفل عن[190/أ] جوابه، وفيها الأشجار المتنوعة والأزهار المختلفة الألوان ما لا يوجد في غيرها، ومنها تؤخذ الأصباغ العجيبة.
قال الشيخ المذكور واصفاً لها: وقد سأله بعض أمراء شاه جهان كلاماً منثوراً منه: الحمد لله الذي ألبس الأرض من سندس النبات حللاً، ونشر على صفحاتها أزهاراً مختلفاً ألوانها فاخضر عودها، وأثمر يابسها وجلا، وكللها بلؤلؤ الغيث فترعرعت وتضوعت وماهت، فقد أمدها المياس تهتز ميلاً، وحركها نسيم التنبيه فتموجت بالتقديس والتنزيه لمن جل جلاله وتسمى كماله وعلاه.
وروى المذكور أن في تخت السلطان شاه جهان بستان يسمى صاري مار يعجز الواصفون عن صفته، وأن الماء يصعد إليه من تحت الأرض بالحكمة المسماة شاذروان، ويتصل بعضه ببعض حتى يكون كالثوب الرقيق المتصل، ويسرج من خلفه الشموع بإحكام أحكموه، وللسلطان رحلة إلى هذا المحل في شهر رمضان ليمر عليه الشهر الكريم مفطراً، ويجعل عوضاً عن الصوم صدقة عن كل ليلة ألفي ربية (والربية نصف قرش)، وله من الصدقات الكثيرة أضعافاً مضاعفة.
قال: ودخل مملكة عظيمة الشأن تسمى أقرا تجمع مللاً كثيرة من الكفار، ودخل مملكة تسمى (برهان فور)، وفور اسم القرية، ولهم صناعات عجيبة ونقوش غريبة من الثمينة وغير الثمينة.
ودخل مدينة تسمى (أورنك أباد) بألف ثم واو ثم راء مهملة ثم نون ثم كاف، وهي المدينة التي ولد بها السلطان محمد بن شاه جهان، ولذلك سمي أورنك، وفيه علماء وأهل قرآن أكثر من غيرهم.
ودخل تيجابور قال: وفيها سبعة جبال منها قلعة منحوتة مرتفعة يقال أنها مما نحتها الجن لسليمان بن داود (عليه السلام)، ولها باب يجمعها من داخله ثلاث طرق، إحداها ينفذ إلى أعلى القلعة، وطريق من ذات اليمين منحوت أيضاً يخرج الخارج منها إلى مسيرة ثلاثة أيام من جانب البر، وطريق ذات الشمال لا تعرف طرقها لما فيها من الوحشة وتصطنع فيها الثياب الفاخرة يبلغ ثمن الشاش منها في بلاد الروم ثلاثون قرشاً، وفي ليلة العيد تسرج الشموع في هذه الجبال في غالب كل شجر وحجر سنار تعوده أهل هذه المملكة.
ودخل بلاد آشي، وهي بلاد عظيمة الشأن معتدلة الهواء عذبة الماء، خصبة، ولحسن هوائها يلبس أهلها كسوة الشتاء في الصيف[190/ب]، وكسوة الصيف في الشتاء؛ لاستواء الحالين فيها، ويقال: إن نهارها وليلها على سواء، وذلك يوافق كلام من يذكر مساحة الإقليم، والله أعلم.
قال: وهي كثيرة الأرزاق، سهلة الآفاق، وفيها من المعادن أربعة وعشرون معدناً، منها أربعة من الذهب، وسائرها من الفضة، ومنها الكافور على أنواعه، والفيلة التي تباع إلى الملوك وغيرها من العجائب، وفيها الفلفل الكثير، وتملكهم امرأة مسلمة ذات فضل وكمال، وسخايا بالأموال، ولها قراءة، ومعرفة بالعلم، وإحسان واجتماع على القرآن، وتسمى صفية الدين شاه بردولة، تكتب السكة باسمها في جانب: (صفية الدين)، والآخر: (شاه بردولة)، ولا قدرة لملوك الهند عليها، وتفعل بينها وبين الوزراء ستاراً غامراً، وتأمر وتنهي، وقد تركب للصيد والتنزه، وهي على أتم ستر.
ودخل مملكة تسمى (بلمبام) عليها ملك من تخت سلطان (مطارم) الآتي ذكره، وفي هذا الموضع بحر عظيم مسيرة ثلاثة أيام يختلط الماء المالح بالحالي فيه، وبعد ثلاث يخرج الحالي منفرداً، والمالح كذلك، فسبحان من أحاط بكل شيء علماً.
ودخل مملكة (جاوى) وهي المسماة (بانطة) (بمعنى ظهر المشرق) ينتمون إلى الإسلام، ولهم ملوك أهل عدل وإنصاف ورجوع إلى الشريعة.
ودخل بلاد (ذقطرة) وهي دار الحرب من بلاد الإفرنج والولنديس، ومن أخبارهم أنهم طلبوا من الشيخ المذكور أن يلبس لباس علماء مصر والروم في الصفات والهيئات فعجبوا لذلك وأمروا المصورين فصوروها، واشتغلوا بذلك سبعة أيام وأرادوا أن يأخذوا منهم شيئاً من المال فامتنع وعظم قدره عندهم.
قالوا: يريدون بذلك التبرك بصور أنبيائهم وأنهم صوروا ملبوسه، وحمله الكتاب متأبطاً له، وأن في بلادهم شجرة طويلة يأكلونها تسمى الدوبان شبيهة بالبطيخ، ولها قشر وشوك كشوك القنفذ، لو يقع على الفيل لتألم منه، وفي قلبه حبات كبيض الإوز تؤكل وتستطاب في غاية الحلاوة، وحرارة الطبع.
ودخل أرض (مقاصر) وبينها وبين (بانطة) مسافات كثيرة، وهي بلاد المشرق الأقصى مما يلي بلاد الصين، وهم ينتمون إلى الإسلام حديثوا عهد به.
قال الشيخ المذكور: إنه أخبره بعض ملوكها واسمه قرسمنا (بمعنى صاحب القدر الكبير) أن للإسلام منذ دخل بلادهم ثلاثاً وستين عاماً، وغالب ملوكهم التكبر والتجبر، وأن السلطان إذا قام قعد كل أحد، وإذا مشى كذلك، فلا يتحركون عند مشيه وقيامه، ولا ينتقلون عن مواضعهم، وكل منهم جاعل يديه عند أنفه، وذلك بمثابة السلام[191/أ]، وعقوبة من خالف ذلك القتل مع المسارعة إلى قتل النفوس لغير ذلك السبب، ثم ارتحل إلى موضع يسمى (مشلي بندر)، ودخل موضع قطب شاه المسمى دولة أباد، ثم منه إلى (سرات)، ثم منه إلى (اليمن).
وقال في صفة (الولندة) ومملكتهم: إنها ما بين (مقاصر) و(جاوى) من بلاد المشرق، وأن ملكهم ذو قوة في المال والرجال والآلات الحربية، حتى لا يقال مثله، وأهل هذه المملكة صباح الوجوه، كثيروا الأغذية، مرتفعوا البنيان، تغلب عماراتهم الزخرف وأنواع النقوش ويبالغون في ذلك، وفي نسائهم غاية الحسن والترف، ولهم صناعات كثيرة، جالبة للأموال من كل قطر، ويحاربون ملوك الإسلام، وأعظمهم سطوة عليهم من المسلمين سلطان (مطارم)، وهو من سلاطين المشرق لا يكاد يحصر جنده، وأما الذين يختلفون إلى بنادر اليمن من الولنديس الذين يسمون الفرنسيس والبرطفال ، والولندة ، ويتجرون إلى بلاد الإسلام، وغالبهم الطمع والشر طبعاً، يخطفون أموال الناس ولكل من هؤلاء ملك، وفيهم بعض عدل.
ودخل بلاد (منيبار)، وهي بلاد واسعة عليها ملوك كفار لا يحتكمون لبعضهم بعضاً لشرارتهم، ولا يزالون شاهرين لسيوفهم سفراً وحضراً، صغيراً وكبيراً، كثيري الحيلة على الأموال والتلصص، سوى ثلاثة مواضع منها، الأولى: كنبور، وكلكوت، والغناني، وما عداهم يقطعون الطرقات بقدر أربعمائة سفينة.
ووصل بلاد (ديون محل)، قال: وأخبروه أنها تشمل على اثني عشر ألف جزيرة، وأقاليم واسعة، ولهم سلطان مستقل اسمه محمد، من بلادهم يخرج العنبر والكودة وهي الودع، انتهى، والله أعلم.
وممن جاب وأتى بالعجاب من نحو ما ذكره القاضي منصور: السيد محمد بن علي بن محمد بن حسين الأهدل الحسيني من أشراف تهامة، ومحل من بلاد زبيد تسمى (الرقود)، وأنه ذكر سياحات كثيرة، منها: مصر، وحلب، والشام، والعراق، وله في معرفة تفصيلاتها العجب العجاب، وما ينبغي أن يرصد في الكتاب، لولا خشية التطويل، ودخل بلاد الروم، وفصل في معرفتها تفصيلاً عجيباً، وأنه يقال [فيه] إنه في بعضها أعرف من أهلها، وحضر فتح (مالطة)، وذكر من قوة الفريقين ما يطول ضبطه، وأن بين (مالطة) وبين (اصطنبول) المسمى (القسطنطينية) الصغرى التي هي قرار ملك بني عثمان وبين (القسطنطينية) الكبرى[191/ب] مسيرة أربعة أشهر [ونصف] كلهم إسلام [وأن الحرب كان على مالطة اثني عشر عاماً] ، وأن بلاد (مالطة) مدائن وحصون وأراض واسعة غالبها في ساحل البحر.
وسألناه عن مذهب الزيدية ومن يعرفه من أهله وبلدانه، فقال: غالب بوادي الكوفة زيدية، وفيها هجر قليلة أيضاً، وتعرف بلدان زيدية الشام، وأن منها (بعلبك) وهي مدينة كبرى وبلادها وجيلة محركة واللاتقية بالتاء المثلثة، ومدينة بسر –مخففة- وعنتاب مدينة أيضاً، تأتي كلها ثلاثة عشر مرحلة من شرقي دمشق إلى مشرق حلب، وكذا عسقلان وبلادها ومازدين، وما يتصل ببوادي البصرة.
قال: ويقال فيهم إنهم إمامية، وهم زيدية حقيقية.
قال: عرفهم وخالطهم، ودخل بلاد الديلم ومدائن منه، منها: روال –بالراء المهملة- وخوط ومدينة تسمى الناصرة.
قال: وهي بالقرب منهما، ووصف لهم عزة وقوة واعتزاء إلى هذا المذهب النبوي، وأخبرني أن مسير بلد الديلم أكثر من أربعين مرحلة من غير جيلان وما والاها، ودخل المشهد المقدس بكربلاء، وأن الزيدية فيها أقل من غيرها، وأن غالبهم إمامية.
قال: ووصل مكان السيد إبراهيم بن عبد الله الديلمي المشهور، وهو يسمى مدينة (الباغ) مدينة متوسطة كتعز العدنية، وأن فيها حياة في العلم، وأن أعظم علمائها بعد السيد إبراهيم القاضي أحمد بن إسحاق.
وأخبرني غير السيد المذكور: أن السيد إبراهيم من أولاد الإمام المرتضى لدين الله محمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (عليهما السلام).
وأخبرني غيره أيضاً: أن هذا السيد إبراهيم إمام القاسمية في الجيل، وأن الناصرية في هذا الزمان أئمة منهم، وأنهم اختلفوا في إمامين، فتحاكموا إلى السيد إبراهيم في خبر أطول من هذا يدل قضاؤه أنه على مذهب الهادي (عليه السلام).
وأخبرني الشيخ يحيى الحساوي المتردد إلى حي مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله (عليه السلام) في عام إحدى وخمسين وألف [1641م] أنه قام إمام من الزيدية ولعله ناصري المذهب في عام خمسين وألف [1640م]، وقتله الشاه. والله أعلم.
وقال السيد الأهدل أيضاً: أنه دخل بلاد المغرب الأقرب، وأنه سمع ببلاد الأشراف الإدريسية، وأنها مملكة عظمى، ولا لصاحب الروم منهم إلا هدية سنوية، وأنهم يتظاهرون أنهم مالكية، قال: وهم زيدية حقيقية كما سمع في تونس، وبلاد باجة من بلاد المغرب الأقرب.
قال: وسمع القاضي بطاش وهو المسمى قاضي العسكر تحدث عند فتح (مالطة)[192/أ] هذه مالطة قد فتح الله بها وعمرت فيها مساجد فعلينا أن نقول للسلطان يفتح بلاد طليطلة من المغرب الأقصى، وأنها من أهم ما ينبغي تقديمه، وأن فيها قبور ثلاثة أشراف فضلاء نحب استقادهم ، وهذا يشهد بصحة المسموع أن مشهد الإمام إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قد استولى عليهم الإفرنج (أقماهم الله)، والله أعلم.
ومن أخبار الروم من رواية السيد المذكور: أنه كان في سنة تسع وخمسين وألف [1649م] في (اصطنبول) فسمعوا زلزلة عظيمة ظنوها مدافع جاءت بها النصارى، وكان للسلطان رتبة محاصرة لقلعة في البحر تسمى (تكيراوه) بالتاء الفوقانية وكسر الكاف، وسكون الياء، وحركة الراء، وحركة أيضاً والواو، وسكون الهاء، من قلاع الكفار فانهارت في البحر، وانصبحت أحجارها، وصارت بعد ذلك بحراً، وهلك من كان فيها من النصارى.
وأخبرني أيضاً أنه مر على موضع في الروم يسمى (اسبارطة) في جهة (قرمان) ، وهي مدينة عظيمة تتصل بها خمسة وعشرون قرية، كثيرة الأنهار والبساتين الجامعة لأجناس الأشجار، وعاد إليها في عام ستين وألف [1650م] فوجدها بحراً، فسأل من كان يقرب منها أين صارت، وكيف كان ذهابها؟
فقالوا: إن الله سبحانه أرسل عليهم الثلج، ثم المطر الغالب فغطى عليها وعلى أهلها، فلم ينج منهم إلا من كان غائباً عنها.
قال: وتقدير طول هذه المدينة المذكورة وما يتصل بها من القرى والبراري مسافة يومين للبريد، وعرضها مثل ثلث طولها تقديراً والله أعلم، سبحان القادر على ما يريد، انتهى.
[وصول الشيخ أحمد بن محمد الجوهري إلى الإمام]
وممن ورد على الإمام (عليه السلام) في شهر صفر عام ثمان وستين وألف [1657م] الشيخ العلامة أحمد بن محمد الجوهري ، من أهل شيراز من جلة أهلها، وهو شيعي، ومنشأه بمكة، ولذلك له العبارة الفائقة، والاستحضار الهائل، إذا ذكرت عنده القضية الحادثة ذكر لها من النظائر والأشباه ما يفعم المشايع، مع حسن تأدبه، وآداب غضة، ووالده من أرباب التجارة الكاملة.
قال القاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال (أسعده الله، وهو الراوي لهذه الجملة من أخباره): إن السيد رضي الدين زيد بن علي بن إبراهيم الجحافي أخبره عن والد الشيخ المذكور، وقد عرفه في بندر المخاء، أنه رآه في رأي العين لا تصلح أن تكون أباً له؛ لأنه مقارب له[192/ب] في الشيب والغضارة، ولهما من جودة النظر في أمر المعاش ما تم لهما به التعفف عن التناول حتى من مولانا أمير المؤمنين (حفظه الله)، فإنه لم يتحيل ليناوله شيئاً إلا بكسوته (حفظه الله)، فلم يتجاسر الشيخ أحمد [على ردها] وله طرافة وأدب، ومجالسة ونجب، مع علم وحسب، وأنه حكى للإمام (عليه السلام) وأهل مجلسه الشريف ومقام إملائه: أنه ورد إلى أبواب ملك الهند من تلقى الشريف الأشهر، والشاه الأكبر عباس شاه الحسني، السيد المعظم أحمد بن معصوم الحسني، ووصف كثيراً من أدبه، ودرراً من نخبه، وأنه قال في الوصف في الغزليات ارتجالاً بيتين من الشعر فراق من سمعهما من أهل الأدب وقطعوا بان لا ثالث لهما، وهما قوله:
تراءى كضبي نافر من حبائل .... يصول بطرف فاتن منه فاتر
وقد ملئت عيناه من سحر جفنه .... كنر جس روض جاده وبل ماطر
فأجازهما الشيخ المذكور، وقد أعرب هو ومن سمع في وصفهما، وأنه قد أتى بالعجب العجاب الموافق لما [سبق] قبلهما فقال:
وظبي غرير بالدلال محجب .... يرى أن فرض العين ستر المحاجر
رماني بجفن أسبل الدمع دونه .... لئلا أرى عينيه من غير ساتر
فلما سمع الإمام (عليه السلام) ذلك استحسنه والتفت إلى أصحابه معجباً لهم فقال السيد الأفضل الأديب الحسن بن المطهر (أسعده الله) على سبيل البديهة والاقتضاب في مقام الحضرة الإمامية (أعزها الله تعالى):
وريم فلا أصل المحاسن فرعه .... تبدى كبدرٍ في الدجى للنواظر
سباني بجفن أدعج سال ماؤه .... فطرز شهب الدمع ليل الغدائر
وقال القاضي أحمد بن أبي الرجال ارتجالاً كذلك:
ومكحول طرف لا يزال مسدداً .... عدى حاجري عن رعي تلك المحاجر
وحجبه عني ربيع وجعفر .... يفيضان بالنعمان من لي بناصر
وقال الفقيه الأديب حسن بن يحيى با عفيف الحضرمي:
وخشف عليه الحسن أوقف نفسه .... له ناظر يحميه عن كل ناظر
نظرت إليه ناثراً در دمعه .... فنظام فكري هام في در ناثر
انتهى. وقال في المعنى [عن ذلك] بغير رؤية وفي غير الحضرة، والسبب، وألحقناه بهم لجامع ذكر الحضرة الإمامية، ومن يجتمع إليها من علماء الشرع والأدب كالشيخ المذكور[السيد العلامة إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى الجحافي] في حل بيت فارسي من الشعر معناه: [193/أ]أن المشتاق لا يقدر أن يصف لوعة اشتياقه، إذ شوقه نار، والقلم قصب ولا يجتمع النار والقصب، فقال في الشوق:
نار لذا الأقلام عاجزة .... عن أن تحرره في اللوح والكتب
لكن معجز حي قد أثار هوى .... مؤلفاً بين نار الشوق والقصب
ونقل القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال (عافاه الله) ذلك إلى السيد العلامة إسماعيل بن إبراهيم الجحافي (أطال الله عمره)، وهو في حبور، وكأنه عتب عليه طول المغيب عن الحضرة الإمامية (أدامها الله تعالى)، فأجابه استظهاراً بما قاله الشيخ المذكور، فقال:
يا غائبين وفي قلبي محلهم .... وعاتبين لبعد العهد بالكتب
وصفي لشوقي محال أن أسطره .... فالشوق نار وأقلامي من القصب
وللشيخ المذكور في الحكمة:
أن حزت علما فاتخذ حرفة .... تصون ماء الوجه لا تبذل
ولا تهنه أن ترى سائلاً .... فشأن أهل العلم أن يسألوا
وله أيضاً في التشبيه:
بدى مثل الهلال فصار بدراً .... بأفق الحسن في عين التمام
فهم بالبدر والأيام بيض .... فهذا الفصل أبان الهيام
[ويعلق بمحبة القاضي أحمد المذكور لجمة الأدب، ومجلس المفاكهة بالرغب، ولما توجه إلى بلاده قافلاً، وبالإشارة لما رآه في المقام الإمامي من جوامع الكمال ناقلاً قال مشافهاً للقاضي المذكور مرتجلاً، وقد أوجس في نفسه بلابلاً:
أيابن أبي الرجال ملكت رقي .... بما أودعت من حسن الوفاء
سأنشده إذا زاد اشتياقي .... جبودي كرنبودي أييشناء
أراد باللغة بالفارسية ليتنا ما تعارفنا، وله مقاطيع فائقة وأبيات فائقة] .
[ذكر بلاد حضرموت ويافع]
ذكر المخرج المنصور إلى جهة المشرق ونواحي حضرموت.
ونبتدي بجمل من أخبار أهل تلك الجهات المذكورة، وهم طبقات بلاد يافع، و(بني أرض) ، (بلاد الرصاص) و(المصعبين) ، وبلاد (مراد)، وبلاد (العوالق) ، وبلاد (آل كثير) ، وبلاد (الفضلي) ، و(العمودي) ، وما والاهما إلى حضرموت، فأهل حضرموت وبواديهم وسواحلهم غلب عليهم الصوفية ، مع أن غالبهم جبرية محضاً، وفيهم أشعرية وغيرهم ممن يلحق بهم في التأويل، هذا حال فقهائهم والديانين منهم، وحشوهم جبرية وحلولية كما تواتر عنهم.
وأما بلاد يافع، وما يتصل بها فيحتكمون لرجل من آل أبي بكر [193/ب]بن سالم من الأشراف آل بالعلوي، ويقال إنهم من ولد الحسين بن علي (عليه السلام)، ومن ذرية موسى بن جعفر الصادق (عليهما السلام) كما ذكره الأهدل في تاريخه المسمى (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب)، ويلهجون بذكره ويدَّعون له الخوارق المؤثرة في العالم ويبغضون أهل العلم، ولهم في ذلك ما يطول، ويكرهون الزيدية خصوصاً، وغيرهم من أهل العلم خلا أنهم يصلون ويصومون ويحلون الطرب وجميع الملاهي، ويجعلونها عبادة وطاعة، وأهل حضرموت بدوها وحضرها كذلك مع ما تقدم.
أخبرني الصنو الفاضل غوث الدين بن محمد (رحمه الله) أنه وجد رجلاً من مغارب ذمار في عام ثمانية وثلاثين أو تسع وثلاثين وألف [1628/1629م] [عليه لباس أهل حضرموت] ، وحرفة التصوف، وفيه خشوع وإقبال، قال فسألته: أين كان؟ فقال: عند الحبيب حسين الآتي ذكره وبعض صفاته، وكان قبله مع أبيه أبي بن سالم، وأنه دخل معهم في طريقهم حتى غلبه الهوى في استحسان القبائح، ثم أنه حدثهم بكثير من أمورهم، منها: أنه اتفق من رجل من أهل بلد سماها، أظنها بلد السلطان، وجد مع امرأة لها فيهم قدر رفيع، والرجل كذلك، فقال من حضروا واقعتهم منكراً عليهم أتأتون المنكرات، وتفعلون الحرام، وأكثر عليهم الصياح، فقالوا جميعاً: وما ذا لنا من فعل، وإنما ذلك حكم القضاء والقدر، وظهر أمرهم إلى من يدعي العلم فعظم الرواية وفخم الحكاية، وقال الحمد لله الذي ألهمنا إلى القول بالقضاء والقدر، ثم أمر أن يزف كل واحد إلى بيته معظمين مكرمين.
قال: ولما رأيت ذلك منهم عرفت خطأي الدخول معهم، وهربت بنفسي إلى هذه البلاد تائباً نازعاً من المقام بين أظهرهم.
وأما بدوهم فكغيرهم ممن سيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى.
وأما الحبيب حسين فأخبرني الشيخ البهال الأسدي، وكان رجلاً بادياً، صدوقاً، من حذاق العوام، وله ديانة أيضاً في عام أربعين وألف [1630م] أو إحدى وأربعين أن مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله (عليه السلام) أرسله إلى سلطان حضرموت، وهو عبد الله بن عمر بن بدر بن جعفر الكثيري بكتاب ضمنه ما يضمنه الأئمة (عليهم السلام) من دعائها ومواعظها، قال: ولما وقف عليه السلطان وهو إذ ذاك في محله المعروف بسيئون .
قال لي بعد الإقامة عنده نحواً من ثمانية أيام: لا يكون الجواب على الإمام إلا بعد تعريف الحبيب، وأخذ رأيه الكريم، فيكون عندنا حتى يعود جوابه[194/أ]، وأمر كاتبه يعني السلطان بالمسير إلى الحبيب المذكور إلى موضعه المعروف بـ(عينات) ، وأرسل معه بكتاب الإمام (عليه السلام) فقلت للسلطان: وأنا أحب زيارة الحبيب، ومرادي معرفة حاله لاخبر الإمام عليه السلام بها فأركبوني معهم ووصلنا محله على بقية من الليل، وتركوني في منزل وصاحب السلطان في آخر، وكلنا بالقرب من قبة والده الشيخ أبي بكر بن سالم ، والقناديل فيها مسرجة، ولا فراش فيها، والقبر عار كذلك، وفيها وحولها نحو من أربعمائة نفر أكثرهم من يافع يهللون ويصيحون بالأصوات المرتفعة: يا حبيب يا حبيب يعني الحبيب المذكور، والضال المضل المغرور، وهم مع ذلك يضربون الدفوف والطارات ، ويرفعون الشبابات .
قال: فسألت من وُكل بضيافتنا عنهم، فقال منهم من يقيم الشهر ومنهم الشهرين، وأقل وأكثر لا يرون الحبيب وقد يتجلى لبعضهم فيظهر عليه ويخبره عن نفسه واسمه واسم زوجته وبلده.
قال الشيخ المذكور في روايته: فعرفت أنه يتركهم على ذلك حتى يعرف كثيراً من أخبارهم، ويتصل به أخبار خواصهم في بلادهم، فينتشرون في الأرض ويشهدون له بعلم الغيب.
قال: وكنا كذلك لم يؤذن لنا، وأما صاحب السلطان فأذن له، ولما كان ثاني يوم أو ثالثه أذن لي، فدخلت عليه فوجدته في منزل كبير مملوءاً من حفدته وآلة الملاهي على أنواعها، تتخذ عنده شيئاً فشيئاً، ورأيته فإذا هو رجل ضخم كثير الشعر لا يحلق رأسه، ولا ينقص شاربه ولا يقرض أظفاره، وعلى رأسه امرأتان تسرحان شعره، عليهما فاخر الثياب والحلي، وسألت عنهما فقالوا من اللعابين الذين يسمونهم السجد ، وعادتهم الطرب، وتلعب نساؤهم عند الفساق، وقد كان عم أهل اليمن شرهم قبل ظهور الأئمة (عليهم السلام) على اليمن، وأنهما وقفا أنفسهما على خدمة الشيخ.
قال: وكنا كذلك إذ ظهر من باب آخر أسفل الإيوان شاب كما يقل الشعر في وجهه، ووضع له كرسي فقعد عليه ، ومعه امرأتان كذلك تمشطان له شعره، فسألت عنه فقيل هذا ولد الحسين المسمى أحمد.
قال: ثم أخذ يسألني عن الإمام، وقال ما معناه وأكثر لفظه أما السيد محمد ففيه بركة، وأما الكذا بما لا يجوز ذكره الحسن والحسين، فإنهما فعلا مع الباشا حيدر كذا، ومع الباشا عابدين كذا، مما تقدم من الجهاد الصريح والدين الصحيح قال فجاريته مستهزئاً به من حيث لا يشعر، فإنه من لديه يعتقدون أنه[194/ب] لا يخالف فيه مخالف، وقمت إلى أقدامه فقبلتها، وقلت: يا سيدي أولادك الحسن والحسين لا يغرك فيهما أحد، ويوقعون في نفسك عليهما، وهما داعيان لك ذاكران لا ينسيانك وقتاً، وسألته لهما الدعاء والرضى، فصدقني، وطلب مني صفتهم فأخبرته بما رضيه مني، وخلصت من شره.
قال: وكنا كذلك فنادى المؤذن لصلاة الظهر فقال من حضر: الحبيب ذهب الحبيب ذهب، وقال: وإذا به ساكن لا يتحرك، حتى كأنه ميت، وهم يتلاكؤن بأنه ذهب مكة، فانتظروه وقتاً طويلاً، وإذا به قد تحرك وتكلم فقاموا للسلام عليه.
وأخبرني غير الشيخ المذكور أن هذا خلقهم حتى الآن، وأنه لا يخلو مجلس لهم من خاص أو عام من آلات الملاهي، واستفاض ذلك.
قال بعض المترددين إلى تلك النواحي: من أعجب ما رأيت أني وقعت على شيخ يعمل الثياب الحضرمية، فيعمل فيها ساعة، ويطرب لنفسه أخرى ولا معه غيره على الجملة، فلا يسمع في بلادهم موضع خال من اللهو.
وأخبرني غير واحد مما أفاد خبره الاستفاضة لمطابقته الأخبار الكثرة أنه وجد في قبة على بعض جهلتهم، وحولها مسجد كبير مأهول للصلاة والجماعة في كل وقت، وتأتي النسوان لكل صلاة باللباس الحسن والستر المشروع ، والزيادة عليه فراقني ذلك كثيراً، وقلت هؤلاء أهل السنة وحضرت معهم مجلس القراءة، فإذا هي حكايات بهتية، وأكاليم كفرية، وفي الطرب كغيرهم، فمما قالوا في ذلك الكتاب في ذكر مناقب الشيوخ، أما الشيخ فلان فتجلى له الرب العظيم، وأما الشيخ فلان فعرضت عليه النبوة مراراً، وهو يأباها إجلالاً لرسول الله ، ونحو ذلك من الخزعبليات.
[ذكر بلاد الرصاص]
وأما بلاد الرصاص، وما يتصل بها من المصعبين ومراد فجهلة عميان وأنعام مكلفون، لا يوجد فيهم من الألف من يصلي، ويعرف شيئاً من التكليف الشرعي، ولا العقلي، كما استفاض عنهم لا سيما بدوهم ويفخرون بالضيافات، وأمان الطرقات، ولا يذكرون شيئاً من الواجبات أو المقبحات بتحريم أو تحليل.
ولما عظم ذلك منهم، واشتهر عنهم، وقد مات السلطان أحمد بن علي الرصاص، كما أخبرني الولد الفاضل العالم شرف الدين الحسن (حفظه الله) عن من حضر وفاته لا رحمه الله [195/أ] أنه حمل من موضعه إلى مقبرة لهم على أعواد والنساء يميناً وشمالاً، ناشرات شعورهن متكشفات، وأما العوادات ، وأهل آلات الطرب واللعب، الذين قد صارت المشارق لهم مأهلاً، وأموال أهلها مأكلاً، فيسرن بالقرب من جيفته ويحلقن من شعورهن ويعقرن جمالهن ورجالهن كذلك، حتى أن في الخطوة والخطوات عقاير كثرة، والأصوات المرتفعة بالتفجع، والندب بحالها، وكان هذا أحمد بن علي أقرب إلى المعقول ممن بعده وخلفه، ولده علي بن أحمد فكان تلو أبيه، وأراد يافع انتزاع الخلقة منه، وهي من بلادهم، وإنما غلبهم عليها والده المذكور، فأوقع بهم وقتل منهم زهاء من ثلاثمائة رجل، وأخذ أسلابهم، وغلب على الخلقة، وسعى بينهم صوّفيهم الآتي ذكره بالصلح فيما وقع.
ثم مات علي وخلفه حسين بن أحمد الآتي ذكره، فكان أنهض من أخيه وأبيه في الجهل والعمى، لا يعرف شيئاً من العقليات، خمِّير سفاكاً، كما أخبرني من خالط بلاده وعرفها أنه إذا غضب على الرجل نادى من قرب منه اطعنه يا فلان فإن سارع وإلا قام هو إن لم يقتل المأمور، حيث لم يسارع، ومن غضب عليه من الرعايا أو غيرهم أخذ ماله جميعاً، وغلب على بلاد خصيبة معمورة من بلاد بني طاهر، كما سيأتي صفتها إن شاء الله تعالى.
وقد غفل عنهم ملوك اليمن، ولم يتعرضها أحد إلا سنان باشا ، أيام الوزير حسن المذكور في أخبار مولانا أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد (صلوات الله عليه)، فإنه فتح بلادهم وبلاد يافع، وما والاهما في نحو أربع سنين.
ولما قام الإمام (عليه السلام) ارتفعت عنهم الأتراك فعادوا لحالهم الأول لهم بلادهم، ولهم أيضاَ جوامك وعوائد كثيرة لا سيما الرصاص، فإنه عظم ذكره وهيبته، وظهر على خصومه من العوالق، ومراد وغيرهم فهادوه، وواصلوه وأخرهم الإمام (عليه السلام) على ما سبق، وكان السلطان أحمد بن علي الرصاص يواصل مولانا الحسن (رضوان الله عليه) بالمكاتبة.
ثم إنه (رحمه الله) وجد منه أيضاً مكاتبة إلى الترك (أخذهم الله وأقماهم) فيها الغدر والخيانة لمولانا الحسن (رضوان الله عليه) قد ذكرناها في سيرته فقطع عوايده.
ولما مات أجراها عليه مولانا المؤيد بالله عليه السلام، فلما ظهر منه ما ظهر من الطغيان، واشتهر عنه ما اشتهر عن كبائر العصيان، وهو مع ذلك (لا يعرف شيئاً من التحسين والتقبيح إلا كما قال الإمام المنصور بالله سلام الله عليه) [195/ب]في من هو أحسن منه حالاً:
فمبلغ علمهم إنكار فضلي .... وغاية فقههم أن يرفضوني
وهذا لا يعرف من الاعتقادات غير بغض آل محمد صلى الله عليه وعليهم، والنقيصة لهم، وأنه لا يرى الزيدية ولا يرونه، ويأمر أهل الحضر من بلاده بالخطبة لسلطان الروم، والدعاء له تقليداً لشيخه الخبيث المتقدم صفات ذكره، فبلغ الإمام (عليه السلام) فكتب إليه رسائل نافعة.
فأخبرني من حدث عنه أنها كانت تقرأ عليه فلا يعرف شيئاً من معانيها، وربما يضحك ويقول: هذا كلام مليح ولكن وايش يبغي مني الزيدي، فقيل للإمام (عليه السلام) إن هذا قد غمره الجهل البسيط، وإنه لا يعرف ولادتك من رسول الله ، فكتب إليه أخرى، ووضع علامته الشريفة بتسطير اسمه الشريف، بعد لقبه العالي المنيف، وسرد نسبه العالي المفضل إلى رسول الله (صلى الله عليه)، فلم ينجح ذلك ولا عرف المراد منه، وقد اتضح له أن الإمام (عليه السلام) من ولد رسول الله فقال ما معناه بكلام جهلة البدو أن من شجرته الخبيثة.
كما أخبرني الشيخ الأجل أحمد بن مسعود الجريدي مكاتبة: إني لا أفشل مما كان عليه أبوي ، ونحو ذلك، ولكن أخطب لمن كانت لهم الخطبة أولاً مع بوي، وهو لا يعرفها، وإنما يأمر بذلك في حضر بلاده، ولا يعرف الصلاة أيضاً.
قال بعضهم: إنه قد يصلي في كل جمعة ركعتين، على غير صفة الصلاة بعد أن يغسل رأسه بالسدر ونحوه، وله امرأتان، عليهما تسريح شعره، وكل أهل الجهات المذكورة إنما يبالغون في تطويل الشعر كما تقدم في صفة خبيثهم المجدوع وضالهم الخادع المخدوع.
[تجهيز الجيش من قبل الإمام المتوكل لمحاربة آل الرصاص]
فصل: ولما لم يجد الإمام (عليه السلام) عن قتالهم عذراً ولا بقي له ولأهل جهته المذكورة حجة، أمر (عليه السلام) بالتهيئ للمخرج المنصور، ولم يورِّ به كما قد يفعل في غيره، ومع ذلك وكتبه وتذكيره بالله تعالى إلى جميع أهل المشرق لا يزال عموماً وخصوصاً، وكان أول من وصل للنفير مولانا العلامة العلم، ومنبع الحكمة والكرم، عز الإسلام والمسلمين محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، وصنوه سيف الإسلام أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، وصنوهما شرف الإسلام والمسلمين الحسين بن الحسن، ومع مولانا عز الإسلام ولده ضياء الإسلام إسماعيل بن محمد، ومع مولانا الصفي (أيده الله) ولده محمد ووجوه ديوانهم وكبراء أصحابهم، وكان وصولهم إلى محروس الحصين بعد أن قطعوا ما بينه وبين صنعاء يوماً واحداً [196/أ]قبيل غروب الشمس، وخيلهم مع ذلك تباري في أعنتها لم يمسها لغوب ولا يرى عليها أثر الركود والنصوب لما عودوها، فإنهم كما قال الإمام الأعظم المنصور بالله عبد الله بن حمزة (رضوان الله عليه) مخاطباً لمثلهم:
فلا تيدنوا الجرد العتاق فيدنها .... على مثلكم من موجبات اللوائم
وقوله:
وقود جياد الخيل تكبو من الجوى .... وهن أبران فيه عوائد
تغير إلى شرق وغرب وتارة .... تأم بقيفيه الفراقد
فهذا من ذاك فإنهم (أيدهم الله تعالى) لعلو همتهم قد روضوا أنفسهم على الكد والكدح، وباعوا رفيع الرفاهية بالغالي من المدح، فإنهم وصلوا كما تقدم وكل واحد منهم معتقل لعامله كآحاد الجند، فتلقاهم الإمام (عليه السلام) بوجوه الناس، وعلمائهم، فالخبيث منهم الفاهم بأسفل المدرج، وبعضهم أقرب لسرعة تعادي الخيل بهم، وباتوا ليلتهم في بيت الإمام، وهو بيتهم وبيت أبيهم (رحمة الله عليه)، فإن الإمام (عليه السلام) لم يكن له إلى تاريخها بيت يملكه في محروس (الحصبن) و(الدامغ)، وقد تقدم سعة عمائره في المصالح الدينية، ونزل أصحابهم في مواضع بالقرب منهم.
ثم استقر مولانا عز الإسلام في دار والده المعروفة في البستان وصنوه الصفي أيده الله تعالى في داره المعروفة بالقرب منه، وهي من عمائر أيام والده (رضوان الله عليه)، وهي دار عظيمة واسعة المنازل، حسنة التفصيل، وفي كل الأيام والإمام (عليه السلام) يتابع لهم ولأصحابهم الضيافات الحسنة، وينزل كلاً منزلته، وهم يعينون الإمام (عليه السلام) في مهمات المسلمين، ويتناظرون مع ذلك في المخرج المنصور، وما يبتغي تقديمه، والكتب كما تقدم والتذكير لا يزال وقد وصل عيد النحر فتضاعف السرور بالاجتماع الميمون، وكثرت النفقات في طبقات المسلمين على العموم مع العطاء والكساء، وكان مقاماً محموداً، ووقتاً مسعوداً، وهم في أكثر الأوقات يجتمعون ولإمامهم (صلوات الله عليه) يعظمون.
كما قال عروة بن مسعود الثقفي (رحمه الله تعالى)، وقد بعثته قريش إلى رسول الله يوم الحديبية: (يا معشر قريش إني والله قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه) ، وهم كذلك يسارعون إلى مراضيه ويتوخون مقاصده الرشيدة، فيما يذره ويأتيه، وقيل في ذلك من الأشعار .
[رسالة القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري]
[196/ب]ووصلت مكاتبة من القاضي العلامة، الحبر الحافظ الفهامة شمس الإسلام والمسلمين، وقاموس علم الأئمة الهادين أحمد بن سعد الدين بن الحسين بن محمد المسوري (أيده الله) من شهارة المحروسة بالله، فإنه تأخر عن الإمام (عليه السلام) لعارض مرض والدته، ولم يكن لها من الولد غيره (أطال الله تعميره) وقد أنافت على الثمانين، وببقائه في محروس شهارة فإنه (أيده الله تعالى) حياة المكان ولأهل الحق لسان، قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم رب البيت الحرام، والمشعر الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والعشر المباركة العظام، ورب الإهلال والإحرام، صلي وسلم على محمد وعلى آل محمد، وعلى مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين، المتوكل على الله رب العالمين، وأخصصه من بركة هذه الليالي العشر وأيامها الزهر، ويوم عيد الحج والنحر، بأفضل ما خصصت به خلفائك وأكرمت به أمنائك، وأنله من تلك البركات من نفسه ومن يحوطه بنفقته وفي الإسلام والمسلمين ما يملي عينه قرة، وقلبه مسرة، وجنانه نضرة، ومحله جيرة ، وأعدها عليه وعلى أحبته أعواماً غير محصورة العدد ولا محصاة المدد، مقرونة بكرامتك وعصمتك ورحمتك ونعمتك في الدين والدنيا، إنك سميع الدعاء، وأشركني ومن أحب والمسلمين في مقبول دعواته، ومرفوع قرباته، وصالح أقواله وأفعاله ونياته، وصلي وسلم على محمد وآل محمد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
ولما جد الإمام (عليه السلام) في المخرج المنصور، أرسل القاضي أيضاً بهذا الشعر، وذلك في شهر صفر عام خمس وستين وألف [ديسمبر 1654م) وهو:
عزمت على اسم الله بالفتح والنصر
وباليمن والإيمان تصدع بالأمر
وبالبركات الناميات توجهت
عزائمك الكبرى لحرب ذوي الكبر
وبالباقيات الصالحات نشرت من
لواء الهدى أكرم بذلك من بشر
وبالله تستهدي جنودك حيث ما
تؤم وبالأملاك والسادة الغر
بدعوة خير المرسلين دعوت في
العباد فأبشر بالبشارة والبشر
دعوت إلى ربح الجهاد وحبدا
تجارته للصابرين من التجر
[197/أ]توكل على الحي العزيز الذي له
جنود السما والأرض والبحر والبر
فقد صدق الميعاد في نصر حزبه
وخزي ذوي الإلحاد والزيغ والمكر
فيا بن رسول الله وابن وصيه
وسبطيه وابن القاسم القائم البر
جزاك إله العرش عنا ثوابه
السني من الدنيا ومدخر الأجر
شرحت صدور المؤمنين بهذه العزائم
فاستبشر بشارحة الصدر
غضبت لرب العرش واخترت نصره
وذلك عند الله عارمة الغفر
أعدت لدين الله عادات سادة
أقاموا قناة الحق بالبيض والسمر
تهن أمير المؤمنين فإنما
جنودك جند الله يقدم بالنصر
تهن بما أوليت دام لك الهنا
وبلغت فيما ترتجي غاية الفخر
ودم وابق للإسلام ترفع ذكره
كما رفع الرحمن ذكرك في الذكر
وحرض جنود الحق في قطع ساقة الـ
ـعدو رماه الله بالهلك والبتر
وأمددهم في ظلمة الليل بالدعاء
ووصهم بالذكر لله والصبر
إمام الهدى لا زلت ترفع للورى
هدى وتريهم واضحاً منهج البر
وترفع للتوحيد والعدل راية
على شرفات في عمان وفي مصر
وتنصب في أقصى العراق لوائك الأعز
وفي الغرب الأقصى على يسر
وتمحو بما آتاك ربك من هدى
ومن حجج بيض عقاير ذي الكفر
أمدك مولاك الكريم بغارة
من الملأ الأعلى المكرم ذي الطهر
وأولاك منه ما تؤمل من رضى
ومن درجات عنده لذوي الشكر
ولا زلت أواها منيباً مباركاً التقية
في طي الأمور وفي النشر
تقيم عمود الدين في كل وجهة
وتظهر معروفاً وتزجر عن نكر
لك الله جاراً في أمورك كلها
ونعماؤه تسري إليك بلا حصر
لك الله عوناً ناصراً ومؤيداً
وأعداؤك الهاوون في هوة الحشر
لك الله مولاً حايطاً حيث وجهت
جنودك من بر البلاد ومن بحر
لك الله مولاً حافظاً حيث وجهت
جنودك من سهل البلاد ومن وعر
لك الله ثق بالله لا رب غيره
وأرسل على الأعداء قاصمة الظهر
جنود دعاء الليل فالله ضامن
إجابة من تدعوه في السر والجهر
وأنت أمير المؤمنين وليه
فلا تخش من سوء ولا تخش من ضر
[197/ب]وأعداؤك الفجار أعداء ربهم
وقد خاب من عادى وناوى أولي الأمر
وأنت قرين الذكر والحق والتقى
وهم قرناء اللهو واللغو والغدر
لشتان ما بين الفريقين في الهدى
فريق على عدل وآخر ذو جبر
تهن أمير المؤمنين جهادهم
ومالك عند الله ربك من ذخر
وطهر بقاع الأرض منهم فإنهم
شرار الورى لا يعرفون سوى الشر
وهن جنود المؤمنين بما نحوا
وما طلبوه من جهاد ومن صبر
هنيئاً لهم رضوان ربي عليهم
هنيئاً مريئاً دائم المجد والفخر
ولا تيأسن والمسلمين من الدعاء
بمرحمة تحيي لدى الحشر والنشر
وتعجيل غيث مرجي مبارك
به يكشف الرحمن غاشية العسر
فقد أدب الله العباد بشدة
لها فرج من ربهم عاجل اليسر
فإن الإمام البر مقبول دعوه
كما أنه للناس كالوالد البر
ولا تنسني منهم فإني لطامع
لأني أمام الحق منك على ذكر
وإنك تدري ما لدي من الأسى
من البعد لولا ما علمت من العذر
عليك صلاة الله بعد محمد
نبي الهدى والعترة الأنجم الزهر
وذكر القاضي (أيده الله) الجدب المشار إليه، ولما توجهت الجنود المنصورة كما سيأتي إن شاء الله تعالى أرسل الله سبحانه مطراً عظيماً في المواضع الشديدة الجدب، سيما بلاد صعدة، وما كثر جدبها.
ثم لما أهلك الله الرصاص كما سيأتي عم جميع البلاد شرقاً وغرباً ولا زالت المسرات تتجدد والخيرات تتردد، وحيت البلاد، وكان كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
نعم! والإمام (عليه السلام) يكرر الدعاء للرصاص خاصة، ولأهل المشرق عامة إلى غرة محرم الحرام سنة خمس وستين وألف [نوفمبر 1654م] واستخار الله سبحانه وتعالى وأكثر من ذلك، وبلغني أنه عدله عن ذلك كثير من الناس، إما لمحبة السكون أو لتخوف العواقب، فلم يجبهم بغير العزيمة، والأسعار مرتفعة، ولكن دون ما سيأتي، واستجاش العسكر المنصور من كل جهة من بلاد شهارة، وصنعاء، وكوكبان، والحيمة، وما إليها.
وقد تقدم إلى (ذمار) مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن (أيده الله)، وصنوه الصفي، وصنوهما الحسين بن الحسن، وقد جمعوا عساكرهم وخيلهم، حتى غصت (ذمار) بمن فيها، وكذلك (الحصين)[198/أ] امتلأت جوانبه وعرصاته عسكراً وخيلاً، وانقطعت المياه لكثرة الناس، ولم يبق سعة لصلاة الجمعة، فاتخذ الإمام (عليه السلام) للجمعة مصلاه في العيدين، حتى انفصلت الجموع، وقامت الأسواق ، وكثرت النفقات والعوائد والصلات، والإمام يوزع كفايتهم، ويستعجل المتأخر منهم، وكل ذلك بسهولة عليه.
كما أخبرني من شهد ذلك أو العمائر في الجامع والأسواق، والمرافق بحالهم، ولما استتب له ما أراد من اجتماع العسكر المنصور، وكان مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين (أيده الله) في بلاد مسار، وجهات حراز، وهي إليه، أمره (عليه السلام) بالنهوض، فصعد إلى صنعاء المحروسة في شهر صفر الخير، وقد جمع عسكره وأعطاهم أرزاقهم، وعسكر بهم خارج المدينة، وكتب إلى الإمام (عليه السلام) يستورد رأيه الكريم في أي حين يريد وصوله، فأمره الإمام (عليه السلام) بالبقاء حتى يأتيه رأيه الكريم لأجل التخفيف على الحصين.
وأما مولانا عز الإسلام محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين فكذلك كان استعداده، وكتب إلى الإمام كذلك.
قال بعض من نقل أوائل هذه الحركة الميمونة ما لفظه: وذكرت خبر هذا المخرج الأعظم، والجمع الذي مثله لم يعلم، وأنكم قد تحققتم مراسلة الإمام (عليه السلام) لهذا المخذول حسين الرصاص، والمعاودة لقيام الحجة والخلاص، ودعاه بالوعظ الحسن، وأن يقوم ذلك عما سيبدي عليه من المحن، وأن يسلك مسلك الحق الأقوم، ويتولى محمداً وآل محمد صلى الله عليهم وسلم، إلى قوله: فما زاده ذلك إلا تكبراً في نفسه، فاستحوذ عليه الشيطان بغروره ولبسه بما سيكون (إن شاء الله) من نكاله ونكسه.
ولما طغى وخالف الهدى، واصله الشيطان فاعتدى، أمر الإمام (عليه السلام) للأنصار، وأهل الهمم الكبار، من ساداتنا الأخيار، حماة الأقطار، مولانا عز الإسلام والمسلمين محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين، وأهل الحيمة وما والاها، وشهارة المحروسة بالله وسواها من حاشد وبكيل أنصار الحق من كل جيل، فكانوا زهاء من عشرة آلاف، وعدة من الخيل، مع اجتماعها في محروس ذمار مع مولانا عز الإسلام والمسلمين وصنوه صفي الدين (أيدهما الله) من غير من ذكرناه عند الإمام (عليه السلام) فوق ألف فرس وستة آلاف جمل.
ولما كان إلى يوم الخميس تاسع وعشرين شهر صفر، وصل كتاب من الشيخ الزين بن مصعب القايفي إلى مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن (أيده الله تعالى)، أنه رأى من المصلحة أن يقدم بقبائله قايفة إلى بلد [198/ب]الزهراء الآتي ذكرها، وهي أقرب جواراً إلى بلاد قايفة، وهي من بلاد الرصاص، وأنه يخاف أن يسبقه إليها الرصاص، ومن انضاف إليه من سلاطين المشرق، وطلب الغارة لحفظ البلد المذكورة، وأنها عنوان الفتح إن شاء الله تعالى فأمده بالسيد الأكمل صلاح بن محمد الديلمي، وهو من خواص مولانا أحمد بن الحسن، والشيخ حسين بن صالح بن مذيور الحيمي، وكذلك غربان، ونقباؤهم فتقدموا إلى الزهراء ليلاً ونهاراً، وكان فيها رتبة من أصحاب الرصاص، فولوا الأدبار، وتركوا البلد.
فلما كان إلى غرة ربيع الأول خرج مولانا عز الإسلام والمسلمين محمد بن الحسن (أيده الله) ومولانا سيف الإسلام أحمد بن الحسن (أيده الله) بعساكرهم المنصورة، وكتائبهم الموفورة، أمسوا في حيمة عنس، وقد فرقوا العسكر المنصور في مواضع لأجل سعة الطريق في يوم الأحد ثاني ربيع الأول، وقدموا إلى محروس رداع، وساق كلاماً ما حاصله أن مولانا الإمام (عليه السلام) ولّى على جميع العام والخاص، والداني والقاصي، في الكثير والقليل، والدقيق والجليل، مولانا وملكنا عز الإسلام والمسلمين محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، وأعلمهم بما هو عليه (أيده الله) من جودة الرأي وكمال السياسة من غير منازع، وكان مما دبره (أيده الله) بأن بعث محطة عظيمة مع ولده السيد النجيب، الرئيس الفاضل الحسيب، عماد الدين يحيى بن محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، وضم إليه عيوناً، منهم: الشيخ الرئيس محمد بن ناصر المحبشي وأمره بالمضي إلى (قعطبة) ، وجمع معه من القبائل سواداً عظيماً لعلمه أن مشارق اليمن إلى طريق عدن قد تحدثوا بجمع المشرق وخلافهم للحق، وقد ركزت رعايا تلك الأطراف رؤوسها، فلما استقرت المحطة المنصورة بالله تعالى في (قعطبة) قل الإرجاف، وأمن أهل تلك الجهة نايرة الخلاف، فكانوا إلى ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
[الرصاص يتهيأ للخروج]
نعم! ولما استقرت المحطة الأولى في الزهراء، وقد أجلب الرصاص بمشارق اليمن من العوالق، ويافع وغيرهم من سلاطين المشرق المتقدم ذكره، فكانوا أكثر من ثلاثين ألفاً، وعسكروا في نجد السلف، وهو باب بلادهم ولا طريق إليها من غيره للجمال والأثقال، وجموع الرجال، وقد نقلوا إلى هذا الموضع بيوت الشعر وأهليهم وأنعامهم، فكانوا محاطاً متكاتفة، وفي عدد بيوت الشَعْر روايات إلى ألوف كثيرة، ونفقاتهم مع ذلك من أصحاب الرصاص، وقد فرض على أهل مدينة البيضاء كما تواتر عنه في كل يوم دراهم وغنماً وطعاماً[199/أ] وكَتب الإمام (عليه السلام) لا تزال إلى هذا الضال، فلا يزداد إلا بعداً، وكتب الخبيث المتقدم ذكره وهو سالم بن أحمد بن حسين بن أبي سالم المغرور بأن الزيدية طعمة لك، وأنه وقد وهبه أياهم، وأرسل بمسبحته وقال: إنها تقوم مقام الجيوش الكثيرة، وكاتبوه أيضاً، ووصفوا له ما دهمهم من الجنود الإمامية، فأرسل مرة أخرى براية من راياتهم المنكوسات، وعبداً يحملها من أهل الخلاعة، فقطع المغرور بذلك، وبشر من أخبره بقدوم العساكر الإمامية، وقطع بما وعده ذلك الضال، وقال في ذلك شعراً، وهو في الحقيقة مما يعد هذياناً وهجراً:
[أما علينا وسالم قد غلب
لا تتحطب يا ذوا الغلب القليل
ولوسماعيل هام بالعرب
الغر ماله في المشرق سبيل]
[تقدم جيوش الإمام المتوكل إلى ذي كراش]
نعم! ولما استقرت المقدمة التي مع السيد صلاح بن محمد تقدم من فايقة أصحاب الشيخ الزين ما يدنوا من أربعمائة نفر إلى موضع يسمى ذي كراش، وهي بلد حصينة، أهلها يدنو من مائة بيت، وفيها حبوب كثيرة، وإرفاق واسعة، فانتهبوها وأخذوا ما لا يعلم حسابه من الأطماع، ثم لحق بهم العسكر ستون رجلاً لمثل ما فعلت قايفة، وأرسلوا إلى السيد صلاح ومن بقي معه ليلحقوا بهم، فخاف السيد صلاح على البلد التي هي عهدته.
ولما رأى أصحاب الرصاص وهم أهل البلد المذكور قل العسكر، وأن (قايفة) يحملون الأطماع، ولا ينتظر أولهم آخرهم، فأرسلوا إلى الرصاص، وأخبروه بما وقع فأمدهم بما يدنو من الألفين، فانحاز العسكر الذين في البلد في البيوت، وكذلك من بقي من قايفة فكانوا في بيت آخر، وأحاط بهم أصحاب الرصاص من كل جهة، وكادوا يدخلون عليهم البيوت، واشتد الأمر، وقتل من العسكر أنفاراً، ومن أصحاب (قيفة) ستة أنفار، ومن أصحاب الرصاص جماعة، وحملوا قتلاهم على الجمال، وقل على العسكر المتحاربين وعلى (قايفة) أيضاً البارود والرصاص، ودافعوا عن أنفسهم أشد دفاع، وكان في المخذولين رسول خبيثهم براية الضلال المتقدم ذكرها، فحمل بها قاطعاً أن كلام شيخه حق، وأن الرصاص لا يصيبه، وإن أصابته، فكا الماء فصب عليه أهل البنادق الرصاص فقل ما أخطأه منها، وتطاير قحفه وخر إلى سقر[199/ب] واجتز رأسه، وأخذت رأسه، فكانت لعنة لأهل السوق الإمامي، ولما وصلوا إلى الرصاص لامهم، وعنفهم على الهزيمة، وهم بأخيه صالح، وكان عليهم.
نعم! وقد نفذ البريد إلى مولانا محمد بن الحسن (أيده الله تعالى) فتجهر مولانا أحمد بن الحسن، وصنوه الحسين في أكثر من أربعة آلاف ونحو أربعمائة فارس، يوم السبت ثاني عشر شهر ربيع الأول إلى موضع يسمى خريص ، ثم منه إلى المعسال، ثم منه إلى الزهراء ولما وصلوها أقاموا خمساً، وخرجوا للضيافة إلى ذي كرش، فقرروا الرتبة الأولى وزادوا عليها، وانفرد الشيخ المجاهد الحسن بن الحاج أحمد بن عواض في أنفار، فوقع بينه وبين رتبة الرصاص حرب وعادوا إلى الزهراء.
ثم وصل مولانا عز الدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين في نحو ألف وثمانمائة، ثم مولانا عز الدين محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين في نحو من ألفين وخمسمائة، ومع ذلك الإمداد يلحق بهم، فكانوا زهاء من عشرة آلاف ومن قايفة وبني ضبيان نحو من الألف، ووصل إلى مولانا الصفي أيده الله خفية شيخ بن غيلان، وشيخ الملاحم من السكون حوالي النجد المذكور، فأحسن إليهم ووعدوه بأن يدلوه على عورات المخذول، وأن ينخذلوا عن نصرته، ووفوا بما أعطوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
[التحام الجيش الإمامي بعساكر الرصاص]
ذكر الوقعة الكبرى والملحمة الغراء في نجد السلف، ولما كان يوم الاثنين تقدم السادة الكرام بالعساكر المنصورة إلى موضع تسمى عفار، ثم منه إلى قاع الرماة غربي نجد السلف، وإلى جهة القبلة أقرب، وذلك يوم الثلاثاء، وكل هذه المواضع متقاربة، وأقاموا يوم الأربعاء في مواضعهم، وفي آخر ذلك النهار خرج السادة الكرام، بجمهور العساكر المنصورة إلى أكمة مقابلة لسواد أهل المشرق، وقد تراءى العسكران، وكاد أن يتصل بعضهم ببعض، فلم يره السادة تدبيراً.
وأرسل مولانا الصفي (أيده الله) إلى الرصاص: إنك إذا لم تطع الله سبحانه وتعالى بطاعة إمام الزمان، فارفع الحرم والأطفال، ومن لا حاجة إليه في القتال، فإني أبرأ إلى الله معرة تلحقهم بسببك، فكان الجواب على نحو ما تقدم من الهذيان، والبقاء على العصيان، والتعويل على زخارف الشيطان.
[200/أ] ولما أسفر نهار الخميس رابع شهر ربيع الآخر، زحفت العساكر الإمامية، وقد تعبَّوا أحسن تعبية، فكان مولانا الصفي ومعه جماعة من الرؤساء كالسيد المجاهد شرف الدين بن مطهر بن عبد الرحمن بن مطهر بن الإمام شرف الدين (أعاد الله من بركاته)، والشيخ المجاهد حسن بن الحاج أحمد بن عواض الأسدي، ومن في صحبته من جماعة مولانا العزي محمد بن الحسن (أيده الله)، والفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل الأهنومي، ومن معه من وجوه أصحاب الإمام (عليه السلام)، كانوا قلباً، ومولانا محمد بن الحسين، ومولانا الحسين بن الحسن جانباً من ميمنة مولانا أحمد بن الحسن (أيده الله)، وطالت بهم الطريق إلى موضع خالفاً لأعداء الله، وكان مولانا عز الدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين ووجوه من الأعيان في الجانب الشرقي، وهي الميسرة، وكان سواد أصحاب الرصاص ومن إليهم فوق المثلين، بما لا يعلمهم إلا الله من بني أرض، ومراد، ويافع، والعوالق [والمصعبين] ، ودنا الناس بعضهم من بعض، وكان قد جعل الرصاص أصحابه في النجد وغيرهم من المواضع سوراً بالغوا فيها على صفة المترس الحصين عمروه أياماً، ولا يظنون أن أحداً يقربه فضلاً عن أن يجاوزوه، وقدموا مقدماتهم إلى آكام خلف الدائر ، ورموا منها، وجنود الحق تدخل معهم، وقد صبوا عليه الرصاص كحاصب البرد.
أخبرني من شهد ذلك بعد ثمانية أيام من الحرب أنه رأى الشجر محصودة، كما يحصد الزرع لكثرة الرصاص، قال: وكان الشجر خضراً فرآها وقد يبست، قال: فما خلتها إلا القصب المقطوع بالمناجل والفؤوس، وسلم الله المجاهدين في تلك الحالة، فعلاهم أهل الميسرة.
قال بعضهم: فما كدنا نرقاه إلا بمشقة، ودلينا فيه بعضنا بعضاً فانهزموا إلى قريب من الدائر، وقد ازدحم الناس في الطريق بين يدي مولانا الصفي، وقتل جماعة من العيون، منهم حامل لوائه الأعظم، ثم غيره، وحملت الخيل، وأصيب جماعة، واقتحم الناس الدائر المذكور، وكان ذلك من أسباب الهزيمة، وقد بذل الناس جهداً، واستعملوا الضرب بالسيوف، واقتحام الأهوال والحتوف.
أخبرني من حضر من غير واحد أن أصحاب الرصاص قالوا: إنه كان من عناية [200/ب] الله لأصحاب الإمام والتقية على الفريقين، إن السلطان صالح الرصاص كان في مترس، وحوله من أهل البنادق ألوف، فسقطت عليه بندقه وانكسر كرسيها، فالتفت لغيرها فلم يجد، فقام إلى أخيه يطلب بندقاً آخر فظن أصحابه أنه انهزم، فانهزم أصحابه لذلك، مع جملة المجاهدين فنجا ونجوا لذلك، وقد أظهر السلطان حسين شجاعة وأصيب مع ذلك، فعاد إلى مضربه المضروب، وقال: من أراد السلامة لحق بصالح ومن أحب الموت كان معي، فقتل من استقام معه في موضع واحد، وكانوا أكثر من ثلاثمائة، ونجا الباقون وانهزمت الخيل، ويافع انهزموا قبل أن يصل إليهم خفاف المجاهدين.
وأما مولانا عز الإسلام محمد بن الحسين (أيده الله) ومن إليه فإن الطريق طالت عليهم كما تقدم، وهم يظنون طوال القتال فيكونون من وراء العدو، فوصلوا مع آخر هزيمتهم، فكان مولانا محمد بن الحسين، وصنوه أحمد بن الحسين في أول قومهما، فأدركوا جماعة قتل منها مولانا محمد فيما أخبرني به رجل من أصحابه ثلاثة بيده، وصنوه الصفي ثلاثة، ومولاً له يسمى جوهر كذلك ثلاثة.
[انهزام الرصاص ومقتله]
وأما مولانا الحسين بن الحسن (أيده الله) فكان أقرب إلى القلب، فأدرك هو وأصحابه معظم القتال ونالوا من العدو منالاً عظيماً، وانتهب الناس ما في معسكرهم، وما كان معهم من السلاح وغيره ما يعظم قدره، ولا يمكن حصره.وأما البيوت الشعر فقد تقدم أن عددها إلى ألوف كثيرة.
قال القاضي العلامة الحسن بن أحمد الحيمي (أسعده الله): أنه أخبره بعض الأسرى أن عددها أربعة آلاف بيت، فاحتمل الناس منها، واجتز رأس السلطان حسين الشيخ جابر بن حسن الجبري، واستشهد حينئذ فأخذه منه رجل من سفيان ، يسمى داود السفياني، وصفة ذلك أن السلطان سقط في المضرب مع جماعة من أصحابه قد جرحوا، فاجتز الشيخ جابر رأسه كما تقدم، وكان يظن أن الذين حوله من المصرعين قد هلكوا، فقام بعضهم فطعنه بجنبيه حتى قتل الشيخ المذكور، ولا علم للشيخ ولا لخليفته السفياني أن الرأس المجزوز رأس الرصاص (لعنه الله).
وانجلت الوقعة على قتل شياطينهم، ورأس سلطانهم، وهزيمة من بقي، ونجا بعض حريم الرصاص على خيل العوالق، وطاروا على وجوههم.
قال القاضي المذكور: إن شجاعة أصحاب الرصاص الذين ثبتوا[201/أ] معه لا تقاس بها إلا ما قيل في الخوارج، ولا يقدر قدر ما رأى منهم، ولما انقضت الوقعة استقام السادة الكرام (أيدهم الله) وجمعوا الحرم ، وجعلوهن في مضرب واحد، وجعلوا عليهن من ارتضوه باطلاع الشيخ المبجل زين بن مصعب القايفي، واستشهد من المجاهدين ما يدنو من الخمسين النفر، من وجوههم الحاج الشجاع المشهور سعيد أبو راية الظليمي، والنقيب هادي الزوملي الشامي، وقاسم بن سعيد المذعوري، والشيخ صالح بن جابر من الكلبين ، وجماعة من كبراء العسكر، وباقيهم من عامتهم، واحتمل المجاهدون قتلاهم، وجرحاهم إلى المخيم المنصور، وعاد مولانا أحمد والسادة الكرام إلى المخيم المنصور، وقد حمل الناس من الغنائم ما يجل ويعظم، كما تقدم ومعظم ذلك صار مع (قايفة) و(بني ظبيان) لمعرفتهم الشعوب التي كانت البيوت فيها، فأمسى السادة الكرام في المخيم المنصور في قاع الرماة، ثم ارتحلوا يوم الجمعة إلى الصلالة التي ما بين النجد والبيضاء .
قصة السيد شرف الدين وأصحابه وما غنموه من الصلالة
وذلك أنه تتبع المنهزمة في أقل من خمسين نفراً، فوصل إلى قريب الصلالة، وخاف فعاد يريد المحطة، ويظن أن السادة الكرام في النجد، فرجعوا يريدون النجد، وقد افتقدهم مولانا أحمد في الليل [وشجن عليهم، فأرسل في أثرهم عسكراً من بني الحارث، وبني حشيش، زهاء مأتين، فوافقوهم] في الليل قريباً من محل الوقعة.
ولما تعارفوا في الظلام، عادوا إلى الصلالة في سواد الليل، فغنموا منها ما لا يحصى، وكانت هذه البلد مخازين الرصاص وأصحابه للحبوب، وقعد كل واحد منهم على ما وجد من المدافن، فباعوا القدح ببقشة واحدة، تأتي خمس دراهم، وأقل لكثرته، ولا يحتسب ما غنموه منها.
وأما السادة الكرام فتقدموا من قاع الرماة يوم الجمعة وصلو الجمعة قريباً من محل الوقعة وتقدموا إلى الصلالة، وأمر مولانا الصفي (أيده الله) بالتفتيش بمظان مواضع الحبوب فوجدوا كثيراً، وأرخص الله الأسعار، وحمل الناس من الطعام إلى بلاد قايفة ورداع، وذمار لكثرته، ولولا أن مولانا عز الإسلام (أيده الله) منعهم لحملوه إلى صنعاء لكثرته، وشدة الوقت.
ولما استقرت المحاط المنصورة في الصلالة بموضع منها يسمى وادي ذي باغم وأرسل مولانا الصفي (أيده الله) مقدمة إلى البيضاء بسؤال أهلها لحفظها من فيض ألفاف المحاط المنصورة، وكتبت البشارات إلى كل جهة، وبعثوا[201/ب] برأس الرصّاص إلى عند مولانا محمد بن الحسن (أيده الله)، فبعث به إلى الإمام (عليه السلام)، وكان لذلك موقع عظيم، ولا كاد البعيد، ومن في قلبه مرض يصدقون أنه المقتول، ونصب رأس الخبيث في جانب الحصين، وقد تقدم ذكر ما فتح الله به من الأمصار عقب قتله في كل جهة.
[تقدم القوات الإمامية إلى البيضاء]
نعم! وتقدمت المحاط المنصورة إلى البيضاء يوم الخميس حادي عشر شهر ربيع الآخر، ولما استقر السادة الكرام في معمورة (البيضاء)، وجماع أمرهم ومرجع تدبيرهم إلى مولانا سيف الإسلام أحمد بن الحسن (أيده الله) وقد تقدم أنه (حفظه الله) حفظ الحرم والأطفال، ثم أرسلهم بعدها إلى الرصاص، وهو السلطان صالح إلى موضعه المسمى عبرة من جبال المشارق المتصلة ببيحان، وقد صار فيها متوحشاً لا يقر له قرار، ولا تؤويه دار، وكان مولانا أحمد أيضاً قد أحسن إلى من وجد من ضعفاء أصحابه، وسلم إليهم أهاليهم، وأحسن إسارة من أسر منهم، وكان من جملة الأسرى عندهم الأكبر المسمى شليل، وله عندهم وعند أصحابهم محل ووجاهة، فأرسل إلى سيده، ووصف ما رأى من الكرم، ومحامد الشيم، والعواطف العلوية، والمراحم النبوية، فهان عليه بعض ما داخله من الفزع، فخاطب الأمان، وأرسل كاتبه المسمى الفقيه علي نافع، ورجلاً من بني علي يسمى حيدرة، وبعث معهما بكتاب إلى السادة جميعاً، ووصف حاله بعد أخيه، وقتل كبار أصحابه، وأنه لم يبق له ولا لهم سيف ولا لبد ، وسألهم الأمان والجبران، والصلح والإحسان ويصل إليهم، فأجاب مولانا الصفي (أيده الله) إلى ذلك، وكتب فيه إلى صنوه عز الإسلام (أيده الله)، واستورد الجميع رأي الإمام (عليه السلام)، فأجابهم (عليه السلام) يأمرهم بقبوله، والإحسان إليه من غير شرط معين، وقد تردد أصحابه على مولانا الصفي (أيده الله)، وحاولوا أن يرجع له حالة أخيه، فلم يجبهم إلى غير ما تطيب به نفس الإمام (عليه السلام) من البلاد وغيرها.
ثم بعد ذلك أخذوا عهداً ثانيا مؤكداً في الأمان من سادتنا (أيدهم الله تعالى) ولا يظنون لسوء عقيدتهم في أهل البيت (عليهم السلام) أن الأمان منهم بدون ذلك، فلما أعطوهم ذلك طلبوا أن يلقاه مولانا شرف الدين الحسين بن الحسن (أيده الله)، وكانوا قد عرفوا منه (حفظه الله) ظهور الشفقة على مكالفهم وضعفائهم، وأنه الذي أسر العبد المذكور فأحسن إسارته، وطلبوا مع ذلك أن السلطان يقيم عندهم في (البيضاء)، كما أراد، ويعود إلى موضعه، فوضعوا له ذلك وتقدم إليهم[202/أ] يوم الاثنين سابع وعشرين من شهر ربيع الآخر، ولقيه مولانا الحسين بن الحسن (أيده الله) وخلع عليه في الطريق الكسوة الفاخرة ، وكاد المذكور أن لايقبلها، كما أخبرني بعض من شهد ذلك، لعدم اعتيادهم الكسوة، وإنما لباسهم كسائر مشائخ المشرق ميزر ولحفة من أغلى بز الشحر المنتخب، وسلاحه البندق كغيره، ويبالغ في حليتها وحلية العدة، وكذا كبار أصحابه غالب سلاحهم ذلك، ولا يركب الخيل هو ولا آباؤه، وإنما يسير مع أصحابه كأحدهم، ويطولون لون الشعر، ويسرحون حتى أنه كان شعر رأس حسين الرصاص كما أخبرني من رآه يقرب من ذراعين، وله خدم لتسريحه ولا يسكنون الحضر.
نعم! وعرض عليه مولانا الحسين (أيده الله) الركوب على الخيل فبعد كثيراً، وقد أنس وذهب ما به، وتلقته العساكر المنصورة وعظمه مولانا الصفي وخلع عليه، وعلى كبار أصحابه الكساء الفاخر، ثم السادة الكرام كذلك، وأضافوه الضيافات الحسنة، وأقام عندهم إلى يوم السبت ثاني شهر جمادى الأولى، وعاد إلى محله الأول، وقد استقر خاطره، وأعادوا عليه شيئاً من البلاد وجامكية معها وحصاناً عظيماً محلياً، ومن أنواع الكسوة كثيراً، وكانت أحمالاً عطاء من غير تقرير، وعاد منشرح الصدر، كثير الوفر، وقد رأى ما ملأ صدره رهبة ورغبة.
[ولاء سلطان قبائل العوالق والفضلي للإمام]
ذكر من وصل بعد قتل الرصاص من سلاطين المشرق، ومع الخطاب المتقدم لصالح الرصاص، وصلت كتب السلطان منصر بن صالح العولقي، ومحله مدينة صغيرة تسمى يشبم من بلاد العوالق، وهذا السلطان وأهل بلاده من أهل الحضر، وفي بلاده أسواق كثيرة، وقرى واسعة، منها مدائن، ويركبون الخيل، ويبلغ إلى أربعمائة وطلب الأمان على بلاده، وكان له مكاتبة إلى الإمام (عليه السلام)، وما كان يعطي الرصاص إلا ظاهر الطاعة مداراة له؛ لأنه قد ظهر عليه في وقعات، وقتل الرصاص من أصحاب العولقي في وقعة واحدة ما يدنو من ثلاثمائة، فأجابه مولانا الصفي (أيده الله) بالقبول، وأمر بالمنادي في المخيم المنصور بالله أن العولقي وبلاده من جملة بلاد الإمام (عليه السلام)، وسار ذكر النداء وذلك باستدعاء من يعرف قواعدهم، وفي يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الآخر وصل ولد الفضلي مواجهاً، فأمنه السادة (أيدهم الله تعالى) ووضعوا له ولاية بلاده، وعاد إلى والده بعد أن أعطي وكسي، وفي بقية هذا الشهر المذكور[202/ب] امتدت الكتب إلى جهة كل من المشارق، ووصل منهم من وصل بالهدايا والمواصلة من الكثيري كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والجوابات من كل واحد من الواحدي والعمودي وغيرهما، وتقدم الأمير الفاضل صالح بن حسين بن مطهر بن الشويع، هو ومحمد بن عبد الله بن الحسين بن علي بن القاسم بن الهادي بن محمد بن أحمد بن الإمام المنصور بالله (عليه السلام) إلى الشحر وجهات حضرموت، وكان كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وذلك عن أمر مولانا أمير المؤمنين، وسادتنا الكرام (أيدهم الله)، وكان من الإعراض والجواب ما سيأتي.
ومما قيل في هذه الوقعة من الأشعار، ما قاله القاضي العلامة فخر اليمن وحافظ علوم آل الحسين والحسن، أحمد بن سعد الدين بن الحسن بن محمد المسوري ، وكان يومئذ في (شهارة) كما تقدم:
تحمد ربك فاستكثر من المنن .... يزدك ربك من أفضاله الحسن
والشكر فالزمه في قول وفي عمل .... وفي اعتقادٍ وفي سر وفي علن
والذكر فاذكره بالنعماء تظفر من .... بلاغ مقصدك الأعلى وكل سني
والصبر في حسن تصريف العباد بما .... ترضي به الله في شام وفي يمن
والاحتمال لجافيهم غباوته .... والعفو والصفح عن ذي الذنب أن يكن
والبر والفضل والإحسان إن لها .... مواقعاً تترقى أرفع الفنن
واضرع إلى الله في جنح الدجى ملقاً .... إليه مفتقراً ذا مدمع هتن
فإنه وهو ذو الآلاء خصك من .... بين الورى بعظيم الفضل في الزمن
فاشكره واذكره واستمسك بعروته .... وكن به عن جميع العالمين غني
وهذه دعوة فيها الحياة لمن .... أجابها وأوى في أشرف السفن
علت بها كلمات الله وانتشرت .... شرقاً وغرباً بملء العين والأذن
وقابلتها من الرحمن نصرته .... فكشفت ضلمات الإفك والفتن
وبيضت وجه دين الله إذ صرعت .... وجه الضلالة حتى خر للذقن
واستنزلت كل عاص طائع عجل .... إلى السلامة من عال من الوكن
وأذهبت عن قلوب المؤمنين بما .... سرت به كربات الغم والحزن
واستغرق الشكر للباري ونعمته .... قوى الجوارح والألباب واللسن
فتح المدائن والرحمن يسره .... بحوله كان أغنى نافذ فطن
[203/أ]تبارك الله ما شاء بمعجزة .... وما لمن غالب الرحمن من ركن
فزادك الله شكراً كي يزيدك من .... عطائه الجم إن الله ذو المنن
ولا برحت أمير المؤمنين إلى .... سبيل ربك تدعو الحق غير وني
مبلغاً من رضى الرحمن غايته .... ومن أقام الهدى بالسعد واليمن
تهن هيأ لك الباري مواهبه الـ .... حسنى وزادك من نعماه كل هني
وهن أبناؤك الشم الكرام بما .... أوتوا وما منحوا من أحصن الختن
وما سعوا في رضى الرحمن وانتصروا .... للدين دين نبي خير مؤتمن
وما ارتقوا من علالي المجد إذ نهضوا .... لله جل بلا ضعف ولا وهن
وتاجروا الله صدقاً في شراء درج .... من المعالي وبالغالي من الثمن
فعجل الفتح فضلاً وهي عادته .... لكل عبد بتقوى الله ممتحن
ومن يحف بهم من أهل دعوتهم .... من كل أروع عالي همة فطن
جنود حق تولى الله أمرهم .... وصانهم عن صفات العجز والجبن
حب الإله وحب المصطفى لهم .... والآل دين بلا ريب ولا دفن
ووصهم حاط رب العرش حوزتهم .... بالشكر والذكر فعل الشاكر اليقن
والصبر للناس والتعليم إنهم .... في بدء نشر بيان الفضل والسنن
وفي ديار بعيد عهدها بذوي آل .... إرشاد من بهدى العالمين غني
قد طال ما ذهبت ممن يلابسها .... بجهله بضلال الرأي والأفن
والآن قد عاد فيها الحق واضحة .... سماته بعد طول النوم والأسن
وأصبحت مستقراً للهداة وللـ .... ـهدى واطمأن الحق في وطن
فأولهم يا أمير المؤمنين بما .... أولاك ربك ثوب المصلح الأمن
وافرش لهم في مهاد الأمن مملقة .... ليعرفوه بلا ميل ولا حجن
وهدهم لهدى الرحمن واسع لهم .... في الرشد أنجد من يرنو إلى حصن
فجدك الرحمة العظمى وأنت له .... خليفة صادق يجري على سنن
وابشر من الله بالرضوان في زلف .... مع ما أتينا به بشرى بن ذي يزن
وأنت للدين والدنيا وللشرف الـ .... عالي الفخار كمثل الروح للبدن
ولا زلت ترفع أعلام الهدى وتري .... هذا الورى رشدهم في غير ما عطن
وتورد الناس عذباً من هداك لهم .... إلى النجاة نميراً غير ذي أسن
[203/ب]تتلوا عليهم كتاب الله والسنن .... اللاتي تجلت وتشجي كل ذي درن
وكل مبتدع في الدين ليس له .... بصيرة شيء في فعله درن
أغواه شيطانه بالغي فاجتمعا .... على الضلال والإضلال في قرن
والحمد لله حمداً لا انقطاع له .... على مواهبه في السر والعلن
ثم الصلاة على خير الورى وعلى .... أهليه ما سجعت ورقاء في غصن
وقال أيضاً (أطال الله بقاه) في جوابه على مولانا أمير المؤمنين (حفظه الله) في كتابه الذي رفع فيه البشرى بقتل الرصاص، وذكر مولانا (حفظه الله) في ذلك الكتاب أن سادتنا لما استولوا على حريم الرصاص ستروهن وسيروهن إلى مقرهن.ولم يتعرض لهن أحد بسوء، فكان مما قال القاضي (أيده الله) وذكرني صنع سادتنا بحريم الرصاص فعل الوصي صلوات الله عليه في أهل البصرة، وهم أهل الجمل، حيث قال مهيار الشاعر:
حتى إذا دارت رحى بغيهمُ .... عليهمُ وسبق السيف العذل
عادوا بعفو ماجد معود .... للعفو حمال لهم على العلل
فنجت التقيا عليهم من نجا .... وأكل الحديد منهم من أكل
قال القاضي (أيده الله): فلشدة ما لبسني من السرور وغشيني من الحبور عرض في الحال بديهاً لموقع ما هز فيها:
لا غرو إن حذا بنوه حذوه .... وإن رقوا من مجده أعلى القلل
وإن سعوا كسعيه فأصبحت .... معلنة حي على خير العمل
وإن أطاعوا الله في طاعة من .... دل على نهج الصواب وحمل
[والدهم إمامهم من خلصت .... نيته ومن على الله اتكل]
يدعو إلى التوحيد والعدل وما .... جاء به نص الكتاب وفصل
وسنة المختار جده الذي .... عليه جبريل من الله ونزل
وصنوه المولى الإمام خير من .... من بعده يوما جفا أو انتعل
وسيرة الأبرار من ذرية .... قد طهرت من كل رجس وزلل
بالمصطفى والمرتضى قد اقتدوا .... والحسنين السيدين في العمل
وزيد الداعي إلى سبيلهم .... ومن قفا آثارهم بلا خطل
قف إمام الحق فينا إثرهم .... وسادة شفوا من القلب الغلل
[204/أ]دعاهم إلى الجهاد فانبروا .... مثل الليوث وثبة بلا مهل
وسلهم صوارماً على العدا .... بنصر رب العرش من غير كسل
وجههم أسنة مسنونة .... تجارة الله انتجوا بلا فشل
لله در سادة غطارف .... علوا سيوف الحق من بعد النهل
سقوا أعادي الله كأساً مرة .... وأشبعوا وحش الفلاة والجبل
وحينما استولوا على حريمهم .... عادوا بصفح الماجدين في الحلل
وكرموا أنفسهم إذ كرمت .... بالحلم والمعروف من غير دغل
وستروا بفضلهم ما كشفت .... تلك الذنوب الموبقات والخلل
ما أحسن العفو وراء قدرة .... تبخرت من الوفاء في حلل
ملكهم مولاهم فاسجحوا .... لوجهه ما اتكلوا على العلل
لله در من عفاف بعد ما .... أدرك ما رام وجاد واحتمل
ودر جند الحق من حين دعوا .... لنصر دين الله أجابوا عن عجل
وسارعوا للخير فيهم قادة .... رؤساء الكل منهم قد كمل
لهم معال شامخ قبابها .... قد سيرت في الأرض تسيير المثل
قد صدقوا في ودهم خير الورى .... والعترة الأطهار ما فيهم شلل
من نصر الله يجد نصرته .... إمامه وحيث حط وارتحل
من يتق الله يجعل فتحه .... له سريعاً ويبلغه الأمل
يا رب أيدهم جميعاً واحمهم .... وصلهم فأنت خير من وصل
وجد عليهم بالأيادي والرضى .... والنصر منك أنت تعطي من يسل
وصل ما غنت حمام أيكة .... على نبي حل في أعلى محل
وإله الأطهار خير من جعلهم .... هداة من حاد عن الحق وضل
ومن هم حبل مع الذكر كما .... جاء به عن الرسول من نقل
والحمد لله على أنعمه .... ما أعلنت حي على خير العمل
وقال الفقيه الأديب البارع وجيه الدين مهدي بن محمد المهلا [قصيدة] نيابة عن مولانا أمير المؤمنين، فاستحسنها مولانا الإمام (عليه السلام)، وأمر برقمها في كتاب (الغيث المدرار)،[204/ب] وكان تاريخ تمام نسخه الغيث الذي كتبه الفقيه المذكور في العام المذكور، فكان إفتح بلاد (الشحر) فهذا اللفظ ألف سنة وخمسة وستون سنة [1654م]، ونظمه المذكور في أبيات من جملتها:
حتمي له قال عجيب الأمر .... ألهمته ليلاً بحسن فكري
ولفظه:
افتح بلاد الشحر .... أبا علي شارحاً للصدر
وذلك من جملة أرجوزة أيضاً في آخر ذلك الكتاب، وهذه الأبيات التي على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام):
يقول أمام الحق والله عونه .... على خاذل للحق رام التباسه
عزمنا على اسم الله ننصر دينه .... ونهدي إليه من أراد اقتباسه
بعثنا جنود العدل شرقاً عزيمة .... لفرض علينا أن نقيم أساسه
هو الأمر بالمعروف والنكر ينتفي .... وشرع إله العرش يجزي اجتنابه
فصدهم الرصاص عن نجده الذي .... أراد به عزاً فنال انعكاسه
وناوش حرباً بعض يوم فجاءه .... شجاع من الفتيان فاجتز رأسه
ومن قابل الليث الهصور بكلبه .... فثم يرى إقدامه وافتراسه
كأن لم يكن سلطان أرض وقومه .... جميعاً سقاهم أحمر القتل كأسه
وكنا تأنينا لإعذاره عسى .... يفي إلى خير فأظهر بأسه
ومن كان شيطان الهوى غالباً له .... يرى عن قريب هلكه وانتكاسه
وليس بمقصود لنا غير أنه .... تعرض للجيش اللهام فداسه
توهم أن النصر قول وليه .... فأبطل نصر الله ما كان قاسه
يريد إله الحق إتمام نوره .... وود العدى إطفاءه وانطماسه
ومن زين الشيطان والنفس فعله .... فليس لباس المؤمنين لباسه
ومن أحسن الظن الجميل بربه .... يحقق رجواه ويذهب باسه
وقال الفقيه العلامة الأريب المصقع البليغ الأديب، قمطر العلم والأدب، أوحد من أنشأ وكتب، جمال الدين علي بن محمد بن يحيى بن سلامة طول الله عمره، وشرح صدره، ويسر أمره، أبياتاً ووجهها إلى مولانا عز الإسلام، وبركة الأنام محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين (حفظه الله) يهنئه بالفتوحات الشهيرة، والذخائر الكبيرة، بعد الظفر بجميع [205/أ] الأعداء، والإعقاب بظفر بنجد السلف النافع، بالظفر الكبير بيافع، والحمد لله رب العالمين:
تبلغ عز الآل حلو التراجم .... تهاني وافت كالبدور التمائم
تهاني جاءت كالشموس تواردت .... بها انجاب عن أفق الهدى كل قاتم
جواهر أخبار إليه طوالع .... فهل مثلها روض الرياض النواعم
ببشر عميم للبرية عن يد .... ونصر وتأييد ويسر مكارم
وإعلان دين الحق في كل وجهة .... وإظهاره حق بصدق عزائم
بعون من الله الكريم ولطفه .... وتأييده جم العلى والمراحم
فما النصر إلا منه جلا جلاله .... فمنه تدانى سالم وابن سالم
يدلي عن الأرض القصية سالم .... وكان مدى الأيام غير مسالم
أراد بأن يهدي ليافع نافعاً .... فحملهم أثقال كل المغارم
دنو السيوف الهند والسمر والقنا .... وخروا له من شامخات عواطم
جزى المشرفيات الحداد فإنها .... تقطع عن ذي الزيغ مهوى التمائم
وخطية سمر طوال ثواقب .... وضحك سيوف بالثغور البواسم
لقد نصر الرحمن نصراً مؤزراً .... وزعزع من أركانه كل ظالم
وقوض بالرعب الشديد صياصيا .... وذللها حتى دنت بالسلالم
ويافع أدناهم وسهل أرضهم .... وكانت ترى للعز حيث النعائم
تتابعت البشرى وكان رواوها .... لعز الهدى والفضل سبط البراجم
بحر الهدى جم الندى مالك الهدى .... بطعن وضرب حيث ليَّ العمائم
سرت نحو أرض الشرق منه كتائب .... فجلت بحمد الله كل العظائم
أتاح لهم عز الهداة محمد .... كتائب تترى كالنسور القَشَاعِم
وساق لهم من آله الغر أنجماً .... أكارم جاءوا بالعلا والمكارم
ثلاثتهم جاءوا بكل غريبة .... من الفضل حتى أزهرت عن كمائم
ولا ننس جيشاً للحسين وبارقاً .... له الفضل أضحى شايماً أي شايم
سموا ورقوا للمرمات والعلا .... مراتب يرقاها ذؤابة هاشم
أهابوا إلى أرض الشروق ولم تزل .... جموعهم مثل البخور الحضارم
إلى أن أبادوا كل ضد معاند .... وسقَّوهم بالسيف صاب علاقم
[205/ب]وهل يوم بدر كان بالنجد مثله .... وأعجب بيوم كان دير الجماجم
مقاماتهم في كل يوم مبارك .... أشادت لدين الحق بيض المعالم
وبالعدوة القصوى استبانت من العدى .... رؤوسهم من بعد حز غلاصم
وبالعدوة الدنيا استنارت عن الهدى .... وجوه وعادت ضاحكات المباسم
عصابة مولانا الإمام وحزبه .... عصابة بدر يوم ذاك التخاصم
أدلة قرآن بذاك وسنة .... ووحي فذع قول الوشاة اللوائم
ويوم حنين هل بيافع مثله .... وثبت ذاك الجيش عند التراحم
أطارهم عز الهدى سوابق .... فعادوا نعاماً أو كريش النعائم
ولم تحمهم تلك الجبال وانما .... تناوحهم فيما كنوح الحمائم
غدوا مزقاً للسمهرية والضبا .... ووقع رصاص وابل متراكم
أتى سالم ينجو فأصبح هالكاً .... فما سالم من بعد ذاك بسالم
فما هو جلد بين عين وحاجب .... ليافع لكن عرضة للمناسم
فلا سلم الرحمن حزباً لسالم .... ولا سلموا عن غيهم والمآتم
فيا عز دين الله سق نحو أرضهم .... كتايب تترى سابقات العزائم
لتقصد يوماً حضرموت وخلفه .... عمان فما ليل المطي بنائم
غدت تتقاضاك المسير لأنها .... تؤوب وتأتي بالعلا والمغانم
وتمتح أكتاف البغاة غواليا .... فيذهب عنهم خافيات السخائم
فيا شوقها إما سرت نحو أرضهم .... جيوش كموج الزاجر المتلاطم
تجر خميساً في الخميس وبعده .... خميس ولا ينفك ضربة لازم
بهم أحمد الراقي سماء مكارم .... ومن هو مرهوب السطا والملاحم
إذا قابلت أرماحه الجيش لم تزل .... بروق بأكتاف لهم وملاغم
تضربهم بالسيف ضرب سميدع .... شديد على الباغين ليس براحم
لهم همم تحكي النجوم ثواقباً .... فكم كشفت يوماً ظلام مظالم
على أنه المولى المقدم في الوغى .... وأشجع من ليث الهياج الظيارم
غزى نحو ساحات الشروق بهمة .... فأحمد به من طارق الثأر ناقم
وأصنائه أهل الفضائل والنهى .... أسود الوغى في المأزق المتلاحم
تراهم إذا تدعو نزال فإنهم .... ليوث تعادي فوق جرد النعائم
[206/أ]يثقفهم عز الهدى محمد .... ويحرسهم بالرأي قبل التصادم
لقد حاز أجراً في جهاد أعارب .... كأجر أبيه جهاد الأعاجم
حذا حذوه في كل سعي وموطن .... فنال العلا والفضل غير مزاحم
هنيئاً مريئاً ما أفاد فإنها الـ .... مكارم إما عد يوم التكارم
أعدت جهاداً للوصي أبيك .... للخوارج من كانوا أضل العوالم
وأمثالهم أهل الشروق فإنما .... مساعيهم في الدين مسعى الأراقم
يودون طاغيهم يزيد وحزبه .... وإن كتموا فالله مبدي التكاتم
يرضون عنهم جهرة بمحافل .... وإن أسمعوا زجراً مضوا عن تضامم
حنانيك إما غيرهم فولاهم .... لهم سابق قبل الولا للفواطم
لقد فطموا عن كل فضل وحكمة .... وما أدركوا من ذاك توبة نادم
أديل لدين الحق منهم مواطن .... فعادوا بمن لله جزر اللهاذم
لقطعهم تلك السيوف فإنهم .... جذوع لنخل أذنت بتهادم
فحمداً لرب العرش حمداً مباركاً .... أتى نحوه في نصره والقوادم
وحمداً له جم المحامد إنها .... مواهب جاءت كالغيوث السواجم
أمولاي عز الآل لا زلت ساعيا .... لكل فخار في العلا والتهائم
لتنصر دين الحق في كل موطن .... وتحرسه عن كل باغ وغاشم
بنشر جيوش كالأسود حوادراً .... مضوا قدماً لم يثنهم لوم لائم
هم من بكيل الأكرمين وحاشد .... وإخوانهم من أوقعوا بالجراهم
لقد أحرزوا فضلاً ومجداً ونجدة .... وقد صدقوا عند انتضاء الصوارم
فلا تنسهم عن نشر كل فضيلة .... وهم جندك السامون حمر الملاحم
وما ابن جميل منهم بمذمم .... ولا شرف الدين الأبي المضايم
هماماً هما في النجد كان لواهما .... مقدم جيش حاطم أي حاطم
وما شرف الدين بن أحمد خاملاً .... هناك ولكن ضيغم في الضياغم
هنيئاً مريئاً للمليك محمد .... مواهب تترى واضحات التباسم
بإعزاز دين الحق في كل موطن .... وإذلال حزب البغي أهل الجرائم
أذلهم الرحمن في كل مهمةٍ .... وبتك من أعناقهم كل قائم
فليس لهم وزن إذا الحرب أصليت .... بلى إنهم دانوا لعز الأكارم
[206/ب]محمد الحاوي لكل فضيلة .... ومن هو في شرع السخاء كحاتم
وما الفضل في يوم السخاء وجعفر .... وقد لويا من خلفه بالعمائم
وما الأحنف الرأس وقارا وجبوه .... تشابهه في حلمه وابن عاصم
فضائله زادت على الشهب عدة .... وأخلاقه ألوت بكل المكارم
تسمى باسم قد تحقق وصفه .... عطوفاً على أهل البيوتات راحم
عليه صلاة الله ثم سلامه .... مدى الدهر ما لاحت بروق الغمائم
وما صرحت ورق الحمائم سحرة .... وأعقبها ريح الصبا بالنسائم
وللمصطفى المختار نهدي صلاتنا .... وللآل من حضوا بفوز الخواتم
وقال الفقيه الأديب علي بن الهادي الصنعاني:
تألق برق النصر من جانب الزهراء .... وأشرقت الدنيا بنور بني الزهرا
وحنت رعود الفتح من كل وجهة .... وأمطرت الآفاق من سحبها بشرا
وأصبح روض المجد يزهو بهجة .... بنور سنا أنواره فاخر الزهرا
وهذا عبير الفتح يعبق نشره .... تضوعت الأرجاء من طيبه عطرا
وأصبح وجه الحق أبلج مشرقاً .... بعزم إمام العصر ذي الطلعة الغرا
إمام همام عظم الله شأنه .... وأعلى له بالفضل بين الورى القدرا
وجمله بالعلم والحلم والحجا .... وكمله خلقاً به يشرح الصدرا
لقد ظهرت في الأرض آيات فضله .... وأوسع هذا الخلق من جوده برا
وشيد ركن الدين بالعدل وانتضى .... بنصر به سيفاً أباد العدى قهرا
بأسد على جرد يراها إذا غدت .... تزأز في الهيجاء تقتحم الوعرا
وتقدمها من آل قاسم فتية .... محلهم أربى على هامة الشعرى
كرام يرون الموت في الله مغنماً .... قد أدرعوا للحرب من بأسهم صبرا
يجرون جيشاً من نزار ويعرب .... وفرع لوى الغلب من مضر الحمرا
[كتائب يحكي البحر مهما تراكمت .... جحافلها في الأرض طبقت الغبرا
تؤم ديار المارقين مجدة .... وتنثر هامات العدى في الوغى نثرا
إذا أصبحت أرضاً تدك جبالها .... سنابك خيل صوبها تمطر الجمرا]
سرت نحو شرق الأرض فاهتز غربها .... لقد حمد السارون في ذلك المسرا
[207/ا]ألم تنجد السلف منهم عصابة .... وثم جنود لا يطيق لهم حصرا
وساق بنوا المنصور نحوهم الردى .... وزفوا إلى الرصاص داهية غدرا
واستأصلتهم عصبة الحق عن يد .... فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى
وطار حديث القوم شرقاً ومغرباً .... وصعد حتى انتهى رغبة شهرا
فدع ذكر ذي قار وذكر بسوسها .... ودع عنك ذكرى يوم داحس والغبرا
وقل للطغاة الفاسقين إلى الهدى .... هلموا فقد أوضحت نصحي لكم عذرا
ولا تسمعوا ما قاله رب أحمق .... مضل يجر الويل نحوكم جرا
دعاه إمام الحق لم يسمع النداء .... وأنزل منه الجهل في سمعه وقرا
سيفتح أقصى الأرض عصمة عصرنا .... وينفذ حكم الله في من عصى قسرا
ويملك أقصى حضرموت وشحرها .... وتحفق في سيئون رايته الخضرا
وينشر فيها العدل من بعد جورهم .... بأجناد حق لم تزل نحوهم تترى
وكم لأمير المؤمنين مناقب .... تعد وتروى لست أحصي لها حصرا
لقد حاز إسماعيل فخراً وسؤدداً .... أنافت على الأفلاك نسبته الكبرى
وثبته مولاه في كل حالة .... وهيأ له ذو العرش من أمره يسرا
ومكنه مما يروم وخصه .... بعاجلة الدنيا وبالفوز في الأخرى
أمورد بيض الهند في مهج العدى .... لقد صدرت من فيض أكبدهم حمرا
تهن أمير المؤمنين مسرة .... بمن إله العرش يتبعها سرا
بفتح مبين جاء من فضل قادر .... كريم حباك الفضل والفتح والنصرا
فحمداً له حمداً له فهو أهله .... وشكراً كثيراً فهو يستوجب الشكرا
وتهن سراة المجد أولادك الذي .... بسعيهم المحمود سادوا الورى طرا
فهم بذلوا في نصرة الدنيا أنفساً .... ليغتنموا في طاعة الخالق الأجرا
وخذها عروشاً در مدحك حليها .... يزيد بها حسناً وتزهو به فخرا
بقيت لدين الله ما عشت ناصراً .... وقد وعد الرحمن ناصره النصرا
تغيث وتولي من أياديك أنعماً .... وتنقذ ملهوفاً وترفق مضطرا
كفاك إله العرش كل ملمة .... وطول يا غوث العباد لك العمرا
وصلى عليك الله بعد نبيه .... وآل كرام ما همت سحبها قطرا
وما سار ركب أو نعت حمامة .... وحنت رعوداً وهمى العارض القطرا
[وقال الفقيه الأديب شهاب الدين أحمد بن علي الشارح الصنعاني] :
[207/ب]صدق الله للإمام المراما .... فأراه من العدو انتقاماً
وشفاه والمؤمنين صدوراً .... وكفاهم لأجل ذاك اغتماما
وحباه نصراً وفتحاً مبينا .... زاد في الحق بهجة وتماماً
وهنيئاً له بذاك وللخلـ .... ـق صغيراً وشيبة وغلاما
وهنيئاً له وللخلق بشرى .... نشرت من سرورها أعلاماً
وهنيئاً له وللخلق ثغرا .... فتحه أضحك الثغور ابتساما
وهنيئاً لجنده وسرايا .... ه ثباتاً ونجدة واغتناما
ولأولاده الذين أجابو .... ه وفاء بحقه وقياما
وأطاعوا لما يقول وقالوا .... مر سراعاً وبالنفوس كراماً
مر ليوثاً إلى النزال طراباً .... وسيوفاً تلوح فيه ضراما
وقرونا من الجلالة نالوا .... في البرايا مكانة تتسامى
لا يهابون من عدو وإن شن .... عليهم من النصال ركاما
لا يعابون في الصفات سوى أن .... لهم في اقتناء المعالي غراما
لا يحابون قط في جانب الدين .... ولا يؤثرون عنه حطاما
ندبوا للجهاد فادرعوا العزم .... وقادوا مقانباً تتضاما
وبماضي توكلٍ منه صالوا .... في الأعادي فغادروهم زماما
…………………………………
…………………………………[208/أ]
[208/ب]وقيل في ذلك أشعار كثيرة، ومكاتبات بالتهاني غفيرة، فإن هذا المشرق وكما تقدم لم يطمع في فتحه طامع لشرارة أهله، وشراستهم وبعدهم عن الله سبحانه وتعالى، وطول ضلالتهم، فكان لذلك الفتح الموقع العظيم، والذكر الفخيم.
فممن قال في ذلك الفقيه الأعلم جمال الدين علي بن محمد البحيح (أسعده الله)، مخاطباً لمولانا صفي الإسلام وسيفه الصمصام أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين (أيده الله):
النصر لاح على أيامك الغرر .... والسعد بالفتح قد وافاك بالظفر
فانهض بعزم باسم الله مقتحماً .... أرض النواصب من سهل ومن وعر
فأنت أولى بما قد قال قائلهم .... شعراً يحاكي سلوك النثر والدرر
وخيلكم مضمرات في أعنتها .... شعث النواصي سراع الورد والصدر
بكل قرم من السادات معتقلاً .... رمحاً تعز به القادات من مضر
إلى قوله:
يا أحمد الملك السامي بهمته .... أعلى العلا فوق هام الشمس والقمر
يا صارم الآل يا ليث النزال إذا الـ .... ـتقى الخميسان من بدو ومن حضر
صرت المقدم والقلب الذي لهم .... ثبت الجنان بفكر ثاقب النظر
مروع الخصم في الهيجاء إذا التطمت .... أمواجها واستطار القلب من ذعر
سل القواضب في رؤوس النواصب هم .... أهل العداوة للسادات والطهر
رووا الأعادي كؤوس الموت مترعة .... حداً لهم في شراب الخمر والسكر
قد أنشدت بلسان الحال حالهم .... هذا جزاء جهلنا يا ضيعة العمر
سدت مسالكهم من كل ناحية .... فالقلب للرعب والأجفان للسهر
أخل الديار من الأوباش عن كمل .... مؤيداً بمتين النصر والظفر
مستقبل القوم بالأرماح ساحرة .... فإنهم سيولوا وجهة الدبر
إلى قوله:
فآل قاسم سادات الورى .... وخيرة الخلق من بدو ومن حضر
وقال الفقيه المذكور أيضاً ووجهه إلى مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين (أيده الله):
أرى النصر معقوداً برايتك الخضراء .... فسر وافتح الدنيا فأنت بها أحرى
يمينك فيها اليمن واليسر في اليسرى .... فبشرى لمن يرجوا الندى بهما بشرا
فأنت علي والخوارج ضده .... أذاقهم الابلاس إذ عبروا النهرا
[209/أ]وأنت من الآل الكرام الذي لهم .... فضائل ما أن تستطيع لهم ذكرا
سل الأعوجيات السوابق ضمرا .... وما خلفت في العسر داحس والغبرا
وما ثقفت من صعدة في رماحها .... وماكبلت في سوح ذي كرش من أسرى
وما حملت أسد الورى من نفائس الـ .... نفوس وما كرت بملحمة كرا
أهل عاد عز الدين يوماً بموطن .... وأسيافه لم تثن بيضها حمرا
وهل قام في حرب على ساق عزمه .... ولم تنتهب أرواح أعدائه قسرا
إذا ما غزى يوماً أطاعت سيوفه .... العزائم واستجار أكابرها ذعرا
على القتل والأسر استطالت رماحهم .... فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى
وهذه من القصائد الطنابات اختصرناها لطولها رفقاً بالكتاب، واتكالاً على ما قد قيل فيه من معالي الأسماء والألقاب والصفات التي تكل عن أوصافها الألباب.
وقال الفقيه المذكور من قصيدة أخرى كذلك وجهها إلى مولانا عز الإسلام والمسلمين محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين:
بلغت من العليا أجل المراتب .... وقابلك الإقبال من كل جانب
وقارنك التوفيق والنصر خادم .... وتسعى بما تهواه يابن الأطايب
تبلجت الدنيا بكم وتزينت .... أضأت لهم في شرقها والمغارب
بخير بني الدنيا أناخ فخارهم .... وحاميهم بالمرهفات القواصب
بعز الهدى والسيد الماجد الذي .... أناف على كل النجوم الثواقب
خضم الندى والجود والمجد والتقى .... وهذا مليك الآل من آل غالب
وهذا الذي يحكي فضائل جده .... إمام الورى المشهور من آل طالب
إلى قوله في صفة علمه النافع:
وحليت لبساً كان حشواً وباطلاً .... وحليت إشكال العدى في المذاهب
وشيدت ركناً للجهاد رفعته .... فلله حتفاً للعدى والنواصب
وأثخنت قتلاً في المعادين جملة .... وصلت عليهم في صدور الكتائب
وفرقت جمع الماردين وقد عدت .... لك الهمة القعسا بعقبى العواقب
لقد أنشد الراوي وقال لسانه .... مقالة صدق ليس فيها بكاذب
إذا علوي لم يكن مثل طاهر .... فما هو إلا حجة للنواصب
إلى قوله:
[قدم في المعالي لابساً ثوب عزها .... ويسمو على هام النجوم الثواقب]
[209/ب]وقال الفقيه المذكور قصيدة أيضاً وجهها إلى مولانا شرف الدين الحسين بن الحسن بن أمير المؤمنين:
بشرى بنصر جاء على الأعداء .... جاء البشير به إلى صنعاء
من سيد السادات بل شرف الهدى .... وافى السرور به من الزهراء
بمسرة وافت وتم حديثها .... جذل الورى من نشوة السراء
إلى قوله من قصيدة طويلة:
أصبحت يا نجل الأئمة شامخاً .... عال على العادات والكبراء
وسفرت في البحرين والبرين والـ .... ـملوين والحرمين كابن ذكاء
وسموت سادات الوجود بأسرهم .... بالبأس والإقدام في الهيجاء
ساس الوية الحروب كأنها .... درر النجوم بخيمة زرقاء
تسري على الغبراء فتخترم العدى .... بكتيبه منظومة خضراء
تطوي البلاد بشترب يعنو لها .... من في البسيطين الثرى والماء
في يوم نجد أنت فرقت العدى .... وسقيت ترب ثغورهم بدماء
ونشرت في الآفاق إيراد الندى .... والفضل للنجباء والأدباء
هذا الحسين المالك الملك الذي .... قد فاق في النبلاء والنجباء
ذا نجل أروع من سلالة قاسم .... فخرت به الأبناء على الآباء
إلى قوله:
وسقيت سحائب جودكم كل الورى .... فلقد أتت بطرائف النعماء
وبرفعة العلماء والفضلاء والـ .... ـكرماء والرحماء والعظماء
فالله يحرس قائماً في عصرنا .... ويحوطه بالذكر في الأسماء
وقال الفقيه المذكور قصيدة أيضاً في المذكور موجهاً إلى مولانا عز الإسلام محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله:
أضحك السعد مبسم الأفراح .... عن بديد تفوق ثغر الأقاح
وتجلى به السرور فأغنى .... نور إشراقه عن المصباح
مستفيد بنوره من جبين .... طلعت من سناه شمس الصباح
كيف لا والبدر طراً سناها .... مستفاد من نوره الوضاح
غرة صاغها الإله تعالى .... من سناءٍ ومن هدى وصلاح
من رآها فيومه يوم سعد .... وله السعد قد قضى بالفلاح
فهو النور والهدى والمعالي .... طالع صادع وللإصلاح
ولذا اليوم شاهد الناس طراً .... سعد نصر لقد قضى بالنجاح
[غرة السيد الهمام جليل الـ .... قدر ليث الوفاء همزر الكفاح
هو عز الهدى محمد بن أحمد .... غيث الندى وبحر الكفاح
لم يزل كفه تسبح الأيادي .... والمعالي للباذل المرتاح]
[210/أ]يا هماماً سمى على النجم قدراً .... بفؤاد إلى العلا طماح
هذه أحرف تهينك بالفتح .... وما نلته من الأفراح
من محب صافي المودة يدعو .... لك مولاه في المسا والصباح
ماله بغية سواك ومن ذا .... يعتلي عن وجهك الوضاح
لا برحنا طوال المدى تتملي .... بأسارير نورك اللماح
وعبير التسليم تهدى إلى روح .... رسول الهدى وبدر النواحي
وكذا الآل والصحابة طراً .... ما شدى كل ساجع صداح
………………………………………………………… .
[أحداث الحبشة ومراسلة الأمير درويش إلى الإمام المتوكل]
[210/ب]نعم! وفي خلال حلول هذه البشرى العظيمة، وصل كتاب من الأمير درويش بن محمد من الحبشة، وكان هذا الأمير قد تغلب على باشا الحبشة، وصفة ذلك كما أخبرني الحاج في تلك السنة، وصحح ذلك تفصيلاً السيد الجليل عبد العزيز بن محمد بن الحسني من ساكني المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات والسلام، أنه كان عليها باشا يسمى أحمد، وكان فاسداً مقبلاً على اللذات من المعاصي مستضعفاً في أمره مغلوباً عليه، فغلب على أمره خواصه، وساموا أهل سواكن العذاب وأفسدوا في البلد، وكان في أصحابه رجل يسمى درويش، فاتكاً شجاعاً، فجمع من أجابه من عسكر الأروام وأخرج الباشا المذكور من الحبشة، وغلب على (سواكن) واستعاد أمرها، واستنقذ أهلها، غير أنه سفك الدم، ولم يجعل عقوبة لمن خالفه في (أمر) غير القتل، صغيراً كان أو كبيراً، والمثلة به فخرج عليه باشا من مصر يسمى أحمد بن مصطفى وحصل بينهما حروب في البحر، وعاد هذا الباشا أحمد إلى جدة منهزماً، وكتب إلى مصر، فأمده صاحب مصر بأربعة أمراء، وثلاثة وعشرين مركباً، وأربعة غربان، وكان من جملتهم الأمير أحمد خليفة الأمير المسمى رضوان فقاري ، وكان معظماً في ملوكهم، وله مماليك، وله تردد إلى الحرمين أعواماً كثيرة، وله عمائر وتعصب لمذهب السنية كثيراً، وطلع هذا الأمير مع غيره مكة معتمراً وقد أظهر عدلاً، وأخرج من دخل البيوت من الأمراء في جدة حتى باشتهم أخرجه، وقد نزلوا دور الناس.
ولما صح له ذلك طلع (مكة) كما تقدم، وكان الشريف الكامل والملك العادل زيد بن محسن (أطال الله بقاه) في الطايف، فخاف شره، ولم يأمن مكره، كما سبق بين الشريف المذكور وبين الأمير غيطاش، مما تقدمت الإشارة إليه، وقد أظهر أن معه خلعة من السلطان للشريف، وأنه يصل مكة المشرفة ليلبسها إياه، فاعتذر الشريف بأن مكة في غير الموسم لا تحمله، ودارت المكاتبة، وقد أمر الشريف نائبه في مكة بضيافته، وأكثرها لهم، وداراهم كثيراً.
قال السيد عبد العزيز المذكور: إنه سمع من تحدث في مكةأن مخروج تلك الضيافة ألفا قرش، فلم يمد إليها الأتراك يداً فعوضهم الشريف، ونائبه مثل ذلك محمولاً إلى مواضعهم، وأن يصنعوها لنفوسهم ففرقوها لأهل مكة وألفافها، وعادوا بالكسوة إلى (جدة).
ولما كان هنالك أنبه الكبراء من الأروام، وقالوا هذا الشريف ابن رسول الله وخادم بيت الله، وأكثروا من مثل ذلك، وإنك لا ترى خيراً مع غضبه عليك[211/أ]، أو كما قالوا، فعاد إلى رضا الشريف زيد وطلبه العفو، وأرسل له بالكسوة ودراهم معها، وتوجهوا الحبشة، لقتال درويش المذكور آنفاً، فقابلهم بحروب شديدة وهي سجال، وأبلي فيها حتى غلبوه عليها، وكان له وكيل يحفظ له حصناً قد أعده خارج (سواكن) المتصلة ببلاد الشرك، فانهزم هذا درويش، وأراد أن ينجو بالحصن المذكور، ومن فيه من الرتبة، فخانوه، وساروا إلى رأي السلطنة العثمانية.
فهرب بخواص أصحابه، واتصل بملك الحبشة، وبقي لديه معظماً، وكان تعلقه بجانب وزير من وزراء ملك الحبشة، فأحسن إليه كثيراً، ثم عاد إلى المعهود له من حالة الخبث في السكر، فضرب الوزير الحبشي الذي هو متعلق في أهدابه وقتله، فقتل به (لا رحمهما الله) وكان هذا درويش قد كتب إلى الإمام (عليه السلام).
كما أخبرني الشيخ المجاهد عامر بن صلاح الصايدي (أبقاه الله تعالى)، وكذا غيره كتب إلي بمثل ذلك، وطلب من الإمام (عليه السلام) المدد، وأن يكون في جملته، وكان الإمام (عليه السلام) مشتغلاً بما تقدم من حروب المشرق ونواحي حضرموت.
وأراد الإمام (عليه السلام) إرسال الشيخ المذكور مدداً لما تكررت المكاتبة من هذا الأمير درويش المذكور، ثم أنه وصل بعض التجار، ممن يعرف أحوال تلك الجهة والمذكورين، وأخبر الإمام (عليه السلام) بحالهم الخبيث، وأنه لا يثق منهم بالوفاء، وبقي الإمام (عليه السلام) يرتأي، وقد كتب جواباً إلى هذا الأمير بما هذه نسخته، ووصل بعض الطريق وبلغه الخبر بقتله (لا رحمه الله) بما سبق من السبب.
وقال غيره: إن الأتراك قتلوه لا رحمهم الله جميعاً، وكان الجواب.
[رد الإمام على الأمير درويش]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} .
وبعد العلامة الشريفة قال (عليه السلام): والحمد لله رب العالمين الذي من يعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم، ومن يغضب له ولمحارمه، ينله عظيم فضله، ويلحقه بمن قال فيهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ومن يرد وجهه يهد قلبه ويسدد قوله ويصلح عمله ويزده من فضله الكريم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} حسبي الله لا إله إلا[211/ب] هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي يمنن عليه بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} وعلى المؤمنين بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ، وأصلي وأسلم على محمد وعلى آل محمد الذي جعلهم حبله الأصغر كما جعل كتابه حبله الأكبر، وقرنهم به كما أخبر به ً ((ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض في المحشر ))، وجعل ودهم أجراً لنبيه، كما قال تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } في الذكر الحكيم.
وبعد فإنه وصل إلينا كتاب كريم، وخطاب فخيم، ممن جعل التمسك بالله ورسوله وأهل بيته له عصاماً، والاعتزاء إلى أئمة الهدى الهادين من العترة المكرمين، الذي يهدون بالحق وبه يعدلون لأمره وإقدامه وإحجامه تماماً، وإجابة دعوتهم التي هي دعوة الله عز وجل بالحق لما يريده مما عند الله عز وجل من خير الدنيا والآخرة نظاما، والاقتداء بهم في الدعاء إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأخذ على أيدي الظالمين، والجهاد لهم في سبيل الله امتثالاً لأمر الله ورسوله قواماً.
المقر الأمجدي، الأكرمي الأوحدي، ولينا آل محمد درويش بن محمد، بلغه الله صالح الآمال، كما وفقه لصادق الأقوال وحسن الأفعال، وأهدى إليه شرائف السلام، وزلائف الإكرام، وعوارف الافضال والإنعام، مترجماً عن حالته المحمودة، معبراً عن همته المباركة إن شاء الله المسعودة. فيما كان منه أسعده الله تعالى من الغضب لمحارم الشرع الشريف، زاده الله شرفاً على من هتكها ولعهود الله التي أخذها على عباده ومواقيته التي شددها، بالقيام بالقسط في بلاده على من نقضها وهتكها، رغبة فيما عند الله عز وجل من الزلفى، وانتظاماً في سلك أتباعنا آل محمد الذين آجابوا دعوتنا إلى الله عز وجل لتكون كلمة الله هي العليا، ولحفظ ملة إبراهيم الذي وفى، مقتدياً إن شاء الله في العدل والإحسان بهذه السيرة، ناشراً إن شاء الله في تلك الجهة التي مكنه الله منها لواء دعوة الحق وظل جناح الأمان، وصلاح علانية وسريرة، منزلاً نفسه إن شاء الله منزلة الخاصة، حين عرف ما أحسن الله به إلينا، وإلى عباده من اقتدائنا أهل البيت النبوي بسيرة جدنا المصطفى، واتباعاً[212/أ] لسبيله كما علمه الله سبحانه في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، وحسبنا الله وكفى لا نريد بذلك إن شاء الله لنا إلا التعبد لله عز وجل بتوحيده وتعديله، وتصديقه في وعده ووعيده، وحمده وشكره، وتعظيم شريعته الغراء، وملته البيضاء بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله، والاتعاظ بمواعظه، وامتثال موجب نهيه وأمره، في مثل قوله
تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } وقوله عز وجل: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، وقوله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وقوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وقول نبيه جدنا ً: ((أفضل الأعمال بعد الصلاة المفروضة والزكاة الواجبة وحجة الإسلام وصوم رمضان، والجهاد في سبيل الله ، والدعاء إلى دين الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها)) ، والبراءة إليه تبارك وتعالى من مثل حال من قال فيهم عز وجل:{كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ الله
عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ومن وعيد قول نبيه ً: ((لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليهم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ، ثم يدعو أخياركم فلا يستجاب لهم، حتى إذا بلغ الكتاب أجله كان الله هو المنتصر لنفسه، ثم يقول ما منعكم إذ رأيتموني أغضب أن لا تغضبوا لغضبي)) ، وقول أخيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة: (يكون في آخر الزمان قوم نبغ فيهم قوم مراءون فيقرأون ولا يتنسكون ولا يوجبون أمراً بالمعروف، ولا نهياً عن المنكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم[212/ب] الرخص والمعاذير، يتبعون زلات العلماء، وما لا يضرهم في نفس ولا مال، فلو أضرت الصلاة والصيام وسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها وقد رفضوا أسنم الفرائض وأشرفها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين فريضة تقام بها الفرائض، وتحمل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، فأنكروا المنكر، وصلوا بها جباههم، ولا يخافون في الله لومة لائم، قال: وأوحى الله إلى نبي من أنبيائه: (إني معذب قومك مائة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، قال: يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار، قال: داهنو أهل المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي)، ومثل هذا لا يقوله علي بن أبي طالب
كرم الله وجهه إلا وقد علمه من جهة رسول الله ؛ لأنه إخبار عن غيب، وتصديق قول الله عز وجل فينا أهل البيت: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ، وقوله عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} وقول جدنا ً: ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى )) ، وقوله ً: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يرد علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما)) ، وقوله ً: ((إن عند كل بدعة تكون بعدي يكاد بها الإيمان ولياً من أهل بيتي موكلاً يذب عنه يعلن الحق وينوره، ويرد كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على الله))، وقوله ً: ((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة في أرضه ، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله)) ، وقوله ً: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، كما أن النجوم أمان أهل السماء، فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون وإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون)) ، وقوله
ً: ((ما أحبنا أهل البيت أحد فزلت به قدم إلا ثبته قدم حتى ينجيه الله يوم القيامة )) ٍعلى ذلك مضى الأطهار من سلفنا، وعلى ذلك إن شاء الله تعالى مشي الأبرار من خلفنا[213/أ] فلسان حال كل داع إلى الله من آل محمد ً يقول ويتمثل بما قال بعض آبائنا الأئمة الهادين (سلام الله عليهم) الذين بهم يقتدى، وإلى الله يتوسل:
فهلموا إلى التي ندب الله .... إليها من كان براً صبورا
واتركوا فانياً يزول فإني .... قد شهرت الحسام أبغي نصيرا
إنني حجة عليكم من الله .... فلا تخذلوا سراجاً منيرا
وابتغوا داعياً دعاكم إلى الله .... وخافوا عذابه القمطريرا
فعلينا دعاؤكم وعليكم .... أن تجيبوا كتابه المسطورا
وأعدوا جواب جدي لدى الحوض .... وقوموا وشمروا تشميرا
فالحمد لله الذي جعل لنا أهل البيت من صالح عباده مثلكم في تلك الديار ظهيراً، ولدعوة الله عنا مبلغاً، وعلى إعلان دين الحق عوناً ووزيراً، فاصدع ثبتك الله وأيدك بالحق جهيراً: {قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً، وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} وأبشر إن شاء الله بالظفر، وبلاغ الأمل الصالح إن شاء الله والوطر، فقد قال الله تعالى عز وجل وهو أصدق القائلين، وهو مبلغ من اتقاه من عباده آمالهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} ، وقال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} .
[فتح بلاد يافع وما والاها]
رجعنا إلى ذكر فتح بلاد يافع وما والاها. ولما صلح أمر المشارق كلها بالمواصلة ممن قرب، والمراسلة ممن بعد إلى أقصى بلاد (حضرموت) كما أخبرني السيد المجاهد الصمصام الناصر بن عبد الرحمن الزيدي نسباً ومذهباً، وهو حاضر جميع ما مر، وكان على خيل مولانا[213/ب] عز الإسلام في هذا المخرج المنصور.
كما كان مع حي والده مولانا الحسن (رحمة الله عليه) في كثير من المواقف سيما تهامة، وكذا غيره ممن كتب إلينا، تقدم مولانا عز الدين محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله (عليه السلام) يوم الخميس ثامن شهر جمادى الآخرة إلى الحلقة بجميع قومه، وأضاف إليه مولانا الصفي (أيده الله) السيد الرئيس المجاهد الكامل شرف الدين بن المطهر بن عبد الرحمن بن المطهر بن أمير المؤمنين شرف الدين (عليه السلام) في أهل ديوانه، إلى نحو ستمائة نفر غالبهم بنو الحارث ومن إليهم من بني حشيش.
ولما استقر في الحلقة تلقاه أهلها ومن حولها ممن يخاف، وبقيت جبال يافع ومن انظم إليهم ألوف لا تعد، فإنهم تحصنوا ولزموا الجبال الشوامخ منها جبل العر ، وهو جبل حصين فعمروا فيه دوائر مرتفعة، ومتارس ملوية [وعمروا فيه قصبة جربة وقطعوا قطع طرف جبل العوالي نحو بلادهم لئلا تمر الخيل نحوها] ، وشحنوها بالرجال والبنادق الكثيرة، وكثر جمعهم في هذا المحل حتى لا يقال فيهم بعدد معلوم غير الكثرة التي لا وراها، فحصل من ألطاف الله سبحانه وما أراده من تفريق جمعهم أنه اتصل بمولانا سيف الإسلام (أيده الله) أن الخبيث سالم خرج من حضرموت مريداً ليافع.
وقد كثرت منهم الكتب إليه، فوصل إلى بلاد ابن عبد المانع، وبلاد (أحور)، وبلغ مولانا أحمد (حفظه الله)، فأرسل جماعة من الخيل والرجال، منهم السيد المجاهد الناصر بن عبد الرحمن المتقدم ذكره بخيل كانت بنظره من عند مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن (حفظه الله)، كما أخبرني بها مولانا عز الإسلام مكاتبة، وجعل على الرجَّالة السيد صلاح بن محمد السراجي، والشيخ المجاهد الحسن بن أحمد بن عواض الأسدي، في محطة من الرجال، فكانوا في مدينة (دثينة) في واحد وعشرين من الشهر المذكور، وأمرهم أن يتقدموا إلى مواضع طمع فيها أن يظفره الله بهذا الخبيث قبل أن يتعلق بلاد يافع، فانتهوا إلى قريب من أحور، وبلغهم أنه قد نفذ ولده الخبيث مع جماعة من يافع، وعرفوا أنه فاتهم وترددوا في تلك المواضع، حتى أنه صح لهم رجوع سالم الخبيث إلى منشأ ضلالة، ومحل خياله من بلاد حضرموت واسترجع مولانا الصفي في خلال ذلك تقدم مولانا محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين ومن معه.
فكان في دثينة، فجعل الله في ذلك خيراً كثيراً، فإن يافع قطعوا بأن المقدمة الأولى خالقة لهم إلى بلادهم، وكذا من لحق إلى دثينة لطمع في جبال يافع أو لدسيسة يحصل بها دخول بلادهم، فعاد منهم كثير إلى جهات ذي ناخب .
وأما مولانا عز الدين محمد بن الحسين (أيده الله تعالى) فإنه خرج يوماً، وتمشى إلى موضع يسمى نجد الخلقة وعاد من غير حرب، وفي اليوم الثاني يوم الاثنين خامس[214/أ] جمادى الآخرة خرج كذلك متمشياً بالعسكر للرياضة والإطهار، وعدم التعويل عليهم، فانتهى إلى وادٍ في أسفل نقيل العر يسمى الشرف، وأراد الرجوع فتلازم أول أصحابه بمقدمات من يافع يسمى الحضارمة، وحصل بينهم الحرب الشديد، فلم يتمكن مولانا محمد بن الحسين من رجوعهم إليه، ولم يكن معه كل الإعداد لما وقع، فحمل العسكر المنصور فتصادموا هم ومن ذكر، وكان ذلك حرباً هائلاً.
أخبرني بعض أصحاب مولانا محمد بن الحسين أنه رأى ظهور العسكر الإمامي في مواضع لا متارس لهم فيها، وقد علاهم دخان بنادق يافع ورجالها المجاهدون ليس معهم شيء من ذلك.
قال: فرأيته (عليه السلام) يبكي شفقة على العسكر، ثم أمر بالحملة، وكان بالقرب من صنوه الصمصام أحمد بن الحسين، والسيد المجاهد شرف الدين، فاقتحموا بمن بقي ذلك الهول.
ثم ركب مولانا محمد بعدهما بمن بقي، فقتل كثير من يافع، وهزمهم الله سبحانه وتعالى، حتى وصلوا بهم إلى العر، وقد كان عمروا كما تقدم آنفاً، وخندقوا مواضع ولم يكن للمجاهدين من ذلك شيء، وعرفوا أيدهم الله أنهم إن عادوا هلكوا، فجددوا أيضاً حملة أعظم من الأولى فقتلوا من يافع كثيراً، وأخذوا سلاحهم، فأتوا [الآخرين] هرباً.
أخبرني بعض من شهد ذلك أن رجلاً من المجاهدين ضرب عنق رجل من يافع ويد ذاك الرجل في بعض البندق، فما أتم الضربة إلا وقد أثنى عنقه، قال: وربما أن بندق اليافعي صوبت من لا تتحققه.
قال بعضهم: إنه قدر لساحة هربهم الذي لم تكن فيه حرب بخمسة أميال، وقد كَلَّ المجاهدون لما لقوه، ولبعد المسافة من الخلقة إلى هذا الموضع ففاتوهم، وقد قتلوا منهم زهاء مائة نفر.
وتقدم مولانا عز الإسلام ومن معه إلى موضع يسمى مرفد ، وفيه بيوت الشيخ هرهرة، فاستولوا عليها، وأخذ منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ذكر الغنيمة وجموع يافع ارتحلوا يوم الثلاثاء في مواضع متحصنة، وأحربوا جنود الحق ذلك اليوم بطوله، وقد ذهب البُرُد إلى مولانا الصفي سيف الإسلام (أيده الله تعالى) وكان قد قل معهم البارود والرصاص، أعني جنود مولانا عز الإسلام محمد بن الحسين (أيده الله تعالى)، فإن أثقالهم كانت باقية في الخلقة، فلم يشعروا إلا وقد طلعت عليهم رايات مولانا الصفي (أيده الله) فلما رأى ذلك يافع ولوا على أعقابهم مدبرين، وتعلقوا بجبالهم منهزمين. أخبرني بعض من شهد ذلك أنهم نادوهم في حال الحرب لمن هذه الرايات ومن صاحبها. فلما قالوا رايات الصفي (أيده الله) فروا كما تقدم.
وكان جملة من استشهد من المجاهدين ستة عشر رجلاً فحسب، وقد كتب مولانا [214/ب] الصفي (أيده الله) إلى مولانا محمد بن أحمد بالغارة وباسترجاع الخيل التي كانت قد أعدت في طلب الخبيث سالم والمبادرة، وكانوا في موضع يسمى ذم داعة.
قال السيد المذكور أطال الله بقاه: وكنا نظن نحن وغيرنا طول المطاف، وأنا ومن لحق من عندالمولى أمير المؤمنين (أيده الله) ندرك الحرب، قال: فعزمنا ليلة الأربعاء ثالث وعشرين شهر جمادى الآخرة، وأصبحوا في سفل عقبة بردة، وكانت صعبة، وتعسرت عليهم، فقدموا أثقالهم والخيل، واستعانوا بالله سبحانه وتعالى، وصعدوا بأكثرها على أكتافهم، فأصبحوا في بلد من بني أرض يوم الخميس، ووصلتهم البشرى إلى ذلك الموضع بوصول مولانا الصفي (أيده الله) وتفرق يافع، ويأمرهم بسرعة الوصول إليه.
ولما كان إلى يوم الجمعة تقدموا مهتمين، وقد تعبوا تعبية الحرب، فكان وقت صلاة الجمعة وهم في حصن العر المذكور، صلوا فيه الجمعة، فلما قضيت الصلاة تقدموا بعدها إلى موضع أعلى مرفد وعشروا بالبنادق الكثيرة، فازداد يافع يأساً من العود إلى ما كانوا عليه، فلما قدموا إلى المحطة المنصورة تلقاهم مولانا الصفي، ومولانا العزي.
[كبار أعيان يافع يطلبون الأمان]
وفي يوم السبت والأحد والاثنين وصل كبراء يافع وعيون عامتهم بعد أن طلبوا الأمان، وجأروا بالاستغفار، وقد أرسل مولانا الصفي (أيده الله) السيد المجاهد صلاح بن محمد الديلمي في جماعة تكف عن أولئك وتجمع المستأمنين، ويصل بهم إليه؛ لأنهم قد فرقوا، ولا يحوزون السلامة فأمنهم مولانا الصفي وأحسن إليهم وكساهم ورفعهم إلى مقام أخوته فكسوهم أيضاً، وعظموهم وأمنوهم.
وأما الشيخ عبد الله بن هرهرة، وهو المتولي لقبض أوقاف الخبيث سالم المذكور ونذوره والزكاة، وينتهي إليه أصناف ما يقدم للخبيث في حضرموت وفي يافع، فأمر سادتنا حفظهم الله تعالى بقبض [ما هو بيَّنه للخبيث المذكور من الأموال والحبوب والخيل والأنعام الثلاث، وصوافي بن وغيرها] ، وقد تلكأ عن المبادرة أهل ذي ناخب لوعورة جبالهم، وأنها مشحونة بأهل البسالة من قبائل يافع.
ثم استأمنوا بعد أمان الشيخ ابن هرهرة، ثم وجههم مولانا الصفي (أيده الله) إلى مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن (حفظه الله)، وهو وجههم إلى الإمام (عليه السلام)، وقد عرفوا أن التوبة مقبولة، فأظهروا الندم الكثير، والاستغفار الغفير، والاستكثار من الكلام الذي إليه يشير، وأولاهم العفو والإحسان، وأعطاهم مالاً يقدر قدره من الألبسة، والنقود والسلاح لكبارهم والخيل لمن يعتادها منهم.
فملؤا قلوبهم رغبة بعد أن كانت مملوءة رهبة[215/أ] وتقدم سادتنا أيدهم الله تعالى إلى مسجد النور، وتفقدوا المظالم، وعلموا الشريعة، ولم يكشفوا أحداً من أهل الحرائم، ووصلت أوامر الإمام (عليه السلام)، وترجيح مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن (أيده الله) أن يستعمل على بلاد يافع السيد المجاهد شرف الدين بن المطهر، وهي بلاد يافع وما يلحق بها، وأن يكون على بلاد الرصاص ودثينة وما والاها الفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل.
ولما تقررت بحمد الله الأمور، وقطعوا بصلاح الجمهور، وإرسال كبراء أهل يافع وغيرهم إلى الإمام (عليه السلام)، وقد تكاثر الجنود المنصورة والخيل الكثيرة، وسائر الدواب، ولا بد لكل مما يقوم به فضجر العسكر المنصور، فرأى عند ذلك مولانا الصفي وأخوته السادة الكرام العود إلى مكان أوسع من مسجد النور، والقرب من المدد الجاري على يد مولانا عز الإسلام من جميع الجهات، لأنه أيده الله في هذه الأيام الماضية كلها استلحق أهل البيع والشراء في جميع أنواع المبيعات، وأمر بالسياق كذلك من بيت المال من جميع الجهات، وكان في ذلك الوقت شدة وغلاء، فعادوا لهذه الأسباب إلى الخلقة، بموضع يسمى الحصن، فأقاموا فيه نحو عشرة أيام.
ومنها نصبوا في تلك الجهات القضاة والولاة، وأشعروا بعمارة الحصن المعروف، وكان هذا الحصن ركناً ليافع؛ لأنه يغلق على بلاد الخلقة، وهي سوقهم ومواد أرفاقهم، ولذلك أخذ عليهم الرصاص لا لقوته عليهم، وإنما لكون قومه لا يخالفونه في الإصدار والإيراد منه حقاً كان أو باطلاً.
وأما قبائل يافع فقوم كثيرون ورؤساء كثيرون أيضاً، ولكنهم لا يحتكمون لأحد منهم، ثم ارتحلوا من الخلقة إلى موضع يسمى ذي ناعم، بموضع يعرف منه يسمى الصلالة، وهذه البلاد كثيرة الآبار والطعامات والعلوفات.
وفي يوم السبت خامس وعشرين شهر رجب ارتحلوا إلى بلد الزهراء، فأقاموا فيها إلى عاشر شهر شعبان المعظم، ووصلتهم الأخبار بعود الأمير الأفضل صالح بن حسين بن الشويع المتقدم ذكره، وأنه وصل من عند السلطان صاحب حضرموت بوفد من خاصته، بعد أن أظهر الطاعة، وخطب للإمام (عليه السلام).
ثم وصل كتاب من الأمير المذكور إلى مولانا الصفي (أيده الله) يعلمه بذلك، وأنه قد أخرج المحبوس وهو السلطان الأجل بدر الدين بن عمر المتقدم ذكره، والآتي تفصيل أخباره، فأظهر مولانا الصفي هذه البشرى وكتب بها.
وفي يوم الخميس سابع عشر شهر شعبان ارتحل الجند المنصور من الزهراء إلى وادي خريص المعروف[215/ب] بالمرسى، وفي صبح الجمعة تقدموا إلى محروس مدينة رداع، واستقبلهم مولانا عز الإسلام بالتبجيل والتعظيم، وأعد لهم الضيافات السنية، وقدم لهم خمساً من الخيل النجائب المحلية، وكان الإمام (عليه السلام) لم يعلم بقدومهم إلا وهم في الزهراء، لأنهم تحركوا للقفول قبل عود الإمام (عليه السلام)، للقطع بأن الكفاية قد حصلت، وبما وصل إليهم من الكتب من جهة حضرموت أيضاً، فإن المحاط لما تحركت من مواضعها المتقدمة كان أن تقطع السياق إليهم وقوام الأسواق لاشتغال العسكر بالحركة وإياس أهل البيع والشراء من الاستقرار، وقد رخص سادتنا أيدهم الله لبعض أهل الأثقال والحالات القوية أن يقدموا من أثقالهم، فخف معهم من خف، ووصلت كتب الإمام (عليه السلام)، وهم في الزهراء يأمرهم بالبقاء، وكان قد سار كثير من العسكر، فأقاموا على مشقة كما تقدم، ووصلهم الرأي الكريم رأي الإمام (عليه السلام) بالتقدم إليه.
ولما كان يوم الثلاثاء ثاني وعشرين شهر شعبان خرج سادتنا الكرام (أيدهم الله) من مدينة رداع إلى جميمة عنس ثم منها إلى مدينة ذمار، فأقاموا في ذمار المحروسة ثلاثة أيام.
ثم نهضوا إلى حضرة الإمام (عليه السلام)، فتلقاهم (عليه السلام) ومن لديه من المسلمين بالجلالة والتعظيم، والإنصاف والتكريم، وأعلنوا بالحمد لله والشكر كثيراً، وهنأهم المهنئون بالظفر، وبلوغ ما أملوه في الدارين من الوطر، وكان الإمام (عليه السلام) قد أمر لهم إلى المنشية المعروفة بثمان من الخيل العتاق المنتخبة عليها من الحلي العظيمة الفاخرة المعجبة.
ومما قيل في قدومهم من الأشعار قول القاضي العلامة شيخ الإسلام صفي الدين أحمد بن سعد الدين (أطال الله عمره):
نصر من الملك الجليل لعبده .... وعطية مشكورة من رفده
وكرامة من ذي الجلال تزلزلت .... منها قواعد كل ناكث عهده
فتلقها يا ابن النبي بذكر من .... أولاكها وبشكره وبحمده
عفر له خديك واسجد واقترب .... فلقد حباك بنصره من عنده
وأتاك بالفتح المبين معززاً .... وموفقاً للحق صادق وعده
فاشكر أمير المؤمنين عطاءه .... والبس من الإنعام صافي برده
[216/أ]واذكره جل معاً أولي العزم الأولى .... ولهم من الإكرام صافي ورده
يابن الوصي وفاطم ومحمد .... خير البرية أنت واري زنده
ومؤيد الدين الحنيف بقوله .... وبفعله وبعزمه وبجده
وبخيله وبرجله وبنفسه .... وبماله وبباله وبولده
وبوعظه وبأمره وبنهيه .... وخلوص نيته وصالح قصده
فلذاك أولاك الكريم مواهباً .... وأمد جندك في الجهاد بجنده
وأغاض من عاداك ثمت أصبحوا .... جزر السباع بغوره وبنجده
وأراهم حسرات أعمال لهم .... خلفوا بها رب الورى في عقده
صاروا بها مثلاً وأصبح ريعهم .... منهم خلا من بعد كثرة حفده
لله سادة آل أحمد من لهم .... بيت الفخار فشيدوا من مجده
بعزائم بيض تسود وجه من .... يعصى المهيمن في تعدي حده
ويضيع حق أئمة الآل الألى .... جعل الإله ودادهم من وده
يحذون حذو محمد خير الورى .... إذ أصبحوا سفن النجا من بعده
لله در عصابة منصورة .... تهدي إلى جدد السبيل ورشده
أعني بني المنصور بالله الذي .... أجرى له الرحمن عادة سعده
رب الكرامات التي شهدت له .... بكرامة الباري له في مهده
فغلت به كلم الإله فأصبحت .... مشدودة أزراً به وبشده
وبولدهم وبولده فيهم حمى .... سرح الهدى في قربه أو بعده
ابن النبي محمد ووصيه .... وبني الهدى والقاصدين لقصده
[وبني الإمام القاسم بن محمد] .... [هادي العباد بجده وبجهده]
أحييتم الدين الحنيف وثرتم .... غضباً له ولجزيه من ضده
وشرحتم صدر الإمام المرتضى .... فجزاكم الرحمن جنة خلده
يا أيها المولى الإمام ومن له .... من ربه عوناً يقوم بعضده
يا حجة الله المنيرة في الورى .... وأمينه القافي لمنهج جده
أمددهم يابن الكرام بدعوة .... ليعينهم رب السماء بمده
ويريك ما ترجوه منهم للهدى .... يقفونه في حله أو عقده
والصبر أوصيهم به فهو الذي .... يسمو به السامي مقاعد حمده
وبذكر ربهم ونصرته على .... باغي الضلال ببغيه وبصده
وإدالة الإسلام ممن لم يزل .... يلقى الهداة بكفره وبجحده
أغواه إبليس اللعين ببغيه .... فهوى على خر الجبين لخده
وأمد جند المؤمنين بدعوة .... فهم جنود محمد وموده
والجاهدون بجهدهم في نصركم .... والصابرون لدى الوطيس ووقده
[216/ب]يابن النبي محمد يا خير من .... صدق الإله ببره وبزهده
هنَّاك ربك ما حباك كما حمى .... بك دينه لما انبريت لعمده
وأراك ما يرضيك في نصر الهدى .... وعلو دعوته ورفعة حده
وأقر عينك فيه ربك مثلجاً .... منه الفؤاد بشرحه وببرده
وأرى أعاديك البوار فكلهم .... مردي بسوء صنيعه في لحده
هذا وعد في الشكر لله الذي .... وعد المزيد لمن يزيد لحمده
واسجد له متبتلاً فهو الذي .... يهدي القبول إلى ممرغ خده
واضرع إليه وسله جل مزيده .... في عدة الدين الحنيف وعده
وأمدني بدعاء أمر صادق .... لأكون في حزب النبي ووفده
إني بعروة آل أحمد ماسك .... إمساك عبد لم يزل عن وكده
وعلى النبي وآله صلوات من .... يزجي السحاب ببرقه وبرعده
[البانيان وما وقع بينهم وبين أهل صنعاء]
وفي أيام هذه المذاكرة خبر الجزية على البانيان وما وقع بينهم وبين أهل صنعاء.
نعم! ومن المعروف من شأن الإمام (عليه السلام) وهديه اللجوء إلى الله عز وجل عند كل مهمة، وأنه إذا عظم عليه أمر انقطع إلى الله وتضرع إليه، وإن كان شأنه في كل حال ذلك، ويأمر براتب القرآن، والاجتماع عليه في المساجد، لا سيما في المدائن، كصنعاء وشهارة، وصعدة، وغيرها.
وكان قد كثر في اليمن طائفة البانيان من براهمة الهند، لما رأوا من الأمان على أنفسهم وأموالهم، والعدل فيهم، وفي غيرهم، فقلَّ مدينة أو سوق لم يخل منهم في برٍ وبحر وسهل ووعر، حتى لقد استقروا في سوق شهارة، ومال إليهم الناس للشراء منهم والاستدانة والمرابحة في أموالهم لما الناس عليه من الحرص في طلب الأخف في الثمن والتيسير في المعاملة، فشق ذلك على كثير من أهل البيع والشراء من المسلمين، وعظم ذلك في صنعاء المحروسة، وشكوا ذلك إلى الإمام (عليه السلام)، فأمر (عليه السلام) أن يجعل للبانيان مواضع مقصورة عليهم، فأقبل إليهم أولوا الحاجات على عادتهم فأعاد أهل صنعاء الشكوى على الإمام (عليه السلام)، وحضر كبار البانيان، وقالوا: وماذا لنا من ذنب إلى أهل صنعاء، إلا أنهم أفرطوا في التحيل والغرر، ونحن قبلنا القليل من الفائدة، وأمهلنا الضعيف، وأخذ عوض البضاعة بضاعة، رعاية للأسهل للمعاملين لنا، أو كما قالوا، فأمر الإمام (عليه السلام) بإبقائهم في مواضعهم، وقد تكلم أهل صنعاء أن صنعاء لا تسعنا وإياهم.
ولما عاد البانيان إلى صنعاء ازداد أهل[217/أ] الحاجات بالإقبال إليهم لشراء ما في أيدهم، والمعاملة لهم وربما ازدادوا إليهم حسناً وتودداً، فأكثر أهل صنعاء القول والشكاية إلى أهل العلم والفضل، وقالوا: إن أصحاب الإمام نصروا الكفار على المسلمين، وغروا أمير المؤمنين أو كما قالوا.
وكان القاضي العلامة الفاضل شرف الدين الحسين بن يحيى السحولي الحاكم (أطال الله بقاه) ملازماً للجامع الكبير، ويحضر على قراءة القرآن، والراتب المحافظ عليه، وفي تلك الأيام فإنه قل من لم يحضر الراتب في أيام المخرج المنصور، فاجتمع ألفاف من أهل صنعاء أكثرهم ممن لا بيع له ولا شراء.
وربما ونفقتهم من بيت المال إلى الجامع المقدس، مع هذا الاجتماع العام وفي أيديهم الشموع مسرجة، وصاحوا في أهل الراتب، وقالوا: يكون قرآنكم ودعاؤكم على من نصر الكافرين على المسلمين، وصرخوا على القاضي واستعدوا إليه، وولوا عنه من قبل أن يحث عليهم على المعهود من حال أمثالهم من أهل المدينة، وفي القاضي (أيده الله) رقة وعرب وأناة، فلم يقدر على غير السكوت عنهم.
ثم ساروا والشموع في أيديهم كذلك، يؤمون مشهد الإمام صلاح الدين (عليه السلام)، وقد ارتقى بعض السفهاء صومعة الجامع ونادى بالتفجع على الإسلام، والتعزية لأهله فيه، فأمر مولانا علي بن أمير المؤمنين (أيده الله)، بالقبض عليهم، وركب من أهل الخيل من ركب وانتهبوا ما قدروا عليه من ثيابهم، وقبضوا على بعضهم، وقد أطفى أهل البطالة الشمع، وانسلوا في الظلام وكتب كثير من أهل صنعاء وأهل الفضل إلى الإمام (عليه السلام)، وتبرأوا مما كان. فأمر الإمام (عليه السلام)، بإشخاص من كان أكثرهم فعلاً، وأولهم قولاً وعملاً، وأدبهم وحبس منهم وتشدد في أمرهم، وسكنت المدينة بعدها، وكثر القول على القاضي شرف الدين (أيده الله) أنه أطلق لهم القول لما كان ابتداء مسيرهم من عنده ووقع في نفس الإمام (عليه السلام) وغيره عليه، ثم بحث عن ذلك فلم يصح عليه شيء منه وحاشاه واعتذر إليه الإمام (عليه السلام)، وكذلك الفضلاء.
وكان وقع قبل هذه الحادثة في سنة تسع وخمسين [وألف] [1649م] أن بعض أهل صنعاء اطلع على شيء مثال الأصنام مع بعض البانيان، وقد علقه في موضع من حانوته، وداخل السمسرة فصاح الصنعاني بالنكير بأعلى صوته، وقال: يا للمسلمين يُعبد في صنعاء غير الله.
قال الفقيه لطف الله بن أحمد السحولي (أسعده الله): وكنت ممن سارع الغارة إلى السمسرة، وكان إليه يعني الفقيه أعمال في السوق والسمسرة.
قال[217/ب]: فلم أقدر على النفوذ لما امتلأت الطرقات، وأفواه السكك، فما يقدر إلا بأعوان ومشقة.
قال: وقبضنا ذلك، وإذا هو شيء من نحاس كالمقص المتوسط، وإلى الصغرى أقرب، فيه شبه من الآدميين، فقبضناه، وأغلقنا على أمتعة البانيان في الحانوت، واستوثقنا ورفعنا خبره إلى مولانا علي بن أمير المؤمنين (أيده الله) وأنهاه إلى الإمام (عليه السلام)، فأمر بأشخاص البانيان إليه.
فلما وصله أمره بالخروج من بلاد المسلمين، وطلب من الإمام أجلاً يستقضي دينه، ويقضي ما عليه للمسلمين، وآجله أربعة أشهر، وأشهد عليه إن وجد بعدها ضربت عنقه، وبقي الإمام مدة يرتاي في أمرهم وكثرهم، فأمر عليهم بالجزية، وأن يصرح بأخذها منهم، وكانت على كل نفر قرشاً في كل شهر، وعلى حسب حالهم، وقد كانوا ألوفاً في اليمن، فأنف كثير منهم، وعادوا الهند، وهو الذي أراد (عليه السلام) من تقليلهم، انتهى.
وأما مشايخ يافع وابن هرهرة، ومن وصل من سلاطين المشرق، فإن الإمام (عليه السلام)، أحسن إليهم كما تقدم، وزيادة، وقد رأى منهم وسمع عنهم ما أوجب حسن الظن بهم، فعرفهم الواجبات، وكتب فيها عهداً كما يفعله (حفظه الله) لمثلهم وعادوا إلى بلادهم، وقد استحلفهم، وذلك في شهر […………] .
[عصيان أهل شرعب]
ومما عرض مع هذا الاشتغال بالشرق أن قوماً من أهل شرعب من بلاد تعز عصوا أو امتنعوا من تسليم الواجبات، وقتلوا من العسكر ثلاثة أنفار.
فأمر الإمام (عليه السلام) عليهم الشيخ محمد بن المنتصر بن عبد الله الطير الأسدي في عسكر، فتمادوا على العصيان، فاجتمع مع الشيخ المذكور عسكر من تعز من قبل السيد علي بن الهادي المحرابي، ما فرق الله بهم جمعهم، وانتهب بلادهم، وشردهم من خلفهم، ومثلهم أطراف الحجرية كذلك، فتركهم مولانا محمد بن الحسن (حفظه الله تعالى)، وكانوا إليه حتى فرغ لهم واستعادهم.
[تمرد الشيخ العفيف في يافع]
ذكر نكث الشيخ [محمد معوض] العفيف ومن أجابه، قد ذكرنا أن الإمام (عليه السلام) رجح نظره الكريم ولاية السيد الرئيس شرف الدين بن مطهر بن عبد الرحمن على بلاد يافع، وما إليه، والفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل بلاد الرصاص وما إليها.
وقد كان رق العسكر لا سيما عند السيد شرف الدين، فإنهم كانوا أقل من المائة، [وكانت الثمرة قد خضرت] ، فأرسلوا الخواص لمباشرتها، فكان من ابن العفيف أن أحدث حدثاً، وهو أنه منع الخواص أن يطوفوا ثمرة بلاده، وكان السيد شرف الدين قد كتب عسكراً من يافع لما عرف عدم رغبة عسكر الزيدية[218/أ] عن البقاء في بلاد يافع، فكانوا زهاء من أربعمائة، فخرج من الموسطة وكان مستقراً فيها، وقد تزوج منهم وأكثر من المعروف إليهم، واستشارهم بالخروج على ابن العفيف المذكور، وكذلك ابن الهرهرة، فقالوا جميعاً نقدم معك على ابن العفيف ونفعل ونفعل.
فسار السيد المذكور بأصحابه إلى موضع يسمى البتاجي ، ما بين الموسطة وبني قاصد ، فلما فارق البلد تخلف عنه الذين كانوا وعدوه حتى العسكر الذين قد كانوا في ديوانه.
وكان ابن العفيف قد جمع جموعاً كثيرة، وأظهر الخلاف، فحالوا بين السيد وبين موضعه الأول، وحاصروه في موضعين، وذلك في ثالث يوم عيد النحر، ثم أظهر أهل المشرق جميعاً من يافع وغيرهم الخلاف إلا قبيلة واحدة من يافع يسمون بني المفلحي أصحاب الشيخ عمر المفلحي، فإنهم أووا من وصل إليهم، ولم يدخلوا في شيء من أمر يافع.
وأما ابن هرهرة، فإنما هو الخائن المواري شخصه المُظهر سوء فعله، وكذلك جميع أهل المشرق عادوا بالنقض، والأمير أحمد بن شعفل على نحو عمل ابن هرهرة.
وأما السلطان صالح فأظهر البراءة من أهل الفساد، وكتب إلى الفقيه محمد بن علي بن جميل إني معك، وخرج في طائفة من قومه ليرى الفقيه بدر الدين النصيحة، وأنه له عضد ناصر، غير أن الفقيه احتاط بزيادة الحذر من كل واحد، وجمع العسكر، وكتب إلى الرصاص، وشكر له وقال: لا لنا ولا لك إقدام ولا إحجام، حتى يأتي رأي الإمام (عليه السلام) أو كما قال.
وقد بلغ الخبر إلى الإمام (عليه السلام)، فحشد من وجد وسارع بإرسال ولده عز الدين محمد بن أمير المؤمنين، وهو ابن سبع عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة، وضم إليه السيد المجاهد الفاضل أحمد بن الهادي بن هارون، فسار بمن معه حتى أمسوا ذمار، ومن ذمار إلى الحميمة، وأقاموا لاستلحاق الغارة في رداع خمسة أيام، بعد أن كان قد وصل إليه كتاب من الفقيه محمد بن علي بن جميل يذكر فيه بأنه لا مخافة عليه، ولا حرج وأن لديه من العسكر ما يحفظ الله به البلد التي هو فيها، وقد انظم إلى مولانا محمد بن أمير المؤمنين الشيخ الزين القايفي وأصحابه، وساروا معه إلى رداع.
وأما السيد شرف الدين وما اتفق عليه فإنه انحصر كما ذكرنا، وأحربوه ليلاً ونهاراً، وانقطع عليه جميع الأسباب والأمداد فجرى الخطاب[218/ب] بعد أن قتل منهم نحواً من خمسة وعشرين نفراً، ومن أصحابه ثلاثة أحدهم سايس فرسه، فأمنوه بشرط أن يكون في أيديهم فلم يرض بذلك، وحاول أن يخرجوه إلى رداع فلم يرضوا بذلك.
ثم اتفقوا على أن يتسلم إلى يد ابن العفيف، وأن يخرجوه من طريق أبين، ففعلوا ذلك وقد بلغهم حركة الإمام (عليه السلام)، فصانوا جانب السيد المذكور، وأخرجوه كما ذكرنا، وكتب إلى الإمام (عليه السلام) من هنالك، فهان على الإمام (عليه السلام) بعض ما كان في نفسه عليهم، وتلقى السيد شرف الدين ومن معه الأمير الحسين بن عبد القادر، وفعل إليهم معروفاً كثيراً، وأعطى السيد شرف الدين حصاناً وجملاً وكساءً.
وأما مولانا محمد بن أمير المؤمنين فلما اجتمعت إليه الغارات تقدم إلى البيضاء في يوم [ ] من شهر الحجة سنة خمس وستين وألف [أكتوبر 1654م]، فسكنت البلاد بعض السكون، واستمرت الطريق ووصلت إليه المكاتبة من مشايخ يافع وغيرهم.
وواجه منهم من واجه إلا ابن العفيف ومن إليه، وكان قد كتب الإمام (عليه السلام) إلى مولانا الصفي أحمد بن الحسن (حفظه الله)، وإلى صنوه الحسين بن الحسن، وإلى مولانا محمد بن الحسين يأمرهم بالوصول والخروج على المذكورين، فسارعوا بإرسال مولانا الحسين بن الحسن في من حضر، وأخذوا في جمع العسكر.
أخبرني من شهد وصول أمر الإمام (عليه السلام) إلى مولانا أحمد بن الحسن (أيده الله) بالمسارعة، وقد أخبروه بنكث المذكورين، وكان في ميدان الروضة في يوم رياضة الخيل، وقال الراوي: فرأيته يبتسم إلى أصحابه، ويخبرهم بما كان كالمشتاق إلى الخروج إليهم، ويقول فيما بين ذلك: إما نحن وإما ذلك، وأما الآن فقد سلطونا على أنفسهم، وأخذ في أهبة السفر واستنهاض العسكر ولسان حاله يقول ما قاله الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (عليه السلام) في مثل ذلك:
فمن يخبر الأعادي من كلاكلها .... إذا أناخت بأهل الزيغ والريب
وقلت والبيض والأرماح واردة .... يا موقد النار احميها من الحطب
ومولانا محمد بن الحسين كذلك، وتجرد للعزم إلى الإمام (عليه السلام) إلى محروس الدامغ ومن لديهما من العسكر، وأثقالهما، وسارا من طريق زراجة ومنفذة إلى ذمار، وقد بادر (عليه السلام) قبل وصولهما بمولانا شرف الدين الحسين[219/أ] بن الحسن إلى رداع، وكانت إليه.
ثم منها إلى الخلقة، وقد كان توفر العسكر معه فكان مستقراً فيها، ووصله من مشايخ يافع من يتبرأ من ابن العفيف وفعله ويتستر بذلك، وطلب مولانا الحسن مدداً من العسكر الذين في البيضاء مع مولانا عز الدين محمد بن أمير المؤمنين، فأمده بعسكر حصن الدامغ، ثم غارة من آنس.
ثم بالفقيه جمال الدين علي بن صلاح الجملولي وأهل راتبه، ولما تكاثر العسكر عند مولانا شرف الدين الحسين بن الحسن (حفظه الله)، قدَّم منهم مُقدَّمة إلى المرفد موضع يسمى هنالك، ثم إلى الموسطة، فكانوا بالنهار يظهرون بالطاعة وفي الليل يغزون العسكر إلى مواضعهم، حتى أنهم قتلوا جماعة من العسكر، منهم السيد [الكامل محمد بن الناصر صبح الغرباني] ، وكان [قد] ولاه مولانا الحسين بن الحسن (أيده الله) البلاد المذكورة.
ويروى أن الذين رموه في الليل هم الذين كانوا لديه من يافع في الدار التي هو فيها، ثم قدم مولانا محمد بن أمير المؤمنين المتوكل على الله (حفظه الله)، بمن بقي لديه إلى الخلقة أيضاً، وذلك في يوم [ ] سنة خمس وستين وألف [1654م]. ثم قدم مولانا الصفي أحمد بن الحسن، ومولانا عز الدين محمد بن الحسين بقومهما إلى الخلقة، وأما مولانا محمد بن الحسن (حفظه الله) فإنه جهز مع صنوه الصفي (أيده الله) وجوه أصحابه وخيله، وبقي في ذمار، وكان قد أرسل إلى قعطبة ولده عماد الدين يحيى بن محمد، وضم إليه جماعة من الرؤساء والخيل والعسكر على نحو ما تقدم المرة الأولى، فشغلوا ابن شعفل وأهل جهانة عن إمداد يافع، ولم يحصل منهم بذلك ما يضر أحداً من المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
نعم! ولما كان إلى [ ] تقَّدم السادة الكرام، وهم مولانا الصفي سيف الإسلام أحمد بن الحسن، ومولانا العزي محمد بن الحسين بنحو ثلاثة آلاف إلى الخلقة، وقد صاروا جمعاً كثيراً.
ولما انتهوا إلى الخلقة أقاموا فيها ثمانية أيام، ثم ارتحلوا إلى موضع يسمى جربة غالب، ثم منها إلى مسجد النور من بلاد الموسطة والخطاب إلى ابن العفيف ومن أجابه، وإلى الناخبي وغيرهما، وهم يزدادون بعداً عن الهدى وينظمون نفوسهم في الغلب من العدى، والله لهم بالمرصاد.
ولما كان يوم الخميس في شهر صفر المظفر عام ست وستين وألف [ديسمبر1655م] رجح سادتنا[219/ب] (أيدهم الله) القدوم على المخذولين، وقد كانوا حطوا في أعلى جبل النفاح، ومحل آل فرح، وكان قد عمروه مع ما كان فيه من الحصانة والطول، وقطعوا الطرق وزربوها وشحنوها مع ذلك بالبنادق الكثيرة، والجموعات الغفيرة بما يظنونه مانعاً لهم من دون حرب، فعبَّى مولانا الصفي المجاهدين فجعل في الجهة القبلية السيد الأفضل صلاح بن محمد الديلمي، ومن إليه وإلى جنبه من ميمنة القلب الفقيه محمد بن علي بن جميل، والفقيه علي بن صلاح الجملولي، ومن إليهم، وفي الميسرة إلى جانب العدن قايفة ومن إليهم.
وكان في القلب سادتنا الكرام أولاً، والإمام (عليه السلام) وجمهور القوم، فخرجوا من مسجد النور عند طلوع الشمس، فصب عليهم أعداء الله من رؤوس الجبال الرصاص، وكبار الحجارة والجنادل ودفاع الله عليهم، وطال عليهم الأمر وجرح كثير من العسكر، واستشهد جماعة، حتى أن الله سبحانه بعد أن أفرغ الصبر على المجاهدين يسر لجماعة من أصحاب الفقيه محمد وأصحاب الفقيه علي أن وجدوا موضعاً خالياً وهو شاهق جبل عظيم فدلى العسكر بعضهم في ذلك الشاهق، حتى أنهم رقوه، وقتل منهم ثلاثة أنفار، ثم جروا غيرهم من العسكر، وقاتلوا من قرب منهم، واجتزوا روؤساً، والعسكر يزدادون، وتفرق الذين صعدوا من العسكر للتحرف للقتال، ثم وجدوا معلافاً من قصب الذرة، وكان كبيراً، ثم غيره وأحرقوها، وطلع دخان النار مع زعقات الأصوات، وخفق الأعلام في رأس الجبل، فانهزم أعداء الله، وولوا مدبرين، والعسكر المجاهدون في أثرهم يقتلونهم ويسلبونهم ويجتزون الرؤوس، وكان جملة من قتل يافع نحو من ثلاثمائة نفر حتى أن من العسكر الإمامي لم يعد إلا اليوم الثاني، وأكثر من ذلك وقد أخذوا من الغنائم الواسعة ……… .
[الحرب ضد ابن العفيف]
وكان مولانا الصفي أحمد بن الحسن (حفظه الله) جعل رتبة في جبل مرفد وهم عسكر الدامغ وأهل بلاد آنس ومن انضاف إليهم، وكانوا أكثر من ألف.
ولما انفتح الحرب على ابن العفيف وقومه أمر أولئك الرتبة المذكورين وعليهم الفقيه الفاضل محمد بن عبد الله بن عز الدين الأكوع أن يفتحوا الحرب على أهل ذي ناخب، فنزلوا من موضعهم ذلك للاتصال بجبل ذي ناخب فوجدوهم لزموا موضعاً ضيقاً[220/أ] منه فمنعوهم من الصعود وعن العود إلى موضعهم الأول أيضاً وعلوهم بالرمي فأصيب منهم فوق العشرين النفر، منهم الشيخ جابر بن أحمد الملاحي وغيره من كبار العسكر، ومشايخ آنس، فكانوا في شدة لذلك.
ورأى أهل ذي ناخب رايات الحق في أعلى جبل النفاخ والحريق والقتل الذريع فولوا هاربين، [وكانوا كذلك قد] سمعوا الخزائن ضربت للفرح، فاحتمل أهل حصن الدامغ، ومحطة آنس قتلاهم، وعادوا إلى محلهم الأول.
ثم إن مولانا الصفي أمر الفقيه بدر الدين محمد بن عبد الله الجملولي بعسكر إلى أسفل بلاد العفيف لحفظها من الانتهاب وأمر الناس بالرجوع، واحتملوا من رؤوس المفسدين نحو ثلاثمائة رأس، من غير ما تركوه لم تقطع لكثرتهم، [إلى مسجد النور] .
ثم بعد أيام [ ] استأمن ابن العفيف وهو الشيخ معوضة، وكان شيخاً كبيراً، ثم ولده الشرير المسمى محمد، وكان بعض المجاهدين [قد] وجدوا في شعب امرأة وجوار لها والآلات فاحتملوها بمن معها، فكانت امرأة ابن العفيف، فأمر مولانا أحمد (أيده الله) بمسيرها مع ثقات إلى حصن رداع رهينة.
وكتب إلى الإمام (عليه السلام) بذلك فأمر بإشخاصهم إليه، وقد استأمن أهل بلاد يافع جميعاً، وكذلك الشيخ القرعة من بلاد دثينة، فأرسلهم مولانا الصفي إلى مولانا عز الدين محمد بن الحسن، ثم إلى مولانا الإمام (عليه السلام)، وأخبروا ابن العفيف وهو في الطريق بأن امرأته قد صارت في الحصين، أو في رداع، وهو يظن أنها قد نجت فألم به الحزن الشديد والخوف الذي لا عليه مزيد، وتعلق به الألم، حتى كان من أمره ما سيأتي قريباً إن شاء الله.
نعم ! ولما رأي مولانا الصفي (أيده الله) بعد قبض أموال الخبيث بن هرهرة وما أمكن من الحبوب، أمر بقبض سلاح جميع أهل بلاد ابن العفيف وهي البنادق والعيدان والدرق، وأن لا أمان لهم حتى يسلموا ذلك، وكذلك الطاسات، وكان جملة البنادق المقبوضة نحواً من ثلاثمائة، وقدر حملين من العيدان والدرق، ومن الآلات الطرب المعروفة ما يدنوا من حمل من غير ما كان قد غنمه المجاهدون ولم يتركوا لهم فيما يقال سلاحاً.
ثم بعد ذلك ترجح للإمام (عليه السلام) أن تكون بلاد يافع وبلاد الرصاص وغيرهما بنظر ولده الحسين بن الحسن بن أمير المؤمنين (حفظه الله)، وكان مستقراً في بلاد يافع الفقيه الأجل شرف الدين الحسين بن يحيى المخلافي، وكان فيها، وأُمَّر فيها، وأحسن السياسة، وقويت يده عليها وهو من أهل صدق الحديث والمروة، والحلم والأناة، وكان في بلاد البيضاء وما إليها [220/ب]الفقيه جمال الدين علي بن صلاح الجملولي، وقطعة من العسكر نحو أربعمائة.
ولما صلح أمر يافع وبلادها، وكان الأمير أحمد بن شعفل في موضعه المسمى خرفة، وقد كان يكاتبه مولانا العماد يحيى بن محمد بن الحسن بأوامر والده محمد بن الحسن (أيده الله) بالوصول إليه إلى قعطبة، وأن ينظم إليه، ويفتح من جهته على يافع، وهو تارة يبعد وأخرى يقرب، ويتربص الدايرة، فإن كان يافع الظاهرين كان بمن أطاعه على من في قعطبة، وإن كانت الأخرى خاطب وكاتب.
فلما كان من أمر يافع ما كان أرسل مولانا صفي الإسلام (أيده الله) السيد الفاضل جمال الدين علي بن عبد الله بن حيدرة الغرباني إلى المذكور أن لا رخصة في أحد أمرين إما وصولك إلينا أو وصولنا إليك وعرف المذكور سوء تدبيره بسوء معاملة مولانا عز الدين محمد بن الحسن (أيده الله) وأن بلاده إليه، وعوايده المعتادة مجراة منه، فخاف لهذه الأسباب واستأمن إلى مولانا الصفي أحمد بن الحسن (حفظه الله)، وبعث عيون أهل بلاده إلى مولانا يحيى بن محمد يتمسك باليدين ويستر ما كان منه من الخيانة، وقد ظهرت في البلاد واشتهرت.
نعم! ولما صلح بحمد الله أمر يافع تقدم سادتنا (أيدهم الله) إلى الخلقة، وقد كتبوا إلى الرصاص وإلى العولقي وإلى الفضلي، وجميع سلاطين المشرق يطلبونهم الوصول إليهم، ومن لفظ كتاب إليهم: إما وصلتم إلينا أو وصلنا إليكم، فلم يتخلف منهم أحد إلا دخل في الطاعة، وسارع في الوصول.
وقد تقدم أن الأمير أحمد بن شعفل وصل إليهم إلى مسجد النور، وطلب العود إلى بلده وتلقاهم إلى ذمار، ففسحوا له ولقيهم إلى ذمار كذلك، ثم تقدم ساداتنا (أيدهم الله تعالى) بجميع سلاطين المشرق إلى الصلالة بالغنائم الواسعة والأسرى.
ثم خرجوا منها إلى قاع الرماة، ثم تقدموا من قاع الرماة إلى الزهراء، ثم من الزهراء إلى المعسال، ومن المعسال تقدموا إلى رداع ثم خرجوا من رداع إلى مشهد الإمام الديلمي عادت بركاته، ثم خرجوا منه إلى ذمار، إلى مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن (حفظه الله)، وتلقاهم بالتعظيم والضيافات السنية، وقدم لهم خيلاً محلية، وفي اليوم الثالث تقدموا جميعاً إلى حضرة الإمام (عليه السلام)، وقد رتب مولانا الصفي (أيده الله) كما أخبرني من شهد ذلك الجند الإمامي بين يدي سادتنا (أيدهم الله) وجعل سلاطين المشرق من بعدهم وتقدموا إلى معمور الحصين إلاَّ الرصاص وأصحابه، فإنهم أمسوا في معبر فكانوا هنالك، وتلقاهم الإمام (عليه السلام) بالتعظيم، وأمر من في حضرته من أهل الفضل والرئاسة[221/أ]، والنبل بلقائهم، وأعد لهم الضيافات السنية، والمضارب البهية والخيل المحلية، وأخذ في إعطاء العسكر والكسوة لكبرائهم، والتفقد لأحوالهم وأمر كل رئيس تحمل أرزاق أهل ديوانه لئلا يزدحموا عند العدد وليتم عطاؤهم من غير مشقة عليهم.
ثم أذن لهم بالفسح ، فذهبوا الأول فالأول، وأما السلطان صالح الرصاص، فقدم في اليوم الثاني من وصول سادتنا (أيدهم الله)، فأمر مولانا (عليه السلام) بتلقيه وتعظيمه، وهو على حالته المعهودة لباسه كأصحابه، ومن عادتهم يجعلونه وسطاً منهم، ويحفون به من كل جهة، ويمشي بينهم فلا يقدر أحد أن يسلم عليه، أو أن يميزه عنهم، وقد يركب من عبيده من يركب، وينفردون عنه، فلما دخل (عليه السلام) عظمه كثيراً، وجعل له داراً مستقلة فأقام ثلاثة أيام أو أربعة، وافتسح بعد أن أخذ الإمام (عليه السلام) تجديد البيعة وأعطاه ما لا يحتسب، وكذا أصحابه، وقد يأخذون عليه من عطائه أكثر من النصف، ومن طلبه من أصحابه شيئاً قال هو لك.
أخبرني بعض من سمع حديثه أن الإمام (عليه السلام) سأله ليؤنسه، فكان جوابه على الإمام (عليه السلام) بدون المقصود منه مما يفهم الفطين أن ذلك غياً وكلل، فتولى الجواب عبد للرصاص يسمى شليل، وكان متكلماً فسكت السلطان عنه، فلما خلى بأصحابه أراد أن يقتل العبد المذكور وقال له: تنازعني أمري فسقط العبد على أقدامه يقبلها، وأخذ في الاعتذار إليه، وعاد الرصاص معظماً مكرماً، ولسانه يذكر الإمام (عليه السلام) وإحسانه شاكراً.
رجعنا إلى ذكر آلات الملاهي التي قبضت من تلك الديار، وكانت أحمالاً وعرضوها على الإمام (عليه السلام)، وكان حاله (عليه السلام) فيها كما قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (عليه السلام) مفتخراً وناهيك به فخراً:
لا نعرف الملاهي .... ولا ندري بالعيان ما هي
وقال (عليه السلام):
لا نعرف الخمر إلا حين نهرقها .... ولا الفواحش إلا حين ننفيها
وأمر مولانا عليه السلام وأما السلاح المغنوم من جميع أنواعه فأمر به إلى بيت المال، وأما المشايخ ابن العفيف، وابن هرهرة، والناخبي، فأمر (عليه السلام) بإرجائهم عنده، وأجرى عليهم النفقات الكثيرة، وأعطاهم العطايا الغفيرة، حتى يقال إنهم كسبوا منها أكثر مما ذهب عليهم، وقد تقدم أن أولاد ابن العفيف أشخصهم مولانا الصفي (أيده الله) إلى الإمام (عليه السلام)، وكانو في دار في الحصين[221/ب] فأوى إليهم، وتعقب ذلك موته، ثم إن مولانا (عليه السلام) أقام أخاه مكانه في رتبة فمات عقبه أيضاً، وكذلك الناخبي لبث أياماً يسيرة ومات وسايرهم جدد عليه الإمام (عليه السلام) العهود، وأذن لهم في العود إلى بلادهم، وقد ولى عليهم كما تقدم ولده مولانا الحسين بن الحسن.
رجعنا إلى حديث السيد شرف الدين فإن يافع أطلقوه، وصار إلى أبين، ثم خرج منها إلى بلاد تعز من طريق عدن، وعاد إلى الإمام (عليه السلام).
[وفاة زوج الإمام المتوكل على الله إسماعيل]
وفي أيام هذه المذاكرة، كان انتقال الشريفة الطاهرة فاطمة بنت الحسن بن أحمد بن حميد الدين بن مطهر زوجة مولانا أمير المؤمنين (أيده الله)، [إلى رحمة الله] ، وكانت هذه الشريفة من ذوات الفضل والخفر ، والطاعة لله عز وجل كانت أم المساكين وأم ذوي المروات من المسلمين.
قال الفقيه الأديب المهدي بن محمد بن عبد الله المهلا: فشيعها نحو من ألف رجل، وضج الناس بالبكاء لا سيما المساكين منهم والأرامل لما كان فيها من المعروف والشفقة على الضعفاء والقدرة على المروءة الكاملة، ولقد بلغني أن الإمام (عليه السلام) كان يرق لها من مباشرة أقوات الناس على طبقاتهم ويريد أن يخفف عليها فلم ترض بذلك وتصبر لمقصدها رضى الله عز وجل وتحتسب.
ومما أخبرني به مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى إنها جمعت حليها والفاخر من ثيابها، وأرسلت بذلك كله إلى والدتها الشريفة الطاهرة زكية بنت أمير المؤمنين عبد الرب بن علي ، لتقطع نفسها عن الداعي إلى لبس شيء من ذلك قال (عليه السلام): وكانت تقول هذه بباب المباهاة نتركها في صنعاء أو كما قالت.
ومما قيل فيها من المراثي قول الفقيه الأعلم المهدي بن محمد المهلا، بعد أن قريت في محفل عام، وذلك بعد دفنها (رحمة الله عليها)، فلما سُمِعَّت أمر الإمام (عليه السلام) بنقلها إلى بعض كتبه، وتداولها الأصحاب، وهي:
أأم علي راعني يومك الذي .... تجهزت فيه للرحيل إلى القبر
لألف وست بعد ستين حجة .... درجت إلى الفردوس طيبة العطر
وفي صفر في سادس الشهر كان ما .... قضى الله والآجال مجهولة القدر
وأبقيت حزناً في القلوب ومدمعاً .... على الخد تجري في الحرارة كالجمر
وفتت أكباداً بإسكانك الثرى .... وقد كنت في القصر المشيد في ستر
وجاورت ترباً والجنادل والحصى .... وقد كنت بالحلي المصوغ بالدر
[222/أ]فإن عشت في أعلى العلالي مصونة .... وإكرامك الوفاء وكلاً على قدر
وإن كنت قد فارقت دنيا دنية .... فقد صرت في الجنات بالحلل الخضر
لجأ الله ذي الدنيا مناخاً لراكب .... يبت بأوجال ويسفر في السفر
وواراك في القبر الإمام وإنه .... صبور لدى البأساء محتسب الأجر
وما كان يرضى أن تكوني بعيدة .... ولا كان يرضى أن ينالك من ضر
ولكن قضاء الله والأمر أمره .... رضينا قضاء جاء من عادل بر
سقى الله قبراً أنت فيه برحمة .... ورضوانه الأسنى يدوم إلى الحشر
وهنيت جمع الشمل بالبيت فاطم .... أنست بها أنس الرضيعة بالحجر
سناوك بالإحسان قد طاب مسمعاً .... ومن عامل الرحمن خلد بالذكر
وفيك بلا ريب فضائل جمة .... وقصد لوجه الله في السر والجهر
صحبتي إمام العصر عشرين حجة .... بظل لدى الأضياف منشرح الصدر
وإنك من قوم بهم يفخر العلى .... ويكفيهم نص الأحاديث والذكر
وإن علياً بعد أن غبت طالبٌ .... رضي الله بالحمد المكرر والشكر
فصبراً جميلاً يا سليل إمامنا .... فحسبك أن الله أثنى على الصبر
وما دام إسماعيل والدك الذي .... هو الحجة العظمى المؤيد بالنصر
فزعنا إلى الرحمن ثم إمامنا .... لنلقى به وجه الطلاقة والبشر
فما همه إلا الدعاء لربه .... وإنفاذ أحكام الشريعة بالأمر
وكم حل عنا الله عقد ملمة .... بأدعية منه تقابل باليسر
وفي جدك المختار أعظم أسوة .... وكل الورى هذا إلى أجل تجري
وفي فاطم بنت النبي محمد .... وأولادها أهل الطهارة والفخر
عليهم صلاة الله ثم سلامه .... وإكرامه ما دار من غِير الدهر
وهاك نظاماً أرتجيك قبوله .... وفي القلب ما فيه فكن باسط العذر
ومنك الدعاء لي بالمثوبة والرضى .... وغفران رب العرش خاتمة العمر
[مراسلة السلطان بدر بن عبد الله الكثيري إلى الإمام المتوكل على الله]
فصل:ولنعد إلى أسباب المراسلة إلى صاحب حضرموت، ومعظم المراد منه ما يجب لله تعالى من طاعة، وطاعة الرسولًبطاعة إمام الزمن الداعي إلى دين الله سبحانه، والذاب عنه، والجاهد في إحيائه، ولا بد من ذكر ما كان من هذا السلطان وأخوته من العدوان على عمهم السلطان[222/ب] بدر بن عمر، وكيفية الاستيلاء عليه بالغدر، وأنه كان أقربهم إلى محبة دولة الحق في أيام مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله (قدس الله روحه) فتعرض الرصاص ومن أجابه من أهل المشرق لجنود الحق، فكان ما سبق.
وقد ذكرنا تقدم الأمير الصالح صالح بن حسين بن مطهر بن الشويع إلى جهة حضرموت بمكاتبة من مولانا صفي الإسلام أحمد بن الحسن (أطال الله بقاه) عن أمر الإمام (عليه السلام) في شأن هذا السلطان فعاد الأمير المذكور بواجبات، وابتداءات إلى الإمام وأولاده، مما يدل على دهاء من هذا السلطان وبُعد غور، وبعض كمال في دنياه، حاصلها التلون، والمداجاة منها هذا الكتاب، وكان أصحبه الأمير المذكور:
بسم الله الرحمن الرحيم، المقام الذي قام بأعباء الإمامة العظمى فأظهر معالمها، ورفع على قمة الفلك الأثير إيوانها الأحمى، وثبت دعائمها من عكفت شوارد المجد تناديه، ووكفت على كل جهات سحائب أياديه، ظل الله الثابت على الأنام، وسيفه المصلت على أعدائه بالانتقام، من شاع فضله وذاع، وملأ الدفاتر والأسماع، حامي حمى الدين القويم، وقسطاس العدل المستقيم، السؤدد العريض، والشرف الباذخ المستفيض، مدار فلك الشرف الأعلى وقطبه، ومراح راح التقى وقطبه، وروح جسد المجد الأثيل وقلبه، وطراز حلة الشرع المطهر وجدى معصمه وقلبه، باسط بساط الأمن للرعية السالكة، ورافع صيغ أرباب العلوم والفتية الناسكة، ومنبر فساطل الكتائب الحالكة، من استدارت منطقة العز حول مركز سعادته، واستنارت كواكب المجد فأضوى بسادته، وامتدت كلمة دولته إلى منتهى ممالك العرب، وتطأطأت تحت أخمص رفعته معالي الرتب، إمام العظماء ورئيسهم، وسلطان العلماء ونفيسهم، ذو الحسب الصميم، الذي حفظت أواخره أوائله، وأوضحت الأيام والليالي دلائله، فرع الدوحة الساطعة بالأنوار المحمدية، والأخلاق الواسعة العظيمة الأحمدية، مركز دائرة العز المصون، من الدولة المتوكلية ذو اليد البيضاء في سائر الفنون، والكلمة العليا في الأماني والمنون، كيف لا وهو نخبة الآل، ومطلع فخرها المتلال، فما الذي يبلغ من وصفه الواصفون في الإسهاب والإغراق، وهو الحاوي لشتات الخلق العظيم على الإطلاق، وقد كان الدهر به شهيداً، فما من تولى الروح الأمين مدحه قرآناً أكرم ممن يولي الشعراء مدحه قصيداً، والمشهور نسب كان عليه من شمس
الضحى نوراً، ومن فلق الصباح عموداً، خلاصة أهل الكمال من محتد النبوة العظماء الأكارم، السيد الشريف الأعظم[223/أ] سيدنا ومولانا وإمامنا أمير المؤمنين إسماعيل بن أمير المؤمنين القاسم خلد الله دولته النبوية، وأعلى مقاماته المصطفوية، وتولى رعايته فيما أبرم ونقض، وجعل السداد مقروناً بأرائه فيما رفع وخفض، ولا زال بفضل الله متفيئاً ظلال الفيض الوارف، ومتدثر إجلال الكمال ومستمداً بغموره الذارف، وأهدي إلى حضرته الشريفة سلاماً تاماً تجري أنهاره الكوثرية من الذات، وتسطع أنواره القمرية من دواوين الأسماء والصفات، ممزوجاً بالتحيات المباركات.
أما بعد.. ننهي إلى المقام الشريف النبوي، والجانب الإمامي المصطفوي، ما بلغنا من أخبار هذا المقام العظيم وآثاره، وما أجراه الله من النصر والفتوح على يديه، وبما من به من الظفر والتمكين عليه بامتداد دولة كلمة مولانا إلى منتهى قطر اليمن، فتلك الأخبار مما يحسن أن تكون شنوفاً لأسماع الزمن، إذ أطلع الله بهذه الدعوة النبوية شمس اليمن وأضاء، وأذهب عنه غبار الجهل وكشف نقابه ولضا، بفتح ما استغلق من أبوابه، واقتراع قشه وهضابه، وتنضيده بالدر الثمين بعد سحابه، حمدنا الله سبحانه وتعالى على اجتماع كلمة هذه الدولة وانتظامها، وتمام اتساقها بالدعوة المحمدية والتئامها، وتلألأت بالبشارة من جهاتنا الأندية، وأشرقت منها القصور والأبنية، جدد الله لهذا المقام الشريف سعود طالعه، وسعود نيره في مطالعه، وجعل النصر العزيز قائد جنوده، وقرين صدوره ووروده، وتعريف هذا الجناب الأعلى أن المحبين يتعلقون من ولاء هذه الأسرة بأقوى سبب، إذ الآل سفينة النجاة والمرء مع من أحب، وقد خامر حبكم منا الأرواح، ومازج الأشباح، جعلنا الله ممن أرسى من ود آل رسول الله في بحابح الغرف وحضي من صحة ولائهم بأعلى رتبة من العز والشرف، ونسأله أن يجدد عمران الوداد، ويؤكد أسبابه التي هي عنوان الرشاد، وجعلنا ممن خاف مقام ربه، وألزم التقوى أعمال لسانه وقلبه، وسلك بنا أقوم طرق الهداية والتوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد الذي أيده بالقرآن المجيد، وعلى أله الذين هدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد، وصحبه والتابعين وسلم وشرف وكرم، فكان هذا الكتاب من ابتدائه.
وأما الجواب عما أريد منه بسفارة الأمير صالح المذكور فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أرشدنا في كتابه العزيز إلى المودة لقرابة نبيه المجتبى إذ قال عز من قائل: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ، فنحمده حمداً متواتراً متكاثراً على ما أولانا من الخيرات[223/ب]، وخصنا به من الطاعات، ونصلي ونسلم على سيدنا ومولانا محمد ً القائل: ((إنما الأعمال بالنيات )) وعلى آله وصحبه أولي الدرجات العليات، ونستمده من هدايته العظيمة، ونفحاته الربانية الجسيمة، حفظ الشريعة المحمدية، وتشييد مبانيها وأمن أقطارها الإسلامية، وعمران معانيها ببقاء من تلمس مراضي الله وطاعته، في كل حركاته وسكناته، حاوي جميع العلوم الدينية النافعة، التي لكل خير جالبة ولكل شر دافعة، من لم ينطق عن الهوى عن سائر أقواله وأفعاله، القائم بأمر الدين وحامل أثقاله، سلالة النبي الطاهر الأمين، مدار فلك العز والوفاء من السادة الأكرمين، تميمة عقدهم المنتظم الثمين، ظل الله في أرضه المخصوص بالتأييد والتمكين، مورد أهل طاعات الله عين معين، وداده وأمنه والحافه، شامل الرعايا بفضله وعدله وإنصافه، الإمام الأعظم والخليفة المعظم، المرشد للهدى والذايد عن المآثم، مولانا المتوكل على الله أمير المؤمنين إسماعيل بن مولانا أمير المؤمنين القاسم، ولا زالت جيوشه منصورة، وبركاته منشورة، وأعماله مبرورة، وأفعاله مشكورة، ولا زال الكون ينشر علومه عاطر الربا، ولا برح الزمان بوجوده طلق المحيا، آمين آمين.
وأهدي إلى حضرته ساطع الأنوار، سلاماً ضاحك الأزهار، عظيم البركات والأسرار، تغشى تلك الحضرة العلية على استمرار الليل والنهار، شعر:
أهدي سلاماً ذكي ينشر .... لحضرة السيد الإمام
من خصه ربه تعالى .... برفعة القدر والمقام
وبعد.. فالباعث على الكتاب وزبره هو الانقياد لله تعالى والإئتمار لأمره إذ قال في محكم كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} فعلمنا أن لا حياة في الدارين لمن لا يواليكم حيث أنتم عترة الرسول، وأبناء فاطمة البتول، وعلمنا ولله الحمد أن لكم علينا وعلى غيرنا وجوب الطاعة، وأن لمن أطاعكم منكم الرأفة والرحمة والإرشاد إلى أعز بضاعة، وليس بلايق من ذي لب سمع كتاب الله أن يميل عنكم وقد قرع سمعه قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} فأنتم أولوا الأمر الهداة إلى الصراط المستقيم صراط العزيز الحكيم، ونحن إن شاء الله على قدم الطاعة، لم نبرح قائمين لكم بما ترضونه منا، ولم ننفك عن لزوم محبتكم التي يكون لنا بها الارتقاء[244/أ] إلى مقام أسنى، وكيف لا نلتزم طاعتك ومحبتك أيها الإمام الأكبر وأنت الوارث لجدك المصطفى بالعلم والنسب الأطهر، فمن انفك عن ربقة طاعتك فقد انغمر في أعمق بحار الخطر، وعدم في الدنيا والآخرة النجاح والظفر، ولسنا نجهل أن مصير من يبغض أهل البيت المحمدي إلى سقر، فصح أن حبكم الوسيلة العظمى إلى رضاء الله الواحد الأكبر، نسأله دوام ثبوت قلوبنا على الوداد والمحبة
التامة الملازمة الاعتقاد، وقد سبق منا إليكم حفظكم الله كتاب من بندر الشحر المحروس بالله تعالى مضمونه نشر طاعتنا لكم على رؤوس الأشهاد، وإظهار الانقياد لكم منا بين الحاضر والباد، نرجو من الله وقوعكم على ذلك وانشراح صدوركم بما هنالك، وإن تسألوا عن سائر أخبار الجهة فهي ببركاتكم شارحة، والأحوال بلطف الله ثم بحسن نظركم صالحة، وننهى إلى مسمعك الشريف ومحلك العالي المنيف، أنه وصل إلينا السيد الشريف المهذب الجلاجل الكامل الألمعي الأريب، محب العصابة الإمامية المحمدية الأفاضل الأمير صالح بن حسين مطيع حماة شريعة سيد الفريقين، فكان وصوله من لدن سيف الله الصادي على أهل الضلالة، المجتهد في تشييد مباني الحق وتخريب مباني البطالة مولانا صفي الدين أحمد بن مولانا شرف الدين الحسن وصحبته إلينا كتب مضمونها إن شاء الله تعالى صلاح جميع الأحوال ومن جملته ما تضمنته كتبه الكريمة من سيد الأقوال، تحريضنا على لزوم طاعتكم التي فيها مرضاة الله ذي العزة والجلال، فشرحنا له ما نحن لكم عليه من الطاعة التي لا يصفها واصف، وعرفناه أنا لأمركم ونهيكم مطيعون، لا في شيء مما تهوونه نخالف، ولا يخفاكم حفظكم الله أن كتابنا هذا أصحبناه السيد الماجد الحابد من كل شين ومين، الأمير المكرم المحترم صالح بن حسين وعلى لسانه ما فيه الكفاية في جميع الأخبار، لأنا لم نكتم عنه كما الله يعلم شيئاً من غوامض الأسرار، فاستملوا منه كلامه بما فيه التحقيق فمثله من تفوه بالصدق ومثلكم من نقابله بالتصديق، وأصحبناه إلى جنابكم الرفيع ، ومحلكم المنيع، من أعيان الجهة الحضرمية
المعمورة ببركاتكم السيد الجليل الأريب الورع الكامل النجيب، المنظوي لكم على المحبة والطاعة، السيد الذي هو بالقبول منكم حري أحمد بن عبد الله بن أحمد الجفري، ثم صحبهما من المشايخ الأجلاء أعيان فقراء حضرموت المباركة الشيخ[224/ب] الأريب الورع المهذب الأمجد المنظوي لكم على المحبة والاعتقاد، الشيخ الأجل أحمد بن علي بن أحمد عباد، وهما عندنا من ذوي الصدق والعدالة، ومن الساعين في صلاح المسلمين في كل حالة، قد عرفنا هؤلاء المتوجهين إلى سوحكم الرحيب الواسع لكل بعيد وقريب، باطن أحوالنا معكم وظاهرها خاطبوكم متى شئتم لهم الخطاب، واستملوا منهم بالصواب إن شاء الله سريع الجواب، ومشية مسبب الأسباب، ومحبك حفظك الله لم يزل لك على قدم طاعته لك يمشي المشي المتتابع، ووظيفته لك علينا هذه النعمة الجسيمة، ولا سلبنا هذه الهبة العظيمة المقيمة ونرغب إليه أن ينيلنا بحبكم فوزاً كبيراً، وأن يهب لنا به الأمن في يوم كان شره مستطيراً، وبلغنا حفظك الله دوماً وأبقاك للمسلمين إماماً، عن مولانا الليث الضرغام السيد الهمام عز الإسلام محمد بن مولانا شرف الدين الحسن وعن أخيه الغشمشم صفي الدين السيد المفحم أحمد حفظهما الله استيلايكم على بلاد يافع واستملاككم لها وعرها وسهلها، وحصونها الموانع، وذلك بعد أن صدقتهم جيوش الهداة إلى طاعة الرحمن وأروت من دمائهم صيداً البواتر والمران، ثم آل أمر من سَّلم منهم إلى الدخول في الطاعة مذعناً بما لاقاه في حرب حزب الله من الأهوال في الشناعة، وقد زعموا قبل ذلك أنهم من المنتصرين فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، ولله
الحمد على هذا الفتح المبين الذي ينقا صدور المؤمنين المحبين للعصابة الإمامية، ونسأل الله أن يديم لكم الفتوحات، وأن يجزل لكم المنوحات وأن ينفعنا بحبكم، وأن يجعلنا من حزبكم إنه جواد كريم، رؤوف رحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
[جواب الإمام المتوكل على الله إلى السلطان بدر بن عبد الله الكثيري]
وهذا جواب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام):
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً.. وبعد[225/أ] حمداً لله الذي جعل التمسك بكتابه وعترة نبيه أمنة من الضلالة، واتباع أئمة الهدى والاهتداء بهديهم والاقتداء بأمرهم نجاة من الهلكة، وموقية من الجهالة، إذ أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، بنص الكتاب، وجعلهم سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى، على لسان نبيه الذي أوتي من الحكمة فصل الخطاب، ووعى ذلك من انتفع بما آتاه الله من ذوي العقول والألباب، ولبى دعوتهم تلبية الحق الذي لا ريب فيه إن شاء الله وأجاب الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله إلا بذكر الله تطمئن القلوب، الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب، وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرباب، وأن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيل السلامة والثواب، والصلاة والسلام على محمد وعلى آل محمد كما جعل الصلاة والسلام عليه وعلى آله نجاحاً للآمال، ومفتاحاً للدعاء المستجاب.
أما بعد فإنه وصل إلينا من السلطان الذي حسنت إن شاء الله آثاره، وطاب بالخير والصلاح إن شاء الله خبره وأخباره، وخلصت في الله سبحانه ورسوله والعترة المطهرين نيته، وصدقت في العروة الوثقى من طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة ذوي الأمر من الأئمة الهادين من آل محمد المطهرين كلمته، الأمجدي، الخطيري، الشميري، الكثيري، بدر بن عبد الله بن عمر الكثيري، كثرالله بأمثاله، معالم الخير والتقوى، وبلغه من طاعته وطاعة رسوله، وأئمة الحق غاية ما يهوى وأتحفه شريف السلام الأسنى، والإكرام الأهنى، ورحمة الله وبركاته الحسنى، كتابان كريمان، ثانيهما صحبة الأمير الأمجد، الخطير الأوحد، الأشهر صالح بن حسين بن مطهر، والسيد النجيب الحسيب، الأوحد، الأريب، أحمد بن عبد الله الجفري، والشيخ المخلص الصادق الأديب، أحمد بن علي بن عباد أصلح الله أحوالهم، وبلغهم في الخيرات آمالهم، منطوياً على تحقيق توليه لله ولرسوله، ولنا قولاً وفعلاً، وإعلامه بما يحب من ذلك في جميع ما إليه من الجهات المباركات، إن شاء الله وعراً وسهلاً، وإقامة[225/ب] فرائض الطاعة ومعالم الدين الحنيف من الجمعة والجماعة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاء إلى ما أمر الله بالدعاء إليه بالأسود والأحمر، وتثبيت القدم إن شاء الله تعالى، على نهج الاستقامة ومطابقة الباطن للظاهر، في إجابة دعوة الله ودعوة رسوله، ودعوة هذه الإمامة، امتثالاً لأمر رب العزة تبارك وتعالى في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ، وكفى بذلك حجة
ورغبة، فيما أعد من الثواب والأجر، لمن استجاب لله وللرسول فيما يحييه، ونهدي إلى واضح المحبة، واعتصاماً بحب الله المتين، الذي يقول عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، وتشرعاً بقوله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} ، وفراراً إلى الله عز وجل من صفة من قال فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ
إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ، وقال فيهم: {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، وثقة بما نطق به الصادق الأمين، الذي ما ضل ولا غوى، وما ينطق عن الهوى، من قوله: ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق وهوى))، وتصديقاً لما أخبر به في قوله: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)) ، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ، [226/أ] عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} ، وشكراً للنعمة في قوله: ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)) ، فليستبق رجاء لثواب لتثبيت الله عز وجل، كما وعد أهل البيت على لسان نبيه المخصوص بأعظم الكرامة في قوله: ((ما أحب أهل البيت أحد فزلت به قدم إلا ثبتته قدم، حتى يحييه الله يوم القيامة))، فحمدنا الله سبحانه على ما منحه من أسباب الهدى، ووقاه من الردى، وسألنا الله تعالى أن يصلي ويسلم على محمد وعلى آل محمد، ويجعل دعاءنا لكم، ولسائر عباده إلى سبيله، واستجابتكم، ومن استجابنا من المؤمنين إلى اتباع محكم تنزيله، لوجهه الكريم خالصاً، وإليه عز وجل ولما يريده منا من الطاعة الصحيحة مقرباً، وفي دار ثوابه ومنزل أوليائه مزلفاً، واستمسكوا أسعدكم الله بعروة الطاعة والتقوى، واجعلوا الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر نصب أعينكم تظفروا إن شاء الله من مطلبكم بالغاية القصوى، واعلموا أسعدكم الله أن سبيلنا التي ندعو إليها ونأمر بها من أجاب دعوتنا من المسترشدين، فيما يضمنه قوله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ، وقوله عز وجل: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، فمن أجابنا اقتداءً بنا بما علم الله عز وجل جدنا رسول الله ، في قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} ، وقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِي الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ، وكان فرضنا معه ما قال الله عز وجل في كتابه المبين: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ، وإلا تعطل ذلك والعياذ بالله كما عطله من قال عز وجل فيهم: {لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا[226/ب] مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ، وقال نبيه ً: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيسمونكم سوء العذاب ، ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم حتى إذا بلغ الكتاب أجله كان الله هو المنتصر لنفسه)) ، ثم يقول: ((ما منعكم إذا رأيتموني أُعصى أن لا تغضبوا لي فافتقدوا إن شاء الله ذلك فإنه الصراط المستقيم، والحق اليقين))، وتأسوا معنا بمن قال فيهم تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} ، وقال فيهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، وقد وصل إلينا رسلكم الكرام، صحبة الأمير حسام الدين صالح بن حسين، وأطلعونا على ما ذكرتم وذكروا أنكم أودعتموهم إياه، وفيما يتعلق بوالدكم السلطان الأكرم الأفخم، بدر بن عمر،
وعجلنا إليكم الكتب بما نرجو إن شاء الله الخير العاجل والآجل، وصلاح ذات البين، إن الله عز وجل يقول في كتابه المبين: {فَاتَّقُوا الله وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، ولنختم كتابنا هذا بما علم الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله): {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم. بتاريخ شهر رمضان الكريم من عام خمس وستين وألف [يوليو 1654م].
ثم جعل (عليه السلام)، بعد ذلك إلحاقاً في طيه، لفظه حاوي خير إن شاء الله إلى السلطان الأكرم الأفخم بدر بن عبدالله بن عمر أسعده الله وقفنا على ملحقكم الكريم من شأن والدكم السلطان الأوحد[227/أ] بدر بن عمر رعاه وأسعده، ومسارعتكم إلى إطلاقه وحل وثاقه، وامتثال ما أمرناكم به من استقلاله إن شاء الله بأعمال ظفار، يأمر فيها إن شاء الله بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتوقف إن شاء الله على أمر الله عز وجل فأمر رسوله ً، وأمرنا في الإيراد والإصدار والإسراع إلى ما أمرناكم به من ذلك هو الذي يقربكم إلى الله عز وجل وإلينا، ويصدق ما أخبرتم عن أنفسكم من إيثار طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله، وطاعتنا، ونشهد بمطابقة باطن أمركم إن شاء الله لظاهره فيما دعوناكم إليه مما يحبه الله ويرضاه.
وأما الأعذار التي أشرتم إليها في تلك الأمور السابقة، فغير خاف عليكم أن ملتزم طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله وطاعة أئمة الهدى لا يقدم على مثل ذلك إلا عن أمر من جعله الله إليه، ورأي من أمر بطاعته فيما دون ما هنالك، ولكنا نرجو إن شاء الله أن هذا التدارك بهذا الإصلاح والاعتذار إلى الله ورسوله، وإلينا من مثل ذلك الإقدام فيه إن شاء الله نجاح وفلاح، فاتقوا الله سبحانه وتعالى في جميع أموركم، وأخلصوا له في سركم وجهركم، وتوقفوا على حدود ما أرشد الله تبارك وتعالى، وقد قال وهو أصدق القائلين: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } ، وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } )) أخذ الله بنواصينا ونواصيكم إلى نهج الهدى، وجعلنا ممن قال فيهم: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .
ثم قال في إلحاق آخر: حاوي خير إن شاء الله إلى السلطان الأمجد الأشهر، بدر بن عبد الله بن عمر (أسعده الله)، وصل ما أصحبتموه الجماعة من الخيل النجائب التي هي إن شاء الله تعالى من أسنى وأسعد المراكب، خمسة رؤوس على الصفات التي ذكرتموها، والسمات التي حققتموها معقود بنواصيها، إن شاء الله الخير، مقروناً بقدومها إن شاء الله السعد مرتبطة إن شاء الله بما أمر الله عز وجل بارتباط مثلها فيه ومرهبة[227/ب] إن شاء الله لمن ضل عن سبيل الله من أعاديه، ونسأل الله أن يصلي ويسلم على محمد وعلى آل محمد، ويوفر عليكم أسباب الخير الديني والدنيوي، ويضاعف لكم الخلف العاجل والآجل، ويزيدكم من المحاسن والبركات ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهذا الكتاب أيضاً من السلطان المذكور في شهر رمضان في السنة المذكورة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي جعل الأئمة الهادين المهتدين بما فيه صلاح الأمة المحمدية، يدعون كما أنهم المعتدون بكتابه العزيز، فاقتدوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، نحمده حمداً يلقى به الأمن في هذه الدار، ودار القرار، ونصلي ونسلم على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه الطيبين الأخيار، ونستوهب من فضله المتكاثر وإنعامه المتواتر، بقاء عمران معاني الإسلام وتدمير مباني ذوي البطالة والآثام، وببقاء من شفى صدور المؤمنين بما برز عنه من أوامره ونواهيه، وسعى في تأييد الدين القيم، وتأكيد مبانيه سيف الله الساطي على الكفرة والفجار، والطغاة والمعاندين والأشرار، ظله في أرضه الواسع الظليل، وحرمه الأمن لأهل طاعته العاملين بالسُنة والتنزيل، سلالة من اختاره الله واصطفاه من لم ينطق في أقواله عن هواه، أعني الإمام الأعظم، والخليفة الأمين المعظم، بحر العلوم المتلاطم، الحريص على إقامة العدل وإزالة المظالم، مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين إسماعيل بن مولانا أمير المؤمنين القاسم،
قسم الله لنا من محبته الحظ الوافر، وجعلنا ممن استقل بنور علمه السافر ، وأبقى لنا الانتظام في سلك طاعته في الباطن والظاهر، ومد في مدته لبسط العدل والأمان، بين البادي والحاضر، وأبلغه من السلام ما يتضمن أنواع البركات، ويقدم إلى حضرته العلية بأصناف الكرامات، ويمطر على أرض خاطره الخطير، شآبيب المواهب الربانيات، وبروح قلبه الممتلئ بالعرفان بروح نسمات الألطاف الإلهيات:
سلام من رحيم ذي امتنان .... على بحر العلوم النافعات
مُرَجَّانا إذا ما ضاق أمر .... وعدتنا لدفع النائبات
[228/أ] إمام الرشد محيي الدين صدقاً .... وحاميه بحد المرهفات
هو إسماعيل من رفلت إليه .... ملوك الأرض تحدوا اليعملات
يُرجَّى أمنه وندى يديه .... فترجع بالمعزة والهبات
بقي في عزة ودوام ملك .... يروع للعدا بالعاديات
ويبسط أمنه والعدل بسطاً .... بأرض الله رب الكائنات
وبعد فصدور الكتاب عن علوم تشرح الصدور ببركاتكم، وأحوال جميلة بأسرار عنايتكم، وذلك بعد ورود كتابكم السامي قدره، العظيم نفعه وشره، وهو جواب كتابنا السابق إليكم بما صرفناه من تدبير أمرنا إلى الله ثم إليكم، إذ اعتمادنا على الله ثم عليكم كما أنكم الوارثون لجدكم المصطفى الشافع المقبول، المنزل عليه من ربه تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ } ، فحكمناكم في أمرنا، ورضينا منكم الحكم المحمدي، وعلمنا بتوفيق الله عن يقين أن تتحكموا في أمرنا بما يكتب الخير الأبدي، والتعظيم السرمدي، وكان جوابكم إلينا ولله الحمد شكراً وفق المراد، وحسب ما يطلب من حسن نظركم ويراد، فمن ذلك ما شرحتم لمحبكم في كتابكم الكريم الحاوي لأنواع الخير العميم، أنكم عرفتم منه السلوك على طاعة الله سبحانه، وطاعتكم على نهج قويم، وأنه منطوٍ على الوداد الذي ثمرته من الله ومنكم البر الجسيم، ونتيجته التوصل إلى الخلود في جنات النعيم، في جوار جدك الأمين، عليه أفضل الصلاة والتسليم، فلله الحمد المستمر على ما عرفتموه من حال محبكم معكم، إذ تحققتم أنه من أتباعكم وحزبكم، وما شرحتم في حال الوالد السلطان بدر (حفظه الله)، حيث أشرتم إلى أنكم ما كنتم تحبون لنا التراخي في شأن إطلاقه، بل كان قصدكم المبادرة في إخراجه إلى سعة الأرض بعد حل وثاقه، وتقرير يده إلى بندر ظفار، من غير توقف ولا اعتذار، فما كان منا التخلف له في المكان إلا لمقصد الرأي المبارك المنتظم منكم، بما فيه صلاح جمع الشأن حيث وصل جوابكم بما هو المقصود من المطلوب، ألقى
الله في قلب محبكم الطمأنينة برأيكم، فسبحانه وتعالى إذ يقلب هو القلوب، فبادر محبكم مبادرة فورية بالإطلاق التام، لوالده السلطان بدر بن عمر (حفظه الله) وابنه عمر، وإطلاق [228/ب] الصنو علي، وإطلاق بدر بن الصنو جعفر بالسرعة والاستعجال من غير تلبيث ولا استمهال لأمرك، إذ أنت إمام الزمان، والخليفة الداعي إلى مراضي الرحمن، ورعاية لحق القرابة والنسب، جعل الله ذلك المقصد إليه، من أقرب القرب، وغفر لنا ببركاتكم سالف الآثام، وعصمنا عن اقتراف السيئات فيما بقي من الأيام، وقد قررنا الوالد السلطان بدر (حفظه الله) على ولاية بندر ظفار، وما ينسب إليها من الولاية في تلك الأقطار على قصد إشارتكم، ومبلغ عنايتكم، ثم أنا أخبرنا الوالد السلطان بدر (حفظه الله) بكل ما يقر ناظره، ويسر همومه، ويريح خاطره، وماشئ بأعظم سرور عنده ولا أتم كما يعلم من إطلاقه ابنه عمر، واجتماعهما في خير وعافية، من غير بأس ولا ألم، وأطلقنا المذكورين لكي ينشر خبر امتثالنا لأمرك في كل الجهات، وليكون أجرهم في صحايفك المحلية من جزيل الهبات، وببركاتكم أنزل الله في قلوبنا المودة والرأفة والرحمة، والسكينة، وعرف كل منا بسركم ما يصلح من الأحوال، ويزينه ويشينه، والله المسؤول أن يديم انتظام أمر المسلمين بتدابيرك الحميدة، وأن يغسل أدران الأضغان بصافي أمواه بحور علومك، وآرائك المفيدة، ثم لا يخفاكم حفظك الله، أنه وصل إلينا ما منيتم به علينا وذلك هو الشريف الإمامي المصطفوي الأعظمي المحمدي الذي يستعاذ به من خطوب الدهر، ونتوصل به إلى صلاح كل أمر بقدرة الله وعونه العالم
بالسر والجهر، وسررنا بذلك غاية السرور، وتيقنا ببركاته صلاح أحوال الجمهور، فيا لذلك الموضع الميمون ما أعظمه وأعلاه، وما أتمه وأشرفه وأسناه، وكيف لا يكون كذلك وهو نتيجة أمرك فشكراً لله ذلك الصنيع، لأنا لا نطيق القيام بشكرك ومحبكم بمشيئة الله ملزم نفسه السعي بما يرضي الله ورسوله ويرضيكم لطلب العلو في الدارين والسعادة، ومثبت قلبه بعون الله على ما وقف عليه من أوامركم المحمودة، في كتبكم الكريمة على استيفائها وزيادة، فأشملوه بالدعاء الموصل إلى الخيرات وإلى المصالح، وأنتم إن شاء الله متحققون حال محبكم إنه إن شاء الله من الموفين لكم بالعهود، وإنه صار من أتباعكم وأشياعكم غير جاحد ولا مجحود، وقد ألزم نفسه بما أمر[229/أ] الله به من قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً } ، وقوله عز وجل من قائل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} ، والتوفيق من الله مسؤول، وهو الشهيد على ما نقول، ولا يخفاكم أن والدنا السلطان بدر (حرسه الله) وابنه عمر والصنو علي وصلوا إلينا، وكان اجتماعنا علي نيتكم اجتماع مودة ورحمة بحسن نظركم الفائض علينا، ورأي السيد الأجل إسماعيل بن علي ما نحن عليه بأعيانكم من الحال الجميل، وهاهو صدر إليكم، وأصحبناه من عندنا سعد بن سعيد على سبيل الخدمة لكم والتبجيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا زلتم في كنف الحي القيوم ورعايته، ولا زلتم مخصوصين بأتم السلام، وصلى الله على سيدنا محمد وآله
وصحبه وسلم كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
حرر يوم خامس عشر شهر رمضان المعظم من شهور خمس وستين وألف [1654م] والوالد السلطان بدر (حفظه الله) عزمه كائن إلى ظفار، إن شاء الله محمولاً على جناح السلامة، بمشيئة الله تعالى بعد مضي عيد شوال المبارك، قدر الله ذلك العزم وعقبه كل خير، وجعله سبباً لدفع كل سوء وضير، انتهى.
وأخبرني الولد الحسين (أسعده الله)، وقد حج في سنة خمس وستين وألف [1654م]، أنه اجتمع بالأمير صالح بن الحسين في سفر الحج، وأنه حدثه بما كان عليه السلطان بدر بن عمر من الضيق الشديد في المحبس الوحيش. وأنه لما لم يقبل يعني الأمير من السلطان بدر بن عبد الله كتاباً ولا هدية ولا إكراماً إلا بإطلاق عمه المذكور، أو المعصية، ويعود الأمير كما جاء، ولا يحمل كتاباً لم يكن فيه إطلاقه، وحل وثاقه، وقد ذكر كثيراً من عظيم ذلك على السلطان بدر بن عبد الله، وأنه بكى وانتحب، ثم أمر معي حداداً لحل الحديد، قال فوجدا حديداً مبهماً لا يعرف قدر ثقله إلا بالكثرة، وإنما فرَّصه الحداد بالفراص، وذلك المحبوس يبكي فرحاً وغماً، ويكثر من الشهادتين، ثم قال للأمير: لا أصافحك حتى أغتسل، ثم اغتسل، وقد صار كالشيء البالي، وصلى ركعات، ثم وصل وصافحه وهو يبكي، ويدعو للإمام.
ومن اعتذارات السلطان بدر بن عبد الله في شأن حبس عمه إلى الإمام (عليه السلام) أنه قال في بعض مكاتباته: إنه لما استخلفه والدنا محله، وجعله نائباً علينا وعلى جميع ذريته وأهله، وجعله أميناً على الرعايا، وأوصاه بالرفق بهم وبنا، والإحسان إليهم وإلينا، وخدمناه غاية[229/ب] الخدمة، وقمنا بما يجب علينا من التوقير والحرمة، إلى قوله: فأحل بنا من ضيق المعاش ما يهون مقاساة الموت دون مقاساته، وصبرنا على ذلك حتى عيل منا الصبر، ولما خشينا على أنفسنا الهلاك قدمنا على العم بدر وأولاده، وما ظننا أن نسلم من قبل ذلك الأمر ومن بعده، ولما ضممناهم قمنا بهم، وبمكالفهم ومن يلوذ بهم وكفلناهم، وقمنا لهم بالواجبات من النفقات وغيرها، وقد كان أهلنا من قبلنا من قام منهم بالأمر مع وجود من قبله ضمه، وجعل عليه حراساً ليأمن من بوادر سطوته وفعله، وقد كان جدنا بدر بن عبد الله أُسِرَ من أبيه عبد الله لما ولي الأمر وبقي أسيراً حتى صار إلى القبر، ثم وجدنا عمر بن بدر بقي أسيراً من أخيه عبد الله حتى انتقل عبد الله، إلى قوله: وما كان سبب طلوعنا على العم بدر إلا خوفاً على أنفسنا. إلى قوله: وربما وأعداؤنا، وحُسَّادنا إليكم أن لا سبب لثأرنا على العم إلا قيامه بطاعتكم، فلا والله العظيم، ثم لا والله العظيم ما كان السبب لذلك قيامه بطاعتكم، وإنما السبب ما أوضحناه لكم في هذا المكتوب، وأطال من ذلك.
وهذا الجواب من السلطان بدر مع الكتاب المرسل صحبة النقيب حسن بن هادي البطة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي ثبت على محبة أئمة الهدى قلوب المتقين، وحكم بالانحراف عن حبهم على من قضى الله عليه بالخسران المبين، المنزل على نبيه محمد ً أجمعين: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ} ، نحمده حمداً نرجو به الخلود في دار السلام، ومن فضله نسأل دوام من يفاخر بدولته الليالي والأيام، عطراً يكون الفاتح عرفه ، وحياة قلوب الموحدين، سيف الله القاضي باستئصال رؤوس الزائغين، عن سنن الرشد المستبين، روض الأماني والأمان لمن اتبعه من المؤمنين، البدر الطالع بنسخ فرق الزيغ والضلالة، وتمزيق جموع أهل الطغيان والبطالة، داعي العباد، إلى ما فيه لهم النجا والرشاد، اعتمادنا بما في نوائب الزمان، وعياذنا من طوارق الحدثان ، الإمام الأعظم، والخليفة المعظم، سلالة من أحلت له الغنائم، مولانا المتوكل على الله أمير المؤمنين إسماعيل بن مولانا أمير المؤمنين القاسم (أبقاه الله) لتأييد[230/أ] الدين واستنارت أقطاره، ولتلألي شموسه وأقماره آمين آمين آمين، وأتحفه بسلام يعم الآفاق نشره، ويسر الغموم والأحزان بسره، وبعد.. فصدور كتابنا هذا عن علوم شارحه ببركاتكم، وأحوال صالحة على نياتكم، والباعث على ذلك هو إعلامكم أن النقيب الأجل الأريب حسن بن هادي بطة قد وجهناه راجعاً إلى محلكم السامي، ومقامكم العالي الإمامي محمولاً إن شاء الله على جناح السلامة، بجواب مراسمكم السابقة الكريمة، العالية الفخيمة، الغالية القيمة، وشرحنا لكم فيها إجابتنا
على انعقاد الصلح بيننا وبين الشيخ العمودي سنة كاملة، بعد أن أبدى علينا في ذلك شرايط لا نعهدها في ساير الإصلاح، فأجبناه عليها، رعياً لجبركم وطاعتكم وإيثاراً للصلاح.
ثم بعد أن توجه إليكم النقيب حسن بن هادي أبدى الشيخ العمودي علينا شرايط غير السابقة، فشق علينا غاية المشقة، لأنها غير معهودة ولا موافقة، فأجبناه إلى ما اشترط علينا بعد عزم النقيب حسن ابتغاء جبر خواطركم، ولقصد إخماد نيار الفتن، وقصده بتلك الشرايط أن نشمئز عن شيء منها، أو أن نتعاظمها لفحشها، ونتكل عنها وقصده أيضاً بذلك أن نصير عصاة لأمركم المطاع، أو أن نتباعد عنكم، بعد أن كنا من الأتباع، والعياذ بالله أن نرضى الجور بعد الكور، وأن نغتاض بعدلكم لهوى الأنفس الميل والجور، وحاصل الأمر أنا أجبناه لأجلكم في كل مطلب، وانعقد الصلح سنة ببركاتكم، جعله الله إليه من أجل القرب، وضرب الطبل علامة لانعقاد الصلح ثاني عاشور شهر محرم، عرفنا الله والمسلمين ببركته، بحرمة محمد ً، ونعرفكم أنه بلغنا أبقاكم الله لدفع المضار ولجلب المنافع، ما حصل من الخلاف، والميل والإجحاف للمخذولين [من] يافع، فلقد انخرطوا عن سلك الهداية، وانتظموا في سلسلة الجهل والغواية، ووقعوا في رجة يستعاذ من مثلها، وعقدوا بعد حل العهود عقود المكر والخديعة، فويل لهم من حلها، ولقد غيروا صكوك العهود المنوطة بأعناقهم من غير شك ولا جدال، فلينظروا التغير: {إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَالٍ} عصمنا الله ببركاتكم عن الوقوع في مثل هذا الشأن، وأبقانا ومن يلوذ بنا ثابتون لكم على قدم الطاعة وطريق الوداد، ولكم في قلوبنا فوق ما تعهدون من المحبة، وحسن الاعتقاد، ليشهد لنا بحبكم الذي خامر البواطن والظواهر إعلامنا بطاعتكم، والدعاء لكم منا على ذرى المنابر، ونرجو بذلك من الله رفع الدرجات في الحياة وبعد الممات، ولا تظنوا حفظكم الله فينا[230/ب] في جميع من حوته أقطارنا إلا كل ظن جميل، فهذا شرح أحوالنا معكم،والله على ما نقول وكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على مولانا محمد وآله وسلم أجمعين، حرر في شهر محرم من شهور سنة ستة وستين وألف [نوفمبر 1655م]، وهذا جواب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، السلطان الأكرم، الذي سما مفخرة وشرفاً بمودة آل محمد، فطاب خبره ومخبره، أوحد الرؤساء الكرماء، وأجل سلاطين العرب الذين زكى أصلهم ونمى، العالي السامي، الشهير، بدر بن عمر الكثيري، زاده الله من الكمال، ومحاسن الخلال، وأدر عليه شآبيب السلام، ولطائف الإكرام وبعد.
فوصل كتابكم الكريم تذكرون فيه أن الباعث على تسطيره بعد جواب ما سبق من المراسيم وإجابتكم فيها صحبة النقيب الأكمل حسن بن بطة بإنعقاد الصلح الميمون إن شاء الله فيما بينكم وبين العمودي، ووصفتم أن العمودي أبدى عليكم في ذلك شرايط لا تعهدونها في سالف الأصلاح، وأثرتم بإجابتكم إليها الخير والصلاح، ثم لما توجه إلينا النقيب حسن بن هادي أبدى الشيخ العمودي عليكم شرايط أخر كذلك غير السابقة، فأجبتموه إلى ما اشترط لقصد إخماد نار الفتنة، وأن لا تصدقوا ما ظنه أن تنكلوا عن تلكم الشرايط، وتعظيم المحنة، أو أن تصيروا عصاة لأمرنا المطاع، أو تباعدوا عنا بعد أن كنتم من الأتباع، واستعذتم بالله عز وجل من الجور بعد الكور، وأن تعتاضوا بالهدى والعدل، هوى الأنفس الميل عن ذلك والجور، فأصبتم بذلك والخير كله لله إن شاء الله في الصلاح والاتحاد، والشر كله في الخروج عن قصد العدل والتفرق الخارج عن سبيل الرشاد، وطريق السداد، والله المسؤول أن يصلح أحوال الجميع على ما يحب ويرضى، ويوفق الكل بسلوك نهج الحق الذي به الفوز لديه والرضى، بحق محمد وآله وصلى الله عليه.
وذكرتم أنه بلغ إليكم من الخلاف من يافع القبائل إذ لم تشد الوطأة عليهم جرى منهم مثل هذا الواقع، وخبره دون مخبره، فإنه إنما جرى ذلك من بعضهم، وهو ابن عفيف وقبائله، وإن شاء الله فالأمور جميلة، والسبب من التخفيف عنهم رفع المحاط من بلادهم، وظننا الرفق بهم يقودهم إلى الخير والمحبة وأن التخفيف عنهم من المعرة فيه تأليف وقربه وربما[231/أ] سوَّل من سوَّل من شياطين الإنس والجن ما أوقعهم في الحيرة والضلال، وثناهم بما خابت به الآمال، ومع ذلك فإنا نحب لهم الخير والصلاح، وبانون بأن نأخذهم بالرفق والإصلاح، فمن أحب الخير والرجوع إلى الله، والتوبة قبلناه، ومن أدبر عن الحق واستكبر، واتبع هواه قاتلناه، حتى يظهر أمر الله وتعلو كلمة الله، بحوله وقوته، وتأييده لحزبه وبصيرته، والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، والعاقبة للمتقين، وإلحاقكم الكريم، والكتب إليكم في طيه التي من والدكم السلطان الأمجد بدر بن عمر عافاه الله تحققناه وتحققناها، وعرفنا مضمونها ومعناها، وأصبتم وأحسنتم برفع ذلك إلينا، وإطلاعنا عليه، والله المسؤول أن يجعل الجميع من المتعاضدين على القيام بأمره والمناصحين لله سبحانه القائمين بواجب حمده وشكره، بحق محمد وآله ً، والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، بتاريخ شهر صفر سنة ست وستين وألف [ديسمبر 1655م].
[إرسال القاضي الحسن بن أحمد الحيمي إلى حضرموت]
وبعد انفصال السلطان بدر بن عمر إلى بلاد ظفار، وتقررت أمورهم جميعاً رأى الإمام (عليه السلام) إرسال القاضي الأفضل العلم العلامة الأطول شرف الدين الحسن بن أحمد الحيمي (أسعده الله) ليقرر مع السلطان قواعد الانصاف ونشر الشرع الشريف أعزه الله، في تلك المدائن والأطراف، وأن يطلع على حقائق ما تضمنته هذه المكاتبة في الوفاق والخلاف، وأصحبه كتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، السلطان المكرم المعظم، والمقام المشرف المفخم، ولي أهل البيت المطهرين، إسراراً وإعلاناً، والجاعل محبتهم ومودتهم إنشاء الله لبلاغ ما نرجو عند الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة عنوانا، فخر ذوي الرئاسة الكبرى وقدوتهم، وعلم ذوي السياسة الحسنى وعمدتهم بدر بن عمر الكثيري جدد الله عليه السعادة، وبلغه في طاعته وتقواه أقصى الإرادة، وأهدى إليه شريف التسليم، وزليف البركات والتكريم.
وبعد.. حمداً لله على نعمائه وآلائه، وسؤاله أن يصلي ويسلم على محمد وآل محمد وصحبه وأوليائه، فإنه قد سبق إلى ذلك المقام الكريم الأرفع، والمحل الفخيم الأمنع، من الكتب والعهود المباركة إن شاء الله ما نرجو تفضل الله حسن أثره، ونطمع في كرمه تبارك وتعالى أن يصدقه بموافقة مخبره[231/ب] لخبره، وأن يوفقنا لما فيه رضاه من السيرة، ويصلح لنا ولكم فيما يقرب إليه ويزلف عند العلانية والسريرة.
ثم إنا بعد استخارة الله والتوكل عليه والاعتصام به والتفوض إليه وجهنا إليكم القاضي العلامة الأوحد الفهامة، عمدة العلماء الأعلام، وعدة القضاة والحكام، شرف المسلمين والإسلام، الحسن بن أحمد بن صالح الحيمي (أسعده الله بسعده) ، وأمده الله بمواد معونته ورفده، لتمام تلك المقاصد المحمودة، والآثار المباركة إن شاء الله المسعودة، وإعانتكم ومؤازرتكم إن شاء الله على ما لا يعين عليه ولا بدل على الخير فيه، ويهدي إليه إلا من كان على مثل صفته من العلم والعمل، والاستمساك بعروة تقوى الله عز وجل، ومعرفة مصادر الأمور ومواردها، والإطلاع على سير الأئمة ومقاصدها ما أسيناكم به لكفايته، وآثرناكم على أنفسنا مع عظيم محله لدينا، وإختصاصه بنا ومكانته إعانة لكم إن شاء الله على ما أنتم بصدده من الصلاح إن شاء الله، والإصلاح، وشداً لظهوركم في الخير بما نرجو به لنا ولكم عند الله عز وجل الغنم والفلاح، وأصحبناه عهداً مباركاً إن شاء الله يقرأ على الناس ويعرفون ما تضمنه إن شاء الله مما هو لكل خير عنوان، ولكل يمن وبركة أساس، فأعلنوا بحمد الله وشكره على إيصال مثله بمثلكم، واقتدوا به إن شاء الله فيما تأتون وما تذرون، وقولكم وفعلكم ثبتنا الله وإياكم أحسن ثبات، وأصلح لنا ولكم الأقوال والأفعال والاعتقادات والنيات، بفضله ورحمته، وبحق نبيه محمد ً، وصحابته، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهذا العهد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، الحمد لله الذي رفع منار العلم الشريف وإعلامه، وأنفذ بحوله وقوته في الشرق والغرب والشام واليمن عزايمه وأحكامه، وجعل الكتاب الكريم، حبلاً ممدوداً من السماء إلى الأرض وعترة رسوله ً قرناء فلا يفترقان، كما جاء به الخبر الصحيح عن الصادق المصدوق، حتى يردا عليه الحوض يوم العرض، وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [232/أ]{لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ، العدل الحكيم في أفعاله، الحق الصادق في أقواله، الوافي بميعاده، المنجز لإيعاده، وأن محمداً عبده ورسوله الذي بعثه بالدعاء إليه، وأمره بالدلالة عليه، وجعله كما قال عز وجل في كتابه الذي نزله تنزيلاً: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الله فَضْلاً كَبِيراً، وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان عليه وعلى أهل بيته الذين جعل أجرهم مودتهم، وشاهد الصدق على محبته محبتهم، وأكرمه فيهم بما أنزل تنويهاً بذكرهم وتشهيراً: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ، وعلى أصحابه الأخيار من المهاجرين والأنصار، الذين قال لهم هداية وتعظيماً: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كَثِيراً ، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيماً} فحق على من اقتعد مقعد رسول الله أن يدعو إلى ما دعا الله إليه، وبدَّل اتباعاً لقول الله عز وجل: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} على ما دل عليه وأن يقتدي به ً وصحبه وسلم في من تنآت عنه داره أن يبعث الرسل والمبلغين، يوجه من يرتضى من أولي العلم النافع والعمل الصالح والعقل الراجح، والبصيرة واليقين.
ولما كان السلطان المعظم، والمقام الأوحد المكرم، ذو الرياسة المسعودة والسياسة المحمودة، والمجد الشهير، بدر بن عبد الله بن كثير، ألبسه الله ملابس الإسعاد، وبلغه من تقواه وطاعته غاية المراد، ممن وفقه الله لمنهج الصواب، وثبت من حبه وحب رسوله وأهل بيته لمن ثبت عليه واستقام، حسن المآب وجزيل الثواب، فأعلى في جهة ولايته المباركة إن شاء الله، وأهلها بهذه الدعوة الإمامية النبوية، واستمسك بعروة الاعتصام بنا أهل البيت النبوي بعد الاعتصام بحبل الله عز وجل، وله ما لنا وعليه ما علينا، قولاً إن شاء الله وعملاً واعتقاداً ونية، كان من تتمة ما أنعم الله به علينا وعليه، وتكملة ما ابتدأه سبحانه من الرحمة واللطف الخفي إلينا وإليه، وبعد استخارة الله عز وجل وهو خير المستخار، والتوكل عليه[232/ب] والثقة به في الإيراد إن شاء الله والإصدار، توجيه القاضي العلامة الأوحد، الأمجد، الفهامة، شرف الإسلام والمسلمين، فخر أتباع العترة المكرمين الحسن بن أحمد بن صالح الحيمي حمد الله مسعاه، وأصلحه وأحسن متجره وأربحه، لأخذ المشروع من البيعة الميمونة إن شاء الله من السلطان الأكرم، والعهد الأكيد الذي كان يأخذ مثله رسول الله ، ومقاصده السلطان الأمجد على تقوى الله وما لا يقوم به إلاَّ مثله من معالم الشريعة، والتعريف بما لا يعرف به إلا من كان على صفة من أهل العلوم الوسيعة، والصفات الرفيعة، ورفع منار الدين الحنيف بالجمعات، والجماعة، وتعيين من يقيم هذه الوظيفة الشريفة، في كل جانب من تلك الديار، إن شاء الله تعالى، من ذوي التفقه في الدين والتقوى
والطاعة، وفصل الخصومات بين المتخاصمين، ونصب النواب المعتبرين، والحكام المرتضين، فيما بعد عنه من ذوي الرصانة والإمانة، والورع والقناعة، وتوصية كل بما يحق التوصية به إليه مما جاءت به آداب الشريعة الواضحة الغراء، ودلت عليه مكارم هذه الملة الحنيفة البيضاء الزهراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود الشرعية على مستحقيها كما شرع الله وذكر وإحياء السنة المأثورة، ومحو آثار البدع المنكورة والتذكير بحق الله عز وجل وطاعته، وحق رسوله ً الموجب لشفاعته، وحق أهل بيته المطهرين المخصوصين بحفظ سنته وجماعته، والاعتزاء إليهم في العقايد، والالتجاء في الأحكام الشرعية كما قضت بذلك الأدلة الصريحة وما فرض الله لهم من المودة في قوله: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ، وبشر به على لسان نبيه ً من أمن من اتبعهم من الضلال، ونحو ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما))، وما ينطق عن الهوى وحديث ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق وهوى)) ، وأخذ ما أمر الله بأخذه من واجبات الأموال من نحو الصدقات، والأخماس والمظالم، وصرف القدر الذي أمرنا بصرفه في مواضعه مما لا يتم إلا به صلاح الآمر والمأمور في تلك الجهات، وعمارة المعالم، وإيصال أمرنا بإيصاله على السلطان (أسعده الله) إلينا لنضعه إن شاء الله حيث أمر الله[233/أ] بوضع
الواجبات فيه، واجد علينا، والنصيحة لله ولرسوله، ولأهل بيته، ولجميع المسلمين والمسلمات، ممن خص وعم، إذ هي الدين الأقوم، والمحافظة على ما تضمنه نحو قوله ً: ((من أسبغ وضوءه وحسن صلاته، وأدى زكاة ماله، وكف غضبه ، وسجن لسانه، وبذل معروفه، واستغفر لذنبه، وأدى النصيحة لأهل بيتي فقد استكمل حقايق الإيمان وأبواب الجنة له مفتحة))، وقوله ً وقد سأله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه في الجنة) عن الزهد: ((ما هو يا علي مثل الآخرة في قلبك والموت نصب عينيك، وكن من الله عز وجل على وجل، وأد فرايض الله تعالى، واكفف عن محارمه، ونابذ هواك، واعتزل الشك والشبهة والطمع والحرص، واستعمل التواضع والنصفة، وحسن الخلق، ولين الكلام، واقنع بقبول الحق من حيث ورد عليك، واجتنب الكبر والبخل، والعجب والرياء، ومشية الخيلاء، ولا تستصغرن نعم الله، وإن قلت، وجازها بالشكر، واذكر الله في كل وقت، واحمده على كل حال، واعف عن من ظلمك، وصل من قطعك، واعط من حرمك، وليكن صمتك فكراً، وكلامك ذكرا، ونظرك اعتباراً، وتحبب ما استطعت، وعاشر بالحسنى، واصبر على النازلة، واستهن بالمصيبة، واعمل الفكرة في المقادير، واجعل شوقك إلى الجنة، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، ولا تأخذك في الله لومة لايم، وخذ من الحلال ما شئت إذا أمكنك، وجانب الجمع والطمع، واعتصم بالإخلاص والتوكل، وابن على أس التقوى، وكن مع الحق حيث ما كان، وميز ما أشتبه عليك بعقلك، فإنه حجة الله عليك ووديعته فيك، وبرهانه عندك، فذلك أعلام الهدى ومناهجه، والعاقبة للمتقين)) ، وقوله ً: ((الإسلام
لباسه الحياء، وزينته الوفاء ، ومروته العمل الصالح، وعمارته الورع، ولكل شيء أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت)) هذا ونحن نسأل الله برحمته أن يجعلنا جميعاً من أهل بشرى ملائكته، إذ يقول فيما أنزله على نبيه الأمين: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا[233/ب] مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ [فِيهَا] مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، وإذ يقول: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى الله لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} ، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، حرر في شهر صفر الخير عام سبع وستين وألف [نوفمبر 1656م].
[رسالة القاضي الحيمي إلى الإمام]
وكتب القاضي أيده الله إلى الإمام (عليه السلام)، واصفاً لقدومه على السلطان، وكان بين السلطان والشيخ العمودي خلافات، وتحارب، فأصلح بينهم القاضي، عن أمر الإمام (عليه السلام)، وكتب بينهم مشروحاً، كما سيأتي إن شاء الله هذه نسخة القاضي أسعده الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، مولانا وبركتنا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، الخليفة الحق المبين، وتاج الأئمة الهادين المهتدين، وناشر أعلام شريعة سيد المرسلين، المتوكل على الله رب العالمين حفظه الله وأيده وتولاه، وسدده ورفع به أعلام الحق وشيده، وأهدي إليه شريف السلام وزليف الإكرام ورحمة الله وبركاته.
وبعد.. فصدرت الأحرف من حضرة السلطان الأعظم الأفخم بدر بن عبد الله بن عمر الكثيري، (أسعده الله) من مدينة هنين ، وصلنا إليه سابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وستين وألف [فبراير1656م]الأخبار شارحة، والأحوال بمن الله وبركاتكم صالحة، كان وصولنا إلى السلطان رعاه الله وصولاً شهيراً، وعظمنا تعظيماً كثيراً، وطلب إلى حضرته للقاينا أعيان أهل جهته وعشيرته، ولم يترك من التعظيم وجهاً إلا فعله، ولا من الإكرام نوعاً إلا أتاه، وكان في يوم ثاني الوصول طلب الاتفاق به لإيقافه على كتبكم وتسليم تلك الكسوة المباركة إليه، فاجتمعنا به، واستوفينا أخبار الخاصة[234/أ]، وقرأ تلك الكتب وتأملها، ثم قرأ ذلك العهد كذلك، وكان في اليوم الثالث من وصولنا.
فقال: نأمر بقراءة العهد على من بحضرتنا والناس قد كانوا صدوراً من حضرته، لم يبق إلا من يتعلق فقط، فقلنا له بالصواب أن يكون قراءته في سيئون، فإن الحضرة هناك جامعة لأعيان الناس من أهلكم، ومن غيرهم، وحضور من في تلك الجهة من أهل العلم وغيرهم، فقال لا بأس بذلك، وحال صدرت هذه الأحرف والسلطان متوجه إلى سيئون، لأن هذه البلد المسماة هنين هي طرف البلاد، إنما يقف السلطان بها أيام المحاربة، وإذا كان معهم شاغل من أي الجهات والأخبار جهة الشحر سارة، قد وصل إليه ثلاثة مراكب هندية ملاح، على ما بلغنا وأحوال هذه الجهة جملية سديدة، وقد اتصل بنا بعض فقهائها ممن له بصيرة وفقه نافع، ولهم عناية في إحياء المساجد بذكر الله عز وجل، ودرس القرآن، وتعليم الصبيان، من غير أن يقارن ذلك شيء من البدع، التي يتوهم بها، وببركتكم تصلح أمور المسلمين على أتم الوجوه وأحسنها إن شاء الله تعالى، وبعد وصولنا إلى جهة حضرموت يأتيكم التحقيق إن شاء الله الشافي بما يتجدد من الأخبار، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، في تاريخ عاشر شهر جمادى الآخرة عام سبع وستين وألف [فبراير 1656م].
[رسالة السلطان بدر الكثيري إلى الإمام]
وكتب السلطان بعد وصول القاضي (أيده الله):
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، الحمد له مطلع شمس الإمامة في الأقطار الإسلامية، ومسبل أستار ألطافها وعدلها وإنصافها على سائر البرية، نحمده حمداً يكافئ إنعامه، ونصلي ونسلم على من هو مدخرنا ليوم القيامة، سيدنا محمد المخصوص بالكرامة، وعلى أله وأصحابه أولي النجدة والشهامة، ونسأله حفظ من قام بأعباء الإمامة، وأمطر علينا من شآبيب عدله وإحسانه، أغزر غمامة، ناظم عقد الإسلام، بركة من على الأرض من الأنام، بحر العلوم الواسعة النافعة، صاحب الحجج الواضحة والبراهين القاطعة، والأنوار الصادعة، والأسياف القاضية، تُخيف البغاة والفجار، والطغاة المتمردين والأشرار الكفار، أعني ذا الإمامة العظمي، والمقام الأرفع الأسنى، السيد الأعظم، والخليفة المعظم، سلالة من أحلت له الغنائم، مولانا أمير المؤمنين إسماعيل المتوكل على الله[234/ب] بن أمير المؤمنين القاسم، قسم لنا من حبه أوفر حظ وأتم، وأبقاه مؤيداً لدين جده الأمين محمد ً وعلى آله وصحبه الأكرمين أجمعين، وأهدي إلى حضرته الباهرة الأنوار سلاماً، محفوفاً بالبركات والأسرار، الأرواح بطروق نشره ترتاح ، والأتراح بخفوق رايات جنود سره تنزاح، يقوم له عنا بواجبات الحقوق، تؤدي لديه من الإكرام ويروق:
أهدي السلام لحضرة حسنية .... زانت بمن عم الأنام ببره
مبري المريض بنفثه ودعائه .... ومزيل كل المعضلات بسره
بحر العلوم حقيقة فمُريدها .... يلقى جواهرها بساحة صدره
ذاك الخليفة للرسول محمد .... من ذا يشاكله لرفعه قدره
بسط الأمان بسيفه وبعدله .... وأزال ما لا خير فيه بأمره
يا رب زده حماية ووقاية .... ما كان نوراً للوجود بأسره
وبعد.. فصدور كتابنا هذا عن علوم طاب سماعها للمحبين، وأحوال صلاحها بعون رب العالمين، ثم ببركات هذه الدولة الإمامية المتوكلية الحسنية، الفاطمية المحمدية، المصطفوية، وبغية لاستمداد دعواتكم والتعهد بكم، والتماس بركاتم، ثم لاعلامكم حفظكم الله تعالى بثبوتنا على ما عهدته منكم الأذهان، ونقلته إليكم المشاة والركبان، من الوداد الصافي الأكيد، والحب الثابت الواجب المفيد، والطاعة الشهيرة من القريب والبعيد، وذلك بمن من ليس بظلام للعبيد، نرجو الفوز والنجاة يوم الوعد والوعيد، ثم لتعلموا حرسكم الله استنارة قطرنا وثبوت أمرنا وفخرنا بوصول مرسومكم المطاع السامي النافع، لصدى قلوبنا، ومنهل ودق غيمة المغيث الهامي، ودق الوعظ النافع، والعدل الواسع، والنور النبوي الساطع، وذلك بيد الحسن في أقواله كاسمه وعلمه وأفعاله، وحلمه وعقله وجميع أحواله، عمدة القضاة والحكام، أوحد العلماء الأجلاء الأعلام، شرف الملة والإسلام، القاضي الجليل القدر، الحسن بن أحمد بن صالح الحيمي، أبقى الله له حسن المقاصد، وشرف الرتب والمحامد، وأبقاه على طاعتكم أبداً في خير وعافية، ومضمون ذلك المرسوم الذي هو لكل خير موسوم، أن قد سبق منكم إلينا من الكتب والعهود ما به إن شاء الله تعالى بلوغ كل سؤال ومقصود.
نعم! لله الحمد قد كان وصول ما ذكرتم، وحصول المُنى لمن إليه أشرتم، وقد قرأت[235/أ] خواطرنا بما سبق إلينا من عهودكم الوثيقة، وسلكنا بمعانيها في مراضي الله على أوضح طريقة، وتلك طريقة من أنت سبطه الأطهر، وخليفته الأمين الأكبر، تأمر وتنهى بما به ً أمر ونهى حسبما أنزل عليه، وما رواه ذوو الدين والنهى، ثم عرفتمونا أنكم وجهتم إلينا بعد الاستخارة المسنونة، بنية صالحة إمامية مباركة بالتوكل على الله عز وجل، وعلاء مقرونة علم العلماء الأفخر الأطول، القاضي الأورع، الأكمل، شرف الدين الحسن الجامع لسان المحاسن، الوارد من حياض ودادكم ماءً غير آسن، بتمام تلك المقاصد المحمودة، والآثار المثمرة المسعودة، وليكون إن شاء الله على أفعال الخير ظهيراً، وعلى كل عدو للإسلام نصيراً، وبكل فضيلة ومكرمة آمراً ومشيراً، ولقد لاحت لنا في قسمات وجهه من الخير دلائل، وظهرت منه لنا ولله الحمد محاسن جمة وفضائل، فصح أنه القاضي الحاوي لشروط القضاء والنايب الأمين عن خليفة الرسول الأمين الشافع المشفع المرتضى ونرجو أن يتم به الصلاح والأمن الشامل الكامل والنجاح، وقد قابلناه بما يليق لمثله من العلماء الأنجاد، ولم يلق منا إلا القبول بما هو إن شاء الله عين الصواب من سديد الآراء، المصلحة إن شاء الله تعالى لأمور الدنيا والأخرى، وكيف لا يكون منا ذلك أو لا نبادر بما هنالك، وقد ثبت منا الإقدام على طاعتكم، ودوام انتظامنا في سلك أعوانكم وجماعتكم، ولله الحمد شكراً متواصلاً متواتراً على هذه النعمة الوافرة الجزيلة، الموصلة إن شاء الله إلى كل فضيلة، الذائدة عن كل
حال رذيلة، جعلنا الله ممن شكر نعماه، واتبع حليلة نبيه ومصطفاه، وأرشدنا إلى طريق هداه، وصدنا عن مسالك من اتخذ إلهه هواه، إنه الكريم المنان، الجواد المحسان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم على الجملة والتفصيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم كثيراً، والحمد لله رب العالمين، بتاريخ شهر جمادى الآخرة، من شهور سنة سبع وستين وألف [مارس1656م].
ثم كتب إلحاقاً يتضمن الجواب فيما أمر به الإمام (عليه السلام) من الإصلاح فيما بين السلطان المذكور، والعمودي الآتي ذكره، فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الآمر بالصلاح، الداعي إلى الفلاح، المقيم بالأئمة الراشدين أود الدين، الناظم بهمم ما انتثر من أمور المسلمين، وجاعلهم رحماء بالأنام واصلين للأرحام، حاثين على صلة الخاص والعام، وميسر لهم العمل بما كانوا له من العلوم يحملون، حتى عملوا بحقيقة قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ونحمده على ما جعلنا عليه من اتباع الأئمة الأعلام، حمداً [235/ب]مستمراً على الدوام، ونصلي على سيدنا ومولانا محمد خير الأنام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.
وبعد فهذا الملحق الحاوي من الكلام ما هو إن شاء الله صدق متحقق، إلى حضرة من جمع بين الدين ما تفرق، ولف من شمله ما تمزق، وسبت من جموع الضلال كثيراً وفرق، سلالة الرسول أبي البتول، وخليفته مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله إسماعيل بن مولانا أمير المؤمنين القاسم، أبقاه الله لحفظ شريعته في خير وعافية، إن محبه المطيع لأمره، القائم بوظيفة طاعته وشكره، وقف على الملحق الكريم الحاوي لكل خير عميم، وذلك في شأن ما قصدتم من إخماد ما اتقد من نيار الفتنة بيننا وبين العمودي مما تنكره دلائل الكتاب والسنة.
نعم ! قدر الله ذلك، ولسنا والله العظيم نهوى ما هنالك، وقد تداركنا بوصول من رأيتم إرساله للصلاح فيه الكفاية، وذلك هو البالغ من الحلم والعلم والعقل، ما هو الغاية والنهاية، القاضي الجليل الأوحد، الأرشد، شرف الدين الحسن بن أحمد الحيمي -حفظه الله وأسعده-، وكان منه اجتهاداً كاملاً، واعتناء في الخير شاملاً، وعقد بيننا وبين العمودي صلحاً مديداً، مباركاً إن شاء الله حميداً، مدته حفظكم الله تعالى خمس سنين، بعدالة حصون سنه معلومة بين الأقربين والأبعدين، وأعلنا بالعقد من الصلح عن قولكم المجاب الفضل بدلائل لا تخفى على أحد فمنها الضرب بالطبل، وأثبت ذلك القاضي الأورع الجليل ما هو مشروط في العدالة على الجملة والتفصيل، في ثلاثة مساطير بخطه على ما تعهدون منه (حفظه الله) في إبقائه وضبطه، فمسطور منها إليكم لتقفوا عليه، ومسطور إلى الشيخ العمودي صدره القاضي الجليل إليه، ومسطور إلينا لبيان ما كان فيه لنا عليه وعلينا.
ثم فهمنا ما ألحقتموه في شأن صنونا المكرم، جعفر حفظه الله من كل بأس وألم أردتم له من الأمان ما يقر به باله، ويصلح به إن شاء الله حاله وماله، فما أشرتم إليه هو المحبوب والمقصود، ورضاكم ورضاه هو لدينا أعز محبوب ومعدود، وقد فاوضنا القاضي الجليل، العلم العلامة، الحسن بن أحمد في شأنه، ورأينا اللائق له في قصده لأمانهِ وضمان الذي ذكرتموهم من أصحابنا بالتعيين والتخصيص منكم لاسمائهم والتبيين، وضمانهم له بالأمان أحسن وأتم، ونفعهم له ولنا إن شاء الله أجمع وأعم، وقصدنا نجمعهم بسيئون إلى القاضي الأرشد الأسعد، الحسن بن أحمد -حفظه الله-، لأن نحن وهو على همة سفر إلى سيئون بالمبادرة، وعلى بالنا أن نكون إن شاء الله في أثناء جمادى الآخرة، ومتى كان جمعهم إليه[236/أ]، وتقرر ضمان الأمان عليهم لصنونا جعفر بين يديه، وكان التحقيق منه ومنا على الفور إليكم، لأن اعتمادنا في كل أحوالنا على الله ثم عليكم، وفي كل حال رأيكم السديد هو اعتمادنا في أمر القريب والبعيد، وما أحوجني لمعنى قول أبي الطيب إذ يقول من القول الرائق لذوي الأفهام والعقول:
إذا شد زندي حسن رأيك في يدي .... ضربت بنصل يقطع الهام مغمداً
فبرأيك السديد، نربح إن شاء الله ونستفيد، ومما نعرف به خاطرك الخطير، وفهمك الثاقب المفرد بلا نظير، في حال والدنا السلطان بدر -حفظه الله- من (أمر ضرير إن لنا بيراً) بظفار، من وقت والدنا -رحمه الله- رحمة الأبرار، وهي إلينا، وبلغنا عن خادم لنا نظرها إليه، إن الوالد بدر -حفظه الله- خاض في أمرها فكان منا الجواب للخادم أن يتركها له، وإن كانت لنا لأن قصدنا جبره في كل حال لأن الحال واحد ولد ووالد، ولسنا ممن يكره رضاه أو الزيادة لمدده، ولا توهمنا أن في خاطره شيء من جهة هذه البير، لأن أمرها أمر زهيد يسير، ومحله عندي محل عظيم خطير، وإن له ولنا أموالاً سابقة من أهلها وكل منا عارف بما للآخر، وكان سبب هذه البير وإن كان أمرها غير كثير، عزم ولديه محمد وعلي في بعض المراكب إلى أرض المهري على صفة الغيظ والحول والقوة لله.
ثم بعد عزمهما طلب الوالد السلطان بدر -حفظه الله- ريعاً من العسكر وآل كثير، وريعوه، وقال: إني خفت مع عزم ولدي إلى المهري وريعت لحصول أوهام، وإنا كتبنا إليه (حفظه الله) بالأمان التام وعرفناه بحقيقة الحال، وأفهمناه بما به إن شاء الله زوال الإشكال، وأعلمناه أن رضاه مطلوبنا، وغاية مقصودنا ومرغوبنا، ونحن في رجاء وصول كتابه بما هو إن شاء الله الصواب.
ومن جوابه، وأنتم حفظكم الله قد برز أمركم المطاع، بأن نجعل إليه بندر ظفار بأسره، فباردناه به لطاعتكم وبره، ووهبناه له بأسره، فصار إليه براً وبحراً، وسهلاً ووعراً، وكذا حصونه العالية المنيعة، دون حصون قليلة وضيعة، والآن أشهدنا شهوداً بإدايها عليه، وتفويض أمرها إليه، وربما تتوهمون حفظكم الله أنا نشاركه في شيء من منافعها، حيث تعلمون أنا نستقل شيئاً من المراكب إليها، لأجل النول، ونشتري اللبان مثل الأجانب، والآن إن رضى الوالد -حفظه الله- أنا نترك تعهد[236/ب] البندر بمراكبنا مثل تعهد الأجانب، تركناه ابتغاء لما فيه رضاكم ورضاه، وإن أحب أنا من جملة أجناس الناس فلا بأس وحلمكم ما فيه الكفاية ونظركم فيهله ولنا من الصلاح ما هو الغاية، والله ولي التوفيق والمستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله وما شاء كان، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
ويعرف مولانا أمير المؤمنين -حفظه الله- بأن في ظفار غيولاً غزيرة، وصرنا بحرش خميس في واحد من الغيول، نحصل منه قوت الذين يعملون اللبان.
وقد صار إلى الوالد (حماه الله) قبل خوضه في هذه البير، وصح الآن أن ظفار بأسرها إليه، الغيول وغيرها يحيطوا علماً بذلك، ونظر مولانا أيده الله الكفاية في كل حال.
ثم قال في إلحاق آخر: حاوي خير وسرور وبركات، والطاف من الله تعالى شاملات إلى الخليفة سيد البريات، مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين (أيده الله)، وأيد به الدين، آمين، آمين، آمين تنبي عن وصول ما حواه الملحق الكريم من الكساء الفاخر العظيم الفخيم، إلى محبه ومحب من والاه من جميع أعوانه وحزبه، المفاخر بين الأنام متعلقة بأذيال كرمه وقربه، فيا لتلك الخلع السنية، ما أعظم قدرها، وما أعز جودكم وامتنانكم بل إحسانكم لنا غامر، وفضلكم لدينا أبداً متواتر، فجزاكم الله عنا وعن المسلمين أجمعين أفضل ما جازى الخلفاء الراشدين عمن رعوه من المؤمنين، ولا برحت لنا وللمسلمين ذخراً وعدة ووسيلة إلى الله باندفاع كل ملمة وشدة، ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته دائماً وأبداً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، بتاريخه المتقدم.
نعم! وبعد ذلك صلح ظاهر الحال، كما قضت به هذه الكتب المزخرفة المقال، الحرية بأن يقبلها ذووا الكمال،وعاد القاضي شرف الإسلام إلى حضرة مولانا الإمام -عليه السلام-، وأصحبه السلطان كتاباً هذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي من عدم بقدرته وحكمته للوجود أنشأ، الملك العزيز المعز المذل الدائم المؤتي الملك من عباده من يشاء، بما أولى الأئمة الهادين المتهدين، أمناؤه على الدين، حماة ورعاة له مما يشوبه أو يشين، نحمده حمداً مزلفاً لنا إلى النجاة، ونصلي ونسلم على مولانا محمد وآله وصحبه الميامين الهداة، ومن جزيل هباته، وعظيم صلاته[237/أ]، نسأل الحفظ من طوارق الحدثان، المرهوبة لمن ازدان به الزمان وزاده حلاوة وعذوبة، ونالك به الإسلام اذراعى منه، واجبه ومندوبه مبدل الخوف بعدله أماناً، والسيئ من المعاملات إحساناً، والمغفول عنه من حدود الله تعهداً واتقاناً، الداعي إلى الطاعات المالية للقلوب إيماناً، الأسد الأغلب المواثب المهيب، غيث المجدبين، المغيث، المغدوق، والخصيب، الساعي لنفع البعيد من هذه الأمة والقريب، منير أغلاس الأقطار بنوره، طامس أعلام الظلم بظهوره، خليفة رسول الله وسليله، وأمينه على الكتاب المنير وتأويله، والقائم بأعباء الإمامة عن أمر العزيز العالم، مولانا السيد العظيم أمير المؤمنين المتوكل على الله إسماعيل بن مولانا أمير المؤمنين القاسم أبقاه الله في عافية تامة، وبركات شاملة عامة، وإهدي عن محبه إلى حضرته السنية، ومقاماته العلية من السلام الأسنى، والإكرام الأهنى، ما يكافئ قدره ويوالي سروره وبشره:
أثني السلام على أسنى الأنام على .... غوث الورى المرتقى الأعلى من الرتب
بدر الفخار الذي جلى بطلعته .... ليل الخطوب كما أجلى من الريب
بحر الندى المجتدى منه سرى كرماً .... مخلصاً قلبه من ربقة الكرب
ذاك الإمام الذي شاعت فضائله .... حتى نمت وسرت في العجم والعرب
له التوكل في أحواله أبداً .... على الإله الذي ينجي من العطب
فمن يوكله فيما سعا ودعا .... إليه نال الذي يرجو من الطلب
هو الذي في الوغى نلقاه مبتسماً .... إذا الكماة الليوث الصيد في هرب
يردي بصارمه من نَدَّ عن سنن الـ .... مختار منتهك الكفار بالقصب
له وراثية علماً ومنتسباً .... ولم يشن علمه بالكبر والعجب
أمَّ الأنام فما أهنى إمامته .... طوبى لمقتبس منه ومقترب
طابت عناصره شاعت مفاخره .... نفت عزائمه للكفر والكذب
نارت سرائره صحت ضمائره .... فازت عشائره بالدين والنسب
دانت لمنصبه كل الملوك ومن .... رام العناد له أفضى إلى التعب
الله أسأله حفظاً له أبداً .... لحفظ دين الهدى والعز والحسب
وحفظنا وذوي الإسلام كلهم .... لأنه وزر اللاجي من النوب
[237/ب]وبعد فصدور كتابنا هذا عن علوم سارة، وأحوال جميلة قارة، بعون الله الكريم ولطفه، والمعهود من إحسانه الجزيل وعطفه، ثم ببركات نبيه محمد الأمين (صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين)، ثم ببركاتك أيها الخليفة الأعظم، والإمام الميمون الأعظم، وبأسرار دعواتك المقبولة، وعنايتك التي هي بيمن الله أبداً موصولة، وباعثه استمداد دعائك الممطر، ودق السلامة المبلغ بتوفيق الله، تعالى إلى خير وكرامة، ثم لأداء ما يجب علينا من حقوق الخدمة والطاعة للإمامة، ثم لتعريف خاطرك الشريف برسوخ أقدامنا في طاعتك وحبك، وابتهاجنا بما نلناه من ودادك، والواجب علينا وقربك، وما فزنا به من حسن المقابلة، والتعهد المفروض لكم علينا من المراسلة والمواصلة. ثم لتفهموا أنا بعد أن أرسلنا إليكم أجوبة المراسيم الكريمة، الحاوية للأوامر والزواجر الشرعية الإمامية العظيمة القيمة، بشروعنا في تقرير ما به أمرتم، وثبات ما به لنا عرفتم، وإليه أشرتم نحن والقاضي الأوحد الحلاحل، الأرشد الأورع، الأبي الأمجد الأسعد شرف الدين الحسن بن أحمد -حفظه الله-، وببركاتكم ثم ما قصدتم، وثبت ما عليه ندبتم، من إقامة الجُمعات والجماعات، وإخراج الزكوات الواجبات، وإزالة جميع المنكرات، من الخمر وآلاته، والربا ومعاملاته، والفسق بجميع حالاته، ومقدماته وأدواته، ولم يبق من الحالات إلا ما يرضاه، ومن المعاملات إلا ما يرومه ويهواه.
ثم لما كان وصول جوابكم الكريم إلى القاضي العلامة المحقق الفخيم، شرف الدين الحسن أبقاه الله في خير، وإليه بكل خير أجر، وقرأ مضمونه، واستخرج من وعظه مخزونه، وقريرة مضمونه، وقربه ناظره، واطمأن بما حواه خاطره، وصلح به آخره، واتسع به سروره وبشراه، واشرح به منه البال، وفهم منه الإذن منكم بالترحال إلى نهجك الرحيب، المعشوشب الخصيب، حزم الأمن للأهل والبعيد والقريب، فإذا فهم عنكم ذلك، وعرف منكم ما هنالك أزمع الرحلة من غير توقف ولا مهلة، شوقاً إلى لقائك، ومسارعة إلى رضا الله سبحانه ثم رضائك، وطلب منا المبادرة بما لا بد منه للمسافر من أدوات السفر المعلومة يبن البادي والحاضر، فبادرناه بما جعل أمره إلينا، وعجلنا بسفره وإن كان مما يعز أمره علينا، وتوجه إلى جناحك الخطير، وسوحك الواسع المنير، محمولاً على جناح السلامة متزوداً إن شاء الله زاد التقوى والكرامة، مصحوباً بلطف الله وتوفيقه[238/أ] في جميع طريقه، حتى يحظى منك بالاتصال، المؤذن إن شاء الله بصلاح جميع الأحوال، دائماً من غير انفصال، وما غرب عن كتابنا من باقي الأخبار، وغوامض الأمور والأسرار، فاستلموه من لسانه الصادق، عن جنابه المنير الثابت الحاذق، فما الأوراق بحاوية للأقل مما حوى، ولا الألسن بناقلة إليكم أصدق مما روى، وقد عرف منا ما يدل إن شاء الله على انتظام أمرنا، وما يوجب لنا لديكم ارتفاع قدرنا وذكرنا، ولا زلتم لنا ولكافة المسلمين ذخراً وعدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، حرر آخر
شهر شعبان المبارك من شهور سنة سبع وستين وألف [1656م]، وألحق بعد ذلك ما هذا لفظه:
حاوي خير وسرور وبركات إن شاء الله تعالى إلى حضرة سلالة الرسول وخليفته اعتمادنا وملاذنا، مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين، إسماعيل بن مولانا أمير المؤمنين القاسم (أيده الله)، وأيد به الدين آمين، آمين.
وبعد.. فالصادر إلى حضرتكم الشريفة العلية، الإمامية المحمدية من الخيل الكرام باسم الهدية ثلاثة رؤوس، فمنهن فرس نعامة صفراء مليحة، ومنهن فرس كحيلة، حمراء جنده ، والثالث من الرؤوس المذكورة حصان شميطان أصفر تفضلوا بقبول تلك الهدية، وإن كانت تافهة غير سنيَّة، فما مثلكم ما يقابل بإهداء كل متمول، ولولا أن ندب الهدية جدك الأمين خير البرية لم نتجاسر عليها ولم نمد الأيدي لإجلالكم إليها، وإنما كان قصدنا بها اتباع السنة، وتقليد أعناقنا بقبولكم له منا عظائم المنة.
ثم الصادر إليكم من الخيل الجياد، في مقابلة ما يقرر علينا لبيت المال من الزكاة والفطرة ثمانية رؤوس حسبما ذكرنا، لكم في كتاب منفرد إليكم بيد القاضي الجليل الحسن بن أحمد (حفظه الله)، ثم قيل ما تقرر لكم من محصول بندر الشحر المحروس بالله من الرسم الهندي، وما تقرر لكم مما رسم على البانيان في مدة ثلاثة أشهر مائتان وعشرون قرشاً وثلاثمائة حرف، وخمسة عشر ذهباً أحمر، محسوب بستمائة قرش وثلاثين قرشاً، كما أن جملة الذي تقرر من الموسم الهندي سنة سبع وستين وألف [1656م]، والذي يخصكم من المتقرر على البانيان هو ثمانمائة وخمسون قرشاً مقتضى ما قررناه لكم في الكتاب المفرد المشار إليه، بيد القاضي (حفظه الله)، ثم لا [238/ب] يخفاكم حفظكم الله تعالى أنا أرسلنا إلى موالينا أولادكم حفظهم الله أجمعين على سبيل المهاداة، ومنوال الحب والموالاة، لمولانا عز الإسلام محمد بن مولانا شرف الدين الحسين رأسين من الخيل، ولأخيه مولانا صفي الدين أحمد رأسين أيضاً، وإليه من الولد عبد الله رأس من الخيل هدية، كما بعث إليه مع الأمير أحمد بن سعد حلية لفرسه هدية، وأرسلنا لأخيهما حسام الدين الحسين حصاناً، والقصد بجميع ذلك خيرك الواجب وخيرهم إذ هم لك من أنفع الأعوان والأقارب، والدعاء منكم مسؤول بحصول كل مأمول ولا زلتم في كنف الله ورعايته، مخصوصين بأتم السلامة، تاريخ خامس عشر شهر رمضان المعظم سنة سبع وستين وألف [1656م].
[توجه الأمير محمد بن المتوكل على الله إسماعيل إلى الحج]
ثم لنذكر ما يعقب ذلك من السيرة النافعة والدعوة الجامعة في العام المذكور، كما لا بد من ذكر ما آل إليه أمر هذا السلطان وجهات حضرموت إن شاء الله، فإن مولانا الإمام (عليه السلام) أمر ولده الفاضل مولانا عز الإسلام محمد بن أمير المؤمنين (أيده الله) بالحج المبرور، وأن يصحبه عدة من أهل العلم والرئاسة، من نجباء الجند والخاصة، فتجهز في أواخر شوال وكانت طريقه خبت لعسان ، وقد تلقاه الحاج من أهل السهل والجبل، وكثرة الضيافات والعسكر تزدان بأحسن سلاح ولباس، والرايات والمضارب، كما هي في اليمن، وزيادة والنفقات عليهم، وعلى من التاث بهم من الضعفاء ومنقطعي الزاد، ولا زال حاج اليمن ينظم إليه، ويجتمعون عليه، حتى قدم بهم على ذلك إلى مكة المشرفة شاهراً أمره، ظاهراً شأنه، مرتفعاً سلطانه، وقد أمرهم الإمام (عليه السلام) يعني الخواص من العلماء والكبراء أن يحفوا به، وأن يصلوا كل مقطوع، وأن يبسط العطاء في أهل الاستحقاق والسائلين من معترِ وقانع وهلوع، وتلقاه الشريف المكرم المعظم، زيد بن محسن بغاية الإكرام، ونهاية الإعظام، وأنزله خير منزل، وجعله مما يقرب من قصوره يتصل.
أخبرني بعض من شهد ذلك، وشهد بما كان هنالك، أنه لم يبق عين في مكة المشرفة من أهلها أو نازل إلا قصده لمعرفته، وزكي أحواله[239/أ]، ولينال من نواله، إما ظاهراً وهم الأكثرون، وإما سراً، وإن بعض قضاتهم وأهل البعد عن معرفة حق أهل هذا البيت النبوي إما جاهلاً أو متجاهلاً، ومع الملوك ودنياهم مائلاً، قال لبعض العلماء من الحنفية جارياً على عادتهم، وقد رآه يصلي مع مولانا محمد أيده الله في الحرم ويلزم حضرته يا فلان أخالفت السنة، وكنت مع القوم البدعية، وكما قال وأنا أراهما وأسمع تقاولهما، فقال العالم الحنفي: يا سيدي فلان لو عرفت القوم حق المعرفة لعرفت أنهم بخلاف ما تقول، وأخبره بجملة صالحة من أحوالهم، ثم في غير ذلك المجلس أخبره بحال الإمام (عليه السلام) وأصحابه، فما كان بأسرع، مما قال له: تفضل دلني عليهم في وقت لا يعرف فيه دخولي عليهم، قال: فلما دخل عليهم رأى التناصف في الحقوق والعلم والعمل، وإقامة العدل على الكبير والصغير، وفي القليل والكثير، ثم فاتحهم فوجد علماً نافعاً، وكان في مجلس ابن الإمام السيد العلامة الحبر ضياء الدين شحاك الملحدين إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى بن المهدي الجحافي في جماعة من أهل العلم النافع، قال: فرأيته يثني عليهم بعدها، ثم أضافهم ظاهراً وفعل دعوة عظيمة، وأحسن إليه مولانا محمد أيده الله كثيراً، قال: فرأيته بعدها كصاحبه الأول، حتى سمعته يقول الحمد لله على اجتماع آل رسول الله في منزلي، وهذه وأمثالها مما يطول تعداده، ويعسر إيراده، من دعاء الإمام (عليه السلام) لكل بعيد، وتأليفه لكل شريد. لما كانت
دعوته (عليه السلام) غالبها بسماع أفعاله، وبعرف أحواله، قبل الخطاب بالكتاب ولسان مقاله، وقد ذكر علماؤنا ورووا عن آبائنا أنها أنفع الدعوات، وأنجح في أهل الجهات المبتعدات، وتعداد أمثال ذلك كثير.
ولما انقضت أيام الحج وتفرق أمر العجم من أهل مصر والشام والعراق وغيرهم، وأمن الشريف المعظم زيد أيده الله تعالى على مولانا محمد ومن معه من غوائلهم وآمنوهم بابتعادهم مما يتوهمونه، فإنه حصل معهم في مكة المشرفة، ومشاعرها المعظمة المعرفة مع الاجتماع التوهمات لا سيما في الشريف لما يرونه من قربه من مولانا محمد (حفظه الله) أقام مولانا محمد بعد أيام الحج كما أخبرني بعض أصحابه نحواً من أربعين[239/ب] يوماً ثم توجه للزيارة النبوية والمقامات الأحمدية، وقد أمر الشريف زيد (أيده الله) بعض بني عمه وخواصاً من أصحابه بالمسير مع مولانا محمد، فكانوا صحبته إلى المدينة.
وكان مع أيام قدومه إلى المدينة قد شملهم الجدب، وقلت عليهم المياه والعشب، فأمدهم الله سبحانه وتعالى مع وصوله بالمطر الكثير الغزير المتتابع.
نعم! وكان أهلها قد ألحوا عليه في الدعاء وسألوه من ذلك من الله، فكان كذلك فازدادوا له حباً، وإليه قرباً، وقد تلقاه قبائل الحجاز من زبيد، وحرب بالضيافات السنية، وغيرهم من القبائل.
ولما قدم المدينة المشرفة كان كما كان في مكة، وعلى تلك الصفة الأولى، وقد تلقاه أمرائها وفقهائها، وأنسوا إليه كثيراً، وقد عرفوا من حق الإمام (عليه السلام)، وزكى أحواله وصالح أفعاله كثيراً، لا سيما وقد مر مثل ذلك لمولانا صفي الإسلام وسيفه أحمد بن الحسن (أيده الله)، وكان ذلك ممهداً لما ذكرناه، وأقام في المدينة سبعة أيام، ثم عاد إلى مكة المشرفة، فأقام فيها أربعة عشر يوماً كحاله الأول، وقد كلَّت الجمال، وقلَّت جمال الكرى لذهاب الموسم، فترك عليها الحاج المجاهد سرور بن عبد الله، فأقام في مكة لانتظارهم، وقد خالطه أهل تلك الجهة، وعرفوه وأضافوه كما تقدم مثله في قبائل المدينة، ولا يزال كذلك يمضي المراحل، حتى عاد إلى جهة شهارة المحروسة بالله، وأقام فيها أياماً، زار فيها الأرحام مع آبائه الأئمة الأعلام، ثم تقدم إلى الإمام (عليه السلام)، بعد أن فسح لعسكره والخواص كل رجع إلى أهله، وكان قدومه إلى الإمام (عليه السلام) آخر تلك السنة.
ومما قال في ذلك الفقيه العلامة الفاضل الحسين بن ناصر بن عبد الحفيظ المهلا الشرفي مخاطباً لمولانا (عليه السلام):
مطالع سعد لم تزل تتجدد .... وفخر لمولانا الإمام وسؤدد
وقد تابع الله النعيم بفضله .... فنحن لما أسدى من الفضل نحمد
ومن أعظم الأشياء فضلاً ونعمة .... مقالة هذا الناس عاد محمد
هو المرتقى فوق الكواكب للعلى .... إلى رتبة فيها عليُّ وأحمد
لقد سرَّنا والعالمين وصوله .... فكم شاكر لله في العرش يحمد
هو المرتقي فوق الكواكب للعلى .... فليس بدايته سماك وفرقد
لقد سار في جيش من النصر أرعن .... به كبتت كبتاً عداه وحسد
فمن حرم فيه الخلافة سيره .... إلى حرم فيه المحامد توجد
ومن سوح إسماعيل ذي المجد عزمه .... إلى سوح إسماعيل وهو مسدد
وودعه من لا يضيع وديعة .... لديه ولم يخلف له الدهر موعد
وفي تاجه بدر وحشو طلابيه .... غضنفرة منه المعاند يرعد
له نظرٌ أغنى عن البحث دقة .... وذلك بحر للعفاة ومورد
إلى مكة يبغي مآثر جده .... فجاء إلى الميقات لله يقصد
وأحرم منه والأكارم حوله .... بسعدته للحج والله يشهد
ولبى لرب العالمين وصحبه .... وكم سيق من هدي هنالك مقلد
وعاين بيت الله فازداد فضله .... ومن حوله الأقوام لله سجد
صفا شربه من زمزم وطوافه .... قدوماً ومسعاه العظيم الممهد
وأولى مقاماً في مقام لجده الـ .... خليل وفخراً ظاهر ليس يجحد
وفي عرفات عر ف الله شأنه .... وطاب له فيها الوقوف المؤكد
به صام لله العظيم نهاره .... وفي الليل لم يبرح له يتهجد
أفاض لرب العالمين مفوض الـ .... أمور إلى من وحده الخلق تعبد
ومزدلفات بات لله جامعاً .... عشائيه فيها وهو للناس يرشد
وفي المشعر المشهور سار شعاره .... شعار النبي المصطفى وهو أحمد
ونال المنى والخير أجمع في منى .... وقرب هدياً وهو داع موحد
ورتب بين الذبح والحلق لم يكن .... يقصر في ترتيب ما كان يورد
وقبل ابتداء الرمي لم يك تاركاً .... للبيك إلا بعد فالترك أوكد
وسار مجداً للزيارة طائفاً .... لبيت إليه ذو الإنابة يعمد
وعاد منى فيها أقام ثلاثة .... يؤدي فروضاً فخرها ليس ينفد
وفي مكة ما زال لله حامداً .... وسيفاً على الأعداء طراً تجرد
تذكر بيت الله إذ جاء جده النبي .... وقد وافاه وهو ممجد
فكم نطقت فيه الأنام بمدحه .... وكم سددت في الناس من جوده يد
وكم ظهرت للناظرين مناقب .... مواردها أضحت لذي القوم تورد
وكم نشرت شمس الخلافة ضوءها .... فأرشد منها متهم ثم منجد
[240/ب]ولما أنيل الفضل سار لعمرة .... ليعمر داراً بالقبول يشيد
وودع بيت الله قصداً لطيبة .... التي كان جبريل بها يتردد
إلى جده المختار من عمنا به .... سروراً على مر الدهور مسرمد
ومن دينه الدين القويم وهديه .... العظيم به الجنات والأمن نوعد
قضى في بقاع الطهر حق زيارة .... وعاد به طرف من الخيل أجرد
ومن حوله أسد لبيض سيوفها الـ .... ـمواضي بأوراد المعابد مورد
رماحهم كم طلقت من عدائهم .... نفوساً به البيض القواضد تغمد
وقد بشر الرحمن في الأرض فضله .... ومن أعظم الأشياء ما نحن نورد
شكى ساكنوا أرض المدينة ما بهم .... من الحمل والرمضاء نار توقد
وقد مسهم ضر عظيم فشملهم .... لما بهم في أرضهم متسدد
به عرف الأقوام رفعة شأنه .... ولم يك قحط الأرض ليرشدوا
إليه فنادى ربه بدعائه .... فأنجز من رب البرية موعد
أغيثوا بغيث مسبطر مكفهر .... ونالوا به ما يسألون ويسعدوا
وقرت له بالانسجام من الحيا .... عيون به طابت نفوس وأكبد
تقهقه منه الرعد والبرق ضاحك .... على الأرض إذ عادت به تبرد
ربت أرضهم من ذاك واهتزت الربا .... وأورقت الأشجار فهي زبرجد
وقالوا جميعاً شاكرين فضيله .... لنجل أمير المؤمنين نؤيد
محمد المشهور وابن خليفة الـ .... نبي ومن نال العلى وهو أمرد
وذلك إسماعيل ذو المجد من به .... أعز مطيع ثم أرغم ملحد
هو العابد الأواه في غسق الدجى .... فكم ليلة فيها له يتعبد
هو البحر أغنى بالجواهر سائلاً .... فمصدرهم في جوده الجم مورد
على ربه في أمره متوكل .... وبأجناد من الملايك تعضد
وتصفد من رام الإنالة سائلاً .... وأعداؤه طراً تهين وتصفد
ومهما تجاود حانم عند عبده .... تجود فعبداً لعبد من ذاك أجود
ويزهد في الدنيا كزهد ابن أدهم .... بلى هو منه لا محالة أزهد
وكيف وهذا منه أرفع رتبة .... وأعلى وأغلى في الأنام وأغيد
وإن قال قولاً ضاع سحبان عنده .... وقس مع ابن العبد فالكل أعبد
[241/أ]وقد طبق الآفاق متقن علمه .... وذاك من المنقاد أدرى وأنقد
فضائله لم تنحصر بكتابه .... وزهر سما الأرض لا يتعدد
له الفتكات السابقات بوصفها الأ .... نام فكم وصف إلى الخير يسند
فضائل منها الفرد كالألف وهو في .... الطوامير بالتصنيف والذكر يفرد
وبالرعب كالمختار شهراً عداته .... فرايصهم خوفاً من الضرب ترعد
وللجيش فيهم كرة بعد كرة .... وللخيل فيهم بالغوالي مطرد
يمورون كالبحر المحيط وفيهم .... تمر المواضي والقنا المتعمد
لعمرك ما يودي لهم من مثقل .... قتيل ولو أن المصيب المجرد
فمنهم جريح بالدماء مضرج .... ومنهم شريد في المهامه يطرد
بهم ثأر نقع الخيل كاليل فالعدى .... ترجى نهاراً إذ يلوح المهند
فأرواحهم تهب الأسنة والظبا .... دماؤهم كادت بها تتجسد
تظللهم طير السماء وتحتها .... السباع تلقى ما الأسنة تحصد
وفي يافع والنجد كم فتكة لها .... المعاند لم يبرح يقوم ويقعد
وكم فاجأ البيضاء جند كأنه الـ .... خضم له موج من الأسد مزبد
وبدر بأرض الشحر والاه طالباً .... لعفو إمام للموالين يرشد
ومن يافع جاؤه والكل سائل .... لأفضله حتى أنيلوا وأرفدوا
وأولاهم ما يرتجون وكم غدت .... لإحسانه البيضاء تشني وتحمد
وفي الهند ما ينبي الورى عن تشوق .... إلى من بأصناف العلا متفرد
تناديه أقطار الأقاليم جُدلنا .... كما جدت للبيضاء وأنك أمجد
فإن شاء نال الهند والسند لم تكن .... لتعجزه ما رامه وهو أيد
إليك أمير المؤمنين قصيدة .... قلائدها منها الداري تنفد
وقد صنفتها أرجو القبول وقلتها .... لثانية لما أتاك محمد
هو الفرع من شمس الخلافة أصله .... وذلك مولاً للإمام وسيد
وما زاد مولانا اشتهاراً بمدحه .... بل النظم يهدي للأنام ليقتدوا
وقد قدمت مني البراعة مثلها .... لوحك يا ذا العلم والجود ينشد
وأصحبتها الصنو الجليل إليكم .... وذكرك لي يابن الأعاظم مقصد
أعني على العلم الشريف بدعوة .... وجدلي بما يغني ويقني ويسعد
[241/ب]فما لي بعد الله غيرك ملجأ .... وجودك للعافين جل وعسجد
هدانا لهذا من حمدناه أولاً .... ولم يك لولاه الأنام ليهتدوا
وصلى على المختار والآل ربنا .... صلاة على مر الدهور تجدد
وفي العام المذكور إراد الإمام (عليه السلام)، كما أخبرني بذلك (عليه السلام) مكاتبة، وشفاهاً، التقدم إلى محروس شهارة، لموجبات أعظمها وأهمها وأعمها معاهدة تلك المعاهد المحروسة، والمحال المأنوسة، وليتوسط ما بين اليمن والشام، وقد تقدم وفاة زوجته الفاضلة فاطمة بنت الحسن بن أحمد (رحمها الله)، وكانت نعم السكن، من ذوات الكمال والفضل، من نساء الزمن.
وقد وصله مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين (أيده الله) وعرف إضراب الإمام عن نكاح غيرها، ولعل ذلك كما اتفق لحي مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله يحيى شرف الدين (عليه السلام)، وقد ماتت زوجته الفاضلة بنت عبد الله بن أمير المؤمنين المطهر بن محمد بن سليمان (عليه السلام)، فقال في قصيدة مرثاة فيها:
فوالله ثم الله ما حل قبلها .... ولا بعدها من خلةٍ حيث حلت
فأشار عليه (أيده الله)، باستخلاف الشريفة الفاضلة الطاهرة فاطمة بنت الحسين بن علي بن إبراهيم [………………… القاسمي، فأخبرني مولانا أمير المؤمنين (حفظه الله)، وقال مقسماً بالله إن الولد محمد بن الحسن (حفظه الله) تحمل جميع المؤن، وجهزها بكثير من خالص ماله، ولقد سلم مع ذلك الكثير المهر كاملاً، وهو يدعو له مع ذلك، وبنى بها في رابع عشر شهر رجب الأصب عام سبع وستين وألف، وأسكنها الدار الكبرى بمحروس الدامغ، الذي كانت لصنوه مولانا شرف الإسلام الحسين، وسر المسلمون بذلك، ووصل إليه (أيده الله) من قرب من الأصحاب والخواص، وكتب إليه من بعد منهم، وقال في ذلك [أشعاراً] [242/أ][………………] [………………] .
نعم ! وقد تقدم ذكر وفاة حي السيد الجليل، العالم المجاهد النبيل، عز الدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين الحسن بن علي بن داود بن الحسن بن الإمام علي بن المؤيد بن جبريل بن الأمير المؤيد بن أحمد المكنى المهدي بن الأمير شمس الدين، شيخ آل الرسول وحجة ذوي العقول، يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى (عليهم السلام) وكان علق وصيته بالإمام (عليه السلام)، فقام بها أتم القيام، وأنفذها، وكفل أولاده، وكان أكبرهم صغاراً، واقتدى في معرفة البركة بوصيته له (رحمة الله عليه).
ولما كان في شهر جمادى الأولى[242/ب] عام ثماني وستين وألف [فبراير 1657م]، وكان قراءة أهل الفضل عليه في كتاب (الثمرات) المعروف، فأخبرني من حضر ذلك وهو الولد الأفضل الحسن (أسعده الله) أنه (عليه السلام) انتهى إلى تفسير قول الله سبحانه: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا …} الآية. وما يتعلق بأحكامها، التفت إلي ولد السيد محمد بن أحمد المسمى علي، والحاضرين وخطب خطبة لم أسمع بمثلها في بابها ارتجالاً، بعد أن حمد الله سبحانه وتعالى بمحامده كلها، والصلاة على نبيه ورسوله ً، وسأل الولي المذكور أن يزوجه الشريفة المذكورة، وأجابه، (وبتر البثار المسنون) ، وبنا بها في جمادى الأولى كما تقدم.
ثم أخذ بعد ذلك في تفقد مرافق الحصين والجامع المقدس، بعد أن كان وسع فيه ما تقدم، ثم أمر بعمارة بركة عظيمة، ومرافقها، ومن المطاهير وغيرها، وقد وسعها فكانت من أعظم البرك، وأكملها، وأحوط في الطهارة، وعمر أيضاً سقاية قريبة من الجامع للشرب، وسمسرة في السوق، ووقفها للجامع، بعد أن كثر الله الغيول الجارية للجامع على يديه كما تقدم.
وكان لهذا التأخير الذي يسره الله وهيأه له، وقوى عزمه الميمون عليه من الإقامة في محروس الدامغ، وجهاته لحسم ما نجم في بلاد حضرموت، وسبب ما سيأتي من الفتوح إن شاء الله.
[ذكر تقدم القوات الإمامية إلى حضرموت وجهاتها]
ذكر المخرج المنصور إلى البلاد الحضرمية وجهاتها، وأسباب ذلك، وقد تقدم بعضه، وهذه زيادة مختصرة إن شاء الله تعالى.
وذلك أنه لما فتح الله سبحانه وتعالى صنعاء المحروسة كما تقدم في أخبار مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله (عليه السلام)، وكان سلطان حضرموت وجهاتها السلطان عبدالله بن عمر [بن بدر بن عبد الله بن جعفر] الكثيري.
ولما قررت النواصب في نفوس كثير من الأمة المحمدية، وغالب أهل المذاهب المخالفة للذرية النبوية، سوء الاعتقاد في آل محمد ً، وكان السلطان كما أخبرني الشيخ صلاح بن مقنع الأسعدي الآنسي، كان ملازماً لحي الأمير علي بن مطهر بن الشويع، ثم لأخيه الأمير عابد بن مطهر، أنه كان في صنعاء أيام حصارها عبد لهذا السلطان يسمى الأمير أحمد، كان وصل إلى صنعاء لعوائد لهذا السلطان من الباشا حيدر، وحمل أيضاً عوائد [243/أ]لصاحب صنعاء من السلطان فوافق حصار صنعاء وهو فيها، ولما طال عليه استأمن إلى مولانا الحسن، ومولانا الحسين (رحمة الله عليهما) وخرج من صنعاء، وطلب إنفاذه إلى سيده فأصحباه كتباً وخلعاً من أحسن ما وجداه مناسباً للحال، وأنفذا معه الشيخ صلاح، ومن أثبت اسمه من أصحابهما، وأنهم وصلوا أول بلاد السلطان وقد شكروا هذا العبد، وحسن صحبته لهم فقال هذا العبد: لا تذكرون عند السلطان ولا غيره أنكم رسل من عند آل الإمام، وقولوا: نحن من عند الباشا.
قال الراوي: فاستربنا منه واتهمناه، فلما وصلنا إلى هذا السلطان أمر بلقاء الكسوة التي من الباشا، وكانت فاخرة، ومعها سيف من ذوات القيم العظيمة، ولبس الكسوة وعظمها، ولم يأذن بإظهار كسوة الإمام، وسألنا قبل أن يقرأ الكتب الإمامية مع تعظيمه لخط الباشا، وقال: ما يريدون الزيدية بالكتاب إلينا وتأفف بهم، وتهكم.
فقلنا: إنما أرادوا إعلامكم أن أهل البيع والشراء والتجار من أهل بلادكم يختلفون إلى اليمن على عاداتهم الأولى.
قال: فأمر بإكرامنا والخروج إلى مجلس عينه لنا، واختص بصاحبهم، وقد شكر ذلك العبد حسن صنيع أولاد الإمام (عليه السلام)، فلم نكد نلتفت إليه، وقد أخرج الكسوة التي من سادتنا (أيدهم الله) فما راعنا إلا وهي مع حاشا المسامع من النساء المطربات، وأهل اللعب، وهم وهن في لهوهم ولعبهم يحفون بمكانه رجالاً ونساءً، وبعد أيام أجاب بما لا يعرف ما أودع في ذلك الكتاب، وأعطانا وأكثر، ولم نسمع منه ومن أصحابه غير كراهة أهل بيت الإمام وأهل البيت ومذهبهم.
وفي سنة أربعين وألف [1634م] حج هذا السلطان عبد الله بن عمر، واستخلف أخاه بدر بن عمر، وقد مر في سيرة مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله شيء من ذلك، ومات السلطان عبدالله بن عمر بما لا أتحقق وفاته هل كانت في طريق الحج أم في بيته، وقد انتصب مكانه أخوه بدر بن عمر، وكان قد كاتب الإمام المؤيد بالله (عليه السلام) في أيام مغيب أخيه، وأجابه الإمام (عليه السلام) بشيء مما تقدم أيضاً، واستمرت مكاتبته إلى الإمام (عليه السلام) في بعض الأمور، وكان ميل كبراء آل كثير مع أولاد السلطان عبد الله، فاحتال أولاد السلطان عبد الله على عمهم بالغدر، وذلك أنهم وجهوا له بلسان من يقبل قوله أنهم يزوجونه امرأة ممن تتعلق بهم، وهيأوها، ثم لبسوا معها في لباس جواري في أخبار[243/ب] حكوها، حاصلها أنهم قتلوا من دافع عن عمهم، وقبضوا عليه، وعلى أولاده وعلى جميع ما يملكه، وجعلوه في حصن [ ] ، وخلفوا للسلطان بدر بن عبد الله بن عمر هذا الآتي ذكره، فساس البلاد وأطاعه أهلها، وله ملابسة للسياسة، ومراعاة لأسباب الرئاسة، فكان أكمل من عمه وأنهض، فأحبه أهل تلك الجهات، ولكونه لم يوال الإمام (عليه السلام).
ولما ظهرت دعوة مولانا وإمامنا وإمام الأمة، ومن كشف الله به عن المسلمين كل غمة، وجلى به عن الدين كل ملمة وبهمة ، أمير المؤمنين وسيد المسلمين المتوكل على الله رب العالمين إسماعيل بن أمير المؤمنين أيد الله به الدين، وأدامه شجاً في حلوق المعتدين، بلغه أن هذا السلطان بدر بن عمر أخذه بجريرة موالاة الأئمة (عليهم السلام)، وكاتب هذا السلطان بدر بن عبد الله في شأن عمه المذكور، وقد تقدم أنه أرسل إليه بدعوة إلى الله مع السيد الأعلم الأفضل محمد بن عبد الله بن محمد المؤيدي، وجعل معه أنفاراً، فأخبرني بعض من حضر مع السيد محمد بن عبد الله المذكور أنه أحسن تلقيهم، وأظهر الطاعة، وعمه حينئذ في الاعتقال، وأجاب الإمام (عليه السلام) بنحو ما تقدم من المجاراة والتلون والتخنس.
وفي عام أربع وستين وألف [1653م] عاوده الإمام (عليه السلام) بالمكاتبة بإطلاق عمه، والإجابة الصحيحة، فكان الجواب من نحو ما تقدم، وعرف الإمام (عليه السلام) أنه لحق جانبه المصون وضم، ووجوب طاعته المفروضة من الله سبحانه وتعالى نقض وهضم، وأن هذا السلطان بدر بن عمر أخذ بجريرة موالاته ظلماً فاستعان الله سبحانه وتعالى كما تقدم من أخبار الرصاص ويافع وغيرهم، وأن السلطان بدر بن عمر قد أطلق من الحبس كما تقدم.
وصار إليه ولاية بلاد ظفار وما والها، وكان مع ذلك وصل إلى الإمام (عليه السلام) أخ للسلطان جعفر، وكان إليه شيء من البلاد، فأظهر السلطان بدر لأخيه أن الإمام قد أخذ علينا بلاد ظفار، وجعلها لعمنا، فما بقي من البلاد ما يسع عوائدكم أو كما قال، وكثر بينهم الاختلاف، فوصل إلى الإمام (عليه السلام) شاكياً من أخيه، وطالباً من الإمام (عليه السلام) أن يفرض له بلاداً، فلم ير الإمام ذلك لما يحذره من الفتنة بينهم، وكثرة الاختلاف، وقد أحسن إليه الإمام (عليه السلام) كثيراً، واستطاب نفس أخيه، فطال على جعفر المذكور المقام في حضرة الإمام عليه السلام، واشتاق إلى بلاده وملاهيها، فتقرب إلى الإمام (عليه السلام) بحسن الطاعة، وأنه لا يريد بلاداً، وإنما يريد الكون مع أخيه السلطان بدر بن عبد الله فكتب له الإمام (عليه السلام) إلى السلطان، وأرسله كما يحب.
فلما وصل إلى عند السلطان[244/أ] بدر اتحد أمرهما، وصلح حالهما فاستراب منهما عمهما السلطان بدر بن عمر، وأرسل ولديه محمداً وعلياً إلى الإمام (عليه السلام)، من طريق البحر وبلاد المهري، ليوقع في نفس السلطان بدر بن عبد الله هيبة الإمام رجاء أنه لا يتجاسر على ما وقع، وطلب أيضاً الرباعة من آل كثير احتياطاً، وهي ضمانة من له يد وشوكة، فلم ينجح ذلك بل توجه السلطان جعفر إلى ظفار سراً والمكاتبة بينه وبين عمه صاحب ظفار بالاتحاد في الظاهر، وأظهر أن جعفر هذا ذاهب إلى الهند وجهات النعمان ، فاحتالا على عمهما كما أخبرني مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن (أيده الله) مكاتبة أن جعفر هذا جمع أوباشاً من الناس، وقد استراب منه عمه وأظهر أنه قاصده من طريق هي المعهودة، فخرج السلطان فيمن أجابه للقائه إلى ذلك المحل، فلم يجده، وقد سلك طريقاً أخرى غير معهودة، وهو ذو خبرة بالبلاد وأهلها، فقتل ابن عمه، وملك ظفار، واستولى على الحصن، ولجأ عمه السلطان بدر بعدها إلى بعض البدو، وكان هنالك، ثم انسل على أيديهم واتصل بالبحر، وركب إلى بلاد المهري، ثم إلى عدن، وكان قد أرسل إلى الإمام (عليه السلام) ولديه محمداً وعلياً، كما سبق ليستوثق من الإمام (عليه السلام) النصرة، وأنه يخاف غدرهم، انتهى.
ولما وصل عدن تلقاه واليها من قبل مولانا الصفي (أيده الله) الفقيه نظام الدين، أمير الدين بن أحمد بن عبد الرزاق المرواني العلفي بالإحسان والإعظام، وكتب إلى الإمام (عليه السلام)، وإلى مولانا الصفي (أيده الله)، وعاد جواب مولانا (عليه السلام)، بإشخاصه من طريق الجند، وجهازه بجميع ما يحتاجه.
ولما بلغ الإمام (عليه السلام) وصوله محروسة ذمار، أمر ولديه بلقائه، ورسلاً غيرهم بالكساء الفاخرة على أنواعها، والخيل المحلية، والنقود الكثيرة، وأظهر الإمام (عليه السلام) أن ما وقع فيه من الظلم والتعدي أنه إلى جانبه المحمي.
ولما قدم محروس الحصين أمر الإمام (عليه السلام) أولاده الكرماء، ومن بحضرته من العلماء أن يتلقوه بالجنود، وعظمه، وخلع عليه، وعلى أولاده وأصحابه، وأنزلهم منازل الكرامة، وتابع لهم الإنعام، وبعد ذلك كتب إلى السلطان بدر بن عبد الله بما معناه: إن ما كان إلى جانب السلطان بدر بن عمر فهو إلينا، وإن الواقع فيه من الجنايات علينا، وهذه نسخته [244/ب]……………
[245/أ] وكثر القول في ذلك، وأن السلطان بدر بن عبد الله هو الفاعل لذلك، وأن جعفر لا يقدر أن يصل إلى ما هنالك، ورسل الإمام (عليه السلام) تترى في شأن ذلك، ورسل السلطان كذلك، ويبعث الرسل بالبراءة من جعفر، وكان يظهر الأنس إلى مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن (حفظه الله) وكاتبه من ألفاظها ما نسخته ………… ، [245/ب]ولا زال يتغنى بلعَّل، وهو يزداد روغاناً وتلوناً، ويظن أن ذلك يغنيه على الصدق ولزوم الحق.
ولما كان في شهر رمضان المعظم، وصل الشيخ محمد بن شيبان من صوفية بلاد حضرموت، وكان كثيراً ما يوسطونه لمهماتهم، لميلهم إليه، ومعتقدهم فيه، بكتاب إلى مولانا الصفي (أيده الله) من لفظه: ……… .
[246/أ]قال من حضر مخيم مولانا الصفي (أيده الله) في مدينة الغراس، وأعمال ذي مرمر: إنه سمعه (أيده الله) يقول للشيخ شيبان، وقد أعطاه الجواب.
قل للسلطان هذا كتابي، وبعده ركابي وسيفي هذا وأراه السيف أو كما قال، ويقول أيضاً: قد غششنا الإمام (عليه السلام) بانتظارنا لهذا المكاتبة الكاذبة التي هي خديعة لا محالة، ووصلت كتب الإمام (عليه السلام) بالعزيمة التي لا رخصة معها بالنفير ومولانا أحمد بن الحسن جمع العسكر المنصور بالله من جميع الجهات التي إليه.
وقامت الخطباء والدعاة إلى الجهاد في صنعاء وجهاتها، فأجابه أهل الهمم العلية، والنيات الصادقة القوية، وأهل صنائع المعروف، وخرج من الغراس المحروس يوم الخميس ثامن عشر شوال سنة تسع وستين وألف [يوليو 1658م] إلى بلد الأبناء من وسط السر ، وقد انظم إليه صنوه السيد الأعظم الحسين بن الحسن بن أمير المؤمنين (أيده الله) بعسكره، وارتحل من الأبناء إلى الشرفة من أعلى السر بموضع يسمى مساح عند شيخ يسمى الشيخ الجمرة -بالجيم المعجمة- وهو من كرماء أهل تلك الجهة، فأخبر من حضر مقام مولانا الصفي (أيده الله) أن هذا الشيخ أخرج من بيته من غنمه سبعين رأساً من كبار الغنم، ومخزانين كاملين مملوءين براً وزبيباً وشعيراً، ومخزانين كبيرين أيضاً علفاً وجربة كبيرة قضباً .
ثم ارتحل إلى المربك من أعمال جبل اللوز ، وقد اجتمع العسكر نحو ألفين، ومن الخيل نحو مائة، ثم ارتحل منها إلى العبرين من أسفل وادي قروا ، ثم إلى أسفل مسور ثم إلى قحوان من بلاد الأعروش ، وترك ولده مولانا محمد بن أحمد على المحطة المنصورة.
ثم ركب مغذاً، ومعه صنوه الحسين (أيده الله) إلى حضرة الإمام (عليه السلام) إلى محروس الدامغ، وفاوضه فيما ينبغي، ويجب تقديمه، وقد استدعى الإمام (عليه السلام) الأدلاء أهل معرفة الطريق، كما أخبرني القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال مكاتبة، وأقام عند الإمام (عليه السلام) ثلاثاً، وتوجه إلى محروس ذمار للاتفاق بصنوه مولانا عز الإسلام (أيده الله)، فأقام عنده ليلتين، وفاوضه كما فاوضه الإمام (عليه السلام)، ونهض من ذمار إلى محله الأول، وعند انفصاله من ذمار المحروسة انصب المطر الغزير ذو السيل الكثير، فتوجل عليه شيء من خيله، وحصل عليه أذىً كثير، وهو صابر مجتهد.
وقد عين له الإمام (عليه السلام) من الجنود قدراً، ومن الأموال جزءاً يستمر سياقه إليه، ومن عند مولانا محمد بن الحسن (أيده الله) كذلك، وكان قد حصل شيء بين العسكر وأهل البلاد، فغطَّى ما كان بينهم وأصلح أمورهم، وأدب من سعى في ذلك.
ثم ارتحل إلى قرية وديد، والضيافات من البلاد المقاربة له تأتي إليه[246/ب] غير بني جبر وبني شداد ، وبني سحام ، فعولوا عليه بإعفائهم من السياق، وأن يرسل إليهم ما شاء من الأجناد يضيفونهم ما شاء، فأعفاهم، وأقام في وديد نحواً من ثمانية أيام.
ثم ارتحل إلى أواسط وادي حباب ، بموضع يسمى بير الحصن، ثم منه إلى بلاد الهيال بموضع يسمى الحرجة في أسفل جبل غيلان.
ثم منها إلى موضع يسمى مطرح محمد بن راشد من أسفل حباب، ثم منه إلى موضع يسمى الأجرف، وكان الماء في هذا الموضع غير ظاهر، وإنما يحفر أهل تلك الجهة حفائر يستقون منها فاقتدى بهم واحتفر سبع حفائر، فكانت الكفاية.
وكان فيما بين هذا المحط والذي قبله قد تجرد (أيده الله) في جبل لنظر الاعتبار، بمدينة صرواح المشهورة لما فيها من المآثر المسطورة، وهي بلاد حارة شديدة الحر جداً، فمات عليه من الخيل نحواً من خمسة وعشرين رأساً.
ثم ارتحل إلى وادي رغوان، واستقر في موضع يسمى مدينة حاتم نحواً من شهر ونصف وعيد فيها عيد النحر، وقد اجتمع إليه كبار خولان العالية، وأشراف الجوف ومشائخها، ووصل إليه الشيخ مسفر المعظي وجماعة من قبائل المعقة .
وأخبرني بعض الخواص أن مولانا الصفي (أيده الله) طمع في انقياد السلطان بدر حيث قد عرف العزيمة على الخروج عليه، للجدب الآتي ذكره والمشقة.
ولما استمر السلطان على المخادعة والروغان استعان الله كما سيأتي، وقد وصله أهل بلاد المصعبين، فأحسن إليهم، وكساهم وأركب كثيراً من الأشراف أهل الجوف أولاد الإمام المنصور بالله (عليه السلام)، وكان ولاية الجوفين إلى نظره الكريم، وأخذ ما حصل من البلاد من الطعام، والعلف كثيراً، وأنفق على الجنود المنصورة، والخيل والجمال.
قال بعض من صحبه: لولا أقام في هذا الموضع وأطعم خيله وجماله لما قدر على النهوض لما سيأتي من صفة الشدة والغلاء في القوتين، والجدب في البلاد جميعها.
ثم ارتحل منها إلى وادي إيراد بموضع يسمى الهجلة، فأقام فيها ثمانياً في كلها يطلب الماء، حتى لقد احتفر إلى مأتي ذراع، ثم ارتحل إلى درب سبأ، فأقام فيه ثلاثة عشر يوماً، ووصل إليه من لم يصله إلى رغوان من مشايخ المعظة، وقبائل عبيدة ووصل الأمير طالب بن الحسين بن محمد بن ناصر بن حسين بن علي بن قاسم بن الهادي بن محمد بن أحمد بن الإمام المنصور بالله (عليه السلام) في جماعة من أصحابه، وكان قد تأخر عن الوصول، وكان بنو عمه أسرع منه فتلقاه مولانا الصفي (عليه السلام) وعظمه، وخلع عليه.
ثم سار من هذا الموضع إلى موضع يسمى البلق من جبل الفلج، بفتح اللام، وخرج مولانا الحسين (أيده الله) في نصف العسكر للتخفيف إلى موضع يسمى[247/أ] الجرشة من بلاد مراد، ثم إلى موضع يسمى نجد الملح، واجتمع العسكران هنالك، ومنها ارتحل إلى جربة المصعبين ، وأقام فيها ثلاثة أيام.
ثم منها إلى بيحان، وأقام فيه ثمانية عشر يوماً، ومرض بعض العسكر، ثم مولانا الحسين، وحمل إلى محروس مدينة رداع إلى مقام صنوه العزي، وقد صار فيها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما أصحابه أعني الحسين فبقوا عند الصفي (أيده الله) حتى فتح الله عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ثم إنه ارتحل من بيحان إلى موضع يسمى الدمنة، ولم يقدر على الماء فلولا أن الوقت بارد لهلك الناس من السموم.
ثم ارتحل منه إلى موضع يسمى بير ملحة من أعمال مرخة من بلاد الرصاص، ثم منها إلى موضع يسمى ناب، وأقام فيه خمسة عشر يوماً.
ووصل من السلطان صالح الرصاص الضيافة الكثيرة منها تسعمائة رأس من الغنم ومن الطعام والبر، ووصل السلطان منصر العولقي فأمر مولانا أحمد بن الحسن بلقائه وتعظيمه، وعرف (أيده الله) أن الرصاص لم تطب نفسه بوصوله إلى بلاده، فأذن للعولقي بالعودة إلى حدود بلاده، وهي كالمتصلة ببلاد الرصاص.
ثم ارتحل منها إلى واسط من بلاد العولقي، هذا والإمام (عليه السلام) يتابع العسكر والمال وينتظر ما يصح من مكاتبة السلطان بدر بن عبد الله، وما يأتي على يدي مولانا عز الإسلام (أيده الله)، وقد وصل شيبان المقدم ذكره، وصح للإمام (عليه السلام) التقلب في الخطأ والتصلب على الاعتداء، وكانت قد وصلته كتب السلطان أيضاً.
كما أخبرني مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن (أيده الله) مكاتبة، أنه أرسل صنوه الحسن بن عبد الله بن عمر، وولده لقتال صاحب ظفار، وأن عدة الخيل موجهة أربعمائة وخمسة وعشرون فارساً، والتزم بالقبض عليه وطرده.
ثم وصلته كتبه بعدها تنقض ما عقد وأبرم، وأن آل كثير لم يرضوا المسير إلى ظفار، والمحاط الإمامية تخلفهم إلى بلادهم، وأن مولانا الصفي (أيده الله) يعود إلى موضعه، وكلما أنفقه في هذا المخرج كان غرامته عليه، وساق ما حاصله التلون والاختلاف المعهود منه.
فجهز مولانا الإمام (عليه السلام) ولديه السيدين الأكملين محمد بن أمير المؤمنين المتوكل على الله، وولد أخيه مولانا محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله في نحو من ثلاثة آلاف أكثرها أهل بنادق، ونحو مائة وخمسين فارساً، وكان الإمام (عليه السلام) قد أمر بالفسطاط الأعظم أن ينصب في المنشية لإشعار أهل المشرق وغيرهم بالمخرج المنصور بالله، وذلك قبل أن يأمر مولانا الصفي (أيده الله) بالتجهيز فبقي هذا الفسطاط في المنشية نحواً من ستة أشهر، وكان مع أولاد السادة الكرام، وضم إليهم عيون أصحابهم[247/ب] الأعلام، ووجوه عسكره الأقرام، وخرجوا من معمور الحصين يوم السبت في شهر ربيع الآخر، وساروا إلى ذمار، وأقاموا فيها يومين، ثم ارتحلوا إلى معمور رداع، وتلقاهم مولانا عز الإسلام بالإنعام والإكرام، وأقاموا فيها أربعاً ومضوا إلى البيضاء من جهة بني أرض.
وكان هنالك الفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل السيراني في عسكر نحو من خمسمائة نفر كما تقدم، ووصلهم أهل تلك المخاليف، لم يتخلف عنهم إلا السلطان محمد الهيثمي، فإنه استمر في ضلاله القديم، واستحسن جوبه العظيم، وكذلك السلطان أحمد الفضلي، أقام على الفساد والجموح عن الانقياد، وكان الإمام (عليه السلام) قد استدعاهما الوصول إليه، وكرر عليهما طاعة الله سبحانه، وطاعة رسوله ً بطاعته، عرضا بطراً وازدادا شراً، حتى كان من أمرهما ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وبعد أن جهز الإمام (عليه السلام) ولديه ومن في صحبتهما أمر (عليه السلام) بمسير السلطان بدر بن عمر الكثيري وأولاده إلى مولانا الصفي (أيده الله) مع العالمين الكاملين السيد الأعلم عز الدين بن دريب بن مطهر السليماني التهامي، والقاضي العلامة شرف الدين الحسن بن أحمد الحيمي، ثم القاضي الأعلم الأكمل الهادي بن عبد الله بن علي الحارثي.
وأمر مولانا العزي (أيده الله) بإنفاذ السلطان المذكور ومن معه، وأن يلحقوا بمولانا الصفي (أيده الله) بعد أن أحسن إليهم كثيراً وأعطاهم نفائس الخلع وكثيراً من النقود مع المضارب والآلات، والخيل والسلاح، وكان قد أمر مولانا العزي (أيده الله) بالقدوم إلى محروس رداع العرس ليتوسط ما بين اليمن والمشرق، وكان هنالك بجميع عسكره وخيله، وقد أرسل من خيله وعسكره الذين في رداع نحواً من خمسين فارساً، ونحو أربعمائة راجل، ومن أصحاب مولانا علي بن أمير المؤمنين المؤيد بالله (أيده الله) أربعة وعشرين فارساً، ثم من غيرهم ولا زالت المحاط تلاحق.
ووصل من كوكبان المحروس بالله من الأمير الكبير حسام الدين الناصر بن عبد الرب (أيده الله) عسكر وخيل، وعليهم ولد أخيه السيد الجليل شمس الدين أحمد بن أحمد بن الحسن بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين (عليه السلام)، ومنهم أصحاب حي مولانا عز الإسلام محمد بن الحسين (رحمه الله)، وكانوا زهاء من ألف، ثم تلاهم عسكر من الحيمة أكثر من ألف غالب سلاحهم البنادق، ووكل نظامهم إلى ولده الفاضل عز الدين محمد بن أمير المؤمنين.
وقد ضم إليه أيضاً السيد الفاضل المجاهد العالم[248/أ] العامل أحمد بن الهادي بن هارون بن الحسن الهادوي، والسيد الرئيس الكبير شرف الدين بن مطهر بن عبد الرحمن بن المطهر بن أمير المؤمنين شرف الدين (عليه السلام)، والفقيه المجاهد جمال الدين علي بن صلاح الجملولي، وغيرهم من السادة ورؤساء العسكر حتى أن المحاط كانت كثيرة العدد، متواصلة المدد، فبعضهم اجتمع بالصفي (أيده الله)إلى واسط، وبعضهم إلى رغوان وبلاد الرصاص، والأكثر إلى ميفعة، كما سيأتي إن شاء الله.
نعم! وكان قد استدعى شيبان المقدم ذكره بالأمير جمال الدين علي بن الحسين بن مطهر بن الشويع، وهو حينئذ عين آل غرأ من بني حمزة بعد حي صنوه الأمير الفاضل صالح بن حسين (رحمه الله)، وأجابه مولانا الصفي (أيده الله)إلى ذلك، وسار في نحو عشرين فارساً، وأنفاراً من كبار الجند، وبقي مولانا الصفي منتظراً للجواب، فكان في واسط نحواً من عشرين يوماً، ثم ارتحل إلى إنصاب من جهة بلاد العولقي، فكان فيه شهراً، وهو يعد للعسكر أرزاقهم، ويبالغ في تحصيل ارفاقهم.
ولما استتم له ما أراد وقد عرف أن ما بعده من الطريق قد حفظه الله سبحانه بكثرة المحاط المتظاهرة تقدم إلى موضع يسمى بير حليمة من بلاد العولقي أيضاً، وقد أحسن إلى العولقي المسمى السلطان منصر كثيراً، ولقد كتب إليه من جانب البلد إلى المخيم المنصور، وهو في جانبها أيضاً إن ولده فلاناً من صغار أولاده أحب أن يركب مع ولدكم الفاضل النجيب علي بن أحمد بن الحسن (عافاه الله) وهو الصغير من أولادكم (أيدهم الله) يعنى الذين في صحبته وسنه حينئذ نحواً من اثني عشرة سنة، فأجابه مولانا الصفي بأنه صدر لولدكم حصان بعدته محلية حلية كاملة، وكسوة الحصان أيضاً من ذوات القيم البالغة، وصدر سيف محلي ورمح محلي أيضاً، ومع ذلك لم يؤثر كثرة الإحسان في ذلك الإنسان، لسوء معتقده في أهل البيت (عليهم السلام)، وجهله لحقهم المفروض من ذي الجلال والإكرام.
ولقد أخبرني بعض العسكر المنصور من أصحابه (أيده الله) أن المؤذن في مدينته المهدومة إن شاء الله أمره بعض العسكر أن يؤذن بالأذان النبوي وأن يقول حي على خير العمل فبلغه ذلك فتهدد ذلك المؤذن ونفع عليه وبلغ مولانا الصفي ذلك (أيده الله) فصفح، وأمر المؤذن أن يؤذن بأيهما شاء، وأن الدين كله محمدي، والدعوة جامعة للشافعي والزيدي.
ثم ارتحل إلى موضع يسمى بير حليمة من بلاد العولقي أيضاً، ثم منها إلى موضع يسمى[248/ب] البير الغوري، ثم منها إلى بلاد الواحدي، ثم إلى موضع يسمى حبان ، وهو قرية كبيرة تقارب المدينة، سلطانها الشيخ صالح الواحدي، فأقام فيها ثلاثة أيام.
ثم منها إلى واد يسمى ماطر من بلاد الواحدي أيضاً، ثم إلى أسفل الوادي المذكور إلى موضع يسمى قرية الفقيه علي، ثم منها إلى موضع يسمى عزان من بلاد الواحدي أيضاً، ثم منه إلى وادي ميفعة، وهو من بلاده أيضاً، وأقام فيه نحواً من شهر، واستراحت الخيل وسائر الدواب بخصب ذلك الموضع، وجلب إليهم سائر المبيعات من بلاد الواحدي وغيرها، وهذا المحل متصل بجبل النعمان الآتي بعض صفاته وأهله إن شاء الله تعالى، وضرب في هذا المكان الضربة نقش فيها اسم الموضع المذكور.
[دخول القوات الإمامية إلى أحور]
قصة أحور ودخولها. وهو بندر على ساحل البحر، ومحاد لبلاد العوالق وما إليها من قوم يسمون آل رياب، وآل باكاذي، وهو سوق مجمع لتلك القبائل من أجناس مختلفة، وذلك بمكاتبة من المشايخ منهم العولقي، وترجحات من غيره، أن فيها طعاماً وبيعاً وشراء، وبيت مال للسلطان، وثمرة حاصلة، فأرسل إليها مولانا الصفي (أيده الله) وهو حينئذ في حبان القاضي الفاضل يحيى بن أحمد بن قاسم السباعي الخولاني في أنفار وأربع من الخيل فتلقوه بالإكرام، وكان في البندر المذكور عامل السلطان صاحب حضرموت وهو من أصحابه وشجرته آل كثير، فحملوا من الطعام قافلتين، ووافق وصول ذلك الطعام إلى ميفعة من بلاد الواحدي.
ثم أرسلوا قافلة أخرى كذلك، فأنس المجاهدون بذلك وصلح حالهم، ثم إن مولانا الصفي (أيده الله) أرسل أهل الجمال التي في المحطة المحروسة بالله عليهم الفقيه بدر الدين محمد بن قاسم بن محمد بن أبي الرجال، وكان من كبار عسكر مولانا أحمد (أيده الله)، وقدر الخيل ثلاثة عشر فارساً، وقد تقدمهم نحو من عشرة أنفار سلاحهم البنادق فحسب.
ولما وصل الفقيه محمد بن قاسم المذكور أحور استقصى في طلب الجمال والمسارعة في حمل الطعام على من قدر عليه، ثم قيل له إن مع البدوان جمالاً كثيرة، وهم يسمون آل ذنيب، وآل كاذي، وآل علي، لا يعرفون من الإسلام إلا السماع، والانتماء إليه، فأغرق من أهل الخيل نحو من خمسة فرسان في مساكن القوم، فحصل بين أولئك الفرسان وأهل الجمال اختلاف، وظن أهل الجمال أن هذا ليس بأجره، وإنما يريدون أخذها، وكان الفقيه محمد بن قاسم قد أمر منادياً مع وصوله أحور بالأمان، وأن البيع والشراء بالتراضي والحمول بالأجرة، وظن أنهم قد عرفوا المقصود من طلب الجمال، [249/أ] فعدوا على الخمسة الفرسان فقتلوهم، وهم يأكلون طعامهم، وعلى فراشهم، فبلغ الخبر إلى الفقيه محمد بن قاسم المذكور، فأسرع إليهم ليعرف حقيقة المواقع، ولحقه العسكر، وكان أولهم، وذلك قبل أن يصح له قتل أصحابه الفرسان، وإنما ظن أنهم محصورون.
فلما دنى من القوم تقحم به حصانه، فوقع على الأرض، فقتلوه أيضاً، ثم قتلوا فارساً آخر يسمى مهدي السعواني، وعاد حصان الفقيه محمد لنفسه إلى أحور، وعقروا ما بقي من الخيل، وكان للسلطان منصر العولقي أخ يسمى الشيخ عز الدين مظهراً للموالاة، وهو الخائن، فإنه وأخاه منصر قد شاعت موالاتهما للسلطان صاحب حضرموت، وقبض عطاياه على أن يحدثوا شراً ويثيروا فتنة لشغل مولانا الصفي (أيده الله) من ورائه.
وكانوا قد جعلوا صائحاً في سوق أحور قبل هذه الواقعة للاجتماع، وأنهم يريدون اللحوق بمولانا الصفي (أيده الله)، وعرف أهل الفطنة إنما يريدون غدراً بمن في أحور لما تقدم، ولما كان هذا الشيخ عز الدين مع أصحاب الإمام (أيده الله) قتله أصحابه على سبيل الغرر، ولجهل دهمائهم لمعرفة شخصه، وأخذه الله في العاجلة بذنبه، وجلده في النار بكسبه.
ثم اجتمعت الغارات على أصحاب الإمام الذين في أحور، وهم في المدينة، وقد تحصن فيها أولئك العسكر مع القاضي يحيى بن أحمد، وكان والي حصن أحور من قبل السلطان رجل من يافع، وهو غير والي البلد، ومعه من أصحاب السلطان ثلاثون بندقاً، وكان أصحاب الإمام (أيده الله) قد هادنوه وآمنهم وآمنوه، وعلى أنه يبقى في موضعه لا ينفعهم ولا يضرهم، حتى يتضح له الحال أو يعذر في عهدته.
نعم! فدافع أصحاب الإمام على أنفسهم بما بقي معهم من البنادق، وتحصنوا في الدور المانعة، ونفذ عليهم البارود والرصاص، قال الشيخ سعيد بن علي الشامي القحطاني، وكان حاضراً، إنا طلبنا البارود والرصاص لأهل البنادق بكل حيلة فلم نقدر على شيء، ولا سمعنا له بذكر، وكدنا نيأس من أنفسنا، وإذا في البيت الذي نحن فيه جراب مملوء ففتحناه، فوجدناه باروداً، ورصاصاً كأنها مصبوبة على بنادق أصحاب الإمام (عليه السلام). قال: فاستبشرنا حينئذ وأصابتهم البنادق وانزاحوا عنا.
وأما صاحب الحصن فوفى لهم بما وضع من المهادنة، وكان في أهل الخيل فارس الأشراف آل المنصور بالله بني حمزة وأهل الجوف، يسمى الشريف صالح بن هادي من آل الشويع، وعبد فارس من عبيد مولانا الصفي (أيده الله) يسمى الحاج توكل، فركبا في الليل على مخاطرة، وقطعا المفاوز التي [249/ب]لا حي فيها، ولا يعرفونها ليلاً حتى وصلا إلى المخيم المنصور ثالث يوم، وقد تمزق عليهما من الكسوة لكثرة الشجر، وعرفوا مولانا (أيده الله) بما وقع، ودفعوا إليه خطاً من القاضي يحيى، فأمر الشيخ المجاهد الرئيس عز الدين بن دشيلة الجبري في نحو مائتين وخمسين نفراً سلاحهم البنادق، وأصحبهم باروداً ورصاصاً كثيراً، وأمره بأن يدفع عن أولئك المحاصرين، ويؤمن من وصل إليه من القوم ويقلل الواقع، وهذا من تدبيره النافع، لئلا ينفتح عليه باب من ورائه يشغل المسلمين من ورائهم.
فلما وصل الشيخ عز الدين دشيلة المذكور أمن البلد، وجمع الناس وانظم إليه من كان في أحور وانساق إليهم بيع وشراء، وقد أقام السوق فكانوا كذلك هنالك نحو خمسة عشر يوماً، وأراد أهل تلك البلاد الغدر بالشيخ المذكور ومن معه من المجاهدين مع صلاة الجمعة.
وكان قد بلغ الشيخ عز الدين ذلك، فلزم الحذر منهم وقد صارحوهم الحرب، وواثبوهم إلى المصلى للطعن والضرب، فرماهم العسكر المنصور، وقتلوا منهم ستة أنفار، واجتزوا رؤوسهم، فعاد القوم إلى مواضعهم، ثم قصدوهم مرة أخرى عند غروب الشمس، فخرج عليهم العسكر فهزموهم بإذن الله، وأخذوا منهم اثني عشر نفراً أسرى، وقتلوا ثلاثة أنفار من غيرهم، فامتنع جانب أصحاب الإمام (أيده الله) وهابوهم، وطلبوا منهم الأمان ليدخلوا السوق فأجابهم الشيخ عز الدين إن ذلك لا يكون إلا بأمر مولانا الصفي (أيده الله)، لما علم من غدرهم وعدم وفائهم.
ثم إن الشيخ عز الدين بعدها استدعى وصول مشايخ آل رباب ليخرجوا القافلة لتلحق بمولانا (أيده الله)، وكانت نحو خمسين جملاً، وأهلها كذلك، وأصحبها من العسكر خمسين نفراً، وسبعة فرسان، وقد استخلف المذكورين من أهل القافلة على بلاغهم، وأحسن إليهم، وقطع بوفائهم، لما رأى من حاجتهم إلى الأمان ليدخلوا أحور، وأسواقها ، فمضى أهل تلك القافلة نحو مرحلتين، وفي اليوم الثالث توهم أهل تلك القافلة من الرفق المذكورين أمارات الغدر، وعنوان المكر، وكان في العسكر الذين معهم نحو من عشرين بندقاً، وسبعة فرسان، ومن الرجال مع أهل الجمال نحو من مائة نفر، فلبس أهل الخيل وحضروا للقتال.
فلما رأى ذلك القبائل وعرفوا أنهم لا يهلكون إلا وقد أهلكوا كثيراً منهم، فقبلوا منهم جملاً يرضونهم به في دعوى جعلوها عذرهم إلى الغدر، وكسوة ودراهم مع الجمل، وهم مع ذلك يضمرون أنه إذا دخل الليل انسلوا عليهم ويثورون[250/أ] عليهم في الليل ففطن العسكر لذلك، فأسرعوا المسير بقية نهارهم بما أمكنهم من القوة إلى موضع يسمى الجون -بالجيم وسكون الواو- وبلد الشيخ عبد المانع من صوفية تلك الجهات.
وكان الشيخ المذكور قد هلك ولده محمود بن عبد المانع، وللبدوان فيه اعتقاد، ولمكانه منه احترام، ولجأ العسكر والقافلة المذكورة، فحاول البدوان رخصة من الشيخ محمود فيهم أو أن يخرجهم إلى غير محله فأبى ذلك عليهم، وكرهه منهم، فكان العسكر عنده في أمان أكثر من أربعين يوماً، حتى فتح الله سبحانه وتعالى بما سيأتي من النصر المبين والفتح المستبين، والاستيلاء على جهات بلاد حضرموت جميعاً، والقبض على ملكها وسلطانها، ونفذ أولئك العسكر في نعمة من الله سبحانه وتعالى، وقد أحسن إليهم الشيخ المذكور كثيراً، فشكروه لذلك، وأثنوا على إحسانه ووفائه.
[بقاء أحمد بن الحسن في ميفعة]
رجعنا إلى سياق مولانا الصفي (أيده الله تعالى).
ولما أقام في ميفعة شهراً كما تقدم عجز أهل تلك الجهات المقاربة له عن القيام بمنافع المحطة المنصورة، وقلت عليهم المواد، وانقطع السياق، وحصل في الطريق من العوائق والحوادث ما سيأتي قريباً إن شاء الله، وقد أرسل مولانا الصفي إلى الأمير علي بن الحسين أنه يحسن المخرج من عند السلطان، وقد وصلت كتبه سراً بما عليه السلطان من الغدر والمكر، وعدم صحة ما في كتبه كما رأيت ذلك في مكاتبته (أيده الله) إلى صنوه مولانا العزي (أيده الله) بما هذا لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، الحضرة العالية الشأن، السامية البرهان، النامية المكانة والإمكان لسيدي الصنو السيد الإمام، وسيط عقد الأئمة الكرام، عز الإسلام والمسلمين، محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين حفظه الله على الإسلام، وأهدي إليه أفضل الصلاة والسلام، والإكرام والإنعام، صدرت لاستمداد الدعاء، والتعريف لكم عرفكم الله بكل يمن وخير، إنه وصل إلينا صبح الخميس سادس وعشرين ربيع الأول محمد بن شيبان بكتب من السلطان والأمير علي بن الحسين، يذكر أن الأمير عرض على السلطان ما توجه له من عنده، وأن ذلك أمر يتوجه علينا عذر السلطان منه، لما يخشى من الاحتلال في بلده إن غاب عنها. وأن ولده وصنوه حسن يكفيان في ذلك، وعداله حصون عمد وأحور مع ذلك، وتجهيزه عن أخيه فرأينا بعد استخارة الله تعالى الجواب عليهما أنه لا غطاء لانكشاف هذه الحركة إلا وصول السلطان نفسه، ولا نقبل سواه، فإن رأي صلاح نفسه فعله، ونبهنا على الأمير أنه إن لم يدخل السلطان[250/ب] في ذلك استخلص نفسه بحال جميل، وأنفذنا إليه ولده السيد شرف الدين حسين بن محمد بن الشويع بجواب المولى أمير المؤمنين (حفظه الله) إليه، ومعه عشرة أنفار صحبة ابن شيبان، هذا ما تجدد من الخبر، والله نسأل أن يحسن لنا التدبير، ويتولانا بحسن التيسير، ويمتع بحياتكم إنه عزيز قدير، والسلام، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله الطاهرين، حرر غرة ربيع الآخر سنة سبعين وألف [16ديسمبر 1659م]، وكان وصول هذا الكتاب من ميفعة.
نعم! ولما أراد مولانا الصفي عافاه الله تعالى الارتحال من ميفعة جعل على مقدمته الشيخ الأجل علي بن خليل الهمداني في نحو من ثلاثمائة رجل، وسار إلى موضع يسمى الصرة من بلاد النعمان، ثم تقدم أيضاً إلى موضع يسمى الشطارة، وقد لحقه السيد الأعظم أحمد بن الحسن بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن أمير المؤمنين في محطة كبيرة من أهل كوكبان، ثم الشيخ الكامل الفاضل العالم محمد بن الحاج أحمد بن عواض الأسدي.
فلما استقر الشيخ محمد في الموضع المسمى الصرة، ارتحل مولانا الصفي (أيده الله) وكان في موضع الشيخ المذكور، ومع ذلك المشقة حاصلة مع العسكر بخلاف الدواب، فإن هذه البلدة خصيبة، فأقام فيها نحواً من ثمانية أيام حتى اجتمعت له الأثقال فإنها كثرت، وقد هلك بعض الجمال والقبائل نافرة عن الوصول، ولولا ما جعل الله سبحانه وتعالى لمولانا الصفي (أيده الله) وجنود الحق من الهيبة، وأن القبائل يخافون البنادق لحالوا بينهم وبين صعود الجبل، وهذا الجبل قل مثله في الجبال، وسنرى بعض صفته في كتاب القاضي الأعلم بدر الدين محمد بن علي بن حسين المسوري.
ثم ارتحل من هذا الموضع إلى أعلى الجبل المذكور، وقد كان في المحطة الأولى من أهل كوكبان، فأقاموا فيه يوماً، وكان هنالك ماء عذب في موضع صعب، ثم ارتحل من هنالك إلى السطارة حيث قد صارت مقدمته مع الشيخ علي بن خليل، وإلى هنالك وصل السلطان الأفخم والشيخ المكرم، محمد العمودي بن عبد الرحمن بضيفة كبيرة بقراً وغنماً، وطعاماً، وثمان مائة جمل تحمل الأثقال، وأقام مولانا الصفي (أيده الله) بالسطارة أربعة عشر يوماً.
وقد كان هذا الشيخ أمر قبائله بالجلب إلى المحطة المحروسة بالله بكل ما قدروا عليه من أنواع المبيعات من الطعام والكناب والدوم والبقر والإبل والغنم والسمن واللبن فاستراح العسكر المنصور واطمأنوا، وكان قد لحقهم الجهد والتعب، ومما فعل[251/أ] هذا الشيخ المذكور من المعروف أن العسكر المنصور مع وصولهم هذا وجدوا في وادٍ زرعاً حاصلاً من الكناب والسيال ، فأكلوا من ذلك ما وجدوه، وأطعموا ركابهم، فوصل مولانا (أيده الله) فأنكر عليهم، وأمر من يقوم الحب والعلف، فكان قيمة ذلك ثمانمائة حرف، فدفعها إلى أهلها، واستطابت نفوسهم، وأدب من ابتدأ ذلك وأنكر عليه.
ثم ارتحل إلى وادٍ يسمى يبعث من أسفل الربد، فأقام فيه ثلاثة أيام، ولا مدد للعسكر المنصور إلا من بلاد العمودي، وهذه البلدة كثيرة بشجر السدر، ومعظم ثمرها الدوم، فأكل العسكر واستراحوا، ولقد أخبر من شهدهم أنهم كانوا يبتلعون عظم الدوم، مع قشره من غير كسره لشدة الجوع.
[ما حدث في وادي يبعث]
ومما اتفق مع هذه الشدة في وادي يبعث المذكور ما أخبرني به النقيب على بن ناصر جلا الأهنومي، أن ظبياً قطع المحطة، فقام إليه العسكر، وكاد يقتل بعضهم بعضاً، فاستدركهم مولانا الصفي (أيده الله) بأن ركب من فوره ولبس درعه، وحال بينهم وبين الظبي، وقبضه إليه وأعطاهم عوضه جملين، أقسمهما العسكر على عدد الرؤوس بداعي دفترهم، وعلى صفة تقسيم أرزاقهم.
ومن رواية النقيب المذكور أيضاً أنه مسه الجوع في قاع السوط، فقيل له: إن مع صلاح كاشف مولى مولانا الحسن (رحمه الله) قطعة شوى من جمل في خرج حصانه، وهي غداؤه فذهب إليه، وقال له: أطعمني، فقال: هذه القطعة قسمها بيني وبينك، فلما رآها النقيب المذكور اختطفها وهرب بها وهو راكب حصانه، فقفاه صاحبها راكباً كذلك، فاستجار بمولانا الصفي (أيده الله) فأصلح بينهم، وضمن لصاحب القطعة بجمل عوضاً عنها، ثم تقدم مولانا الصفي إلى رأس النقيل، وكان قد عمر معظمه في مدة إقامته، وهي ثلاثة أيام، وبعدها أرسل الأثقال مع مقدمته إلى موضع يأمن عليها فيه، وقد بلغه أن للسلطان محطة لازمة لهذا المحل، ولم يصح له حقيقة الحال، وعدد القوم، وعرف أنه لا سعة للقتال، فترك في محله الأول عامة الناس مع رؤسائهم، وسار معه من خف كاشفاً عن الحقيقة، فوجده خالياً من القوم وفيه الماء الكثير، وقد ترك على الأثقال الشيخ محمد بن الحاج (حماه الله).
ولما حصلت سار إلى موضع ريدة ، وهي بلاد واسعة، يقال إن فيها ثلاثمائة وستين درباً من حصون أهل تلك الأطراف، على النصف منها سلطان[251/ب] يسمى [ ] أبا مسدوس ، وربع منها للسلطان بدر بن عبد الله الكثيري، وربع للشيخ العمودي المقدم الذكر، وقد جعل مولانا (أيده الله) على مقدمته السيد الرئيس صلاح بن محمد الديلمي من أهل وادي السر في نحو ثلاثمائة، فكان في موضع يسمى ملاح على ماء واسع. وقد وصل الشيخ بامسدوس وغيره في نحو مائتي نفر فكساهم مولانا الصفي (أيده الله) وأمنهم، وقبض من هذه الحصون ما هو للسلطان بدر، وحصته منها الربع كما تقدم، ووجد فيها طعاماً وبراً وتمراً كثيراً، فرأس العسكر واستراحوا بعد أن كانوا قد نفد ما معهم، وقد بلغ ثمن الرأس البقر أربعين حرفاً، لشدة الفاقة، والقدح البر سبعة حروف، والقدح الطعام سبعة حروف على سواء، والقدح الدوم حرفين ونصف، وقد لا يكاد يجدون ذلك، فأكل الناس لشدة الجوع جمال بعضهم بعضاً، وقد صار فيهم تسامح لما يرونه في بعضهم من شدة الحاجة، وإذا أعيى الجمل أكله من قرب منه وهو حي لما أخذ الناس من الحاجة، ومولانا (أيده الله) يحسن لذلك ويلين، وقد يسلم القيمة منه، ففرج الله هذه الشديدة بما ذكرنا من هذه الغنيمة الواسعة، فإن الطعام والبر فوق ألف جمل، والتمر فوق خمسمائة جمل، والحمد لله رب العالمين، وأقام أيده الله في هذا الموضع خمسة عشر يوماً، وكفاية السوق يوزعها من عنده، ويستقيم غالباً عليها بنفسه الكريمة ليستنهض الدقيق، وسائر المبيعات من بلاد العمودي أحسن الله إليه خيراً.
ولما استتم له المراد ارتحل إلى موضع يسمى الدرب من بلاد بامسدوس، ثم منه إلى موضع يسمى القفر من بلاد ريده، وفي ذلك المكان واد كثير شجر السدر، وفيه ثمرة حادثة من الدوم، فاشترى ما في الوادي من الدوم جميعاً، وأمر العسكر أن يتزوده، ثم ارتحل إلى موضع يسمى القفر أيضاً من بلاد بامسدوس، وبلغه أن السلطان الكثيري قد لزم نقيل الهجرين موضع هنالك، فترك على المحطة والأثقال السيد صلاح المقدم الذكر، ولبس درعه ولامة حربه، وأمر أهل الخيل بذلك، وعبى العسكر تعبئة الحرب، فلما طلع أعلى الجبل لم يجد لذلك حقيقة، وأن السلطان وأصحابه لم يجسروا على المحط في هذا الموضع، فأرسل مولانا للأثقال والمحطة، وكانت الجمال التي تحمل الأثقال نحواً من ثلاثة آلاف، وتقدم إلى موضع يسمى الهجلا.
ولما استقر فيه تقدم أربعة أنفار من العسكر من بني الخياط يطلبوا الماء فوجدوا أربعة أنفار من أصحاب السلطان على الماء فقتلوا[252/أ] منهم نفرين واجتزوا رؤوسهما، وفر الاثنان الباقيان، ووصلوا بالرأسين إلى مولانا الصفي (أيده الله)، فاستبشر بذلك وأعطاهم، ثم ارتحل في اليوم الثاني إلى موضع يسمى الدس.
[السيطرة على الهجران الأعلى والأسفل من بلاد حضرموت]
وقد تراءى الجيشان، واستبان له (أيده الله) محل السلطان، وفتح الله عليه بموضع يسمى الهجر الأعلى، وهو حصن حوله قرى، فأمر من يحفظه، وأقام في موضعه يوماً، ثم أمر في اليوم الثاني السيد صلاح بن محمد ونحو خمسمائة نفر، ومن الخيل أربعين فارساً أن يغيروا إلى الهجر الأسفل ، وهو حصن كبير، ومدينة متصلة به فيها عالم من الناس، وأمر (أيده الله) بحصار الحصن ومن فيه من رتبة السلطان، وأن لا يدخلوا المدينة مخافة أن يلزمهم القتال فيها (لم يكن قد تعرف عليها) ولا عرف قربها من السلطان ولا بعدها عنه.
فلما وصل العسكر المذكورون دخلوا تلك البلد، وصعدوا دوائرها بأن علا بعضهم على بعض حتى فتحوا الحصن، وجزوا من رتبته نحواً من عشرين رأساً، ووصلوا إلى مولانا (أيده الله) فعتب عليهم كثيراً لعدم انتظار أمره في الإذن بالقتال، وربما أنه يرى أن عليه تقديم الدعاء، وقد علم من حالهم التمادي في الباطل، وأن دعاة الإمام (عليه السلام) في كل شهر ويوم لم ينجع فيهم، ويحتمل أنه كره لهم ذلك الشيء من التدبير النافع، وقد جعل الله في ذلك خيراً كثيراً على أي حال وأقام في هذا الموضع خمسة أيام يوم الجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء، وارتحل يوم الأربعاء إلى موضع أيضاً يسمى هجلة نجران، وهو موضع قريب من محل السلطان، وكانت المحطة الإمامية ظاهرة للعيون في موضع مرتفع، وكانت محطة السلطان في أسفل الوادي، في موضع أعلى وادي العشر. وقد جمع السلطان وألب، وروي أن خيله فوق الألف، وأن عسكره فوق خمسة عشر ألفاً من ألفاف المشرق والمعظة، وأنهم أمدوه من بلاد نجران، وقد أرسل الإمام (عليه السلام) القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن علي بن قاسم العنسي صاحب برط. وهو من عيون العلماء الفضلاء، وأمر بلاد برط، دهمة بالاجتماع إليه، وأن يفتحوا الحرب على قبائل المعظة ومن والاهم على نصرة السلطان، وأعطاهم (عليه السلام)، فانتهوا إلى موضع يسمى مجز من بلاد الجدعان والعرضان وبلاد تسمى الغير، فغزاهم دهمة وآل برط، فقتلوا منهم ثلاثة أنفار، وعقروا ثلاثاً من الخيل، واستاقوا من أنعامهم سبعمائة من الإبل، وما حواه محلهم، وقسمها القاضي أحمد المذكور بين القائمين.
وكان مسير القاضي (أيده الله) إلى هذا الموضع من بلاد[252/ب] برط اثني عشر يوماً، وكان هؤلاء الذين هم مع السلطان كما تقدم قد زادوا إلى بغيهم بأن لقوا قافلة إلى طريق يسمى حوره، فأخذوها وقتلوا من أهلها ثمانية أنفار، منهم نفران شريفان، كما أخبرني بذلك الشيخ عبيد بن ناصر المحمدي البرطي. وكان لذلك أثر في النصرة، ولأعداء الله نقمة وحسرة.
رجعنا إلى سياق مسير مولانا الصفي أيده الله تعالى، ولما استقر مولانا أيده الله يوم الأربعاء في الموضع المذكور خرج بالعسكر المنصور إلى موضع يرى منه جيش السلطان. ثم عاد إلى المخيم المنصور، وجمعهم وحرضهم على الجهاد، وعرفهم أنهم قد صاروا في بلاد منقطعة عن بلادهم، ولا يسعهم مع نصر الله سبحانه وتعالى إلا صدق العزيمة وخلاص النيات، وقد رأى من العسكر الإمامي ما راقه من حسن ثباتهم وعزمهم على الصبر. ثم أمرنا بالمنادي أن ينادي فيهم أن من خالف تدبيره في تعبئة الحرب فهو مؤاخذ، وأن كل فارس يطعن وينزل لقطع الرأس فهو مؤاخذ، وأن كل صاحب بندق يشغل بغير الرمي فهو مؤاخذ وأن قطع الرؤوس عهدة من لا خيل معهم، ولا بنادق وإن كل من اشتغل بالطمع مؤاخذ كذلك ولكل فارس يطعن جمالة، ولكل صاحب بندق يقتل جمالة أيضاً كذلك، وأمسى تلك الليلة وأصبح يوم الخميس لقتالهم. وقد جعل العسكر صفاً واحداً، والرايات أمامهم مصفوفة أيضاً والخيل قلباً وميمنة وميسرة وكان هو والخواص في القلب وقد احتاط بأن جعل مركزاً نحواً من خمسمائة نفر عليهم القاضي الأفضل الهادي بن عبد الله الحارثي .
فلما انهزم أعداء الله كما سيأتي إن شاء الله ظن مولانا، حفظه الله، أن ذلك مكيدة منهم، وأنهم يطاردوا لذلك فرد إلى القاضي المذكور خمسين فارساً وبشر الله سبحانه أن قبض بعض المجاهدين على عبد من عبيد السلطان فأخبرهم أن هزيمتهم جد لا لقصد، وإنما هي فشل وجبن، فأمر مولانا أيده الله بالاستيثاق منه والرباط له فلما صح له صدقه أطلقه.
[رسالة الصفي أحمد إلى الإمام يبين فيها سيطرته على حضرموت]
وكان تلخيص القضية وتفصيلها كما في كتاب مولانا الصفي أيده الله إلى مولانا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وخليفة الصادق الأمين، المتوكل على الله العزيز الرحيم، أيده الله بنصره المبين، وأعز به الإسلام والمسلمين، وقد نقل ذلك إلينا في كتاب البشرى، بما هذا لفظه وحروفه بعد حذف طرة الكتاب مفتتحاً باسم الله تعالى والصلاة على نبيه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)[253/أ] وهو قوله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} وبعد حمداً لله على جزيل نعمائه وشكره على عظيم آلاءه، وجزيل عطائه، وصلواته وسلامه على محمد سيد أنبيائه، وعلى آله الهداة إلى الحق وأصفيائه، فالبشرى إلى قوله المطهر بن محمد، حفظه الله تعالى، وعليه جزيل السلام ورحمة الله وبركاته، وصول كتاب من الولد السيد الأكرم العلامة صفي الدين سليل الأئمة الهادين، أحمد بن الحسن أمير المؤمنين حفظه الله تعالى، وصدرت في مدينة شبام يوم السبت سابع شهر شعبان، وهذه ألفاظها:
بسم الله الرحمن الرحيم: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة اتخذها للقاه عدة، واستودعها ذخيرة عنده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المكشوف ببركته كل شدة، والمعد كل عقدة، (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) صلاة دايمة تستغرق أمدها كل مده، وعلى آله المخصوصين بالولاية بشهادة آية المودة، وصلوات الله وسلامه المباركات الطيبات الزاكيات الناميات، على مولانا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وعلم الأئمة الهادين ورافع رايات الجهاد في مراكز المسلمين، المتوكل على الله رب العالمين أيده الله بنصره المكين، وتأييده المبين، بحق محمد الأمين، وآله الطاهرين. وبعد.. فالمرفوع إلى تلك الحضرة المقدسة والعقوة التي على قواعد الحق إن شاء الله مؤسسة، بما من الله به وله الحمد الجزيل، والثناء الجميل من الفتح المبين، والنصر والظفر والتمكين، من الاستيلاء على قطر حضرموت وتسليم حصونه ومصانعه وعلى ما فيها من الذخائر والسلاح، وإذعان أهل الحق جميعاً بالطاعة ومسارعتهم إلى الإنخراط في سلك هذه الجماعة، بعد أن توافق جيوش الحق، وأحزاب الباطل، موقفين اثنين أحدهما في بلدة الهجرين، فإنه كان أول قدومنا إليه، وأول الحرب عليه، وهو بلد حصين أعز ما يكون في حسابهم، وهو كذلك ليس في الجهة ما يماثله، وهو قريتان إحداهما كبرى والأخرى صغرى، متقاربتا الأطراف، منحصرتا الأكتاف، وكان فيها رتبة نحو خمسة عشر قصبة بنادق وفي الكبرى نحو
خمسة وخمسين بندقاً، فاتفق الحرب من العسكر عند صلاة الجمعة سلخ شهر رجب الأصب سنة سبعين وألف [1659م][253/ب] بغير اختيار منا، وإنما عزم بعض العسكر يطلبون العلف، ونحوه من الوادي تحت البلد فرماهم من في البلد، فتداعى من كان في الوادي من العسكر، وحملوا عليهم حملة رجل واحد، واستولوا على البلد ومن فيها، وقتلوهم جميعاً، واجتزوا رؤوسهم وغنموا سلاحهم وما كان في البلد ووقع أيضاً في جانب آخر قتل رجلين آخرين كانوا يرمون على الماء لا يتصل به أحد، وكانوا يظنون أنهم في مكان يمنعهم فحمل عليهما العسكر فقتلوهما واجتزوا رأسيهما كذلك.
وأما البلد الكبرى فسلموا طوعاً بعد اليأس، وقبضنا سلاحهم الذي للسلطان وكان لهذه الوقعة انفلال شوكتهم، وانطفاء شورتهم، واضطراب أمرهم، وكانت قد اجتمعت محاطهم جميعاً التي كانت في وادي عمد والتي كانت في الشحر، والتي في هينن، في مكان تحت الهجرين يسمى سدبة، وحين عرف السلطان ضعف الناس وما خالطهم من الجزع والفزع خرج بنفسه من هينن، ممداً لهم ومقرراً لروعتهم فثبت الناس معه، ولكنهم على وجل، وقلوبهم متفاوتة، فتقدمنا عليهم من الهجرين يوم الأربعاء رابع شهر شعبان، الكريم سنة سبعين وألف [إبريل 1659م] حتى بقى بيننا وبينهم قدر ميلين أو ثلاثة أميال، وأمسينا ليلة الخميس خامس شهر شعبان. ثم أصبحنا عليهم صبح ذلك اليوم الذي عودنا الله فيه كل جميلة ومنحنا بفضله كل فضيلة، وتركنا في محطتنا من يحفظها من مكايد العدو مع القاضي المجاهد الهادي بن عبد الله الحارثي الحشيشي، وعبينا المجاهدين أحسن تعبئة ورتبناهم أحسن ترتيب، لما كنا نظنه في جمعهم الكثير، وخيلهم المتوفرة المتنعمة، مع ما أصاب خيلنا من الكلال والمشقة، وأعددنا من الحزم ما ينبغي أن نلقى به العدو، ثم زحف القوم إلى القوم فلما ترأى الجمعان، والتقى الجيشان، وكادت خيلهم تتصل بالسابقين من أصحابنا رمت عليهم البنادق في الميمنة والميسرة، فقتل منهم جماعة يسيرة، فما هو إلا أن عرفوا ذلك ولو أدبارهم ورأينا إدبارهم، فزحف عليهم المجاهدون في إثرهم، وليس بحثيث لما كنا نظنه أن في الشعوب على يميننا ويسارنا كميناً، وهنالك مخادعة لنا، فما زال القتل الذريع فيهم، والأسر واجتزت رؤوس كثيرة، لم نحص
معرفة حصرها حال الكتاب واشتغل الناس بالغنايم لأموالهم وسلاحهم وخيلهم وانكسر السلطان وأولاده وأعوانه، وجميع أهل المحطة، فأما القبائل فذهب كل قبيلة إلى بلادها، وأما السلطان فهرب إلى هينن، وبعض آل كثير، وانحازوا إلى شعاب يأمنون على أنفسهم فيها. ونحن بعد أن جمعنا العسكر الذين[254/أ] كانوا تفرقوا عنا لحقنا بالسلطان إلى بلد قريب هينن تسمى المخينيق، فما وصلنا إلا ورسوله يصل يخادعنا بكتاب ظاهره طلب الأمان، فعرفنا أنه يريد الفرار فألزمنا السيد صلاح الدين صلاح بن محمد والفقيه علي بن صلاح الجملولي بالتقدم إلى هينن لتأمين أهل البلد ومحاصرة السلطان في القلعة. فما وصل المذكوران إلا وقد هرب بجماعة يسيرة من أخواله الشنافر واستقر في مكان يسمى وادي جعيمة، ونحن تقدمنا في أثره، وصدرت هذه الأحرف ونحن في مدينة شبام، وصلناها يوم السبت سابع من شهر شعبان الكريم من سنة سبعين وألف [1659م] ونحن بإزاء جعيمة، حيث السلطان وقد أرسلنا إلى سيئون وتريس وغيرهما من البلاد من يتسلم حصونها ويؤمن أهلها، وقد سلمت الحصون بمن الله وفضله.
وأما قلعة هينن فترك السلطان فيها جميع ثقله وأهله، والظن قاض أنه يريد المخاطبة بطلب الأمان، ونحن أمرنا السيد صلاح الدين والفقيه علي بن صلاح الجملولي بمحاصرة قلعة هينن، وتعجلا بالحرب عليها حتى ينظر غاية أمره، فإنه إنما هرب إلى هينن لما علم أخذ الهجرين عنوة، فعرف أن هينن يمكن أخذه عنوة.
وأما سائر آل كثير أهل الحضرة فإنهم قد وصلوا إلينا مواجهين سامعين مطيعين، وحسن أخو السلطان منحاز في جانب وحده، وهو يريد المواجهة إلينا، وقد أنفذنا الأمان إليه، وقد أحببنا تعجيل هذه المسرة إليكم، والتفريج عليكم لما نعلمه من انشغالكم بنا وبمن لدينا من المجاهدين، سيما بعد انقطاع الكتب بسب الأعداء المتوسطين المترصدين في الطرقات مثل النعمان، وأهل السوط أخزاهم الله، وأذلهم.
وفيه ملحق بخط يده الكريمة حماه الله، الحمد لله رب العالمين، ملحق خير إن شاء الله بحمد الله وشكره، ونعترف له بالعجز عن القيام بواجب الشكر، وما يجب له سبحانه وتعالى، ونهنئ مولانا أيده الله، بهذه المسرة، ولا أدري أيها أعظم سلامة جنود الحق مما نالوه من المشاق، أما الفتح المبين الذي لا يحتسب ولله الشكر كثيراً بكرة وأصيلاً، وهو كما أثنى على نفسه الرحمن الرحيم، وهي صدرت وقد وصل إلينا النقيب علي بن راشد الذيباني من سيئون مواجهاً على من في المدينة وحصنها من جميع عسكر السلطان علي آل حصن تريم، وتريس ومريمة، والرجل عين أجنادهم أجمع سمعناه ورأيناه.
ولما عزم الرسول عنده حفظه الله كانت طريقه على هينن وعزم منها يوم الثلاثاء، وكتب معه الفقيه جمال الدين علي بن صلاح الجملولي حماه الله[254/ب] بالاستيلاء على قلعة هينن، وجمع ما فيه من الذخاير والخزاين، والحمد لله رب العالمين والرتبة تسلموا وحريم سلطان وأولاده جللوا واحترموا، وأمر الولد صفي الدين حفظه الله بأن ما كان للحريم من الحلية والآلات والكساء والجواري وغيرها يطلق عليهن تفضلاً وإحساناً وتكرماً منه اقتداءً بفعل آباءه الطاهرين، والحمد لله رب العالمين، وبلغ إلينا أن الغنائم التي كانت في المحطة واسعة، وأن قدر الجمال وحدها قدر ألف جمل.
وأما المدن فأمنوا ولله سبحانه وتعالى الحمد والله يوزعنا شكر نعمته ويزيدنا من فضله وكرمه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، تاريخ عشرين من شهر شعبان الكريم سنة سبعين وألف [2مارس 1659م] هذا تلخيص الواقعة.
ولما هزمهم الله سبحانه وتعالى، وتفرقوا كما ذكره مولانا الصفي في كتابه الكريم تقدم جنود الحق إلى موضع يسمى المخينيق قريباً من مدينة هينن، ووصل الشيخ محمد شيبان بكتاب من السلطان كما ذكر في كتابه، وصح لمولانا مخادعة السلطان بالخطاب، ليقل الاهتمام عن طلبه فسار مولانا أحمد في الليل، وأصبح في موضع يسمى حذية، -بالحاء المهملة والذال المعجمة وياء معجمة بنقطتين وهاء ساكنة- بالقرب من مدينة شبام. ثم سار إلى مدينة شبام وقد استأمن أهلها فكان فيها وذلك يوم السبت سابع من شهر شعبان ووصل إليه أهل تريم وأهل سيئون، وأهل عينات، ومريمة، وتريس- بالتاء الفوقانية، بعدها راء مهملة، وياء معجمة بنقطتين، وسين مهملة- ومدينة الغرقة وساير آل كثير، فأقام مولانا أحمد في شبام ثمانية أيام، ووصله العسكر الذين بهينن، وتقدم يوم الإثنين إلى سيئون، وهي قرار سلطان حضرموت، ولما استقرت فيها الجنود الإمامية، وصل خطاب من السلطان بدر يطلب الأمان على نفسه.
وأما إخوته وأولاده فقد تقدم أمانهم تكريماً من غير شرط وقد جعل عليهم مولانا الصفي، أيده الله، ثقات أصحابه يحفظوهم من معرة الجيش فلم يفتح لهم باب ولا لحقهم معرة، ولما طلب السلطان الأمان قبض مولانا، أيده الله، من ذخائره وبيت ماله ما رآه غنيمة بيد القبض لمثلها. ثم وصل السلطان إلى مولانا، أيده الله، يوم الجمعة عشرين يوماً من شهر شعبان، فعظمه كثيراً، وخلع عليه وعلى ولده ومن في صحبته لكل بما يليق به، وأمره بالإنضمام إلى أولاده فأظهر أنه لا يستحق ذلك وأكثر من التواضع والاعتذار.
ولما دخل شهر رمضان[255/أ] المعظم طلب السلطان المذكور من مولانا أحمد أن يجهزه إلى عند الإمام، فأجابه إلى ذلك، وهو الذي يريده ويهواه، وإنما يكتمه أكثره حياءً، فجهزه أحسن جهاز، وجعل معه الأمير علي بن الحسين بن الشويع والقاضي الأعلم جمال الدين عامر بن أحمد الذماري في نحو سبعين رجلاً، ونحو عشرين فارساً منهم أصحاب الأمير علي، فكانت طريقه شبوة، وواسط ثم بيحان وريده. ووصل إلى الإمام عليه السلام ثامن وعشرين شهر رمضان المعظم، وكان قطع هذه المسافة المتقدم ذكرها في سبع عشرة مرحلة وكان أراد مولانا الصفي أيده الله، أن المذكور يمر على البيضاء ثم عند مولانا محمد بن الحسن أيدهم الله، فاعتذر وبالغ في الاعتذار وربما ذلك حياءً لما أكثر من التوسل بمولانا عز الإسلام، أيده الله، وهو يخادعه والله أعلم.
[وصول سلطان حضرموت إلى الإمام]
ولما وصل السلطان في اليوم المذكور أمر الإمام ولده مولانا علي بن أمير المؤمنين وأهل حضرته بلقائه وتعظيمه، وأعطاه ومن معه الخلع السنية، والخيل النجيبة المحلية، والنقود الكثيرة، والضيافات الهنية، وأفرغ له داراً وأجرى عليه وعلى أصحابه النفقات الواسعة، والنعم المتتابعة، وكان قد قدم قبله إلى مولانا، من إخوته السلطان الأكرم علي بن عبد الله، وذلك أنه حج عام ثمان وستين وألف [1657م] وعاد للحج وقد بلغه المخارج على أخيه فأظهر البراءة منه، وأنه من جملة أصحاب الإمام، وروى أيضاً أنه لم يوال الإمام رغبة، وإنما خاف أنه لا يقدر على النفوذ إلى بلاده فأظهر ذلك وعرف الإمام عليه السلام أنه كذلك فجازاه الإمام، على ذلك وأعطاه وضمه إلى أخيه، كالواسطة في حوائجه وكذلك أخوهما السلطان طالب بن عبد الله، كان إليه ولاية الشحر من ساحل حضرموت، لأنه خرج من طريق عدن، واستأمن إلى واليها، وأظهر أنه فر بنفسه إلى الإمام، وأنه منكر على أخيه، وربما وباطنه غير ذلك وإنما أراد الخروج إلى ساحل جدة فأخرجه البحر إلى عدن والله أعلم.
وأخبرني الولد الحسين أسعده الله أنه سأل الإمام، هل كان وصوله بإختياره أم لا؟ فقال: اعرفوا الجملة، ولا تعرفوا التحقيق، أو كما قال، وكتب صاحب عدن إلى الإمام عليه السلام، وإلى مولانا عز الدين محمد[255/ب] وإلى مولانا أحمد بن الحسن فأمر الإمام صاحب عدن أن ينفذ المذكور إليه، ويبالغ في إكرامه والإحسان إليه، وأمر من يتلقاه للضيافة في اليمن حتى قدم إلى الإمام عليه السلام لليال من رمضان الكريم وعظمه الإمام وأكرمه.
[ما حدث للكنج من قبل السلطان جعفر بن عبد الله] :
ولما وصل السلطان بدر وضمه إليه كما ضم أخاه علياً وكانوا كذلك، وأما السلطان جعفر بن عبد الله فكان في ظفار بعد أن غدر بعمه كما تقدم، فكان فيه على صفة الخلوس وقطاع السبيل، والمفسدين في الأرض وإنه أظهر بعض ما كان يكتمه من الفساد في نفسه، ولاعزاء لأهل المعاصي بها وإعانتهم عليها، وضم إلى ذلك الجور في الأحكام. ثم أنه نهب من جاء ذلك البندر من الأجناس، والأمم فأخذ أموالهم فممن أخذ قوم من الكنج، وهم إمامية المذهب فإنه نهب أموالهم، وختم عليها بخواتمه بعد أن سجنهم، وأرسلها مع غيرها إلى بندر جدة، وجعلها في مراكب، فجاز أولها حتى انتهى إلى الحديدة من بنادر تهامة اليمن، وواليها النقيب سعيد بن عبد الله المجربي من موالي مولانا الحسن رحمه الله، فعرف الختم بعض أعوانه، فأخبره بذلك فبحث عنه، وصح له أنها للسلطان جعفر فقبض عليها وعلى أهلها، وكتب إلى الإمام فأمر بأشخاصها إليه، فوصلت إلى الإمام في شهر رجب من السنة المذكورة، وكان أهلها من الكنج قد أطلقهم جعفر فخرجوا من ساحل عدن، فأخبروا بالقبض عليها، وأنها قد صارت عند الإمام وقد شاع في الأرض عدله القايم، وعدل سلفه الأئمة الأبرار عليهم السلام آناء الليل وأطراف النهار وما أحيا الله به وبهم من معالم الدين الذي جاء به النبي المختار، فوصل أولئك الكنج إلى الإمام قبل وصولها بيومين، وشكوا عليه، وكان أول ما وصل من أمتعتهم ثمانية أحمال، معها عسكر من أصحاب النقيب سعيد.
فلما استقروا بها دخل أولئك الكنج على الإمام عليه السلام وسألوه ما هو لهم؟ فقال: هذه خواتم جعفر عليها، فهل لكم بينة، فقالوا لا نجد في هذا المحل من يشهد لنا، فإنا غرباء في هذه الديار، ولكن هذه جوالقها عليها، وختمها كذلك، ويسمعون منا صفاتها قبل أن نراها، فوصفوها، ثم فتحت فكانت كما قالوا فاحتاط الإمام بتحليفهم أنها باقية على ملكهم، وأطلقها عليهم، وكان فيها كثير من أحمال الصين المُكتَّب وغيره. ثم كان مع والي المخا كوالي الحديدة فقبضوا عليها على أنها لجعفر المذكور، فوصلت نحواً من عشرين جملاً ووصل بعض[256/أ] أهلها فأجابهم الإمام بنحو ما تقدم، وظهرت علاماتها فاستحلفهم وردها عليهم فباعوها في معمور الحصين وفي صنعاء وفي جميع الجهات الإمامية وأمر بحفظ حق من غاب عليهم وظهر من هذه القضية فائدة فقهية، وهي أن القول لمن الظاهر معه، ولما كان الظاهر من جعفر المذكور الظلم والتمرد، وكان الظاهر مع أهل هذه الأمتعة، ولما أنهم لم يجدوا الشهادة أتوا بما يدل على صحة ما ادعوه، كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } فانقلبت اليمين عليهم مع وجود تلك القراين، والله أعلم، حيث يجعل رسالاته.
نعم!:
تعرض محتاراً وما كان ذاكراً .... بعهد اللواء والشيء بالشيء يذكر
فإنه أذكرني حسن النظر، ولطف الاختبار من مولانا أمير المؤمنين، في طلبه من المذكورين أن يصفوا أمتعتهم وهي على خواتمها في جوالقها، وقد جاءت من طريق غير طريقهم فإنها وصلت من ساحل اليمن وادعاها قوم من الكنج بقضية.
[قصة الشريف الهندي]
أخبرني بها حي جدي السيد الأعلم محمد بن عبد الله بن محمد بن المنتصر رحمه الله جملة، وفصلها من كان أوعى لها مني من أولاده أنه وفد إلى الإمام الأعظم المتوكل على الله أمير المؤمنين، شرف الدين عليه السلام شريف من الهند، ذو علم وحال فقال: وأقام أياماً في صنعاء عند الإمام، وقرأ عليه شيئاً من الكتب، ولما وصلت أيام الحج استأذن الإمام، بأن يحج فجهزه الإمام وسار مع حاج اليمن، وكان قد عرف بعض أعوان الإمام، في الكتابة، فجعل عنده كيساً في كيس أيضاً مختوماً عليه بخاتمه مملوءً بما لا يعرفه الوديع، وقال: هذه أمانة في يدك، وتنتظرني بها عاماً كاملاً فإن أعد فحقي أمانة في يدك حتى تدفعه إلي، وإن لم أعد في آخر العام فلي وارث في الهند لا سبيل لك إلى معرفته، ولكني قد أمرتك أن تدفع ذلك إلى الإمام يصرفه فيما يراه من القرب أو كما قال، قال: ثم عاد هذا السيد المذكور قبل حلول الأجل، وعرفه الإمام، وساير أصحابه وأضافوه دون الوديع، فإنه أظهر الإعراض عنه وإنه لم يعرفه فتعرف إليه الشريف الهندي وأخبره أنه صاحبه فلم يعترف له، فشكاه إلى الإمام، فورَّى الإمام للشريف المذكور أنما من أصحابه من يجتري على جحد وديعة قليلة أو كثيرة، أو كما قال، ولكن تكتم أمرك وأنا أبدوك إن شاء الله تعالى بما يتجدد من النظر، ثم تغافل الإمام عنه أياماً، وطلب ذلك الوديع، ودفع إليه أوراقاً، وقال: أهل هذه الأوراق في انتظار جوابها فبادر بتحصيله في هذا المجلس وكان ذلك[256/ب] الوقت بعد صلاة العصر، وكان في يد ذلك الكاتب مسبحة أحسبه قال أنها مرجان،
فقبضها الإمام من يده كما يفعل الجليس مع جليسه، ثم أخرج أوراقاً أكثر من الأول وقال: وهذه الحاجة [يتم] إرسالها إلى أهلها فوراً، فقم ذلك المنزل لتفرغ لتمامها إن شاء الله تعالى.
ولما انتقل الكاتب إلى ذلك المحل التفت الإمام إلى خادم صغير لذلك واستدناه إليه وساره، وقال هذه مسبحة سيدك أمارة اذهب بها إلى امرأته وقل لها هذه أمارة ارسلي معي كيس الهندي مختوماً بحاله، وتصل به مستوراً تحت ثيابك أو كما قال، فما كان بأسرع من وصوله إلى الإمام بذلك، فقبضه وقبض الأوراق ووجهها لأهلها، وذهب ذلك الكاتب إلى أهله، فقال لنا الراوي أنه قال لأهله وقد استلقى في موضعه أني أنسيت المسبحة ولكنها في مجلس الإمام وأخاف عليها فإنها ثمينة أو كما قال، فقالت: امرأته يا سبحان الله هاهي عندي محفوظة وأعطته فقال: من أوصلها إليك فقالت: الخادم فلان لما وصل لكيس الهندي، فسأله من الذي أعطاك المسبحة؟ فقال الإمام فعرف الكاتب الحال.
نعم ! وأما الكيس فلما وصل إلى الإمام، طلب الهندي في اليوم الثاني أو الثالث فقال صف لي متاعك فوصف ظاهره بما كأنه مشاهده، فأخرجه إليه، وقال: صف لي ما داخله فوصف ذلك كذلك، حتى نقش الختم، ففتحه الإمام، وقال: هل ذهب شيء من مالك فقال: لا فإذا فيه ربط، منها خواتم أفصاصها الياقوت، وآخر من أجناس غيرها، ومسابح مرجان، ولؤلؤ وذهب أحمر كثير فحمد الله الإمام، وأخبره أن في أصحابي من يجهل حالك، وهذا تمكن منه وأوهمه الإمام أن صاحبه رافع ذلك إلى الإمام ليبقى حسن الظن في أصحاب الإمام، وهذه القضية لا يعلم بذكرها في سيرة الإمام، فكان كتبها هنا كصفة الاستدراك والله الهادي.
وكان وصول الأحمال من المخاء في سلخ شهر رمضان، ثم إن والي عدن قبض أحمالاً على مثل ذلك، ورفع خبرها إلى الإمام، فوصلت إليه في شهر شوال وكانت أربعة وخمسين حملاً، وأعطى الإمام كذلك من عرف أمتعته وحفظ حق الغائبين وهم واصلون لها لا محالة إن شاء الله تعالى.
نعم! وإرسال هذا المحروم إلى بندر جدة بهذه الأموال لتكون تجارة مع ثقاته ولتكون في بلاد الأتراك التي لا يصل إليها أمر الإمام عليه السلام، وأنه باق في ظفار لينتظر المخارج، التي توجهت إليه وإلى أخيه فإن تُغلب وتؤخذ بلادهم[257/أ] كما وقع لحق بها، وقد كاتب وكذلك أخوه إلى ملك الروم وصاحب مصر، كما بلغني وأن تعد عنهم الجنود الإمامية كانت له بضاعة بايرة، وصفقة خاسرة، يتمتع بها قليلاً ويعذب بها طويلاً والله المستعان.
فصل.. يذكر فيه شيئاً من كرامات الإمام في هذا المخرج المنصور بالله، منها أن غالب هذا العسكر المنصور بالله من بلاد صنعاء وظاهر همدان من بلاد كوكبان وثلأ وهي أعلى بلاد السراة وأصحها فكانوا في هذه المفاوز يأكلون مالا يعتادونه ولا يسيغونه في بلادهم، وينقطع عليهم فيأكلون لحم الجمال الضعيفة وغيرها من الحيوانات على حنيذ وغيره فلم يؤثر فيهم غير الصحة والعافية وكان أهل هذه المواضع المذكورة في مخرج تهامة، وحصار زبيد علقت بهم الأمراض ومات أكثرهم كما تقدم.
وفي كتاب القاضي الأعلم بدر الدين محمد بن علي المسوري، أبقاه الله، جملة من ذكر هذه الكرامة، أما تفصيلها فإنه يطول، وفيه شيء من أخبار سفرهم وأسماء المواضع وإن قد تقدم فلا يخلو من فائدة، وهذا من كتاب إلى سيدنا العلامة الحبر شيخ الإسلام، أحمد بن سعد الدين، أطال الله بقاه، قال: بعد حذف طرته، صدرت من مدينة سيؤون التي هي قاعدة أرض حضرموت ومقر ملكها، ونحن نحمد الله إليكم كثيراً، وذلك بعد تمام المقاصد بعد أحوال يطول شرحها، وتجشم أهوال نحن في آثار ترحها وقد تفضل الله سبحانه وله الحمد بالسلامة والخلاص من المشاق، بعد أن قاسينا شدايد عظيمة وسلكنا طرقاً وأودية وخيمة، وجبال شاهقة، وفيافي مقفرة وشعاب متعطلة وذلك أنا ارتحلنا من وادي ميفعة لما اقتضى الحال ترك طريق الساحل، وسلكنا طريقاً لم تسلكها قافلة، وإنما هي للبدوان إلى حيث منافعهم ومياههم، وجميعها منقطعة من الماء ولكن الله تفضل بالمطر قبل الارتحال وكان سيدي صفي الدين، حماه الله، يرسل الرسل للبحث عن الماء فلا يزالون يبحثون عن مياه لا يعرفها أهل البلاد أصلاً، فيرتحل إلى ذلك المحل فيقف فيه حتى يبحث عن حال المحل الآخر، فأما من جهة الماء فلم يحصل عظيم مشقة.
وأما من جهة الزاد فبلغ الناس إلى حال لا يمكن وصفها وعدم كل موجود، وحتى أنه بلغ قدح الدوم إلى حرفين، وشرينا قدح الحنطة من حساب اثني عشر حرفاً، وكنا نستعمله لسيساً هذا من يجد ما يأخذ به، وأما من لم يجد فإنما ييسر الله لهم بالجمال الحاسرة، فكانوا ينتظرون الجمل الذي يجدون فيه أدنى ركة[257/ب] فيسيرون قريباً منه فإذا عثر من عسرة الطريق تهافتوا عليه يقطعون أوصاله من دون نحر، وعم ذلك أكثر الناس وجرت أمور عجيبة، ودارج الله ألطافه واستمر الناس على ذلك الحال إلى أن انتهى الأمر إلى وصول الريدة هذا وادٍ في أعلى جبل السوط وهذا الجبل جبل عظيم الشكل، عظيم طويل عريض شاهق، إلا أن ارتفاعه خفي لسبب طوله وعرضه، فإن طوله قدر اثني عشر يوماً للبريد من الساحل إلى أوساط الجوف والرمال التي بين الجوف وبلاد الإحساء والبحرين وأطراف عمان فهو شرق من جهة القبلة والشرق عليها.
وأما عرضه فأقرب مكان الذي نسلكه إلى حضرموت مسير سبعة أيام وفيه مياه من المطر تجتمع في شعابه ومغاراته ينتفع بها المسافرون إذا وجدوا الدليل الخبير. وبعد وصول هذا الموضع حصل لبعض الناس، وهو من يجد الدراهم بعض شيء وأما المعدم فعدم عليه كل شيء ثم استمرينا المسير في السوط إلى وادي دوعان وكان العدول إليه عن وادي عمد برأي الشيخ عبد الله العمودي، وجاء أرفق وألطف وقد نزلنا إليه عقبة ما ينزلها الرجالة المخفون كيف الجمال الحاسرة المثقلة ولكن جرت ألطاف عجيبة ما يشك من رآها أنها بركة نية المولى أمير المؤمنين، حفظه الله، وما يبذل من الدعاء في كل حين. وكان الخطاط قرب الهجرين، وهما قلعتان منيعتان، وحصنان حصينان لكن الرجال ركاك، ولما قربنا منه علوة بندقين نهد إليه شداد من العسكر حملهم على ذلك ما قد صار في نفوسهم من الغيظ وما لاقوه من التعب والنصب، فلم يكن بأسرع من أن أخذوا أحد حصينة وقتلوا جماعة وجاءوا برؤوسهم، هذا كان بغير أمر سيدي صفي الدين، حماه الله، وإنما أمر جماعة لتلقى جماعة هاربين منه إلى محطة السلطان، وكانت منه على مرحلة قريب مدينة هينن.
وفي اليوم الثاني وهو يوم الجمعة سلخ شهر رجب أو تاسع وعشرين منه واجهت القلعة الأخرى، وحصل للناس انتفاع بشيء من الطعام مشترى، ثم أقمنا إلى يوم الأربعاء رابع شهر شعبان الكريم، وتوجه سيدي، حماه الله، بالجند المنصور بالله وكل منهم يريد القتال ومشتاق إليه أولاً للغيظ الحاصل بعد التعب والنصب، والآخر أنهم كانوا يتحدثون إلى أين المهرب، فكان يظهر منهم حالة عجيبة مؤنسة مضحكة فبقينا قريباً من المحطة إلى صبح الخميس خامس شهر شعبان، وتوجهنا للقاء فاصطف الفريقان، ولم يتحير أصحابنا أبداً بل مروا مروراًكماهم[258/أ] فرمى أصحاب السلطان رمياً ضعيفاً، وانهزموا بأجمعهم وكانوا جمعاً كثيفاً، وكان سيدي صفي الدين، حماه الله، يزجر القوم ويؤخرهم توهماً من المكيدة ولقد رتب الصفوف ترتيباً ما قد رأى الرائون مثله، وظهر منه من الثبات ما أشد الناس تعجباً منه صنوكم والحمد لله على ذلك.
ثم استمرت الهزيمة، وتوقفنا عند محل محطهم، ثم تبعناهم فما زال القتل فيهم والأسر إلى الليل، وكان قد جاء كتاب السلطان بطلب الأمان، ثم رأى طلائع القوم فخرج من هينن على وجهه هارباً إلى وادي الجعيمة، وصعد الجبل، ونحن بيتنا ليلتنا وتبعنا أثرهم عادلين عن هينن إلى أن انتصبنا إلى شبام وهي مدينة كبيرة لكن عليها أثر الضعف بسبب توالي أيدي الجايرين، وفيها جامع عظيم، وحولها نخيل واسع، وأنهار ومزارع أكثرها لآل كثير، فإنهم قد استولوا على البلاد مُلكاً ومِلكاً، وجاءت مكاتبة أخرى من السلطان بطلب الأمان فوضع له أماناً وانتقل سيدي حماه الله من شبام إلى سيئون وكل الطريق إليها بين النخيل والآبار والمزارع (كلها متصلة) ما إن ثم إلا ممر الطريق، وسيئون هذه مدينة عظيمة، وحول كل مدينة من القرى شيء كثير وعلى الجملة فوادي حضرموت هذا وادي عجيب وسيع رحيب عريض طويل كله عمارات ومزارع ونخيل متصل من شبام إلى المسفلة وهي حد المهرى، وهو مسير ثلاثة أيام للمكتب النهاض من الشروق إلى الغروب، وفي سيئون جامع ومساجد أخرى، وفيهن أوقاف ووظايف وكل أهلها بل أهل حضرموت فقراء ضعفاء، وما بقى فيهم إلا من له تمسك بأحد من آل كثير وقد أهلكتهم المعاملة بالربا، والاستمرار على فعل الحياء بحيث أن الشريعة إنما هي عندهم التفاف واسم على غير مسمى. وتم بعد ذلك وصول السلطان وظهر منه الندم وأنه محمول من آل كثير على ما فعل، وصدر الآن إلى الحضرة، وبعد شريف السلام، وهذه أمور قد مضت وانقضت ولكن أحببت أن أصف بعض الحال وشريف السلام ورحمة الله وبركاته.
وكتب في يوم الإثنين غرة شهر رمضان عام سبعين وألف [مايو 1659م].
ومنها قضية الجراد فإنه لما تقابل الصفان للحرب خرج جراداً لم يروه قبل ذلك اليوم في بلاد حضرموت، وكان من جانب جنود الحق فيقع في وجوه القوم حتى أعماهم، فولوا مدبرين، وشهد بهذه الآية العجيبة الطائفتان جميعاً وتحدث بها جميع من شهد ذلك ولم تظهر[258/ب] لهم تلك الجراد بعدها.
ومنها أن كل ما جهزوه في البحر والبر ألقاه البحر في الساحل وصار إلى الإمام، كما تقدم مع مبالغتهم في الاحتراز… .
[تسيير أمور حضرموت والشحر] .
وأما مولانا الصفي، أيده الله، وبقاؤه في سيئون فإنه تنزل لأهل البلاد الحضرمية وسلاطينها وفقهائها وأحسن إليهم كثيراً، وكان ذلك في شهر الله الكريم وقبض منهم الفطرة وردها في فقراءهم، وأهل المسكنة وأعطاهم (جماً وأحسن إلى خاصتهم وعامتهم) وغير المنكرات وأرسل إلى المدائن المتقدم ذكرها بمثل ما فعل قريباً منه، ونكل بمن قد فحش عصيانه كأهل الملاهي والبيوت المعهودة الفساد، ونصب القضاة للخصومات ثم جهزوا الفقيه المجاهد بدر الدين محمد بن علي جميل السيراني، أطال الله بقاه، في عسكر نحو ستمائة أكثر سلاحهم البنادق وأرسل معه ولد السلطان بدر بن عمر المسمى علياً وقد جعل ولاية الشحر بنظر والده بدر بن عمر، والمسافة بين الشحر ومدينة سيئون ثلاثة عشراً يوماً.
وأمر الفقيه محمد المذكور أن يقرر حال هذا السلطان (في الشحر) ويصغر من ناوأه وإن يكون هنالك حتى يبدوه بما يراه إن شاء الله تعالى وكان غالب أهل الشحر الميل إلى السلطان طالب بن عبد الله، كما غالب أهل حضرموت ميلهم مع أخيه بدر بن عبد الله، وهو سلطانهم الأكبر المتقدم ذكره فتشمر[259/أ] أهل بلاد الشحر وقوم منهم يسمون الحموم وهم شوكة تلك الأطراف وهموا بالتظاهر للحرب، وهذا الفقيه محمد بن علي بن جميل من أهل الحزم والجزم ومعرفة المكايد. وكان قد جمع الجمال والأثقال وفرق أهل البنادق في جنباتها في هذه المراحل كلها حتى دخل المدينة المذكورة على أحسن تعبية، وكان واليها من قبل السلطان طالب رجل يسمى الأمير علي من مماليك السلطان وإليه الحصن والمدينة والبحر فتلقاهم وأظهر الطاعة، ونزل الفقيه محمد بن علي بن جميل في خواص من العسكر فكان في الحصن احتياطاً، وولد السلطان في محلهم المعتاد من المدينة. وكان قد خرج من عسكر الفقيه محمد رجل من وادعة الظاهر إلى موضع يسمى تبالة قريب مرحلة من الشحر ليشتري شيئاً فقتله الحموم، وخرج صاحباه يطلبانه فقتلا أيضاً، وخرج غيرهم فلقوا القتلى فدفنوهم، وعادوا والقبائل على نفورهم لم يختلط بهم أحد مع المبالغة منهم في تخويف الطرقات. وكان قد غلب الفساد على تلك البلاد كما تقدم، فكانت الخمور تباع في الأسواق ظاهرة، وعليها للسلطان قانون فكسرها الفقيه بدر الدين محمد وشرد أهلها فانقطعت، وهذا السلطان علي، ووالده قد صارت أحوالهم شديدة ولهم محبة في الإمام عليه السلام أكيدة، فجرى على ذلك المجرى في الشدة على أهل
الفساد والقبائل على نفورهم، وقتل رجل آخر من العسكر في موضع آخر كان خرج يلتمس شيئاً من المبيعات وهذا ساحل الشحر من البنادر الكبار. أخبرني من دخله مع الفقيه محمد بن علي أنه رأى في ساحله من الزوارق التي للصيد فوق خمسمائة، وأن فيها أمماً من الناس وأن فيها من البانيان، أقماهم الله، وهم البراهمة نحو من ثلاثمائة تاجر، وكان استقرار الفقيه محمد بن علي ومن معه في هذا المحل شهراً وسبعة أيام.
ولما بلغ مولانا الصفي – أيده الله – صلاح حال ولد السلطان وتمكنه من الشحر أمر الفقيه بدر الدين محمد بن علي بالوصول بالعسكر المنصور، وقد صلح حال السلطان علي وجرى مع أهل بلاده على عوائدهم الموافقة للشريعة النبوية وعلى ما جرت به الرسوم الإمامية. وقد قرر الفقيه بدر الدين الأعمال وتفقدها على نحو ما تقدم من مولانا الصفي – أيده الله – وجعل عند السلطان من أصحابه من رغب بالبقاء في تلك البلاد لإعانة السلطان وسار من طريق الساحل[259/ب] إلى حصن الغراب وبير علي مواضع هنالك. ثم ساروا حتى انتهوا إلى ميفعة المتقدم ذكرها، وكانت الجمال التي حملت أثقال المحطة نحو من ثلاثمائة جمعها لهم السلطان علي، بعد أن اشتراها من أهلها واكترى أيضاً مع ذلك وكانت المسافة من الشحر إلى ميفعة ثمانية عشر يوماً، ومن ميفعة اتصلوا بمولانا أحمد –أيده الله-.
وأما خروج مولانا الصفي – أيده الله – من البلاد الحضرمية وما والها فإنه بعد ما كان من صلاح البلاد، وتصغير أهل الفساد تعسرت عليه الإقامة في تلك البلاد لوجوه منها: أن العسكر قد تكاثروا وأن محصولاتها لا تقوم بهم، وأيضاً قد عهد إليه الإمام، أن يترك لسلاطنهم عوايدهم وأن يقبل منهم الامتثال وظاهر الطاعة والاعتزاء إلى هذه الدولة المحمدية والعصابة العلوية.
ومنها أن خيله وجماله وأمواله كادت أن تنفذ، والانتظار لما سيأتي من عند الإمام يطول وعرف أن الإمام لا يتمكن من كفايته لما عنده عليه السلام من المهمات خاصة وفي أرض اليمن كذلك من الشدة المتقدم ذكرها وأيضاً اتصل به الخبر أن صاحب ظفار استدعى قوماً من أهل نعمان ومذهبهم مذهب الخوارج، فيكرهون أهل البيت عليهم السلام ويكرهون أهل الشحر أيضاً لمعاصيهم فغلبوا جعفر هذا المذكور على ظفار.
أخبرني مولانا عز الإسلام والمسلمين محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين،- أيده الله – تعالى مكاتبة أن صاحب النعمان أرسل إلى هذا الرجل رجلاً من أصحابه يسمى عامر بن أحمد في نحو أربعمائة نفر فظهر لصاحب ظفار مائتان واستتر منهم مائتان في جانب آخر، وكانوا من طريقين فالظاهر من البحر أو البر. فلما قابل الواصلين إليه، ونزل لهم وأراد التفرغ لضيافتهم إذ وصل النصف الآخر فصعدوا الحصن وأظهروا أنهم مأمورون بذلك، هذا لفظ كتاب سيدي عز الإسلام أو معناه.
ولما غلبوا على الحصن المذكور، كانوا هنالك كما سيأتي، حتى كان من أمرهم ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأخبرني رجل آخر عن رجل مستقر في صنعاء المحروسة بالله، أن جعفر هذا لما بسط يده في العدوان وانتهب أموال من تقدم ذكرهم، كتب سلطان الهند أو سلطان فارس السهومني إلى صاحب النعمان إنك تخرج على هذا الذي كان منه ما كان، وإلا كنت لنا حرباً، قال: فعظم عليهم الخروج إلى ظفار، لما كان في حدود جهة اليمن وعظم عليه أيضاً[260/أ] مخالفة من ورائه من الملوك فوصله كتاب جعفر هذا المذكور وهو على هذه الحال، فكان ما تقدم والله أعلم.
نعم! ولما استقر النعمان في ظفار غلبوا جعفر على أمره، وكتبوا إلى مولانا الصفي أيده الله بما معناه: إن الله سبحانه وتعالى مكن من هذا الضال المضلول، وقد أخرجناه من هذا البندر والتصرف لكم فيه وفينا وأظهروا الطاعة الإمامية وأنهم إنما خرجوا على هذا المذكور، لما أفرط في الفساد فقبل منه مولانا ظاهر الطاعة وأجابهم بتصويب ما فعلوا وأن المراد تطهير الأرض من مثل ذلك الفاسق أو كما قال.
وكان هذا تدبيراً نافعاً، فإنه لو أراد الخروج عليهم لم يتمكن منه لبعد المسافة التي بين حضرموت وظفار فإنها نحو ثمانية عشر يوماً للبريد فيكون للأثقال أكثر من شهر، وهي مفاوز قليلة الماء وأيضاً تحتاج إعادة ابتداء المخرج ومؤنه التي جمعها من صنعاء واليمن وقد صار في بلاد لا يجد ما يقوم به كما تقدم، فرضى منهم بظاهر الطاعة وقرر السلطان بدر بن عمر على ما كان إليه وما كان إلى ولد أخيه السلطان بدر بن عبد الله من بلاد حضرموت والشحر وما والاها من ولاية السلاطين آل كثير واستخلف السلاطين آل كثير أيضاً للسلطان بدر بن عمر، وقد تقدم إن كبارهم قد صاروا عند مولانا الإمام، ثم بعد ذلك قبض على من عرف فساده واعتدائه في الطرقات، واحتملهم معه مكبلين في الحديد وكذلك الشيخ الواحدي والعولقي وغيرهما ممن يخاف فساده من أهل تلك الجهات إلا السلطان العمودي فإنه أبقاه وشكر له وارتحل من سيئون إلى موضع يسمى الغرقة ثم إلى شبام، ثم إلى حذية، ثم إلى هينن، ومنها فرق العسكر فجعل الفقيه علي بن صلاح الجملولي في عسكر ضخم يسلكون من طريق جبل السوط والنعمان ليخف عليه مؤنة العسكر وليقبضوا على من عرف فساده من أولئك ولأجل الماء والزاد. ثم الأمير أحمد بن الحسن بن عبد الرب وجهه وجمع إليه محطة أخرى، فكانوا بالقرب من الفقيه علي المذكور وأمرهم أن يسلكوا طريقاً كما تقدم، وقد جعل لهم أدلاء، ثم سار بمن بقى معه من طريق شبوه حتى عاد إلى بلاد العولقي، وهو مع ذلك يتبع أهل الفساد في الطرقات، ويقبض على من قدر منهم وحاول أخذ[260/ب] أعواض ما ذهب في أحور وتغريمهم ديات من
قتل العسكر، فضاق به الحال ولم يسعه المجال، واستوفى ذلك منهم، وزيادة عليه فيما سيأتي إن شاء الله في المخرج إلى بلاد الفضلي وما والاها، ولحقه مشقة عظمى في هذه الطريق، وشدة من قل الماء فإن في هذه الطريق غالبها في كل مرحلة بير واحدة، وقد ربما لا يكون إلا في المرحلتين بير فاشتد على الناس معه الضمأ وكادوا أن يهلكوا في مواضع كثيرة.
أخبرني من شهد ذلك أنه كان- أيده الله – يقدم إلى البير فيقيم عليها حتى ينزحها آخرهم ويأخذ كأحدهم، إنما يفعل ذلك خوفاً من أن يهلك العسكر بعضهم بعضاً، وقال بعضهم أنهم تفرقوا من موضع قال: فكنا في مفازة فإذا نحن بمولانا الصفي – أيده الله – على مثل حالنا، قال: فإذا هو يبتسم ويضحك وقال: إن هذا الضمأ بعثر نظامنا فكنا كقوم انكسرت بهم سفينة، فتفرقوا على الألواح فعليكم بالصبر وفرج الله قريب أو كما قال.
وأخبرني من شهد الإزدحام على أحد الآبار، أنه مات بغل من التعب والضمأ وكان بعض أهل الدلا قد قصرت حبالهم فسلخوا جلد ذلك البغل فأخذ كل منهم ما وقعت يده عليه، ووصلوا بها حبالهم، فكانوا كذلك حتى اتصلوا بالبلاد التي تحتمل الأجناد، وتقدموا إلى البيضاء ليلة عيد الإفطار في شهر ذي الحجة سنة سبعين وألف [أغسطس 1659م].
[قضية الهيمثي والفضلي]
قضية السلطان الهيثمي والفضلي ومن صار إلى رأيهم فإنهم كانوا وصلوا مع مولانا الصفي – أيده الله – في المخرج الآخر على يافع بعد نكثهم الأول، وكان ممن وصل هذا الهيثمي إلى مولانا الإمام، فأعطاه في جملة سلاطين المشرق واستخلفه.
وأما الفضلي فكان [قد] تأخر عن الوصول لموعد أخلفه به وبلاده بعيدة عن الطريق إنما هي في ساحل البحر وفي جبال وعرة، فأعمى عنه ومع ذلك كتبه إلى مولانا الإمام، ومولانا الصفي مستمرة. ولما عاد الهيثمي تحكك في بلاد دثينة، وانتهب سوقها، وقتل بسببه أربعة أنفار، وطلبه الفقيه بدر الدين محمد بن علي الوصول إليه إلى البيضاء فتلكأ واعتذر، ثم استكبر فجاراه الفقيه محمد وقد كتب إلى الإمام فأرسل إليه الإمام أحد نقباء العسكر وطلبه الوصول إليه فعاد الرسول بلا شيء غير أنه أظهر الانقياد وترك الفساد.
وأما الفضلي فإنه كان كذلك، ثم بدا له بأن نهب قوماً خصوماً له وشيخهم يسمى [محمد حيدره] قرعة من[261/أ] حدود يافع، وقتل منهم نيفاً وعشرون رجلاً هذا[محمد بن حيدرة] قرعة فشكى إلى الإمام، فأرسل الشيخ المجاهد عامر بن صلاح الصايدي إلى هذا السلطان أحمد بن حيدرة الفضلي يأمره بالوصول إليه لإنصاف [محمد بن حيدرة] قرعة المذكور وأصحابه فانتهى الشيخ عامر إلى عدن وكاتبه يخبره بوصوله إليه، فكان من جوابه إليه: لا أصل إليك ولا تصل إلي وتكون في عدن، وكثرت المكاتبة بما حاصلها التلون وعدم الانقياد، وقد تقدم أن في عدن الفقيه الأجل أمير الدين بن أحمد العلفي من أهل الكمال، ومعرفة محاورة كبراء الرجال والشيخ عامر كذلك من أهل الحنكة والتدبير، فجعلا من يتوسط بينهم وبين المذكور بما يغطي أموره ويظهر الطاعة والموالاة وكتبوا إلى الإمام أنه يرسل محمد بن حيدرة قرعه وأصحابه ويصلحون بينهم كما يفعل بين القبائل، ورأى الإمام في ذلك صلاحاً لتغطية أموره حتى تصح منه الطاعة الصحيحة أو المخالفة الصريحة كما سيأتي.
وكان الإمام عليه السلام عين على الفضلي للشيخ عامر وأصحابه من صحبه من العسكر عقوبة على الفضلي، فأرضاهم الفقيه أمير الدين عن الفضلي، وحسبها عليه من معتاده من بلاد عدن، وكان قد وقع من الفضلي مثل ذلك إلى الأمير حسين بن عبد القادر صاحب خنفر اعتدى عليه، ونهب شيئاً من بلاده فأرسل الإمام عليه السلام قبل الشيخ عامر الشيخ الرئيس سفيان القارني، وبعض أولاد الأمير عبد القادر ونفذ إليه سفيان، وتحكم فيه حتى أنه حرج مما فعل، وبعد أن رجع الشيخ عامر المذكور كثر توحش الفضلي حتى أن الإمام، كتب إليه في شيء من أحداثه، وأرسل رسولاً.
أخبرني الرسول المذكور وهو من بني صريم الظاهر أنه بقى عنده أشهر لم يرض بالجواب عليه فعاد بغير جواب. ولما كان هذا المخرج المنصور، واستقر السيدان الكريمان محمد بن أمير المؤمنين ومحمد بن أحمد بن أمير المؤمنين، ومن معهما في معمور البيضاء كما تقدم، وصل الهيثمي المذكور إليهما بأمان وأحسنا إليه، وعظما قدره وقالا له: من شرطنا عليك وصولك إلى الإمام عليه السلام، فإن ترضى بذلك فهو الذي شرطناه لك وعليك، وإلا فالوصول إلى الصنو الصفي – حفظه الله تعالى – فلما عرف منهما ذلك وأنهما غير غادرين له اختار الوصول إلى مولانا الصفي – أيده الله – فجهزاه في صحبة الشيخ علي بن يحيى الحسيني من مشايخ هنوم، وعشرة أنفار من كبار العسكر ليكونوا معه في الطريق لسد جناحه وتحمل مؤنه وقد كانوا أحسنوا فيه الظن لما [261/ب]رأوا من محبته في المسير إلى مولانا أحمد، وكرهوا أن يحملوه على الصعب في أول استفتاح جهات حضرموت فسار معهم إلى موضع يسمى الشرف من حدود بلاده، وقد أضافهم وقال: إنه يريد يمضي بيته لبعض حوائجه، ويعود إليهم أو كما قال، فلم يعد وأخلفهم، وعاد إلى غدره المعهود وما تعوده من نقض العهود ومخالفة المعبود، فلما أيسوا منه بعد الإقامة في موضعهم كتبوا إلى ولدي الإمام عليه السلام إلى البيضاء، فعاد جوابهما بانتظاره، وإن شق بهم المقام وكتبا إليه فبعد عن العود وعاوداه مرة أخرى، وهو كذلك، فكتبوا إلى الإمام فأرسل إليه من يضمن له بحسن الخرج والعفو فازداد تعدياً حتى أنه قطع الجواب عن الرسل فأمر الإمام بالكف عنه، وإغفال ذكره، لئلا يحدث ما يشغل عن
المقصد الأهم، والمخرج المقدم.
وأما إبنا الإمام اللذان في البيضاء، فلما عرفا عدم وفائه خافا أن يحدث شيئاً في الطرقات، فأخرجوا محطة إلى دثينة نحواً من ثلاثمائة، ثم أخرى إلى موضع يسمى دروه، وثالثة إلى موضع يسمى الشرف لحفظ الطرقات، فكانوا هنالك، وهو في ظلاله القديم مستوحشاً، ويغزوا من استأمن من أصحابه، ويتناول من الطرقات ما قدر عليه من الفساد. ولما فتح الله سبحانه وتعالى بالاستيلاء على بلاد صاحب حضرموت تقدم أولاد الإمام عليه السلام من البيضاء إلى أعلى نقيل دثينة وذلك غرة شهر رمضان الكريم فكانوا في موضع مرتفع يطل على الشفى وهي بلاد واسعة كثيرة الجبال والشجر، وهي أكثر من مسير يومين، فأمروا العسكر على من قرب منهم أن ينتهبوا ما وجدوا من أنعامهم ومساكنهم، وذلك بعد صلاة العصر فاستفاضوا على مواضع من مساكنهم فكانوا فيها إلى الصبح، وهي ثاني شهر رمضان فأرسل أولاد الإمام في أثرهم عسكر لإمدادهم فأخذوا غنايم من الأنعام كثرة ومن الأمتعة وأجلوهم عن أكثر بلادهم. وكان قد تفرق من العسكر كثير في مواضع لم يشعر بهم الغزاة ففقد منهم نحو عشرة أنفار، لم يعرف أين ذهبوا لكثرة الأشجار والأوهاط، وقد أمر أولاد الإمام، أهل المرافع بضربها طول الليل ليهتدي الضال من العسكر إلى موضعهم، فكان في ذلك سلامة لكثير من العسكر. ثم عادت المحطة إلى البيضاء بما معهم من الأسلاب والأنعام ووجهوا السيد (الريِّس) المعظم شرف الدين بن مطهر أيده الله بمحطة معظمها من أهل الحيمة زهاء من ثمانمائة نفر من غير من كان في دثينة ولحق بعدهم قوم فكانوا جميعاً ألف
وخمسمائة رجل.
غزاة الهيثمي الأخرى
ولما كان[262/أ] إلى نصف شهر رمضان، وقد أجلى أكثر أهل بلاد الهيثمي، وتفرقوا وكان عدو الله قد لحق بالفضلي، وصار في أسفل بلاده بموضع يسمى [ ] والعيون عليه توجهت عليه جنود الحق فساروا من دثينة بعد صلاة العصر بقية نهارهم وليلهم إلى بعد صلاة الظهر من اليوم الثاني، فوجدوهم آمنين ترد عليهم الضيافات من الفضلي وهم عليها. وقد ضربوا بيوت الشعر، فأغار عليهم أول الخيل نحو عشرة فرسان، وعشرة أنفار، فقتل من أهل الخيل فارس، ووقع في الآخرين صواب، وقد طعنوا فيهم طعناً منكراً، وكان أول من باشر قتالهم وقتل منهم السيد محمد بن علي بن عشيش الحسيني الحوثي، فتكاثروا على العشرة الفرسان فأطلت الرايات المنصورة، فلما رأوها فروا مدبرين، واستولى العسكر المنصور على مواضعهم، واستاقوا من الأنعام ما لا يحصرخ العدد، وكذلك من الآلات والسلاح والأثاث والبيوت الشعر كذلك، ثم استاقوا نسائهم وصغارهم من جملتهم امرأة الهيثمي واخوته وبناته وقتل منهم كثيرون، منهم عم الشيخ الهيثمي المسمى باطهيف، واجتز منهم رؤوس وأسرى وكان السيد شرف الدين- أيده الله – رأى كثرة اشتغال العسكر بما كانوا قد طمعوه من الآلات والأمتعة والأنعام، فصاح في كبار الناس، وترك مافي يده من ذلك، وأمرهم كذلك وحرقه بالنار. ثم جعل على الأنعام والنساء والصبيان قوماً منحصرين يسوقوهم وجمع العسكر وعباهم حذراً أن يتبعهم القوم، فكانوا على ذلك حتى وصلوا دثينة. فلما وصلوا بهم دثينة، لحق أبناء الإمام عليه السلام عواطف الرحمة ولطايف الشفقة فأمروا بالقبض على حريم الهيثمي، وأن
يكونوا في معمور حصن دثينة على صفة الرهائن وأمروا بإطلاق من بقي.
وقد تقدم أن والي حصن دثينة رجل من عيال أسد يسمى الشيخ محمد بن صالح بن عبد الله، وكان أبوه عليها والياً من سنان باشا لا رحمه الله تعالى فاستمروا ولاة على هذا الحصن المذكور، ولهم عوايد من سلاطين المشرق لأمور تمت لهم بها الاستقامة، فلما أن فتحت هذه الأطراف في أيام مولانا عليه السلام صاروا إلى رأيه وأقرهم على ما يعتادونه وزادهم عليه، وقد تقدم شيء من ذلك.
نعم! وكان رهينة الهيثمي وإخوته في حصن ديثنة هذا المذكور، وهو مشرد مطرود وقد عرف الفضلي، وهو حيدرة بن فضل بن أحمد بن حيدرة المذكور آنفاً وكان قد مات لا رحمه الله، وكان ولده حيدرة هذا مكانه.
ولما عرف الفضلي المذكور جنود الحق دخلت بلاده، وأخذوا الهيثمي ومن ذكرناه خاف على نفسه[262/ب] وكاتب ولدي الإمام وعرض وصوله ومثوله، فكان من الجواب عليه أن لا بد من وصول الهيثمي ومن دخل معه في الفساد، وكان منهم الشيخ الخبيث المسمى محمد بن حيدرة قرعة الذي تقدم ذكر إحسان مولانا الإمام إليه وانتصاره له مع غيره.
ولما عاد الجواب وصل الشيخ الهيثمي المسمى صالح إلى السيد شرف الدين، ومن كان عنده من الرؤساء فكتب السيد شرف الدين إلى أولاد الإمام (عليه السلام) يطلب لهم الأمان على نفوسهم، ويستقيم المذكور مكان أخيه، فأجابوه أن لا أمان له إلا بوصول أخيه إلينا، ثم إلى الإمام، وكذلك الفضلي طلب الأمان على نفسه فشرطوا عليه ذلك، فوصل المذكوران إلى البيضاء المحروسة بشرط وصولهما إلى الإمام ويتحكمان لحكمه المقضي وأمره النافذ المرضي. وكان وصولهما مع وصول أهل الشحر فلم يكن الإمام عليه السلام يلتفت إليهم بعطف، ولا خصهم بعرف، لما تكرر من نكثهم وأن الإحسان غير مؤثر فيهم حتى كان من أمرهم ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومن أخبار الهيثمي أنه لما عاد الإمام من شهارة إلى صنعاء المحروسة بالله وصله في ليالي عيد عرفة عام اثنتين وسبعين وألف [1661م] حريم الهيثمي مع بعض أولاده، ومعهم بعض أنعامهم، وكانوا في سوائل جبل نقم، مما يقرب إلى القصر، يشكون هجر الناس لهم، وانقطاعهم وما لقوا من شؤم الهيثمي المذكور، فأمر الإمام إليهم بالضيافة الكافية وأجرى عليهم النفقات كذلك، وأن يكونوا في تلك الشعاب وبيوتهم الشعر.
ولما قدم الإمام عليه السلام إلى محروس الدامغ لحقوا به فكانوا بالقرب من الحصين وأجراهم كذلك على ما كانوا عليه في صنعاء، ووعدهم بإطلاق أبيهم بشرط سكونه في محروس الدامغ وطلب في ذلك الضمناء.
ولما كان في شهر رجب من السنة المذكورة عادوا بلادهم عن أمر الإمام عليه السلام باستدعائهم لذلك، ثم إن الهيثمي المذكور أعمل الحيلة والمكر للهرب من كوكبان المحروسة بالله، وذلك في أول شهر رمضان بأن ترك الرسَّم في العشاء والاشتغال بالإفطار، وقد أعمل في مبرد ساق به الحديد الذي في رجله حتى قطعه وقد أعد جماعة من خدمه يحملونه، وآخرين من خارج الحصن وربما كان ذلك بدسيسة، من بعض أهل الحصن، وشاع ذلك، ففرق الأمير عبد القادر، حماه الله خفاف الرجال إلى كل طريق يتوهمها حتى يقال أنه لم يبق موضع لم يكن فيه أحد من الطلب وكتب إلى الإمام، وإلى مولانا الصفي أحمد بن الحسن حفظه الله فأمر بمثل ذلك، فوجدوه في كهف جبل من الأهجر، انتهى.
وقد ذكرنا تقدم مولانا الصفي، - أيده الله – إلى معمور البيضاء وقد تلقاه السادة[263/أ] الكرام بما يجب من الإجلال والإعظام والتقادم من الخيل النجيبة وكان العيد هنالك كما تقدم.
ولما تمت أعمال العيد واستكمل، - أيده الله – من أراده للمسير معه، تقدم إلى الزهراء، ثم ما بعدها من المنازل إلى رداع، وكان قد تقدم إليها جماعة من فرسان مولانا العزي، - أيده الله – وقد ترجلوا لذهاب خيلهم، ولما حل بهم من الضنى والنصب مما لحق غيرهم، ولكن موت خيلهم كان أكثر من غيرها، لأنها سافرت من المعاليف في اليمن فذهب منها فوق سبعين فرساً كما بلغ، فأعطاهم مولانا محمد وأركب من قدر وأحسن إليهم كثيراً، وقال لابد من رجوعكم إلى الصنو الصفي - أيده الله – ويكون عودكم إن شاء الله تحت ركابه، وفي جملة أصحابه، فعادوا وكانوا معه.
ولما قربوا من رداع أمر مولانا العزي، - أيده الله – بالمضارب أن تضرب، وبالخيام أن تنصب، وبالأسواق أن تقام، والضيافات الواسعة أن تهيء وتقرب وقد أعد من بجانب المحلية، مولانا الصفي أيده الله، ولأولاده الكرام حماهم الله وهم ثلاثة أنفار، مولانا محمد بن أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين ومولانا الحسن بن أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، وعلي بن أحمد بن أمير المؤمنين وكان قد تلف كثير من خيل مولانا الصفي أيده الله، وأصاب الكلل ما بقى من تلك الخيل، ولقد صار هو وأولاده النجباء الكرام في بقية من الخيل عجفة وأحوال من المتاعب قشفة. وهو مع ذلك وضاح الجبين، قليل المشارك في الصبر فإنه أيده الله خلط نفسه بالصغير من أصحابه وكان كأحدهم وحكاية تفصيل ما أثنى عليه هذا الجيش الوسيع، ومن ألم به من أهل المحل الرفيع من الأسوة حتى لقد كان يحمل إلى حجاب جواربه حصه من الدوم ولحوم الإبل، وإذا وجد عندهم أفضل مما عند أصحابه احتمله من بينهم، قال بعض أهل البيع والشراء، إنه قال له يوماً: هل بقى عندك شيء؟ قال: بقية من أضعف الدقيق ما أراها تصلح لكم يا سيدي، فقال: إذا هي أرطب من الحجارة فهاتها أو كما قال: وأقام مع صنوه العزي، أيده الله، ليالي قليلة وكذلك سادتنا الكرام مولانا محمد بن أمير المؤمنين، ومولانا محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين ومن صحبهم ممن تقدم ذكرهم من العيون، وكانوا في مخيم واحد. ثم ساروا وقد اجتمعت المقانب وترادفت الكتايب، حتى أن أولهم في ذمار المحروسة، وآخرهم في رداع المعمورة، وقد قسم السادة أيدهم الله أنفسهم في الطريق لحفظ الرعايا
من معرة الجيش وقد قدموا إليهم أن ليس عليهم إلا إنزال الجنود الذين يتقدمون أو يتأخرون عن الخيام وعهدوا إلى العسكر بذلك وقد صاروا آيسين إلى الجوع والكد فلا يكادون يطمعون[263/ب] في نايل أحد فما اشبه مبيتهم في بعض القرى، بقول القائل:
ما عندنا لطارق إذا غزى ... سوى الحديث والمناخ في الذرى
وقد أرسل الإمام عليه السلام من تلقاهم بما قدر عليه من بيت المال لعلمه بضعف البلاد، وأقاموا في محروس مدينة ذمار يومين.
[قدوم الإمام المتوكل على الله إلى صنعاء]
ذكر تقدم مولانا الإمام إلى محروسة صنعاء، ولما كان السادة في محروس رداع وقد عرف الإمام عليه السلام، ما لحق بالعسكر، من التعب، وإن أكثر الخزائن قد تعطلت، وأن حصن ضوران لا يسعهم إلا بمشقة عليهم وعليه، وربما وعجز كثير عن الوصول إليه، ورأى أن صنعاء المحروسة بالله أحمل وأوسع للنزول لما فيها من العنب، وساير المبيعات، وأن سادتنا الكرام أيدهم الله يكونون بالقرب من بيوتهم الشريفة، ومواضعهم المنيعة، فيحملون كثيراً من أصحابهم ويطمئنون في مواضعهم فسار إلى صنعاء المحروسة بالله يوم السبت في شهر ذي الحجة الحرام سابع عشر منه، ولا عرف أحد مسيره.
مما أخبرني من اطلع على مسيره أنه استصحب في جيبه قبضات من الكعك واستوى على فرسه قبل صلاة الفجر إلى المنشية، وإنه وجد بعض الوافدين عليه في طريق المنشية، فسأله ذلك الوافد هل الإمام في الحصن أم في الحصين؟ فأجابه الإمام: إنك تسير معنا، وأخبرنا بمرادك من الإمام، فما كاد يسير معه إلا بمدارة له، ثم سار معه وهو يحدثه بحاجته من الإمام، فلما صلى الفجر وقد أسفر التفت إلى ذلك الرجل بوجهه الأنور، فكان معه وقضى له حاجاته كلها، ولم يزل حتى وصل قرية خدار، وهناك رجل يفعل القهوة، لأهل السبيل للبيع، وكان قد لحق بالإمام عليه السلام بعض فرسانه ومن خواص خدمه، وقد بادر ذلك المقهوي بجفنة مملؤة عصيدة وسمناً فنزل الإمام وأكل هو ومن حضر معه، قال الراوي، ورأى الإمام عليه السلام سلاطين حضرموت تدق بهم خيلهم ركضاً، وهم السلطان بدر بن عبد الله وأولاده في أفراس من خيلهم فقام على ظهر فرسه وتناول حربته، ووقف لهم حتى سلموا عليه فنزلوا وأكلوا وأطلق الأعنة، وهم حينئذ معه حتى صلى المغرب والعشاء خارج صنعاء، وكل هذه المبادرة بحثيث السير للرفق بالرعية، فإنه لو بات في الطريق للحقهم بعض معرة، فأثرهم على نفسه كما تقدم في مسيره من ثلأ إلى صنعاء ومن صنعاء إلى ضوران. ولما دنا من صنعاء، كما أخبرني بعض الأصحاب مكاتبة أنه قصر عنه[264/أ] أكثر أصحابه للحوق به لفتور خيلهم، وأنه كان أول من دخل باب القصر، وكان بعده من الفرسان السيد الجليل يحيى بن إبراهيم الحمزي من أهل كوكبان، ثم السلطان وولده وبعض إخوته، وتلقاهم مولانا علي بن أمير المؤمنين، أيده الله- في بعض
درج القصر ونزل هنالك. وقد أمر مولانا علي أيده الله أن يغلق باب القصر وأن لا يدخل إلى الإمام عليه السلام، إلا من وصل من أصحابه، والمدينة حينئذ تموج بأهلها فرحاً لما شاع الخبر بوصوله عليه السلام، قال بعض من حضر العشاء أن مولانا علي، أيده الله حصل لهم عشاء كما يقال للضيف المفاجئ في الليل الداجي، وبات الإمام في منزله ذلك، وأنزل من معه منازل كذلك.
ولما أصبح الصباح خرج إلى الإيوان الكبير وقد وصله الناس كل على قواه، وباب القصر لا يدخله إلا الخاصة مع بعض العموم لكثرتهم، فكان ميدان القصر كالرجل الواحد، ثم أمر عليه السلام بأن يفتح الإيوان وأن يدخل العام مع الخاص، واستمر السلام عليه شطراً من النهار حتى لقد حصل معه من كثرة السلام ألم وهو مع ذلك يجيب السائل ويعرف النازل ويأمر بكبار الناس إلى مواضع معدة لهم حتى فرغ وامتدت الضيافات في القصر المأهول. ثم بيوت آل الإمام بيتاً بيتاً، ثم الأصحاب في صنعاء، ثم خرج إلى الجراف والروضة وفي كلها ينتقل من دار إلى أخرى، ثم خرج إلى الغراس وبات فيه، ولم يترك رحماً إلا زاره ولا مقطوعاً إلا وصله، ولا معروفاً يقدر عليه إلا فعله، ولقد بلغه أن امرأة من أرحام سيدنا القاضي العلامة عامر بن محمد الذماري رحمة الله عليه عند القاضي الفاضل علي بن جابر الهبل.
قال الراوي: فسار إلى بيته ليلاً فتلقاه القاضي المذكور، ودخل معه منزله ووصل تلك المرأة بصلة وقال هذا مكافأة لشيخي سيدنا عامر رحمه الله تعالى، ومن ذلك أنه دخل بيت ابن سنان لما كان حي صنوه مولانا الحسين رحمة الله عليه قد تزوج إحداهن فدخل إلى درج بيتهم، ووصلهم بصلة وأعطاهم، وعاد ومع هذا يتفقد المساكين، ويبر بهم ويطلع على كثير من أمورهم، ويكتب أسماء من ضعف منهم ويخصهم بحصة من الضيافات جميعاً.
نعم! وتقدم السادة الكرام بمن في صحبتهم من الجيش اللهام إلاَّ مولانا العزي، أيده الله، فإنه بقى في ذمار لخلو المشرق عن العسكر وقرب الثمرة في اليمن والمشرق. وكان قد تقدم من العسكر أفراد إلى صنعاء لضيق الطريق، فأمروا أيدهم الله، من تقدم إلى باب صنعاء بالرجوع وأن من دخل المدينة[264/ب] عاد وإلا فلا شيء له من العطاء فرجعوا جميعاً، وقد قسموا المحاط في الطريق لأجل التخفيف، (وأن يكون الاجتماع إلى ريمة سنحان ) وما قرب منها من القرى، فاجتمعوا هنالك بما لا يحصره القلم (وقد أخرج مولانا) أحمد بن الحسن، أيده الله، آلات السلطان صاحب حضرموت الفاخرة التي لا يعرفها أهل صنعاء، وأمر أن تكون بحيث يراها الناس منفردة، وسلاطين المشرق معه، ومن وصل معه من حضرموت كذلك والأسرى ممن قطع الطريق، وأخذه الحق بسيفه على التحقيق في الحبال والحديد، وأن الزبارط كانت الإبل تجرها، وكانوا إذا احتاجوا أن يرموا بها للتعشيرة والإبل تجرها، كان لها لولب تجري عليه للإنحراف إلى حيث لا تضر الجمال بدخانها ولا نارها، فكانوا كذلك. وقد أمر الإمام عليه السلام، من كان عنده
من أولاده كعلي بن أمير المؤمنين، ومولانا يحيى بن الحسين بن أمير المؤمنين، ومولانا إسماعيل بن محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، ومولانا القاسم بن أحمد بن أمير المؤمنين وغيرهم من العيون، ومن كان في صنعاء من الجنود يتلقوهم، فتلقوهم إلى نواحي سيان وأمسوا في ريمة.
فأما مولانا أحمد بن الحسن، ومولانا محمد بن أمير المؤمنين، أيدهما الله تعالى، فتقدما إلى الإمام عليه السلام في الليل في نحو خمسة عشر فارساً، قال بعضهم أنه حصل مع الإمام عبرة، وأنه بكى فرحاً وأخذ يقبلهما مرة بعد أخرى.
فأما مولانا الصفي، أيده الله تعالى، فقام للنوم إلى بيته في المدينة فبات فيه وأما مولانا محمد بن أمير المؤمنين، أيده الله، فحدثه والده حتى نام في موضعه فتركه عليه السلام، وزاد عليه من ثيابه وقد رق له كثيراً، وكان سنه يومئذ دون عشرين سنة، وقد قبضه التعب والسهر.
ولما أسفر الصبح طلع مولانا الصفي أيده الله واجتمع عند مولانا الإمام العيون من العلماء وأهل الفضل، وقدم أول العسكر المنصور، وكان أولهم في صنعاء وآخرهم في ريمة بن حميد، وقد أعد لهم الغداء فمن سلم أكل وترك الأكثرون الأكل لما هنالك من الزحام، وقد اجتمع سلاطين المشرق مع سلاطين حضرموت للنظر في رايات الحق وأمرائهم. ولما فرغوا من السلام كانت الضيافات بحالها والعدد لكل أحد ما هو له بحاله، وقد تكلف الإمام عليه السلام وكتب إلى كل من يقدر على المدد والقرض والاستقراض، وكان يحضر العدد بنفسه الكريمة من الصبح[265/أ] إلى العشاء قال بعض كبار الجند: ما رأيت ولا سمعت من ذلك العدد وأنه (عليه السلام) جعل بين يديه ذهباً أحمر، وقروشاً كاملة وأنصافاً بحيث أنه لا يراها إلا من قرب منه فإذا رأى من كبار الجند، وأهل العناء والتعب والحاجة رمى له بشيء من القروش والذهب الأحمر ابتداءً من غير حقه المعلوم، وكل من أخذ رزقه فلا يحتاج فسحاً إلى بيته إنما هو أمير نفسه فتخففت المدينة واطمأنت وكانت الأسعار فيها قبل وصول الإمام مرتفعة بلغ القدح البر حرفين ونصف ونحواً من عشرين درهماً، والذرة نحواً من سبعين كبيراً تأتي أربعة عشر درهماً فعادت الأسعار إلى نقص الربع، وأقل وأكثر والحمد لله رب العالمين.
ومما قيل في هذه الغزوة من الأشعار…………….. [265/ب]……… .
[تنظيم أمور صنعاء]
[266/أ] ذكر مقام الإمام في صنعاء، فإنه أقام بقية شهر الحجة ومحرم وصفر وربيع الأول وربيع الثاني، وجمادى الأولى، وفي مقامه تفقد قانون المدينة، وغير أموراً أنكرها ودقق في معرفة المنكرات حتى لا يكاد يخفي عليه شيء، فأقام الحدود والتعزيرات وهدم منازل، واستقصى في الواجبات، وأن بعض أهل صنعاء فقد أبنة سداسية أو سباعية، فوصل إلى الإمام، وشكى له فأمر بتقسيم المدينة وجعل على كل قسم ثقة من أهلها، وأمرهم بإذكاء العيون، والتجسس – بالجاء المهملة- فوجدت تلك البنيَّة في بعض بساتين الجوامع، وهي بحالها ميتة عليها كسوتها فعرف الإمام أن ذلك من فعل العجم، وأنهم يريدون إخفائها ثم بيعها على أنها مملوكة. ولما عرفوا أنه ستظهر وتخبر بصفاتهم أن لم تعرف أسمائهم، فأهلكوها بذلك والله أعلم، وقد تحنن مولانا الإمام عليه السلام على الضعفاء من أهل صنعاء وخصهم بالصلات والصدقات، وكان قد عاودهم مع هذه الشديدة بطعامات واسعة حملها إليهم من الجهات المساعدة، ووكل تقسيمها إلى العيون من فضلاء المدينة، وزادهم مع القرب كساء ودارهم مع القوت أيضاً والشدة بحالها، وارتفاع الأسعار وهو ينشد الحال:
تزيدنا شدة الأيام طيب ثناء ... كأننا المسك بين الفهر والحجر
[وصول وفد من الهند إلى الإمام]
ذكر وصول السيد المعظم الصالح المكرم، محمد بن إبراهيم بن أمير نعمان من الهند من عند ملكها السلطان محمد أورنك زيب بن السلطان شاه جهان، كان هذا السيد تعلق بولد السلطان المسمى محمد المذكور، وكان هذا السلطان أنجب إخوته وأقربهم إلى العدل، ولما مات والده السلطان[266/ب] شاه جهان نازعه أخوته، وأخذوا أكثر المملكة، وخرج هذا السيد محمد لعله في عام ستة وستين وألف [1655م] إلى مكة المشرفة، وعاد إلى الإمام عليه السلام في سنة ثمان وستين وألف [1657م] وأقام عنده أياماً، وعرف الإمام أنه من أهل العلم ومن أهل المكانة فقربه إليه وأكثر الإحسان عليه ونزله أعلى منزل.
[رسالة من الإمام المتوكل على الله إسماعيل إلى سلطان الهند]
أخبرني السيد عبد العزيز بن محمد الهادي المدني، أنه سار مع هذا الشريف من المدينة المشرفة إلى مكة المحروسة، قال: فلم أر مثل هذا السيد في حسن السمت وجماع الصلاح وملازمة الأوراد الصالحة، وحدث عنه بكثير مما يدل على علو الهمة ومكارم الأخلاق، ثم أنه استأذن الإمام عليه السلام في العود إلى ديار الهند وقد أعطاه الإمام هدايا وإحساناً كثيراً، وكتب معه بما هذا نسخته.
بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} وبعد، فإن كتابنا هذا المتبدأ باسم الله وحمده، المثنى بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله شهادة عبده وابن عبده، المثلث بالصلاة والسلام على محمد وآل محمد كما نزل بذلك الوحي من عنده، إلى السلطان الذي شهدت له ألسنة الخلق التي هي أقلام الحق، بما يشهد إن شاء الله بصدق الطوية، وخلوص القصد في القول والعمل والاعتقاد والنية، اللابس من التقوى أبهى الملابس، الراغب فيما يقرب إلى الله عز وجل وفي ذلك فليتنافس المتنفافس، محمد أورنك زيب بن السلطان شاه جهان، أنمى الله له المحامد، وأعذب له في طاعته وما يقرب إليه الموارد، وأهدى إليه من تحياته أشرفها ومن بركاته أزلفها، ومن سلامه أعلاه سناءً، وأبهاه ضياءً، حين بلغنا عنه كرام الصفات، كما أخرج الترمذي وقال حسن غريب، والبيهقي في الشعب والحاكم، وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه من قوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) كما رواه بن عباس رضي الله عنهما: ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)) [267/أ]ولا سيما حين اتصل بنا السيد النجيب الكريم الحسيب، واسطة عقد السيادة، ودرة تاج الشرف والمجادة، محمد إبراهيم بن أمير نعمان
الحسيني، أسعده الله ورعاه، وأحسن إليه وتولاه، فإنه نشر عليكم من الثناء الحسن مطارف، وأثر عنكم من كل خصلة شريفة عوارف معارف فكتبنا إلى السلطان الكريم كتابنا هذا الحمد لله له على ما أولاه، ونستزيده له مما أعطاه، ونعلمه بما عقد له ذلك عندنا مما يجب للمسلم على المسلم وللمؤمن على المؤمن من المواخاة والولاية التي عقدها الله بين عباده المؤمنين من أهل السماء والأرض فقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} كلمة جعلها الله عز وجل جامعة، ووسيلة هدى إليها بفضله ورحمته نافعة، يتواصلون بها ويتحابون عليها، ويجتمعون إليها إما بأبدانهم، وعبادتهم مع الإمكان، أو برسلهم ومكاتبتهم أن بعد المكان، إذ جعل عز وجل القلم أحد اللسانين وتميز بأنه أحد البيانين، فقال عز وجل: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وقال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} يصدق إن شاء الله بيننا وبينه عباده
الذين أمنوا وعملوا الصالحات في قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } إذ عمنا هذا المقام الذي لم يزل القايم فيه من أبائنا عليهم السلام ولا يزال من زمن أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة إلى آخر الزمان كما ورد بذلك الوعد النبوي الصادق الأمثال، ولم يزل من العلماء العاملين، وحاملي أمانة الشريعة المطهرة بما أمر الله به أن يوصل من ذلك واصلين، كالإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه بأخذه العلم عن مشاهير أهل البيت النبوي كزيد بن علي وأخيه الباقر وابنه الصادق، وابن عمهم الكامل عبد الله بن الحسن وأبيه الرضي الحسن المثنى بن الحسن وغيرهم. ثم ما اشتهر عنه من مناصحة إمامنا زيد بن علي ومؤازرته بالرأي السديد والمعونة الظاهرة ومبايعته له في أيام شبيبته[267/ب] وقوله لرسوله إليه: أقريه مني السلام، وقل له أما الخروج فلست أقوى عليه، ولكن عندي معونة وقوة على جهاد عدوك كل ذلك من التابع والمتبوع أداء لحقٍ، وتعظيم لرسول الله، وتصديق لقوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فيما رواه زيد بن أرقم رضي الله عنه: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)) أخرجه الترمذي في جامعه وقال: حسن غريب، وأخرج معناه إمام المحدثين أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده والطبراني في الأوسط، وأبو يعلى
وغيرهما وأخرجه أبو محمد عبد العزيز بن الأخضر في معالم العترة النبوية، ومنه أن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) قال ذلك في حجة الوداع وزاد مثله، يعني: كتاب الله كسفينة نوح عليه السلام، من ركبها نجا ومثلهم أي أهل البيت كمثل باب حطة من دخله غفر له الذنوب، وفي صحيح مسلم وغيره عن زيد بن أرقم قال: ((قام فينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما يدعى خماً بين مكة، والمدينة فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال أما بعد: فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين أولها كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) أخرجه مسلم في صحيحه من طرق، وأخرجه الحاكم في (المستدرك) من ثلاث طرق، وقال في كل منهما أنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه وفي بعض الألفاظ اختلاف والمعنى واحد مع زيادة فوائد، ولفظ الثالثة أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، وأخرج نحو ذلك الطبراني، وزاد فيه عقيب قوله: وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض سألت ربي ذلك لهما فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، وللحافظ جمال الدين محمد بن يوسف الزرندي المدني في (درر السمطين) بمعنى ذلك، فاختلاف في الألفاظ ومزيد فوائد، قال الحافظ السمهودي وغيره: وفي الباب زيادة على عشرين من الصحابة رضوان الله عليهم، منهم جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كما في
الترمذي[268/أ] وقال حسن غريب وابن عقدة في (الموالاة) ومنهم حذيفة بن أسيد الغفاري أو زيد بن أرقم – الشك من الراوي- كما أخرجه الطبراني في الكبير، والضيَّان من طرق سلمة بن كهيل عن أبي الطفيل، وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) من حديث زيد بن الحسن الأنماطي، وقد ظمنه الترمذي وأخرج ابن عقدة في المعنى حديثاً طويلاً عن أبي الطفيل عن سبعة عشر رجلاً من الصحابة رضي الله عنهم منهم خزيمة بن ثابت وسهل بن سعد وعدي بن حاتم وعقبة بن عامر وأبو أيوب الأنصاري، وأبو سعيد الخدري وأبو شريح الخزاعي وأبو قدامة الأنصاري وأبو ليلى وأبو الهيثم بن التيهان، رجال من قريش رضي الله عنهم، وأخرج إمام الحديث أحمد بن حنبل في مسنده وعبد بن حميد سنداً جيداً (إني تارك فيكم) وأخرجه الطبراني في الكبير برجال ثقات، ولفظه: ((إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله عز وجل، وأهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض )) وللحديث طرق كثيرة كما هو معروف عند أهل هذا الشأن ولا يصدق التمسك إلا بالاتباع والاقتداء والإئتمام والإعتزاء يوضحه ما أخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد، ولم يخرجاه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتهما قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس)) وعن أبي ذر رضي الله عنه سمعت رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) يقول: ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ومثل حطة لبني إسرائيل)) أخرجه الحاكم
من وجهين هذا اللفظ أحدهما ولفظ الآخر ألا أن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح وذكره دون قوله ومثل حطة إلى آخره وكذا هو عند أبي يعلى في مسنده وأخرجه الطبراني في الصغير والأوسط، ورواه في الأوسط أيضاً من طريق الحسن بن عمرو الفقمي، وأبو نعيم عن أبي إسحاق ومن طريق سماك بن حرب عن حبش، وأخرجه أبو يعلى أيضاً من حديث أبي الطفيل عن أبي ذر رضي الله عنه بلفظ أن مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة، وأخرج البزار من طريق سعيد بن المسيب عن أبي ذر نحوه، وكذا أخرجه الفقيه أبو الحسن بن المغازلي وزاد ((من قاتلنا آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال))، وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية والبزار، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال قال رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق))[268/ب]وللحديث طرق أخرى، ولأن القايم بالأمر من أهل البيت (عليهم السلام) في محل الإجماع، والمقام الذي لا يلم به نزاع، إذ من قال: يُقتدى في الدين ويستخلف على المسلمين من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر من أي الناس يعلم أنهم من خيار الناس ومن قال بمنصب قريش يعلم أنهم من خيار قريش، ومن قال بمنصب بني هاشم يعلم أنهم من خيار بني هاشم ولهم خصوصية ولادة رسول الله بواسطة ابن عمه لأبيه وأمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ووساطة بضعته فاطمة الزهراء، وإجماع المسلمين أن ولد فاطمة رضي الله عنها ذرية رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وعقبه، وأن شانئه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) هو الأبتر، وأن عقبه (صلى الله عليه
وعلى آله وسلم) وهو الباقي كما فسر به أكابر المفسرين إنا أعطيناك الكوثر، وروى أكابر المحدثين ((كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما )) ولكم أيها السلاطين خاصة من أبائكم وسلفكم من ولايته ومن ولايتكم لنا أهل البيت مشهورة، وعلى جبهات الدهر في كتب الأخبار مسطورة، فلم ترثوا ذلك عن كلالة ولا تلقيتموه إلا عن عرفه عريقة وأصالة فالحمد لله على ما خصنا به منكم، وخصكم به منا وإياه نسأل أن يجعل تواصلنا وتواصلكم وتراسلنا وتراسلكم وتحاببنا وتحاببكم على ما يحبه منا ويرضى به عنا، وأن يجعل ما نأتي ونذر وما نقول وما نفعل، وما نقدم وما نؤخر عن بصيرة في الدين وصحة من اليقين، وأن يكون تصرفنا وتصرفكم من الوجه الذي شرع والطريق الذي هدى إليه، والمنهج الذي له عز وجل فيه الرضى، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآل محمد وسلم، بتاريخ شوال عام ثمان وستين وألف [يوليو 1657م] ثم كتاب آخر وأصحبه شيئاً من الهدية، وهي جُمل نَفيِسة من الخيل المحلية، والتحف الثمينة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة بعضهم أولياء بعض عقد بذلك محبته، والإجماع على طاعته بين أهل السماء والأرض يتواصلون على ذلك وإن بعدت الديار، ويتحابون عليه وإن تناءت الأقطار، الإيمان بينهم كلمة جامعة، والتقوى لهم وسيلة نافعة، شهد بذلك قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ، [269/أ]وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله شهادة بالحق المبين صادعة ولوتين الباطل قاطعة، وأصلي وأسلم على محمد الذي أرسله بشيراً ونذيراً، وعلى أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
وبعد: فإنه لما بلغنا عن السلطان الكريم الماجد الفخيم، ذي الخلايق الشريفة والطرايق المنيفة، والنفس الطيبة العفيفة، محمد أورنك زيب بن السلطان شاه جهان أحمد الله ذكره، ورفع بطاعته قدره، وأهدى إليه شرايف التسليم وزلايف البركات والتكريم، ورحمة الله الضامنة للخير العميم، ما يشرح الصدور ويقر العيون، ويصدق الظنون، من أخلاق التقوى ومحاسن الشيم، ومحامد الأوصاف، ولا سيما ما نشره السيد النجيب الكريم، الحسيب محمد بن إبراهيم بن أمير نعمان، أسعده الله، ووفقه وسدد من مطارف الثناء، ومآثر الخير التي بها لسامعها ومسمعها الهناء وصدق حب الله وحب رسوله وحب أهل بيته والتمسك بالمودة في القربى، والتمسك بمعالم الشريعة المطهرة التي هي ذخيرة العقبى، ملأنا ذلك سروراً، فابتهجنا له حبوراً، وحمدنا الله لكم على ما منحكم من ذلك سراً وجهراً، وسألناه أن يقر لكم به عيناً، ويشرح به صدراً، ورأينا أداء حق المواصلة على الإيمان، والمراسلة على التواصي بتقوى الرحمن، إذ ذلك أفضل صلة المؤمن لأخيه، وأنفع ما يكون له توخيه، والآية الكريمة المبشرة برحمة الله الرحيمة، قول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} سائلين الله بعد إعادة حمده وشكره والثناء عليه، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أن يصلي ويسلم على محمد وآل محمد ويجعلنا وإياكم ممن حصلت له هذه الصفة، وعرف نعمة الله عليه بها حق المعرفة، وممن يتواصل على ذلك ابتغاء مرضات ربه، وطلب الانتظام في أهل طاعته وحبه أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
وكتب الإمام مع السيد المذكور، دعوة ثالثة، وذيلها بولاية التمسها[269/ب] السيد المذكور للسلطان المذكور، وقال ما معناه، أحمل هذه الولاية معي فإن أخذ السلطان كما أعهد من قربه إلى الله سبحانه ومحبته لآل رسول الله أظهرتها عليه، وإن والعياذ بالله كتمتها أو كما قال فعاد الجواب بما يسر، وهو هذا الكتاب المتضمن الدعوة إلى الله كما يفعله أئمة الهدى صلوات الله عليهم، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد حمداً لله دايماً أبداً، وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً فرداً صمداً، وأن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى، والصلاة والسلام عليه وعلى آله كما أمر ربنا بذلك وهدى، فإنا آل محمد رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) خلفنا يعقب سلفنا ندعو جميع عباد الله إلى دعوة جدنا رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) بما لقنه الله عز وجل في قوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وبما أدبه في قوله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ندعو إلى ما دعا إليه، ودعت إليه الرسل من قبله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وإلى ما جاءوا به من توحيد الله وتعديله، وتصديقه في جميع قيله وتنزيهه عن مشابهة عبيده وعن الجور عليهم والظلم لهم، وإلى صدق وعده ووعيده، وإلى تدبر كتاب الله وآياته والوقوف عند بيناته ودلالاته ورد متشابهاته إلى محكماته وإلى ما ثبت عن رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) في أقواله وأفعاله وتقريراته وإلى قبول نصيحة الله عز وجل في المودة لمن أمر بمودته والثقة بمن شهد بطهارته والتمسك بمن أمن على لسان رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) من الضلال من تمسك به في قوله عز وجل فيما أنزل من النور: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ، ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى
وَمَنْ يَقْتَرِفْ[270/أ] حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ} وقوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وقول رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) في مشهور حديث الثقلين اللذين يتمسك بهما ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما وتقديمهم كما قدمهم الله وتعظيمهم كما عظمهم الله)) إذ التمسك لا يعقل مع المخالفة ولا يصح مع عدم المؤالفة، وإلى الاجتماع على ما شمله قول الله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيه كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ، وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ الله مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . فإلهنا واحد ونبينا واحد وكتابنا واحد وديننا واحد {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} نرد المنازع فيه إلى الله وإلى الرسول كما قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه وإلى رسول الله إلى سننه، وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان، وحج البيت الحرام، وتحليل ما أحل الله وتناوله وتحريم ما حرم الله واجتنابه، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا منكر والاستقامة على ما قال عز وجل لرسوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَاصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} وإلى موالاة جميع أولياء الله من المسلمين والمسلمات والمؤمنين[270/ب] والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين كثيراً والذاكرات، ولا سيما من أكرمه الله بصحبة نبيه ومؤازرة رسوله من الذين قال فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيم، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وقال فيهم محمد رسول الله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} .
وقال للفقراء المهاجرين: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وإلى معادات جميع من حاد الله ورسوله، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ، كَتَبَ الله لأََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ، لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فمن أجاب دعوتنا هذه الجامعة غير المفرقة، والمؤلفة غير المشتتة فله مالنا وعليه ما علينا ومن أباها أو نسب إلينا سواها مما برأنا الله منه ونزهنا عنه من الغلو في الدين واتباع غير سبيل المؤمنين فنحن نستشهد الله عليه أكبر الشاهدين[271/أ] ونستحكمه فهو خير الحاكمين، ونجيب دعاء الله لنا ونلبي نداه إيانا، إذ يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} وهذه نسخة الولاية.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد حمداً لله الذي جعل الإمامة خلافة للرسالة في الإرشاد إلى الله والدعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وسياسة العباد والإنالة، وجعلها في أهل بيت رسوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) بما خصهم به من التطهير، وفرض لهم من المودة على الصغير والكبير، وأمر نبيه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أن يعلن بذكرهم وأنهم قرناء الكتاب، في موقف ((إني تارك فيكم)) الشهير، وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اللطيف الخبير، وأن محمداً عبده ورسوله الشاهد البشير النذير. فإن من تمام نعمة الله على أهل تقواه، وكمال فضله على من أطاعه وتولاه، ما جعل لهم من السبيل إلى الدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أمر الله في قوله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} والاتصاف بصفة من ارتضاه وهداه إلى قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ الله مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .
ولما كان السلطان السعيد الميمون الحميد محمود الأخلاق والصفات مبرور المساعي والتصرفات، محمد أورنك زيب بن السلطان شاه جهان، ممن حظي من أسباب ذلك بحظ عظيم ويسر له ما هنالك السبيل وفتح الباب الكريم حتى لم يبق ما يستند إليه ويعول عليه الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والحافظ لحدود الله من أن يكون ما يأتي وما يذر، وما يقول وما يفعل، وما يأخذ وما يعطي عن[271/ب] ولاية صحيحة، ممن جعلها الله إليه، ودل بالصفات والدلائل عليه من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) الذين شهد الله لهم في كتابه بإذهاب الرجس والتطهير، ووجوب المودة التي أسس ذكرها على قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ، ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ} وكان من نعم الله عليه وعلينا، ومننه الواصلة إليه وإلينا صدق موالاته لنا، واتباعه لما أمر الله به من سبيلنا بمقتضى الدليل السابق، والإرشاد الصادق، استخرنا الله عز وجل وجعلنا له ولاية صحيحة شاملة كاملة، يصدر عنها إن شاء الله ويورد، ويحل ويعقد في الدعاء إلى الله والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بلا منكر، وإقامة الجمعات والجماعات وتشيد مباني القرب والطاعات، ونصب حكام الشريعة
المطهرة لفصل الخصومات، وتفقد ما يجب تفقده من نصح المسلمين ومرافقهم وضعفائهم ويتاماهم ومساجدهم ومناهلهم وسبلهم، وقبض الحقوق المالية من أهلها، وصرفها في محلها وإقامة الحدود على مرتكبيها بما شرعه الله عز وجل منها، وجهاد من أمر الله بجهاده بعد إبلاء المعذرة وإعلان التذكرة، والسعي بجهده في الإصلاح، والعناية فيما به إن شاء الله الرشاد والفلاح موصين له بين يدي ذلك بما نوصي به أنفسنا من تقوى الله وإيثار رضاه، وإرادة وجهه، والرغبة فيما عنده، وإخلاص الدين والنية له، والاستعانة به تبارك وتعالى سراً وجهراً، فيما كلفه وحمله، وأن يزداد من شكر الله عز وجل على ما خصه به وأهله، أن يكون في جميع أقواله وأفعاله، ونياته وتصرفاته، ناهجاً كتاب الله وسنة رسول الله وسبيل من أناب إلى الله كما قال الله عز وجل: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وقال: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } وأن يشعر نفسه أن القايم بهذه الفريضة على وجهها والموقف لها على حدودها متوظف بوظائف الأنبياء متعرض للدرجات العالية في الآخرة والأولى، ونحن ندعو الله بأفضل الوسائل، ونسأله مجيب السائل، بعد إعادة حمده والثناء عليه، وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله أن يصلي ويسلم على محمد وآل محمد، ويأخذ إلى الخير بناصيته ويثبت على الحق لسانه[272/أ] وقلبه، وينور باليقين والهدى والرشد لبَّه، ويجعل سعينا وسعيه مشكوراً وعملنا
وعمله صالحاً مبروراً، وأن يجتبينا ويمتنا على ملته ملة الإسلام ودينه الذي ارتضاه لخير الأنام: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
انتهت الولاية والحمد لله رب العالمين، نعم! ووصل هذا السيد محمد إبراهيم في عام سبعين وألف إلى الإمام، كما سيأتي إن شاء الله بعض صفة وصوله وأصحبه السلطان هذا المكتوب إلى الإمام.
بسم الله الرحمن الرحيم، أفضل المحامد وأعلاها وأجل المدايح وأسناها، لمن طلع من مشارق حكمته شموس الخلافة الباهرة، وسطع من مطالع قدرته نجوم السلطنة القاهرة، هو الذي عم الخلايق بامتنانه وأفاض عليهم من شآبيب إحسانه، وأتقن نظام الدولة بسلطانه، وشيد أساس السلطنة ببرهانه، لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى والآلاء والكبرياء، وبيده ملكوت الأشياء لا يسئل عما يفعل ويشاء، وأكمل الصلوات وأكرم التحيات على رسوله وحبيبه أشرف الكونين، وسيد الثقلين، ونبي الفريقين وإمام القبلتين وشفيع الخافقين، الذي بعثه بالسيف القاطع، والبرهان الساطع، وقطع به غوايل الشرك والغواية، وسطع منه دلائل الرشد والهداية:
نبينا الآمر الناهي فلا أحد .... أبر في قول لا منه ولا نعم
فاق النبيين في خلق وفي خلق .... ولم يدانوه في علم ولا كرم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته .... لكل هول من الأهوال مقتحم
صلى الله عليه وعلى آله الأصفياء، وصحابته البررة الأتقياء صلاة زاكية دايمة ما دامت الأرض والسماء.
وبعد فالمنهي إلى الإمام المجيد، والهمام النجيد قدوة السادات والشرفاء، أسوة الأشراف والنقباء، سلالة الذرية الطاهرة، غلالة العترة الزاهرة، السيد السند الجليل والماجد القرم النبيل، أورع الولاة وأكرمهم، وأبرع الصناديد وأفضلهم، حاوي أسنحة الفضائل وغواربها، المشهور في مشارق الأرض ومغاربها، السيد الشريف الأوحد، والغطريف الأمجد، الإمام إسماعيل بن القاسم بن محمد، أدام الله عزه ومجده، وأنجح سعيه وأسعده جده، إنه قد وصل كتابكم المرسل مع السيد النجيب والشريف[272/ب] الحسيب محمد إبراهيم بن أمير نعمان إلى تلقا الخاقان الأعظم والقاآن الأعدل الأفخم الملك المنصور المظفر، والسلطان المؤيد الأكبر، مروج قوانين الشريعة الغراء، مشيد قواعد الملة الحنفية البيضاء، ماحي مراسيم الظلم والاعتساف، محي مآثر العدل والإنصاف، حافظ بلاد الله، ناصر عباد الله. الخالص طويته في إعلاء كلمة الله، الصادق نيته في إحياء سنة رسول الله افتخار السلاطين، واستظهار الخواقين، قهرمان الماء والطين، حجة الله وخليفته في الأرضين مظهر تجليات الجلال والجمال، مُطَهِّر شونات العز والدولة، والإقبال المنفرد بعلو الشأن المتوحد بالجود والإحسان، محمد أورنك زيب بن السلطان شاه جهان، ولاح من مطاويه لوايح صدرت المودة والإخلاص، وفاح من فحاويه فوايح حسن الإنجاد والاختصاص، فتلقى على الوجه المأمول وصادق بالشرف المقبول، وصدر الأمر الأشرف الأعلى لا زال نافذاً بالعون الرباني، بأن يرقم العبد الموسوم لسبق الخدمة، وقدم العبودية كتاباً، مشعراً بشمول الموالاة الجليلة الخاقانية مخبراً
عن وفور المواساة الجزيلة السلطانية مشتملاً على شرح بعض ما أنعم الله على تلك الحضرة الرفيعة، من إعطاء الملك والدولة، منطوياً على ذكر نبذ مما جعله سبباً لاختصاص تلك العقوة المنيعة، بإيتاء الخلافة والسلطنة لتشاهد حسن صنعه، وإنجاز وعده، لمن يعتصم به ويلتجئ إليه، ويعاين بذل لطفه وإعداد نصره لمن يتمسك به ويتوكل عليه، فبادر المملوك إلى امتثال الخطاب، وأخذ في تحرير ذلك الكتاب، وتقرير القضايا على وجه الصواب، والتوفيق من الله الملك الوهاب، لما كان من سنة الله التي قد حلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً، تصريف الأمور وتقليب الأحوال، وتداول الأيام وتبادل الأشكال، ونقل الأملاك من وال إلى وال. عرض للخاقان المعظم، والسلطان المكرم، رافع لواء الخلافة مزين سرير السلطنة، مقنن قوانين المكرمة، مؤسس أساس المعجزة ناصب رايات الأمن والأمان، راسم آيات الجود والإحسان شاه جهان في شهر ذي الحجة من شهر سنة سبع وستين وألف [1659م] من الهجرة النبوية مرض شديد تحيرت الحكماء في تنضيره، وعجزت الأطباء عن تدبيره، والولد الأسن الذي كان عن الملة الحنيفية داعياً وعن الطريقة القويمة ناكثاً[273/أ] وإلى ترويج نحلة البراهمة مجلاً، وعن مراعاة مراسم الشريعة ذاهلاً، ولانتقال الدولة إليه آملاً، قد ازداد حرصه على بلوغ الأمنية واشتد شرهه على الفوز بالبغية. فأخذ في تمنية الأمراء الكبار، وتأميلهم في السر والجهار واستمالة رؤساء العساكر وزعماء الأجناد وأمالة الخول والاحشام والقواد واستولى على سدة الملك وحضرة السلطنة، واستقل بتنفيذ الأمور، وتدبير المملكة،
وأضمر استئصال ساير الاخوان، واستخلاص الملك لنفسه كيفما كان، وجهز الجيوش والكتائب، ووجههم إلى الأطراف والجوانب. فما رأى الخاقان الأعظم أيده الله ظلال جلاله أن الأمر آل إلى مآله، وأشرفت أركان الشريعة على الاختلال وأقبلت دعايم الدولة على الزوال، توجه من مقامه الرفيع أورنك أباد حرسه الله إلى يوم القياد -بنية صادقة، وعزيمة راسخة وهمة يخضع لها الشم الأطواد، وهمة يلين لها الصم الصلاد، مع رجال يرون الملاحم ولايم، والوقائع بقايع، وسيوف الضراب عرايس، وصفوف الكماة فرايس. متوكلاً على الله الذي هداه بنوره، وقضى له بالعز في مقدوره، بلقا حضرة الخلافة، لتدارك ما اختل، وتلافي ما أنحل واعتل. فلما وافت رايات الإقبال نواحي بلده، حين أقبلت العساكر التي وجهت إليه زعيمها عظيم الكفرة، ومعظمها الكفار والفجرة {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} فقابل أعز الله أنصاره إقبالهم بالاستقبال وحرض الحاضرين على القتال، وركض بقلب جري، وجأش قوي، حتى تدانى الفريقان والتقى الجمعان، واستعرت نار الحرب واستدارت رحا الطعن والضرب، وازدحمت الصفوف واختلطت الأسنة والسيوف، وأحمرت الصفحة من دماء الأبطال، وضاقت العرصة عن أشلاء الرجال، فمن الله عليه بهبوب نسيم الفتح والظفر، وأظهره على من كافحه فتولى وأدبر:
وقد جاء نصر الله والفتح مقبلاً .... إلى الملك المنصور ذي البطش والقهر
غدا راعياً للمسلمين وناصراً .... له الله راع قد تكفل بالنصر
فحمداً لله على هذه النعمة الجليلة والموهبة الجميلة، وجدد العزيمة، وأخلص النية، ونهض بعون الله وحسن توفيقه نحو مستقر الخلافة قاصداً لإعلاء معالم الدين عازماً على إحياء سنة سيد المرسلين، فلما قاربها الولد المذكور[273/ب] في جيوش سحبت الجوانب والأقطار، وعدة راقت للأبصار، وأهبة أعجبت النظار، متطاولاً بعدده ومطاولاً بقوة باعه ويده، وقام إلى الدفاع، وصلى نار الفراع، فاصطفت عند ذلك الخيول، وخفقت الطبول، ورجعت (الفيول)، وتطاردت الفرسان، وتجالد الشجعان، وتحامل بعضهم على بعض فخيلت الأرض سايرة، والسماء مايرة، واشتبكت الحرب وشد ضرامها وشردت الميتة وحل خطامها، واستحر القتل والقتال، وتكسرت النصال على النصال، وتلألأت متون القواضب، تلألأ البرق الغيم جنح الغياهب، وفارت ينابيع الدماء، كما فاضت مجاديح السماء، وتكاثر أولياء الله على الأعداء، وقتل بعون الله أكثر زعماء جيشه وعظماء جنده، ودب الفشل في تضاعيف أحشائه، وسرى الوهن في تفاريق أعضائه، واضطره هول المقام، وفزع الأصطلام على الفرار فولى نفوراً، وكان أمر الله قدراً مقدورا، وآل حاله إلى أنه كر مرة أخرى وكر وأسر فذاق وبال أمره وكان عاقبة أمره خسرا.
ولما أظهر الله الخاقان الأعظم على عدوه وخصمه بهذا الفتح المبين الذي حفظ الله على الشريعة ماءها وعلى السنة ذماها، وعلى الدولة نماها، توجه بصدر منشرح، وأمل منفسح بلقاء مدين الخلافة ودخلها بالسلامة والعافية آمناً غانماً بلا منازع وممانع وابتدأ بتوفيق الله تعالى بإقامة نواميس الشريعة وإحياء قوانين الملة الحنيفية، وعفا عن كل من اجترح سيئة واقترف، وقابله بالصفح وقال عفى الله عما سلف، ونظر في أمور السلطنة والخلافة، فإذا هي مختلة النظام، واهية العظام، زائلة الوسام، فرأى أن لو ضرب عنها صفحاً، وطوى دونها كشحاً، شمل الهرج والمرج، وعم الاضطراب والهيج، فأقبل عليها وتحمل أعباءها، وتكلف عناها، وفتح على الخلائق أبواب العدل والسياسة، وكشف عليه آثار الإمارة والرئاسة، وحملهم على السمع والطاعة، وأذاقهم حلاوة الجود والسماحة، فصارت بفضل الله جل شأنه شوارد الملك منتظمة، وأشتات السلطنة ملتئمة، والطرق والشوارع جارية، والمناهل والمشارع صافية، والرعية في مهاد الأمن راقدة، والبرية لمزارع الأماني حاصدة.
المسئول منه سبحانه أنه كما جلى هذه المملكة عليه، وأهدى عقيلة السلطنة إليه أن يحمله على رضوانه وتقواه، ويبلغه من المقاصد الجليلة ما يأمله ويهواه، هذا وقد أهدى إلى السيد الجليل من جناب[274/أ] الخلافة وحضرة السلطنة إظهاراً لمزيد المودة الجليلة الخاقانية إشعاراً لفرط المحبة الجميلة السلطانية من طرايف هذه البلاد وظرايفها، ونفايس هذه الأقطار ولطايفها، ما يتضح من ورقة على خده نسأل الله الكريم أن يؤيده بنصره ويعلي كلمة الحق بنفاذ حكمه وأمره، والحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين حرر في أوائل شهر ربيع الآخر من شهور سنة سبعين وألف [ديسمبر 1659م] من الهجرة المقدسة النبوية مصادفة للسنة الأولى من الجلوس المبارك بالخاقانية.
ولما توفي السيد المذكور كما سيأتي إن شاء الله وعاد من كان في صحبته من الخواص أصحبهم الإمام عليه السلام، الجواب على السلطان المذكور مع الهدايا النفيسة والتفاريق على أنواعها مع الخيل المحلية، وأصحبهم الجواب المذكور، فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى من عبدالله أمير المؤمنين المتوكل على الله إسماعيل بن أمير المؤمنين القاسم بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد بن الأمير الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن الإمام يوسف الأصغر الملقب بالأشل بن القاسم بن الإمام الداعي إلى الله يوسف الأكبر بن الإمام المنصور بالله يحيى بن الإمام الناصر لدين الله أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق بن الحسين بن الإمام ترجمان الدين القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) حامداً لله الذي بحمده تستدام النعم، وبشكره يستزاد ما هو أهله من الجود والكرم، وبتوحيده وعبادته تفوز الأمم، وبإقامة العدل في عباده كما فرض لعدله وحكمته ويستدفع النقم ويستكشف الغمم ويغلب من أراد وجهه بذلك كل مناو من العرب والعجم، وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله، الذي اصطفاه لمحبته ورسالته وأهله، والصلاة والسلام عليه ما اختلف الجديدان وكورا، وعلى آله الأطهار ما طلع البدران ونورا، وعلى أصحابه الأخيار ما تلي الكتاب والسنة وكررا، على ما أولانا من نعمه التي من جملتها كتاب كريم ورق شريف فخيم من تلقا السلطان الذي شهدت له ألسنة الخلق وهي أقلام الحق بانفراده[274/ب] بخصائص تعظيم هذه الملة البيضاء، وتكريم أحكام هذه الشريعة الغراء حرصه على إعلاء كلمة الله وكلمة الله هي العليا، وغيرته على محارم دين الله وحدوده، أن يهتكها من لا يرقب ملة ولا ذمة، ولا
يتقي عدواً ولا بغياً، الخاقان المعظم، والسلطان المكرم، مجدد دارس المحامد، مشيد مباني ميمون المقاصد مسعود المصادر إن شاء الله فيما يقرب إلى الله عز وجل والموارد، محمد أورنك زيب بن السلطان شاه جهان زاده الله سعداً، وأولاه رفعة ومجداً، وأحيا به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما أماته الظلم والظلمة، وكشف بعلو همته ومضا عزمته سدفات جور الجايرين المدلهمة، وجعلنا وإياه ممن شمله قول الله عز وجل: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} والله يهدي إليه من تحياته أشرفها، ومن كراماته أزلفها، ومن تعظيماته أكملها وأعرفها، يتضمن جواب كتابنا إليه مع حي السيد النجيب الشريف الحسيب محمد إبراهيم بن أمير نعمان، تولاه الله برحمته، وتلقاه بغفرانه وكرامته، يلتقى ذلك المقام الكريم له على الوجه المأمول، ومصادقته بالشرف المقبول وشمول الموالاة الجليلة الخاقانية، ووفر المواساة الجزيلة السلطانية، فحمدنا الله عز وجل له ولنا، وكرر شكره وذكره على ما خوله من نعمة الله بالاجتماع على كلمته وخولنا، وعلى ما ضمنه أدام الله سعده ذلك الكتاب من شرح ما من الله به عليه وعلى يديه من علو كلمة الإسلام على الذي لبس على نفسه الحق بالباطل، وارتاب حين عرض لوالدهما السلطان الكبير والخاقان الخطير، والمحل السامي الشهير، من العارض المقعد والألم المجهد، وما رام ذلك
الملبِّس على نفسه وعلى الناس، من بناء الأمور على غير وثيقة من دين الله ولا أساس، حتى أظفر الله عليه من تمسك بالعروة الوثقى التي ليس لها انفصام وأظهر الله عليه من نصر دين الله فوفاه ما وعده من النصر{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} وانتظم بمن الله أمر من غضب لله ولدينه بانقياد الخاص والعام والقريب والبعيد أي انتظام، وما أثره جدد الله سعده وأدام، من العفو عمن لابس من العامة شيئاً من تلك الاجرام، فاغتر بغرور الخادع له ولنفسه في ارتكاب الآثام، ولمن صبر وغفر إن ذلك[275/أ] لمن عزم الأمور، وذلك شأن ذي الرتب العلية الكرام، وسألنا الله أن يزيده مما أولاه من الفضل العظيم والإنعام، ويتمم سعيه المشكور واجتهاده المبرور في تعظيم شعائر الإسلام، وأن يجعل له من لدنه عوناً كافياً ومرشداً هادياً، وحافظاً وافياً، وحامياً راعياً، حتى يدرك من تقوى الله وطاعته أقصى ما أمل وينال من عمارة معالم دين الله غاية ما انتحاه وعليه عول، وأن يشيد بتوفيقه أزره ويقر بمعونته عينه ويشرح صدره.
هذا وأن السيد الجليل الأمجد النبيل محمد إبراهيم، رحمه الله تعالى لما اتصل بهذه الديار وشارف الوصول إلينا اختاره الله له وما عند الله خير للأبرار، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله أن يحسن للجميع الخلافة، وأن يتلقاه بما هو أهله من الكرامة والرحمة والرأفة، والأمن من المخافة، ويوفقنا جميعاً لتقواه التي هي خير الزاد، وطاعته المجيبة لمن أثرها في المعاد، يوم يقوم الأشهاد، هذا والذي سمحت به تلك المكارم العلية من مسنون الهدية، الشاهدة بصدق الوداد، وخالص الموالاة على أمر الله في القرب والبعاد. وصل إلينا كما اشتملت عليه ورقته التي على حده، وقبلناه اقتداء بالسنة النبوية على شارعها وآله أفضل الصلاة والسلام حفظاً للمودة التي لا يزال عراها إن شاء الله تعالى متأكدة وملابسها للاجتماع على دعوة الله وكلمته وما يقرب إليه متجدده، سائلين الله عز وجل أن يجعلنا وذلك المقام الكريم جميعاً من حقيقة مغزاه ومقصده، وغاية مطلبه وبلاغ جهده، التواصي بالحق والصبر والمرحمة، والتعاون على تشديد عرى الله هذه الملة المحمدية بالحكمة والشريعة النبوية الربانية المعظمة، والأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن الفحشاء والمنكر، وائتلاف القلوب والألسن والأيدي على ذلك، والاستعانة بالله عز وجل على سلوك أهدى المسالك وأن ينمي لنا ولكم ذلك ويزكيه فهو خير مبارك وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، بأفضل الصلوات والتسليم، والحمد لله رب العالمين، حرر في ذي القعدة
الحرام من عام إحدى وسبعين وألف [يوليو 1660م].
وهذه نسخة الولاية وكتب عليها بعضهم فقال: هذه الدرة المكنونة والولاية المباركة الميمونة، التي هي باليمن والصلاح والنجاح والفلاح مقرونة[275/ب]، التي من تمسك بها ظفر باليمن والسعادة، وكان من الذين أحسنوا فلهم الحسنى وزيادة، صاغ عقودها اللؤلؤية، وطرز حبرها العسجدية، إمام الأمة وسراج الظلمة، وسليل الأئمة جوهرة عقدهم، وأمير حلهم وعقدهم، ووارث علوم أئمتهم، كرسي أناسيهم، وأنسي كراسيهم.
من قدمته على السادات همته .... في الفضل تقديم بسم الله في الصحف
وزان أيامه عدل ومعرفة .... فليس عن رتب العليا بمنصرف
من بلغت إليه دعوة إبراهيم (عليه السلام) والوراثة. وحاز الخلق النبوي والفخار المصطفوي والدماثة، والوارث للسنة والكتاب الكريم، والقايم بالدعاء إلى ما دعا الله إليه ودعا إليه الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم، المتلقي راية دينه الخافقة في الخافقين باليمين، الراوي له مسلسلاً عن آبائه الأئمة الأكرمين شعر:
من قولهم مسند عن قول جدهم ... عن جبرائيل عن الباري إذا قالوا
مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين الصادع بالحق المبين، إسماعيل بن أمير المؤمنين المنصور بالله، القاسم بن محمد بن رسول الله، شعر:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى .... نوراً ومن فلق الصباح عمودا
أطال الله مدته: وأدام طلعته، وحمى غرته وخلد دولته، وأنفذ في جميع القطار كلمته، قال (عليه السلام):
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني وجدت أبي أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد، وأخي أمير المؤمنين، المؤيد بالله محمد، وسائر أخوتي وجميع أهل بيت النبي، والعلماء في عصرنا رضوان الله عليهم على دين واحد، وجدوا عليه الإمام الناصر لدين الله الحسن بن علي بن داود، وساير أهل البيت والعلماء في عصره وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين بن شمس الدين وساير أهل البيت والعلماء في عصره وأخذوه منهم، رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام المنصور بالله محمد بن علي السراجي وساير أهل البيت والعلماء في عصره وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام المتوكل على الله المطهر بن محمد بن سليمان والإمام الهادي إلى الحق عز الدين بن الحسن وساير أهل البيت والعلماء في عصرهما وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم وهم وجدوا عليه الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد وساير أهل البيت والعلماء في عصره وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام[276/أ] المؤيد بالله يحيى بن حمزة وساير أهل البيت والعلماء في عصره وأخذوه عنهم، رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى وولده الإمام المهدي لدين الله محمد بن المطهر وساير أهل البيت والعلماء في عصرهما وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام الشهيد المهدي لدين الله أحمد بن الحسين، وساير أهل البيت والعلماء في عصره وأخذوه عنهم، رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام المنصور بالله عبد الله بن
حمزة، وساير أهل البيت والعلماء في عصره وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم وهم وجدوا عليه الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان وساير أهل البيت والعلماء في عصره وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني وصنوه الإمام الناطق بالحق أبا طالب يحيى بن الحسين الهاروني، وخالهما الإمام أبا العباس أحمد بن إبراهيم الحسني، وساير أهل البيت والعلماء في عصرهم وأخذوه عنهم، رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام يحيى بن المرتضى محمد بن الهادي إلى الحق وساير أهل البيت والعلماء في عصرهم وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى وساير أهل البيت والعلماء في عصرهم وأخذوه عنهم، رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين وساير أهل البيت والعلماء في عصره، وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام الحافظ الحسين بن القاسم، وساير أهل البيت والعلماء في عصره وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام ترجمان الدين نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم والإمام أحمد بن عيسى بن زيد وساير أهل البيت والعلماء في عصرهم، وأخذوه عنهم، رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام محمد بن إبراهيم، وأباه إبراهيم الغمر، وساير أهل البيت والعلماء في عصره وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية، وإخوته، والإمام الحسين بن علي الفخي، وإسماعيل الديباج، وساير أهل البيت والعلماء في عصرهم، وأخذوه
عنهم، رضوان الله عليهم وهم وجدوا عليه الإمام[276/ب] يحيى بن زيد وإبراهيم الشبه، وساير أهل البيت والعلماء في عصرهما، وأخذوه عنهم، رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي، وساير إخوته، وأهل البيت والعلماء في عصرهم، وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام علي بن الحسين والإمام الحسن الرضي، وساير أهل البيت والعلماء في عصرهما، وأخذوه عنهم، رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه الإمام الحسن بن على السبط، وأخاه الإمام الحسين بن علي السبط، وساير أهل البيت في عصرهما، وأخذوه عنهم، رضوان الله عليهم، وهم وجدوا عليه أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب، وساير الصحابة الأخيار، إلا في مسألة الإمامة، فإنه قال فيما رواه في (تفسير الديبع) عن البخاري ومسلم أنه كان يرى أن الحق له فيها، وكذلك كانت تعتقد ذلك فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وماتت على ذلك رواه البخاري وكان ساير بني هاشم يعتقدون ذلك ويرونه، ولم يبايع أحد منهم حتى ماتت فاطمة، رواه البخاري أيضاً، وأخذوه عنهم رضوان الله عليهم وهم وجدوا عليه خاتم النبيين، وسيد المرسين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلوات الله وسلامه عليه وأخذوه عنه، فالحمد لله على ما اختصنا به من عظم النعمة، وأولانا من جزيل القسمة، فنحن نقول كما قال يوسف صلوات الله عليه: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} .
فمحمد رسول الله وذريته هم ورثة إبراهيم الذين اصطفاهم، وآله الذين اجتباهم قال تعالى:{إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وهم ورثة الكتاب وأمتن الأسباب، الذين قال الله فيهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} .
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، ذي الملك والملكوت العظيم الجبار ذي العزة والجبروت، الباقي الدايم، الحي الذي لا يموت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمد عبده ورسوله إلى كافة الإنس والجن أجمعين (صلى الله عليه) وعلى آله المطهرين[277/أ] الذين أوجب مودتهم على جميع المكلفين، وضمن لمن تمسك بكتاب الله وبهم أن لا يضل من بعده أبداً حتى يرد الحوض في يوم الدين، وقرنهم بكتابه المبين، وجعلهم كسفينة نوح في العالمين، وآمن بهم من الاختلاف الذي نقمه على المبطلين، فقال عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وقال جل وعلا: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ} وقال رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فيما رواه زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قام رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) يوماً فيناً خطيباً بما يدعي خماً بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر. ثم قال: ((أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم ثقلين ، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه، قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) أخرجه مسلم في صحيحه من طرق والترمذي، وأخرجه الحاكم في المستدرك من ثلاث طرق، وقال في كل منها أنه صحيح
على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأخرجه الطبراني، وزاد فيه عقب قوله: ((وإنما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، سألت ذلك ربي لهما، فلا تتقدموهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)) ولكثرة طرقه سبب تكراره في يوم عرفة في حجة الوداع، وفي يوم الغدير وفي مرض موته (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) اختلفت ألفاظ الرواة، والمعنى واحد، وقال رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فيما رواه أبو ذر رضي الله عنه وهو آخذ بباب الكعبة، فقال: سمعت النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) يقول: ((ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك)) رواه الترمذي وأخرجه الحاكم من وجهين، وأبو يعلى في مسنده، والطبراني في الصغير والأوسط، والبزار وأبو نعيم في الحلية، وابن المغازلي في المناقب أخرجه من طرق مختلفة، وفي بعض الألفاظ اختلاف للتكرار، كما في الحديث الأول، وقال رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس)) أخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعلى أصحابه الأخيار من المهاجرين والأنصار، الذين أكرمهم الله بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [277/ب] تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيماً} وقال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: ((لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصفه )) أخرجه البخاري ومسلم.
وبعد فإنا لما وقفنا على السيرة التي أرسلها إلينا السلطان المعظم والخاقان المكرم محمد أورنك زيب بن السلطان شاه جهان، زاده الله من التقوى ونصر به كلمة الحق وأعلى ورفع به منار الإسلام، وكف تحميد سعيه أكف أهل البغي والآثام وجدنا سيرة تدل على حسن المقاصد، وطريقه تنبي عن طالب للتوقف عند أحكام الشرع في المصادر والموارد. ولما كان تحمل مثل هذا الأعباء بل وما دونها من ساير الأمور والأنباء تحتاج إلى الإذن الشرعي، والمنصب النبوي،
دعاة التوفيق ولله الحمد إلى ما أخبرنا به السيد الجليل الأمجد النبيل، محمد صالح أعلى الله قدره عن حي السيد صارم الدين محمد إبراهيم، رحمه الله، عن عالي حضرتكم، أنكم أمرتموه أن يستدعي لكم منا ولاية شرعية، يكون بها إقدامكم وإحجامكم، والتوقف على مرضات ربكم، وسيرة نبيكم، فحمدنا الله سبحانه، وسألناه أن يوزعنا شكر نعمته، ويوزعكم شكر ما هداكم إليه من الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم أهل بيت نبيه وعترته الذين هم آل محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ودعوة إبراهيم صلى الله عليه وآله عن صدق وداد وتوفيق لعظيم المراد، واستخرنا الله تعالى وجعلنا لكم ولاية عامة في جميع الأقطار، التي تحت وطأتكم، وما يفتحه الله عليكم بعونه بعد ذلك بدعائكم، إلى حسن طاعة الله وطاعتكم وأذنا لكم في جهاد المخالفين ومنابذة الظالمين، وإقامة الحدود على أهلها، وأخذ الحقوق من أربابها سالكين في ذلك المسالك الشرعية، متوخين فيه المقاصد النبوية. وأن تصرفوا الحقوق في وجوهها المعتبرة، ومواضعها المقررة، مفوضين إليكم الاجتهاد بعد
التحري في ذلك والنظر، مسوغين لكم كذلك ما تأتون وما تذرون في (الورد والصدر) سائلين الله تعالى أن يشرح للحق صدوركم ويعلي بتقواه ذكركم، وينفذ بما يطابق كتابه وسنة رسوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) نهيكم وأمركم، وأن يجعلنا[278/أ] جميعاً من وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله:{وَلَيَنصُرَنَّ الله مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور} وبقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى الله لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، حررت هذه الولاية المباركة وقررت وأنفذت في الجهات الهندية وصدرت من محروس شهارة المحمية بالله في شهر ذي القعدة الحرام عام إحدى وسبعين وألف [يوليو 1660م].
وكان هذا السيد عند السلطان بمحل بلغ أنه زوجه، وقد أذل هذا السلطان أخوته وكسر سورتهم، واستبد بالملك واجتمعت عليه الهند فتيَّمن بهذا السيد الجليل، وشكر له مواصلة الإمام عليه السلام، ومال إلى الإمام، ووجهه في أول عام إحدى وسبعين وألف إلى الإمام، ثم إلى بيت الله الحرام، ثم إلى مدينة النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وأصحبه إلى الإمام هدايا نفيسة، منها أموال ناضبة، وتفاريق واسعة وقد بقى في المخاء من ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وألف [يوليو 1660م] وكتب إلى الإمام يخبره بوصوله إليه فأمر الإمام والي المخا بتجهيزه، وحصل له الجمال الكثيرة وحملها إلى تعز العدنية، وعلى صاحب تعز أن يحملها إلى صنعاء المحروسة بالله. وكانت الجمال فوق سبعمائة، مما أخبرني بعض أشراف اليمن الأسفل ممن يسكن رباط المعاين، قال إنه نظر هذا الشريف في مخرجه الأول إلى مكة وهو خامل الذكر، قليل الوفر مجهول القدر، قال: فلما مر علينا بهذه الأثقال والآلات التي لم نرها قبل، ولا سمعنا بمثلها من المضارب المنقوشة والتحف التي تحمل على أكتاف الرجال معلقة في خشب مطلية بالفضة والذهب وعصى غالب مماليكه وأعوانه الذهب والفضة، قال: فتعرفت إليه وعزمني فقلت له: أنت الذي مررت علينا على صفة كذا، قال: نعم خرجنا في الأولى لنعرف اليمن وأهله لننظر حالهم، وفي الأخرى خرجنا إليهم لينظروا حالنا ويعرفونا أو كما قال. ولما انتهى إلى يريم من أعمال الحقل اشتد به وبأصحابه المرض واختلفت عليهم المياه، وكثر عليهم البرد بعد البحر وتهامة فعم[278/ب] أكثر المرض فانقطع في يريم، وولد له ولد
سماه: إسماعيل بن محمد اليريمي، كما كتب بذلك إلى الإمام، ثم ماتت أم الولد، ثم مات الشريف، وكان مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن أيده الله، في ذمار كما تقدم، وقد أرسل إليه إلى يريم بفواكه وألطاف مما يوافق المحمومين.
ولما مات، وكان الإمام قد بلغه مرضه ومرض أصحابه، أرسل إليه بعض الخواص بمثل ذلك، وأن يعينوه في الطريق، وكان عند الإمام، الفقيه العالم المحدث عبد الرحم اللاهوري مقيماً، وقد تعلق بجانب الإمام للحمة العلم وشرف التعلق به، فأرسله أيضاً فانتهوا إلى ذمار المحروسة، وبلغهم وفاة الشريف المذكور، فقدموا إلى وكيله فوجدوا بعض مماليك السلطان من الخصيان قد اجتمع عليه أصحاب الشريف وإلى زوجته، وكانت شريفة من ذوات الكمال، فأمرت أن يجعل زوجها في تابوت ويجصص عليه، وتحتمله معها إلى مكة المشرفة، فلم ير ذلك مولانا محمد، فأمر بأن يوهموها أنهم قد فعلوا ذلك وأن يدفن الشريف في يريم.
ولما وصلت إلى ذمار ماتت أيضاً، فصلى عليها مولانا محمد، أيده الله، ودفنها ووردت كتب الإمام، إلى مولانا محمد بأشخاصهم إليه إلى صنعاء، فاكترى لهم الجمال كما كانوا، وأرسلهم كما أحبوا. ولقد أخبرني من شهد ذلك أنه رآه يباشر من أثقالهم وكثيراً من أمورهم فتلقاهم الإمام بالتعظيم وأفرغ لهم دارين في صنعاء، فكانوا فيها، وأجرى فيهم النفقات الواسعة وقبض منهم ما أعطوه، وأبقى عندهم ما رضوه.
وأخبرني بعض الثقات الخواص أنه حصل في هذا المال يد الخيانة وأنهم بدلوا وخولوا، فأخذوا الناض وعوضوه عن الأمتعة، ولما مات الشريف حولوا الكتب التي من السلطان وزادوا ونقصوا، قال: وعرف الإمام ذلك فستر، وأعطاهم جواب ما وصل إليه، وأمر بعضهم بالرجوع إلى المخا لحمل ما بقى لهم هنالك من الأمتعة والصدقات إلى مكة والمدينة النبوية، وكثر الكلام عند الإمام، في سعة ما أخفوه من المال.
ولما كان في شهر القعدة الحرام من العام المذكور بعد تجهيز الحاج مع ولده السيد البر العالم الصدر الحسن بن أمير المؤمنين، أيده الله، وما عوده على نفسه من الإحسان والصلات والقرب والصدقات إلى الحرمين الشريفين أخذ في تجهيز أهل الهند إليه، وكتب معهم ما تقدم من[279/أ] الجوابات وأصحبهم الهدايا الجليلة، وأعطاهم العطايا الحفيلة، ونفذ منهم من نفذ الحج، وقد تقدم صورة الابتداء والجواب وأضفناهما إلى ما تقدم من المكاتبة الأولى لاجتماع الفائدة والله الموفق والهادي.
[تجهيز الحسن بن الإمام المتوكل على الله إلى الحج] :
رجعنا إلى مسير ولد الإمام، أيده الله، فإن الإمام، جهز على نحو ما تقدم من جهات صنوه عز الإسلام، أيدهما الله تعالى، وأصحبه عيوناً من أهل العلم والرياسة ومكارم الشيم والنفاسة، كالسيد العلامة إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى الجحافي، والسيد الصدر المعظم، محمد بن صلاح بن علي الجحافي، والقاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال، والفقيه الرئيس المجاهد محمد بن علي بن جميل السيراني، وقطعة من العسكر المنصور، فكانوا كما تقدم لهم حامية وظهور وأبهة كاملة من جميع الأمور، وبعد أن جهز الإمام ولده السعيد وأوصاه بما يريد، وكتب إليه بعد ذلك مع البريد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده الذين اصطفى، الولد السيد الأكرم التقي، الأوحد الزكي، قرة أعين المؤمنين سلالة الآباء المكرمين شرف الدنيا والدين، الحسن بن أمير المؤمنين، حفظه الله على أوليائه، وجعله غيظاً لأعدائه وملأ قلبه نوراً وعلماً وإيماناً، وزاده خيراً وإحساناً ورضواناً.
وبعد حمد الله والصلوات والسلام على رسول الله، فإنا استودعناك الله تعالى، وسألناه أن يجعل أعمالك لديه مقبولة مرضية زكية، ولك في جميع الأحوال معيناً حفياً، ويعيذك من الهوى، ويرزقك خير الزاد الذي هو التقوى، فاجعل تقوى الله نصب عينيك، ولا تغفل عن ذكر الله ولا عما يجب من حقوق الله وإقامة الصلوات وإيتاء الصدقات، والمحافظة على الجماعات ومذاكرة العلماء ومساءلتهم واستشارة الفضلاء والعمل برأيهم، وتعظيم ذوي الحقوق وتنزيلهم منازلهم وصلة الأرحام، وتعظيمهم، وإكرام المساكين والشفقة عليهم، وتفقد الجند بما يجمع كلمتهم ويلم شملهم، ويحببك إليهم، والتنبيه على جميع الحجاج بما فيه صلاحهم وتأمينهم، ورد المتشاجرين إلى الشرع، والصبر عند الغيظ وتوسيع الصدر عند المضايق، ولا تترك ذكر الله من التسبيح والتحميد والتكبير والصلاة على النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، وتفقد أهل الخدمة بما يصلحهم ويرغبهم وينشطهم من الإحسان من التهيب الذي لا يكون مفرطاً ولا فيه تفريط، وتقوى الله وذكره رأس كل شيء فمتى تمت منك[279/ب] تقوى الله تعالى صلحت أحوالك، فعليك بحراسة نفسك عن الهوى واعتصم بالله واستعن به فهو حسبك وكفى. فإذا عرض لك عارض من الشيطان فاستعن على دفعه بالاستعاذة وذكر الله تعالى، وترك التفكر في وسواسه واتخذه عدواً فإنه يريد بك إنزال الضرر في الدنيا والآخرة، ولا تطعه في أمر من الشبهات ولا من المكروهات، وكن عبداً لله مطيعاً له، واعتصم بالإيمان وكلمته وبالإسلام وأركانه ولا زلت محفوظاً بالله محروساً من عند الله، وهو البر الرحيم، وأسأل الله
تعالى أن يجيب دعانا لك ولمن معك وفي صحبتك، وجميع الحاج قريبهم وبعيدهم، وصلى الله على سيدنا محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) والحمد لله رب العالمين وسلام على عباده الذين اصطفى، نعم وممن صحبه من أهل بيته الطاهر في هذا السفر الميمون…………. .
فكانوا كذلك، وقضوا حجهم واستكملوا المناسك، واتفق في أيام منى لرجل من بلاد عذر يسمى مسعود بن حاجب، وأخ له يسمى محمد، وهما من عسكر الإمام، وجماعة الفقيه محمد بن علي بن جميل، إنهما عادا من رمي الجمار، وانتهوا إلى محط الأمير المصري وألفافه، وجدا دلالاً يبيع البنادق فشرى أحدهما بندقاً وأنفذ ثمنها فتعلق بهما جماعة من أهل مصر، وقبضوا عليهما وضربوهما ضرباً مثخناً فسال من محمد أخي مسعود دم كثير، فتركه خارج الفسطاط لئلا يرى طاغيتهم ما به وتعتعوا بمسعود فقالوا: هذا أخذ بندقاً بغير ثمن فسأله أميرهم عن ذلك فأجاب أن لا شيء غير أني شريت بندقاً وأنفذت ثمنها، وأخي خارج الباب فيه جنايات مثخنة، قال الحاج المذكور، وقد أملى هذه الواقعة وصححها الفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل وكثير من الحجاج، فترك الأمير المذكور السؤال عن الواقعة، وسأل مسعود المذكور عن بلده ومذهبه، فأجابه بأنه من أهل اليمن زيدي المذهب، فقال الطاغي بسلاح جهله الذي أعطاه علماء السوء، رضي الله عن فلان وفلان وفلان، فقال أنا عامي لا أعرف غير محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وعلي كرم الله وجهه، وأهل البيت (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فقال هذا خارج عن الدين أو كما قال: اضربوا عنقه فأخرجوه وهم متعلقون به إلى باب الفسطاط،
وجردوا السيف لضرب عنقه وأخوه محمد المجروح المذكور[280/أ] في باب الفسطاط وهم أمنون منه لما به من الجراحة، وصاح بأعلى صوته لست قاتله يا برغلي بلغة عذر وطعن أحدهم حتى خر صريعاً، ثم أن مسعود استل جنبيته وطعن الذي كان يريد قتله وتفرق المصريون، ومضيا السوق وهم يصيحون بعدهما، فأدركوا محمداً وطرحوه في الأرض فصاح بأخيه مسعود فعاد وطعن قابضه فقتله وقد أنبسط على أخيه واستخرجه ومضيا، وهما يصطرخان يا أهل اليمن من حاشد وبكيل وبالشريف المعظم زيد بن محسن – حفظه الله-.
ولما قام محمد طعن أحدهم أيضاً، وقد فقد مسعوداً محمداً، فكان في طلبه فأدركته خيلهم ورجلهم، وقبضوا عليه، وأعادوه إلى المصري، بعد أن علوه ضرباً بالحديد وربط بالحبال، ومضى محمد فصاح بأهل اليمن وبالشريف زيد، فسمع ندائه الفقيه الرئيس المجاهد، محمد بن علي بن جميل السيراني فركب إلى الشريف زيد، وأخبره بما كان وإن علينا القتال عن أنفسنا وأصحابنا، فسارع الشريف بأن أرسل تركيا رئيساً للعسكر اليمانية من أصحابه يسمى ذا الفقار، ونحو مائتين من عسكر اليمن أصحاب الشريف ودلهم على الطريق محمد أخو مسعود، فأدركوا مسعوداً على ما تقدم من حالته قريباً من مضرب صاحب مصر، فأخذوه منهم بعد سل السلاح للقتال، وكان ذو الفقار المذكور أشدهم عناية، وتفرق أهل مصر، وقبضوا على مسعود، وتم القول على أن الأمر فيه للشريف ولم يقدر المصري إلا غير الرضى بما كان. ولما وصلوا به إلى الشريف سأله عما كان فأنكر ذلك كله وأمر الشريف باعتقاله وأظهر لأهل مصر أنه قاتله، ولما ذهب المصري إلى غير سلامة الله أطلقه الشريف زيد، وأحسن إليه كثيراً وكذلك صنوه وأعطاهم ذهباً، وقال: أنتما دافعتما عن أنفسكما ولا شيء عليكما، وأمر بمسيرهما إلى الفقيه بدر الدين أبقاه الله، فخلع على صاحب الشريف الواصل بهما كسوة بهية ونقدا كثيراً انتهى.
وفي خلال تجهيز الإمام لرسل السلطان المعظم، والخاقان المكرم، محمد بن شاه جهان صاحب الهند الأكبر خرجت إلى بندر المخاء، عمره الله بالعدل امرأة […..] وهي من بيت السلطنة متجهزة للحج في عام إحدى وسبعين وألف عظيمة الحال كثيرة الأثقال، يقال أن الذي حمل أثقالها من طريق البحر مركبين. وأنها لما أخرجت إلى المخا احتاجت إلى أربعة عشر داراً لأثقالها التي كانت طريقها البر من غير ما في البحر، ونزلت خارج العمران من المخا بأثقال لا يعلم أهل المخا أن فدرأوا مثلها في الكثرة، وأن خدم المضارب وما يتعلق بهما فوق ثلاثمائة[280/ب]. وقال بعضهم سبعمائة، وصحح ذلك الحاج صالح بن علي بن مطر خادم مولانا الإمام عليه السلام، وهو رسوله أيضاً للقيام عليها، وهم من أهل الجلد والقوة والخفة وأنهم كانوا يغمزون لها المضرب العظيم ويجعلون في أوسطه سبية البيت الجامع لمرافق مفصلاً بالأخشاب المطلية بالذهب والفضة والطرازات العجيبة، فإذا عمروها وأقاموها كانت بيتاً كاملاً ويصعد أهل الخدمة على طبقاتهم لحوايجهم وبينهم وبينها درج كدرج البيت الواسعة، ولا يتصل بها أحد من الحشم، وإنما أمرها يتعلق بخدمة وسايط الخدم والخصيان فإذا أرادوا السفر خلوا اللوالب من ذلك المضرب، وحملوها الإبل في جوالق فإذا نزلوا عمروها كذلك كما كانت وقال بعضهم إنها بيتان.
ولهذه المرأة سعة في الإنفاق على الفقراء، وذوي المسكنة فلا يزال الطعام موجوداً في كل وقت، والمنادي فيهم للطلاب، من قبلها كذلك، ثم لا تزال تخرج الصدقات عموماً وخصوصاً من الدراهم والكساء. فلما أرادت الارتحال من المخا من طريق البر، احتاجت أثقالها أكثر من أربعمائة جمل، فأعطت أهل الجمال لكل جمل كرى خمسين قرشاً، وباعوا منها كذلك بخمسين قرشاً، فضج الناس لذلك أهل التجارة إلى جهة مكة المشرفة، وكذلك الحجاج، وعرفوا أنهم مع هذا الحال لا يقدرون على حمل أثقالهم، فشكوا إلى السيد الجليل، رضي الدين زيد بن علي بن إبراهيم الجحافي الوالي على المخاء، فراسل إليها والتزم بإعانتها وأن تترك علاج أهل الجمال إلى نظره، وتم له ذلك، وقد تجاوز كرى الجمل مع وجود هذه المرأة أضعافاً على المعتاد، وكان ذلك حالها إلى مكة المشرفة، وأما أموالها التي كانت في البحر فلقتها إلى القنفذة وجدة. وكان بعض ولاة تهامة أراد أن يأخذ شيئاً من المجبأ المسمى قانوناً لأهل الطرقات فأعطته ما طلب من ذلك فبلغ مولانا الإمام طلابه لها، فغاضبه كثيراً وأرسل على ذلك الوالي من يرتجع منه ما أخذ منها، وأعاده عليها، وعاقبه على ذلك، وقال الحاج عبد الله خدا وردي الملصي، يعني ساكناً في بلد ملص، وهو من أهل الهند، أن بلدها مملكة في الهند تسمى دكن متصلة بمملكة سلطان الهند الأعظم، وكان زوجها السلطان، عادل شاه، وهو ملك البلد المذكور فمات فملكت بعده، وأسرفت في القتل، وتوسع ملكها، وكان لها وزير عليه مدارها[281/أ]، فقتلته فلاذ أولاده بملك الهند الأكبر، فأرسل إليها من يحضرها
لإنصافهم، وهي وأهل مملكتها في رسمهم طاعة ملك الهند، فاختارت الخروج إلى مكة المشرفة كالمغاضبة، ولعجزها عن مقاومته، وفرقت أموالها، وأخذت منه ما قدرت على حمله، قال واسمها [ ] . بنت السلطان قطب شاه.
وأخبرني بعض أصحاب السيد الجليل، زيد بن علي بن إبراهيم، أطال الله بقاه عن مقامها في المخا، وإنها فعلت دعوة حافلة وأمرت أن يحضر السيد زيد مع كبار أصحابه، ومن ورد المخا وأمرت لهم بعطاء كثير من ذلك، وطلبت من السيد أن يضع اسمه على بيان من قبض ذلك من عموم الناس، فقال، أبقاه الله: ما صار إلى أصحابي ومن يتعلق بي فأفعل أو قال فعل، وسايرهم لا يلزم، قال الراوي: فتذممت من ذلك وإعادت إليه أني لم أذهب إلى ما ذهبت إليه، وإنما أنا امرأة محجوبة، فلا أدري ما يفعل أهل خدمتي أو كما قال وأخبروا عنها، وتدبيرها بعجاب انتهى.
وكان في عام خمس وستين وألف [1645م] حج الوزير المسمى قايم بيك من وزراء السلطان المسمى شاه جهان، وكان من القوة والأثقال نحو ما ذكرنا في هذه المرة أو يزيد وكانت طريقه تهامه، وأثقاله في البحر كذلك، وقد كتب إلى الإمام، وبعث بهدايا نفيسة فأمر له الإمام، بما كافأه عما أرسل وزيادة عليه. وأمر الولاة في تهامة بضيافة الوزير المذكور وإعانته ولما انتهى إلى مدينة صبيا، وكان له خدم من الكفار على عادة ملوك العجم ومن رسم الأمراء من أهل صبيا أنه لا يمر بلدهم في هذه الطريق الميمونة كافر بالله ورسوله، فأمر الشريف محمد بن حسين بن أحمد الخواجي، صاحب صبيا – أيده الله – بعودهم أو رجوعهم إلى طريق البحر، فكان ذلك سبب إسلامهم فعظموا وأقيم لهم في صبيا شعار الإسلام، فعجب الوزير لذلك كثيراً وحمد الله، وقال: لو سألناهم ذلك في غير هذا الموضع ما حصل منهم، وإنما كان ذلك لبركة الحج إلى بيت الله الحرام، وسعادة الإمام عليه السلام ومن أجل هذه الأخلاق النبوية والسيرة المحمدية استمرت المكاتبة من صاحب الهند ومال باطنه إلى الحق والحمد لله رب العالمين.
وممن ورد اليمن من الهند، الناخوذة الشهير ذو المال الكثير محمد رضا في عام ثلاث وستين وألف [1643م] مع غيره من كبراء الهند وصعد إلى صنعاء اليمن بأموال وأثقال كثيرة، ووصل إلى الإمام، إلى ظفار المحروس[281/ب]، وعاد بعد أن قضى له حوايج كثيرة، ولأصحابه كذلك، وأقام أيضاً في صنعاء المحروسة ليالي عند مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن، أيده الله، وقد أهدى هدايا نفيسة. ثم تردد بعد ذلك إلى الإمام عليه السلام، وقد أظهر تيهاً ومباهاةً بأمواله وتعظم حاله، وقد كان يصنع الطعامات الواسعة غالبها من اللوز والأرز، ويتصدق بها وفي بعض سفراته سرق عليه في معمور الحصين شيء يسير من أمتعته وكان الإمام يناوب الحرس عليه، وساير الناس عامة، فأمر أصحابه أن لا يخبروا أحداً وأن يتركوا الأموال خارج مضاربه بحالها وأخرج جنس شبكة الصيد من غرايب صبغة الهند، ونصبها فعاد أولئك السرق أو غيرهم لمثل ذلك، فأحاطت بهم الشبكة من حيث لا يرونها، ولا يحتسبوها فكانوا كالكرة فيها وأمر مماليكه بضربهم العنيف من خلف الشبكة وأبقى عليهم بقية مما يظن معها سلامتهم من الموت وله أخبار نحو ذلك.
ثم إنه قدم إلى الإمام عليه السلام، في شهر شعبان من عام سبعين وألف [إبريل 1659م] وكان [قد] بلغ الإمام، أنه قال في الهند أن لأهل اليمن إقبال إلى المال وأنه يفعل فيهم، أو كما قال. فأمر الإمام، أن لا يباع إليه شيء من الخيل وأن لا تبسط له مهاد الأنس المعهودة، وأعطاه ما صرفه به من تحف اليمن وسار غير راض، ووصل المخا المحروس واشتغل بأمواله، وتفقد أحواله وركب البحر في المركب المسمى[….] وجهز بعض أمواله في غيره. ولما صار في البحر حصل اضطرابات في البحر وتعكسات وطال عليهم، وقد رأوا أمارات الغرق فأجمع هو وخمسة أنفار أو ستة من أمثاله، وصاحب تدبير المركب أيضاً أن ينجوا بأنفسهم ورموا بها إلى الزعيمة التي تكون مربوطة إلى المركب.
ولما صاروا إليها انقطع حبلها عن المركب فذهب بهم إلى مالا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى في البحر، وأما أهل المركب فلا زال يتعتع بهم ثم أقاموه بقدرة الله سبحانه الحافظة فنجا أهله جميعاً وخرجوا إلى موضع يسمى[…. ] من بنادر الهند.
وأما محمد رضا وأصحابه فخرجت بهم الزعيمة إلى بندر سرات ووجدوا هنالك قد تملست جلودهم وتيبست، وكان موتهم جوعاً وعطشاً، فكانوا كما قيل:
وإنك ساع إلى مشعب .... حذار من الوابل النازل
فسبحان من أحاط بكل شيء علماً وجعل هذه الدار إلى غيرها مجازاً وسلماً، انتهى.
[ذكر المخرج المنصور على الفضلي] .
رجعنا إلى تمام ذكر المخرج المنصور على الفضلي، ومن صار إلى رأيه في الفساد، ذكر المخرج المنصور إلى بلاد الفضلي من مشارف عدن وما إليها قد تقدم[282/أ]ما كان من الهيثمي والفضلي ومن صار إلى رأيهم في الفساد أيام حضرموت وإقامة أولاد الإمام عليه السلام في البيضاء، وأن مولانا الصفي -أيده الله- قدم بمن بقي من أهل حضرموت الذين أفسدوا الطرقات، ثم سلاطين المشرق كالعولقي والواحدي والفضلي، وأنه -حفظه الله- قدم بهم إلى الإمام عليه السلام كما تقدم، وكان قد أرسلا الهيثمي والجيد وجماعة ممن تقدم ذكرهم إلى محروس الدامغ وقدما بمن بقى مع مولانا الصفي -حماه الله تعالى-.
[أخبار الهيثمي ووصوله إلى الإمام]
فأما الهيثمي والجيد فإن الإمام، أعرض عنهما وأرجأهما عفوه فلما اجتمعوا في صنعاء المحروسة سألهم، يعني سادتنا – أيدهم الله تعالى- عن الهيثمي ومن في صحبته عن صفة ما وضعوا لهم من الأمان، فقالوا جميعاً لم نضع له شيئاً غير حكمك فيه. فأمر بالاحتراز عليهم، أعني المشايخ المذكورين في صنعاء دون غيرهم. وكان مولانا الصفي – أيده الله – في مدينة الغراس، وأعمال ذي مرمر فركب الهيثمي في أنفار من غير رأي الإمام عليه السلام، فأرسل الإمام، في طلبه مشاة وركباناً فوجدوه عند مولانا أحمد حفظه الله، وقد احتاط مولانا أحمد لما وصل إليه بأن جعل من يحفظه ويكون معه في مكان أعده له، وعلى أنهم يضيفونه، وعاد إلى الإمام يعني مولانا الصفي وجعله في صحبته.
ولما وصل إلى الإمام تشدد في محبسه وأن يكون في القصر من غير تضييق، وكان قد اجتمع إلى الإمام عليه السلام عالم من الناس وألوف من المساكين، فكان الإمام قد جعل لهم وقت الصبح والعشي يعطون القوت فيقع هناك زحام وكثرة أعوان فتجرد هذا المخذول يعني الهيثمي عن ثيابه ولبس كأحدهم وخرج من جملتهم ولم يعرفه أحد وسار إلى خارج القصر وجعل خدمه يحفظون المكان، فعرفه بعض العسكر فقبض عليه وصاح به، وعاد إلى الإمام على تلك الهيئة، فعاتبه الإمام عليه السلام وعتب عليه كل أهل المشرق. وأمر الإمام بحبسه في القصر وتقييده والتضييق عليه، ثم أنه رفع إلى الإمام أن قوماً من اليهود في صنعاء يبيعون الخمور فأمر بالقبض عليهم وإظهار خمورهم على أعين الناس، وأن تهدم منازلهم وأن يربطوا بالحبال ويحملوا إلى حصن ثلأ حرسه الله. ثم وافق ذلك المقام ما تقدم من الهيثمي، فأمر الإمام بإشخاصه إلى حصن كوكبان، وبالقبض على أخيه فكان هنالك، وعظمه الأمير الناصر صاحب كوكبان وأنزله منزلة الضيفان محترزاً عليه لكرمه الفايق، وما هو عليه من المروءة[282/ب] الكاملة التي هي من أحمد الطرايق، وأمنه الأمير – أيده الله – أيضاً فكان منه الغدر مرة أخرى وذلك أنه لبس لباس الفقهاء وخرج كأحدهم من المكان فعرفه بعض أهل باب الحصن فأعادوه، وأرجعوه إلى الأمير – أيده الله- فأمر بتقييده.
وكتب إلى الإمام، ووافى كتاب الأمير – أيده الله- والإمام عليه السلام يكتب جواباً على الهيثمي مع رسول له ويرسل إليه الدراهم والأكسية، فأرجع رسوله بعد ذلك من غير شيء وأجاب الإمام على الأمير بالمبالغة بالاحتراز.
[أخبار الفضلي]
وأما الفضلي المسمى السلطان حيدرة بن الفضل بن أحمد بن حيدرة، فإنه ادعى أنه الواسطة في خطاب الهيثمي، وأنه ضمن له أن لا يحبس وقد تقدم إنه شريكه فيما كان منه، وأن الهيثمي لم يصل إلا بخطاب أخيه صالح والقبض على أهليه وذويه. ولما توسط مولانا الصفي – أيده الله- في تخلية سلاطين المشرق وقد ضمن بعضهم بعضاً ورهن العولقي ولده المسمى هادي، وضمن أيضاً على الفضلي وضمن معه أيضاً السلطان صالح بن ناصر الواحدي وكتب في ذلك مشروح فخلاهم الإمام، وأعطاهم العطاء الجزيل وأركبهم الخيل النجايب، وجعل ذلك كله بنظر ولده مولانا الصفي أحمد بن الحسن – أيده الله-.
ولما وصل هذا الفضلي بلاده وهي جبل مرتفع شامخ وسيع يشتمل على قبائل كثيرة، وهو في أبين ويتصل بالبحر وإلى جانب دثينة من جهة المشرق، وحدود بلاد يافع، فلما صار إلى هذا الموضع نسي ما كان وعاد إلى الغي والعدوان، واجتمع إليه أخو الهيثمي ومن أجابه وقطعوا الطرقات وأخذوا من قدروا عليه من الضعفاء، وكان الإمام (عليه السلام) جعل رتبة في مدينة دثينة لحفظ أهلها من مثل ذلك الحادث مع النقيب حسن بن هادي البطة الأرحبي ليسوا بالكثير وإنما هم دون العشرين العصبة من البنادق، مع صاحب الحصن أيضاً وهو الشيخ محمد بن صالح الأسدي المتقدم ذكره، فأغاروا عليه، وقتلوا من أصحابه وقتل منهم، وقطعوا الطريق التي تتصل بدثينة، والتي تتصل بعدن وكان في البيضاء الفقيه (الريِّس) علي بن صلاح الجملولي في عسكره.
وكان مولانا الحسين بن الحسن – أيده الله- في محروس رداع، وهي إليه مع بلاد يافع وبلاد البيضاء وما إليها وكان في عسكره قل للأمان، فأغار بمن حضره وطلب غارة من يافع وانضم إليه من في البيضاء فوجد المفسدين، قد ملكوا نقيل دثينة المسمى شرف آل عوذ الله، وأغلقوا على بلادهم وأخربوا النقيل، وبالغوا في ذلك، وقد كثرت ألفافهم وبلادهم وعرة ذات جبال وشناخيب، وليس لهم مساكن إلا بيوت الشعر، ولا زراعة إلا الأنعام فضايقهم[283/أ]، وحاربهم، وهم يفرون منه حتى استعاد النقيل وعمره وأصلحه.
ولما بلغ مولانا عز الإسلام، محمد بن الحسن، ومولانا الصفي – حفظهما الله- وبلغ إلى الإمام أيضاً وقد صار في محروسة شهارة، كما تقدم، فأمر الإمام بغزوهم بعد أن يقدموا الدعاء إليهم، وتجرد لذلك مولانا الصفي – أيده الله- بنفسه الكريمة وأولاده وأمرائه وأجناده وقد أضاف إليه مولانا العزي – أيده الله- مطلوبه من الخيل والرجال والمال فخرج من صنعاء المحروسة بالله إلى سيان. ثم منها إلى الخدمة ثم إلى رصابة ثم إلى ذمار، وصلها يوم ثاني وعشرين شهر شعبان الكريم سنة أحد وسبعين وألف [إبريل 1660م]، فأقام فيها ثلاثة أيام والعسكر يلحقونه كل أحد على قوته وقدرته وهو لا ينظرهم.
ومن عجب أعمال هذا الفضلي، كما أخبرني بعض الأصحاب أنه أخر كتاب منه إلى مولانا الصفي – أيده الله- أن هذا الكتاب آخر كتاب إليك أن لم تخرج الهيثمي، وقد قطع أهل المشرق أنه لا يتم من سادتنا المخرج، إلا بما تقدم من الجنود والآلات والمحاط المتكاثرة، وأنهم – أيدهم الله تعالى- لا يقدرون على ذلك وإن قد كلوا مما سبق، وتعطلت خزاينهم، فكان هذا المخرج لا يعلم أخف مؤنة منه على مولانا الصفي – أيده الله- فإنه لم يستصحب في سفره إلا ما تحمل مالا بد منه من الأمتعة والنقود ولم يتعرض لشيء من مواد البلاد، ومنافع الأسواق، وإنما تجرد كما ذكرناه، وكما سيأتي.
قال الراوي: أنه لما وقف مولانا أحمد – حفظه الله- على كتاب الفضلي هذا دعا رسوله وأعطاه مصروفاً يبلغه، ثم قال له: والجواب وصولنا إليه أو كما قال: فلما وصل -أيده الله- إلى محروس ذمار، كتب إليه وإلى جميع أهل المشرق وقال له: صدرت من محروس ذمار قادمين إليك، فإن تلقانا إلى محروس قعطبة وتصلح ما أفسدت، وتتوب عما كان فنحن كما تعهد لا نترك حقاً يجب علينا فعله ولا نفعل فعلاً يجب علينا تركه، وقد عودنا الله سبحانه وتعالى لما علم منا الصدق فيه النصر والظفر بمعاديه، واختر أيهما شئت أو كما قال.
ثم ارتحل من محروسة مدينة ذمار إلى الشلالة ثم إلى موضع يسمى الأشرع من بلاد خبان ثم إلى العود ثم إلى الساحلة ثم إلى نقيل الشم ثم إلى قعطبة فكان فيها أربعة أيام، ولقيه الأمير أحمد بن شعفل صاحب حالمين، وبعض ولاة اليمن بمواد. ثم ارتحل منها إلى بلاد الشيخ الشاعلي ثم إلى خرقة، وهي بلاد الأمير أحمد بن شعفل فأقام يوماً ثم سار إلى الطرية والأمير أحمد معه في أصحابه، وهذه الطرية فيها حصن فيه وآل من قبل مولانا[283/ب] أحمد – أيده الله- فأقام فيها ستة أيام، ثم سار إلى موضع يسمى المعر من بلاد الفضلي وانقطع عليهم الماء فأرسل الله سبحانه مطراً غزيراً، ونزلت الأودية فشرب العسكر ودوابهم وأقام عليه يومين لمجرد الاستراحة قال بعضهم: إن جانباً من العسكر كانوا وراء السايلة العظمى، وبعضهم خارجها، وأن السيل حال بين المحطتين فضلاً من الله ونعمة ومدداً لولد نبيه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ورحمة. ثم سلك في اليوم الثالث سايلة عظمى كان فيها يومين لمجرد قطعها، ووصل إلى موضع يسمى السنام من بلاد الفضلي، وقد انهزم المراكزون لمولانا الحسين بن الحسن – أيده الله- وطحطح بهم واتصل بدثينة، وتقدم للقاء مولانا أحمد إلى هذا الموضع فأقام فيه بعض نهار لمفاوضة صنوه وتعريفه بمن قد وصل إليه وعاد إلى موضعه. ثم تقدم مولانا الصفي – حفظه الله- إلى محل الفضلي المسمى الجربة – بالجيم- فأقام فيها وقد ولى عدوا الله منهزماً وتفرقت ألفافه، فأمر مولانا الصفي– أيده الله- طوايف من العسكر مع رؤسائهم بالغارات على مساكنهم، ومظان مهاربهم، وقتلوا منهم وأسروا، وقد جعل
– أيده الله- العسكر المنصور أسوة في الغنايم وأن لمن بقى عنده كمن سار فجاءوا بالغنائم الواسعة من الأنعام والآلات والأثاث فجعلها كذلك أسوة بينهم بعد أن خمسها، وصلح العسكر، وطابت نفوسهم ونعموا في هذا السفر فإن قوتهم غالباً ضيافات ثم غنائم، ووصل العيد فكان هنالك، وأعطى العسكر أرزاقهم.
وأما الفضلي – أخذه الله- فإنه هرب في بعض أولاده إلى أحور، وقد تقدمت الكتب من مولانا الصفي إلى واليه بالقبض عليه، وعلى أولاده وحريمه وقد فر بنفسه إلى السلطان صالح الواحدي.
قال مولانا الصفي – أيده الله- فيما كتبه إلينا: إنا كتبنا إلى الواحدي أنه ملزوم به غير معذور من القبض عليه إذ هو الضامن عليه، وكذا إلى العولقي فقبض عليه الواحدي، والعولقي واستأمنا له، فأرسل له مولانا الصفي بالأمان الذي اطمأنوا إليه، وأرسل له أيضاً بمركوب، وأن يحمل إليه مكرماً.
ولما وصل رسول مولانا – أيده الله- أصحبه الواحدي والعولقي أنفاراً من أصحابهما، فلما وصلوا به إلى الطريق انسل عليهم منفرداً وقد حملوا من أكيد الحراسة سهلاً لدعواه المرض فتعلق ببعض جبال بلاده.
ولما بلغ مولانا – أيده الله- بعث ولديه الأكملين، محمد والحسن في قطعة من العسكر نحواً من ثلاثمائة، فساروا إلى عوهان من بلاد الفضلي، فكانوا هنالك يفتشون[284/أ] عنه وعن أخباره قدر ثمانية أيام، وخاف وعاد إلى بلاد أحور منفرداً. ولما بلغهم أنه هنالك تجردا في بعض من معهما أيضاً إلى مدينة أحور، وفيها عامل من جهة مولانا – أيده الله- وكان وصولهم في ظهيرة الحر الشديد، وهي بلاد شديدة الحر ففرقا أصحابهما للتبرد والاستراحة، فبينما هم كذلك إذ أخبرهم بعض أهل البلاد المذكورة ممن صدقاه أنه رأى الفضلي قد عاد من طريق الساحل يريد بلادها أيضاً. وقد ظن أنه مع شدة الحر ينقطع خبره، فلبس السيدان وركبا بمن خف معهما من الفرسان، فكانوا أقل من العشرة، ومن الراجل نحو العشرين، وصاح مولانا محمد بن أحمد في أصحابه: إني أبرأ ممن لحق بنا، ولا ماء لهم ولا حمول لمخافة أن يهلككم الحر والعطش ثم أنهم قفوا أثره، وهم مع ذلك يتعرفون مواضع قدمه وهو ومن معه فساروا ليلتهم تلك، وأصبحوا في موضع يسمى الخبر بالقرب من محل الفضلي وقد أرسلوا من يفتش مواضع التهمة، وهذه المواضع التي عدوا الله فيها خافية على عامة أهل بلاده.
وكان الفقيه جمال الدين أمير الدين بن أحمد العلفي والي بندر عدن وما والاه في محل ما بين الساحل ومحل الفضلي يسمى العريش محط هنالك عن مولانا أحمد
– أيده الله- فأيس عدو الله من السلامة، وعرف أن الله قد أوقعه في أفعاله الطامة وضاقت عليه المصادر والموارد، فأيقن أنه إلى الأسر أو القتل عايد، فخرج من نفر أو نفرين، ورمى بنفسه إلى خيمة الفقيه أمير الدين وصاح به مستجيراً، فألبسه من الكسوة ما ستره به، فإنه عدو الله كان تجرد عن ملبوسه واستوثق في حفظه، وكتب إلى ولدي الإمام – أيدهما الله تعالى- فأمرا بأشخاصه إليهما.
ولما وصلوا به إليهما عادوا إلى أحور من طريق الساحل وقد كادا يهلكان هما ومن معهما من الجوع والعطش، ولما استقرا في أحور وكانا قد بعثا بالبشارة إلى والدهما – أيده الله- أمرهما بأشخاصه إليه مكبلاً في الحديد محترزاً عليه بالحفظ الأكيد، وجعلا معه خيلاً ورجلاً، ثم أقاما في أحور خمسة عشر يوماً ينفذان أمر والدهما ويستقصيان فيما به أمرهما.
ولما وصل المذكور إلى مولانا أحمد وكانا هنالك السلطان صالح الهيثمي والشيخ الجيد، وأصحابهما لايذين بمولانا الصفي – أيده الله- كما تقدم. وقد وصل السلطان جعفر بن عبد الله الكثيري من ظفار، كما تقدم أيضاً أمر مولانا –أيده الله- بهم إلى الإمام، وقد حمل منهم من حمل وكسا منهم من كسا وجمل، وعظم على السلطان جعفر المسير معهم[284/ب] وأن يكون في الحفظ معهم على دعواه أنه قدم باختياره، فجعل لهم مولانا – أيده الله – حالة وسطى، وكانوا جميعاً.
ولما وصلوا صنعاء المحروسة بالله ليلة عيد النحر إلى مولانا عز الإسلام، محمد بن الحسن- أيده الله- كساهم وسيَّر كثيراً من أمورهم، وأفرد السلطان جعفر الطريق عنهم، وأنفذهم جميعاً إلى الإمام، ولما وصلوا إلى الإمام، أمر بحبس الفضلي هو وثلاثة من أصحابه وتقييدهم وهم على ذلك إلى كتابة أخباره هذه.
وأما الهيثمي المسمى صالح فاستأمن إلى مولانا الصفي – أيده الله- فيما كتبه إلي أنه جعل لهم الأمان على أرواحهم، دون المال وأن عليهم الوصول إليه بأولادهم، وأنعامهم متحكمين لما يريده منهم من عفو أو أخذٍ، فوصلوا إليه كذلك فكانوا جانباً من المحطة المحروسة بالله بذراريهم وأموالهم، وكذلك أصحاب الشيخ أحمد الجيد وأصحاب العولقي الذين قتلوا العسكر في أحور.
ووصل إلى الجربة أيضاً رأس رجل من كبراء المفسدين وقد قتل في الطريق من العسكر المنصور، فظفر به بعض العسكر فأمر، أيده الله بتعليق رأسه وأسر العسكر أيضاً آخرين ممن أفسدوا فجعلهم في الحديد، ولما أمكن الله من الفضلي جعلهم معه إلى الإمام.
[خروج القوات الإمامية إلى فيفا]
ذكر المخرج المنصور إلى فيفا في الخلافة المتوكلية، وذلك أن أهل بلاد فيفا عادوا لحالهم الأول من الجهل البسيط، والوقوع في الكفر إلى غاية من التفريط، وقد تقدم صفة بعض أحوالهم في سيرة مولانا المؤيد بالله، فرأى أن يحدد مخرجاً ويرسل من لديه إليهم محاطاً، فلما بلغ ما أزمع عليه – حفظه الله- إلى بلاد صعدة وجهاتها، وبلاد صبيا وما والاها، كتب ولاة الإمام وعماله أنهم يكفونه جهادهم، وفتح بلادهم. فأمر الإمام ولده السيد الفاضل الكامل علي بن أحمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله، بأن يخرج عليهم بجميع العمال واليفعة من الرجال، ثم أن السيد الرئيس الأجل محمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين الخواجي، أمير صبيا والمخلاف سارع إلى غزوهم من طريق تهامة، وله على تلك الأطراف قوة شوكة ومغازي وكفاية للإمام، في أمثالهم فغزى قبل الشام المخرج المنصور إلى موضع من بلاد فيما يسمى[ ] من بلاد الشيخ مراد بن يحيى وهذا الشيخ رجل من الصوفية أسما[285/أ] ممن عكف مع إبليس، وتجرد للتلبيس على أهل تلك النواحي، فاستولى على ما في محالهم من الأموال والأنعام، وقتلوا منهم ثمانية أنفار، وكانوا مع خيل وعسكر.
ولما أراد العود من طريقهم الأولى وقد اصطرخ عدو الله في أحزابه، وأهل دعوته من أضرابه، ممن تقدم بعض صفتهم، فتقدموا إلى مواضع ضيقة ولاحموهم القتال، وتكاثروا على المجاهدين، فارتجعوا منهم الأموال شيئاً فشيئاً حتى استخلصوها، وقتل من العسكر نحو السبعين النفر، وكانوا غير كثير، ونجا السيد محمد على فرسه في أنفار، وقد نالته الجراحات المثخنة، وكانت هذه الغزاة مما أهاج سرعة المخرج المنصور.
رجعنا إلى ذكر المخرج المنصور، ولما استتب لمولانا جمال الدين علي بن أحمد أمره، واجتمع عسكره وصله سادة الشام وكبرائهم إلى هجرة فلله، ومعه من العسكر نحو ثمانمائة، وبات بها ليلة وقد وصله مدد من الإمام نحو من ثلاثمائة نفر عليهم الفقيه حسين بن محمد الجملولي، وفي صحبته صنوه السيد المعظم عبد الله بن أحمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله، والسيد العلامة صارم الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عز الدين، وانظم إليه من بني جماعة وبني سويد، وبني حذيفة، وأهل وادي فلله، والسيد العلامة المجاهد المهدي بن الهادي المعروف بالنوعة، في أكثر من خمسين راجلاً مؤنهم كلها منه ومن ماله، وقد كتب الإمام عليه السلام إلى السيد الأكمل بدر الدين محمد بن صلاح بن الهادي النعمي، والي بندر جازان وأبي عريش وما والاهما، فخرج من طريق تهامة في أكثر من ألف نفر.
وأما السيد (الريِّس) الكامل محمد بن الحسين الخواصي، فقد تقدم عوده إلى صبيا وما أتفق له، ولما استتب الأمر للمخرج المنصور أرسل ولده الكامل عز الدين بن محمد بن الحسين في عسكر، فكانوا في جانب من بلاد تهامة الملاصقة لبلاد فيفا، وكتب الإمام، أيضاً إلى القاضي العلامة محمد بن علي بن جعفر الوالي على بلاد رازح وما والاه، فانظم إلى مولانا جمال الدين في نحو ألف وأربعمائة.
نعم! ولما انتهى مولانا جمال الدين إلى رغافة عرض عليه ما شوشه في صعده مما يجب أن يحتاط على حفظه فجعل على المحطة المنصورة صنوه عبد الله بن أحمد
–أيده الله- وعاد إلى صعدة في أنفار من الخواص فقرر أعماله واستوثق مما يخاف عليه، وعاد إلى موضعه الأول وكان لعوده إلى صعدة ذكر[285/ب] فرفعت القبائل رؤوسها، وخاف مولانا عبد الله بن أحمد، فأحضر من العسكر المنصور من ظن فيهم الكفاية، وغزى بهم ليلاً إلى أشدهم فساداً، وهم [ ] فاستولى على أنعامهم وأسر كثيراً منهم، وعاد إلى محطه الأول، فسكنت البلاد، وصلحت الطرقات والأخبار.
أخبرني من حدَّث عن هذه الغزاة أن المذكور حمل بندقه وسيفه كأحد العسكر ولبس نعلين غريبتين، وإن أحدهما انقطعت عليه فأراد من قرب منه أن يصلحها، فقال: أنا أتولى ذلك فأصلحهما، وهو ماش لم يستقم، ولهذا السيد المذكور في الشام مغاز، هو فيها تلو أخيه فإنهما من نجباء سادات الرجال وفتاكهم.
ولما استقرت المحاط المنصورة في مدينة جاوي، أقام نحو خمسة عشر يوماً وارتحل إلى موضع يسمى الضربة من بلاد بني منبه، وأقام فيها نحو أربعين يوماً وأرسل إلى مشائخ بلاد فيفا، فوصله بعضهم، وثبطوه عن دخول بلادهم وأعطوه مالاً على ذلك.
ولما دخل شهر جمادى الأولى، وقد كتب إلى السيد محمد بن صلاح ومن في جانبه يأمرهم بالتقدم من جهتهم، وعبأ الناس فكان بنو جماعة وبنو منبه جانباً، وعسكر غربان وبني صريم جانباً، وعسكر سحار وجمهور عسكره جانباً وهو وصنوه عبدالله بن أحمد في القلب غير أنهما، أطال الله بقاهما، كما قال الإمام الأعظم المنصور بالله:
وأكره كون الحر خلف جنوده ... وارضاه غريباً لهم متقدما
أول عسكرهما ويحملان بندقيهما، وصعدا في شواهق وأشجار ومضايق فلم يقف لهم أحد من المفسدين، وطاروا في الجبال ولم يثبتوا لقتال، ولما انتهوا إلى الموضع المعروف بالعبسية وهو أرفع الجبال وأشمخ الفلال من تلك الجهات، واستقرت المحطة هنالك وقد هربت القبائل المذكورة وفرق من العسكر إلى مواضع بالقرب منه لينالوا من الغنايم ما يأكلون، ويحفظون نفوسهم من الغوايل، وقد ترك في مدينة جاوي جماعة من العسكر، عليهم السيد محمد بن صلاح المعروف بابن قطيطة المؤيدي، فكان يتردد في مواضع لإيصال القوافل والإمداد، وترك في الضربة السيد الحسن بن[.......] في عسكر ذلك.
ولما استقر مولانا، جمال الدين – أيده الله- في الموضع المذكور استأمن إليه قبائل فيفا جميعاً إلا آل حجر، فاستحوذ عليهم الشيطان، فغزاهم جنود الحق فمزقوهم كل ممزق وشردوهم كل مشرد وكتبت البشرى[286/أ] إلى الإمام، فبشرها في الأنام وقريت على الخاص والعام، من نسخة ما ورد إلي ما لفظه: بعد الابتداء باسم الله جل وعلا والصلاة على عباده، وطرة الكتاب ما لفظه: فالبشرى المرفوعة ما فتحه الله على الإسلام على يدي الولد السيد العلامة جمال الإسلام والمسلمين، علي بن أحمد بن أمير المؤمنين، القاسم بن محمد – حفظه الله- من دخوله بجنود الحق المنصور بالله إلى جبل فيفا وإستيلائهم عليه وعلى جميع ما يتصل به من الجبال والجهات، ودخول أهل تلك الديار في الطاعة وإجابتهم إلى أحكام الحق والإسلام، أعزه الله تعالى، لم يبق منهم إلا طائفة استحوذ عليهم الشيطان، يقال لهم أهل حجر فدمر الله عليهم بأجناد الحق، فمزقوهم كل ممزق وشردوهم كل مشرد، وأورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، واغتنموا منهم الغنايم، وقطعوا منهم الرؤوس والجماجم، وذلك بعد أن أعذر إليهم مرة بعد أخرى، وكرر الدعاء إليهم كرة بعد كرة، وذلك في يوم الجمعة لعله السادس عشر من شهر جمادى الأولى ختمه الله بكل ظفر ونصر، واستقر الولد جمال الإسلام بجنود الحق هنالك في نعيم وافر وفضل غامر، لم يمسسهم سوء ولا نال أحداً منهم مكروه ولا شيك أحد منهم شوكة، وقد انظم إلى الولد جمال الإسلام – حفظه الله- هنالك السيد الأمجد المجاهد، بدر الدين محمد بن صلاح بن الهادي – حفظه الله- في جيش منصور بالله إن شاء الله
عظيم، والقاضي العلامة بدر الدين محمد بن علي بن جعفر – حفظه الله- في جمع مبرور كريم، والتحق بهم أيضاً الشريف الأمجد عزالدين بن محمد بن حسين الخواجي، نايباً عن أبيه – حفظه الله- واستقرت الأحوال هنالك استقرارً تاماً، ودخلوا في دين الله أفواجاً دخولاً عاماً، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
والولد السيد الأمجد فخر الإسلام عبد الله بن أحمد بن أمير المؤمنين – حفظه الله- مشارك لصنوه جمال الإسلام في هذه الفتوحات الكريمة، والمواقف الشريفة، فنسأل الله أن يبارك لنا ولكم وللمسلمين في الجميع، فأمدوهم بالدعاء وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم بتاريخ شهر جمادى الأولى[286/ب] اثنين وسبعين وألف [1661م].
ولما صلح أمر بلاد فيفا، واطمأن أهلها ودخلوا دولة الحق وظلها، وقد تعلق بكثير من العسكر المرض لمقامهم في الأوهاط المتقدم ذكرها، وكان ذلك في وقت أيلول، ثم كانوا بعد ذلك في الجبال المرتفعة ففشى فيهم المرض، وقد تكاثروا، فاجتمع أهل الرأي من السادات، ورؤساء العسكر إلى مولانا جمال الدين –أيده الله- وقالوا قد أصلح الله وله الحمد البلاد، وصدق وعده بالنصر لأهل الجهاد، وأن المقام الطويل مع تزايد الأمراض ربما يزهد الأعداء في دولة الحق، أو كما قالوا، فكتب إلى الإمام، ملتمساً رأيه الكريم، وعرض عليه ما تقدم من الرأي، وكتب أيضاً إلى عيون السادة والرؤساء، فاستصوب الإمام ذلك، ثم إن الإمام طلب وصول مشايخ بلاد فيفا جميعاً فوصلوا إليه أرتالا، وسارعوا إليه امتثالاً عن أمر مولانا جمال الدين، أيده الله.
ولما وصلوا إلى الإمام عليه السلام تألفهم وأنسهم وأعطاهم وكساهم، وأقاموا عنده في كبار قبايلهم، وهو مقبل عليهم بالتعليم والإرشاد تالياً عليهم آيات الله ووعده ووعيده ليوم يقوم الأشهاد، فأثر فيهم ذلك كثيراً، واستعمل عليهم عاملاً منهم وهو [... ] وصرفه معهم إلى مولانا جمال الدين، ثم إلى بلادهم وكتب لعاملهم ولهم ما هذا نسخته...... .
[287/أ]رجعنا إلى بقاء الإمام في شهارة المحروسة بالله، فإنه أقام فيها نحواً من عشرة أشهر وكان في بقاه فيها أيام فتح فيفا كما مر، ومنها جهز الحاج مع ولده الحسن كما مر، ولما تكاثر الوفود، وأهل الحاجات وضاقت شهارة بحوايجهم هبط إلى معمور أقر، ومكانه المعروف وأقام فيه نحو ثلاثة أشهر وأجرى الماء من نواحي الحبس إلى المسجد الأعلى من درب الأمير بعد أن كاد الماء يعدم، وكان الشقاة يأتون بالماء من الرصدين بما لا يكاد يقوم بحوايج الناس، وشق بهم ذلك فجهد الإمام وأجرى هذا الماء في شواهق، وأوهاط واحتاج لذلك عمارات كثيرة كان يباشرها بنفسه، ويقوم عليها، والماء يزداد بإعانة الله حتى وصل مسجد درب الأمير، وانتفع به الناس للصلاة وغيرها، وسر الإمام والمسلمون بذلك وفي نصف شهر شعبان سنة اثنتين وسبعين استرجح الإمام القدوم إلى السودة، فأقام فيها أربعة أيام وترك الأثقال وخرج فيمن خف لضيافة حصن عفار وكحلان تاج الدين وما إليهما لمعرفتهما، وهم بالتقدم إلى ظفير حجة لزيارة الأئمة، منهم الإمام المطهر بن يحيى في دروان والإمامين الأعظمين المهدي والمتوكل في الظفير، ومن حجة وبلاد عفار، وكحلان من أهل البيت فكثر الناس، وضاقت بهم المساكن، وقد اجتمع إليه أهل تلك المخاليف كبراءهم وعاميهم بالنذور الواسعة من النقود والأنعام وغيرهما، والضيافات الكثيرة. وقد جعل ما وصل إليه إلى كحلان للأشراف والشرايف من ذرية السيد الجليل الحسن بن الإمام شرف الدين، فاجتمع لهم من ذلك كثير، وزادهم إلى ذلك مما وصل له إلى السودة، وخرج من كحلان إلى حصن حقل المعروف من بلاد جنب وبات فيه ليلة.
[وصول سفير من الحبشة إلى الإمام]
ولما عاد إلى محروس السودة، وجد هنالك عظيماً من الروم سفيراً من الباشا صاحب الحبشة بهدايا نفيسة، وهدايا تتضمن معاهدة، وأخبر أن المذكور عزل من الحبشة، وأنه التزم نذراً للإمام بإعادة عليه ناموسه، فانتصر على حاسديه وعادت رياسته عليه، وأقام عند الإمام في رمضان أياماً معظماً مكرماً.
وأخبرني الولد الحسن، أسعده الله، وغيره أنهم رأوا من هذا الرومي أبهة عظيمة، وحسن سمت ما يدل على شهامته[287/ب] ورياسته، وكتب الإمام معه إلى صاحب الحبشة، وبعث إليه بالهدايا والتحف والعطايا ما تبذ القوى، ويطول عن الإحصاء، مما لا يضبط الراوون وصفها قال بعض الخواص وقد عد كثيراً من ذلك وأني سمعت هذا الرومي يقسم بالله ليأتين بباشة الحبشة إلى الإمام، لما رأى من إحسان الإمام، مما لا يخطر بالبال، ولا يحتسب كونه يكون في حال.
[وصول طايفة من الإفرنج إلى بندر المخاء]
صفة خروج طايفة الولندة والإنجريز من أجناس النصارى على بندر المخا وذلك أنه حصل في عام سبعين وألف [1660م] (وكما أخبرني بعض العسكر الإمامي من أهل الرتبة في محروس المخا) وقعة بينهم وبين قوم يسمون المينبار
– بضم الميم والتصغير- واختلاف في البحر المتصل بالهند، وطريقه إلى اليمن لعداوة بينهم، وهؤلاء المنيبار مسلمون، وإليهم تنسب البنادق المنيبارية وهم أهل بأس شديد، وحمية على الإسلام أعلى الله معالمه، وقوى دعائمه، مع قلة العلماء فيهم فإنما معهم من الإسلام إلا اسمه، ولهم في ذلك أخبار طويلة وذلك أنهم اعتدوا على هؤلاء الكفار وأخذوا منهم أسرى وأموالاً، وكان من الأسرى القبطان الذي يعرف سفر البحر، وطرقه فصالحهم النصارى على فدى أصحابهم أربعة آلاف حرف أحمر، واصطلحوا على ذلك.
ولما قبض المنيبار، المال عمدوا إلى القبطان المذكور فقطعوه ورموا به إليهم وأخلفوهم ما وعدوهم، ثم أن النصارى قدروا على قوم من المنيبار فأهلكوهم وبعضهم أحرقوه بالنار.
وفي العام الثاني قدروا على أهل مركب من المنيبار فأخذوا أكثرهم، وخرج منهم إلى موضع يسمى ذباب -بالذال المعجمة- وقد صاروا ألفاً لا حالة لهم، وفيهم النساء والذراري وقد كادوا يهلكون في البر والبحر جوعاً وعطشاً.
ولما بلغ السيد الأكمل رضى الدين زيد بن علي بن إبراهيم الجحافي صاحب المخا ارسل لاستدراكهم عسكراً وجمالاً، ووصلوا بهم من طريق البر إلى المخاء، وكان تجار المنيبار الذين لم يحضروا هذه الواقعة في المخا فشكوا إلى السيد–أبقاه الله– وقالوا إنك إذ أطلقت السفر للذين في المخا من هؤلاء الهولندة والإنجريز، استأصلوا من مضى عليهم من المسلمين في البحر، ولهؤلاء الكفار مواضع في المخا معتادة لهم يجتمع إليهم بضايعهم وغالبها الجوخ، وما غلا من الأمتعة، فأمر السيد–أبقاه الله– الرسم على مواضعهم، وأن لا يباع شيء من بضايعهم، ولا يخالطهم أحد من المسلمين حتى يمضي المنيبار وغيرهم من المسلمين[288/أ] لشأنهم. ثم إن السيد – أبقاه الله- خاف أن يهرب هؤلاء الولندة من البحر، كما سيأتي إن شاء الله، فجعل عليهم حرساً في الليل لئلا يتصلون بمركبهم الأعظم المسمى البرشة فنصروا المنيبار وغيرهم فشق بهم ذلك، وعظم عليهم المنع من البيع والشراء منهم مع عدم الإطلاق لهم في السفر. فطلبوا منه أن يطلق لهم رسلاً إلى الإمام، ليشكوا عليه حالهم، فأطلق لهم خمسة أنفار، ومضوا إلى صنعاء المحروسة بالله، وكان فيها مولانا محمد بن الحسن- أيده الله- فشكوا عليه حالهم ووعدهم بقضاء حوايجهم، وكان الإمام في شهارة المحروسة بالله، وكتب لهم إلى السيد رضي الدين – أيده الله- إطلاقهم وأن يمضوا على معتادهم وعادوا من صنعاء فأبطأوا في الطريق وشاع عند أصحابهم أنهم قتلوا وأسلموا وكان منهم أيضاً رجل قد أسلم على يدي السلطانة الهندية المتقدم ذكرها.
قال الشيخ عمر بن صلاح الذاهي وهو من عسكر السيد زيد: إنه كان من الحرس لمواضع المذكورين أن من الولندة عشرة من كبارهم لا يتركهم الحرس يخرجون، وأما نحو أربعة وثلاثين نفراً فيخرجون إلى السوق ويلتمسون القوت. ولما طال عليهم الأمد ويأسوا من أصحابهم الذين ذهبوا للشكاية إلى الإمام، رموا بأنفسهم إلى البحر عند اشتغال الناس بصلاة المغرب، ولهم صنعة في السباحة مخالفة لغيرهم في الهمة حتى تعلقوا ببرشتهم التي في الساحل، وكان عليها الرسم أيضاً، وقد أمر السيد بقبض الشراع الذي عليه المدار في السفر، والسكان الذي عليه العمل في الإقامة والإرساء وكان هناك مراكب أيضاً لأهل الهند، وللسيد زيد.
ولما تمكنوا من البرشة دخلوا مراكب المسلمين وأخذوا شراعاً لبرشتهم وسكاناً كذلك وأخذوا شيئاً من الماء والزاد وأصلحوا في يومهم وليلتهم برشتهم ووجهوها للسفر فأمر السيد – أيده الله- عسكراً لحفظ من في المركب فحفظوا ما بقى ولما صح له ما كان من أمرهم أمر العسكر بلحاقهم والحرب لهم، فقاتلوهم، وقد انقلب عليهم الريح كما انقلب على غيرهم، وقد قل ذكرهم.
ولما كان في أول شعبان من عام اثنين وسبعين وألف [مارس 1661م] عادوا من بلادهم ببرشة واحدة قد أعدوا فيها آلة الحرب من المدافع وغيرها قال بعضهم أنهم يجعلون في هذه البرشة للحرب إلى ستين مدفعاً فيجعلون في كل نصف ثلاثين مدفعاً في جنبات البرشة، وأنهم إذا نفذت مدافع النصف الأول حرفوا البرشة ليرموا بالنصف الثاني، وأن لهم قدرة على تحريفها[288/ب] للقتال كما للفارس في تحريف فرسه في البر، قال: ويعدون فيها براماً من المدر يملئونها باروداً مختوماً عليه، فإذا قاربهم من لا يدركهم المدافع للقرب جعلوا فتيلة في فم البرم التي يرمون بها فيرمون بها فيهلك أهل المركب أو السفينة أو السنبوق وقد يجعلون في هذه البرشة ما يشبهها في باطنها بآلة كاملة، فإذا غرقت عليهم الخارجة تعلقوا بهذه التي في باطنها ولهم صناعة في حل حبالها بسرعة وقد يعدون قرباً منفوخةً بعدد من في البرشة، ويجعلون معها شيئاً من الماء والزاد فإذا جاءهم مالا قدرة لهم به ربط كل منهم قربته إليه وجعل قوته فوق رأسه ورمى بنفسه إلى البحر.
نعم! ولما عادوا من بلادهم في هذا العام قبضوا على بعض أهل الهند، وقالوا من سلك غير المخا فهو آمن، ومن سلك المخا أخذوه وقد تظهروا لأهل المخا فصالحهم أهل المراكب، وهم المركب المسمى آبا قلة ومركب قراقتان ومركب الملكة المسمى الحيدري بثمانية عشر ألف قرش، وكان السيد رضي الدين زيد بن علي في المقام الإمامي في السودة، وقد بلغ خبرهم إلى مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن – أيده الله- وكان في مدينة إب للأسباب الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى، فأمر الإمام السيد زيد بالمبادرة إلى المخا وأن يفتقد ما هناك من أخبار الكفار، أقماهم الله، فسار في ثالث عشر من رمضان المعظم، ورحل إلى المخا في آخر الشهر الكريم فوجد أهل المخا قد نالتهم ترويعات وأراجيف مخوفات.
وأن السيد حسين بن عبد الله النايب عن السيد زيد قد عالج بعض أمورهم وأرسل جماعة من المسلمين لخطابهم، ومعرفة غاية مطلوبهم، ولما وصل السيد زيد تشدد في أمورهم، ومنع أن لا يسلم لهم شيء من الصلح وبذلك أمره الإمام، ليبقى للإسلام عزه وجلالته، زاده الله عزاً وجلالاً. ولما يأسوا من المال قبضوا على رسل السيد زيد وكبلوهم في الحديد وعمدوا إلى ما في الساحل من المراكب الإسلامية، فأغرقوها وأحرقوها، وانتهبوا ما أمكن منها فعند ذلك ندب السيد زيد من حضره من المسلمين للجهاد وأفاض عليهم العطاء منهم سبعون نفراً من البحار، يعني الذين لهم صنعة في البحر وقوماً من المغاربة وخمسة وخمسين نفراً من العسكر وجعلوهم في مركب وسبع سنابيق فيها نحو مائة وخمسة وسبعين نفراً، وشحن هذا المركب بالعدة الكاملة من المدافع والبنادق والبارود والرصاص، مع القوت والماء الكثير.
ولما رآهم[289/أ] الأفرنج أظهروا الضعف وفروا بين أيديهم إلى أن اتصلوا بالجبل المعارض المُسمَّى باب المندب وكمنوا في جانب منه، ونفذت عليهم غارة المسلمين ولا يظنونهم إلا بين أيديهم. ثم التفتوا وإذا الكفار من ورائهم وقد سلكوا قريباً من البر ليحولوا ما بين المسلمين والبر، قال بعض من حضر هذه الوقعة من المسلمين أنهم رموا على المسلمين نحواً من خمسين مدفعاً وسلم الله المسلمين شرها. ثم أن المسلمين رموا بمدفعهم فأخذ برشتهم جانباً فسارعوا- لعنهم الله- إلى سد ذلك المنفتح. ثم أعاد المسلمون الرمي بذلك المدفع، فقال بعضهم أن مدفع المشركين [قد أوقع حجرة ] في فم هذا المدفع فانفض وتكسر أسداساً، فهلك صاحب المدفع وغيره من المسلمين إلى نحو ثلاثين نفراً، وقال بعضهم أن حجر مدفع المسلمين لم يتصل بالبارود، في أسفل المدفع لكبر الحجر فانفض لذلك، والله أعلم، فهرب البحارون لضعف قلوبهم وبقى العسكر، وقليل من غيرهم، فاحتمل رجل من الأهنوم زبرطان صغيراً، ورمى به المشركين، فكسر شيئاً من الدقل، فولى المشركون حتى ظن من رآهم أنهم هربوا.
ولما بعد المشركون أصلحوا ما تغير عليهم، وأعادوا شحنة مدافعهم وحملوا على المسلمين بجميع مدافعهم، وفر من المسلمين من وجد سبيلاً إلى الهرب وصاروا في جانب البر، بعد أن هلك من هلك في البحر. ولما استولى النصارى على مركب المسلمين أخذوا منه ما قدروا عليه وأحرقوا ما بقى، فأما المركب الكبير وبرشة ومركبان لأهل الهند فأحرقوها وأربعة سنابق أحرقوها كذلك وعادوا إلى البحر. ولما بلغ خبرهم السيد زيد أغار من طريق البر فأدرك من بقى من المسلمين، وقد كادوا يهلكون جوعاً وعطشاً، فاستنقذهم وحملهم إلى المخا، ثم جمع من بقى معه من العسكر، وتقدم إلى جانب باب المندب، وأقام هنالك أكثر من عشرين يوماً مراكزاً لهم، وولوا إلى مالا يعرف أحد شأنهم ولا مكانهم، قال بعض أهل البيع والشراء إلى بندر المخاء أنه وجد وزير السلطانة المسمى حكيم في المخا، كان قد وصل من الهند بمركب السلطانة، وأنه وصل إلى باب المندب، وخاف من هؤلاء الكفار، فمال بالمركب إلى جانب البر، فانكسر فأدركه الكفار، وأخذوا منه ما قدروا عليه، من ذلك خمسة وستين ألف أحمر، ومن الشاش مائة وخمسون ربطة مفارش، وسبعون ألف قرش وخمسة عشر بهارا من [289/ب] العود الماوردي وسريران، أحدهما ذهب والآخر فضة. وحمل ما بقى من هذا المركب إلى المخا قدر خمسمائة حمل، قال المذكور: إن المراكب التي أحرقها الكفار وأهل المخا ينظرون مما تقدم ذكره مركبان والثالث كان للملكة حملوا ما فيه جميعه.
ولما أغار السيد إلى باب المندب بعد الواقعة، وقد شحن سفينة بآلات وزاد وملبوسات، فأغاروا عليها وأخذوها أيضاً، وقد كتب إلى مولانا الإمام وإلى مولانا محمد بن الحسن، وإلى مولانا أحمد بن الحسن، أيدهم الله، بطلب المدد وقد شاع أمر هذه الواقعة، وكثرت الأراجيف وكان الإمام حينئذ في عمران البون، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ولما بلغ مولانا محمد بن الحسن – أيده الله- أول خبرهم سارع الغارة بنفسه إلى محروس تعز لحفظ الطرقات إلى المخا وإلى عدن، ولتسكن الهزاهز والفتن، فكان في ذلك نفع ظاهر واطمأنت قلوب أهل تلك الأطراف.
وأما مولانا أحمد بن الحسن – أيده الله- فوصله الخبر وهو في الغراس من أعمال ذي مرمر -لجمع ما يحتاجه لسفر الحج، وكان قد تجهز له في بعض أولاده ووجوه أصحابه وقد عد لهم العطاء والزاد والجمال للأثقال والمال الكبير فسارع الغارة إلى المخا وقال فيما قال: أردنا نحج نافلة والآن الجهاد فريضة.
فكتب إلى الإمام، وخرج من صنعاء المحروسة بعد العصر من ليلة الثلاثاء لعله ثاني أو ثالث شهر القعدة وأمسى في ريمة بن حميد، ومنها إلى زراجة، (وأخبرني الولد محمد أسعده الله عن الشيخ يحيى بن علي الخياري وهو من كبار الجند الإمامي وإليه ولاية بلاد زراجة، أنه لقى مولانا الصفي- أيده الله- وقد رأى من مولانا الصفي
–أيده الله- الكدح والتعب فقال له: يا مولانا حفظك الله هون عليك فقال: يا شيخ ليت أن صوبي يبلغ باب المندب لعله ينفع أحداً من المسلمين أو كما قال) . ثم إلى محروس ذمار، ثم إلى يريم ثم ما بعدها إلى الجند والعسكر تتلاحق به، وترك على العسكر خليفة وتقدم إلى محروس تعز للاتفاق بصنوه ملك الإسلام – حفظه الله- وفاوضه فيما ينبغي، وعرف أن المخا لا يطمع فيه العدو بأكثر مما كان، وأن عدن وطرقه إذا لم نسارع إلى ضبطها خشي عليها مما وقع في المخا. وتقدم من الجند إلى مدينة الدمنة ومحل السلمي، ثم كذلك ما بعده إلى أن حط في موضع من لحج يسمى الوهط، وعد للعسكر أرزاقهم واستجلب منافعهم وأرزاقهم، ثم استخلف عليهم ولده السيد النجيب عز الدين محمد بن أحمد بن الحسن – أيده الله- وتقدم إلى البندر المحروس عدن. وقد وصل إليه تجار الهند، فآنسهم وتنزل لهم منازل الإكرام وتابع إليهم الألطاف والتحف والإنعام وأقام هنالك نحو شهرين، وكان فيه العيد الأكبر، وكان من المراكب التي وصلت إليه مركبان، أحدهما يسمى سواكن جي، والثاني المركب[290/أ] المصاحبي وهما أكثر ما خرج إلى عدن، قال محمد كاشف من أصحاب مولانا أحمد – أيده الله- مكاتبة وقد ذكر المركبين بإسميهما أن كل مركب شحن بأربعمائة بندلة وألف وخمسمائة نفر.
قال: وكل بندلة لم يسعها باب الفرضة وإنما أخرجوها من باب الساحل، قال ودخل مولانا الصفي – أيده الله- إلى هذه المراكب، فاصطنع له أهل الهند ضيافة لم ير الرآون مثلها، قال فأكلنا وأكل سيدي – أيده الله- واستطبنا ذلك غاية (وفخمنا ذلك ما كان حكاية) فقال مولانا الصفي – أيده الله – مفاتحاً لكبرائهم من الصانع لهذه الأطعمة فقالوا البانيان، وهم البراهمة – أقماهم الله تعالى- قال فقام كل منا يتقيأ ما أكل.
ولما حصلت ليلة العيد جعل مولانا سمرة عظيمة حضرها كبار أصحابه وعظماء أهل الهند، وعموم من الطايفتين، وجعل فيها من الأطباق المختلفة الألوان من الأنواع التي لا تكاد تجتمع في ذلك المكان، والآوان، من كل فاكهة تجتمع بصنعاء اليمن وسواحل عدن.
ولما كان وقت العيد خرج – أيده الله- بالجمع الكثيف، وعيون أعيان المقام الشريف بالأبهة الإمامية، والشارات الإسلامية من نجايب الخيل المحلية وغير ذلك مما تعوده أهل الممالك اليمنية، فكانت لذلك عند أهل الهند شأن عظيم وذكر فخيم ثم عقب ذلك بالسماط الحافل الجامع لأنواع الفواكه والمآكل، وأمر بتقديم أهل الهند مع عظماء الناس، ثم – أيده الله – تفقد البندر السعيد، فوجد الفتن قد أخربته واختلاف الأيدي أهملته فأخذ - أيده الله- في عمارته، وجمع العمارين من بلاد يافع واليمن وصنعاء، فأول ما عمره من الدواير الداير المتصل بالساحل مما يلي البحر نحواً من نصف ميل، وعَمَّر دار السعادة الذي هو دار الإمارة، قليلة النظير في مثلها وعمر ستة دور غيرها. ثم نقض الجامع الكبير وأصلحه، وكذلك بعض المدارس أصلحها وعمرها، قال المذكور: وغيره، ومن نظر إلى أهل الهند وأموالهم وأحكامهم التطريزات والصباغات وتنويع كل شيء منها إلى مالا يكاد أن يكفيه العقول، وتقبله النقول، عجب من ذلك وقطع أن ليس لهم فيه مشارك، ومن نظر غفلتهم عن المنافع الدينية والآيات الإلهية، وما يجب من الشكر لموليها، وما يحق له من الصفات الدالة على خالقها ومعطيها، قطع عليهم بالغفلة والجنون وقال واصفاً لهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } وقد ذكر ذلك مولانا الإمام المهدي في بعض كتبه أحسبه في الدامغ والله أعلم.
ولما استقرت الأمور، وصلح أمر الجمهور وكان قد[290/ب] شاع هذا الأمر في البعد والقرب، وذعر لأجله جوانب العرب، وقد حصل في العسكر بعض ألم لضعف تلك الأوهاط ووجمها لا سيما على ساكني صنعاء ونواحيها أرسل أهل الهند، وأعطى كبرائهم هدايا لكل ناخوذة حصاناً وكتب معهم إلى السلطان صاحب الهند، وأرسل معهم أحد أصحابه، وخمسة رؤوس من الخيل النجايب العربية وآلاتها العدد المحلية، ومثلها للوزراء. ثم أرسل أيضاً إلى صاحب برعجم وإلى ظفار وإلى الأمهري، وإلى صاحب حضرموت (في شأن أولئك الكفار وأن سبيلهم البحث عنهم والتعاون عليهم، وأخبارنا الله الله عنهم) وقرر لأهل تلك المماليك قواعد رضوها، ومطالب سموها، وأظهر عنا الإسلام، فلم يلتفت إلى جمع حطام
-أمتع الله بحياته ونشر في أرضه راياته-.
نعم! ولما تم ذلك توجه راجعاً، ولربه طايعاً فصار إلى مكان يسمى الشيخ عثمان وأقام فيه ثلاثاً، ثم ارتحل إلى الزيادي، وأقام فيه يومين، ثم إلى الجبيل، ثم إلى شعب الأجعود من بلاد حالمين، ثم إلى الطفوا، ثم إلى العريش من بلاد السلمي ثم إلى قعطبة، ثم مريس ثم إلى الساحلة ثم إلى جمجمة دمت وأقام فيها يومين، ثم إلى أسفل خبان ببيت البعداني، ثم إلى الشلالة ثم إلى محروس ذمار، ثم وجه الأمراض والأثقال إلى صنعاء، وقد احتاج جمالاً كثيرة لكثرة المرض، وقد حكوا من عطفه عليهم وتحننه إليهم ما يطول إيراده. ثم تجهز إلى الإمام في خواص من أصحابه فوصل خامس عشر شهر صفر.
قال القاضي شمس الإسلام، أحمد بن صالح بن أبي الرجال – أيده الله – فيما كتبه إلي أنه حصل مع الإمام من السرور، وظهور النعمة والحبور، مالا يدركه واصف، ولا يحيط به عارف، بوصول مولانا الصفي – أيده الله – وحسن ما فعل في هذا المخرج المنصور، وما أصلح الله به الأرض، فأقام ثلاثاً في كلها يطرف الإمام، في كل وقت بعجيبة ويحدثه بغريبة، ثم عاد إلى صنعاء المحروسة فأعطى أصحابه أرزاقهم، وأطلق الفسح لمن شاء منهم.
وأما مولانا محمد بن الحسن – أيده الله – والسبب الداعي لوصوله إلى اليمن الأسفل وذلك أنها معظم ولايته مع تهامة، ومداينها وبنادرها، وقد طالت إقامته في صنعاء وبعد عهده بها فخرج من صنعاء المحروسة في شهر جمادى الأولى عام اثنين وسبعين وألف [ديسمبر 1661م] وأقام في ذمار ليالي، وتقدم إلى محروس مدينة إب ووصله العمال من جميع اليمن، وكبراء أهله مما ينبغي من الضيافات والخيل وما بعدها، وأخذ في تفقد البلاد والمظالم – وله في ذلك أخبار يجب أن تكون فيها الأسوة، وأن تكون لمن بعده قدوة فإنه – أيده الله- يتولى أكثر أعمال أهل بلاده، وأجناده بحواسه ويده، وله في تدقيق ذلك مالا يدركه[291/أ] الفهم ولا يحكيه الوهم، قال من وقف على أمره في اليمن أنه كان يراه في كل يوم يأمر بتوقيع أهل الخلعات من سائل ومستعد، ويستدنيهم إليه، ويقضي حوائجهم ويناظر بينهم، وقد يقضي ويفتي في هذا المجلس العام، ولا ينصرف إلا لضيق وقت الصلاة ويأمر بعشائهم، ويقضي كثيراً مع ذلك من حوائجهم، فإذا صلى المغرب بأصحابه التفت إلى قراءة القرآن من ورد، ومن القراءات السبع مع
أوراده المعتادة في جميع أصناف العلوم، فإذا فرغ من ذلك بعد صلاة العشاء، عاد إلى شيء من نظم الأعمال.
أخبرني بعض الفقهاء العدول أن سائلاً سأله عن واقعة بينه وبين خصمائه أن يقطعها بينهم، وكان قد مضى من وقت القضية أكثر من أربعة أشهر، وأراد السائل أن يعمي في بعض أطرافها، فقال – أيده الله- الأمر على خلاف ما تقول وصمم ذلك الرجل على دعواه، قال: فاستخرج من جيبه رقعة من يوم التخاصم على ما حكى بين المتشاجرين.
وأخبرني بعض الأولاد – أسعدهم الله – عن ولده السيد الفاضل العالم التقي إسماعيل بن محمد – أيده الله – أنه سأل والده – حفظه الله – مع بعض الخواص أيضاً أن يريح نفسه يوماً في بعض بساتينه في صنعاء ويسرهم باجتماعهم به على حالة موافقة، ويتنعم معهم بما تفضل الله به، قال: فلا زال يعدنا من يوم إلى آخر حتى أخفيناه السؤال، فأمر أن يفرش في بعض البساتين وخرج وخرجنا إلى ذلك البستان، ثم وقف قليلاً، وقال: أهل الحاجات وراء الباب اذهب يا فلان لبعض صغار العبيد أتيني بالأوراق التي في الخرق الفلانية، فلما أحضرها أقبل إليها كعادته يقضي لكل حاجة، وقام من ذلك المجلس، وقد استقصى ما وجد من حوائج ثم قام ولم يلتفت إلى غير ذلك، وعرض هذا العارض المتقدم ذكره، وهو في اليمن، فأصلح الله به كثيراً مما كان، والحمد لله رب العالمين.
[طلوع محمد بن الحسن إلى صنعاء]
ذكر طلوع مولانا محمد بن الحسن – أيده الله – من اليمن الأسفل، فإنه لما قام فيه عاماً ونصفاً على ما قدمناه من أخباره فيه، صعد من محروس إب إلى محروسة ذمار في شوال عام ثلاث وسبعين وألف [مايو 1662م] وأقام فيها إلى العشر الوسطى من القعدة الحرام. ثم تقدم إلى الإمام عليه السلام إلى محروس الدامغ في عدة من كبراء أصحابه في صحبته أولاده الكرام – أدام الله عزهم – وتلقاه الإمام، بما يحق له من الجلالة والإعظام، وبسط في أصحابه [291/ب]الإنعام العام، وقد وصل بالهدايا الفاخرة، والمؤنة النافعة الظاهرة، وحضر عيد الأضحى، وكان وقتاً مشهوداً وجمعاً مسعوداً، عم فيه طبقات المسلمين الإحسان من الإمام، ومن ولده عز الإسلام – أيد الله بهما قواعد الإسلام- ولما تقضت أيام العيد تقدم مولانا محمد – أيده الله – إلى صنعاء المحروسة آخر أيام التشريق، بعد أن وعده الإمام بالصعود إلى صنعاء لأخذ العهد بالمدينة المحروسة، ومن فيها من الخاصة والعامة، لا سيما مع أيام الخريف فإن وقته للجمع الكثير أيسر حملاً، والمؤن لأجل العنب فيه سهلاً، وأقام الإمام عليه السلام بقية شهر الحجة والنصف من المحرم سنة أربع وسبعين وألف [أغسطس 1663م] في الدامغ، ثم صعد إلى صنعاء في يوم الإثنين من الشهر المذكور. وكان قد وصل في شهر الحجة الحرام إلى الإمام كثير من أشراف مكة، وعيون بني الحسن وتلقاهم الإمام بالمعهود من كرمه وإحسانه. ثم وصل في أثناء ذلك الشريف الكبير المعظم الخطير حميد بن هاشم من خواص الشاه الكبير والسلطان الشهير، عباس شاه الحسيني،
وإن هذا الشريف خرج اليمن وعرف الإمام محله، فعظمه كثيراً ورفع قدره وخاض معه فيما ينبغي من بلاغ الحجة، وحسن الدعاء إلى واضح المحجة، وأعطاه من نفائس هدايا اليمن ما يليق بأهل تلك الممالك، ومما لها قدر هنالك، وذكر هذا الشريف أن له ابن عم يسمى مرزا مهدي بن مرزا حبيب الله، وأنه أكبر وزراء الشاه وهم ستة كلهم يرجعون إليه، فجهزه الإمام إلى خراسان وأكوارها وكتب معه إلى السلطان، ما هذا نسخته.
بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى من عبد الله أمير المؤمنين، المتوكل على الله رب العالمين إسماعيل بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد بن الأمير الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن الإمام يوسف الأصغر الملقب بالأشل بن القاسم بن الإمام الداعي إلى الله يوسف الأكبر بن الإمام المنصور بالله يحيى بن الإمام الناصر لدين الله أحمد بن الإمام الهادي لدين الحق يحيى بن الحسين الحافظ بن الإمام ترجمان الدين القاسم بن إبراهيم طباطبا الغمر بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الشبه بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وإمام المتقين علي بن أبي طالب وابن فاطمة الزهراء البتول ابنة سيد المرسلين، وخاتم النبيين محمد المصطفى (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)[292/أ] حامداً الله على نعمه، ومثنياً على الله بما هو أهله، ومذعناً له على نفسي بالعبودية ومقراً له عز وجل بالربوبية والوحدانية، وشاهداً أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء
قدير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وإن محمد عبده ورسوله اجتباه وهداه واستخلصه واصطفاه، وطهره وزكاه، ومصلياً مسلماً على محمد سيد النبيين وعلى سيد الوصيين، وعلى فاطمة سيدة نساء العالمين، وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة أجمعين، وعلى الأئمة المطهرين الهادين، الذين قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ((إن الله جعل لي علياً وزيراً وأخاً ووصياً وجعل الشجاعة في قلبه وألبسه الهيبة على عدوه ، وهو أول من آمن بي، وهو أول من وحد الله معي، وهو سيد الأوصياء، اللحوق به سعادة، والموت في طاعته شهادة واسمه في التوراة مقرون إلى اسمي زوجته الصديقة الكبرى، وابناه سيدا شباب أهل الجنة، وهو وهما والأئمة من ولدهما حجج الله على خلقه)) والذين هم كما قال (الإمام) الصادق، الذي هو بين الحق والباطل فارق، جعفر بن محمد الباقر علي سيد العابدين الحسين السبط الشهيد بن أمير المؤمنين الوصي السعيد قايمنا لقاعدنا، وقاعدنا لقائمنا، والذين لا ينجوا إلاَّ من عرفهم وعرفوه، ولا يفوز إلاَّ من ألفهم وألفوه، والذين هم أمناء الله على عباده، وخلفاء الله بالحق في بلاده وعلى جميع آل محمد العترة الطاهرة (والذرية الطيبة) وسائلاً الله الرضوان عن شيعتهم، وأولى الناس بهم والمتمسكين بولايتهم، والمؤتمين بإمامتهم والمسلمين لأمرهم، والمجتهدين في طاعتهم والمنتظرين، والمادين إليهم أعينهم إلى أخيه وابن عمه وصنو أبيه الشاه الأكبر المجاهد
لمن عَنُدَ عن منهج الحق واستكبر ذي الهمم النبوية، والعزايم العلوية، الحسنية الحسينية العابدية الباقرية الصادقية الكاظمية الرضوية التقية النقية الهادية المهدية، عباس بن صفي شاه بن عباس شاه الحسيني، نسب يقصر عنه كل من صلى وجلا، وتحل من دون الشمس سناً ومحلاً، أدام الله سعوده وحمى به حمى آل محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) حدوده، وأعز به من الإسلام دين الله الذي ارتضاه حوزته وجنوده، وحفظ به عهوده وعقوده، وأهدى له من شرايف تسليماته، ولطائف تكريماته، ما يزيد مقامه شرفاً كما شرف أباه وجدوده، أشكر الله إليه على ما أولانا أهل البيت النبوي، وهذه الأقطار من نعمه السابغة[292/ب]، وأياديه البالغة، وظهور حجة الله بآل محمد، وعلو كلمة الله على كلمة من غيَّر في دين الله وألحد، واعتزاء أهل هذه الديار إلى العترة الغراء والذرية الطيبة التي بعضها من بعض من بني البتول الزهراء. واستطلع ما يزيدنا الله به إن شاء الله سروراً إلى سرورنا، وحبوراً إلى حبورنا، وظهوراً إلى ظهورنا، مما رفع بكم من قدر الإسلام، وأعلى بكم ذكر أئمة الهدى على أبيهم وعليهم أفضل الصلاة والسلام، إذ كانت النسبة نبوية، والدعوة علوية، والعقيدة بيضاء نقية، والجهاد للظالمين في سبيل الله والنية مجتمعة إن شاء الله على ابتغاء مرضات الله، فالتواصل على مثلنا ومثلكم واجب وإن نأت الديار، والتراسل الذي جعله الله قائماً مقام التلاقي لازم وإن بعدت الأقطار، والتواصي بما أمر الله به من الحق والصبر والمرحمة فريضة علينا وعليكم من الملك الجبار، والتعاون على البر والتقوى والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، مضى عليه سلفكم وسلفنا الطيبون الأطهار امتثالا لقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} وحفظاً لما استحفظ الله من قرنهم بالكتاب وحراسة شريعة الله التي هي الحكمة وفصل الخطاب، وتصديقاً لمثل قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ألا إن أئمتكم وفدكم إلى الله فانظروا من توفدون في دينكم)) وقوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإيمان ولياً من أهل بيتي موكلاً يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكايدين)). فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على الله فإن الأخبار بتحقيق الأحوال على ألسنة الصابرين والواردين، وإن كانت متواترة وبما يشرح الصدور وتقر العيون إلينا عنكم وإليكم عنا، لا تبرح إن شاء الله متظافرة. لا تقوم مقام ما جعله الله أحد اللسانين، وأمتن
به في سورة القلم وجعله أحد البيانين، أطلع الله عنكم كل مسرة ومبرة، وزادكم من فضائل الدين والدنيا ما يوليكم نعمه وخيره، بحق محمد وآل محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وحسبنا الله ونعم الوكيل، فنعم المولى ونعم النصير[293/أ] ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، حرر في ذي الحجة الحرام من عام ثلاث وسبعين وألف [يوليو 1662م].
[مراسلة الإمام إلى سلطان الهند]
وكتب الإمام مع تجهيزه لهذا الشريف إلى بلاد الهند، إلى السلطان المعظم صاحب الهند الأكبر المذكور، فيما سبق مع رسوله الشريف المعظم الرشيد، أحمد سعيد، وقد عاد من مكة المشرفة من طريق تهامة، وتعسر عليه الصعود إلى الحضرة الشريفة الإمامية أيد الله بها الإسلام، وكبت بها أعداؤه الطِغام وبعث معه بهدايا إلى السلطان غالية الثمن، ومما له قدر من تحف اليمن، منها أثنا عشر حصاناً مختارة مما ينتخب، ويرخص في مثلها قناطير الفضة والذهب، وكتب معها بما هذا نسخته…………………… .
[وصول أمير نصيف البديع إلى الإمام]
[293/ب]نعم! وكان قد وصل إلى الإمام، في شهر ربيع الآخر الشيخ (الريِّس) الكبير غنام بن رشود الجميلي بضم الجيم بعدها ميم ثم يا مثناه من تحت- بعد أن وصل إلى مولانا سيف الإسلام أحمد بن الحسن- حفظه الله – ثم بعثه إلى الإمام وطلب من الإمام أن يبعث معه داعياً يدعو إليه، وأن يكون هو وأهل بلاده ممن يعتزي إليه، وعظمه الإمام كثيراً وأعظم قدره، وخاض معه فيما طلب وبعث معه الفقيه الفاضل شمس الدين أحمد بن ناصر الحيمي، هو من أصحاب مولانا سيف الإسلام –أيده الله-.
ولما وصل إلى مولانا الصفي – أيده الله – زاد في إكرام هذا الشيخ وأعطاه كثيراً من أجناس السلاح والخيل، وغيرهما، وأخبرني من وجد هذا الشيخ في بعض طريق صنعاء عند منصرفه من الحضرة الإمامية – أدامها الله – أنه أمسى معه في قرية وعلان من أعمال سنحان، أنه رآه في جميع أوقاته لا يفتر لسانه عن الدعاء للإمام، والثناء عليه، وأنه رأى أصحابه يعظمونه بما لا يعرفه لمثله، وأنهم اشتروا كبشين لعشائه وتركوهما بين يديه، فأخذ يأكل منهما كالسبع السغب والذيب النهم، ولا يلتفت إليهم حتى رفع، واحتملوا ما بقي قال: وعرف أني من أصحاب الإمام، فأشركني معه في طعامه وأدامه واختصني لأجل الإمام دون أصحابه.
وكتب الإمام مع الفقيه المذكور والشيخ المذكور ما هذا نسخته………… .
[294/أ]............................... .
[294/ب]نعم! ومن أخبار الفقيه المذكور عن الجهات المذكورة وأهلها ما نقله القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال – أطال الله بقاه – مكاتبة إلي ومن لفظه: وصلكم المملوك بسؤال إلى الفقيه أحمد بن ناصر الحيمي عن أحوال سفره فهذه عجالة راكب كتبتها والرسول يتقاضاني العزم إلى بعض الحال المباركة إلا أني استبطأت الكتاب إليك، فحاصل ما أخبرني به أنه لما وصل الشيخ غنام بن رشود إلى المسمى الجميلي وهو أمير نصف البديع مستنصراً بجانب المولى – أيده الله – وولده الصفي – أيده الله – على من زعم المذكور أنهم بغوا عليه وهم مشايخ الشثور – بالشين المعجمة ثم المثلثة من بعد- وهم محمد بن معني العريزي وسيف بن محمد وهلال بن فراس بهؤلاء شيوخ الشثور الذين شكى منهم العدواني وليس الأمر كما وصف بل هؤلاء الثلاثة أشد حالاً منه وأحسن استقامة ورام أن يجيبه المولى
–أيده الله – على ما يقول فاحتاط بإرسال الفقيه هذا بدعة لهم وافتقاد الأحوال وحقايقها والبحث عن الطرقات وأصحبه سيدي الصفي – أيده الله – كتباً إلى يام وبني هاجر والمخضبة والمعضة والدواسر والسهول ورام وآل عثمان من اليمامة المعروفين بالخرج ومشايخ آل حسين من اليمامة أيضاً والشيخ تركي وإخوته من اليمامة وأصحبه كتاباً أيضاً إلى مشايخ الخديمات أهل الروضة فسار الفقيه بالكتب فما لقيه أحد من القبائل المدعوة وغير المدعوة إلا بالترحيب (والتكريم والتعزيز والتحشيم والدعاء للإمام، قال: فلما وصل البديع بلد الشيخ غنام الذي وصل شاكياً – وهو بلد كبيرة لها ثلاثة أسوار وفيها ثلاث حصون وساكنها نحو ألف رجل وفيها نحو ألفي بير – فأقام عندهم وبلغهم الرسالة وطلب منهم البيعة فدخلوا فيها ثم أنه خطب أيضاً للإمام وكاتبهم وراسله مشايخ الشثور والذي شكا).
ثم الشيخ غنام فدخل إليهم إلى بلدهم المسماة ليلي، ووجدهم أحسن الناس طريقة وامتثالاً للإمام والولد الصفي – حماه الله تعالى – وأجاب عما نسبه الشيخ غنام إليهم من العدوان بأنه لم يتعرض لعناده لأذية إلا لأنه أباح المحرمات واعتدى على ضعفاء أهل الروضة بنهبهم وأراد أن الإمام يجيبه إلى النصرة فيقبح المذكورين كيفما أراد مع أنه رجل عادٍ ظالم لا يقف عند الشريعة فقال مشايخ الشثور: هذا الذي كلفنا لمعاداته الذين غر هؤلاء فإذا أراد منا الإمام الكف فالسمع والطاعة. لكن عليه حفظ هؤلاء فاستقر الفقيه عندهم أحسن استقرار على إكرام وإنصاف وتزوج عندهم وأظهروا الطاعة ثم توجه للحج ولم يتيسر له دخول اليمامة، لكن اتفق بالشيخ محمد صنو الشيخ ريس اليمامة في مكة فطلب الاتفاق به فوافق عند الكعبة وأظهر التشوق الكلي وقال: يا فقيه أحب الله يشهد علي أني وأخوتي وقبائلي أحوج الناس للإمام وهو يرينا وجهه (وبلغ الفقيه الدعوة إلى ساير القبائل كما ذكرناه وامتثلوا والحمد لله رب العالمين) .
ولما أزمع الإمام على المسير إلى صنعاء المحروسة بالله وصله من الفقيه المذكور ومن نواحي البصرة والإحساء والقطيف وما يتصل بها من جهات نجد البشرى العظيمة بموالاة أهل تلك الأطراف بحسن الولاء والإجابة والإشادة بذكر الإمام في تلك الأقطار والدخول في الطاعة والاستمرار، (وهو معنى ما ذكره القاضي أحمد –أيده الله-) وحيث قد ذكرنا نفوذ هذه الدعوة النبوية والخلافة العلوية إلى البلاد المذكورة.
فلنذكر السبب الموصل إلى ذلك على سبيل الاختصار، ومن الله نستمد التوفيق والإعانة على التحقيق وذلك ما قد تقدم ذكره في سيرة مولانا المؤيد بالله، ومن كان يفد إليه من الإحساء والقطيف وجهاتهما، ومن النصرة وبواديها وما أبان لهم من السيرة النبوية والدعوة العلوية، وتابع إليهم السفراء، حتى أنه لم يبق موضع لم يعلم فيه بذكر الإمام، إما جملة وإما تفصيلاً.
[وصول وفد من الإحساء إلى الإمام المتوكل على الله]
ولما ظهرت الدعوة المتوكلية أعز الله بها الإسلام في الأرض، وانتشر ذكرها في طولها والعرض، تضاعفت الوفود، ولا يكاد يخلو مقام الإمام منهم الوجود فكان ممن ورد[295/أ] على الإمام في سنة تسع وخمسين وألف [1649م] السيد الشريف ذو القدر العالي المنيف عبد القادر بن نعمة الله الحسني من أشراف مكة المشرفة سفيراً من صاحب الإحساء ومن محمد نبق – بالقاف المثناة من فوق- وكان هذا السيد من أهل الأدب البارع والعلم النافع كما يليق بمنصبه الشريف وله مع الإمام مراجعات ومحاورات. توفي في محروس شهارة – حرسها الله – وصلى عليه الإمام. ودفن في السرار في صرح المسجد أعلاه، بعد أن كان جهزه الإمام إلى الباشا المذكور، وأنفذ الإمام أصحابه بعد أن أحسن إليهم كثيراً وأعطاهم جماً غفيراً، ولا زالت الوفود من أهل تلك الجهات في العام أكثر مما قبله. ثم وصله الشيخ (الريِّس) راشد بن ذرع من أهل بلاد الإحساء وعظمه الإمام كثيراً وتحمل كتباً من الإمام (عليه السلام) إلى بلاده وما يواليها، تضمن الدعاء إلى الرشاد، والتعليم والبلاغ عن الله ورسوله إلى العباد فصار هذا الشيخ المذكور في حكم الداعي إلى الإمام (عليه السلام) رجعنا إلى صفة بلاد البديع وما والاها وصفة مقام الفقيه أحمد فيها……………… .
[وصول وفد من البصرة إلى الإمام]
[295/ب] رجعنا إلى ذكر تقدم الإمام إلى صنعاء – المحروسة بالله – فإنه تقدم في منتصف شهر محرم الحرام سنة أربع وسبعين وألف [أغسطس 1663م] ووجد وفداً من كبراء أهل البصرة، وهم الأمير سالم بن صلاح الدين الجزايري من بني مسلم غربي البصرة إلى نحو بغداد، والأمير حسن بن محمد بن علي بن غانم من قبايل الإحلاف أيسر الجزاير والأمير محمد بن سالم من قبائل بني منصور والأمير حسن بن نجم من أهل الركية، والأمير خليل بن إبراهيم الجزايري، وإليه أتباع وعبيد نحو من عشرين نفراً، وقد وفدوا إلى مقام مولانا سيف الإسلام أحمد بن الحسن – حفظه الله – يلتمسون منه الإعانة لهم في طلب المعونة من الإمام على استنقاذهم من أيدي الروم وإن عليهم باشا يسمى حسيناً سامهم العذاب، وأناف على جبابرة شجرته الخبيثة في سفك الدماء والنهاب، فأمر الإمام بإرجائهم والإحسان إليهم، وأن يكونوا بنظر مولانا سيف الإسلام، ليعرف أحوالهم وما يكون مآلهم، وبلغني أنهم اختصموا فيما بينهم وادعى كل منهم على الآخر أنه على خلاف ما ادعى وكتب هذا من أخبارهم وهم في المقام الشريف الإمامي معظمون مكرمون ………… .
[تفقد الإمام لأحوال الأهالي في عدد من المناطق]
[296/أ] وقد أقام الإمام في صنعاء نحواً من خمسة عشر يوماً، وقد تلقاه أولاده الكرام، ليوث الصدام وعيون الإنعام، مولانا ملك الإسلام عز الدين محمد بن الحسن، ومولانا سيف الإسلام أحمد بن الحسن، ومولانا جمال الإسلام علي بن الإمام وسائر أخوتهم وأولادهم الأعلام بالجنود المنصورة والكتائب الموفورة وعيون البلغاء والفقهاء والتلامذة الأتقياء فأشرقت المدينة المحروسة بنورها وعاودها روحها وسرورها، وهو مع ذلك يتفقد الحكام، ويوزع الأوقات في منافع الإسلام الخاص منهم والعام، ويتنقل في بيوت أولاده الكرام (للضيافة ويختص الضعفاء والأيتام) بخصة من كل ضيافة. وانتقل إلى الروضة المعمورة بالتقوى وأولاده الكرام يتحملون أكثر المؤن، ويوزع حاجة المساكين وساير المسلمين بينهم، ويتولى بنفسه الكريمة ما أمكن وكانت أوقاتاً مسعودة، وبمنافع المسلمين مشهودة، ومع هذه الإقامة الميمونة والمجالس المعظمة المصونة استمرار قراءة الفضلاء على الإمام في فنون من العلم منها المجلس في غرة اليوم لمولانا سيف الإسلام – أيده الله – وعالم من أهل العلم وكذلك مجالس مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن – أيده الله – عادتها في الاستمرار، وفي أيام إقامته عليه السلام في الروضة كانت وفاة السيد الفاضل الطاهر والعالم الزاهر الحسن بن أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين – رحمه الله – وكان هذا السيد من نخباء أهل البيت وعبادهم وزهادهم (وفتيانهم) فكان لذلك موقع عظيم في قلوب المسلمين لا سيما أمير المؤمنين وأهله – أيدهم الله تعالى – ودفن إلى
جنب الجامع الأعظم في الروضة وعليه عمارة، وهو مأهول للزيارة وفيه مراث…………… .
[296/ب]....................... .
[297/أ] ذكر تقدم الإمام إلى شهارة المحروسة وأعمالها، ولما أزمع الإمام على الضيافة إلى جهات شهارة المحروسة بالله، أخذ في تفقد حوائج أهل بلاد صنعاء وما وراءها من أهل اليمن وتهامة فأفرغ له وقتاً يسعه حتى لم يترك لسائل حقاً يعتاده أو صدقة أو صلة يسألها صغيراً كان أو كبيراً، ممن ذكرنا ينفقه عليهم ورحمة لهم من مشقة المسير معه وإن يتجشموا سفراً ابتداءً كما أخبرني بعض علماء صنعاء المحروسة بالله مكاتبة.
وأخبرني من شهد ذلك أيضاً، وإن أخته الشريفة الفاضلة العالمة العابدة الزاهدة تُقى بنت أمير المؤمنين المنصور بالله – أطال الله تعميرها – وصلته إلى روضة صنعاء، وقد خرج معها بعض أولادها وبعض أولاد أولادها وكانت تظن أن الإمام مقيماً في صنعاء، وربما يعود حصن الدامغ، وفي صنعاء من أولادها بعض وغالب أولاد إخوتها وهم من تقدم ذكرهم من آل الإمام، فأمرها الإمام بالبقاء عند أولاد أخيها مولانا الحسن، رحمة الله عليه.
ولما أزمع المسير أمرها بالعود إلى محروس شهارة فإنه حصل مع أهل شهارة المحروسة وحشة من خروجها لكونها بقية إمامهم صلوات الله عليه ولما لهم منها من الصلات والشفاعات الجالبة لمنافعهم.
ثم إن مولانا سيف الإسلام – أيده الله – سأل الإمام المضي معه إلى مكانه ومساكنه من الغراس، ثم ضيافة الخارد وقد أنجده – أيده الله – يعني لمولانا الصفي منتزهاً ومسكناً وعمر فيه العماير المتقنة، وآثار الزراع الكثيرة النافعة فأجابه الإمام إلى ذلك وسار إليه إلى الخارد فوجده – أيده الله – قد أعد الضيافات الكثيرة والعطايا الغفيرة والمضارب العظيمة والسرادقات البهية والفواكه النضيرة، فنزل فيها عموم آل الإمام، ثم الكبراء والعيون من الوفود على الإمام – أيده الله – ثاني يوم، واستصحب مالا بد له منه ولوجوه أصحابه من الخيام والمضارب وأما الضيافات والمؤن فتحملها مولانا الصفي – أيده الله–، ووصل إلى ذلك المحل كبار أهل المشارق من نهم وذيبان وما والاهما بالنذور والمواصلة وقضى في هذا المحل حوائج كثيرة لطبقات المسلمين لاجتماعهم وسعة المكان والقرب منهم فكان كذلك ثمانية أيام.
ثم تقدم الإمام إلى الرجو من أعمال الخشب الداخلي وقد تلقاه أهل تلك المخاليف بالنذور والضيافات، وأضافوا من كان معه بعد أن مضى بيت الخالد وزار الأمير الفاضل الشهيد الحميد حمزة النفس الزكية بن الإمام أبي هاشم الحسني بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين[297/ب] أخي الهادي في بيت الخالد وقد تودعه مولانا العزي ومولانا الصفي – حفظهما الله – من جانب الطريق وعاد المخيم المنصور. ثم إن مولانا محمد بن الحسن – أيده الله – عاد إلى روضة صنعاء ومولانا الصفي – أيده الله – أقام في محله، وهو كثير التردد إلى البوادي ويختارها على المدن إما طبعاً أو لنظر رأه لدينه ودنياه (ورجع أيضاً ساير أولاد الإمام إلى مواضعهم إلا مولانا محمد بن الحسن فنفذ مع الإمام (عليه السلام) إلى السودة) .
رجعنا إلى مسير الإمام، وبلغني أن الإمام أراد الزيارة إلى ظفار - المحروسة بالله - ثم ذيبين فبلغه مشقة تلك البلاد على أهلها وقل الماء فأثر الرفق بهم وقصد ناعط من بلاد كانط ومخلاف الصيد، وزار الإمام الأعظم أبا هاشم الحسن بن عبد الرحمن المقدم الذكر في ناعط، وبات هنالك وهذا الموضع من مآثر التبابعة مشهور البرد العظيم في غير وقته. وأما في الوقت الذي وصله الإمام وهو في كانون المحرق فكان زيادة، فيروى أنه هلك من البرد في تلك الليلة خيل وحمير، وبعض من الناس، وصلى الجمعة فيه، وأمر أن لا يكرهوا أحداً على الحضور لما عرف لهم العذر، ثم هبط منه إلى أسفل الصيد، ثم أفضى إلى حمدة من أعلى البون الصغير، وقد تلقاه أهلها وفي بلدهم كثرة من اليهود فرأى عليهم شارة أكثر من غيرهم فسأل عن حرفهم فوجد فيهم الغني والمتوسط المتعيش.
ذكر افتقاد حرية اليهود.......
[298/أ] ثم سار إلى بيت ذايب من أعمال جبل عيال يزيد ثم إلى الأقهوم ثم إلى السودة، وقد تلقاه أهل تلك المخاليف بالنذور والضيافات، وأقام في السودة [….] ثم ارتحل إلى آقر من بطنه حجور وأقام فيه ثم صعد شهارة المحروسة بالله [في منتصف جمادى الآخرة من سنة أربع وسبعين وألف] ………… .
مؤلفات الإمام المتوكل على الله إسماعيل
مؤلفاته
1- أربعون حديثاً، صدرها بمقدمة أولها: (الحمد لله رب العالمين وصلاته على خير المرسلين وإمام المتقين محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وعلى إخوانه من النبيين وآله وأزواجه وأصحابه أجمعين...) نسخة مخطوطة في ست ورقات ضمن مجموعة بمكتبة الجامع.
2- إجازة كتبها للعلامة عبد الله بن أحمد الشرفي سنة 1055هـ نسخة في صفحة واحدة ضمن مجموعة بمكتبة الجامع قسم المدرسة.
3- البراهين الصريحة في العقيدة الصحيحة، شرح في كتابه العقيدة الصحيحة، منه نسخة مخطوطة في عام 1071هـ في 115 ورقة بمكتبة الجامع برقم 123 (علم الكلام) منه نسخة أخرى ضمن المجموعة رقم 80 بمكتبة الجامع، نسخة ثالثة ضمن مجموعة برقم 18 بنفس المكتبة، نسخة رابعة مخطوطة في عام 1067هـ في 74 ورقة بمكتب الجامع برقم 122(علم الكلام).
4- البيان الصحيح والبرهان الصريح في مسألة التحسين والتقبيح، منه نسخة مخطوطة سنة 1079هـ في 118 ورقة بمكتبة الجامع برقم 121 (علم الكلام). نسخة مصورة عن الأولى بدار الكتب المصرية برقم 25499ب.
5- جواب المتوكل على الله إسماعيل على الشريف بركات بن محمد بن حسين المكي، منه نسخة مخطوطة بمكتبة الجامع ضمن مجموعة برقم 33.
6- حاشية على كتاب منهاج الوصول شرح كتاب معيار العقول في علم الأصول للإمام المهدي، انظر الشوكاني 1/147.
7- رسالة في الربا، منها نسخة مخطوطة ضمن مجموعة برقم 24 بمكتبة الجامع (الكتب المصادرة).
8- رسالة في الطلاق الثلاث، انظر الشوكاني: 1/147.
9- رسالة في الخلع.
10- رسالة في المخايرة في إبطال الدور.
11- رسالة فيما وقع إهداره في أيام البغاة.
12- رسالة فيما يؤخذ من الجبايات.
13- سؤال ورد من القاضي عبد القادر المحيرسي إلى الإمام المتوكل على الله إسماعيل وجوابه عليه، والمحيرسي هذا من أعلام اليمن الكبار له مؤلفاته منها حاشيته على الأزهار توفي سنة 1077 ومن السؤال والجواب عليه نسخة مخطوطة ضمن مجموعة بمكتبة الجامع برقم 95.
14- شرح الأربعين حديثاً، ذكره المحبي في خلاصة الأثر: 1/411.
15- شرح جامع الأصول لابن الأثر المتوفي سنة 606هـ انفرد بذكره المحبي في خلاصة الأثر:1/411.
16- شفاء الصدور من داء البهتان والزور، في الرد على من اعترض عليه في بعض الأعمال منه نسخة مخطوطة بمكتبة الجامع ضمن مجموعة برقم 36.
17- العقيدة الصحيحة في الدين النصيحة. نسخة مخطوطة سنة 1061هـ ضمن مجموعة برقم 155 (علم الكلام) بمكتبة الجامع.
18- قصيدة الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم عند رجوع حاج اليمن منها نسخة مخطوطة ضمن مجموعة برقم 33 بمكتبة الجامع.
19- مجموعة رسائل متبادلة بين سلطان الهند أبو المظفر محي الدين محمد بن أزنكريب بداشاه الغازي وبين إمام اليمن المتوكل على الله إسماعيل بن المنصور بالله القاسم بن محمد مؤرخه ما بين عام 1070هـ وعام 1072. وكانت هذه الرسائل متبادلة بينهما بصحبة محمد بن إبراهيم بن أمير نعمان، منها نسخة مخطوطة في 31 ورقة بمكتبة الجامع.
20- المسائل المرتضاه فيما يعتمد القضاه.من الأصل نسخة مخطوطة ضمن مجموعة برقم 64 بمكتبة الجامع.
21- نبذة من كلام الإمام المتوكل على الله إسماعيل منها نسخة مخطوطة ضمن المجموعة برقم 95 بمكتبة الجامع.
22- الوصية المتوكلية، شرحها العلامة علي بن عبد الله الشهاري (عاش في القرن الثاني عشر) في مجلد ضخم تحت عنوان المنشورات الجلية مما انطوت عليه الوصية المتوكلية وهو مرتب على مقدمة وثمانية منشورات هي:
المنشور الأول: في عدد فرق الأمة على الإجمال.
المنشور الثاني: في أطراف من المعتقدات الكفرية.
المنشور الثالث: في ذكر حدود جزيرة العرب ومن سكنها.
المنشور الرابع: في ذكر رسول الله وعلي بن أبي طالب.
المنشور الخامس: فيما شجر بين الصحابة.
المنشور السادس: في سير الخلفاء المتقدمين.
المنشور السابع: في……
المنشور الثامن: في ذكر من قال بالجبر والقدر.
الخاتمة: في أربعين حديثاً في شأن علي بن أبي طالب، توجد في الكتاب نسخة مخطوطة سنة 1173هـ بمكتبة الجامع.
أشهر الألقاب الواردة في المخطوطة
اللقب ... : ... الاسم الذي يلقب به
الجمالي ... : ... يلقب به من اسمه: علي
الحسام ... : ... يلقب به من اسمه: محسن
الشرفي ... : ... يلقب به من اسمه: حسن أو حسين
الصارم ... : ... يلقب به من اسمه: إبراهيم.
الصفي ... : ... يلقب به من اسمه: أحمد.
الضياء ... : ... يلقب به من اسمه: إسماعيل، أو لطف، أو حمود،أو صالح.
العزي ... : ... يلقب به من اسمه: محمد.
العلم ... : ... يلقب به من اسمه: قاسم.
الفخري ... : ... يلقب به من اسمه: عبد الله
قائمة المصادر والمراجع
أولاً: المخطوطات
1- الجرموزي: المطهر بن محمد: النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة، دار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء رقم (19).
2- الجنداري: أحمد بن عبد الله: الجامع الوجيز في وفيات العلماء أولي تبريز، دار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء رقم (2524).
3- القاسم، يحيى بن الحسين: بهجة الزمن في تاريخ حوادث اليمن، جـ1، دار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء رقم (2492).
ثانياً: المصادر والمراجع العربية
1- الأزدي: أبو داود سليمان بن الأشعث: سنن أبي داود، تعليق الشيخ علي أحمد سعد، مطبعة الحلبي، مصر، 1952م.
2- الأكوع: إسماعيل بن علي: البلدان اليمانية عند ياقوت الحموي، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء، الطبعة الثانية 1988م.
3- الألباني، محمد ناصر: صحيح الجامع الصغير وزيادة الفتح الكبير، الطبعة الثالثة، المكتب الإسلامي بيروت 1982م.
4- البغدادي، إسماعيل باشا: هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، مكتبة المثنى، بغداد 1951م.
5- البخاري، أبي عبد الله محمد بن إسماعيل: صحيح البخاري، دار مطابع الشعب.
6- البكري، صلاح: تاريخ حضرموت السياسي، الطبعة الثانية، مطبعة مصطفى البالي مصر 1956م.
7- ،،..،، حضرموت وإمارات الجنوب العربي، مكتبة الإرشاد، جدة، 1960م.
8- با وزير، سعيد عوض: صفحات من التاريخ الحضرمي، الطبعة الثانية، دار الهمداني، عدن 1983م.
9- براود، ك. خ: اليمن في أوائل القرن السابع عشر (مقتطفات من الوثائق الهولندية المتعلقة بالتاريخ الاقتصادي لجنوب الجزيرة العربية 1614-1630م) شركة أ.ي، بريل، ليدن، 1988م.
10- البيهقي، أبي بكر أحمد: السنن الكبرى، دار صادر، بيروت، 1346هـ.
11- الجرافي، عبد الله بن عبد الكريم: المقتطف من تاريخ اليمن، مؤسسة دار الكتاب الحديث، بيروت 1984م.
12- الجزري، عز الدين بن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق وتعليق محمد البناء، دار الشعب.
13- الجوزي، أبي عبد الله بن القيم: زاد المعاد في هدى خير العباد، دار البحوث الرياض.
14- الحاكم، الناسبوري: المستدرك على الصحيح، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990م.
15- الحبشي، عبد الله محمد: مصادر الفكر العربي الإسلامي في اليمن، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء.
16- ،، ،، ،،: فهرس مخطوطات بعض المكتبات الخاصة اليمن، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، 1994م.
17- ،، ،، ،،: معجم النساء اليمانيات، دار الحكمة، صنعاء 1988م.
18- حجاج، مسلم: صحيح مسلم مطبعة عيسى الحلبي، مصر.
19- الحجري، محمد بن أحمد: مجموع بلدان اليمن وقبائلها، تحقيق إسماعيل بن علي الأكوع، دار النفائس، بيروت 1984م.
20- ،، ،، ،،: مساجد صنعاء، صنعاء 1361هـ.
21- الحضرمي، حسين بن محمد: الآداب المحققة في معتبرات البندقة، تحقيق ودراسة عبد الله أحمد محيرز، وزارة الإعلام والثقافة، جمهورية اليمن الديمقراطية (سابقاً)1988م.
22- الحموي، ياقوت: معجم البلدان، دار صادر، بيروت 1957م.
23- حنبل، أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل، دار صادر بيروت.
24- الحيمي، الحسن بن أحمد: سيرة الحبشة، تحقيق مراد كامل، الطبعة الثانية، دار العالم العربي، القاهرة.
25- دحلان، أحمد زيني: خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام، المطبعة الخيرية، 1305هـ.
26- الرازي، عبد الرحمن بن أبي حاتم: الجرح والتعديل، مطبعة حيدر آباد، بيروت، 1952م.
27- زبارة، محمد بن محمد: نبلاء اليمن في القرن الثاني عشر للهجرة (نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف) الطبعة الثانية، مركز الدراسات والبحوث اليمنية، صنعاء 1985م.
28- الزركلي، خير الدين: الأعلام، الطبعة السادسة، دار العلم للملايين، بيروت، 1984م.
29- سالم، د/ سيد مصطفى: المؤرخون اليمنيون في العهد العثماني الأول 1538-1635م، المطبعة العالمية، القاهرة 1971م.
30- ،، ،، ،،: الفتح العثماني الأول لليمن 1538-1635م الطبعة الثالثة، مطبعة الجبلاوي، القاهرة 1978م.
31- الشجري، يحيى بن الحسين: كتاب الأمالي، مكتبة المتنبي، القاهرة، عالم الكتب، بيروت.
32- ابن سعد، محمد: الطبقات الكبرى، دار صادر، بيروت، 1958م.
33- السيد، أيمن فؤاد: مصادر تاريخ اليمن في العصر الإسلامي، المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة، 1974م.
34- السياغي، حسين بن أحمد: قانون صنعاء، القاهرة، 1964م.
35- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن: طبقات الحفاظ، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة وهبة، القاهرة، 1968م.
36- شهاب، حسن صالح: عدن فرضة اليمن، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء 1990م.
37- ،، ،، ،،: أضواء على تاريخ اليمن البحري، الطبعة الثانية، دار العودة، بيروت، 1981م.
38- الشهرستاني، أبو الفتح: موسوعة الملل والنحل، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، 1981م.
39- الشوكاني، محمد بن علي: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابق، دار المعرفة، بيروت.
40- الطبراني، سليمان بن أحمد: المجمع الكبير، العراق.
41- أبو طالب، علي: نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمد عبده، دار التعارف، بيروت.
42- عاصم، ابن أبي عاصم: السنة، المكتب الإسلامي، مصر.
43- عبد الباقي، محمد فؤاد: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، الطبعة الثانية، دار الفكر.
44- عسلان، عبد الوهاب محمد: غيول صنعاء (دراسة تاريخية وثائقية) رسالة ماجستير، جامعة صنعاء 1993م.
45- عفيف، أحمد جابر (وآخرون): الموسوعة اليمنية، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء 1412هـ/1992م.
46- العسقلاني، أحمد بن علي: فتح الباري، تحقيق عبد العزيز بن عبد الله، إدارة البحوث العلمية، السعودية.
47- ،، ،، ،،: لسان الميزان، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، مطابع دار الكتاب العربي، مصر 1960م.
48- العمري، د/ حسين بن عبد الله: مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني، دار المختار، دمشق، 1980م.
49- ،، ،، ،،: مائة عام من تاريخ اليمن الحديث، دار الفكر المعاصر، دمشق، 1409هـ/1988م.
50- ،، ،، ،،: المؤرخون اليمنيون في العصر الحديث، دار الفكر المعاصر، دمشق، 1409هـ/1988م.
51- ،، ،، ،،: يمانيات في التاريخ والثقافة والسياسة (1)، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1410هـ/1996م.
52- عطية، أحمد: القاموس الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1970م.
53- الغالبي، سلوى سعد: الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم ودوره في توحيد اليمن، رسالة ماجستير، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، 1991م.
54- الغزوني، محمد كاظم: علي عليه السلام من المهد إلى اللحد، الطبعة العاشرة، دار العالم الإسلامي، بيروت، 1981م.
55- الفيروزي آبادي، مجد الدين محمد: القاموس المحيط، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت.
56- القارئ، علي: الأسرار المرفوعة، مؤسسة الرسالة.
57- قفلجملي، حكمت: التاريخ العثماني رؤية مادية، تعريب فاضل لقمان، دار الجيل، دمشق 1987م.
58- ابن كثير، أبي الفداء إسماعيل: تفسير ابن كثير، دار المعرفة، بيروت 1969م.
59- كحالة، عمر رضا: معجم المؤلفين، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
60- لقمان، حمزة علي: تاريخ القبائل اليمنية، دار الكلمة، صنعاء 1985م.
61- ابن ماجه، أبي عبد الله محمد: سنن ابن ماج، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث، بيروت، 1975م.
62- ابن المجاور، أبو الفتح يوسف بن يعقوب: تاريخ المستبصر، تصحيح أوسكرلونفرين، الطبعة الثانية، دار التنوير، بيروت، 1986م.
63- أبو مخرمة، أبو محمد عبد الله الطيب بن أحمد: تاريخ ثغر عدن وتراجم علمائها، اعتنى به علي حسن علي، دار الجيل، بيروت 1987م.
64- ماكرو، إريك: اليمن والغرب، تعريب د/ حسين بن عبد الله العمري، دمشق 1978م.
65- المتنبي، أبو الطيب أحمد بن حسين: ديوان المتنبي، بيروت لبنان (د.ت).
66- المتوكل، إسماعيل بن أحمد: مختصر طيب أهل الكساء تحقيق عبد الله الحبشي، مطابع المفضل، صنعاء 1990م.
67- معلوف، لويس: المنجد في اللغة والإعلام، الطبعة الرابعة والعشرون، دار المشرق بيروت، 1986م.
68- المناوي، محمد: فيض القدير شرح الجامع الصغير، المكتبة التجارية، مصر، 1938م.
69- المنذري، زكي الدين عبد العظيم: الترغيب والترهيب من الحديث، الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث الإسلامي، بيروت، 1968م.
70- ابن منظور: لسان العرب، تصنيف يوسف الخياط، دار لسان العرب، بيروت (د.ت).
71- هاشم، محمد: تاريخ الدولة الكثيرية، 1948م.
72- الهمداني، الحسن بن أحمد: صفة جزيرة العرب، تحقيق محمد بن علي الأكوع، مركز الدراسات والبحوث اليمنية، صنعاء 1986م.
73- الهمداني، الحسن بن أحمد: الإكليل الجزء الثاني، تحقيق محمد بن علي الأكوع، القاهرة، 1963م.
74- ،، ،، ،،: الإكليل الجزء الثامن، تحقيق محمد بن علي الأكوع، دار التنوير، لبنان،1986م.
75- الهمداني، د/ حسين بن فيض الله: الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن، دار المختار، دمشق.
76- الواسعي، عبد الواسع بن يحيى: تاريخ اليمن المسمى فرجة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن، الطبعة الثانية، مكتبة اليمن الكبرى، صنعاء 1991م.
77- الوزير، عبد الله بن علي: طبق الحلوى وصحاف المن والسلوى، تحقيق محمد عبدالرحيم جازم، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء 1985م.
78- ويستنفلد: ف: جدول السنين الهجرية بلياليها وشهورها بما يوافقها من السنين الميلادية بأيامها وشهورها، ترجمة أ،د/ عبد المنعم ماجد، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
79- ونستك، أ. ي: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، مطبعة بريل، لندن 1969م
80- الويسي، حسين بن علي: اليمن الكبرى، جـ1 الطبعة الثانية، مكتبة الإرشاد، صنعاء 1991م.
ثالثاً: الدوريات
1- الحييد، عبد الله حامد: المطهر بن محمد الجرموزي ومؤلفاته عن الدولة القاسمية، مجلة المؤرخ العربي، العدد الثامن، الأمانة العامة لاتحاد المؤرخين العرب، بغداد.
2- العمري، د/ حسين بن عبد الله: صنعاء في مرآة الغرب، مجلة الإكليل، العددان الثاني والثالث - السنة الثانية - مطابع ألف باء، دمشق 1403هـ/1983م.
3- التعداد العام للمساكن والسكان لعام 1986م، الجهاز المركزي للتخطيط، الجمهورية العربية اليمنية (سابقاً).
4- اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، فرع حضرموت: بامطرف الغائب الحاضر، دار الهمداني، عدن 1988م.
رابعاً: المراجع الأجنبية:
1- SERIGEANT, R, B, LEW O K, R: SANA,A, AN ARBiAN ISLAMI ITY, WORLD OF ISLAMI FESTIVAL TRUST, LONDON, 1983.