الكتاب : بهجة الزمن المؤلف : يحيى بن الحسين بن القاسم |
تقديم
تمنيت كثيراً أن أزور اليمن للنهل من مخطوطاتها ومن تراثها الضخم، ذلك أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراة في مصر، لكن دار الكتب المصرية كانت تشدني إليها شداً لاحتوائها على الكثير من المخطوطات التي تخص تاريخ اليمن، وعندما انتهيت من إعداد هذه الرسالة في عام 1968م وشُغلت بالتدريس في كلية الآداب بجامعة عين شمس، فوجئت بإعارتي للتدريس بجامعة صنعاء الفتية، وقد سعدت وفرحت حينئذٍ بهذه الإعارة؛ لأني سأعرف من مخطوطاتها ومن تراثها ما أشتهي.
ولم يكن بين محتويات دار الكتب المصرية سوى مخطوطة أنباء الزمن في تاريخ اليمن لمؤلفها يحيى بن الحسين بن القاسم فأخذت منه ما روى عطشي لإغناء رسالتي للدكتوراة، وعندما وصلت إلى اليمن، وفتحت جامعة صنعاء أبوابها للدراسات العليا، فوجئت بان تلميذتي النجيبة الدكتورة أمة الغفور عبد الرحمن الأمير تتحدث عن مخطوطة أخرى لنفس المؤلف وتخبرني بأنه الكتاب الوافي عن تاريخ اليمن، وأنه يختلف عن (أنباء الزمن) الذي استعرض فيه مؤلفه تاريخ اليمن منذ الهجرة النبوية، وقد سعدت بهذا الخبر، وطلبت منها أن تحدثني عن طبيعة هذه المخطوطة وماهي محتوياتها، والفترة التي تناولتها وهكذا.
وكان في حديثها إعجاب بالمخطوطة وبمؤلفها، لكن في عينيها خوف وجزع لما ستحتاجه هذه المخطوطة من جهد ومشاق عند تحقيقها، وخاصة أنها تقع في ثلاثة أجزاء، وأن قراءتها صعبة لرداءة الخط وقلة تنقيط كلماتها مما يزيد من صعوبة القراءة، وأن بها حواشي كثيرة فضلاً عن التشطيبات المتعددة، مما جعلها ترى أن المخطوطة تكاد تكون مسودة للمؤلف وليست الكتابة الأخيرة لها.
غير أني شعرت بإصرار أمة الغفور الأمير على دخول هذه المعمعة، والقيام بتحقيق هذه المخوطة الضخمة رغم كل الصعاب التي تحيط هذا التحقيق، فالمخطوطة تغطي فترة طويلة من تاريخ اليمن الحديث، تمتد أكثر من نصف قرن بقليل، وهي الفترة التي تلي خروج العثمانيين من اليمن عام 1045هـ/1635م، وإزاء هذا الإصرار، وما كنت ألمسه في الطالبة من جدية وتقدم مستمر أثناء تدريسها في مرحلة الليسانس، وافقت على إقدامها على تحقيق مخطوطة: "بهجة الزمن في تاريخ اليمن" لمؤلفها يحيى بن الحسين بن القاسم.
وشدت الباحثة أمة الغفور إعجابي الشديد بدقتها ومثابرتها على العمل، فقد كانت تفاجئني بكثرة المصادر والمراجع التي تسعى وراءها لاعداد التحقيق، وتبهرني بكشفها لأدق التفاصيل التي تحتويها المخطوطة، حتى يسهل على القارئ المعاصر الاطلاع على صفحاتها دون ملل أو ضجر، وهكذا أكملت الباحثة تحقيقها لتلك المخطوطة الكبيرة التي غطت فترة زمنية طويلة من تاريخ اليمن الحديث، والتي نالت بهذا الجهد الضخم درجتي الماجستير والدكتوراة على التوالي.
ولا شك أن جامعة صنعاء قد ضمت إلى هيئة تدريسها عنصراً ممتازاً جديداً، علماً وخلقاً وإدراكاً لمهمة أعضاء هيئة التدريس الجامعي، ودوره الفعال في خدمة المجتمع اليمني.
والله الموفق
جماد ثاني 1425هـ
يوليو 2004م.
د. سيد مصطفى سالم
قسم التاريخ- كلية الآداب
جامعة صنعاء.
مقدمة المحققة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين , سيدنا محمد وعلى آله و أصحابه أجمعين , وبعد.
بمجرد انتهائي من دراستي الأولى (الماجستير) والذي كان موضوعها دراسة وتحقيق الجزء الأول من مخطوطة بهجة الزمن في تاريخ اليمن ليحيى بن الحسين بن القاسم، ونظراً للزخم الجم الذي احتواه الجزء الأول لمخطوطة بهجة الزمن وجدت أن من واجبي العلمي استكمال دراسة وتحقيق الجزأين الثاني والثالث من تلك المخطوطة، خاصة أني وجدت أن ما في الجزء الثاني والثالث للمخطوطة من غزارة المعلومات التاريخية بمختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما في ذلك الظواهر الطبيعية والفلكية عن تلك الفترة التاريخية التي ما زالت مجهولة لندرة المصادر عنها حتى الآن، الأمر الذي دفعني ببذل المزيد من الجهود للتمكن من إخراجها إلى حيز الوجود.
وبعد فإنه من خلال بحثي عن المصادر الخاصة بهذه الفترة وجدت أن المؤرخ الذي كان معاصراً ليحيى بن الحسين وهو المطهر بن محمد الجرموزي والذي أفرد مؤلفاً خاصاً بسيرة الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم قد توقف قلمه عند سنة 1074هـ / 1663م، أي قبل وفاته بثلاث سنوات، بينما استمر قلم المؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم في تقصي الحقائق التاريخية وتدوينها في مخطوطته بهجة الزمن بأجزائها الثلاثة.
ومنذ وفاة المؤرخ الجرموزي وحتى بداية عهد صاحب المواهب الإمام محمد بن أحمد بن الحسن كان المؤرخُ يحيى بن الحسين هو المؤرخَ الوحيدَ الذي دوَّنَ أحداثَ تلك الفترة الهامة بكل جوانبها، وبالتالي أصبح مؤلفُهُ (بهجة الزمن) بأجزائه الثلاثةِ مصدراً رئيسياً لمعظم إن لم نقل جميع الأحداث والمعلومات التاريخية التي دونها مؤرخون لاحقون له في مؤلفاتهم.
ولم يترك لمن جاء بعده من هؤلاء المؤرخين سوى الحذف أو الاختصار مما دونه هو. ولعل أهمهم المؤرخُ والأديبُ عبدُ الله بن علي الوزير (1074ــ 1144هـ) في كتابه طبق الحلوى وصحاف المن والسلوى , والمؤرخ محسن بن الحسن أبو طالب (1103ــ1170هـ) في مؤلفاته التاريخية المتعددة والتي منها: طيب أهل الكساء , والشذور العسجدية في الخلافة المهدوية الأحمدية، وغيرهم من المؤرخين .
وقد زاد إدراكي بأهمية مخطوطة (بهجة الزمن) بعد انتهائي من دراسة وتحقيق الجزء الأول.
حيث زاد الطلب على هذا الجزء من قبل العديد من الباحثين وطلاب الدراسات العليا والمهتمين بالتاريخ سواءً في قسم التاريخ أو قسم الآثار في جامعة صنعاء أو جامعات أخرى خارج اليمن.
ولذلك آليت على نفسي تكريس كل جهدي لإخراج الجزأين الثاني والثالث إلى حيز الوجود ليكونا في متناول الباحثين والمهتمين بالتاريخ، متجاوزة في سبيل ذلك مختلف الصعوبات التي واجهتني كباحثة ابتداءً من قراءة نص المخطوطة، الذي هو عبارة عن مسودة بخط المؤلف بما يحمله من شطب وإصلاحات لمعظم أوراق هذه المخطوطة، بالإضافة إلى الحواشي الكثيرة المتعلقة بالنص والتي كان لابد من إدخالها في متن النص حسب إشارات المؤرخ نفسه، وانتهاءً بتنوع وغزارة معلومات المخطوطة، التي جعلتني أكثف البحث والتقصي لاستخراج شروح وتعريفات مختصرة لمختلف تلك المعلومات، والتي اشتملت على أعلام ومناطق جغرافية وألفاظ ومصطلحات، والكثير من الكتب المتنوعة في مختلف العلوم والفنون، ومذاهب وطوائف دينية، وعلماء من مختلف أقطار العالم الإسلامي.
ومما جعل البحث أكثر صعوبة أن المؤرخ في معظم الأحيان افترض إلمامَ المطلع على مخطوطته بتفاصيل مختلف المعلومات التي دونها، فكان غالباً ما يذكر اسمَ الكتاب مختصراً، وكذلك أسماء العلماء اقتصر على ذكر أسماء شهرة كلٍ منهم، وبالمثل فيما يخص الأعلام والشخصيات حيث اكتفى غالباً بذكر الاسمِ الأول والثاني فقط.
إنَّ الكمَّ الكبيرَ لمختلفِ تلك المعلومات التي تحتاج لشرح وتفسير جعلتني أغوص في بطون العديد من الكتب والمراجع لأتمكن من توضيح وتفسير الكثير من مبهمات عصر تدوين هذه المخطوطة.
وتتألف المخطوطة من ثلاثة أجزاء هي:
الجزء الأول: يتناول أحداث الفترة (1046ــ1080هـ/1636-1669م).
الجزء الثاني: تناول أحداث الفترة (1081ــ1090هـ/1670-1679م) .
الجزء الثالث: تناول أحداث الفترة (1091-1099هـ/1680-1688م) .
وبالإضافة إلى أهمية الفترة الزمنية التي تناولتها هذه المخطوطةُ وما ورد فيها من معلومات هامة في مختلف الجوانب فإن الأهميةَ الأُخرى لها تكمنُ في أنَّ مؤلفَهَا هو العالم المجتهدُ, المتحررُ, الموسوعي , يحيى بن الحسين بن القاسم، الذي صنف في معظم علوم عصره، حيث ربت مؤلفاته على مائة مصنف، أغنى بها المكتبة اليمنية والتراث اليمني، وهو العالم الذي اهتم كثيراً بالتاريخ، وصنف فيه كتباً هامة، كانت من أهم المصادر التاريخية لمن جاء بعده من المؤرخين. فقد وهب نفسه للعلم وتفرغ له، رافضاً العديد من المناصب السياسية التي عُرضت عليه، فتجسدت الموضوعية في كل ما كتب وألف لأحداث عصره، فلم يكن منحازاً أو متحيزاً، ولم يكن من كُتاب أو مؤرخي السلطة كما هو عليه معظم المؤرخين، الأمر الذي أكسب مؤلفاته التاريخية أهمية كبيرة، خاصة أنه من أبناء الأسرة الحاكمة (آل القاسم) فقد أكد موضوعيته وعدم انحيازه ما أورده من سلبيات وإيجابيات ذلك العصر متحرياً الدقة في ذلك ما استطاع إليه سبيلا.
ونظراً للأهمية البالغة للفترة التي أرخ لها يحيى بن الحسين فلم أكتف بإخراج هذه المخطوطة إلى حيز الوجود وحسب، بل قمت بإجراء دراسة تحليلية لهذه الفترة التي تعتبر من أهم فترات تاريخ اليمن الحديث، والتي تمثل فترة الاستقرار السياسي والازدهار الفكري وتوسع حدود الدولة في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل ابن القاسم , ثم ما تلاه من أحداث سياسية هامة وسريعة بدءاً بما حدث من صراع على الإمامة بعد وفاته وانتهاءً بفترة صاحب المواهب الإمام محمد بن أحمد بن الحسن، وعلى وجه الخصوص السنوات الثلاث الأولى من إمامته.
كما لوحظ خلال هذه الفترة من تاريخ اليمن الحديث ظهور تطور ملحوظ لمراكز القوى , مما كان له الأثر الكبير في الأوضاع السياسية، خاصة بعد انعدام ما عرف بالاستقرار السياسي الذي كان واضحاً في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل ابن القاسم.
ونتيجةً لما سبق ذكره كان لابد من إجراء دراسة تاريخية لكشف واستخلاص حقائقِ هذه الفترة، لما ستقدمه هذه الدراسةُ من موضوع هام يخدمُ الفكرَ اليمنيَّ خاصةً والعربيَّ بشكلٍ عام، إضافة لأنها سوف تزيحُ الغموضَ عن فترة أساسيةٍ من تاريخ اليمن هي فترةُ الاستقلال عن الحكم العثماني الأول , وتلقي الضوءَ على السعي الدائم لتوحيد اليمن أرضاً وشعباً عبر تاريخ اليمن الطويل , الأمر الذي أَكَّدَ لي ضرورةَ دراسة ذلك العصر دراسةً موضوعيةً، بالإضافة إلى إبراز نموذج من أهم مخطوطات ذلك العصر.
ولم أكتف بما ورد في مخطوطة بهجة الزمن من معلومات على الرغم من أهميتها، بل اعتمدت على الكثير من المخطوطات التي تناولت هذه الفترة، سواءً المؤرخ الجرموزي أم غيره من المؤرخين اللاحقين مثل: أبو طالب وابن عامر والمهلا والحبسي، وغيرهم من المؤرخين المذكورين في هوامش موضوع الدراسة.
هذا وقد اقتضت طبيعة هذه الدراسة أن يكون تقسيمها المنهجي قسمين رئيسيين هما:
القسم الأول: يحتوي على التمهيد وثلاثة فصول رئيسية هي:
1- التمهيد: وصول الإمام المتوكل إسماعيل إلى الإمامة .
ويتناول الدور السياسي للإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم قبل توليه الإمامة , ثم وصوله إلى الإمامة وتوضيح من دعوا لأنفسهم بالإمامة بعد وفاة الإمام المؤيد محمد بن القاسم وتبيان موقف الإمام المتوكل إسماعيل منهم.
2- الفصل الأول: سياسة الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم منذ توليه الإمامة وحتى وفاته (1054ــ 1087هـ/1644ــ1676م) حيث تناول هذا الفصل توسع حدود الدولة القاسمية، والجهود التي بذلتها الدولة في هذه الفترة لبسط سلطتها على اليمن الموحد، وتناول مختلف الجهود التي بذلت ليعم الأمن والاستقرار في ربوع الدولة خلال فترة حكم الإمام المتوكل، ثم تناول الصعوبات التي واجهها الإمام في نهاية حكمه وعلى وجه الخصوص السبع السنوات الأخيرة.
وتم اختتام الفصل الأول بالسياسة الإدارية للإمام المتوكل على الله إسماعيل وبحسب ما أسعفتنا به المصادر المتاحة المعاصرة لفترة الدراسة أو اللاحقة لها والتي كان أهمها جميعاً مخطوطة (بهجة الزمن).
3- الفصل الثاني: يتناول سياسات أبناء الجيل الثاني (أحفاد الإمام القاسم بن محمد (1087- 1099هـ/1676ــ1688م) حيث تناول هذا الفصل ثلاثة أئمة تولوا بعد الإمام المتوكل على الله إسماعيل كان أولهم الإمام المهدي أحمد بن الحسن بن القاسم، وتوضيح دوره السياسي قبل توليه الإمامة ثم مرحلة وصوله إلى الإمامة وموقفه من المعارضين له ومن ثم جهوده في محاولة فرض هيبة الدولة حتى وفاته.
أما الثاني فهو الإمام المؤيد محمد بن الإمام المتوكل على الله إسماعيل، حيث تم توضيح مبايعته بالإمامة، وموقف مراكز القوى منه، وكيف استغلت شخصية الإمام المؤيد المسالمة، وأصبحت أكثر قوة ونفوذاً من الإمام نفسه، ومن ثم توضيح كيف دب الخلل، الأمر الذي أدى إلى تمرد بعض المناطق الشرقية والتي من أهمها يافع، ومحاولة خروجها عن سيطرة الدولة القاسمية، وتوضيح موقف الدولة من ذلك التمرد. وهل كانت الظروف مواتية للقضاء على مثل هذه التمردات أم لا؟
أما الإمام الثالث فهو الإمام الناصر محمد بن أحمد بن الحسن المعروف ب(صاحب المواهب) حيث تم تناول دوره السياسي البارز قبل توليه الإمامة وكيف تمكن من الوصول إلى الإمامة، ثم تحديد موقف مراكز القوى من أبناء الأسرة القاسمية من إمامته، وتوضيح أسباب وأهم نتائج الصراع الذي دار بينه وبين بقية أبناء الأسرة .
4- الفصل الثالث: اشتمل على دراسة خاصة بالمؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم ومخطوطته بهجة الزمن في تاريخ اليمن، حيث تناول عدداً من العناوين هي:
أ- ترجمة المؤرخ يحيى بن الحسين تناولت نشأتَهُ وشيوخَهُ وتفرغَهُ للعلمِ والتأليف واهتمامَهُ بالتاريخ وموقف المؤرخين منه ووفاته .
ب- وصف المخطوطة، وكل ما يتعلق بالجانب الشكلي فيها.
ج- أهمية المخطوطة من حيث فترتها الزمنية ومعاصرةُ المؤرخ لأحداثها وموضوعيته ودقتُهُ وأمانتُه.
د- ... المواضيع التي اهتم بها المؤرخ في المخطوطة سواءً كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو علمية أو أدبية أو ظواهر طبيعية وفلكية، وأخيراً أخبار أقطار العالم العربي والإسلامي.
هـ- المنهج الذي اتبعه المؤرخ خلال تدوينه لمختلف الأحداث فيها.
و- المنهج الذي اتبعته الباحثة خلال التحقيق .
القسم الثاني: التحقيق المنهجي
وهو تحقيق لمخطوطة (بهجة الزمن في تاريخ اليمن) وقد حاولت اتباع المنهج العلمي والقواعد العلمية المتبعة في التحقيق للنصوص من حيث إثبات النص كما أورده مؤلفه، ووضع علامات الترقيم والأقواس اللازمة والهوامش الموضحة لما يلزم توضيحه، وغير ذلك مما سيتضح خلال التحقيق لكي يتم إخراج النص كاملاً وواضحاً قدر المستطاع.
وبعد:
أتمنى أن أكون قد لامست ما تستحقه هذه الفترة من إبراز حقائقها، من خلال الدراسة الموضوعية.
كما أرجو أني قد وفقت في إخراج المخطوطة إخراجاً يوفيها حقها من الأهمية.
وإذا ما كان هناك أي تقصير فلابد أن يكون غير مقصود طالما والإنسان يسعى في البحث والتقصي عن حقائق التاريخ كل السبل. وأظنني قد بذلت من الجهد ما يشفع لي عن أي تقصير .
وفي النهاية أجد أن خير ثناء يمكن أن أسديه لأحد فهو لأستاذي الفاضل الأستاذ الدكتور/ سيد مصطفى سالم، والذي أكن له كل تقدير وعرفان، فإليه بعد الله سبحانه وتعالى يعود الفضل في إخراج هذه الرسالة، فقد منحني الكثير من جهده ووقته منذ تسجيل هذه الرسالة، فكان المرشد والموجه فنهلت من فيض علمه الغزير الكثير الكثير، وكانت مكتبته الخاصة مفتوحة على مصراعيها، فكان له أثر عظيم على حياتي العلمية منذ بدأتها في دراستي الأولى، ومهما قدمت له من شكر فلن أستطيع أن أوفيه حقه، فقد كان نعم الأستاذ والأب الحنون، الذي حباني بعطفه وتشجيعه وحسن ملاحظاته، فجزاه الله عني وعن طلاب الدراسات العليا خير الجزاء.
كما أسدي الشكر والعرفان إلى أستاذي الدكتور/ عبد الرحمن شجاع الذي زودني بتوجيهاته العلمية بصدر رحب صبوراً متغاضياً عن أي تقصير، إدراكاً منه بأهمية وحجم العمل الذي أقوم به.
كما أتوجه بعميق الشكر والثناء لأخي وشقيقي موسوعة العلوم يحيى عبد الرحمن الأمير، الذي ساعدني وأمدني بكل ما يستطيع من معلومات ومؤلفات في مختلف المجالات.
وعرفاناً بالجميل فلا بد أن أتوجه بعميق شكري وامتناني لشريك حياتي الدكتور/ أحمد علي المنصور، الذي كان له أيضاَ الفضل بعد الله في إكمال هذه الرسالة فكان نعم المعين والمرشد بكل ما يستطيع، وصبر وتحمل وذلل كل الصعاب التي واجهتني خلال عملية البحث.
ولا بد أن أشكر أختي وصديقتي الأستاذة / أمة الملك إسماعيل الثور والتي مهما وصفت نبلها وعطاءها وأخلاقها العالية فلن أتمكن من إيفائها حقها، فقد كانت عوناً وسنداً لي منذ تعييني في جامعة صنعاء وحتى هذه اللحظة فجزاها الله عني خير الجزاء.
ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر لمؤسسة الإمام زيد بن علي بجميع كوادرها، فقد قاموا جميعاً ببذل جهود كبيرة في سبيل طباعة وإخراج هذه الرسالة.
وأخيراً لابد أن أتقدم بالشكر الجزيل للأستاذ الدكتور صالح باصرة رئيس الجامعة، الذي رغم انشغاله حاول توفير الوقت لقراءة هذه الرسالة لإثرائها، فبذل جهداً وخسر وقتاً، فجزاه الله خير الجزاء.
كما أتوجه بعميق شكري إلى الأستاذ الدكتور عبد الشافي الصديق الذي بذل جهداً وتحمل عناء القراءة، ثم تجشم عناء السفر للمناقشة وإبداء الملاحظات القيمة والتي سيكون لها أثر في إثراء هذه الرسالة، فجزاه الله خير الجزاء.
كما أود في الأخير أن أشكر كل من قدم لي مساعدة أو أبدى لي ملاحظة ما أو أسدى لي نصيحة أو ساندني بكلمة تشجيع.
والله من وراء القصد
التمهيد:
[وصول الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم إلى الإمامة]
لعلنا نستطيع القول بأن اليمن في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم قد دخلت مرحلة جديدة من مراحل التاريخ، حيث ورث دولة مستقلة بعد أخيه الإمام المؤيد محمد بن القاسم، بلغت قمة قوتها وازدهارها في عهده.
ومما لا شك فيه أن قوة الدولة في عهد الإمام المتوكل، وعدم وجود قوة منافسة قد هيأ الفرصة لإيجاد نوع من الهدوء والاستقرار السياسي، الذي كان عاملاً مساعداً على الازدهار الإقتصادي من جانب، والازدهار الفكري من جانب آخر. كما كان عاملاً مساعداً-كما يرى بعض المؤرخين-على ازدهار الحياة العلمية في اليمن في تلك الفترة.
وقبل أن نتناول سياسة الإمام المتوكل على الله إسماعيل والدولة القاسمية في عهده، ودور أبناء الأسرة وغيرهم من مركز القوى في دعم هذه الدولة، لا بد من الإجابة على بعض التساؤلات لعل أهمها:
أولاً: ما هو الدور السياسي الذي لعبه إسماعيل بن القاسم في عهد أخيه الإمام المؤيد؟
ثانياً: هل كان من مراكز القوى الهامة والمؤثرة في دولة أخيه الإمام المؤيد؟
ثالثاً: كيف وصل إلى الإمامة؟ وما هي العوامل التي ساعدته على الوصول إليها؟
وسنحاول أن نجيب على هذه التساؤلات بقدر المستطاع فيما سيأتي:
ولد الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم في منتصف شهر شعبان سنة (1019ه/610م)، أي أنه شهد جزءاً من حروب والده الإمام القاسم مع العثمانيين، على الرغم من صغر سنه، حيث نشأ بشهارة في كنف والده وتحت رعايته في العشر السنوات الأولى من عمره.
وبعد وفاة والده استمر بقاؤه في شهارة، ونشأ بها، وتلقى العلم على أيدي أبرز علماء عصره من فقه وبلاغة وسائر العلوم الدينية واللغوية، وفاق علماء عصره، خاصة في علم الفقه
وله مؤلفات عدة، منها: (العقيدة الصحيحة والدين النصيحة) و(البيان الصريح والبرهان الصحيح في مسألة التحسين والتقبيح) و(تفتيح أبصار القضاة إلى المسائل المرتضاة).. وغيرها.
وعلى الرغم من أن عمره عند خروج العثمانيين من اليمن كان حوالي ستاً وعشرين عاماً، إلاَّ أن المصادر التي بين أيدينا لا تشير إلى أن إسماعيل بن القاسم قد شارك في حروب آل القاسم ضد العثمانيين، بينما نجد إخوته الآخرون شاركوا في ذلك، رغم أن بعضهم كان أصغر منه سناً، منهم على سبيل المثال يحيى بن القاسم، الذي توفي وهو لم يتجاوز العشرين عاماً في (1044ه/1634م)، حيث أصابه مرض الحمى في زبيد، خلال اشتراكه في الحرب ضد العثمانيين، وحصار تلك المدينة. ولا تفصح المصادر التي بين أيدينا عن أسباب عدم المشاركة في تلك الحروب. ولعله في هذه الفترة كان متفرغاً للعلم والقراءة في شهارة، التي كانت مقر والده الإمام القاسم.
وقد استقر إسماعيل بن القاسم في شهارة حتى (1047ه/ 1637م)، أي بعد الاستقلال بحوالي ثلاث سنوات. وفي هذه السنة اتجه إلى أخيه الحسن بن القاسم وهو بصنعاء يشكو عدم الكفاية له ولمن معه من أصحابه من قبل أخيه الإمام المؤيد، فأعطاه الحسن عطاءً لم يخطر بباله، وزوجه بابنة زوجته في داره، واستمر بقاؤه في صنعاء حتى توفي الحسن بن القاسم، ثم عاد إلى شهارة. وفي سنة (1049ه/ 1639م)، اتجه إلى مدينة ضوران مركز ولاية أخيه الحسين بن القاسم، بناءً على طلب الأخير، لغرض إنابته في أعمال الولاية، نظراً لانشغاله بمناطق اليمن الأسفل.
وعلى الرغم من أن محمد بن الحسين كان ينوب عن والده الحسين في مدينة ضوران أثناء تنقله في المناطق، إلا أنه عندما انتقل إسماعيل إلى ضوران لحق محمد بن الحسين بوالده في مناطق اليمن الأسفل. وترك الأمر في ضوران لإسماعيل.
أما الإمام المؤيد فلم يكن قد منح أخاه إسماعيل منطقة يتولاها، لكنه كلَّفه بقبض الأموال في ذمار، وعين معه أميناً للمخازن، وكلفه أيضاً بالإشراف على بعض أمور أهل وصاب وذمار.
وبقي إسماعيل في ضوران منذ أن كلفه أخوه الحسين بأن ينوب عنه بها، وإليه بلاد آنس وسائر تلك البلاد حتى سنة (1051ه/1641م)، وهي السنة التي توفي فيها الحسين بن القاسم، حيث كلفه الإمام المؤيد مع أخيه عبد الله بن القاسم بمحاربة أحمد بن الحسن والقبض عليه. نظراً لتمرده على عمه الإمام المؤيد، كما سنرى في الفصل الثاني من هذه الدراسة.
ولعلَّ إسماعيل كان يريد أن يثبت للإمام المؤيد قدرته على تنفيذ تلك المهمة بحنكة وسياسة متفوقة، فجدَّ في حرب أحمد بن الحسن أكثر من الآخرين، واتجه بمن معه من رتبة ضوران، وعسكر بلاد آنس. وتمكن ومن معه من هزيمة أحمد بن الحسن في (نقيل الشيم) غير أن الأخير تمكن من الخلاص بنفسه حتى وصل إلى القرب من قطعبة.
وعلى ما يبدو أن الإمام المؤيد كان يريد مكافأة أخيه إسماعيل على تلك المهمة التي تكللت بالنجاح نوعاً ما، حيث أن أحمد بن الحسن قد خرج إلى عدن، ثم إلى يافع بعد أن نُهبت منه الأموال والخزينة التي كانت سبب الخلاف مع الإمام المؤيد، فأرسله الإمام متولياً لمدينة تعز في الجنوب، بدلاً من بقائه في ضوران، وهذا الاحتمال الأول.
أما الاحتمال الثاني: فهو أنه يريد أن يتخلص منه في ضوران ليعين عليها متولياً آخراً من قبله بعد وفاة أخيه الحسين.
ومهما يكن الأمر فقد اتجه إسماعيل إلى تعز راضياً أو مكرهاً، ومكث بها عامين، وقد استغل فترة بقائه في تعز، فاهتم بالعلم والقراءة، فقرأ (تيسير الديبع) في الحديث على يد الشيخ العارف محمد بن عبد العزيز الحبيشي المفتي الشافعي، كما قرأ (سنن البيهقي الكبرى)، وأجازه الحبيشي في الحديث.
ولعلَّ إسماعيل أثناء توليه لتعز استمر في المكاتبة لأخيه الإمام المؤيد يطلب منه الموافقة على أن يوليه ضوران وما إليها. يؤيد هذا الرأي ما ذكره المؤرخ يحيى بن الحسين، حيث أشار إلى أن الإمام المؤيد قد أذن لإسماعيل بالطلوع إلى ضوران. ويتضح من كلمة (أذن) بأنه سبقها طلب وإلحاح من إسماعيل إلى أخيه الإمام. وقد تولى ضوران وريمة وعتمة سنة،(1053ه/ 1643م)، بعد موافقة الإمام المؤيد على أن يتولاها، بعد عامين قضاهما في تعز.
وفي ضوران ساعدته ظروف هذه المدينة على البروز والظهور، فقد ورث ما تركه إخوته الحسن ثم الحسين من مباني وقصور، وأصبحت له مكانة هامة في تلك الفترة القصيرة، فنجد يحيى بن الحسين يعلق على ذلك-ربما مستاءً- لأنه ورث ما تركه والده-بقوله: "والسكون في ذلك الإيوان، والدُور التي قد بناها له الماضون من الإخوان. حالة مفرغة، ومائدة موضوعة، بغير تعب ولا نصب، ولا جهد فيها ولا وصب. فطلع المذكور إلى ذلك المقر، ونهى فيه وأمر".
وقد أصبحت ضوران مركزاً مرموقاً، التف فيه الأمراء من بيت القاسم، وعدد من العلماء والقادة والوجهاء.
ويبدو أن إسماعيل قد أدار ولاية ضوران بمقدرة وحنكة سياسية، مستفيداً من توليه لها، وإدارة شؤونها في فترة أخيه الحسين، فهي لم تكن ولاية جديدة بالنسبة له. وكان في تلك الفترة أيضاً قد تعرف على علمائها وفضلائها والبارزين فيها، الذين كان لهم دور في مبايعته عقب وفاة الإمام المؤيد، كما سنرى.
ولعلَّ هذا يؤيد بأن إسماعيل هو الذي ألح في الطلب من أخيه المؤيد على أن يتولى ضوران. وما يجعلنا نرجح ذلك أيضاً هو أنه ما أن استقر إسماعيل في ضوران منفرداً في ولايتها حتى أرسل إليه أخوه الإمام المؤيد قراراً بالعزل عنها وعن ريمة وعتمة بعد حوالي عام من توليه لها.
وعلى الرغم من غضب إسماعيل من قرار العزل هذا، إلاَّ أنه كان أكثر تريثاً وتعقلاً من أحمد بن الحسن، فلم يخرج على الإمام؛ بل صرح بأنه لم يبق له متسع في البقاء في اليمن، وأنه يريد التوجه إلى مكة والسكون بها. غير أن الظروف قد ساعدته مرة أخرى، فبعد قرار العزل هذا، وربما بعد مدة قصيرة من إرساله إلى إسماعيل توفي الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم، يؤيد ذلك ما ذكره يحيى بن الحسين، حيث يقول: "فهو في هذا-أي في خلال استعداده للسفر إلى مكة-وجاء خبر وفاة المؤيد بالله".
ولعلَّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا قرر الإمام المؤيد عزل أخيه إسماعيل بعد عام من تعيينه والياً على ضوران؟
إذا سرنا بالأحداث قليلاً، وبالتحديد عند الخلاف الذي دار بين إسماعيل وأخيه أحمد على الإمامة، سنجد أن إسماعيل هو الذي تمكن من الوصول إلى هذا المنصب بسبب وعده لمن بايعه بالعطاء، وأنه سيمنحهم الولايات التي يريدونها، على العكس من أخيه أحمد الذي رفض أن يقر لأحد بعطاء. هذه النقطة تجعلنا نعتقد بأن إسماعيل ربما كان يصرف في ولايته هذه بنوع من البذخ والتبذير من وجهة نظر الإمام المؤيد، الذي كان حريصاً ودقيقاً على أن تصرف الأموال في مصارفها الصحيحة، وحسب الحاجة فقط. وإذا كان قد غض الطرف قليلاً عن الحسن بن القاسم وما أنفق من أموال في مناطق ولايته، فلأسباب كثيرة، لعل أهمها الدور القيادي البارز الذي لعبه في الاستقلال والبناء، فكان على يده فتح الكثير من المناطق، وسقوطها من أيدي العثمانيين الواحدة تلو الأخرى.
إذاً من أسباب عزل إسماعيل عن ولاية ضوران ربما كان مادياً، وربما كان يعد نفسه بأن تصبح له مكانة هامة، خاصة بعد وفاة إخوته الحسن والحسين، أو أنه يريد أن يصل إلى الإمامة بعد وفاة أخيه المؤيد. وهذا الذي لم يكن الأخير يريده أو يتمناه، فقد كان في سياسته وتصرفاته أقرب إلى أخيه أحمد بن القاسم منه إلى إسماعيل، أعني بذلك سياسة الحرص في صرف الأموال في أماكنها، وإعطاء الولايات لمن يستحقها، فالتقارب بين الإمام المؤيد وأخيه أحمد جعل إسماعيل غير مرغوب لدى المؤيد، لذلك ربما لهذا السبب كان يريد إبعاد إسماعيل عن ولاية ضوران؛ لأنها قد تساعده في الوصول إلى الإمامة أكثر من أي مدينة أخرى.
وبذلك نجد أن شخصية إسماعيل بن القاسم وطموحاته غير المحدودة وتطلعه باستمرار إلى الأفضل جعل الإمام المؤيد يأخذ حذره منه، ويعزله عن ضوران بعد تعيينه فيها بسنة واحدة. وقد نجد في المستقبل مخطوطات تكشف لنا أسباب هذا العزل السريع والمفاجئ لإسماعيل.
المهم في ذلك أن إسماعيل بن القاسم قد ساعدته الظروف بوفاة أخيه الإمام المؤيد، فقد عزُل؛ ولكن القرار لم يُنفذ، بل أنه رأى أنه الأحق بالإمامة بعد وفاة أخيه الإمام المؤيد. ولعله صدق حدس الإمام، الذي كان قد استشف من شخصية أخيه إسماعيل بأنها شخصية طموحة، وأنه يريد الوصول إلى الإمامة.
وهنا نصل إلى الإجابة على النقطة الثانية من التساؤلات السابقة، وهي:
كيف وصل إسماعيل إلى الإمامة؟ ومن هم الدعاة الذين دعوا لأنفسهم بعد وفاة الإمام المؤيد؟ وما هو موقف الإمام المتوكل إسماعيل منهم؟
لو عدنا-قليلاً-إلى الوراء سنجد أنه بعد وفاة الإمام القاسم بن محمد أجمع الحاضرون على أن يتولى الإمامة بعده ابنه محمد بن القاسم، واتفق الجميع على ذلك. غير أن الأمر اختلف بعد وفاة الإمام المؤيد، فظهر ثلاثة دعاة من آل القاسم، وهم:
1- إسماعيل بن القاسم كان متولياً لضوران وريمة وعتمة.
2- أحمد بن القاسم كان متولياً لصعدة.
3- محمد بن الحسن بن القاسم، كان متولياً لمناطق اليمن الأسفل.
لقد كان أحمد بن القاسم أول من أعلن إمامته، وكان والياً على صعدة والمناطق الشمالية. وقبل وفاة أخيه الإمام المؤيد توجه من صعدة إلى شهارة مقر إقامة الإمام المؤيد، ولعله أراد بذلك أن يكون قريباً من أهل الحل والعقد الذين في شهارة، وأن تكون بيعته مثل بيعة أخيه المؤيد، حيث بويع بالإمامة قبل إجراء مراسيم دفن الإمام القاسم. فيذكر المؤرخ يحيى بن الحسين توقيت أحمد بن القاسم لتوجهه إلى شهارة قبيل وفاة الإمام المؤيد، فيقول: "قيل أن وصوله كان بحساب وعِدَّة من ذمي كان عارفاً بالنجوم (بحَمِدَة) ولم يحصل له ما كان أمله من الخلافة". وهو ما حدث، فقد سارت الأمور في البداية كما أرادها أحمد بن القاسم، الذي كان حاضراً وفاة أخيه الإمام المؤيد، وعقب وفاته أجمع الحاضرون على مبايعته، وكانوا جمعاً كبيراً من العلماء والفضلاء والأعيان ورجال الدولة، منهم: الحسين بن الإمام المؤيد بالله، وإبراهيم بن أحمد بن عامر، وأحمد بن سعد الدين المسوري، والعالم محمد بن الحسن بن شرف الدين الحمزي، والعالم الحسن بن علي العبالي، والعلامة عز الدين بن دُريب، والقاضي العلامة علي بن سعيد الهبل الخولاني، وغيرهم من العلماء. وبايعوا أحمد بن القاسم خفية، ثم أظهروا أمرهم، وبايع الناس عموماً. وامتدت البيعة نحو ثمانية أيام.
يتضح مما سبق، أن الإجماع في شهارة كان على إمامة أحمد بن القاسم، إلاّ أن المؤرخ الجرموزي هنا يناقض نفسه، فبعد أن أورد هؤلاء المبايعين لأحمد بن القاسم في شهارة وإجماعهم على ذلك، وهم من العلماء والأعيان-كما رأينا-نجده بعد ذلك يقول: "وكنت حاضراً، ولا رأيت لمبايع أو متابع، أو حاضر أو غائب إلى هذه البيعة اعتقاداً، ولا إلى لزومها استناداً. وكان من أمرها، ما سيأتي إن شاء الله من ظهور حجة مولانا وإمامنا ... المتوكل على الله العزيز الرحيم إسماعيل بن أمير المؤمنين".
ولا عجب من موقف الجرموزي هذا، إذا ما علمنا بأنه كان من المقربين للإمام المتوكل إسماعيل، حيث أبقاه متولياً لبلاد عتمة الخصبة حتى وفاته بها.
ويذكر المؤرخ يحيى بن الحسين بأن القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري، الذي كان من أبرز القضاة، ومن رجال دولة المؤيد قد بيَّن لهم بأن الأمر المهم النظر فيمن يصلح للقيام، والمبادرة به قبل تجهيز الإمام المؤيد للدفن. وأخبرهم أنه يرى العقد لأخيه أحمد بن القاسم، فهو أكبر أولاد الإمام القاسم يؤمئذٍ، فاستحسن أكثر الحاضرين ذلك، وبايعوا أحمد، ثم جهزوا الإمام المؤيد للدفن.
أما إسماعيل فكان عند وفاة أخيه الإمام المؤيد في ضوران، مقر ولايته. فلما بلغه ذلك الأمر رأى أنه الأولى بالإمامة من أخيه أحمد. ومن هنا بدأت المنافسة ثم الصراع على الإمامة بين الأخوين. وكانت حجة إسماعيل بأنه أكثر علماً من أخيه أحمد، فقد اهتم بتلقي العلم على يد أبرز المشائخ في شهارة وتفرغ له، ثم أكمل ما فاته من علم الحديث في تعز خلال إمارته لها، كما سبق أن ذكرنا، وكأنه كان يهيء نفسه في المدة السابقة لهذا اليوم؛ لأن من شروط الأمامة الأربعة عشرة في المذهب الزيدي، أن يكون الداعي لنفسه، عالماً، مجتهداً.
وقد أوضح ذلك من خلال رسائله التي بعث بها إلى مختلف الجهات، قائلاً: ((أنا الذي في العلم درسته، وفي التحقيق أدرته. وغيري غير صالح لها، بل قاصر عنها)). لذلك وبهذه الحجة اتجه إلى المسجد الجامع بالحصين، في مقر إقامته ضوران، وطلب البيعة من الحاضرين، فبايعه القاضي محمد السلامي والقاضي إبراهيم بن الحسن العيزري، وتبعهما بقية العلماء والقادة الحاضرون في ضوران. وبعد مبايعتهم له أرسل الرسائل إلى مختلف الجهات. وطلب من أخيه أحمد المناظرة، ليتم الحكم حول الأكثر علماً واجتهاداً، غير أن أحمد بن القاسم رفض ذلك محتجاً بكبر سنه وسبق دعوته. فقد كان الفارق بين الأخوين حوالي إثني عشر عاماً، وهذا لعله كان مبرراً لأحمد ليرفض مناظرة أخيه الأصغر منه بكثير، وأن هذا الفارق في العمر يؤهله هو للإمامة أكثر من أخيه إسماعيل. كما أنه قد تمت الخطبة له على المنابر جميعها، إلاّ ما كان في المدن الوسطى من اليمن، التي هي مناطق ولاية محمد بن الحسن، وكذلك ضوران، مقر ولاية إسماعيل.
حقيقة أن إسماعيل بن القاسم، كان عالماً، مجتهداً، وله مؤلفات كثيرة، وقرأ على أبرز مشائخ عصره، إلاّ أن أحمد بن القاسم كان أيضاً قد تلقى العلم على أبرز علماء عصره، كما تلقى العلم أيضاً على يد أخيه الإمام المؤيد، ووضع له ثلاث إجازات. فكان أحمد بن القاسم كما وصفه بعض المؤرخين عالماً نبراساً، رئيساً، جليلاً، مهيباً. من أعمدة المسلمين، ومن أهل الحميَّة على الإسلام. يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
والبعض الآخر من المؤرخين يرى بأن صفاتاً كانت لدى إسماعيل تؤهله للإمامة، مثل: الحلم، وكظم الغيظ، وسعة الصدر، والكرم، وغير ذلك. وعلى حد تعبير (الحبسي)، بأن هذه من "الخصال الموجبة له استحقاق الإمامة الكبرى، المبطلة لإمامة من عارضه ممن دعا".
وقد اختلفت آراء الناس حينئذ، فمنهم من قال: الأولى بها إسماعيل، لأجل رسوخ قدمه في العلم، لا سيما الفقه. ومنهم من قال: أحمد؛ لأنه أنهض وأصلح، ولأجل تقدم دعوته. واضطربت الأمور.
إذاً كل من الأخوين كان يرى أن لديه ما يؤهله للوصول إلى الإمامة، إلاّ أن القوة هي التي حسمت الخلاف بينهما، وكانت القوة آخر الحلول التي لجأ إليها إسماعيل، والتي اتبعها من جاء بعده من الأئمة. وإذا كان إسماعيل بن القاسم لديه ما يؤهله للوصول إلى الإمامة، إذ لم تكن القوة فحسب، فإن من جاء بعده من الأئمة لم تكن لديهم إلاّ القوة، كما سنرى في الفصول اللاحقة.
بدأ الإمام المتوكل إسماعيل بالمكاتبة إلى أخيه أحمد يعاتبه على الاستعجال بالدعوة. وكان محمد بن الحسن قد دعا لنفسه بالإمامة باليمن الأسفل- كما ذكرنا- غير أن دعوته تلك كانت مشروطة، أي إذا لم يتقدم إليها من هو أولى منه. وكتب الإمام إسماعيل إلى ابن أخيه محمد بن الحسن يطلب منه الإجابة لدعوته، والتنازل له عن الإمامة، فلم يكن أمامه إلا الموافقة على ذلك. واتفقا على الاجتماع معاً في قفر حاشد، مما يلي عتمة. وجرت المناظرة بينهما، سلَّم بعدها محمد بن الحسن لعمه إسماعيل، وبايعه في مشهد عام، ثم أحمد بن الحسن، ثم من حضر من العلماء والرؤساء والجند والقبائل، ثم عاد الجميع إلى ذمار.
ولما استقر الإمام في ذمار ناظر فقهاءها، وطلب منهم البيعة، وكان قد سبق منهم بيعة لأحمد بن القاسم على يد أخيه عبد الله. ولكن إسماعيل تمكن بذكائه أن يجعلهم يعدلوا عن مبايعتهم لأحمد، وبايعوه هو. ربما لأنه ظهرت لهم حجته كما يرى بعض المؤرخين، وربما ما وعدهم به من البذل والإنصاف كما يرى البعض الآخر.
وبعد ذلك عاد الإمام إسماعيل إلى ضوران، ومحمد بن الحسن إلى اليمن الأسفل، وأحمد بن الحسن بقي في ذمار. ثم وصل محمد بن الحسين بن القاسم إلى الإمام إسماعيل في ضوران وبايعه، وأرسله الإمام إلى صنعاء.
ولعلَّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا بايع معظم آل القاسم وغيرهم إسماعيل متخلين أو رافضين مبايعة أخيه أحمد؟
بغض النظر عن حجة كل منهما حول أحقيته بالإمامة، فإن إسماعيل كان أكثر ذكاءً من أخيه أحمد، فمن الملاحظ من خلال ما أوردته كثير من المصادر المعاصرة واللاحقة أن إسماعيل كان أكثر كرماً من أحمد، فنجده يعد كل من يبايعه بالبذل والعطاء، خاصة محمد بن الحسن وأخيه أحمد بن الحسن ، اللذين كانا السند الأول له، فجعل لهما جميع اليمن الأسفل. ولم يقتصر عطاؤه لهما، لكنه أعطى الكثير من أبناء إخوته ما يهواه، فولى الحسين بن إلامام المؤيد على بلاد عفَّار وشهارة والشرف الأسفل، وأعطى محمد بن الحسين حفاش وملحان والشرف الأعلى. وكان توزيعه الولايات لأبناء إخوته قبل أن يُحسم الأمر. وكان يعدهم بالعطاء؛ لأنه كان عند إعلان إمامته يشكو من قلة ذات اليد. ولم يكن أمامه إلاّ الوعود، يؤيد ذلك ما ذكره المؤرخ يحيى بن الحسين بقوله: "ولقد أخبرني عز الإسلام محمد بن الحسين أنه لما وصل إلى حضرته (أي الإمام) بضوران قال له: لا يجد غير الخمسين الحرف. ولم يجيه يؤمئذٍ من البلاد شيء، ولا يجد الصرف". ومحمد بن الحسين هو شقيق المؤرخ يحيى بن الحسين.
وبهذه السياسة التي اتبعها إسماعيل تمكن من كسب أهم أبناء الأسرة إلى جانبه، حيث بايعوه وساندوه في دعوته. وكان أهمهم محمد بن الحسن، الذي بتنازله عن الإمامة لعمه إسماعيل حُسم الأمر لصالح الأخير، فبعد أن بايع محمد بن الحسن عمه، وكان تحت إمرته كبار القادة والأمراء وكثير من الجنود، ولديه كثير من الخيول: "مال جميع اليمن من ضوران إلى عدن بالإجابة والخطابة، وكذا المشرق وذمار والحدا وخولان"، بل أن المؤرخ يحيى بن الحسين يرى بأنه لولا محمد بن الحسن ومساندته لعمه إسماعيل لما تمكن من الوصول إلى الإمامة فيقول: "وهو الذي عضد عمه إسماعيل، وطد هذه (هكذا) بالخيل والرجاجيل، ولولاه لما تم شيء لهذا الإمام من الأقوال والأفاعيل".
أما أحمد بن القاسم فكان على العكس من إسماعيل، حيث يرى كثير من المؤرخين بأنه اشتهر بالبخل. وربما كان هذا سبباً جوهرياً لتخلي الكثير عنه، وعدم مبايعته، بل أن من كان قد بايعه بايع إسماعيل، فها نحن نجد المؤرخ ابن عامر في كتابه (بغية المريد) يذكر بأنه كان مع أحمد بن القاسم بعد خروجه من شهارة كثير من الأعيان والعساكر، مساندين له، لكن أحمد "أمسك يده عن العطاء، فلا زالوا يقلَّوا حتى وصل إلى (ثلا) وهم عدد يسير" . كما أنه عندما أشار عليه البعض بأنه يجب أن يولي أولاده وأولاد إخوته أجاب بأنه "لا يصير إلى أحد منهم غير ما كان في مدة المؤيد بالله ولا شبر" . لذلك مالوا عنه إلى الإمام إسماعيل. منهم على سبيل المثال الحسين بن الإمام المؤيد بالله، الذي كان قد بايع أحمد بن القاسم، فعدل عن ذلك وبايع إسماعيل، الذي منحه المناطق التي يريدها. ويصف المؤرخ الجرموزي الإمام إسماعيل بالكرم، وبذله لمن حوله حتى أنه لا يُحصى عطاؤه في اليوم الواحد.
وقد أوجز المؤرخ يحيى بن الحسين ارتباط السياسة الحكيمة بالعطاء والبذل بقوله: "والدنيا وأحوال الرئاسة فيها من الإمامة وغيرها لا بد فيها من السياسة، والنظر في البذل لمن هو من أهل الحل والعقد والإعانة، كما جرت بذلك العادات المألوفة، والحالات المعروفة، في كل الزمان".
كل ما سبق ساعد إسماعيل بأن تكون لديه القوة أكثر من أخيه أحمد. والقوة هي أهم أسباب الغلبة والتفوق في معظم الأحيان، حيث دخل أتباع إسماعيل في حرب مع أحمد بن القاسم وأتباعه، فكانت الغلبة فيها لإسماعيل.
فنجد هنا أحمد بن الحسن المساند الثاني لعمه إسماعيل يحاصر صنعاء، وكانت في يد أحمد بن القاسم، التي كان فيها إبنه محمد بن أحمد، ويدخلها عنوة، حينئذ دخل جميع من كان قد بايع أحمد بن القاسم في طاعة الإمام إسماعيل. ومنهم من بايع بيعة قهر واضطرار، مثل القاضي إبراهيم السحولي، وحوَّل الخطبة في صنعاء لإسماعيل، بعد أن كان يخطب-متحمساً-لأحمد، وكذلك القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري وغيرهم، دخلوا في طاعة الإمام إسماعيل مكرهين.
ولعب آخرون من المناصرين للإمام إسماعيل أيضاً دوراً في هزيمة أحمد بن القاسم، وإجباره على التنازل عن الإمامة لأخيه إسماعيل، فها نحن نجد محمد بن الحسين والأمير ناصر بن عبد الرب، صاحب كوكبان، من آل شرف الدين يصلون بغارة إلى (ثلا) لمحاربة أحمد بن القاسم، وكان قد تفرق عنه كثير من الجند. واستمرت الحرب من طلوع الشمس حتى غروبها، وبعد ذلك خاضوا في الصلح بأن ينزل أحمد بن القاسم من حصن (ثلا) وأن يجتمع بإسماعيل، ويُعقد بينهما اتفاق. وتقدم أحمد بن القاسم بعد هزيمته إلى أخيه إسماعيل في ضوران-مكرهاً-فحصل الاتفاق بين الأخوين، وحُسم الأمر لصالح إسماعيل. ولم تُعقد مناظرة علمية كما هو معروف؛ لأن القوة هي التي سادت وسيطرت. وألقى إسماعيل كلمة طَيَّب فيها خاطر أخاه أحمد، وشهد له بالكمال. وتكلم أحمد بما حصل من الإلتئام والتمام، وبايع أخاه إسماعيل، كما بايعه من كان قد بايع أحمد من العلماء. ثم خيره الإمام بأي الجهات يحب البقاء فيها، فاختار صعدة، التي كان متولياً لها من أيام والده الإمام القاسم وكذلك أخيه الإمام المؤيد.
وعاد أحمد بن القاسم إلى صعدة، وكان قد حصل فيها الخلل الكبير. وعند عودته وصل إليه كثير من أهل المناطق الشمالية، وأحسن إليهم. وكانوا يعرفون عزيمته وهيبته.
وبذلك يكون الإمام إسماعيل قد تمكن من التغلب على منافسيه من آل القاسم بالوعود بالبذل والعطاء كما فعل مع محمد بن الحسن وغيره، أو بالحرب والقوة كما فعل مع أخيه أحمد.
وهناك من عارض الإمام المتوكل من خارج الأسرة القاسمية، ودعوا لأنفسهم بالإمامة، فكانت دعوة بعضهم في نفس الفترة التي دعا فيها الإمام المتوكل، والبعض الآخر بعد ذلك بسنوات، ومن هؤلاء:
أ - إبراهيم بن محمد بن عز الدين المؤيدي
ما إن علم إبراهيم بن محمد المؤيدي بوفاة الإمام المؤيد بالله محمد ابن القاسم حتى أعلن إمامته في (العشة) من جهات صعدة، حيث وجد أنه الأحق بها، ولديه ما يؤهله لذلك. فبالإضافة إلى علمه واجتهاده ومؤلفاته، كانت حجته أنه كان متقدماً في دعوته على دعوة المتوكل إسماعيل بساعة أو ساعتين من ذلك اليوم. وكان والده هو الذي فتح صعدة للإمام القاسم بن محمد. وكان أيضاً من أعيان آل محمد علماً وحلماً وذكاءً.
بدأ إبراهيم المؤيدي بإرسال الكتب إلى الجهات اليمنية، إلاّ أن دعوته تلك لم تلق إجابة ولا قبولاً، ولم يجبه سوى جماعة يسيرة من أهل صعدة، ولعلَّ الأستاذ الدكتور حسين العمري كان محقاً عندما ذكر بأنه كان من الواضح منذ البداية للمهتمين بشؤون الحكم والسياسة من رجال الحل والعقد، خاصة بعد تنازل أحمد بن القاسم لأخيه الأصغر المتوكل إسماعيل بأن الأخير هو حاكم البلاد المطلق، والإمام غير مُنازع أو مُنافس.
لذلك نجد أن إبراهيم المؤيدي بعد أن رأى أنه لا فائدة من دعوته تلك، وأن رسائله لم تلق قبولاً بدأ يراسل الإمام المتوكل إسماعيل ويوهمه بأنه معترف أنه دخل في أمر يعلم قصوره فيه، وإنما يريد معرفة الوجه الذي يحصل به التسليم له. إلاّ أنه- كما ذكر كثير من المؤرخين- يقرب تارة ويبعد أخرى. ثم أنه في سنة (1056ه/ 1646م)، ادعى أنه الإمام الواجب اتباعه على جميع الأنام، فأرسل إليه المتوكل ابن أخيه محمد بن الحسين على رأس مجموعة من الجنود، فقبض عليه، وأُحضر إلى الإمام وهو بصنعاء، فبايعه أمام أعيان الناس، الذين كان الإمام قد جمعهم ليشهدوا على مبايعته له. لكنه عندما اتجه إلى المناطق الشمالية اتجه إلى برط، فالتقى بالقضاة آل العنسي ومشائخ تلك الجهة، وقال لهم: أنه لم يتخلص من الإمام إلاَّ بالبيعة، أي أنه أُكره على مبايعة الإمام. وطلب منهم مساعدته، فرفض الجميع ذلك الطلب، مما اضطره إلى التوجه إلى بلاده.
وفي خولان صعدة دعا لنفسه مرى أخرى. وبدأ يستميل قبائل تلك الجهة، إلاَّ أن الإمام المتوكل لم يسكت على ذلك، فقد قام بإرسال ابن أخيه أحمد بن الحسن، الذي وصل إلى بوصان (بلد من أعمال صعدة). ولما علم إبراهيم المؤيد هرب إلى بلاد قُراظ (هجرة في بني جماعة بصعدة)، وطالب بالصلح، وأنه مبايع للإمام. وكتب رسالة وقرأها في باقم من قُراظ على ملأ من الناس، كان من ضمن ما جاء فيها: "سلَّمت ما كنت تحملته من الأعباء الثقيلة تسليم راض، لا شبهة فيه ولاحيلة لوليه وابن وليه الإمام المذكور المتوكل على الله إسماعيل. إلى أن قال فيها: فليعلم من وقف على مكتوبي هذا ما التزمته من إحكام الطاعة للإمام".
ولكنه في سنة (1061ه/ 1651م)، عاد إلى حالته الأولى، حيث رأى أن الفرصة سانحة له بالتضامن مع الشيخ يحيى بن روكان، الذي خرج وتمرد على الإمام إسماعيل أكثر من مرة، كما سنرى لاحقاً. وهنا تعلل إبراهيم المؤيدي بقضية ابن روكان، وأنه صدر إلى جانبه من أصحاب الإمام ظلم وعدوان، كما أضاف إلى ذلك أن الإمام أهمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن دعوته سبقت دعوة المتوكل، وأنه إنما سلم للإمام وبايعه المرة الأولى والمرة الثانية مكرهاً. فأرسل الإمام إليه عدداً من الجنود، فأظهر الندم على مافعل، ووصل بنفسه إلى الإمام يعتذر له، فقبل عذره "وأسعده فيما طلبه من الإقطاع وما رام، وزلجه بأحسن زلاج. وأقطعه بلد رُغَافة (قرية مشهورة شمال صعدة) وما حولها، وجميع ما يحتاج".
ولم يترك إبراهيم المؤيدي ادعاء الإمامة، إلاَّ بعد أن رأى استحالة منافسة الإمام المتوكل، بسبب قوته وتغلبه عليه أكثر من مرة، وهذا التصرف منه يدل على غفلة كبيرة، فإذا لم ينجح في أول دعوته وبداية أمره مع آل العنسي في برط وأنصاره في صعدة بدعوى الأهلية والكفاءة فأنَّا له الأمر بعد ست سنوات أخرى، وقد أصبح الإمام المتوكل إسماعيل أكبر مكانة وأكثر خطراً. إلاَّ أن المؤيدي هذا كان يشكل مصدر إزعاج وقلق للإمام المتوكل، خاصة أنه كانت له رسائل كثيرة في الطعن في الإمام المتوكل والاعتراض عليه، مما اضطره إلى الإجابة على أكثرها، وأجاب على الباقي بعض علماء عصره.
ومما يؤكد حب إبراهيم المؤيدي للرئاسة والزعامة والإلحاح على طلبها بأي طريقة كانت ما ذكره يحيى بن الحسين: بأنه لما بلغ السيد إبراهيم المؤيدي وفاة إسماعيل بن محمد بن الحسن بن القاسم، التبس عليه الأمر، بسبب تشابه الأسماء، واعتقد أنه الإمام إسماعيل، فخرج من صعدة في الحال ومعه بعض المناصرين له، حتى استقر ببلد العشة ورغافة. وطلب من أصحابه الحاضرين البيعة، ثم تبين له أن الذي توفي ليس الإمام إسماعيل، فتراجع عما كان قد نوى على فعله. وكان ذلك قبل وفاته بثلاث سنوات فقط، سنة (1080ه/، 1669م).
ومن الملاحظ أن الإمام المتوكل إسماعيل كان صبوراً في تعامله مع إبراهيم المؤيدي. ربما أراد أن يستميله إلى جانبه، ولا يريد أن يكون في المناطق الشماليه عدواً له، خاصة أن أسرة المؤيدي كان لها مكانة كبيرة في صعدة وما حولها. وكان منهم أئمة وعلماء، كما كان والد المؤيدي من أنصار الإمام القاسم وفتح له مدينة صعدة الهامة، كما أسلفنا.
ب - السيد عبد الله بن عامر بن علي الحسني
هذا السيد هو ابن عم الإمام القاسم بن محمد. وقد دعا لنفسه بالإمامة سنة (1054ه/ 1644م)، أيضاً. وكان في حوث، ثم توجه إلى وادعة الطاهر، وأعلن إمامته هناك، وأخذ منهم بعض الواجبات، ومال إليه بعضهم. إلا أن الإمام المتوكل إسماعيل جهز عليه ابن أخيه محمد بن أحمد بن القاسم، وهو في خمر، فتمكن من القضاء على دعوته تلك. واضطر إلى الهرب ليلاً عائداً إلى بلاده شاطب، ولم يعد إلى ذلك. ولم تكن دعوته ذات أهمية، وقُضي عليها في مهدها.
ج - السيد محمد بن علي الحيداني
كان السيد محمد بن علي الحيداني قد أعلن إمامته في عهد الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم، في بلاد حيدان، ثم قُضي على دعوته تلك، واستقر في حيدان حتى سنة (1061ه/ 1651م). وفي هذه السنة خرج من بيته إلى بلاد برط، ثم نزل منه إلى بلاد خولان صنعاء، ومنها إلى بلاد قايفة.
وأظهر في تنقله في تلك المناطق بأنه المهدي المنتظر، وأن عنده صحة إمامين في عصر واحد. وقد صرح بذلك عند إعلان إمامته في عهد الإمام المؤيد.
ولما وصل إلى بلاد قايفة طرده أهلها عنها، ووصل أحمد بن الحسن لمحاربته والقضاء على دعوته خوفاً من أن تغتر به القبائل هناك، فُطرد، وانتهبت القبائل حاجاته وكتبه وحصانه، فعاد من حيث أتى هو وأصحابه، واستقر في بلده حيدان، ورجع عما كان يريده مكرهاً.
وهذه الدعوة أيضاً لم تكن ذات أهمية، وقُضي عليها في مهدها. ولم تشكل خطراً على الإمام المتوكل، الذي كان قد توسعت دولته، وازدهرت بشكل ملحوظ.
د - السيد محمد بن علي الغرباني
لقد جاءت دعوة محمد بن علي الغرباني القاسمي متأخرة، فلم يعلن إمامته إلاَّ في سنة (1075ه/ 1665م)، حيث كان ساكناً بصنعاء، وخرج منها إلى بلاد برط. وطلب من أهلها البيعة، إلاَّ أنهم رفضوا إجابة دعوته، وأرسلوه إلى الإمام، فأعلن توبته وعاد إلى صنعاء.
وفي سنة (1077ه/، 1666م)، اتجه إلى برط مرة أخرى، وأرسل برسالة إلى الإمام فيها اعتراض عليه، ولم يجب الإمام على تلك الرسالة. وكان الغرباني هذا من تلامذة الإمام المتوكل.
وقد استقر في برط ربما ليكون بعيداً عن مركز الدولة، مثل من سبقه من الدعاة. وعلى الرغم من أن أهل برط قد رفضوا إجابة دعوته، لكنهم ووفقاً للقواعد القبلية السائدة ما دام قد استجار بهم، فلا بد من إجارته. وتعهدوا لأحمد بن الحسن عندما تقدم لمحاربتهم بأنه لن يصدر شيء من جانب محمد الغرباني ما دام عندهم، فأخذ أحمد بن الحسن ضمانات من مشائخهم على ذلك.
إذاً كان السيد محمد بن علي الغرباني آخر من ادعى الإمامة في عهد الإمام المتوكل إسماعيل. وعندما رأى عدم مقدرته على الاستمرار في ذلك نحا منحاً آخر، وهو محاولة إظهار مساوئ دولة المتوكل، وأنه يجب الخروج عليها. وأنه لم يتوقف عن إعلان إمامته إلا لعدم القدرة. وكان يجيد الشعر، فلجأ إلى كتابة القصائد المنددة بدولة المتوكل، مبيناً فيها وجوب الخروج على دولته.
ولعله خلال بقائه في برط، وعدم مقدرته على أن يدعو لنفسه بالإمامة، كان منتظراً لخلاف قد يحدث بين برط والدولة القاسمية، فيستغل ذلك لصالحه، ويعلن إمامته، خاصة أن برط كانت دائمة التمرد والخروج على الدولة، وفي عام 1083ه/ 1672م، عاقبت الدولة آل عمار بسبب قيامهم بالنهب في باب صعدة، فخرج جماعة من دهمة في برط على الدولة وبايعوا محمد الغرباني، ففرح بذلك؛ لأنه كان منتظراً لأي فرصة تلوح له لإعلان إمامته. مع أنه كان قد كتب قصيدة باعتقاده إمامة إسماعيل، وعدم الخروج عليه، إلاَّ أنه كان مضمراً في نفسه استغلال أي فرصة لإعلان إمامته، ولما اعتُرِضَ عليه في ذلك، قال: إن مذهبه هو صحة إمامين في وقت واحد.
ومما لا شك فيه أن ذلك يدل على غفلة من السيد محمد بن علي الغرباني كما سبقه إبراهيم المؤيدي، لأن دولة الإمام المتوكل إسماعيل أصبح لها مكانة كبيرة، وازدهرت وتوسعت حدودها، حتى وإن فُرض ضعف الدولة نوعاً ما في أواخر عهده، فإن أولاد أخوته لم يكن ليسمحوا لأحد أن ينتزع منهم الإمامة، خاصة أحمد بن الحسن، الذي أصبحت له مكانة كبيرة، فهو الرجل الثاني في الدولة القاسمية.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن علي بن أحمد بن القاسم-والي صعدة-كان قد أعلن إمامته في أواخر عهد الإمام المتوكل إسماعيل محتجاً بمرضه، وأنه لم يعد قادراً على القيام بأعباء ومهام الإمامة. لكنه لم يتمكن من الوصول إلى الإمامة، كما سنرى لاحقاً.
وكان من الطبيعي أن يواجه الإمام المتوكل إسماعيل معارضين لدعوته وحكمه، أو خارجين عن طاعته، فتلك كانت نظرية الحكم للمذهب الزيدي، وطبيعة الحياة السياسية في البلاد في العهود السابقة واللاحقة. وكان الخلاف أو الصراع غالباً ما ينشب أو يتطور بمجرد وفاة إمام وقيام آخر.
ولعلَّ (بليفير) كان مخطئاً عندما رأى أن عرش اليمن وراثياً، وأن الإبن البكر للإمام هو الذي يخلفه عند الوفاة، وذلك برضى عام. ومما لا شك فيه أن هذا القول أو الرأي يتنافى مع نظرية الإمامة في المذهب الزيدي، التي لم تكن تجيز الوراثة في الحكم. ولم يكن من حق الإمام أن يوصي بمن يخلفه، ولكن من رأى في نفسه الأهلية فليدعو لنفسه بالإمامة، حتى وإن كان الإمام القائم يعد ابنه الأكبر للإمامة، فإنه لا يستطيع إعلان ذلك صراحة. ولو أن الابن الأكبر هو الذي يخلف الإمام المتوفى لكان الأمر محسوماً، ولم تنشأ تلك الصراعات على الإمامة بين الدعاة، الذين يرى كل منهم أنه الأصلح لها والأحق بها.
وعلى كلٍ فإنه على الرغم من ظهور عدد من المنافسين للإمام المتوكل على الله إسماعيل ادعوا الإمامة، إلاَّ أنهم كانوا أقل خطراً على دولته وتوسعها وازدهارها، مقارنة بالمعارضين الذين ظهروا في عهد من جاء بعده من الأئمة، كما سنرى، ولعلَّ أهم الأسباب هو مساعدة أبناء إخوته له، وإخلاصهم لدولته، والتفافهم حوله. وكان لذلك أثر كبير في ازدهار هذه الدولة وقوتها وتوسعها.
الفصل الأول
سياسة الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم
منذ توليه الإمامة حتى وفاته
(1054-1087ه/ 1644-1676م)
أولاً: توسيع حدود الدولة القاسمية
كان الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم قد سبق أخاه الإمام المتوكل إسماعيل في محاولة توسيع حدود الدولة القاسمية بعد استقلال اليمن عن الحكم العثماني سنة (1045ه/1635م).
وقد استخدم الطرق السلمية، فراسل بعض مشائخ وحكام المناطق الجنوبية والشرقية، وأرسل الهدايا لاستمالتهم إليه، وإعلان اعترافهم أو ولائهم لهذه الدولة الجديدة الفتية.
ولعلَّ الإمام المؤيد كان يعتبر هذه المرحلة هي مرحلة بناء وتوطيد سيطرته على المناطق التي دخلت في إطار الدولة القاسمية، وأن التوسع باستخدام القوة لم يحن وقته في هذه الفترة. ومن أمثلة ذلك تعامله مع قبائل يافع، إذ أنه على الرغم من غزوهم لقعطبة التابعة لدولته، ومساندتهم لأحمد بن الحسن، ابن أخي الإمام الذي تمرد عليه، إلاَّ أنه بعد أن هزمهم المؤيد وأخرجهم من يافع راسلهم محاولاً كسبهم إلى جانب الدولة القاسمية. وبذل لهم الأموال والهدايا، ويشير المؤرخ يحيى بن الحسين إلى ذلك بقوله: "وجعل الطريق إلى ذلك المكاتبة ليافع والملاطفة لهم، وبذل لهم المال النافع، فوصل إليه كثير منهم". وكان نتيجة ذلك أنهم توقفوا عن الهجوم على حدود الدولة القاسمية.
غير أن سياسة الإمام المؤيد هذه لم تحقق ما كان يطمح إليه من توسيع لحدود الدولة، ودخول المناطق الجنوبية والشرقية تحت نفوذها. واقتصر الأمر على إقامة علاقات ودية بين الدولة القاسمية وبعض الكيانات في تلك المناطق، ومنها الدولة الكثيرية في حضرموت، فقد استمرت العلاقات الودية بين الدولتين، وتم تبادل الرسائل والهدايا بينهما طوال فترة الإمام المؤيد وأوائل فترة الإمام المتوكل على الله إسماعيل، أي حتى سنة (1058ه/1648م)، كما سنرى.
وقامت علاقات ودية بين الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم وبين الأمير عبد القادر محمد، صاحب عدن وأبين وخنفر. وكان الأخير من المناصرين للإمام المؤيد بالله في خلال حروبه مع العثمانيين في الجنوب.
وفي عهد ابنه الحسين بن عبد القادر بدأت العلاقات تتغير سلباً، لأسباب سنذكرها لاحقاً.
وعندما وصل إسماعيل بن القاسم إلى الإمامة كانت الدولة أكثر استقراراً من ذي قبل، حيث أن اللبنات الأولى والأساسية قد وضعت في عهد أخيه الإمام المؤيد، لذلك لم يحصر الإمام إسماعيل نفسه في النطاق الضيق المحدود، الذي نشأت فيه الدولة القاسمية عند أول تكوينها، بل انتهج سياسة التوسع في المناطق الشرقية والجنوبية، وتوغلت جيوشه حتى وصلت حضرموت. وخاضت حروباً عديدة حتى أخضعت جميع المناطق الشرقية والجنوبية، كما سنرى.
ومما لا شك فيه أن الإمام المتوكل على الله إسماعيل، يعتبر من أهم أئمة اليمن في التاريخ الحديث. وكان منذ توليه الإمامة شديد الطموح إلى توسيع حدود دولته.
وعلى الرغم من أن بعض المؤرخين يذكرون أن من أسباب التوسع وإدخال هذه المناطق تحت نفوذ الدولة القاسمية هو وجود منكرات وجهل وعدم تطبيق للشريعة الإسلامية الصحيحة في هذه المناطق، لذلك لم يجد الإمام المتوكل بداً من الدخول إلى مناطقهم، بعد أن أرسل لهم الإنذارات المتكررة، حتى لم يبق لأهل تلك الجهات حجة. إلاَّ أن هناك مؤرخين أكثر إدراكاً لدوافع التوسع هذا، منهم على سبيل المثال ابن عامر، الذي يرى بأن من أهم الأسباب أن السلطان بدر بن عمر الكثيري قد وصل إلى الإمام المتوكل إسماعيل مستنجداً به ضد ابن أخيه بدر بن عبد الله الكثيري، وأنه سيدخل في طاعته، ويخطب له، فأجابه الإمام إلى ذلك.
وكان هناك أيضاً الشيخ الرصاص في البيضاء، أي في المشرق الأوسط.
وكان له شوكة قوية، لذلك كان على إسماعيل أن يخضع جميع بلاد المشرق قبل الوصول إلى حضرموت. .
ثم يوضح ابن عامر السبب الآخر-والذي يُعد ذات أهمية كبيرة- خلال حديثه عن أهمية حضرموت وظفار، فيقول: "والشحر بندر عظيم، خراجه في كل عام مائة ألف أوقية". ولعلَّ هذا من الأسباب الرئيسية للتوسع في هذه المناطق، وهو الوصول إلى الموانئ الجنوبية مثل عدن والشحر، والتي ستشكل رافداً مالياً جديداً للدولة من خلال النشاط التجاري والبحري في هذه الموانئ.
ولأن الدولة القاسمية في هذه الفترة تعتبر القوة الوحيدة في المنطقة، ولا يوجد منافس قوي يقف أمامها بعد إخراج العثمانيين، فقد رأت أن تبسط سيطرتها على كل أجزاء اليمن، ولا بد أن تدخل كل الكيانات المستقلة تحت سلطة هذه الدولة.
ولم يكن ذلك سهلاً على الإمام المتوكل إسماعيل، فإعادة توحيد البلاد كان يتطلب عملاً شاقاً، استغرق الكثير من الجهود السياسية والمادية، وتطلب تفهماً وحنكة للظروف السياسية والاجتماعية والقبلية الشائكة. واستخدم وسائل مقنعة وممارسات مسؤولة، لم تكن القوة، إلاَّ آخر وسائلها.
لقد حاول الإمام المتوكل لعدة سنوات ربط شمال البلاد بجنوبها ومشرقها بتهائمها، متخذاً من المراسلات والإقناع أقصى ما يستطيع، وكان يخفق ويفلح، كما سنرى.
الاستيلاء على عدن ولحج وأبين
انصب اهتمام الإمام المتوكل على الله إسماعيل على توسيع حدود الدولة القاسمية منذ السنة الأولى من توليه الإمامة. ومن البديهي أن ينصب اهتمام الإمام المتوكل وأبناء إخوته على المناطق الجنوبية والشرقية، التي تعد ذات أهمية كبيرة. وقد بدأ بإمارة عدن، مستغلاً الظروف وما قام به أميرها من أعمال كانت مبرراً ظاهرياً للاستيلاء على عدن، غير أن السبب الرئيسي هو الأهمية الاقتصادية التي تميزت بها عدن منذ القدم.
وقد أوردت المصادر المعاصرة أسباب الزحف تجاه عدن للاستيلاء عليها. من هذه الأسباب ما ذكره يحيى بن الحسين بقوله: "لأجل أمور وقعت منه-أي أمير عدن الحسين بن عبد القادر- لم يرض بها الإمام".
ويشرح المؤرخ الجرموزي هذه الأمور شرحاً مفصلاً،حيث يذكر بأن أمير عدن ولحج وخنفر، وهو الحسين بن عبد القادر كان في عهد الإمام المؤيد قد استولى على أموال أمير من (ممباسا) بعد وفاته في طريق عودته من الحج سنة (1050ه/1640م)، وكان الأمير الممباسي قد راسل الأمير عبد القادر، والد الحسين. وكانت أمواله مع ثقاة بنظر الأمير عبد القادر.
وعند وفاة الأخير، وخلفه ابنه الحسين أخذ أموال هذا الأمير وقتل من قتل من أتباعه، وحبس من بقي منهم في خنفر. هذا بالإضافة إلى أنه كما أورد الجرموزي: قد هدم قواعد الإسلام، وأظهر المنكرات، وجعل للبغاء جوانب، وللخمور كذلك، وأن الإمام المؤيد كان قد راسله يطلب منه إطلاق أموال الأمير الممباسي وأتباعه، غير أن الإمام انشغل عنه.
ولما وصل إسماعيل إلى الإمامة رأى أنه لا بد من إرسال كتاب إلى أمير عدن بشأن ذلك، إلاَّ أن هذا الأمير لم يعط جواباً وافياً، ولم ينفذ ما طلب منه الإمام المتوكل إسماعيل، لذلك لم يجد الأخير بداً من إرسال أحمد بن الحسن على رأس جيش للاستيلاء على عدن ولحج وأبين.
وعلى الرغم من أن ابن عامر يرى بأن أحمد بن الحسن هو الذي ترجح له الغزو إلى عدن، غير أن المؤرخ الجرموزي كان حريصاً على إبراز أن الإمام المتوكل إسماعيل هو الذي أمر بالتوجه إليها، حيث أرسل محطة أخرى نحو الألف، قائلاً: "قد صار مع الولد أحمد-حفظه الله-الكفاية، وإنما نريد قطع إياس هذا الأمير وأصحابه منَّا. ولتعلموا أن ذلك عن أمرنا". كما أن يحيى بن الحسين يذكر بأن الإمام المتوكل في سنة (1055ه/1645م)، اتجه من ضوران مقر إمامته إلى صنعاء، وجهز ابن أخيه أحمد بن الحسن إلى بلاد الأمير الحسين بن عبد القادر عدن ولحج وأبين.
ولعلَّ ما سبق دليل على أن الإمام المتوكل هو الذي أمر بالتوجه إلى عدن للاستيلاء عليها. وأن أحمد بن الحسن قد تحمس لذلك، وجمع الجنود من قبله، وكذلك محمد بن الحسن، وآخرين من أبناء الأسرة.
ومهما كان الأمر فإنه تم الاستعداد والتجهيز للجيش المتوجه إلى عدن بقيادة أحمد بن الحسن، والذي بلغ حوالي ثلاثة آلاف مقاتل. وشارك في تجهيزه وإعداده الإمام المتوكل وأبناء إخوته، خاصة أحمد بن الحسن الذي كان أكثرهم حماساً لدخول عدن والاستيلاء عليها، وكذلك محمد بن الحسن الذي جمع لأخيه أحمد الكثير من الجنود والأموال.
ومن مدينة إبّ كان المنطلق. وهي منطقة ولاية محمد بن الحسن الذي أُنيطت به مهمة تجهيز الجيش والأموال وأُلحق بهم الجنود الذين جهزهم الإمام المتوكل. وبعد أن اكتمل تجهيز الجيش، وأصبح مستعداً خرج من مدينة إبّ في شهر صفر (1055ه/ إبريل 1645م) متجهاً إلى عدن بقيادة أحمد بن الحسن.
أما الأمير الحسين بن عبد القادر صاحب عدن فقد استنجد بالمحيطين به، بعد أن علم بتجهيز وخروج جيش الدولة القاسمية إليه. واستعد لمواجهة أحمد بن الحسن وجيشه، فحشد مع جيشه "قوماً من المشرق ومن يافع". واتجه بهم إلى منطقة في لحج تسمى (الرعارع). ودارت هنالك معارك عنيفة، قُتل فيها كثير من أصحاب أحمد بن الحسن، كان أكثرهم من الأهنوم، وجُمعوا في مقبرة هناك تُعرف بمقبرة أصحاب أحمد بن الحسن. إلاَّ أنه في آخر الأمر كانت الهزيمة في الحسين ابن عبد القادر ومن معه من المناصرين، فاضطر إلى الانسحاب إلى خنفر، فلحقه أحمد بن الحسن، لكنه عندما حاذى خنفر تبين له أن الأمير حسين قد هرب منها ليلاً إلى يافع، وأن فيها أتباعه، فدارت معارك بينهما كانت نتيجتها دخول أحمد بن الحسن خنفراً، وهزيمة أصحاب الأمير حسين. واستولى أحمد بن الحسن على خزائنه وأثاثه وماله.
وبعد ذلك أرسل أحمد بن الحسن الشيخ حسن بن الحاج أحمد الأسدي إلى عدن للاستيلاء عليها، فلم يجد فيها مقاومة تذكر. وكان فيها حامية عسكرية من أهل يافع. وبعد حصارهم سلموها للأسدي. وبذلك أصبحت لحج وخنفر وعدن تحت سيطرة أحمد بن الحسن.
أما دور محمد بن الحسن في هذه الحرب، فإنه بعد أن جهز أخاه بالأموال والجيش في إب، اتجه بمن تبقى معه من الجند إلى تعز. وأرسل الإمدادات والحاميات لحفظ الطريق، وبذل الأموال لأهل المشرق ليقطعوا العلاقات أو الإتصال بالأمير الحسين بن عبد القادر، كما راسل الشيخ حسين الرصاص، شيخ بلاد بني أرض وبذل له الأموال، وأحسن إليه حتى لا يستجيب للأمير حسين، الذي استنجد به وبيافع. وبذلك يكون محمد بن الحسن قد قطع الطريق على الأمير حسين بن عبد القادر بحيث لم يجد له مناصراً بعد هزيمته وهروبه إلى يافع.
ولما رأى الأمير حسين بن عبد القادر أنه لا فائدة من موقفه العدائي ضد أحمد بن الحسن اضطر إلى الاستسلام لرأي محمد بن الحسن، الذي كان قد كتب إليه، ووعده بالإنصاف، فعاد الأمير الحسين إلى "خنفر، وجعل له عوائد آبائه من عدن ولحج، وجعل له بلاد أبين أيضاً إقطاعاً. وأقره الإمام على ذلك".
أما أحمد بن الحسن، فإنه أقام في خنفر حوالي عشرة أيام. وأمر أن تُنقل جميع أسرة الأمير الحسين بن عبد القادر مع خدمهم وثقاتهم إلى لحج. كما أخرج أصحاب الأمير الممباسي من السجن ونقلهم إلى تعز، حيث تكفل الإمام بالإنفاق عليهم.
وبسقوط عدن ولحج وخنفر خضعت هذه المنطقة لسيطرة الدولة القاسمية المباشرة.
وكان أحمد بن الحسن قبيل عودته من عدن قد عين عليها مولاه ياقوت إسماعيل، كما عين في لحج بعض أتباعه، وعاد محملاً بالغنائم، وفيها الكثير من العبيد والإماء ومما لا شك فيه أن النصر الذي أحرزته الدولة القاسمية في عدن ولحج سيزيد من هيبتها وقوتها لدى الكيانات المستقلة الأخرى، كما أنه سيزيد من حماس الإمام المتوكل وأبناء إخوته لمزيد من التوسع في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة القاسمية.
إخضاع منطقة الشعيب
منطقة الشعيب تقع إلى الشرق من قعطبة، وهي منطقة قبلية صغيرة، مقارنة بالكيانات القبلية المستقلة الأخرى المجاورة لها من الجهات الشرقية والجنوبية.
وكان أهالي منطقة الشعيب يدفعون ضريبة بسيطة للدولة القاسمية في عهد الإمام المؤيد. وكانت تُدفع للحسن بن القاسم. وفي المقابل كان مقرراً لزعمائها رواتب. أي أن منطقة الشعيب كان يحكمها مشائخها، وفي الوقت ذاته كانوا يدينون بالولاء والطاعة للدولة القاسمية. ولما توفي الحسن بن القاسم انقطعت الضريبة التي كانوا يدفعونها، ولم تطالبهم الدولة بشيء من ذلك.
ولعلَّ السبب في ذلك أن الإمام المؤيد كان قد انشغل بعد وفاة أخيه الحسن بالقضاء على تمرد ابن أخيه أحمد بن الحسن، وبالتالي لم يطالب منطقة الشعيب بما كان مقرراً عليها أيام الحسن بن القاسم. واستمر الأمر كذلك حتى عام (1061ه/1651م). حين رأى محمد بن الحسن أنه لا بد من إرسال تلك المقررات السابقة، وإعلان الولاء للدولة القاسمية، غير أنهم رفضوا ذلك، معلنين عدم انقيادهم لأوامره. وحاول محمد بن الحسن إقناعهم بتسليم ما عليهم سلماً عن طريق المراسلات المتكررة، تجنباً للدخول في حرب معهم، إلاَّ أنه لم يجد منهم استعداداً لتنفيذ ذلك الطلب، فلم يجد بُداً من إرسال حملة عسكرية يصل عددها إلى أكثر من ألفين مقاتل، لإخضاعهم بالقوة.
وطلبت قبائل الشعيب النجدة والمساعدة من يافع والمشرق. ومن البديهي أن يافع وباقي المناطق الشرقية ترفض مساعدة أو نصرة الشعيبيين، حتى لا يعطوا للدولة القاسمية مبرراً لمحاربتهم، والاستيلاء على بلادهم، خاصة بعد أن سمعوا عن الانتصارات التي حققتها الدولة القاسمية في عدن ولحج وأبين، لذلك نجدهم يجيبوا على قبائل الشعيب بقولهم: "لا تفتحوا علينا ما نحن منه خائفون".
وعندما وصلت الحملة العسكرية إلى منطقة الشعيب حاولت قبائل الشعيب مقاومتها والدخول معها في حرب، إلاَّ أنها في نهاية الأمر لم تجد بُداً من إعلان طاعتها وخضوعها للدولة القاسمية. وأنهم سيدفعون ما كان عليهم من المقررات أيام الحسن بن القاسم. غير أن محمد بن الحسن هذه المرة أصر على أنه "لن يقبل إلاَّ الواجبات على تمامها، والائتمام بالإمام، والتحكم للأحكام الشرعية على التمام".
وبما أن قبائل الشعيب في موقف الضعف، والدولة القاسمية في مركز قوة لم يكن أمامها إلاَّ الموافقة على تلك الشروط مجبرة.
ولم تكن قبائل الشعيب راضية أو مقتنعة بتلك الواجبات التي فُرضت عليها من قبل محمد بن الحسن، لذلك كانت موافقتها عليها آنية، ربما لأنها اعتقدت أنها ستتمكن من التخلص من ذلك بعد خروج الحملة العسكرية من منطقتها، وأن الدولة القاسمية ستنشغل بمهام أخرى، كما حدث سابقاً بعد وفاة الحسن بن القاسم، لذلك نجدها في عام (1063ه/1653م) تعلن من جديد استقلالها عن الدولة القاسمية، رافضة القيام بما عليها من واجبات إزاءها.
ولنا أن نتساءل ما هو السبب الذي دفع قبائل الشعيب إلى إعلان تمردها على الدولة في هذه الفترة التي كانت فيه الدولة القاسمية في أوج قوتها ومجدها؟ وأنه من البديهي أن الإمام المتوكل ومحمد بن الحسن لن يتركوا قبائل الشعيب ينعموا باستقلالهم، خاصة وأن منطقة الشعيب من المناطق القريبة جداً من حدود الدولة القاسمية، حيث تقع إلى الشرق من قعطبة التابعة للدولة القاسمية كما سبق أن رأينا. لعلَّ السبب في تمردهم ما ذكره المؤرخ الجرموزي، حيث يقول: ثم اختلفوا فيما بينهم، وربما أن الاختلاف بينهم كان بسبب أن البعض كان يرى خلع الطاعة، وعدم إرسال ما عليهم من واجبات، والبعض الآخر كان يرى البقاء على ما هم عليه من تبعية للدولة القاسمية، غير أنه على حسب تعبير المؤرخ الجرموزي: "وغلب عليهم رأي الجاهل".
ومهما كان الأمر فإن محمد بن الحسن أرسل إليهم حملة عسكرية مرة أخرى بقيادة علي بن الهادي بن الحسن المحرابي، الذي طلب منهم في البداية إعلان طاعتهم للدولة، إلاَّ أنهم رفضوا ذلك، فرأى المحرابي أنه لا بد من محاربتهم وإخضاعهم بالقوة. فلما رأوا قوة الحملة العسكرية وكثرة الجنود، علموا أنهم لن يتمكنوا من مواجهتهم، فهربوا إلى يافع. وحاولوا مرة أخرى الاستنجاد بيافع، إلاَّ أنهم أجابوهم مثل المرة الأولى، بعدم قدرتهم على نُصرتهم.
وكرَّر المحرابي مراسلتهم بالعودة إلى بلادهم وإعلان خضوعهم وطاعتهم للدولة، إلاَّ أنهم اعتقدوا بأن المحرابي إذا بقي طويلاً في بلادهم فلن يجد ما يكفي العسكر ويضطر إلى العودة من حيث أتى، ثم يعودوا هم إلى بلادهم. غير أنه لما طال البقاء بالمحرابي في الشعيب، ولم تجب قبائله لما طلبه منهم، كما أنه لم يجد الزعماء والمشائخ الذين يُعتمد عليهم في أخذ الطاعة، عند ذلك أمر بهدم منازل الهاربين ومعاقلهم، وبالفعل هُدمت كثير من تلك المنازل. فلما علم الهاربون بذلك عادوا إلى بلادهم وأعلنوا الطاعة. واتجهوا إلى محمد بن الحسن لتأكيد طاعتهم، وأنهم سيؤدون ما عليهم من واجبات ومقررات للدولة، فكافأهم محمد بن الحسن على قدومهم إليه، وإعلان طاعتهم، فأمر أن لا يؤخذ منهم شيء من الحقوق التي للدولة حتى تُعمر بلادهم، وتعود كما كانت قبل أن تُهدَم.
الاستيلاء على بني أرض
بعد أن حقق الإمام المتوكل جزءاً مما كان يخطط له، وهو توسيع حدود الدولة جنوباً إلى عدن، وإعادة منطقة الشعيب تحت سيطرة الدولة القاسمية، كان لا بد له أن يواصل ذلك التوسع للسيطرة على بقية المناطق الشرقية والجنوبية.
ومن الملاحظ أن الإمام المتوكل قبل إرسال حملات عسكرية إلى منطقة ما لإخضاعها كان يسبق ذلك بالرسائل المتكررة لمحاولة إدخال هذه المناطق تحت سيطرة الدولة بالطرق السلمية، فكما سبق أن رأينا أولاً في لحج وعدن كيف راسل صاحبها الحسين بن عبد القادر، ولما لم يجد فائدة من المراسلة، وجد المبرر المقنع للاستيلاء عليها، وكذلك منطقة الشعيب. وهنا في بني أرض لا شك أنه لم يجهز الحملات العسكرية لإخضاعها لسيطرة الدولة، إلاَّ بعد أن قام بالعديد من المراسلات لإدخالها تحت سيطرة الدولة سلماً.
وقد ذكرت المصادر التي بين أيدينا أسباباً مختلفة للاستيلاء على بلاد بني أرض، فنجد المؤرخ الجرموزي يسهب في ذكر الجهل، وعدم تطبيق الشريعة الإسلامية الصحيحة في بني أرض ويافع. وأن الإمام المتوكل قد راسل زعماء ومشائخ هذه الجهة، ودعاهم للدخول في الطاعة، وتطبيق الشريعة الإسلامية الصحيحة، والخطبة له.
وكان الشيخ حسين الرصاص أمير بلاد بني أرض، قد رفض الدخول في طاعة الإمام والخطبة له. عندها لم يجد الإمام المتوكل "عذراً عن قتالهم، ولا بقي له ولأهل جهته المذكورة حجة". وكان الرصاص قد عظم شأنه، وتغلب على خصومه من العوالق ومراد وغيرهم، فهابوا جانبه وأرسلوا له الهدايا.
ويذكر يحيى بن الحسين بأن الإمام إسماعيل أرسل الرسائل إلى الشيخ الحسين بن أحمد الرصاص للدخول في طاعته، إلاَّ أنه أجاب على تلك الرسائل بقوله: "هذا لا يتقدر له الطاعة، ولا الائتمام، بل بيننا وبينه السيف والدفع لمن وصل والإلمام".
وعلى الرغم من أنه قد رفض مساعدة الشعيب خوفاً من الإمام، لكنه هنا رأى أن الأمر متعلق بمنطقته هو.
أما ابن عامر فيذكر بأنه: لما أراد الإمام دخول جيشه إلى حضرموت، كما سبق أن ذكرنا، كاتب الشيخ حسين الرصاص للسماح لجيش الإمام بالمرور من بلاده. وكان الرصاص له شوكة قوية، فرفض طلب الإمام، وقال: إذا أراد الإمام التوجه إلى حضرموت فيدخل من بلاد الجوف، ويخرج من بلاد العوالق، وإلا فالحرب بيننا وبينه. ويقول يحيى بن الحسين: "وهو أقرب جهة إلى هذه الجهات، وأول باب تلك المشارق النائيات". وتعتبر بلاد الرصاص أول تلك المناطق التي كانت تسيطر على البلاد، من بلاد بني أرض إلى مدينة البيضاء.
وكان بجانبه الهيثمي من دثينة، ثم العولقي إلى الشرق، ثم إلى الواحدي. وفي الجنوب الغربي من دثينة كان الفضلي.
ومهما كانت الأسباب، فإن الإمام المتوكل قد عقد العزم على إدخال هذه المنطقة تحت سيطرة الدولة. وبما أن الرسائل لم تجد نفعاً، فلا بد من الحرب وإرسال الجيوش لإدخالها بالقوة.
فاستدعى أبناء إخواته في بداية عام (1065ه/1654م) وأمرهم بالتوجه إلى المشرق، وإدخاله تحت طاعة الدولة، فاستجاب أولاد إخوته لدعوته، وتوجهوا إليه في ضوران. وكان أولهم محمد بن الحسن وأحمد بن الحسن والحسين بن الحسين، وذلك للتدوال حول كيفية الإعداد لمحاربة حسين الرصاص، وإخضاع منطقته لسلطة الدولة.
وعلى الرغم من الانتنقادات التي وُجهت للإمام المتوكل حول دخول المشرق. وأنه لم يحن وقته بسبب الجفاف الذي أصاب البلاد حينها من جانب، والخوف من عواقب ذلك الدخول من جانب آخر. ربما لقوة الرصاص باعتباره أقوى الزعامات القبلية الموجودة في المشرق. وأن بإمكانه جمع القبائل الأخرى المجاورة لمواجهة الدولة القاسمية. غير أن المتوكل كان ذو نظرة ثاقبة، إذ كان يرى أنه لا بد من القضاء على أقوى الزعامات القبلية في المشرق، والمتمثلة في حسين الرصاص؛ لأنه بعد القضاء عليه أو إخضاعه ستخضع الزعامات القبلية الأخرى لطاعة الإمام، لعدم قدرتها على مواجهة هذه الدولة القوية. وهو ما حدث كما سنرى.
ومن الجانب الآخر كان الإمام المتوكل لديه الثقة الكاملة بأن أبناء إخوته-خاصة محمد بن الحسن وأحمد بن الحسن-كانوا يبذلون أقصى الجهود من أجل تحقيق التوسع الذي كان يطمح إليه، وكانوا يداً واحدة، ويعملون في صف واحد. ولم توجد خلافات أو مشاحنات فيما بينهم، لذلك كله تحقق ما كان يخطط له الإمام المتوكل.
ومما لا شك فيه أن التفاف أبناء إخوة الإمام حوله، ينم عن شخصية قوية كان يتمتع بها الإمام، فأعطاهم صلاحيات قد لا تتعارض مع كونه إماماً، له الرأي الأول والأخير، إلاَّ أنه أشبع رغبات كل واحد منهم، مما أوجد الثقة في أنفسهم، وزاد من حماسهم لتحقيق دولة قوية متماسكة، تتوسع حدودها أكثر من ذي قبل كلما سنحت الفرصة لذلك.
ونتيجة لكل ما سبق نجد أن الإمام المتوكل ما إن أمر في شهر صفر سنة (1065ه/1654م)، بأن يتم إعداد الجيش لدخول المشرق، حتى نهض جميع أبناء إخوته بلا استثناء، وعلى الرغم أن الجهد الأكبر تحمله محمد بن الحسن وأحمد بن الحسن، إلاّ أن الجميع أبلى بلاءً حسناً في ذلك. وكان هذا من أهم أسباب نصر قوات الدولة القاسمية، كما سنرى.
ومهما كان الأمر فإن الإمام المتوكل عندما أخفق في إدخال الرصاص تحت طاعة الدولة بالطرق السلمية، ولما رأى إصراره على الحرب لم يجد بداً من إرسال الحملة العسكرية لمحاربته، وإخضاعه بالقوة. وبعد أن وجه الإمام أوامره إلى أبناء إخوته بذلك اتجه محمد بن الحسن وإخوته أحمد بن الحسن والحسين بن الحسن إلى ذمار، ((وجمعوا عساكرهم وخيلهم حتى غصت ذمار بمن فيها، وكذلك الحصين امتلأت جوانبه عرصاته عسكراً وخيلاً)).
كما استعد محمد بن الحسين بمن معه من العسكر في جهات حراز، وهي تحت ولايته. وكذلك محمد بن أحمد بن القاسم استعد بمن معه من العسكر، وصاحب كوكبان كذلك استعد بعسكره. ((فاجتمع الكل زهاء عشرة آلاف وألف حصان، وهي جملة جنود أهل اليمن هذا الزمان. وأكثر الخيل لمحمد بن الحسن)).
ومن البديهي أن يعين الإمام المتوكل ابني أخيه محمد بن الحسن وأحمد بن الحسن لقيادة هذه الحملة، باعتبارهما أكفأ آل القاسم في ذلك. ومنحهم صلاحيات كبيرة. وخرجت الحملة متجهة إلى رداع في بداية شهر ربيع الأول سنة (1065ه/1655م).
إذاً كان الاستعداد هذه المرة أكثر ضخامة من المرات السابقة وفاقت هذه الحملة الحملات السابقة، بسبب قوة الرصاص، ومقدرته على جمع أكبر عدد من المقاتلين من القبائل المجاورة له.
وقد برهنت الأحداث أن الإمام وأبناء إخوته كانوا مدركين لما سبق ذكره. وأن هذا الإعداد كان لا بد منه، فما أن سمع الرصاص بالإعداد لحملة عسكرية والخروج إلى بلاده حتى استعد لمواجهة تلك الحملة، وجمع من قبائله عدداً كبيراً. واستنجد بالقبائل المجاورة له مثل: العولقي والهيثمي ويافع. وكان لابد لهذه القبائل أن تقف إلى جانب الرصاص وتؤازره؛ لأن هزيمة الرصاص ستكون هزيمة لها. وستتمكن الدولة القاسمية من إخضاع هذه القبائل بسهولة، لأنها لا تتمتع بالقوة التي كان يتمتع بها الرصاص، ومنطقته تعتبر خط الدفاع الأول لبقية المناطق القبلية الأخرى، كما رأينا سابقاً.
ومهما كان الأمر فقد قامت مجموعة من قوات الدولة القاسمية باحتلال إحدى المدن الهامة التابعة للرصاص، وهي مدينة الزهراء. كان الرصاص قد استولى عليها من قبيلة قايفة، وضمها إليه بالقوة. لذلك استغل الشيخ الزين بن مصعب القايفي، شيخ قايفة هذه الفرصة، ليستعيد هذه المدينة المأخوذ منه عنوة، فأرسل رسالة إلى محمد بن الحسن يطلب مساعدته في الاستيلاء على الزهراء، وأنه يخشى أن يسبقه إليها الرصاص ومن معه من سلاطين المشرق، فوافق محمد بن الحسن على ذلك، وعين لقيادة الجيش صلاح بن محمد الديلمي والشيخ حسين بن صالح الحيمي، فقدموا إلى الزهراء ليلاً، وكان بها حامية عسكرية تابعة للرصاص، لكنها لم تتمكن من الصمود، فهربت وسقطت المدينة تحت سيطرة القوات الإمامية. وكان هذا أول نصر تحققه الدولة ضد الرصاص.
أما الهزيمة الثانية التي مُنيت بها قوات الرصاص فكانت في منطقة تسمى (ذي كريش). وكان الرصاص قد أرسل أخاه الشيخ صالح الرصاص، ومعه خمسمائة لحمايتها، لكنهم هُزموا وهرب صالح الرصاص ومن معه من هذه المدينة، بعد أن احتلتها قوات الإمام. وبذلك أصبحت مدينتان هامتان تحت سيطرة الدولة القاسمية.
وكان الرصاص قد عسكر في منطقة تسمى (نجد السلف)، بمن جمع من قبائله ومن انضم معه من القبائل المجاورة، ووصل عددهم إلى أكثر من ثلاثين ألف. وألزم كل قبيلة بأن تنقل معها إلى هذه المنطقة أُسرها وحيواناتها. وأن تنصب لها الخيام من أجل ذلك، وتكون في شعاب قد أعدها لها بالقرب من مخيمه. وكان هدف الرصاص من ذلك حتى لا تفكر هذه القبائل في الهرب أو الهزيمة.
ومن رداع قام محمد بن الحسن بمحاولة أخيرة للحيلولة دون الحرب مع الرصاص والقبائل الأخرى، ودخولها في الطاعة سلماً، فأرسل إلى الشيخ حسين الرصاص يطلب منه الدخول في طاعة الإمام في مقابل إبقائه على ما تحت يديه من المناطق، غير أن الرصاص كان قد أرسل إلى أحد زعماء الصوفية في حضرموت يُسمى الحبيب سالم ابن أحمد من آل باعلوي في منطقة (عينات) يستشيره ماذا يكون الجواب على الإمام، فأجاب عليه بقوله: "سمعنا وعصينا، وأبى سالم وأبينا". عند ذلك لم يجد محمد بن الحسن وأخوه أحمد بن الحسن بداً من انطلاق الجيش لمحاربة الرصاص ومن معه، بعد فشل جميع المحاولات السلمية.
ولم تكن كل القبائل مع الشيخ حسين الرصاص، فهناك من القبائل من ساعد أحمد بن الحسن وجيشه ضد الرصاص، ولو خفية. ومن المرجح أن مساعدتهم لجيش الدولة القاسمية كان من ضمن العوامل التي ساعدت على النصر الساحق فيما بعد، كما سنرى. من هؤلاء على سبيل المثال شيخ بني غيلان وشيخ الملاجم، الذين كانت منطقتهم تقع حول نجد السلف، حيث تقدموا إلى أحمد بن الحسن خفية ودلوه على مكامن ضعف الشيخ الرصاص. وأنهم متخلون عن نصرته. كما تقدم إلىأحمد بن الحسن حوالي ألف مقاتل من قايفة وبني ضبيان، وانضموا إلى جيش الدولة القاسمية.
وكان الطرفان على أهبة الاستعداد للحرب، حيث كانت قوات الإمام في الزهراء وذي كريش، ومن تبقى في رداع. بينما الرصاص ومن معه معسكرين في نجد السلف.
ويبدو أن أحمد بن الحسن قد تعمد تأخير المواجهة مع الرصاص بغرض امتصاص اندفاع وحماس أنصاره للقتال، ونفاد صبرهم وتمويناتهم. وفعلاً سئم الرصاص ومقاتلوه الانتظار في نجد السلف، فاضطر إلى إرسال جزء من قواته إلى ذي كريش لاستفزاز الجيش القاسمي والتأثير على معنوياته. إلاّ أن استعجاله كان من أسباب هزيمته فيما بعد، فيقول يحيى بن الحسين، "فاستعجل في أمر كانت له فيه أناة". فبعد أن أمر الرصاص بغزو قرية ذي كريش في الليل وقع الحرب بين الطرفين. وكان ذلك سبب تحرك جيش الإمام، حيث توجه على الفور إلى الزهراء، التي كانت قد استولت عليها قوات الدولة القاسمية من قبل، كما أسلفنا، وما زال أحمد بن الحسن يخاطب الرصاص بالدخول في طاعة الإمام، وأن بلاده تبقى تحت يده، لكنه رفض كل العروض والمطالب. وتقدم الجيش القاسمي عند ذلك إلى نجد السلف في 4شهر ربيع الآخر من سنة (1065ه/10 فبراير 1655م). ولن ندخل في تفاصيل دقيقة حول كيف كانت الحرب بين الطرفين، إلاّ أنه دارت هناك معركة حاسمة لصالح قوات الدولة القاسمية بقيادة أحمد بن الحسن، فلما شعرت القبائل المجاورة، التي شاركت في المعركة بتلك الهزيمة هربت متخلية عن نصرة حليفها الرصاص، خوفاً من أن تُحاصر. ولم يثبت في أرض المعركة إلاّ الرصاص وقبائله. وقد قاتل ببسالة، لكنها رجحت كفة جيش الدولة القاسمية بقيادة أحمد ابن الحسن. وانتهت المعركة بهزيمة ساحقة للطرف الآخر. وقُتل حسين الرصاص، وأُرسل برأسه إلى الإمام المتوكل في ضوران.
وأسفرت المعركة بالطبع عن قتلى من الجهتين، غير أن المصادر التي بين أيدينا تذكر أن عدد القتلى من جيش الدولة القاسمية يقدر بنحو ستين نفراً.
ومن البديهي أن ينتهب جيش الدولة بعد انتهاء المعركة ما وجده من الغنائم في معسكر الرصاص، خاصة أنه وقبائله قد أتوا إلى نجد السلف محملين بأمتعتهم وسلاحهم، وحتى نسائهم.
أما صالح الرصاص شقيق الشيخ حسين الرصاص فقد هرب بعد الهزيمة، وأخذ معه النساء إلى البيضاء.
وبعد انتهاء المعركة كان لا بد لأحمد بن الحسن أن يواصل تقدمه إلى البيضاء ويخضعها لسلطة الدولة سلماً أو حرباً.
ولكن مما لا شك فيه أنه بعد الهزيمة الساحقة ومقتل الرصاص، فإن شقيقه صالح لن يفكر في مقاومة أحمد بن الحسن وجيشه، وتقدم أحمد بن الحسن إلى منطقة تسمى (الصلالة)، ما بين نجد السلف والبيضاء. وكان قد استولى عليها شرف الدين، من أتباع أحمد بن الحسن ومعه حوالي مائتين وخمسين، دخلوا الصلالة ليلاً وغنموا منها ما لا يُحصى، لأنه كان بها مخازن الحبوب التابعة للرصاص. ثم تقدم أحمد بن الحسن وجيشه إلى البيضاء يوم الخميس 11 شهر ربيع الآخر سنة (1065ه/ يناير 1655م)، ولما استقر بها كان أول ما قام به أن أرسل من تبقى من النساء والأطفال إلى صالح الرصاص، وهو في منطقته وتسمى (عبرة)، من الجبال المتصلة ببيحان.
وبعد مراسلات وشروط وضعها صالح الرصاص للوصول إلى أحمد بن الحسن، الذي أرسل يستشير أخاه محمد بن الحسن، ثم استشار الجميع الإمام المتوكل، فأجاب عليهم بقبوله والإحسان إليه من دون شرط معين. وكان الرصاص يريد أن يكون له ما كان لأخيه حسين من البلاد، غير أن أحمد بن الحسن أجاب عليه بانه لن يأخذ إلا ما أراده الإمام من البلاد وغير ذلك.
فتقدم صالح الرصاص إلى أحمد بن الحسن وهو في البيضاء، وأكرمه وأعاد إليه بعضاً من بلاد البيضاء، وقرر له رواتب، وبذلك دخلت بلاد بني أرض والبيضاء جميعها تحت سيطرة الدولة القاسمية.
ومما لا شك فيه أن النصر الذي حققه الجيش القاسمي في هذه المنطقة يعد ذو أهمية كبيرة، إذ أنه من جانب زاد من سمو مكانة الإمام المتوكل وهيبته لدى الخاصة والعامة، ودلل على قوة هذه الدولة وهيبتها لدى القبائل التي تقع مناطقها تحت حكم الدولة القاسمية. كما زاد هذا النصر من مكانة محمد بن الحسن وأحمد بن الحسن المادية والمعنوية، إلى جانب بقية أبناء إخوة الإمام، الذين أبلوا بلاءً حسناً في إخضاع هذه المنطقة مثل: محمد بن الحسين، والحسين بن الحسن وأحمد بن محمد بن القاسم، وغيرهم.
أما القبائل التي كانت خارج سلطة الدولة، فقد داخلها الخوف بعد هزيمة الرصاص، الذي كان يعتبر القوة الرئيسية في المنطقة، وتمكنت الدولة من قتله وإخضاع منطقته بالقوة، وبالتالي فمن الطبيعي أن تكون هذه القبائل هي المستهدفة بعده، خاصة أنها كانت لا تتمتع بنفس القوة التي كان يتمتع بها الرصاص، لذلك أحدث هذا الانتصار ردود فعل قوية لدى زعماء ومشائخ المناطق المجاورة للرصاص، فلن تفكر في الدخول في حرب مع الدولة، أو مقاومة جيشها. وأنه لا بد أن تدخل سلماً في طاعتها، فبعد أن استقر أحمد بن الحسن في البيضاء وراسل صالح الرصاص بشأن إعلان طاعته، وصل إليه رسالة من السلطان منصر بن صالح العولقي يعلن فيها طاعته وولاءه للدولة القاسمية، فأجابه أحمد بن الحسن بالقبول. وأمر بالمنادي في المخيم أن العولقي بلاده من جملة بلاد الإمام. كما وصل ابن الفضلي فأمنه أحمد بن الحسن، وجعل له ولاية بلاده. ثم أرسل الرسائل إلى بقية حكام المشرق، فوصل إليه منهم أيضاً وأنهم معلنون الولاء والطاعة.
أما سلطان حضرموت بدر بن عبد الله الكثيري، الذي كان قد تغلب على عمه بدر بن عمر وأخذ منه السلطنة وحبسه، فما أن سمع بما حققته الدولة من نصر حتى أرسل الهدايا والرسائل التي تدل على ولائه وطاعته للدولة القاسمية.
الاستيلاء على يافع
كانت يافع قد شاركت في محاربة جيش الدولة القاسمية إلى جانب الشيخ حسين الرصاص، ثم انسحبت خوفاً من الهزيمة. وبعد انتهاء أحمد بن الحسن من إخضاع بني أرض، وإدخالها تحت سلطة الدولة بدأ يراسل يافع، طالباً منها الدخول في طاعة الإمام، وإعلان الولاء، لكنها لا زالت تصر على عدم الاستسلام، والدخول تحت سلطة هذه الدولة، معتقدة بأن جبالها الحصينة ستحميها وتمكنها من هزيمة جيش الدولة القادم إليها. وأن المُدافع في هذه المناطق الحصينة ستكون له الغلبة أكثر من المُهاجم، الذي قد لا يعرف الكثير عن تلك المناطق. وكما يقال: (أهل مكة أدرى بشعابها).
وبعد فشل المراسلات لم يجد أحمد بن الحسن بداً من دخول يافع وإخضاعها بالقوة، فبدأ يهيء الجيش الذي سيتجه إلى يافع، وفي المقابل كانت يافع قد استعدت للمواجهة بكل ما تستطيع من قوة. وتحصنت في الجبال، والذي أهمها جبل (العر) ويعتبر من الجبال المنيعة، فوضعت يافع في هذا الجبل حامية عسكرية كبيرة، وقطعت بعض الطرق حتى لا تستطيع الخيل المرور.
وكان لليافعيين اعتقاد كبير في السيد سالم بن أحمد السابق ذكره، حيث استنجدوا به للدفاع عن بلادهم. أما أحمد بن الحسن فقد أرسل بعض الجند إلى منطقة (الخَلَقَة)، ثم تبعهم محمد بن الحسين بجميع من معه من الجنود، بينما قبائل يافع متحصنة في جبل العر، ثم وصل الخبر إلى أحمد بن الحسن بأن الشريف سالم قادم من حضرموت بغارة إلى يافع، فأرسل بجميع عسكره إلى دثينة ليقطع عليه الطريق. فلما علم سالم بذلك عاد إلى حضرموت.
ولما استقر محمد بن الحسين في (الخلقة) أعلن أهلها الطاعة والولاء. ولم يبق من المقاومين إلا من تحصن في تلك الجبال.
ولن ندخل في تفاصيل تلك الحروب التي دارت بين الطرفين، والتي بدأت في 19 جمادى الآخر سنة (1065ه/ 25 إبريل1655م)، غير أنه بعد مواجهات عسكرية هامة وحاسمة تمكن جيش الدولة القاسمية بقيادة محمد بن الحسين من الاستيلاء على جبل العر بأكمله، بينما هرب اليافعيون الذين كانوا متحصنين به، ومدافعين عنه إلى الجنوب. وواصل جيش الدولة تقدمه إلى الجنوب، حتى استولى على منطقة تسمى (مرفد) ، بينما تحصن اليافعيون في أماكن حصينة، وحاربوا محمد بن الحسين وجنوده، وكادوا يهزمونهم، فأرسل محمد بن الحسين إلى أحمد بن الحسن يستنجد به قبل أن تحاصره قبائل يافع في مرفد، عند ذلك اضطر أحمد بن الحسن أن يتقدم بنفسه على رأس قوة كبيرة، وكان في البيضاء. ولما سمعت يافع بقدوم أحمد بن الحسن -وكان معروفاً لدى القبائل بقوته وقدرته على هزيمتهم-اضطرت إلى الاستسلام والخضوع له، ومن ثم لسلطة الدولة القاسمية. وقد عبر يحيى بن الحسين عن ذلك بقوله: "فلما سمعوا وصوله، وتحركت طبوله هرب يافع، وولوا الأدبار، ونجوا بالفرار. ثم طلبوا الأمان، فبذل لهم أمانهم". وتقدم إليه زعماء يافع، وهو في مرفد لتقديم الولاء والطاعة للدولة القاسمية، وبعد ذلك أرسلهم إلى أخيه محمد بن الحسن في رداع، الذي بدوره أرسلهم إلى الإمام المتوكل في ضوران. ولما وصلوا إلى الإمام عفا عنهم وأكرمهم، وأعطاهم اللباس والنقود والسلاح والخيول.
وبعد أن أصبحت يافع وما حولها تحت سيطرة الدولة القاسمية أمر الإمام المتوكل أن يُعين عليها شرف الدين بن المطهر، وأن يُعين على بلاد الرصاص ودثينة وما يليها محمد بن علي بن جميل.
وعندما شعر أحمد بن الحسن بأن مهمته قد انتهت في هذه المناطق رأى أن يعود بمن معه إلى رداع، فعاد إليها دون علم الإمام المتوكل، الذي كان يرى أن يبقى في يافع وما إليها مدة أطول خوفاً من تمردهم أو خروجهم على الدولة، فلم يعلم الإمام بخروج أحمد بن الحسن ومن معه إلا وقد أصبحوا في (الزهراء).
ويورد الجرموزي بأن السبب في تحرك أحمد بن الحسن ومن معه إلى رداع ليس لأنه أكمل فرض سلطة الدولة على تلك المناطق فحسب؛ بل أنه أيضاً وصل إليه كتاب من الأمير صالح بن حسين بن الشويع-الذي أرسله على رأس وفد إلى حضرموت-ذكر فيه بأن السلطان بدر بن عبد الله الكثيري قد أعلن الطاعة للدولة وخطب للإمام، وأطلق سراح عمه بدر بن عمر. فرأى أحمد بن الحسن بأنه لم يعد هناك ضرورة للبقاء في يافع أو التوجه إلى حضرموت. وواصل تقدمه إلى رداع قبل أن يعود إليه جواب الإمام بالبقاء في يافع.
ولما وصل جيش الدولة بقيادة أحمد بن الحسن إلى رداع استقبلهم محمد بن الحسن الذي كان بمثابة القائد الأعلى لقوات الدولة. وبعد ذلك تحرك الجميع إلى ضوران، مقر الإمام المتوكل، حيث هنأهم بالنصر، وما حققوه من توسيع لسلطة الدولة.
غير أن الأحداث أثبتت فيما بعد أن الإمام المتوكل كان صائباً عندما رأى أنه لا بد للجيش أن يبقى في يافع مدة أطول، حتى يتأكد لأحمد بن الحسن صدق استسلام يافع وخضوعها، لأنه بعد خمسة أشهر من خروج الجيش من يافع أعلن أحد زعماء يافع وهو الشيخ معوضة ابن العفيف تمرده على الدولة.
ولم يكن مع والي يافع حينذاك من الجيش ما يكفي للقضاء على ابن العفيف، فاستسلم ثم طُرد من يافع، وقُتل بعض أصحابه.
ولما علم الإمام بذلك أرسل ابنه محمد بن إسماعيل إلى البيضاء، وتبعه بقية أبناء إخوة الإمام، بما فيهم أحمد بن الحسن-الذي كان قد أخضع يافع وعاد إلى ضوران كما أسلفنا-ثم اتجه الجميع إلى الموسطة. وفي بداية سنة (1066ه/1655م)، تقدموا إلى يافع، ودارت بينهم معركة كبيرة هُزم فيها ابن العفيف والناخبي ولم يتمكنا من الصمود. وطلب ابن العفيف الأمان بعد أن قُتل من أتباعه حوالي ثلاثمائة. وبعد أن مُنح الأمان أُرسل به إلى الإمام المتوكل.
وحصل أحمد بن الحسن ومن معه على الكثير من الغنائم. وأمر بالاستيلاء على أموال الزعماء المتمردين، كما أمر بمصادرة أسلحة جميع أهالي بلاد ابن العفيف. واستسلمت جميع يافع لسلطة الدولة.
وقد عبّر المؤرخ يحيى بن الحسين عن ذلك بقوله: "وواجهت يافع أجمع من حد العر إلى عدن، وجميع جباله وحصونه ... وهي بلاد ممتدة واسعة، وأهلها كثيرة".
وبعد أن تمكن أحمد بن الحسن من بسط سلطة الدولة مرة ثانية. على جميع يافع وما حولها، استدعى جميع مشائخ يافع وشيخ بني أرض صالح بن أحمد الرصاص، وأرسلهم إلى الإمام لتجديد الولاء. وبعد ذلك أمر الإمام المتوكل بأخذ جميع أسلحة يافع، وإيصالها إليه في ضوران، فوصل إليه كثير من بنادقهم محملة على ظهورهم ورقابهم، وأودعها خزانة حصن الدامغ لديه. ثم عين الإمام المتوكل ابن أخيه الحسين بن الحسن والياً على يافع والبيضاء وما إليهما، وعين نائباً له في يافع الفقيه الحسين بن يحيى المخلافي، وفي بلاد البيضاء وما إليها الفقيه علي بن صلاح الجملولي. بينما استقر الحسين بن الحسن في رداع ليدير أمر تلك المناطق من هذه المدينة.
ولما استتبت الأمور في يافع وما إليها كتب أحمد بن الحسن وأخوه الحسين إلى جميع سلاطين المشرق مثل الرصاص والعولقي والفضلي وغيرهم يطلبون منهم الوصول لتجديد إعلان الولاء والطاعة. وكان من العبارات التي كتبوها: "إما وصلتم إلينا أو وصلنا إليكم". فلم يتخلف أحد منهم، وسارعوا في الوصول، وأُرسل بهم إلى الإمام المتوكل في ضوران لتجديد الولاء والطاعة. على الرغم من أنهم قد أعلنوا طاعتهم للدولة، غير أن أحمد بن الحسن رأى أنه لا مانع من تجديد الولاء، لتأكيد التبعية لهذه الدولة خاصة بعد تمرد ابن العفيف في يافع، كما أسلفنا.
ومن البديهي أنه بعد تلك الهزيمة التي مُني بها ابن العفيف وغيره من مشائخ يافع أن يكون له بالغ الأثر على خضوع باقي المناطق المجاورة، حيث تأكد لها بأن الدولة القاسمية قوة لا يستهان بها. وأن التمرد أو الخروج عليها سيكون غير ذي جدوى، لذلك نجد مسارعة زعماء هذه المناطق بإعلان أو تجديد الولاء والطاعة لهذه الدولة القوية دون قيد أو شرط.
وبذلك توطدت سلطة الدولة القاسمية في مناطق اليمن الجنوبية والشرقية بشكل فعلي. ولم يبق خارج السلطة الفعلية سوى حضرموت وما إليها، فرأت الدولة متمثلة في الإمام وأبناء إخوته أنه لا بد من إخضاعها لسلطتها بالقوة.
دخول حضرموت والاستيلاء عليها
ومما لا شك فيه أن استيلاء الدولة على حضرموت يعد ذو أهمية خاصة، كعملية استراتيجية طويلة المدى على منطقة كانت لها تضاريس صعبة.
وكما وجد الإمام مبررات لدخول المناطق الجنوبية والشرقية السابقة، سيجد هنا المبرر الذي يعطية الحق في دخول حضرموت والاستيلاء عليها.
لقد سبق أن ذكرنا بأن سلطان حضرموت بدر بن عمر كانت تربطه بالدولة القاسمية علاقات ودية وثيقة، وتبودلت بين الطرفين الهدايا والرسائل. وعندما وصل إسماعيل بن القاسم إلى الإمامة سنة (1054ه/1644م) تجددت العلاقات وتبودلت الرسائل والهدايا بينهما، كما كانت في عهد الإمام المؤيد. غير أن بدر بن عبد الله وهو ابن أخي السلطان بدر بن عمر كان قد أصبح يشكل خطراً على عمه بدر بن عمر، لمحاولته تحديه، مما دفع الأخير إلى تأكيد ولائه للدولة القاسمية، وذكر اسم الإمام المتوكل في الخطبة.
وكان هذا التصرف من بدر بن عمر ذا مغزى، إذ أنه سيضمن مساعدة الإمام إسماعيل إذا ما ثار أو تمرد عليه ابن أخيه بدر بن عبد الله. ولعلَّ بدر بن عمر كان يدرك ذلك وأن ابن أخيه بدأ يعد العدة لإقصائه من السلطنة، وأخذها لنفسه.
ومهما قيل من أسباب الخلاف بين بدر بن عمر وابن أخيه بدر بن عبد الله، فإن الأخير كان يطمح للوصول إلى السلطنة، لذلك استغل علاقة عمه بدر بن عمر بالإمام المتوكل في إثارة آل كثير ضده. وتمكن من القبض على عمه وعلى أبنائه وأودعهم السجن. وما أن علم الإمام المتوكل بذلك التصرف الذي قام به بدر بن عبد الله حتى اعتبره تحدياً له، وإهانة موجهة إليه، وبادر بإرسال الرسائل إليه يأمره بإطلاق سراح عمه بدر بن عمر، وإعطائه ولاية ظفار، فأجابه برسالة في شهر رمضان سنة (1065ه/1655م) تتضمن إجابة الإمام، بأنه أطلق سراح عمه وتنازل له عن ولاية ظفار. وأظهر في رسائله الولاء والطاعة للإمام المتوكل.
ولا شك أن هذا التصرف من بدر بن عبد الله تصرفاً طبيعياً، إذ أنه كان قد شعر بقوة الدولة القاسمية في هذه الفترة، خاصة بعد أن علم بتلك الانتصارات التي أحرزتها في المشرق والجنوب، وأنه لم يبق خارج إطار الدولة القاسمية سوى حضرموت وظفار، لذلك كان لا بد للسلطان بدر بن عبد الله أن يظهر ولاءه لهذه الدولة القوية، خوفاً من الاستيلاء على بلاده.
وكان الإمام المتوكل من الجانب الآخر يسعى لربط حضرموت بالدولة القاسمية سياسياً وإدارياً، وإخضاعها مباشرة تحت سلطة الدولة، يتضح ذلك من خلال الرسالة التي أرسلها مع القاضي الحسن بن أحمد الحيمي، الذي أرسله الإمام إلى حضرموت سنة (1067ه/1657) لإلزام السلطنة الكثيرية على الاعتراف بالسلطة الفعلية للدولة القاسمية على حضرموت وظفار.
وألحق الرسالة بما عُرف (بالعهد)، وتضمن العديد من الأوامر، التي ألزم السلطان بدر بن عبد الله بتنفيذها، والبدء في ذلك قبل مغادرة الحيمي لحضرموت منها: نصب النواب المعتبرين، والحكام المرتضين. وإقامة الحدود الشرعية. ومحو آثار البدع المنكرة، والاعتزاء إلى أهل البيت في العقائد والالتجاء إلى الأحكام الشرعية. وأخذ ما أمر الله بأخذه من واجبات الأموال من الصدقات والأخماس والمظالم. "وصرف القدر الذي أمرنا بصرفه في مواضعه، مما لا يتم إلا به صلاح الآمر والمأمور في تلك الجهات".
وبعد إطلاق سراح بدر بن عمر وإعطائه ولاية ظفار، وتعهد السلطان بدر بن عبد الله بالالتزام (بالعهد) الذي أرسله الإمام مع الحيمي تحسنت العلاقة في الظاهر بين الإمام والسلطان بدر بن عبد الله. وعاد القاضي الحيمي محملاً بالهدايا من السلطان بدر بن عبد الله للإمام المتوكل، غير أن الأول لم يكن صادقاً في التزامه بذلك العهد الذي أرسله الإمام. وقد شجعه أخوه جعفر بن عبد الله على الخروج عن طاعة الإمام المتوكل. وجعفر بن عبد الله كانت إليه ولاية ظفار قبل أن تُعطى لبدر بن عمر. ولا بد أن هذا سيجعله يحاول إقناع أخيه السلطان بدر بن عبد الله على أخذ ظفار من عمه بدر بن عمر بالقوة، وطرده منها. ولما حدث هذا الأمر لم يكن أمام بدر بن عمر إلا الهرب والتوجه إلى الإمام المتوكل،لإنصافه من أبناء إخوته.
وعلى الرغم من أن السلطان بدر بن عبد الله قد برر للإمام المتوكل بأن ذلك تم دون علمه من خلال رسائل تبودلت بينهما، غير أن الإمام رأى أن تلك المراسلات غير ذات جدوى، وقرر الاستيلاء على حضرموت، وإخضاعها بالقوة. وأناط بتلك المهمة لرجل المهمات الصعبة ابن أخيه أحمد بن الحسن، الذي خرج من الغراس في 20 شوال سنة (1069ه/10يوليو 1658م) .
وكان كلما مر بقبيلة انضم إليه عدد من رجالها، حتى انضم إليه العديد من القبائل التي كانت ترغب في الانضمام إليه، بينما الإمام المتوكل إسماعيل كان يواصل إمداده بالمال والرجال، منهم ابنه محمد بن إسماعيل وغيره، وكانت هذه الإمدادات تصل إلى أحمد بن الحسن وهو يواصل سيره في طريقه إلى حضرموت. وكان آخرها قد وصلته وهو بواسط من بلاد العولقي. ومن هناك استأنف تحرك جيشه إلى حضرموت، بعد أن رأى كثرة هذا الجيش وجاهزيته.
غير أن جيش أحمد بن الحسن قد تعرض خلال توجهه إلى حضرموت للكثير من المخاطر والمتاعب، فبمجرد تصور أن أحمد بن الحسن قد قطع بجيشه المسافة ما بين الموضع الأول، الذي تحرك منه إلى أن وصل حضرموت في نحو عشرة أشهر. نعرف مدى المصاعب والمشاق التي تعرض لها جيش كثيف كهذا يمر بمناطق لا يوجد فيها ما يلزم تموين الجيش ودوابه من ماء وغذاء، فقد اضطر الجيش أن يحفر في بعض الطرق التي مر بها آباراً بلغ عمقها إلى مائتي ذراع،لسد حاجته إلى الماء. كما نفد ما كان مع الجيش من غذاء، خاصة في وادي حَجْر، حتى اضطروا إلى أكل الميتات، وما تعب من الجمال، لانقطاع القوافل. كما تعرقل أحمد ابن الحسن وجيشه في منطقة تسمى (أنصاب)، لعدم توفر الجمال. وكانت معنويات رجاله متدنية، غير أنه استطاع أن يتغلب على ذلك بعد أن أرسل عيوناً للتعرف على البلاد. كما أن الشيخ العمودي، حاكم دوعن زودهم بما يستطيع من الغذاء. وكان موالياً للإمام المتوكل.
وفي الوقت الذي كانت فيه جيوش الدولة القاسمية تزحف إلى حضرموت، كانت رُسل الإمام تفاوض السلطان بدر بن عبد الله، وتطالبه بتنفيذ ما تعهد به من إرسال حملة إلى ظفار، لتأديب أخيه جعفر، واسترداد ظفار منه والقبض عليه أو طرده، فاعتذر السلطان بدر بن عبد الله بأنه لن يقبل أحد من آل كثير الاشتراك في هذه الحملة، بحجة أنهم لا يستطيعون أن يغادروا بلادهم لتخلفهم فيها جنود الإمام، لذلك اقترح أولاً إيقاف الزحف، وأن يعودوا من حيث أتوا، على أن يتكفل هو بدفع جميع النفقات، إلاَّ أن الإمام لا بد له أن يرفض مثل هذا العرض. ولذلك فشلت المفاوضات. واستشار السلطان بدر ذوي الرأي، فأشار عليه البعض بالتسليم وعدم المقاومة، بينما حثه الأغلبية على المقاومة، ففضل المقاومة، واستعد للقتال.
أما أحمد بن الحسن، فإنه لما وصل إلى منطقة تسمى (ريدة أبا مسدوس)، توجهت إليه معظم القبائل الحضرمية بالطعام والمؤن، معلنة ولاءها وطاعتها للإمام المتوكل.
واستمر أحمد بن الحسن في تقدمه حتى وصل إلى القرب من منطقة (هينن)، حيث جرت معركة بين الطرفين هرب على إثرها السلطان بدر بن عبد الله إلى شبام، ودخل أحمد بن الحسن هينن، في يوم الخميس 5شعبان (1070ه/ 15 إبريل 1660م).
واستولى هو وجيشه على ما خلّفه السلطان بدر، ثم تقدم إلى شبام، فلما علم السلطان بقدوم أحمد بن الحسن هرب من شبام إلى (وادي شنافر)، بينما دخل أحمد بن الحسن شبام، عند ذلك لم يكن أمام جميع البلاد الحضرمية إلا الاستسلام، وإعلان الولاء والطاعة. وبعد ذلك وصل أحمد بن الحسن إلى مقر السلطان بدر بن عبد الله في سيئون، واستولى على كثير من خزائنه.
أما السلطان بدر بن عبد الله فلم يكن أمامه إلا أن أعلن استسلامه وخضوعه، وأرسل إلى أحمد بن الحسن يطلب منه الأمان، فأمنه وأحسن استقباله، ثم أرسله إلى الإمام المتوكل في ضوران، الذي استقبله وأكرمه.
وبذلك يكون أحمد بن الحسن قد أكمل مهمته العسكرية بالاستيلاء على معظم المناطق التي كانت تخضع للسلطان بدر بن عبد الله، ثم قام بتنظيم شؤونها الإدارية، فعين الولاة والعمال على المدن الحضرمية، ونصب القضاة، وجمع الزكاة، وحرَّم الملاهي، ونودي بأن يزاد في الأذان (حي على خير العمل) تطبيقاً للمذهب الزيدي في صيغة الأذان، ومنع الناس في تريم من إقامة الذكر، المعروف، براتب السقاف.
وبعد أن أكمل مهمته العسكرية والإدارية داخل حضرموت أرسل حملة عسكرية بقيادة بدر بن جميل إلى الشحر، أهم مدن الساحل، وأرسل معه علي بن بدر بن عمر الكثيري ليكون حاكماً عليها من قبل أبيه السلطان بدر بن عمر، فلم تلق الحملة أي مقاومة تذكر، حيث أظهر المتولي للشحر الطاعة، "وسلَّم إليهم الحصن وشؤون المدينة والميناء".
وأمر الإمام المتوكل بأن تُسلم السلطنة إلى الحليف السابق للدولة القاسمية السلطان بدر بن بن عمر الكثيري، فسلمه أحمد بن الحسن حضرموت بعد أن قام باعتقال جميع أعدائه وخصومه. وبذلك تكون حضرموت قد دخلت تحت السيطرة المباشرة للدولة القاسمية. وأصبح السلطان بدر بن عمر سلطاناً على حضرموت باسم الإمام المتوكل إسماعيل، حيث ولاَّه الإمام حضرموت على شروط، ذكرها بن عامر بقوله: "والخطبة والسكة وتوجيه البلاد إليه "أي إلى الإمام"، والبندر من الشحر إلى الإمام، بعامل من عنده". ولأهمية الشحر كميناء رأى الإمام أن يخضع لسيطرة الدولة مباشرة، لذلك نجده في عام (1075ه/ 1665م) يعين عليه أمير الدين العلفي، الذي كان متولياً لعدن قبل ذلك.
وعاد أحمد بن الحسن ومن معه من الجند والسادة والأعيان والمشائخ. وكان وصولهم إلى البيضاء ليلة عيد الإضحى في شهر ذي الحجة سنة (1070ه/ أغسطس سنة 1660م)، ووصلوا إلى الإمام المتوكل في ضوران محملين بالكثير من الغنائم. واستقبلهم استقبالاً عظيماً. وقد أشار يحيى بن الحسين إلى ذلك بقوله: "ودخلوا في مدخل عظيم، وملقى فخيم، وأبهة ملوكية، وحالة سلطانية".
أما ظفار فلم يتمكن أحمد بن الحسن من التوجه إليها، واستمرت تحت حكم جعفر بن عبد الله الكثيري، حتى سيطر عليها حاكم عمان سلطان بن سيف، وتم تعيين حاكمٍ جديدٍ من قبل السلطان العماني-اسمه خَلَف- غير أن سيطرة العمانيين على ظفار سرعان ما نتهت في سنة (1073ه/1663م)، حيث استعادها الكثيريون، وأجبروا خَلَف الحاكم العماني على مغادرتها، تاركاً مدفعين في ظفار، لم يتمكن من حملهما معه، أثناء خروجه منها. وحكمها محمد بن جعفر الكثيري معلناً ولاءه للدولة القاسمية، وذكر اسم الإمام المتوكل في الخطبة. وبذلك تكون ظفار أيضاً قد دخلت تحت سيطرة الدولة القاسمية.
وعلى الرغم من أن سلطان بن سيف حاكم عمان أراد أن يبرر هزيمة خَلَف الذي عينه على ظفار، وإخراجه منها، بأن قدومه إليها كان باستدعاء جعفر بن عبد الله لمساعدته. وبأنه ليس هناك فائدة من إرسال قوات وأمير يحكم ظفار، حيث يقول في رسالة أرسلها للإمام المتوكل: "ولقد لزمنا لمن فيه نفقاتهم وأزوادهم، وما يحتاجونه مدة بقائهم. ولم يدخل علينا منه شيء، بل مجرد الإنفاق، ولا مصلحة أتتنا من تلك الآفاق. فلا رغبة لنا فيه، ولا غرض ننافس عليه". إلاَّ أن هذا التبرير الذي ذكره سلطان بن سيف غير صحيح، فإذا لم يكن هناك فائدة أو مصلحة-ولو حتى مستقبلية-في الوصول إلى ظفار، وإدخالها ضمن حدود الدولة اليعربية في عُمان، فلن يكلف سلطان بن سيف نفسه بإرسال من يحكمها، ويُرسل معه العسكر والسلاح، ويتحمل نفقاتهم، وما يحتاجونه مدة بقائهم. ولكن من الطبيعي أنه كان يطمع في الاسيتلاء عليها وإدخالها في إطار دولته التي كانت تتمتع بشيء من القوة حينها، خاصة أن ظفار قريبة من عُمان، وأرضها خصبة.
أما السلطان بدر بن عمر فإنه بعد سنتين من عودته إلى السلطنة في حضرموت اتجه إلى الحج سنة (1073ه/ 1663م)، فتوفي في المدينة المنورة، عند ذلك أمر الإمام المتوكل أن يخلفه في السلطنة ابنه محمد المردوف، فتولاها إلى أن مات سنة (1080ه/ 1669م).
وبذلك يكون الإمام المتوكل قد سعى جاهداً إلى توحيد اليمن، وجعله تحت سيادة الدولة القاسمية. وتمكن بفضل تماسك الأسرة القاسمية والتفاف أبناء إخوته حوله، وإخلاصهم له من إخضاع جميع مناطق اليمن. وكان لهذه السياسة أثرها الواضح في ارتفاع مكانة الدولة القاسمية وخوف القبائل ورهبتها من هذه الدولة التي لم توجد أي قوة منافسة لها تستطيع إيقاف توسعها وبسط سيطرتها، لذلك وجدت بعض هذه المناطق أنه لا بد أن تعلن ولاءها لهذه الدولة سلماً. أما من رفض ذلك ودخل في حرب معها، فقد اضطر أن يعلن ولاءه لها بالقوة، كما سبق أن رأينا.
وكانت سياسة الإمام المتوكل وأبناء إخوته التوسعية سياسة حكيمة، إذ حرصوا على إخضاع كل منطقة على حدة ابتداءً من عدن التي كانت تعد ذات أهمية اقتصادية كبيرة. وبعد ذلك المناطق القريبة من حدود الدولة القاسمية مثل الشعيب وبني أرض، ثم ما تلاها من المناطق والتي أهمها يافع إلى أن وصلت إلى حضرموت. ووصلت سلطتها إلى الشحر، أهم موانئ حضرموت، ثم إلى ظفار التي على حدود عُمان. وبذلك أصبحت الدولة القاسمية في عهد الإمام المتوكل تضم اليمن بكامله.
ولكن الأسئلة التي تطرح نفسها هي: هل استطاعت هذه الدولة أن تحافظ على قوتها وازدهارها؟ هل استطاعت أن تحكم المناطق التي أدخلت تحت سلطتها بنفس القوة التي كانت عليه عند الاستيلاء عليها؟ كيف استطاعت أن تفرض هيبتها على سائر المناطق القريبة والبعيدة؟
ثانياً: الاستقرار ومحاولة فرض سلطة الدولة على اليمن الموحد
لقد عمل الإمام المتوكل إسماعيل جاهداً على فرض هيبة الدولة وسلطتها على كافة المناطق اليمنية سواءً التي كانت تابعة للدولة القاسمية منذ عهد أخيه الإمام المؤيد، أم في المناطق التي أُدخلت في عهده سلماً أو حرباً.
وقد أسهب كثير من المؤرخين المعاصرين له واللاحقين في شرح أوضاع الأمن والاستقرار التي شهدتها البلاد في عهده، وكذلك الازدهار الاقتصادي والثقافي، وانتشار المدارس العلمية والإنفاق عليها من قبل الدولة، خاصة في الفترة الأولى من توليه الإمامة حتى بداية الثمانينات. كما اهتم هؤلاء المؤرخون بذكر صفات الإمام المتوكل وأخلاقه وحلمه، وغزارة علمه. وأن تلك الصفات كانت من العوامل المساعدة في وصول اليمن إلى ما وصلت إليه من الازدهار.
لقد شهدت البلاد في معظم حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل الذي امتد ثلاثاً وثلاثين عاماً حقبة من الاستقرار السياسي والازدهار الثقافي والاقتصادي لا نظير لها في تاريخ اليمن الحديث.
فها هو يحيى بن الحسين على الرغم من أنه يعتبر من المؤرخين القلائل الذين انتقدوا جوانباً من سياسة الإمام المتوكل، غير أنه لا يتردد بين الحين والآخر من أن يذكر إيجابياته، وبأن عصره أكثر العصور أمناً واستقراراً فنجده مثلاً يقول: "وكان في مدته أحوال الناس ساكنة في غالب وقته، لم تحصل له معارضة في أمره".
وقد عبَّر ابن عامر عما تتمتع به شخصية الإمام المتوكل من هيبة وقدرة على توحيد اليمن، وإخضاعها بأكملها تحت سيطرته، فيقول: "جمع أكثر البلاد، ودان له المشرق والمغرب. وخطب له في أقصى شرق اليمن حضرموت والشحر وظفار ... وهادته الملوك، واعتقدت به. وعلى الجملة فقطر اليمن من نجد إلى بندر عدن تحت قلمه، ومن ظفار والشحر إلى بندر الحية كذلك".
أما الحبسي فيذكر كيفية قدرته على نشر الأمن والاستقرار في البلاد فيقول: "الحق والشرع، وانتشار الأمن في جهات لا يقدر عليها في العادة ملوك اليمن والحجاز. وامتداد ذلك في جميع أقطار اليمن".
كذلك بعض المؤرخين المستشرقين وصفوا عصر الإمام المتوكل بأنه أزهى العصور، فها هو (سرجنت) يقول: إن فترة حكم الإمام المتوكل على الله البالغة 33 سنة تعتبر ألمع عصر في فترات حكم الأئمة الزيديين. وأوصلت معالم امتداد لمنطقة سيطرتهم إلى أبعد حدودها.
وعقب الانتصارات التي حققتها الدولة في المناطق التي كانت خارجة عن سلطتها أصبحت مهابة الجانب لدى القبائل المختلفة، بفضل سياسة الإمام المتوكل، فيقول الحسين بن ناصر المهلا: "استوثق له اليمن بأسره من البحر إلى مكة. وارتعدت لهيبته الأقطار البعيدة، وكاتبه ملوكها وهادوه".
وبعد أن تمكن الإمام المتوكل من توحيد اليمن، حرص على فرض هيبة الدولة عن طريق تطبيق الشريعة الإسلامية سواء عن طريق الولاة والعمال الذين كان يعينهم الإمام، أو عن طريق القضاة والحكام الذين انتشروا في كل المناطق، وعُينوا من قبل الإمام أيضاً. فنجد يحيى بن الحسين سنة (1080ه/ 1669م) يهتم بذكر تطبيق الشريعة الإسلامية بدلاً مما عُرف بالطاغوت، فيقول: "وفي هذه المدة ظهرت أحكام الشريعة في أكثر بلاد اليمن، بل في جميعه في السهل والجبل. وعُرضت كتب الطواغيت والمنع في الأسواق. وصلَّب بها المجلدون، فلله الحمد على ذلك".
ومن البديهي أن انتشار الأمن والاستقرار السياسي الذي عاشته الدولة في هذه الفترة قد ساعد على الازدهار الاقتصادي. وقد عبر الإمام الشوكاني عن ذلك بقوله: "ولم ير الناس أحسن من دولته في الأمن والدعة والخصب والبركة. وما زالت الرعايا معه في نعمة، والبلاد جميعها مجبورة كثيرة الخيرات. وكثرت أموال الرعايا. وكل أحد آمن على ما في يده، لعلمه بأن الإمام سيمنعه عدله عن أن يتعرض لشيء من ماله".
وبغض النظر عن بعض سنوات الجفاف التي تعرضت لها البلاد، نجد أن معظم عهد الإمام المتوكل كانت فيه الأوضاع الاقتصادية مزدهرة ومستقرة، إذا ما قورنت بمن جاء بعده من الأئمة. وكان ثمة حركة تجارية نشطة ازدهرت وتطورت بشكل ملحوظ. وعلى حد تعبير (سرجنت): كان المتوكل مهتماً كثيراً بشؤون الرعية. وفي أيامه كانت الطرق مؤمنة، والأسعار رخيصة. ولا يقوم أحد بظلم أحد من الآخرين، حتى ولو كان الآخرون من الكفار، فبالتالي أتى التجار من كل البلدان.
ونتيجة للاستقرار الأمني والازدهار الاقتصادي، فقد ازدهرت الحياة الثقافية والفكرية، حيث تمتع اليمن بنهضة علمية واضحة المعالم. ومما زاد من ازدهار الحياة العلمية أن الإمام المتوكل إسماعيل كان آخر الأئمة المجتهدين، فيصفه ابن عامر بأنه كان شبيهاً بالأئمة السابقين في السبق، حاز العلوم جميعاً، وبلغ رتبة الاجتهاد في أقرب وقت من عمره.
وتوفرت العوامل الأساسية لازدهار الحياة العلمية في عهد المتوكل، فزاد عدد المدارس، ومن ثم زاد عدد طلبة العلم والعلماء. وكان الإمام المتوكل يصرف على الطلبة والعلماء ما يحتاجونه من طعام، ويوفر لهم المأوى. كما حرص على عقد العديد من المجالس العلمية، التي كان يجري فيها المناقشات والمناظرات، ليس بين علماء المذهب الزيدي فحسب، بل بينهم وبين علماء الشافعية، أو بينهم ومن كان يفد إلى اليمن من العلماء من الأقطار الإسلامية المختلفة.
كما أن ثمة عامل مهم ساعد على ذلك الازدهار وهو تواصل نهج المدرسة الزيدية في الاجتهاد، ورفض مقولة: إقفال باب الاجتهاد. وكان الإمام المتوكل وإخوته كمعاصريهم تلاميد تلك المدرسة.
وتزخر كتب تراجم عصر المتوكل بالكثير من أعلام الفقه والفكر والأدب والتاريخ والسياسة، الذي ترك معظمهم مؤلفات ومصنفات تُذَكِّر بعصر الازدهار للثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية مع جدة في الاجتهاد، وتجديد الفكر. وإذا شارك معظم أولئك في علوم وفنون علمية وأدبية عدة، فقد انخرط بعضهم أيضاً في عمل الادارة الرسمية للمتوكل من قضاء وكتابة، وقيادة وولاية (عُمال) أو سفارة.
ولم يكن يضيق صدر الإمام المتوكل بالمخالفين له في الرأي أو الاجتهاد الفقهي، وحتى السياسي فلم يتخذ موقفاً عدائياً من المعارضين له، فنجد مثلاً العلامة الجلال رغم انتقاده للمتوكل، وبعث له برسالة انتقادية عنيفة لما بلغه مسلك الشدة في قتال بعض قوات جيشه مع قبائل يافع، سماها: (براءة الذمة في نصيحة الأئمة)، إلاّ أن الإمام المتوكل كان يجله غاية الإجلال. وكذلك العالم والمؤرخ يحيى بن الحسين كان في معظم الأحيان ينتقد سياسة عمه المتوكل المالية في مناطق اليمن الأسفل، عن طريق الرسائل التي كان يرسلها إليه، غير أنه كان يحترمه ولم يكن يضيق صدره من تلك الانتقادات، وكان يجيب على رسائل يحيى بن الحسين مبرراً سياسته تلك.
وتتجسد سياسة الإمام المتوكل في العفو والتسامح من خلال إحدى وصاياه لأولاده قبل وفاته، حيث يقول ما لفظه: "وأوصيهم بإصلاح ذات البين، فإنه أفضل من عامة الصلاة والصيام، كما جاء بذلك الأثر. ولا يتم ذلك إلاّ بالاحتمال والصبر، والتغاضي من كثير، والعفو".
كما أنه لم يتعرض للقاضي عبد القادر المحيرسي بأذى، رغم أنه أفتى بأن الاعانة التي فرضها الإمام على الناس غير واجبة عليهم؛ لأن الخزائن فيها ما يغني عنها، ونتيجة لهذه الفتوى امتنع بعض أهالي الشاحذية-التي كان المحيرسي قاضياً عليها-عن تسليم ما فرضه الإمام. ولم يعزله المتوكل عن القضاء في هذه المنطقة.
وعلى إثر ذلك الانتعاش الذي شهدته الدولة القاسمية، وتلك الانتصارات التي حققتها في ضم أجزاء اليمن تحت سيطرتها رأى الإمام المتوكل أن يتوسع في خارج اليمن، وعلى وجه التحديد في الحجاز وعُمان والحبشة.
لقد كان المتوكل بين الحين والآخر تراوده أحلام الاستيلاء على بلاد الحجاز، وطرد العثمانيين منه، فما أن يسمع عن وجود خلل فيه حتى يفكر في ذلك، عن طريق الرسائل التي كان يرسلها إلى أشراف الحجاز يدعوهم للإعتزاء إليه، ودفع الزكاة له. أو إرسال الجيوش للاستيلاء عليها من يد العثمانيين. غير أن من كان يستشيرهم كانوا ينصحونه بعدم التفكير في ذلك، لقوة الدولة العثمانية، وأنها لن تسمح بخروج الحجاز من يدها لأهميته الدينية، وأيضاً لأسباب خاصة باليمن، منها أنه يتعرض للكثير من التمردات والمعارضات والدعوات. "وأن الكثير من أهله كامنة فيهم طلب الرئاسات".
ولم تقتصر رغبة الإمام في دخول الحجاز فحسب، بل إنه-كما ذكر يحيى بن الحسين- في سنة (1065ه/1655م) رأى أن يرسل جنوده وخيوله إلى الحبشة، وتحدث للمقربين إليه بشأن ذلك. ومما دفعه إلى التفكير في ذلك على حد تعبير يحيى بن الحسين القصائد التي نظمها القاضي حسين بن أحمد الحيمي، بعد عودته من الحبشة، إثر الرسالة التي بعثها الإمام المتوكل إليها بقيادته.
كما نجد الإمام يفكر في السيطرة على عُمان، فيذكر يحيى بن الحسين بأن الإمام وابن أخيه أحمد بن الحسن كانوا قد رأوا إرسال جنودهم عن طريق نجران، ثم إلى الحسا والبحرين وبلاد عُمان أو البصرة. كان هذا التفكير إثر رسالة بعث بها الشاه عباس الصفوي، يقترح فيها على الإمام أن يتعاونوا على أهل عُمان، للاستيلاء على بلادهم. غير أن الكثير من خاصته أشاروا عليه بعدم المجازفة، وعدم إجابة الشاه عباس إلى ذلك. فعدل الإمام عن ذلك.
ومما لا شك فيه أن اطمئنان الإمام المتوكل لقوة دولته، والتفاف رجالها حوله، وإخلاصهم له، والاستقرار السياسي وما تبعه من ازدهار اقتصادي وعلمي، كل ذلك جعل الإمام المتوكل يفكر في التوسع خارج اليمن. فلو أنه كان يعاني من تفكك أو يشعر بضعف هذه الدولة لما راوده التفكير في ذلك البتة.
ولعلّ ما يؤيد ذلك أن من أتى بعده من الأئمة انشغلوا معظم فتراتهم في القضاء على منافسيهم على الإمامة، ومن الأسرة القاسمية نفسها. هذا إلى جانب التمردات وخروج بعض مناطق الأطراف عن سيطرة الدولة، لذلك لم نسمع عن تفكير للتوسع خارج اليمن في عهد من جاء بعده من الأئمة عدا أحمد بن الحسن كما سنرى لاحقاً.
وعلى الرغم من أن الإمام المتوكل لم ينفذ ما كان يطمح إليه من توسع خارج اليمن، غير أنه بين الحين والآخر كان يصل إليه وفود أو رسائل من الخارج يطلبون الدخول تحت سلطة الدولة القاسمية، من ذلك على سبيل المثال وصول رسالة من قبائل في حدود البصرة، وهم من بلاد الجميلي، سنة (1067ه/1665م) يذكرون فيها أنه بلغهم عدل الإمام المتوكل في اليمن، "وأنهم يودون الدخول في الطاعة في السر والعلن، وتسليم الزكاة إلى رسوله، والاعتزاء إليه في قليله وكثيره".
غير أنه لم يتم من ذلك شيء من الجهتين، لخوفهم من السلطان العثماني. "وبعد صاحب اليمن من تلك الأوطان". وفي منطقة (ينبع)، (تقع إلى الشمال من جدة)، تم في بعض مساجدها سنة (1069ه/1659م)، الخطبة للإمام المتوكل، غير أنها عدلت عن ذلك خوفاً من العثمانيين، وشريف مكة.
وفي حالات أخرى كان يفد إلى الإمام حُكام بعض المناطق المجاورة لليمن، لطلب المساعدة منه بالمال والسلاح، لأسباب كثيرة، لعل أهمها: اضطراب الأوضاع في مناطقهم، فها نحن نجد متولي (عتود). عبد الكريم بن باز. يتجه إلى الإمام المتوكل ومعه ثلاثين نفراً ليمده الإمام بالسلاح والمال، حتى يستطيع البقاء فيها، وإخضاع قبائلها، وتنفيذ أمر شريف مكة الذي ولاَّه عليها، فساعده الإمام، وأعطاه ما طلب، وعاد إلى (عتود) .
ليس ذلك فحسب، بل إنه كان يحدث بين الحين والآخر نزوح من المناطق المجاورة لليمن إلى داخلها، لعلمهم بالاستقرار الأمني والازدهار الاقتصادي فيه، فنجد في سنة (1082ه/1671م) نظراً للصراع بين الباشا حسن والشريف سعد في مكة ارتفعت الأسعار مما أدى إلى نزوح كثير من أهل مكة والمدينة إلى تهامة وزبيد وبيت الفقيه.
ومن التجسيدات الأخرى لطموح الإمام المتوكل بما له من دور كخليفة على المسلمين، ولكي يؤكد قوة دولته وازدهارها، فإنه في عام (1058ه/ 1648م) أصدر قراراً بتعيين أميراً للحجاج اليمنيين برفقة كتيبة من العسكر. وكان يرسل مع الأمير قدراً من النقود، عُرفت باسم (الصرة) لشريف مكة، الذي بدوره كان يوزع جزءاً منها للفقراء والمساكين في مكة. واستمر إرسال أمير الحج مع الصرة حتى سنة (1083ه/ 1672م)، ثم طلب الوالي العثماني والشريف بركات من الإمام المتوكل أن يدخل الحجاج من اليمن بدون أمير أو عسكر أو سلاح، فاضطر الإمام إلى إرسال الحجاج برفقة السيد محمد صلاح إلى منطقة (حلي) ويعود، كما كان عليه الوضع في عهد الإمام المؤيد.
وكان في عهد الإمام المؤيد يرافق الحجاج اليمنيين السيد محمد بن صلاح متولي جيزان وأبي عريش بمجوعة من العسكر حتى يصل بهم إلى منطقة (حلي) كي لا يتعرضوا للنهب والسلب، ثم يتركهم ويعود بعسكره ويواصل الحجاج مسيرهم إلى مكة بدون أمير ولا عسكر ولا (صره). على الرغم من أنه في فترة آل رسول كانت هناك بعثة حج يمنية. وكانت قد تصادمت في إحدى المناسبات مع المماليك، الذين ألقوا القبض على قائد آل رسول، الذي كان مع البعثة.
وبعد أن رأينا القوة والازدهار التي عاشتها الدولة القاسمية في عهد الإمام المتوكل، إلا أن هناك عدة أسئلة تطرح نفسها هنا، منها: هل استمرت الدولة بنفس القوة التي كانت عليها حتى توفي المتوكل؟ وإذا كان هناك ثمة تمردات أو محاولة خروج عن سلطة الدولة، فكيف كانت تتعامل مع مثل ذلك؟ وما هي الوسائل التي كانت تستخدمها الدولة لإخضاع هذه المناطق؟
إن الحقيقة التي لا يستطيع أي مؤرخ تجاهلها هي أن الإمام المتوكل لم يعتمد على أبناء إخوته في توسيع حدود الدولة فحسب، بل إنه قد اعتمد عليهم أيضاً في إدارة تلك المناطق.
وإذا ما تطرقنا إلى كيف تمكن الإمام من فرض هيبة الدولة ونشر الأمن والاستقرار، سنجده قد استخدم القوة لتطبيق ذلك، وبوسائل مختلفة منها على سبيل المثال ما ذكره لنا المؤرخ يحيى بن الحسين في سنة (1070ه/1660م). حيث ذكر بأن محمد بن الإمام المتوكل اتجه إلى بلاد الهيثمي ووصلها فجأة، أو على غفلة، فعاقبهم، وقتل عسكره حوالي ستة منهم، واضطر الهيثمي إلى الهرب إلى بلاد الفضلي. وكان سبب ذلك أن الشيخ المذكور "كان من جملة من قطع الطريق، وأفسد فيها بالتمحيق". وفي سنة (1081ه/1670م) استعاد محمد بن أحمد بن القاسم ما تم نهبه في طريق العمشية، واضطرت مشائخ برط إلى دفع تعويضات لما تم نهبه.
وكان الإمام في بعض الحالات يضطر إلى حبس بعض المشائخ، بسبب قطع الطريق، والتقطع للقوافل أثناء مرورها من بلادهم حرصاً منه على القضاء على أعمال النهب والتقطع في الطرقات، وفرض هيبة الدولة، خاصة في الفترة الأولى من حكمه، وحتى الثمانينات الهجرية.
وكان أحمد بن الحسن-وهو رجل المهمات الصعبة-يضطر أن يتجه بنفسه لتأديب هؤلاء المتقطعين، الذين كانوا يتعرضون للقوافل التجارية بالسلب والنهب.
أما من كانوا يمتنعون عن تسليم الواجبات فقد اهتمت الدولة بإنزال عقوبات صارمة بهم، حتى يكونوا عبرة لغيرهم، وكانت الدولة تستطيع في معظم الأحوال إلزام هؤلاء بدفع ما عليهم من واجبات بالقوة، فكانت ترسل إلى تلك المناطق من يقوم بتأديبها وإخضاعها. فنجد على سبيل المثال كانت بعض المناطق في عهد الإمام المؤيد تسلم الزكاة بالأمانة، من دون تحري من الدولة، وتُسلم إلى فقهاء من جهتهم، غير أن الإمام إسماعيل أصدر أوامره في بداية حكمه بأن تُسلم الزكاة إلى الولاة المعينين من الدولة، وإرسالها إليه مباشرة، وتكون كاملة. ومن هذه المناطق منطقة تسمى (ملاحاً) من أطراف بلاد خولان صنعاء، التي رفضت تنفيذ أوامر الإمام، فلم يتردد في استخدام القوة، حيث أرسل إليهم أحمد بن الحسن، الذي قام بهدم بعض منازلهم وقطع بعض أشجار أعنابهم. "فلما عرفوا صدق الطلب، والقهر بالأمر لهم والغلب أذعنوا بالطاعة، والتسليم إلى من رآه الإمام لتلك البضاعة". وبذلك أصبحت هذه المنطقة عبرة لغيرها من المناطق، خاصة المناطق الأخرى من خولان، التي ما أن سمعت بما قامت به الدولة في منطقة (ملاحا) حتى انخرط عند ذلك سائر بلاد خولان. كذلك بلاد الحيمة التي أعانت الإمام القاسم والإمام المؤيد في حروبهم مع العثمانين وكانت تشكل نسبة كبيرة من الجيش القاسمي، فكافأهم الإمام المؤيد. ولم يرسل من قبل الدولة من يطوف أشجار البُن ويقدر ما عليها من ثمرة ليُقدر على ضوئها الزكاة، بل كانوا يدفعون
الزكاة بالأمانة، وليس عليهم ضرائب تجبى من أسواقهم، واعتادوا على ذلك، غير أن الإمام المتوكل بعد أن أصبحت اليمن جميعها تحت سيطرته، وتوسعت حدود دولته، رأى في سنة (1077ه/ 1666م) أنه لا بد للحيمة أن تسلم ما عليها من الزكاة مثل سائر مناطق اليمن، وأمر بالطيافة والخرص مثل غيرهم. وعلى الرغم من أنهم اتجهوا إلى الإمام المتوكل يخبروه بما تعتاد بلادهم، والأمر معهم من الإمام المؤيد واضح، فلم يجبهم الإمام إلى ما طلبوا، وأصر على أن يسلموا ما عليهم من واجبات مثل غيرهم من المناطق.
ولما رفض أهالي نجران تسليم ما عليهم من واجبات للدولة، اتجه إليها على بن أحمد بن القاسم سنة (1086ه/1675م)-وهو والي صعدة حينذاك. وكانت نجران تابعة لولايته-وأجبرهم على تسليم ما عليهم من حقوق للدولة، فسلموها بالقوة.
كما عملت الدولة جاهدة على منع غزو القبائل لبعضها البعض ونهبها، أو قيام نزاع أو خلاف بين قبيلتين، فكانت ترسل ما عُرف (بالأدب) على تلك القبائل. وكان الأدب عبارة عن عسكر يُرسلون إلى هذه القبيلة أو تلك، ويفرض عليهم ما عرف (بالسَبَار) وهو أن تتكفل القبيلة بأكل العسكر وشربهم وسكنهم، قلّوا أم كثروا، حتى تعلن تلك القبائل خضوعها للدولة. فمما لا شك فيه أن توجه جيش الدولة إلى منطقة ما كان يكلف أهالي تلك المنطقة تكاليف باهظة، ويشكل عبأً كبيراً، لتحملهم كل ما يحتاجه هذا الجيش. وقد تكون هذه النفقات أضعاف الواجبات المفروض تسليمها للدولة، لذلك نجد أنه عندما أراد أحمد بن الحسن دخول برط لتأديبهم بسبب رفضهم تسليم الزكاة، يكثر أهالي برط المكاتبة للإمام وإلى محمد بن الحسن يترجونهم بعدم دخول أحمد بن الحسن بلادهم؛ "لأنها لا تحتمل، وهم مطيعون، مسلمون الواجبات إلى قضاتهم، فأمر الإمام أحمد بن الحسن بالعودة، فعاد الغراس".
ولم يقتصر الأمر على إرسال جيش الدولة لمنطقة ما للإنفاق عليه فحسب، بل حرص الإمام على القضاء على الحروب والعصبية بين القبائل مستخدماً القوة في بعض الأحيان، فنجده في عام (1059ه/1649م) يجهز ابن أخيه الحسين بن الإمام المؤيد إلى قبة خيار (من بني صريم في حاشد) ويأمره بخراب بيوتها، وإزالة ما فيها، "لأجل ما وقع بينهم من الحرب والفتنة والعصبية القَبْيَلة، فأخرب منها بيوتاً وعروشاً، وتركها خاوية".
ولم يكن الإمام يتهاون إزاء أي امتناع عن دفع الواجبات المقررة للدولة من زكاة وضرائب وغيرها، فكان يأمر بإنزال عقوبات صارمة، ليكونوا عبرة لغيرهم، فنجد مثلاً الشيخ صالح بن مطهر بن وازع-ولعله من مشائخ الجوف-عندما رفض تسليم ما عليه من واجبات للدولة أرسل له الإمام جنوداً، فأضطر إلى الهرب. فأمر الجنود أن يأخذوا ما في معاقله من الحبوب، وكانت كثيرة، ثم أمر بهدم تلك المعاقل، فكانت عبرة لغيره، حيث وصل إليه الأمراء من أهل الجوف بالزكاة والنذور والهدايا. واضطر بعد ذلك الشيخ صالح بن مطهر إلى الوصول للإمام معلناً توبته.
كما حرص الإمام المتوكل على فرض هيبة الدولة على المناطق التي أُدخلت مؤخراً تحت سلطة الدولة، فنجده بين الحين والآخر يوجه إبنه أو أبناء إخوته للإطلاع على الأوضاع فيها، والعمل على استتباب الأمن، وضمان ولائها للدولة، فهو مثلاً في سنة (1070ه/1660م) يجهز ابنه محمد وابن أخيه محمد بن أحمد بمجموعة من العسكر إلى البيضاء، "لأجل إصلاح الطرق وتسكين القبائل عن المحق فيها، والخلل لا يحصل بجهتها، فنزلوها واستقروا بها".
ولم يكن الإمام المتوكل يكتفي بمعاقبة الخارجين عن سلطة الدولة أو الرافضين دفع ما عليهم من واجبات مرة واحدة، بل كان يستمر في فرض العقوبات أكثر من مرة، حتى تعلن تلك القبيلة وشيخها الخضوع التام لسلطة الدولة. أما إذا عادت إلى شيء من ذلك، فكان الإمام يكرر إرسال الجنود لفرض العقوبات المختلفة عليها.
ولعلَّ الشيخ يحيى بن روكان، أحد مشائخ خولان الشام أبرز مثال على ذلك. فقد كان أول تمرد له سنة (1058ه/1648م)، حيث طرد عُمَّال الإمام، فأرسل الإمام إليه مجموعة من العسكر، فأصلحوا ذلك الخلل. غير أنه بعد ثلاث سنوات وبالتحديد في سنة (1061ه/1651م) عاد إلى التمرد والخروج على الدولة، متفقاً هذه المرة مع محمد بن إبراهيم المؤيدي، الذي عارض الإمام المتوكل كما سبق معنا. "فلما بلغ الإمام ذلك الأمر من الرجلين، بعد أخذ المواثيق، وتأكيد التبعات عليهما المرة بعد المرة، والكرة بعد الكرة"، أرسل إليهما مجموعة من العسكر. فلما وصلا إلى الإمام أظهرا الندم، وأنهما لن يعودا إلى مثل ذلك. إلاّ أنه بعد حوالي عامين في سنة (1063ه/1653م)، عاد ابن روكان إلى التمرد، ورفض تسليم الواجبات للدولة، فأرسل الإمام إليه محمد بن الحسين بن القاسم بمن معه من العسكر، فقبض عليه وأرسله إلى الإمام. ولما وصل إلى الإمام "عزله عن المشيخة، وأمر أن تهدم بيوته، ثم أذن له بالعودة إلى جهته بعد أيام وطلب من الإمام معونة في عمارة بيوته، فأعانه الإمام بعض شيء وسار". ورغم كل ذلك يواصل ابن روكان إصراره على التمرد والخروج على الدولة. وكان آخر تمرد منه عام (1065ه/ 1655م)، فأرسل إليه الإمام بحوالي ستمائة من العسكر، غير أنه هرب متجهاً إلى الحسين بن المؤيد في شهارة يستجير به، فلما أعرض عنه اتجه إلى الإمام بضوران معتقداً أنه سيسامحه كما حدث في المرات السابقة، إلاّ أنه أمر بسجنه. وفي العام التالي سنة (1066ه/1656م) توفي في سجنه في ضوران.
وعلى حد تعبير الأستاذ الدكتور حسين العمري بأنه من الغريب حقاً أن يكرر هذا الشيخ ما سبق مجرباً قوة المتوكل، الذي مضى له في الحكم عشر سنوات، وتمكن من إخضاع ابن العفيف والناخبي في يافع، والرصاص في رداع والبيضاء، وغيرهم في مناطق أخرى، وأنه لا توجد أسباب أو دوافع حقيقية لكل ذلك غير عناد ابن روكان وحمقه في مقارعة السلطة. ويؤيد هذا الرأي ما ذكره يحيى بن الحسين، حيث يقول: "وهذا الشيخ كثير العناد، يحب المقاتلة والفساد".
ثالثاً: الصعوبات التي واجهها الإمام في نهاية حكمه
من المعروف أن أي عصر لا يخلو من السلبيات، حتى وإن كان في أوج قوته ومجده. فمن الملاحظ أن عصر الإمام المتوكل رغم أنه كان يعتبر أزهى عصور الإمامة القاسمية في اليمن، وأكثر استقراراً سواء من الناحية السياسية أم الاقتصادية، وكذلك الازدهار الثقافي والفكري. غير أنه صاحب ذلك العصر سلبيات ربما كانت سبباً في ازدياد تمرد بعض المناطق على الدولة المركزية، وكذلك محاولة بعض مناطق الأطراف الخروج عن سلطتها.
ويتضح من خلال ما أورده المؤرخ يحيى بن الحسين في مخطوطته (بهجة الزمن) بأن أهم أسباب التمرد أو محاولة الخروج عن سلطة الدولة كانت السياسة المالية التي اتبعها الولاة في كثير من مناطق اليمن، وبعلم الإمام المتوكل، الذي كان يحرص على أن يرفد هؤلاء الولاة خزينة الدولة بما عليهم من مقررات مالية، بغض النظر عن كيفية جمع تلك المقررات، ومقدرة الأهالي على دفعها أم لا! خاصة في مناطق اليمن الأسفل، التي كانت أكثر خصوبة، لذلك زاد الولاة من فرض الضرائب في هذه المناطق، وبمسميات مختلفة، حتى تضرر أهالي هذه المناطق، وكانوا يأتون إلى الإمام المتوكل، ويشكون من تصرفات ولاتهم، غير أنه لم ينصفهم.
ولعلَّ أبرز مثال على زيادة الضرائب وبمسميات مختلفة ما ذكره يحيى بن الحسين في أحداث سنة (1085ه/1674م) بأن الضرائب المفروضة على اليمن الأسفل من غير الزكاة، وزكاة الفطر قد تضاعفت منها: "مطلبة الصلاة لمن صلى أو لم يصل، ومنها مطلبة الرياح، ومنها مطلبة البارود والرصاص، ومنها مطلبة سفرة الوالي، ومنها مطلبة دار الضرب، ومنها ضيفة العيدين والمعونة ... ولم يكن في اليمن الأعلى من هذه المطالب، إلاَّ مطلبة ضيفة العيدين والمعونة". ويرى يحيى بن الحسين بأنه حتى وإن كان اليمن الأسفل كثير الخيرات والمحصولات بالنظر إلى اليمن الأعلى، فإن الواجب الرفق والعدل. ولا نزيد على الطين بله. فكان على سبيل المثال علي بن الإمام المتوكل قد أرخى العنان لأصحابه، "يفعل كل منهم ما أراد في جهاته، ويحبسون من شاؤوا، ويعملون ما أرادوا".
وكان هذا التصرف من الولاة والتجاهل من الإمام من أهم أسباب التمرد والعصيان ضد الدولة، فقد وصل إلى الإمام في سنة (1083ه/1672م) بعض مشائخ جبل صبر يشكون من واليهم راجح الآنسي يطلبون من الإمام عزله وتولية غيره، فرفض طلبهم، عند ذلك امتنع أهل جبل صبر والحجرية عن تسليم ما عليهم من المقررات، وقتلوا ثلاثة من العسكر، وحذف المؤذن في مدينة تعز (حي على خير العمل) من الأذان. فأرسل إليهم المتوكل السيد صالح عقبات بمجموعة من العسكر، وأخضعهم بالقوة. كما استقر محمد بن أحمد بن الحسن في المنصورة، واتخذها مقراً له، وأقام بها التعزيزات العسكرية لردع هذه القبائل.
وقد تكرر وصول مشائخ القبائل إلى الإمام المتوكل يشكون إليه سوء تصرف الولاة في جمع الضرائب وأن الإجحاف في جمع الواجبات سبباً في إرهاقهم، وبالتالي عصيانهم وتمردهم، غير أن المتوكل في معظم الحالات كان يتجاهلها؛ لأنه ربما كان يرى أنه لا بد أن يصل إلى خزينة الدولة مقررات مالية تستطيع هذه الدولة من خلالها أولا:-كما سبق-التوسع في المناطق الخارجة عن سيطرتها، وثانياً: فرض هيبتها على مناطق اليمن المختلفة، لذلك يرى يحيى بن الحسين بأن الإمام المتوكل هو السبب في زيادة المقررات، وفرضها على الأهالي، فيقول: "ولما عرف الولاة رضاه وراحته بالتوفير للدفعات جاروا على الرعايا في المطالبات، وفرضوا الزيادات، ولفقوا فيها التلفيقات، وساعدهم فيما يذكرونه من الزيادات، فحصل بسببه الجور".
وفي سنة (1074ه/1664م)، فرض الإمام المتوكل المزيد من الضرائب على الأسواق المختلفة منها: ضرائب على البائع والمشتري، والمتقبل (هو المتعهد بتوزيع المنتجات المختلفة التي يتقبلها من المنتج) والجزارين، وعلى الباعة الذين يعرضون بضاعتهم على الأرض، وغيرهم. غير أنه اضطر إلى إلغائها لما رأى من كثرة الاعتراض والتذمر من ذلك. وفي سنة (1085ه/1673م) أعاد تلك الضريبة، فارتفعت الأسعار نتيجة لذلك. ليس ذلك فحسب، بل نجده في سنة (1084ه/1673) يحد من صرفه لأصحاب المقررات المعتادة من الفقهاء وبعض السادة، وغيرهم من الفقراء، ومن يعتاد العطاء.
ولا نستطيع إزاء كل ما سبق إلا أن نتساءل: هل هذا التصرف من تدبير الأمور؟ أم حاجة الإمام المتوكل للأموال؟ أم أن الأوضاع الاقتصادية ساءت مقارنة بالعهد الأول لهذا الإمام؟
من المرجح أن المتوكل كان يرى أن قوة الدولة يترتب على ما تملكه في خزينتها لمواجهة أي تمرد أو خروج من جانب، والإنفاق على ما يجب الإنفاق عليه من جانب آخر. لذلك عند وفاته كان لديه من الخزائن التي لا تحصر بعدد، ولا يوقف فيها على حد من الذهب والأموال. فعجب يحيى جباري قاضي الإمام من ذلك، وقال: ما كنت أظن أن في خزائن الإمام هذه الممالك، فما الوجه للمطالب والجور في اليمن الأسفل. ولا يُفهم من ذلك بأن تلك الخزائن هي من أملاك الإمام المتوكل الخاصة، بل أنها ملك للدولة، يؤيد ذلك ما جاء في وصية الإمام بأن جميع ما في مخازن بيت المال لبيت المال من النقود والسلاح والخيل والعبيد، إلاَّ ما هو يختص به لنفسه. وقد بينه.
وكانت أهم الموارد المالية التي تصل إلى خزينة الدولة هي عائدات الموانئ، والتي كان أهمها في تلك الفترة ميناء المخا، وما كان يفرض فيه من جمارك تؤخذ على السفن التجارية والتجارة في الميناء.
وكان نصف عائدات المخا لمحمد بن الحسن، ونصفه للإمام المتوكل، وعند وفاة الأول أصبحت جميع عائداته للإمام.
وكانت اليمن تتعرض لفترات جفاف تؤثر على عائدات الدولة، وكانت أحياناً تقل مواردها من الموانئ بسبب ركود النشاط التجاري فيها. وكان زيادة التمردات، ومحاولة الخروج عن سلطة الدولة له تأثير سلبي على واردات الدولة، وبالتالي يزيد من نفقاتها لإخماد مثل تلك التمردات.
وقد كان لكل ذلك تأثير على الأوضاع الاقتصادية في البلاد، حيث ازدادت سوءاً، خاصة فترات الجفاف التي عمت اليمن منذ سنة (1079ه/1668م) حتى وفاته، إذ إنه نتيجة لعدم سقوط الأمطار زاد الجفاف والقحط، وارتفعت الأسعار. "وكثر الموت من الجوع والمرض، فراح عالم لا يحصيهم إلاّ الله تعالى. وبلغ القدح إلى قرشين".
ومن الطبيعي أن تتأثر الأوضاع الاقتصادية بسقوط الأمطار أو عدم سقوطها، إذ أن اليمن منذ القدم بلد زراعي في الدرجة الأولى، ويعتمد على الزراعة اعتماداً كبيراً. وهذه الزراعة تعتمد على مياه الأمطار وعلى ما تختزنه الأرض في جوفها من المياه،لذلك تأرجحت الأوضاع الاقتصادية بين الشدة والرخاء حسب هطول الأمطار أو عدم هطولها.
ونتيجة لسوء الأوضاع الاقتصادية نجد في سنة (1084ه/1673) أن مدارس العلم أُغلق أكثرها في مثل صنعاء وصعدة وغيرهما، لضعف موارد الوقف بها.
وبسبب سوء الأوضاع الاقتصادية نجد الإمام في سنة (1086ه/1675م) يأمر بأن تقوَّم أموال اليهود في جميع أنحاء اليمن، ويؤخذ منهم العشر، فُجمع شيء كثير من ذلك. كما نجده في السنوات الأخيرة من حكمه يزيد من المقررات المالية المفروضة على الولاة، فها هو الأمير عبد القادر صاحب كوكبان على سبيل المثال يتجه إلى الإمام، ويطلب منه أن يساعده في قضاء دينه، فأجاب عليه بأن البلاد كافية، فقال له الأمير عبد القادر: "لم نقم بذلك لزيادة المقررات في المدة الأخيرة".
وعلى الرغم من أن الإمام المتوكل قد حاول جاهداً معاقبة المتقطعين للقوافل، وإنزال عقوبات صارمة ضدهم، اضطرهم ذلك إلى التقليل من عملية النهب والسلب، غير أنه في السنوات الأخيرة من حكمه ظهر بشكل واضح الانتهاب للقوافل التجارية وحتى المسافرين، خاصة في طريق (العمشية)، حيث كانت القوافل التجارية والمسافرون في هذه الطريق يتعرضون في أغلب الأحيان للسلب والنهب من سفيان ودهمة وآل عمار، وغيرهم من القبائل.
لقد كان الإمام المتوكل يدفع للقبائل التي في طريق العمشية أموالاً لضمان الأمن في هذا الطريق والحفاظ عليه من الحرامية.
وفي سنة (1087ه/1676م) حصل انتهاب في طريق العمشية. وكان السبب في ذلك "أن أهل الطريق أهملوا حفظها"، لأن الدولة لم تعطهم ما يعتادونه فيها. وربما بسبب مرض الإمام المتوكل أُهمل ذلك، فكان سبباً في زيادة التقطع في الطرقات. ومما لا شك فيه أن هذا سيزيد من الإضطرابات والاختلال في الدولة.
ولم يكن نهب القوافل قاصراً على طريق العمشية، بل تعداها إلى مناطق أخرى من اليمن، خاصة البعيدة عن مركز الدولة، فنجد في شهر القعدة سنة (1080ه/1669م) قام الشيخ منصر العولقي في طريق حضرموت بانتهاب قافلة واصلة من الشحر، كان أكثرها للإمام المتوكل وأحمد بن الحسن.
ومما لا شك فيه أن انتهاب القوافل التجارية كان له تأثير سلبي على الأوضاع الاقتصادية في اليمن. فقد توقف أغلب التجار من إرسال بضائعهم أو أموالهم خشية انتهاب القبائل لها، وعدم اهتمام الدولة في الفترة الأخيرة باسترجاع ما تم نهبه.
وكانت القبائل تقوم بالنهب في الطرقات بتحريض من مشائخها في بعض الأحيان، فنجد في سنة (1083ه/1672م) نهبت سحار وآل عمار قافلة كانت خارجة من صعدة "فيها دراهم كثيرة، لأجل الموسم مصدرة إلى المخا وصنعاء". وكان سبب ذلك الانتهاب أن شيخ البلاد كان لدى الإمام، ولم يقضِ له غرضه، فعند عودته حرض قبائله على ذلك انتقاماً من الإمام. ولم يتمكن علي بن أحمد، صاحب صعدة إلا رد البعض مما تم نهبه، أما البعض الآخر فلم يستطع رده لأصحابه.
كما تكرر غزو قبائل الأطراف لبعضها البعض، فيذكر يحيى بن الحسين مثلاً في سنة (1084ه/1673م) أن جماعة من بني نوف، من قبائل دهمة غزوا إلى أسفل الجوف. كما حصل غزو إلى أطراف بلاد خولان وبِدْبِدَة. وغزت برط إلى أسفل الجوف بحدود براقش.
وشهدت الدولة القاسمية بعضاً من الاعتداءات الخارجية على الموانئ البحرية، وأهمها مينائي (المخا وعدن) اللذين تعرضا لكثير من الاعتداءات من قبل (الفرنج) على السفن التجارية القادمة إلى اليمن أو الخارجة منه. وعلى الرغم من وجود اعتداءات من قبل (الفرنج) على السفن الإسلامية من بداية عهد الإمام المتوكل، لكنها كانت قليلة. وكانت تُهزم وتعود من حيث أتت. أما في السنوات الأخيرة فقد زادت أعمال القرصنة في هذه الموانئ.
وكان ثمة صراع بين هؤلاء القراصنة وبين العمانيين. وكان العمانيون يدخلون الموانئ اليمنية بحجة ملاحقة القراصنة (الفرنج) وقد يصيب هذه الموانئ الركود والضرر نتيجة لذلك.
ومما لا شك فيه أن الاضطرابات والاختلالات الأمنية في هذه الموانئ والبحار قد يؤدي إلى ركود النشاط التجاري، وبالتالي يؤثر على الوضع الاقتصادي وتدهوره. فنجد مثلاً في سنة (1081ه/1670م) يحاصر الفرنج ميناء المخا، ويحرقون مراكب لتجار من الحسا، ويستولون على بعض السفن المحملة بالبضائع، وكان من ضمنها بضائع خاصة بأحمد بن الحسن، مما اضطر الدولة إلى إرسال الكثير من القوات للحفاظ على المخا، والدفاع عنه، وعُقد صلحٌ بين والي المخا حينذاك الحسن بن مطهر الجرموزي وبين الفرنج.
ويؤكد لنا المؤرخ يحيى بن الحسين بأن الاعتداءات المتكررة على الموانئ اليمنية قد أدى إلى سوء الأوضاع الاقتصادية، حيث يقول عند تناوله لأحداث سنة (1085ه/1674م) "وقد تضررت البنادر هذه السنين، ومحق البيع والشراء للبائعين والمشترين".
وكانت حوادث الحروب والقتلى تتكرر دائماً في مينائي المخا وعدن بين الفرنج واليمنيين، أو بين العمانيين واليمنيين، ثم تضطر الدولة إلى إرسال الغارات مساعدة للولاة هناك، إلاّ أن أكثر اليمنيين لا يستطيعون دخول البحر. وكانوا يضطرون إلى البقاء في البنادر. ويوضح يحيى بن الحسين أن السبب في ذلك: "عدم صنعتهم للأعمال البحرية"، أو عدم اهتمام الأئمة حينذاك بقيام أسطول بحري كما كان لليمن من قبل.
وكان العمانييون يترددون دائماً إلى سواحل اليمن، وكان يقتل منهم الكثير في السواحل اليمنية بسبب مواجهة اليمنيين لهم، خاصة ساحل عدن، فنجدهم مثلاً في سنة (1085ه/1674م) حاولوا الدخول إلى سقطرة، ثم إلى عدن بحجة مقاتلة البانيان، إلاّ أن أهالي عدن تصدوا لهم، وانهزموا هاربين. كما أعد أحمد بن الحسن مجموعة من العسكر لصدهم، مما اضطر العمانيين إلى الهروب إلى خلف باب المندب، لكنهم منعوا جميع المراكب من الدخول إلى الميناء، كما قاموا بنهب بعض المراكب، ثم عادوا بلادهم. وقتل كثير منهم، حتى أن سلطان عمان أرسل برسالة إلى الإمام يعاتبه فيما جرى في أصحابه في ساحل عدن من القتل. وتوعد بإغلاق البحر من جهاته.
وأحياناً كانت تلك العلاقات تسير إلى الأحسن، فنجد في سنة (1081ه/1670م) يرسل سلطان عُمان بما يقدر بألفين رطل من الرصاص معونة لليمنيين لمحاربة الفرنج، باعتبارهم عدواً مشتركاً بين اليمن وعُمان. وبذلك كانت العلاقات اليمنية العمانية بين شد وجذب، على حسب ما كان يقوم به العمانيون في الموانئ اليمنية، وموقف اليمنيين من ذلك.
ورغم عدم مهارة اليمنيين في البحار حينذاك مثلما كان العمانيون، غير أن الدولة القاسمية لا زالت تتمتع بالقوة في هذه الفترة، مقارنة بالفترات اللاحقة، وهذا جعل العمانيين يخشونها. وكانوا في معظم الأحيان يبررون دخولهم السواحل اليمنية لمحاربة الإفرنج وطردهم منها.
ونتيجة لما تعرضت له الدولة من صعوبات سبق ذكرها بدأ الإمام المتوكل يشعر بأن امتداد حدود الدولة، وسيطرتها على بعض المناطق، وإرسال ولاة من قبله يشكل عبأً كبيراً عليها، وأن متاعبها أكثر من عائداتها. فاقتنع بذلك معترفاً بالحكام المحليين، واكتفى بهم، بدلاً من الولاة الذين عينهم في بعض المناطق.
ففي سنة (1080ه/1669م) لم يعد في ظفار والٍ من قبل الإمام، فخرج من ظفار، وسكنه بعض آل كثير، "وانتسب في النسبة إلى الإمام، وتصرف آل كثير فيه بما شاؤوا، وخرج في التحقيق عن أمر الإمام".
أما حضرموت فكان متولياً لها عثمان زيد من قبل الإمام، لكنه اعتذر عنه وطلب الإذن في العودة فخرج منها عام (1081ه/1670م) فأراد الإمام أن يتولاها الحسين بن الحسن، وأن يستقر في حضرموت، لكنه رفض، وأرسل بعض قادته. غير أنهم لم يتمكنوا من إخضاع أهالي حضرموت، وإلزامهم بتنفيذ أوامر الدولة. ليس ذلك فحسب، بل إنهم طردوا الرسول الذي أرسله الحسين بن الحسن متولياً لها، وردوه راجعاً ومن معه. وقتلوا من أصحابه رجلاً أو رجلين، عند ذلك رأى الإمام أن الحل الوحيد هو أن يولي حضرموت وظفار للشيخ الكثيري. وكان حينذاك لديه، فجهزه إليها، بعد أن رأى "مشقة أحواله، وقلة محصوله، وبعد دياره".
أما ميناء الشحر فقد حرص الإمام المتوكل على أن يخضع مباشرة للدولة القاسيمة، واستمر أمير الدين العلفي والياً عليه من قبل الإمام.
وفي عام (1085-1086ه/ 1674-1675م) انقطع ما كان يُرسل به من حضرموت، وهو شيء يسير جداً. ولم يبق منه بعد (1080ه/1669م) إلاَّ الاسم، لعودته لآل كثير.
وفي سنة (1085ه/1674م) سمعت بعض المناطق بمرض الإمام المتوكل، فأعلنت تمردها. ورفضت دفع ما عليها من واجبات للدولة، متحدية لها، ومن هذه المناطق الحجرية، حيث أعلن أهلها تمردهم وخروجهم عن سلطة الإمام. وامتنعوا عن تسليم ما عليهم من المطالب، ولما أرسل إليهم الإمام يتوعدهم بالعقوبات إن خالفوا أوامره، قتلوا رسوله ومن معه. كما رفضوا دخول بعض جنود الدولة إلى بلادهم، وكان الإمام قد أرسلهم إلى هناك. وقتلوا عبداً لمحمد بن الحسن، وربطوا بعض غلمان الخيل. وأصبحت الطريق بين عدن ولحج غير آمنة. ولم يجرؤ أحد على المرور فيها، إلاّ مع الجمع الكبير.
وفي سنة (1086ه/1675م) اضطربت الأوضاع، وهرب مجموعة من العسكر من الخدمة لدى بعض الولاة، فسكن بعضهم في بيته، ولم يدخل في الخدمة.
كما اضطربت الأوضاع الاقتصادية في صنعاء عندما علمت بمرض الإمام المتوكل، خشيةً من وفاته وما يحدث بعد ذلك من صراع مراكز القوى على الإمامة، فاشتروا ما يحتاجونه من المؤن والطعام، وكان نتيجة ذلك أن ارتفعت الأسعار لكثرة المشترين.
لقد كان السنوات الأخيرة من حكم الإمام المتوكل تعتبر أصعب المراحل، حيث رفضت بعض المناطق تسليم ما عليها من واجبات للدولة كما رأينا. ولم يعد لها إلا السلطة الاسمية، حيث كانت ترى بأن الإمام المتوكل قد أصبح ضعيفاً بسبب مرضه، بينما أحمد بن الحسن كان مشغولاً بالإعداد لتجهيز حملة عسكرية إلى عدن، خوفاً من العمانيين. لذلك قالت بعض القبائل: "هذا الإمام فيه الركة، لما اعتراه من الألم هذه المدة. وأحمد بن الحسن هو الذي نخشى منه قد اشتغل بتجهيزه إلى عدن بعض عساكره".
ولا بد أن نشير هنا إلى أن المشائخ وأصحاب النفوذ في المناطق المختلفة كانت تقوى وتضعف حسب قوة الدولة المركزية أو ضعفها، أو بالأصح حسب قوة الإمام أو ضعفه، فبعد سياسة التوسع التي اتبعها الإمام المتوكل، والحروب التي خاضها رجال دولته من أجل بسط سيطرته على مناطق اليمن، ونتيجة لقوة دولته أعلنت هذه المناطق ولاءها وخضوعها للدولة والإمام، حتى القبائل التي كانت أكثر قوة ومنعة، منها على سبيل المثال أسرة العفيف في يافع، وآل الرصاص في البيضا، وآل كثير في حضرموت، وغيرهم. غير أن مثل هذه الأسر في فترة الضعف، خاصة فترة مرض الإمام المتوكل كانت تحاول البروز أو الاستقلال إن هي استطاعت. لكنها لم تتمكن من ذلك. وقد ترك الإمام بعض هذه الأسر تحكم في مناطقها طالما أنها تؤدي ما عليها من واجبات للدولة.
وفي السنوات الأخيرة لحكم الإمام المتوكل كانت مراكز القوى من آل القاسم قد بدأت تظهر، محاولة أن تلعب دوراً قيادياً حتى قبل وفاة الإمام المتوكل، مستغلة مرضه. منهم على سبيل المثال علي بن أحمد بن الإمام القاسم، الذي كان متولياً لصعدة بعد والده. وقد ساءت علاقته بالإمام المتوكل، وعلى إثر ذلك أرسل الإمام ابنه الحسن إلى صعدة محاولاً القضاء على سلطة علي بن أحمد فيها، غير أن علي بن أحمد تمكن من منع الحسن بن المتوكل من الدخول إلى صعدة، مستغلاً النفوذ الذي كان يتمتع به بين قبائل المناطق الشمالية.
وعلى إثر الخلاف بين الإمام وابن أخيه كتب الأخير إلى أبناء القاسم عموماً بأنه "دعا إلى نفسه بالإمامة، وأن الإمام المتوكل اعتورته الشيخوخة، وظهر ضعفه من السمع والبصر ... وأنه لا مانع لديه من تسليم الأمر إلى من هو أقدر منه".
وأرسل إلى أحمد بن الحسن بأنه قد تم تبادل الرسائل مع بقية أبناء القاسم حول عدم صلاحية الإمام المتوكل للإمامة، بسبب مرضه، وأنه لا يجب عليهم طاعته.
وعلى الرغم من أن المؤرخ يحيى بن الحسين يذكر بأن قبائل المناطق الشمالية طلبوا من علي بن أحمد إعلان دعوته، وأن يكون إمامهم، لكن من المرجح أن هذا هو التفسير الشخصي ليحيى بن الحسين.
ولعل السبب غير المباشر هو أن علي بن أحمد شخصياً كان يحاول الوصول إلى الإمامة، مستغلاً مرض الإمام المتوكل، ليكون له السبق في ذلك.
ولما بلغ الإمام المتوكل ذلك، وكانت قد وصلته رسالة من علي بن أحمد، مثل باقي رسائل آل القاسم، جمع كبار رجال دولته وعلماءها يطلعهم على الأمر، فلم يلتفت أحد إلى دعوة علي بن أحمد، وحكموا ببغيه.
أما الحسين بن الحسين بن القاسم فقد ذكر للإمام أن ما قام به علي بن أحمد كان بتحريض من أخيه أحمد بن الحسن، ولكن ما ذكره الحسين كان غير صحيح، إذ أن المتوكل كتب إلى أحمد بن الحسن، يأمره بالتوجه إلى علي بن أحمد ومحاربته، وهو سيمده بكل ما يريد من المال والسلاح، فخرج أحمد بن الحسن من الغراس، لقطع شكوك الإمام إذا كان قد راوده شيئاً منها، واستعد لملاقات علي بن أحمد. ولما أراد التوجه إلى صعدة وصله الخبر بوفاة الإمام المتوكل. عند ذلك عاد أحمد بن الحسن إلى الغراس داعياً إلى نفسه بالإمامة.
ولم يكن أحمد بن الحسن هو الوحيد الذي دعا إلى نفسه بالإمامة، بل ظهر خمسة من آل القاسم دعوا إلى أنفسهم بالإمامة، إلى جانب أحمد بن الحسن، وسنتطرق إلى ذلك بالتفصيل في الفصل القادم.
وتوفي الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم في ضوران، مركز دولته، في 5جمادى الآخرة سنة (1087ه/14 أغسطس 1676م). وكان عمره حوالي (68عاماً).
ويشهد المؤرخون للإمام المتوكل بأنه كان أقدر أئمة آل القاسم، الذين حكموا اليمن. وعلى الرغم من بعض الصعوبات والاضطرابات التي شهدتها الدولة القاسمية في عهده، خاصة في السنوات الأخيرة، إلاّ أن هذه الدولة ظلت طوال فترة حكم الإمام المتوكل محتفظة بحيوتها وتفوقها، واستطاعت السيطرة على معظم الاضطرابات والتمرادات. وتمكنت من الإبقاء على جميع الأقاليم اليمنية تحت سلطتها السياسية المباشرة، أو غير المباشرة على أقل تقدير.
وقد بذل الإمام المتوكل جهوداً كبيرةً للحفاظ على أمن اليمن واستقراره وازدهاره، فلم يألو جهداً في التنقل بين مختلف المناطق اليمنية، ليتفقد أوضاعها عن قرب.
ولعلَّ ما عُرف بقانون صنعاء شاهداً على اهتمامه بكافة المجالات. فقد استقر في صنعاء ستة أشهر تفقد فيها قانون المدينة. ووضع قانوناً جديداً، زاد فيه على السابق، وأمر بتقسيم مدينة صنعاء، وجعل على كل قسم ثقة من أهلها.
العلاقات الخارجية
أما لو تطرقنا للعلاقات الخارجية فقد توسعت تلك العلاقات بين اليمن ومعظم أقطار العالم العربي والإسلامي، وحتى غير الإسلامي، سواء عن طريق الرسائل أو الهدايا التي كان يتم تبادلها مع ملوك وسلاطين هذه الدول. وغير ذلك من الوفود، والعلاقات التجارية.
فإذا ما بدأنا بالحجاز سنجد أن العلاقات بين الإمام المتوكل وأشراف الحجاز كانت قوية ومتينة، خاصة الشريف زيد بن محسن (1041-1077هـ/1632-1666م)، وقد عمل الإمام المتوكل على تقوية هذه العلاقات مع الأشراف في مكة، يتضح ذلك من الرسائل والهدايا المتبادلة بين الطرفين، واهتمام الإمام بإرسال الصُّرة إلى مكة في كل عام، الذي كان لشريف مكة نصيب منها.
وكان هناك كذلك تبادل في وجهات النظر حول مسائل شرعية ودينية على نحو متكرر ومتواصل.
أمَّا عُمان، فعلى الرغم من الشد والجذب في العلاقات بين البلدين، وعلى الرغم من الاعتداءات المتكررة من العمانيين على السواحل اليمنية، والخلاف بين الطرفين حول البحر والتجارة والسفن، إلاّ أنه كان يوجد بينهما تعاون في بعض الأحيان، خاصة إذا كان الهدف مشتركاً، وهو القضاء على الفرنج واعتداءاتهم المتكررة.
ولعلَّ إرسال سلطان عُمان بألفي رطل من الرصاص سنة (1081ه/1670م)، كما سبق أن ذكرنا، معونة لليمن لمواجهة الفرنج في السواحل اليمنية دليل على أن العلاقات كان يسودها أحياناً الصفاء والتعاون.
ولم تقتصر علاقات اليمن بدول الجوار، بل نجد أنه على الرغم من إخراج العثمانيين من اليمن كان في عهد الإمام المتوكل يصل إلى اليمن دبلوماسيون-إن صح التعبير-عثمانيون من حين إلى آخر. ومعهم رسائل وهدايا للإمام من السلطان العثماني محمد بن إبراهيم (1058-1099ه/1648-1688م)، وفي المقابل كان الإمام يرسل الهدايا للسلطان العثماني.
وقامت علاقات ودية أيضاً بين اليمن والدولة المغولية في الهند، حيث كان الإمام المتوكل على اتصال بالسلطان (أورنجزيب)، ففي عام (1071ه/1661م) أُهديت للإمام خيول من الهند. وفي السنة التي بعدها قام أحمد بن الحسن بإرسال هدية من الخيول العربية الأصلية إلى ملك الدولة المغولية، الذي بدوره أرسل هدية قيَّمة مضاعفة لها. ومرة أخرى في عام (1087ه/1676م) وصلت سفينة إلى بندر المخا حاملة هدية من السلطان (أورنجزيب) للإمام المتوكل، وصدقة لأشراف اليمن.
ولم يقتصر الأمر بينهما على الرسائل والهدايا، بل تعدى ذلك إلى تبادل الكتب المذهبية، حيث كان كل منهما يحاول إقناع الطرف الآخر بمذهبه.
كما قامت علاقات ودية بين الدولة القاسمية والدولة الصفوية في فارس. حيث تم تبادل الرسائل بين الإمام المتوكل والشاه عباس الصفوي (1052-1078ه/1642-1667م). وقد احتوت تلك الرسائل على عبارات تدل على الصداقة والصلات العميقة بينهما.
أما الحبشة فقد ارتبطت معها اليمن بعلاقات منذ القدم. وفي عهد الإمام المتوكل تجددت تلك العلاقات وتم تبادل الهدايا والرسائل بينهما. ولعل البعثة اليمنية التي أرسلها الإمام المتوكل إلى الحبشة برئاسة القاضي الحسن بن أحمد الحيمي، ومعها الرسائل والهدايا للإمبراطور الحبشي (فاسيلا داس) (1042-1078/1632-1667م) دليل على عمق العلاقات بين البلدين. ومهما كان الهدف من هذه البعثة فهي تنم عن الروابط والعلاقات القوية بينهما.
وبذلك يكون الإمام المتوكل قد اهتم بتطوير العلاقات الخارجية بين اليمن وهذه البلدان، بحيث أصبح لها ثقل وأثر كبير في الجزيرة العربية. ونشطت العلاقات التجارية والدبلوماسية وتبادل المراسلات وبعوث الصداقة الرسمية مع تلك البلدان السابقة ذكرها جميعاً.
رابعاً: سياسة الإمام الإدارية
قبل أن نتناول سياسة الإمام المتوكل إسماعيل الإدارية لا بد أن نتطرق بإيجاز إلى التقسيم الإداري خلال الحكم العثماني الأول لليمن؛ لأن هذا التقسيم-غالباً-هو الذي كان متبعاً في فترة دراستنا هذه.
لقد انقسمت الإيالات العثمانية من حيث الوضع القانوني إلى قسمين، فكان هناك إيالات تتبع نظام التيمارات، وأخرى بنظام الساليانات. وما يهمنا هو الأخير، باعتباره كان موجوداً في كافة البلاد العربية. فهناك تسع إيالات على هذا النحو هي: مصر، اليمن، الحبشة، بغداد، البصرة، الإحساء، طرابلس الغرب، تونس، الجزائر.
وهذا النظام تُجمع فيه إيرادات الإياله باسم الدولة، ثم يُصرف من هذا المجموع أجور الجند والإداريين، ويُرسل الباقي إلى خزينة الدولة.
وكانت الإيالة التي تشكل أكبر الوحدات الإدارية لدى العثمانيين تتشكل من مجموعة من السناجق، ومع ذلك فإن تقسيمات السناجق العثمانية لم تبق على حالها دائماً، إذ كان يجري تغييرها من حين لآخر بدرجة يصعب متابعتها.
وكان السنجق وحدة تقسيم أساسية، ذات صفة عسكرية وإدارية.
وكان العثمانيون خلال حكمهم الأول لليمن قد أعدوا نظاماً مالياً وإدارياً من خلال ما ظهر في الدفاتر التي كانت تُقيد بها واردات اليمن السنوية، وعلى وجه التحديد عامي (1599-1600م)؛ إلاَّ أن هذا التنظيم المالي والإداري لم يكن دقيقاً، فقد كان غير مستقر، ويتغير من سنة لأخرى. وغير مرتب ترتيباً مناطقياً دقيقاً، فقد اختلطت قيودات وإيرادات المناطق بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. ولعلَّ السبب في ذلك هو الثورات والاضطرابات التي شهدتها اليمن في هذه الفترة، إذ لم تنعم بالهدوء والاستقرار سوى فترات قصيرة، لذلك كان الهدف من تقسيم إيالة اليمن الإدارية هدفاً عسكرياً، حيث قُسمت إلى ستة سناجق: صنعاء، صعدة، حضرموت، جيزان، زبيد، تعز. وقد ورد هذا التقسيم لدى عبد الكريم العزير، بينما يذكر ساطع الحصري والأستاذ الدكتور سيد مصطفى سالم بأنه تم تقسيم ولاية اليمن إلى تسعة ألوية هي: صنعاء، مخاء، زبيد، تعز، صهلة، كوكبان، طويلة، مأرب، عدن. ولعلَّ ذلك الاختلاف يرجع إلى اختلاف الفترات.
وقد ذكر الحصري بأنه اعتمد في هذا التقسيم على أشمل الوثائق التي اطلع عليها عن التقسيمات الإدارية في الدولة العثمانية، وهي رسالة تركية عنوانها: (قوانين آل عثمان فيما يتضمنه دفتر الديوان). ومؤلفها هو: عين علي أفندي، الذي كان أميناً للدفتر الخاقاني، فكان لهذا السبب مطلعاً على جميع سجلات الدولة المتعلقة بالأمور الإدارية والمالية.
ومن المعروف أن الإيالات كانت تقسم إلى ألوية، والألوية تقسم إلى سناجق. ولكن هنا في اليمن وفي الحكم العثماني الأول إذا ما قورن بالحكم الثاني لم يتضح هل قُسمت الألوية إلى سناجق، أم أن السناجق هي التقسيم الذي اعتمد.
وقد رأى العثمانيون أنه من خلال هذا التقسيم سيتمكنوا من إحكام القبضة على اليمن، وبالتالي يتم جباية الإيرادات العامة من زكاة ورسوم متفرقة أخرى.
وكان كل سنجق يشتمل على مناطق وتقسيمات إدارية كان يطلق عليها اسم (ولاية). ويذكر الدكتور العزير في هامش كتابه (التشكيلات المركزية العثمانية) بأن تلك الولايات وجميعها في جدول محاصيل ولاية اليمن سنة (1000،1007،1008ه/1592-1599-1600م)، قد وصلت إلى سبعة وسبعين تقسيمٍ وولاية، وأصبحت هذه الولايات في الحكم العثماني الثاني قضوات ونواحي.
ويرجح الكثير من المؤرخين أن الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم بعد استقلال اليمن عن الحكم العثماني الأول سنة (1045هـ/1635م) على يده هو واخوته اتبع النظم المالية والإدارية التي كانت موجودة في خلال الحكم العثماني السابق. كما استعان ببعض القادة العثمانيين، الذين فضلوا البقاء في اليمن بعد خروج العثمانيين منها، فتقلدوا مناصب إدارية هامة، وعين بعضهم ولاة على بعض المناطق، منهم على سبيل المثال الأمير رجب الرومي، الذي كان مرسلاً من الدولة العثمانية دعماً لحيدر باشا، إلاَّ أنه أعلن طاعته للإمام المؤيد، فعينه على بلاد المخادر (تقع شمال مدينة إبّ). وقد مكث والياً عليها حتى توفي في عهد الإمام المتوكل إسماعيل.
وكان الأمير سنبل من الشخصيات القيادية العسكرية العثمانية. تولى قيادة كثير من الحروب ضد الإمام المؤيد، غير أنه بعد ذلك أعلن انضمامه إلى قوات الإمام، بعد المعاملة السيئة من قبل حيدر باشا، فأرسل إلى الحسن بن القاسم خطاباً يعلن فيه طاعته للإمام المؤيد، ويطلب منه الأمان، فرحب الحسن بذلك، وعينه على مدينة ذمار ووصاب، وبانضمام الأمير سنبل إلى معسكر الإمام انضمت الفرق التابعة له في قلعة ذمار وجبل كبريت ورداع ووصاب.
لذلك من المحتمل أن بقاء مثل هؤلاء في اليمن وتقلدهم مناصب هامة كان له أثر في استمرار كثير من النظم الإدارية العثمانية، بحكم خبرتهم السابقة.
ومن المرجح أيضاً أن الإمام المتوكل على الله إسماعيل قد اتبع السياسة الإدارية السابقة له، إذ أن المصادر المتوفرة بين أيدينا لا تشير من قريب أو بعيد إلى وجود تقسيمات إدارية جديدة، ولم تشر حتى إلى ما هي التقسيمات الإدارية التي كانت موجودة حينذاك، غير أن المؤرخ يحيى بن الحسين يتكلم بين الحين والآخر عن الوظائف والألقاب والتقاليد الإدارية الخاصة، فنجده على سبيل المثال يذكر بأن الخيالة الذين مع محمد بن الحسن من الأتراك العثمانيين، ثم يقول: "والعساكر والبيارق والشاوشية والنوبة يضرب طبلها، ويزمر زمرها، ويدق صاحبها، والخيل التي معه كلها باليمن اجتمعت [و] انتظمت على زي عساكر الأروام، وترتيبهم المعتادة تلك الأيام".
وما يؤيد استعانة الإمام المتوكل إسماعيل بالتقسيمات الإدارية السابقة أن يحيى بن الحسين في مخطوطته (بهجة الزمن) كان غالباً ما يذكر ذلك التقسيم على أنه ولايات، فيقول مثلاً: ولاية ريمة، ولاية العدين، ولاية عتمة، ولاية صنعاء. ولا فرق لديه بين المناطق الصغيرة والمناطق الكبيرة.
وهذا كما سبق أن رأينا هو التقسيم الذي اعتمدت عليه الدولة العثمانية خلال الحكم الأول في جمع مستحقات الدولة من تلك الولايات التي قسمتها إلى سبع وسبعين ولاية.
ولم يتضح في المخطوطات المعاصرة لهذه الفترة-خاصة بهجة الزمن، تحقة الأسماع والأبصار-أي تقسيمات إدارية أخرى، غير أن يحيى بن الحسين والجرموزي كانا يذكران (المخلاف) إلى جانب الولاية. وهو تقسيم كان موجوداً في العهد الإسلامي، حيث كان المخلاف الكبير يضم مخاليف صغيرة. هذه المخاليف الصغيرة هي التي اتضحت في مصادر هذه الفترة، فنجد الجرموزي، على سبيل المثال، عندما تكلم عن تقدم الإمام إلى منطقة (الرجو) يقول: "وقد تلقاه أهل تلك المخاليف بالنذور والضيافات" أو يقول: "صعدة ومخاليفها، ونجران وما إليه".
ويصعب لهذا كله الوصول إلى تقسيمات واضحة ومحددة إدارياً لهذه الفترة، لعدم توفر المادة التاريخية لذلك التقسيم في المصادر التي بين أيدينا. وقد اتضح فقط في المخطوطات المعاصرة لهذه الفترة-خاصة مخطوطة (بهجة الزمن) الذي تناول مؤرخها ذلك بشيء من التفصيل-التعيينات التي تمت في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل لتلك الولايات. ولعل السبب في ذلك هو أن هؤلاء المؤرخين كانوا يعتبرون هذه التقسيمات الإدارية معروفة سلفاً، لأنها قديمة، وموجودة من أيام العثمانيين. لذلك انصب اهتمام مؤرخ مخطوط (بهجة الزمن) على التعيينات التي تمت في عهد الإمام المتوكل إسماعيل.
وهنا قد يتبارد إلى ذهن أي باحث بعض من الأسئلة، لعل أهمها: كيف كانت هذه التعيينات من خلال السياسة الإدارية للإمام؟ هل اتبع التعيين والعزل للولاة حسب ما كان يراه مناسباً من حيث صلاحية الولاة والتقسيم الإداري؟ أم كانت سياسته الإدارية متأثرة بالجانب السياسي من حيث إرضاء الأنصار والمؤلفة قلوبهم؟ وهل اتبع سياسة واحدة في كل الولايات أم اختلفت سياسته من ولاية إلى أخرى؟ أم كانت حسب ثروتها الاقتصادية فيعين فيها أهل الثقة من أبناء الإخوة أو العبيد؟ وهل المناطق المفتوحة حديثاً-أي في عهده-زادت من أعباء وغموض السياسة الإدارية والتقسيم الإداري؟ أم أنها ساعدت على تثبيت سلطة الدولة أكثر من ذي قبل؟
يجب في البداية أن نقف عند حقيقة هامة ظهرت في عهد الإمامين المؤيد بالله محمد بن القاسم وأخيه الإمام المتوكل إسماعيل، وهي أنه لم يكن في اليمن نظام يرث فيه أبناء الولاة والحكام بالضرورة المناطق التي كانت تحت حكم آبائهم. ولكن هذا يرجع إلى رغبة الإمام نفسه، وموقفه من هؤلاء الأبناء أو صلاحيتهم. فقد رفض الإمام المؤيد إعطاء مناطق ولاية أخيه الحسن لأبنائه بعد وفاته، قائلاً: "إن بلاد الصنو الحسن رحمه الله ليست ميراثاً حتى تُقسم". وعلى نفس المنهج-تقريباً-سار الإمام المتوكل إسماعيل، كما سنرى لاحقاً.
في بداية الأمر رأى الإمام المتوكل إسماعيل أن تكون عاصمة دولته مدينة ضوران، مخالفاً بذلك لأبيه القاسم وأخيه المؤيد، اللذين اتخذا من شهارة عاصمة لهما. ولم يكن اختياره لهذه المدينة اعتباطاً، أو لأنها كانت ولايته السابقة، بل كان اختياره لها لأسباب هامة وجوهرية. فهي تقع في السفح الشمالي لجبل ضوران. وكان اسمها الحصين، ثم تغلب اسم الجبل على هذه المدينة.
وأهمية هذه المدينة يوضحها لنا المؤرخ يحيى بن الحسين بقوله: "وهذا الحصن من المعاقل العظيمة، والجبال الشامخة العالية المنيعة. أصل أساسه من الملوك الحميرية. وقل أن يوجد في الحصون اليمنية مثله". والأهمية الأخرى، والتي كانت من أسباب اختيار المتوكل ضوران عاصمة له ما ذكره يحيى بن الحسين، فيقول: "وتوسطه باليمن من جميع الجهات ... ومعرفة صاحبه بما جاء وفات، مع أخذه من جانب المشرق والمغرب بأوفر نصيب، واطلاع مالكه على البلاد البعيد منها والقريب"، فإلى الشمال منها تقع القبائل المناصرة والمعقل الأساسي للإمامة، ومذهبها الزيدي، وإلى الجنوب منها تقع الأراضي اليمنية الخصبة، التي تصل منها أكثر عائدات الدولة. وإلى الشرق منها تقع الكيانات اليمنية المستقلة، التي تتجه إليها أنظار الدولة القاسمية في ذلك الوقت.
وقد أدرك الإمام المتوكل إسماعيل أهمية هذا الموقع منذ أن تولاها نائباً لأخيه الحسين، ثم عندما عينه الإمام المؤيد متولياً لها. هذا إلى جانب أنها أصبحت مركزاً سياسياً هاماً في تلك الفترة.
ومن ضوران حكم الإمام المتوكل إسماعيل اليمن حكماً مركزياً، سواءً المناطق التي كانت تابعة للدولة القاسمية من قبل، أم المناطق التي تم إخضاعها بالقوة لسلطة الدولة المركزية-أقصد المناطق الشرقية والجنوبية-حيث كان مركز الدولة على اطلاع مستمر على كافة شؤون الولايات.
وكان ولاة المناطق المختلفة بمثابة المساعدين للإمام، باعتبارهم معينين من قبله، وموكل إليهم إدارة شؤون تلك الولايات، وكانوا على اتصال مباشر بالإمام.
وكان الإمام المتوكل يقوم بالعديد من الجولات التفقدية-إن جاز استخدام هذا التعبير-في العديد من مناطق اليمن، فلم يكن مستقراً في ضوران؛ بل كان عكس أخيه الإمام المؤيد، الذي لم يغادر شهارة حتى وفاته.
وقد أورد يحيى بن الحسين تنقلات الإمام إسماعيل في هذه المناطق باستمرار منها على سبيل المثال صنعاء، التي كان في معظم الأحيان يصل إليها لتفقد أوضاعها، ويبقى فيها فترة قد تصل أحياناً إلى عدة أشهر. وأورد تنقله أيضاً في مناطق أخرى مثل عمران، كوكبان، شهارة، حبور، ذمار، الخارد، الروضة، السودة ...إلخ. ولعله كان يهدف من هذا التنقل تفقد أوضاع تلك المناطق المالية والإدارية عن قرب.
وإذا انتقلنا إلى سياسة الإمام المتوكل إسماعيل في توزيع الولاة على المناطق أو الولايات، وتعيينهم عليها سنجد أنه بدأ في توزيع مناطق اليمن على المراكز الهامة في دولته قبل أن يُحسم أمر الخلاف على الإمامة مع أخيه أحمد، حتى يضمن وقوفهم إلى جانبه، كما سبق أن رأينا. واستكمل بقية التوزيع بعد أن تغلب على أخيه وأصبح الإمام بلا منازع. وبعض الولايات أبقى فيها ولاتها السابقين.
فإذا ما بدأنا بولاية صنعاء سنجد أن المتولي لها عند أن وصل المتوكل إسماعيل إلى الإمامة كان علي بن الإمام المؤيد بالله. وكان والياً عليها من أيام والده، فثبته عليها حتى وفاته. ولكن سياسته تجاه علي بن المؤيد اختلفت عن سياسته تجاه شخصيات أخرى في دولته مثل محمد بن الحسن وأخيه أحمد بن الحسن، كما سنرى، فهو حقيقة قد ترك لعلي بن المؤيد ولاية صنعاء، ولم يعزله عنها لما عُرف عنه من الزهد، فيصفه بعض المؤرخين بأنه: "لا يُعلم أنه عمرحجراً على حجر، ولا توسع كغيره فيما وسع به على المسلمين"، غير أن الإمام المتوكل قد قلص نقوذ علي بن المؤيد، فكان في عهد والده الإمام المؤيد إليه صنعاء وما يتبعها من جهات الحيمة، فلما أصبح المتوكل إماماً عزله عن الحيمة، وجعله والياً على صنعاء فقط، وقلص من نفوذه حتى في صنعاء، فيقول المؤرخ يحيى بن الحسين: "وقبض عليه جمهور المطالب، وما فيه النفع والإمداد في الغالب، ولم يبق إلا القليل"، وجعله والياً على صنعاء فقط. وكانت مدة ولايته على صنعاء أربعين عاماً.
وبعد وفاة علي بن المؤيد عام (1078ه/1667م) مسك زمام أمورها إبن أخيه يحيى بن الحسين بن الإمام المؤيد "مستنداً في التصرف إلى أحمد بن الحسن معتقداً أن الإمام المتوكل سيقرره عليها، ولن يعزله عنها"، لكن الإمام عين عليها إبنه محمد الذي كان متولياً لبلاد آنس وضوران من سنة (1070ه/1660).
ولعل المتوكل قد رأى في وفاة علي بن المؤيد فرصة سانحة ليُثَبِّت ابنه محمد على صنعاء، باعتبارها من الولايات الهامة، ولا بد أن يتولاها أحد أبنائه؛ لأنه من أهل الثقة. وهنا تتغير سياسة الإمام تجاه والي صنعاء الجديد، فلم يجعله والياً على صنعاء فحسب، كما فعل مع علي بن المؤيد، لكنه ضم إلى ولاية ابنه في صنعاء بلاد الحيمة وخولان ونهم وسنحان وحراز وبلاد ثلا وبعض همدان.
ولعل هذا يؤيد بأن سياسة الإمام إسماعيل في التقسيم الإداري لم تكن مستقرة، فنجده أحياناً يقلص من مناطق الولايات، وأحياناً أخرى يوسع هذه الولاية أو تلك، فتشمل مناطق كثيرة، وذلك حسب ما يراه الإمام مناسباً لهذا الوالي أو ذاك، حتى وإن اضطر إلى تقسيم الولاية إلى عدة أقسام.
وإذا ما نتقلنا إلى سياسة الإمام المتوكل تجاه أخيه أحمد بن القاسم الذي نافسه على الإمامة، كما رأينا، سنجد أن أحمد بن القاسم كان متولياً لإحدى المناطق الشمالية الهامة، وهي صعدة وجهاتها. وكانت صعدة من المراكز الهامة للمذهب الزيدي، حيث كانت مقر مؤسس المذهب الزيدي في اليمن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، كما أنها كانت المركز الرئيسي لانطلاق عسكر الدولة إلى المناطق الشمالية الأخرى حتى نجران إذا ما تمردت.
لقد كانت صعدة والمناطق الشمالية التابعة لها حتى نجران تحت ولاية أحمد بن القاسم قبل أن يتولى إسماعيل الإمامة. وبعد أن وصل الأخير إلى الإمامة، وتغلب على أخيه أحمد اتبع سياسة حكيمة تجاه المؤلفة قلوبهم-إن جاز التعبير-فنجده يوافق لأخيه أحمد على الاستمرار في ولايته السابقة، وأعطى ابنه محمد بن أحمد نصف بلاد والده التي كانت له، وهي جميع بلاد البون والمناطق الشمالية إلى خمر، غير أن الإمام إسماعيل في سنة (1080ه/1669م) كان يريد أن يبعد محمد بن أحمد عن ولاية تلك المناطق، فعرضها على أخيه قاسم بن أحمد، إلاَّ أن قاسم رفض تلك الولاية؛ لأنها تابعة لأخيه محمد، قائلا: "كيف يحسن مني منافسته إياها". ولم يتضح سبب رغبة المتوكل في استبدال محمد بن أحمد بأخيه قاسم بن أحمد في هذه الولاية.
ويذكر المؤرخ الجرموزي بأن الإمام إسماعيل في سنة (1063ه/1653م) كان يريد أن يولي على صعدة شخصاً آخر غير أخيه أحمد، حيث يقول: "استرجع الإمام ولاية صنوه مولانا الصفي أحمد بن أمير المؤمنين أيده الله صعدة ومخاليفها ونجران وما إليه". وقد علل الجرموزي سبب العزل هذا ما وقع فيها من الاختلاف، وما لقي الإمام من الشدائد في صلاحها وأحياناً رأى أن يولي عليها علي بن أحمد من غير واسطة أبيه، غير أن الإمام تراجع عن قراره، فعظم عليه أن يكون أخوه منقطعاً عن أهله، أو يكون فيها والتصرف لغيره، فأعادها إلى أخيه أحمد، واشترط عليه إصلاحها وسد خللها. وكان الإمام يمده بالعسكر إلى أطراف الشام كنجران ومشرق صعدة، وغيرهما.
واستمر أحمد بن القاسم متولياً لصعدة وجهاتها حتى وفاته سنة (1066ه/1656م). وبعد وفاته جعل الإمام المتوكل ابن أخيه علي بن أحمد والياً على صعدة بعد أبيه. ويذكر ابن عامر بأن علي بن أحمد قد أحكم قبضته على الشام وضبطه، وكان يتجه من صعدة إلى الإمام المتوكل في بعض السنين فيجله الإمام ويكرمه وينزله منزلة الأولاد والعلماء والأعيان.
واستمر الأمر كذلك حتى رفع جماعة من أعيان صعدة إلى الإمام حركات من علي بن أحمد مخالفه لما يريده الإمام، فجعل الإمام كثيراً من جهات صعدة لبعض أعيانها، مثل: بني النمير، والشقري، وبني حابس، الشيخ يحيى بن الحاج، وجعل لهم أيدٍ على صعدة حتى ظهرأمرهم في جهة الشام، وضعفت يد علي بن أحمد.
وكان قبل ذلك قد وصل إلى الإمام مشائخ بلاد خولان صعدة يشكون من علي بن أحمد، فأرسل معهم والياً السيد علي بن مهدي النوعة، بدلاً من انضمامها إلى علي بن أحمد. وكانت سياسة الإمام في صعدة على ما يبدو هي العمل على تقليص نفوذ علي بن أحمد، ومن ثم عزله عنها وإعطائها لأحد أبنائه وهو الحسن بن المتوكل، وكما فعل في صنعاء وأعطاها لابنه محمد نجده في صعدة أيضاً يحاول إعطاءها لابنه الحسن.
وهنا تتضح سياسته في تعيين أهل الثقة في الولايات الهامة، خاصة البعيدة عن نفوذ مراكز القوى الفاعلة في دولته، على الرغم من وجود أهل الخبرة، إلاَّ أننا نجده يستغني عنهم في بعض الولايات، أو قد يمنحهم ولايات أقل أهمية، حيث نجده يرسل إبنه الحسن إلى صعدة، ومعه مجموعة من العسكر، وكتب إلى الأعيان السابق ذكرهم بأن يساعدوا إبنه الحسن في تثبيت يده على صعدة وجهاتها، وفي جميع ما يحتاج، وأطلق يد الحسن في صعدة، وكان مستقراً في جبل رازح، وكان يدخل صعدة لفترة ثم يعود إلى مقره في رازح، وخلال قدومه إلى صعدة كان يحاول أن يقوي من نفسه هناك، وكان يعاقب القبائل التي كانت تقوم بنهب القوافل التجارية.
أما علي بن أحمد فكان يتضرر كثيراً من طول بقاء الحسن ابن الإمام، وزيادة النفقات في صعدة عليه وعلى عسكره. وفي سنة (1087ه/1676م) أمر الإمام أن يستقر ابنه الحسن بصعدة مع أهله، وأن يسكنوا بدار مطهر، التي كانت لعلي بن أحمد، فاستاء علي بن أحمد من ذلك. وكان الإمام يهدف من ذلك إضعاف يد علي بن أحمد، وعزله بعد ذلك من صعدة وجميع جهاتها. وأن تكون بلاد الشام جميعها إلى ولده الحسن، غير أن علي بن أحمد كان أكثر دهاءً وخبرة من الحسن بن المتوكل، ويعرف المنطقة وقبائلها أكثر منه، لذلك نجده عند أن علم بقدوم أسرة الحسن واستعداد الحسن لدخول صعدة أمر برد أسرته من حيث أتت، وكتب إليه، وقد صار في منطقة تسمى (مَجْز) كتاباً مضمونه: (إني كنت قد نهيتك عن دخول صعدة، والوصول هذه المدة، فأنت مخير، إما رجعت من حيث جئت، أو وصلت وعلينا تأمينك في الطريق إلى اليمن عند والدك، أو الحرب بيننا وبينك ومناجزتك. فعاد الحسن بن المتوكل من (مجز) يريد التوجه إلى ساقين من أجل أخذ حاجاته التي قد وصلت إليه وخزينته، فكتب علي بن أحمد إلى أهل (عرو) أن يمنعوه من الوصول إلى هنالك، فمنعته القبائل من دخول ساقين، وعاد راجعاً إلى جهة رازح، بينما علي بن أحمد اتجه إلى ساقين، التي كان بها أصحاب الحسن بن المتوكل وحاربهم واستولى على الخزينة، ثم أمنهم وأُسَرِهم وعاد إلى صعدة.
وبعد ذلك أمر جماعة بإخراج الحسن ابن الإمام من رازح، ولا يبقى له فيها نفوذ. وخلع إمامة الإمام إسماعيل، وأجابته قبائل الشام، ودخلت في أوامره ونواهيه إلى حدود بلاد سفيان وما إليه، كما سنرى، وانقطعت أوامر الإمام فيه بالمرة. وأصبحت الشام لعلي بن أحمد، والحسن بن الإمام اتجه إلى كمران. مع أن علي بن أحمد أصبحت يده ضعيفة في الشام، وكان يداري القبائل، ولم تكن لديه قوة ليتمكن من إخضاعهم، لذلك حصل النهب في صعدة منهم. ويعلق يحيى بن الحسين على ذلك بقوله: "فلا هو ضبط البلاد، ولا تركها لغيره من الولاة يصلحها ويزيل عنها الفساد".
أما محمد بن الحسن الذي كان يعتبر من الشخصيات القيادية الهامة في الدولة، بل يعتبر الرجل الثاني بعد الإمام المتوكل، ومن أهم مراكز القوى في الدولة-إن جاز استخدام هذا التعبير-فقد اقتفى أثر أبيه في سياسته الإدارية لمناطق ولايته، وأول ما قام به بعد وفاة والده أنه جمع الكثير من القادة والجنود والأعوان الذين كانوا تحت قيادة والده الحسن، تحت قيادته، واستقر في ذمار؛ لأنه حين وفاة والده لم تكن له ولاية محددة.
وكان الإمام المؤيد رافضاً إعطاء أبناء الحسن ولاية أبيهم، لكن محمد بن الحسن بذكائه وسياسته الحكيمة بدأ ينطلق من ذمار، ويحصل على ولايات قد تساعده على كفاية من معه من الجند والقادة، فأعطاه عمه الحسين بلاد الشوافي، وخبان وبني سرحة، ويريم، والتعكر، وهي مناطق خصبة في اليمن الأسفل، كما استطاع بعد ذلك الحصول على الامتيازات تدريجياً.
ولم يتوف الإمام المؤيد إلا وقد أصبح لمحمد بن الحسن نفوذ ومكانة كبيرة في اليمن الأسفل، لذلك أعلن إمامته عند وفاة المؤيد، غير أنه تنازل لعمه المتوكل إسماعيل، كما سبق أن رأينا. وكان المساند الأول له ضد منافسه أحمد بن القاسم، ومده بالكثير من الجنود والخيول والأموال، لذلك فمن الطبيعي أن يمنحه الإمام إسماعيل ما يريد. وقد ذكر لنا ذلك صاحب بغية المريد، بقوله: "ولاَّه الإمام ولاية عظمى في أقاليم وحصون ومدن وبحار، فاستمر محفوفاً بعساكر يضيق بها الرحب. بلغت خيله خمسة عشر مائة حصان، على رفاهية ودعة من الإسعاد". وكانت له صلاحيات واسعة في مناطق ولايته، وترك له الإمام تعيين من يراه مناسباً في تلك المناطق.
وقد أعطى محمد بن الحسن مناطق هامة في ولايته لأبنائه، منهم يحيى بن محمد بن الحسن، الذي أعطاه والده ولاية تعز والحجرية، سنة (1068ه/ 1658م) بعد وفاة واليها السيد على المحرابي. وبعد وفاة والي العدين محمد بن أحمد بن الإمام الحسن المؤيدي أضاف محمد بن الحسن ولاية العدين لابنه يحيى إلى جانب تعز والحجرية.
ولأهمية العدين وخصوبتها كان الإمام إسماعيل يريد أن تتبعه مباشرة ويعين عليها شخصاً من قبله، إلا أن محمد بن الحسن رفض ذلك قائلاً: "البلاد بلادي، وفيها عمالي، وإليها حاجاتي". غير أن إعطاءها لابنه يحيى لم يكن موفقاً، فكان يحيى بن محمد بن الحسن ينفق جميع أمواله ويعطي، بحيث قد ينفد ما لديه من مخزون، وكان ذلك سبباً في الجور على الرعايا، لا سيما بلاد الحجرية، وتعلقت به الديون، فاستاء والده محمد بن الحسن، ومنعه من الإنفاق بتلك الطريقة، وأخذ منه بلاد العدين.
أما ابنه إسماعيل فكما ذكر الحوثي بأن والده محمد بن الحسن كان قد "فوض إليه أموراً من بلاد اليمن الأسفل". ولم تذكر المصادر المتوفرة ما هي المناطق التي تولاها إسماعيل؛ إلا أنه قبل وفاة والده كانت إليه بلاد العدين.
وباعتبار محمد بن الحسن الرجل الثاني في دولة المتوكل، فكان كثيرالتنقل بين المناطق المختلفة، ليس مناطق ولايته فحسب، بل شمل تنقله المناطق الأخرى، خاصة ذمار وصنعاء واليمن الأسفل، يذكر ذلك ابن عامر بقوله: "وكان يجعل شطر الإقامة بذمار واليمن الأسفل وشطرها بصنعاء اليمن، أيام الشتاء بالجَنَد".
ولنا أن نطرح سؤالاً، وهو لماذا تختلف سياسة الإمام المتوكل إزاء ولاته؟ فهنا نجده يطلق يد محمد بن الحسن في مناطق ولايته، يعين ويعزل من يريد، بينما عزل أخاه عبدالله بن القاسم عن ولاية ذمار. وكان متولياً لذمار من عهد أخيه الإمام المؤيد. وكان عَزْله بسبب شكوى وصلت إليه عن طريق أحد القضاة فيها، وهو القاضي يحيى بن محمد الشبيبي؛ لأن عبد الله بن القاسم زاد في فرض الأموال لتأديب ومعاقبة أهالي ذمار. وعين الإمام بدلاً من أخيه السيد أحمد بن هارون الهدوي.
وعلى الرغم من أن عبدالله بن القاسم طلب من أخيه إعادته إلى الولاية في ذمار، عندما اتجه إليه وهو في شهارة، ورافقه إلى صنعاء، ثم إلى ضوران، إلا أن المتوكل رفض ذلك، فلم يكن منه إلا أن لزم بيته بذمار، وقطع مواصلته لأخيه الإمام، حتى أنه لما وصل الإمام إلى ذمار لم يلتق به، واستمر على ذلك حتى وفاته سنة (1069ه/1659م) . يقول ابن عامر: "وهي ولاية واسعة، ذات حصول نافع".
لقد اتسمت سياسة الإمام المتوكل إسماعيل الإدارية في توزيع الولايات على أفراد أسرته كل حسب أهميته، دون الاهتمام بإيجاد نظام إداري واضح ومنظم، لأسباب كثيرة من ضمنها ضغوط أفراد الأسرة في اختيار مناطق ولاياتهم، خاصة من كانوا يتمتعون بمراكز نفوذ كبيرة مثل محمد بن الحسن وأخيه أحمد بن الحسن، حيث أن اعتماده عليهما في كثير من شؤون الدولة جعل الأمر أقل وضوحاً.
لقد كان الإمام المتوكل يعين ويعزل الولاة في مختلف الولايات، حسب الظروف، وفي الولايات البعيدة عن مراكز القوى، فقد اختلفت سياسته إزاء ولاته من شخص لآخر حسب مصلحة الدولة كما يراها، فكما رأينا أطلق يد محمد بن الحسن في جميع اليمن الأسفل، وترك له حرية تعيين من يريد، سواء كانوا من أبنائه أم من غيرهم. وهذا نتيجة لقوة محمد بن الحسن كما رأينا. وكان له ولأخيه أحمد بن الحسن الفضل الكبير في توسيع حدود الدولة من حدود عُمان جنوباً إلى حدود الحجاز شمالاً. وتوحدت اليمن، وحُكمت مركزياً من عاصمة المتوكل (ضوران) .
ولكن ليس معنى هذا أننا نستطيع إنكار حقيقة هامة، وهي: أن الإمام المتوكل أثبت منذ توليه الإمامة بأنه أكفأ آل القاسم وواحداً من أقدر حكام اليمن في تاريخه الطويل، فقد تمكن من إعادة السيطرة المركزية على كل اليمن الطبيعية، كما سنرى، ولكن من الطبيعي أن يكون لشخص مثل محمد بن الحسن نفوذ كبير وسلطة قوية، لدرجة أنه أطلق عليه أحد مبعوثي السلطان العثماني (ملك اليمن) فيذكر يحيى بن الحسين من خلال وصف مبعوث السلطان العثماني-إلى اليمن_لنفوذ محمد بن الحسن قوله: "إن كان ملك في اليمن فهذا هو، غيره ما فيه شيء". وهذا دليل على نفوذه الواسع ومركزه القوي.
إن أشخاصاً مثل محمد بن الحسن وأخيه أحمد بن الحسن لا يُعتقد بأن الإمام المتوكل سيفكر في عزلهما لأسباب هامة، منها قوتهما وصلاحيتهما للحكم، فكان محمد بن الحسن سنداً وعوناً لعمه المتوكل في كل ما يحتاج إليه، وكان بمثابة الدعامة الرئيسية للدولة، فلم يبالغ المؤرخ يحيى بن الحسين عندما قال: "وكان القائم معه محمد بن الحسن، وإليه أكثر اليمن، فكانت الأمور في أيامه جميلة، وأحوال الناس مستورة، فلما مات ظهرت العجائب، وما زالت الأمور إلى نقص وفيها غرائب". وفي مكان آخر من المخطوطة يقول: كان محمد بن الحسن مطلعاً على جميع الأمور، حافظاً للجنود، فلما توفي انتثرت أكثر الأمور. لذلك ليس غريباً أن نرى أن سياسة الإمام المتوكل تختلف مع شخصيات أخرى من الولاة، ولم تكن نفس السياسة التي اتبعها مع محمد بن الحسن وأخيه أحمد بن الحسن.
ولكن الإمام المتوكل بعد وفاة محمد بن الحسن سنة (1079ه/1668م) لم يتبع مع أبنائه السياسة نفسها التي اتبعها مع أبيهم، إذ سار على نهج أخيه الإمام المؤيد في عدم توريث الأبناء أو الإخوة، ولكن حسب ما تقتضيه المصلحة العامة للدولة، ولعدم صلاحيتهم لتولي هذه الولاية أو تلك، فنجد هنا يحيى بن محمد بن الحسن كان يريد أن يتولى بلاد والده، فتوسط بعمه أحمد بن الحسن، لكنه رأى منه عدم الإجابة فيما كان يريد؛ لأنه كان يعلم بأن الإمام لن يرضى بذلك مطلقاً. وأخبر الإمام إسماعيل أحمد بن الحسن بأن البلاد التي كان قد ولاّها محمد بن الحسن لأبنائه تبقى لهم على ما كانت عليه من قبل، فالحجرية وبلاد ذمار ليحيى بن محمد بن الحسن، والعدين لإسماعيل بن محمد بن الحسن، وسائر البلاد "لنا النصف وإليكم النصف".
أما عسكر محمد بن الحسن فجعل الإمام عهدتها إلى أخيه أحمد بن الحسن، لكنه اعتذر عن ذلك، وتمزق جنود محمد بن الحسن وتفرقوا.
وكان يحيى بن محمد بن الحسن قد اشتد غضبه من موقف الإمام المتوكل، وسكن في دار المدرسة، واحتجب أكثر أوقاته، ولم يسأل الإمام أو يخاطبه في شيء مما يريده، ثم توفي بعد والده مباشرة، في رجب (1079ه/1668م) "وهو متأثر بألمه، لما كان يريده ويهوى".
أما إسماعيل بن محمد بن الحسن فقد انتقل بعد وفاة والده إلى مقر ولايته العدين، ومعه أخوه أحمد بن محمد بن الحسن، فمات أحمد في الطريق، وقد دخل وادي العدين، وقبر بالمذيخرة. وبعد وصول إسماعيل بن محمد بن الحسن إلى العدين لم يكمل شهر إلاَّ وقد توفي هو أيضاً في العدين، فقبر جنب أخيه بالمذيخرة. فعين الإمام المتوكل على ولاية العدين جعفر بن مطهر الجرموزي، الذي كان صاحب إسماعيل بن محمد بن الحسن ووزيره وكاتبه.
وبذلك انقرضت دولة محمد بن الحسن وأولاده بعد سنة من وفاته تقريباً.
الشخصية القيادية الثانية في دولة الإمام المتوكل هي شخصية أحمد بن الحسن، فإذا كان محمد بن الحسن يعد الرجل السياسي الأول بعد الإمام المتوكل، فإن أخاه أحمد بن الحسن كان يعد رجل الحرب الأول، أو القائد العسكري الأول، حيث وكلّه الإمام لقيادة معظم الحروب، والتوسع في المناطق الشرقية والجنوبية. وتمكن من بسط نفوذ الدولة في تلك المناطق، وعاد محملاً بالكثير من الغنائم، كما سبق أن رأينا. وكان قد ساند الإمام منذ إعلان إمامته، لذلك كان لزاماً عليه أن يمنحه الولايات مثل غيره من أبناء الأسرة. فأعطاه بعض ولايات في اليمن الأسفل، منها ولاية (ذي السفال) التي كان المتولي لها المهدي بن الهادي النوعة من أيام الحسن بن القاسم والإمام المؤيد، فلما وصل المتوكل إلى الإمامة عزله عنها، وولى تلك الجهة ابن أخيه أحمد بن الحسن. هذا إلى جانب (الغراس) التي كانت المقر الرئيسي لأحمد بن الحسن حتى وفاته.
وبعد وفاة محمد بن الحسن منحه الإمام المتوكل نصف ولايته، كما سبق أن رأينا.
وكان أحمد بن الحسن يريد إعطاء ولاية العدين لابنه محمد بن أحمد ابن الحسن، بعد وفاة واليها إسماعيل بن محمد بن الحسن، غير أن الإمام هذه المرة حسم الأمر ورفض إعطاءها له، وكأنه لا يريد أن تتبع أحمد بن الحسن مثلما كانت تابعة لأخيه محمد بن الحسن، وأراد أن تكون تابعة له مباشرة، ويعين عليها والياً من قبله، وتكون عائداتها له، ربما بسبب خصوبتها، حيث فرض الإمام على الوالي الجديد جعفر بن مطهر الجرموزي مبلغاً قُدِّر بستة آلاف شهرياً؛ لأنه كان متقبلاً لبلاد العدين مقابل هذا المبلغ. والمتقبل عادة يرسل المبلغ المتفق عليه لبيت المال، ويتضح أنه مبلغ كبير، لذلك أثقل الجرموزي كاهل أهالي العدين بالمطالب.
أما الأخ الثالث لمحمد بن الحسن وأحمد بن الحسن فهو الحسين بن الحسن بن القاسم، فقد ولاَّه الإمام رداع، وبعد فتح بلاد المشرق سنة (1065ه/1655م) ولاَّه جميع بلاد المشرق من مدينة رداع إلى حضرموت، وأضاف إليه جهة خبان وبلاد الحبيشية.
وإذا ما انتقلنا إلى سياسة الإمام إسماعيل الإدارية في تثبيت أبنائه في الولايات المختلفة، فسنجده اهتم بذلك، خاصة في العشر السنوات الأخيرة. وقد منحهم الولايات التي يريدونها، فيقول المؤرخ يحيى بن الحسين: (ومكن أولاده في الولايات، وأجاز لهم التصرفات).
وقد وزع الولايات على أولاده كالتالي:
أ - محمد: بصنعاء وجهاتها. وسبق أن رأينا كيف وسع حدود ولايته.
ب - الحسن: في رازح وتهامة. فأصبحت له اللحية والضحي ومور والزيدية، وسبق أن رأينا محاولته أخذ صعدة وجهاتها من علي بن أحمد، وإخفاقه في ذلك. وكان أكثر أبناء الإمام تحركاً في الولايات المختلفة، تنفيذاً لأوامر والده، خاصة في السنوات الأخيرة من حكم الإمام.
ج - علي: ولاَّه مناطق باليمن الأسفل، خاصة بعد وفاة محمد بن الحسن، حيث ولاّه أكثر المناطق التي كانت تابعة لمحمد بن الحسن، فزاد نفوذه، وأصبح من المراكز القوية في الدولة.
د - الحسين: كان عند والده ينوب عنه في بعض أعماله،ويساعده في النظر في أمور من يصل إليه من الشكاة وغيرهم. وبعد أن أصبح ابنه محمد متولياً لصنعاء، حيث كان له قبل ذلك ولاية بلاد آنس وضوران، أعطى الإمام هذه الولاية لابنه الحسين. وكان لا يفارق والده. ولما توفي الإمام لم يكن عنده من أولاده سواه.
ه - أحمد: لقد عين الإمام إسماعيل ابنه أحمد في نصف بلاد عذر سنة (1082ه/1671م) التي كانت تحت ولاية الحسين بن الإمام المؤيد محمد بن القاسم.
وكان الإمام قد عرض عليه ولاية بلاد ذمار، فرفضها، وقال: إنه يريد العودة إلى شهارة وتوليته بلادها، كونه نشأ بها، فوافق الإمام على ذلك، وتوسع أحمد بن الإمام في ولايته في شهارة على حساب ولاية الحسين بن الإمام المؤيد، بدعم من والده الإمام المتوكل، فعارض الحسين بن المؤيد في أمور كثيرة، وكان ينقض أوامره، فاستاء حسين بن المؤيد من ذلك، وكتب إلى الإمام المتوكل يعتذر عن الولاية، ظناً منه أن الإمام سيوقف ابنه عن المعارضة له، فجاء الأمر خلاف ذلك، وزاد من صلاحيات ابنه أحمد فيها.
وعلى الرغم من أن الحسين بن المؤيد قد تراجع عن بيعته لعمه أحمد وبايع عمه المتوكل، ووقف إلى جانبه ضد عمه أحمد، وفي المقابل منحه الإمام بلاد عفَّار وشهارة والشرف الأسفل، إلاَّ أن المتوكل آخر الأمر أطلق يد ابنه أحمد في ولاية الحسين بن المؤيد. ويرى بعض المؤرخين أن السبب في ذلك أن الإمام المتوكل كان قد أمر الحسين بن المؤيد بالخروج على بني حرام في (حلي بن يعقوب)، فاعتذر عن ذلك، فتعمد الإمام المتوكل أن يقلص نفوذه.
ولعل هذا سببٌ غير كافٍ، إذ أن الإمام قد عرض على ابنه ولاية ذمار، البعيدة عن مناطق ولاية الحسين بن المؤيد، كما سبق أن ذكرنا، إلاَّ أنه رفض، وطلب شهارة. وسياسة الإمام تقضي بتثبيت أبنائه في الولايات قبل وفاته، لذلك أعطاه ما أراد. أما الحسين بن المؤيد فقد توفي بعد عامين من تولية أحمد بن المتوكل-أي في سنة (1084ه/1673م)- عند ذلك ولَّى الإمام إسماعيل ابنه أحمد على جميع البلاد التي كانت للحسين، وهي: بلاد عفار، وعاهم، وضاعن،التابعة لشهارة، فتصرف فيها، ولم يبق للولاة السابقين ما كان من إطلاق اليد والنظر عليها. وكان يحيى بن الحسين بن المؤيد وعمه القاسم بن المؤيد يتطلعون إلى توليتها، وأن يبقى أحدهم فيها بعد وفاة الحسين بن المؤيد، لكنه لم يحصل شيء من ذلك. وكانوا يرون أن لهم الأحقية في تولية شهارة، باعتبارها كانت لأبيهم قبل ذلك، فكانوا يحاولون الحد من نفوذ أحمد بن الإمام. لكن الإمام إسماعيل نجح في تثبيت أبنائه في بعض الولايات على حساب مراكز قوى أخرى مثل شهارة وجهاتها، وصنعاء وجهاتها، ومناطق اليمن الأسفل، وضوران وآنس، غير أنه أخفق في الشمال، في صعدة وجهاتها، كما سبق أن رأينا.
أما محمد بن الحسين الذي أجاب الإمام إسماعيل من بداية دعوته، وشارك في الحرب بين إسماعيل وأخيه أحمد. وكان لمحمد بن الحسين دور في نصر قوات الإمام إسماعيل-كما رأينا سابقا-كما أنه كُلف بالتوجه للمناطق الشمالية مرات عديدة للقضاء على الخارجين على الدولة أوالمتمردين، ولعل أبرز مثال على ذلك الشيخ يحيى بن روكان، لذلك لم يكتف الإمام إسماعيل بأن يبقيه في ولايته السابقة بلاد البستان، بل أضاف إليه حفاش وملحان وبلاد الشرف، ثم أُبدلت الشرف بحراز. واستمر في ولايته حتى توفي، فعرض الإمام ولايته على أخيه المؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم، لكنه رفض توليها. وكان بعيداً عن المناصب السياسية حتى وفاته.
ولعل الإمام المتوكل رأى أن يحيى بن الحسين أحق بولاية هذه المناطق، أو أنه أراد أن يسكته عن الاعتراض على سياسته التي كان يرى فيها يحيى بن الحسين بعض هفوات أو أخطاء، والتي لا يخلو معظم الحكام والأئمة من ارتكاب مثلها.
وهناك أشخاص من آل القاسم قد لا يعدون من مراكز القوى الهامة، لذلك جعلهم الإمام ولاة لمناطق أقل أهمية، منهم على سبيل المثال أحمد بن الإمام المؤيد، الذي جعله الإمام المتوكل والياً لبلاد وادعة.
وبذلك يكون الإمام المتوكل قد عين معظم أفراد أسرة الإمام القاسم في ولايات مختلفة من اليمن شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، كلٌ حسب أهميته في الدولة، وما قام به من دور في تثبيت دعائم دولة المتوكل.
ومن البديهي أن ولايات اليمن في تلك الفترة لم تكن جميعها يتولاها أفراد من أسرة الإمام القاسم، فعين الإمام المتوكل على كثير من الولايات شخصيات من خارج الأسرة، وكان معظمها مناطق ذات أهمية كبيرة، سواء من حيث الموقع، أو من حيث الخصوبة، وكذلك الموانئ الهامة.
لقد كانت معظم هذه الشخصيات معينة من قبل الإمام مباشرة، وفي مناطق أخرى كان التعيين من قبل محمد بن الحسن، خاصة في مناطق ولايته في اليمن الأسفل، كذلك أحمد بن الحسن عين في مناطق ولايته وفي المناطق التي كان يقوم بإخضاعها لسلطة الدولة، سواءً كان في الشرق أم في الجنوب. ولكن في هذا التعيين كان لا بد من موافقة الإمام عليه في معظم الأحوال.
وفي بعض المناطق أبقى الإمام الولاة السابقين على ولاياتهم، خاصة المناطق التي كان يتولاها أسر كانت تتوارث ولاية هذه المناطق. منها على سبيل المثال أسرة آل شرف الدين، وكانت كوكبان مقراً لهذه الأسرة، وكان المتولي لها عند وصول الإمام إسماعيل إلى الإمامة هو الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين. وكان مضافاً إليها لاعة وشبام، فأقره الإمام عليها، وأضاف إليه ولاية الطويلة، التي كان واليها عز الدين بن دريب، وهي تقع إلى الغرب من كوكبان. وبعد وفاة الناصر بن عبد الرب سنة (1072ه/1662م) جعل الإمام بلاده إلى ابنه عبد القادر بن الناصر. وظلت أسرة الإمام شرف الدين تتوارث ولاية هذه المنطقة إلى فترات متأخرة. وكانت تعتبر كوكبان وجهاتها من المناطق الخاصة بها منذ أن اتخذها المطهر بن الإمام شرف الدين معقلاً، دوّخ العثمانيين منه.
وقد وقف الناصر إلى جانب الإمام إسماعيل خلال حربه مع أخيه أحمد على الإمامة. أما بعض الذين وقفوا إلىجانب أخيه أحمد فقد عزلهم الإمام عن ولاياتهم. منهم على سبيل المثال عز الدين بن دريب، الذي كان متولياً للطويلة من عهد الإمام المؤيد، فعزله المتوكل عنها، وضمها إلى ولاية الناصر بن عبد الرب، كما رأينا سابقاً، وقد عاتبه المتوكل على مناصرته لأحمد قائلاً: "إنه لا ينبغي من مثلكم وأنتم بمحل من العلم أن تكونوا بُغاة علينا، ومحاربين لنا، فأجاب السيد عز الدين دريب: إن الإمامة ظنية اجتهادية، وصنوكم أحمد المتقدم في الدعوة عليكم". وعلى العكس من ذلك فمن ناصره وأيده في إمامته أبقاه في ولايته، بل قد يضم إليه مناطق أخرى، فنجد المطهر الجرموزي كان متولياً لبلاد عتمة من أول دولة المؤيد، فأقره الإمام إسماعيل على هذه الولاية الخصبة، واستمر بها حتى وفاته سنة (1076ه/1665م)، وقد بلغ عمره فوق الثمانين عاماً.
وبعض الولايات كانت لأشخاص من خارج الأسرة، لكنه عزلهم منها، ويرجع ذلك إلى أن الإمام المتوكل قد وعد المناصرين له من أبناء إخوته إعطاءهم الولايات التي ترضيهم، فنجده يضطر إلى عزل بعض هؤلاء الولاة، وإعطائها لأبناء إخوته، أو أنه يضم مناطق بعض الولايات إلى ولايات أبناء إخوته، فنجده مثلاً يعزل المهدي بن الهادي النوعة عن ولاية ذي السفال باليمن الأسفل، وكان متولياً لها من أيام الإمام المؤيد، وأعطاها لابن أخيه أحمد بن الحسن. كما عزل المتولي لحفاش وملحان وأعطاها لابن أخيه محمد بن الحسين.
وليس معنى هذا بأنه عزل كل الولاة من خارج الأسرة وعين بدلاً منهم من الأسرة، فهناك ولاة أبقاهم الإمام في ولاياتهم، واستمروا بها حتى وفاتهم، بل إنه في بعض الولايات عند وفاة هؤلاء الولاة كان يعين بعدهم أبناءهم أو إخوتهم، فنجده في الزاهر، وهي بلد من الجوف. كان واليها الأميرصالح بن الحسين الجوفي الحمزي، ظل والياً لها حتى وفاته سنة (1067ه/1657م). وبعد وفاته ولّى الإمام أخاه الأمير على بن الحسين الجوفي الحمزي. كذلك زبيد كان المتولي لها الآغا محمد بن ناصر المحبشي، فلما توفي سنة (1069ه/1659م) جعلها الإمام لولد أخيه عبد الله بن سراج المحبشي.
ولا بد أن نؤكد هنا بأن مناطق اليمن يمكن تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول: المناطق التي حُكمت مباشرة من قبل ولاة يأمر الإمام بتعيينهم، سواء كانوا من أسرة الإمام القاسم أو من خارج الأسرة.
أما القسم الثاني: فهي المناطق التي اكتفى الإمام بإبقاء زعمائها المحليين ليديروا شؤونها، وفي المقابل إرسال ما عليهم من حقوق للدولة والخطبة للإمام. بمعنى أنهم كانوا بمثابة ممثلين للدولة في مناطقهم.
المناطق الساحلية والموانئ
كانت الموانئ اليمنية، وبالأخص: ميناء المخا، تدر على خزينة الدولة أموالاً كثيرة، من الضرائب المفروضة علىالتجارة، وتصدير البن، ومقابل خدمات السفن الأوروبية العاملة بين الشرق والغرب. وبات له شهرة عالمية بصفته أهم وأكبر موانئ الجزيرة واليمن.
ولم تكن تجارة البن المزدهرة وحدها هي كل تجارة الشركات والتجار الأوروبيين من ميناء المخا، بل كانت التوابل والزبيب واللوز وغيرها مما كان يُنقل بين الشرق والغرب، ويشكل ربحاً كبيراً لهم. لذلك اهتم الإمام إسماعيل بالمناطق الساحلية عامة والموانئ بشكل خاص، لأنها تُشكل مصدراً لزيادة إيرادات الدولة، فعين عليها ولاة كانوا في معظم الأحيان من الموالي والعبيد، الذين كانوا من أهل الثقة.
وكان الإمام المؤيد وإخوته الحسن والحسين قد اعتمدوا عليهم، فعين الحسن بن القاسم الفتى سعيد بن ريحان على المخا، وعين الفتى سعيد المجزبي على اللحية والضحي.
واتبع الإمام إسماعيل هذه السياسة، فاعتمد على الموالي والعبيد في كثير من المهام، وأوكل إليهم مناصب ذات أهمية في مناطق متعددة، خاصة الساحلية والتجارية، وذلك لأسباب، لعل أهمها ما ذكره الدكتور حسين العمري، منها: ضمان عدم خروجهم وتمردهم على الدولة أو الإمام، والولاء والطاعة المؤكد لسادتهم، وسهولة عزلهم ومصادرة أملاكهم في أي وقت. وهو ما حدث كما سنرى لاحقاً.
وليس معنى ذلك أن كل من عينهم الإمام على المناطق الساحلية والموانئ كانوا من الموالي والعبيد، فهناك شخصيات أخرى تم تعيينها في بعض تلك المناطق.
وكانت سياسته الإدارية فيها كالتالي:
[المخا]
لقد كان المتولي لهذا الميناء الهام قبل وصول الإمام إسماعيل إلى الإمامة هو سعيد بن ريحان. ولاّه الحسن بن القاسم. واستمر في ولايته له إلى بداية عهد الإمام المتوكل، ثم عزله وعين والٍ آخر هو السيد محمد بن أحمد بن الإمام الحسن المؤيدي. وأضاف إليه بلاد حيس وما إليها من المخاليف المتصلة بالمخا، إلى جانب ولايته السابقة للعدين.
وبعد وفاته سنة (1063ه/1653م) عين الإمام السيد زيد بن علي بن جحاف، ثم عزله في سنة (1080ه/1669م)، ولعل سبب عزله له ما ذكره يحيى بن الحسين، "وهو عدم توفر المحصول، وتناقصه عليه". فمن المرجح أن الإمام رأى أن نقص إيرادات الدولة من ميناء هام مثل المخا يجعل من المحتم عليه عزل واليها، خاصة أن أهالي المخا كانوا يشكون من هذا الوالي بسبب ما كان قد جرى عليه من زيادة المطالب، وما كان يفرضه على التجار من ضرائب ومطالب باهظة. وفي المقابل يشكو من تناقص المحصول عليه! لذلك استغل الإمام قدوم زيد بن جحاف إليه في ضوران فعزله، وعين بدلاً منه السيد حسن بن مطهر الجرموزي، إلا أنه أيضاً زاد في فرض الضرائب الباهظة على أهالي المخا والتجار، ليستطيع الإيفاء بالمقررات السنوية المفروضة عليه من الدولة.
[عدن]
كان المتولي لها عند وصول الإمام إسماعيل إلى الإمامة هو الحسين بن عبد القادر. وكان والده الأمير عبد القادر من الموالين للإمام المؤيد، ولكن ابنه الحسين،كان خلاف والده من ناحية سوء المعاملة، من ذلك أنه أخذ أموالاً من أمير ممباسا عند وفاته في (القنفذة) بعد عودته من الحج، وقتل بعض أتباعه، وحبس من بقي منهم. فكان السبب المباشر في التجهيز عليه والاستيلاء على عدن ولحج وخنفر، كما سبق أن ذكرنا.
أما عدن فقد عين عليها أحمد بن الحسن مولاه المسمى ياقوت إسماعيل. وعين على لحج بعض أتباعه وقد تعاقب على ولاية عدن عدد من الولاة مثل المخا منهم: أمير الدين العلفي، الذي عُين على ولاية بندر عدن والشحر بعد ياقوت إسماعيل، وكذلك فرحان تولاها مدة ثم عُزل عنها سنة (1083ه/1672م) ، وعند وفاة الإمام كان المتولي لها السيد حسن الحرة.
وكانت عدن أولى المناطق الجنوبية التي تم الاستيلاء عليها وإخضاعها لسلطة الإمام إسماعيل لأهميتها وأهمية موقعها الاستراتيجي بعد المخا في تلك الفترة.
[جزيرة كمران واللحية والضحي ومور]
كان المتولي لها سعيد المجزبي، وكان مملوكاً للحسن بن الإمام القاسم. وتولى هذه المناطق من أيام الحسن بن القاسم وفتحه لتلك الجهات، واستمر والياً عليها حتى سنة (1080ه/1669م)، وفي هذه السنة رأى الإمام إسماعيل تقليص نفوذ سعيد المجزبي، فعزله عن الضحي ومور، وولاّها من قبله. وبقي سعيد المجزبي متولياً لكمران واللحية.
وفي سنة (1083ه/ م) عزل الإمام سعيد المجزبي عن بقية الولايات، وهي كمران واللحية، وقد أصبح كبيراً في السن، واستمر في ولاية هذه المناطق حوالي أربعين عاماً. وبعد أن عزله المتوكل أمر ابنه الحسن بالتوجه إلى كمران واللحية وأخذها من سعيد المجزبي، فولاّها من قبله من يثق به، وأخذ ما في جزيرة كمران من السلاح مع العسكر والمدافع. ولم يحمل المجزبي إلاّ ما يخصه من أثاثه. وعند وصول الحسن بن الإمام المتوكل إلى بندر اللحية وجد نوعاً من القوارب، تسمى الغربان، وهي خاصة بالمجزبي، فاستولى عليها، ولم يعترض المجزبي على شيء؛ بل قال: أنه من جملة الخدم، غير متكبر على الإمام وأن البلد بلده، والبندر بندره، ووصل المجزبي إلى ضوران واستقر لدى الإمام.
ولعل هذه من الأسباب التي شجعت الأئمة على تعيين الموالي على الموانئ والمناطق الساحلية، كما سبق أن ذكرنا.
وهنا يذكر يحيى بن الحسين أن من أسباب عزل سعيد المجزبي عن ولايته تلك هو أن الإمام المتوكل أصبح يخشى منه؛ لأنه ربما كان يخالف أوامره، وأنه ربما قد كاتب إلى جهات جدة ومصر وسواكن، وحصَّن كمران وقوَّاه، فكان سبب حصول الوهم مع الإمام، لذلك أمر ابنه بالتوجه إلى تلك الولاية وعزله عنها، ومن المرجح أن هذا الاستنتاج من المؤرخ يحيى بن الحسين لم يكن صحيحاً، لكنه كرر كلمة ربما، وهذا يؤيد بأنه لم يكن واثقاً من صحة الخبر، حيث لم يكن الأمر قاصراً على كمران واللحية، وهو ما يؤيده يحيى بن الحسين نفسه، بقوله: "إن جميع السواحل تحولت أمورها، وتغيرت أحوال ولاتها، وتبدلت أعمالها، هذا المذكور سعيد المجزبي، والسيد زيد بن علي بن جحاف، الذي كان بالمخا، وفرحان والي عدن، والسيد أحمد بن صلاح، متولي جازان، ومدينة زبيد عُزل واليها عبد الله بن سراج المحبشي"، ولعلَّ ذلك كان نوعاً من الإصلاح الإداري في السنوات الأخيرة من حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم.
تعيين القضاة
لقد كان القضاء من المهام الأساسية التي اهتمت بها الدولة، سواءً في عهد الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم، أم في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل، الذي عين القضاة المناسبين في مناطق اليمن المختلفة. وكان هؤلاء القضاء من العلماء المبرزين، وبعضهم قد وصل لمرحلة الاجتهاد، وألفوا الكثير من الكتب في شتى العلوم الدينية، لذلك كان يناط بهؤلاء القضاة مهمة التدريس إلى جانب القضاء، فنجد مثلاً عز الدين بن محمد بن صالح بن عبد الله حنش، قد ولِّي القضاء والتدريس في مشهد الإمام المهدي أحمد بن الحسين في ذيبين.
وكان القضاة مثل الولاة يُنقلون من منطقة إلى أخرى، فنجد على سبيل المثال، القاضي عز الدين بن محمد بن علي الجملولي، ولِّي القضاء في كوكبان أيام الإمام المؤيد، ثم عينه الإمام المتوكل قاضياً لبندر المخا، وفي أواخر أيامه تولى القضاء في السودة وتوفي بها سنة (1072ه/1662م) . وفي منطقة أخرى يضطر الإمام إسماعيل إلى نقل القاضي عبد الجبار بن سعيد الحجي من ظفير حجة، بسبب خلافات حصلت مع أهل الظفير، فنقله الإمام إلى بلاد مسور وجهاته، وضم إليه القضاء في حجة أيضاً. وأما الظفير فقد عين عليه القاضي المهدي بن جابر بن نصار العفاري، وكان تولى القضاء في شهارة وما إليها. وقد تعمِّد الإمام نقل القاضي المهدي بن جابر لقوة شخصيته، "فاشتدت وطأته على المتكبرين والرعاع". على حسب تعبير المؤرخ الجرموزي.
أما من وصل إلى مرحلة الاجتهاد، والمكانة العلمية الكبيرة، فكان الإمام إسماعيل يعينه بمثابة قاضي القضاة، من هؤلاء على سبيل المثال القاضي العلامة عبد القادر بن علي المحيرسي. ويصفه الجرموزي بأنه عالماً كبيراً، بلغ في جميع فنون العلم مبلغاً عظيماً. وقد تولى القضاء في جبل تيس، وبلاد كوكبان، والحيمة، وحراز. وكان يُدَرِّس في جبل تيس، "وإن كان ثم قُضاة، فإنما هم في حكم النائبين عنه".
وكانت بعض الأسر تتوارث مهنة القضاء والخطابة والفتوى، إذا كان الأبناء من ذوي العلم والفضل مثل آبائهم أو إخوتهم، فنجد مثلاً في صعدة تولى القضاء قضاة من بيت حابس، المشهورين بالعلم والفضل والاجتهاد، ومنهم أحمد بن يحيى حابس، الذي كان عالماً جليلاً، له العديد من المؤلفات، منها: (تكميل شرح الأزهار) في مجلدين، و(المقصد الحسن) في الفقه، وشرح على (الكافل)، وشرح على (الثلاثين المسألة) في علم الكلام. وكان أيضاً خطيب جامع الهادي في صعدة. وبعد وفاته عين الإمام بعده أخاه الحسن بن يحيى حابس في القضاء والخطبة بصعدة. وفي صنعاء تولى القضاء والخطبة آل السحولي.
الفصل الثاني
سياسة أبناء الجيل الثاني
أحفاد الإمام القاسم بن محمد
(1087-1099ه/ 1676-1688م)
أولاً: الإمام المهدي أحمد بن الحسن بن القاسم
(1087-1092ه/1676-1681م)
دوره السياسي قبل توليه الإمامة
لقد سبق أن تناولنا سياسة الإمام المتوكل على الله إسماعيل، حيث كانت فترة إمامته باليمن حوالي ثلاثة وثلاثين عاماً، حدث خلالها الكثير من التطورات السياسية البارزة.
وجاءت بعد فترة تولي المتوكل الإمامة الطويلة الناجحة فترتا حكم قصيرتان، أولهما فترة حكم الإمام المهدي أحمد بن الحسن.
وهنا لا بد أن نتعرف على السياسة التي اتبعها الإمام المهدي أحمد بن الحسن خلال الفترة التي تولى فيها الإمامة. وكانت هذه الفترة حوالي خمس سنوات، لعله قد سار فيها على خطى الإمام المتوكل على الله إسماعيل، واتبع سياسته، كما سنرى لاحقاً.
وقبل الدخول في التطورات السياسية في عهد الإمام المهدي لا بد أن نُجيب على تساؤلات هامة، منها: كيف كانت نشأة أحمد بن الحسن؟ وما هو الدور الذي لعبه في عهد عمه الإمام المؤيد؟ وأخيراً كيف أصبح من أبرز وأهم مراكز القوى في عهد عمه الإمام المتوكل إسماعيل؟
ولد أحمد بن الحسن سنة (1029ه/1620م) من أَمَةٍ حبشية، أهداها الوالي العثماني محمد باشا لوالده الحسن. وكانت نشأته وتربيته في حياة والده الأمير القائد السياسي، الذي ساهم في الحروب ضد الأتراك، وفي توطيد حكم أسرته بعد الاستقلال.
وقد أتيح لأحمد بن الحسن مع أخيه محمد في تلك النشأة قسطاً وافراً من العلوم والمعارف الأدبية كغيره من أترابه وأبناء عمومته. واستفاد من ملازمته لوالده كثيراً، إذ أن والدته توفيت وهو صغيرٌ فنشأ في حجر والده، ولم يفارقه في الأغلب ليلاً ولا نهاراً ، ولا سفراً ولا حضراً "فعرف ما كان عليه والده الحسن من تراتيب الدولة، ومعرفة أقدار الناس، وما يستحقونه من العطاء والإكرام".
وعندما توفي والده الحسن سنة (1048ه/1638م) كان ابنه أحمد قد بلغ حوالي تسعة عشر عاماً، أي أنه لا يزال في بداية الشباب، فاتجه إلى عمه الحسين بن القاسم وهو بذمار، يطلب منه إعطاءه ولاية، فعرض عليه عمه ولاية وصاب، لكنه رفضها، وقال: "هي حقيرة لا تقوم بالحال، ولا يُنتفع بها في جميع الأعمال" .
وكان أحمد بن الحسن وأخوه محمد يعتقدان أن الإمام المؤيد سيجعل لهما أمر البلاد التي كانت لوالدهما، غير أن الإمام المؤيد رأى أن أخاه الحسين هو الأولى بها منهما، ربما لجهوده الكبيرة مع الإمام المؤيد أولاً، وثانياً لأن الحسين بن القاسم كان أكثر خبرة وعلماً وعدلاً في جمع الواجبات، خاصة أن الإمام المؤيد كان يتحرى الدقة فيما يتعلق بحقوق الدولة وواجباتها، لذلك اقتضى نظره أن البلاد التي كانت مع الحسن باليمن الأسفل تكون إلى أخيه الحسين "وأمر محمد وأحمد أبناء الحسن بالتوقف على رأي عمهما الحسين في الإقدام والإحجام، والحل والإبرام. ولا يقدمان ويؤخران إلا برأيه" .
ولم يكن أحمد بن الحسن في هذه الفترة يتصرف بذكاء، ربما لأنه لا يزال حدث الحسن، أي أنه لا يزال في سن التهور وعدم التريث، لذلك نجده يخرج على عمه الإمام المؤيد مرتين: الأولى كانت في سنة (1049ه/1639م) حينما اتجه إلى عتمه وطرد واليها، واستولى على عائداتها غصباً، فجهز عليه الإمام المؤيد أخاه الحسين بن القاسم. وجرت بينهما حروب يطول شرحها في منطقة "الحوادث" . ثم استقر بحصن ذي مَرْمَرْ مع أتباعه.
أما الخروج الثاني فكان في سنة (1051ه/1641م) عندما علم الإمام المؤيد وهو في شهارة أن ابن أخيه أحمد بن الحسن قد تحصن في حصن ذي مَرْمَرْ بالغراس، وجمع حوله بعض أتباع ورجال والده، وأنه ينفق من أموال يعتبرها الإمام المؤيد أنها من خزينة بيت المال، لذلك أرسل إليه يسأله عن هذه الأموال التي يتصرف فيها، فإن كانت لبيت المال فعليه إعادتها إلى المؤيد، وإن كانت إرثاً صارت لجميع الورثة. عند ذلك رأى أحمد بن الحسن أنه لا بد من الخروج من حصن ذي مَرْمَرْ، مصطحباً معه بعض أتباعه وما لديه من أموال، واتجه إلى خولان ثم إلى بلاد عنس، ومنها إلى بلاد قايفة. فلم يكن من الإمام المؤيد إلا أن أصدر أوامره إلى أخيه إسماعيل بن القاسم في ضوران ومحمد بن الحسن وعبد الله بن القاسم في ذمار يحثهم على أن يتبعوا أحمد بن الحسن للقبض عليه وعلى أتباعه. وكان أحمد بن الحسن متوجهاً إلى قعطبة، فتبعه إسماعيل بن القاسم إلى "نقيل الشيم"، وجرت معركة بين الطرفين كانت الهزيمة فيها لأحمد بن الحسن، "وانتهب العسكر جميع الخزانة والجمال، وما على ظهورها من الدراهم والأحمال" ، فاضطر أحمد بن الحسن إلى الهروب إلى عدن، محتمياً بأميرها الحسين بن عبد القادر. وعندما أدرك خوف الأخير من المؤيد وتغير معاملته له اتجه إلى يافع، حيث أكرمه مشائخها وزوجوه، فكاتبهم الإمام، وبذل لهم الأموال، لكنهم رفضوا إعادة أحمد بن الحسن إلى المؤيد ما دام لديهم حتى يريد الخروج بإرادته.
ولما رأى الإمام المؤيد أن استخدام القوة ضد ابن أخيه لم يجد نفعاً حاول استمالته إلى جانبه بالطرق السلمية، فأرسل إليه وهو بيافع، القاضي الحسن بن أحمد الحيمي، الذي طلب منه العودة إلى الإمام ومصالحته، فعاد إلى الإمام وصالحه وزوجه إحدى بناته. وفي سنة (1053ه/1643م) أذن له بالانتقال إلى مدينة صنعاء والسكون بها، وقرر له جميع ما يحتاج وأتباعه وبيوته.
ومما لا شك فيه أن هذا الخلاف الذي حدث بين الإمام المؤيد وابن أخيه كان له أثره في عدم استقرار الدولة، واستغرق ذلك من الإمام المؤيد جهداً ووقتاً. لكنه يدل على أن أحمد بن الحسن كان شجاعاً طموحاً، غير أنه لم يستطع أن يستغل ذلك الطموح وتلك الشجاعة لصالح الدولة، بل كان سبباً في زعزعة أمنها. وعلى العكس من ذلك موقفه في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل الذي استفاد من ذلك الطموح والشجاعة فيما يخدم الدولة القاسمية، ويوسع من حدودها، كما سبق أن رأينا في الفصل الخاص بالمتوكل إسماعيل.
وما أن توفي الإمام المؤيد حتى كان أحمد بن الحسن أكثر نضجاً وإدراكاً لمختلف الأمور، لذلك نجده يكون من أوائل المبايعين للمتوكل هو وأخيه محمد بن الحسن، كما ناصراه ضد أخيه أحمد بن القاسم. وكما سبق أن رأينا كافأهما الإمام المتوكل بأن منحهما الولايات الهامة، وأصبحا من أهم مراكز القوى، واعتمد عليهما اعتماداً كبيراً في تسيير شؤون الدولة وتوسيع حدودها. فكان أحمد بن الحسن القائد العسكري الأول في دولة المتوكل، وأنه لولاه لما تمكن الإمام المتوكل من توسيع حدود هذه الدولة بتلك الصورة التي وصلت إليها. ويصفه كثير من المؤرخين بأنه كان قائداً بارعاً شجاعاً، فنجد المؤرخ أبو طالب يصفه بقوله: "هابه من بأقصى البلادن، ومن بمكة والشام وأرض عُمان ..... وكان سيف المتوكل على الله الذي يفزع إليه في جميع الأمور الصعاب، ويشتت به الجموع والأحزاب. بل هو لعله الغاية في قيامه، وواسطة عقد نظامه" . أما ابن عامر فيقول: "كان عوناً للإمام المتوكل. قام بنصرته جداً وجهداً، ومحبة صادقة، وعزيمة ظاهرة" .
ولن ندخل في تفاصيل ما قام به أحمد بن الحسن من جهود كبيرة في توسيع حدود الدولة وفرض هيبتها، فقد سبق أن ذكرنا بالتفصيل الجهود التي قام بها في محاربة المناطق التي رفضت الدخول في طاعة الدولة القاسمية، وأخضعها بقوة السلاح، والتي كان من أهمها عدن، البيضاء، يافع، وحضرموت. كما هابته المناطق الأخرى وأعلنت ولاءها للدولة سلماً، خوفاً من أن يغزوهم أحمد بن الحسن، حتى أُطلق عليه لقب "سيل الليل" لكثرة خروجه للغزو ليلاً. فكان يندفع على أعدائه في الليل فيفاجأهم كالسيل.
وأصبحت له مكانة هامة حتى في خارج اليمن، فنجده على سبيل المثال في سنة (1072ه/1662م) عندما كان في عدن يرسل بهدية إلى سلطان الهند، وهي "ثمان رؤوس من الخيل الجياد، أرسل معها رسولاً إلى الحضرة الهندية. فسار تلك الجهة رسوله، ثم زلجه سلطان الهند، وضاعف عليه هديته".
وبعد وفاة أخيه محمد بن الحسن أصبح أبرز شخصية قيادية أكثر من ذي قبل، حيث تولى المناطق الهامة، وعين عليها ولاة من قبله بموافقة الإمام المتوكل وامتلك ثروة كبيرة سواءً من الغنائم التي حصل عليها من البيضاء ويافع وحضرموت، أو من مناطق ولايته، والتي كان أهمها ميناء عدن، فكان محصولها أو عائداتها تصل إليه حيث يذكر لنا يحيى بن الحسين ذلك بقوله: "وفي هذه الأيام طلع السيد حسن الحرة من بندر عدن إلى حضرة أحمد بن الحسن بما معه من محصول البندر" . بينما كان محصول المخا للإمام المتوكل، إذ أنه بعد قدوم حسن الحرة من عدن إلى أحمد بن الحسن جاء السيد حسن الجرموزي من المخا إلى الإمام بمحصول الموسم "يقال فوق مائة حمل من البز والدراهم" .
وكان لأحمد بن الحسن مشاركة في التجارة، فكانت بعض السفن التجارية تصل إلى المخا أو إلى عدن، وهي باسمه.
ومهما يكون الأمر فقد استمر اعتماد الإمام المتوكل على ابن أخيه أحمد بن الحسن طيلة حكمه الطويل، فكان قائد الجيوش لاستعادة مركزية الدولة شمالاً وجنوباً، كما كان رجل المهمات الصعبة في كل الظروف. وقد كان بذلك كله مهيئاً ليكون خلفاً لعمه المتوكل إسماعيل بعد أن أصبح يقارب الستين من عمره. وما أن توفي الإمام المتوكل حتى أعلن إمامته معتقداً أن أحداً لن ينافسه عليها، على الرغم من عدم توفر شرط الاجتهاد الذي يشترطه المذهب الزيدي في الإمام الذي يريد إعلان إمامته.
وصوله إلى الإمامة وموقفه من المعارضين له
لا بد لنا هنا أن نجيب على أسئلة تطرح نفسها، منها:
1- من هم الذين أعلنوا إمامتهم إلى جانب أحمد بن الحسن؟
2- ما هو موقف أحمد بن الحسن من هؤلاء الدعاة؟ وكيف فرض نفسه؟ وقضى على كل واحد منهم؟
3- ما هي الآثار السلبية المترتبة على ظهور عدة أئمة وصراعهم على الإمامة؟
لم يكن أحمد بن الحسن هو الوحيد الذي أعلن إمامته، بل أعلن عدد من مراكز القوى إمامتهم إلى جانبه، ومنهم:
1- علي بن أحمد بن القاسم صاحب صعدة، كان أول من دعا إلى نفسه بالإمامة، عقب ما جرى بين علي بن أحمد وحسن بن الإمام المتوكل من الاختلاف على بعض المناطق الشمالية، وقد سبق ذكر ذلك، غير أنه بعد ذلك الاختلاف، وبسبب مرض الإمام المتوكل، وشعور علي بن أحمد بالقوة نجده يرفض طاعة الإمام المتوكل، ويعلن إمامته. وأرسل الرسائل إلى بعض مراكز القوى من آل القاسم، منهم أحمد بن الحسن، حيث برر له سبب إعلان إمامته، منها: مرض الإمام المتوكل وعجزه، ثم يقول: "فإن وجدنا من هو أرضى منا وأقوم بحق الله اتبعناه وبايعناه، وإلا فنحن قائمون بما يجب بحسب جهدنا وطاقتنا .... وقد أجابنا إلى ما دعونا إليه كافة أهل الشام من سنحان وخولان وهمدان، ومن جُماعة وسائر أهل الشام" . ولمعرفة علي بن أحمد ما وصل إليه أحمد بن الحسن من قوة ونفوذ، وأنه لن يسكت إذا أعلن الأول إمامته نجده يختم رسالته تلك بقوله: "فإن عرفتم من أنفسكم النهضة بهذا نهضتم، وأظهرتم الدعوة، ونحن متبعون على البر والتقوى" .
غير أن أحمد بن الحسن كان أكثر ذكاءً ودهاءً من علي بن أحمد، فلم يكن يريد أن يتيح له الفرصة لإعلان إمامته ومنافسته، خاصة وأن الإمام المتوكل أصبح مريضاً، وربما قرب أجله، وهو يريد أن يكسب أبناء المتوكل عند وفاته إلى جانبه، لذلك ما أن أمره الإمام المتوكل بمحاربة علي بن أحمد-الذي أعلن إمامته وخرج عن طاعة الإمام-حتى نهض لتنفيذ أوامر الإمام في جمادى الأولى سنة (1087ه/يوليو1676م). وما أن استعد حتى جاء خبر وفاة الإمام المتوكل في (5) جمادى الآخر من نفس العام (14 أغسطس).
2- أحمد بن الإمام المتوكل إسماعيل، صاحب شهارة، أظهر النية للدعوة، فحفظ الخزانة، وطلب مفاتيح جميع المخازن من الفقيه حسين بن يحيى حنش، الخازن للإمام المتوكل.
3- القاسم بن الإمام المؤيد، طالبه بعض أهل الأهنوم في البيعة.
4- يحيى بن الحسين بن المؤيد بالله، خرج من شهارة إلى هجرة عذر، وأظهر أنه يريد الدعوة.
5- محمد بن الإمام المتوكل، كان الإمام قد جعله ولي عهده بعده "وقبَّضه مفاتيح خزائن بيت المال، وقال: العهدة عليك في الأعمال" .
6- الحسين بن الحسن بن القاسم أعلن إمامته في منطقة ولايته رداع.
7- أحمد بن إبراهيم بن محمد المؤيدي، أعلن إمامته في العشة.
8- صاحب برط السيد محمد بن علي الغرباني.
9- الأمير عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب صاحب كوكبان، رأى أن يدعو لنفسه بالإمامة.
أما أحمد بن الحسن فكان قد كاتب إلى بعض الأعيان وبعث إليهم بشيء من الأموال، وكتب إليه أهل رتبة جبل ضوران وبعض أتباع الإمام مبايعين له بالإمامة.
هذه أهم مراكز القوى التي كانت موجودة في السنوات الأخيرة من حكم الإمام المتوكل إسماعيل، وإن كان هناك مراكز هامة غير أنها لم تعلن إمامتها مثل علي بن الإمام المتوكل وإخوته الحسن والحسين وغيرهم.
وما أن توفي الإمام المتوكل إسماعيل حتى عمت الفوضى كثيراً من مناطق اليمن بسبب إعلان الكثير من آل القاسم وغيرهم إمامتهم، وعدم الاستقرار على إمام واحد، وما نتج عن ذلك من خلاف وحروب في بعض المناطق.
ولعل أبرز الأمثلة على تلك الفوضى التي عمت معظم المناطق هي ما قام به أبناء عبد الله بن الإمام القاسم من اعتداء على قصر ذمار وانتهابه. وانتهب جنود علي بن الإمام المتوكل سوق جبلة، وقطعوا الطريق إلى سمارة. وحدث بين حسن بن محمد المؤيدي وبين جعفر الجرموزي خلاف في العدين، بسبب أن حسن المؤيدي يريد أن يتولى بلاد العدين، كما كان عليه والده. وكان هناك قتلى من الطرفين. ودخل أهل "سحار" إلى صعدة من أسوارها وقاموا بنهبها. واتجه علي بن المتوكل إلى تعز واستولى على خزانة الشيخ راجح، الذي كان والياً عليها، حينما كان في بيته في بلاد ضوران.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة معظمها تدل على أن الاضطراب والفوضى عم الكثير من المناطق. وهذا شيء طبيعي في ظل غياب الدولة، وعدم وجود قمة الهرم فيها. وقد عبر يحيى بن الحسن عن ذلك بقوله: "وعلى الجملة إن أحوال الناس صارت مضطربة، وأقوالهم مختلفة" . ولم يتفق ذلك قبلهم لأحد" .
وكان كل من أعلن إمامته يحاول أن يكسب المزيد من الأنصار إلى جانبه، متخذاً لقب معين، وهي كالتالي: أحمد بن الحسن في الغراس تلقب بالمهدي، علي بن أحمد بن القاسم في صعدة، تلقب بالمنصور، حسين بن الحسن بن القاسم في رداع، تلقب بالواثق، القاسم بن الإمام المؤيد محمد في شهارة، تلقب بالمنصور بالله، أحمد بن إبراهيم المؤيدي في العشة، تلقب بالهادي، محمد بن علي الغرباني في برط، تلقب بالمهدي.
وبذلك تكون الدولة القاسمية قد دخلت مرحلة جديدة من مراحل التاريخ الحديث، وهي بداية الاضطرابات والنزاع بين مراكز القوى على الإمامة لفترات طويلة، وبهذا العدد الذي لم يسبق له مثيل. غير أن أول من تحرك بعد وفاة الإمام المتوكل، وكان يتمتع بالقوة هو أحمد بن الحسن بن القاسم، حيث أنه في اليوم الثالث لوفاة الإمام المتوكل استدعى إلى الغراس محمد بن المتوكل ومحمد بن أحمد بن القاسم وأحمد بن محمد بن الحسين بن القاسم، وكبار القضاة والعلماء في صنعاء.
وعلى الرغم من أن محمد بن المتوكل قد طلب من أحمد بن الحسن أن يأتي إلى صنعاء للتعزية في الإمام والخوض في مسألة الإمامة، إلا أنه رفض وأصر على حضورهم إليه في الغراس. ولعله بذلك يريد أخذ البيعة في مركز ولايته، مقتفياً أثر الإمام المؤيد والإمام المتوكل حتى يحظى بالدعم من أنصاره وأتباعه في ولايته، وهم كثر. ولكن كيف تمت مبايعة أحمد بن الحسن بالإمامة؟ وهل حقاً أن الإمام المتوكل أوصى أن يخلفه؟
لقد اجتمع السابق ذكرهم من آل القاسم والعلماء في الغراس للتعزية في الإمام المتوكل، ثم للخوض في شأن الإمامة، فدار النقاش في حضرة المهدي أحمد بن الحسن حول من هو الأصلح للإمامة. ثم اتفق القضاة والعلماء على الاجتماع مع محمد بن المتوكل في منزل أعده لهم المهدي أحمد بن الحسن، فلما اجتمعوا استعرضوا الدعاة، ومدى صلاحية الدعاة من عدمه، فذكر بعضهم أن علي بن أحمد بن القاسم، وإن كان عالماً، لكنه "باغي على المتوكل، وكنا مأمورين بحربه" . وأما القاسم بن الإمام المؤيد فرجل جليل عالم، لكنه لا يستطيع النهوض بهذه الخلافة. أما أحمد بن الحسن وإن كان قليل العلم فقد عرف الأمور، وقام بالكثير من الحروب. وله هيبة السلاطين، فكيف إذا دخل في أمر الخلافة. ويكونوا عوناً له في أمر الشريعة. ثم قالوا لمحمد بن المتوكل: أو أن تنهض بهذا الأمر ونكون عونك جميعاً على هذا. ونفرض هذا على أحمد بن الحسن، غير أن محمد بن المتوكل كان يتصف بالزهد والأناة، فقال لهم: " ... الراجح الصنو الصفي أحمد بن الحسن لما ذكرتم من حفظ بيضة الإسلام، وكونه المعروف والمسموع في الشام والعراق وساير الأقطار" .
وعلى الرغم من أن محمد بن المتوكل كان يرى بأن الأصلح للإمامة هو أحمد بن الحسن، إلا أنه طرح عليه بعض الشروط، فإن قبلها بايعه، وإن رفضها عارضه. وكان من هذه الشروط ما يلي:
1- عدم الاحتجاب عن الناس، فإنه كان من قبل بعيد المنال.
2- إعادة الديون التي أخذها من أهلها.
3- أن يبرر لهم سبب ثرائه "وما أنت فيه من شراء الجواري وجمعهن الكثير، وما يصير إليهن من الحلي والملبوس الفاخر، وبيت المال مصارفه معروفة" .
وبعد أن استمع أحمد بن الحسن إلى تلك الشروط، بحضور عدد من العلماء والقضاة أجاب بما يلي:
1- بالنسبة لاحتجابه عن الناس، فإنه في الغالب يكون في بابه الوافدون للطلب، ولم يكن لديه إلا ما هو للجند الخاص به، وأن الإمام المتوكل إسماعيل موجود وبيده حقوق للمسلمين.
2- أما الديون فلأنه أمير مقصود، ولديه أمراء وجنود وأعيان وخدم، وتفد عليه الأعياد، فيضطر إلى الاستدانة، فما يخصه سيقضيه، وما كان على بيت المال فقضاؤه من بيت المال "وبيد كل غريم خط مني فيما هو له، وأين صار. وهم موجودون" .
3- وبالنسبة لما صار إليه من التقلب في النعم، فلديه مستندات من الإمام إسماعيل بما غنمه بسيفه من عدن وغيرها من المناطق التي دخلها مثل لحج وأبين. وأن الإمام المتوكل قد ملَّكه إقطاعاً كانت للأمير عبد القادر صاحب خنفر، وجعل له الربع من المناطق التي فتحها وثلاثة أرباع للدولة.
فاقتنع الحاضرون بتلك الإجابات وبايعوه، وكان أول من بايعه محمد بن المتوكل، ثم محمد بن أحمد بن القاسم، ثم بقية من حضر. واشترطوا عليه عدم قيام من هو أصلح منه، فإن قام من هو كامل الشروط تنحى له.
أما القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال فقد بايعه دون قيد أو شرط، وقال: أنه يقول بإمامة "المقلد"، وكانت وجهة نظره أن الإمام المتوكل إسماعيل كان مقلداً، وأن الاجتهاد قد تعذر. ثم خرج أحمد بن الحسن إلى الديوان العام، وبايعه سائر أصحابه من الجند والمقربين. وكتب الرسائل إلى سائر الولاة من آل القاسم، وثبَّت كل واحد منه في ولايته.
وعلى الرغم من أن الإمام المتوكل إسماعيل كان أوصى أن يكون ولي عهده وخليفته -وإن تلميحاً-ابنه محمد، غير أنه عندما خرج علي ابن أحمد بن القاسم على الإمام، وأعلن إمامته رأى أنه لن يستطيع أن يخضعه ويقضي على دعوته إلا أحمد بن الحسن، لذلك نجده يوصي ابنه محمد بأن لا يعدل عن مبايعة أحمد بن الحسن. وقد أشار المؤرخ يحيى بن الحسين إلى ذلك بقوله: "فقال لمحمد ولده في وصيته الآخرة إن وقع عليه حال فلا يعدل عن أحمد بن الحسن، لأجل يباشر علي بن أحمد وغيره من أولاد المؤيد" .
وكان لمبايعة محمد بن المتوكل لأحمد بن الحسن أثر في دخول معظم آل القاسم تحت طاعته ومبايعته، فقد قام محمد بدور كبير في محاولة إقناع إخوته وبقية أبناء الأسرة بمبايعة أحمد بن الحسن، إذ أنه بعد أن بايع اتجه إلى صنعاء وكتب إلى أخيه أحمد بن المتوكل يخبره بما حدث ويدعوه إلى مبايعة المهدي، فأجابه إلى ذلك. وكان علي بن المتوكل قد أزمع على إعلان الخطبة للقاسم بن المؤيد، فأرسل محمد بن المتوكل إليه السيد محمد بن حسن حميد الدين، الذي أقنعه بمبايعة أحمد بن الحسن، فأجابه إلى ذلك وبايعه.
أما الحسين بن المتوكل فكان قد بايع أحمد بن الحسن، فأقره الأخير على منطقته.
أما الحسن بن المتوكل فكان في أبي عريش وكتب إلى المهدي يأذن له بالوصول إليه لمبايعته، غير أنه لما وصل إلى منطقة "الصلبة" التقى بأولاد النقيب سعيد المجزبي ومعهم أمر من المهدي بأن يعيد المراكب التي استولى عليها منهم في عهد والده، وهي ملك لوالدهم، فعدل عن رأيه في مبايعة أحمد بن الحسن، واتجه إلى شهارة، وبايع القاسم بن المؤيد.
كما قام محمد بن المتوكل بمحاولة إقناع الحسين بن الحسن بالتنازل عن دعوته، ومبايعة أخيه أحمد بن الحسن، فاتجه في بداية الأمر إلى ذمار، والتقى به في منطقة تسمى "منْقَذَة" وحاول إقناعه بمبايعة أخيه غير أنه رفض، وقال إنه لن يدعو لنفسه بالإمامة، لكنه في الوقت نفسه لن يبايع المهدي. وبعد ذلك أرسل إليه محمد بن المتوكل السيد محمد بن حسن حميد الدين، لمحاولة إقناعه، وهو نفس الشخص الذي أرسله إلى أخيه علي بن المتوكل، بعد أن كانا قد عزما على مبايعة القاسم بن المؤيد، فلما وصل إليهما السيد السابق ذكره تراجعا عن ذلك. وبذلك يكون محمد بن المتوكل قد بذل جهداً كبيراً في محاولة إقناع معظم العناصر القوية من آل القاسم بمبايعة أحمد بن الحسن، ولعله كان يرى بأن مبايعة أحمد بن الحسن فيه جمع لكلمة المسلمين؛ لأنه إذا قام غيره حصلت الفتنة لما يمتلكه من الأموال والجنود. وكما عبر يحيى بن الحسين بأن سائر المترشحين يغلب عليهم أيضاً عدم كمال شروط الإمامة.
وبالإضافة إلى القوة التي يتمتع بها أحمد بن الحسن أكثر من غيره، فهو أيضاً لديه الخبرة الكافية في تسيير شؤون الدولة، بحكم ممارسته لها في عهد عمه الإمام المتوكل إسماعيل.
وكانت صنعاء قد بدأ يساورها القلق إذا ما أعلن محمد بن المتوكل إمامته، وأنه إذا ما بايعه الأغلبية فلن يسكت أحمد بن الحسن، وستستمر الفوضى والاضطرابات، فما أن بايع محمد بن المتوكل أحمد بن الحسن طواعية حتى تبعه أهل صنعاء وأهل الحيمة وبايعوه. لذلك نجد يحيى بن الحسن بن القاسم، وهو ابن عم أحمد بن الحسن وكذلك ابن عم محمد بن المتوكل، يشيد بموقف الأخير ويعترض على من حاول إقناعه بإعلان إمامته بأنه لا يريد إلا إثارة الفتنة والفرقة بين المسلمين.
ومهما يكن الأمر فإن أحمد بن الحسن كان بشخصيته تلك قد تمكن من التغلب على معظم مراكز القوى التي نافسته على الإمامة، فتنازل له علي بن أحمد بن القاسم صاحب صعدة، وأرسل برسالة إليه مع أخيه القاسم بن أحمد، ذكر فيها مبايعته له بالإمامة.
ومما لا شك فيه أن علي بن أحمد كان يدرك جيداً مدى القوة والنفوذ التي وصل إليها أحمد بن الحسن، وأنه إن حاربه أو نافسه على الإمامة، فلن يستطيع التغلب عليه، خاصة وأن قبائل الشام كانت قد بدأت ترفع رؤوسها، وتستخف بما يصدر منه من الأوامر، كما أن بعض مناطق ولايته كانت قد مالت إلى القاسم ابن المؤيد، والبعض الآخر إلى أحمد بن إبراهيم المؤيدي.
وبدخول علي بن أحمد تحت طاعة أحمد بن الحسن يكون الأخير قد ضمن معظم المناطق الشمالية إلى جانبه، في حالة استمرار الخلاف مع أحد المعارضين له.
أما يحيى بن الحسين بن المؤيد، والذي أعلن إمامته أيضاً، فقد فارق عمه القاسم بن المؤيد متجهاً إلى أحمد بن الحسن، وبايعه بالإمامة.
ولم يبق من المنافسين أو المعارضين لأحمد بن الحسن غيرأحمد بن إبراهيم المؤيد في جهات صعدة ومحمد بن علي الغرباني في برط والقاسم بن المؤيد في شهارة.
وأما أحمد بن إبراهيم المؤيدي وكذلك محمد بن علي الغُرباني فلم يكن يخشى منهما أحمد بن الحسن. فكان الأول قد دعا إلى نفسه بالإمامة، وأرسل الرسائل إلى الجهات يدعوهم أن ينصبوه إماماً، لتوفر الشروط لديه، غير أنه "لم يرفع لهذه الرسالة أحد رأساً؛ لأن صاحبها كان مناقضاً لما فيها" .
وبالنسبة لمحمد بن علي الغرباني، الذي كان قد ادعى الإمامة أكثر من مرة، منذ عهد الإمام المتوكل إسماعيل. وهنا كرر دعوته، وأرسل بالرسائل والقصائد الشعرية للتنديد بآل القاسم، ومنهم أحمد بن الحسن، إلا أنها كانت غير ذات أهمية؛ لأن اليمنيين صاروا معتادين على مثل ذلك منه.
ولم يبق من المنافسين الأقوياء أمام أحمد بن الحسن إلا القاسم بن الإمام المؤيد في شهارة، حيث كان قد أجابه إلى دعوته شهارة، ورتبة ضوران، وبلاد الشرفين، والأهنوم، وسفيان، والعصيمات، ووداعة، وحجة، وظليمة، وأكثر التهائم.
فما موقف أحمد بن الحسن منه؟ وكيف تمكن من التغلب عليه؟
لقد كان القاسم بن المؤيد كما يصفه الحسين بن ناصر المهلا: "من أعيان العترة فضلاً وعلماً، وتفقداً للمساكين، وتعظيماً للعلماء، وحضرته محط الرحال، ومبلغ الرجال" ، إلا أنه لم يتوفر فيه شرط الاجتهاد، كما أنه لم يكن قد وصل إلى الدرجة المطلوبة من العلم، ولكن إذا ما قورن بأحمد بن الحسن فهو أكثر علماً وفضلاً، فقد وصفه ابن عامر بقوله: "سيداً جليلاً، عالماً، نبيلاً ... حاز كمال الدرجات أعلاها. وحقق في الفروع، وصار مفتيها، وقرأ في الأصولين فبرع فيها ... برز في العلوم، وأجمع الجمهور على كمال معرفته ... فإن القاسم كان في العلم أكمل من الإمام المهدي".
ونتيجة لكل ذلك فإن المهدي خشي من أن تمتد بيعة القاسم، وتشمل مناطق كثيرة، فحاول-أولاً بالطرق السلمية-إقناعه بالعدول عن دعوته، أو أنهما يخضعان لتحكيم القضاة، إلا أن القاسم كان رافضاً ذلك، ومما زاد من صلابة موقف الأخير أن من كان لديه من القضاة، ومن وصل إليه منهم أجمعوا أنه الأحق بالإمامة، فألزموه الدعوة، وأنه أحق بها. وقد أجابه صاحب المنصورة محمد بن أحمد بن الحسن، وهو أول من خطب له ورجحه على والده.
وكان من ضمن المبررات لأحمد بن الحسن أنه دعا لنفسه بالإمامة قبل القاسم بن المؤيد، فسبقت دعوته دعوة القاسم، بايعه معظم آل القاسم والقضاة والعلماء في يوم الأحد 7 جمادى الآخرة، بينما القاسم كانت دعوته متأخرة عنه بيوم، حيث عُقد لبيعته في شهارة يوم الإثنين 8 جمادى الآخرة.
وعلى الرغم من أنه ظهر من الكثير عدم الميل إلى أحمد بن الحسن، إلا أنهم لم يجرؤوا على أن يصرحوا بذلك، لخوف جانبه، لذلك بايعوه مضطرين غير مختارين، أما القاسم بن المؤيد فإن أكثر من بايعه من الخاصة والعامة بايعوه بالاختيار، والقليل منهم كانوا مضطرين لذلك. أما عامة الناس والقبائل فكان أغلبهم مع من استقر أمره، وكانت له الغلبة، فهم لا يميلون إلى أحد منهما، ومنهم من هو غير قابل بإمامة كليهما، وكان مبررهم أن أحمد بن الحسن سيرته سيرة الملوك، مع عدم المعرفة بالعلوم، وأما قاسم بن المؤيد فلعدم كمال علمه واجتهاده، لكنهم سيرضون لمن كانت له الغلبة أيضاً.
وقد حاول كل منهما جاهداً-الوصول إلى الإمامة، غير أن القوة هي الغالبة في معظم الأحيان، ولعل أحمد بن الحسن كان متيقناً بأنه سيخضع القاسم، غير أن ذلك سيحتاج إلى جهد ووقت كبيرين، لذلك وقبل الدخول في الحرب بدأت بينهما المراسلات.
وكانت أول رسالة هي التي أرسل بها القاسم بن المؤيد عقب إعلان دعوته إلى أحمد بن الحسن، وذكر فيها أن أحمد بن الحسن غير كامل الشروط، لذلك فهو غير صالح للإمامة ، وأجاب عليه أحمد بن الحسن بأن الأولى الاجتماع متعللاً بما سبق أن ذكره، وهو أن دعوته سبقت دعوة القاسم وبايعه كثير من العلماء والأعيان والأتباع، ثم أرسل القاسم بن المؤيد برسالة أخرى إلى محمد بن المتوكل ذكر فيها الأخطاء التي ارتكبها أحمد بن الحسن، والتي لا يمكن أن توصله إلى الإمامة منها:
1- خروجه على الإمام المؤيد بالله مرتين، وتمرده عليه، وفند سبب خروجه، وما أحدثه من قتل وإهدار للدماء من جند الإمام أثناء محاربته له في "الحوادث" و"نقيل الشيم". وهذه الدماء مضمونة بالإجماع؛ لأن الباغي يضمن الدم بلا إشكال، ولم يتخلص ويؤدي الدِّية.
2- خروجه بالأموال التي كانت مع والده الحسن، وهي كثيرة، فنهبها العسكر، وبذل منها في مقابل قتل أصحاب الإمام شيئاً كثيراً. ولم يتخلص منها بالغرامة لبيت المال، إن كانت لبيت المال. وإن كانت الأموال ملكاً لوالده فلم يصلح ما بينه وبين ورثة أبيه بالغرامة.
3- ما حصل مع بعض التجار، حيث استولى على أموالهم، والناس مجمعون أنه استدان منهم، ولم يقض شيئاً منها.
4- ضربه لبعض الإماء، وقتله لواحدة منهن.
واتهامات أخرى كثيرة، منها قتل النفوس في عهد الإمام المتوكل بغير حق، وتولى قتل بعضها بيده.
ثم ذكر القاسم في رسالته تلك: أنه يجب على أحمد بن الحسن أن يطلع القاسم وغيره من العلماء كيف تخلص من كل ما نُسب إليه، إما بأحكام شرعية يبرزها أو بشهادة عادلة، فإن هذا المقام الذي ارتقاه يحتاج إلى العدالة، ويكون بعد ذلك الرأي للعلماء وأهل الفضل، وختم رسالته بأن على محمد بن المتوكل واجب البحث عن كل ما سبق من التساؤلات، وعن كيفية إصلاحه، وهو منتظر للرد من محمد بن المتوكل، فلم يكن من الأخير إلا أن أرسل بتلك الرسالة إلى أحمد بن الحسن. وكان لا بد له أن يجيب على كل ما نُسب إليه، ويدافع عن نفسه، فكتب جواباً إلى القاسم بن المؤيد، أجاب على كل التساؤلات التي طُرحت، وبرر كل ما نُسب إليه في تلك الرسالة بمبررات غلب عليها السياسة والتهرب، مما قد يؤكد قوة أحمد بن الحسن، وقدرته على التغلب، من ذلك مثلاً قوله: بأن الإمام المؤيد توفي وهو راضٍ عنه، وزوجه ابنته، وأنه ولاَّه بلاد وصاب، وكان معظماً له مجللاً، وهذا فيه تهرب حيث إن وصاب كان المؤيد قد ولاَّه إياها قبل أن يتمرد عليه، فلم يقبل ذلك منه، واتجه إلى عتمة فحارب السيد مطهر الجرموزي، الذي كان واليها من قبل الإمام المؤيد، وطرده عنها بدون وجه حق شرعي.
وقد أورد يحيى بن الحسين أوجه القوة والضعف في رسالة القاسم بن المؤيد، وفي جواب أحمد بن الحسن، وفند جميع النقاط، ومدى صدق كل منهما من عدمه، وعبر عن وجهة نظره باعتباره عالماً، كذلك من وجهة نظر مستقلة، لم تكن منحازة لأي طرف من الأطراف، لذلك جاءت تعليقاته على الرسالتين موضوعية، معتمداً على الشريعة، ومدى تطبيقها من عدمه في الاتهامات الموجهة لأحمد بن الحسن. ويذكر بأن القاسم بن المؤيد كان محقاً في بعض الانتقادات التي وجهها لأحمد بن الحسن، والبعض الآخر منها لم تكن في محلها؛ لأنها لا تخل بالشريعة الإسلامية بإجماع العلماء.
غير أن يحيى بن الحسين باعتباره من الأسرة القاسمية قد ذكر مآخذ أحمد بن الحسن، وأنه اعتمد على القوة فقط في إخضاع المعارضين له بمن فيهم القاسم بن المؤيد، وفي مجملها انتقاد لسيرة أحمد بن الحسن في عهد عمه الإمام المؤيد، وكذلك عمه الإمام المتوكل، وأن شروط الإمامة لم تكن متوفرة فيه، لذلك كان يذكر دائماً بأنه ملك وليس إمام. وكرر في مخطوطته بهجة الزمن لفظ "الملك الزاهر".
ولم يكن انتقاد يحيى بن الحسين لأحمد بن الحسن؛ لأنه كان يؤيد القاسم بن المؤيد، بل كان يرى بأن القاسم أيضاً لم تتوفر فيه شروط الإمامة، لكنه أكثر علماً من أحمد بن الحسن.
وعلى الرغم من ذلك كان يرى بأن مبايعة أحمد بن الحسن هي الأصلح تجنباً للفتنة واستمرار الحروب، وما يترتب عليه من فوضى واضطراب واختلال الأمن في البلاد.
ومهما يكن الأمر فقد حاول أحمد بن الحسن مرات عدة إقناع القاسم بن المؤيد بالعدول عن دعوته، أو الموافقة على ما يراه معظم القضاة في الأصلح للإمامة، إلا أن القاسم كان يرفض، وبعد المراسلات واجتماع القضاة، والمحاولات التي بُذلت لتجنب الحرب رأى أحمد بن الحسن أنه لا بد من الحرب لحسم الموقف، وليبرز الأقوى. وخرج في شهر رجب من سنة (1087ه/سبتمبر1676م) من صنعاء إلى الغراس مستعداً لحرب القاسم بن المؤيد، وأرسل بعض أتباعه إلى المناطق التي كانت قد أجابت القاسم بن المؤيد، وأصبحت تابعة له، فأرسل الحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم إلى خمر، بعد أن جهزه بما يحتاج من قوة، كما أرسل ابن أخيه إبراهيم بن الحسين إلى ذيبين، وابنه علي بن أحمد إلى لاعة الصلبة وبلاد حجة، وما أمكن من الجهات، كما جهز أحمد بن محمد بن الحسين إلى الصلبة إلى جانب علي بن أحمد بن الحسن. وقد نشبت بين الطرفين معارك ومواجهات، كانت معركة الصلبة أول تلك المواجهات وأهمها، فكان علي بن أحمد بن الحسن قد استولى على قلعتها بالقوة، فلما علم القاسم بن المؤيد جهز ابنه بالجنود، وحدثت معركة بينهما انجلت عن كثير من القتلى من أتباع القاسم، ومن أتباع أحمد بن الحسن حوالي عشرة، ونهب الجنود سوق الصلبة.
وكان بعض القضاة يحاولون إيقاف الحرب منهم القاضي محمد قيس الثلائي، فعند وصوله إلى أحمد بن الحسن علم بما حدث في الصلبة، فاستنكر ذلك، وكان قد أراد أن يصلح بين أحمد بن الحسن والقاسم بن المؤيد، فعرض على أحمد بن الحسن بأن يكون القاسم إماماً في جهات شهارة والبلاد التي قد أجابته، وهو في بقية المناطق، ولكن من الطبيعي أن يرفض أحمد بن الحسن هذا العرض، وأجابه بأنه لم يحدث مثل هذا في اليمن من السابقين، وأنه سيكون سبباً في الفتن والنزاع "ولكن إذا أراد إقطاع تلك البلاد التي أجابته وتوليته والاعتزاء إلينا فعلنا ذلك وأجبنا" .
ولعل أحمد بن الحسن كان مُحقاً في ذلك، إذ أن مثل هذا الرأي يعني بداية التفكك، والتفتيت لمناطق اليمن الموحد، والذي دأب الإمام المتوكل إسماعيل على توحيدها واستقرارها طوال فترة حكمه، وبمساعدة أحمد بن الحسن نفسه.
ورأى أحمد بن الحسن أنه ما دام قد بدأ بشن الحرب ضد القاسم بن المؤيد فلا بد من مواصلتها حتى يعلن استسلامه ومبايعته له بالقوة، لذلك بعد هزيمة أتباع القاسم في الصلبة توجه أحمد بن الحسن إلى "يشيع" إلى الغرب من خمر، ولم يشعر به أحمد بن المؤيد -أخو القاسم-إلا وقد دخل إليها، وأن مشائخ وادعة قد توجهت إليه وبايعته، وهو قريب من خمر، ومن مناطق ولاية أحمد بن المؤيد.
وكان أحمد بن المؤيد قد نشر الجند في كثير من مناطق ولايته، وحرض أهالي وادعة على حفظ الأطراف، فما شعروا إلا بدخول الإمام المهدي عليهم، فهرب جميع الجنود الذين كانوا في نقيل عجيب وحَمِدَة، وخاف أهل وادعة من الإمام وجنوده، فاضطر أحمد بن المؤيد إلى التوجه إلى أخيه القاسم بن المؤيد في شهارة، وتقدم أحمد بن الحسن بعد ذلك إلى بيت القابعي-أسفل شهارة-وكان يهدف من ذلك إما أن يتقدم إليه القاسم ويبايعه، أو يلجاً إلى الخيار العسكري ليخضعه بالقوة، خاصة أنه كان معه في بيت القابعي حوالي سبعة آلاف مقاتل، وقيل أكثر.
وأثناء استقرار أحمد بن الحسن في بيت القابعي توجه إليه الحسن بن المتوكل من حصن مبين وبايعه بالإمامة، كما بايعه أهل حبور ظليمة وخطبوا له، وأسقطوا ذكر القاسم.
وكان على القاسم أن يتخذ موقفاً إزاء كل ذلك، فرأى أن يتقدم إلى أحمد بن الحسن في بيت القابعي لينظر ما سيكون من الأمر؟ وكان وصول أحمد بن الحسن إلى بيت القابعي في يوم الأربعاء 10شهر القعدة. ونزول القاسم إليه في يوم الجمعة 12 القعدة، غير أنه وصل إلى بيوت والده الإمام المؤيد، وكان أحمد بن الحسن قد نُصبت له خيام هناك.
ولما دخل القاسم إلى بيوت والده، تقدم إليه أحمد بن الحسن، ولم يصلوا إلى اتفاق، ثم طلب أحمد بن الحسن الاجتماع في مقره، فاجتمع هو والقاسم بن المؤيد وأخوه أحمد بن المؤيد وأحمد بن المتوكل والحسن بن المتوكل والحسين بن المتوكل، وبدأ أحمد بن الحسن كلمته أنه لا بد من جمع كلمة المسلمين، وأنه لا بد من حسم الموقف، فأجاب القاسم أنه يريد التحكيم، وأنه لن يتنازل عن الإمامة، فأجاب عليه أحمد بن الحسن بقوله: "هذا الذي طلبت كان يصلح قبل أن يجري ما جرى بيننا وبينك من الحروب، وقبل الحركة والجمع للجيوش والخطوب. وأما الآن فما بقي عندي مناظرة ولا محاكمة غير الدخول فيما دخل فيه الجماعة" ، عند ذلك طلب القاسم من أحمد بن الحسن المهلة إلى بعد العيد، وعاد إلى شهارة، بينما انتقل أحمد بن الحسن إلى القرب من مسور-شرقي جبل شهارة-لأن جوها أكثر نقاءً من بيت القابعي.
وخلال ذلك أشار القاضي محمد بن قيس الثلائي على القاسم بن المؤيد أن يماطل أحمد بن الحسن في المهلة التي أعطاه، وأن يكون إماماً في المناطق التابعة له والتي أجابته، ويبقى أحمد بن الحسن إماماً في جهته، وقد علق يحيى بن الحسين على ذلك الرأي بأنها قسمة جائرة ومخالفة للإجماع، وأنه كان عليهم أن يجمعوا كلمتهم على نصب واحد منهم، ويتركوا التفرق، وينظروا إلى صلاح المسلمين، غير أن كل واحد منهم كان يرى بأنه إمام كامل الشروط.
وكان أحمد بن الحسن بعد المهلة التي أعطاها للقاسم قد بدأ بكتابة رسالة إلى سادة شهارة وعلمائها يبرر لهم موقفه وسبب خروجه إلى بيت القابعي، وأنه كان يريد الصلح مع القاسم خلال بقائه هناك، لكن القاسم أثار القبائل ضده، وحرض أهل تلك الجهات على قطع طريق الإمدادات إليه، ثم ختم رسالته بقوله: "فيجب عليكم مناصحة أخي هذا أن يتقي الله في هذه النبذة التي مالت إليه، فإني أكبر منه سناً، وأشهر كلمة، وأكثر إجابة ورأياً وخبرة، والعلم إن أراد أن يختبر فله الاختيار" .
وبعد ذلك تم الاتفاق على أن يجتمع القضاة من الطرفين بالرحبة، وهي تقع ما بين شهارة وبيت القابعي، وقد بدأ قضاة شهارة بطلب الصلح، وأما الخلع للقاسم فمتعذر، وأن يبقى كل منهما إمام في جهته، فرفض قضاة أحمد بن الحسن ذلك العرض، وافترقوا بدون الوصول إلى أي اتفاق، عند ذلك أرسل قضاة شهارة الرسائل إلى كثير من الجهات مضمونها أنهم حكموا بإمامة القاسم، فتغير محمد بن المتوكل إسماعيل من ذلك، وطلب من قضاة صنعاء أن يكتبوا أن الذي صح عنده وعندهم إمامة أحمد بن الحسن، وأرسلوا بذلك إلا القاسم والمناطق التي أجابته.
وعلى كلٍ فإن كلا الطرفين كان لا يريد التنازل للطرف الآخر، وأن القاسم الذي كان متوقعاً منه التسليم استمر في موقفه المتشدد، رافضاً كل العروض والاقتراحات، لذلك لم يكن أمام أحمد بن الحسن إلا اللجوء إلى الحرب مرة أخرى، فكانت الحرب الأولى في منطقة الصلبة، كما سبق أن رأينا، وهنا قامت بينهما حروب ومواجهات كثيرة، كان أولها ما حدث في 7 صفر (1088ه/1677م) بين إبراهيم بن حسين بن المؤيد وأتباع أحمد بن الحسن قتل كثير من الجانبين، وأُسر إبراهيم، ثم طلع أحمد بن الحسن إلى الأهنوم، وأمر بخراب بعض منازلها التي وقع منها الرمي، فلما رأت الأهنوم ذلك أقبل أهلها إلى أحمد بن الحسن مبايعين وطائعين، فأمنهم وانتقل إلى "نجدة بني حمرة" غربي شهارة.
وكانت آخر تلك المواجهات الحرب التي قامت بينهما في منطقة "الأبرق" قُتل فيها حوالي خمسين من أتباع القاسم، وقيل أكثر، وثمانية من أتباع أحمد بن الحسن.
وكان أحمد بن المؤيد يراقب الوضع، وهو في وادعة، منطقة ولايته، وقد أعد جنوده وقواته لمواجهة أحمد بن الحسن، وليكون عوناً لأخيه القاسم والالتفاف على جنود أحمد بن الحسن، غير أن أحمد بن الحسن كان قد أرسل قوات لدعم محمد بن أحمد بن القاسم وقاسم بن المتوكل، ولما سمع أحمد بن المؤيد بهزائم جنود أخيه القاسم، وأن الجنود الذين بخمر قد توجهوا نحوه رأى أنه لا بد من الدخول في طاعة أحمد بن الحسن.
واتجهت معظم قبائل تلك المناطق بما فيها شهارة إلى أحمد بن الحسن معلنة طاعته وولاءها له، وبايعته وخطبت له "ولم يبق إلا القاسم بن المؤيد فريداً وحيداً، حليف هَمٍّ وحزن في شهارة" ، لذلك كله لم يسعه بعد أن يئس من نجاح دعوته، إلا أن نزل من جبل شهارة إلى المهدي أحمد بن الحسن، وسلم له الأمر متمثلاً بقول الشاعر المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى
عدواً له ما من صداقته بد
وبذلك كانت في نهاية الأمر الغلبة للقوة، بغض النظر عن مدى صلاحية أي منهما للإمامة.
ومهما يكن الأمر فقد قبل القاسم بإمامة أحمد بن الحسن مضطراً، فاستسلم له وبايعه، وفي المقابل جعل له أحمد بن الحسن ولاية بلاد الشرفين وحجة والظفير وكحلان وعفار والسودة وظليمة والأهنوم، كما وعده أن يقضي عنه بعضاً من الديون.
وبذلك يكون أحمد بن الحسن قد تمكن من القضاء على أهم شخصية نافسته على الإمامة، غير أنه لا بد أن ذلك قد كلفه الكثير من الجهد والوقت والمال، كما أنه سيكون لانشغال أحمد بن الحسن بمحاربة القاسم أثر في تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية في البلاد، وسيكون ذلك سبباً في زيادة الفوضى والاضطرابات وعدم الالتزام من الولاة بأوامر الإمام، لذلك كان على الإمام المهدي بعد تغلبه على القاسم، أن يبدأ في فرض هيبة الدولة، وإحكام السيطرة على المناطق التي عمتها الفوضى والاضطرابات.
جهوده في فرض هيبة الدولة
كان أول ما قام به الإمام المهدي أحمد بن الحسن بعد إنهاء الصراع على الإمامة، وتسوية الأمر مع القاسم أن اتجه بقواته من شهارة إلى العمشية في الشمال، وهي من المناطق التي كان يتكرر بها القتل والنهب أثناء مرور القوافل التجارية وغيرها، فاستقر فيها بعض الوقت، وأكد على سفيان تأمين طرق القوافل والمارة فيها، ووعدهم أن يبذل لهم ما يعتادونه من أموال للحفاظ على الأمن، وكانوا قد شرطوا عليه أن يعطيهم ما يعتادونه من الملوك السابقين، وإلا فليس عليهم حفظها، فأمنت تلك الطريق بعض الوقت.
وبعد ذلك اتجه إلى صعدة، وخرج علي بن أحمد، واليها، لاستقباله، ووصلت إليه قبائل صعدة وغيرها من قبائل تلك المناطق، باذلين الطاعة ومبايعين "رغبة من القليل، والأغلب فيهم الرهبة" .
وتمكن الإمام المهدي من إعادة فرض هيبة الدولة في المناطق الشمالية، التي كانت دائمة الاضطرابات والقلاقل، كما بدأت الأمور تستقر داخل الدولة بعد إنهاء الصراع على الإمامة.
وبعد الانتصارات التي حققها ضد منافسيه، وبعد أن أحكم سيطرته على المناطق الشمالية الأكثر اضطراباً نجده يبدأ في إعادة إحياء طموح الإمام المتوكل إسماعيل في مد نفوذ الدولة القاسمية إلى الحجاز ونجد وما حولها، لذلك نجده عند أن استقر بصعدة بعد أن رأى كثرة توافد القبائل إليه معلنة الولاء والطاعة بدأ يكتب الرسائل إلى شريف مكة وإلى البلاد النجدية يطلب منهم الدخول في طاعة الدولة القاسمية، فأجاب عليه شريف مكة أنه مثل واحد من أشراف اليمن لا يجهل الحق، ولا يترك ما فيه الصلاح للمسلمين، إلا أنه يخشى من السلطان العثماني، الذي لن يسكت عن أي تدخل من اليمن في الحجاز ونجد.
وكتب المهدي أيضاً رسالة إلى باشا سواكن، بسواحل الحبشة يدعوه إلى الدخول في طاعة الدولة القاسمية، كما فكر في أن يكتب إلى مصر من أجل ذلك، غير أنه-كما ذكر يحيى بن الحسين-لم يجد له رسولاً.
ولعل نشوة انتصارات أحمد بن الحسن على منافسيه، ثم إحكام سيطرته على المناطق الشمالية حتى نجران جعلته يفكر في التوسع خارج اليمن، أو أن هناك أسباباً أخرى جعلته يفكر في إرسال تلك الرسائل، فهو يعلم جيداً أن المتوكل قد حاول قبله وفكر في ذلك، لكنه لم يتمكن من عمل شيء، على الرغم من أن دولته كانت في أوج قوتها، وأولاد إخوته جميعاً، بل جميع آل القاسم مؤازرين ومساعدين له، لذلك فمن المرجح أن أحمد بن الحسن أراد بذلك التصرف أن تتناقل مراكز القوى المختلفة تلك الأخبار، وكذلك مشائخ المناطق المختلفة، وأن ذلك يدل على قوة الإمام المهدي، وقدرته على الوصول إلى الحجاز، وليس مناطق اليمن فحسب، أو أنه أراد أن يثبت للمناطق المجاورة لليمن بأن دولته لا زالت تتمتع بنفس القوة التي كانت عليه في عهد الإمام المتوكل إسماعيل.
وكانت قد وصلت هدية وكتاب من حضرموت إلى الإمام المهدي معلنين انتماءهم وولاءهم له. وكان لا بد لهم أن يقوموا بتلك الخطوة خوفاً من أحمد بن الحسن، الذي أثبت لهم قوته وشجاعته عندما دخل بلادهم عنوة، وأخضعهم بالقوة في عهد الإمام المتوكل، كما سبق أن رأينا.
وبعد أن أصبح أحمد بن الحسن هو الإمام بلا منازع واستقرت الدولة نوعاً ما، كان أمامه مهام كثيرة، منها: توزيع المناطق بين مراكز القوى من آل القاسم بطريقة ترضي الجميع، وفي الوقت ذاته لا تخل بشخصيته كإمام له قدراته الخاصة، وهيبته الكبيرة، ومهما يكن فإنه لم يعد للإمام المهدي مثلما كان لعمه الإمام المتوكل، أعني الشخصيات القوية المخلصة التي ساندته وآزرته في توسيع حدود دولته وفرض هيبتها، كما سبق أن رأينا، والملاحظ هنا في فترة الإمام المهدي أحمد بن الحسن القصيرة زيادة الأطماع بين الأبناء والأحفاد على اقتسام الولايات، مما زاد من النزاع، وبداية ظهور مراكز قوى جديدة، ستلعب دوراً فيما بعد كما سنرى، وكانت مراكز القوى هذه ربما تخشى من شخصية المهدي باعتباره شخصية قوية، ولديه الخبرة في تسيير شؤون الدولة.
وكان لا بد له من إرضاء هذه المراكز وإعطائها ما يستطيع من الولايات، حتى لا تشكل مصدر قلق له، فنجد على سبيل المثال أن علي بن المتوكل بعد وفاة والده قد اتجه إلى تعز واستولى عليها، فاضطر المهدي أن يعينه عليها بالإضافة إلى ما كان تحت يده سابقاً من مناطق اليمن الأسفل، وأصبح من مراكز القوى الهامة في دولة المهدي "واشتهر ذكره، وعظم صيته" .
وكان الإمام المتوكل آخر مدته قد عزل محمد بن أحمد بن الإمام القاسم من كثير من المناطق التي كانت تحت يده،فلما توفي المتوكل كان محمد بن أحمد بن القاسم أول من بايع المهدي بالإمامة، فاضطر أن يعيد إليه البلاد التي كانت له من قبل.
أما علي بن أحمد بن القاسم فقد أبقاه الإمام المهدي على بلاده السابقة، صعدة وما إليها، غير أنه كانت تصل إليه من أهالي صعدة شكاوى ضد علي بن أحمد، الذي كان قد أعاد فرض ما عليهم من مطالب عقب وفاة المتوكل، وكان قد عفاهم منها ليكونوا عوناً له ضد المتوكل، فرفضوا دفعها، وطلبوا من الإمام المهدي، أن يولي بلادهم غيره، وهم مُسْلِّمون ما عليهم من واجبات، فأعرض عنه ولم يرغمهم على شيء، وترك مسألة تسوية الوضع لعلي بن أحمد، وكأنه يقول له: "قد صارت البلاد الشامية الصعدية إليك، فخيرها وشرها عليك. وإلا تركت أمرها ومصالحها وأصلحناها" .
واضطر الإمام المهدي إبقاء أبناء الإمام المتوكل في ولاياتهم، وكانت معظم المناطق الهامة تحت أيديهم، غير أنه كان غير راضِ عن ذلك، حتى أنه كان يردد "بأن البلاد قد تقسمت مع عيال المتوكل" .
وقد زادت أطماع الأبناء والأحفاد من آل القاسم، وربما صار بعضهم يشكل عبأً عليه، وليس عوناً له. وكان أولهم هو ابنه محمد بن أحمد بن الحسن، صاحب المنصورة، الذي تمرد على والده، وكأنه يريد المزيد من الولايات، فاضطر الإمام المهدي أن يطلق يده في الأوامر والنواهي باليمن الأسفل، وأعطاه بلاد حيس إلى جانب ولايته السابقة.
أما القاسم بن المؤيد، الذي نافس المهدي على الإمامة، كما رأينا-فكان أيضاً غير مقتنع بالولايات التي أعطاه إياها أحمد بن الحسن، فنجده في أواخر سنة (1089ه/1679م) يكتب إلى محمد بن المتوكل يطلب منه أن يُقنع أخاه أحمد بن المتوكل بالتنازل عن ولاية بلاد عذر للقاسم؛ لأن بلاده السابقة لم تكفه، وبالطبع رفض أحمد بن المتوكل هذا الطلب. كما أنه بعد هزيمته كان متمسكاً بلقب المنصور، الذي اتخذه لقباً له عند إعلان إمامته. وهذا يدل على أنه أمام نفسه وأنصاره ما يزال إماماً، فكان يكتب إلى المناطق التي أجابته، ويلقب نفسه بالمنصور.
وتمسكه بهذا اللقب رغم هزيمته، دليل على التمسك بفكرته السابقة.
وفي أواخر سنة (1089ه/ بداية سنة 1679م) اتجه أحمد بن المتوكل إلى المهدي ومعه محمد بن المتوكل، وطلب من المهدي ولاية حجة، غير أنه رفض ذلك، فأعطاه أخوه محمد بلاد ثلا، وكانت من مناطق ولايته، كما اتجه إليه أحمد بن محمد بن الحسين، وطلب منه زيادة بلاد إلى بلاده، فرفض إعطاءه ما يريد، وزاد له أموالاً من لديه.
فكان معظم مراكز القوى لا هَمَّ لها إلا الحصول على المزيد من الولايات. "وكل منهم قال ما يكفيه إقطاعه، وكل منهم مد يده في رعايا بلاده في غالبهم" ، فاضطر أن يفرق معظم الولايات بين مراكز القوى، بينما لم يبق له سوى ولايته السابقة، ولم يضف إليها إلا اليسير.
غير أننا لا نستطيع إنكار حقيقة هامة وهي أنه رغم كل ما سبق ذكره من تنافس ورغبة في الحصول على المزيد من المناطق، فإن الإمام المهدي أحمد بن الحسن كان لا يزال في أوج قوته، وكانت مراكز القوى هذه تخشاه وتهابه، لذلك عمَّ الاستقرار والهدوء في عهده، مقارنة بمن جاء بعده، كما سنرى، ولعل مراكز القوى هذه بدأت تعد نفسها لفترة ما بعد الإمام المهدي أحمد بن الحسن.
لكننا أيضاً لا نستطيع أن ننكر بإن عدم وجود شخصيات قوية تقف إلى جانب الإمام المهدي جعلت موقفه ضعيفاً مقارنة بالإمام المتوكل، وظهر بشكل أكبر التنافس على الولايات، لعل أبرزها ما حدث في بلاد يريم، حيث كان أحمد بن الحسن قد ولَّى عليها يحيى بن الحسين بن الإمام المؤيد، غير أنه نافسه عليها كل من علي بن المتوكل والحسين بن الحسن والحسين بن المتوكل، وعين كل واحد منهم عاملاً له على يريم لقبض واجباتها، كما احتدم الخلاف في بلاد عفَّار بين أحمد بن المتوكل وبين محمد بن أحمد بن القاسم، وكذلك بين أحمد بن المتوكل وبين القاسم بن المؤيد، كل منهم يريد أن يرسل لها عسكراً، ويعين عليها عاملاً من قبله.
بل إن الإمام المهدي عندما أمر أخاه الحسين بن الحسن بإزالة سوق استحدثه في منطقة "الحرشة كتب إليه الأخير رسالة، كما أرسل له ابنه محمد بن أحمد رسالة أيضاً بأنهما ما داما قد بايعاه وخطبا له، واعتمدا النقود التي ضربها، فما عليه إلا أن يترك لهما بلادهما يتصرفا فيها كيفما شاءا دون تدخل منه.
وكان لهذا الاختلاف والتنافس وزيادة الأطماع أثر سلبي على الأهالي، فكانوا يتضررون مادياً من جراء ذلك، ولعل أبرز مثال ما حدث في سنة (1090ه/1679م)، حيث كان القاسم قد استأذن الإمام المهدي في أن يقبض زكاة بلاد عذر، فأذن له وقبضها، ولما بلغ أحمد بن المتوكل ذلك، وهو واليها، أرسل من قبله بالسودة مجموعة من الجنود لقبض زكاة عذر، وأنه لا يعترف بما سلموه إلى القاسم منها، فسلَّم من سلَّم وامتنع من امتنع، وبذلك تضرر معظم الناس من تسليم الزكاة مرتين.
ولعدم قدرة الإمام المهدي على إرضاء كل المراكز وإعطائها ما تريد من الولايات، كان يضطر إلى ضرب الأخوة بعضهم ببعض-إن جاز استخدام هذا التعبير-من ذلك ما حدث من خلاف بين الأخوين محمد بن أحمد بن القاسم وأخيه عبد الله بن أحمد بن القاسم على ولاية حجة، التي أصبحت متنازعاً عليها بينهما بالإضافة إلى واليها السابق من آل جحاف، والسبب في ذلك أن الإمام المهدي كان قد أعطى ولاية حجة لمحمد بن أحمد بن القاسم، ثم بعد تغلبه على القاسم تقدم إليه عبد الله بن أحمد بن القاسم بايعه وطلب منه ولاية حجة فأرسله إليها وأعطاه إياها، فأخذها منه، وبذلك أصبحت حجة "منهارة أعمالها، متضرر من ذلك أهلها" .
وكان الأهالي يتذمرون من زيادة المطالب التي كانت تُفرض عليهم من الولاة، ولعل أبرز مثال على ذلك ما كان يقوم به السيد جعفر بن مطهر الجرموزي من زيادة في فرض الضرائب على أهالي العدين، فما أن وصل إلى الإمام المهدي ومعه عائدات العدين في سنة (1089ه/1678م) حتى تبعه مجموعة من مشائخها يشكون إلى المهدي كثرة المطالب، فاضطر أن يستبقي جعفر لديه، ثم أعاده إليها بعد أن شرط عليه أن لا يصل إليه شاكٍ منها.
وتذمر أهالي صعدة من كثرة المطالب التي فرضها عليهم علي بن أحمد بعد وفاة المتوكل، كما سبق أن رأينا.
ومهما يكن الأمر فإن معظم هذه التصرفات من الولاة كان أحمد بن الحسن يتغاضى عنها في مقابل طاعته وإرسال ما عليهم من أموال إلى خزينة الدولة، فنجده مثلاً في سنة (1091ه/1680م) يأمر بزيادة العائدات من بعض المناطق، ومنها حجة التي كانت عائداتها من قبل أربعة آلاف، فأمر بزيادتها إلى سبعة آلاف. كما أمر بزيادة عائدات منطقة ريمة إلى ستة آلاف.
وكان يحيى بن الحسين بن القاسم من العلماء الذين ينتقدون من رفع المطالب على مناطق اليمن المختلفة، فكما أرسل رسائل إلى الإمام المتوكل يطلب منه التخفيف في ذلك، نجده هنا يرسل الرسائل إلى أحمد بن الحسن ومحمد بن المتوكل يطلب منهما تخفيف رفع مطالب اليمن الأسفل، وأن الولاة يضطرون إلى رفع المطالب بسبب التشديد عليهم من الإمام، ويبدي استغرابه بأن المطالب قد زادت من زمن الحسن بن القاسم بقدر النصف من ذلك "فالواجب حط النصف من المطالب" .
وعلى الرغم من أن الإمام المهدي قد تفقد المناطق الشمالية حتى وصل إلى صعدة، وهابته القبائل، إلا أن ذلك كان مؤقتاً، ففي سنة (1089ه/1678م) بعد عودته إلى الغراس بدأت قبائل سفيان والعصيمات بأعمال السلب والنهب في الطرقات، خاصة طريق العمشية. وانتشر ذلك إلى البطنة وأعمال شهارة وأطراف عذر، حتى انقطع أكثر الناس عن السفر.
وكانت قبائل سفيان تقوم بأعمال النهب والسلب للقوافل التي تمر في مناطقها أو بالقرب منها بصفة مستمرة. وكان الإمام المتوكل إسماعيل يضطر أن يعطيها الأموال والكسوات مقابل حمايتها للقوافل، وعدم التعرض لها، وعلى الرغم من ذلك فكانت أحياناً تقوم بأعمال السلب والنهب، خاصة إذا تأخرت الدولة عن إعطائها ما تعتاده. وهنا في عهد الإمام المهدي في سنة (1089ه/1678م) نجد أن إحدى قبائل سفيان، وهم "بنو رهم" ذكروا بأن المهدي لم يسلم لهم إلا دون ما يعتادونه، "وأنه نقص عليهم نحو ثلاثين خرقة من الكسوة" فقاموا بأعمال السلب للقوافل.
وفي سنة (1092ه/1681م) نهبت قبيلة سفيان قافلة بالعمشية-بالقرب من عيان-وهي متجهة إلى صعدة فيها أموال وأقمشة وبضائع أخرى قادمة من صنعاء، ودافع أهل القافلة عن قافلتهم، غير أن سفيان قاموا بنهب جميع القافلة، وقتلوا منهم ثمانية، وجرحوا آخرين، فاضطر الإمام المهدي إلى الخروج بنفسه إليهم لقتالهم، فخرب بيوتهم، وأسر كثيراً منهم واستعاد ما قاموا بنهبه.
وعلى الرغم مما كان يحصل من نهب وتقطع في الطرقات فإننا لا نستطيع إنكار حقيقة هامة، وهي إن أحمد بن الحسن قد بذل مجهوداً كبيراً-منذ عهد عمه الإمام المتوكل وفي فترة إمامته-من أجل إخضاع هذه القبائل ومعاقبتها. وكان يخرج بنفسه لمحاربتها حتى كانت سبباً في وفاته، كما سنرى، وبعد القضاء على منافسيه كانت معظم أعماله وجهوده إعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد، وكان كثير التنقل بين المناطق الشمالية خاصة، ليتفقد أحوالها القبلية المتقلبة مع اطمئنانه على الاستقرار المستمر في اليمن الأسفل والمناطق الجنوبية، واهتم بالأطراف، فنجده مثلاً يرسل إلى صبيا حملة عسكرية، مساعدة لواليها في غزو بلاد بني حبيب، بسبب ما وقع منه من التمرد.
وأرسل الإمام المهدي محمد بن المتوكل وأحمد بن محمد بن الحسين وابنه الحسين إلى عيان بقوة عسكرية كبيرة، فكتبوا إلى برط يطلبون منها وصول مشائخها وقاضيها والسيد محمد الغُرباني والناهبين للقوافل فيها، فوصل المشائخ والقاضي علي العنسي، ودفعوا ما عليهم من المقررات، وبقي محمد بن المتوكل في برط لتأمين الطرق، والقضاء على من كانوا يقومون بأعمال السلب والنهب، وعاد إلى صنعاء بعد صلاح تلك الجهة، واستعادة جميع ما قامت سفيان بنهبه، وكذلك برط، وتعهدوا بعدم تكرار النهب والسلب، وعين في قصر عيان والياً، وجعل معه قوة عسكرية لردع القبائل هناك.
وكان الإمام المهدي حريصاً على أن يعم الأمن والاستقرار، حتى وإن اضطر إلى معاقبة البيت الحاكم، ولعل ذلك يدل على قوة شخصيته وخوفهم منه، فكان في الروضة بعض أبناء محمد بن أحمد بن الإمام القاسم وحدث منهم تعدٍ على أحد العمال الذين كانوا يسقون الماء من الغيل، ومعهم الشاعر المهتدي الهندي، فأمر الإمام المهدي بالقبض عليهم، وأودعهم السجن في حصن ذي مرمر.
ولعل أكثر ما اشتهر به الإمام المهدي أحمد بن الحسن، وميز فترة إمامته عن فترة الإمام المتوكل إسماعيل هو أمره بإجلاء اليهود عن اليمن، فكيف تم ذلك؟ وهل تمكن من تنفيذ ما يريده أم لا؟
بعد أن عاد الإمام المهدي من صعدة، وتفقد المناطق الشمالية، وأثناء بقائه في عيان أواخر سنة (1088ه/ بداية سنة 1678م) كتب إلى محمد بن المتوكل وهو بصنعاء يطلعه على رأي ارتآه وهو إجلاء اليهود عن اليمن، وكانت حجته في ذلك أنه كثر منهم ضرب النقود التي تشبه نقود دار الضرب، وفيها نحاس كثير وغش، وكثر منهم بيع الخمر للمسلمين، وأعمال السحر، وأن هناك حديثاً للرسول÷ قال فيه: ((أخرجوا اليهود من جزيرة العرب))، وطلب من محمد بن المتوكل أخذ رأي العلماء في صنعاء حول ما رآه، فاختلفت آراءهم بين مؤيد ومعارض، وكان من بين العلماء يحيى بن الحسين بن القاسم، الذي كان رأيه أن المراد بجزيرة العرب هو الحجاز لا غيره. والبعض الآخر رأى أنه يجوز إبقاء أهل الكتاب في هذه الأراضي لمصلحة مرجحة منها: دفع الجزية، أو لأعمال يعملونها للمسلمين ويختصون بها دون غيرهم، والإعانة للجهاد أما لغير مصلحة فلا يجوز إبقاؤهم.
ولأن الأمر قد أثار جدلاً ونقاشاً واسعاً بين علماء صنعاء وغيرهم على مختلف مذاهبهم نجد الأستاذ الدكتور حسين العمري يفترض-ولعله محقاً في ذلك-بأن من بين مقاصد المهدي أن ينبه من شكك في علمه، واللغط الذي دار عقب دعوته، وبعدم بلوغه "الاجتهاد" على مقدرته لإثارة مسألة اجتهادية من أقدم ما أثير في تاريخ الفقه الإسلامي.
ومهما قيل حول هذه المسألة فقد أصدر الإمام المهدي الأوامر بأن تُهدم جميع الكنائس الخاصة بهم، وعند عودته من عيان هدم الكنائس الموجودة في البون، كما قام ولاته باليمن الأسفل بهدم بعضاً من تلك الكنائس، وهدمت كنائس كوكبان وشبام، ليس ذلك فحسب، بل إنه أيضاً أمر بهدم كنيسة صنعاء، فراجعه محمد بن المتوكل مبرراً له أنها قديمة من زمن النبي÷، وأنها نزل بها وبر بن يخنس، الذي أرسله النبي÷ على الأسود العنسي، فعدل المهدي عن ذلك، وعند دخوله صنعاء في شهر الحجة (1089ه/ 1678م) أمر بإغلاقها، وبعد ذلك أخذ ما حولها من المنازل، وأخرج اليهود من المحلات التجارية بسوق صنعاء، وأجبرهم على بيع ممتلكاتهم ومنازلهم وخروجهم، فباع القليل منهم ما باع من المنقولات والكثير من غير المنقولات، واشترى المهدي منهم الحمَّام الخاص بهم، ثم أمر بفتح الكنيسة، وأخرج منها ما يخص اليهود من الكتب، وحوَّلها إلى مسجد لا يزال موجوداً إلى الآن.
وفي شهر صفر سنة (1091ه/ 1680م) أرسل المهدي إلى اليهود من يخرجهم بالقوة، فخرج يهود صنعاء وما إليها ما بين شهارة وسمارة إلى جنوب موزع، وهلك منهم الكثير، وتضرر أهل موزع منهم، وهم أيضاً تضرروا لعدم وجود عمل يكسبون منه.
وكان الإمام المهدي يرى إخراجهم إلى سواحل الحبشة، فكتب إلى والي "أوسة" بأن يسمح بخروجهم إليها، وله جزيتهم، فأبى ذلك، وأجاب عليه بأن البلاد للسلطان العثماني، فاضطر المهدي أن يوافق على عودتهم، فمنهم من عاد إلى مناطقهم السابقة، ومنهم إلى القرب منها.
أما يهود صنعاء فقد عمروا لهم خارج صنعاء، إلى الغرب من بير العزب، بحيث استأجروا أرضها، وعمروا لهم منازل بأمر من المهدي، ولم يعودوا إلى داخل صنعاء.
والجدير ذكره أن محاولة الإمام المهدي إخراج اليهود من اليمن لم توفق، ولم يُخطط لها التخطيط السليم، يحث يضمن موافقة المناطق المجاورة ا لتي كان ينوي إخراجهم إليها، لكنه أخرجهم إلى موزع، وفيها هلك الكثير منهم، وأصبحوا يشكلون عبأً على الدولة، لعدم استطاعتها أخذ الجزية منهم، ولم تتمكن من إعادة فرض الجزية عليهم وأخذها منهم إلا عندما بدأوا يستقرون ويستأنفون أعمالهم السابقة.
أما بالنسبة للعلاقات الخارجية فلم يتضح في عهد الإمام المهدي القصيرة وجود علاقات خارجية، على الرغم من أنه كان في عهد الإمام المتوكل يراسل السلاطين والملوك ويهاديهم، وفي الوقت ذاته راسلوه وهادوه، ولعل السبب في ذلك هو انشغال أحمد بن الحسن في السنتين الأولى من حكمه بالقضاء على منافسيه وإخضاعهم، ثم انشغاله فيما بعد بمحاربة قبائل سفيان ودهمة والعصيمات وغيرها من القبائل التي كانت تقوم بأعمال السلب والنهب، ثم لم يلبث أن وافته المنية بعد خمس سنوات من إعلان إمامته، وهي فترة قصيرة جداً، إذا ما قورنت بفترة الإمام المتوكل على الله إسماعيل.
والذي اتضح في عهده هو استمرار العمانيين في الاعتداءات المتكررة على السفن التجارية في باب المندب، وفرض أموال بالغة عليهم حتى يسمحوا لهم بالمرور، وأحياناً كانوا يرفضون مرور هذه السفن ويقطعون الطريق للدخول إلى الموانئ اليمنية، فنجدهم في بداية عام (1090ه/1679م) عندما وصلت أول السفن الهندية تلقاهم العمانيون، وفرضوا عليهم أموالاً في باب المندب، كما قاموا بقطع الطريق، وكتب وإلي عدن ووالي المخا إلى الإمام المهدي يطلبان النجدة لمواجهة العمانيين هناك، فأجاب بأن الجنود الذين في تهامة والموانئ فيهم الكفاية، لحفظ السواحل "أما البحر فلا طاقة لهم به" . لذلك عندما وصلت باقي السفن الهندية استولى العمانيون على بعضها، واضطر البعض إلى العودة إلى البحر، والبعض الآخر دخل المخا بعد أن بذل لهم الأموال، ونتيجة لذلك ارتفع ثمن الأقمشة التي كانت تصل من الهند. أما الأعبي (جمع عباءة) التي كانت تأتي من الحسا فلم يأت منها شيء هذا العام بسبب تقطعهم، حيث صاروا "ساكنين في باب المندب، مانعين السفن من الدخول إليه جميع شهور صفر وربيع الأول والثاني من هذه السنة".
وقد حاول الإمام المهدي إنهاء التقطع للسفن القادمة إلى اليمن من قبل العمانيين، فكتب الرسائل إلى سلطان عُمان، وعاتبه، وتهدده "وأن كل من وصل إلى سواحل البنادر اليمانية من مُسلم وكافر من الفرنج، فقد صار في أمانة، وإن لم يترك أفعاله قصده وناجزه" .
غير أنهم استمروا في ذلك، ولم تكن رسائل الإمام المهدي لسلطان عُمان ذات جدوى، بل إن الأخير كان قد كتب للمهدي بأن القهوة لا ينبغي استعمالها، وأنها حرام ومُسْكِرة، لذلك كما ذكر المؤرخ يحيى بن الحسين "لعله قطع مسيرة البن إلى الحسا وبلاد العجم والهند، محتجاً بتحريمها" . غير أن المؤرخ يحيى بن الحسين في مكان آخر من كتابه (بهجة الزمن) يذكر بأن سلطان عُمان كان يرسل الرسائل إلى الإمام المتوكل إسماعيل ثم إلى الإمام المهدي أحمد بن الحسن بأنه كان يصدر أوامره إلى جنوده بمحاربة البرتغاليين والبانيان "أينما وجدوهم في البحر أخذوهم، ولم يأمرهم بالتعدي إلى بنادر اليمن" .
ولا نستطيع هنا إنكار حقيقة هامة، وهي أنه كان لعمان اهتمام واسع بالبحر وبناء الأسطول القوي إذا ما قورنت باليمن، خاصة في هذه الفترة، وهي فترة دولة اليعاربة، وبحكم موقع دولتهم التي كان يحدها الخليج العربي شمالاً وبحر العرب جنوباً، وخليج عُمان شرقاً. فكان البحر بمثابة الركيزة الأساسية التي شكلت كل فصول التاريخ العماني.
وكانوا يدركون أنهم لن يتمكنوا من التصدي للبرتغاليين وأسطولهم القوي إلا إذا تخلوا عن سفنهم التقليدية، واستخدموا سفناً كبيرة الحجم من الطراز الأوروبي، وزودوها بالمدافع الحديثة، وهو ما حدث فقد تمكنوا من طرد البرتغاليين، وامتد صراعهم معهم إلى الأجزاء الغربية من المحيط الهندي، وتعقبوهم إلى السواحل الهندية والفارسية وأنزلوا بهم هزائم ساحقة.
لذلك فمن المرجح أن ما كان يقوم به العمانيون من صولات وجولات في تلك البحار، ويصلون في بعض الأحيان إلى باب المندب وغيره من السواحل اليمنية كان بحجة مطاردة البرتغاليين وغيرهم.
وبعد أن تناولنا أهم التطورات السياسية في عهد الإمام المهدي أحمد بن الحسن لا بد أن نعترف بأنه قد بذل جهوداً كبيرةً لتكون دولته مهابة الجانب، قوية على الصعيدين الداخلي والخارجي، وأن تكون هذه الدولة امتداداً لدولة المتوكل في القوة والازدهار، وقد دفع حياته ثمناً لذلك، حيث خرج بنفسه على رأس قوة عسكرية سنة (1092ه/ 1681م) اتجهت إلى سفيان، التي تكرر منها الاعتداءات على القوافل ونهبها، وكانت آخر تلك الاعتداءات هي التي تعرضت لها قوافل أحد التجار، فوصل ذلك التاجر شاكياً إلى الإمام المهدي، فأعطاه الإمام الأمان هو وقوافله في تلك الطريق، غير أن سفيان تمادت في ذلك، فنهبت قوافله وقتلت ابنه، فاضطر الإمام إلى الخروج بنفسه لقتال سفيان، وتمكن من هزيمتهم، وهدم منازلهم، وأعاد كل ما نهبوه، وأسر الكثير منهم، إلا أنه تعرض للإصابة برصاصة في فخذه الأيمن، وكتمها حتى عاد إلى الغراس، ولم يلبث إلا أياماً قليلة بعد عودته وتوفي.
وكانت وفاته ليلة الأربعاء 22 جمادى الآخرة سنة (1092ه/ 8 يوليو1681م) وعمره اثنان وستون عاماً.
وقد انتقد يحيى بن الحسين ابن عمه الإمام المهدي أحمد بن الحسن في مماطلته للديون، ليس ذلك فحسب، بل إنه كان قد أفتى بأن من يقرض أموالاً فعليه أن ينتظر حتى وإن كان المستدين من الميسورين، وبسبب الفتوى حصل شجار بين أهل الديون والتجار الذين امتنعوا عن قضاء الديون بسبب تلك الفتوى، وأن عليهم أن ينتظروا إلى ثمارهم وغلاتهم، وأدب المهدي المطالبين وأجبرهم على الانتظار، وأمر القضاة أن يحكموا بذلك.
ورفض القاضي محمد بن علي قيس الثلائي، الذي رأى أنه لا بد من وجوب التسليم مع المطالبة للميسورين، وأن الانتظار إنما هو للفقراء المعسرين، فعزله الإمام المهدي عن القضاء، ثم علق المؤرخ يحيى بن الحسين على هذا التصرف بقوله: "وهذه مسألة ما أحد قد قال بها قبل هذا المذكور، واستنكر ذلك جميع علماء عصره، إلا أن الرجل مَلِك، يريد إمرار قوله كيفما كان" .
ومع ذلك فإننا لا نستطيع إنكار أن الإمام المهدي أحمد بن الحسن كان أحسن من كثير ممن جاء بعده من الأئمة، ليس أدل على ذلك ما وجهه العلامة المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير (ت1182ه/ 1768م) من انتقاد للإمام المهدي عباس (ت1189ه/1775م) الذي كان قد أمر بأن يُعاد حفر مجاري الغيل الأسود ومنبعه، وكذلك مجاري غيل البرمكي ومنبعه، فقرر الإمام المهدي عباس أن يكون الغيلان ملكاً خاصاً به، بحجة أن تكاليف إعادة جريانهما كانت من ملكه الخاص، وأن يدفع لبيت المال مبلغ ألف وأربع مائة ريال. وكان أبرز ما انتقده العلامة محمد بن إسماعيل الأمير وأشاد بالإمام المهدي أحمد بن الحسن قوله: "وبالله انظروا في جدكم المهدي أحمد بن الحسن، رحمه الله، كيف أخرج غيله في الروضة، وجعله للناس، وجعل عنبه مثل أعناب الناس، لم يستأثر بشيء منه، فبارك الله فيه، وصارت الأعناب التي تُسقى منه أحسن الأعناب في الروضة، وأغلاها قيمة، بسبب حُسن نيته وعلمه بأن هذه الغيول بيوت أموال، وأُخرجت بدراهم من بيوت الأموال، فليس له أن يستأثر بشيء منها .... " .
ولعل أحمد بن الحسن يعد آخر الأئمة الأقوياء فتمكن من إبقاء الأوضاع على ما كانت عليه أيام الإمام المتوكل إسماعيل، وتمكن من إنهاء أمور الدعاة والمنافسين له، إلا أن شرخاً بين أبناء البيت الحاكم ما زال يتسع كلما مات إمام منهم، وينطلق المتنافسون في حروب واقتتال، وإذا كان المهدي-على قصر سنوات حكمه الخمس-قد تمكن بماله من ماضٍ وخبرة من إعادة الهيبة ومركزية الحكم، فقد شكلت سنوات خلفه "المؤيد محمد بن المتوكل"-الخمس أيضاً-ومن بدايتها مدة تميزت بالصراع بين المتنافسين من أجل السلطة، وهدم الكثير مما بناه الأبناء المؤسسون من بيت القاسم في نحو ستين عاماً بعد وفاة والدهم الإمام القاسم بن محمد.
لقد كانت الدولة في عهد الإمام المهدي مهابة الجانب لدى معظم مناطق اليمن، التي لم تجرؤ على الخروج أو الاستقلال عن سلطة الدولة، خوفاً ورهبة من الإمام المهدي، بما فيها المناطق الشرقية والجنوبية، لذلك ما إن توفي حتى تغيرت أوضاع الدولة وضعفت سلطتها في كثير من مناطق اليمن، كما أن كثيراً من الولاة من مراكز، القوى أصبحوا أئمة في مناطق ولاياتهم، ولم يعطوا الإمام المؤيد محمد بن المتوكل-الذي جاء بعد المهدي-أي اهتمام، والأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي: كيف وصل محمد بن المتوكل إلى الإمامة؟ وما أهم التطورات السياسية في عهده؟ وكيف أثرت سلباً على أوضاع اليمن وظهور عدد من مراكز القوى كانوا سبباً في التدهور؟
ثانياً الإمام المؤيد محمد بن المتوكل إسماعيل
(1092-1097ه/1681-1686م)
ولد محمد بن الإمام المتوكل إسماعيل سنة (1044ه/1634م)، وتولى والده الحكم وعمره عشر سنوات، فنشأ في ظل والده، الذي اهتم بتعليمه، وقرأ على يد والده الإمام كتباً عدة، وأجازه فيما قرأ عليه، كما تلقى العلم على يد عدد من أكبر مشائخ عصره، مثل: القاضي محمد بن علي العنسي والقاضي يحيى بن أحمد الحاج والقاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال وغيرهم.
وعاش حياة مليئة بالزهد والتقشف والورع، يصفه الإمام الشوكاني بقوله: "كان كثير العبادة، كثير البكاء، دائم الخشية ..... لا يتناول شيئاً من بيوت الأموال، ومجلسه معمور بالعلماء والصالحين وقراءة العلم وتلاوة القرآن" .
وحرص على أن يكون شيخاً لمن جاء بعده من التلاميذ، فأخذ عنه جماعة من طلاب العلم، وكان قد وصل إلى مرتبة كبار العلماء مثل أبيه الإمام المتوكل، وله في ذلك كتابات ومشاركات فقهية وفلسفية في علم الكلام.
تولى بلاد آنس سنة (1070ه/1660م) وعمره حوالي ستة وعشرون عاماً، وبعد وفاة علي بن الإمام المؤيد الذي كان والياً على صنعاء عينه والده الإمام والياً عليها سنة (1078ه/1676م)، وضم إليه بلاد الحيمة وخولان ونهم وسنحان وحراز وبلاد ثلا وبعض همدان، كما سبق أن ذكرنا في فصل سياسة الإمام المتوكل إسماعيل.
ولما وصل محمد بن المتوكل إلى صنعاء لتولِّيها سار فيهم سيرة حسنة، ولم يفرض المطالب الجائرة على أهلها، لكنه قام بإلغاء بعض الضرائب التي كانت مفروضة عليها. ولم يزل آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر مدة والده ثم مدة الإمام المهدي أحمد بن الحسن، وهو مع ذلك منشغل بالدرس والتدريس أكثر أوقاته.
استمر والياً على صنعاء حوالي خمسة عشر عاماً، حيث أبقاه الإمام المهدي أحمد بن الحسن في ولايته السابقة لما عرف ما هو عليه من "الزهد وعدم المنافسة على شيء من الدنيا" ، ولعل موقفه خلال الحروب التي دارت بين أحمد بن الحسن والقاسم بن المؤيد على الإمامة تؤكد الصفات التي تميز بها عن غيره فيما بعد، فعند أن اشتدت الحروب اتجه إلى ضوران، واعتذر أنه يريد تنفيذ وصايا والده الإمام المتوكل، وتفقد المنازل والمخازن، وذلك حتى يبعد نفسه عن الخروج إلى شهارة؛ لأنه كان غير راضٍ بتلك الحروب، وغير مشجع لها، وأن الداخل فيها غير معذور، لذلك عذره الإمام المهدي ولم يطلب منه الدخول في الحرب معه ضد القاسم.
وكان قد حاول جهده أن يصلح بين أحمد بن الحسن ومعارضيه تجنباً للحروب والفوضى وسفك الدماء دون جدوى.
مبايعته بالإمامة وموقف مراكز القوى منه
لقد عُرف عن محمد بن المتوكل العدل والزهد والورع خلال فترة ولايته، لذلك عندما توفي الإمام المهدي أحمد بن الحسن سنة (1092ه/ 1681م) بايعه علماء صنعاء وبعض آل القاسم وغيرهم من رجال الحل والعقد، وكان في الثامنة والأربعين من عمره، ولقب نفسه بالمؤيد، تيمناً بعمه المؤيد محمد بن القاسم، وكان أكثر المشجعين لإمامته وأولهم الحسين بن أحمد بن الحسن. الذي كان والده الإمام المهدي قد أوصاه أن يدعو لنفسه بالإمامة، وأن لا يترك القيام بهذا الأمر إلا إذا دعا لنفسه محمد بن المتوكل، فلا يتقدمه، ولا يقدم عليه أحد، فعمل بوصية والده وشجع محمد بن المتوكل على ذلك، وبذل جهداً كبيراً في دعمه والوقوف بجانبه.
غير أن الكثير من مراكز القوى، سواء كانوا من آل القاسم أو من غيرهم رأوا أن لديهم القدرة على إعلان إمامتهم، واستأثر كل واحد منهم بالمنطقة التي كانت تحت ولايته، وبالفعل أعلنوا دعوتهم للإمامة إلى جانب دعوة محمد بن المتوكل إسماعيل، وهؤلاء هم:
1- القاسم بن الإمام المؤيد في شهارة، وتلقب بالمنصور.
2- الحسين بن الحسن في رداع، وتلقب بالواثق.
3- علي بن أحمد بن القاسم في صعدة.
4- علي بن الإمام المتوكل إسماعيل في إبّ، وتلقب بالناصر.
5- الحسن بن الإمام المتوكل في تهامة.
6- محمد بن الإمام المهدي أحمد بن الحسن في المنصورة، وتلقب بالناصر.
7- عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب في كوكبان، وتلقب بالمتوكل.
8- السيد محمد بن علي الغُرباني، قال: "إنه الإمام الداعي وأن الولاية له في الزكاة والحقوق".
أما محمد بن الإمام المتوكل فكان أكثر من حرضه على إعلان أمامته هما القاضي يحيى جباري الذماري والقاضي محمد بن محمد العنسي، وكان أول مبايع الحسين بن المهدي أحمد بن الحسن، ثم تبعه سائر قضاة صنعاء وعلمائها جميعاً.
ولم يكن محمد بن المتوكل يصر على الإمامة مثلما فعل الإمام المهدي أحمد بن الحسن وقبله الإمام المتوكل، فدعوته كانت إلى الرضا من آل محمد، يؤيد ذلك ما ذكره أبو طالب بقوله: "بعد أن نفر من الإمامة، وبقي هو والعلماء في مراجعة طويلة، وما زال يتطلب العذر منها بالوجوه العديدة، حتى أقنعه بعض قضاة اليمن، فتوكل على الله ودعا، وبايعه الأعيان من العلماء وجميع أهل الحل والعقد" .
ولعل القضاة قد أقنعوا محمد بن المتوكل بأنه لا يوجد من هو أهل للإمامة أفضل منه، إذ أن المنافسين له كانوا أقل علماً منه، هذا بالإضافة إلى زهده وبعده عن ملذات الدنيا، وعدله، ويشبهه بعض المؤرخين بعمر بن عبد العزيز.
وبعد أن أعلن محمد بن المتوكل إمامته بدأ يسعى إلى إقناع المعارضين له من آل القاسم بأن يتنازلوا له عن الإمامة، وكان أول من تنازل له، وبايعه هم إخوته علي بن المتوكل في إبّ وحسن بن المتوكل في تهامة، فأجابوا على رسائل أخيهم محمد بأنهم مناصرون له، وأنهم لن يعلنوا إمامتهم إلا إذا لم يقم هو وأخذها غيره.
وبعد مراسلات بين محمد بن المتوكل والقاسم بن المؤيد وعلي بن أحمد تم الاتفاق على أن يجتمع بهما لإقناعهما بإمامته، فالتقى بهما في خمر وبايعاه بالإمامة بعد أن تنازلا عنها.
ولما علم صاحب كوكبان عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب باجتماع محمد بن المتوكل بعلي بن أحمد والقاسم بن المؤيد ومبايعتهما وتنازلهما له كتب إليه وبايعه بالإمامة، وخطب له في شبام وكوكبان، وترك ما كان قد دعا إليه، ولم يعد من معارض لمحمد بن المتوكل إلا صاحب المنصورة محمد بن أحمد بن الحسن، وصاحب رداع الحسين بن الحسن بن القاسم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا تنازل القاسم بن المؤيد عن الإمامة لمحمد بن المتوكل بهذه الطريقة السهلة؟ مع أن شخصية محمد بن المتوكل ضعيفة إذا ما قورنت بشخصية أحمد بن الحسن.
لعل القاسم بن المؤيد قد استفاد من حروبه مع المهدي أحمد بن الحسن، وكان يعلم أن استمراره في ادعاء الإمامة، ومحاربة المؤيد محمد بن المتوكل ستكون غير ذات جدوى، خاصة أن كثيراً من القضاة والعلماء والأعيان هذه المرة كانوا مؤيدين ومناصرين لإمامة محمد بن المتوكل للصفات السابق ذكرها، والسبب الآخر هو أن المناطق التي كان متولياً لها القاسم كانت فقيرة بسبب الجفاف الذي كان قد أصابها، وأن ما لديه من مخزون قد أنفق معظمه خلال حروبه مع أحمد بن الحسن، هذا بالإضافة إلى أنه خلال اجتماعه مع علي بن أحمد ومحمد بن المتوكل رأى أن علي بن أحمد قد سلم الأمر لمحمد بن المتوكل، وبايعه بالإمامة، وأعلن وقوفه إلى جانبه.
وأن محمد بن المتوكل قد حاول إقناع القاسم بالتنازل سلماً خلال ذلك الاجتماع، فقال له: "إن هذا الأمر إن سلَّمناه لكم فأكثر هؤلاء الذين قد تبعونا لا يسلِّمون الأمر إليكم، بل هو الشرط الذي جرى من أولاد المهدي الذين في الغراس ومن معهم من العسكر وقبائل بني الحارث وهمدان" .
وللأسباب السابق ذكرها لم يجد القاسم بن المؤيد بداً من التسليم لمحمد بن المتوكل ومبايعته، وكان الاتفاق والمبايعة بخمر يوم الاثنين 16 رمضان 1092هـ/ 28 سبتمبر 1681م، وعاد كل واحد منهم إلى مركز ولايته.
ومن البديهي أن يطلب القاسم بن المؤيد وعلي بن أحمد المزيد من المناطق مقابل مبايعة محمد بن المتوكل والتنازل له عن الإمامة، فأعطى الأول بلاد عذر وظليمة وبقية الشرف وبيت الفقيه بن عجيل بتهامة وبلاد زبيد، كما أعطى الثاني جبل صبر إلى جانب ولايته السابقة، وأعطاه ما يحتاج من الأموال، غير أن صاحب المنصورة محمد بن أحمد بن الحسن كان قد استولى على زبيد وبيت الفقيه، وكذلك جبل صبر، كما سنرى لاحقاً.
أما الحسين بن الحسن بن القاسم فعلى الرغم من أن محمد بن المتوكل قد اجتمع به للتفاوض وإقناعه بمبايعته والتنازل له عن الإمامة، إلا أنه ظل متمسكاً بها، وكان يرى أنه أحق بها منه. وأن الاجتهاد قد خُتم بالإمام المتوكل إسماعيل في المدة السابقة. غير أنه خلال اجتماع محمد بن المتوكل مع علي بن أحمد والقاسم بن المؤيد تمردت جميع بلاد يافع وبلاد العولقي وبلاد الهيثمي، وكانت تابعة لولاية الحسين، وطردوا الوالي منها، وقتلوا بعض أصحابه، واضطربت الأوضاع في هذه المناطق، فاضطر الحسين بن الحسن إلى المكاتبة لمحمد بن المتوكل وغيره من آل القاسم يطلب منهم المساعدة وإرسال الإمدادات من الجنود والأموال لإخضاع تلك المناطق، ولم يكن حتى الآن قد تنازل لمحمد بن المتوكل عن الإمامة، وكما أن الأخير لم يتمكن من مساعدته بسبب انشغاله بإتمام الاتفاق مع القاسم بن المؤيد وعلي بن أحمد.
ونتيجة لاستمرار الاضطرابات في مناطق ولاية الحسين بن الحسن، وخروجها عن سيطرته اضطر أن يتنازل لمحمد بن المتوكل عن الإمامة ويبايعه، ليكون عوناً له على يافع والمناطق الأخرى، وأنه لن يتمكن من الاستمرار في إعلان إمامته ومناطق ولايته مضطربة، وبدأت تخرج عن سيطرته الواحدة تلو الأخرى.
ولم يبق من معارض لإمامة محمد بن المتوكل إلا صاحب المنصورة محمد بن أحمد بن الحسن الذي استولى بعد وفاة والده على ما يستطيع من المناطق، حتى تكون عوناً له على إعلان دعوته، فقام في شهر رجب (1092ه/1681م) بالاستيلاء على بيت الفقيه بن عجيل وزبيد، وبلاد والده مثل عدن والدمنة ولحج وذي السفال، وكانت المناطق التابعة له من قبل بلاد المنصورة وشرعب وتلك الجهات جميعاً إلى باب تعز وقعطبة، وفتح داراً للضرب بالمنصورة.
وكان القاسم بن المؤيد صاحب شهارة قد أرسل من قبله من يتسلم زبيد وبيت الفقيه حسب الاتفاق الذي تم في خمر مع محمد بن المتوكل-كما سبق-غير أنه عند وصولهم وجدوا فيها الحاميات العسكرية من قبل صاحب المنصورة فأعادوهم من حيث جاؤوا، وقالوا: "البلاد لغيرهم" .
وأرسل صاحب المنصورة الرسائل إلى إخوته يعاتبهم باستعجالهم في مبايعة محمد بن المتوكل، الذي لم يكلف نفسه بالخروج إلى الغراس لحضور جنازة والده المهدي.
وما زال محمد بن المتوكل يراسل محمد بن المهدي أحمد بن الحسن مراراً، ويدعوه للدخول تحت الطاعة، ومبايعته بالإمامة، بينما كان الأخير يحاول أن يقوي نفسه في المناطق التي استولى عليها مؤخراً، "زبيد وبيت الفقيه" ثم أرسل إلى محمد بن المتوكل رسالة فيها احتجاج بسبب أنه أعطى علي بن أحمد صاحب صعدة جبل صبر، قائلاً له: "كيف هذا وجبل صبر في حوزة بلدي، وجنب المنصورة عندي، هذا محال أن يتصرف فيه عُمَّال علي بن أحمد وهو تحتي، مع أن علياً قد معه جميع الشام مع ما انضم إليه من جبل رازح" ولم يصلا إلى أي اتفاق.
غير أن الأحداث كانت تسير ضد صاحب المنصورة، حيث قامت قبائل الصبيحة والحواشب بالاتجاه إلى لحج، ونهبوا أطرافها، وأخافوا طرقها، مما اضطره إلى إرسال قوة عسكرية بقيادة أحد أبنائه لمحاربتهم، ثم تبعها بقوة عسكرية أخرى، غير أنهم هُزموا، وقُتل بعض منهم، كما أن الشيخ ابن شعفل قام هو ومن معه من قبائل الجحافل بانتهاب وتقطع في طريق الدمنة، ولم يتكمن صاحب المنصورة من الخروج من منصورته لمحاربة هؤلاء خوفاً من قبائل الحجرية أن تتمرد عليه وتثور ضده، لذلك رأى أنه لا بد من الاتفاق مع الإمام المؤيد محمد بن المتوكل ومبايعته حتى يكون عوناً له ضد القبائل المتمردة، وبدأ في المكاتبة للمؤيد، وأرسل إليه كاتبه الخاص يطلب منه الاجتماع بحضور الحكام والعلماء والقضاة، وأن تُقام الشريعة فيما ادعاه، فأجاب المؤيد أن هذا هو المراد.
غير أن صاحب المنصورة محمد بن أحمد، وهو ذو شخصية متقلبة-كما سنرى-أرسل في شهر الحجة من سنة (1092ه/1681م) السيد ناصر الديلمي برسالة إلى الإمام المؤيد يقول فيها: إن الاتفاق قد تعذر. وكان سبب تراجعه أنه أشار عليه المقربون إليه أن ذلك سيكون سبباً للفتنة، وأن القضاة لن يختاروا إلا محمد بن المتوكل، لذلك رجع صاحب المنصورة عما كان قد اقترحه، وعزز قواته في زبيد وبيت الفقيه، وأخرج الولاة السابقين منها، وعين ولاة من قبله. وما زالت المراسلات بين صاحب المنصورة والإمام المؤيد حتى سنة (1093ه/1682م) حيث اشترط الأول شروطاً إن وافق عليها المؤيد بايعه وتنازل له عن الإمامة، وإلا فهو باق على ما هو عليه. وهذه الشروط هي:
1- عزل علي بن المتوكل عن الولايات التابعة له.
2- عزل السيد حسن الجرموزي عن ولاية المخا، وإعطاء محمد بن أحمد بن الحسن ربع المخا.
3- منع ولاة بيت المال عن قبض محصولات الأوقاف.
ويلاحظ أنها مطالب من أجل تحقيق التوسع، ومن أجل الحصول على مزيد من الأموال، وفي بداية الأمر رفض محمد بن المتوكل هذه الشروط؛ لأنه لا يمكنه بأي حال من الأحوال عزل أخيه علي عن ولايته، فهو من مراكز القوى الهامة والفاعلة، وأصبحت شوكته قوية، بالإضافة إلى أنه قد تنازل لأخيه المؤيد عن الإمامة، فكيف سيكون رد فعل علي بن المتوكل لو فكر أخوه المؤيد بعزله لإرضاء صاحب المنصورة العدو الأول لعلي بن المتوكل؟
وكان علي بن المتوكل يخشى أن يستولي صاحب المنصورة على تعز التي كانت تابعة لولايته، لذلك اضطر إلى البقاء بها؛ لأنه كان يعلم أنه إذا خرج منها، فإن صاحب المنصورة سيدخلها، وكان علي بن المتوكل يمر بضائقة مالية بسبب الجفاف وغلاء الأسعار، وتضرر أهالي تعز وغيرهم من كثرة المطالب المفروضة عليهم، وعلى العكس منه صاحب المنصورة، الذي "كانت البلاد المحصلة تحت يده، فلم يكن معه مثلما مع هؤلاء من المشقة، والمدخول من الدفعات لا تزال مستمرة" .
واستمر الوضع على ما هو عليه، واستمرت المراسلات بينهما، المؤيد يطالب بالتنازل والمبايعة، وصاحب المنصورة يصر على تنفيذ تلك الشروط أولاً، وفي آخر الأمر كتب الأخير إلى المؤيد رسالة أهم ما جاء فيها: "إذا قد بنيتم على عدم فعل شيء مما شُرط عليكم كنتم على حالكم في البلاد التي قد أجابتكم، ونحن على حالنا في البلاد التي تحت أيدينا، ولنا النظر من بعد على ما اقتضاه نظرنا" .
ومن الطبيعي أن يرفض المؤيد هذا العرض، إذ إن ذلك يعني موافقته على أن يكون محمد بن أحمد إماماً في منطقته، التي كانت حينذاك أهم وأغنى المناطق، وأنه في نهاية الأمر سيستمر في انتزاع المناطق الهامة الواحدة تلو الأخرى، ويصبح أقوى من ذي قبل، وينتزع الإمامة من المؤيد، لذلك اهتم الأخير بجمع القضاة والأعيان ليستشيرهم في الأمر، فأشار عليه البعض بضرورة محاربة صاحب المنصورة والحد من نفوذه، والبعض الآخر أشار عليه أن يجعل له جميع المناطق التي كانت تابعة له من قبل، وكذلك المناطق التي استولى عليها فيما بعد، وأن يكون مسؤولاً عن جميع بلاد المشرق.
غير أن صاحب المنصورة كان قد حصل على كل ذلك بالقوة، ولم يكن بحاجة إلى موافقة المؤيد أو إعطائه إياها؛ لأنها أساساً أصبحت تابعة له، أما يافع فإنها منطقة لم تعد تابعة لأحد من آل القاسم، حيث كان أهل يافع قد طردوا الولاة، محاولين الاستقلال عن الدولة القاسمية، كما سنرى لاحقاً.
وعلى الرغم من أن صاحب المنصورة ما زال أمره يقوى يوماً بعد يوم، إلا أن الإمام المؤيد اضطر أن يرسل إليه بعضاً من آل القاسم لمواجهته، وإرغامه على التنازل للمؤيد ومبايعته، فبدأ الحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم بالتحرك من دمت إلى بلاد الجند، كما اتجه إسحاق بن المهدي أحمد بن الحسن إلى "ذي شرق" بمن معه، وأصبح كل واحد منهم مستعداً للحرب، وكتب الإمام المؤيد إلى أخيه الحسن بن المتوكل صاحب اللحية أن يجمع جنوده ويتجه إلى بيت الفقيه، غير أن موقف المؤيد كان ضعيفاً، حيث كان كثير من الجنود منقادين ومتعاطفين مع صاحب المنصورة؛ لأنهم كانوا تابعين لوالده الإمام المهدي، فنجد مثلاً عندما كتب المؤيد إلى حراز يأمرهم أن ينضموا إلى أخيه الحسن ويقصدون بيت الفقيه امتنع أكثر أهل حراز، كذلك إسحاق بن المهدي، الذي أُرسل لمواجهة أخيه محمد كان معظم جنده قلوبهم مع صاحب المنصورة "لإحسان والده عليهم" ، وصرح مشائخ الرحبة وهمدان للمؤيد بأنه إذا كان يريد دخول يافع فهم معه مناصرين ومؤيدين، وإن كان يريد محاربة محمد بن أحمد بن الحسن فلا يمكنهم ذلك؛ لأنهم أتباع والده، وأظهر إبراهيم بن المهدي الميل إلى أخيه، فأصبح يكاتبه وأعانه بالجند والمال، وجهز مجموعة من الجند إلى منطقة حبيش للاستيلاء عليها، غير أنهم لم يتمكنوا من ذلك ثم استعد للتوجه إلى بلاد المخادر، وكلها تابعة لعلي بن المتوكل، ولم يتمكن من دخولها أيضاً.
لهذا كله أصبح المؤيد في موقف صعب وفي حيرة من أمره، فكان قد اقترح على صاحب المنصورة أن يبايعه أولاً بالإمامة، ومن ثم سينظر في الموافقة على شروطه، غير أن محمد بن المهدي لا يزال مصراً على تنفيذ شروطه تلك، وبذلك لم يكن أمام المؤيد إلا أحد أمرين: إما الموافقة على الشروط التي وضعها محمد بن المهدي، أو أن يتركه في مناطق ولايته على ما هو عليه، وأنها ستكون له سواءً بايع أم لم يبايع، ولكي يتقي شر صاحب المنصورة كان لا بد من الموافقة على الشروط، فأرسل إليه برسالة فيها الموافقة على تلك الشروط، وأجاب عليه صاحب المنصورة برسالة مبايعاً له بالإمامة، مؤكداً على أنه لم يبايعه إلا بعد موافقته على شروطه.
ومن البديهي أن موافقة المؤيد على شروط صاحب المنصورة ستغضب كلاً من علي بن المتوكل والحسين بن الحسن بن القاسم؛ لأنه سيكون الضرر عليهما في ذلك وسبباً في إثارة فتنة أخرى، فبالنسبة للحسين بن الحسن فلأن المؤيد كان قد أعطى بلاد المشرق من يافع وغيرها لصاحب المنصورة، وعلى الرغم من أنها قد خرجت عن يد الحسين بن الحسن، إلا أنه لن يسمح أن يتولاها غيره، وأنه سيعمل على إعادتها إلى ولايته، وكان ما جاء في رسالته إلى المؤيد: "وما يصلح منك إلا المعونة على إرجاعها، وردها على حالها، وإن لم يكن منك ذلك فلا تتعرض لتوليتها" .
أما علي بن المتوكل فهو الآخر قد أرسل رسالة يعاتب فيها أخاه المؤيد، ويؤكد له أنه لن يُنفذ الشروط الخاصة بعزله عن ولايته، فاضطر المؤيد أن يجمع القضاة والحسين بن المهدي أحمد بن الحسن ليستشيرهم في الأمر، فأشار عليه البعض أن يرجع عن تلك الشروط، وأن يقر كلاً على بلاده، فاستحسن الرأي، غير أن الحسين بن المهدي أحمد بن الحسن عارض ذلك قائلاً: "كيف ترجع في شيء قد وضعته وجهزته وقررته، وأمرتنا بوضع شهادة مثل ذلك للصنو محمد بن المهدي؟ فهذا لا ينبغي، وكذلك كان هذا رأي بعض القضاة" .
ومن الواضح أن الإمام المؤيد لم يكن يستطيع أن يتخذ قرارات حاسمة، ويحسم الموقف مثلما كان عليه والده المتوكل والإمام المهدي، بل نجده يجتمع مع القضاة والعلماء والأعيان ويتخذون قراراً، ثم لا يلبث أن ينقضه أو لا يقوم بتنفيذه، وقد أشار المؤرخ يحيى بن الحسين إلى ذلك بقوله: "وليت هو رأي لا يرجع فيه، ولكن متى عقد الرأي لم يتم، بل يرجع فيه وينقضي في الحال" .
أما الحسين بن الحسن وعلي بن المتوكل فقد تم تبادل الرسائل بينهما، وأنهما يد واحدة على محمد بن أحمد بن الحسن، وأنهما لن ينفذا شرط الإمام المؤيد في التخلي عن مناطق ولايتهما، وأن ذلك أمر محال، وسيكون بسببه العناد والخلاف، فلما علم المؤيد كتب إلى الحسين وعلي وصاحب المنصورة أنه يريد الاجتماع بهم في ذمار أو غيرها للاتفاق وترك الخلاف والشقاق، لكن دون جدوى.
وعلى كل حال فإن الإمام المؤيد كان يبحث عن الاستقرار والأمن والاتفاق مع جميع آل القاسم وحاول تجنب الحروب والصراع على الإمامة بقدر مستطاعه، لكنه دفع ثمن ذلك، واستغلت مراكز القوى شخصيته تلك وميله إلى السلام ومداراته للكثير من تلك المراكز، فهي في آخر الأمر قد بايعته ووافقت على إمامته، بما فيها صاحب المنصورة، الذي كان آخر هذه المراكز، كما رأينا، غير أنه لم يكن للإمام المؤيد أي سلطة فعلية إلا على المناطق التي كانت تابعة له أيام ولايته السابقة.
أما بقية المناطق فقد توزعت بين مراكز القوى المتعددة من أبناء القاسم، التي كان أقواها صاحب المنصورة محمد بن أحمد بن الحسن، وكانت مناطق ولايته قد شملت الحجرية وجنوب تهامة حتى بيت الفقيه، كذلك علي بن المتوكل كانت له المناطق الجنوبية الواقعة بين ذمار وتعز، وهو ما عرف باليمن الأسفل، والحسين بن الحسن كانت ولايته ممتدة من رداع وما إليها من المناطق الشرقية حتى حضرموت، وعلي بن أحمد كانت له ولاية صعدة وما إليها من المناطق الشمالية، والأمير الناصر بن عبد الرب في كوكبان وما إليها.
هذا بالإضافة إلى أن إسحاق بن المهدي استقر في ذي اشرق، واستولى على عائدات بعض المناطق المجاورة حتى ينفق على جنده، وأخوه إبراهيم بن المهدي كذلك استقر في يريم وتصرف فيها، ومحمد بن المهدي أحمد بن الحسن أرسل (أبا ريحان) على رأس مجموعة من الجند لاستلام ربع المخا، حسب موافقة الإمام المؤيد في شروطه.
أما بلاد العدين، والتي كانت أهم مناطق اليمن الأسفل وأخصبها فقد استقر فيها عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن، فأخذ النصف من عائداتها، قائلاً: إن الإمام المؤيد هو الذي جعل له النصف من عائداتها والنصف الآخر أرسله إلى المؤيد، فلما وصل النصف الخاص بالمؤيد إلى يريم، وقدره ثلاثة آلاف، استولى عليه إبراهيم بن المهدي أحمد بن الحسن، وقال: إن الإمام المؤيد قد قرر له ذلك المبلغ لأتباعه. وعلى حد تعبير المؤرخ يحيى بن الحسين، حيث يقول: "فانخلعت يد محمد من فائدة العدين، وبقي في صنعاء صفر اليدين".
وخلت يد الإمام المؤيد عن جميع اليمن الأسفل بالمرة، ولم يبق له فيه إلا مجرد الخطبة. وصار في أشد الحاجة إلى الأموال، وخلت خزائنه، ولم يبق له من البلاد إلا ما كان له أيام والده، بل إنه قد خرج من يده بعض مناطق ولايته مثل: بلاد حراز أعطاها لأحمد بن محمد بن الحسين، وبلاد ثلا أعطاها لأخيه القاسم بن المتوكل.
وهكذا وصلت الأحوال في عهد الإمام المؤيد بأنه لم يبق له سلطة فعلية في كثير من مناطق اليمن عدا الخطبة والاسم، ولم يبق معه إلا أقل مما كان في زمن والده من عائدات بعض مناطق ولايته السابقة. "وكثر الاشتراك في المملكة، بسبب الضعف واختلاف الكلمة" ، ومن البديهي أن تفتيت أراضي الدولة بهذه الطريقة كان من أهم أسبابها ضعف شخصية الإمام المؤيد وزهده والطيبة التي تمتع بها، مما جعل معظم الولاة كأنهم مستقلون في ولاياتهم، ولا ينفذون للإمام أمراً ولا نهياً فيها.
وبعد أن بذل المؤيد للكثير من أبناء القاسم ما طلبوه من الولايات، واستقرت دولته، ووافق الجميع على إمامته رأى أن يغادر صنعاء مركز ولايته السابقة، متجهاً إلى ضوران، فغادرها يوم الخميس 19رجب (1093ه/ 23يوليو 1682م)، حيث أشرف على اختطاط مدينة معبر بقاع جهران، على بعد 68كم، جنوب صنعاء، وبها أمضى السنوات القليلة من حكمه، وعين أخاه زيد بن المتوكل الذي كان في ضوران والياً على صنعاء.
موقف الإمام المؤيد من تمرد بعض المناطق الشرقية
إن ضعف مركزية الدولة، وتراجع هيبتها، خاصة في اليمن الأسفل والمناطق الشرقية والجنوبية من البلاد، مع ما كانت تعانيه من جور الولاة، وفرض المزيد من الضرائب جعل بعض تلك المناطق تعلن خروجها عن سلطة الدولة القاسمية، وتثور ضد هؤلاء الولاة.
ولعل أخطر ما واجهه الإمام المؤيد في السنة التالية من حكمه هو طرد قبائل يافع للعامل، والعصيان لأوامر السلطة المركزية التي يمثلها والي منطقته الأمير الحسين بن الحسن بن القاسم، ومركزه في رداع.
فلماذا ثارت يافع ضد الدولة القاسمية؟ وما رد فعل محمد بن المتوكل؟ وموقف بقية الولاة من آل القاسم حينذاك؟ وهل كانت الظروف مساعدة للدولة لتعيد يافع مرة أخرى إلى سلطتها؟
كانت يافع قد استاءت كثيراً من صلاح بن مسمار، الذي عينه الحسين بن الحسن بن القاسم عاملاً لتلك المنطقة، فاضطر بعض مشائخها أن يكتبوا للإمام المؤيد يشرحون له سوء معاملة العامل صلاح بن مسمار وجوره في فرض الضرائب المختلفة على بلادهم، وأنهم لن يصبروا على ذلك الظلم. وطلبوا منه عزله وعزل حسين بن الحسن صاحب رداع، الذي كانت يافع تابعة لولايته.
ويرى أبو طالب بأن صاحب المنصورة هو الذي حرض يافع أن تثور ضد الحسين بن الحسن بسبب الضغائن التي بينه وبين الحسين، لكنه مثل سائر المؤرخين يرى بأن الحسين هو السبب في تمرد يافع، حيث اشتدت وطأته على المشرق، وولَّى عليهم صلاح بن مسمار، الذي جار عليهم وظلمهم كثيراً.
ومهما كانت الأسباب فقد قام الشيخ معوضة بن العفيف بالهجوم على مقر عامل الدولة وطرده منها، ورفض الانصياع لأوامر الدولة. ولما علم الحسين بن الحسن-الذي كان يدير تلك المناطق من مركز ولايته في رداع-كتب إلى الحسين بن أحمد بن الحسن بأنه يريد المساعدة بسبب تمرد يافع، وطرد عامله منها، وكان الإمام المؤيد في السودة، وكان يعلم بأن السبب في تمرد يافع هو الظلم والجور الذي وقع عليهم من قبل العمال الذين كان يرسلهم الحسين، وكذلك من الحسين نفسه، لذلك نجده يرفض إرسال النجدة أو المساعدة للحسين، وقال لا بد أولاً أن يراسل يافع، ليعلم منهم ما سبب تمردهم، ويحاول إرضاءهم، وتهدئة الوضع.
فكتب الإمام المؤيد ليافع قائلاً: "إذا كان مرادكم بتحويل الوالي، وأنه غير صالح، وجائر في مطالبكم عُزل، وهو الفقيه الملقب مسمار الأهنومي، وَوُلي واحد يكون واسطة بينكم وبين حسين بن حسن، وإن لم تطيعوا أمْرنا جهزنا عليكم" . غير أن يافع كانت قد ثارت ضد العامل مسمار الأهنومي، وكذلك ضد أحد أبناء الحسين بن الحسن، الذي كان والده قد أرسله على رأس حملة عسكرية لمحاربتهم، فحاصروه، وكان الحسين بن الحسن يحاول إرسال النجدات إلى يافع الواحدة تلو الأخرى، لإعادتها تحت سيطرته، لكن دون جدوى، فقد حدثت حروب بين الطرفين كانت الغلبة فيها دائماً ليافع، على الرغم من أنه كان يقتل منهم الكثير، لكنهم هذه المرة كانوا مُصّرين على التخلص من سيطرة الدولة القاسمية عليهم، وعلى حد تعبير يحيى بن الحسين: "فلما أغار ولد حسين بن الحسن بمن معه من العسكر، وكانوا نحو سبعمائة أقبلت يافع كالجراد، وقد تعاقدوا على الحملة عليهم إلى البيوت التي سكنوها في مسجد النور، ولا يبالوا بالرصاص، ولا بمن قُتل من الناس" . وقتل من يافع حوالي خمسون لكنهم لم يبالوا بذلك، "وأخرجوهم من يافع لا يألون على شيء إلا السلامة لمن بقي منهم" .
وكان نجاح ابن العفيف في التخلص من ولاة الدولة القاسمية وسيطرتها عليهم حافزاً لبقية يافع والمناطق الأخرى المجاورة للاستقلال وطرد الولاة، فثارت جميع البلاد اليافعية وما خلفها من نجد السلف إلى أقصى حضرموت. وعقب ذلك تمرد بلاد الرصاص، وقاموا بنهب المنازل التي في البيضاء، بما في ذلك المنزل الخاص بالحسين بن الحسن، بينما الأخير لا يزال مستمراً في المكاتبة للمؤيد يطلب منه النجدة والمساعدة لاستعادة المناطق المتمردة، بعد أن تعذر عليه ذلك وخرجت عن سيطرته، وشرح الحروب التي دارت بينه وبينهم، وأنه قد أصبح محاصراً، فاضطر الإمام المؤيد أن يرسل إليه أخاه الحسين بن المتوكل في نصف شهر شوال سنة (1092ه/ أواخر أكتوبر 1681م).
كما أمر عسكر الحيمة بالتوجه إليه لمساعدته وأمر أيضاً بعض قادته بالتوجه إلى رداع من أجل ذلك.
غير أن الإمام المؤيد في هذه الفترة لم يتمكن من أخذ قرار حاسم لتوجيه الجيوش أو إصدار الأوامر للولاة بإعداد جيوشهم لأسباب سنذكرها لاحقاً، لذلك فإن النجدات البسيطة التي كان يرسلها المؤيد إلى الحسين لم تجد نفعاً، حتى إن الحسين عندما أيقن بعدم مقدرته على محاربة ابن العفيف بعد معركة خاسرة معهم اضطر أن يخاطبهم بالسماح له بالخروج، وطلب الأمان، فأعطاه ابن العفيف الأمان، وخرج الحسين ليلاً خوفاً من قبائل الرصاص متجهاً إلى مقر ولايته رداع. "وفرغت جميع البلاد المشرقية لأهلها، وزالت دولته عنها" .
ولما رأت القبائل المجاروة ما حدث للدولة القاسمية في يافع والبيضاء من هزائم متكررة، وأنها لم تعد بتلك القوة والسطوة التي كانت عليها في عهد الإمام المتوكل والإمام المهدي أحمد بن الحسن تجرأت على نهب بعض المناطق التابعة للدولة، ليس ذلك فحسب، بل إن زعماء بعض تلك المناطق أصروا على عدم إرسال أي مطالب للدولة القاسمية، وأنهم لم يعودوا ملزمين بدفع شيء من ذلك.
فنجد في شهر الحجة من عام (1092ه/1681م) أن الرصَّاص الذي كان قد وصل إليه كتاب من الإمام المؤيد يطلب منه الطاعة وترك الخلاف، أجاب عليه بأن "حسين بن الحسن قد خرج من بلاد يافع ومن بلادنا، ولم نتعرضه في طريقه، بل خرج محملاً، ومن الآن ما بقي إلى بلادنا سبيل في مطلبة ولا زكاة ولا شيء مما كان، فلا يصل إلينا أحد، ومن وصل دافعناه وأخرجناه؛ لأنه صار يحصل من الولاة الجور في البلاد. وأما إذا مطلبكم الخطبة فعلناها لكم، وأن الولاية لنا في بلادنا"، فاضطر المؤيد إلى محاولة مدارات الرصاص بالطرق السلمية، وأرسل إليه من ضوران الشيخ جعفر بن علي للإصلاح.
وقد تضافرت أسباب عدة أدت في نهاية الأمر إلى خروج الكثير من المناطق الشرقية والجنوبية عن سيطرة الدولة القاسمية، لعل أهمها:
1- شدة الوطأة والجور من الولاة الذين كانوا يديرون هذه المناطق، خاصة في يافع، وكان الجور الواقع عليهم منذ الفترة السابقة للمؤيد، وأنهم قد عانوا من الحسين بن الحسن وعماله الكثير من الظلم والجور، وأنهم قد شكوا ذلك إلى الإمام المهدي أحمد بن الحسن، وليس أدل على ذلك ما أجابت به يافع على الرسول الذي أرسله الإمام المؤيد إليها في نهاية عام (1093ه/ نهاية عام1682م) بأنها مستعدة لتسليم ما عليها من واجبات بشرط أن لا يتولاهم الحسين بن الحسن، وأن بلادهم لهم. كما وصل كتاب من ابن العفيف سنة (1094ه/1683م) بعد هزيمة جيش الدولة القاسمية هناك، كان أهم ما جاء فيه: "إنا لو عرفنا منكم من الإنصاف ما حاربنا ولا جرى منا شيء، وأنتم قبلتنا. والقصد إنا مطيعون لله ولكم، مُسَلِّمون الحقوق الواجبة إلى من رأيتم غير سيدي الحسين بن الحسن، خاطبين لكم. ونحن مُسْلِمون ما يجوز لكم محاربتنا" .
2- ما تعرضت له الدولة القاسمية من خلل، نتيجة لعدم الاتفاق بين الإمام المؤيد وبعض معارضيه في الإمامة من آل القاسم، فعمت الفوضى والاضطرابات، وما زاد من تلك الفوضى عدم وصول المؤيد إلى اتفاق مع صاحب المنصورة محمد بن المهدي، الذي كان يعد من أهم مراكز القوى حينذاك، وكان قد قويت شوكته، كما سبق أن رأينا، وبالتالي كان ذلك سبباً في ضعف موقف الإمام المؤيد، وتراجع هيبته أمام القبائل المختلفة، وقد أشار يحيى بن الحسين إلى ذلك بعبارة هامة، حيث قال: "ما دام المؤيد وصاحب المنصورة غير مجتمعين في رأي ولا متفقين في أفعالهم وأقوالهم فلا يكاد يتم للمؤيد أمر في هذه القبائل المخالفة؛ لأنهم صاروا يتقوون بذلك" .
3- لم نعد نرى في فترة الإمام المؤيد ذلك التعاون والتآزر الذي كان سائداً أيام الإمام المتوكل إسماعيل، فكان الجميع ملتفاً حول الإمام، أما الآن في هذه الفترة فكان كل واحد من مراكز القوى لا هم له إلا تقوية نفسه في مناطق ولايته، كما ظهر الخلاف فيما بينهم فنجد مثلاً حدث خلاف بين الحسين بن الحسن وابن أخيه صاحب المنصورة، حتى قيل إن الأخير هو المحرض الأول ليافع لتثور ضد عمه الحسين، وكان عوناً لها، كما أرسل الرسائل إلى الإمام المؤيد يذكر له فيها صلاح المشرق، وأنهم مُسلِّمون الواجبات، ويخطبون الخطبة، ولا يجري منهم تعرض لطريق أو غير ذلك، وإنما شرطهم الوحيد أن يُعزل الحسين بن الحسن عن ولاية بلادهم، كما نشب خلاف أيضاً بين علي بن المتوكل وصاحب المنصورة محمد بن المهدي، واستمر طويلاً، ومن البديهي أن مراكز القوى هذه لن تجتمع وتتفق على هدف واحد والخلافات مستمرة بينها، وقد عبر يحيى بن الحسين عن ذلك بقوله: "فتثاقلت الغواير، وقلوبهم مختلفة، الرؤساء يقولون: وما لهم من مصلحة في هذه الحركة، فإن تلك البلاد لحسين بن حسن، ونفعها وضررها له".
4- ضعف شخصية الإمام المؤيد، وقلة ما في يده من المال، لذلك لم يتمكن من إلزام مراكز القوى بتنفيذ ما كان يأمر به، واستولت على عائدات مناطق ولاياتها ولم تعد ترسل له ما يجب عليها إرساله من الأموال، حتى أن خزائنه خلت من الأموال. ومع أن الإمام المؤيد لم يكن يرض بجور الولاة وشدة وطأتهم، إلا أنه لم يكن له أثر في ولاته أصلاً، ولم يهتموا بأوامره، أو يحاولوا تنفيذ بعضها.
وعلى الرغم من تلك العوائق لاستعادة هيبة الدولة على المناطق المتمردة فإن الإمام المؤيد رأى أن خروج يافع وتمردها كان سبباً أو مبرراً لتمرد الكثير من المناطق الأخرى، وخروجها عن سيطرتها، لذلك فلا بد من إخضاع يافع بالقوة لتكون عبرة لغيرها، فكتب إلى إخوته وأبناء عمومته بالاستعداد للخروج إلى يافع، فكان جواب معظمهم أنه لا ينبغي الاستعجال؛ لأن ذلك يحتاج إلى الكثير من الجنود والأموال والسلاح، لكنه أصر على ذلك، وأقنعهم بضرورة الخروج لمحاربة يافع، فبدأ الولاة من آل القاسم بالاستعداد، وكان الإمام المؤيد قد أعد ما لديه من جند في قاع بكيل، والحسين بن المهدي أحمد بن الحسن استعد خارج الغراس، والحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم خارج عمران، والحسين بن الحسن في رداع، وعلي بن المتوكل باليمن الأسفل، والحسين بن المتوكل اتجه بجنوده إلى الزهراء، وكذلك أحمد بن محمد بن الحسين بن القاسم، وصاحب كوكبان الحسين بن عبد القادر.
ومن البديهي أن يكون المستفيد الأول من هذه الجموع هو الحسين بن الحسن بن القاسم، الذي كان قد اتجه إلى ضوران ليحرض الإمام المؤيد بسرعة الإعداد لهذه الحملة، واضطر الجميع إلى المشاركة في هذه الحملة عدا صاحب المنصورة محمد بن المهدي أحمد بن الحسن، الذي لم يرسل جنوداً ولا أموالاً ولا أسلحة. وقد برر عدم مشاركته في حرب يافع تبريراً واهياً، عندما أرسل إليه رسالة يعاتبه لعدم مشاركته في ذلك، فأجاب بأنه لم يؤمر بذلك، ولا وصل إليه كتاب بالسير إلى هنالك. واقترح على المؤيد بأن استعادة المشرق سيكون سهلاً عليه إذا جعله المؤيد تابعاً لولايته بدلاً عن عمه الحسين بن الحسن، فوافق المؤيد على ذلك، ولكن بشرط وصول ابن صاحب المنصورة إليه، ويكون التوجه إلى يافع من عنده، غير أنه لم يتم شيء من ذلك بسبب انشغال صاحب المنصورة بتمرد قبائل الحجرية ومحاصرتهم له.
ومهما يكن الأمر فقد اجتمعت في ضوران لدى الإمام قدر اثني عشر ألفاً من الجنود والقادة، وحثهم الإمام على الجهاد، وما صدر من أهل المشرق من الخلاف، ومنع الحقوق الواجبة، وأسند قيادة الجيش إلى الحسين بن أحمد بن الحسن، الذي تقدم إلى رداع، ثم إلى الزهراء، وكتب إلى يافع، يطلب منهم إعلان الطاعة للإمام والدولة، فأجابوا بأنهم مصرون على الحرب، وانضم إليهم قبائل المناطق المجاورة، فاجتمعت يافع جميعاً، وبلاد ابن شعفل، والحواشب، وأكثر بلاد الرصاص، والحميقاني، وبلاد دثينة، حتى كانوا أكثر من عشرين ألف. واستعدت جميعها لمواجهة جيش الدولة القاسمية في جبل (العر)، وهو من الجبال المنيعة في يافع.
وتقدم الحسين بن أحمد بن الحسن إلى العر في ربيع الأول سنة (1094ه/ مارس1683م) وحدثت معركة حاسمة، لن ندخل في تفاصيلها، هُزم فيها جيش الدولة القاسمية، وتكبد الكثير من الخسائر، وكان من بين القتلى أحمد بن محمد بن الحسين بن القاسم، ولم يسعهم في آخر الأمر إلا أن يخوضوا في الصلح مع ابن العفيف، الذي وافق على أن يعودوا بلادهم، بشرط ترك أسلحتهم، فاقترح عليه الحسين بن المهدي أحمد بن الحسن أن يسلموا عوضاً عنها أموالاً، وسلم له أربعة عشر ألفاً، فأعطاهم ابن العفيف الأمان.
وكان للهزيمة التي منيت بها قوات الدولة القاسمية في يافع أثر في تغير الأوضاع، وقلب الموازين، حيث أصبحت الدولة القاسمية تخشى مواجهة تلك القبائل خوفاً من الهزيمة، وتدهور موقفها أمام القبائل الأخرى. كما أنها شجعت قبائل المناطق الأخرى على إعلان استقلالها عن الدولة القاسمية، والاستعداد للمواجهة-كما سنرى لاحقاً-لذلك نجد الإمام المؤيد محمد بن المتوكل يحاول استمالة تلك المناطق بالطرق السلمية، وإظهار النية الحسنة للدولة، فأرسل الرسائل إلى ابن العفيف والرصَّاص يطلب منهما الاتفاق بالطرق السلمية. وأن هذه المناطق لا بد أن تبقى تابعة للدولة القاسمية ومطيعة لها.
ولعله كان من الأفضل للإمام المؤيد في ظل هذه الظروف التي جعلته غير متمكن من السيطرة على ولاته ومشائخ تلك المناطق أن يعطيهم حكماً ذاتياً مع اعترافهم السابق بالدولة القاسمية، إلا أنه ربما كان يرى بأن ذلك سيقلل من هيبته وهيبة دولته، خاصة أن تلك المناطق كانت في عهد الإمامين المتوكل والمهدي أحمد بن الحسن تابعة للدولة، أو أنه نتيجة للضغوط من الحسين بن الحسن والي تلك المنطقة لإعادتها تحت سيطرة الدولة، أو أنه خشي أن يكون ذلك حافزاً لخروج المناطق الأخرى عن سيطرة الدولة.
ومهما كان الأمر فإنه بعد استمرار المراسلات بين الدولة ومشائخ تلك المناطق تم الاتفاق إلى أن يصل إلى قعطبة عدد من مشائخ يافع لمقابلة علي بن المتوكل، وعقد الصلح بين الطرفين. وكان وصولهم في منتصف شهر شعبان سنة (1094ه/ أوائل أغسطس1683م). وقد اشترطوا أن البلاد لابن العفيف، وأنه لا يدخل بلادهم أحد من الولاة، على أن يسلموا الواجبات التي عليهم، ويرسلونها إلى الدولة من دون ولاة ولا واسطة عليهم، واشترط عليهم علي بن المتوكل إصلاح الطرق، وسكون ثائرة الفتنة، وأنه لا بد من ضمانات لتنفيذ ما توصلوا إليه.
وأرسل ابن العفيف إلى الإمام الشيخ عبد الغفور شيبان لإكمال الاتفاق معه في ضوران، ثم أرسل ابن العفيف إلى الإمام ثلاثة من الخيول، وثلاثة ألف درهم، مقابل زكاة الفطر في بلاده، وإذا أخذنا بالظاهر فإن ابن العفيف قد وافق على طاعته للإمام، وأنه سيرسل ما عليه من واجبات للدولة القاسمية، ولكن كذبت الأحداث بعد ذلك، ولم يرسل شيئاً من المطالب المفروضة عليه، لذلك نجد المؤيد يقرر إعادة الكرة لدخول يافع، ولعله قد اتخذ من زواج ابن العفيف شيخ يافع من زوجة مسمار الأهنومي، الذي كان والياً عليها مبرراً لدخوله إليها، وقال: هذا منكر يجب النهي عنه، وكتب إلى الولاة يطلب منهم الاستعداد بالمال والرجال لحرب قبائل ابن العفيف ومن تحالف معها، غير أن حماسه لم يلبث أن يقل.
وعلى الرغم من أن المؤرخ يحيى بن الحسين انتقد الإمام المؤيد بأنه لم يتخذ قراراً حاسماً في شأن يافع فيقول: "لا هو الذي تغافل عنها إلى طرف، ولا هو الذي قصدها وأجد في الإقدام والبذل للخزائن وتحريض الرجال، عرف الطرق التي يصلح منها المداخل" . غير أنه من المرجح أن سبب عدم اتخاذه قراراً حاسماً وتردده، هو ما كانت تعانيه دولته من خلل وتراكمات أثرت على تنفيذ تلك القرارات، وقد أشار المؤرخ يحيى بن الحسين نفسه إلى شيء من ذلك الخلل بقوله: "وبني عمه في طرفي نقيض، والناس أقرب إلى الملل من دخول المشرق" . هذا إلى جانب أن علي بن المتوكل كان معارضاً لحرب يافع، فأرسل إلى أخيه المؤيد رسالة طويلة يحذره من مغبة الحرب ضد يافع، وأنها ستكون خاسرة والرأي سد هذا الباب، والانشغال بما هو أهم، ومتى وجد القدرة والقوة على محاربتهم وكان هناك سبب واضح فليكن، ثم تقدم إليه في ضوران وذكَّره ما تم بينه وبينهم من اتفاق، وأن المؤيد وقع على ذلك الاتفاق بنفسه.
وكان المؤيد على ما يبدو محتاراً في أمر يافع، فإن أرسل إليها القوات فهو يخشى الهزيمة والخسارة، وإن تركها ستتمادى ويكون ذلك سبباً في تمرد المناطق الأخرى، غير أن الكثير ممن كان يستشيرهم كانوا يشيرون عليه بترك الدخول إلى يافع، ومن هؤلاء المؤرخ يحيى بن الحسين، الذي أرسل إليه رسالة ينصحه بشأن يافع، مما جاء فيها: "إن الأولى ترك يافع والإعراض عنه؛ لأن أعماله تحتاج إلى مصابرة، وخزائن قارونية، وعساكر خاقانية" . ثم سرد ما جرى في يافع من أحداث منذ بداية التاريخ الحديث، وأنهم كانوا يرفضون السيطرة عليهم وأخضاعهم منذ أيام الإمام شرف الدين حتى هذه الفترة.
وأمام تلك التناقضات والاختلافات حول دخول يافع مرة أخرى أو عدم الدخول لم يتمكن الإمام المؤيد من الإعداد لحملة عسكرية قادرة على الدخول إلى يافع، وإخضاعها لسلطة الدولة، لذلك لا بد أن يتراجع عن التفكير في توجيه قوة عسكرية إلى هناك.
وفي الحقيقة إن الضعف الذي أصاب مركز الدولة كان سبباً في زيادة قوة المناطق المتمردة، وعلى رأسها يافع التي بدأت تعتدي على بعض المناطق التابعة للدولة القاسمية، فاستولت على سوق بقار في حدود الدمنة وقعطبة، كما تحالفت مع ابن شعفل، وأمنوا طريقهم إلى جهات عدن.
وعلى كلٍ فإن الإنقسامات والنزاع بين بعض مراكز القوى والإمام من جهة، وبين بعض مراكز القوى مع البعض الآخر، والاختلالات التي حدثت نتيجة لذلك كان له تأثير سلبي على الإمام المؤيد. وكان خلافه مع أخيه علي بن المتوكل بسبب يافع مجرد القشة التي قصمت ظهر البعير، فلم يكن منه إلا أن عقد العزم على التنازل عن الإمامة في (1096هـ/1685م)، غير أن وفاة علي بن المتوكل المفاجئ كان سبباً في تأجيل استقالته تلك. ولم يلبث أن توفي بعد أخيه علي في جمادى الآخرة سنة (1097ه/إبريل1686م).
ولا نستطيع أن ننكر أنه برغم الخلاف الذي حدث بين الأخوين، إلا أن علياً كان عوناً لأخيه الإمام المؤيد منذ إعلان إمامته، حيث تنازل له عن الإمامة، وكان سنداً له ضد باقي مراكز القوى من آل القاسم، وليس أدل على ذلك إلا ما ذكره ابن عامر، حيث يقول: "والإمام المؤيد كان يعهده لمهماته، ولما توفي رَكَّ جانب الإمام، لا سيما من صولة بني عمه أينما كانوا" .
ومهما يكن الأمر فإن سلطة الدولة القاسمية وهيبتها في كثير من المناطق اليمنية قد ضعفت، ففي شوال سنة (1093ه/ أكتوبر1682م) استولى علي بن بدر الكثيري صاحب حضرموت على بندر الشحر، وطرد عنه الوالي، وفي أول شهر القعدة سنة (1093ه/ أواخر أكتوبر1682م) نهبت القبائل أبين، وتصرفوا فيه بالنهي والأمر، وانقطعت طريق عدن، وامتنعت العدين عن تسليم ما عليها من مطالب للدولة لما قد نالها من الجور منذ عهد الإمام المتوكل، ولم تتمكن من عمل شيء بسبب قوة الدولة واجتماع الكلمة، ولكن عندما رأت في هذه المدة أن الدولة قد تفرقت آراؤها واختلفت أنظارها تمردت ورفضت الانصياع لأوامرها، وقامت بقتل عشرة من جند الدولة، وخاف منهم والي العدين عبدالله بن يحيى بن محمد بن الحسن، ولم يعد يطالبهم دفع ما عليهم من واجبات للدولة.
أما المناطق الشمالية فقد استمرت القبائل في عمليات الغزو وتعرضت الطرق هناك لأعمال السلب والنهب أكثر من ذي قبل، خاصة من قبائل دهمة التي استغلت هذه الظروف.
وكان أكثر تلك التمردات تأثيراً على استقرار الدولة بعد هزيمتها في يافع هي تلك الثورة التي شهدتها الحجرية، فاشتدت الحرب بينهم وبين صاحب المنصورة محمد بن أحمد بن الحسن ثلاثة أيام خارج المنصورة، هُزم فيها الأخير ونهبوا خيامه ومحطته، وعاد إلى المنصورة مهزوماً، وقد قُتل عدد من جنوده، وفي خلال تلك الحرب التي جرت كانت الحجرية قد طردت عمال صاحب المنصورة، وقتلوا بعض جنوده، ثم استولوا على الدمنة والجند والزيلعي، وقد امتد التمرد عليه من باب عدن من الصبيحة والحواشب إلى باب تعز، وكان المحرض لهم رجل صوفي يقال له علي بن حسين الرجبي، فأرسل إليه صاحب المنصورة الجنود، غير أنهم لم يتمكنوا من عمل شيء، وقتل الحجريون أكثرهم.
ويشير يحيى بن الحسين إلى أن الذي دفع الحجرية إلى ذلك هو شدة وطأة الولاة والعمال منذ عهد الإمام المتوكل، والآن عندما سمعوا ما حدث في يافع كان دافعاً لهم على التمرد، ومحاولة الخروج على الدولة. ثم يؤكد بأنه لولا موقع الحجرية في وسط اليمن لكانت شوكتهم أعظم من يافع، وأنهم لا زالوا يتمردون ويخرجون على الدولة كلما شعروا بضعفها أو اختلاف مراكز القوى مع بعضها.
وقد حاول الإمام المؤيد باعتباره في قمة الهرم لهذه الدولة-وإن كان ذلك اسماً فقط-أن ينهي تلك الثورة؛ لأنها ستزيد من زعزعة الأمن وعدم الاستقرار على الرغم من أن العلاقة بينه وبين صاحب المنصورة لم يكن يسودها الوئام، كما سبق أن رأينا، فكتب إلى فقهائهم ليعرف ما سبب الخلاف ويسعى في الصلح، فأجابوا عليه بأن السبب الجور في المطالب، وأنه طال بهم الصبر على ذلك حتى بلغت القلوب الحناجر، وأنهم لما عرفوا عدم اجتماع الكلمة بينه وبين صاحب المنصورة، وتأكد لهم أن الشكوى لن يكون لها تأثير، وأن المؤيد لن يتمكن من معاقبته أو عزله؛ لأنه دولة قائمة بذاتها مستقلة بنفسها. وهم يعذرون المؤيد لعدم نفاذ أمره لدى صاحب المنصورة، لذلك فهم يدافعون عن أموالهم وأنفسهم، وإزالة صاحب المنصورة عنهم.
ولما وصلت هذه الرسالة المعبرة عن موقف أهالي الحجرية، والمؤيد معروف عنه حبه لإصلاح ذات البين، وهو يعلم أيضاً جور صاحب المنصورة وشدة وطأته هو وعماله على تلك المناطق، فكتب إلى أحمد بن المؤيد هو في الجَنَد، حيث كان قد أرسله على رأس حملة عسكرية إلى هناك لنجدة صاحب المنصورة، كتب إليه أنه لا يدخل في حرب مع أهل الحجرية، ولا يفتك بهم، وأن يعيد ما أخذه منهم، وأن يسعى في الصلح فقط. غير أن صاحب المنصورة تمكن من إخضاع هذه المناطق بالقوة.
وعلى كل فإنه على الرغم من المحاولات الكثيرة التي بذلها الإمام المؤيد لإصلاح الدولة إدارياً ومالياً، إلا أنه لم يتمكن من ذلك، فكان الولاة يتصرفون في ولاياتهم كما يشاؤون، وبما يرونه مناسباً لهم، فعمت الفوضى والاضطرابات، واستولى بعض الولاة على بعض المناطق التي كانت تتبع ولاة أو عمالاً آخرين معينين من الإمام. ولم يتمكن من إعادة تلك المناطق إلى ولاتها السابقين، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر السيد حسن بن مطهر الجرموزي والي المخا أصبح والياً بدلاً منه أبو ريحان، عينه محمد بن أحمد بن الحسن، كذلك العدين استولى عليها عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن من واليها جعفر بن مطهر الجرموزي، واستولى على حجة حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم من واليها السيد علي بن حسين جحاف، وأمثلة أخرى كثيرة. وهذا دليل على أن أوامره لم تكن تُنفذ، وأصبح كل والي يتصرف في ولايته وكأنه إمام، وأصبح لديهم من الأموال ما هو أكثر من الإمام المؤيد نفسه، ولم يعودوا يرسلون إلى مركز الدولة ما عليهم من واجبات، على الرغم من المحاولات المتكررة من المؤيد بمطالبتهم بذلك، وأن خزانته أصبحت فارغة، بينما غيره من الولاة من آل القاسم أصبحوا في الثراء الجزيل والأموال الكثيرة. وأصبح يعاني كثيراً لعدم وجود الأموال الكافية لديه، واضطر أن ينفق خزائن والده.
وقد بلغ به الحال أنه حاول الاستدانة من بعض التجار، غير أنهم كانوا يرفضون ذلك؛ لأنهم يعلمون أنه ليس لديه العائد المادي الكافي لقضاء تلك الديون. ولما قل العائد المادي، ولم يعد لديه ما يدفعه من رواتب للجند هرب من لديه بعض الجنود، فمنهم من رجع بلاده، ومنهم من اتجه إلى صاحب المنصورة، لما بلغهم الوفاء لأصحابه ومن معه من الجند.
وامتلك بعض الولاة من آل القاسم دُورَاً خاصة بضرب العملة في ولاياتهم، وبالطبع أدى ذلك إلى ضعف العملة وتدهورها وزيادة الغش فيها، وتضرر الناس من جراء ذلك. وعلى الرغم من محاولة الإمام المؤيد إغلاق تلك الدور، لكنه لم يتمكن من إغلاق جميعها، وبالأخص في ولايات مراكز القوى التي كانت تتمتع بنفوذ واسع.
كما بذل مجهوداً كبيراً لمحاولة إزالة المطالب غير الشرعية، لكنه لم يتمكن من ذلك إلا في المناطق التي كانت تابعة لولايته، وعلى حد تعبير يحيى بن الحسين: "فقد رفع مظالم كثيرة من البلاد التي نفذت بها يده وحكمه كبلاد صنعاء وبلاد حراز وضوران. وأما اليمن الأسفل فلم ينفذ فيها كلامه، ولم يسمع فيها قوله" ، ويصفه أبو طالب بقوله: "وكان في الفضل والورع والشفقة على الناس بالمحل الذي لا يبلغه غيره" . وقد صار عدله في رعيته مثلاً مضروباً. وكان أهل عصره يكنونه، فيقولون أبو عافية؛ لأنه لا يضر أحداً منهم في مال ولا بدن، أما ابن عامر فيصفه بقوله: "كان وحيد عصره علماً وكرماً وفضلاً وورعاً وزهداً وصلاحاً، ومتحرياً في أقوله وأفعاله" . ويمدحه يحيى بن الحسين بقوله: "وكان يحب العدل والرفق، ولا يعاقب في الغالب إلا بمقتضى الشرع ..... وكان له حالة عظيمة في التواضع وعدم التكبر والترفع على ما هو فيه من الملك والرئاسة" .
خلاصة القول أن الإمام المؤيد محمد بن إسماعيل كانت له مواصفات ميزته وميزت عصره. وكانت قيمه ومبادئه لا تتناسب مع ظروف عصره. حاول رفع الظلم عن الناس وإلغاء ما فُرض عليهم من مطالب غير شرعية، لكنه لم يتمكن من عمل شيء من ذلك. وزاد في عهده التدهور الاقتصادي والفوضى وانعدام الأمن، فلم يكن لديه القدرة على محاسبة الولاة والعمال، وما حقوقهم وما واجباتهم إزاء ولاياتهم وإزاء الدولة، لذلك استغل هؤلاء شخصية الإمام المؤيد، وجمعوا الكثير من الأموال.
وحاول الإمام المؤيد توحيد الأسرة، لكن الظروف والأوضاع ومراكز القوى كانت عائقاً أمامه، كما أنه لم يتمكن من إقامة علاقات خارجية بسبب اشغاله بالأوضاع الداخلية، كما أسلفنا، فقد وجد في زمن غير زمانه، إن صح التعبير.
وبعد خمس سنوات من توليه الإمامة أصيب بمرض أقعده، ثم توفي في 3 جمادى الآخرة سنة (1097ه/ 26 أكتوبر 1686م) في حمَّام علي، إلى الجنوب من ضوران، حيث نقل إليها للعلاج بالمياه المعدنية الطبيعية.
ثالثاً: الإمام الناصر محمد بن أحمد بن الحسن
(1097-1130ه/1686-1718م)
دوره السياسي قبل توليه الإمامة
بعد وفاة الإمام المؤيد محمد بن المتوكل إسماعيل وصل إلى الإمامة محمد بن أحمد بن الحسن، الذي عُرف بصاحب المنصورة، قبل توليه الإمامة، ثم بصاحب المواهب بعد وصوله إليها بفترة وجيزة، نسبة إلى المدينة التي اختطها كعاصمة لدولته.
فما الدور السياسي الذي لعبه قبل وصوله إلى الإمامة؟ وكيف تغلب على منافسيه من آل القاسم خلال صراعهم للوصول إليها؟
ولد محمد بن أحمد بن الحسن في 7جمادى الآخرة سنة (1047ه/27 أكتوبر1637م). وهو أكبر أبناء أبيه، حيث أنجبه والده وعمره ثمانية عشر عاماً.
وتعلم من والده الإمام المهدي أحمد بن الحسن الشجاعة والإقدام، حيث كان قد أتاح له فرصة المشاركة في الأعمال السياسية والعسكرية من وقت مبكر، حتى أصبح فيما بعد شخصية سياسية وعسكرية هامة.
كان والده أحمد بن الحسن قد أراد أن يعطيه ولاية بلاد العدين سنة (1082ه/1671م) عقب وفاة إسماعيل بن محمد بن الحسن، فراسل الإمام المتوكل إسماعيل بشأن ذلك، غير أن الإمام المتوكل رفض ذلك الطلب، وأعطى ولاية العدين لجعفر بن مطهر الجرموزي. ولعله كان عاملاً على منطقة تسمى (جحاف) حيث يذكر يحيى بن الحسين ذلك بقوله: "فعاد محمد بن أحمد إلى بلاده وسكن بجحاف" بعد أن رفض الإمام المتوكل إعطاءه بلاد العدين.
وفي عام (1082ه/1671م) عندما كان عمره حوالي 35 عاماً عينه الإمام المتوكل عاملاً على بلاد الحجرية من لواء تعز، وكأبيه الإمام المهدي أحمد بن الحسن أبان عن شجاعة فائقة وإقدام مشهود، غير أنه لم يكن له اهتمام بالعلوم المتداولة في عصره، مقارنة بوالده وبعض أقرانه من بيت القاسم، ومع ذلك فقد حاول سد هذه الثغرة فيما بعد فوقع-وهو إمام-في مزالق، وظهرت منه تناقضات لم تكن معهودة فيمن سبقه من أئمة بيت القاسم.
وبعد أن عُين عاملاً على بلاد الحجرية اختار المنصورة، وهي قرية من ناحية الصلو-مقراً له، حتى عُرف بصاحب المنصورة طوال فترة توليه لها، وهو اختيار يدل على ذكائه ودهائه، فهي تقع في رأس جبل الحجرية، وهي حصينة مرتفعة، يستطيع من خلالها فرض هيبة الدولة على بقية مناطق الحجرية، وإخماد تمردات أو ثورات القبائل هناك، خاصة أنه قد حصَّنها بالمدافع. وقد أشار يحيى بن الحسين إلى ذلك بقوله: "وعَمَر محمد بن أحمد المنصورة، رأس جبل الحجرية، وجرى فيها المدفع، فبذلك حصل منهم الردع" .
وقد أثبتت الأحداث فيما بعد حسن اختياره للمنصورة مقراً لولايته، ففي سنة (1085ه/ 1674م) عندما وصلت الأخبار بمرض الإمام المتوكل تمردت بعض قبائل الحجرية، ويعلق يحيى بن الحسين عن موقع المنصورة الحصين بقوله: "ولولا سكون محمد بن أحمد في رأس جبلهم لكان طردوا عُمَّالهم عنهم" .
ولم تكن السنوات التي أمضاها محمد بن أحمد بن الحسن في المنصورة فترة استقرار في معظمها، بل انخرط في كثير من الحروب في المنطقة وغيرها من المناطق. من ذلك على سبيل المثال نجده في سنة (1085ه/1674م) يرسله والده إلى عدن والمخا دعماً للقوات الموجودة هنالك لصد العمانيين، الذين كانوا يمنعون التجار من الدخول إلى عدن أو المخا، وينهبون بعض القادمين إلى هذين المينائين.
وخلال الصراع على الإمامة بين والده والقاسم بن المؤيد كان محمد بن أحمد بن الحسن قد انضم إلى جانب القاسم بن المؤيد ضد والده الإمام المهدي. وعلى الرغم من أن المصادر التي بين أيدينا لا توضح سبب ذلك، إلا أنه من المرجح أن سبب ذلك هو رفض الإمام المهدي إعطاء ابنه المناطق التي كان يريد أن يضمها إلى ولايته، فخرج الابن على أبيه وانضم إلى القاسم، الذي كان قد وعد بإعطائه المزيد من المناطق، واضطر الإمام المهدي أحمد بن الحسن أن يرسل إليه ابنه الآخر علي بن أحمد بن الحسن سنة (1088ه/1677م) لمحاربته وإخضاعه، فلما وصل علي إلى نواحي تعز ويفرس هرب كثير من أصحاب محمد بن أحمد بن الحسن وتفرقوا عندما وصلهم كتاب من المهدي يحذرهم من إعانة أبنه، عند ذلك رأى أنه لا جدوى من مخالفة والده، فاتجه إليه وهو في صنعاء في سنة (1091ه/1680م) للالتقاء به ومصالحته، وكان المتوسط بينهما محمد بن المتوكل ومكث لدى والده بالغراس أقل من شهر، ثم عاد إلى ولايته، بعد أن أعطاه ولايات جديدة إلى جانب ولايته السابقة، كما أطلق يده في الأوامر والنواهي باليمن الأسفل.
وأصبحت له مكانة كبيرة، وهابته القبائل هناك، ومد يده إلى المناطق الأخرى التي حول الحجرية، وعُرف عنه أنه كان يبذل لقادته وجنوده الكثير من الأموال، لذلك نجد في سنة (1089ه/1678م) أن مجموعة من قادة علي بن المتوكل وجنوده فروا من تعز إلى المنصورة، وشكوا تقاصر أحوالهم، وأن علي بن المتوكل لم يعطهم إلا النصف من رواتبهم "فأنصفهم وقررهم عنده بجوامكهم، وأخذ أيمانهم أنهم منه وإليه مع الوفاء لهم، فضاق علي بن المتوكل من ذلك" .
ولم يتوف الإمام المهدي أحمد بن الحسن إلا وقد أصبح ابنه محمد من أهم مراكز القوى من آل القاسم، فتوسعت مناطق ولايته أكثر من ذي قبل، كما أصبح لديه الكثير من الجند والقادة، وحصل على الكثير من الأموال التي كانت تُجبى من مناطق ولايته، لذلك رأى في نفسه الأهلية أو الصلاحية لإعلان إمامته، بعد أن رأى أن القوة هي الفيصل في النزاع على الإمامة.
غير أنه-كما سبق أن رأينا-بعد مراسلات عديدة، ومحاولات من الإمام المؤيد محمد بن المتوكل وغير من آل القاسم كان آخر مراكز القوى التي تنازلت للمؤيد عن الإمامة، لأسباب سبق ذكرها.
واستغل صاحب المواهب ضعف شخصية الإمام المؤيد محمد بن المتوكل وزهده فاشترط عليه شروطاً كثيرة لتنازله عن الإمامة، ووسع مناطق نفوذه واستولى على الكثير من المناطق الهامة، والتي أصبح من خلالها أكثر قوة ونفوذاً وأموالاً من الإمام والقوى الأخرى، فامتدت مناطق ولايته إلى معظم اليمن الأسفل (لواء تعز) وجنوباً إلى لحج وعدن، وغرباً إلى زبيد وبيت الفقيه بعد توسعه في تهامة، كما سبق أن رأينا.
وصوله إلى الإمامة وموقف أبناء الأسرة منه
كانت وفاة الإمام المؤيد محمد بن المتوكل في منتصف عام (1097ه/إبريل1686م) هي ساعة انطلاق الطامحين من أجل السلطة والإعلان عن دعواتهم لأنفسهم، وسرعة العمل على كسب الاعتراف والشرعية، التي لم يعد الاحتكام فيها عملياً إلى شروط وقواعد المذهب الزيدي في الإمامة، بل ساد منطق القوة والغلبة، بغض النظر عن الشروط والأهلية.
وإذا ألقينا نظرة على الخارطة السياسية للبلاد والقوى الفاعلة فيها عشية وفاة الإمام المؤيد محمد بن المتوكل، والتي رسمها لنا الأستاذ الدكتور حسين العمري اعتماداً على مخطوطة بُغية المريد لابن عامر سنجدها كالتالي:
يسيطر ثلاثة من أبناء الإمام المهدي أحمد بن الحسن على المنطقة الوسطى والجنوبية:
1- إبراهيم بن المهدي: بولاية ذمار.
2- إسحاق بن المهدي: في حبيش وذي السفال من لواء تعز، ومقره بذي أشرق.
3- محمد بن المهدي: متمركز في المنصورة من الحجرية، ومد نفوذه إلى عدد من المناطق التي سبق ذكرها.
4- حسين بن علي بن المتوكل: في إب والعدين، وهو ما بقي له من ولاية بعد وفاة والده.
5- حسين بن الحسن بن القاسم: في رداع، وما بقي تحت إدارته من المشرق بعد خروج يافع وثورتها.
أما شمال العاصمة صنعاء، والتي كان أميرها يوسف بن المتوكل فقد كانت كالتالي:
1- حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم: على عمران ومنطقة حاشد.
2- قاسم بن الإمام المؤيد: في شهارة.
3- علي بن أحمد بن القاسم أمير لواء الشام: في صعدة بعد انفراده من مزاحمة ابن عمه حسن بن المتوكل، الذي استقر أميراً على تهامة، متنقلاً بين أبي عريش واللحية منذ أيام المهدي أحمد بن الحسن.
- انفردت كوكبان عن هذا التقسيم، حيث كانت -في الغالب منذ مجيء بيت القاسم تحت إدارة أمير من أحفاد بيت شرف الدين. وكان في هذا الوقت العالم الشاعر حسين بن عبد القادر شرف الدين، الذي كان قد خلف والده على كوكبان في مطلع العام نفسه (1097ه/1685م).
وبعد وفاة الإمام المؤيد محمد بن المتوكل تفرقت مناطق نفوذه بين بعض مراكز القوى-والتي كان أقواها جميعاً صاحب المنصورة محمد بن أحمد بن الحسن-كالتالي:
1- صنعاء: مع الحسين بن المتوكل.
2- تعز والمخا: تغلب عليهما محمد بن أحمد بن الحسن.
3- حراز: أرسل إليه الحسن بن المتوكل من اللحية بعض أبنائه.
4- ريمة وبرع ونواحيها: دخلها زيد بن المتوكل.
5- ضوران وآنس: استولى عليهما يوسف بن المتوكل.
أما الذين أعلنوا إمامتهم بعد وفاة الإمام المؤيد، سواء من أسرة القاسم أو من خارجها فهم كالتالي:
1- محمد بن أحمد بن الحسن صاحب المنصورة وتلقب بالناصر.
2- يوسف بن المتوكل في ضوران، تلقب بالمنصور، وهو أول من دعا إلى نفسه بالإمامة في جمادى الآخرة سنة (1097ه/ مايو1686م) وكان الإمام المؤيد قد أوصى وهو على فراش الموت أن يخلفه أخوه يوسف، الذي كان في صنعاء، والمعرف بعلمه وفضله، ويرجح الأستاذ الدكتور حسين العمري بأن الإمام المؤيد ظن أن تزكيته لأخيه لمكانته العلمية والأدبية، وكابن للإمام المتوكل إسماعيل قد يكون محل رضى بين المتنافسين من آل القاسم، كما هو عند أغلب العلماء ذوي الرأي، ويكون بذلك مخرجاً من الاقتتال، وتعميق الشرخ والخلاف بين أبناء البيت الحاكم، لكن المؤيد بذلك لم يزد أن أضاف إلى قائمة الطامحين الطويلة منافساً آخر، جره الطموح-كبعضهم-إلى المعاناة والسجن الطويل فيما بعد.
3- الحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم في عمران، وتلقب بالمتوكل.
4- علي بن أحمد بن القاسم كان قد اجتمع مع القاسم بن المؤيد والحسين بن الحسن، وأجمع رأيهم على مبايعة الناصر، وأنه الأصلح، وكان علي بن أحمد قد وضع شروطاً على الناصر، غير أنه بعد ذلك دعا إلى نفسه بالإمامة. وأرسل الرسائل إلى قضاة صنعاء وعلمائها بأن يجيبوه في دعوته، وأنه عازم على الخروج من صعدة إلى مناطق نفوذ محمد بن أحمد بن الحسن، الذي ليس بأهل للإمامة.
أما الذين دعوا إلى أنفسهم من خارج بيت القاسم فهم:
1- الحسين بن عبد القادر في كوكبان، وتلقب بالمتوكل، وعلى حد تعبير يحيى بن الحسين: "فأجابه أصحابه وخالفه سائر الناس" .
2- السيد علي بن الحسين الشامي الخولاني، الذي رأى أنه لا يصلح أحد من آل القاسم للإمامة، وأنه كامل الشروط لتوليها، وأرسل الرسائل يطلب مبايعته بالإمامة، فأجابه السادة بنو الشامي وبعض أصحابه، ورفضت مبايعته جميع القبائل.
3- السيد عبد الله بن علي بن خالد، ظهر في بلاد الشرف بالغرب، تحت شهارة، ولم يجبه أحد، وكان والده متولياً لبلاد عفار.
وقد عبر أبو طالب عن كثرة من دعا إلى نفسه بالإمامة بقوله: "واختلف آل الإمام فرقاً وعلا بعضهم من بعض خوفاً وفرقاً، وطمع الكل في الزعامة" .
أما القاسم بن الإمام المؤيد، والذي دعا لنفسه عقب وفاة الإمام المتوكل إسماعيل وعقب وفاة الإمام المهدي أحمد بن الحسن فإنه هذه المرة حتى وإن رغب في إعلان إمامته فقد رأى أنه من الصعب نجاحه في ذلك لسبب هام ذكره المؤرخ يحيى بن الحسين، وهو أن بلاد اليمن أجمع قد استكمل فيها التقسيم والتغلب في بعضها من أولاد المتوكل، ومن أولاد أحمد بن الحسن، وأولاد محمد بن الحسن، وأولاد أحمد بن القاسم وغيرهم.
ويرى يحيى بن الحسين بأن السبب في انحطاط الإمامة والدخول فيها بغير كمال شروطها هو أحمد بن الحسن، وأن الحاضرين من السادة والفقهاء ومحمد بن المتوكل قد سهلوا له ذلك، فدخلها ورغب فيها، وإلا فإن كتابه إليهم إنما هو بالوصول للتدوال فيمن يصلح لها، فلما حضروا مجلسه فتحوا له الباب إلى ذلك، فسن للمتأخرين هذه الدعاوى العريضة الطويلة في درجة الإمامة، وربما لفق البعض من الجهال إمامة المقلد، وهو خلاف الإجماع، على أن إمامة المقلد لمن يعرف بمسائل الفقه لمن قلده "فكيف فيمن عرى من هذا وهذا" . غير أن الأحداث أثبتت خلاف ما ذكره يحيى بن الحسين، فقد استخدم أحمد بن الحسن كل ما يستطيع من قوة للوصول إلى الإمامة. وكان مخططاً لذلك، كما سبق أن رأينا.
ومهما أُثير من جدل حول شروط الإمامة، ومن يصلح لها فإن محمد بن أحمد بن الحسن صاحب المنصورة قد دعا إلى نفسه بالإمامة عصر يوم الأحد منتصف شهر جمادى الآخرة سنة (1097ه/ 8 مايو1686م) وبدأ بمراسلة عمه الحسين بن الحسن والقاسم بن المؤيد وعلي بن أحمد الذين أجابوا دعوته، ولكن لم يلبث علي بن أحمد أن عارضه وأعلن إمامته، كما سبق أن ذكرنا. وأرسل صاحب المنصورة برسالة إلى الحسين بن المتوكل في صنعاء ومعها أموالاً قدرها سبعة آلاف، دعاه فيها إلى إجابته.
وكان صاحب المنصورة قد أرسل رسالة إلى ابن عم والده المؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم يبرر له سبب إعلان إمامته، وأنه تلقب بالناصر، وأنه قد أجابه قضاة تعز والقضاة بحضرته وأهل بلاده، فأجابه برسالة أوردها في كتابه (بهجة الزمن) ذكر له فيها أنه لا بد من جمع كلمة المسلمين وعدم التفرق، اتقاء لإثارة الفتنة "وإذا قد اجتمعتم على كلام واحد فسائر الناس أجمع أتباع، ولا يخشى منهم ضرر ولا نزاع" .
ولم يكن صاحب المنصورة الوحيد الذي بعث برسالة إلى يحيى بن الحسين يستشيره في إعلان إمامته، بل كل من أعلن إمامته من آل القاسم كاتبوه، وهم يوسف بن المتوكل وعلي بن أحمد والحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم. وكل واحد منهم كان يحاول إقناعه بأنه الأولى بالإمامة، ويذكر له مبررات دعوته، بينما كان يرى بأنه لا تتوفر الشروط في أي منهم، خاصة الاجتهاد والعلم. وأنه لا بد من اجتماع الكلمة والاتفاق على واحد يجمع كلمة المسلمين اتقاءً للفتنة، ويكون محتسباً أو ملكاً، وليس لأحد منهم أن يدعي أنه إمام كامل الشروط. وإذا لم يتفقوا على واحد منهم فليس أمامهم إلا أن يتوقفوا جميعاً عن ادعاء الإمامة، ويبقى كل واحد منهم أميراً أو محتسباً في ولايته وما يتبعها من المناطق التي قد ولاَّها المتقدمون. وكان يرى بأن القاسم بن المؤيد أكثر آل القاسم علماً، وبأنه الأصلح للإمامة بعد المؤيد، ولم يكن يحيى بن الحسين الوحيد الذي رأى أن القاسم بن المؤيد هو الأكثر علماً وفضلاً، وبالتالي هو الأصلح للإمامة-على الرغم من أنه لم يتدخل في شيء سواء الإجابة على الرسائل-فكان الحسين بن المتوكل وأحمد بن المؤيد قد جمعوا القضاة والسادة العلماء في آخر يوم شهر جمادى الآخرة (1097ه/ آخر مايو1686م)، ورأوا أن الأولى قيام القاسم بن المؤيد، وأمروا الحاضرين بكتابة شهادتهم فكتبوها. وشاع أنهم قد بايعوا القاسم. ولم يدركوا أن صاحب المنصورة كان أكثر الدعاة قوة ونفوذاً وأموالاً، وان القاسم بن المؤيد لو أعلن إمامته وأصر عليها سيتكرر ما حدث بينه وبين والد صاحب المنصورة الإمام المهدي، لذلك كان أكثر إدراكاً للأوضاع، فرفض إعلان إمامته.
ومما لا شك فيه أن القاسم بن المؤيد كان محقاً في عدم دخوله حلبة النزاع هذه المرة، فإن محمد بن أحمد بن الحسن كان قد استولى على معظم مناطق اليمن الأسفل. وأصبح حسين بن علي بن الإمام المتوكل محصوراً في إب، ويخشى من قوة صاحب المنصورة، الذي كان قد بلغه بأنه بدأ يعد العدة للتوجه إلى إبّ وجبلة، ومن ثم إلى مناطق اليمن الأعلى الواحدة تلو الأخرى.
وفي خلال اجتماع هؤلاء لإقناع القاسم بأنه الأصلح للإمامة وصل إليهم كتاب من حسين بن علي بن المتوكل من إبّ يطلب من عمه الحسين بن المتوكل النجدة، وأنه قد أصبح محاصراً في إبّ، ولم يبق بينه وبين إسحاق بن المهدي أحمد بن الحسن إلا مقدار ساعة "فالغارة الغاة، والبدار البدار". فأرسل الحسين بن المتوكل رسالة إلى محمد بن أحمد بن الحسن من السادة والقضاة والأعيان تتضمن النصيحة في جمع الكلمة وترك الفرقة، وأن الحرب فيها مشقة على المسلمين. ويطلبون منه ترك التوجه إلى البلاد العليا.
ومن الطبيعي أن يرفض صاحب المنصورة ذلك؛ لأنه كان يرى أنه لا بد أن يؤمن نفسه من مراكز القوى الأخرى، وأن المنصورة لم تعد صالحة كعاصمة لإمامته-كما سنرى-لذلك بدأ يعد العدة ويؤمن المنصورة قبل الدخول في أي حرب مع أبناء القاسم، فنقل مشائخ الحجرية، الذين كانوا سُجناء لديه إلى حصن الدملوة خوفاً من أن يثيروا قبائل الحجرية ضده، كما حاول استمالة بعض المشائخ الآخرين مثل الشيخ ابن مغلس صهره، وهو من كبار مشائخ الحجرية.
أما الحسين بن علي بن المتوكل فقد خشي من تلك الاستعدادات وما نوى عليه صاحب المنصورة من التوجه إلى المناطق العليا، فأرسل إليه السيد قاسم بن لقمان لمحاولة الصلح، فكان جوابه أن يبقي لحسين إب وجبلة وما حولهما. أما تعز فإنه لن يتنازل عنها، فرفض الحسين هذا العرض واستعد للحرب، وأصدر صاحب المنصورة أوامره إلى إخوته إبراهيم وإسحاق ببدء الحرب.
وبدأت الحرب بين الطرفين في 13 رجب سنة (1097ه/ 4يونيو1686م) في منطقة "ميتم" قرب جبلة، وتتابعت النجدات من الجانبين. ولن ندخل في تفاصيل تلك الحرب، ولكن هُزم أتباع الحسين بن علي، وعادوا إلى إب وجبلة وتفرقوا إلى كل جهة. حينئذٍ خطب محسن بن المهدي بالغراس لأخيه صاحب المنصورة في 23 رجب عام (1097ه/ 14 يونيو 1686م) . ودخل أتباع الناصر وادي جبلة، ونهبوها. وكان الحسين بن علي بن المتوكل حينذاك في جبلة، فلما رأى هزيمة أتباعه، وما وصل إليه صاحب المنصورة من قوة لا يستطيع مقاومتها لم يكن أمامه إلا أن بايعه بالإمامة، حتى يتقي شره. ودخلت جميع مناطق ولايته تحت طاعة صاحب المنصورة.
وإزاء تلك التطورات لا بد أن نتساءل ما موقف باقي مراكز القوى من ذلك؟ وهل سيبايعون صاحب المنصورة أم لا؟
مما لا شك فيه أن خبر وصول قوات الناصر محمد بن أحمد بن الحسن إلى جبلة وإعلان الحسين بن علي مبايعته له سيكون له أثر كبير لدى بقية مراكز القوى، والذين رأوا أنه لا قدرة لهم لمواجهته وقواته، خاصة أن الأوضاع الاقتصادية في هذه الفترة والتي قبلها كانت متدهورة، والأسعار مرتفعة. وزاد من سوء الأوضاع الحرب التي حدثت بين قوات الناصر وقوات الحسين بن علي بن المتوكل، فُقطعت الطرق إلى إب وجبلة، وحدث الانتهاب والتقطع للتجار والمسافرين.
وكان أول من بايع الناصر بعد الحسين بن علي هو عمه الحسين بن المتوكل بعد أن رأى أنه لا قدرة له لمواجهة الناصر، كذلك يحيى بن محمد بن الحسين صاحب بلاد السبتان، فأرسلا إليه رسولاً يحمل المبايعة له بالإمامة في 3 شعبان (1097ه/ 24 يونيو 1686م). أما الرابع من المبايعين فهو القاسم بن المتوكل صاحب ثلا. وبايعه بالإمامة كذلك عمه الحسين بن الحسن صاحب رداع. أما ذمار فقد أعلنت الطاعة وبايعته، وعين الناصر فيها إسماعيل بن عبد الله بن القاسم.
أما صاحب عمران الحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم الذي كان قد ادعى الإمامة وتلقب بالمتوكل، كما سبق أن ذكرنا، وراسل الكثير من الجهات، وفتح داراً لضرب العملة لديه، لمَّا بلغه حادث جبلة أغلق دار الضرب، ورجع عما كان قد دعا إليه. وكذلك صاحب كوكبان الذي كان قد أعلن إمامته تراجع وأعلن مبايعته للناصر.
أما القاسم بن المؤيد وأحمد بن المؤيد فعند ما علما بما حدث في جبلة تأكد لهما أنه لا جدوى من المكاتبة لبقية آل القاسم لاجتماع الكلمة وعدم اللجوء إلى الحرب والاقتتال، فعاد أحمد إلى بلاده وادعة وجهاتها والقاسم عاد إلى شهارة. وأما الحسن بن المتوكل صاحب اللحية فقد اتجه منها إلى ضوران بجميع خزائنه، ولما علم بقرب جنود صاحب المنصورة إلى ذمار سلم للناصر وأرسل لمبايعته.
ولم يبق من معارض للناصر إلا يوسف بن المتوكل صاحب ضوران، الذي أعلن إمامته قبل الناصر، بوصية من أخيه الإمام المؤيد، كما سبق أن ذكرنا. وقد تلقى مكاتبات من إسحاق بن المهدي يطلب منه تسليم الأمر إلى أخيه محمد، ويتوعده إن لم يدخل في ذلك، فبقي يوسف حائراً في ذلك الأمر، خاصة أنه كان يعلم بأنه لن يستطيع مواجهة الناصر بمفرده، فاضطر في 7 رمضان (1097ه/ 27 يوليو 1686م) أن يعلن مبايعته للناصر بعد أن كان متشدداً في رسائله، وبأنه يجب على الجميع الإنكار على دولة محمد بن أحمد بن الحسن، وكان يذكر في رسائله تلك تفوقه في العلم.
وفي يوم الجمعة 15 شوال (1097ه/ 3 سبتمبر 1686م) خطب القاسم بن المؤيد بشهارة لمحمد بن أحمد بن الحسن. ويرى البعض أن سبب موالاة القاسم للناصر هو ما بذله له من المناطق الشمالية التي كانت تابعة لحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم، وكذلك بلاد عفَّار، وجعل له ربع المخا.
وبذلك يكون جميع من ادعى الإمامة قد سلَّم الأمر لصاحب المنصورة. "وخلعوا أنفسهم اضطراراً من غير قتال خشية من الوقوع فيما وقع لصاحب جبلة" .
ولكن ما سبب تسليم تلك القوى للناصر بهذه السهولة؟ على الرغم من أنهم كانوا مجمعين على عدم مبايعته أو التنازل له عن الإمامة؟
لعل من أهم الأسباب أن مراكز القوى التي كانت رافضة إمامة الناصر، لم تُجمع على مبايعة شخص آخر من آل القاسم، بل كان بعضهم يريد الإمامة لنفسه، والآخرون مؤيدون لهذا أو ذاك ونتيجة لذلك فقد تركت الحسين بن علي بن المتوكل يواجه قوات صاحب المنصورة بمفرده، مما زاد من نفوذه وهزيمة الأول. ومما جعل الكثير منهم يعلنون ولاءهم للناصر خوفاً ورهبة، وإن كان الحسين بن المتوكل قد أرسل قوة لنجدة ابن أخيه الحسين بن علي فإنها غير كافية. وعلى حد تعبير المؤرخ يحيى بن الحسين، حيث يقول: "فإن صاحب المنصورة سهل عليه أمرهم والتقط الأول فالأول منهم، وهلم جرا، وضعفت شوكتهم، وإلا فلو كانوا جميعاً يداً واحدة ما كان يقدر عليهم" .
أما السبب الآخر فهو أن مناطق نفوذ الناصر كانت خصبة وغنية، كما تمكن بعد وفاة الإمام المؤيد أن يضم تعز والمخا إلى مناطق نفوذه. أما بقية مراكز القوى في اليمن الأعلى فكانت تعاني من سوء الأوضاع الاقتصادية، وغلاء الأسعار، بسبب الجفاف وعدم سقوط الأمطار، بالإضافة إلى التقطع في الطرقات مما أدى إلى ركود الحركة التجارية في اليمن الأعلى. وتمكن الناصر لذلك من أن يكسب الكثير من القبائل والأنصار إلى جانبه؛ لأنه كان يبذل لهم الكثير من الأموال. وقد عبر يحيى بن الحسين عن واقع الحال بقوله: "إن صاحب المنصورة وإن كان واحداً، لكنه قد اجتحف بلاد اليمن الأسفل والبنادر، فليس حسين بن علي وحده بكفؤ له، وإنما كفؤه جميع اليمن الأعلى" .
وعلى كل حال فإن الناصر قد أرسل أخاه إبراهيم إلى ذمار، وكذلك أرسل أخاه الثاني إسحاق إلى يريم، فاستقروا فيها، وتصرفوا في ولايتها. ولم يبق لإسماعيل بن عبد الله الذي كان قد ولاَّه ذمار أي تصرف فيها. وأصبحت إب وجبلة ومناطق ولاية الحسين بن علي الأخرى تحت تصرف الناصر، وخرج الأول منها متجهاً إلى صنعاء، واستقرت الدولة لمحمد بن أحمد بن الحسن. وعين على إبّ وجبلة عُمَّالاً من قبله، ليسيطر عليها مباشرة، كما عين على العدين السيد حسن بن محمد بن أحمد بن الإمام الحسن المؤيدي.
غير أن الأوضاع لم تستقر للناصر كثيراً، إذ سرعان ما أعلنت بعض مراكز القوى من آل القاسم معارضتها له، كان أولها يوسف بن المتوكل، الذي أعلن في بداية عام (1098ه/ أواخر نوفمبر 1686م) أنه يريد التراجع عن مبايعته للناصر، ثم انضم إليه الكثير من آل القاسم، منهم أبناء الناصر وإخوته، وكونوا هذه المرة معسكراً واحداً لمواجهته، وإرغامه على التنازل عن الإمامة. فما سبب ذلك التكتل والاتفاق على الوقوف في وجه الناصر؟ بعد أن بايعه جميعهم بالإمامة، معلنين الولاء والطاعة.
مما لا شك فيه أن كثيراً من مراكز القوى كانت قد بايعت الناصر مضطرة إلى ذلك، خوفاً من بطشه وقوته. وبسبب تفرقهم وعدم الاجتماع والاتفاق على مواجهته، رأوا أنهم لا قدرة لهم على معارضته، فكانت مبايعتهم له على مضض، ومنتظرين الفرصة المواتية التي تجعلهم يعارضونه ويرفضون إمامته.
وكان يوسف بن المتوكل قد أوضح لآل القاسم أن مشائخ يافع قد كتبوا إليه يشكون الناصر، الذي يريد محاربتهم بدون وجه حق، حيث إنهم مطيعون، ومسلمون ما عليهم من واجبات للدولة، فلم يقبل الناصر ذلك منهم، واستنكر يوسف على الناصر تناقضه وعدم الاتزان في تسيير أمور الدولة، وأنه لا يوجد مبرر لحرب يافع. وقد أجاب الناصر على يافع بأنه لا يقبل منهم إلا من وصل مبايعاً إلى بين يديه.
أما علي بن أحمد بن القاسم فقد أعلن أنه رافض إمامة الناصر بعد أن بايعه، ودعا إلى نفسه بالإمامة، وكتب إلى القاسم بن المؤيد صاحب شهارة أن سبب ذلك اضطراب أمور الناصر وتناقض أعماله.
وكان هناك أسباب أدت إلى نفور عبد الله بن الناصر من أبيه ولجوئه إلى يوسف بن المتوكل ومبايعته، لعل أهمها أن عبد الله بن الناصر كان له الفضل في الاستيلاء على إب وجبلة، وكما عبر أبو طالب عن ذلك بقوله: "واستولى على الجهات، وخفقت بالنصر له الرايات" . بينما والده الناصر عين عليها ابنه إسماعيل بدلاً من عبد الله، الذي كان متوقعاً أن تكون له الولاية هناك، فأظهر الندم على ما قام به في إب وجبلة، وكاتب يوسف وبايعه بالإمامة.
أما السبب الآخر فكان عبد الله بن الناصر في قعطبة متولياً لها من قبل، فكتب إلى والده الإمام أنه بحاجة إلى الأموال، لينفق على من لديه من الجند والقادة، وأن بعضهم قد هرب من لديه، بسبب عدم مقدرته إعطائهم حقوقهم، فلما وصل الرسول إليه تهدد ابنه وغضب منه وأنه هذه المرة سيرسل له ما يريد، لكن لا بد من مؤاخذته وعقابه. فلما بلغ ابنه عبد الله ذلك رأى أن والده سيكلفه ما لا يطيقه. وكيف وهو يريد استفتاح جبال يافع، فما مراده إلا إلقاؤهم إلى التهلكة مع عدم الرعاية والوفاء.
أما إخوة الناصر إبراهيم ومحسن وإسحاق فقد أدركوا أن شخصية أخوهم شخصية متقلبة، ولا يقف على رأي واحد. وكانوا يرون أن معظم أوامره كانت مخالفة لما يعتادونه من قبل، لذلك كانوا يخالفون أوامره.
وعلى كلٍ فإن شخصية الناصر كانت من أسباب تمرد ابنه وبعض إخوته وأبناء المتوكل عليه، من ذلك على سبيل المثال: اضطراب أوامره وتناقضها، فلم يأمر أمراً من الأمور إلا ونقضه من عزل أو تولية، وكان سريع الغضب على الرؤساء والسادة، والتهديد والوعيد المتكرر على أشياء غير موجبة لذلك، وكان يأمر بحبس بعضهم، ويضع القيود، ويعاقبهم بشدة لأتفه الأسباب "فنفرت نفوس كثير من الأعيان والرؤساء والقادات الكبار من المشائخ النقباء والعقال، ولم يصبر على حاله إلا القليل لما يبذله من المال والبرطيل، وهم على حذر منه في الأفاعيل، لكن غلبهم حب المال" .
ونتيجة لكل ما سبق، وبعد أن أعاد يوسف بن المتوكل إعلان إمامته كاتبه عبد الله بن الناصر، وكذلك إسحاق بن أحمد بن الحسن وإبراهيم بن أحمد بن الحسن وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن والحسين بن علي بن المتوكل، وكذلك يحيى بن محمد بن الحسين، كما بايعه أخوه الحسين بن المتوكل، وانتقل عبد الله بن الناصر من قعطبة إلى إبّ، واجمعوا على خلع الناصر ومبايعة يوسف بن المتوكل، وخطبوا له في صنعاء وذمار وضوران وإبّ، كما وصلت إليه كتب من مشائخ يافع مبايعة له بالإمامة بدلاً من الناصر، وبايعه أيضاً الحسين بن الحسن صاحب رداع، وأصبحت معظم البلاد إلى تعز مبايعة ليوسف.
وفي 8 ربيع الأول (1098ه/، 21يناير 1687م) دخل أتباع يوسف بن المتوكل مدينة تعز، واستولوا عليها، وكان واليها من قبل الناصر الشيخ ابن راجح الآنسي، فدخلها أتباع يوسف بدون قتال، ولا انتهاب، وهرب إسماعيل بن الناصر منها إلى الدمنة.
ولما سمعت بقية مراكز القوى ما وصل إليه يوسف، ودخول قواته إلى تعز بايعوه وسلموا له الأمر، وهم القاسم بن المتوكل صاحب ثلا، وزيد بن المتوكل. وفي نصف ربيع الآخر سنة (1098ه/ 28/يناير1687م) بايع الحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم صاحب عمران يوسف. وفي 16 ربيع الآخر بايعه أخوه الحسن بن المتوكل. كما بايعه صاحب كوكبان وخطب له. وبايعه المحسن بن أحمد بن الحسن الذي كان متولياً للغراس. واستولى زيد بن المتوكل على المخا وخطب فيه لأخيه يوسف.
وبذلك تبلور الصراع في بضعة أسابيع في معسكرين تجمع الأول في ضوران آنس، كان به كل المعارضين والدعاة من أمراء آل القاسم، الذين انطووا تحت قيادة يوسف بن المتوكل في مواجهة معسكر الناصر محمد بن المهدي المتحصن في منصورته، في حين بقي ممن اعترف بالناصر-وهم قلة-في ولاياتهم يرقبون سير الأمور وتطورها بحذر وترقب.
وقرر أعداء الناصر التوجه إليه لإرغامه على التنازل بقوة السلاح، فتجمعوا، وكانوا جموعاً كثيرةً يقودهم أبناء المتوكل إسماعيل وإسحاق بن المهدي وعبد الله بن الناصر، وغيرهم من أمراء بيت القاسم، وحاصروا الناصر حتى لم يبق له من البلاد التي حوله مؤن أو طعام يُرسل إليه، بل أصبح ينفق على من بقي لديه مما كان مخزوناً. والمهم في الأمر: "أن أكثر اليمن قد صار مجيباً ليوسف والتهائم والجيل".
وفي خلال الحصار لصاحب المنصورة كتب إليه القاسم بن المؤيد-وكان موالياً له-يطلب منه أنه يجب النظر فيما يسكن ثائرة الفتنة، فأجاب عليه أنه يريد الاجتماع إلى مكان متوسط للنظر فيما فيه صلاح الإسلام، فلما عرض القاسم جوابه على أبناء المتوكل، أجابوا بأن طلب الاجتماع كنا قد حاولنا فيه وأردناه، فلم يحصل من صاحب المنصورة إليه التفات، وأعرض عنه، وطلب غزو المشرق والتجهيز عليهم من غير نظر إلى اجتماع ولا استشارة. وأما الآن فلم يبق للاجتماع فائدة بعد إجابة أكثر اليمن ليوسف.
ولم يقف الناصر مكتوف الأيدي إزاء الحصار المطبق عليه، بل حاول أن يستميل إلى جانبه بعض قبائل الحجرية، ودفع لهم الأموال الجزيلة ليكونوا عوناً له ضد المعسكر المحاصر للمنصورة، منهم الزَّريقة الذين وعدوه بالقيام معه وإعانته، وأصبح للمنصورة يومئذ منفذ من طريق المقاطرة والزريقة، فكان يجلب إليها ما يحتاجه، وبذلك بدأت معنويات الناصر تقوى، وعلى حد تعبير ابن عامر، حيث يقول: "فكان الإمام الناصر كل يوم إلى زيادة، وهم إلى نقصان لتأثيرهم الاجتماع على الراحة والاشتغال بما لا يجدي، والركون على القوة من حالهم، والإمام الناصر يتطلب الحيلة والخلاص من الخطاط عليه، ويرغب من يرغب، ويجرب من يجرب" . وفي خلال الحصار طلب من المحاصرين له أن يمدوه بالجمال ليخرج مستسلماً، فيسروا له ما طلبه، معتقدين أنه لن يستطيع عمل شيء؛ لأنهم-كما أشار أبو طالب-"كان الكبر قد استولى على كبرائهم والتغفل حف بهم من قدامهم وورائهم. وقد كانوا في الجيوش المتوافرة". بينما الناصر كان يحاول تدبير الحيل وجمع لديه ما يستطيع من قبائل الحجرية، وبذل لهم الأموال الجزيلة، منهم ابن مغلس الذي أمده بالكثير من قبائل الحجرية ليكونوا عوناً له، كما ساعده القدر، حيث هطلت أمطار غزيرة استغلها الناصر بسبب ارتباك المحاصرين له واضطرابهم، ففاجأهم بالهجوم عليهم، ونشبت حرب بين الطرفين في 19 جمادى الآخرة سنة (1098ه/1مايو1687م) تمكن فيها الناصر من هزيمتهم رغم كثرتهم، وتمكن من أسر ابنه عبد الله وأخيه إسحاق، ونهبوا محطتهم. فلما شعر بذلك أهل المحطة الأخرى وهم الحسين بن علي بن المتوكل وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن لم يكن همهم إلا الارتحال، وحمل ما خف من الأثقال، عند ذلك خفقت القلوب من هيبة الناصر، وخرج بعض الأسرى هاربين ليلاً.
واضطر الحسين بن علي بن المتوكل وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن أن يعلنوا طاعتهم للناصر، وطلب الشيخ الأحمدي لهما الأمان ودخلا المنصورة، وأرسل الناصر إلى القاسم بن المؤيد وأخيه أحمد يطلب منهما الإخبار بالحادث، وعمل ما يلزم؛ لأنهما كانا مواليين له، فكتب أحمد بن المؤيد إلى الحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم صاحب عمران بأن يدخل في طاعة الناصر، وإلا فهو متقدم إليه، ومن هنا اضطرت بقية مراكز القوى من آل القاسم ومن غيرهم إلى الدخول تحت طاعة الناصر للمرة الثانية. وبقي يوسف بن المتوكل في حيرة، وبدأ بإرسال الرسائل إلى إخوته وأبناء عمومته ليقفوا إلى جانبه ضد الناصر، غير أن الخوف كان قد داخل كثيراً من مراكز القوى، فأعلنت ولاءها للناصر، ولم يتبق من المناطق التي كانت خارجة عن طاعته سوى ضوران وصنعاء وذمار، وعاد جميع اليمن الأسفل مجيباً له خوفاً ورهبة.
وهناك أسباب أخرى أدت إلى تفوق الناصر وإعادة معظم المناطق تحت طاعته فعلى الرغم من أن يوسف وأخاه الحسين قد بذلا جهداً كبيراً في تجهيز الجيش لإخضاع الناصر، إلا أن هذا الجيش عندما وصل إلى بعض الطريق ترك بعضهم بعضاً وعادوا إلى بلادهم، ولم يستفد منهم يوسف، بل بذل الكثير من الأموال دون جدوى، على الرغم من قلة ذات اليد لديه، وعلى العكس كان الناصر قد بذل الكثير مما تبقى لديه في خزائنه لقبائل الحجرية ومشائخها، وأباح لهم انتهاب المحطة التي كانت محاصرة للمنصورة.
كما أن معظم المناطق أصبحت تابعة لمراكز قوى جديدة غير أبناء المتوكل، وبسبب ذلك لم يرفعوا رأساً في إعانة يوسف بن المتوكل بجند على الرغم من كثرة مطالبته لهم، وإنما صاروا يواعدونه مواعيد عرقوب. وفي الوقت ذاته كانوا يكاتبون إلى الناصر بأنهم معه ولن يأتي منهم إلى جنابه ما يخشى، وكانوا يجمعون ما يستطيعون من أموال من ولاياتهم لأنفسهم، بينما يوسف وأخوه الحسين كانا لم يبق معهما ما يقومان به من أجل مواجهة الناصر، ونفدت خزائنهما، وقد أشار المؤرخ يحيى بن الحسين إلى ذلك بقوله: "إن يوسف بن المتوكل قد بلغ في الركة والضعف الحد الذي لا مزيد عليه، وتقالل الناس حوله، ولم يبق له متابع، ولم يبق في يده شيء من المال ولا الرجال" .
ولما رأت معظم القبائل في الشمال ضعف يوسف بن المتوكل وأخيه الحسين أعلنت ولاءها للناصر، منها: بنو الحارث وهمدان الذين أشعلوا النيران في مناطقهم في آخر رجب (1098ه/ بداية يونيو1687م).
وبعد أن تمكن الناصر من إعادة مناطق اليمن الأسفل إلى سيطرته، لم يكن أمامه إلا أن قرر في 18 شوال (1098ه/ 26 أغسطس1687م) التوجه إلى المناطق الشمالية، فتوجه إلى جبلة، حيث جرت حرب قبل دخوله، هُزم فيها أتباع يوسف، ولم يتمكنوا من مقاومته؛ لأنه جاء عليهم بجنود لا طاقة لهم بمواجهتها، كان أغلبهم من الحجرية.
ولا شك أن ذلك سيزيد من خوف يوسف وأخيه الحسين بسبب قلة ما لديهم من المال والرجال.
وبعد أن دخل الناصر جبلة بدأ في بث الرسائل إلى أبناء الإمام المتوكل بأنه لا سبيل إلى الاجتماع والاختيار بعد ما قد جرى من النزاع والحروب، وأنه ليس لديه إلا السيف لمن لم يسلم الأمر، وكان يوسف في المقابل قد جهز زيد بن محمد بن الحسن على رأس عدد من الجند دعماً لمن في جبلة، فلما وصل إلى ذمار بلغه دخول الناصر إليها وهروب عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن وفرحان عنها، فاستقر زيد بمن معه في ذمار، وكتبوا للناصر أنهم مسلمون له الأمر، وكتب أخوه إبراهيم-صاحب ذمار-إليه معلناً طاعته له.
ثم انتقل الناصر بما معه من الأثقال والأهل إلى ذمار، وعسكر خارج المدينة في مخيم كبير، حتى تم له بناء حصن (هران) القريب منها، والذي اتخذ منه مقراً مؤقتاً ليستقر بعد ذلك في مدينة الخضراء، ووصل إليه بعض آل القاسم مبايعين وطائعين.
وكان من أهم أسباب انتقال الناصر إلى ذمار أنه أدرك أن المنصورة-على الرغم من حصانتها-لم تعد المقر المناسب لقاعدة حكمه، فهي بعيدة عن المناطق الشمالية من البلاد حيث يكمن الخطر، ويتيح للأعداء التآمر بعيداً عن رقابته، كما أنها لا تسمح لعلوها في رأس جبال الحجرية للتوسع العمراني، واستقبال الأعداد المتزايدة من رجال الدولة والحاشية والجند، وغيرهم من أصحاب المصالح والحاجات.
ولما استقر في ذمار طلب إليه الفقيه زيد بن علي الجملولي، المنفذ لشؤون ولاية صنعاء، فلما وصل إليه أمر بضرب عنقه، متعللاً بأنه السبب في هذه الحروب والفتن التي جرت، وأن كافة الناس قد اشتكوا من ظلمه.
والمهم في هذه الحادثة أنه كان لإعدامه أثر كبير على كثير من مراكز القوى التي كانت معارضة للناصر، فاشتد خوفها منه، وهرب بعضها إلى صعدة. وقد عبر أبو طالب عن ذلك بقوله: "وبعد قتل الجملولي خفقت القلوب لهيبته وضاقت بآل الإمام المسالك، فكانت صعدة المأوى لهم وإليها تتابع الهُرَّاب من آل الإمام" .
أما يوسف بن المتوكل فقد استدعاه الناصر للقدوم إليه من ضوران، فتوجه إليه وهو في ذمار على رأس قوة كبيرة، فأمر الناصر أن يجتمع به في عدد قليل من أتباعه، وقد هيأ لوصوله مجلساً "أرعد فيه وأبرق، وأمره بالارتحال بأهله إلى صنعاء" . ومن البديهي أن يوافق يوسف على ذلك فبايع الناصر مضطراً؛ لأنه أصبح في موقف ضعيف.
وبعد أن خضع للناصر جميع آل القاسم وبايعوه مكرهين، واتسع ملكه، رأى أنه لا بد من إخضاع ابن العفيف في يافع، وصرف همته إلى الجهات اليافعية، فأرسل السيد صلاح بن محمد في مجموعة من الجند إلى بلاد لحج، ثم تبعها بحملة أخرى إلى طريق رداع وقعطبة. وبدأ يعد العدة لإخضاع يافع، فخرج بنفسه في ذي الحجة سنة (1098ه/1687م) إلى الديلمي، شرقي ذمار، لاستدعاء عمه الحسين بن الحسن صاحب رداع للالتقاء به والتفاوض من أجل يافع، وكان أهم ما طرحه الحسين بن الحسن هو أن المشرق يحتاج إلى الإعداد الكافي جنوداً وأموالاً، ولم يكن لديهم آنذاك ما يكفي للتوجه إلى المشرق، فلم يكن أمام الناصر إلا أن طلب الرؤساء والجند للتجمع لدخول يافع وتأديبهم، وعلى الرغم من عدم رغبة معظمهم في التقدم إلى يافع، إلا أنهم لم يتمكنوا من رفض أوامره خوفاً من بطشه، وأرسل الولاة ما فرض عليهم من الجنود والأموال، منهم: الحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم صاحب عمران والحسن بن المتوكل، والقاسم بن المؤيد، وقاسم بن المتوكل والحسين بن عبد القادر صاحب كوكبان وغيرهم من المراكز الأخرى.
وكان تقدم أول الجند إلى منطقة تسمى (المعسال)، فلما علمت يافع أرسلت كتبها بالطاعة للناصر، فلم يجب عليها، وقال: "لا بد من دخول البلاد، وأخذ ما قد أخذوه على الناس وما جرى منهم سابقاً من العناد".
ولن ندخل في تفاصيل تلك الحروب التي جرت بين الطرفين إلا أن تلك الحروب استمرت بين الناصر وبين قبائل المشرق-التي أهمها يافع-سجالاً، فتارة له وتارة عليه في أغلب الأحوال، ولم يتمكن من استعادة يافع، كما أنه لم يتمكن من استعادتها من جاء بعده من الأئمة وبسبب يافع نشب الخلاف بين الناصر وعمه الحسين بن الحسن، حيث كان الناصر قد وجه اهتماماً كبيراً لحرب يافع-كما ذكرنا-وبالغ في جمع الجند وأرسلهم إلى عمه الحسين، وعينه أميراً عليهم، فاجتمع الجنود في رداع، وكان عددهم كبيراً، وأصبح الحسين فيهم المطاع، فرأى أن هذا العدد الكبير الذي لديه-وجميعهم تحت أمره-يؤهله لإعلان إمامته، وخلع ابن أخيه، فبعث الرسائل إلى المناطق داعياً إلى نفسه بالإمامة، ولما علم الناصر جهز أخاه المحسن لمواجهته، فجرت بينهم حروب كثيرة، تمكن الناصر في نهاية الأمر-بحيلة منه-من القبض على عمه، وأرسله إلى كوكبان، فسجن هنالك في بداية عام(1100ه/1688م) .
وفي العام التالي خرج على الناصر يوسف بن المتوكل بعد أن وعدته قبائل خولان بمناصرته، إلا أنهم لم يبقوا معه، وتمكن عامل صنعاء من القبض عليه وأرسله ومن معه إلى الناصر، ففرقهم في السجون، وأمضى يوسف في السجن سبعة عشر عاماً، حتى أطلقه الناصر.
أما علي بن أحمد فقد انتهز فرصة انشغال الناصر بيافع، فتقدم بقبائل صعدة للإستيلاء على صنعاء في عام (1103ه/1692م) بعد أن جدد دعوته وتلقب بالداعي، وخُطب له في جهةصعدة، وضربت السكة باسمه لكنه فشل أمام صمود قوات الناصر وعاد راجعاً إلى صعدة، وعلى الرغم من انشغال الناصر فقد جهز جيشاً بقيادة بعض أبنائه، تمكن الجيش من دخول صعدة، بعد أن فر أميرها، وقتل كثير من الطرفين. وقد تقلبت الأيام بعلي بن أحمد وجرت حوادث قتل فيها إسماعيل بن الناصر، لكن تمت هيمنة الناصر على المنطقة. وعلى غير عادته فقد سمح برجوع علي بن أحمد إلى مركز ولايته حتى مات بها سنة (1121ه/1709م) .
وبسبب سطوة الناصر وبشطه بمن خالفه اضطر بعض آل القاسم وغيرهم من الأمراء إلى مغادرة اليمن إلى مكة، اتقاءً لشره. منهم: الحسين بن المتوكل والي صنعاء، الذي لم يعد إليها منذ مقتل صهره زيد الجملولي، كذلك أخوه الحسن بن المتوكل الذي كان قد بايع الناصر مضطراً مثل معظم الولاة من آل القاسم وغيرهم، غير أن الناصر كان يطالب بإرسال الأموال للمساعدة في حرب يافع، فسلم ما أمكن واستطاع، ولكن "ما زالت الرسائل تختلف، والطلب يزيد بما لا يمكن تحصيله، لذلك رأى أن يرحل إلى مكة، ويخلي البلاد للناصر"، كما هرب إلى مكة عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن، ومن كوكبان أميرها الحسين بن عبد القادر، هؤلاء هربوا جميعاً خشية من الناصر. واضطروا بعد ذلك إلى العودة إلى اليمن، وكان لبعضهم جولات معه.
ولم يكن الناصر يتوانى عن مصادرة أموال بعض الولاة والعمال، إن احتاج إلى ذلك، ولعل أبرز مثال على ذلك مصادرة أموال والي عدن حسن بن زيد بن علي بن جحاف، حيث طلبه الناصر إلى المنصورة وصادر جميع أمواله، وخرج منها لا يملك شيئاً مما جمعه حتى مماليكه، كما صادر جميع أموال السيد حسن بن مطهر الجرموزي، والي المخا، أثناء هروبه من المخا يريد التوجه إلى مكة بحراً خوفاً من بطش الناصر، غير أنه أمر من يقبض عليه، وصادر جميع أمواله.
وخوفاً من بطش الناصر فإن كثيراً من الشخصيات الهامة في الدولة من خارج أسرة بيت القاسم قد هربت عندما علمت بتوجه الناصر إلى اليمن الأعلى، وعلى الرغم من أنه كان قد أرسل في طلب كثير من هذه الشخصيات، لكنها كانت تعلم أنه ليس بعد الطلب إلا السجن، إن لم يكن الإعدام، منهم على سبيل المثال: القاضي يحيى السحولي، الناظر على الوقف لما بلغه شدة غضب الناصر عليه بسبب الخطبة التي ألقاها يدعو إلى خلعه ومبايعة يوسف بن المتوكل، فهرب إلى عمران، كذلك القاضي جباري، الذي كان محرضاً ليوسف لإبراز دعوته ومحاربة الناصر، فهرب من ضوران إلى قبة المهدي أحمد بن الحسن بالغراس، يريد أن يستجير به.
وكان الناصر يعين من يشاء ويعزل من يشاء من الولايات دون مراعاة للولاة السابقين، ولكن حسب ما تقتضيه مصلحته هو، ولم يكن الولاة السابقون يجرؤون على الرفض أو المعارضة، فنجده في بداية عام (1099ه/ بداية نوفمبر 1687م) يعزل قاسم بن المتوكل عن بلاد السودة وعفار ويعطيها لقاسم بن المؤيد، كما عزل الأول أيضاً عن بلاد ثلا وأعاد إليها واليها السابق الفقيه حسين بن يحيى الثلائي، وبلاد كحلان كانت تابعة لحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم فعزله عنها وعين عليها بعض أولاد الهادي بن الحسن بن شرف الدين. كما عزل أخاه المحسن بن المهدي عن ولايته.
ومهما يكن الأمر فقد مرت مراكز القوى بتطورات سياسية ملحوظة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من خضوع ففي بداية عهد الإمام المتوكل كان بداية نموها وبروزها. كان أبرزها أحمد بن الحسن ومحمد بن الحسن.
وفي عهد الإمام المهدي أحمد بن الحسن ظهرت على السطح مراكز قوى جديدة كان قد بدأ نموها منذ نهاية عهد الإمام المتوكل، واستمرت في تقوية نفسها، وزاد نموها في فترة الإمام المهدي القصيرة، التي لم تتجاوز الخمس السنوات، وكانت في الوقت ذاته تخشى منه وتهابه.
وفي عهد الإمام المؤيد حصلت على الكثير من المناطق والنفوذ الواسع، بحيث أصبح بعضها أكثر قوة ونفوذاً من الإمام نفسه، فلما جاء محمد بن أحمد بن الحسن عمل جاهداً وبكل ما يستطيع على إخضاعها والحد من نفوذها، حتى اضطر بعضها إلى الفرار سواءً إلى مكة أو إلى المناطق البعيدة في اليمن، كما سبق أن رأينا، وقد أشار يحيى بن الحسين إلى ذلك بقوله: "وتمزق أولاد المتوكل ومن كان معهم في الجهات، كل على وجهه متفرقين، ليس همهم إلا النجاة" .
ولعل وصف الإمام الشوكاني لشخصية الناصر يوضح لنا كيف كانت شخصيته تلك وأثرها على التطورات السياسية في اليمن، فيقول: "والحاصل أنه ملك من أكابر الملوك، كان يأخذ المال من الرعايا بلا تقدير، وكانت اليمن من بعد خروج الأتراك منها إلى أن ملكها صاحب الترجمة مصونة عن الجور والجبايات، وأخذ ما لا يسوغه الشرع، فلما قام هذا أخذ المال من حله وغير حله، فعظمت دولته، وجلت هيبته، وتمكنت سطوته، وتكاثرت أجناده، وصار بالملوك أشبه منه بالخلفاء .... وكان سفاكاً للدماء بمجرد الظنون والشكوك" .
وكان متردداً لم يتخذ قراراً إلا ونقضه بعد مدة بقرار آخر، ولعل الألقاب الثلاثة التي تلقب بها خير دليل على ذلك، حيث بدأ دعوته للإمامة بلقب الناصر، واستمر عليه حتى سنة (1107ه/1696م) ثم تلقب بالهادي، ولم يلبث أن غير لقبه في سنة (1109ه/1697م) وتلقب بالمهدي، كما أنه لم يتخذ مدينة واحدة عاصمة لدولته فنجده في (1103ه/1692م) يقرر تأسيس عاصمته الأولى في الخضراء، تقع شمالي مدينة رداع، لكنه لم يلبث أن بدأ في تأسيس عاصمة جديدة لدولته وهي "المواهب" تقع شرقي مدينة ذمار ودخلها في رجب سنة (1111ه/يناير1700م)، تاركاً الخضراء بعد أن أصبحت عاصمة متكاملة، وكان قد تم بناء منازل وقلاع وأسواق وحمامات ومساجد، وتم إيجاد حرف كثيرة كان يزاولها عرب وهنود وأتراك، وبعد أن تركها تحولت إلى أطلال وهدمت.
ولكن من سوء الطالع أن يتزامن انتقال المهدي محمد بن أحمد بن الحسن إلى عاصمته الجديدة بحادثة ظهور فتنة إبراهيم بن علي المحطوري في منطقة الشرف من بلاد حجة، الذي كان بارعاً في السحر وعلم الطلاسم، فسفك الدماء ونهب الأموال وتزايد أتباعه، واستمرت فتنته حوالي أربعة أشهر، تمكنت قوات المهدي محمد بن أحمد بن الحسن من القضاء على أصحابه. وأفتى العلماء بقتله، فأعدم في ذي القعدة سنة (1111ه/إبريل1700م) .
وبعد القضاء على فتنة المحطوري استقرت الأوضاع السياسية في اليمن، وتوافدت إلى الإمام المهدي في عاصمته المواهب الوفود من خارج اليمن، من فارس والحجاز، كما وصلت بعثة فرنسية إلى بلاد الإمام في المواهب. وزاد دخل الدولة من المخا الذي كان الميناء الرئيسي لتصدير البن إلى خارج اليمن، وازدهرت تجارته في هذه الفترة.
وعلى الرغم من أن الناصر قد تمكن من القضاء على العناصر القوية في دولته، غير أنه بعد أقل من عقدين وبالتحديد في سنة (1127ه/1716م) أعلن الحسين بن القاسم بن المؤيد في شهارة إمامته، مستغلاً الاستياء والتذمر الذي ساد الكثير من المناطق اليمنية بسبب السياسة المالية الجائرة، والمتمثلة في فرض مطالب مختلفة، مخالفة للشريعة الإسلامية، فتمكن الحسين بن القاسم من كسب الكثير من المناصرين له والمؤيدين، واضطر صاحب المواهب عند ذلك أن يطلق سراح ابن أخيه القاسم بن الحسين بن أحمد بن الحسن من السجن لمساعدته ضد الحسين بن القاسم بن المؤيد، غير أن القاسم بن الحسين دخل في خلاف مع صاحب المواهب فبايع الحسين بن القاسم، واستولى على عدد من المدن باسم الأخير، وفي نهاية الأمر حاصر صاحب المواهب، الذي اضطر أن يطلب الهدنة، معترفاً بإمامة الحسين بن القاسم الذي تلقب بالمنصور، وخلع صاحب المواهب نفسه "بعد حروب شديدة، ومحاصرة عظيمة" .
غير أنه في نهاية عام (1128ه/1716م) نكث القاسم بن الحسين بمبايعته للمنصور الحسين بن القاسم وأعلن إمامته، وتلقب بالمتوكل، وكان قد أصبح إليه صنعاء، واستولى على عدن والمخا وموانئ تهامة وحجة وكحلان، كان يعني ذلك سيطرته على إيرادات الموانئ، وعلى النقيض من ذلك كان المنصور الحسين بن القاسم، الذي لم يكن له إلا شهارة وبعض المناطق المجاورة.
ومن البديهي أن يرفض صاحب المواهب مبايعة ابن أخيه القاسم بن الحسين، متعللاً إنه إنما تنازل عن إمامته للمنصور الحسين بن القاسم، فدارت معارك بين الطرفين انتهت بمحاصرة صاحب المواهب، واشتدت وطأة هذا الحصار على من بها من منتصف شهر شعبان سنة (1130ه/13يوليو/1718م) حتى الأسبوع الأول من رمضان/ يوليو، حيث توفي صاحب المواهب في 5 رمضان، وكان عمره ثلاثة وثمانين عاماً. وكان في وفاته فرجٌ على أهله ومن معهم بداخل المواهب وفرج على المحاصرين للمواهب.
وهكذا سارت عجلة التاريخ في هذه الحقبة كما استعرضناها، قوة وازدهار في عهد الإمام المتوكل، وتوسيع لحدود الدولة حتى هابها القريب والبعيد، وازدهار اقتصادي وما تبعه من ازدهار فكري علمي.
وكانت فترة الإمام المهدي أحمد بن الحسن امتداداً للفترة السابقة لها، وسار على نفس خُطى الإمام المتوكل تقريباً، واستقرت الأوضاع إلى حد ما بسبب ما تمتع به الإمام المهدي من قوة شخصية وهيبة.
وبدأ التدهور السريع وسوء الأوضاع الإدارية والمالية في عهد الإمام المؤيد محمد بن المتوكل. وزادت الأوضاع الاقتصادية سوءاً.
أما الإمام الذي اتخذ الثلاثة الألقاب وهو محمد بن أحمد بن الحسن، فكانت شخصيته مختلفة عمن سبقه من الأئمة، ولعله اتبع سياسة الغاية تبرر الوسيلة-إن جاز استخدام هذا التعبير-وعلى الرغم من سيطرته على زمام الأمور وإخضاع مراكز القوى فإن الأوضاع الاقتصادية قد تدهورت بسبب الحروب الكثيرة التي دارت بينه وبين المعارضين له. غير أنه في نهاية الأمر تغلب على الجميع، وزادت عائدات الدولة المالية بسبب ازدهار تجارة البن، وطالت فترة إمامته إلى أكثر من ثلاثين عاماً، إلى أن مات محاصراً في المواهب، كما أسلفنا.
ولكن تجدر الإشارة هنا أنه على الرغم من أن مخطوطة بهجة الزمن قد توقف قلم صاحبها في بداية عام (1099ه/ 1686م) إلا أن الباحثة قد حاولت بقدر المستطاع إكمال فترة صاحب المواهب الإمام محمد بن أحمد بن الحسن باقتضاب لرسم الخطوط العريضة لهذه الحقبة الهامة من تاريخ اليمن الحديث.
الفصل الثالث
المؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم، ومخطوطته
(بهجة الزمن في تاريخ اليمن)
أولاً: ترجمة المؤلف
لقد تناولنا في الفصلين السابقين الظروف السياسية التي كانت محيطة بالمؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم، والتي تناولها المؤرخ نفسه في كتابه (بهجة الزمن في تاريخ اليمن). ولعله قد اتضحت في هذين الفصلين وفيما ورد في كتابه السابق ذكره الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة حينذاك، والتي كانت من العوامل المساعدة في تكوين شخصيته وبروزه في الكثير من علوم عصره.
فمن يحيى بن الحسين؟ وكيف كانت نشأته وتعليمه؟ وما العوامل التي ساعدت على تكوين شخصيته وبروزه في عدد من العلوم؟
أ- أسرته وتعليمه
ينتهي نسب يحيى بن الحسين إلى الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، فهو "يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد بن الأمير الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن الإمام يوسف الأصغر الملقب الأشل بن الإمام القاسم بن الإمام يوسف بن الإمام يحيى بن الناصر أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين".
أما تاريخ مولده فلم نجد فيما بين أيدينا من مصادر تأريخاً دقيقاً للشهر والسنة التي ولد فيها. وقد أورد بعض المؤرخين تأريخاً تقريبياً، ومنهم محمد بن علي الشوكاني، الذي يقول: "ولد تقريباً سنة (1035هـ1625م). ولعل التأريخ التقريبي الذي أورده الشوكاني صحيح، إذ يذكر أحد أحفاد يحيى بن الحسين في الورقة التي قبل ورقة عنوان الجزء الأول من كتاب (بهجة الزمن) أن مولد يحيى بن الحسين كان في سنة (1035هـ/1625م) مستنبطاً تأريخ مولده من بعض الأحداث التي ذكرها المؤرخ في الجزء الأول من كتابه (بهجة الزمن).
ومما لا شك فيه أن يحيى بن الحسين قد نشأ وترعرع في أسرة جمعت بين العلم والسياسة ابتداءً من جده الإمام القاسم بن محمد، الذي كان عالماً مجتهداً، وله العديد من المؤلفات، أصبحت مرجعاً لمن بعده، لعل أهمها كتابه (الأساس) في أصول الدين، و(الاعتصام) في الفقه، وغيرها من المؤلفات في علوم عصره.
وكان الحسين بن القاسم والد المؤرخ يحيى بن الحسين يعد من أبرز علماء عصره، فقد ترك لنا مؤلفات ذاع صيتها، وأصبحت من أهم الكتب التعليمية حينذاك، وفي الفترات اللاحقة. وكان أهمها كتابه (غاية السؤل في علم الأصول) وشرحه (هداية العقول)، الذي يصفه الشوكاني بقوله: "الكتاب المشهور، الذي صار الآن مَدْرَس الطلبة، وعليه المعول في صنعاء وجهاتها". ومن الملفت للنظر أنه قد ألف كتابه هذا وهو في ساحات القتال مع العثمانيين، فظهر مؤلفاً أطنب الكثير من العلماء في وصف أهميته.
ولم يكن الحسين وحده الذي اهتم بالعلم، وبرز فيه، بل إن إخوته كان لهم باع طويل في ذلك ابتداءً من الإمام المؤيد محمد بن القاسم إلى الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم.
ومما لا شك فيه أن بيت العلم والحكم قد ترك أثراً واضحاً على نشأة يحيى بن الحسين وسلوكه وتربيته، لهذا فليس غريباً أن نجد من المؤرخين من يصفه بأنه "سليل بيت علم وسياسة، وانعكس هذا في غزارة علمه وقوة شخصيته".
وهناك عامل آخر كان له أثر في بروز يحيى بن الحسين وثقافته وعلمه، وهو مشائخه الكُثر، الذين تلقى العلم على أيديهم، فمن المؤكد أنه قد تلقى العلم على أيدي مشاهير علماء عصره، بوصفه حفيداً للإمام القاسم وابناً للحسين، ولاستعداده الشخصي، فقد أبدى اهتماماً بالعلم، حيث كان شغوفاً بتحصيله، فدرس في علم الحديث والتفسير وأصول الفقه وأصول الدين وغيرها من العلوم.
وقد أطنب يحيى بن الحسين في مدح مشائخه في الجزء الأول من كتابه (بهجة الزمن) وترجم لهم ترجمة كاملة، وذكر مؤلفاتهم والعلوم التي اهتموا بها، وكيف كانوا مشائخ للكثير من طلبة العلم من أترابه، ولعل أهم هؤلاء العلماء الشيخ المحدث عبد الرحمن بن محمد الحيمي (ت1068هـ/1657م) والقاضي العلامة أحمد بن صالح العنسي (ت1069هـ/1658م) والسيد العلامة شمس الدين أحمد بن علي الشامي (1071هـ/1660م).
ونال المؤرخ العديد من الإجازات من علماء بارزين في عصره، من أقطار مختلفة من العالم الإسلامي، خاصة في علم الحديث، ومن هؤلاء العلماء الشيخ عبد الرحيم اللاهوري الهندي الحنفي، الذي انتقل من مكة إلى اليمن ولازم الإمام المتوكل إسماعيل، وكاتب الشيخ زين العابدين بن عبد القادر الطبري المكي الشافعي في مكة، وطلب منه إجازة في جميع ماله من المرويات وكُتُب السنة، فأجازه في ذلك سنة (1074هـ/1663م) حيث كان إسناد زين العابدين الطبري أعلى الأسانيد في عصر يحيى بن الحسين، وأجازه القاضي العلامة أحمد بن سعد الدين المسوري سنة (1058هـ/1648م) في مجموع الإمام زيد بن علي. كما نال إجازة عامة من القاضي العلامة الحسن بن يحيى حابس في جميع مروياته.
ولعل فيما سبق دلالة واضحة على أن المؤرخ قد عاش في بيئة علمية واسعة، مما كان له أثر في حياته وتكوين شخصيته وغزارة علمه، وانعكس على مؤلفاته.
وكان للاستقرار السياسي الذي تميز به حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل-كما سبق أن رأينا-أثره الواضح في الازدهار الفكري والعلمي. وبرز في هذه الفترة عدد من العلماء ومنهم يحيى بن الحسين، الذي كان يحرص على الالتقاء بالكثير منهم، وكان هناك علاقة متينة بينه وبين معظم علماء عصره، مما كان له أثر في توجهه العلمي. والتقى المؤرخ بالعديد من العلماء المسلمين الذين كانوا يفدون إلى اليمن من أقطار مختلفة من العالم الإسلامي، وكانت تجري بينهم العديد من المناقشات دوَّنها المؤرخ في كتابه (بهجة الزمن) بأجزائه الثلاثة، وكان هؤلاء العلماء من الحنفية والشافعية والإثني عشرية وغيرهم، وكان يستفيد منهم، كما استفادوا منه، ومن هؤلاء العلماء على سبيل المثال العالم المُلا محمد بن حسن الحساوي الحنفي، الذي التقى به المؤرخ كثيراً، واهتم المؤرخ بذكر العلماء الذين كانوا يفدون إلى اليمن ويلتقي بهم، وتدور مناقشات مذهبية فيما بينهم، ومن هؤلاء العلماء مثلاً: الشريف العارف إسماعيل بن إبراهيم الحنفي الحسيني، ومحمد بن أحمد كزبر الدمشقي، وغيرهم.
واطَّلع المؤرخ على الكثير من الكتب سواءً الموجودة باليمن أو التي كانت تُرسل إليه من أقطار العالم العربي والإسلامي، واهتم بإبداء ملاحظاته عليها بالنقد والتحليل لما ورد فيها سلباً وإيجاباً.
وكان من بين العلماء الذين كانوا يجيبون على الأسئلة والاستفسارات التي كانت تُرسل إلى اليمن من بعض الأقطار الإسلامية، حول بعض المسائل الدينية، بالإضافة إلى بعض المسائل الدينية التي كانت تُثار داخل اليمن وكان يجيب عليها العديد من العلماء من بينهم يحيى بن الحسين.
نخلص من ذلك إلى أن عصر يحيى بن الحسين-خاصة الموازي لعصر الإمام المتوكل إسماعيل-كان واحداً من العوامل التي ساعدت على بروز شخصيته العلمية وكثرة مؤلفاته وتنوعها، ومع كل ذلك فإننا لا نستطيع إنكار العامل المادي، الذي كان له أثر في تفرغ يحيى بن الحسين للعلم، فهو من أسرة حاكمة تتمتع بالاستقرار المادي، الأمر الذي مكَّنه من التفرغ للعلم واقتناء العديد من الكتب القيمة والنادرة.
وكما يروي يحيى بن الحسين بأنه كان مع أسرته مستقراً في مدينة صنعاء، قرب حارة "الأبهر"، وفي فصل الخريف من كل عام ينتقل مع أسرته إلى "بير العزب" غربي صنعاء، حيث كان لهم هناك بيت وضيعة بها أعناب.
هذا الاستقرار ساعد على اهتمامه بالعلم والانتاج الغزير للكثير من المؤلفات.
ويذكر القاضي محمد الحجري أن من مآثر يحيى بن الحسين مسجد القضاة في "بير العزب". وبناؤه لهذا المسجد لدليل على اهتمامه بالعلم والعلماء، إذ كانت المساجد دوراً للعبادة والعلم في الوقت ذاته.
ب- تفرغه للعلم والتأليف
سبق أن تناولنا العوامل التي ساعدت في تكوين شخصية يحيى بن الحسين العلمية وبروزه بين علماء عصره، وهنا لا بد أن نجيب على بعض الأسئلة منها: كيف تفرغ للعلم؟ ولماذا أطلقنا عليه موسوعياً؟ وما العلوم التي اهتم بها وألف فيها؟
لقد أعطى يحيى بن الحسين العلم جُلَّ وقته، وتفرغ له، يتضح ذلك من خلال ما أورده في ثنايا كتابه (بهجة الزمن)، ومن خلال من ترجم له من المؤرخين المعاصرين واللاحقين، ومن خلال المؤلفات التي تركها لنا، وهي متنوعة في عدد من علوم عصره.
فعلى الرغم من التنافس الذي كان قائماً بين مراكز القوى من أبناء الأسرة وغيرهم، سواءً كان على الإمامة أو على تولي بعض المناطق الهامة، ،إلا أن يحيى بن الحسين كان بعيداً عن هذا التنافس، ولم يدخل في شيء من ذلك، واهتم بالعلم مكتفياً بالوظيفة التي أوكلها إليه عمه الإمام المتوكل إسماعيل، وهي جباية جزية اليهود في صنعاء، حيث لزم هذه الوظيفة حتى وفاته.
وكان عمه الإمام المتوكل قد عرض عليه أن يتولى المناطق التي كانت في ولاية أخيه محمد بن الحسين بعد وفاته، غير أنه قد أشار إلى ذلك بقوله: "فاعتذرت إليه من ذلك، ولم أدخل في شيء مما هنالك". ولعل الإمام محمد بن أحمد بن الحسن (صاحب المواهب) قد طلب منه مبايعته عند إعلان إمامته، وربما عرض عليه منصباً يتولاه، فاعتذر عن ذلك، يتضح ذلك من خلال الرسالة التي أجاب بها يحيى بن الحسين على صاحب المواهب، مما قال له فيها: "وعرف منا ذلك المتوكل فيما مضى، فعذر وارتضى، وكذلك والدكم، وكذلك محمد بن المتوكل. كلهم سايرونا على ما نحبه من عدم تعلق أمر ولا تكليف ولا محاضر ولا مجامع، وإعذاراً مما لا يخفاكم".
وكان يرى أن على الإنسان أن يتفرغ للعلم والعبادة؛ لأن الملك والحكم زائلان، لذلك كله فقد ساعده هذا التفرغ على التحصيل في علوم كثيرة، ألَّف فيها الكثير من الكتب.
وكان يحيى بن الحسين قد ذكر عدد مؤلفاته في ورقة العنوان لكتابه "الزهر الناعم في اتِّباع سنة أبي القاسم" وبخطه هو، فيقول: "مصنفات الفقير إلى الله يحيى بن الحسين بلغت نحو ثمانين مصنفاً في قدر ثلاثين مجلداً. والله الموفق". ثم زاد عليها ربما بعد تأليفه لكتاب الزهر الناعم فبلغت نحو 122 مصنفاً، وفي مختلف العلوم.
أما العلوم التي ألَّف فيها، فهي علوم القرآن والسيرة النبوية، وأصول الفقه، وأصول الدين، والحديث، والتصوف، والتاريخ. غير أن المؤلفات التاريخية التي تركها كانت سبباً في شهرته وبروزه بين مؤرخي عصره، بل لقد كان له أثر كبير على من أتى بعده من المؤرخين لمميزاته العلمية المتعددة، فقد كان مجتهداً متحرراً، عميق النظر، فضلاً عن اتساع معلوماته وكثرة مؤلفاته.
واهتم بعلم التاريخ فكانت مؤلفاته التاريخة أكثر شهرة من مؤلفاته في العلوم الأخرى، وقد اعتمد من جاء بعده من المؤرخين على كتبه، وبصفة خاصة كتابيه "أنباء الزمن في تاريخ اليمن" و "بهجة الزمن في تاريخ اليمن"، ولن نبالغ إذا ما أكدنا على أن يحيى بن الحسين يعد من أبرز مؤرخي عصره، وبتعبير الأستاذ الدكتور سيد مصطفى بأنه يعد "من أبرز مؤرخي القرن السابع عشر الميلادي اليمنيين، ومن أكثرهم اعتدالاً على الإطلاق، رغم أنه كان حفيداً للإمام القاسم بن محمد، ورغم أن عصره كان عصر التعصب للأئمة الزيديين، وعصر انتصار هؤلاء الأئمة وامتلاكهم لمقاليد الأمور في اليمن".
وعلى الرغم أن ثمة من يقول إن مذهبه الزيدي قد دفعه إلى محاباة رجال الزيدية في كثير من المواضع، غير أنه من خلال ما وقفنا عليه من كتب ليحيى بن الحسين لم نجد ما يؤكد هذا القول فكان كثيراً ما ينتقدهم، ويدعو إلى نبذ التعصب، ويطلق على المتعصبين من الزيدية بـ"رفضة الزيدية" مشيراً بذلك إلى الفرق المتعصبة. فلم يحاب أحداً من رجال الزيدية، وإنما كان أكثر مؤرخي عصره موضوعية.
ويتضح من خلال كتابات يحيى بن الحسين التاريخية أنه كان واسع الإطلاع على العديد من المؤلفات وفي مجالات مختلفة فتمتع لذلك بثقافة عالية ولاطلاعه الواسع نجده من أكثر المؤرخين دقة وعلماً بمجريات الأحداث، وبحسب صاحب "مصادر تاريخ اليمن" فإن كتبه تعد من أشمل المؤلفات التي عالجت تاريخ اليمن في العصر الإسلامي، حيث صحح فيها الكثير من الأخبار التي اختلف حولها سابقوه.
ولم يقتصر اهتمام يحيى بن الحسين على الفترة التي عاصرها، لكنه تناول مراحل التاريخ القديم، ثم الإسلامي، ثم المعاصر له، وأفرد لكل مرحلة مؤلفاً خاصاً، هذا بالإضافة إلى كتب التراجم، وسأكتفي بسرد مؤلفاته التاريخية، وهي:-
1- العبر في أخبار من مضى وغبر: تناول فيه المؤرخ الفترة السابقة للإسلام.
2- أنباء الزمن في تاريخ اليمن: تناول الفترة منذ فجر الإسلام حتى خروج العثمانيين الأول من اليمن سنة (1045هـ/1635م).
3- بهجة الزمن في تاريخ اليمن: تناول الفترة منذ خروج العثمانيين/1045هـ/1635م، حتى بداية عصر صاحب المواهب (1099هـ/1686م)، موضوع هذه الدارسة، التي تُعنى الباحثة بتحقيقه.
ويتضح في مؤلفاته الثلاثة السابقة حرصه على التسلسل الزمني فيها، فجعل كتابه "العبر" مقدمة لكتابه الثاني "أنباء الزمن" بينما كان كتابه الثالث "بهجة الزمن" ذيلاً للكتاب الذي قبله "أنباء الزمن" وحاول الربط بين المؤلفات الثلاثة.
4- المستطاب في تراجم علماء الزيدية الأطياب: ويعد من أهم كتب التراجم في تلك الفترة.
5- التعريف بجملة من أهل العلم والتصنيف: ترجم فيه لبعض العلماء من أهل اليمن وغيرهم.
6- الزهر في أعيان العصر: ترجم فيه لستة عشر عالماً من علماء اليمن في عصره.
وعلى الرغم من أن يحيى بن الحسين قد ابتعد عن السياسة -كما سبق أن رأينا-ولم يشارك في الحكم، إلا أنه لم يكن بمعزل عن الأوضاع السياسية الدائرة حوله، ولم يسكت عما كان يصدر من الأئمة والحكام من أخطاء، فهو أحياناً ينصح، وأحياناً أخرى يترجى، وأحياناً ثالثة ينتقد ويهاجم، وله العديد من الرسائل-التي دونها في كتابه "بهجة الزمن" بأجزائه الثلاثة-مع الأئمة وبعض مراكز القوى، ابتداءً من عصر الإمام المتوكل إسماعيل، الذي دارت بينه وبين يحيى بن الحسين العديد من المراسلات، كان الأخير ينتقد بعض سياسة الإمام المتوكل المالية، وكان الإمام بالتالي يجيب على تلك الرسائل مبرراً أحياناً، ومنكراً ما يوجه إليه من انتقادات أحياناً أخرى، ولكن في جميع تلك المراسلات اتضح أن الإمام المتوكل كان يُجلُّ يحيى بن الحسين ويحترمه، لمكانته العملية الكبيرة، ودارت أيضاً مراسلات بينه وبين الأئمة الثلاثة الذين أتوا بعد الإمام المتوكل، وقد سبق ذكر ذلك في الفصل الثاني من هذه الدارسة.
ج - إهمال بعض المؤرخين الترجمة له واهتمام الكثير منهم بذلك
من المعروف أن بعض المؤرخين قد أهملوا الترجمة ليحيى بن الحسين، ونتيجة لذلك لم يتأكد تأريخ دقيق لسنتي ولادته ووفاته. ومعظم ما وجدناه لا يعدو أن يكون ترجيحات، كما أسلفنا، كما أن معظم مؤلفاته لا زالت مكتوبة بخطه، ولم تُنسخ، ولعل موقف يحيى بن الحسين من الأئمة في عصره، وكذلك من بعض العلماء المعاصرين له جعل بعض المؤرخين يهملون الترجمة له، ولعل ذلك يعود إلى ما ذهب إليه الشوكاني وهو: "ميله إلى العمل بما في أمهات الحديث ورده على من خالف النصوص الصحيحة".
السبب الآخر، ولعله أكثر أهمية وهو أنه قد مثل جانب المعارضة-إن جاز استخدام هذا التعبير-ابتداءً من عصر الإمام المتوكل حتى أوائل عصر الإمام محمد بن أحمد بن الحسن (صاحب المواهب)، هذا الموقف جعل بعض المؤرخين يهملون الكتابة عنه، ربما محاباة للسلطة، كما هو متبع في كل العصور والأزمنة.
وأبزر مثال على ذلك الإهمال هو المؤرخ عبد الله بن علي الوزير (1074-1147هـ/1663-1734م)، حيث يتضح موقفه من يحيى بن الحسين من خلال كتابه "طبق الحلوى وصحاف المن والسلوى" فدوَّن كتابه هذا مبتدأً بنفس الفترة التي بدأ بها يحيى بن الحسين كتابه "بهجة الزمن"، واعتمد اعتماداً أساسياً على هذا الكتاب، فاستقى منه معظم المعلومات، ورتب أحداث كتابه بالترتيب نفسه لأحداث كتاب "بهجة الزمن" ولكن بأسلوب مختصر.
وكان في معظم الأحيان ينقل من كتاب "بهجة الزمن" ويتجاهل ذكر اسم يحيى بن الحسين، ويستبدله بنعوت ومسميات أخرى مثل :"رأى بعض السادة"، وقد وردت عند يحيى بن الحسين بقوله: "وفيها رأيت" أو يقول: "رأيت لبعض الفضلاء كلاماً يقول ما لفظه:"وهو ينقل من كتاب (البهجة) أو يقول: "وهذا ما تلقاه بعض النقلة عن لسان الشيخ محمد الحساوي"، وهناك أمثلة أخرى كثيرة.
غير أن هناك من المؤرخين من أنصفه، واعترف بفضله وعلمه، منهم على سبل المثال ابن عامر، فقد مدحه بقوله: "كان سيداً عالماً من عيون آل محمد فضلاً وورعاً، متكلماً في الفروع، وشرح الأزهار شرحاً عظيماً، أبان عن علم واطلاع واختيارات ثاقبة، وآراء صائبة، وإلزامات مفيدة، وله رسائل عظيمة وحواشي عجيبة، وكان في زمن الإمام المتوكل رحمه الله عمدة الناس في الفتوى، وكان منظوراً بعين السيادة والكمال والرئاسة العظمى".
وترجم له إبراهيم بن القاسم في كتابه "الطبقات" ترجمة طويلة، أطنب في مدحه، وأضاف إلى ما قاله ابن عامر أنه كان إماماً محققاً، أستاذ أهل الرسوخ، له تصانيف جليلة، منها كتاب التاريخ، يدخل في مجلدين، وشرح على مجموع الإمام زيد، يدل على تمكنه وبسطه في جميع العلوم.
أما الشوكاني فقد وصفه بأنه مطلع في جميع العلوم، ومتمكن، وأن مصنفاته جليلة.
وترجم له معظم المؤرخين المتأخرين مثل: البغدادي: في كتابه "هدية العارفين" والقنوجي في كتابه "التاج المكلل" وغيرهم معتمدين على الترجمة التي أوردها الشوكاني في كتابه "البدر الطالع"، حتى لقد صار كتاب الشوكاني هذا مصدراً رئيسياً للكتابات المتأخرة التي ترجمت ليحيى بن الحسين.
د- وفاته
سبق أن ذكرنا بأن ثمة تضارباً واختلافاً بين المؤرخين حول السنة التي توفي فيها يحيى بن الحسين، فثمة من يذكر أن وفاته كانت "في نيف وثمانين بعد الألف من الهجرة". وثمة من يرى أن وفاته كانت بعد سنة (1099هـ/1686م) استناداً إلى أن كتابه "بهجة الزمن" قد توقف في هذا العام. والبعض يذكر أن وفاته كانت بعد سنة (1100هـ/1687م). وقبر في بير طاهر، في الجهة الغربية من صنعاء، رحمه الله.
ونتيجة لتلك الاختلافات حول وفاته، فإننا أيضاً لم نستطع أن نحدد تحديداً دقيقاً السنة توفي فيها يحيى بن الحسين، غير أنه من المرجح أن وفاته كانت بعد سنة (1100هـ/1687م)، إذ أنه ليس بالضرورة أن تكون وفاته في نفس العام الذي انتهى فيه من كتابه "بهجة الزمن"، فربما أنه قد انشغل بمؤلف آخر، أو لعله قد توقف عن الكتابة لأسباب نجهلها حالياً، وقد تكشف لنا مصادر أخرى-غير متوفرة الآن-عن ذلك.
ثانياً- البحث عن نسخ المخطوطة ووصفها :
لما كان أي تحقيق لمخطوطة ما ونشرها نشراً علمياً سليماً يحتاج قبل البدء في أي شيء إلى حصر النُّسخ المختلفة إن وجدت فقد بدأت بالبحث عن نسخ أخرى لهذه المخطوطة الموجودة بدار المخطوطات بصنعاء، وتتبعت قراءة الفهارس العامة للمخطوطات العربية سواء الموجودة في دار الكتب اليمنية أو في المكتبة المركزية بجامعة صنعاء، حيث تتوفر في هذه المكتبات فهارس عامة عن المخطوطات اليمنية في المكتبات العالمية العربية والأجنبية مثل: فهارس دار الكتب المصرية ومعهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية ومكتبة صوفيا الوطنية البلغارية ومكتبة الأمبروزيانا، لكني لم أجد في أي منها ذكراً أو إشارة لمخطوطة (بهجة الزمن) كما بحثت في الكتب الخاصة بفهارس بعض المخطوطات اليمنية مثل: " مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني" للدكتور حسين العمري و" مصادر التراث العربي الإسلامي في اليمن" للأستاذ عبد الله الحبشي، و" مصادر تاريخ اليمن في العصر الإسلامي" للدكتور أيمن السيد، غير أني أيضاً لم أجد في كل ذلك إشارة أو ذكر لهذه المخطوطة.
ولم أكتف بذلك لكني بدأت في البحث عن نسخة أخرى لها لدى بعض الأسر اليمنية التي لديها مكتبات غنية بالتراث اليمني، وكان يحدوني الأمل في أن أجد نسخة لدى هذه الأسر؛ لأن الكثير من المخطوطات اليمنية لا زالت حبيسة المكتبات الخاصة، غير أني خلال رحلة البحث هذه لم أجد أيضاً أي أثر لنسخة أخرى. مع أن وجود نسخة ثانية كان يعني لي توفير الكثير من الجهد والوقت، كما سيتضح ذلك في منهج التحقيق.
وإذا ما انتقلنا إلى وصف نسخة المخطوطة الموجودة في دار المخطوطات بالجامع الكبير أو ما يسمى بالمكتبة الغربية فهي مقيدة تحت رقم (49 تاريخ وتراجم) وهي من القطع المتوسط (مقاس 21× 15) والمخطوطة بخط المؤلف عدا بعض أوراق في الجزأين الأول والثاني كتب بخط مختلف، غير أن ما كُتب هو إما رسائل أو أبيات شعرية منقولة من دواوين لكنها قليلة، وكأن المؤلف قد كلف أحد معاصريه بكتابتها أو نقلها إلى مخطوطته.
وبما أن المخطوطة هي مسودة المؤرخ فلا يوجد عدد محدد للأسطر فيها بسبب أن الخط في بعض الأوراق صغير جداً، وفي معظم الأوراق كان الخط أكبر لذلك تفاوت عدد أسطر المخطوطة، فالأوراق التي خطها صغير يتراوح عدد أسطرها ما بين 22-23سطراً بينما الأوراق التي خطها أكبر يتراوح عدد أسطرها ما بين 18- 19 سطراً.
والمخطوطة غير مرقمة من قبل المؤرخ، لكنه حرص على أن يلتزم في الأجزاء الثلاثة بما عرف بنظام التعقيبة وهو كتابة بداية الكلمة التي في الورقة الجديدة في أسفل الورق السابقة للدلالة على بدء الورقة التي تليها وهو أسلوب متبع في معظم المخطوطات، وكأنه بمثابة ترقيم لأوراق المخطوطة . غير أنه تم ترقيمها من قبل الجهة التي تحتفظ بها وهي دار المخطوطات. وقد رقمت بعض الأوراق ترقيماً خاطئاً، حيث كان هناك قفزات في بعض الأوراق في حين أنه لا يوجد نقص أو خلل في تسلسل الأحداث.
وبلغ عدد أوراق الجزء الأول 219ورقة والجزء الثاني 238ورقة والجزء الثالث 175ورقة، وبذلك يكون عدد أوراق الأجزاء الثلاثة 704 أوراق أي أن عدد صفحاتها 1408 صفحات.
وإذا ما بدأنا بوصف ورقة العنوان للجزء الأول فهي كالتالي: كُتب في أعلى الورقة في منتصفها عنوان المخطوطة بخط المؤلف وهو : " بهجة الزمن في تاريخ اليمن" وكتب المؤلف قبل العنوان في وسط الورقة من أعلى وبخط كبير: " بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله، وفي جهة اليسار وبخط مائل من أعلى إلى أسفل كتب حفيد المؤرخ ترجمة للسيد إدريس بن علي الحمزي وولده محمد بن إدريس كما يلي: " السيد العالم إدريس بن علي ويلقب سيف الإسلام بن عبد الله بن الحسن. ويلقب بأبي .... فارس المسلمين ابن حمزة الجواد بن سليمان.... ابن حمزة اليمني ابن علي العالم المجاهد بن حمزة بن أبي هاشم النفس الزكية الحسن بن عبد الله بن علي بن عبد الله العالم. صنو الهادي يحيى بن الحسين رحمه الله مؤلف "كنز الأخيار في الأخبار" كتاب نفيس، حافل نظير . رتبه على السنين، وفرغ من تأليفه يوم الإثنين في رجب الأصب من ثلاث عشرة وسبعمائة، وتوفي سنة أربع عشرة وسبعمائة . وكان للسيد إدريس مخالطة للسلاطين اليمنية وتولى لهم وأكل عطياتهم وإقطاعاتهم وجوائزاتهم. ثم روي عنه أنه تاب توبة نصوحاً، عاهد الله عليها مراراً حتى مات، رحمه الله تعالى. وهو والد السيد محمد بن إدريس الذي له مؤلفات كثيرة منها: " النهج القويم في تفسير القرآن الكريم" في مجلدات. وله: "التيسير في التفسير" مجلدات، وله غير ذلك . ومن مؤلفاته في الفقه كتاب: "شفاء غلة الصادي على مذهب الهادي" رحم الله الجميع برحمته. نقل من.... القاضي أحمد بن سعد المسوري رحمه الله.
وكتب في جهة اليسار بخط كبير: " من مؤلفات العلامة عماد الإسلام يحيى بن الحسين بن أمير المؤمنين رحمه الله تعالى "، ويوجد بهذه الورقة عبارات كتبت ثم شطبت بالحبر الأسود، ولم يتضح معناها.
أما الورقة المقابلة لورقة العنوان فقد كُتب في جهة اليسار بخط مائل من أعلى إلى أسفل، ويرجح أنه خط حفيد المؤرخ، الذي كتب تعليقات في بعض أوراق المخطوطة وهو يحيى بن مطهر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين، كتب ترجمة لجناد بن واصل الكوفي استقاها من كتاب "معجم الأدباء" لياقوت الحموي، ما يلي:" جناد بن واصل الكوفي هو مولى بني عارضة، من بني أسد يكنى أبا محمد، ويقال: أبو واصل . من رواة الأخبار والأشعار، لا علم به بالنحو. وكان يصحف ويكسر الشعر، ولا يميز بين الأعاريض المختلفة. وهو من علماء الكوفيين القدماء. وكان كثير الحفظ في مقياس حمَّاد الرَّاوية، وما كان أهل الكوفة يشكُّون في شعره، ولا يعزُبُ عنهم اسم شاعر إلا سألوه عنه فوجدوه لذلك حافظاً، وبه عارفاً. انتهى من معجم الأدباء لياقوت".
ثم كُتب في أسفل الورقة من جهة اليسار، وبالخط نفسه، غير أنه خط كبير ما يلي: "مولد الجد يحيى بن الحسين استنباطاً من أخبار سنة 1049هـ، في سنة 1035. وفاته سنة 1099، فعمره على هذا 64سنة، رحمه الله تعالى".
وإذا انتقلنا إلى وصف ورقة العنوان للجزء الثاني فهي كالتالي:
كُتب في أعلى الورقة في منتصفها عنوان المخطوطة، بخط المؤلف، وهو: "الجزء الثاني من بهجة الزمن في تاريخ اليمن ...... ، ليحيى بن الحسين. وهو تاريخ"، وبقية الكلام مشطوب عليه، وكأن الفاعل قد تعمد أن لا يتضح منه شيئٌ.
وكُتب في منتصف الورقة بعد العنوان، وبخط واضح ومختلف عن خط المؤلف ما يلي:
"وأنباء الزمن في تاريخ اليمن"، جمع سيدي العلامة عماد الدين يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد عليهم السلام." وبعدها إشارة الهاء المقلوبة "لع" التي تعني انتهى.
وكُتب في أسفل الورقة، في الجانب الأيسر منها كلام، سُكب عليه الحبر، فلم يتضح منه شيء البتة، وكتب تحته بخط مختلف عن خط المؤلف، ومختلف عن الخط السابق ما يلي:
"غفر الله له ولوالديه والمسلمين والمسلمات بمحمد÷. شهر رجب سنة 1193هـ.
أما الورقة المقابلة لورقة العنوان، وهي حامية الكتاب فلم يُكتب فيها شيئاً.
وإذا انتقلنا إلى وصف ورقة العنوان للجزء الثالث، سنلاحظ أن العنوان قد كُتب في منتصف أعلى الورقة بخط المؤلف وهو: "الجزء الثالث من التاريخ ومن الأصل هو الجزء الخامس من أخبار اليمن" ويقصد المؤلف من ذلك أن "بهجة الزمن" ذيل "لأنباء الزمن"، حيث أن كتابه "أنباء الزمن" جزآن، و "بهجة الزمن" ثلاثة أجزاء. لذلك فإن الجزء الثالث من "بهجة الزمن" يعتبر الجزء الخامس، حسب تقسيم المؤرخ نفسه.
وكُتب تحت العنوان، بخط مختلف. والحبر أكثر حداثة: "للوالد العلامة يحيى بن الحسين، طاب ثراه، آمين".
وفي منتصف الورقة، في الجانب الأيمن كتب المؤلف: "ويكفيك في تصديق قولي أن أحمد ...... للويام. نص الجفر الموسوم بالقول للبسطاء من أنه الملك الزاهر".
وكُتب بعد ذلك في الجانب الأيسر من الورقة، وبخط مائل من أعلى إلى أسفل كلام لم يتضح، بسبب أنه شُطب عليه، والشطب تقريباً بنفس القلم، وكأن صاحبه تراجع عما كتبه، ولعله بخط المؤلف؛ لأنه شبيه بما ورد في متن المخطوطة، وبعض الكلمات قُرأت، لكنها غير كافية لمعرفة ما يريد الكاتب أن يقول.
أما الورقة المقابلة لورقة العنوان فقد كُتب فيها مجموعة من الأبيات الشعرية المتفرقة، لبعض الشعراء، مثل: الصفي الحلِّي، وابن المقرب، وابن رشيق، والإمام الزمخشري، غير أن كثيراً من الكلمات غير واضحة. ومن المرجح أن هذه الأبيات بخط المؤلف، وقد ورد معظمها في متن الجزأين الثاني والثالث.
وبدأ كتابة تلك الأبيات من بداية الورقة، أو في منتصفها. وهي كالتالي:
للصفي الحلِّي:
في فساد الأحوال لله سر
والتباس هي غاية الإيضاح
فيقول الجهول قد فسد الأمر
وذاك الفساد عين الصلاح
ابن المقرب
يا أيها الساعي ليدرك مجده
أفق إن هذا السعي منك إضلال
ودع عنك ما لا تستطيع فقد ترى
مساعي ما لا تطيق ليس ينال
الصفي الحلِّي:
لكنها الأيام في تصريفها
1
تقضي عليه بنحسه وبسعده
إذا أقبلت وهبت محاسن غيره
1
أو أدبرت سلبت محاسن نفسه
من شعر سالم بن وابصة...... :
غنى النفس ما يكفيك عن سد خلة
فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا
ابن رشيق:
ما دمت مستوياً ففعلك كله
عوج وإن أخطأت كنت مصيبا
كالنقش ليس يصح معنى ختمه
حتى يكون بناؤه مقلوبا
قيل إن الأبيات للإمام الزمخشري رحمه الله.
......................................................
......................................................
......................................................
......................................................
......................................................
......................................................
......................................................
..................................................
..
والناس أعوان من والته دولته
وهم عليه إذا عادته أعوان
وقد أشار المؤرخ في الورقة الأخيرة من الجزء الأول إلى انتهائه من هذا الجزء، غير أنه لم يشر إلى تاريخ انتهائه من كتابة هذا الجزء
أما بالنسبة للورقتين الأخيرتين للجزأين الثاني والثالث فلم يكتب المؤرخ تاريخ انتهائه منهما، ولم يشر حتى إلى أنه قد انتهى منهما، وختم الجزء الثاني بذكر وفاة سلطان عُمان "سلطان بن مرشد"، وتلى ذلك خمسة أسطر لم يتضح منها شيئٌ بسبب الشطب المتعمد، أما الجزء الثالث فقد ختمه بذكر موقف الناصر محمد بن أحمد بن الحسن من يافع.
ولا توجد إشارة إلى تاريخ انتهائه من المخطوطة كاملة في الأجزاء الثلاثة.
ولم يرد في الأجزاء الثلاثة ما يدل على تمليكها، أو انتقال ملكيتها من شخص إلى آخر، كما هو موجود في معظم المخطوطات غير أنه من خلال التعليقات الواردة في بعض حواشي المخطوطة، والتي هي بخط حفيد مؤرخنا، وهو يحيى بن مطهر بن يحيى بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين، الذي كتب أيضاً معظم التعليقات في ورقة العنوان والورقة التي قبلها في الأجزاء الثلاثة يتضح لنا أنها كانت بحوزته، ولعلها قد وصلت إليه عن طريق الإرث ، يؤكد هذا الورقة التي بخطه أيضاً، والتي أضافها أو أدخلها في الجزء الأول من المخطوطة بين ورقتي رقم(254)و (255) وبدأها بذكر اسمه قائلاً: " يقول أحقر الفقراء إلى الله الكريم يحيى بن مطهر بن إسماعيل ابن المؤلف يحيى بن الحسين" وذكر في هذه الورقة رأي شخصي في شعر جده يحيى بن الحسين الذي أورده في هذه المخطوطة. والورقة المضافة مختلفة عن بقية أوراق المخطوطة، لأنها كُتبت في فترة متأخرة في عصر يحيى بن المطهر حفيد المؤلف الذي عاش في الفترة من (1190-1268هـ /1776-1851م) فهي أحدث من بقية أوراق المخطوطة، كما أن الحبر مختلف. وكما سبق ان رأينا في ترجمة المؤرخ أن عبد الله بن الوزير في كتابه " طبق الحلوى" قد استعان بمخطوطة "بهجة الزمن" استعانة كاملة، وهذا دليل على أنها كانت لديه لفترة من الزمن فلعله قد استعارها من أبناء او احفاد يحيى بن الحسين، واستقى منها معلوماته، ثم أعادها إليهم.
وقد استهل المؤرخ كل جزء من الأجزاء الثلاثة بالبسملة.
ووجد في الأجزاء الثلاثة تعليقات في الحواشي بخط مختلف عن خط المؤلف، غير أنها في الجزأين الثاني والثالث قليلة جداً، إذا ما قورنت بالجزء الأول.
والمخطوطة كُتبت بخط "معتاد سقيم"، حسب تقييم مفهرسي المكتبة الغربية بدار المخطوطات، فالقارئ لأول وهلة قد لا يتمكن من قراءتها واستخراج كلماتها إلا بصعوبة بالغة، بل أن بعض الكلمات لم تتضح إلا من خلال سياق المعنى، ويرجع ذلك فيما يبدو إلى استعجال المؤرخ في الكتابة، ولم يهتم بالإعجام في معظم الأحيان، ونتيجة لكل ما سبق فإن هناك بعض كلمات لم تتضح رغم المحاولات الجادة لفهمها، حتى من قبل بعض المتخصصين في قراءة المخطوطات.
غير أنه لا بد من الاعتراف هنا أن قراءة الجزأين الثاني والثالث كان بالنسبة للباحثة أقل صعوبة من الجزء الأول، إذ أنها قد اعتادت على خط يحيى بن الحسين، على الرغم من أن الجزأين الثاني والثالث بهما الكثير من الشطب إذا ما قورنا بالجزء الأول.
ولم يهتم المؤرخ بوضع الإشارات الدالة على عدم الإعجام إلا نادراً، فهو أحياناً يضع علامة (z) تحت الحاء، ونقطة تحت الدال والطاء، و(v) فوق السين، وغير ذلك مما كان متبعاً في كتابة المخطوطات من قبل.
ولم يهتم المؤرخ أيضاً بوضع الهمزات إلا نادراً، سواء كانت همزات لازمة مثل: رياء، ماء، صنعاء، سماء، أو همزات مخففة مثل: شمائل، قبائل، أوائل، ...إلخ.
ويستخدم أحياناً حرف الياء بدلاً من الهمزة المخففة، كما هو متبع في كثير من المخطوطات مثل: دواير، بير، زايل، وقايع، حمايل... إلخ.
كما أنه لم يهتم بتشكيل الكلمات التي هي بحاجة لذلك، وإن كان قد شكل بعض الكلمات التي وردت في بعض الأبيات الشعرية.
ولا نستطيع أن ننتقد المؤرخ في كل ذلك؛ لأن ذلك هو المتبع في كثير من المخطوطات حينذاك.
وعلى الرغم من أن كثيراً من المخطوطات تعتمد في كتابة بعض الكلمات على الرسم القرآني، إلا أن يحيى بن الحسين كان يكتبها في معظم الأحيان كما هو متبع في الكتابة الحديثة، ولم يكتبها كما وردت في القرآن إلا نادراً مثل: زكواة، صلوة، إسمعيل، سموات، وغير ذلك.
وكان يحيى بن الحسين مثل غيره من المؤلفين والنُساخ لم يتبع رسماً واحداً في كتابة بعض الكلمات، فنجده أحياناً يكتب الألف الممدودة ألفاً مقصورة مثل: غزا يكتبها غزى، نما يكتبها نمى، عفا يكتبها عفى ...إلخ. وأحياناً العكس من ذلك فيكتب الألف المقصورة ممدودة مثل: العظمى يكتبها العظما، الفتى يكتبها الفتا، الأعمى يكتبها الأعما، ويكتب أحياناً التاء المربوطة تاءً مفتوحة مثل قلة الرجال يكتبها قلت الرجال، رغبة أهله يكتبها رغبت أهله.
أما بالنسبة للتمييز بين الضاد والظاء فهي من الأخطاء الشائعة لدى الكثير من المؤلفين والنُساخ، لذلك نجد المؤرخ مثل غيره يخطئ أحياناً في التمييز بينهما، ومن أمثلة ذلك: أيقظها، يكتبها أيقضها، العظة، يكتبها العضة، يعضُّ يكتبها يعظ.
وبما أن النسخة التي بين أيدينا هي مسودة المؤلف فقد زحم معظم أوراق المخطوطة بالحواشي، وبخط صغير وغير واضح في معظم الأحيان، ولا يُقرأ إلا بصعوبة بالغة، غير أنه من الملاحظ أن تلك الحواشي كانت تقل من جزء إلى آخر، فالجزء الثاني كانت الحواشي به أقل من الجزء الأول، بينما الجزء الثالث كانت الحواشي أقل من الجزء الثاني.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الأحداث التي سجلها المؤرخ من كتاب آخر الحواشي بها قليلة جداً، بل قد تختفي، وذلك على خلاف ما نجده بشأن الأحداث التي كان يسجلها ولا ينقلها من مصدر مقروء، مثل: رحلة الحيمي إلى الحبشة في الجزء الأول من المخطوطة، وكذلك الأبيات الشعرية التي نقلها من دواوين بعض الشعراء والرسائل.
واهتم المؤرخ بوضع الإشارات التي ترشد القارئ إلى مكان تلك الإضافات في المتن بسهولة، فإذا كانت الإضافة في جهة اليمين يضع الإشارة ( ) وإذا كانت في جهة اليسار يضع الإشارة ( )، أما إذا كانت الإضافة في الحاشية بأكملها-أي في جهتي اليمين واليسار-فإنه يبين للقارئ أين ستبدأ الإضافة وأين ستنتهي، فيضع إشارة ( ) ليوضح أن الإضافة ستبدأ من جهة اليسار وتنتهي في جهة اليمين، وإذا بدأها من جهة اليمين، فإنه يضع الإشارة عكس الأولى ( ).
وحرص المؤلف على أن يكتب كلمة (صح) عند نهاية أي إضافة في الحاشية، حتى وإن كانت الإضافة كلمة واحدة.
ولم يهتم المؤرخ بوضع عناوين بارزة لأهم الأحداث، غير أنه حرص على أن تكون كلمة "ودخلت" بمثابة عنوان رئيسي لهذه الحوليات، فكتبها في سطر مستقل، وبخط كبير من أول السطر إلى آخره، ثم يكتب في السطر الذي يليه السنة الجديدة بالحروف وليس بالأرقام. وأحياناً كان يكتب كلمة (ودخلت) في نصف السطر بعد انتهائه من الحدث السابق مباشرة، ربما حتى لا يترك نصف السطر بياض، فيواصل بخط كبير في نفس السطر كلمة (ودخلت سنة ..) .
وعند الانتقال من حدث إلى آخر يكتب كلمة (وفيها)، أي السنة، وبخط أكبر من المعتاد في معظم الأحيان، كما أنه عند نهاية الحدث أو نهاية الفقرة يضع الهاء المقلوبة ( )، التي هي اختصار لكلمة (انتهى) وأحياناً أخرى يضع علامة مختلفة عن الأولى، وهي ( ) وتدل أيضاً على الإنتهاء من الحدث أو الفقرة، غير أن المؤرخ كان في معظم الأحيان يسرد الأحداث دون أن يفصل بينها بأية علامة أو إشارة
والمتصفح للمخطوطة يلاحظ أن المؤلف كان يشطب بعض ما يكتبه من أحداث . وهذا أمر طبيعي فهي مسودة المؤلف، فنجد أحياناً يكتب حدثاً كاملاً، ثم يشطبه ويعيد كتابته في موضع آخر، أو في عام آخر والجزء الأول من المخطوطة أقل الأجزاء شطباً، حيث أن الشطب في الجزأين الثاني والثالث أكثر من الجزء الأول، ففي الجزء الثاني بعض أوراق كان المؤرخ نفسه يشطب ما يكتبه من أحداث ثم يعيدها في موضع آخر من المخطوطة، وهذه واضحة أنها بيد المؤرخ نفسه، وفي حالات نادرة يلاحظ أن الشطب بحبر مختلف، وفي أحيان أخرى لا يكتفي الفاعل بالشطب، بل قد يقوم بمحو بعض أسطر المخطوطة بوضع الحبر أو الماء عليها حتى لا يتضح شيئاً مما كان مكتوباً البتة، وقد يشمل ذلك الشطب أو المحو الحواشي، فقد يشطب جزء منها، أو قد تشطب جميعها، حتى وإن كانت كبيرة من أول الورقة إلى آخرها، ولم يتبين في معظم الأحيان من الذي قام بالشطب هل المؤلف أم غيره؛ لان الحبر غير مختلف.
ويلاحظ في الجزء الثالث وهو أكثر الأجزاء شطباً أن هناك أوراقاً كاملة وكأن يداً قد عبثت بها، وليس لديها وعي بأهمية مثل هذه المخطوطات فهو شطب لا معنى له؛ لأن كثيراً من الأوراق المشطوبة عبارة عن أحداث تاريخية عادية، لا تستدعي القيام بشطبها، وكأن من قام بذلك الشطب لم يكن متعمداً إخفاء ما كتبه المؤلف، ويشبه لعب الأطفال، إن جاز التعبير.
أما بعض الأوراق ففيها شطب متعمد، بحيث لم يتضح شيئٌ مما كتبه المؤلف، وقد تصل إلى الورقة كاملة أو نصفها أو أسطر منها، غير أن ذلك كان قليلاً إذا ما قورن بالشطب غير المتعمد.
وترك المؤلف في أوراق قليلة مكان بعض الكلمات بياضاً في الأصل، مثلاً يقول: "وكان جملة القتلى ...." ربما أنه غير متأكد من عدد القتلى، وترك في الجزء الثاني الورقة (151أ) نصفها بياض، غير أنه كتب كلمة التعقيبة التي سبق الإشارة إليها. وكتبها بخط كبير ومائل من منتصف الورقة حتى نهايتها، كي لا يترك لأحد فرصة الكتابة في هذه الورقة، أما الورقة (208ب) فهي بياض كلها، غير أن ما كتبه المؤلف متناسق، ولا يوجد خلل في تسلسل الأحداث في الورقة التي تليها.
ونجد في بعض الأوراق أن المؤلف في الجزأين الأخيرين قد كتب بعض الأحداث في المتن، لكنه أعاد كتابتها في الحاشية، بنفس الصيغة تقريباً. أو أنه قد يكرر الحدث مرتين في المتن نفسه، بينما لم نجد مثل ذلك في الجزء الأول من المخطوطة.
وكتب المؤرخ في بعض الأحيان عناوين في الحاشية، عند سرده لأحداث هامة أو قصص اجتماعية غريبة، وإن كانت تلك العناوين قليلة جداً إذا ما قورنت بمخطوطات أخرى، من تلك العناوين مثلاً: "ذكر وفاة سلطان الروم" "قصة الفرنج لعنهم الله في المخا"، (عجيبة في كسوف الزهرة) ، (ذكر وفاة المهدي)، غير أن تلك العناوين في الجزء الثالث كانت قليلة جداً إذا ما قورنت بالجزء الأول والثاني.
ثالثاً-أهمية المخطوطة
إن إبراز أهمية المخطوطة وما تناولته من موضوعات من شانه أن يؤكد ما ذهبت إليه الباحثة في ترجمة المؤرخ، وهو أن يحيى بن الحسين يعد من أشهر مؤرخي تلك الفترة، وأكثرهم موضوعية ودقة وأمانة، وإن كانت مؤلفاته لم تحظ بالدراسة الجادة، والتحقيق العلمي. وتعد مخطوطة " بهجة الزمن في تاريخ اليمن" -التي تعنى هذه الدراسة بتحقيقها أهم مؤلفات يحيى بن الحسين التاريخية، غير أنها ظلت طي الكتمان، ولم تر النور، فلم يستعن بها أحد من المؤرخين المتأخرين المهتمين بالفترة التي تتناولها هذه المخطوطة. من ذلك على سبيل المثال سرجنت (Serjeant) الذي أشرف على وضع كتاب هام عن صنعاء، فعلى الرغم من أن مخطوطة "بهجة الزمن" تحوي معلومات كثيرة وهامة عن صنعاء في القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي أكثر من أي مخطوطة أخرى تناولت الفترة نفسها -كما سنرى- نجد أن "سرجنت" لم يستعن بها في حين أنه استعان بمخطوطات معاصرة لتلك الفترة مثل: "تحفة الأسماع والأبصار" للجرموزي، ومخطوطات أخرى لا تعدو أن تكون اختصاراً لمخطوطة "بهجة الزمن" مثل: "طبق الحلوى" لابن الوزير. ولعل "سرجنت" لم يتمكن من الحصول عليها، أو لأن خطها سقيم تجاهلها. كما أن بعض الرسائل العلمية التي تناولت هذه الفترة لم تكن مخطوطة "بهجة الزمن" مصدراً لها، على الرغم من أهميتها وموضوعيتها، واهتمامها بذلك العصر بمختلف جوانبه. وقد رأيت لذلك أنه من الأهمية بمكان إخراج هذه المخطوطة إلى حيز النور ليستعين بها المهتمون، وبوصفها واحدة من أهم المصادر التي لا غنى عنها لمعرفة أحداث القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي.
وعلى الرغم من أن بعض المؤرخين يرى أن مخطوطة "انباء الزمن في تاريخ اليمن" من أهم مؤلفات يخيى بن الحسين التاريخية فإن مخطوطته "بهجة الزمن" أكثر أهمية، دون أن يعني هذا أننا نقلل من اهمية مخطوطة "أنباء اليمن"، إذ لا يستطيع أحد إنكار أهميتها، غير أن ما يميز مخطوطة "بهجة الزمن" ويجعلها أكثر أهمية من غيرها هو أن مؤلفها كان معاصراً لمعظم الأحداث -إن لم نقل جميعها- التي وردت فيها، كما أنه كان قريباً من معظم الأحداث، إذ لا يخلو حديثه في سرده لمعظم أحداث المخطوطة من قوله شاهدت، سمعت ، أخبرني فلان. كما أنه عند ترجمته لمعظم شخصيات عصره كان يعرفهم عن كثب، وهذا بلا شك يعطي المخطوطة أهمية كبيرة، حيث تعد مصدراً أصلياً لمن أراد أن يكتب عن تاريخ اليمن في هذه الفترة.
ولم يكن مؤرخنا معاصراً للأحداث فحسب، فهو ابن الحسين بن القاسم أشهر علم في الدولة القاسمية، معنى ذلك أنه كان قريباً جداً من مسرح معظم الأحداث في عصره، بل والأهم من ذلك أنه شارك في بعض تلك الأحداث، كما يروي خلال أسطر مخطوطته هذه، من ذلك على سبيل المثال ما ذكره من مرافقته لوالده الحسين بن القاسم في بعض المعارك ضد أحمد بن الحسن، بعد وفاة والده، وخروجه عن طاعة الإمام المؤيد، فيقول: "وكان بجنب شرف الإسلام يومئذٍ على يمينه السيد العلامة أحمد بن علي الشامي، وكاتب الأحرف على يساره". وأحداث أخرى كانت له يد في صنعها، فيشرح على سبيل المثال المكاتبات التي دارت بينه وبين الإمام المتوكل على الله إسماعيل، التي اعترض فيها مؤرخنا على سياسية الإمام إسماعيل في فرض المطالب المختلفة، وقد سبق ذكر ذلك في ترجمة المؤرخ.
أريد من ذلك أن مؤرخنا كان قريباً من تلك الأحداث، ومشاركاً في بعضها بصورة أو بأخرى على الرغم من رفضه لأي منصب سياسي . كل هذا يعطي لهذه المخطوطة -كما ذكرنا- أهمية كبيرة.
ولم يكن قريباً من الحكام والشخصيات الهامة فحسب، بل كان قريباً أيضاً من الفقراء والمساكين، حيث كان حريصاً على أن يتتبع أخبارهم، والكتابة عنهم، والترجمة لمن يتوفى منهم، حتى لنجده يصفهم بأنهم الملوك حقاً لتقشفهم وزهدهم عن ملذات الدنيا.
وبالإضافة إلى هذا النسب وما يمكن أن يكون له من أثر في أهمية هذه المخطوطة، فإن الجانب الآخر الذي يزيد من أهمية كتابات يحيى بن الحسين بوجه عام هو جوانب المؤرخ الشخصية، وهي: موضوعيته ودقته وأمانته في سرد الأحداث، وتحليله وتفسيره لمعظمها.
وإذا ما بدأنا بموضوعيته سنجده أكثر مؤرخي عصره موضوعية، فلم تكن مخطوطته "بهجة الزمن" سيرة شخصية لإمام من أئمة عصره، ولم يكن هدفه من وضعها إرضاء طرف من الأطراف المعاصرة له. فعلى الرغم من أنه أحد أفراد أسرة الإمام القاسم، فإنه كان أكثر المؤرخين المعاصرين انتقاداً لأفراد أسرته، فلم يكتف بسرد الأحداث في مخطوطته هذه، بل نجده ينتقد الأئمة وغيرهم من صُنّاع الأحداث.
ولكن ذلك لا يعني أن مخطوطته "بهجة الزمن" في مجملها انتقادات أو تصيد للأخطاء أو السلبيات التي كان يرتكبها البعض، فهو يورد أيضاً إيجابيات كثيرة، لكثير من المعاصرين له. فمن الملاحظ أنه ينتقد ويمدح، يورد السلبيات والإيجابيات في الوقت ذاته، يكتب ما للشخص وما عليه دون تحرج أو خوف، فنجده على سبيل المثال ينتقد سياسة الإما إسماعيل وتصرفاته في بعض المواقف، دون أن يمنعه ذلك من ذكر إيجابياته في مواقف أخرى، ويشكره على ذلك ويثني عليه، من ذلك على سبيل المثال قوله: "وفيها أمر الإمام بتفريق فطر مدينة صنعاء لفقرائها، فأصاب وأحسن".
وانتقد مؤرخنا أحمد بن الحسن في كثير من المواضع، غير أنه في الوقت ذاته يذكر إيجابياته ويمدحه في مواضع أخرى ويتبع مؤرخنا الطريقة نفسها مع كل من يترجم لهم، فلا يتردد في أن يذكر حسناتهم وسيئاتهم، فهاهو في ترجمته ليحيى بن محمد بن الحسن بن القاسم عند وفاته يبدأ بمدحه بأنه " كان كريماً ويبذل العطاء، بحيث قد يخلى مخزانه، وينفق جميع أمواله، غير أنه لا يخفى سلبياته، مع أنه من أسرة الإمام القاسم، فيقول:"إلا أنه جار مع ذلك على الرعايا، وأذاقهم البلايا، لا سيما بلاد الحجرية". وعلى الرغم من الانتقادات الكثيرة التي كان يوجهها للقاضي أحمد بن سعد الدين المسوري، فإن ذلك لم يكن ليمنعه من أن يذكر حسناته، ويثني عليه. من ذلك قوله:"فمن أحسن ما وافق الحق قوله إن الناظر الذي على أوقاف صنعاء حسَّن للإمام أن يزيد في الأجر للأوقاف على ما كان في عريص الحوانيت مما وضعه سنان التي هي أملاك للناس، وفي عريص البيوت، فقال القاضي للإمام: إمام بعد إمام، ودولة أظلم من سنان، فترك الإمام ذلك المرام، وكان ذلك منه حسنة للأنام".
أما الصفة الأخرى التي تدل على موضوعيته، التي امتاز بها عن معظم مؤرخي عصره فهي عدم اهتمامه بالتفخيم أو التعظيم بالألقاب سواء للأئمة أو غيرهم من الشخصيات البارزة، فيكتفي بأن يلقب الأئمة بلقب الإمامة فقط. وفي بعض الأحيان يستخدم الألقاب الشائعة في اليمن حتى الآن مثل: شرف الإسلام، ضياء الإسلام، شرف الدين، خاصة والده وعمه الحسن. وبالمقابل لم تكن تصدر عنه كلمات جارحة لأحد، ولا يشتم أحد.
وإذا لم تكن لدى يحيى بن الحسين معرفة تامة عن أي موضوع يتطرق له أو يكتب عنه فإنه يتوقف عن إصدار أي حكم أو أي رأي في هذا الموضوع، كما هو الحال في حديثه عن الصوفية ومنهم ابن عربي، نجده بعد أن يسرد آراء كثير من العلماء في ابن عربي لا يتكلم بشيء أو يحكم بشأنه، ويرى أن الأفضل لمن لم يعرف مقاصد ابن عربي أن يتوقف عن إصدار الحكم عليه.
وقد نتفق أو نختلف مع يحيى بن الحسين فيما ينتقده، إلا أن ما أعجبنا في انتقاداته وفي شخصيته أنها تعبر عن وجهة نظره صراحة، وتؤكد أنه ابن عصره.
وكان يتبادر إلى ذهني سؤال هام طوال مصاحبتي لهذه المخطوطة- وربما يزيد هذا السؤال من أهميتها في نظري- وهو ما هو المحور الأساسي الذي اتبعه المؤرخ طوال كتابته لهذه المخطوطة؟ أو ماذا كان يشغله في هذه الفترة هل حرصه على متانة تماسك الأسرة القاسمية الحاكمة، التي هي أسرته؟ هل قدرتهم على التدعيم والسيطرة؟ هل يقف موقف المعارضة منهم؟ مثل هذه الأسئلة وغيرها تتضح الإجابة عليها من خلال ما سجله مؤرخنا في مخطوطته هذه، فقد جمع بين عدة سمات: فهو حيناً يؤيد، وحيناً آخر يعارض، وحيناً ثالثاً ينصح، ويكون مجتهداً ويلجاء إلى الشريعة حيناً رابعاً. أي أن المؤرخ كان له موقف، والإنسان موقف.
وهناك سمة أخرى اتسم بها يحيى بن الحسين، وكان له أثر واضح في أهمية المخطوطة، تلك هي دقته وأمانته. فلا بد من إنصافه بالاعتراف بأنه من أحسن مؤرخي عصره، وأكثرهم أمانة، وهو من القلائل الذين يتحرون الدقة في مؤلفاتهم فيجري وراء الأحداث ويسجلها، ثم نجده يسند ما يكتبه إلى مصادرها، فإذا شاهد يقول: شاهدت وإذا سمع عن حادثة أو رويت له نجده يهتم بأن يعيد ذلك إلى المصدر الذي سمع عنه، وإذا لم يثق بما سمع يقول: هكذا أخبرني فلان والله أعلم، أو هكذا سمعت من فلان، وإذا سجل معلومات قرأها فهو يذكر اسم الكتاب الذي قرأها ونقلها منه.
لقد كان مؤرخنا يحاول توثيق معلوماته، فيسند معظم الأحداث إلى مصادرها بدقة وأمانة. ويتضح للقارئ رغبة يحيى بن الحسين في التوثيق إذا أُتيحت له الفرصة بالنسبة للأحداث البعيدة عنه، فيحرص على اللقاء بالشخص الذي شاهد الحدث.
ولعل أبرز مثال ما رواه لنا من حادثة أخبره بها شخص يقال له أحمد الشظبي، ولكونها حادثة غريبة قد لا تصدق فإن مؤرخنا يقول للقارئ بأنه سيحاول اللقاء بالشخص الذي شاهد الحادثة ، وذلك ليتأكد من مدى صحى ما نقل إليه، فيقول:" إذا حصل اتفاق به سألته عما رآه". وبالإضافة إلا هذا فقد كان يحرص على التوثيق حتى في الأحداث أو المواقف التي لا تتطلب ذلك. فنجده عند ترجمته لوفاة والده الحسين بن القاسم، بعد أن ذكر رأي والده في أصول الدين، ورأيه في بعض المذاهب، يقول:"هكذا أخبرني به الفقيه أبو القاسم بن الصديق التهامي، وهو أحد مشائخه في الفقه". وإذا ما أوردنا مثالاً آخر للدلالة على دقته وأمانته فهو عند ترجمته للسيد هاشم بن حازم المكي يقول:"هكذا روى لي الفقيه ناصر الزبيب حال سكونه هذه المدة بمدينة زبيد" أو يقول: "وأخبر السيد عبد الله الكبسي عن حقائق حالات القاسم".
ولا شك أن هذا يعد من صفات المؤرخ الأمين، وهو التوثيق لما يورده من أحداث سواء كانت سياسية أو غيرها، داخل اليمن أم خارجها . وبذلك نستطيع تقسيم المصادر التي استقى منها يحيى بن الحسين معلوماته إلى عدة أقسام:
القسم الأول: ما كان يشاهده بنفسه، وكان قريباً منه، وهو كثير، فنجده في الأحداث السياسية المحلية على سبيل المثال يتابعها من خلال أوامر الإمام إلى ولاته في مختلف المناطق للقيام بأي عمل سياسي، سواء كان الأمر بزيادة المقررات، أو بإخضاع بعض المناطق لسلطة الإمام، أو بالقضاء على أي تمرد أو عصيان.
القسم الثاني: الأحداث التي كانت تحدث في مناطق اليمن المختلفة، وتصل إلى الإمام، سواء كانت تمرداً أو غزواً أو تقطعاً في الطريق، كذلك ما يقرره الإمام إزاء هذه الأحداث من أوامر أو مواقف. ولكون المؤرخ قريباً من السلطة فقد تيسر له أخذ تلك المعلومات من مصادرها.
أما الأحداث التي كانت تحدث خارج اليمن فإن المؤرخ كان يستقي مادته التاريخية من مصادر عديدة لعل أهمها:-
العلماء الذين كان يلتقي بهم ويحرص على تسجيل ما يروون له من أحداث مختلفة كانت تحدث في العالم الإسلامي, ولعل أشهرهم المُلا محمد بن حسن الحساوي، الذي ورد اسمه كثيراً في هذه المخطوطة، فقد زار اليمن، والتقى به وأخذ عنه الكثير من المعلومات عن العالم الإسلامي، وكذلك الشيخ محمد بن أحمد كزبر الدمشقي، وعلى ما يبدو أنه كان صديقاً للمؤرخ، حيث كان يلتقي به في معظم السنوات التي يصل فيها إلى اليمن، ويستقي منه الكثير من الأخبار عن الدولة العثمانية والحجاز، ويصفه المؤرخ بأنه ثقة من أهل العلم على مذهب الحنابلة.
والمصدر الثاني الذي كان مؤرخنا يعتمد عليه في تسجيل ما يحدث خارج اليمن هم التجار، الذين كانوا يفدون إلى اليمن لغرض التجارة، حيث كان يلتقي بعضهم، ويستقي منهم المعلومات ونجده مثلاً يقول: "" وفي شهر محرم وصل واصل من التجار إلى مدينة صنعاء من البحر الشرقي على بندر عدن وأخبر..... .
وثمة مصدر ثالث اعتمد عليه المؤرخ فيما يكتبه عن العالم الإسلامي، ذلك المصدر هم الحجاج، فقد كان يلتقي ببعضهم عند عودتهم، فينقلون له ما شاهدوه أو ما سمعوه من أحداث عن الحجاز خاصة، والعالم العربي والإسلامي عامة، فنجده مثلاً يقول: "وفي آخر صفر جاء الخبر المحقق مع بعض الوافدين من الحجاج الحقيقيين الثقات المحققين فأخبرني من لسانه".
كما استفاد من بعض الرسل الذين كانوا يفدون إلى اليمن من قبل السلاطين والحكام في العالم الإسلامي لمقابلة الإمام إسماعيل، فكان يستقي منهم بعض المعلومات عن بلدانهم ، فهو على سبيل المثال يعطينا معلومات عن الدولة العثمانية وحروبها في جهات مالطة، وعدد جنودها وخدمها، وقد استقى ذلك من الرسول الذي أرسله السلطان العثماني بهدية للإمام إسماعيل، وسجله في هذه المخطوطة.
ومما يمكن قوله هنا أن بعض الأحداث البعيدة عنه، خاصة في المناطق النائية عن اليمن، مثل: فارس والهند وما وراء النهر وغيرها من المناطق البعيدة كان يسجلها كما سمعها، دون أن يتأكد من صحة ما نقل إليه، غير أنه يحمد له حرصه على اتباع طريقة الإسناد، وذكر الأشخاص الذين كانوا ينقلون إليه تلك المعلومات. فمثلاً نجده يقول:" ولقد أخبرني رجل وصل هذه المدة إلى صنعاء يقول أنه شريف من مدينة قندهار".
ومما زاد من أهمية هذا الكتاب أن يحيى بن الحسين لم يكتف بسرد الأحداث وإسنادها إلى مصادرها، لكنه أيضاً اتخذ أسلوب التحليل والتفسير والنقد خلال طرحه لتلك الأحداث. وبغض النظر عن أن تحليل مؤرخنا وتفسيره كان صحيحاً أم غير صحيح، فهو يعبر عن وجهة نظره، وبحسب ثقافته في ذلك العصر، فقد يصيب أحياناً ويخطئ أحياناً أخرى، وقد نتفق معه حيناً ونختلف معه حيناً آخر.
ولو تتبعنا طريقة المؤرخ في ذلك لاحتاج منا الكثير من الأمثلة التي قد يجدها القارئ في متن هذه المخطوطة، ولكن لتأييد ما ذهبنا إليه لا بأس من إيراد بعض منها، فنجده عند ترجمته لعبد الله بن عامر، ابن عم الإمام القاسم يقول:"وكان يقول ما أُخذ من الناس من المطالب من العوام حلال، لأن أكثرهم لا يُصلُّون، وفُسَّاق ، ويسرقون . وهذا منه قول غير صحيح، لأن ذلك الجاري لا يوجب تحليل أموال الناس كما هو معلوم، فإن أموال الفساق لا تحل لأحد، بل يعاملون معاملة المسلمين. ثم أن التعميم بجميع العوام إساءة ظن بجملة المسلمين". فالقارئ يلاحظ في هذه العبارة نقداً بناءً، ثم لا يكتفي بالنقد، بل نجده يحلل ويفسر سبب نقده لأقوال ابن عامر هذا. وتتضح لنا طريقة يحيى بن الحسين في التحليل والتفسير والنقد بصورة أوضح إذا ما وقفنا قليلاً عندما أورده من انتقادات للحسن بن أحمد الحيمي، فبعد أن أورد رحلة الحيمي إلى الحبشة ذكر في آخرها أن الحيمي قد كتب قصيدة يحث فيها الإمام وأعوانه على الجهاد في سبيل الله، لمحاربة أولئك الكفار، والاستيلاء على بلاد الحبشة بأكملها، غير أن مؤرخنا يحلل تحليلاً سياسياً دقيقاً كيف أن الإمام إسماعيل لا يستطيع بأي حال من الأحوال تنفيذ مثل ذلك، فشرح الأسباب المانعة لذلك، والتي منها: الأوضاع السياسية والاقتصادية في اليمن، ثم ينظر إلى الأوضاع السياسية للمناطق المجاورة لليمن، وكذلك أوضاع أكبر قوة في عصره، وهي الدولة العثمانية، والتي كانت مسيطرة على معظم سواحل الحبشة. وفي ذلك دليل على أنه كان يتمتع بعقلية منظمة، وفكر واسع، ونظرة بعيدة المدى، وإلمام بما يدور حوله من أحداث سواء في اليمن أو خارجها.
والأهمية الأخرى هي أن كتاب يحيى بن الحسين بأجزائه الثلاثة فيه من التفاصيل الكثيرة ما ليس موجوداً في كثير من الكتب، فالمؤرخ يتناول الأوضاع المختلفة بكل جوانبها، فلم يكن يتابع الأوضاع السياسية فحسب، بل كان يتغلغل في المجتمع، خاصة الصنعاني، ويدون حركته، واهتم بالأوضاع الأخرى، التي سنتكلم عنها في محتويات المخطوطة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الرسائل التي أوردها المؤرخ قد أعطت هذه المخطوطة أهمية كبيرة، فقد أورد الكثير من الرسائل بنصوصها، وكانت هذه الرسائل بين المتنافسين على الإمامة من جانب، أو بينهم وبين يحيى بن الحسين من جانب آخر، وغيرها من الرسائل، ولا تكمن أهمية المخطوطة في أنه أورد الرسائل فحسب، لكنه في معظم الأحيان كان يخضع هذه الرسائل للنقد والتحليل والتفسير، ولعل أبرز مثال على ذلك الرسالة التي أوردها من القاسم بن المؤيد إلى محمد بن المتوكل، وكذلك الرسالة التي أجاب بها أحمد بن الحسن على القاسم بن المؤيد. نجد أن المؤرخ بعد ذلك يشرح ويفند أوجه القوة والضعف في كلا الرسالتين. ولم ترد تلك الرسائل في المخطوطات المعاصرة أو اللاحقة. وتوضح هذه الرسائل سلبيات الحكم حينذاك، وبالتالي يطرح المؤلف الإيجابيات المطلوبة فيمن يدعي الإمامة من خلال إجابته على تلك الرسائل.
ومما زاد من أهمية كتاب "بهجة الزمن" أن مؤرخه إلى جانب كونه عالماً فهو أيضاً مثقف مطلع على كثير من الكتب والمؤلفات، سواءً في الشعر أو الأدب أو التراجم أو الطبقات أو كتب الفلك. فنجده مثلاً يعترض على الجور الذي كان يقع على الأهالي من الولاة، ويورد الأدلة على عدم جواز ذلك، معتمداً على أقوال بعض العلماء، الذين ذكرهم "القضاعي" في كتابه "منهج السلوك".
هذا إلى جانب أن كتابه يحوي الكثير من المؤلفات في العلوم الدينية والأدب والشعر، ويتكلم عنها تكلم المطلع والمتفحص لهذه المؤلفات، ويشرح ويحلل ما بها من معلومات، ويناقش ذلك بعلم ودراية.
وكان عالماً مطلعاً على المذاهب الإسلامية الأخرى، فلم يكن محصوراً في مذهب واحد، فنجده يقول عند حديثه عن كتابه "الاقتباس": "واستوفيت الكلام في أصول الدين، ونقل أقوال العلماء من أهل السنة، وأقوال السلف، وأقوال المعتزلة والأشعرية والحنفية والمالكية والحنابلة".
ولا نستطيع أن ننكر بأن المؤرخ هو ابن عصره، وأنه لا بد أن يتأثر بما كان سائداً في ذلك العصر، فهو يذكر بعض الأحداث التي قد تكون غير واقعية، وكأنها مُسَلَّمات واقعية فنجده مثلاً يذكر الكثير من أخبار الجن، وما كان يحدث بينهم وبين معاصريه من أحداث قد لا يتقبلها العقل في وقتنا الحاضر، أو نجده أحياناً يذكر بعض الأساطير وكأنها حقائق، لكنه يستخلص منها العظة والاعتبار، غير أن ذلك لا يقلل من أهمية الكتاب بأي حال من الأحوال، كما سبق أن رأينا.
رابعاً-محتويات المخطوطة
سبق التنويه إلى أن يحيى بن الحسين كان يتمتع بثقافة عالية، وكان واسع الاطلاع في مختلف العلوم المتداولة في عصره، وهذا ما اتضح من مؤلفاته المتعددة المواضيع، ومنها كتابه "بهجة الزمن" بأجزائه الثلاثة، فهو يعد موسوعة سجل فيها كل ما شاهد أو سمع أوقرأ من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية وعلمية، وظواهر طبيعية وفلكية. ولا يخلو الكتاب من بعض الأساطير-وإن كانت قليلة-كما أنه أظهر مهارة في فن التراجم، فالمصدر شامل، وغيره من المؤرخين اللاحقين أخذوا عنه، بل واختصروا ما أخذوه فهو لم يتابع خطاً تاريخياً واحداً يمكن أن نتابعه، بل رسم إطاراً واسعاً عن عصره، فاحتوى كتابه على الكثير من المعلومات، سواءً في الجانب السياسي أو الجوانب الأخرى.
أ- الأوضاع السياسية
وإذا ما بدأنا بالأوضاع السياسية سنجد أن المؤرخ قد تابع وباهتمام الأوضاع السياسية منذ خروج العثمانيين من اليمن في عهد الإمام المؤيد محمد بن القاسم سنة 1045هـ/1635م وحتى بداية عهد صاحب المواهب الإمام الناصر محمد بن أحمد بن الحسن سنة 1099هـ/1688م.
ومن الملاحظ أن المؤرخ في الجزء الأول على الرغم من اهتمامه بالأوضاع السياسية، إلا أن الاستقرار السياسي الذي اتسمت به فترة هذا الجزء (1045-1080هـ/1635-1669م)، جعلته أكثر اهتماماً بالأوضاع الأخرى، بينما نجد الأحداث السياسية في الجزأين الثاني والثالث تفرض نفسها عليه وتشده إليها أكثر من الجزء الأول، وكأن الأحداث والتطورات السياسية الكثيرة والمتلاحقة اضطرته إلى متابعتها أولاً بأول، ورسم لنا صورة تكاد تكون واضحة عما اتسم به عهد كل إمام، مورداً سلبيات وإيجابيات كل فترة من تلك الفترات.
ولن ندخل في تفاصيل الأوضاع السياسية التي كانت سائدة حينذاك، حيث قد سبق تناول ذلك في الفصلين السابقين، وسيكون من باب التكرار الذي لا جدوى منه.
ب- الأوضاع الاقتصادية:
وكان كتاب "بهجة الزمن" معبراً عن الواقع الاقتصادي المعاش حينذاك. وقد تأرجحت الأوضاع الاقتصادية بين الشدة والرخاء، وإن كانت سنوات الشدة أطول. فمن المعروف أن اليمن بلد زراعي في الدرجة الأولى، لذلك كانت الزراعة العامل الرئيسي في الأوضاع الاقتصادية واستقرارها أو تدهورها.
وقد اهتم المؤرخ في الأجزاء الثلاثة بالأمطار والنتائج المترتبة على نزولها أو عدم نزولها من ارتفاع أو انخفاض في أسعار الحبوب والمنتجات الزراعية الأخرى، ونزوح بعض الأهالي من مناطق الجفاف إلى المناطق الأكثر خصوبة وأمطاراً. واهتم بتناول الآثار المترتبة على سقوط الأمطار سلباً وإيجاباً. فنجده على سبيل المثال يتكلم عن نزول أمطار غزيرة على جبل نقم، فنزل سيل كبير، ودفن بعض الغيول وهدم بعض المنازل في منطقة "شعوب", غير أنه يذكر ما حدث بسببه من صلاح لثمرة الذرة في جميع اليمن" وشرع السعر ينحط بعد أن كان قد بلغ القدح بأربعة أحرف".
ونجده في إحدى السنوات يقول: " وفيها رخصت الأسعار، وكثرت الأمطار الغزيرة في جميع اليمن، شرقاً وغرباً ويمناً وشاماً. ودخل صنعاء سيول كثيرة، وصلحت الثمار، بلغ القدح بصنعاء إلى ستة كبار، وارتفع بحر صنعاء هذه السنة عقب الأمطار ارتفاعاً عظيماً حتى بلغ أنصاف الآبار.
أما الجفاف فكانت أضراره أكثر من الأمطار، حيث إن الآثار المترتبة عليه تكون أكثر سوءاً، فيرتفع سعر الحبوب، ويضطر كثير من ساكني المناطق الجافة إلى الارتحال عنها. فنجده في سنة (1081هـ/1670م) يتكلم عما ترتب على الجفاف من ارتفاع للأسعار، ونزوح أهل المشرق مثل: خولان صنعاء، وسنحان، وبلاد نهم، وجميع المشارق إلى بلاد المغارب وإلى اليمن الأسفل والتهائم" ولولا اليمن الأسفل ما زال يرحل منه الطعام إلى صنعاء لبلغ السعر عشرة حروف، والتهائم هذه السنة صالحة، وإنما الغلاء في الجبال فقط".
وأحياناً نجده يقارن بين المناطق الشمالية (اليمن الأعلى) والمناطق الجنوبية (اليمن الأسفل) حيث كانت مناطق اليمن الأسفل في معظم الأحيان أكثر خصوبة وأمطاراً لذلك كانت الأسعار بها أقل، غير أنه في بعض السنوات يخبرنا بأنه كان يحدث العكس، فيقول: "وأما اليمن الأسفل فسعره مرتفع زائد على صنعاء، خلاف العادات الماضية، فإنه يكون سعره دون اليمن الأعلى".
وفي بعض السنوات يصف ما كان يحدث من مجاعات وأمراض كانت تؤدي أحياناً إلى وفاة البعض فنجده في سنة (1088هـ/1677م) يتكلم عن الجفاف، وكيف اشتدت الأزمة بأهل اليمن الأسفل، ورحلوا إلى البلاد العليا، ويروي قصصاً كثيرةً، على الرغم من أنه يكون قد بالغ في ذكر بعضها، لكنها تُعبر عن واقع الوضع الاقتصادي السيء الذي كانت تمر به اليمن في بعض السنوات.
واهتم المؤرخ في هذين الجزأين بعامل هام ومؤثر سلباً على الزراعة، وهو الجراد، وما كان يترتب على قدومها إلى اليمن من أضرار اقتصادية، حيث كانت تأكل الكثير من المحاصيل الزراعية" فطلع السعر في جميع هذه البلاد النصف في الزيادة على ما كان قبل مرورها".
وإلى جانب الجفاف والجراد كان هناك عامل آخر من عوامل ارتفاع الأسعار للمحاصيل الزراعية، ذلك هو ظهور بعض الحشرات في بعض المواسم الزراعية، وكانت تسبب أضراراً بالزراعة، فنجده مثلاً يعلق على ذلك بقوله: "فأكل الذرات في أكثر بلاد اليمن، فنقصت، خصوصاً الصفر منها".
وتناول المؤرخ جانباً اقتصادياً هاماً أيضاً وهو التجارة، الذي يعتبر المصدر الاقتصادي الثاني بعد الزراعة، غير أن اهتمام المؤرخ بالتجارة كان أقل من اهتمامه بالزراعة، وبحسب ما كانت تصل إليه من أخبار عن الحركة التجارية في اليمن، فنجده يذكر وصول الكثير من التجار إلى اليمن محملين ببضائع مختلفة، ويعودون إلى بلادهم أيضاً ببضائع يمنية، والتي كان أهمها البن اليمني، وكانوا يأتون من مناطق متعددة مثل الهند، الحساء، القطيف، البصرة، عُمان، بلاد الشام، وغيرها من المناطق. فنجده على سبيل المثالل يذكر في إحدى السنوات بأن تجاراً من الحسا خرجوا إلى اليمن بالأعبي (جمع عباءة) الحساوي واللؤلؤ، وتعوضوا من البن الصافي إلى بلادهم في البحر من عدن.
وقد اهتم المؤرخ بالربط بين الأوضاع السياسية المتدهورة والوضع الاقتصادي، فقد أدت الحروب والخلافات بين مراكز القوى على الإمامة عند وفاة الإمام السابق إلى ركود الحركة التجارية، لعدم أمان طرق القوافل المعتادة، وكانت في بعض الأحيان تضطر إلى تغيير مسار الطرق المعتادة السهلة إلى طرق أخرى أكثر صعوبة، وكان ضعف مركزية الدولة في فترة الحروب والخلافات، وحتى في بعض فترات الاستقرار سبباً في استمرار بعض قبائل المناطق الشمالية لنهب القوافل التجارية بصورة مستمرة، والأمثلة كثيرة في خلال سير الأحداث.
ويضع المؤرخ أمامنا صورة تكاد تكون واضحة عن الحركة التجارية داخل صنعاء، حيث كان قريباً مما يجري بها بحكم إقامته فيها، فقد اهتم بذكر ما كان يجري في أسواقها من معاملات اقتصادية وحركة تجارية، وكيف كان يتم تنظيم تلك الحركة داخل أسواق صنعاء. واهتم المؤرخ بمتابعة ما كان يسنه الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم من قوانين تجارية، وأثرها على الحركة التجارية بالسلب أو الإيجاب.
ويعطي المؤرخ في بعض الأحيان صورة عن الأسواق، وما كان يحدث بها من تلاعب في الأسعار من قبل المزايدين، فهو مثلاً يتحدث عن سوق الحطَّابين في صنعاء، وما كان يحدث به من تلاعب واحتكار. واهتم بالأسواق الأخرى في صنعاء، وما كان يحدث بها من تغييرات مثل احتكار بعض البضائع من قبل الوسطاء بين البائعين والمشترين، أو ما كانت تفرضه الدولة من أسعار على بعض المنتجات، ومن قبل لم يعرف تسعير الدولة، بل بالتراضي".
وتابع أخبار أحد المحتكرين لتجارة البن، وما ترتب على ذلك من أضرار اقتصادية أُلحقت بالزارعين لهذا المنتج الهام.
وتابع أيضاً أسعار الأقمشة، فهو مثلاً في سنة (1085هـ/1674م) يستاء من غلاء أسعارها، بسبب عدم وصولها إلى اليمن، فيقول: "وفي هذه الأيام تناهى ثمن الثياب البيض المتينة لعدمها". لكنه في سنة (1096هـ/1684م) يذكر بأنه وصل إلى اليمن من الهند حوالي ثلاثون مركباً جميعها محملة بالأقمشة، لذلك نزلت أسعارها عما كانت عليه في العام الماضي.
واهتم المؤرخ بالعملة كثيراً، فأورد العملة المتدولة، ودور الضرب وكثرتها، وكيف أدى ذلك إلى نقص سعر العملة وتدهورها.
وكانت العملة قد بدأت في التدهور منذ نهاية عصر الإمام المتوكل إسماعيل، وفي عهد الإمام المهدي أحمد بن الحسن ظهر المزيد من الضعف والتدهور، فأمر الإمام بأن تصغر البقش، إلا أن العملة في عهد الإمام المهدي أحمد بن الحسن على الرغم من ضعفها كانت أحسن منها في عهد الإمام المؤيد محمد بن المتوكل وعهد صاحب المواهب محمد بن أحمد بن الحسن، لذلك نجده بعد أن انتهى من خلافه مع القاسم بن المؤيد على الإمامة في سنة (1088هـ/1677م) يأمر بإغلاق دور ضرب العملة التي كانت لعلي بن المتوكل في اليمن الأسفل، ودور ضرب كل من حسن بن المتوكل بحبور، ومحمد بن أحمد بن القاسم بعمران، ودار ضرب كوكبان، ولم يبق غير دار ضرب واحدة في صنعاء لمحمد بن المتوكل، والأخرى التي في الغراس لأحمد بن الحسن، ثم يشرح المؤرخ كيف أن أحمد بن الحسن سك عملة جديدة، وما المعادن الموجودة بها، ثم ماذا كُتب فيها.
وفي عهد الإمام المؤيد محمد بن المتوكل يوضح المؤرخ زبادة ضعف العملة وتدهورها، بسبب الأوضاع السياسية المتدهورة، وقوة نفوذ مراكز القوى وفتح دور جديدة لضرب العملة مما أدى إلى زيادة ضعفها وتدهورها أكثر من ذي قبل، فنجد في سنة (1093هـ/1682م) يذكر بأن دور الضرب قد كثرت، فأصبح لدى علي بن المتوكل ثلاث دور لضرب العملة مع ضعفها وكثرة الغش فيها، ودار ضرب واحدة للإمام المؤيد، وأخرى للحسين بن المهدي أحمد بن الحسن في الغراس، وداراً لحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم في عمران، وداراً لصاحب المنصورة محمد بن أحمد بن الحسن" فبلغ صرف القرش يومئذٍ إلى خمسة حروف، لأجل كثرتها وصغر الدراهم وغشها". ويناقش المؤرخ عندئذٍ الأثار السلبية المترتبة على ذلك ويطرح في آخر الأمر بعض التمنيات لضبط العملة، وأن تكون عملة واحدة، وبمقاييس واحدة للجميع.
وفي عام (1098هـ/1686م) وهو بداية عهد صاحب المواهب، وما تخلله من صراعات وحروب سبق ذكرها في الفصل الثاني، لا زالت دور الضرب كما هي من قبل كثيرة، والعملة ضعيفة ومتدهورة أكثر من ذي قبل، ويشرح المؤرخ ضعف العملة وما وصل إليه صرف القرش، فيذكر أنه بلغ صرفه إلى اثني عشر حرفاً ونصف ثم إلى ثلاثة عشر حرفاً وأربعة عشر حرفاً وخمسة عشر حرفاً، ثم ما زال يزداد الصرف إلى أن بلغ خمسة وعشرين حرفاً، ويشرح من استفاد من ذلك الارتفاع، وهم قليل، ومن خسر، وهم الأغلبية؛ لأن تعاملهم يكون بالعددي وليس بالقروش.
والمتتبع سيجد أن العملة في عصر المتوكل إسماعيل كانت أفضل بكثير من العصور اللاحقة، وفي عهد أحمد بن الحسن رغم ضعفها إلا أنها مقارنة بعهد المؤيد وصاحب المواهب كانت أفضل أيضاً، وهذا أمر طبيعي، إذ إن تدهور الأوضاع السياسية يترتب عليه تدهور في الأوضاع الاقتصادية، وقد يظهر التدهور بشكل واضح في العملة.
وأورد المؤرخ في الأجزاء الثلاثة من الكتاب الكثير من أسماء العملات، مثل: الدرهم، القرش، الحرف، البقشة. كما ذكر بعض العملات التي كانت تأتي إلى اليمن من بعض الأقطار، فيذكر هنا مثلاً عملة أتت من مدينة فاس بالمغرب، رآها المؤلف فشرح لنا معدنها، وما كُتب فيها، ومن أتى بها إلى اليمن.
وأورد المؤرخ أسماء بعض الموازين المستخدمة حينذاك، ولا يزال معظمها مستخدماً حتى وقتنا الحاضر، مثل: القدح، الكيلة، النفر، الصاع، الإردب المصري ... إلخ.
وتابع المؤرخ ما كانت تتمتع به اليمن من نهضة عمرانية، خاصة في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم، حيث قام هو وإخوته وأبناء إخوته وبعض الولاة من خارج الأسرة بالعديد من المشاريع العمرانية، مما يدل على الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي في تلك الفترة، من تلك المشاريع على سبيل المثال: بناء المساجد، والتي كان من أبرزها "جامع الروضة" الذي قام ببنائه أحمد بن القاسم، وترميم بعض المساجد وتوسيع البعض الآخر منها، وترميم أسوار بعض المدن، وشق القنوات، والاهتمام بالغيول، وبناء وترميم بعض الحصون والقلاع والقصور، وغير ذلك من المشاريع الأخرى التي قد يجدها القارئ متناثرة بين أوراق هذا الكتاب، مما قد يفيد الباحثين في مجال الآثار.
وبذلك يكون المؤرخ قد رسم لنا صورة تكاد تكون واضحة نوعاً ما عن الوضع الاقتصادي حينذاك، والمتتبع لما ورد في كتابه بأجزائه الثلاثة سيجد الكثير من الأمثلة التي قد اقتصرنا على القليل منها.
جـ- الأوضاع الاجتماعية
وإذا ما تطرقنا للأوضاع الاجتماعية سنلاحظ أن المؤرخ قد اهتم بهذه الناحية أيضاً، فقد تتبع حركة المجتمع اليومية، وأورد ما شاهد أو سمع عن تلك الأوضاع في المجتمع الصنعاني خاصة واليمني عامة، ويلاحظ أن أكثر ما سجله المؤرخ من صور اجتماعية كان مسرح أحداثها صنعاء، وهذا أمر طبيعي فقد كانت صنعاء مقراً له، مما جعله قريباً من مسرح تلك الأحداث، ومع ذلك فإنه لم يهمل ما كان يسمعه من أحداث اجتماعية كانت تحدث خارج صنعاء، خاصة إذا كانت مهمة وتناقلها الناس.
لقد أورد المؤرخ في هذه المخطوطة الكثير من الصور الاجتماعية، فلم يهمل الجانب الاجتماعي، وهذا بلا شك يزيد من أهمية الكتاب، إذ أن غيره من المؤرخين لم يهتموا بهذا الجانب في مؤلفاتهم.
ومن هذه الصور مثلاً ما كان يتناقله الناس عن السحر، ويورد المؤرخ قصصاً حول هذا الجانب، ويرى بأن السحر ممكن، وأنه من الحقائق.
أما المشعبذون أو من كانوا يدعون الطب فقد شغلوا حيزاً من هذه المخطوطة، فتابع المؤرخ أخبارهم وما هي الطرق التي كانوا يعالجون بها المرضى، وكشف للقارئ حيلهم وتلاعبهم على من يصفهم المؤرخ "بأهل الغباوات".
ومن الصور الاجتماعية الأخرى التي رسمها المؤرخ ما كان يذكره من وصول بعض من كان يطلق عليهم الشطار، وهم الذين كانوا يلعبون ألعاباً بهلوانية- إن جاز التعبير- حيث كانوا يصلون إلى صنعاء ويلعبون الألعاب التي كانت تثير أهالي صنعاء، فيقول المؤرخ على سبيل المثال: "ولعب على الحبال".
وقد تكرر قدوم مثل هؤلاء إلى صنعاء، خاصة من مصر وهذا دفع بعض أفراد المجتمع اليمني إلى تعلم مثل هذه الألعاب، وبذلك تضاف ألعاباً جديدة إلى جانب الألعاب التقليدية المعتادة في اليمن، فنجد المؤرخ يذكر أن ولداً صغيراً استفاد من شاطر مصري، وتعلم منه، وأخذ يلعب مثله، وكسب بسبب ذلك الكثير من المال.
ويهتم بين الحين والآخر بما كان يقوم به اللصوص في مدينة صنعاء من أعمال السرق والنهب، وكيف زاد عددهم، ونهبوا الكثير من المنازل الخالية، التي كان أهلها يقضون فصل الخريف خارج مدينة صنعاء، وهذه الظاهرة كانت لا تزال موجودة إلى وقت قريب، وهي أن معظم أهالي صنعاء كانوا في موسم الخريف من كل عام ينتقلون إلى المناطق القريبة من صنعاء، والتي كان أهمها: الروضة والقرية وحدة وذهبان والوادي وغيرها، وأخبرنا المؤرخ خلال حديثه عما كان يحدث من نهب في المدينة عن بعض المهام التي كانت موكلة إلى المحتسب في صنعاء.
وتناول المؤرخ بعض المعلومات عن التبغ (التتن) والقهوة، والقات، وكيف أن بعض اليمنيين اعتادوا على استخدامها. وأن الإمام المؤيد محمد بن القاسم كان يعاقب الذين يشربون التتن، ويكسر "مدايعهم". أي الآلات التي كانوا يدخنون بها، وكيف أن أحمد بن الحسن حاول منع التتن، لكنه لم يستطع. ثم يدافع المؤرخ عن التتن، وأنه ليس بحرام، وليس هناك حجة بأنه من الخبائث، ثم يقول: "ثم إن التتن لا تستخبثه النفس"، وهذا يجعلنا نتساءل هل كان يحيى بن الحسين مدخناً؟
واهتم المؤرخ وبشكل ملفت لنظر أي قارئ بأخبار الجن، وما كانوا يقومون به من أعمال، وأنهم كانوا يضعون السحر، وأن السحرة من الجن والإنس، ثم يورد بالتفصيل ما أحدثوه من خوف ورعب في قلوب الكثير من الناس.
وتابع المؤرخ ما كان يحدث في المجتمع اليمني من أحداث يومية يتناقلها العامة فيما بينهم لغرابتها، فيكتبها كما سمعها، كأن يقول مثلاً: "وولد مولود في الرحبة، عجيب الخلقة لبقرة، نصفه الأعلى آدمي ورأسه وصدره ونصفه الأسفل صورة البقر". ويذكر في مكان آخر أنه اتفق مولود له رأسان، ثم مات عقب ولادته، كأنهما شخصان متلاصقان". وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي وردت في الكتاب بأجزائه الثلاثة.
وبين الحين والآخر يورد المؤلف نكتة أو نادرة عجيبة، فنجده مثلاً في سنة (1093هـ/1682م) يقول: اتفقت نادرة عجيبة، وهي أن بعض الفقهاء من بني النحوي اشترى بقرة فَحَفتْ من السير، فرأى أن يشتري لها جملاً ويحملها عليه، فأورد الشاعر أحمد بن على الشارح أبياتاً شعرية كثيرة من باب النكتة، مما جاء فيها:
قالوا اشتريت تبيعة
تشكو برجليها خلل
فرثيت أنت لحالها
فربطتها فوق الجمل
وفي معظم الأحيان يورد المؤرخ قصصاً اجتماعية تظهر إيمانه بانتقام الله، إذ كان دائماً يستخلص العظة والاعتبار من هذه القصص، وكان معظم ما يطرحه من وقائع اجتماعية تنبع من وجهة نظر دينية.
وبذلك يكون يحيى بن الحسين قد تابع الكتابة عن الحياة الاجتماعية ولو من وجهة نظر دينية، فكان يتابع الأحداث التي قد تحدث في أي مجتمع، وتعبر عن واقع المجتمع وحركته وديمومته، وقد لا يهتم بها الكثير من المؤرخين، خاصة في الفترة الحرجة، المليئة بالأحداث السياسية الهامة، لكنه لم يغفل هذا الجانب، وسجل الأحداث الاجتماعية الهامة من وجهة نظره، وترجع أهميتها أنه معاصر لهذه الأحداث وقريب منها؛ لأن معظم ما دونه في هذا الجانب كان ما يحدث في صنعاء، إلا ما سمعه من أخبار اجتماعية خارج صنعاء، ووصلت إليه لغرابتها وندرة وقوعها.
واهتم المؤرخ في حديثه عمن كان يترجم لوفاتهم بظاهرة اجتماعية هامة، وهي هجرة أو انتقال طلاب العلم من الريف إلى المدينة، أو المناطق التي تتوفر فيها هجر العلم، وترك المهتمون بالعلم قراهم منصرفين عن الزراعة، واتجهوا إلى الهجر للتفرغ للعلم.
وكانت بعض الأسر تتكفل بإطعام طلبة العلم إلى جانب المقررات التي كان يقررها لهم الأئمة وبعض الولاة. من أمثلة ذلك ما ذكره عند ترجمته للعلامة الحسن بن شمس الدين بن جحاف، الذي ترك أسرته في القرية واتجه إلى صنعاء، وتفرغ للعلم, وقد تكفل بإطعامه أحمد الوادي، كما أمر الحسن بن القاسم ببناء منظرة له.
وأعطانا المؤرخ بعض المعلومات عن صنعاء المدينة من حيث أسواقها ومساجدها وحاراتها، وأسماء الكثير من الغيول بالمدينة مثل: غيل الخندق وغيل العلفي، وغيل الحسين بن المؤيد بالله، وغيل الجراف، وغيل علي بن المؤيد بالله. كما اهتم بذكر المعاصر الخاصة ببعض الزيوت "السليط" وأنواع الزيوت التي كانت تعصر بها مثل: الخردل والخشخاش؛ لأنه يزرع في المناطق الجبلية، أما الجلجلان (السمسم) فلا يصلح إلا في التهائم واليمن الأسفل، لذلك كان يُستورد من هناك كما يجد القارئ معلومات عن بساتين صنعاء التي كانت في كل حارة من حاراتها ولا زالت باقية حتى اليوم.
ومن خلال ما أورده المؤرخ من صور اجتماعية في هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة يمكن القول: إنه قد رسم لنا صورة واضحة عن المجتمع الصنعاني خاصة واليمني عامة، وفي الوقت ذاته أعطانا صورة عن مدينة صنعاء في تلك الفترة.
د- الأوضاع العلمية والدينية
أن الأوضاع العلمية والدينية كانت موضع اهتمام المؤرخ فهو ليس مؤرخاً فحسب، لكنه واحدٌ من أبرز علماء ذلك العصر كما رأينا في ترجمة حياته.
ومن الملاحظ أن العوامل الأساسية لازدهار الحياة العلمية في عصر المتوكل قد توفرت، والتي من أهمها: الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي فزاد عدد المدارس، ومن ثم زاد عدد طلبة العلم والعلماء وكان المتوكل يحرص على عقد العديد من المجالس العلمية والدينية لديه.
فتمتع اليمن في تلك الفترة بنهضة علمية واضحة المعالم، وكانت الحياة العلمية أكثر ازدهاراً. وعلى الرغم من أن المؤرخين المعاصرين ليحيى بن الحسين قد أشاروا إلى تلك اللنهضة، إلا أن مؤرخنا تناول الحياة العلمية في اليمن على نحو أكثر شمولاً ودقة فمعظم أوراق المخطوطة -وعلى وجه الخصوص الجزء الأول- تكاد لا تخلو من الحديث عن العلم والعلماء.
غير أن الاهتمام بالعلم والعلماء في الفترة اللاحقة -أعني بعد وفاة الإمام المتوكل إسماعيل- لم تكن واضحة كثيراً، وعلى الرغم من ذلك فقد حرص المؤرخ على تتبع الأوضاع العلمية والدينية حينذاك، فنجده مثلاً قد ترجم للكثير من العلماء، الذين توفوا في فترة تدوينه لهذا الكتاب، وذكر مؤلفاتهم، والعلوم التي اهتموا بها، وناقش في بعض الأحيان أفكارهم واجتهاداتهم سلباً وإيجاباً؛ لأنه يعد واحداً منهم.
وناقش المؤرخ الكثير من المسائل الدينية مناقشة مستفيضة، كما تناول بعض المذاهب الإسلامية، وأماكن وجودها في العالم الإسلامي.
وأورد أسماء الكثير من الكتب في مختلف فروع العلم من حديث وفقه وتفسير وتاريخ وأصول الدين وكتب الطبقات والتراجم وغيرها من المؤلفات التي قد يجدها القارئ في ثنايا الكتاب بأجزائه الثلاثة، مما يُغني تراثنا إذا أردنا التعرف على تراث الماضي.
وخلال تتبعه للحركة العلمية وعلى وجه الخصوص في الجزء الأول رسم لنا صورة تكاد تكون واضحة عن الكتب التي يعول عليها في تدريس هذه العلوم، فذكر مرات عديدة أسماء الكتب التي كانت بمثابة حجر الأساس في التعليم، والتي كان لزاماً على طالب العلم أن يقرأها، بل ويحفظ بعضها، ويفهم فهماً جيداً البعض الآخر.
ولعل أهم تلك الكتب "الأزهار" للإمام أحمد بن يحيى المرتضى، وبعض شروحه الهامة،و "الكافل" للرصاص، و"البيان" لابن المظفر، و"منتهى السؤل" لابن الحاجب وشروحه الهامة، و"المطول" و"المختصر" للتفتازاني، و"الكشاف" وشروحه الهامة للزمخشري و"الشافية"و"الكافية" لابن الحاجب ، و"الأساس" للإمام القاسم بن محمد ، و"غاية السؤل" وشرحه "هداية العقول" للحسن بن القاسم، ومؤلفات أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها هنا.
وقد عرض المؤرخ لبعض الآراء والأقوال الصادرة عن بعض العلماء المعاصرين له وكذلك السابقين، فنجده -على سبيل المثال يورد بعضاً من أقوال "ابن عربي" في وحدة الوجود، ثم يعرض لآراء بعض العلماء السابقين له وأقوالهم عن ابن عربي، مثل: ابن تيمية والذهبي والسخاوي والسيوطي وغيرهم.
واهتم بذكر كرامات بعض الأولياء والصالحين، مما يجعلنا نرجح أنه كان يعتقد بهم، إذ يقول: "وفي اليمن أولياء ومشاهد لم تُعرف في تاريخ ذكرها في هذه البلاد العليا، لعدم اعتناء الشيعة بذكر تاريخ الفضلاء، كما يعتني أهل السنة بهم، ويورد بعضاً منهم ثم يقول: "نفعنا الله بالصالحين". ويهتم بأحمد بن علوان كثيراً، وأن الله كان ينجي فقراء الشيخ أحمد بن علوان من مخاطر كثيرة ببركة هذا الشيخ.
وبذلك يمكن القول إن المتتبع لكتاب "بهجة الزمن" يجده زاخر بالكثير من المواضيع العلمية والدينية التي اهتم بها المؤرخ، وناقش معظمها بعلم ودراية.
هـ- الظواهر الطبيعية والفلكية
لم يكن يحيى بن الحسين هو الوحيد الذي اهتم بتدوين الظواهر الطبيعية والفلكية، فكثير من المؤرخين كانوا يدونون في كتبهم تلك الظواهر، فهي سمة من سمات التاريخ عند المسلمين.
لقد تابع المؤرخ في كتابه بأجزائه الثلاثة ما كان يحدث في اليمن من ظواهر طبيعية وفلكية كل عام تقريباً، مثل: الأمطار، الجفاف، الزلازل، البراكين، الخسوف، الكسوف، سير النجوم، واقترانها، ويهتم بذكر ما ترتب على تلك الظواهر من أضرار وفوائد، فنجده مثلاً يخبرنا عن حدوث براكين فيقول: "ظهرت نار عظيمة في الجبل المقابل للمخا، تلتهب وترمي بالشرر إلى البحر، وتصعد في السماء كالمنارة العظيمة .... وظهر في خلالها نتن في البحر بسبب موت كثير من الحوت المقارب من الجبل، لما حصل من حرة وهجها، وقذف البحر بشيءٍ منها إلى ساحل المخا". ثم تكلم عن وقوع زلازل شديدة في المخا. واهتم بمتابعة الزلازل التي كانت تحدث في ضُوران، وأيضاً زلازل وقعت في بلاد ريمة ووصاب وحراز.
كما اهتم بتسجيل ما كان يحدث في عصره من صواعق في جهات مختلفة من اليمن، وما كان يترتب عليها من أضرار.
ويجد المتتبع لكتاب "بهجة الزمن" وصفاً للمناخ في بعض الأحيان، فيذكر -مثلاً- ما كان يحدث من برد شديد في بعض السنوات وما ترتب على ذلك فيقول: "واشتد برد هذه السنة وقَرِّها وشتاها شدة عظيمة. وكان البرد الشديد يحدث أضراراً بالزراعة".
وتابع ما كان يحدث من رياح شديدة في بعض السنوات وما كانت تحدثه من أضرار، فيقول مثلاً: "فأثارت عجاجاً كثيراً، وتراباً واسعاً، وكسرت بعض الشجر".
أما الأمطار والجفاف فقد اهتم بها كل عام تقريباً والآثار المترتبة عليها سلباً وإيجاباً.
وكان ليحيى بن الحسين معرفة بعلم الفلك، فنجده يهتم كل عام بالفلك وتحول السنين والنجوم وسيرها واقترانها ببعضها، ويتناول ذلك في معظم الأحيان بالشرح، مما يدل على أن لديه إلماماً ومعرفة بعلم الفلك.
وفي بعض الأحيان يربط بين الفلك والظواهر الطبيعية الأخرى، فنجده يتكلم بأنه في آخر شهر صفر عند "استكمال الربيع الأول اجتمعت الكواكب الخمسة: الشمس والقمر وعطارد والزهرة والمريخ، والذنب في برج الحوت، دليل الأمطار الواسعة"، وأحياناً أخرى يربط بين الفلك والأوضاع السياسية، فنجده مثلاً يذكر أنه كان ابتداء دخول زحل في برج الأسد من المثلثة النارية، ثم يقول: "وهو علامة للحروب، وغلبة بعض الدولة على بعض"، ثم تناول ما حدث باليمن من حروب منذ أيام المماليك إلى عام (1092هـ/1681م) وربط كل ذلك عند دخول زحل ببرج الأسد، وهناك أمثلة أخرى كثيرة.
ويتابع مثل غيره من مؤرخي الحوليات الخسوف والكسوف، ويربط ذلك أحياناً بالنجوم الأخرى.
و- أوضاع العالم العربي والإسلامي
لم يكن كتاب "بهجة الزمن" بأجزائه الثلاثة قاصراً على الأوضاع في اليمن، فقد اهتم المؤرخ بأوضاع العالم الإسلامي، وعلى وجه الخصوص: الدولة العثمانية، والحجاز، وتابع ما كان يجري في العالم الإسلامي من أوضاع سياسية، التي كانت محط الاهتمام الأول للمؤرخ أو اقتصادية، وأهم الأخبار العلمية والدينية.
وإذا ما ألقينا نظرة على الجحاز سنجد أن المؤرخ قد اهتم بتتبع أوضاعها، خاصة أخبار الحج، وكيف كان في كل عام، ومن هو المحمل الأقوى من المحامل الأربعة، العراقي والمصري واليمني والشامي، كما اهتم بتدوين الأوضاع السياسية في الحجاز وما كان يدور من خلافات وحروب بين الأشراف والولاة العثمانيين، وموقف السلطان العثماني من ذلك. وسجل أهم الأوضاع الاقتصادية في مكة، مثل: سنوات القحط، والأسعار في تلك السنوات، أو قد يذكر ما هي المنتجات التي كانت أسعارها مرتفعة والمنتجات التي أسعارها منخفضة، وما السبب في ذلك. ويذكر ما قد يحدث في مكة من أحداث غريبة، فنجده مثلاً يذكر أنه حدث اعتداء على الكعبة المشرفة بالقاذورات.
أما الدولة العثمانية فقد اهتم بها أيضاً، فتابع ما كان يجري بها من أوضاع سياسية، وبحسب ما كان يصل إليه، واهتم بذكر الحروب التي كانت تجري بين الدولة العثمانية والفرنج (على حد تعبير المؤرخ) وما الجهات التي قامت فيها. وتابع محاولات الدولة العثمانية فتح بلاد مالطة والأندلس وما كانت تسفر عنه تلك المحاولات، واهتم بالانتصارات التي كانت تحققها الدولة العثمانية من ذلك قوله: "فاستولى عليهم "أي السلطان العثماني" وقتل منهم قتلاً ذريعاً، وسباهم، واسترد البلاد التي كانوا قد استولوا عليها، ثم عاد استنبول". وأحياناً يتكلم عن وزراء السلطان العثماني والباشوات في مصر ودمشق والعراق، وتابع أخبار السلاطين العثمانيين من حيث اعتلائهم عرش الدولة، أو وفاتهم، أو الصراعات التي كانت تحدث بين السلطان وبعض أفراد أسرته، وسبب اهتمامه بالدولة العثمانية؛ لأنها كانت تمثل مركز القوة في العالم الإسلامي حينذاك، وبها مقر الخلافة الإسلامية، ولا يستطيع أحد إنكار أهميتها وقوتها.
ثم نجده في الدرجة الثانية يهتم بذكر أهم الأخبار عن بعض الأقطار الإسلامية الأخرى، وفي مقدمتها عُمان، اهتم فيها بذكر الحروب التي كانت تدور بينهم وبين البرتغاليين، وبحسب ما كان يصل إلى مسامعه من أخبار، كما اهتم بمتابعة العلاقات اليمنية العمانية السلبية والإيجابية.
ودوَّن ما كان يصل إليه من أخبار عن بلاد الشام والعراق ومصر، وبلاد فارس والمغرب والهند وبخارى وقندهار وسمرقند والصين وغيرها.
ولأهمية الرحلة التي قام بها القاضي الحسن بن أحمد الحيمي إلى الحبشة، والتي دونها في كتاب مستقل أسماه"حديقة النظر وبهجة الفكر في عجائب السفر" أورد يحيى بن الحسين هذه الرحلة كاملة، وحرص على أن يدون كل ما ذكره الحيمي من أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية في الحبشة، كما تناول بعض الظواهر الطبيعية وما تمتاز به الحبشة من أمطار وأنهار وأودية وجبال، فأضاف بذلك معلومات هامة عن الحبشة في القرن الحادي عشر الهجري السابع عشر الميلادي.
خامساً-منهج المؤرخ
إن وجود عدد غير قليل من المؤرخين اليمنيين في القرن الحادي عشر الهجري السابع عشر الميلادي يعد عاملاً هاماً في إثراء المكتبات اليمنية خاصة، والعربية والعالمية عامة، بالمؤلفات التاريخية القيمة، التي يتضح من خلالها المنهج العام لكتابة التاريخ في تلك الفترة، فالمهتم بما كُتب عن تاريخ اليمن الحديث، بل والمعاصر يجد أن المؤرخين اليمنيين كانوا ينتمون إلى ما يمكن أن نسميه مدرسة التاريخ الإسلامي العامة،فالمدرسة اليمنية جزء من مدرسة التاريخ الإسلامي وامتداد لها، حيث التزم هؤلاء المؤرخون بالمنهج العلمي الذي سارت عليه كتابة التاريخ في العصور الإسلاميةويعد يحيى بن الحسين واحد من أعلام هذه المدرسة، فقد تأثر بها وسار على نهجها، حيث كان مهتماً بكتب التاريخ الإسلامي عامة، وكذلك الكتب التي تتناول علم التاريخ، مثل كتاب السخاوي"الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" الذي أشار إليه أكثر من مرة في مخطوطته هذه.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما المنهج الذي اتبعه المؤرخ في خلال تدوينه لأحداث كتابه"بهجة الزمن" بأجزائه الثلاثة؟
ما يمكن أن يشار إليه بداية هو أن المؤرخ قد حرص في كتابه "بهجة الزمن" على إظهار العظة والاعتبار في كثير مما أورده من أحداث سياسية واجتماعية واقتصادية أو من خلال بعض الظواهر الطبيعية، فكان يربط بين تلك الأحداث وبين العظة والاعتبار، فنجده مثلاً عندما تناول النزاع بين مراكز القوى على الإمامة بعد وفاة الإمام المؤيد محمد بن المتوكل، يعلق المؤرخ على ذلك بقوله: "واشتغلوا بطلب الملك، وما اعتبروا بمن مضى، وما قد جرى، وأن الملك لا ينفع"، ثم يسرد كيف كان مرض الإمام المؤيد ووفاته. وأنه لم يجدوا له الكفن في المنطقة التي توفي بها، وكفنوه في بقايا ثياب، ولم يجدوا له نعشاً مناسباً. ويختم ذلك بقوله: "فكان ذلك عبرة لمن اعتبر، وتذكرة لمن تذكر، فأين كان الملك الذي كان، ثم لم توجد له الأكفان، ولا ما يحمل عليه من العيدان".
وعلى الرغم من أن الفترة الزمنية للجزأين الثاني والثالث هي أقل من الفترة الزمنية للجزء الأول، حيث شمل الجزء الأول حوالي خمسة وثلاثين عاماً، بينما الجزأين الأخيرين كانت فترتهما الزمنية عشرين عاماً فقط، غير أن المؤرخ قد توسع فيهما حول أحداث العام الواحد، خاصة السنوات التي كانت مليئة بالأحداث السياسية الهامة والكثيرة. من ذلك على سبيل المثال السنة التي توفي فيها الإمام المتوكل إسماعيل (سنة 1087هـ/1676م) كانت أحداثها طويلة جداً، فاهتم بالتطورات السياسية التي حدثت بعد وفاته، وصراع مراكز القوى على الإمامة، وكذلك العام الذي توفي فيه الإمام المؤيد محمد بن المتوكل (1097هـ/1685م) وما ترتب عليه من صراع وحروب بين صاحب المنصورة ومراكز القوى الأخرى، جعلت المؤرخ يتابع الأوضاع والتطورات السياسية لهذا العام، بينما في الجزء الأول كانت الأوضاع السياسية فيه شبه مستقرة، عدا التوسع في المناطق الشرقية والجنوبية، لذلك جاءت أحداث الـ35عاماً في جزء، بينما كانت أحداث الـ20عاماً في جزأين.
وقد اتبع المؤرخ منهج الحوليات، فقد جعل بداية كل عام عنواناً جديداً، وكان يفصل بين الحولية والأخرى بقوله: "ودخلت سنة ..." كما أسلفنا، وما أريد أن أصل إليه هو أن المؤرخ نتيجة لاتباعه لهذا المنهج فقد اضطر إلى تقسيم الموضوع الواحد إلى مجموعة من الأخبار والأحداث، حسب الترتيب الزمني لذلك الموضوع، كما كان متبعاً في تلك القرون.
وعلى الرغم من أن المؤرخ كان في الجزء الأول-أحياناً-يخرج عن منهج الضبط والتوقيت، ويسرد الموضوع كاملاً، حتى وإن كانت بعض متعلقاته قد حدثت في سنوات تالية للعام الذي يكتب عنه، إلا أننا نجده في الجزأين الثاني والثالث-في معظم الأحيان-يذكر الحدث في نفس العام الذي وقع فيه، ولا يكمله إلا في العام الذي انتهى فيه، ويضطر إلى القول مثلاً: "فالله أعلم ما يتم من ذلك".
وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى حول منهج المؤرخ، وهي أنه لعله في هذين الجزأين كان يكتب الأحداث أولاً بأول، أي في تاريخ حدوثها، وليس مثل الجزء الأول، حيث كان يوحي للقارئ بأنه يعلم بنهاية الحدث، وإن أجَّل كتابته إلى تاريخ وقوعه، وكان يكرر في معظم الأحيان: "كما سيأتي تاريخه" أو "كما سنذكر"، بينما في الجزأين الأخيرين لم يورد مثل هذه العبارات إلا نادراً، وما يؤيد ذلك مثلاً ما ذكره في أحداث سنة (1097هـ/1685م) حيث يقول: "وحال كتْب الأحرف وصلت كتب إلى حسين بن المتوكل أن حسين بن حسن واجه إلى يوسف". ونجده عند تناوله للأحداث خلال مبايعة أحمد بن الحسن بالإمامة يقول: "وسكنت الأمور في هذا الوقت ببلاد صنعاء، والله أعلم ما يكون من أهل شهارة وصعدة"، وهذا يدل على أنه لا يعلم ماذا يجري في شهارة وصعدة، وأنه يكتب الأحداث حال وقوعها، وليس مثل الجزء الأول، إذ كان لديه فكرة مسبقة في نهاية معظم الأحداث، وما يؤيد ما ذهبنا إليه أنه في هذين الجزأين كان أحياناً يكرر كتابة الحدث مرتين، أما في الجزء الأول فعلى الرغم من كثرة الحواشي التي ألحقها بالمتن إلا أن الأحداث كانت مرتبة، وغير مكررة، وإن اضطر إلى ذلك فيقول: كما سنذكر، وكما سبق ذكره، لكنه هنا ربما في بعض الأحيان ينسى أنه قد سجل هذا الحدث فيعيد ذكره مرة أخرى.
وأحياناً أخرى يسجل خطأً بعض الأحداث؛ لأنه يعتمد أحياناً على السماع، لكنه يعود لتصحيح بعضها إذا علم بصحتها.
أما بالنسبة لتأريخ وقوع الأحداث فقد كان المؤرخ في الجزء الأول-في معظم الأحيان-غير متأكد من التاريخ الدقيق لوقوع الحدث، فهو يقول مثلاً: "وفيها أو غيرها" أو يقول: "وفيها أو التي تليها" كما أنه في معظم الأحيان لم يقسم السنة إلى شهور والشهور إلى أيام، أما في الجزأين الثاني والثالث فقد كان أكثر دقة من بداية السنة حتى نهايتها، فيذكر بداية كل سنة، وكيف كان استهلالها بالرؤية وبالحساب، كأن يقول مثلاً: "كان استهلالها بالثلاثاء بالحساب وبالرؤية الأربعاء"، ويذكر كيف كان دخولها من حيث سير النجوم والأمطار وغير ذلك، وفي معظم الأحيان يحدد اليوم والشهر فيقول مثلاً: "وفي يوم السبت ثالث عشر شهر جمادى الأولى"، أو يقول: " وفي أول جمعة في شهر جمادى الأولى"، وهكذا في معظم أوراق الكتاب.
وعلى الرغم من أن المؤرخ قد اتبع منهج الحوليات، إلا أنه كان أحياناً يميل إلى الاستطراد والخروج عن الموضوع الرئيسي الذي يكتب عنه، ثم يعود مرة أخرى إلى موضوعه، وبذلك يخرج عن منهج الضبط والتوقيت، وقد اتبع ذلك المنهج في الأجزاء الثلاثة.
فنجده على سبيل المثال عندما تكلم عن الفرنج، وما أحدثوه من خلل في الموانئ يخرج عن الموضوع الرئيسي ويشرح طوائف الفرنج، ويستطرد في أقوال المؤرخين السابقين، مثل: المسعودي في كتابه "مروج الذهب" وقطب الدين النهروالي في كتابه "البرق اليماني"، ونجده عندما تناول دخول أحمد بن الحسن إلى برط يستطرد حول من دخله من السابقين، منذ زمن الدولة العباسية والإمام الهادي يحيى بن الحسين والإمام شرف الدين، وفي عهد سنان باشا، ومن دخله عنوة ومن دخله صلحاً، وبذلك يخرج عن الإطار الزمني لتدوين الأحداث.
وأحياناً نجده يستخدم المقارنة بين الأحداث التي يكتب عنها وبين ما سبقها من أحداث، فهو مثلاً عندما تناول إحدى الظواهر الطبيعية يعود بالقارئ إلى فترة زمنية سابقة ليذكر ما يشبه تلك الظاهرة، فعندما تكلم عن براكين ظهرت في الجبل المقابل للمخا يعود بالقارئ إلى المائة الثامنة للهجرة، ويذكر أنه اتفق ظهور براكين في الجبال السبعة بين كمران ودهلك، ثم ما حصل بعدها من الفناء العظيم المشهور، وتكلم عن ظهور النار قرب المدينة المنورة، وحصل بعدها فتنة التتار المشهورة.
وتناول الأحداث في يافع ومحاربتها للدولة القاسمية في عهد الإمام المؤيد محمد بن المتوكل، ثم يقارن ذلك بفترة تاريخية سابقة، فيقول: "وحدث نحو هذا مع عسكر السلطنة في مدة الوزير حسن"، ثم يشرح ما حدث بين الطرفين.
ولا شك أن منهج المقارنة والاستطراد لدليل الثقافة الواسعة التي كان يتمتع بها المؤرخ.
أما منهجه في التراجم فمن الملاحظ أن الجزء الأول قد ترجم المؤرخ فيه لكثير من الشخصيات، ومن مختلف الفئات والطبقات، وفي الجزأين الثاني والثالث اهتم أيضاً بالترجمة لأعلام عصره، غير أنها كانت أقل من الجزء الأول، وترجم في معظم الأحيان للعلماء دون غيرهم، هذا إلى جانب الولاة وأفراد الأسرة القاسمية، ولم تخلُ سنة من السنوات من الترجمة لوفياتها، وكان يضبط تاريخ وفاتهم في الجزأين الأخيرين بطريقة أدق من الجزء الأول، فهو يذكر في معظم الأحيان اليوم والشهر والسنة، وهذا أمر طبيعي، إذ أنه أصبح أقرب إلى الأحداث من الجزء الأول، وعلى وجه الخصوص فترة الإمام المؤيد وبداية فترة الإمام المتوكل، حيث لم يكن قد تجاوز العشرين عاماً، لذلك جاءت التراجم في الجزأين الأخيرين متفرقة في أول العام، وفي منتصفه وفي آخره على حسب تاريخ وفاتهم.
ومن الملاحظ أن المؤرخ قد استخدم في بعض الأحيان طريقة الحوار، سواءً كان ذلك الحوار بينه وبين شخص آخر استقى منه مادتة التاريخية، أو بين شخصين يكتب عنهما، فنجده مثلاً عندما وصل الشريف العارف إسماعيل بن إبراهيم الحنفي الحسيني يذكر المؤرخ أنه التقى به غربي صنعاء "وباحثته في فقه الحنفية"، ثم يورد الأسئلة التي طرحها عليه وإجاباته، ويكثر من الأسئلة عند لقائه ببعض الشخصيات، التي تخبره عن بعض الأحداث، خاصة خارج اليمن، مثل قوله: فسألته، فقلت له، فقال لي، وقد يورد حواراً دار بين صانعي تلك الأحداث، فنجده مثلاً يتكلم عن الحوار الذي دار بين مشائخ برط وأحمد بن الحسن عندما توجه إليهم.
وإذا تساءلنا عن ما المنهج الذي اتبعه المؤرخ عند كتابته للرسائل؟ هل كتبها بنصوصها كاملة؟ أم اهتم بذكر مضمونها؟
سبق أن ذكرنا بأن المؤرخ قد أورد العديد من الرسائل، وقد اتبع المنهجين، فهو في معظم الأحيان، قد اهتم بتوثيق الرسائل كاملة دون أن يحذف منها شيئاً أو يختصرها، ونجده بعد أن يورد الرسالة يقوم بتحليلها ونقدها سلباً وإيجاباً، أما المنهج الثاني فيتمثل في شرحه لمضمون الرسالة بأسلوبه، بحيث يعطي القارئ نبذة مختصرة عما تحويه تلك الرسائل، غير أنه لم يتبع ذلك إلا نادراً.
وأكثر المؤرخ من الاستشهاد ببعض الأبيات الشعرية، وهي في معظمها بمثابة حِكَم يُستفاد منها للعظة والاعتبار، وهذه الأبيات لشعراء مشهورين مثل: المتنبي، وأبو تمام، وابن رشيق القيرواني، وصفي الدين الحلِّي، وأبو فراس الحمداني، والمعرِّي، والشريف الرضي، وطرفة بن العبد وغيرهم كُثر.
وحرص أيضاً على الاستشهاد بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
وأورد بعض التعبيرات الشائع استعمالها، والتي أصبحت بمثابة أمثال عامة متداولة بين الناس، مثل قوله:"جازاه كما يجزى سنمار" "سيفان في غمد لا يصلحان ولا يكاد في الغالب يتفقان" و"من حفر بئراً لأخيه سقط فيه" و"كحال مجير أم عامر": . واستدلالات يحيى بن الحسين الكثيرة تجعلنا نصفه بأنه كان حفَّاظة للقرآن والحديث والشعر والأمثال والتاريخ، وغير ذلك.
وكان المؤرخ أحياناً يشرح للقارئ مواقع بعض المناطق، خاصة غير المعروف منها، وفي ذلك أهمية كبيرة، إذ أن بعض هذه المناطق قد اندثرت، ولم يبق منها إلا الاسم، فنجده مثلاً عندما ذكر أن إبراهيم بن حسين بن المؤيد بلغ إلى موضع يقال له "الأبرق" فيشرح موقعه بعد ذلك مباشرة بقوله: "ما بين الأهنوم وظليمة، وهو من أطوار بلاد ظليمة، فوق سوق الثلوث"، وعند حديثه عن أحمد بن الحسن، وأنه طلع إلى "نجد بني حمرة" ثم يقول "غربي شهارة، وهو وسط الأهنوم، وهو مجمع الطرق القريبة من شهارة".
ويشرح أحياناً بعض الكلمات التي قد تبدو غريبة للقارئ، مستعيناً بقواميس اللغة، فنجده مثلاً يتكلم عن بعض الآلات الحربية ومنها "الدِباب"، ثم يقول: "قال في القاموس: الدبابة مشددة آلة للحرب، وقد كان يتخذها بنو أيوب وبنو رسول باليمن في مدتهم، وعلي بن صلاح كان يتخدها، كما في سيرته".
وإذا انتقلنا إلى أسلوب المؤرخ في كتابته للأحداث، فقد تميز بالسهولة والوضوح، فكان في كثير من الأحيان يستخدم الكلمات والعبارات المفهومة البسيطة، ومع أنه كان أحياناً يميل إلى السجع، باعتباره من المحسنات اللفظية في عصره، إلا أنه لم يبالغ في نحت الكلمات مثلما كان متبعاً لدى مؤرخي عصره، والعصور اللاحقة، ومن أمثلة ذلك:قوله"لبث بصنعاء إلى آخر شعبان، على الضيافات الحسان، من الولاة والأعيان، ثم تقدم إلى ضوران، وحصنه الشامخ على الوديان والبلدان" وقوله: "قد ظهر بطول بقاء حسن بن الإمام، وثقل عليه ذلك الإلمام، وأهمه في اليقظة والمنام، وعطل في نفقاته الحبوب التي قد جمعها بصعدة من سابق الأعوام"، أو أن يقول: "وحصل خفضهم لما كان يرفعهم، وضرهم ما كان ينفعهم، وغاب عنهم من السعد والإقبال ما كان يحضرهم، وخذلهم من الكل ما كان ينصرهم". فقد ابتعد المؤرخ عن السجع المتكلف في اللفظ، والذي-غالباً-أفسد المعنى لدى كثير من المؤرخين.
وأورد في كتابه هذا بأجزائه الثلاثة الكثير من المصطلحات التي تستعمل محلياً، وربما كان بعضها من ألفاظ اللغة العربية الفصحى مثل قوله: "الصنو، الصافية، النصع، الخِطَاط، القِبَال ... إلخ" وأورد كذلك بعض المصلحات العثمانية مثل: "الجامكية، النوبة، الشاوشية، الزبارط، المكاحل، الطبلخانات".
وقد اختصر المؤرخ أسماء بعض الكتب المشهورة والمتداولة حينذاك فيقول مثلاً: "البحر، الغاية، أو يقول:"الهادي في أحكامه" و"النجري في قواعده".
كما اختصر أسماء المشهورين من أئمة العلم مثل: المهدي، الهادي، المنصور .... إلخ. وربما يعود السبب إلى أن أسماء مثل هذه الكتب وأسماء أئمة العلم كان معروفاً مشهوراً حينذاك.
وعلى الرغم من أن المؤرخ لم يترجم لنفسه في هذا الكتاب ترجمة مستقلة، لكنه كان يكتب عن نفسه أحياناً، إذا دعت الضرورة لذلك، فنجده مثلاً يتكلم بين الحين والآخر عن التقائه ببعض العلماء، الذين كانوا يفدون إلى اليمن، أو يتكلم عن انتهائه من تبييض مؤلفه الاقتباس، فيذكر محتوى هذا المؤلف وأجزائه، وترجم لابنه الحسن الذي توفي في حياته وهو لم يتجاوز العشرين عاماً، وقد أطنب في ذكر صفاته وزهده وعلمه، ثم أورد أشعار الرثاء التي قيلت فيه من قبل بعض شعراء عصره، وأُرسلت لوالده.
هذا بالإضافة إلى الرسائل التي تم تبادلها مع الأئمة ومراكز القوى الأخرى حينذاك.
وبعد الانتهاء من منهج المؤرخ وأسلوبه لعله من الضروري توضيح المنهج الذي اتبعته الباحثة خلال التحقيق لنص المخطوطة.
سادساً-منهج التحقيق
لقد أكد المؤرخ في بداية الجزء الثالث من مخطوطة "بهجة الزمن" على ضرورة إثبات النصوص كما أرادها مؤلفوها، فنجده يقول: "إن كتابة ما لم يكتبه المصنف أو حذفه من الكذب عليه، والتحريف لكلامه، وتغيير قصده ومراده؛ لأن المُصَنَّف إنما يضاف إلى مُصَنِّفِه، فلا يُغِيِّر مقصوده وما قرره". وهو بذلك يدعو إلى الأمانة العلمية عند التحقيق منذ تلك الفترة البعيدة مما يدل على تفتحه العلمي الواسع، لذلك فلا بد لكل من حقق نصاً أن يحرص على إثبات النص كما أراده مؤلفه.
وقد بذلت أقصى ما في وسعي لإثبات النص كما أراده المؤرخ، على الرغم من الجهد الذي بذلته في ذلك، إلا أن هناك بعض الكلمات-وإن كانت قليلة جداً-تعذَّر عليَّ قراءتها، فرسمت بعضاً منها كما وردت، وتركت الكلمات التي لم أتمكن من رسمها فوضعت نقاطاً، وأشرت في الهامش بأنها غير واضحة في الأصل.
أما الحواشي التي أراد المؤرخ إلحاقها بالمتن فقد أدخلتها حسب إشارات المؤرخ السابق ذكرها، دون أن أشير إلى ذلك في الهامش لكثرة تكرارها.
ولأن المؤرخ لم يهتم بالإعجام، كما سبق أن ذكرت في وصف المخطوطة، فقد كانت بعض الكلمات تحتمل أكثر من معنى، غير أني حاولت-ما أمكن-التغلب على هذه الصعوبة بالوقوف كثيراً عند كل كلمة وتقريبها إلى سياق المعنى، حرصاً على إثبات النص كما أراده مؤلفه. وقمت بتشكيل الكلمات التي حسبتها تحتاج إلى تشكيل لتوضيح المعنى ودفع الاشتباه عنها، مثل أسماء بعض الأعلام وكناهم وألقابهم، وأسماء البلدان والمواضع وبعض المصطلحات العامية، وغير ذلك.
ووضعت الهمزات للكمات التي تحتاج إلى ذلك؛ حرصاً على التوحيد في الكتابة، وليتضح المعنى أمام القارئ الحديث.
وهناك بعض الكلمات قد تكون من الألفاظ العامية، ويصعب فيها إبدال الياء بالهمزة؛ لذلك كُتبت كما تنطق في اللهجة اليمنية، ومعظمها لا يزال مستخدماً حتى الوقت الحاضر مثل: بير العزب، الداير، الغواير.
وقد درج المؤرخ في الكتابة على بعض الأخطاء الإملائية الشائعة مثل قلب الظاء إلى ضاد أو العكس، أو قلب التاء المربوطة إلى تاء مفتوحة، أو إبدال الألف المقصورة بألف ممدودة أو العكس، وغير ذلك من الأمثلة، فقمت بتصحيح ما تبين لي طبقاً لقواعد الإملاء الحديثة. ولم أشر إلى ذلك في الهامش لتكراره.
وسبق أن رأينا بأن المؤرخ لم يهتم بتقسيم الفقرات والجمل، لذلك قمت بوضع الفواصل والنقاط وعلامات الاستفهام وعلامات الجمل الاعتراضية، وغير ذلك من علامات الترقيم الحديث ما دعت الحاجة إلى ذلك، وما وجدته مكتوباً بالشكل القرآني قمت بكتابته كما هو متبع في الكتابة الحديثة.
وكما سبق أن رأينا لم يهتم المؤرخ بكتابة عناوين، واكتفى بكتابة بداية العام الذي سيتناول أحداثه بكلمة ودخلت بخط أكبر من الخط المعتاد، لذلك حرصت على أن أجعل هذه الكلمة مضافة إليها السنة عنواناً مستقلاً، فكان العنوان على سبيل المثال كالتالي: "ودخلت سنة أربع وثمانين وألف"، وكلما انتقلت من حدث إلى آخر جعلته بداية لفقرة جديدة.
وحرصت على استخراج كل ما هو ضروري بحسب المنهج العلمي المتبع في تحقيق المخطوطات، فقمت بالترجمة للأعلام وضبط تواريخ وفاتهم ما أمكن، وقد أغفلت الترجمة لبعض الشخصيات البارزة والمشهورة باعتبار أن المعروف لا يُعرف، كما تعذر في بعض الأحيان الترجمة لبعض الأعلام، إما لعدم وجود تراجم لهم في ما بين يدي من مصادر، أو أنهم كانوا مغمورين في عصرهم، ولا توجد لهم ترجمات أصلاً.
وبعض الشخصيات ترجم لهم المؤرخ ترجمة كاملة تُغني عما جاء في المصادر الأخرى، باعتباره كان معاصراً لهم، فتم الاكتفاء بترجمة المؤرخ.
وقمت بتعريف ما وجدته من المناطق، مستخدمة الكتب المتوفرة. أما المناطق التي لم أعثر لها على تعريف فقد تركتها؛ لأنها ربما قد اندثرت، أو تغيرت أسماؤها.
وحرصت على كتابة معظم أسماء الكتب كاملة، وكذلك مؤلفيها في الهامش. وهناك مؤلفات لم أجدها في ما بين يدي من مصادر، لذلك تركتها دون الإشارة في الهامش.
وقمت بتخريج الآيات القرآنية وضبطها بالشكل كما وردت في القرآن الكريم، وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة التي وردت في المخطوطة، فقد قمت بتخريج ما استطعت منها، ولم أتحقق من صحتها أو ضعفها، باعتبار أن ذلك يقع خارج إطار مجالنا، وهناك بعض الأحاديث تعذر العثور عليها في مابين يدي من مصادر.
أما الأبيات الشعرية التي وردت في المخطوطة-وهي كثيرة-كان بعضها قد نسبها المؤرخ إلى قائليها، فحرصت على البحث عنها في دواوين الشعر، وقمت بالمقارنة بين ما أورده المؤرخ وما ورد في تلك الدواوين وأشرت إلى الاختلاف في الهامش، وتركت المتن كما أراده المؤرخ.
أما بعض الأبيات الشعرية التي لم يشر المؤرخ إلى من قائلها، فقد بذلت جهداً في معرفة من قائلها، وأثبت ذلك في الهامش، وقارنت بين تلك الأبيات وما ورد في دواوين الشعراء.
أما الأبيات الشعرية التي لم أتمكن من معرفة من قائلها فقد تركتها دون الإشارة إلى ذلك في الهامش.
وقمت باستخراج شرح الألفاظ والمصطلحات التي تحتاج إلى شرح معانيها ما استطعت من قواميس اللغة العربية، وشرحت المصطلحات ذات الطابع المحلي بقدر المستطاع، أما المصطلحات العثمانية، فقد قمت بشرح معظمها. معتمدة على بعض الكتب الخاصة بذلك.
أما الحواشي التي كُتبت في المخطوطة، وهي بخط مختلف عن خط المؤرخ فلم أهملها وأثبتها في الهامش كما وردت، باعتبار أنها ليست من كلام المؤرخ وتم كتابتها في فترة متأخرة عن عصره.
وقد استعملت في المتن بعض الأقواس مما يعد من ضرورات الكتابة الحديثة، وفي الوقت ذاته لا يخل بما أثبته المؤرخ. وهذه الأقواس للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأسماء الكتب وغير ذلك مما سيجده القارئ في المتن. وهي على النحو التالي:
{ } للآيات القرآنية.
(( )) للأحاديث النبوية.
( ) لأسماء الكتب وغير ذلك.
أما أرقام أوراق المخطوطة التي كُتبت خطأً-كما سبق أن أشرت في وصف المخطوطة-فقد أعدت ترقيمها ترقيماً صحيحاً، وكتبت تلك الأرقام في المتن بين قوسين [ ] حتى تتضح بداية الورقة الجديدة.
وقد حاولت جاهدة أن ألتزم بالمنهج العلمي الصحيح لتحقيق المخطوطات ونشرها، آملة أن أكون قد وفقت في ذلك.
نص المخطوط
[1/ب] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
لمَّا تم الجزء الأول من البهجة،ذيل تاريخ اليمن، وكان ذلك اتفاق دور كامل لثلاثين سنة، دخل الدور الذي بعده، فكان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
دخلت سنة إحدى وثمانين وألف
كان استهلالها بالثلاثاء بالحساب، وبالرؤية الأربعاء، والشمس بالجوزاء في القيظ، وكان دخولها مباركاً بالثمار، وتهوُّن الأسعار، من بعد مضي الشدة الواقعة في هذه الأقطار، ثم حلها الله تعالى وذهب ما كان وسار، وإن بقى منه بواقي وتكرار.
واتفق غرة هذه السنة بشهر محرم منها، خروج طائفة الفرنج الملاعين، بعد قضاياهم مع العماني في هذه الأحايين، كما سبق ذكره، فلما فرغوا عن حربهم له، وهزيمتهم إياه إلى أرضه غفل عنهم، وَتَديَّر ببندر مسكت ، وهدأت فورته وقتاله لهم وسكت، كان منهم هذا الخروج إلى بندر المخا، والقصد لبابه من غير خفا، عقب دخول البضاعة الهندية على قلتها إليه[2/أ]، وشروع البيع والشراء فيه. وكان قد ظفروا في بابه، قبل الاتصال بجنابه، بثلاثة أغربة أحدها: خرج من بندر عدن إلى المخا لأحمد بن الحسن بحراً، وفيه دراهم وهدايا، والآخران: من عدن وجهته، فانتهبها الفرنج وحازوه، واستولوا عليه وقبضوه، والبعض منه حرقوه واستهلكوه، فلما كان الأمر كذلك، واتفق هذا هنالك، أمر صاحب المخا يومئذٍ الحسن بن المطهر الجرموزي بالمصانعة للفرنج والخطاب، وبذل الضيافة وتسكين الحالة حتى يتصل إليه جنود الغارة، والتحسس لأخبارهم وكثرتهم وقلتهم وعدتهم وحقيقة مقصدهم، فجاؤوه الرسول بالخبر عنهم، والسبب الحامل لهم فقالوا: موجب الوصول ما جرى مع أصحابهم العام الأول في باب المخا من القتال، وما راح عليهم من المال من أصحاب العماني، وعدم دفع صاحب المخا لذلك الفعل الصادر والجاري، وأنه كان به راضياً[2/ب] وعليه معيناً، فبذل السيد الحسن لهم عوض ما راح مالاً، وقال: ليس له فيه سعاية ولا قصداً، فأبوا إلا القتال، والاهتمام بالدخول إلى البندر والإحتمال، فأخذ منهم الصلح قدر ثمانية أيام عشرة أيام كل ذلك منه للإنتظار لوصول الغارات، مما يقرب إليه من الجهات، فوصلت الغارات من
زَبِيْد ومن مَوْزَع ومن جُحَاف بعد أن كان قد انجفل أكثر أهل المخا، عنه بأموالهم، ومنهم من دفنها في التراب، خشية من الذهاب وسكَّن السيد الحسن من سكَّن من أهل المخا وقال: هذه الغارات واصلة فلا نخاف منهم إن شاء الله ولا نخشى. وكان جملتهم قدر سبع خشب ما بين برشة وغراب فيها الرجال، ومكاحل الرمي والمدافع والمال. والإمام لما وصل إليه خبرهم وقادمهم بادر إرسال ولده علي بن أمير المؤمنين في الحال بمن حضر عنده من عسكر الرجال جملتهم قدر خمسمائة، وساروا حيث الإنتقال، وكان وصول الغارات[3/أ] الأولة هي التي نفعت البندر من الصدمة، فلما كان سابع وصولهم أو سادسه قصد الفرنج المخا، وكان كل خشبة من خشبتهم فيها بيرق وعدة الحرب والضرب، ولعل جملتهم قدر ثلاثة آلاف؛ لأن الغراب تسع قدر مائتين وخمسين مع الأزواد والآلات، فأول عمل منهم قصدهم إلى قلعة فضلى التي مقابل للمخا من خارجه، وكان فيها جماعة من المسلمين رتبة فصابحهم جماعة من الفرنج خرجوا إلى الساحل فجراً، وركزوا السلاليم القنا، وصعدوا من أعلا، فهرب من القلعة بعضهم وثبت البعض لهم، فكان القتل في الدرب في المسلمين قتل منهم ثمانية، ووقع القتال بينهم، واشتد وحمي وطيسهم، ووصلت غارة المخا إليهم فانهزموا حينئذٍ، وقتل من الفرنج قدر عشرين نفساً حال الهزيمة ومن المسلمين الثمانية، وجنايات آخره. وكان جملة الخارجين من الفرنج إلى القلعة من الساحل قدر ثلاثمائة نفر وقيل أقل، وأكثرهم في البحر بغربانهم وبراشهم، وأخذ عسكر المسلمين بيرقهم الذي خرج معهم في البحر؛ لأن صاحبه قتل في باب الدرب[3/ب] وهزموهم إلى البحر، فدخلوا غربانهم وسنابقهم، واجتمعوا بأصحابهم، وأرسل بالبيرق الذي أخذ عليهم إلى صنعاء فركز في سوقها بأعلا سمسرة خان خليل. ثم كان اليوم الثاني من هذا الحادث المذكور، وزحفت الفرنج بأجمعهم إلى باب المخا، وشنوا عليه المدافع
والزبارط من جميع براشهم، فكانت تقع في وسط المخا كالمطر الملقا، ولم تضر مع كثرتها أحداً غير رجل واحد هلك منها، وأخربوا بذلك الرمي جانباً من قصر المخا المطل على البحر بعد أن كان خرج عنه الجرموزي إلى جانب الأقصى وأخلاه عن السكون لكثرة الرمي المشنون، ثم رمى أهل المخا بالمدفع الكبير، فوقع في دقل البرشة معهم، ويقال: إنه راح منهم ثلاثة نفر وكان بسببه تأخرهم. وكان قد تقدم جماعة من الفرنج إلى داير المخا من جانب آخر يريدون إلقاء الحريق، ففطن بهم بعض المسلمين رموهم فردوهم على أعقابهم، وزال جميع حيَلِهم، ثم إنهم ساروا إلى باب المندب ، ثم عادوا إلى باب المخا، ثم ما زالوا كذلك في البحر يسيرون ويرجعون في البحر، ولم يقع قتال مدة أربعة أشهر، ثم ساروا وكل ذلك لأجل استخراج أهل المخا، واللحوق في البحر ليأخذوا منهم الغرض الأقصى[4/أ] لعلمهم بقلة أجسامهم في أعمال البحر وتصرفهم، فلم يخرج إليهم أحد في مدة لبثهم، فلما أيسوا عن ذلك عادوا راجعين بلادهم، وزال شرهم، ودخلوا بلادهم في شهر رجب منها.
وحصل للفرنج هذا العام هيجان في البحر عظيم، وسببه تحريك العماني لهم لما غزا بندرهم الديو العام الأول.
وفي العاشور من محرم وصل خبر الحاج بأنه كان العراقي هذا العام قوياً زائداً على عادته، وكذلك الشامي، وأما المصري فعلى عادته. وحج بالناس الباشا حسن، واستقر بمكة بعد عزم المحامل شهراً ثم عاد جدة.
وأحمد بن الحسن لما بلغه أفعال الفرنج، وخطاطهم في البحر، ومضاررتهم، لم يقر به القرار بالغِرَاس خشية على بندر عدن والمخا من صولتهم وضررهم، فجمع عساكره جميعاً والوِطَاق، وسار إلى حضرة الإمام بضوران، وسار معه أيضاً محمد بن الإمام من صنعاء. وطلب والده زيادة بلاده له، فزاد له الإمام بلاد حَرَاز . وعلي بن الإمام وصل إلى عدن واستقر، لما بلغه هزيمة الفرنج، وهؤلاء فرنج الهند طوائف مختلفون، فمنهم إنجريز، ولونده، وبرتقال، وفرنصيص [4/ب]، والبرتقال هم الحاكمون عليهم، وسائرهم رعايا لهم.
وقد ذكر المسعودي في (مروج الذهب): أن فرنج الهند أصليون من قبل الإسلام، ساكنون في تلك البلاد، وذكر قطب الدين في تاريخ بني عثمان (الإعلام) و(البرق اليماني) أن طائفة الفرنج في الهند خرجوا القرن التاسع، وضربوا في سواحل اليمن.
قال: وكان خروجهم من وراء جبل القُمر -بضم القاف- من خلف الحبشة بحراً استطرقوا من أصل بحر المغرب من بلادهم، ثم بحر الحبشة ثم بحر الهند إلى هذا المحل الذي سكنوه في الهند، ولهم قلعة في الهند تسمى كُوة -بضم الكاف- هي محل أميرهم وسلطانهم، والجمع بين القولين: أن هؤلاء الذين خرجوا هم طائفة البرتقال الذين حكموا على فرنج الهند، وسائر طوائف فرنج الهند هم الأصليون، وقد صاروا الآن رعايا للبرتقال الذين خرجوا من فرنج المغرب، والله أعلم. وكلهم نصارى، وهم فرق ذات بينهم، وأحد طوائفهم[5/أ] تنكر أن عيسى ابن الله، والطائفة الأخرى تثبت ذلك، وهم على دينين.
وفي شهر صفر أو ربيع حال رجوع الفرنج من باب المندب اتفقوا بجماعة من تجار الحسا وعُمان وغيرهم في مرسى بالرُّوم ، ما بين الشِّحْر وبين أحْوَر ، فقصدوهم فهرب عسكر العماني، وكانوا في غراب قدر ثلاثمائة نفر إلى الساحل، وانكسر غرابهم، ودخلوا برَّوم، وكذلك أهل الحسا الذين معهم البضاعة من البن، وتركوا المركب في البحر، فوصل الفرنج إلى قربه فحرقوه جميعاً. وعسكر العماني رموا إلى جهة الفرنج إلى البحرمن ساحل بروم، فما عرفوا هل أصابوا أحداً أم لا، وأصيب واحد من العمانيين برصاصة من الفرنج في ساحل بروم، ثم إن عسكر العماني بقوا كذلك حتى حصل لهم غراب آخر، بعد أن سار الفرنج ورجعوا بلادهم، والفرنج ذهبوا في البحر جهاتهم.
وفي صفرها لما استقر محمد بن أحمد بعِيَان طلب مشائخ بَرَطْ إليه وذكر لهم من أجل الذين[5/ب] نهبوه في طريق صَعْدة بطريق العَمَشِية العام الأول، فقالوا ذلك قد حصل، وتلاشى أمره وانفصل، وما هو باقي يعاد، وما قد استهلكوه فيسلم فيه العوض، فدخلوا في ذلك وسلموا من الغنم والبنادق بما قيمته قدر ألفين حرف وخمسمائة أو ثلاثة آلاف قيمة الجميع وسلموه إليه، وقالوا: النهب شاركهم فيه غيرهم، وهذا العوض جهدهم، وعاد أحمد بن الحسن من ضُوران هذه الأيام.
وفي شهر ربيع الأول ظهر نور عظيم في مسجد النهرين ، الذي في سائلة وادي صنعاء، لهبة خضراء داخل المسجد بقت من صبح ذلك اليوم الذي ظهرت فيه إلى العصر، والناس يتكحلون بالميل من ذلك، وأهل المكان يقولون: إن هذا المسجد فيه بركة.
[6/أ] وظهر في هذه المدة براهين وكرامات للشيخ فليح بن مفلح، الذي مقبور في طرف سَعْوان ، وعليه مسجد قديم ومنارة وبركة ومطاهر، وذكر أهل الجهة أنه قديم، وأن هذا المسجد كذلك قديم الأساس، وأنه مشهور البركة.
ولا تزال براهينه ظاهرة، وكان يقرب إليه قرية هي خراب الآن، فمنها هذا الزمان كما وصفه الواصف: أن رجلاً أخذ من قَضْب له شيئاً لغنم معه معلوفة، فهلكت أجمع، ومنها: أن رجلاً من نِهْم سرق من كسوة تابوته شيئاً، فأصبح يابساً مكفوتاً، فأرجعها وتاب، ومنها أن جماعة خرجوا من صنعاء إلى مسجده فتَمَخْلَع واحد منهم ولعب جنب حوطته، ولم يأخذ أدبه، وطلع منارته أطل من موشق فيها، فالتم عليه الموشق، ولم يستطع لإخراج رأسه حتى استغفر. ومنها: أن رجلاً ادهن بشيئ من السَلِيْط الموضوع للتسريج، فسقطت لحيته إلى يده، ومنها أن النساء دخلن المسجد زائرات، كانت واحدة حائض، فلما وصلت الباب لم تستطع الدخول، وجاء شيء ما منعها. ومنها: أن رجلين لم يأخذوا أدبهم في حوطته، وهم بجنب بركة الماء التي جنب مسجده، فلم يشعروا إلا وهم في الماء أحدهما فوق الآخر، لم يستطيعوا على الخروج، ولصق أحدهما على الآخر، لم ينفكوا حتى تابوا واستغفروا وتوسلوا ببركة الشيخ في إطلاقهم[6/ب]. ومنها أن رجلاً نهب على راعي غنم للشيخ فليح، بنظر ولي مشهده رأساً من الغنم، بقي ثلاثة أيام، وجن السارق وأرجع الرأس الغنم على حاله. وإذا وصل أحد إلى باب المسجد وله اعتقاد بالشيخ انفتح له الباب، وإذا لم يعتقده لم ينفتح له الباب، هذا كله في هذا الوقت.
قال أهل البلد: وكم له من براهين لا تزال متكررة متواصلة، ومن أعظم ذلك أن المسجد لا يزال مفروشاً بالبُسُط الرَدَاعِية والكسوة على تابوته في مكان قافر وخلاء وقرى سعوان عنه نائية، ويضع القَيِّم الحب في مكان حوله يدخله كل أحد، ويضع جميع ما جاء له من النذور من دراهم وشمع وحب وغير ذلك في حوطته، ولا حارس لها، ولا يقدر أحد أن يمسها ولا يقربها، فهذا من أعظم الكرامات لهذا الشيخ.
قال الراوي: إنه قديم، ولم أجده أنا في تاريخ، بيد أنه روي لي أنه من قبل النبوة، وأنه كان من أصحاب عيسى بن مريم، والله أعلم. وبعد هذه الكرامات فإنها دالة على فضله. وفي اليمن أولياء ومشاهد لم تعرف في تاريخ ذكرها في هذه البلاد العليا، لعدم اعتناء الشيعة بذكر تاريخ الفضلاء كما يعتني أهل السنة بهم، فمنهم الشيخ مياس في طرف بلاد آنس إلى ما يلي بلاد عُتُمة وذَاهِبْ ، عليه مقام ومزار، ولم يعرف تاريخه في كتب التواريخ، ومنهم السيد الذي في السُّودة وآخرون مغمورون. ولكن نعلم أن الأولين ما وضعوا هذه الأساسات والأبنية والمساجد والمشاهد إلا وهم من الفضلاء نفعنا الله بالصالحين.
والباشا حسن حج مع الناس، وأراد تكون الحربه له دون سعد فلم يتم، فبقي بمكة إلى آخر شهر الحجة، وعاد جدة. وكان أرسل إلى فرحان بأنه يكون دخول مكة صفة حجاج، ويتركون الدخول [7/أ]بالسلاح والأرماح، فأجاب فرحان: أن الأمر للشريف سعد، إذ هو الوالي بمكة، والناس داخلون إلى بابه، وكان دخل إلى جدة بحراً ياقوت إسماعيل من أصحاب أحمد بن الحسن ومعه جماعة بسلاحهم، فانتهبه الباشا عليهم وقال: يدخلون مكة حجاجاً، ثم إن ياقوت إسماعيل سار إلى حضرة الباشا وعرفه في ذلك فأطلق له السلاح.
وفي صفرها وصل العولقي والواحدي إلى رداع، ثم إلى حضرة الإمام بضوران، وكان أحمد بن الحسن قد رجع عنه بعد جمعه لجنوده وجنود صنوه محمد بن الحسن هنالك، وأراد أن الإمام يعرف بما في وجهه من الناس، وما يتوجه لهم من الإيناس، ولما وصل الواحدي والعولقي إلى حضرة الإمام عرض عليهم القافلة التي راحت فأصلحوا فيها، ثم تناظروا فيما بينهم من القتول الجارية معهم في قبائلهم فتساقطوها، وزاد عند العولقي للواحدي قدر خمس وعشرين قتيلاً، وكل هذه القتول التي حسبت لهم من بعد فتح المشرق ودخول أحمد بن الحسن إليه، فأما قبل فلم يجر فيها حساب[7/ب] لكثرتها فيما بينهم، وكان خروج العولقي من بلاده في عسكر كثير من قبائله فوق ألف نفر وبيارقه، فلما وصل طرف بلاد الرَصَّاص منعه الشيخ صالح الرصاص وقال: ادخل بمائة نفر، فدخل كذلك.
وفي شهر ربيع وصل إلى الحضرة العالية رجل من الإمامية الإثني عشرية يتعرض للطلب، وجعل للإمام من شعره قصائد كثيرة على الحروف المعجمة، وخرج أيضاً بصراوي يذكر أن له معرفة في أدوية البواسير يقال له: الشيخ يعقوب، فيحصل من الدواء هذا معه زوال ذلك، ولكنه يتعقبه من بعد الانتقاض وضعف البدن والعود، فلم يحصل منه كثير فائدة، وكان يرسم على الذي يداويه دراهم كثيرة قدر خمسة وعشرين قرشاً وفوق، فمنهم من يبرأ، ومنهم من لا يحصل لدواه جدوى.
وفي ربيع الأول وصل شيخ برط من ذي محمد، قاسم بن علي ومعه قدر أربعين نفراً، والقاضي علي بن محمد العنسي معه، فوصلوا إلى حضرة أحمد بن الحسن الغراس، ثم ساروا إلى حضرة الإمام ومن معه من الناس، وسبب وصولهم أن محمد بن أحمد طلب منهم أنه سيقدم بلادهم، فأرادوا العذر عن ذلك، فصرفهم إلى الإمام، فأمرهم الإمام بأنه لا بد من دخولها ومشَّاهم وزَلَّجهم من عنده على ذلك الكلام. وفي خلال وصولهم وعودهم تعرض جماعة من ذي حسين لطريق خَيْوَان ، فصادفوا فيها سيداً وولده من حُوْث في الجبل الأسود فرموهما، فأصيب ولد السيد وسلم أبوه[8/أ] وهربوا، تعدياً وظلماً وتمرداً وعناداً. ثم إن محمد بن أحمد تحرك حينئذٍ إلى بلد الخراب، رأس وادي المراشي ، وهي باب برط وطريقه، وأهل برط صاروا مختلفين فمنهم راضي بدخوله، ومنهم كاره، فمن الراضين: ذو محمد، قالوا: حيث قد رجح الإمام ذلك فعلى ما يراه، ولا خلاف.ثم تحرك أحمد بن الحسن من الغراس بجموع كثيرة بعسكره، وضم معهم من قدامهم من القبائل كَنِهْم، ومن الجَوْف ، وجاءت طريقه الجوف، فلما بلغ بَرَط جاؤوا إلى محمد بن أحمد واهتموا بالطلوع والنفوذ إلى بلادهم، وأرادوا بذلك أو تحصل الكفاية بدخوله عن حركة أحمد بن الحسن، وكتبوا إلى الإمام بأن محمد بن أحمد قد دخل البلاد حسبما أمر، وأحمد بن الحسن تقدم إليهم وجاءت طريقه بطن الجوف مشرقاً، في بلاد قافرة ضعيفة شاقة، سار إلى مَعين ، ثم خرج منه إلى أبْرَاد، وأخذ العسكر من [8/ب] أطراف مواشي بني نَوف بعضاً جزاءً بما فعلوه العام الأول في الجوف، وخرج أحمد بن الحسن إلى وادي خَبّ في بلاد بني نوف من دهمة ، واستقر في طرفه مما يلي برط قدر شهر، فحصل التضرر مع أصحابه فيه، لبعد القوافل والطعامات عن الوصول إليه وكثرة الناس، ثم طلع برط، فأول دخوله بلاد ذي حسين قهراً، واستقر
في بلد رَجُوزة وسط بلاد ذي حسين، فبقى فيها أياماً، وكان قد نالهم بهذه الطريقة مشقة وكثرة حيَّات وعسرة الطريق وكثرة الأشجار، حتى هلك بعض من هلك منها يقال: حُرمة من جواري أحمد بن الحسن، وآخرون لدغتهم الحيَّات، ومات كثير من الخيل والقُرَاش يقال: قدر سبعين حصاناً فأكثر، ومحمد بن أحمد حال دخوله برط حصلت فرقة بين ذي محمد وذي حسين، وارتجام فيما بينهم.
ولما استقر أحمد بن الحسن ببرط بعد دخوله شق بأصحابه وجموعه، لضعف البلاد، وعدم ما يقوم بهم من الطعامات والزاد، تفرقوا وسار أكثرهم وعادوا، ولم يبق مع أحمد بن الحسن إلا خاصة أصحابه وعبيده، وأهل[9/أ] برط منهم من تشرَّق في المحطة، وصار اليأس معه ومن بقى عنده في الحاجة والضرورة، وعدم وجود الحبوب المجلوبة، حتى بلغ القدح قريب خمسة حروف وأربعة.
وفي هذه الأيام أخرب محمد بن أحمد بيتاً كان في طرف بلد الأوساط التي سكنها؛ لأجل أنه كان مع برط مجمعاً للفساد، وأصله بيت قري جمعة التركي أيام دخل برط، عَمَره أيام دخوله فيما سبق.
وفي هذه الأيام اعتنى صاحب المخا بعمارة القليع عند المخا وتصليحها وافتقادها؛ لأجل ما وقع من الفرنج وفسادها.
وفي خامس عشر شهر جمادى الأولى خسفت القمر، أكثر جرمها في برج الحمل، وغربت خاسفة.
وفي هذا الشهر مات محمد كاشف ببرط حضرة أحمد بن الحسن، وهذا المذكور كان أول رياسته مع شرف الإسلام الحسن بن الإمام آخر أيامه، ثم ولده أحمد إلى أن مات في التاريخ المذكور، وكان متولياً في المدة السابقة بأصاب ، وهو ممن خرج مع أحمد بن الحسن في الحوادث تلك المدة السابقة، في مدة الإمام المؤيد بالله، ثم عزله أحمد بن الحسن، ولم يترك رعايته، وكان شافعياً في مذهبه، رأيت بخطه في بعض كتبه يقول محمد كاشف الشافعي مذهباَ، الشيعي [9/ب] معتقداً.
وفي يوم السبت ثالث عشر شهر جمادى الأولى مات السيد العارف علي بن يحيى بن أحمد بن المنتظر الغرباني بظفير حجة ، كان هذا السيد في عشر الثمانين، وكان قد اختلط عقله آخر عمره، وقبيل وفاته سنة موته. انتقل جده المنتظر إلى ظفير حجة في مدة الإمام شرف الدين ، وأصلهم من غُرْبَان ، وله في تلك الجهة مال ودار. وقد تولى القضاء برهة أيام في مدة الإمام المؤيد بالله، ثم ترك لحدَّة طبعه، وحِرَّة مزاجه، وأخرجه أهل الظفير في بعض الأيام إلى حَجَّةْ ، ثم رجع وعاد وانعزل في بيته وماله.
وفي هذه الأيام وصل خواجا تركي بهدية للإمام، وهو وطاق من جهة بلاد الحبشة، وسكن بحضرته قدر شهر تام، وزلجه الإمام، وأعطاه قياس ثمن وطاقه وزيادة في الإنعام، فمرَّ صنعاء، وحضر جمعتها، فقال: ليش ما يذكر الصحابة خطيبها.
وفيها ظهر رجل قيل: أنه يدعي أنه شريف، وإذا سئل ما إسمه؟ قال: عبد الله، وأصله فقيه قيل: من بني الخيشني، كان قَبَّاضاً مع أحمد بن الحسن في بعض البلاد، كان قد قرأ على حي القاضي حسن الحيمي بعض قراءة، لم يحصل له فيها فائدة. وكان له[10/أ] صناعة في كتب الإنشاء، فظن من لم يكن له معرفة أن عنده علماً، ولما وصل إلى بلاد كُحْلاَن وحجة حصل له من الناس الضيافات والإحسان، ثم إن صاحب حجة محمد بن حسين بن جحاف استماله إلى الوصول إليه، فوصل، فباحثوه فلم يجدوا عنده في العلم معرفة، وأدب بعض أهل بلاده عن ما فعلوه إليه من الإكرام والضيفة ونهاهم عن ذلك وزلجه، وأمره بعدم البقاء في بلاده، ثم أنه ركب البحر وصار إلى حضرة حسن باشا ولازمه، ثم بعد ذلك سار إلى جبل الطائف واستقر فيه هذه المدة.
وفي نصف جمادى الأولى لما تمت أعمال دخول برط، وكان علي بن أحمد صاحب صعدة قد استقر في بلاد أمْلَح عاد إلى صعدة، لما بلغه أن أحمد بن الحسن وصنوه محمد بن أحمد يريدون دخول صعدة، لما يحتاجون من التأهب للوصلة وكراهته دخولهم في البَطِنَة ، ثم إن الإمام ذكر لأحمد بن الحسن ومحمد بن أحمد بالعود، وعدم دخول مدينة صعدة، والطرق التي كان تدخل برط الملوك السابقون من جهات صعدة؛ لأنها سهلة لا يخشى فيها حوزة، ولا يوجد فيها عقبة ولا تعب ولا معرة [10/ب]، بخلاف طريق وادي النيل والمراشي التي تخرج من عِيَان ، فإنها مرافض وعقيب وملاوي غير صالحة لدخول الجنود، لما يخشى فيها من الخديعة عند التلاقي في الحدود. وقد دخل برط كثير من الأولين في زمان العباسية، وفي زمان الهادي دخله بنفسه، والإمام شرف الدين، وقرى جمعة في مدة سنان باشا هؤلاء دخلوه جميعاً عنوة، ودخله صلحاً الإمام أحمد بن سليمان والمنصور .
ومات على أحمد بن الحسن لما جاء هذه الطريق الشاقة -طريق المشرق- قريب سبعين حصان من الجوع والضمأ وعسرة الطريق والحفا.
وأحمد بن الحسن لما بنى على الحركة والارتحال قال لأهل برط: السيد محمد بن علي الغرباني النظر في أمره، فقال برط: هو جارهم، وعليهم الدرك لا يحصل شيء من جانبه ما دام عندهم، ولا يرضون أن يحصل من جهته ما فيه محق ولا أحد من قبائلهم يجيبه ما دام ساكناً وعليهم حفظه، فقال أحمد بن الحسن: لا بد من ضمانات[11/أ] من كباركم على صغاركم في هذا الأمر، وعدم حصول الخلل، فدخلوا في الضمانة وضمنوا بعضهم على بعض وقالوا: هذه أمانة ولا يجري منا لما يخالف ذلك خيانة. وأنشأ بعد ذلك السيد محمد الغرباني قصيدة وجهها إلى والده بصنعاء، وذكر في ضمنها إليه على من يعرفه بها بعد أن بالغ في مدح أبيه بالعبادة والزهادة، ثم ذكر عند ذلك قوله:
صلاة الإله ورضوانه
عليه نوافحها تنفح
وقد جرت عادة أهل الوقت من أهل الزمان التصلية على غير النبي عليه الصلاة والسلام، كما ابتدعه خطيب صنعاء محمد بن إبراهيم السحولي في خطبه، بعد أن لم يكن ذلك معروفاً لأحد من قبله، وقد عرف العلماء أن الصلاة تختص سيد الأنبياء لا غيره من سائر الناس، إلا على وجه التبع من الآل بعد ذكره÷، فأما على الإنفراد فلم يقل به أحد من العباد، وإنما يقول بذلك الرافضة.
من قصيدته هذه بعد أن خرج من مدح والده والتوجيه إليه ذيلها بقوله:
وعج ببني القاسم الأكرمين
ومن لهم في العُلا أودج
واتحفهم شريف السلام
وعاتبهم إن هم عرَّجوا[11/ب]
وقل ما لكم يا بحور الحجى
أتيتم بشيء بكم يسمج
جنودكم أقبلت
إلى رجل واحدٍ مزعج
وليس ثروة ولا ولد
ولا أوس ولا خزرج
ولم يأتكم منه ما تكرهون
سوى أنه قال ذا المدرج
وما قال إني إمام ولا الـ
إمامة عنكم لها مخرج
ولكنه قال إن كان ما
ذكرت هو المنهج الأوهج
فحي إليه إذا شئتم
والإ فما شئتم فانهجوا
وردوا عليَّ إذا شئتم
مقالي إن كان مستسمج
وهذه القصيدة هي من البلاغة بمراحل بعيدة، كما لا يخفى على أهل البصيرة، مع ما فيه من اللحن في قوله: (سوى أنه قال ذا المدرج) برفع القافية مع عدم الضرورة، فإنه كان يمكنه رفعه على وجه لا يكون العامل ناصباً له، وكذلك بعده البيت الآخر، ثم أوعد بعد ذلك بالفتن، وأن الدهر لا يؤتمن، وقد أشار بما ذكر هو ما اعترضه على الإمام وولاته وسيرته، وأكثرها غير قادحة، إذ من لازم الداخل فيها الجري عليها كما ذلك معروف لأحوال الأئمة، ممن مضى وخلف في هذه الأمة، وسواء كان هو متوليها أو غيره من أدانيها وأقاصيها، والسعي في جميع الأمور لصلاح المسلمين، لا للتفريق بين المؤمنين، فقد علم ما في الاجتماع من الخيرات وما في التفرق من المحق والشتات، والله يجمع المسلمين على الخيرات والبركات، وقد قال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَْرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } وقد ظهر من قصيدة السيد محمد المشار إليها استحلال الخروج على هذه الدولة، وأنه إنما سكن لعدم القدرة [12/أ]. وقد كان أرسل السيد محمد الغرباني في هذه المدة قبل دخوله برط برسالة إلى أحمد بن الحسن أو بعض أصحابه فيها مطاعن كثيرة في تكثير الجوار معه، ويجعلهن أمهات أولاد، وأنه تهور في تكثير الجوار، واتباعه للهوى فيهن والمبالغة في محاسنهن، ومتى كبرت الأولى بذلها وأخذ أخرى غيرها، وما زال في كل سنة بل كل شهر له سرِيَّة، وصار يتخيرهن ويستبدل بهن ويلبسهن الملابس الفاخرة، حتى لا يزال يبلغن أربعمائة خمسائة، ثم يخرج هذه ويخرج هذه، وهذا شيء لم يعرف بغيره من الماضيين ولا من غيرهم من السلاطين.
وخرج أحمد بن الحسن من برط ومحمد بن أحمد في غرة جمادى الآخرة منها، فكان سكون محمد بن أحمد ببرط قدر شهرين ونصف، وأحمد بن الحسن شهر وعشرة أيام، وجاءت طريق أحمد بن الحسن الزَاهِر ، ثم خرج الخَارِد والغراس، ومحمد بن أحمد جاءت طريقه خَمِر .
وفي هذا الشهر لما ولي الإمام بلاد الضِّحي ومور وخرجت عن ولاية النقيب سعيد المجزبي فسح لبعض عسكره، واستبقى بعضهم عنده، وسكن في كَمَران محله، وولده باللُّحيَّة لبعض الأعمال، وقد معه في النفس بعض انكسار.
وفي هذه الأيام طرد الحضارم الرسول الذي أرسله حسين بن حسن متولياً، وردوه راجعاً ومن معه، وقيل: إنه قتل من أصحابه رجلان أو رجل، فلما كان كذلك قال الإمام: الصواب ولاية الشيخ علي الكثيري ، وكان يومئذٍ عنده [12/ب] فجهزه إليها، ونظر أن تعبها أكثر مما يأتي من مصلحتها.
وفي يوم الجمعة ثاني وعشرين شهر رجب حصل قران المريخ وزحل ببرج الحوت.
وفي هذه الأيام ترجح لرجل، وهو أبو مؤذن مسجد الأبهر بصنعاء، أصله من سَيَّان سَنْحَان أن وجأَ بطنه بالسكين، وقد كان في عشر السبعين، وولده اسمه الفقيه صالح السياني، بعد أن كان أولاً شرع بذبح نفسه بيده، وسببه أن زوجة ولده وولده ما زالوا يخاصمونه ويستثقلونه ويتمنون موته وهلاكه، لأجل بخلهم بنفقته، والقيام بحاله، فغضب المذكور على نفسه، فختم له بأشر خاتمة، نعوذ بالله من ذلك، وإلا فكان أرض الله واسعة، وأرزاقه شاملة، ولا بد من نصيب عند غيرهم وسواهم.
وفي هذه الأيام أمر الإمام بأنه لا يرجع من الدراهم إلا ما هو أحمر، فأما (المقصوص) فماض.
وفي هذه الأيام غزا الشيخ الجيد إلى أطراف بلاد دَثِينة ، فقتلوا نفرين من عسكر حسين بن الحسن.
وفي هذه [13/أ]الأيام جاء خبر أن سيواجي رئيس الرازبوت ببلاد الهند من المجوس عضد بعض أقارب السلطان الهندي سلطان الإسلام، وغزا، الجميع بندر سرات فانتهبوه جميعاً، وأظهروا الخلاف على سلطان الإسلام، وهذا البندر هو أقرب البنادر في سمك البحر إلى بنادر اليمن، المسافة مع صلاح الريح قدر عشرين يوماً ما بينه وبين عدن، ومنه إلى محل سلطان الهند قدر شهريين براً.
وفي رمضان آخر الشتاء حصل مطر الربيع بأكثر اليمن.
وفي هذه الأيام جاء الخبر أن سيواجي اصطلح هو وسلطان الإسلام بالهند، وسكن خلافه، وأن الهند فيه خير كثير، وصلاح واسع ومطر غزير.
وفي هذه الأيام وقع في جهات البحرين في حدود البحر الفارسي فتنة، قيل: من الفرنج الهند خالفوا وانتهبوا البندر، وقيل: من جهة الفرنج انتهبوا أشياء في البحر قربة، ولعلَّ الخبر الأول أصح.
وفي غرة شوال خرج جماعة حجاج من العجم من بندر كنج إلى المخا وأخبروا أن الفرنج يُخشى منهم [13/ب] فإنهم مروا والعماني متحرز على أطراف بلاده منهم.
وفي هذه السنة تسَلَّط مارد في بعض بيوت صنعاء يقال: بيت السيد أحمد التاجر، وكان يؤذيهم ويحمل عليهم بعض مفاتيحهم ويردها قال: فطلبوا منه مرة طعاماً من طعام الزلابيا. قال الراوي: فلم يشعروا إلا وهو بين أيديهم، فأكلوا منه.
وفي شهر الحجة سعرت أسواق مدينة صنعاء في المكاسير، ومن قبل لم يعرف تسعير الدولة بل بالتراضي، فحصل بسبب ذلك رِكة مع الكسارين في البيع والشراء، بحيث ترك بعضهم ذلك الابتغاء، وغلق الحانوت ومضى، ومنهم من صبر على ما به من البلوى.
وفي حادي عشر القعدة كان تحويل السنة الرومية، فكان عند دخول الشمس أول درجة الحمِل، والمريخ في الثور، وزحل بالحوت، والمشتري بالأسد،والشمس والزهرة وعطارد بالحمل، والجوزهر الذنب بآخر درجة من الميزان، ثم تدخل السنبلة.
وفي هذه الأيام وصلت من صاحب عمان إلى المخا رصاص قدر ألفي رطل معونة لحرب الفرنج إذا خرج أحد منهم في السواحل، كل ذلك منه لأنهم خصومه، وكثرة ما جرى بينه وبينهم من الحروب.
وفي هذا العام حصل مطر الصيف واستمر إلى شهر محرم وصلحت الأرض.
وفيها مات الشيخ العارف الصوفي محمد بن الشيخ طاهر بن بحر ببلدة المْنُصورِية بتهامة، وكان على طريقة والده الشيخ طاهر بن بحر في إكرام الضيف والثروة، وخلَّف ولده عبد الباري[14/أ].
وفيها مات الشيخ السيد إسماعيل بن إبراهيم الحضرمي ببلدة لَكَمة بن سليم، ما بين الحَيْمة وحَرَاز وكان ساكناً فيها من مدة مع ضعف هواها ووباها، وكان مكرماً للضيف، ما أحد يمر إلا وأغاثه؛ لأنه على طريق حراز، وكان كثير النذور من القبائل، وما دخل يده أنفقه رحمه الله، واتفق مع رجل أنه لما عبر الطريق وهذه البلد صادف بعض جواري الشيخ تغرف الماء من المورد فكأنه راودها عن نفسها، فبلغ الشيخ، فدعا عليه، فجن في الحال والوقت وتغير عقله، وبقي كذلك برهة من الأيام مكبلاً بالحديد، ثم إنه عَكِب أيضاً بعد ذلك ثم لم يلبث أن مات.
ودخلت سنة اثنتين وثمانين وألف
استهلت بالأحد بالرؤية، وحصل قران المريخ بالزهرة، في نصف محرمها بأول برج السرطان.
وفي مدخل يومين أو ثلاث وصل الخبر إلى صنعاء من طريق السراة أنه وقع بمنى عند جمرة [14/ب]العقبة واقعة عظيمة، وذلك أن اثنين قيل: أحدهما من هُذَيل وآخر من أصحاب الشريف رميا الباشا حسن، قيل: ذلك بأمر الشريف سعد وهو أنكره، فرميا الباشا حسن وكان غافلاً ساكناً حال رمي جمرة العقبة من رأس اللكمة التي جنوبي الجمرة يقعد فيها أهل اليمن للفرجة على الناس حال الرمي للجمار، رمياه في حالة واحدة برصاصتين أصابته إحداهما في فخذه ونفذت إلى حصانه فسقط في الحال،، والتفت أصحابه الحاضرون عنده للضرب بسيوفهم فيمن عندهم، فقتلوا في الحال قدر ثلاثين نفساً، وانهزم الناس وهربوا، وحصلت فيهم صولة شديدة وحالة كبيرة،ومنهم من زال عقله لحصول ذلك الحادث على حين غفلة، وقتلوا من كان في المقهاية التي تجعل عند جمرة العقبة تحت هذه اللكمة، ومن جملتهم مقهوي من صنعاء كان فيها. وكان هؤلاء القتلى مجموعين حجاج وفقراء، فالذي عُرِفَ منهم من اليمن المقهوي المذكور، وآخر من بلاد عتمة، وآخر من بلاد رداع، والآخرون من حُفَاش [15/أ]، ثم من سائر الأرض، وحصل النهب في أطراف منى، والشريف كان في محطته يومئذٍ، فجاءه الخبر أن الباشا قد قتل، فركب وركب أصحابه ودرَّع وخوَّذ. فلما قَرُبَ منهم رأى القتال واقعاً والضرب بالسيوف لامعاً، قهقر ورجع إلى محله، وضم من عنده، وفي محطته. والباشا أدخله أصحابه التختروان وتقدموا إلى مكة بالعساكر والركبان، فدخلوها في النفر الأول وسكنوها، والشريف دخل بعد ذلك وحده، وأمر أصحابه وجنده قبله. واختلفت الأخبار في شأن الباشا حسن، فمنهم من قال: قتل ومات في الحال، ومنهم من قال: إنما اصتاب فقط وسلم وهو الأكثر، والأخبار بعدبه أشهر. ومن الحجاج الذي شهد هذه الوقعة وسلم بعد أن كان رأى
نزيف السيوف، والأمر المسلم وصل إلى اليمن وعاد بعد حجه، وقد تغير عقله، وما زال يهذي في نومه ويقظته بالسيف السيف، حتى لم يلبث أن مرض ومات بعد عوده. وهذا الأمر الذي جرى في حرم الله وأمنه ما كان[15/ب] يحسن فعله والله يقول: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } ولا سيما في هذه الأيام الشريفة، والمواقف المباركة، والأيام المعلومة على تلك الحال والصفة، ولا سيما ما كان سبب ذلك من قتل هذه النفوس، في ذلك المحل المأنوس. وكانت هذه الواقعة يوم الأربعاء وقت الظهر النفر الأول، إذ كان عرفة هناك يوم الأحد والعيد يوم الإثنين. وكان الباشا ما تم الرمي للجمرة، وإنما كان رمى ثلاث حصى، فلما اجتمع الناس بمكة حصل الخوف والحذر من ثائرة الفتن، وبطل أكثر البيع والشراء والأسباب، لعدم الأمن على الأنفس والأموال، حتى ينفصل أمر ذلك الحال، مع أن هذي الفعال لا يبعد أن تكون سبباً لتحريك السلطان وإيقاظ الفتنة وهي نائمة، ولله قول الشاعر:
أمور يضحك الجهال منها
ويبكي من عواقبها الحليم
وقال الأول: من لم يفكر في العواقب فما الدهر له بصاحب، ومن أراد عظيماً خاطر بنفسه وماله، وقد جاء في الحديث عنه÷: ((الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها ))، ولكن إذا جاء القدر عمى البصر. ومن الناس من قال: إن الشريف قال: إن الباشا حسن ظهَّر له بالإمارات أنه كان يريد بعد دخول مكة القبض[16/أ] عليه وإزالة ملكه وأمره ونهيه، وصرف الأمور إليه، والله أعلم، وتأخر الحجاج الذين يصلون من البحر، ولم يصل من الحجاج في هذه الأيام إلا أهل السراة فقط، وسببه عدم التمكن للسفر من مكة إلى جدة للخوف، ثم وصل أهل البحر عقب ذلك. وأخبروا أن بعد ثامن عشر شهر الحجة الحرام اجتمع حجاج اليمن الذين بمكة ودخلوا إلى الشريف سعد يشكون التضرر بالنفقات، وأنهم يريدون السفر فوعدهم بالجواب ثاني النهار، ثم إن الشريف طلب أمير حاج الشامي وجلس هو وإياه في الخلوى، ثم إنه خرج من عنده وسار إلى بيت الباشا حسن، ثم تعقب اليوم الآخر وأمر الناس بالنفير، وفي صحبتهم من قبل الباشا حسن آغا ومن قبل الشريف آغا، وعسكر وساروا إلى جدة، وسكن الآغا بمحل الباشا والذي من قبل الشريف بمحل آخر، ثم إن الباشا بعد هذا الأمر خرج مع أمير الشامي في التختروان وظهر للأشراف أنه عازم بلاده، وراجع إلى حضرة السلطان [16/ب] واعتاده، فلما وصل الباشا إلى المدينة النبوية دخلها وسكنها واستقر بمن معه فيها، وقال لا ينفصل عنها حتى يصل جواب السلطان، فاستقر الأمر كذلك هذا العام جميعه. وخرج له من مصر مادة استدعاها خشية من سعد لا يتعرض ويقصد بجموعه إليها، فخرجت الزيادة والإمداد، وقوي جأشه بذلك وبما خرج من الطعام والإعداد، والشريف بقي بمكة على حاله.
واتفق قران المشتري والزهرة في برج الأسد والزهرة كثيرة القران لسرعة سيرها.
وفي هذا الشهر ولدت امرأة للحوتره من أهل شعوب عجلاً فبقي قدر يومين ومات.
وقد كان بعض جيش سعد خرج من مكة إلى جهة المدينة يقال: رئيسهم حمود، فلما وصلوا بدر بلغهم خروج زيادة من مصر، فلم يبلغوا إلى المدينة، قيل رجعوا إلى مكة. وأخبر الحجاج بصلاح الحجاز ونجد جميعاً وتهون الأسعار بمكة والأعلاف بعد تلك الشدة، وأن الخير متصل من مكة والمدينة إلى صَبْيَا .
وفي شهر ربيع الآخر طلع علي بن الإمام إلى حضرة والده الإمام.
وفي هذا الشهر اتفق أن السيد جعفر بن مطهر الجرموزي متولي العدين هرب بعض أصحابه إلى مشهد الشيخ [16/ب] صلاح، فأمر السيد بإخراجه من الحوزة فلم يساعده أحد فسار بنفسه وأخرجه.
قال الراوي: فخرج عليه جيش عظيم في مجلسه ومكانه، وما زال يراه في كثير من أوقاته فسار إلى المُذَيْخِرَة ، فلم يشعر إلا بذلك الجيش أطل عليه من باب مكانه، فصاح وحصل معه بعض طيش ووحشة.
وكان السيد جعفر قد تَقَبَّل بلاد العدين هذا العام بقبال كثير يقال: كل شهر ستة آلاف، فجار على الناس بسبب القُطْفَة والقبال.
وانتهب هذه الأيام قافلة خرجت من جدة إلى عند الباشا حسن مجموعة طعام ورصاص، مع أنه صار يخرج السياق إليه من مصر بحراً إلى يَنْبُع ، ثم يصل إليه.
وروى لي بعض أهل مكة يسمى لطف الله يقول: إن الشريف ادعى أن الباشا حسن ما أظهر مرسوم التولية، وأنه حضر مجمعه أول وفوده، وطالبه في المرسوم يحضر إلى هنالك ومشائخ الحرم فلم يظهره قال: ولو أظهره سلم له الأمر.
قال المذكور: وكان قد ظهر للشريف وأهل مكة أن الباشا حسن باقي في تلك السنة القبض على الشريف سعد بالقهر، ولذلك دخل من جدة بقوة العسكر والمدفع وإظهار الأمر، وأمر الخطيب برفع ذكر سعد، وأظهر الأمر جميعه له، وما يفعل ذلك إلا بأمر السلطان.
وفي هذه الأيام ارتفع سعر مكة؛ لأجل تناقص السياق من جدة، فقيل: إنه بلغ القدح إلى خمسة حروف. وتفرق كثير من أهل مكة يومئذٍ في الآفاق، وكذا من أهل[16/ب] المدينة أيضاً والحجاز، فمنهم من سار إلى تهامة وزبيد وبيت الفقيه ، ومنهم من طلع الجبال بأولادهم، ومنهم من طلع بلاد الطائف ونجد.
وفي شهر جمادى الأولى خسفت القمر في برج الحوت بعد طلوعها بساعة، فطمس الخسوف جميع جرمها أوله بسواد ثم تغشاها بحمرة، وكان الخسوف بالرأس بمصاحبة زحل، ومقابلة المريخ للكسوف بالسنبلة، واستمر الخسوف وقتاً طويلاً، منهم من يقول: ست ساعات، ومنهم من يقول: خمس.
وفي هذه السنة تغير حساب أهل الذمة من اليهود -لعنهم الله- في مواقيت أعيادهم على الشهور الرومية، فقدموه على وقته بقدر شهر كامل، جعلوا سبت السبوت هذه السنة في أول شهر جمادى الأولى، وهو في آخره على حساب جدول الحاصي وغيرها، فدل على تخليط حصل معهم، ورجعوا في العام الثاني إلى الواقع، والعام الثالث رجعوا إلى التقديم، كهذه السنة بشهر، وكذلك عيد الفطر خلطوا فيه تخليطاً كثيراً، فهو يكون مستمراً بعد فصل الصيف، فجعلوه في بعض هذه السنة آخر الصيف عند سقوط الثريا وغروبها، وإنما يكون عيد الفطر عند غروب الظافر وطلوع السماك بعد الصيف.
وفي شهر جمادى الثاني وصل السيد عبد الكريم بن باز من عتود، ومعه قدر ثلاثين نفراً وافداً إلى الحضرة العالية للإمداد بالسلاح والمال، ليستعين به على البقاء في عتود ودفع القبائل وتنفيذ أمر الشريف؛ لأنه ولاَّه هذه السنة لعتود وأمره بالبقاء فيها، فبقي عند الإمام خمسة أشهر، ثم زلجه الإمام في شوال، وأعانه بما طلب وسار[17/أ].
وفي هذا الشهر عرض الإمام على ولده أحمد ولاية بلاد ذَمَار فأباها وقال: يريد الإذن له في عودة شِهارة ، وتوليته لبلادها، لمحبته للوطن، كونه نشأ فيها، فولاه نصف بلاد عِذَر ، وامتدت يده في الآداب أينما نهى وأمر، وعارض بذلك حسين بن الإمام المؤيد في أمور كثيرة، وصار يقالله فيما يفعله من السيرة، حتى أن الشاكي إذا شكى إلى حسين بن المؤيد، وفرض عليه من الأدب والأخذ باليد نقض ذلك أحمد المذكور عمل ابن المؤيد، فحصل في نفس الحسين كظم الصدر من هذا الأمر، وعدم التوقير للكبير، وما يتوجه من المراعاة من الصغير، حتى بلغ به الحال أنه لما وفد عيد الأضحى في بعض السنين خرج عن شهارة، كراهة للاجتماع لما رأى من هذه الأمور المنهارة، وأظهر التمشية بذلك قبيل العيد، وعيَّد في قرية الصَّايَة ودخل بعد مضي العيد. وقد صار هذا الأمر في هذه العالة الآخرة هو الغالب لهم والسجية، حتى لقد قوض بيارقه وطبوله توقياً من ثائرة الاشتجار والفتنة لما رأى من شدة النخوة، وكتب إلى الإمام يعذره عن الأعمال وكان ظنه، أن الإمام ينهى ولده عن المعارضة له، فجاء الأمر، خلاف ظنه فاغتم من ذلك الأمر، وأمر الإمام لولده أحمد حينئذٍ يريح وطبوله والعَلَم لعسكره.
ويروى أن الإمام كان أمره بالخروج على الحرامية بتهامة، فاعتذر، فما زال حاله إلى الانصياع، حتى مات أمره وضاع.
وفي هذه الأيام سار كثير من أهل كوكبان وشبام إلى الحضرة العالية شاكين من الأمير عبد القادر بأنه تأخر بعض ما يعتادونه من التقارير لهم من الماضي والحاضر، فأرسل الإمام معهم الفقية محمد بن عز الدين الأكوع، الذي كان مع الحسن بن الإمام[17/ب] القاسم خازناً ومعاوناً، فأراد العذر لكبر السن، فألح عليه الإمام وقال: المراد إنما هو المشارفة على محصول البلاد، فسار المذكور واطلع على الدفاتر، ورقمها للإمام، لمعرفة الماضي والحاضر.وكان خرج مع الخارجين من شبام وكوكبان السيدان محمد بن إبراهيم بن مفضل ، والسيد يحيى بن أحمد الحمزي واستنكرا ما كانا يألفان من الأمير ناصر من الإحسان وقبول الشفاعات والإجلال، غرراً منهما، وعدم معرفة حال غيرهما، فوصل السيد محمد إلى وادي ضَهْر ، سكن وعمر فيه داره، والسيد يحيى شرى داراً بصنعاء وسكنه، ثم ندما بعد شراء ذلك وتأسفا لما عرفا بالحالات، وأن التقصير من عبد القادر إحساناً كما قال الشاعر:
وبضدها تتبين الأشياء
وفي هذا الشهر جاءت الأخبار بأن القضية الواقعة في مكة لما وصلت مسامع السلطان، وعرف حقائقها بالتقرير والبيان، اغتاض من ذلك وأبرزت أوامره إلى مصر بأن (بينه عاد) جدة والباشا حسن حتى ينظر، فأمر صاحب مصر بعينه إلى جدة.
وفي هذه الأيام سُرق بيت القاضي علي بن جابر الهبل ، قاضي الشريعة بصنعاء، وكان المذكور في الخريف بأولاده، فراح بعض شيء كان وديعة لأيتام قاصرين، فحصل اشتجار بين الوارم المحتسب على المدينة وبين أصحابه، أرادوا قسمتها بينهم، فغلب المحتسب عليها، فأخبر أصحابه والي المدينة أنها مع المحتسب، وأنه السارق لها، وأنها في موضع كذا، فوجدت كما وصفوا، هذا هو الأصح في خبرها، وقيل: أنه عرض أمرها على الفقيه أحمد[18/أ].
وفي هذا الوقت يسر الله لي تمام تبييض مصنفي (الاقتباس) إلى آخره بحمد الله، الذي اشتمل على خمسة فنون: النحو، والصرف، والبلاغة، وأصول الفقه، وأصول الدين، في أربعة مجلدة، وكان الفن الآخر توسعت فيه، فكان في مجلدين، نصف الكتاب أو يزيد عليه، واستوفيت الكلام في أصول الدين، ونقل أقوال العلماء من أهل السنة وأقوال السلف وأقوال المعتزلة والأشعرية والحنفية والمالكية والحنابلة، مما ساق الدليل إلى قوة مذهب السلف ووافقه أهل السنة، ولما كان المنصف من أهل هذه البلاد كالعدم، والتقليد قد لصق بالأكثر، وعم. قلت:
في مثل تقريري لا يحسن العذل
وإنما الناس أعداء لما جهلوا
رأوا تخير قولي في علومهم
فأوسعوا القول إذ ضاقت بي الحِيَلُ
لو أنهم عرفوا في الحق معرفتي
لشأنهم عذروا من بعد ما عَذلُ
ياجاعلي خبري بالهجر مبتذلاً
لا عطف منكم ولا لي عنكم حِوَلُ
رفعت حالي ورفع الحال ممتنع
إليكم وهو للتمييز محتَمِلُ
كم كتمت حقائق علمي لا أبوح به
والأمر يظهر والأخبار تنتقلُ
كيف السبيل إلى إخفاء سنته
والقلب منقلب والعقل مقتفلُ
وبت أخفي أنيني عن أن أبوح به
توهماً أن ذاك الجرح يندملُ
لأنني في بلاد لا يعرفون سنته
ولا ما يقول الرسول والكملُ
وسرت أراجع مسترشداً دفاترهم
لا يصدق القول حتى يصدق العملُ [18/ب]
غابوا وألحاظ فكري تمثلهم
لأنهم في ضمير القلب قد نزلوا
وخلفوني أعض الكف من ندم
وأكثر الذكر لمَّا قلت بي الحيلُ
مع أن الاتفاق بين أهل السنة والمعتزلة ومن وافقهم من الهادوية أنه لا يجوز التقليد في أصول الدين، وقد أمعنت النظر في الآيات القرآنية والتفاسير الأثرية والمعاني العربية والأحاديث النبوية والنقل للأثار عن الصحابة والتابعين وعلماء السلف الماضين من أهل البيت الأولين، وغيرهم من العلماء العاملين، فلم أجد عقائدهم إلا على مقتضى عقائد أهل السنة المحققين، كما نقلنا أقوالهم، وتتبعنا آثارهم أجمعين. وقد جريت على ذلك المنوال، باتباع الأدلة والآثار في المسائل الفقهية، وصنفت أيضاً في ذلك كتابي (الدلائل) في ثلاثة مجلدة والله الموفق للصواب [19/أ].
وفي هذه الأيام دخل جماعة من الفرنج الملاعين إلى جزيرة سقطرى من بلاد المهري ، فصالحهم، وسكنوا في مكان منها يقال له: (قَشَن ) . وكان قد أهم الإمام بتجهيز زيد بن خليل الهمداني، ودفع الفرنج عن القرار بساحل بلاد المهري، ثم أنه بلغه في خلال ذلك الأمر المذكور تجهيز محمد شاوش من مصر إلى جهات مكة وتلك الثغور، فترك ما كان أهم به أولاً وطوى شأنه طياً.
وفي خامس شهر ذي الحجة وصلت كتب من الشُّقيقْ وجازان يذكرون أنه بلغهم خروج محمد شاوش من مصر بجنود معه، وأصل محمد شاوش هذا من اليمن.
وفي عشرين ذي الحجة وصل كتاب من جازان يخبرون أن حال عزمهم من جدة، ووصل محمد شاوش بقدر ثلاثة آلاف، سابع عشر شهر القعدة، وطرحوا خارج مكة قيل: بالعمرة وقيل: ببركة ماجد[19/ب]. والشريف سعد عند ذلك أمر بلال من المماليك إلى محمد شاوش لأجل الكسوة، فأعطاه محمد شاوش المعتاد، وسكن بذلك الوهاد، وذكروا أن حال عزمهم من جدة، وقد بلغهم تجهيز الوزير حسين مع المحمل الشامي.
وفي آخر يوم من شهر الحجة وصلت كتب الحاج فرحان ومن الحجاج يذكرون أنهم وصلوا إلى السعدية المباركة ومحل الإحرام، للدخول إلى البيت الحرام، ووصلتهم كتب الشريف سعد بن زيد صاحب مكة فيها التحذير عن الدخول والرجوع من ذلك المكان من غير تراخي ولا توان، وأكد بذلك رسولاً آخر بمثل ذلك، وكان البعض قد أحرم، فلم يسع الجميع إلا العود والمسارعة، وشد العزيمة للسفر من غير مراجعة. وذكر الشريف سعد أن السبب أنه دخل مكة حال تصدير كتابه حسن بيك في عسكر كثيرة وخيل عديدة، وقد كان تقدم محمد شاوش بتلك المحطة، وأن المحامل في أثره ما قد وصلت، وأن الجملة للخيل الداخلة حول ألفين، ومن العساكر[20/أ] على المطا حول خمسة آلاف راجل، على كل مطية راكبان معهما بندقان ومعهم من الدِباب.
قال في القاموس: الدبَّابة مشددة آلة للحرب وقد كان يتخذها بنو أيوب وبنو رسول باليمن في مدتهم، وعلي بن صلاح كان يتخذها كما في سيرته. ووصف لي بعض من كان حاضراً بمكة وقاطناً بها هذه المدة يقول: جملة عدد عسكر الوزير حسين لما أقلموا للعدد بالقلم عقب الموسم إحدى عشر ألفاً من غير الخيل والخدم، فرجعوا من السعدية يوم رابع شهر الحجة،وكان أرسل فرحان ببعض الوديعة التي معه إلى الشريف سعد، بعد أن أرسل لها وهو يومئذٍ بمكة فقبضها، ووقع مع أصحاب فرحان بالهضب وقعة، فراح من القبائل أربعة أو خمسة، وسببه أنهم أغاروا على آخر القافلة حال الشداد، وقد سار أولها، فارادوا الانتهاب لآخرها، فمنع أهلها وارتجموا، ثم عاد فرحان عليهم ورماهم بالبنادق، فراحوا بعد ذلك وهربوا، وسلمت القافلة من النهب. واستمر سير الحاج فرحان ومن معه في الليل والنهار حتى بلغوا القُنْفُذَة ، وكتبوا الكتب إلى اليمن بحراً منها وهم جاءوا براً، وخرجوا إلى أبي عَرِيْش ، ولحق وزير سعد إلى حَلْي [20/ب] هارباً ببعض أولاده ومماليكه، واجتمع بفرحان حتى وصل معه إلى حضرة الإمام بضوران. وهذا هو السبب الذي أشرنا إليه سابقاً من الجاري من الأشراف بمكة المحروسة، وما غرسوه من هذه المحنة على جملة المسلمين كافة في حرم الله وأمنه، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي هذا الوقت والحين وصل الخبر من بندر المخا، وذلك المحل الأقصى يذكرون أن الفرنج الذين تقدم ذكرهم وصلت خشبها، وركزت في ساحلها، ومنعت الداخل إليها وجملتهم أحد عشر مركباً، فكتب السيد الحسن بن مطهر صاحبها إلى ما قرب منه من العساكر للتحفظ على البندر من ثائرة الساكن، فوصل إليه صنوه من العدين في أربعمائة نفر، ومن زبيد حول مائة نفر، ومحمد بن أحمد بن الحسن استقر بحيس إذا احتيج إلى غارة وصل، فاستقر الأمر هكذا. وأهل المخا محافظون على دواير البندر في الليل والنهار، وقلعة فضل فيها رتبة من قبل السيد الحسن قدر شهر كامل لا يدخل إلى البندر داخل من [21/أ]البحر، ثم وقعت المراسلة بين السيد الحسن وبين الفرنج للصلح. وكان أول مطلبهم أن يسلم السيد الحسن جميع قيمة ما راح على أصحابهم فيما مضى لما قصدهم أصحاب العماني إلى باب المخا، فأجاب عليهم السيد: إنكم سلموا ما أخذتم في باب المخا على المسلمين ونحن نسلم ما راح عليكم من المسلمين، فقالوا: بعد ذلك يسقط على من دخل المخا منهم بسبب ما زاده السيد زيد من المأخوذ عليهم، ويجري ما كان سابقاً من وقت الحسن بن الإمام لهم، فأجابهم السيد الحسن إلى مطلبهم، وعقد الصلح بينه وبينهم ودخل منهم البعض الذين معهم، وسار الآخرون بلادهم. هذا جملة خبرهم، وقيل: إن السيد الحسن بذل لهم شيئاً من المال، والله أعلم.
وفيها شرع أحمد بن الحسن بإخراج غيل عند الحمراء ، فلما استمر العمل في ذلك المجرى انهدم على الحفَّارة، فهلكوا فيه على تلك الحالة، قدر سبعة رجَّالة، فترك عند ذلك تمام أعماله.
ودخلت سنة ثلاث وثمانين وألف
في غرة محرمها كان استهلالها بالخميس بالحساب، ولعله بالرؤية كذلك، واتفق عند ذلك حلول زحل آخر برج الحوت، واتفق قران[21/ب] الزهرة وزحل ببرج الحوت.
والشريف سعد يومئذٍ خاف من الأمور التي وقعت، والأفعال التي صدعت مما وقع في البيت الحرام، ومن جعله الله أماناً للإسلام، وما وقع فيه من الآثام، وقتل النفوس تلك الأيام، وتروع باله، وخشي من الوثوق به وقطع حباله، فما زال أيام الحج يبعد ويقرب وهو على حذر، خشية أن يقع به الظفر، فوصل عرفات وهو غير آمن ثم نزل إلى منى، وأصبح يوم النفر الأول هارباً إلى جبل الطائف، ولم يتفق بأحد من الأمراء والبوايش، للخوف معه والوجل، وما قد حذره بعض أصحابه من الوقوع في الخلل. فلما هرب حصل عند ذلك من قبائل هذيل النهب لمن لحق في أعقابه بوادي نعمان ، وكان من جملة اللاحقين النافرين بعد تمام الحج إلى عصبة من حجاج اليمن، فانتهبتهم قبائل هذيل وخلسوهم حوائجهم وقتل منهم جماعة، لم يسلم ما عليه من ثيابهم. وكان زيد بن محسن لا يرضى ساعة الدخول بأمير حاج من اليمن[22/أ] إلا أن الإمام أرضاه بما يدفع إليه من الهدية صحبة الحاج اليماني من المال، فسكت عند هذا وتغاضى، وأجاز الداخل مع كراهته في الباطن توقياً من ظهوره عند السلطان وما يخشاه منه إذا تحقق أمره وبان، غير أنه ما زال مع ذلك يكاتب السلطان، ويدفع عنه جميع الأوهام ويدري كل ما ظنه في جميع الأزمان.
وكان بينه وبين باشا مصر مصافاة كاملة، وأحوال صالحة، فكان عوناً للشريف زيد في مقاصده وسد خلله، وكان الشريف زيد عاقلاً قد بلغ عمره إلى عشر السبعين. ولقد حكى بعض من كان يخالط الأمير المصري رضوان تلك الأيام، وكان رضوان هذا كبير السن أيضاً، فقال الأمير رضوان لذلك الرجل: ما سبب هذا العسكر من صاحب اليمن؟ فإن هذا البيت من دخله كان آمناً فلا يحتاج إلى مثل ذلك، ولا يخشى يُصد عن الدخول ولا شيء من المهالك، فأجاب الرجل بأن قال: ليس هذا لأجل دخول مكة وحجها، ولا لشئ من أمرها، فإن الأمر كما ذكرتم، وإليه أشرتم[22/ب]، وإنما ذلك لأجل حفظ الحاج في الطريق من الحرامية ومن يريد الأذية، فسكت الأمير. وكان الشريف زيد يداري الأمراء، فطفي ذلك في وقته الخلل وصفى بعد ذلك السبب الأصلي، سبب آخر وهو ما جرى من قضية حمود في الصفراء عقب موت زيد بن محسن من تلك الفعلة التي تقدم ذكرها وشرحها. وكان قبلها ما جرى بين سلطان البصرة حسين وبين باشا الحسا عيسى بن علي باشا من الإختلاف، كما سبق ذكره، وما رفعه الباشا عيسى من العروضات والشكوى بعد هربه إلى مكة أيام زيد بن محسن، فكان هذا أول أسباب انقلاب نظر السلطان محمد بن إبراهيم بن عثمان إلى الجهات الجنوبية والجهات الحجازية المكية، فأزال الباشا حسين صاحب البصرة، كما سبق ذكره، ثم لما كان قصة حمود في الصفراء كما سبق ذكره فأرسل الباشا حسن إلى مكة، وهو من جملة من كان بمالطة [23/أ]، فكان من أمره ما كان، وكان السبب الثالث: هو ما وقع معه من تلك القضية المتوجبة لهذه الأحوال المتغيرة لأشراف مكة السابقين، وإزالة دولة سعد عنها وتحويلها إلى من ذكرنا فيها. ولله الأمر من قبل ومن بعد، وما قد علم الله وسبق كان.
ولما وصلت هذه الأخبار المكية، والحركات الرومية، وبلغت البلاد الحجازية إلى الإمام وأولاده، وكانوا في غفلة عظيمة، وذهول عن شيئ من هذه الحوادث التي لا تخفى على أهل الفِكَر السليمة، فانتبهوا عند ذلك من الغفلة، وظهر معهم كواذب تلك الآمال المتقدمة، بعد أن كان قبل ذلك إذا قيل لهم الأروام لا ينبغي تحريك جهات السلطان، أجابوا بأنهم قد ركوا وضعفوا وليسوا الآن كما كانوا. وهكذا أجاب به الإمام عليَّ لما نصحته نصيحة هي في التحقيق عامة لصلاح الإسلام وقلت له: الأولى طي الأسباب الفاتحة لأطراف بلاد السلطان، فلما كان الأمر كذلك حارت بهم الأفكار، وتبلدت[23/ب] القرائح والأنظار حتى أن الإمام كتب إلى أحمد بن الحسن وولده محمد يطلب شورهم وما يكون من أمرهم، فأجابوا عليه أن التغافل أولى، والسكون والتسكين أحرى، وغاية الأمر أن يسكن فرحان بعد عوده من الحج بأبي عريش، فأصابوا من الرأي بعضه بعد من (وطاهم أوله). ولما وصل فرحان إلى أبي عريش سار الذين معه من الحجاج بيوتهم، ولم يبق معه إلا جماعة قليلة فتقدم، فلما وصل فرحان إلى حضرة الإمام من طريق تهامة وطلع من بيت الفقيه إلى ضوران هدأت الأمور يومئذٍ، ووصل خبر تحقيق الحج بمكة، فأخبروا أن الحج تم للناس، والبيع والشراء والأمان أحسن مما كان؛ لأجل ضبظ العساكر.
ووصل ثاني عشر شهر محرم أول بني عَضِيَّة من حجاج الجبال، وأخبروا بما حدث معهم بوادي نعمان من الانتهاب، واستقرار سعد بالطائف، وأن المحامل عادت، وعاد الوزير حسين مع الشامي[24/أ] ومهد الحجاز وشد الوطأة على عَنَزة ولام ممن ظهر منه الفساد في الانتهاب للشامي من العام الماضي، ووصل عقب ذلك الزوار فأخبروا بقوة الأمان في المدينة المشرفة والحجاز وما بين مكة والمدينة في الغاية وزال الخوف الذي كان فيما مضى، وصلحت الأحوال بعدما قد جرى، وأن المحق والتغيير إنما هو فيما وراء مكة وخلفها إلى جهة اليمن، فالبلاد متغيرة، والقبائل عاصية مخوفة، هذا ما تقرر الخبر. وذكروا أيضاً أن حال مرورهم، والذين بقى بمكة من عينات العساكر العثمانية السلطانية في نية التقدم إلى قصد سعد لمناجزة أمره، وأن سعداً يبلغهم[24/ب] أنه يريد الخروج من الطائف متوجهاً إلى بلاد بجيلة والله أعلم. وسألوا عن حسن باشا، فاختلفت الأخبار، منهم من يقول: أنه كان قد مات بالمدينة في شهر شعبان من السنة الماضية، ومنهم من يقول: أنه عاد إلى حضرة السلطان، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وفي شهر محرم وصل واصل من التجار إلى مدينة صنعاء من طريق البحر الشرقي إلى بندر عدن وأخبر أنه كان في العام الماضي بمحروس مدينة حلب بالشام، وجاء الخبر إلى هناك بواقعة مكة، وما جرى فيها من تلك الفعلة، قال: فأخبر الناس هنالك أن حسن باشا قُتل، مثل الخبر الأول الذي جاء إلى اليمن سواء.
قال: وشاع بمدينة حلب أن مكة استولى عليها إمام اليمن، وتعاضد هو والشريف سعد بن زيد وأذن فيها بحيَّ على خير العمل. ثم وصلت الكتب من حسن باشا عقب ذلك بالتحقيق من المدينة المنورة بعد استقرار حسن باشا بها، وكتب بكتاب إلى باشا حلب وآخر إلى السلطان، فكان ما جهزه السلطان.
وفيها انتهبت سِحار وآل عَمَّار قافلة كانت خارجة من صعدة فيها دراهم كثيرة؛ لأجل الموسم مصدَّره إلى المخا وصنعاء، وسببه أن صاحب صعدة كان هذه الأيام عند المتوكل بضوران، وكان في صحبته عنده شيخ البلاد، لم يقض له غرضه وطال عليه المقام، فسار بغير زلاج، وفعل هذا عند وصوله قيل: ولعل صاحب صعدة سعى به فيه.
وفيها عزل أحمد بن الحسن فرحان عن ولاية بندر عدن وولَّى غيره[25/أ].
ولما سار علي إلى صعدة سعى في رد البعض مما أخذوه وما استولوا عليه وما حفظوه، فرد البعض وراح البعض، ثم ما زال عقب ذلك التخطف خارج صعدة للغادي والرايح، وكف أكثر التجار عن الإرسال بالمال، خشية من نهب القبائل وعدم الاحتفال.
وأحمد بن المؤيد صاحب عيان أرسل مع بعض القوافل جماعة من عسكره إلى باب صعدة.
ووصل الخبر أن صاحب الشحر أمير الدين العلفي لا ينفذ له أمر في غير البندر، فصالح القبائل وسكن.
وفيها مات الشيخ المسمى شلوبع-بالشين المعجمة ثم باء موحدة- كان المذكور بمدينة صنعاء اليمن مجذوباً مخلوعاً، له رواتب يرتب بها من الأسماء لله الحسنى، يدعو بها في كثير من أوقاته وصلواته ويلحن فيها؛ لأنه رجل عامي، قيل: إصابه الجذب بسبب الأسماء، وكان يبيت بالليل في سمسرة وهب التي خارج باب اليمن ، ويستأجر واحداً من الذي في السمسرة بربطه وحراسته حال نومه؛ لئلا يخرج شارداً من الذي يعتريه من الجذب منها، ويدخل النهار المدينة يطلب الصدقة في الأسواق، ويصلي في بعض الحالات بجامعها. وكان قد شاخ وكبر وضعف. ولباسه[25/ب] قميص من ثوب خشن، وعمامته خِرَق وخيوط، وقد يستحد لسانه ويشتم من عانده بالكلام الفاحش، نسأل الله التوفيق وحسن الخاتمة.
وفي ربيع الأول من هذه السنة لما بلغ دُهمه من برط فعل آل عمار من الانتهاب بباب صعدة جزاهم على فعل مثل فعلهم، فخرج جماعة منهم إلى رأس المصراخ وسط برط ونوروا للسيد محمد بن علي الذي عندهم، والسيد فرح بذلك؛ لأن الدعوة مضمرة في خاطره إن أمكن، ولما اعترضه في ذلك من اعترض قال: مذهبه صحة إمامين في وقت واحد، وقد سبقه إلى ذلك السيد محمد بن علي الحيداني كما تقدم ذكره فلا قوة إلا بالله. مع أن السيد محمد المذكور قد أنشأ في هذه الأيام قصيدة باعتقاده إمامة الإمام، وعدم الخروج على الإسلام. وكان سبب هذا أن الإمام كتب إلى برط أن يسلموا زكاتهم إلى ابن أخيه أحمد بن المؤيد إلى عيان، وأن من له تقرير من القضاة كان من عنده، فلم يساعدوا في ذلك الأمر وقبضوها القضاة، وفي خلال ذلك غزاهم قبائل وايلة ، فقتلوا من برط اثنين وانتهبوا عليهم مواشيهم مرتين، وغزا برط طريق العمشية، استعاضة لما راح عليهم من هذه الطائفة اليامية، فنهبوا منها وعادوا إلى بلادهم، وكل هذا من أصحاب صلاح بن كول شماليها، والقضاة وقبائلها[26/أ] قالوا هذا لا يصلح ومخالف لما جرى من الزمان الماضي، وما مر من وقت الإمام القاسم إلى هذا الوقت الآتي ومعهم خطوط بذلك من جميع الأئمة، ولا ينبغي منه أن يفعل معهم هذه الملمة، ويدخلهم في جملة العشاير ولهم حرية ومزية، مع أنها بلاد حقيرة ما كان ينبغي من الإمام المناقشة في واجباتها، فقد ذكر لي بعض قضاتها أن في بعض السنين جملة ما يحصل منها قدر ما يقوم بكيلة القضاة فيها. وفي بعض السنين حصل منها قدر مائتين زبدي زكاة، وللقضاة مع تفرقهم هذا القدر. ثم إن كبار أهل برط وعقالهم نهوا صغارهم عن أفعالهم، والسيد محمد الغرباني قال: لا يصلح في هذا الوقت خروج، ولا محق على المسلمين فسكن أمرهم.
وفي هذه الأيام غزا آل حبيب من بلاد الحقار قرب خبت البقر مساقط جبال الحشر غربي بلاد فَيْفَا وإلى محل الغازي لهم الشريف ابن باز، ولاه سعد شريف مكة، فتسرعوا في نهب مواشيهم وساقوها، فصاحوا إلى بلادهم واجتمعت القبائل ولحقوا الشريف وأصحابه، فقتلوا منهم من قاتلهم ونهبوهم وحرقوا أكثر بلدهم[26/ب]، وسبب ذلك أن الشريف غزا إلى أطراف بلادهم وانتهب من مواشيهم، مع ركة أيدي الأشراف وتحول دولتهم الأولة إلى غيرهم.
وفي هذه الأيام وصل إلى الإمام شكاة من أطراف بلاد سنحان إلى ضوران، فأرسل الإمام على المشكيين جماعة عسكر ونفاعة، فبلغ ولده محمد متولي صنعاء وسنحان، فأرسل على العسكر وطلبهم إلى حضرته، ثم نهبهم وأمر بحبسهم، فعجب من ذلك كثير من الناس ممن إطلع على ذلك واستغربه كثير لعظم أمر الإمام، وكون هذا لا يليق في حقه، ولو كان من غير ولده لكان خلافاً وبغياً وخروجاً، والإمام سكت عن ذلك وصفح، فلا قوة إلا بالله.والسبب حدة طبع المذكور فيعتريه عند بادرة الأمر حدة مزاج وانحراف، ثم يفيق بعد ذلك إلى المعقول، ولعله الإدلال، والله يصلح الأحوال.
وفي هذه الأيام بشهر ربيع الأول وصل من جبل صبر بعض مشائخها يشكون من واليهم الشيخ راجح الآنسي، ويذكرون للإمام إزالته عنهم وتولية غيره عليهم، فلم يساعدهم إلى ما طلبوه، ولم يسعفهم فيما قصدوه.ثم إن أهل جبل صبر والحِجَرِّية عند ذلك منعت[27/أ] المطالب وقالت: لا نسلم إلى الشيخ راجح شيئاً من المعتاد، حتى يولي علينا غيره وينقاد، وحصل بينهم وبين أصحاب راجح ما حصل، وقتلوا ثلاثة من العسكر، وامتنعوا من التسليم إليهم عن كمل، وأرسلوا بما عليهم إلى حضرة الإمام، ووصل إليه جماعات من المشائخ لأجل ذلك الإلمام، وحذف المؤذن بمدينة تَعِز (حي على خير العمل) من الأذان، كما هو مذهب أهل الشافعية وسائر أهل السنة في جميع الأزمان. وشكى قبائلهم محمد بن أحمد بن الحسن، وأرسل الإمام عليهم السيد صالح عقبات بجماعة عسكر بأدب لأجل ذلك الأمر، وعمر محمد بن أحمد المَنْصُورة رأس جبل الحجرية، وجرى فيها المدفع، فبذلك حصل منهم الردع.
وفي شهر ربيع الآخر توفي السيد الأكرم الأعظم محمد بن الحسين بن علي بن إبراهيم بن جحاف، متولي بلاد حجة بمعرة حصن مَبْيَن ، وهو معتاد محل واليها، وخير مربع فيها. وكان السيد المذكور قد زاد في قصر مبين أبنية وسيعة، وقصوراً رفيعة في مدته، وجعل الإمام بعده في الولاية صنوه جمال الدين علي بن الحسين .
وفي هذه الأيام وصلت كتب من مكة يذكرون خروج بركات ، ومعه أمير العراقي[27/ب] ومن معه من العينات إلى محروس المبعوث، فلما شعر به سعد بن زيد وهو يومئذٍ في الطائف المبعوث خرج عنه وسار إلى بلاد بجيلة، واستقر بها مع نفس وجيلة. وهذه البلاد بين الطائف وبين بلاد بيشة . وسارت هذه البلاد متغيرة أحوالها، خائفة رجالها، والله أعلم بمنتهى حالها. ووصل كتاب الشريف سعد بن زيد إلى الإمام يستحث منه الغارة، فبنى الإمام على الإجابة، وكتب إلى أحمد بن الحسن بالوصول إليه للمفاوضة، وكذلك إلى ولده محمد، ومحمد بن أحمد فساروا إلى هنالك.
وفي يوم السبت خامس شهر ربيع الثاني سار أحمد بن الحسن من الغراس، فبات بداره بصنعاء على خفى من الناس، ثم سار إلى ضوران بطلاب وصل إليه من الإمام فيه استعجال له وعدم توان، فوصل إلى ضوران في اليوم الثالث، والموجب لهذا الطلاب من الإمام مفاوضة لا تقوم بها الأقلام[28/أ]، وكان سبب هذا التحرك من المتوكل بعد رجوع فرحان ما زاد حركة من مثل قصيدة إبراهيم بن صالح المهتدي الهندي بعث بها إلى حضرة المتوكل مستهلها قوله:
أظلما عن البيت الحرام نذادُ
على مثلها الخيل العتاق تقادُ
تدافعت البيدا موامى بقومكم
تدافع ذل في ظماه ضمادُ
وردوا حيارى خائبين بصفقةٍ
ينال بها ريح الردى ويقادُ
قد شارفوا أرجاء مكة وانثنوا
بفاقرة تفري الأديم وعادوا
حتى قال فيها:
وخيل صفي الدين تمضي بهمة
بأشراكها نسر السماء تصاد
ولو حقق النظر العاقل لم يكن الظلم إلا في قتل الباشا حسن في حرم الله، الذي جعله الله آمناً، وأما رد حاج اليمن فلم يحصل منهم، بل باختيارهم، مع أن كثيراً منهم حج ولم يصدهم أحد، وإنما كان خروج عسكر السلطنة لأجل سعد بن الشريف زيد للإنتقام منه في ما وقع في بلده.
وقصيدة أخرى بعث بها علي بن المتوكل إلى والده يقول في مستهلها:
لعمرك ليس يُدرك بالتواني
ولا بالعجز غايات الأماني
إلى آخرها.
نعم: ولما وصل أحمد بن الحسن إلى حضرة عمه فحال وصوله أفاض عليه وعلى ولده محمد صاحب صنعاء لما وصل صحبته ما في نفسه، وما اهتم به في أمنيته، وقال لهم: أمر مكة صرت مفكراً فيه، مشغولاً بباديه وخافيه، والمراد أنكم ترحلون إليها[28/ب] وتأمون نحوها وتناصرون سعد بن زيد بمن معكم من العساكر، ونضيف إليكم سائر الأتباع ومن قدرنا لحمله من العشائر، فأوجم الحاضرون عن الجواب، وثقل عليهم هذا التحمل والخطاب، لما يعلم العاقل بأن القصد لبلاد السلطان ابن عثمان، خصوصاً الحرمين الشريفين، الفتح للأمر العظيم والقتال الجسيم. وأن صاحب اليمن وغيره لا يقدرون على مقاتلته، وإن أمكن الدخول مكة بجرده فلا يقدرون من بعد على دفعه، لقوة عساكر السلطنة، وأن صاحب اليمن لا ينبغي له إلا الموادعة والاقتصار على اليمن لا غيره. وأجمع الحاضرون أن الرأي السكوت، وأما الحاج ودخوله واستمراره فيراجع صاحب مكة في شأنه. وهذا التحمل من المتوكل وإظهاره من أعجب العجب في التطور لأمثاله، ففي الحديث الذي رواه الديلمي عن أنس بن مالك عن النبي÷ أنه قال: ((إذا أراد الله نفاذ قضائه وقدره يسلب ذوي العقول عقولهم ووقعت الندامة)) انتهى الحديث، ولله قول الشاعر:
وكم قضايا علىغير الصواب مضت
حكماً ولله في تنفيذها حكم
ثم لما رأى المتوكل بعض الحاضرين على غروره جاءوا بشيء مما فيه تعجيزه، فقال له: إذا قد بنيت على هذا الأمرالمحال، فاشتري أولاً قدر ثلاثة آلاف من الجمال، واجمع ثمنها من الخزانة لتحمل الأثقال، فجاء وثمن مجرد الجمال بكثير من المال، فحار فكره، وتهون بعض عزمه.
ووصل كتاب محمد شاوش يذكر فيه للمتوكل أنه بلغه رجوع بعض الحاج اليماني، وأنه ليس برضاء منه، ولكنه ربما الخوف من الباشا حسين، وأن سعد بن زيد إذا أراد الوصول إليكم فلا تساعدونه إلى ذلك.
وفي شهر جمادى الأولى مات السيد إبراهيم بن محمد المؤيدي ببلدة العشة، خارج صعدة، وهو الذي كان ادَّعى الإمامة، وعارض المتوكل كما سبق ذكره، وإنما ترك ذلك للقهر له والغلبة[29/أ]. والدنيا أحوالها غرور، وأفعالها زور. وللمذكور (شرح لهداية ابن الوزير )، جمع فيه حواشي المصنف وألحق من (شرح الأزهار) ما هو من تحصيل الحاصل والنقل للحاضر. وله رسائل كثيرة في الطعن على الإمام في السيرة، والاعتراض عليه كما هو عادة أهل الزمان، وأهل اليمن في جميع الأحيان، فأجاب أكثرها الإمام، وغيره من العلماء تلك الأيام. وله في الأنساب كتاب (الروض الباسم في نسب آل القاسم)، كما روى أبي القاسم الراسي ممن ينسب إليه من أولاده.
وفي هذا العام تخمر البَزْ على أهل الهند بالمخا وعدن، فنفق بعضه وبقي بعضه، فوكل أهل الهند لبيعه وساروا، وبعضهم بقي عنده إلى الموسم الآتي ليبيعه.
وفي هذه الأيام وصل محمد عامر من الحبشة إلى ساحل المخا مطروداً، لما وصل عمر باشا إلى سواكن. وكان جرى من محمد عامر هذي المخالفة وهزم عساكر السلطان، وأخرج الباشا مصطفى الأول من سواكن، وأراد التغلب وبقي محمد عامر متردداً في ساحل المخا، لم يدخله، بل عرج عنه في البحر لا يدري أين استقر.
وفي هذه الأيام بالشهر المذكور في الخريف وقع مطر جود بجبل أَرْتِلْ وبيت بَوْس جنوبي صنعاء، فنزل سيله جارٍ ذيله بوادي المدينة، فاتصل بغيل خندقها الذي أحدثه الإمام في المدة السابق تاريخها فدفنه، وخربه من أعلاه إلى أسفله، وهذه المرة الثالثة بخرابه، وكذلك معه غيل العلفي المستخرج بالسد، وغيل الحسين بن المؤيد بالله في السد أيضاً. وسلم غيل الجراف ، وغيل جمال الدين علي بن المؤيد بالله، وهو أحسن الغيول، لا تضره السيول لتجنبه وميلانه من مجرى[29/ب] الوادي.
وفي هذه الأيام أمطار الخريف كانت قليلة، وفي أماكن يسيرة، فبلغ السعر للحنطة إلى ثلاثة أحرف، والذرة مائة بقشة، والشعير إلى حرفين. ونجع أهل المشرق مثل خَوْلان صنعاء وسَنْحَان وبلاد نِهْم وجميع المشارق إلى بلاد المغارب وإلى اليمن الأسفل والتهايم، ونضبت الأنهار في بلاد سنحان والآبار، وكذلك في أودية المشارق وبعض أودية المغارب بحيث يبس بعض الأبنان، لانقطاع الغيول عن الجريان، وظهرت الركة لكثير من الناس، لتلاحق القحط والجوع الذي جرى في سنة تسع وسبعين، فلم يكن معهم بعد أساس، حتى أنه بلغ شبكة التبن سبعة حروف،ووزن رطل التتن، فإذا هو بخمسة كبار، وهذا شيء لم يعهد، ولولا اليمن الأسفل ما زال يرحل منه الطعام إلى صنعاء لبلغ السعر عشرة حروف. والتهايم هذه السنة صالحة وإنما الغلاء في الجبال فقط، ولله في كل أفعاله حكمة، والله لطيف بعباده. وما زال الغلاء وقلة الأمطار من سنة سبع وسبعين وألف يتردد، ولا يعلم إتفاق مثل ذلك، بل قد يحصل في سنة أو سنتين أو ثلاث.
وفي العشر الآخرة من جمادى الأولى هرب جماعة من أصحاب سعد بن زيد بعد وصوله هو وهم إلى بيشة قدر أربعين نفراً، ومنهم الآغا شعبان تركي، فوصلوا إلى صنعاء، ثم إلى حضرة الإمام، وقد سُلب أكثرهم السلاح، والحوائج قد راح،وذكروا أنهم تفادوا أرواحهم ببذله للقبائل في طريقهم بالقُوْت، حتى خرجوا إلى صعدة على هذه الحالة[30/أ].
ووصل الخبر في هذا التاريخ بوصول محمد حبشي إلى جدة، ودخل مكة. وكان خروجه من مصر بحراً في عينة من العسكر قدر ثلاث مائة فأكثر، ومعه جوامك العسكر، ودخل مكة واستقر، ولما استقر رِكَاب محمد شاوش بالطائف جمع مشائخ هذيل وغيرهم وحبسهم واسترهبهم فيما اختل من التخطف حول الحرم الشريف منهم.
وفي هذه الأيام مما يعتبر به الأنام، أنه وصل شامي إلى صنعاء ببغل سعد والخطام، مع غيره مما بذله من خيل الشام، وقال: أنه شراه من سعد بحب وقشر بأرخص الأثمان.
نعم: وفي هذه الأيام قبض محمد بن الإمام مُخَلَّف سعيد بن ريحان، لما استكثر ما خلفه من النقود والذهب من مدة ولايته لبندر المخا تلك الأيام، وترك لورثته اليسير، وقيل: إنه أوصى بوصية وعيَّن لبيت المال ما عين. وكان حال ولايته وهو مملوك لشرف الإسلام الحسن بن الإمام، ثم أن المذكور كاتب نفسه، واعتقه أسياده.
وفي جمادى الآخرة مات الشريف علي بن حفظ الدين بسحلة اللاعي بضوران. وكذلك مات الشريف محمد بن عبد الله الغبا بالروضة ، ودفن بخزيمة غربي صنعاء. وكان الأول: قد تولى بلاد حراز ثم عزل، والثاني: كان مع شرف الإسلام الحسن عمدة، وفي كثير من أموره عليه فيها عهده، وكان قد ولاَّه شرف الإسلام الحسن بلاد اليمانية من سنحان، فبقى في ولايته مدة من الزمان، ثم لما ولي الأمر الإمام إسماعيل، وصارت بلاده لأحمد بن الحسن زال نظره عنها، ولم[30/ب] يبق له أمر ولا نهي فيها.
وفي شهر رجب منها عاد محمد شاوش بعساكره من جبل الطائف، ونزل إلى مكة بمن معه من الجنود والطوائف، وهو على مسافة يومين من مكة، وخلف فيه عينة من الرتبة، وجعل بالقنفذة أيضاً عينة قدر المائتين بنظر الشريف بركات. والشريف بركات استقر بمكة، ومحمد شاوش يختلف من مكة إلى جدة هذه المدة.
وفي هذا الشهر حصل حال التعشِّيرة في مدينة صعدة رصاصة أصابت بيرق حسن بن الإمام فانكسر عوده، والرامي من أصحاب علي بن أحمد وجنده، فكادت تحصل فرقة بين العسكرين، ثم أنه حبس الرامي، وحصل في نفس السيدين ما حصل من هذا الأمر الجاري. وسيفان في غمد لا يصلحان، ولا يكاد في الغالب يتفقان. ولما استقر حسن بن الإمام بصعدة طلب مشائخ آل عمار وسحار، ومن أجل ما راح من القافلة على التجار، فاجابوا أن أكثر الفاعلين[31/أ] قد هربوا وهذه بيوتهم وأموالهم بين أيديكم افعلوا فيها الذي تروا، فأمرهم بتسليم الأدب الذي فرض والده الإمام عليهم، فسلموه وأمر بخراب بيوت الذين هربوا. وقد كان قبض على سبعة نفر من الناهبين، وأمر بتعزيرهم في أسواق صعدة وضرب المرفع فوق رؤوسهم لأجل تلك النهبة، ثم لما خرج من صعدة -كما سيأتي تاريخه- أمر بضرب عنق ثلاثة منهم، وأرسل بباقيهم في الزناجير إلى حضرة والده لما جرى منهم وبسببهم. وأنكر بعض الناس على المذكور قتله للثلاثة، وقالوا: هذا كان بعد الأمان لهم والطاعة، والقتل لا يكون أيضاً إلا بعد تحقق قتل صدر منهم كما هو شرط المحاربين والمفسدين والناهبين.
وفي يوم الأحد سابع شهر شعبان، وقع قران بين المريخ وزحل في أول برج الحمل، وكان المريخ في بيته وقوته حال هذا القران، وزحل كان في بيت هبوطه.وكان المريخ المرتفع على زحل حال هذا القران من الأفق الشمالي بقدر ذراع، على مقتضى حساب الزيجات على تقسيم المتأخرين.
وفي هذه الأيام أرسل[31/ب] الإمام بصدقة الهند إلى سعد بن زيد، بعد وصول رسول سلطان الهند إلى حضرة الإمام، واستفهامه في شأنها، وكيف يكون أمرها؛ لأنها كانت مصدرة إلى سعد بن زيد، قبل أن يبلغ إلى صاحب الهند تحول الدولة، وزوال الحالة، فقال الإمام: نرسل بها إلى من صدرت إليه. وكان الواصل بها السيد عثمان الحلبي الأصل، فادعى السيد أنه كان قدم سعد بن زيد العام الأول وهو بمكة، وأنه لا يرسل إلا بما بقي بعد الذي له، فأخذ ذلك وبقي حول النصف مما هنالك، فأرسل به إلى سعد، وهو يومئذٍ ببيشة فكانت أعظم واصل عنده.
وفي آخر شهر رمضان منها وصل الخبر بخروج قلياطة من باشا مصر بحراً، فيها جوامك العسكر وطعام وخلعتان، أحدهما: للشريف بركات، والأخرى: لمحمد شاوش ونوبة وصنجق، وزيادة عسكر قدر مائتين، وطلب قضاة مكة[32/أ] هكذا جاء الخبر به، واختلفت الأخبار في سببه، والله أعلم.
وجاء خبر أيضاً هذه الأيام أن أسواق مكة وجِدة لبست بشرى صلاح ما كان انتقض على السلطان أطراف بلاده.
وفي هذا الشهر جاءت جوابات محمد شاوش والشريف بركات على الإمام بأن الحج ثابت، ولا منع لأحد عنه، ولكن لا يدخل إلى هنالك إلا على الحالة الأولة، صفة حجاج، بغير سلاح، ولا بيرق ولا رماح، وطلب بركات إرسال بالدراهم التي كان يرسل بها إلى سعد، وكان أراد الإمام أن يأمر فرحان بالعزم مع الحاج على العادة الماضية والحالة السالفة، ثم أن أحمد بن الحسن أرسل كاتبه السيد صلاح بكتاب وتوصية بأن إرسال فرحان خطأ، فأرسل الإمام السيد أحمد بن صلاح صاحب جازان وأبي عريش على العادة التي كانت في مدة المؤيد بالله، وكان يومئذٍ في حضرة الإمام، إلا أنه عين معه حول ثلاثمائة نفر ودراهم للشريف بركات قدر عشرة آلاف قرش وقيل: أربعة عشر ألفاً[32/ب]، فسار المذكور من ضوران طريق تهامة، فلما وصل العسكر إلى أبي عريش حصل بينهم افتراق، ومضاربة وشقاق فيما بين أصحاب السيد أحمد وبين الآخرين، ورجع بعضهم إلى بيته، وبعضهم اعتذر بعروض علته. ثم تقدم السيد أحمد بمن بقى معه ومن انضم من الحاج على قلته، وساروا في أمان الله وبركته.
وفي هذه الأيام شاع نادرة غريبة وحكاية عجيبة، وهي أن صورة امرأة ظهرت لرجل من أهل كُحْلاَن تاج الدين عند بعض أهله من الفلاحين، وحتمت عليه ضيفة وعشاء، وذبح رأس بقر لها متى جاءت تأكله في المساء، ففعل ذلك المذكور، وجعل من الطعام معه الميسور، وأقبلت إليه فأكلته عن آخره، وقالت له هي الحَطْمَة التي كانت في اليمن، وأنها خارجة في هذا الشهر والزمن. وهذه لعلها صورة شيطانية ليعتقد العامة أنها المؤثرة في الحطمة الربانية، والمؤثر والمحطم والقابض والرازق الله تعالى، المتصرف بما يشاء سبحانه.
وفي شهر شوال منها أصبح فقيه يقال له: بدر الدين وهو[33/أ] من أولاد الفقيه مهدي بن محمد المهلا بحانوت بصنعاء ميتاً، وقد حرق فراشه وحوائجه، فقيل: إنه يجعل كل ليلة مستوقداً عنده لأجل شرب التتن، فحرق من ذلك وغم نفسه الدخان المستكن.
وفي رابع وعشرين شهر شوال وقع قران الزهرة لزحل ببرج الحمل على حساب المتأخرين والزيجات، وعلى تقسيم البروج للأولين كان برج الحوت،وكانت الزهرة هي المرتفعة على زحل.
وفي هذا الشهر استخرج محمد بن الإمام بجبل ثايبة من بلاد نهم معدناً حديداً، إلا أن فيه قساوة كبيرة، وأعماله عسيرة وأدخلوا منه إلى صنعاء فلم يصلح للحدادين بل يكسر حال الوقيد والمطارق، فتركوه وأهملوه؛ لأنه غير مطابق، ولعله أحد أخوي الفضة، لكنهم ما عرفوا جمعه وعقده. وكان أمر الوالي أن يعتنى بمعدن الفضة الذي كان فيها، ولم يحصل على طائل لعدم معرفة الإكسير فيها. وكان هذا المعدن في مدة المنصور بالله عبد الله بن حمزة يستخرج منه شيخ البلد، ويأخذ الإمام فضة منه الخمس فيما حصل من العدد كما ذكره صاحب سيرته، ولم يبق له هذا الزمان من يعرف صنعته، لأمرٍ لله فيه حكمة، وإنما يصنع في هذا الجبل الرصاص.
وفي هذا الشهر جاء الخبر مع العمانيين وأهل البصرة والحسائيين من التجار المسافرين أن صاحب عمان صالح الفرنج[33/ب] وأمن البحر.
قال الراوي: وكل ذلك لأجل أن صاحب عمان قد ولع بالتجارة والأسباب، وأن أكثر الخارج في البحر وكلاء له في السبب. والفرنج كانوا يخافونه قبل ذلك، فلما عرفوا أنه قد ولع بالسبب لم يختلفوا به؛ لأنهم كانوا يتحسسون لخروج جلابه وبراشه ويلقونها؛ لأنها لا تخرج إلا للحرب وشحنها.
وفي خامس شهر الحجة كان تحويل سنة العالم والشمس في أول درجة للحمل على حساب الزيجات والمتأخرين في تقسيم البروج، وكذلك عطارد وزحل في الحمل أيضاً، والزهرة في الثور، والقمر في الجوزاء، وكذلك المريخ، والجوزهر في الأسد، والمشتري في الميزان[34/أ].
وجاء خبر هذه الأيام حصول حرب ما بين الأشراف خارج مكة حدود الطائف، فقتل جماعة من الفريقين، وكان الحرب فيما بين الشريفين أحمد بن زيد بن محسن وحمود، وأما سعد بن زيد فصار في بيشة وحدودها.
وفي خامس شهر الحجة خرج حسن بن الإمام من مدينة صعدة إلى جبل رَازِح . وكان علي بن أحمد بن الإمام بصعدة قد ظهر تضرره بطول بقاء حسن بن الإمام، وثقل عليه ذلك الإلمام، وأهمه في اليقظة والمنام[34/ب] وعطل في نفقاته الحبوب التي قد جمعها بصعدة من سابق الأعوام، وكان سالماً من معاد الضيافات، لعدم من يدخلها من أهل الأمر في هذه الأوقات.
وفي هذه السنة أو غيرها حصل بصبيا في تهامة الشامية حريق، فحرق فيها المنسكي التاجر هو والعبد الذي معه، وحرق عقبه من ماله بعضه. وكان قد كبر في السن وعمي آخر مدته، فكان موته بالحريق لم يقدر على التخلص من النار، وكان في مربعته.
وفي هذه الأيام وصل خبر موت الأمير العادل، المتولي لأطراف بلاد الشام من الجهة التي تلي بلاد الهند وأقصاه، وكان سلطان الهند قد تصالح هو وإياه حتى زوجه بعض النساء من قراباته اتقاءاً لشره وضرره، وترك أطراف بلاده، فبقي كذلك مدته مصالحاً لصاحب الهند إلى أن توفي في هذا التاريخ.
وفي عيد عرفة منها كان يوم الثلاثاء استند فيه إلى حاكم تعز الفقيه علي المخلافي الشافعي، وشهد على مثل ذلك في الروضة من أعمال صنعاء باليمن الأعلى عند القاضي عبد الواسع العلفي ، وأخبروه أنهم رأوا الهلال ليلة الأحد فلم يحكم بها ولم يعول عليها قال: رؤيتهم يركبون في الليلة فيعنون بالليلة المستقبلة لليوم الماضي، وحكم بها علي بن جابر الهبل، والهلال رأيناه ليلة الإثنين عشية الأحد صغيراً بحيث لم يلبث أن غرب بسرعة قبل أن يتمكن المغرب، والمؤذن يؤذن[35/أ] ولا شك أن ذلك لا تستقيم فيه الرؤية عشية السبت أصلاً؛ لأنه كان يومئذٍ في قدر ست درج من الشمس، لا يمكن رؤيته في سهول اليمن والشام ، فضلاً عن المواضع التي بين الآكام مثل صنعاء والروضة وتعز ونواحيها، لارتفاع الجبال عليها، وإنما يكون أوله هذا اليوم الذي ذكروه بطريق الحساب، لتعقبه لحجم الشمس من غير إمكان الرؤية بلا ارتياب. والشرع طريقه الرؤية، ولا يمكن إلا فيما زاد على ست درج للمعرفة. فحصل مع كثير من الناس اضطراب واستبعاد، ومنهم من أخرَّ العيد، ولم يعمل بهذه الشهاييد. وقد وقع مثل هذا في بعض السنين الماضية مما حكم به القاضي حسن حابس كهذه القصة الحادثة، والله أعلم.
وفي هذه السنة فتح الإمام قراءة في المشكاة في السُّنة النبوية فأصاب، غير أنه أمر القارئ لا يملي شيئاً من الأحاديث المتشابهة، وما كان مثل ذلك يصلح؛ لأن المتشابه مردود إلى المحكم كمتشابه القرآن، وكذلك كان فعل في قراءته في صحيح مسلم المدة الأولة.
ودخلت سنة أربع وثمانين وألف
في يوم الجمعة خامس شهر محرم وصل خبر الحاج فذكروا أن الحج كان مباركاً، والأمان على جميع الوافدين موافقاً، وأن الوقوف بعرفة، وتلك المواقيت المشرفة كان[35/ب] يوم الأربعاء بالشهرة، كما هو مقتضى الاستهلال والرؤية، وأنه وصل الباشا محمد من طريق الشام ومعه من العسكر ما يزيد على خمسمائة فارس من الخيل الجياد، وحول ألفين فأكثر من الأجناد، وخيم ببركة ماجد. وحاج المصري فيه قوة عظيمة. وأن الباشا محمد الخارج المذكور شدد في التأمين لحجاج بيت الله الحرام، وتوعد على من غدر أو سرق أو نهب بالعقاب التام. وحج الناس أحسن الحج، مع الكثرة للخلق، وأخبروا مع ذلك تهون الأسعار، وكثرة الخصب والكلأ والهلف والعلف في جميع تلك الأقطار.
قال حجاج اليمن: وظهر في عسكر السلطان السؤال عن أحمد بن الحسن، والإمام مع الحجاج من المشاة والركبان، والسيد أحمد بن صلاح بلَّغ ما معه من الدراهم التي صدَّرها الإمام معه إلى يد الشريف بركات[36/أ] وأخبروا أن الباشا محمد أخرج من مكة من بقي من الذين كانوا مع سعد بن زيد، ومنهم من اعتقله، ومنهم من أرسل به إلى حضرة السلطنة، ورفع المجابي من جميع أسواق مكة، وأمر بتوريث من مات بمكة وجدة، ولا طريق لأحد فيما تركه ممن كان يفعله أشراف مكة.
وفي نصف شهر المحرم حصل قران بين الزهرة والمريخ في برج السرطان، على مقتضى تقسيم البروج للمتأخرين وعلى تقسيم الأولين، كان في برج الجوزاء وكان المرتفع حالة القران هو المريخ من جهة الجنوب، ثم انفكت الزهرة عنه قليلاً في ذلك البرج، ورجعت القهقرى فقارنت المريخ المذكور في نصف شهر صفر قران آخر.
وفي هذه المدة كان وقت الصيف فحصل فيه أمطار مستمرة من أول الصَّوَاب إلى آخر الصيف عند سقوط الثريا، فصلحت ثمرة الدثاء على هذا المطر زرعوا في أوله، واستمر المطر عليه إلى حصاده، فتهون السعر بعض التهون، ونقص حول الثلث مما كان قبل ذلك[36/ب].
ولما وصل السيد أحمد بن صلاح في حدود بلاد ذَكْوَان خرج من مكة الشريف حسن بن زيد بن محسن هارباً من مكة، فانتُهِب بالليث ، ولما دافع وقع فيه صائبة مثخنة مات منها، وبلغ السيد أحمد بن صلاح ذلك وهو بذكوان، وكان ربما يريد الخروج مع السيد أحمد بن صلاح إلى اليمن، فسبق الأجل، قيل: إنه بسعاية من صاحب مكة أرسل إلى تلك الجهة في الأثر وصده عما كان أمَّل.
وفي شهر صفر غزا جماعة من بني نوف، من قبائل دهمة إلى أسافل الجوف، فانتهبوا منه وقتلوا، وكذلك تعقبه مغزى إلى أطراف مساقط بلاد خولان وبِدْبِدة ، لما نجع أكثر خولان هذه السنة، وكذلك لحق مغزى من برط إلى أسافل الجوف، بحدود بَرَاقِش ، فوقع بينهم وبين من نهبوهم قتال، راح من برط نفران، ومن أهل الجوف خمسة. وأحمد بن الحسن لما بلغه ذلك أرسل حول ستين نفراً من أهل البنادق، لحفظ الصافية له في الملتقى، فمنعوها. ولم يصل أحد إليها، وبقي من حضرته ممن[37/أ] كان متعلقاً به من برط وقال: ما بقي بيننا وبينكم ثقة ولا كُنْه، ولا نفعت المداواة لكم كما لا ينفع الدواء الجروح الفاسدة. وأهم بغزوهم، إلا أن الإمام قرره وقال: لا تزر وازرة وزر أخرى، وهم قبائل، لا يحكم عاقلهم على جاهلهم، ولا قائد لهم، بل كل منهم رمحه ببابه وانتصافه لنفسه، والأمر كذلك ولا ننفع منهم إلا حفظ أطراف البلاد الجوفية، كون بلادهم لا تحمل العسكر، ولا تقوم لمن بها استقر.
وفي عاشر شهر صفر وصل إلى الإمام إلى محروس ضوران محمد عامر، الذي سبق ذكره وذكر ما جرى بالحبشة منه، وتغلبه عليها، وإخراج عسكر السلطنة منها، حتى خرج عليه عمر باشا، فهرب في البحر من شدة الخوف والبأساء، وما زال يدور فيه وينظر هل بقي له مدخل أو من يناصره ويجانبه حتى لم يجد له ما يريد، ولم يقع إلا على الأمر الشديد، ثم إنه عاد ينظر هل يتم له السكون في أطراف بلاد سواكن أم لا؟ فوصل إلى حضرة الإمام، نابهاً من ذلك المنام[37/ب] قائداً نفسه باللجام، معرضاً عن تلك المعارضة، مقهوراً عن المناصبة، وفي صحبته قدر عشرين نفراً. وكان هذا محمد عامر له رياسة ونيابة من تحت نظر الباشا في مصَوَّع وهو تركي، ووصل جماعة حول عشرين نفراً من حضرة الباشا عمر ببعض هدية للإمام، ومعهم أيضاً واصل بكتاب من أمير المدينة يذكِّر الإمام طلب أوقاف الحرمين الشريفين الذي باليمن، قيل فأجاب الإمام: أنه ما يعلم بشيء من ذلك.
وفي هذا الشهر اتفق لرجل يقال أنه من بنى بنيان من صنعاء اليمن أنه سار إلى حضرة الإمام، للطلب منه والسؤال والرفد والنوال، فطال به المقام الكثير من الأيام، فانحرف مزاجه، وغلب عليه كلامه، واستحدَّ به لسانه، وتبلبل بلباله، وذلك عقب صلاة الجمعة في الاجتماع من المسلمين والحضرة، وقام على قدميه كالخطيب يقول بأعلا صوته: هذا الإمام قد صار عطاه لمن أتى من الهند والعجم، وحرم من زكاة مدينة صنعاء لأمير الحاج، والفقراء حرموا منها، ولم يصر إليهم شيئاً منها، ولكن سيرى سبب ذلك، وما تحركه من هنالك، ولا يكون آخر هذا أولاده مثل عيال شرف الدين. وسار المذكور ولم ينتظر لشيء، انتهى كلامه.
وللمجيب أن يجيب عليه هنا: أن أولاده لصلبه فيهم كما ذكر هذه المدة في النعم الشاملة وغيرهم ممن له الولاية، وأما غيرهم فقد صار الآن حالهم كمن ذكر من أولاد شرف الدين يكسبون على أنفسهم، ويحترفون ويبيعون ويشترون[38/أ] لا يصلهم الإمام ولا غيره بشيء من المال، بل سعيهم في نقص من كان له بعض شيء على كل حال، ومن كاشح منهم وكثر في السؤال صار إليه النزر اليسير على أشق حال. ولكن أيها الفقيه المنافسة كلها في غير هذا، فالدنيا عاطلة، وأحوالها زائلة، والسعيد من رزق منهم أدنى الكفاف، وقنع بما جاء منها وما فات، فالله يختم لنا بالخير ويغنينا بفضله وكرمه عن غير بابه الواسع، الذي وسع كل شيء.
وفي العشر الآخرة من شهر صفر توفي السيد الشريف العارف علي بن الحسين الحسيني الحوثي ثم الصنعاني، وهو من ذرية الإمام يحيى بن حمزة الحسيني ، يتصل نسبه بالحسين بن علي بن أبي طالب. وكان مكفوف البصر، وكان حافظاً للقرآن مجوداً، ناقلاً لكثير من المختصرات كـ(الشاطبية) في القراءت (والكافية) لابن الحاجب (والمنتهي) في أصول الفقه له، و(التلخيص) للقزويني في المعاني والبيان. ويحفظ كثيراً من المنقولات، وله مشاركة في الحديث لا سيما لسنن أبي داود يحفظ أكثره غيباً ويذاكر في باقيه، ويحفظ[38/ب] مجموع زيد بن علي غيباً، وله عناية به. ويرجح مذهبه على مذهب الهدوية. وكان يرى رفع اليدين ووضع الكف على الكف في الصلاة، كما هو قول أكثر العلماء ويفعله، إلا أنه ربما تركه إذا صلى جنب أحد من المتعصبين من الهدوية، رحمه الله تعالى، وقد صلى جنبي مرة فرفع.
وفي هذه الأيام وصل خبر مع أهل الهند أن سيواجي رئيس الرازبوت بالهند عاد إلى الخلاف في بعض أطراف بلاد السلطان أورنقزيب، وأثار فتنة في جهته.
وفي هذه الأيام مات الأمير عبد الله الغفَّاري-بغين معجمة وتشديد الفاء- الحمزي. كان المذكور من أصحاب شرف الإسلام الحسن بن الإمام، ثم لازم ولده محمد بن الحسن تلك الأيام، وكان المذكور في المدة السابقة حال بقاء مصطفى وقانص بزبيد قد هرب من حضرة شرف الإسلام ودخل إلى زبيد، فرفع شأنه قانص ومصطفى، وجعلوه أميراً من جملة الأمراء، في ذلك الوقت الذي مضى. وأصله من أشراف عقبات .
وفي هذه الأيام وصلت كتب من المهري صاحب جزيرة سقطرى والساحل الحضرمي، الذي بين بلاد الشحر وبين ظفار ، يذكر للإمام أنه يرسل بعينة من العسكر، وأنه قد بنى[39/أ] على الانقياد والائتمام، وسبب هذا من المذكور، وما كتب به في ذلك المصدور أنه كان انتهب الأيام الأولة بعض من وصل إلى ساحل جزيرة سقطرى من جهة بلاد العماني لشيء من البضاعة، فتحمل العماني، وجهَّز عينة إلى ذلك النادي، فلما شعر بذلك المذكور هرب من الجزيرة إلى ساحل الشحر للجيرة، ودخل أصحاب العماني سقطرى فلم يظفروا بشيء من ذلك الأمر الذي جرى، فأشار على الإمام بترك إجابة المذكور، والاشتغال بغيره برعاية مصالح الجمهور، والقريب من البلاد والأمور، ولا سيما مع تغير حالة الأشراف، وهو يستدعي منكم الاستئناف بحفظ الأطراف، واضطراب أعمال مكة وتلك الأطراف. وأصحاب العماني لم يجدوا ما طلبوه، وفاتهم الأمر الذي قصدوه، وعادوا بلادهم، وسكنت أعمالهم.
وفي هذه الأيام ظهر رجل من بلاد شَظَب يقال له الفقيه حسن بن صلاح بن الفهد يعرف بالخبايا، ويخرج على قوله الأسحار بتربيع ضرب الرمل في الظاهر وهو يحتمل التعمية والتمثيل، ويظهر أنه يكتب إلى رؤساء الجان فيأتيه الجواب منهم بخطوطهم على قوله، وقد يضع ورقة منه في طاقة المنزل بابتداء الكتاب [39/ب] والعرض فتأتي ظهر ورقته بالجواب على مقتضى من جعل الإبتداء له، يقول له: ضع هذا الابتداء هنالك، يأتيك الجواب، فيكون كذلك، هذا جملة ما عنده. والمذكور يلبس الجوخ واللباس الغالي، وذكر أنه أخذ ذلك على رجل كان بتهامة قد مات يسمى الفقيه محمد بن الولي. وظهر آخر أيضاً حضرمي له من المعرفة مثل هذا الشظبي، والله أعلم.
وكان في شهر شعبان قد ظهر ثلاثة أنفار بجهة لاعة لهم هذا الشأن قد استخفّوا عقول كثير من العامة والخاصة، وجمعوا منهم أموالاً كثيرة، فبلغ الإمام شأنهم وأعمالهم، فكره مثل ذلك، وأرسل جماعة عسكر بأدب عليهم، فوصل إليهم أولئك العسكر، وعادوا بغير أثر. وكان الإمام ألزمهم بحبسهم، فلم يتم شيء في شأنهم، ثم أرسل الإمام غيرهم فرجعوا كذلك، ثم أرسل ثالثاً إليهم وأمر بحبسهم بحصن غولي فحبسوا جماعة من أقارب الرحايل، وأمروهم بمنع الرحايل.
وأما أولئك الثلاثة فخرجوا عن تلك الجهة وأعيا الناس أمرهم، واستحوذوا عقولهم[40/أ]، لكنهم تركوا لاعة، وداروا في غيرها من الجهات الواسعة. ولعل هذا المذكور والحضرمي الآخر من أولئك الذين كانوا بلاعة. ووصل الشيخ المذكور إلى صنعاء في شهر ربيع من هذه السنة، فأظهر عمله واستخف عقول كثير من الناس، وأظهر لهم فعله، فعجبوا من إخراجه الأسحار ومن المكاتبة الصادرة منه للجان، ولازمه يحيى بن حسين بن المؤيد بالله ، وأخذ عنه الصنعة، وطلب منه المعرفة، فعلمه المذكور، وقال: إنه قد ربما يدرك ذلك المسطور، ويحتمل أن تكون هذه الأمور من الشعبذة والتمويهات والمخرقة فلا ينبغي الاغترار بذلك، إذ قد تكون هذه الصنعة من صنعة قلب الأعيان، وهي من أنواع السحر كما قرره العلماء فيما مضى من الزمان. وقد كان رجل سيد في المدة السابقة صبياً شاباً فاسقاً متهتكاً قد حُد مراراً في الشراب وغيره، يقص البياض قطعاً ويتلو أشياء وإذا هي بقشا بيضاء يراها غيره، فقد تكون هذه الخطوط في الأوراق التي يظهرها[40/ب] من هذا الوادي، وما يقوله من إخراج ورق السحر من هذا الأمر الجاري، والله أعلم.
وكذلك كان يفعل هذا رجل يقال له: السيد ياسين، ويرجع البياض إلى أصلها الأول من بعد ذلك. وكان فقيراً فقراً مدقعاً، ومنهم أيضاً هذا الزمان الفقيه أحمد الأسنافي، لكنه يستخطف الدراهم، فلذلك يبقى ولا يغير عن أصلها، وهو لا يجوز الاستخطاف لأموال الناس، وكل ذلك من أعمال السحر وأبوابه.
وذكر الشظبي المذكور أنه يتصل بالجان ويهاديهم ويكاتبهم، ورأيت مكاتبته في بعض الورق إلى الأحمر من بهاء الدين قال: وهو الساكن فيما بين بَرَاش ونُقُم ، وأنه ملك على جميع جن اليمن. ورأيت جوابه عليه في ظهر ورقته على قوله، وفيها علامته، بعد الصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، غير أن الخط مثل خط الكاتب في الابتداء، وذلك أنه كتب إليه المذكور الفقيه حسن بن صلاح الفهد الشظبي الساكن في جبل بني حجاج شرق السودة أنه أخرج أرصاداً على بعض ما سأله من بيته، وذكر هل بقي شيء ينبهه به؟ فأجاب أنه بقي واحد بالباب، فأخرجه المذكور.
هذا ما قاله، وعرف من حاله، فطلبه بعض من أعلمه من الجان، فسار إلى ذلك وكتب من أجله إلى الأحمر[41/أ]، فأجابه في ظهر ورقته أن هذا مارِد من مرَّاده وقال: المَرَدَة يهربون، ولا يكاد يظفر بهم إلا بتعب.
قال المذكور: وإن رجمه بحجر فأخطأه لما أراد منعه وطرده عن الاتصال بذلك الإنسان.
قال: ولا بد ما ننظر في الاستعانة من صالحي الجان بالقبض عليه. هذا ما ظهر عنه، ووثق هذا المذكور جماعة من القضاة مثل قاضي ثلاء مهدي عبد الهادي وقال: إنه عارف، وله خدام وأنصار لذلك، والله أعلم.
لذلك قال المذكور لما سأله سائل أنه يسير معه إلى عند الأحمر، شرقي نقم، ويطلعه على الجان في ذلك المقر فقال: يصلح ذلك غير أنه لا يمكن إلا بكحال يعطيك هو تكتحل به، فتراهم هنالك، والكحال قد ذكروه مشهور لمثل ذلك قال: وهم يأكلون هنالك من الشجر، هذا كما وصفه المذكور ولم يظهر منه أكثر من هذا من المكاتبة، وإخراج أرصاد يقول: إنها سحر، وأنه يضرب في الرمل للتربيع لإخراج ذلك فيخرجه، فيحتمل الأخذ بالعيون في الأوراق والكتابة، ويحتمل أن له ........ الجان يأتيه بالجوابات ويتصل بهم، والله أعلم.
وبعضهم شكا إليه رجل اعتراه الجنون بسبب أنه كان يتعلق بقسم قل هو الله أحد للاستحضار[41/ب] فحصل معه تغير وهذيان فقالوا لهذا الرجل الشظبي من أجل ذلك فقال: هناك إرصاد وسحر، فأخرج من بيته ذلك كما يخرجه من سائر البيوت، وهو يحتمل التعمية، ولم يحصل تأثير في ذلك الذي اعتراه الجنون، ولا زال عنه ما كان به، فلأجل هذا دل أنه من قلب الأعيان في الكتابة معه فقط، والله أعلم بالغيب. ولقد كان في أول دولة الإمام المؤيد بالله في رأس الأربعين وألف بصنعاء اليمن رجلاً مظهراً لمخاريق عجيبة، وأحوال غريبة يخرج من تحته الطيور والحمام، في تلك الأيام، وحار في عمله كثير من الأنام، وقطع كثير من العقلاء والعلماء أنه من السحر والتمويه العاطل، والتخييل الباطل، ويلقط الحصا الصغار إلى يده وتكون حباً إما بِرَّاً أو شعيراً.
وكذلك روى الثقة في هذه الأيام أن رجلاً يقال له: الفقيه عبده له معرفة بمثل هذه المخرقة، فإنه كتب رُقية أو تلاها في بياضة فإذا فيها بعض شيء من الدراهم، وأخذ مرشاً ليس فيه من الماورد شيئاً، فإذا الماورد يخرج منه ويرش به. وغير ذلك كثير، كامرأة قالت هي حاسبة، كانت تضع نفس الملح بباطن يدها ثم تفتح يدها فإذا هو لبان. وقد[42/أ] كان رجل بشهارة في الأيام السابقة مشهوراً بالسحر، له أفعال عجيبة، حتى أنه مرة طالب رجل آخر في دين له فسحره ورأى غريمه وقد ذبحه ونزع رأسه.
وفي أول ربيع الثاني لما رَتَّبَ أحمد بن الحسن سفال الجوف لأجل ما حصل من الضرر من غزوات دهمة غزا بعض العسكر إلى أطراف دهمة من بني نوف، فانتهبوا بعض شيء من مواشيهم.
ووصل الخبر هذه الأيام بخروج الحسن بن الإمام من جبل رازح إلى تهامة.
وفي نصف ربيع الثاني وصل الخبر بأن النقيب سعيد المجزبي متولي اللحية وكمران ظهر منه ما يقضي بالمخالفة للأوامر، والاستقلال في هذا الوقت الآخر، وصار يكثر عليه الكلام عند الإمام، وأنه يخشى منه إن خلى الانخلاع والانصرام، وأنه ربما قد كاتب إلى جهات جدة ومصر وسواكن وجرت له الأقلام. وكان مع هذا الوهم، وما جرى للإمام من النقل أن المذكور قبض على جماعة كان وصلوا إلى الحديدة وبلادها بحوالة من حسن بن الإمام، وكان المذكور بعد عزله من بلاد الضحي الأيام الأولة قد حول أكثر أثاثه وخزائنه إلى كمران، واستقر فيه هذا الأوان، وما زال يحصنه ويعمره ويقويه ويؤكده، فكان سبب حصول الأوهام مع الإمام، وتصديق ما ينقل إليه من الكلام، مع ظهور الاشتجار بينه وبين المحبشي متولي الضحي، والمراكزة والمناصبة. فكتب في هذا التاريخ إلى ولده الحسن بأنه يقصده ولا يظهر أين يريده حتى يدخل اللحية فيحفظها [43/ب]بجميع من معه، فسار المذكور من أبي عريش يطوي المراحل بتهامة، ولا يدري أحد بمقصده حتى بلغ إلى منتهى مرامه. فلما بلغ المجزبي وهو بكمران هذا الأمر والشأن سُقِطَ في يده، وتلاشى أمره. وكان من الاتفاقيات أن حال وصول المذكور بندر اللحية، وجد الغربان التي للمجزبي بساحلها مجموعة لافتقادها ودهنها فقبضها حسن بن الإمام واحترس بها، ولم يكن مع المجزبي ما يقوم مقامها، ولم يشعر المجزبي حال دخول حسن بن الإمام اللحية حتى وصله رسوله بالوصول إلى الحضرة، فتلكأ عند ذلك، وأراد الامتناع هنالك، فقال له العسكر الذين من اليمن: نحن عسكر الإمام، فلم يسع المذكور إلا المبادرة بإرسال الضيافة والمكاتبة في الوصول وبذل الأمان، وأنه من جملة الخدم غير متكبر على الإمام، وأن البلد بلده والبندر بندره، فخرج المذكور ودخل حسن بن الإمام يطوف جزيرة كمران، وقبضها وولاها من يثق به في السكون فيها. ثم استدعى الإمام المجزبي، فوصل إليه إلى محروس ضوران، وحال
وصوله أمر باللقيا له بالعسكر والأعلام، وبذل له الإكرام، واستقر بحضرته[43/أ]، وفسح برأي الإمام لمن وصل معه من عسكره، وبقي هو وخاصته من خدمه. وذكر الإمام أن جميع ما في جزيرة كمران من السلاح مع العسكر والمدافع قبضها ولده وسلمها إليه، ولم يحمل إلا ما يخصه من أثاثه، وخرج أولاده إلى بيت الفقيه. وكان المذكور قد طالت مدته في ولاية هذه الجهة من مدة شرف الإسلام الحسن بن الإمام، وفتحه لتلك الجهات تلك الأيام، فاستمر إلى هذا التاريخ، وقد صار المذكور كبيراً في السن واعتذر إلى الإمام، وأنه لم يجر منه مباينة ولا محاربة، وإنما كان يعتذر تلك المدة عن الطلوع لكبر سنه وعجزه، ويحسن الظن في قبول عذره، وتلا عند وصوله قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. وكان المذكور في الحقيقة غير آمل للعزل من تلك الجهة، والأمر جرى على مقتضى قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }، ويحكى أنه كان عنده حساب، يقضي [43/ب] الحساب أنه لا يعزله من ذلك الموضع إلا من كان اسمه اسم الذي ولاه الحسن.
قال الراوي: فكان ذلك من الموجبات للمسارعة بالخروج منه من غير مراجعة.
ومن الأمر الغريب أن جميع السواحل تحولت أمورها، وتغيرت أحوال ولاتها، وتبدلت أعمالها، هذا المذكور والسيد زيد بن علي بن جحاف الذي كان بالمخا وفرحان والي عدن، والسيد أحمد بن صلاح متولي جازان، ومدينة زبيد عزل واليها عبد الله بن سراج المحبشي، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
وفي هذه الأيام ولد مولود عجيب الخلقة خرج من مشيمته وغشايته، ولا أظفار له ولا شفاه ولا دبر، ثم ظهر له دبر ثم أظفار ثم شفاه شيئاً فشيئاً، وتكامل خلقه لخمسة أشهر. وكذلك اتفق أيضاً مولود آخر في هذه المدة من هذه السنة له رأسان ثم مات عقب ولادته، كأنهما شخصان متلاصقان، فسبحان الخالق لما يشاء، والأول كان لرجل من القبائل، والثاني لرجل آخر من العسكر[44/أ].
وفي يوم الأحد ثاني وعشرين شهر ربيع الثاني منها مات السيد الشريف العارف الحسن بن أحمد الجلال ، كان المذكور مستوطناً للجراف شمالي صنعاء في الخريف والشتاء، ودفن جنب صنوه برَسْلان . وكان المذكور قد اختار سكون ذلك المكان على صنعاء في جميع الأوقات والأزمان، وأصل داره وأهله جهات صعدة، ثم إنه ارتحل إلى شهارة في أول دولة الإمام، فقرأ فيها تلك الأيام على الشيخ العلامة لطف الله بن محمد الغياث الظفيري ، وعلى شرف الإسلام الحسين بن القاسم ، ثم ارتحل إلى صنعاء عقب خروج حيدر عنها، ودرس على السيد العارف محمد بن عز الدين المفتي المؤيدي ، وتأهل ببنت من بنات السيد صلاح الحاضري السراجي ، وما زال كذلك بصنعاء، ثم طاب له سكنى الجراف آخر مدة الإمام المؤيد بالله إلى أن مات فيه، وكان يدعي الاجتهاد وأنه ترجح له مذهب داود الظاهري ، ويعول عليه في أقواله في الأصول والفروع[44/ب]، ويقول: إن الإجماع ليس بحجة، ويقول بالمتعة موافقة للرافضة الإمامية، ولا يحتج بالآحاد موافقة للقاشاني ، وإن صح بالإسناد، ولا يحتج إلا بالمتواتر وما لم يجده فبالبراءة الأصلية، وقال: إنه على رأي ابن حزم في العمل بالبراءة، وله أقوال عجيبة، ونوادر غريبة فيها ركة وإباحة ومخالفة لجمهور الأمة، وللإجماعات المنبرمة فلا قوة إلا بالله. ولو توقف على مذهب داود نفسه لكان أقل من تلك النوادر والمخالفات، لكنه خرج
عن أصل داود في موافقة الرافضة في المتعة، وفي سب عثمان رضي الله عنه، وفي موافقة الخوارج في منصب الإمامة، فقال: إنها في جميع الناس عربي وعجمي فيها على سواء وإنما يشترط فيهم التقوى. وكان يرى في خلق الأفعال مثل قول أهل السنة وثبوت الخروج لأهل الكبائر من النار بالشفاعة، والرؤية، وكان لا يُكَفِّر بالإلزام كما يقول به محققوا علماء الإسلام.
قال السيد ما لفظه: إلزام الجبر مع عدم صحة نقله عن المرمى به تواتراً مما لا يجوز أن يبنى عليه حكم ظني، فضلاً عن قتال واستباحة النفوس وأموال؛ لأن الجبر لا يعرفه مدققوا علمائهم، مدعياً أنه ذا وهم عن الاعتزال قائم البرهان، ولا قائل بتكفير الأشاعرة لقولهم بالكسب، ولا يكفر أهل الكسب فيما يعلم إلا مجازف، لا يعرف العلم ولا أهله؛ لأن الكسب هو الفعل الذي يقول به المعتزلة، وإنما الخلاف للعبارة بعد التحقيق، إلى آخر ما ذكره في بعض رسائله[45/أ]. وللسيد الحسن الجلال المذكور اعتراض وجواب حسن على أرجوزة القاضي إبراهيم بن يحيى السحولي ، التي وضعها في إسناد جملة مذهبه إلى علي إلى النبي÷، وكان فيه مجازفة ظاهرة، فقال السيد الجلال مجيباً عليه في هذا المجال:
بسم الله الرحمن الرحيم:
اطَّلع الفقير إلى الله الحسن بن أحمد الجلال على الأرجوزة التي نظمها القاضي العارف إبراهيم بن يحيى السحولي، التي جعلها نظاماً لفروع مذهب الهادي، وقد كان اطَّلع عليه في إسناد الإمام شرف الدين، ولكنه كان في النفس منه شيء، فعاق عن استجادته، ورأيت إسناد القاضي لم يخلص أيضاً من ذلك وهو بحثان:
الأول: أن الإسناد المذكور قد تجاوز إلى النبي÷، فمروي الهادي إلى النبي÷ بتلك الطريق المخصوصة هو أما علم روايته -أعني متون أحاديث النبي÷، أو علم درايته -أعني مستنبطاته منها ومستخرجاته-، أو كلا الأمرين، الأول باطل؛ لأنه لم يكن في كتبه (المنتخب) و(الأحكام) و(الفنون) مدوناً بتلك الطريق التي تضمنتها الأرجوزة -أعني عن الحسين بن القاسم عن [45/ب]إبراهيم عن إسماعيل عن الحسن عن الحسن عن علي عن النبي÷ إلا حديث واحد لفظه في كتاب الطلاق من (الأحكام): ((يا علي يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يعرفون به يقال لهم الرافضة، فإذا أدركتهم فاقتلهم قتلهم الله فإنهم مشركون)) وما نقله غير تلك الطريق يعلم ذلك من استقصى بحث كتبه المذكورة.
والثاني: أعني علم درايته بالحل باطلاً أيضاً إذْ لم يقل عالم بجواز إسناد التلميذ دراية نفسه قولاً لشيخه، مثلاً قياس النبيذ على الخمر في الحرمة لا يصح أن يقال فيه قال النبي÷ النبيذ حرام، إذن لبطل القياس وعاد نصاً، ولا قال النبي÷: ((لا زكاة في المعلوفة )) إذن لَبطْل كونه مفهوماً وعاد منطوقاً، وكذا سائر الاجتهادات.
والثالث: باطل بمثل ما بطل الأولان. الثاني أن ما في كتب الهادي رواية ودراية لا يبلغ العشر مما صار الآن في كتب فروع مذهبه، وقد قدمت أن دراية التلميذ لا يحل روايتها قولاً للشيخ، وإنما يحل روايتها قولاً لراويها، بل قال الإمام القاسم بن محمد في آخر إرشاده: وبلغنا عن بعض العلماء -يعني المهدي والفقيه يوسف - أنه قال ما لفظه: إن هذا الحكم الذي يعد أنه مخرج ليس بقول لمن[46/أ] خرج على قوله ولا قول للذي خرَّجه من قول المجتهد، فحينئذٍ يكون هذا الحكم لا قائل به، فكيف تجري عليه الأديان والمعاملات؟، وهذه ورطة تورط فيها الفقهاء برمتهم، إلا من لزم النصوص، وكذا في بعض كتب الأصول لأهل المذهب كالجوهرة إنكارها، وقرأت بخط شيخي أمير الدين عبد الله، وأظن أني سمعته منه عن بعض السادة من أهل البيت أنه قال: كثير من التخاريج مصادمة للنصوص، ولهذا يمتنع كثير من أهل التحري من العمل بالتخريجات والإفتاء بها لمخالفتها لنصوص الأئمة من غير ضرورة ملجئة إلى مصادمتها. وسمعت الإمام الحسن بن علي ينكرها، وقال ما معناه: كان مذهبنا سليماً إلى زمان كذا، وذكر بعض أول المخرجين في مذهب الهادي، وكذلك اتباع الفقهاء الأربعة، فإن استطاع القاضي أن يخلص هذا الإسناد من هذين الإشكالين تفضل به جاز به لنا، وإلا وجب عليه الحذر من هذه المجازفة التي وقعت للإمام شرف الدين، ونسب في هامش الفصول مثلها للمؤيد بالله والإشكالات واردات للجميع. وقد وجدت في إجازات جدي العلامة صلاح بن الجلال استشعار خلل هذا الإسناد جملة[46/ب]، والاعتذار بأنه إسناد معنوي تسامحاً لا تحقيقاً، وما أدري ما جدوى هذا العذر عنها، وقد علمتم ما في الكذب على رسول الله÷ وعلى علماء أمته من الوعيد الشديد، الذي بسببه ترك أكابر الصحابة الرواية عن رسول الله÷، وامتنع كثير من أهل التحري بالعمل بالتخريجات كما ذكرنا عن الإمام القاسم حذراً منه، وخرج أئمة
الحديث بالتجاوز في رواية لفظه أو نحوه زائدة، ونسبوا روايتها إلى الوضع، فما ظنكم برواية ما لا نهاية له من أقوال الرجال قولاً لرسول الله÷ ولأهل بيته، والله تعالى يوفقنا إلى ما يرضيه.
انتهى كلامه وهو كلام جيد وارد.
وقد كنت أجبت على السيد بأن هذا يرد على القاضي؛ لأنه أطلق، وأما على مقتضى ما هو ملصق أول شرح التجريد فإنه يقتضي أنه أراد الرواية في الحديث لا الدراية، ولكن فيه إشكالات قد ذكرتها في جواب رسالة القاضي أحمد بن سعدالدين على أن كلام القاضي إذا كان في جملة أصل الدين فليس بخاص لدينه ومذهبه، فإنه قد ذكر ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة): أن كل مذهب أسند أهل مذهبه إلى علي بن أبي طالب المعتزلي، والأشعري، والرافضي، والزيدي فلا مخصص حينئذٍ في هذا الأمر الاعتباري إن أراده، وإن أراد الإطلاق فهو كما قال السيد ابن الجلال ظاهر البطلان، والله أعلم.
وله رسالة تضمن الاعتراض على المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم في دخول عساكره المشرق، وأنه لا يجوز ذلك في كلام طويل تضمن ذلك رسالته[47/أ]، وله قصيدة في الأصول يذكر فيها الحث على ما عليه السلف من الطريقة الأصولية على مقتضى مذهب الحنابلة، وله تصانيف على القلايد حاشية وتتمة حاشية سعد الدين على الكشاف وشرح على الأزهار، ما في فنه بالإيرادات على مقتضى مذهبه، وكذلك تعليق على الفصول في أصول الفقه، يورد فيه تشكيكات على الأصل وإيرادات، وله شرح على التهذيب في المنطق، ورسالة له في تحريم قصد البغاة إلى ديارهم، وله تقرير في تحليل الزكاة لبني هاشم، وله شواذ كثيرة تعد أشياء منها في الخرافات لا ينبغي الالتفات إليها والاغترار بها، بل كان التقليد له أولى من القول بها وقد أوردت بعضها في كراريس وبينت ضعفها، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وله في الشعر اليد الطولى وفي الغزليات أيضاً، وله في المجون قوله:
أنا للعاشقين إمام
غير أني ذو صبابة
أرشف الريق وأهوى
كل مجدول الذؤابة
وله قصيدة نظم فيها مقامات الصوفية مستهلها قوله:
للقوم ألفاظ بها
سر الهوى داع لنا
وكان يخفى عنهم
فصار من ذا علنا
منها لأرباب العلا
جمع وفرق وفنا
وهي طويلة والله أعلم.
وفي هذا الشهر اتفق مغزى جماعة من العسكر قدر سبعين نفراً الذين جعلهم أحمد بن الحسن رتبة في معين إلى بلاد بني نوف من مساقط جبل برط وسهوله مما يلي الجوف والمشرق، فانتهبوا من مواشيهم[47/ب] عوضاً عما فعلوه من قبل من نهبهم، ثم إن بني نوف صاحوا وتغاوروا بأجمعهم ولحقوهم، فاقتتلوا، فراح من العسكر حول عشرين نفراً ومن بني نوف أربعة فقط، واسترجعوا مواشيهم لأجل كثرتهم وقلة العسكر. وهذه البلاد لاخير فيها ولا مهبط ومستقر لمن يقصدها من الدولة، لعدم ما يقوم بها؛ ولأنهم بدوان، لا قرار لهم ولا أطيان، بل رعاة للإبل والمواشي، وأكل اللحوم في تلك القفار والفيافي، فلذلك تركها الدول الماضون، وعرضوا عنها أجمعون. وكان استقرار تلك الرتب في معين ونحوه من أطراف العرار من الجوف كفاية لحفظه؛ لأنه يحتمل العسكر ويقوم بهم، وكان الزمان الماضي مقطعاً للأمراء من أشراف الجوف، فلم يحصل فيه من هذا الانتهاب مع الرعايا من أهله والخوف، حتى لم يبق فيه رئيس هذا الزمان، ورفعت مطالبه[48/أ] إلى المحران، فحصل هذا الخلل وأهمل عن العسكر.
وفي تاسع وعشرين شهر ربيع الثاني يوم السبت حكم بعض المنجمين بكسوف الشمس، قدر أربع أصابع في برج الأسد والطالع العقرب ضحوة النهار، وأن مدة الكسوف ثمان درج ونصف عن نصف ساعة، ولعله كان كما ذكر، فإنه روى جماعة أنهم رأوها كاسفة، ولم أرها؛ لأنه كان بالسماء سحاب متراكم وهو ممكن؛ لأن الذنب يومئذٍ في نحو ثلاثة عشر درجة من برج الأسد والشمس في نحو تسعة عشر درجة من الأسد وكسور. وكان من جملة الخابر بالكسوف الشريف محمد، وصل من الروم، له معرفة بالنجوم.
وفي هذه الأيام هاج السَّرَق بمدينة صنعاء وكثروا، وكنسوا بيوتاً ونهبوا على ضوء القمر في نصف الشهر، ولم ينتظروا الظلام، لذلك الحرام، ودخلوا من البيوت الخالية التي أهلها في الخريف، وسرقوا ما وجدوا فيها [48/ب]من الأواني، وعبروا منها إلى البيوت المحلولة من فوق الأجبي فضروهم وتسوّر منهم من تسوّر بالسلاليم التي يجدونها في تلك البيوت الخالية. وكان من الأسباب أن محمد بن الإمام صاحب المدينة أقام محتسباً وأمره أنه يطوف على المدينة فاستخدم معه أعوان من السرق وأهل الطغيان فحصل منهم ما حصل من هذه الأعمال، ويقال في المثل: السرق إخوان، وتجرأ معهم سائر السرق لما سمعوا أن محمد بن الإمام قال: لا يحبس أحد من السرق، وإن قد اشتهر سرقهم إلا بشهادة، فجرأهم على ما ألفوا من العادة، بحيث أن تاجراً من بني كُبَاس كبسوه إلى بيته، فأراد الدفع والصياح، فسلوا عليه الخناجر والسلاح، فحملوا من بيته ما شاءوا، وهم جماعة يقال: خمسة. وكان من سبق من الولاة بصنعاء من اشتهر بالسرقات حبسوا وبقوا في الأماكن البعيدات إذا لم تقم عليه شهادة نصاب القطع، بل مجرد الشهرة[49/أ]، فلهذا وقع الخلل من الجانبين المحتسب وأصحابه والسرق من غيرهم كل من جانبه والشهادة إنما تعتبر في القطع لليد، لا النفي والطرد والحبس والكرد فإنه يكفي فيه الشهرة، وظهور الأمارات المتكررة، فإنهم لا يخفون.
وفي أول هذا الشهر نزل سيل عظيم هائل غير معهود من جبل مَسْور إلى بني مهدي وبني مهند ، فحمل من أموال البن وغيرها كثيراً جزيلاً، حتى فقر بعضهم لحمله لجميع ماله، وراح منه ثلاثة مساجد حملها، وحمل خمسة رجال كانوا فيها، وحمل تالوقة عظيمة لها مدة طويلة، وكان قد هرب إليها شيء من الرُّباح فقلعها بعروقها وقرودها، بحيث أخبر أهل الجهة أنهم لا يعلمون مثل هذا السيل مدة أعمارهم، ولا أخبرهم أحد من كبارهم، فالقوة لله، ونزل سيل فخرب بيت شيخ بني مهدي؛ لأنه كان في رأس الوادي، فهربوا عنه، ثم نزلت صخرة عظيمة من الجبل عمته بالخراب، فعمر الشيخ في موضع آخر في وسط الوادي، ونزل سيل أيضاً بوادي ضِلاَع كبس أموالاً كثيرة.
وفي هذه المدة بشهر ربيع وصل خبر من الحجاز (بأن الشريف أحمد بن زيد بن محسن) استقر عند[49/ب] الشيخ ابن معيان، من مشائخ بلاد الصفراء ورؤسائها وما بين مكة والمدينة وهي طريق المدينة من مكة، وأنه والشيخ تعرضوا المحمل المصري انتهبوا وقتلوا جماعة حال عودهم من مكة آخر شهر الحجة، فحصل في نفس الشريف بركات ما حصل وكذلك محمد شاوش، وكتب إلى الشيخ ابن معيان من أجل هذا الحادث، وأنه يخرج الشريف أحمد بن زيد عن بلاده، فأجاب في كتابه: بأن بقاء المذكور عنده ولا يحسن منه صده فتقدم الشريف بركات إلى تلك الجهات، وخرج عن مكة بمن معه من العينات واستقر ببدر مدة، ثم إنه تقدم إلى تلك الجهة، فوقع الحرب. وكان قد أجاش ابن معيان قبائل حرب، فقتل من أصحاب الشيخ ابن معيان جماعة ومن أصحاب الشريف أيضاً جماعة، واختلفت الأخبار في العدد فقيل: قدر أربعين من الطائفتين وقيل: أكثر، ثم بعد ذلك اختلفت الأخبار أيضاً فقيل: إن الشريف أحمد بن زيد هرب بلاد نجد العلياء والشيخ ابن معيان احتاز في جبل من بلاده بعد أن خرج مع الشريف بركات عينة من مصر، وأن الهزيمة أولاً كانت ببركات، وكان الشريف سعد [50/أ]قد أهم بالتقدم إلى جهات الحجاز لما بلغه أول هذه الحادثة، فلم يتم له ذلك ورجع إلى بيته، وكان وصول الخبر إلى اليمن في شهر شعبان، وقد كان غَلَبَ أحمد بن زيد وقبائل الشيخ ابن معيان على بركات، ومنعوه عن نفوذ الأوامر والتصرفات.
وفي سلخ جمادى الثاني عاد الحسن بن الإمام إلى أبي عريش، ثم طلع جبل رازح حيث كان بعد أن قد قبض اللحية وكمران كما سبق ذكره.
وفي هذا الشهر أنفذ محمد ابن الإمام الأمر في خَرْص الثمار من الحبوب في بلاد سنحان، ولم تكن عادة من قبل هذا الزمان، ثم تركه بعد ذلك.
وفي شهر ربيع الثاني من هذه السنة وصل الفقيه صالح المقبلي الثلائي اليمني من مكة المشرفة، بعد أن استقر فيها هذه المدة، فذكر تحقيق[50/ب] موسم حج هذا العام الماضي، وقال: الخارج مع حاج الشامي محمد باشا صاحب حلب، وهو مملوك للسلطان ولاَّه مدينة حلب هذا العام، ورجع مع المحمل الشامي عقب تمام الحج، ومحمد شاوش بمكة يتردد منها إلى مكة.
وذُكر أن مالطة تم استفتاحها، والاستيلاء على قلعتها، والحكم عليها ودخولها في مملكة السلطان محمد بن إبراهيم بن أحمد خان، ورفع عنها العساكر وبقي فيها من يحفظها، وفيها المعدن الذهبي، فكان ذلك زيادة قوة للسلطان.
قال: ووقع ذلك الصلح الذي بلغك في الأيام الماضية، وهو على البلاد الداخلية للنصارى من الفرنج، وليس على القلعة، إذ دخولها كان عنوة، قال: والجاري من الانتقاض الذي جاء به الخبر في أطراف بلاد السلطان من جهة أخرى اختلف فيه الخبر، قال: وكان شاع الخبر[51/أ] بمكة أن القاصد هو السلطان بنفسه، قال: فلم يمض إلا برهة أيام حتى وصلت البشارات إلى مكة بالاستيلاء عليها، وعود السلطان من تلك الجهة التي أمها.
قال: ويقال أنه ما قد كان خرج بنفسه قبلها، وزال الخلل فيها، وزينت الأسواق بمكة وجدة إظهاراً للبشارة.
وفي نصف شهر جمادى الآخرة خرج محمد بن الإمام من صنعاء، بعد العصر، طريق الجراف، ثم ذَهْبَان ، ثم سار إلى ضلع، صلى فيها المغرب والعشاء، وسار ليلاً حتى بلغ إلى ثُلاء آخر الليل، ولبث فيه نصف شهر، ولم يكن في المدينة من مآثر الدولة الأولة، لخراب أساس قصر عامر بن عبد الوهاب من المدة السابقة، فإنه كان هذا القصر عامراً في مدة المطهر إلى دولة السلطنة، وخُرب وعمر بحجاره أهل البلد، ولم يبق إلا عمارة الحصن على حالها الأول دون قصر المدينة، إلا ما فيها عمارة لأهلها، ثم استدعاه صاحب كوكبان للضيافة فسار إلى هنالك، واتفق من بعض الخدامين قتل بواب شبام حال الدخول بسبب خصام أدى إلى عدم الاحترام والاحتشام، فطلع الجبل، ولم يبق فيه إلا قدر ثمانية أيام.
[52/ب]وفي آخر نهار السبت، تاسع وعشرين شهر جمادى الآخرة مات شرف الدين الحسين بن الإمام المؤيد بالله بوطنه ومستقره حصن شهارة، كان المذكور له معرفة بمنازل الناس والرعايات، وبقية من الطبقة الأولة بالنظر إلى هذه الأوقات، ولكنه كان يجور في الآداب، قد تبلغ نفاعته إلى المائة الحرف فأكثر في الشكايات، حتى أنه قد يتلطف المُشكى به في ترك المشكى، وتسليم الحق من دونه على الوفاء، وكان إلى ولايته بلاد عفَّار وعاهم وضاعن ، بمساقط الشرف الأسفل . وكان أصحاب والده يحبونه، وكثيراً من الأعيان في جهات القبلة من المشائخ والرؤساء يودونه، بما يرون منه من الإنصاف لهم والإكرام مع أحوال الوقت وكانت وصيته مسندة إلى صنوه القاسم بن محمد ، قيل: وأوصى بالثلث من تركته للعلماء والمتعلمين. والله أعلم.
ودفن بحصن شهارة جنب الجامع [53/أ] بين القبتين رحمه الله. وكان المذكور له سياسة عجيبة، اتفق أن مسافراً أمسى في سمسرة الرباط فراحت عليه دراهم كثيرة في خُرْج أو مَسَب، فشكاه المَقْهوي؛ لأنه الذي يغلق السمسرة، فأنكر ذلك، فلم يقر بشيء، ثم إنه سار إلى عند الحسين بن المؤيد، فطلب المذكور وحبسه، ثم أمر الرَّسَمي يسوسه بأخذ خاتمه من يده، فأخذه، فكتب على لسان المحبوس إلى ولده والخاتم الأمارة يذكر منه أنه يرسل بالخُرْج بما فيه من الدراهم، فسار ولده بذلك إلى حضرته، وتقرر عليه أمره، ورجعت الدراهم لصاحبها.
وفي هذه الأيام بعد وصول مشائخ بلاد خولان صعدة شُكاة من علي بن أحمد أرسل معهم الإمام والياً السيد علي بن مهدي النوعة ، فحصل مع علي بن أحمد ما حصل، وتكدر خاطره واشتغل.
وفي غُرة رجب نزل علي بن الإمام من حضرة والده إلى اليمن الأسفل، بلد ولايته فسار واستقر بمدينة إبّ .
وفي هذه الأيام خرج محمد بن عامر الذي كان خالف على عساكر السلطنة بسواحل الحبشة، كما مضى ذكره، فدخل المخا هارباً في قدر خمسة عشر نفراً، وخرج عقبه غرابان إثنان لاحقان له في البحر حتى وصلوا إلى قريب المخا، ثم رجعوا على القفاء، وخرج زيادة عسكر إلى سواكن؛ لأجل محمد عامر مما حركه من الأمر الساكن، وانتهب على المذكور خزانته، وما قد جمعه مما استولى عليه وأخذه، وهو الذي أخرج مصطفى باشا من الحبشة وحاربه، ولعله كان قران المريخ والمشتري في برج العقرب.
ووصل في هذه الأيام بآخر شهر رجب وأول شعبان مركب كان متوها في البحر من الهند، وقد له في البحر حول أربعة أشهر من أول الموسم[53/ب]. وكان السيد الحسن الجرموزي صاحب المخا قد جهز المحصول من البندر إلى حضرة الإمام وبلغ صحبته، فوصل إلى حضرة الإمام بأول شعبان بحول مائة وخمسين حملاً.
وفي هذا الشهر أهم الإمام بضريبة جديدة، ويكون الصرف للقرش بحرفين، فتضرر التجار من ذلك الأمر خشية من الخسران في قضاء الديون هذا الأوان؛ لأن صرف القرش هذه الأيام الأولة بثلاثة أحرف وكسور فينقصون في المعاملات وقضاء الديون الثلث، فسار إلى الإمام جماعات للمشكى، فأجابهم الإمام وترك ذلك الذي كان أراده فيما مضى، وأطلق يومئذٍ لليهود أموالهم وبيوتهم من ذلك الترسيم الذي جرى، وقال ليس عليهم إلا الضريبة متى احتاج إليها من غير أجرة، وحط عنهم ما كان زاده على الجزية، وقال: ليس عليهم إلا الجزية المعتادة.
[54/أ] وفي هذه السنة ظهرت مصنفة في بعض كراسة سماها واضعها (الجلسات)، فيها تخليطات ذكر فيها: أن المُريد أول ما إليه يريد من الطريقة أن يربط رجليه بحبل ويعلقها في سارية، ثم جلسة أخرى بعد ذلك متربعاً ويربط قدميه ويبقى على ظهره ملقى، وخرافات وجهالات لا يقول بها أحد من البريات، ولعل صاحبها اعتراه شيء من الخيولا، نعوذ بالله منه من أعمال السوداء، فصنفها وافتعلها من غير معرفة، ولا يعرف منشيها.
وفي هذه السنة كثرت الخيانات في الأمانات بين الناس، ممن لم يظن أنه يفعل ذلك فلا قوة إلا بالله، وغفلوا عن قول الله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً }.
وفي هذه الأيام كان كمال الصِّراب والحصاد للثمار، فتهونت الأسعار، بلغ القَدَح الصنعاني مع زياداته بعشرين بقشة، والبر بحرف، والذرة من خمسة وعشرين، ودون ذلك.
والإمام هذه الأيام توجع من أعمال أهل برط[54/ب] وبني نوف من دُهمة، وكان أكثره من أهل جبل برط في عدم نفوذ أمره وخطه، فإنه كان أمرهم بتسليم الزكاة إلى أحمد بن المؤيد إلى عيان، والنصف يصير إلى القضاة، علي بن محمد العنسي وأصناه. وعاتب بذلك صنوه حسن بن محمد بن علي العنسي وقال: لم يمتثل القاضي على أمرنا وخطنا في سوق النصف إلى عيان، وقبض الجميع بالأكف والبنان، حتى وادي المراشي، وهو في العادة الماضية إلى عيان إلى مدة الإمام المؤيد بالله، فإنه كان يقبضه أشراف الجوف، وكان عم علي بن محمد بن علي بن قاسم، وهو القاضي أحمد بن علي يرسل بالفضلة إلى الإمام المؤيد بالله، مع أن المراشي كان مخرجاً عنه، وهذا الوقت يقدر ذلك كله، ومن جملة قوله في العتاب: أنه قد أهم أن يسير بنفسه إلى بلاد ظَفَار وذِيِبْيِن ، وينظر من هنالك ما ينتهي به الحال والتبيين، وإن اقتضى المخالفة والشقاق[55/أ]، كان النظر من ذلك المكان وتلك الآفاق، مع ما أخذوا ونهبوا على الضعفاء من أهل الجوف، ثم أنه انبرم القول أن صنوه المذكور أرسل بعض أقاربه إلى هنالك، والنظر فيما يصلح في ذلك، وما يردوه من الذي أخذوه، فأرجعوا إلى المذكور ما بقي بعينه وسلموه إلى رسول أهل الجوف بأصله. وذكر لي بعض أقاربهم أن شبهة القاضي علي المذكور في قبضه للزكاة أنه قال: لا ولاية للإمام في تلك الديار؛ لأنها لا تنفذ فيها أوامره، والإمام صار متردداً في شأنهم، يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، لأجل أعمال مكة، وما يخشى من تلك الجهة، فإن أحوال الأشراف بها ما انتظمت، والتقوية من جهة السلطان ما زالت. ثم إنه وصل جماعات من أهل برط لقبول عيد رمضان، فشكى بعض ذلك الذي[55/ب] كان، وزلج الإمام القاضي حسن، وعرج عن ما كان قد أمر.
وفي أول شوال وصلت أخبار من الجهات الشامية والبلاد المصرية والحجازية فأخبروا أنه يتجهز الوزير للسلطان، ومن يعتمد عليه في الأمور العظام إلى مصر وعزل عنه الباشا الأول، وقيل: إنه مأمور أن ينفذ فيه الأمر. ولم تصل كتب من محمد شاوش إلى هذا التاريخ مثل العادة، وأنه خرج بعد وصوله إلى مصر بعض عيناته إلى ينبع، فكان بسببها التنفيس على بركات، ومحاصرة الشيخ ابن معيان، وهرب أحمد بن زيد، هذا ما اتفق من الخبر هذا الشهر. وهذه الحركات كلها أسباب الأشراف آل زيد بن محسن، أولها ما سبق ذكره وآخرها عمل أحمد بن زيد والشيخ ابن معيان من قطعه لطريق ينبع ومخالفته للشريف بركات[56/أ]، وأرسل الوزير جماعة من الذين يصلحون الطرق ويعمروا مناهلها ومنشقها من مصر إلى مكة، وأمر بعمارة سمسرة جدة.
وفي العشر الآخرة من شوال سقط الآغا فرحان من فوق الحصان بالغراس، من أعمال حصن ذمَرْمَرْ حضرة أحمد بن الحسن، بعد عوده من التمشية في ذلك الوطن، وذلك أنه جرى بالحصان، فكُدِف به، وانقلب عليه، فهلك في الحال، في ذلك المقام، وقبض أحمد بن الحسن تركته وما جمعه أيام ولايته لبندر عدن ورسم على بيته بصنعاء؛ لأنه مملوكه.
وفي يوم الإثنين آخر يوم من شهر شوال توفي الشريف العارف صالح بن أحمد السراجي بصنعاء، كان المذكور له معرفة بالفقه وبعض مشاركة في غيره. وكان من الراغبين إلى العلم وتحصيله وفوائده. وكان ناقلاً للقرآن الكريم غيباً، وأول قراءته على السيد العلامة محمد بن عز الدين المفتي رحمه الله وغيره من العلماء بصنعاء، وأصله من قرية الضَبَعات [56/ب] من بلاد سنحان. ودفن بمقبرة باب اليمن رحمه الله.
وفي ذي القعدة منها زلج الإمام السيد الحسن بن مطهر الجرموزي إلى محل ولايته بندر المخا، بعد أن كان طلع إلى حضرته، كما سبق ذكره.
وفي هذه المدة كثر من الناظر يحيى بن حسين السحولي على الوقف بصنعاء التضييق على المسلمين في الطرقات والمفاسح في الأسواق والشوارع والطرق، وعمر فيها للوقف، وصار يقطع من طلب عمارة فيها للوقف، طمعاً في الدراهم، والعامر طمعاً في الانتفاع، وصار خط الناظر ذريعة إلى عدم تعرض الناس؛ لأن العامة يعتقدون أن الطرق والحواثر التي لا يد عليها للوقف، وهو جهل ظاهر؛ لأن ذلك لا يكون للوقف، وإنما هو لمصالح المسلمين كافة، لا يجوز إحداث ما يضر عليهم، فأما الوقف فلم يقل أحد من علماء الإسلام، وصار يطلب زيادات على العريص في الأجر، فيما كانت العمارة مقررة على ذلك القدر، ولكن لهوى النفوس سريرة لا تُعلم. وقد استولى المذكور ووالده على ازدراع مقبرة في المحاريق تتصل بأعنابهم وينكرون العامة عليهم، ولا يستنكروا على أنفسهم. فكان هذا مظلمة من المذكور، ومن تقدمه قبله من النظار يفعلون ذلك، جهلاً منهم، لكنهم ما أفرطوا إلى إفرط هذا الناظر، ثم من مظالمه أنه صار يدعي على كثير من أهل الأملاك الوقف [57/أ] ويأذيهم في شيء ما قد جرت عليه يد من قبله، حتى صار حاله يقرب مما كان من البوني في مدة سنان باشا، وكثر شُكا الناس منه على جعفر باشا ، وعمل معه ما عمل من الأمر الذي لا يخفى، وصار المذكور يضلل بالعلل، ويغر الدولة بهذا العمل ويقول: مع فلان من الوقف، فحصل من جهته الضرر، فقد يصادق في قوله، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصار يدعي الحواثر التي لا يد عليها للوقف في المدينة وخارجها وطرقها ومقاشمها، ومن ذلك ما جرى منه مع السيد محمد بن عبد الله العياني في أملاكه، كما سبق ذكره، وصار أيضاً يصادقه بعض حكام المدينة وهو القاضي علي بن جابر الهبل، غرراً منه من غير حضور بيّنة وشريعة، وإذا حقق للقاضي بعد ذلك ندم وقال غرّه المذكور.
وفي العشر الآخرة من شهر القعدة الحرام وصل كتاب إلى حضرة الإمام، وغيره من الأعيان، بأن العماني سلطان بن سيف اليعربي جهز من بلاده في البحر حول عشر برشة، وأن مراده القطع على البانيان في البحر، حال خروجهم إلى اليمن من الهند، إذ هم أول من يخرج من هنالك، وذكر للإمام: أن لا يكون قصده إلى التمحيق في سواحل اليمن بعد صحة تجهيزه في البحر، فأمر بالتحفظ في بندر المخا، ثم أنه بعد ذلك وصل كتاب من العماني كما روى أن قصده لا إلى سواحل اليمن، وكان وصول الكتاب في خلال ما حصل منهم من يقول إلى سواحل الهند، والله أعلم ما انتهى إليه قصده.
وفي هذه الأيام حصل في جهات آل عمار غزوهم من دهمة، فقتلوا منهم في قتل متقدم من آل عمار جرى في دهمة، وحصل في بلاد العولقي في المشرق ما حصل من قبل السَبَار في بلادهم، والاستقلال بأمرهم وخلافهم[57/ب].
وفي هذا الشهر أظهر الإمام الإجازة لولده أحمد للبلاد التي كانت لشرف الإسلام الحسين بن المؤيد بالله، وهي: بلاد عفَّار وبلاد عاهم وضاعن، فتصرف فيها، وأمر القباض إليها، ولم يبق للولاة الأولين ما كان من إطلاق اليد والنظر عليها، وكان ولد شرف الإسلام الحسين بن يحيى بن الحسين بن المؤيد وصنوه القاسم بن المؤيد طامعين وراجين إلى توليتها، وتبقيت أحدهم فيها، وحصل التغير على أهل المقررات من الفقهاء وسادة كحلان وغيرهم من الفقراء، ومن يعتاد العطاء منها كسائر الناس، فإن ذلك قد حصل وعم الخاص والعام من جميع الأجناس، فالمُلِّح ما ترك الإلحاح والمطالبة، ولم يحصل له إلا التافه اليسيرة مع المشقة، والصابر صبر وترك المشاحجة. ولقد استحد بعض السادة من بني عشيش فقال للإمام: هذا الجمع لا مصلحة فيه، فلعله كجمع المؤيد بالله، وصار أكثره لحسين ولده.
وقال السيد عبد الرحمن بن أمير الدين للإمام: إذا قد عجزت عن أمور المسلمين تركت الناس ينظرون فيمن يصلح لهم، واحتمل الإمام كلامهم، وأعرض عنهم، والدنيا لله تعالى، لا ينبغي للعاقل التكالب عليها، غير يأخذ السهل منها، والأرزاق مقسومة، ولن يعدو كل واحد ما كتب له، لكن ينبغي الالتفات إلى ما أمر الله به من الحركات، والكسب والابتغاء من فضل الله، وإصلاح النيات؛ لأن الأرزاق مقرونة بذلك، إما بتجارة أو زراعة أو حركة له للكسب كما قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } وقال الشاعر:
وإذا رأيت الرزق عز ببلدة
وخشيت فيها أن يضيق المكسب[58/أ]
فارحل فأرض الله واسعة الفضاء
طولاً وعرضاً شرقها والمغرِبُ
ومدارس العلم هذا الزمان غلق أكثرها في مثل صنعاء وصعدة وغيرها، لعدم الإقامة من الوقوفات بها، ولله قول الشاعر:
أصبح وجه الزمان منقلباً
ووجهه قفاه يا عجبان
ولكن التسليم هو الأولى كما قال الشاعر:
لا تسأل الدهر إنصافاً فتظلمه
ولا تلمه فلم يخلق لإنصاف
خذ ما بدا لك وارم الهم ناحية
لا بد من كدر فيه ومن صاف
وفي سادس عشر شهر الحجة كان دخول الشمس أول درجة الحمل وهو تحويل السنة وتقويمها، وكانت الزهرة وعطارد معها في برجها، والمريخ في برج الجدي بيت شرفه، وزحل في برج الحمل بيت هبوطه، والمشتري في برج العقرب، والجوزهر في آخر برج الأسد، والرأس مقابل له في السابع الدلو. وكان هذا الوقت الأمطار كثيرة، في جميع اليمن غزيرة، فصلح بسببه ثمرة القياض بالروي، وأعلق الفلاحون معه ثمرة أخرى يقال لها ثمرة الدثا، وتهونت الأسعار في جميع الأسواق، وانحطت وزالت المشاق.
وفي هذه الأيام بهذا الشهر المذكور وصل إلى حضرة أحمد بن الحسن جماعة من مشائخ خولان الشام يشكون إليه من جور حصل معهم من ولاة بلادهم أول هذا العام، مع جور أيضاً من حسن بن الإمام، واستعانوا به في تعريف الإمام، وكذلك سادة بني المؤيد[58/ب] يشكون الإنقطاع للمقررات التي لهم.
وفي آخر هذا الشهر وصلت الأخبار إلى تجار صنعاء من بندر عدن والمخا يذكرون أنه وصل حول اثني عشر برشة من أصحاب العماني إلى قريب سواحل البندرين، ثم رجعوا إلى باب المندب ظاهر حالهم الضرر وقطع الوافدين من المتسببين في البحر، وأن منهم جماعة نحو المائتين كان قد دخلوا المخا قبل وصول هؤلاء، وأظهروا أن معهم بضاعة من التمر وغيره مما ظهر وخفى، ثم تعقبهم في البحر هؤلاء، وظهر من حالهم أن قصدهم البانيان والكفار.
وفي هذه الأيام بعض هذا العام وبعض العام الذي بعده ظهر أنين صفته آه آه، يمد فيه من مقابر باب اليمن يسمع إلى داخل داير صنعاء، سمعته كذلك قريب سبعة أشهر أو ثمانية أشهر، والظاهر أنه من عذاب القبور لبعض الموتى ممن شاء الله إظهاره، فنعوذ بالله من غضب الله، ونعوذ بالله من عذاب القبر، ونعوذ بالله من عذاب جهنم، ونسأل الله تعالى أن يرحمنا.
ودخلت سنة خمس وثمانين وألف-
لعلها استهلت بالسبت، وفي ثالث محرم وصل مكتب الشام، وسار إلى حضرة الإمام، وأخبر بتمام الحج للإسلام والأمان التام، وأن سعد بن زيد وصنوه أحمد بن زيد قد تحيزوا إلى بلاد نجد العلياء[59/أ]، وأن بركات قد عاد من بدر إلى مكة وصحبته الشيخ ابن معيان رأس مشائخ بلاد قبائل حرب وبلاد الصفراء ما بين مكة والمدينة، وهو الذي جرى معه ما جرى من معاضدة أحمد بن زيد والخلاف كما سبق، فصار معه تحت الحفظ بعد أن وقع ذلك الحرب، ثم تعقبه من بركات القصد، فانحاز إلى جبل هنالك وطلب الأمان وواجه، وراح من أصحابه جماعة، وأدب الشريف أهل بلاده وصلح عمل الحجاز، وخمدت ثائرة القبائل، وامتنعوا عن مناصرة سعد وصنوه خوفاً من السيف الطائل، والعسكر الصائل، قيل: فلما لم يجد الشريف سعد وصنوه ملجأً يلجأوا إليه، وينتصروا به، ويعتمدوا عليه عزموا على طرح أنفسهم بين يدي أمير الشامي، والدخول معه إلى حضرة السلطان محمد العثماني[59/ب] ويكون من أمره ما كان إن عفا أو واخذ بما جرى من الفعال مع كثرة الأمان مع سعد، وأنه يرجو عود الملك له في المال، والله أعلم بما يصير إليه وما تنتهي به الأحوال. وأنه كتب إلى السلطان بالأمان والتبري مما جرى من الفعال، ثم إنه سكن هذا العام وبقي مع البدوان، ولا يملك من نفسه القطمير، ولم يبق عنده لا قليل ولا كثير، وباع أهله حليتهم في النفقة، وتضرروا أهله بمكة، وأولاده في غاية الحاجة، فالدنيا عِبَرٌ لمن اعتبر، أمس وهو ملك كبير، والآن وهو فقير ذليل. وأخبر الحجاج أنه زَيَّد في سقايات مكة وسُبلها على معتادها، وظهرت دَّبا جراد بأودية منى ومكة. وأصحاب العماني الذين خرجوا في البحر كان استطرقوا جزيرة سقطرى من بلاد المهري، وقتلوا من أهل الجزيرة، وكان دخولهم في صورة زي النصارى؛ لئلا يهربون عنها كما هربوا العام الأول منها[60/أ]. وانتهبت قبائل عنزة ولام من مركب الشامي لقلتهم هذا العام.
وفي يوم الجمعة ثامن وعشرين شهر محرم وصل الخبر إلى صنعاء أنه وصل إلى باب المخا برشه لاحقة لبانيان وصلوا ببضاعة، فواقعوهم وأسرعوا في انتهاب ما معهم، فأنكر عليهم أهل عدن ومن يقرب إليهم من جبل صِيْرة ، وقالوا: هؤلاء قد صاروا في الأمان والجيرة، فقالوا: إمامهم أمرهم بانتهابهم. وكان بعض البانيان قد قفز البحر، فغرق من خوفهم، فلما رآهم أهل صيرة وعدن لم ينتهوا صبوا عليهم البنادق النافعة، والزبارط التي عندهم حاصلة، فقتلوا منهم حول ثلاثين فأكثر، قذف بعضهم من البحر إلى ساحل البحر، وانهزم الخوارج هاربين، وانهزم بانهزامهم سائر براشهم، حتى استقروا في المندب وخلفه، وكذلك انهزم البراش التي كانت أيضاً قريب المخا، وكذلك خرج العمانيون الذين كانوا قد دخلوا المخا، كما سبق، لما علموا بما جرى مع أصحابهم، ولم يقفوا بقرب البنادر، ثم منعوا جميع من وفد في المندب من الهند من مسلم وكافر، فلم يدخل[60/ب] إلى البندرين شيء من ذلك غير الذي قد وصل عندهم الحاضر. وجهز أحمد بن الحسن عند أن بلغه هذا الأمر الصادر جماعة من العساكر، وكذلك ولده محمد بن أحمد الساكن في الحجرية إضافة إلى من تقدم وزيادة في التقوية، فبقى كل منهم في البنادر لعدم صنعتهم للأعمال البحرية، والله أعلم[61/أ].
وقد كان جهز السلطان محمد بن عثمان وزيره وجنوده إلى اليمن، ثم عاقه عن ذلك ما حصل من الحدث من الفرنج، وسيأتي ذكره، وعند هذا تحقق خطأ الرأي الذي كان أراده الإمام من مفاتحة مكة المحروسة، كما سبق ذكره، وصواب شور من أشار بالسكون وتقرير أمره؛ لأنه لو تم له رأيه كان مع هذا المخرج من المشرق، والعسكر في جهة الشام والمغرب، ولا ينبغي لصاحب اليمن إلا الاقتصار على حفظه ونظم أمره وأطرافه، ولا يشتغل بغيره، مع أن مكة المحروسة لا موجب للحركة إليها، ولا ينبغي قصد الحرب فيها، لحرمتها وصلاحها من جهة السلطان، والقيام بها منه في جميع هذه الأزمان، مع أنه لا يقوم بما يعتاد لها ولأهلها غيره على كل حال من الأحوال.
وفي أول صفر وصل الخبر بوفاة السيد الأمير أحمد بن صلاح، الذي يرسله الإمام مع حاج اليمن هذا العام والعام والعام الأول، وكان موته رحمه الله بعد قضاء الحج حال خروجه بمحروس القنفذة. وخرج مع الحاج اليماني الشريف محمد يحيى بن زيد بن محسن بجميع أولاده وحرمه وأخدامه، ووصل إلى اليمن لأجل ما حصل عليهم[61/ب] من كثرة المحن، وكل هذا منه؛ لأن المذكور مغاير لأخيه سعد من أول ولايته لصغر سنه، ولم تطمئن نفسه بالسكون بمكة؛ لأجل ما جرى منه هو وحمود من تلك النكبة السابق ذكرها في الصفراء مع طائفة عسكر السلطان، ولذلك ما زال المذكور متخوفاً في هذه السنين بجبال الطائف هو وحمود.
وفي هذا الشهر ظهر مع رجل في صنعاء لقيَّه من الدراهم القديمة، كل بقشة منها تأتي ببقش اليوم مثل الخمس، فأكثر وزنها قياس الدرهم، وحملها في صرة كبيرة ثلاثمائة درهم رسمها قد انطمس، وبعضه بقش لم يفتهم، وكان لقياها لرجل من قَبَّان في جدار داره، لما أخربه وأراد إصلاحه لقدمه، فأخذها عليه الدولة وقالوا: هي غنيمة، وكان العرض عليه منه الخُمس، أو تكون لقطة ولايتها إلى اللاقط[62/أ].
وأحمد بن الحسن زاد زيادة نحو المائة من العسكر غير من تقدم إلى بلاد عدن، وقد كان أرسل ولده محمد بن أحمد من محله المنصورة بالحجرية زيادة عسكر إلى عدن والمخا، لأجل المحاذرة من أصحاب العماني وما جرى. ولما وقع ذلك الحادث انكمش أصحاب العماني وولوا هاربين إلى خلف باب المندب خائفين، غير أنهم منعوا جميع الداخلين، ونهبوا بعض الواصلين من الوافدين، ثم لما طلعت الثرياء فجراً من المشرق رجعوا بلادهم، لأجل تغلق بحرهم؛ لأن هذا البحر يتغلق قبل البحر الهندي، وينفتح قبله بنحو شهرين، والبحر الهندي يتغلق فيه الآن الخروج، وتصلح الريح للعود، والبز ما زال هذه الأيام سعره في تناهي، ولولا ذلك المركب الذي خرج التواهي لكان هو في غاية الارتفاع والغلا والانتهاء[62/ب]. وكان بعض المراكب الهندية الخارجة حال وصول العمانية لما قاربت المخا عرجوا عنه إلى بندر جدة، وساروا إلى ذلك الموضع والمنتهى.
ورأيت كتاباً من مكة من بعض من يطلع على حقائق الأخبار، من الشريف بركات وغيره من أهل تلك الجهات يقول فيه: إن الحج كان مباركاً آمناً صالحاً، وكان الشريف بركات قد أصلح الحجاز وعاد مكة وصحبته الشيخ ابن معيان، والشريف حمود اتفق ببركات وصلح هو وإياه، وكذلك أحمد بن الحارث انتظمت لهم جميع الحالات. وأنه حصل في عرفات فرقة بين القبائل من هذيل الذين يبيعون العلف، فقتل منهم جماعات، وراح من المغاربة أربعة، وقبض الشريف بركات مشائخهم وأدبهم في فعالهم. وأن السلطان كان قد جهز إلى اليمن تجهيزاً كبيراً صحبة الوزير الأعظم، وبلغ أول العسكر إلى مدينة قاهرة مصر، ثم حصل خلال ذلك خلاف في بلاد[63/أ] الفرنج الكافرة المارقة، فقتلوا من المسلمين ألوفاً، وانتهبوا من المال كثيراً، بحيث كان أمراً هائلاً وخطباً جسيماً، فلما طرق السلطان محمد بن إبراهيم خان هذا الحادث العظيم اغتاظ من ذلك وضاق، وحمله على الإسلام الإشفاق، واسترجع من قد كان قد وصل إلى مصر من عساكره ورحل بنفسه يؤم تلك الآفاق.
قال صاحب الكتاب: ولما كان عقب الموسم خامس وعشرين شهر الحجة أمر الشريف بركات ومحمد شاوش حاكم جدة بالاجتماع للدعاء في الحرم الشريف، فاجتمع المذكورون، وأعيان علماء مكة المشهورون، وانضم إليهم أمير الشامي، وفتح باب الكعبة ورقى الخطيب إليه ودعا للسلطان بالنصر، والمذكورون يُؤمِّنُون ويضجون حتى بكى الخطيب وبكى الحاضرون، وقرأوا شرف الفاتحة.
قال: وكل ذلك لهول ما جرى، وانتهبوا من البحر على السلطان بعض المراكب، قال: وكان قد أخبر بهذا التجهيز من السلطان إلى اليمن جماعات منهم خواجا وصل إلى صنعاء في شهر شوال، وكذلك شريف رومي قبله[63/ب]، قالوا: ولولا هذا الحادث شغله، لقد خرج حيث السلطان أمره، إلا أنه لما حدث ذلك الحادث خلال التجهيز قدَّم الأهم، وشغلهم ذلك الأمر الأعظم، وكان هذا التجهيز المذكور في أول عام أربع وثمانين، كما تقدم ذكره، برواية الشيخ ابن معيان. فلما حصل انتقاض صلح الفرنج ونكثهم في نهجهم عرج الوزير نحوهم وتبعه السلطان، فالله أعلم ما يكون بعد ذلك الأمر وما إليه المنتهى.
وأما مالطة فقد صارت بيد السلطان، لم يجر فيها الخلاف بل في غيرها.
قال بعض الوافدين إلى اليمن ممن كان من أهل ذلك الوطن: أن مالطة هذه في ساحل الأندلس بعضها في البحر، وقد كان عمَّرها وحصَّنها وقوَّاها طائفة الفرنج من النصارى، وسائر البلاد حولها المتصلة بها. فيها إسلام كثير وجوامع ومساجد. وكان الفرنج تاركين لهم لا يتعرضونهم، إلا أنه لا يدٌ لهم، بل الأمر القاهر للفرنج عليهم، فما زالوا كذلك في ديارهم حتى استفتحها السلطان في تسع وسبعين، وصالحت الفرنج على سائر بلادهم.
قال علي بن بسام في كتابه[64/أ] (الذخيرة في تاريخ الجزيرة) يعني جزيرة الأندلس: آخر الفتوح الإسلامية وأقصى المآثر العربية، ليس وراءهم وأمامهم إلاَّ البحر المحيط والروم، وأوسط بلاد الأندلس مدينة قرطبة ، والجانب الغربي من جزيرة الأندلس اشبيلية ، وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر المحيط الرومي، والجانب الشرقي من جزيرة الأندلس هو أعلا الأندلس، انتهى ما ذكره.
وهذا المصنف علي بن بسام قد ترجم له ابن خلكان في تاريخه، وكتابه هذا في مجلدين كبار، إلا أنه لم يكن التاريخ فيه إلا النزر اليسير لحوادث ما جرى في الأندلس ومن ملكها في الدولة الأموية، وإنما كُبر كتابه ذلك وكُثْره يذكر كلامات الأدباء من أهل الأندلس والوزراء، وما ذكروه من المكاتبات والرسائل وقصائد الشعراء[64/ب].
وفي شهر صفر منها جهز المتوكل إلى بندر الشحر من سواحل بلاد حضرموت عثمان بن زيد من موالي المتوكل بقدر ثلاثمائة من العسكر، وأمرهم أن يكونوا حفظة للبندر من أهل عمان؛ لأجل ما حصل منهم في سواحل عدن.
وفي أول هذه السنة توفي الفقيه العارف أبو بكر بن يوسف بن محمد راوع الخولاني الأصل ثم الصنعاني، كان المذكور له فائدة في الفقه لا غيره من الفنون، فلم يكن له فيه معرفة. وكان شيخه السيد العلامة محمد بن عز الدين المفتي المؤيدي رحمه الله، وكان المذكور على طريقته في الاعتقاد، والميل إلى السنة النبوية والانقياد، وكان جمَّاعاً للحواشي والتعاليق على الهوامش في الفقه، وأكثرها مما أملاه شيخه السيد محمد المفتي.
وفي هذا الشهر ترك القاضي أحمد العيزري الأهنومي صلاة الجمعة بسبب إبطال أحكامه، وما جرت به أقلامه، وعدم تنفيذها من ولاة زمانه، واحتج عليه سائر الحكام بأنه صار يحكم بخلاف مذهبه، ولا ولاية له من الإمام في حكمه. وكان المذكور بشهارة أولاً ثم عارضه بعض من عارض فيها، فانتقل منها إلى صنعاء واستقر فيها[65/أ].
وفي يوم الخميس ثالث ربيع الأول منها سار المتوكل من ضوران إلى مَعْبَر جَهْران ، ثم عاد ضوران اليوم الثاني.
وفي العشر الأولى من هذا الشهر وصل الخبر أن برشة من عمان وصلت إلى ساحل أحور، حال رجوعهم من ساحل عدن، فانكسرت عليهم وغرق في البحر بعضهم، وراح عليهم منها حوائجهم وما فيها من سلاحهم ومدافعهم، وخرج آخرون ممن سلم منهم إلى ساحل أحور، فانتهب ما عليهم أهل أحور مما بقي معهم، وقتلوا منهم.
وفي هذا الشهر أعاد الإمام ما كان أراده سابقاً من الضريبة الجديدة، وجعل القرش صرفة من حرفين إلى تسعين، وصرفه يومئذٍ بالدراهم القديمة بثلاثة أحرف وعشرة كبار، فحصل عليهم النقص بقدر الثلث من أموالهم، فتضرر التجار وأهل الأسباب من ذلك الأمر لما ينالهم من الخسران، بحيث سخط من سخط منهم لما تفوت عليهم من أموالهم، وارتفع سعر البضائع يومئذٍ؛ لأجل هذه الضريبة، ولأجل ما حصل في البنادر من انقطاع الخارج من الهند وسائر الجهات القريبة، فلم يخفف ذلك المتوكل ترك الضريبة، ولحصول شدة ألمه من خلاله كان سبب عدم تمام قصده[65/ب].
وظهرت في هذه الأيام في عشرين الشهر المذكور جراد من جهة الشام، ومرت اليمن إلى جهة الجنوب، ولعلها من الدبا الذي أخبر به الحجاج بمكة تلك الأيام.
وفي يوم الخميس سادس وعشرين شهر ربيع الأول جاءت كتب إلى محمد بن الإمام مزعجة من بعض أهل بيت والده، يذكرون له الوصول؛ لأجل حصول مرض مع أبيه اشتد به، فسار في الحال إلى ذلك المكان، فلما خرج من صنعاء في ذلك اليوم حصلت الأوهام مع أهل صنعاء وغيرهم، فشرت التجار الطعامات من الأسواق والحطب والملح والمصالح، حتى ارتفع ذلك اليوم السعر لكثرة المشترين. وأخبر بعض من وصل إليها كتاب أن الإمام اقتصر من بعد صلاة الجمعة، ثم تنفس يوم الإثنين، ودخل الزائرون إلى محله بالدار الخضراء في الحُصَيْن ، ورأوه قد أثر مرضه في بدنه، وظهر ضعفه وركته[66/أ]، وما زال مريضاً متألماً إلى آخر شهر ربيع الثاني ومنَّ الله عليه بالعافية. وظهر في مرضه هذا نيات كثيرة من السادات، وأهل الأمر القادات، مما يصدق أقوال أهل الفراسات، التي تحدثوا بها فيما مضى من الأوقات، كجمال الإسلام علي بن المؤيد بالله رحمه الله فإنه قال: في هذا الإمام بركة للأنام، من جمع الكلمة في هذه الأيام، فإن هذه العالة يظهر من حالها تفرق الكلمة، وادعاء المملكة والخلافة، ولعل حالتهم ستكون كحالة أولاد مطهر بن شرف الدين. فكان كما قال المذكور، وصدق قوله فيما ظهر منهم هذه العصور، فإنه لما بلغ أحمد بن المتوكل صاحب شهارة وزادوا في الرواية، وأخبروه بأن والده قد انتقل حاله، فأظهر النية للدعوة، فحفظ الخزانة، وتواصى أهل النقابة، وكتب إليه أحمد بن الحسن كتاباً فلم يجب عليه فيه، قيل: ومضمونه التوصية له بحفظ الخزانة، وعدم التفريط فيها على كل حاله. وكان قد طلب مفاتيح جميع المخازين من الفقيه حسين بن يحيى حنش الخازن للإمام والأمين فقال له: هي مبذولة إلا أنكم لا تعجلوا قبل أخذ الحقيقة.
ويحيى بن حسين بن المؤيد بالله خرج عن شهارة بأهله إلى الهَجَر ، ثم إلى هجرة عُذر ، ولم يستقر، وأظهر أنه يريد الدعوة، والقاسم بن المؤيد بالله طالبه[66ب] بعض أهل الأهنوم في البيعة، وأحمد بن الحسن كاتب إلى جماعات من الأعيان، وبعث إليهم بشيء من الدراهم في هذا الأوان، وكاتبوه أهل رتبة جبل ضوران، وبعض الملازمين للإمام والسكان، وصاحب صعدة علي بن أحمد ظهرت حركته في بلاده ونواحي مشائخ البلاد وأعيانه، وكذلك صاحب برط وولد السيد إبراهيم بن محمد المؤيدي في العِشَّة .
والإمام جعل ولده محمداً ولي عهده بعده، وقبَّضه مفاتيح خزائن بيت المال، وقال: العهدة عليك في الأعمال، وقرر ما فعله الإمام السيد زيد بن علي جحاف وغيره، وحصل في جميع الجهات بعض ارتجاف من التفرقات، وانتهب سوق الثلوث في بلاد الأهنوم ، وحصل مع الجاهل الفرح بهذه العلوم، وحصل مع العاقل الغموم، والله يخمد ثائرة الفرقة[67/أ] ويصلح أحوال السلمين، ويسكن الفتنة.
وفي هذه الأيام وصل خبر بوفاة الشريف حمود من أشراف مكة وكبارهم، وكان موته بالطائف، وأوصى أن يقبر بعيداً عن المقابر وحده لكثرة ذنوبه. هكذا روى بعض من يختص به من أهل حضرته، فقال أراد أن لا يؤذيهم، والله أعلم.
وفي ليلة رابع عشر شهر ربيع الثاني وقع خسوف قمري في برج الجدي بالرأس تغشاها بالسواد المظلم، ولم يبق من جانبها ورأسها الغربي إلا قدر النجم، وكان شروع خسوفها من أسفلها من جهة المشرق في الساعة الرابعة والطالع الحوت[67/ب].
وفي هذا الشهر حصلت فرقة فيما بين بيت لقط في بلاد جُنُب بحَضُور وبين الجبارنة من شَعْبان من أهل اللَكَمة، بسبب كثرة مواشيهم ومعرقها في أملاك أهل بيت لقط وأموالهم، فدفعوها عنهم فلم يندفعوا، وقاتلوهم، فوقع في الفريقين أصواب ومراجيم، وتراسل الجبارنة إلى حلفهم من هَمْدَان ، وأهل بيت لقط إلى حلفهم من بني الحارث ، وأرادوا فتنة بينهم، فأدبهم والي البلاد، فحصل بينهم وبين العسكر خصام على السَبَار، ورفع ذلك إلى أحمد بن الحسن، فأرسل من عنده جماعة عسكر فيهم الشيخ ابن مذيور الحيمي، بمن حضر وزاد لهم من الأدب القدر المعتبر، فغدر في الليل بحصان ابن مذيور، ولم يعرف قاتله من الحضور، فدخل أهل بيت لقط في قيمة الحصان، وحصل معهم معرة بسبب هذا الشأن، وقد يحتمل أن قَتْل هذا الحصان مكيدة من العسكر الأولين الذين وقع بينهم الاشتجار على السبار، إذ قد يجري هذا من بعض العسكر الذين لا خير فيهم، كما وقع من رجل كان عسكرياً مع شرف الإسلام، حكى لبعض أصحابه في سابق الأيام وأنا أسمعه بما تحدث به من الكلام فقال: إنه خرج هو وجماعة عسكر بأدب على بعض البلدان، قال: فأهملهم أهل البلد عن السبار والمكان، وبقوا تحت شجر خارج البلد ذلك الأوان، قال فقلت: لأصحابي نبيت نحن وأنتم هذه الليلة بين هذه الشجر والحطب، فمتى كان الليل أحرق كل منا ما عنده من الحطب والشجر، فإذا أصبح الصباح قلنا: أهل البلد أحرقونا، وكتبنا إلى الدولة، فيخرج عليهم أدب آخر أكثر من الأول، وعسكر مع العسكر.
وفي شهر ربيع وصل خبر عثمان بن زيد الذي أرسل إلى الشحر بأنه دخله، وخرج عنه أمير الدين العلفي[68/أ].
وفي شهر جمادى الأولى وصل الشريف محمد بن يحيى بن زيد بن محسن المكي إلى حضرة المتوكل بأولاده، فأنزله في بيت الفقيه بتهامة، وقرر له من السبار ما يكفيه ومن معه.
وفي أول جمادى الثاني وصل الفقيه أمير الدين العلفي الأموي الذي كان متولياً لبندر الشحر، بعد وصول عثمان بن زيد إلى ذلك المقر، فوصل المذكور إلى ضوران بهذا الأوان، ومعه قدر مائة وخمسين من الأصحاب وخاصة الأعوان، لم يشعر به الإمام إلا بالوصول عقب الفجر من محل مبيته بالمَنْشِيَّة ، تجنباً منه للقيا المتعبة.
وشكاة العدين من الجرموزي، وشكاة الشيخ راجح، طال بقاؤهم بحضرة الإمام من أول هذه السنة، ولم يقض غرضهم. وشكواهم الجور من المذكورين[68/ب] والمطالب الزائدة على ما كان من الماضين.
وروي أن الإمام قد أمر معهم من يناظر بينهم بعد أن قام من المرض، وإلا فكان معرضاً عنهم، والشكوى في الحقيقة عائدة من الإمام عليهم؛ لأنه المرخص للعمال في الذين يأخذونه من الأموال، وكان حالهم تحكيه ما قاله المتنبي، حيث يقول:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بدُ
وفي هذه السنة روى أنه ولد مولود للفقيه يحيى بن حسين السحولي الناظر على الوقف بصنعاء له رأسان وفمان، فسبحان الخالق لما يشاء.
وفي آخر شهر جمادى الآخرة كان قران الزهرة والمشتري في آخر برج العقرب.
ووصل يومئذٍ كتاب من العماني إلى الإمام يذكر فيه العتاب فيما جرى في أصحابه في ساحل عدن وعند بابه، وكان يتوعد تغليقه البحر من جهاته، وغير تارك أمره، وربما أن في كتابه إرعاد وإبراق من نحو كتابه السابق الذي شاع ذكره في الأفاق.
وفي العشر الوسطى من شهر جمادى الأخرى وقعت رجفة وزلزلة في ضوران، ولم تقع في غيره من البلدان، فحصل مع الإمام والناس خوف من ذلك الشأن، وفيه عبرة وموعظة كما قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآْيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً }خصوصاً حيث خص الله به ذلك المكان دون غيره من سائر البلدان، وتتابعت تلك الرجفات، كانت عشية الخميس وليلة الجمعة رابع عشر الشهر المذكور، حتى بلغت نحو ثلاثين رجفة متتابعة، ولم يحصل من ذلك انتباه بإنصاف الشكاة في تخفيف المطالب التي زادت في اليمن الأسفل[69/أ]، وهي مطلبة التبن لمن شَرَم أو لم يَشْرِم، ومطلبة الصلاة لمن صلى أو لم يصل، ومنها مطلبة الرياح، ومنها مطلبة البارود والرصاص، ومنها مطلبة سفرة الوالي، ومنها مطلبة دار الضرب، ومنها ضيفة العيدين والمعونة: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } ولم يكن في اليمن الأعلى من هذه المطالب إلا مطلبة ضيفة العيدين والمعونة، وإن كان اليمن الأسفل كثير الخيرات والمحصولات بالنظر إلى اليمن الأعلى، لكن كان الواجب الرفق والعدل، ولا نزيد على الطين بله، كما ذكر السُّبْكي من الشافعية في (معيد النعم ومبيد النقم)، وفي الحديث: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )).
وقد ثبت في الأحاديث أن سبب الزلازل المعاصي والظلم والكبائر، كما ذكره السيوطي في كتابه (الصلصلة في الزلزلة)، ثم إن هذه الزلزلة عادت في ثالث شهر رجب أيضاً في ذلك المحل[69/ب].
ووصل إلى الإمام كثير من الجهات للزيارة والهدايا والضيافة ما يكثر، وترادف الواصلون، وامتلأت الأماكن.
وفي هذه المدة لما بلغ مرض الإمام إلى اليمن الأسفل، وما زادوه في الزيادة من الخبر رفعت الحجرية رؤوسها، وقتلوا عبداً من عبيد محمد بن أحمد بن الحسن، وربطوا بعض غلمان الخيل في الليل وهم نيام إلى أيديها، ولولا سكون محمد بن أحمد في رأس جبلهم لكان طردوا عُمَّالهم عنهم، وخافت الطريق فيما بين عدن ولَحْج من التعويق، فلم يمرها أحد إلا في الجمع الكبير الوثيق.
ووصف واصف أن الجور أيضاً من أصحاب علي بن الإمام في اليمن الأسفل كإب وِجْبلة حاصل بسبب إرخاء العنان لأصحابه، يفعل كل منهم ما أراد في جهاته، ويحبسون من شاءوا ويعملون ما أرادوا.
وفي هذا الشهر غضب أحمد بن الحسن على جارية مملوكة له، فضربها بالدبوس كان فيه هلاكها، وأخرى ضربها فزال عقلها وجُنَّت وصارت في الشوارع وإذا ذكروا لها العيال أحمد بن الحسن شتمته، فلا أحد يعتب عليها لجنونها.
واتفق مع حسين بن حسن لما خرج من رداع سائراً للإمام فبات بالعقبة أضافه أهلها من بعض بيوتهم بها، فلما كثروا في مجلسهم سقط السقف بينهم، فهلك منهم ثلاثة أنفار، والآخرون حثوا في الفرار، ووقع في بعضهم أصواب من حجارات الخراب.
[70/أ]وفي يوم الإثنين غرة شهر رجب من السنة المذكورة مات السيد الشريف العلامة العارف محمد بن إبراهيم بن مفضل بن علي بن الإمام شرف الدين بمستقره شبام كوكبان. كان المذكور من أوعية العلم، وفي كل فن له نصيب، مع الوقار، وحسن العبادة والتهذيب، أول قراءته على القاضي العارف أحمد بن صالح العنسي في النحو، وعلى الفقيه العلامة عبد الرحمن الحيمي بصنعاء؛ لأنه رحل من كوكبان لطلب العلم فيها، فاستفاد في علم النحو، والعربية، والمعاني، والبيان والأصول الفقهية، وأخذ على الفقيه محمد بن علي الجملولي بكوكبان في الفقه، وكان شرع في سماع صحيح البخاري عن الشيخ عبد الواحد النزيلي رحمه الله، واستجاز منه، ولم يزل على ذلك مدرساً في مدينة شبام، مدة هذه الأعوام، حتى ختم الله تعالى له بأجله المحتوم في شبام كوكبان رحمه الله تعالى. وله من التصانيف تهذيب سيرة جده الإمام شرف الدين في مجلد لطيف، اقتصر فيه على الحوادث بأخصر عبارة مهذبه بالتسجيع، محققة في التجميع، وله نظم ورقات الجويني في أصول الفقه،، وكان كاملاً بالمعرفة، حائزاً لخصال جده، واستفاد عليه كثير من الآخذين عنه رحمه الله. وكان في الفقه أيضاً[70/ب] مشاركاً مفيداً فيه ومفتياً. وكان قد ارتحل بأهله قبل العام الأول إلى وادي ضهر، وسكنه بأولاده وبنى به داراً، واشترى فيه عنباً وبستاناً، وسكنه مدة عامين اثنين، ثم عاد إلى محله شبام كوكبان. وكان عزمه إلى وادي ضهر متنكداً، لما تغير ما يعهده من الحال السابق في قبول الشفاعات والمطالب مدة الأمير ناصر بن عبد الرب ، وأول أيام ولده عبدالقادر، مع أن المذكور ما يترك له الحق، إلا أنه دون ما كان عليه في الزمان الأسبق، فلما مضت تلك الأيام بأخذ نزهته، وزال عنه ما اعتراه من كربته، وما في نفسه عاد أول هذا العام. وكان عوده إلى بيته بمحروس شبام، ثم طلع في الشهر الماضي إلى بيت والده
بكوكبان، وزيارة كريمته وأقاربه فآنسه عبد القادر، ثم عاد إلى بيته بشبام، ومات فيه بألم الإسهال، وقبر بشبام، والله أعلم.
وكان المذكور يميل إلى السنة[71/أ] كما رواه لي الفقيه محمد بن أحمد النزيلي الشافعي مدة حياته، وهو من جملة الآخذين عنه، ومن تلامذته في أصول الفقه والعربية، ومن جملة من استفاد عليه. قال المذكور: إلا أنه لا يحب أن يظهر ذلك لأهل زمانه، ولذلك لا يكثر في المماراة في مراجعته، وهو الذي يظهر من حاله، وله طريق في علم الحديث، أخذه عن بعض بني النزيلي، أظنه عبد الواحد النزيلي، وقرأ عليه أول فواتح البخاري، والله أعلم.
وفي ثالث شهر رجب عادت الزلزلة في ضوران أيضاً بعد الزلازل الأولة[71/ب] من آياته تعالى التي قد تضمنها قوله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآْيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً}، ولكن أشكل اختصاص ذلك المحل بها دون غيره من سائر الأنحاء، فلعله لحكمة يعلمها تعالى، ولما حصل من الجور في اليمن الأسفل بالمطالب، أو لحكمة يعلمها الله تعالى، فإن الله على كل شيء قدير: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }.
وفي عاشر شهر رجب هذا وصل الخبر بدخول أصحاب العماني البحر، وخروجهم من مسكت عن البر، لما تحركت ريح الشرق وسَبَر لهم ظهر البحر، وحصل الوهم أن قصدهم سواحل اليمن إلى جهة المخا وعدن، وكان الإمام وأحمد بن الحسن مهتمين بهم في غاية الشجن، فلما طرقهم الخبر بالخروج زادوا من عندهم من العسكر رئيسهم حسين مبشر، غير من قد كان في تلك النهوج، فأرسل أحمد بن الحسن من صنعاء الشيخ ابن مذيور وأصحابه من عسكر الحيمة وغيره، وحثهم على الصدور، خشية لا يحصل في عدن ما يحصل عند الوصول والحضور، وقد صار حال أهل هذين البندرين وهما المخا وعدن في هاتين السنتين كما قال الشاعر:
لقد خفت حتى لو تمر حمامة
لقلت عدواً أو طليعة معشر[72/أ]
فإن قال خير قلت هذه خديعة
وإن قال شر قلت حق فشمر
فإنهم ما زالوا هذين العامين خائفين من الجهتين: جهة الشام من السلطان محمد بن عثمان؛ لأجل ما كان أهم به من قصد اليمن، كما سبق ذكره، ومن جهة صاحب عمان سلطان بن سيف اليعربي؛ لأجل ما حصل في العام الماضي، وما جرى في أصحابه من ذلك الجاري، وإن كان العماني في العادة ليس ضرره في غير البنادر في تلك الساحة، وإلا فإن جملة جنده كما حققه الحاضر من جهته قدر أربعة آلاف، وإن بعد من بلاده فيخشى من الفرنج الغارات، لكن ضرب السواحل حاصل منه، كما قال الشاعر :
لا تحقرن عدواً رماك
وإن كان في ساعديه قصر
ولذلك قال الأولون من الحزم أن لا يحتقر الرجل عدوه، وإن كان ذليلاً، ولا يغفل عنه وإن كان صغيراً، فكم برغوث أسهر فيلاً، ومنع الرقاد ملكاً جليلاً.
وقد ضر في البنادر هذه السنين، ومحق البيع والشراء للبائعين والمشترين[73/ب]. ولما خرج أصحاب العماني عن بلاده، وركب البحر وسار أجناده جاء خبر آخر أنه قصد بعض جزائر البحر، وانتهب من أموالهم، وحمل أشياء من أثقالهم فإن صح هذا الخبر فقد انصرف أمره، واشتغل ما إليه قصده؛ لأنه إن عاد متوجهاً إلى ساحل عدن فلا بد أن تلحقه الفرنج وتخلفه إلى بلاده، ويقع منهم الصولة على سواحله فقد يرجع إلى دفعهم، ويشتجر الحرب بينه وبينهم، كما وقع ذلك عام ثمانين وألف، فإنهم بعد ما وقع منه ما وقع في بلاد الفرنج خرجوا عليه حتى هزموه إلى بلاده، وقف فيها وإن كان الخبر على قصد غيرهم من أهل الجزائر فلا يخشى منهم، فلا بأس عليه لقلتهم وعدم استقلالهم والقدرة على دفعهم.
وحسن بن الإمام سار من جبل رازح إلى صعدة هذه السنة، واستقر بها هذه المدة، ولما لقاه علي بن أحمد وقد جمع من القبائل وعساكره أمره حسن بن الإمام أن يكون دخول كل منهم من باب؛ لئلا يحصل افتراق وشقاق. واتفق مع القاضي يحيى جباري نكتة عجيبة، وهو أنه ركض رجلاً برجله، فشكاه إلى محمد بن الإمام، فأرسل إليه للمناصفة فيما وقع من الإلمام، فاتصل القاضي وقال له: هو قاضي الإمام، فبعث إليه نفرين للوصول قهراً من غير كلام[73/أ] يأتون به إلى حضرته بالقهر والإبرام، فأتوا به إلى حضرته وقال للشاكي: استقضي منه في ركضته، فحصل مع القاضي المقيم المقعد، واستحال ما أمله من أن الأمر إلى والده، فعجب بعض الحاضرين في شأنه، وأن القاضي إنما فعل ذلك لعله من قبيل التأديبات أو نحوها، مع أن الركضة لا قصاص فيها، لعدم العلم بقدرها إلا في قول شاذ لبعض العلماء، فحضر الحاضر، وحامل ذلك الأمر الصادر، وطلب الصلح، والصلح خير، وبذل لذلك الرجل بعض شيء من الدراهم، والله أعلم.
وفي أول شهر شعبان اتفق كسوف للزهرة بمقابلة القمر وحجابها لها بالمشاهدة، فسبحان الخالق لما يشاء، وكان ذلك في أول ليلة رابع الشهر المذكور، في برج القوس، ورؤي أيضاً بالمشاهدة المريخ رجع في برج الثور قد كان قارب سيرة الثريا، ثم تراجع واستمر رجوعه إلى نصف القعدة، ثم سار ودخل الجوزاء[73/ب].
وكان عند دخول أحمد بن الحسن من الروضة إلى صنعاء من باب السبحة ومعه نحو أربعين من الخيل ومثلهم من الرجل فصفت الخيل في بابه عند دخوله وكان قد ازدحم أهل صنعاء للتفرجة حوله، فاتفق أن ركض حصان السماوي رجلاً من أولئك المتفرجين إلى جنب جدار هنالك، حتى سقط في ذلك الحين وهلك، لم يبق إلا بقية ذلك اليوم.
ولأهل صنعاء لهج بالتفارج وغيرهم من البشر لا يشبعون منها، ولا يملِّون عنها كبارهم وصغارهم، ومزاحمة الخيل لا تصلح للعاقل، ولكن البشر أميل إلا الملاذ، والنظر في أكثر البلاد، فلا قوة إلا بالله.
وأهل الخيل أيضاً يركضون في الطرق والشوارع، فيصدمون من يصدمون، فذلك مما يجب على ولي الأمر منعهم.
وفي يوم الجمعة عقب ذلك أيضاً سقط عبدٌ عند اللعب حال المجرى.
وفي هذه الأيام حال سكون أحمد بن الحسن بصنعاء بدار الجامع قيل: أنه كان يسمع في الليل صوتاً من سطح الجامع يقول: الظلم شهير، والفساد كثير، ثم أرسل من ينظر ذلك فلم يجدوه وأخبر أهل الجامع أنه لم يكن فيه أحد، فأثر مع أحمد بن الحسن ذلك الكلام، ووقع معه الاهتمام، والظلم الذي اشتهر في اليمن الأسفل بالمطالب من ولاتهم، والإجحاف بحالهم، وعدم الإصغاء إلى إنصافهم فلا قوة إلا بالله[74/أ].
وتمشى أحمد بن الحسن إلى سفح جبل نقم، ودخل مسجده ورأى خرابه، وعدم سقفه، أمر بسقفه وإقامته، ويروى أنه كان مقاماً في مدة محمد باشا ، وأنه بنى بيتاً جنبه لأجل سدانته، وخرابه كان عند حصول الفتنة في زمن حيدر باشا، ثم اتصل ذلك إلى هذا الوقت، لم يكن معموراً منه غير جدره دون سقفه، ولو أن أحمد بن الحسن أمر بأن يكون جملولاً بالحجارة ليدوم سقفه، فأما بالخشب فإنه يخرب ويسقط عيدانه ويسرق؛ لأنه في خلا وفضاء، إلا أن يجعل عنده من يقوم به. وكان هذا المسجد زمان الإمام صلاح الدين مقاماً، والطريق إليه لا تزال محتركة بيضاء مدة أياماً، ويقولون أنه من المساجد القديمة المباركة، والله أعلم.
وأمر أحمد بن الحسن في هذا التاريخ لما صلى بمسجد علي الذي في السوق بصنعاء بإجراء ساقية للماء، تخرج من السوق ليكون ماؤه طرياً، فاتفق أن دلاَّلاً نظره، فدفل وفي يده جنابي مسلولة، يدور بها في السوق مدلولة، فلم يشعر إلا وهو في حفرة تلك الساقية والحفَّار تحته، فوقعت الجنبية في ظهره[74/ب] فلا قوة إلا بالله.
وفي هذه المدة جاءت الأخبار بأن سعد بن زيد بن محسن الذي كان أميراً بمكة بعد أن قصد إلى باب السلطان، كما سبق ذكره، مات بالطريق، وعاقة التعويق، وزال ملكه وجميع أولاد زيد، وتولت أيامهم، وانتقلت دولتهم.
وفي شعبانها حصل قتل رجل من بلاد نهم، والقاتل له بنو حشيش من بني الحارث، فحصل تحمل النهمي على الحارثي، وأظهروا المغزى للحارثي، فرتبوا أطراف بلادهم، وحموا جهاتهم ببنادقهم، فغزا النهمي وهو غير متَعَبِّي فرماهم بنو حشيش من البيت الذي قد رتبوه لما قصدوه، فقتلوا واحداً من نهم، فلما وقع هذا الحادث وصارت العيون بأجمعها في نهم تحملوا لهذا الأمر الكادث وضربوا الطبل في جهاتهم، والقصد بأجمعهم، فجهز عند ذلك أحمد بن الحسن جماعة من العسكر إلى بلاده......، محمد بن الإمام من صنعاء إلى نهم جماعة من أجناده.
وفي هذه السنة اشتدت العسرة على أهل وادي السر شدة عظيمة، ونضبت الآبار، ويبست الأعناب حتى قطعوا أصول أكوالها، ورحل أكثرهم عنها للمعاش، وتتابع عليهم عدم المطر من سنة تسع وسبعين، بحيث أنه صار عبرة لمن اعتبر، ولم يسلم منه، خصوصاً وسط الوادي.
قال بعض أهله وسببه كثرة التجاري على الأيمان، والمحاسدة بينهم والعدوان.
وفي هذا الشهر خرج حسن بن الإمام من صعدة إلى بلاد خولان لتقريرها، والمناظرة فيما بين مشائخها وبين واليها؛ لأن الإمام لما سكن مشائخ خولان واليهم، وأرادوا عزله عنهم، ولم يساعدهم، بل قال:[75/أ] يتناظرون فإن صح عند النوعة المتولي حجة عزله وحوله، وأمر ولده حسن بن الإمام بالمناظرة بينهم، وتقرير الكلام عندهم، واستقر بحَيْدَان من بلاد خولان ونفوس خولان غير راضية في الباطن بحسن بن الإمام، ورغبتهم عادت إلى علي بن أحمد هذه الأيام، ثم سار حسن بن الإمام إلى جبل رازح حيث كان، وعلي بن أحمد حصل معه التعب؛ لأنه لم يكن قد قطع اليأس عن خولان. وكان يدفع إليه أهله في ولاية النوعة هذا الأوان، ولا يراعون رأي النوعة في بعض تلك المطالب المأخوذة حال مشائخهم عند الإمام، فكان الأمر يومئذٍ قد اختلف، ورفعت كثير من القبائل رؤوسها، لما ظهر لهم من مثل علي بن أحمد في تلك الجهة وغيرها[75/ب]. وأحمد بن المؤيد صار بوادعة ، وفي نفسه أمور واسعة، وقال من قال منهم ولسان حالهم: هذا الإمام فيه الركة، لما اعتراه من الألم هذه المدة، وأحمد بن الحسن هو الذي يُخشى منه قد اشتغل بتجهيزه إلى عدن بعض عساكره. وكان هذا كله في شهر شعبان، فأجهز أحمد بن الحسن بن خليل الهمداني إلى عدن بجماعة من العسكر بعد التجهيز الأول، للتحفظ على البندر من طارق يحصل من جهة العماني من البحر. وحصلت رجفة في ضوران في هذا الشهر بعد تلك الرجفات الأول، فحصل مع الدولة بعض ارتجاف، والله يسكن الفتن ويؤمِّن مما نخاف، فلينظر العاقل، ويعتبر بفكره الحاضر هذا الاختلاف والمنافسة على الدنيا بين أقارب الإمام، ثم من بعدهم من السادات، ثم من بعدهم من قبائل مذهبهم في هذه الحالات، فإذا كان هذا فيما بينهم يريدون الخلاف، ويثير الفتنة والاجتحاف، فما ظنك بمن كان من الملوك البعيدة عنهم، فلا يكون اللوم عليهم وحدهم في الخروج عليهم، والتفريق والبغي
منهم، إذ أقل حالة التسوية فيما بينهم[76/أ].
وفي شهر رجب تجددت الأخبار بصحة ما جرى في الفرنج واستيلاء السلطان عليهم، وسبي كثير منهم، والقتل فيهم كثير.
وفي شهر شعبان منها جاء الخبر الصحيح من جهات مكة أن السلطان محمد بن عثمان حال صدورها وهو باقٍ في بلاد الفرنج، وسيوفه ما زالت في أعناق المشركين ضاربة وقاطعة، فأخذ منهم بالسيف عالماً كثيراً، وسبى منهم سبياً كثيراً، وصارت مالطة وبلادها تحت وطأته بأجمعها.
وصدق هنا ما تقدم ذكره من الكلام عند طلوع ذلك الذنب كما نقل من الجفر بغير شك ولا اختلف كلامه ولا اضطرب، حيث يقول فيه ما لفظه: محمد بن عثمان عبدٌ صالح خيرٌ من حر طالح، شعر:
سيطلع من مغيب الشمس نجم
له ذنب كمثل الرمح عالي
بوجه مستدير مثل ترس
علامة ما يكون بلا محال
وهو بالسيف يقتل. انتهى بلفظه.
فهذا دليل صدق ما وقع، إلا أنه كان الوجه المستدير في الوجه الثاني الذي مثله طلع أولاً من المشرق، ثم طلع من المغرب، فظهر النجم كالترس في آخر سنة إحدى وتسعين وألف، كما سيأتي إن شاء الله، فأما الأول فلم يظهر نجمه، بل كالرمح، وهو مغروس في المغرب.
وفي هذه السنة أُحدث معصرتان للسليط بصنعاء، بعد أن لم يكن فيها هذه المدة شيئاً، وإنما كان فيها في المدة السابقة مدة بني العباس كثيراً، وصنع أهلها لها حجارة جديدة من الحجر الحبَش، نُقر وسطها، وجُرّت إلى صنعاء على العجيل بالبقر، جر كل واحدة منها ثمان بقر لكبرها وثقلها، وعصروا فيها الخشخاش والخردل؛ لأنه يزرع في أرض الجبل، فأما الجلجلان فلا يصلح إلا في التهائم واليمن الأسفل، فكان[76/ب] في ذلك بعض رفق لأهل المدينة في سعره، مع ما يطلع من اليمن الأسفل من سليط الجلجلان مصنوعاً، ومن جهات الجوف محمولاً.
وفي غرة رمضانها وصل ثلاثون رجلاً من العدين شاكين على الإمام ما تقدمت لهم من الشكية من الجور عليهم في المطالب الثقيلة، وما صار يأخذه عليهم السيد جعفر بن مطهر الجرموزي مما استجحف أكثر محصول ما لهم، وما يحصلونه من غلاتهم، وأن رسوله الذي أرسله معهم في الشكوى الأولة لم يحصل منه جدوى، ولا نفع ولا ارعوى، فيقال: أنه ربما يحدث بتعويض الوالي وإبداله بآخر ووعدهم بما ينظر فيه وإليهم يأتي، وفي التحقيق ليس مطلبهم مجرد الوالي، وإنما مطلبهم إزالة التخفيف عنهم من الزوائد في المال؛ لأنه حصل بسبب السيد جعفر الزيادة في التقرير الشهري، كما سبق ذكره، بقريب النصف مما كان في المدة الماضي فحاق عليهم الجور من ها هنا؛ لأنه نمّق للإمام وسوَّل له المقاطعة في كل شهر على صفة الشروة بزائد على ما كان له، لتتم له المساعدة، فساعده الإمام فكان ذريعة للجريرة لهم في هذه الأعمال. ولا ينبغي مساعدة المزايدين في القطاع من الولاة؛ لأنهم بذلك يستحلون أموال الرعايا بما شاءوا، ويعملون فيهم ما أرادوا، ويطلقون الزيادة من ظهورهم، فلو أن الإمام[77/أ] إن تم عزله لهذا والإبرام يحط عن نفسه طلب الزيادة، ويقرر الوالي الثاني إن حصل على ما كان أولاً من غير زيادة، لكان هو العدل والإنصاف والحكم بالحق وعدم الإجحاف.
هذا سوق الحطابين بمدينة صنعاء اليمن، دخل فيه مُزايد في المجبا في كل شهر، فلعب بالسوق، وجمع من الحطب كثيراً مع الدراهم، حصَّل بعضه لمطابخ القصر، وبعضه له في القطعة فزاد بسببه ثمن الحطب؛ لأن الحطابين زادوا ثمن ما أخذه عليهم على المشترين، بحيث حسب في هذه الأيام عند رخص الطعام، فجاء حِمْل الحطب بِحِمْل من الحب؛ لأن الحِمْل بستة أحرف وخمسة وأربعة، وأضعف حمل بمائة بقشة وثلاثة؛ لأن السعر بلغ هذه المدة إلى عشرة كبار والحمل قدر ستة عشر قدحاً، لكبر القدح، وكان الزمن الأول الحمل من الحطب بحرف وخمسين بقشة إلى ستين، وما كذب من قال: صنعاء أم اليمن، فإن غلاء أثمان الحطب ارتفع في كثير من البلاد، بلاد كوكبان وثلاء ومسور وشهارة وعفار، وحوزة الحطب فيها أرفع من صنعاء.
وفي هذه الأيام[77/ب] أمر الإمام ولده بالعود إلى بلد ولايته بصنعاء والمبادرة إليها؛ لأجل توهمات حصلت عنده، وهو أنه أخبره المخبرون أن أحمد بن الحسن حال دخوله صنعاء هو ومحمد بن أحمد بن القاسم طافوا الأسواق، ودخلوا إلى القصر يوم الجمعة بالأجناد، فحصل مع الإمام توهمات، وأظهر التجلد عن ألمه، وركب الحصان يوم الجمعة، وانكشف أن ألمه من قبيل الباسور.
وفي شعبان قتل رجل بمدينة شبام كوكبان، وهرب القاتل، وبعده في أوائل شهر رمضان قتل ثلاثة بشمات قتلهم أهل بلدهم لعدوى بينهم، فأدب الجميع الدولة فيما جرى بينهم.
وفي هذه الأيام تناهى ثمن الثياب البيض المتينة لعدمها بسبب منع العماني لها.
وفي رمضانها وصلت المراكب الهندية التواهية إلى حدود بندر المخا وساحله، ووصل[78/أ] معها من الحسا بضاعة من الأعبى ونحوها، فأما الذي من الحسا فدخل المخا وأما المراكب التواهية فرست في البحر، وشرطوا تخفيف المأخوذ عليهم، والحط مما كان زاده السيد زيد والسيد حسن ، وإلا عرجوا عنه إلى جدة، فقيل: إن السيد حسن استأذن الإمام، وأنه حط عنهم بعض شيء.
ووصل الخبر في هذا الشهر بخروج والي لبندر جدة يسمى يوسف آغا، وعزل عنها محمد شاوش.
وفي ثاني عيد رمضان بشهر شوال وصلت كتب من أبي عريش، ثم تعقبه من حسن بن الإمام من جبل رازح يذكرون أن هذه الأيام جهز جماعات من العساكر السلطانية إلى الجهات الحجازية، وخرج إلى مكة ثلاثة أعوان أحدهم: ناظراً على إصلاح السبل منها وإصلاح العيون، وآخر يقال له: محمد بن سليمان ، له معرفة بالعلم، أمر بأنه يطلع على من في مكة من أهل المقررات[78/ب] والصدقات والأوقاف، وأن صرفها يكون على يده الذي للأشراف، والذي للعلماء، والذي لأهل الوظائف. والعسكر السلطانية انكشف توجههم إلى بغداد بالعراق والبصرة زيادة لمن فيها.
وروى الشيخ محمد كزبر الدمشقي أن الرتبة ببغداد المعتادة قدر اثني عشر ألفاً من الإبحارية، وأن السلطان جددهم بآخرين، وزاد مثلهم فهم هؤلاء الذين ساروا إليها خارجين. وخرج من البحر هذه الأيام خزانة من البارود والرصاص، فلما قاربت جدة حرقت بسبب نار اتصلت بالبارود، فغرقت.
وفي ليلة السبت خامس عشر شهر شوال منها خسفت القمر لجميع جرمها في برج السرطان، وكان أول شهر شوال بالإستهلال السبت، وعند أهل الحساب والمنجمين بالجمعة والخسوف على ذلك كان في سادس عشر[79/أ].
وفي هذا الشهر توفي الفقيه محمد بن عز الدين الأكوع في بيته بالحصين من ضوران، وكان قد شاخ وتعمر، وكان عليه المخازين مع شرف الدين الحسن بن الإمام القاسم مدته وولاية بلاد آنس هو وصنوه عبد الله، واستمر كذلك مدة الإمام المؤيد محمد بن القاسم .
وفي رابع وعشرين شهر شوال سقط من السماء حجر بغَضْرَان من بلاد وادي السر وقت العصر، والشمس شارقة، فسمع لخريرها في الجو صوت كصوت الرعد العظيم، سُمع ذلك إلى صنعاء، وكان وقوعها بباب بيت في قرية غضران بوادي السر من بلاد بني حشيش، ونزلت في الأرض، قالوا: ولونها كلون الحُطُم، فسبحان القادر على كل شيء وذلك من آيات الله التي يخوف الله بها عباده {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} واشتد بالسر الجوع، ويبست عليهم الأعناب، وأصبح ماهم في الآبار غوراً لا ماء فيها كما قال تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ}، ونجعوا عنها، وتفرقوا في الأرض، ولم يبق إلا البعض منهم، ثم قطعوا أصول العنب بالشُرُم وأدخلها أهلها يبيعونها.
وروى لي بعض فقهائهم أن ذلك من عقوبات الله بهم؛ لأنهم كانوا يتجارون على بذل الأيمان الكاذبة عند شريعتهم، وكثر منهم المغادرة والأذية لبعضهم البعض، حتى نزل بهم ما نزل.
واتفق بهذا الشهر لبعض بيوتات بصنعاء أن شخصاً من الجان شغلهم، وكسر عليهم من أوانيهم، وكان يرى شخصه امرأة منهم لا غيرها من أهل بيتهم، وكان يحرق ثيابها ويطرحها بيرهم، ومرة سل عليها السلاح، ومرة ذبح عليهم دجاجة وهي تراه، ومرة صاحت منه وقالت: سل عليها السلاح ثم سكتت، وكان بعض المُعَزِّمين يعّزِّم لها ويكتب لها فيحرقها، ومع هذا فحسن تلك المرأة لم يتغير، وذكر صاحب البيت أنه كسر عليه بعض سلاح، وتضرر منه وذكر أن صورته صورة امرأة ومعها خادمان تأمرهما بما تريده، وغفل بعض أيام ثم عاد ومعه كتابة عجمية وصورة ووضعها في عتبة الباب، فرأته تلك المرأة حين وضعها، ولم يره غيرها، فأخرجوها، فدل ذلك أنه ساحر وأن السحرة من الجن والإنس نعوذ بالله منهم[80/أ].
وفي شهر الحجة منها أرسل محمد بن المتوكل صاحب صنعاء جماعة من العسكر والخيل إلى شعوب لمنع جِمال محمد بن أحمد صاحب الروضة عن حمل أَثْل كان فيه شجار، دعوى للفقيه يحيى بن حسين السحولي ناظر الوقف، فأبرز محمد بن أحمد حكماً شرعياً من القاضي علي بن جابر الهبل، فلا وجه لرد الجمال، ووضع الأثل من ظهورها من غير وجه فبرَّده الفقيه بن جميل، وقال: الأمر جميل فيكون الصبر منكم، والصفح لكم؛ لئلا يحصل ما يحصل من الاشتجار في هذا الأمر الحقير، الذي ما كان مثله يكلف لا قليل ولا كثير، فحصل المعقول من جهة ابن جميل، ووضعت الأحمال وترك باقي الأثل في موضعه بلطف منه ومداركة وحال جميل، وظهر بين الرجلين كوامن الأحقاد والاستيحاش إلى غير المراد، وطلب محمد بن الإمام عقب ذلك علي بن جابر وقال له: لِمَ تحكم بغير أمرنا وبغير حضور ناظرنا ووكيلنا؟. فأجاب القاضي: أن هذا الحكم جرى من بعد تقرير بطلان دعوى جانب الوقف لما طلبنا، والأمور فيها بعض من الرَّبْش بين السيدين، فإن محمد بن أحمد وإن كان أبرد في حرارة الطباع، والجميل والرعاية والاتساع، فقد ظهر منه بعض كلام شاع في الناس[80/ب] من جهة صنعاء، فإنه لما مرض الإمام ظهر من محمد بن أحمد أنه لا يترك صنعاء، فربما بلغ محمد بن الإمام فيحصل في النفوس، وإن كان قد شُوحِجَ محمد بن أحمد وأزيل عنه ما كان يعتاده من بلاده فإنه أخذ عليه محمد ابن الإمام لما تولى صنعاء زكاة أموال أهل صنعاء في الروضة والجراف، وكان ذلك أولاً إليه، وأخذ خطاً من والده الإمام عليه، فلم ينفذ عند ولده، وقرره والده ونقض خطه، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولم يدخل محمد بن أحمد بيته بصنعاء عقب العيد لما في النفوس، وحصل عقب ذلك غيار بقطع عنب الناظر على الوقف يحيى بن حسين السحولي بالمحاريق.
وفي هذه المدة روي أن رجلاً حمَّالاً مشتاطاً نزل إلى اليمن الأسفل، فلما بلغ إلى بلاد الجَنَد اضطر إلى السؤال لطعام من بعض بيوت في تلك الجهة بعد أن أظلم عليه الليل ودق الباب، ففتحت له امرأة وقالت: ادخل، وهي خارجة، فدخل وإذا فيه جماعة من الشماة، وسلاحهم بين أيدهم ملقاة[81/أ] فقالوا له: اقعد، فقعد، ثم إنهم خرجوا وأمروه بحمل شيء معهم في غِرَارَة، فحمل ذلك معهم إلى البرية وحفروا حفيرة ألقوه فيها، وإذا هو مقتول قتلوه بها، ثم حفروا حفيرة أخرى فقال: لمن هذه؟ فقالوا: لك نلقيك بها؛ لئلا تخبر بخبرنا وتشيع أمرنا يظفر بنا، فسقط في يده وأيقن بالهلاك، فألهمه الله إلى الدعاء والاستغاثة بالشيخ أحمد بن علوان نفع الله به، والتوسل إلى الله ببركته، ونذر له بما على جمله قال: فلم يشعر إلا بشيء أقبل عليهم بحربته دفعهم بها، فحمد الله تعالى على النجاة منهم وسلامته عنهم. هكذا روى بعض القبائل، وهذه الرواية لا تعرف إلا من مثلهم؛ لأنه رجل حمال من جنسهم؛ فإذا صحت فهي من كرامات الشيخ أحمد نفع الله به.
ووصل الخبر هذه الأيام برجوع أصحاب العماني، الذين كانوا قد بلغوا إلى حدود الشحر[81/ب].
وفي هذه المدة انكسرت جلبة كانت داخلة من اليمن فيها حجاج ومن البن، فهلكوا، لم يسلم منهم إلا اليسير ممن خرج مع صاحبها في سمبوك، ومن تعلق بشيء من صروفها على مشقة في ذلك، فإنه وصف الواصف: أنه تعلق بصرف، فلبث في البحر فوق ثلاثة أيام لا يذوق شيئاً من الطعام ولا الماء، وهو في معاناة مع ذلك الصرف لأجل الموج، فتارة يكون على ظهره وتارة يغلبه فيقبض عليه ويتعلق به؛ لئلا يغرق، فما زال كذلك تسوقه الريح الغربي حتى قذفته في ساحل جازان بعد الإياس منه، وكان إنكسارها مقابل لبندر جازان وهم قدر سبعين نفراً لم ينج منهم[82/أ] إلا نحو خمسة عشر رجلاً.
وخطب خطيب صنعاء محمد بن إبراهيم السحولي بخطبة الرافضة يوم الغدير، ثامن عشر شهر الحجة يوم الجمعة، وحث الناس على الصيام فيه، وإظهار الشعار الذي للإمامية الإثنى عشرية، ولم يخطب أحد قبله من أهل مذهبه.
وأُدخل جماعة بمكة الحبس لأجل شراء جماعة من أهل اليمن البنادق، وربما مطل بعضهم في شيء من الثمن، فشكا إلى الباشا، فأرسل للشيخ راجح أمير حاج اليمن، فوصل إليه إجابة للداعي، وقال الباشا حسين: ما موجب الشراء للبنادق منكم أهل اليمن؟ فقال: يا مولى السعادة لأجل الحرامية ولحفظ الحاج في الجادة، فأمر بإطلاقهم من الزناجير، وسلم الشيخ توفية من مطل الثمن، وانجبر الأمر، وكان قد قطع الباشا أيد بعضهم.
وفي سادس وعشرين شهر الحجة منها كان تحويل سنة العالم بدخول الشمس في أول دقيقة في برج الحمل، كانت الزهرة وعطارد في الحمل، والمشتري في القوس، والقمر في الدلو، والذنب وهو الجوزهر في السرطان، وكذا المريخ وزحل في أول برج الثور. وكانت هذه السنة الداخلة سنة ست وثمانين الآتي ذكرها أيام سنة خمس وثمانين شمسية؛ لأنه حصل فيها ازدلاف، إذ لا يكون تحويل سنة العالم[82/ب] بدخول الشمس أول دقيقة في الحمل إلا في أول شهر محرم من سنة سبع وثمانين وألف، وهي مع ذلك بالنظر إلى القمرية لا تسقط بل هي سنة ست وثمانين بعد الخمس والثمانين الماضية، وإنما هذا السقوط والازدلاف باعتبار السنة الشمسية والزحلقة بأيام البين، وهي إحدى عشر يوماً وكسور في كل سنة، والله أعلم[83/أ].
وفي هذه الأيام كان مزيناً حلاقاً معه مرآة من بلور عوجا فيمرِّي القبائل بها فيرون وجوههم عوجاً فيقول لهم: ما رأيتم؟ فيقول: معه علاج لذلك، فيأخذ شيئاً من الجلود يسوي بها وجهه على زعمه، ويخرج مرآة أخرى صحيحة فيقول: ما رأيتم؟ قالوا: زالت العوجة، فيعطونه شيئاً من الأجرة، وكان هكذا يفعل، وإنما فطن به من يفطن، فكان آخر أمره أن أصيب بشيئ من الطَّرش وبقي في حالة ضعيفة. وأولاد جبل الهمداني الذين كانوا بصنعاء، لهم من البيع والشراء، والثروة والغنى، فلما كان منهم من الفساد، وظهر عليهم القبائح، وقُبضوا غير مرة على ذلك عوجلوا بالعقوبة وتفرقوا وخسروا، فراح واحد منهم إلى مكة ظهرت عليه فيها سرقة، فقطعت يده.
والآخر كان في أعظم مما جرى له. وشيخ برط يقال له: الشيخ قاسم، كان شريراً قد قتل نفوساً، ونهب أموالاً، فأصيب ببطلان نصفه، فبقي كذلك مدة، ثم صار أعرج يسير على العصا، وسلم الناس شره، وسار في أعظم حالة.
وفي هذه المدة ترجح للقاضي مهدي الحسوسة الثلائي بأن حبس فقيراً من فقراء الشيخ أحمد بن علوان -نفع الله به- في حصن ثلا، لأجل منعه من دق صدره بالدبوس حال جذبه، فترجح له بأن قفز من رأس الحصن من الحيد[83/ب] فوقع فوق غرارة قشر في سوق ثلا، وسار على قدميه لم يضره شيء مما جرى، وسلمه الله تعالى ببركة الشيخ أحمد بن علوان، نفع الله به، فلما رأى ذلك القاضي مهدي اعتقد بركة الشيخ أحمد وخلَّى سبيله، ولم يعترض له ولا لغيره من الفقراء، والله أعلم.
وإلى هنا انتهى الدور الثالث من أول الإسلام الذي يدور على ثلاثمائة وستين سنة، لكنها سنة شمسية، فيزيد على هذا بخمس سنين، فيكون انتهاؤه في سنة خمس وثمانين وألف، وعند أهل الفلك أنه يكون فيه انقلاب الدولة في بعض الجهات، واستيلاء بعض الملوك على بعض والقدرة لله تعالى.
ودخلت سنة ست وثمانين وألف
قيل: إنها استهلت بالخميس. وجاء الخبر أنه وقع بين الحجاج حال دخولهم مكة وبين الحرامية من أهل بلاد الحجاز فيما بين الشقيق وحلى، وأنه راح من الطائفتين مقتلة.
والإمام هذه الأيام حمل بعض خزانة ضوران إلى صنعاء، وظهر أنه في النية للارتحال إليها، والحجاج من الأولين وصلوا في العاشور وأخبروا أخباراً إجمالياً بأن الحج مبارك، والشامي فيه قوة والمصري دونه، وظهر خبر بأن سعد بن زيد جاء له طلاب إلى حضرة السلطان، وأنه قد كاتب إليه يطلب الأمان، فقيل: إنه سار مع أمير الشامي، وهو بين الخائف والراجي، وخاف القبائل من الباشا في إيواء المذكور، فاضطر إلى ذلك.
وفي الجملة أن هنالك ربش في بلاد الحجاز، وشدة وطأة من عساكر السلطان، حتى دوخوا تلك البلاد، وأمنوا سبيلها وزال الفساد. وأصبح يوم ثاني الشهر المذكور حال وصول[84/ب] أول كتب مكة دخل أحمد بن الحسن من الروضة إلى صنعاء، ولقاه محمد بن الإمام إلى الجراف، وسار إلى الروضة وافق محمد بن أحمد للاعتذار، من أجل ما كان صدر من جانبه إلى جانب محمد بن أحمد في منعه من حمل الأثل، ومصادقة محمد بن الإمام للناظر على الوقف، وما جرى من ذلك العمل،ثم دخل الجميع صنعاء وكان من الحاث له على ذلك والمعاتب أحمد بن الحسن، فإنه لام محمد بن الإمام، وقال: مثل هذا الشيء الحقير مدروك مع الأناة على الوجه الجميل،والحق أحق أن يتبع، وليس لأحد مخالفة له ولا مطيع، ومحمد بن أحمد قد معه حكم شرعي في ذلك، وأنه مما يتصل بأملاكه وتحت يده، مع أنكم لو طلبتموه هبة لوهبه لجانب الوقف، ولم يبخل به لحقارته، ولا يجري في الوسط بسببه.
وروى بعض الحجاج أن الشامي خرج فيه باشا بقوة قيل نحو عشرة آلاف، وقال آخر: إن الخارج الوزير، وهو حسين الذي خرج في عام ثلاث وثمانين وألف.
[85/أ] وفي شهر المحرم منها توفي الشريف السيد محمد بن صلاح بن جحاف الحبوري بحضرة الإمام بضوران، وكان من الملازمين له لا يفارقه في جميع الأوقات والأزمان، وعليه في الكتابة والإنشاء عهده، ويعتمد الإمام قوله وشوره.
وكان قد بلغ المذكور في الكبر ما أعجزه آخر مدته عن الكتابة، كما كان أولاً يعتاده. وكان في المدة المتقدمة ملازماً لشرف الإسلام الحسين بن القاسم في هذه الوظيفة، ثم لما مات الحسين لازم الإمام المؤيد بالله، ولما دعا أحمد بن الإمام القاسم بشهارة بايعه من جملة غيره، ثم لما استقرت الدعوة للإمام إسماعيل وصل إليه إلى ضوران، فلامه وقال له:لم بايعت الصنو أحمد؟ فقال: بغير اختيار منه، وكان يظن أن الأمر مجتمع له، وبينه وبين الإمام إسماعيل نسبة وصهارة، فإنه ابن خالته، وكان السيد أولاً قد جعل له الإمام[85/ب] ولاية ظُلَيْمة ، وبلاد شظب، فكان فيها ولاة من تحت نظره، والكلام فيها والأمر يعود إليه، ثم لما مات شرف الدين الحسين بن المؤيد بالله بن القاسم وصارت شهارة وبلادها إلى يد ولد الإمام إسماعيل أحمد بسط اليد على تلك الجهة، وتصرف فيها، وأمر قبَّاضاً إليها.
وفي آخر هذا الشهر خالفت بلاد الحجرية، ومنعوا بلادهم عن المتصرفين فيها باليد القوية، وكان أول حادث ما سبق ذكره من قبل العشرة الأنفار من أصحاب محمد بن أحمد بن الحسن، ومنهم النقيب ابن جومر من الأهنوم، كما سبق ذكره، فأرسل الإمام إليهم رسولاً برسالة يطلب منه الديات، وتوعدهم إن خالفوا أمره بالعقوبات، ثم قال الرسول: إن لم يتم هذا فالسيف إليكم مكان ذلك، فقتلوا رسوله ومن معه، ثم أرسل جماعة عسكر بأدب، فردوهم عن دخول بلادهم، ومحمد بن أحمد قد كان أهم أن يخرج عنها إلى يَفْرُس ، فلما حدث هذا الحادث أرسل الإمام بأول شهر صفر ولده علي، وكذلك أحمد بن الحسن أرسل السيد صلاح بجماعة عسكر.
وفيها توفي الفقيه علي بن محمد البحيح [86/أ] الذي كان كاتباً للبصائر بمدينة صنعاء من مدة حيدر باشا إلى هذا التاريخ، وقد كبر في السن، وكان في مدة حيدر باشا قد جعلوه فندياً بمدينة عَمْران في البَوْن بأمر الباشا، فبقى هنالك برهة على هذه الوظيفة.
وفي شهر صفر منها توفي الفقيه بدر الدين محمد بن علي المرواحي الشافعي، كان المذكور ساكناً بصنعاء من مدة دولة السلطنة، وله وظيفة في محراب مسجد عقيل أول المدة، ثم نائباً عن الفقيه هادي العولقي، ثم صارت وظيفته في مسجد جناح ، حتى مات في التاريخ المذكور يؤم بالشافعية من الساكنين صنعاء، وكان فقيهاً.
وفي نصف صفر الآخر جاء الخبر بأن محمد بن أحمد غزا إلى الزَّرَّيقة -بتشديد الزاي ثم الراء-، لما وصل إليه أوائل الغارة، وهم أحد قبائل الحجرية الذي وقع منهم الحدث السابق ذكره من تلك القضية، فواقعهم، وقتل منهم ثلاثة انفس وثمانية مجاريح، وانتهب عسكرهم عليهم نحو مائة وخمسين رأساً من الغنم.
وراح من العسكر أربعة أنفار وقيل: خمسة، وأخبر من حضر الوقعة من الذي راح من أصحاب محمد بن أحمد قدر عشرين نفراً، وأن الحرب استمر أربعة أيام، فلما بلغهم وصول علي بن الإمام إلى يفرس هربوا في الليل في الأودية والشعاب والجبال، فلحق من آخرهم يوم ثاني هربهم، انتهب عليهم ذلك النهب وقتل منهم ثلاثة أنفار وثمانية مجاريح[86/ب].
وقال الراوي: وتميل إلى الصَبيَّحة ، إلى قريب بلاد بن شَعْفَل ، وكان سائر الحجرية في الباطن مع أصحابهم.
وفي هذا الوقت جاء خبر من بلاد شام صعدة بأن حسن بن الإمام غزا إلى قبائل بني مِنَبِّه ونحوهم؛ لأجل حدث أحدثوه، وفعلاً فعلوه، وهو أنهم غزوا من بلادهم إلى بطن تهامة من ما يقرب من بلاد ظهر الجمل، وأنهم نهبوا قرية فيها يقال لها: العِرة ، ورجعوا بلادهم بعد هذه الغزوة، فقصدهم المذكور من جبل رازح فلم يظفر بهم لعسرة الجبال، وقيل: ظفر بقرية أخرب جانباً فيها وعاد رازح.
وفي عشرين من شهر صفر وصل الزوار من المدينة المشرفة، فذكروا أن الباشا حسين مستقر، وأنه ما رجع مع المحامل بل سكن بمكة، وأنه تمشى وطاف إلى جدة في جند واسعة، وعمل آغا جده له سماطاً كبيراً.
وفي هذا الشهر هجم الفقيه حسين بن يحيى حنش على جماعة من السادة في شهارة وهم سكارى، فقبض منهم البعض وهرب البعض.
وفي آخر صفر جاء الخبر المحقق مع بعض الوافدين من الحجاج الحقيقين الثقات المحققين، فأخبرني من لسانه أن الخارج[87/أ] حسين باشا مع الشامي، وأن جملة خيله التي خرج بها ثلاثة آلاف وخمسمائة، حسبما حصره الأشراف، من غير الأتباع والعساكر من الرجال.
قال: وكان عقب تمام الحج ووقت السفر للحجاج إلى كل نهج جهز أمير محمل الشامي مع حاج الشام والروم، وهو بمن معه من الخيل الملموم استقر بمكة، وطرح بوطاقاته في المعلاة رأس مكة.
قال: وكانت الأوامر والنواهي بمكة أيام الحج له حاكماً على أمراء المحامل،وعلى الشريف بركات وجميع الوافدين والأطراف، قال: وحال أن عزم هو هنالك، ثم أكد قوله الواصلون من الزوار في أول شهر ربيع الأول، فذكروا جميعاً: أن الباشا حسين بمن معه رجع إلى الشام، ولم يكن بمكة ما يوجب البقاء، والله أعلم.
وفي أول شهر ربيع وصل الخبر إلى صنعاء بأن بعض أهل برط من ذي حسين قصدوا إلى حصن الزاهر بالجوف غازين وإليه باغتين وصائلين، فخرج فيهم الأشراف من أهل الزاهر، ووقع بينهم الحرب والقتال، فقتل من برط جماعة ومصاويب، واصتاب من الأشراف ومن معهم جماعة سلمهم الله، ثم انهزمت برط ورجعت بلادهم، وكان من جملة المصابين ابن الأمير على صاحب الزاهر، فتحمل الأمير علي وكتب إلى الإمام في هذا الحادث والإلمام، وإنهم إن عادوا أجاش بالقبائل والأحلاف مثل سفيان ونهم، ويغزي أطراف برط للانتصاف.
وفي آخر صفر وصل الزوار وأخبروا أن حسين باشا، عاد إلى الشام بعد أن لبث بمكة هذه الأيام[88/أ].
وانظر أيها الحليم والعاقل الرصين الفهيم ما أرثه قضية حسين باشا في حرم الله وأمنه، وما جر فيه من البأساء فإنه ما زال جميع هذه السنين من حال فعلته إلى هذا التاريخ أحوال مكة لا تزال متغيرة، والمخارج إليها لا تزال متلاحقة، والله أعلم ما يكون منتهاها، وما يبلغ إليه أقصاها، وكذلك ما لحقها من الأسباب من جهة اليمن، كما سبق ذكره، ورأيت في أبيات ذُكرت في ملحمة أنها مأخوذة من الجفر في قضايا مكة فذكر فيها أحوال سعد بعد موت أبيه وما يجري معه، فقال الشيخ بدرالدين المصري :
إذا مر بعد الغين جعد فقد يكن
حوادث أحوال فكن متأولا
يكون بميم ضجة وتخالف
بساكنها والوافدين ومن علا
قال بعض من حسب على قوله (بعد الغين جعد) أي سبع وسبعين وألف سنة.
وهو كذلك؛ لأن الغين المعجمة ألْف في حروف أبجد، والجيم ثلاثة والعين المهملة[88/ب] سبعين سنة، والدال أربعة يكون الجملة ألف وسبع وسبعين كما ذكر، والميم مكة والحوادث في مكة حصلت من هذا التاريخ، وقال في هذه الملحمة: بعد ذكره لسعد بن زيد قال ابن بسطاهر ما لفظه:
ومن بعد قل يليها الفتى
وصاحب مصر يكون ابن قر
يردها من الغرب جيش العريم
وزرق العيون وحمر الشعر
وهذا يكون إلى عام قاف
ومن بعد قاف يكون الفخر
وفا بعدم زمرى بها
يكون مليك بأقصى هجر
يبيد الأئمة وأوطانهم
ويخرجهم من حصون شذر
وقال فيها:
وها قاف بهذا أراه
توارى مهديها قد ظهر
وقد خرج في سنة ثمانين حسين باشا، كما سبق تاريخه، وقد أباد أمراء مكة الأولين كسعد وإخوانه، وإن أريد بهجر هجر الحجاز، فقد صدق عليه أنه كان بمكة مليك بأقصاه، وإن أريد بذلك غيره فالله أعلم بغيبه.
وقوله: (يردها من الغرب جيش العريم)، يريد به مصر[89/أ]، وقد وردها بعدما جرى بمكة محمد شاوش بجيوشه، ثم جيوش حسين باشا السابق ذكره، ثم لحق هذا العام حسين باشا كما ذكرناه، والله أعلم ما يكون من أمرها، وما يتعدى عنها.
وقوله: (يكون إلى عام قاف)، قال بعض المحسبين: أي مائة سنة بعد الألف، ولعلها تواصل المخارج كذلك في هذه السنين.
وقوله: (وها قاف) أي بعد خمسمائة سنة وألف يكون ظهور المهدي المنتظر الذي يقوم آخر الزمان من مكة المحروسة، وينصره منصور حمير الأَجْبَه الرعيني من اليمن، ومدته متأخرة عن هذا الوقت بحول أربعمائة سنة فأكثر، والله أعلم بالغيب.
وجاء الخبر من مكة أن العبادية الذين طلبوا من مكة بلغوا إلى مصر، وتحقق خبرهم صاحب مصر وأعادهم إلى أماكنهم ومستقرهم، ووصلوا مكة في هذا الموسم آخر السنة الماضية، وسكنوا بيوتهم على سالف أحوالهم.
وجاء خبر أن يوسف بيك متولي جدة توفي.
وفي يوم الجمعة رابع عشر شهر ربيع الأول وقع قران الزهرة وزحل ببرج الثور.
وفي هذه الأيام هرب جماعة من عسكر حسن بن الإمام من جبل رازح، فبعضهم سكن في بيته بالأهنوم وغربان، وبعضهم وصل إلى حضرة الإمام، وكذلك أيضاً هذه خرج إبراهيم بيك إلى جدة متولياً.
وفي هذه الأيام وصل إلى حضرة المتوكل جماعة من عسكر زبيد يشكون من واليهم السيد حسين بن زيد بن جحاف ، وكذلك وصل إلى أحمد بن حسن عسكر من عدن يشكون من واليهم السيد حسن الحرة.
واتفق بين ولد يُسمى علي بن محمد بن أحمد بن الحسن وكان شاباً وبين سيد من بني عامر يُسمى حسن بن علي بن محمد بن عامر قضية، وهو أن ابن عامر كان وافداً في الغراس أن طعن علياً بالجنبية فبقى خمسة أيام ومات، فبقي عند أحمد بن الحسن، وإنما حبسه وشفع إلى ولده محمد بن أحمد أن يعفو عن القَوَد[89/ب].
وفي هذه الأيام هرب عسكر زبيد ووصلوا إلى حضرة الإمام وشكوا من ولد السيد زيد بن جحاف واليهم، وكذلك وصل إلى حضرة أحمد بن الحسن عسكر من عدن يشكوا من الشريف حسن الحرة، قصّر في أحوالهم بالمرة، وخلا هذان الموضعان من العسكر في وقت واحد مما يقضي بالعجب والعبر.
وفي أول هذا الشهر وقع فيما بين ولد لمحمد بن أحمد بن الحسن يسمى علياً وبين شريف من بني عامر عم الإمام القاسم يسمى حسين بن علي بن محمد بن السيد عامر قضية، وهو أن السيد المذكور كان وافداً إلى الغراس حضرة أحمد بن الحسن طالباً منه ومسترفداً، فكان تصاحب هو وعلي بن محمد الحسن فاتفق بعض الأيام بينهما صفاط ومزاح في خلوة، فكان من السيد ابن عامر أن طعن علي بن محمد بن أحمد بن الحسن بالجنبية بين جنبيه، ودلقه من سطح حتى أرداه، فبقى متالماً قدر ستة أيام ثم مات، وذلك أن الطعنة خرقته إلى باطنه، فدخل الدم باطنه، فما زال يخرج من فيه ومن مخرج طعامه[90/أ]، والشريف بن عامر أمر أحمد بن الحسن بحبسه وقيده، ومنع عن التقدير إليه حتى يأتي ما يقول والده، وكان علي بن محمد المقتول في سن البلوغ أو يراهقه، والقاتل شاب عاضل.
وفي هذه الأيام ظفر محتسب صنعاء برسول من كوكبان وشبام قد أوقر حماره خمراً، شراه من شيخ اليهود بصنعاء، وقبض كتبه التي إليه من هنالك، صادف أنها من سادة وشيعه، فأحبس ذلك الرسول وشيخ اليهود.
وفي هذه المدة أخبر بعض من سكن في الطائف السنة الماضية فذكر أن أهل الطائف تحول مستقرهم إلى جنب مشهد عبد الله بن العباس ، بحيث أن بعضهم بنى على القبور، كل ذلك لأجل المجاورة لعبدالله بن العباس والدخول في حوطته، لأجل احترامه؛ لأنه حصل عقب وفاة زيد بن محسن ما حصل من التخطفات من القبائل وعدم الأمان مثل ما كان في ما مضى من الزمان وتكرر الصايل.
وفي هذه الأيام وقع بين ذَيْبَان وعيال عبد الله مغازي.
وفي ثامن عشر شهر ربيع الأول يوم الثلاثاء توفي النقيب سعيد المجزبي بمدينة صنعاء، بعد وصوله من ضوران في أول هذا الشهر، وهو مريض، وكان باقياً بضوران بعد العزل له هذه المدة، فلم يأذن له الإمام بالعزم إلى صنعاء إلا عند مرضه.
وفي ثامن عشر شهر ربيع الأول توفي النقيب سعيد المجزبي فوصل صنعاء حال كونه مريضاً، ثم توفي وقبر بخزيمه غربي صنعاء، وصار فريداً وحيداً، ليس له أنيس غير عمله الصالح، بعد أن كان استمر في غرة الدنيا ورياستها هذه المدة الطويلة، في ولاية بندر اللحية والضحي وما إلى ذلك من تهامة حول أربعين سنة فأكثر، من وقت حسن بن الإمام وفتحه لذلك البندر في تلك الأيام.
وأصله كان مملوكاً لشيخ من مشائخ شام صعدة يقال له: ابن مجزب فوهبه لحسن بن الإمام أيام ولايته لصعدة في مدة الإمام القاسم، فترقى أمره، وارتفع شأنه مع شرف الإسلام الحسن حتى ولاّه اللحية، وبقى بها حاكماً لها هذه المدة الطويلة آكلاً لصفوها، ولذة رياستها وأمرها ونهيها، ثم كان عاقبة أمره العزل وانحطاط علوه[91/أ] حتى توفي.
ومن عجائب الدنيا وكون الملك يعطيه الله من يشاء أنه كان مع الشيخ ابن مجزب قبل أن يهبه لشرف الإسلام حراثاً يلحق البقر وَيتْلِم المال، إن في ذلك لمعتبر.
وفي هذا الوقت أقبلت جراد من جهة الشام، فمرت بصنعاء وحضور والبون، وهبطت إلى جهات وادي سُرْدُد ، وتبعها جراد آخر وفي أذنابها مكتوب........ والله أعلم بحكمته.
وفي هذا الوقت مال بعض قبائل البَرَويَّة إلى محمد بن الإمام، وقالوا: إنهم يسوقون زكاتهم إلى قصر صنعاء، فجعل لهم خطاً مثلما قالوه، فتغير خاطر أحمد بن محمد ، وأرسل عسكر إلى بلدهم فوصلوا شكاة على محمد بن الإمام، فلم يسع محمد بن الإمام إلا ترك ما كان أهمَّ به، واعتذر بأنهم الذين طلبوا ذلك منه[91/ب]، وبعد ثمانية أيام وجاء أمر الإمام بأنهم يسوقون على العادة، وأن ما أُخذ من الأدب يرده العسكر لأهل البروية، فصالحهم أحمد بن محمد واستطاب نفوسهم، وأنهم يبقون على عادتهم، وجعل لهم الوفاء بما كان لهم وزيادة لمشائخهم، فلم تطب نفوسهم.
وفي العشر الآخرة من ربيع الأول وقع بين الحَدَا بعضهم البعض قتال بسبب فرقة على مرعى، فراح جماعة قتلاً قيل: سبعة أنفار.
وأعمال الحجرية سكنت، وأما الزَّريقة الذي الحذر منهم، فهربوا كما سبق.
وعلي بن الإمام وصل إلى يفرس بقي بعض الأيام، واتفق هو ومحمد بن أحمد، وعاد إلى تعز ثم إلى إب، ومحمد بن أحمد عاد إلى المنصورة.
وفي غرة شهر ربيع الآخر وصل حضرة الإمام بضوران خواجا هندي، أمير المراكب التي تصل من بندر سرات، ومعه من الخدم جماعات قدر خمسين نفراً، فوصل إلى الإمام وأعطاه هدية من البزوز الهندية، فأجازه فيها ثم وصل إلى أحمد بن الحسن وهو بالغراس، فدخل صنعاء المذكور في خمسين نفراً من الخدم، في هيئة غريبة، لم يعلم بمثلها في العصور القديمة، وهو أنه يسير في محمل يحمله أربعة رجال، ويسيرون به على الجنوب، عند دخوله صنعاء وخروجه إلى شعوب[92/ب]، وأهل صنعاء يتفرجون على هذه الحالة الغريبة العجيبة. وأهدى لأحمد بن الحسن أيضاً هدية، ولعل الحامل له على ذلك فترة الشراء في بندر المخا، كما يعتاد فيما مضى، فأراد إنفاق البضاعة على هذه الصفة، وإلا فإنه يخرج في المواسم الأولة إلى المخا، ويرجع بعد بيعه فيما مضى، ولما قيل له: كان الأولى لك عدم الإتعاب لهؤلاء الذين يحملونك، أجاب: بأنهم إنجريز كفار لم يسلموا فهم يستحقون ذلك، فلو أنهم أسلموا لما أتعبوا ولخليو.
ووصل عقب المذكور تركي إلى عند الإمام ومعه جماعة الخدم حول عشرين عبداً، وهو من الحبشة مهدية.
وأخبرني الشيخ العارف محمد كزبر الدمشقي، وهو ثقة من أهل العلم على مذهب الحنابلة وصل إلى صنعاء اليمن بحقيقة سفر السلطان وتجهيزه على الفرنج في العام الماضي، وما انتهى إليه أمره، فقال من لسانه وخطابه: أن هذه البلاد[93/أ] التي قصدها السلطان، وحصل فيها الخلاف في هذا الزمان في أطراف الروم شمالاً، وأنه ليس بجهات مالطة، فإن مالطة بعد استفتاح السلطان لها وعلى قلعتها في التاريخ السابق سنة تسع وسبعين وألف استمرت في مملكته، ولم يحصل بعد ذلك فيها خلل على عسكره ورتبه، وأن هذه بلاد أخرى مشرقة عن تلك الجهة المغربة.
قال: وكانت لهم قلعة مرتفعة فيها الأبنية المحكمة تسمى قلعة عمارية، فلما قصد إليها السلطان وعساكره وبواتره ومدافعه ومكاحله بقى السلطان رداً للعساكر قدر مسافة ثلاثة أيام، وتقدمت عساكره لقتال الفرنج الطغام، فاحاطوا بها جميع جهاتها وقتلوا من حولها، واحتفروا تحتها سراديب، وشحنوها[93/ب] من البارود كثيراً مما يحملها، ثم جعلوا فيه النار، فاحتملت القلعة بمن فهيا وقلبتهم من أعاليها، ودخلوها بالسيف قتلوا من بقى فيها، وأمر بخراب ما بقى منها، فخربوها جميعاً، وعاد السلطان إلى محله وتخت مملكته بالروم إلى اسطنبول ، وجعل في حدود تلك البلاد التي استفتحها سبعة من الباشات أمرهم بحفظ تلك الأطراف، وأنهم يلحقون من بقي من الفرنج إلى باب اسكندر ، ومهد البلاد وكسر شوكة الفرنج الكفرة بالسيف الباتر الحاد، وعباد الصليب والإلحاد. وكان رجوعه وعوده في شهر رجب من السنة الماضية، وهو الآن غير مشغول بشيء من الحروب في تلك الجهات النائية، وذكر المذكور أنه[94/أ] ربما كان بلغكم تجهيزه إلى اليمن العام الأول، وإنما شغله هذا الحادث من الخلاف من الفرنج، فالله أعلم ما يكون من الأمر في المستقبل.
وفي هذا الشهر توفي صلاح نصار في بلدة الظَّهْرَيْن من حجة، وكان تاجراً كبيراً وحصل معه التأثر والمرض والألم من حال انكسرت الجلبة عليه في البحر، وراح عليه من المال ما يقابل حول ثلاثين ألفاً من القروش، وما لحقه من الخسارة في صافي البن العام الماضي بسبب الهَجْوة وتحارقه في الغرائر وعفنه لشحنه قبل جفافه ويبسه، فلم يصل إلى جدة إلا وقد بطل بسببه، والمال الذي معه له وللسيد علي بن حسين جحاف والي حجة، وكان قد تضرر منه كثير من الزرعة والمتسببين، من أجل أنه كان يجمع الصافي بالصَّلبة في المخازين، فإذا وصل تجار الشام[94/ب] إليها وشرع البيع والشراء فيها باع من الواصلين بناقص بعض شيء مما باعه سائر الناس، لوسعة ما معه لأجل الترغيب أن يشتروا ما قد جمعه، فيشترون منه جميع ما قد معه، ويتركون الشراء من الزرعة وسائر المتسببين، ثم يشترون ويستغنون، فبعد ذلك يبقى حق الزراع مُتَخمناً، لا يجدون من يشتري منهم ولا يبذل ثمناً وهو يشق بهم عوده إلى بلادهم، فيتحكم فيهم ابن نصار في الثمن، ويشتري به منهم بدون ما باعه، ويخزنه في السمسرة ينتظر لمن يصل من التجار من الشام، هذا كان دأبه وحاله في بيعه وشرائه، وهذا منه خداع للمسلمين، فكان الواجب عليه أن يعرض البضاعة من جملة غيره، ويبيع معهم[95/أ] من غير أن يستميلهم ويجرهم إليه ويطمعهم، بل يبيع من طرف ماله، ويشارك غيره، وما جرى به السعر مع طرح البضاعة، فالله المسعِّر، وليس له أن يتحجَّرهم، بل عليه الرعاية للمسلمين، والاشتراك مع غيره من البائعين المشترين، فلهذا السبب ما زال الواصلين بالبن من الصافي إلى الصلبة يدعون عليه.
وظهر في هذا الوقت نقص بيع بني نصار وشراهم عما كان؛ لأجل ما انكسر فيه المذكور، ثم تفرقهم من بعده.
وفي هذا الشهر نَقّص أحمد بن الحسن في عُدد أصحابه وأجناده، وجعل لهم ثلاثة أحرف على السوية، فمنهم من ترك قبض ذلك، ومنهم من قبض إلا أن الحاضرين عنده الذين لا يفارقونه يلحق بتوفيتهم، فأما الغائبين فلم يزدهم على الثلاثة سواء قربوا منه بصنعاء أو بعدوا، وإنما قصر إلحاق التوفية لمن في ديوانه فقط لا يغيبون عنه، وقيل: إن ذلك بأمر الإمام له؛ لأنه يفعل ذلك، والمنكسر يحاسبه وقت الحساب ويقطع له البز بناقص ثلاثة أرباع، ويصح معهم الربع.
ووصل إلى الإمام هذا الشهر طالب العماني الذي يخرج[95/ب] في المدة الماضية بالأعبي من جهاته، وهو رسول من عمان إلى الإمام، لم يكن معه بضاعة؛ لأنه غير وقتها، وإنما يخرج متى سكن سير البحر في أواخر فصل الشتاء، والله أعلم.
وفي هذه الأيام اتَفَقْتُ بالحاج محمد بن أحمد كزبر الدمشقي الشامي الحنبلي، الواصل إلى صنعاء ببضاعة من جهات الشام، بعد أن حج إلى بيت الله الحرام، وزار النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وكان قد وصل العام الماضي وتزوج في صنعاء بزوجة ثم لم يلبث العام الماضي أن عاد وتعوض من البن الصافي، وسار يؤم تلك النواحي، من طريق البحر، وحج بيت الله الحرام، ثم دخل مع المحمل الشامي، واتفق لبعض من أدخله من البضاعة من الصافي الانتهاب من الحرامية من بلاد عنزة غرب الحجاز، ثم لما دخل مع من دخل بعد ما حصل من الانتهاب استقر بوطنه دمشق إلى قريب الحج إلى بيت الله الحرام، وعاد مع الحج الشامي، فحج أيضاً هذا العام، وكان وصوله صنعاء في الشهر الماضي، يستقر فيها إلى موسم الحج، ثم يسافر، وكان وصوله[96/أ] ببعض شيء من بضاعة الشام، ثم يدخل بعوضه من الصافي هذا العام، حسبما ذكر لي، وله معرفة في العلم على مذهب أحمد بن حنبل، مذهب الحنابلة، واستنسخنا على كتاب له يسمى (منتهى الإرادات) في فقه الحنابلة.
قال: إنه المعتمد في جهاتهم، وعليه مدار الفتوى لأهل مذهبهم، فمما وصف لي المذكور أنه قد حج إلى هذا العام نحو خمسين حجة مع الزيارة، كون طريق الشامي على مدينة النبي÷، قال: ووالده في الحياة في قدر تسعين سنة، وذكر أن الشام عامر، وذكر المذكور أن الشام وغيره فيه الفواكه المثمرة، وأنه يكون في الخريف حاراً شديد الحرارة، ولا يقع فيه مطر، وإنما مطره يكون في الربيع في كانون وشباط، وأنه يشتد فيه البرد شدة قوية، وقد ينزل في الجبال بعض شيء من الثلج في تلك الأيام، وذكر المذكور أن فيه من الصحابة جماعات[96/ب]. وذكر المذكور أن المعتزلة الذين يختلطون بأهل السنة في جهة العراق هم الآن الإمامية الاثني عشرية؛ لأنهم في الأصول معتزلة وفي الإمامة اثني عشرية، وأما غيرهم فلا نعلم بأحد، وهو كما قال.
وذكر المذكور أن سعد بن زيد بن محسن الذي كان والياً بمكة الأيام الأولة، وجرى عليه ما جرى من التخويف والإزالة لقاهم في شهر القعدة من السنة الماضية بدومة الجندل في حدود تبوك ، قريب الشام، وأطراف بلاد بني لام، وأنه وافق الباشا حسين حال خروجه بعد استئذانه وأمانه، وأنه أخذ رأيه في القصد إلى الأبواب السلطانية، فقال له: لا بأس عليك، فمر وأتم النية والقصد، فسار المذكور وصنوه أحمد صحبته والآغا زالفقار التركي الذي كان معه، وجماعة من خاصته ومماليكه نحو الثلاثين، وأعطاه بعض شيء من المصروف، وكذلك أمير حاج الشام أعانه ببعض شيء، لما شكا من الضرورة نحو خمسين[97/أ] أحمر، ومن أمير الشامي في قدر عشرين أحمر.
وأخبر المذكور أن هذا الباشا حسين هو باشا مدينة دمشق وبلادها، وعليه جميع أعمالها، خرج إلى مكة مع المحمل الشامي بقوته مع الأمير للحج؛ لأجل ما جرى من النهب من الحرامية والبدوان العام الماضي.
قال: وهو غير حسين باشا الذي خرج الأيام السابقة حال إزالة سعد بن زيد عن مكة، كما مضى خبره، فإن ذلك كان خروجه من حضرة السلطان لذلك الشأن، وأن الهزيمة والقتل الذي وقع العام الماضي في أصحابه، وأن الذي فات حول ثمانية آلاف من المسلمين، قال: وسببه أن الوزير الأعظم كتب إليه أنه يتوقف في مكان عينة من أطراف بلاد الفرنج حتى يأتيه رأيه، ثم إنه حصل إليه القصد من الفرنج، واجتمعوا في جهاتهم، ورجعوا بأجمعهم، فحصل ما حصل[97/ب] وانهزم عن ذلك المحل، وأن السلطان لما بلغه ذلك الحادث تغير واحتمل بنفسه، كما مضى ذكره، وأهم بقتل حسين باشا؛ لأجل اهتزامه، فشفع فيه جماعات من الأعيان والباشات، فترك قتله، وعدل إلى حبسه.
قال: وجملة وزراء السلطان سبعة، وأن أعلاهم في الدرجة الوزير الأعظم وأنه الآن يسمى أحمد، له بعض مشاركة في فقه أبي حنيفة وعلم النحو والأدب، قال: والباشا بمصر الآن له حول سنة وعزل عنها الأول في العام الماضي، وأن السلطان زاد في عساكر بغداد العام الماضي بمثل النصف، فإن عسكر المعتادة قدر اثني عشر ألف، فزاد مثل ذلك، وعوض الأولين غيرهم، فكانوا الآن قدر أربعة وعشرين ألفاً.
قال: وبلاد فاس من أرض المغرب مالكية، وهم في الولاية إلى الأشراف الإدريسية، وكذلك بلاد التكرور فيها أشراف فاطمية، قال: وفي الشام جماعات[98/أ] من الصحابة كأبي الدرداء وغيره مزور مشهور.
وأما قبر معاوية فمختلف فيه غير متيقن، وأن قبر يزيد بن معاوية قد صار مهملاً مهاناً، لا يلتفت أحد إليه، بحيث ذكر أنه قد يطرح عليه بعض الأوساخ، وذكر انتظام عمل مكة، وأن السلطان جعل المشارفة فيها للشيخ العلامة محمد بن سليمان المالكي الفاسي المغربي في النظر على مقرراتها وما يصل إليها وقسمتها، ووضع كل شيء في مصرفه، فانتظمت أمورها، وإن كان حصل، مع الأشراف ما حصل فلم يسعهم إلا الامتثال في كل ما فعل. وذكر المذكور مزيد قوة يد السلطان محمد بن إبراهيم بن عثمان، وامتداد يده في كثير من بلاد الفرنج هذا الزمان، وذكر أن في بعض أطراف الشام باطنية زنادقة، من بواقي القرامطة الردية، إلا أنهم مدوخون عن إظهار قبائحهم بدولة السلطان، وأما فيما بينهم فهم عليه يتركون صيام رمضان[98/ب] ويستحلون الحرام، ويعتقدون تناسخ الأرواح، وينفون البعث، قاتلهم الله، وكأنهم من طائفة الباطنية الغلاة. وذكر أن من دمشق إلى محل السلطان قدر أربعين يوماً براً.
وفي هذه السنة انحسر بحر صنعاء وقارب الرجوع إلى حالته الأولة قبل الردة،ونقصت الغيول المحدثة، ونزل سيل عظيم في الخريف من جبل الحِفا وحَدَّة إلى وادي صنعاء، فأخرب غيل خندقها الذي أحدثه الإمام ودفنه جميعاً، وكان هذا في خرابه رابع مرة، فتركوه، وأهملوه ولم يصلحوه، لمشقته وكثرة خرابه وتغيره.
وفي هذه الأيام قد كان توجه إلى جهة جدة بعض شيء من المراكب الهندية، فلما وصلت إلى حدود جازان تغيرت عليهم الريح فردتهم، وهاج عليهم البحر، فرجعوا إلى المخا، والسبب أن أيام الخريف من أوله يهيج البحر اليماني مدة قدر شهرين، فيعسر مروره بالجلاب، إلا على خطر، ثم يصلح[99/أ] بعد ذلك، ولكن لما تقارب على أهل الهند العود إلى بلادهم، وتضيق وقتهم دخلوا المخا، ولما رأوه من خسارة البيع فيه والشراء.
ووصل من الهند إلى حضرة الإمام أمير المراكب الهندية السراتية، وكان وصوله في محمل يحمله أربعة، ومعه قدر أربعين نفراً في الخدمة، واعتُرض عليه في ذلك، وأنه كان يجعل له محفة على شيء من الدواب، ويترك حمل الرجال وإتعابهم، فقال: هم كفار أسرى، ليسوا من المسلمين الأُجراء، ولم يلبث أن عاد إلى المخا، ليقارب سيرهم، وتوجه مراكبهم وشرى خيلاً من صنعاء، وبالغ في قيمتها أولاً، ثم كثر عرضها عليه، فنقص النصف في قيمتها.
وفي ثاني عشر شهر جمادى الأولى منها وصل السيد صلاح وزير أحمد بن الحسن من بلاد الحجرية، بعد أن لحق بعض الهاربين، وظفر بهم، وانتهب من إبلهم ومواشيهم، وقبض جماعة منهم، وصل بهم إلى حضرة محمد بن أحمد بن الحسن بالمنصورة فحبسهم.
[99/ب] وكان بجمادى الثاني وصل تركي إلى حضرة الإمام ثم إلى صنعاء، ولم يظهر منه خبر، بل قال: إنه خرج إلى سواكن ببشارة من السلطان، وأخبرني الثقة أن معه كتاباً من صاحب سواكن، اطلع عليه يتضمن إخباره بأن سعد بن زيد وصل إلى السلطان، ودخل في مذهب الحنفية، وأنه اعتذر عن سعايته في شأن حسن باشا، وأنه لم يكن منه فقبل السلطان عذره. ثم تعقبه تركي آخر خرج من اللحية قاصداً إلى حضرة الإمام، وظهر أنه رسول قاصد، فاتفق بالإمام وزلجه الإمام بسرعة وعاد إلى اللحية وركب بحراً، فمن قائل: أن معه كتاب من باشا مصر، ومن قائل: أن معه وصاية، ولعله من أجل هذه الأمور الجارية والأحوال الماضية، والله أعلم بحقائقها.
وروى لي بعض المطلعين على الأخبار أن المتوكل هذه الأيام أهم ببعث هدية إلى باب السلطان محمد بن عثمان؛ ليكون بسببها ترك ما عرفه من التحركات هذا الزمان، حتى أنه أشار عليه من أشار بأنه قد يراها السلطان عادة مستمرة إذا تركها، لم يترك طلبها، فلأجل ذلك تركها، لعلمه بعدم الوفاء بها.
واتفق عند ذلك وصول جماعة من أطراف بلاد عمان من المشرق على مطايا، فاخبروا الإمام أن سبب وصولهم إليه هذه الأيام أنهم كانوا في سالف الزمان مستقلون في بلادهم، وأنهم مشائخ على أصحابهم، ثم إن صاحب[100/أ] عمان طالت يده إليهم، وقهرهم وتسلم منهم وعشَّرهم، وأنهم يريدون الإعانة على تقوية بلادهم ومنعها منهم، فما زال يواعدهم ويماطلهم؛ لأن هذه البلاد نائية ولا مصلحة فيها ولا عائدة، لا تصلح إلا للبدوان، ومن قرب إليهم كصاحب عمان.
فأما صاحب اليمن فبينه وبينهم مقاطع ومسافات، لا تقوم بالنفقات، لحقارتها، ولا فيها خير ولا بركة، تقوم بغير أهلها، وكان وصول هؤلاء المذكورين بأول شهر جمادى الآخرة.
وفي هذا الوقت بغرة هذا الشهر أو آخر الأول اتفق عند حسن ابن الإمام بجبل رازح فرقة، فقتل من القبائل خمسة ومن العسكر نفر واحد. وسببه أن بعض القبائل[100/ب] كان يبيع في العنب بالسوق، فاختصم هو وعسكري في القيمة، فقتل القبيلي العسكري، والعسكر قتلوا عند ذلك الخمسة بإشارة حسن بن الإمام، فلما حصل ذلك الإلمام، أغارت القبائل من القرى والآكام، وقصدوا محل حسن ابن الإمام، فهزموهم إلى القلعة، واحتازوا فيها هم وحسن بن الإمام، حتى صالحوا ذلك الشأن وسكنت الفورة والخصام. ثم تعقب ذلك نزول حسن ابن الإمام إلى أبي عريش في هذا الشهر بجمادى الثاني، فاستقر فيه وأراد الغزو إلى أطراف بلاد الحرامية من بني حبيب ونحوهم، وكتب إلى والده بإرسال عسكر وعينة، فأجاب عليه بترك ذلك هذه الساعة، ولعله حتى يتحقق أخبار ما يصل إلى مكة وهل هناك من جهات السلطان[101/ا] حركة، وكون التحريك في تلك الجهات الشامية يوهم ما يوهم على عساكر السلطان، فالأولى طي هذا الشأن وهو الذي أشار به أحمد بن الحسن وغيره على الإمام.
واتفق بصعدة في شهر جمادى الأولى قضية، وذلك أن السيد أحمد بن إبراهيم بن محمد المؤيدي وجماعة من السادة والفقهاء في صعدة من الدَّرسة استنكروا على أهل فندق الحديد مناكير من المعازف والغناء ونحوها، حال عملهم في الليل للحديد، فرفعوا ذلك إلى علي بن أحمد والي صعدة، فحبسهم، فوصل إلىعلي بن أحمد الفقيه عمر المتولي على الفندق من قبل الإمام، فقال لعلي بن أحمد: هؤلاء أمرهم إليَّ، فاخرجهم من الحبس، فتغير السيد أحمد وسائر درسة صعدة، وقالوا: هذا منكر قد رضي به[101/ب] هذا الفقيه، فاجتمعوا جميعاً عليه وضربوه بجامع صعدة ضرباً مبرحاً، ثم خرجوا عن صعدة إلى محل السيد أحمد بن إبراهيم وبلده، وكتبوا إلى الإمام أنه إما أزال ذلك الفقيه وعزله، وإلا هاجروا عن صعدة، فأهمل الإمام ذلك الأمر بعد أن كان أهم بإرسال القاضي عبد الله التهامي في شأنه. والمنكر إذا قد ثبت يجب إزالته مهما أمكن على الوجه الواجب الحسن، غير أن مجرد الغناء فيه خلاف بين العلماء، والمختلف فيه على العامي لا ينكر عليه.
واتفق عُقْبه بصنعاء أن القاسم بن محمد بن الإمام خرج من مسجد الحميدي، فوافق ابن صائم الدهر الخمري ومعه خمر حامل له، فأمر القاسم خدمه بقبضه، فسل عليهم جنبيته، فأمرهم بكفه وضربه بيده ضرباً مبرحاً حتى سال دمه، فشكاه إلى والده وقال: إن الخمر له[101/ب] ثم إن والده محمد بن الإمام لم يعجبه ذلك بعد شكا إليه المضروب مما جرى له.
وفي آخر شهر جمادى الآخرة وصل كتاب من جدة إلى التجار أنه خرج إلى جدة والي يقال له: إبراهيم بيك، فتولاها [102/أ] ومعه بعض عسكر وزيادة إلى مكة.
وفي هذه الأيام اطلق الشيخ الهيثمي الذي كان محبوساً بحصن كوكبان بحبس الإمام فأكرمه صاحب كوكبان غاية الإكرام، وأركبه حصاناً، وسار شاكراً بعد أن حصَّل في الحبس قراءة القرآن، وهو في الأصل من البدوان، وطال حبسه إلى هذا الأوان.
وفي نصف جمادى الآخرة وقعت زلازل بضوران، تتابعت قريب مما حصل في العام الماضي.
وفيه اتفق قتل رجل سَلاَّط في شارع بالقطيع بصنعاء في الليل ولم يعرف قاتله.
وفيه اتفق خصام بين حمالين يقال لهم: العوبسات الساكنين في جبل الحفا، خارج صنعاء، وبين بني قرمان فقتل من العوبسات واحد ومصاويب من الجميع، كان ذلك بقاع الحفا على حمل حب لبعض من اكترى من الصراب إلى صنعاء.
[102/ب]وفي شهر رجب سار علي بن أحمد من صعدة إلى نَجْرَان ، لتغلب أهله عن المطالب، فقبضها منهم قهراً.
وفي هذا الشهر وقعت فرقة بين عسكر حسين بن الحسن برداع، فقتل واحد من أهل الشام.
وفي هذه الأيام ظهرت جراد جاءت جهات لحج وأبْين ، ومرت في اليمن غير ضرر.
وفي سلخ شعبان وصل طلاب لمحمد بن الإمام من والده الإمام، فسار إلى ضوران.
وفي هذه الأيام وقع بين بني أسد ومرهبة خصام وقتال على حدود المرعى،فقتل من مرهبة رجل وامرأة، ومن بني أسد رجل وامرأة، فخرج عليهم أدب من الدولة.
وفي هذه الأيام طلع السيد حسن الحرة من بندر عدن إلى حضرة أحمد بن الحسن بما معه من محصول البندر، وكذلك لحقه السيد حسن الجرموزي صاحب المخا، وصل إلى حضرة الإمام لمحصول الموسم فيه يقال: فوق مائة حمل من البز والدراهم، فاستقل ذلك المحصول الإمام، فإنه كان والسيد زيد يحصل قريباً منه، ولم يكن في مدته له إلا نصف محصوله، ونصفه لمحمد بن الحسن في أيامه.
[103/ب] وفي هذا الشهر زَلَّج الإمام الشيخ الدرع من مشائخ المشرق، الذي ضمن عليه الهيثمي، أعطاه عطاءً واسعاً، وسار بلاده بعطاءٍ فوق قدر حالهم ومنازلهم، وأما الهيثمي فمنع من عزمه الحسين بن الحسن.
وانقطع هذا العام والذي قبله ما كان يرسل به من حضرموت، وهو شيء يسير لا يكاد يقوم بما ينفعه على من وصل من مشائخه، مع أنه لم يبق منه إلا الإسم بعد الثمانين وألف، لعوده إلى آل كثير الذين كانوا أولا به، كما سبق ذكره، وكان حاله ذلك كما قال ابن المقرِّب في ديوانه:
أموالهم لذوي العداوة نهبة
وعن المكارم في ندا الجوزاء
لا يعرف المعروف في ساحاتهم
إلا كما يحكى عن العنقاء
وقوله أيضاً:
ولا يعد كريماً من مواهبه
تمسي وتصبح في أعدائه ديمَا
والبخل خير من الإحسان في نفر
أبرهم بك من أغرى ومن ختَما
وواسع الجود في أعداء نعمته
كمودع الذيب في بر له غنَما
من استخف بأرباب العلى سفهاً
وسامها الخسف أدمى كفه ندمَا
والإمام عذره التأليف لهم، لمصلحة سكونهم عن الفساد، ولكن فسادهم في تلك الأطراف على أنفسهم لا تزال بينهم.
والجراد عادت من الشام إلى الجنوب[104/أ] ولم تضر لظهورها في فصل الشتاء، بعد رفع الناس للثمار، مع أنها صارت تأكل من الحشيش والمراعي، ولم يحصل ضرر منها، مع سقوط الأسعار إلى الغاية، بلغ قدح صنعاء إلى اثني عشر بقشة، وهو زائد بالنصف على ما كان أول هذه الدولة، فيكون سعر القدح القديم الذي كان في مدة المؤيد بالله سبعة كبار ستة كبار.
وفي هذه الأيام لما طال بقاء الذين وصلوا من أطراف بلاد عُمان عند الإمام طلبوه الزلاج والإمداد، وإن لم فهم عازمون إلى بلاد السلطنة، وباشا البصرة وبغداد لطلب المعونة، وأن بلاد السلطنة إلى بلادهم أقرب من تلك الجهة، وأنها ما بين عُمان والعراق.
وروى بعض البدو من المعَضَّة الذين في سفال الجوف أن بينهم وبينهم مسافة سبعة أيام في الرمال، وبينهم وبين العراق مثلها، وكانت بلاد عُمان من أول إلى سبعة، كل جهة يليها شيخ بلادها وقبيلتها، ثم أنه استولى على الجميع هذا الزمان الذي فيها، فهؤلاء ممن كان[104/ب] الأمر في بلاد لهم، فمرادهم في الظاهر رفع يد سلطان بن مرشد العماني اليعربي عنهم. ولم يكن هناك مصلحة للإسلام من أهل اليمن، لدخولها، لبعدها ومشقة طرقها والمقاطع فيها فيما لا تحمل القاصد إليها بل ولا هي تحمل من سكنها لغير أهلها.
وقد قال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } فإن هذه الآية نزلت في النهي عن إلقاء النفس في التهلكة في المقاطع والآفاق، من غير نفقات فيها وما يحملهم من أرادها، وهذا كالمتعذر، والبحر لا صناعة لأهل اليمن في عبوره وحروبه، ولأن اليمن كثير المعارضات من أهله والمخالفات، فإذا سارت عساكر إلى تلك الجهات رفعت رؤوسها من كانت المخالفة مضمرة في خاطره، فالأولى طي ذلك، والاشتغال بالموجود عن طلب المعدوم، والسعي في الإصلاح.
[105/أ] وفي ليلة الأربعاء نصف شهر شوال خسفت القمر فجراً في برج السرطان بعقده الذنب، وغربت خاسفة. وكان خسوفها العام الماضي في هذا البرج، إلا أنه كان عند طلوعها.
وكان في هذا الشهر أيضاً بأوله اجتماع الخمسة الكواكب برج الجدي الشمس والقمر والمريخ والزهرة وعطارد.
وجهز الإمام مع حاج اليمن الذين يعبرون طريق تهامة النقيب فرحان، فسار آخر الشهر.
وفي هذه الأيام وصلت أخبار بأن العماني خرجت جلابة إلى البحر، وفيها عساكر، ولم يتحقق قصده بها، والله أعلم.
وفي هذه الأيام قالت عجوز من عجائز صنعاء أنها تعرف زمان الإمام شرف الدين[105/ب] وزمان أولاده المطهر وعلي بن الإمام ، حيث كان في حصن ذمَرْمَرْ من قبل نزوله إلى اليمن، وجميع الباشات، وأن عمرها إلى الآن قد صار في نحو مائتين سنة.
وفي الشهر الماضي حصل في بلاد هِزَم قتل امرأة بضربة في رأسها من زوجها بسبب تهمة فيها في فاحشة تعدي عليها، بغير طريقة الشرع ظلماً وطرحها في ماجل، فاستجاش أبوها عليه فوقع مقاتلة راح جماعة من نساء ورجال، بسبب ذلك الفعال، فخرج عليهم أدب وعسكر من جهة الدولة.
وفي وقت السحر من ليلة السبت ثالث شهر شوال، وقعت زلزلة بصنعاء وغيرها، انتصب النائم من نومه، وتبعتها أخرى مثلها، فلله الأمر.
وفي هذه السنة والتي قبلها أصاب رجلاً في يده آكلة، ما زال معذباً بها مدة طويلة، لا يذوق فيها المنام، ولا يهنيه الشراب والطعام، حتى أجافت، ولا يقدر أحد يدخل منزله، الذي فيه مسكنه. وكان المذكور سناداراً أولاً في مسجد الخراز، ثم في مسجد الأبهر، وكان شاباً طويلاً عظيماً، ويقال: إنه من القبائل، ليس من أهل المدينة، ثم أنه لما طال به ذلك ولم ينفعه الدواء قطع يده اليمنى باختياره، أمر من يقطعها له[106/أ] ودملها بالسمن والقُطْرَان، وكان قد أشرف على الموت، ونحل جسمه، وصار عبرة لمن رآه. وسبب ذلك كما وصف الواصف أنه أفسد وجنى هو وآخر معه، وكان قد طال عمله وفساده، ثم إن والي المدينة محمد بن الإمام طلبه، فاعترف صاحبه، فأقام عليه حد الزنا، وهو مد يمينه لليمين فيما وقع منه وجنى، وربما قد فعل غيره من السيئات والعظائم من نحو السرقات، فوقع فيه تعجيل العقوبة، فنعوذ بالله من سخط الله، ونسأل الله الحماية وحسن الخاتمة، فمن رأى حالته هالته، وعلم أن التجارئ على الأيمان وسائر الكبائر والعصيان عظيم الشأن، وأما الأيمان الفاجرة فالأغلب فيها المعاجلة، فقد رأينا عقاب أهل وادي السر بأيمانهم الفاجرة، كما سبق ذكره فالحذر الحذر من التساهل في الأيمان والطغيان.
وفي هذه الأيام أمر الإمام[106/ب] في جميع اليمن أن تقوَّم أموال الذميين وأملاكهم، ويؤخذ منهم العشر، فجُمع للإمام شيءٌ كثير من ذلك.
وفي هذه السنة سار حسن بن الإمام إلى جهات فيفا، أخذ منهم شيئاً من الطعامات؛ لأنهم لا يسلمون الزكاة، ثم طلع جبل رازح.
وفي يوم الخميس ثالث الشهر سار الإمام إلى معبر من ضوران، لما كثرت الزلازل فيه والرجفات، ولا سيما رجفة ليلة السبت، فإنها كانت رجفة عظيمة في ضوران، حتى تشققت أكثر البيوت هنالك وخربت زريبة غنم أو بيت على الغنم، وانشق دار الحصين شقاً عظيماً، ودعموا الدار الخضراء بالدعائم، وسقطت غرة بالجامع، وانشق دار السيد حسن الجرموزي الجديد وكثير من سائر البيوت، ولم يبق بينها وبين الخراب إلا اليسير، وتساقط من جبل ضوران كثير من الحجارة، وكانت هائلة عظيمة، وهي التي امتدت إلى صنعاء في سحر ليلة السبت كما سبق، إلا أنها كانت بصنعاء خفيفة، والله يرحمنا.
روي أنها لما وقعت بضوران دامت قدر قراءة شرف يس، تزلزلهم زلزالاً شديداً حتى خاف منهم من خاف بانهدام البيوت عليهم، وسقطت أواني الصين من الطاقات والعلايق، ومنهم من أراق الماء، ومنهم من أجراه بطنه دماً[107/أ] فأفزعتهم إفزاعاً عظيماً، وكذلك سقط التراب من الجدرات، ثم تبعها أخرى يوم الجمعة في ضوران حال خروج الإمام، ثم تبعها أخرى بضوران ومعبر يوم الإثنين، ولم يكن في غير هذه المواضع شيء منها.
وفي خلال هذا وصل الخبر إلى الإمام بوصول برشات إلى حدود باب المندب، في البحر أو ما يقرب منه. قيل: من عسكر العماني، فأرسل أحمد بن الحسن من صنعاء السيد الحرة متولي بندر عدن بالمبادرة بالنزول إلى جهات عدن، وكان عهيداً بعرس، وزواجة في الغراس، فسار بجماعة من الناس، وأحمد بن الحسن أيضاً خرج من الغراس إلى الروضة، ورفعت قبائل المشرق رؤوسها مثل بلاد العولقي، وبلاد برط من دهمة،وأرسل أحمد بن الحسن ابن مذيور الحيمي إلى جبل الفضلي عقب الحرة، [107/ب]وانتهبت برط من دهمة قافلة بالعمشية هذا الشهر فيها بز وحمولة مصدرة لتجار من صنعاء إلى صعدة، فسار أهلها يشكون على الإمام، فكتب إليهم بردها، والله أعلم ما يكون في شأنها.
ثم تعقب منهم مغزى لقافلة أخرى إلى بلاد آل عمار وأطرافها، فتواقعوا فتوافقوا، ووقع في الفريقين مصاويب، وسلمت القافلة، ولكنهم استفردوا بعد ذلك برعاة من آل عمار انتهبوا عليهم بعضها، ثم غزوا ثالثاً إلى الجوف، فلم يظفروا، وشعر بهم أهل الجوف فهربوا وقال من قال منهم: إن الإمام يجعل لهم مع السبار الذي للعسكر بعيان، وعليهم درك العمشية، ولا يجرى منهم فيها خلل ما دامت الجامكية.
ولما استقر الإمام بمعبر طلب شرف الدين الحسين بن الحسن من بلاد رداع، فوصل إليه، وذكر أن سبب وصوله مراودة في شأن الشيخ الهيثمي، فإن حسين بن الحسن قال: ما يصلح رجوعه بلاده؛ لأنه يخشى منه التمحيق هنالك، وقيل: أنه حصل بعض خلل في المشرق، من بلاد العوالق ونحوها، والله أعلم.
وذكروا في هذا الشهر أيضاً لحقت زلازل أُخر بضوران، إلا أنها خفيفة، والإمام كما وصف الواصف في تلك الزلزلة الكبرى استرجع، وظهر عليه استقام الأمر، حتى روى الراوي الثقة أنه استعبر وبكى.
[108/أ] واعلم أيها المعتبر أن هذه الزلازل دوامها وتكريرها في هذا الموضع هذا العام والعام الماضي، كما سبق ذكره، حتى أنه في العام الماضي شرعوا في تعداد حصرها وتجميلها، فلما كثرت وبلغ عددهم لها إلى سبعين زلزلة ملوا تعديدها، ثم ما لحقت هذا العام في هذا التاريخ، له شأن عظيم، وأمر من الله تعالى جسيم؛ لأنَّا لم نعلم بحصول مثل هذا الاستمرار من الزلازل في التواريخ والأزمان، وإن حصلت في مكان دون مكان لكن لا يبلغ تكررها إلى هذا المقدار، ولا استمرت إلى مثل هذه المدة المستمرة في هذا الزمان، وإن لها لشأن عظيم، والذي ظهر لنا في أقوى أسبابها ما تواتر لنا عن كثير من الناقلين للفساد ببلدة ضوران، والإصرار عليه وتكاثره وتكرره من الفساق حتى غلب أهل ذلك البلاد.
ودخلت سنة سبع وثمانين وألف
في محرمها توفي القاضي عبد الله التهامي، قاضي السُّودة.
وفيها وصلت رسالة من الهند من بعض الصوفية الحلولية الذين فيه إلى مكة، وفيها فلسفة، فأجاب عليها بعض علماء أهل السنة، وكفَّر المنشئ لها، وكتبوا إلى سلطان الهند أنه يحرق كتب المنشئ لها.
وفيها وصل العولقي إلى حضرة المتوكل شاكياً من حسين بن حسن.
[108/ب] وفي سابع محرم كان تحويل السنة عند المنجمين، دخول الشمس أول دقيقة بالحمل، وزحل كان بالثور، والمشتري بالدلو، والمريخ في أول درجة من الأسد، وعطارد مع الشمس إذ لا يفارقها، والزهرة بالثور.
وفي يوم الخميس نصف ربيع الآخر خسفت القمر ببرج الجوزاء، قدر أصبعين، وتجلت بسرعة.
وفي هذه السنة وصل جواب السؤال الذي بعث به المتوكل إلى مكة في العام الأول، وهو في بيان اللطيفة في قوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ} كيف جمع بنات العمات وبنات الخالات وأفرد بنات العم وبنات الخال؟ فأجابوا بجوابات متفقة المعنى مختلفة الألفاظ، كما رواه الحاج محمد الحلبي الكتبي المصري ثم المكي الذي أودعه المتوكل ذلك السؤال، قال الحلبي: فوصلت بجواب إلى المتوكل، وقد كان مريضاً فوقف عليه، قال: وكان أحد المجيبين الشيخ العارف محمد بن سليمان المالكي المغربي، ولم يعرفني بلفظ جواباتهم، وكنت قد أجبت بجواب ذكرته في كتابي (الأطراف).
ووصل إلى المخا أول المراكب، وفيها هدية من سلطان الهند للمتوكل وصدقة لأشراف اليمن، وحصلت فتنة في البحر بين العماني والفرنجي[109/أ].
وفيها كثرت الفلوس من المناقير التي ضربها أحمد بن الحسن بالغراس، فأمر المتوكل أن تكون البقشة بثمانية مناقير، فلم يسعد أحمد بن الحسن، وقال: لا تكون إلا بأربعة؛ لأنها كبار، فاختلفت الناس في التعامل بها، فمن الناس من أخذها بثمانية ومنهم بأربعة.
وفيها حصل انتهاب في طريق العمشية، وأهل الطريق أهملوا حفظها، قالوا: لأن الدولة ما زاد أعطتهم ما يعتادونه فيها، وانتهبت الحرامية في مراحل الحجاز من وسط القطر للجمال، ولم ينفعهم الآغا فرحان؛ لأنه تقدم أول الجمال. ووقعت فرقة بشهارة بين أصحاب أحمد بن المتوكل.
والمتوكل زلج البدو الشكاة الذين وصلوا من أطراف بلاد عمان، الذين شكوا من العماني أنه استولى على بلادهم، وهي في أطراف جهاته، وكانت طريقهم الرمل طريق المشرق من شَبْوَة وحدود حضرموت، وقال: بلادكم بعيدة، وطرقها مقاطع عن عيون الماء، لا يمكن نزولها ولا المرور فيها لغير أهلها، مع بعد عُمان أيضاً.
وفي شهر ربيع الآخر منها أرسل حسن بن المتوكل من[109/ب] رازح إلى صعدة بحُلَّة من أهله، وأنهم يسكنون بدار مطهر بأمر من الإمام، كان ظهر، فتغير خاطر علي بن أحمد من وصوله ودخوله؛ لأجل ما قد جرى من مضاررته له حين قدومه؛ ولأجل إخراجه من دار مطهر، فإنه شق به الأمر، وعظم عليه الخطب والقهر، لما كان الله تعالى قد قرن بالخروج القتل، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} وكان نية الإمام تضعيف يد علي بن أحمد والعزل، من جميع نواحي ما إليه في صعدة من النهي والأمر والعقد والحل، وأن بلاد الشام تكون كلها إلى ولده الحسن، فعند ذلك أمر بردهم، وكتب إلى الحسن بن الإمام وقد صار في مَجْز كتاباً مضمونه: أني كنت قد نهيتك عن دخول صعدة، والوصول هذه المدة فأنت مخير إما رجعت من حيث جئت، أو وصلت وعلينا تأمينك في الطريق إلى اليمن عند والدك، أو الحرب بيننا[110/أ] وبينك ومناجزتك، فسعى الساعي بينهم أنه لا ينبغي رد أهله وقد وصلوا إلى باب صعدة، غير أنهم يدخلون ويسكنون في دار محمد بن الحسن، فأدخلوهم إليه وسكنوا فيه، وأما حسن بن الإمام فإنه عاد من مجز يريد إلى سَاقَيْن من أجل حوائجه التي قد بلغت إليه، فمنعه عن ذلك أهل عُرْو ، لما وصل إليهم، وقالوا له:يكون المبيت عندنا ولك النظر من بعد. وكانت وصلت كتب علي بن أحمد إلى أهل عرو بمثل ذلك، وأنهم يمنعونه النفوذ إلى هنالك، فلما أصبح الصباح كثرت عليه الأراجيف والقبائل، فامتنع عن دخول ساقين، وسار راجعاً إلى جهة رازح، لا يريد إلا النجاة، وترك الأمر الذي كان يهواه، وسار صحبته جماعة من بني بَحْر على صفة الرفقاء له، حتى تخلص إلى بلاد رازح، ثم قصد علي بن أحمد إلى ساقين، لأجل الاستيلاء على أصحاب حسن المتأخرين[110/ب] ومعهم
فيها خزانة حسن بن الإمام التي جاء بها من رازح، فوقع الحرب بين الفريقين، أصحاب حسن وعلي بن أحمد، فراح أربعة من أصحاب علي بن أحمد، ومن أصحاب حسن واحد، ثم استولى علي بن أحمد عليهم وأمَّنهم وأُسَرهم، وانتهب الخزانة .
وكانت هذه القضية أعظم حادثة في مدة هذا الإمام وإيقاظ الفتنة وهي نائمة ولا سيما بين الأقارب والأرحام. ولما وقع هذا الحادث الذي جرى، بعد أن قد كان جمع القبائل من سحار وآل عمار حال خروجه من صعدة، وأخبرهم بما هو سائر فيهم من العدل، وعدم الجور عليه، وما عليه حسن بن الإمام من السيرة المكروهة، وأن الإمام قد اشتدت به الآلام، واختلت إمامته هذه الأيام، وأنه يريد الدعاء إلى نفسه بالقيام[111/أ]، وأنه طالب منهم المناصرة والنصح التام، فأجابوه إلى ما طلبه منهم، وعقدوا له البيعة وأنه الإمام فيهم، وتلقب بالمنصور بالله، ثم أمر جماعة إلى بلاد رازح لمضاررة حسن بن الإمام، وإخراجه من ذلك المحل، ولا يبقى له فيها نفوذ كلام، وخلع إمامة الإمام إسماعيل وأجابته قبائل الشام ، ودخلت في أوامره ونواهيه إلى حدود بلاد سفيان وما إليه. وانقطعت أوامر الإمام إسماعيل فيه بالمرة، وتغلق حكم الشام أجمع في هذه المدة، ففرح بهذا كثير من الناس، لما قد نالهم من التقصير من جانب الإمام وأولاده في هذه الأيام، وقبلها وما قد كابدوه من الصبر والتقصيرات الكثيرة في أكثر أوقاتها[111/ب].
ووصل من علي بن أحمد كتاب إلى أحمد بن الحسن يومئذٍ، من جملة قوله: قد عرفتم ما صار يجري في هذه السيرة من الأمور المخالفة للكتاب والسنة، وأن الإمام المفترضة طاعته لها شروط معتبرة، من اتصف بها وجبت طاعته، ومن خالفها فليس بإمام مفترض الطاعة. ثم إن في هذا الأوان طرأ على الإمام -لو فرضنا استقامة السيرة- ما هو مبطل لإمامته، وذلك هو الزَّمانة المفرطة والعجز والركة، حتى ضاعت بسبب ذلك أمور المسلمين، وأهملت حقوقهم، فحينئذٍ نهضنا بعد الاستخارة والدعاء إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيرة الأئمة الراشدين، والدعاء إلى الرضا من آل محمد، فإن وجدنا من هو أرضى منا وأقوم بحق الله اتبعناه وبايعناه، وإلا فنحن قائمون بما يجب بحسب جهدنا وطاقتنا، وأنتم بأمر الله يجب عليكم القيام بما يجب غير معرجي على ما يفوت من الملك والدنيا، وصدرت من ساقين بعد الوصول إليه، وقد أجابنا إلى ما دعونا إليه كافة أهل الشام من سنحان وخولان وهمدان ومن جُماعة وسائر أهل الشام، وفي ملحق بخط يده المراد أن النظر في هذا الأمر متعين عليكم، وقد عرفتم وتحققتم أن الأمور على غير طريقة، والوجوب متعين عليكم، فإن عرفتم من أنفسكم النهضة بهذا نهضتم وأظهرتم الدعوة، ونحن متبعون على البر والتقوى.
ثم في ملحق ذكره آخر يقول فيه: إلى الصنو أحمد بن الحسن -حماه الله-المقصود أن الأمور قد صارت مختلة بلا شك، ولا يجوز للجميع من جهة الله السكوت عليها والحال هذا، والصنو[112/أ] العلامة قاسم بن المؤيد بالله ذكر لنا أنه قد كتب إليكم، وأشبع لكم الفصل ومنتظر لجوابكم، ولا تزال المكاتبة بيننا وبينه في هذا الشأن، وكذلك الصنو يحيى بن حسين بن المؤيد بالله لما وصل إلينا إلى صعدة قد حصل التراود بيننا وبينه في هذا الشأن، ووجدنا عنده ما لم يكن عندنا من الأمور القادحة، فإن بنيتم على اجتماع الكلمة حصل التراود فيمن يقوم بهذا الأمر، وإن بنيتم على ترك القيام بحق الله فقد بنينا على استدعاء السيد محمد بن علي الغرباني صاحب برط، ونختبره وننظر ما عنده.
وأجاب عليه أحمد بن الحسن بأن كان عليك المراجعة قبل هذه الخرجة.
وعند ذلك وصل كتاب المتوكل إلى أحمد بن الحسن بنهضة إلى الشام على علي بن أحمد يقول فيه: بعد الترجمة وبعد فإنه احتاج الحال إلى تدارك هذه الأمور العظيمة، والحسم لمواد مفاسده الجسيمة، قال: وقد سبق إليكم صحبة السيد صلاح بما فيه كفاية، ولكن الحال كما بلغ إلينا قد بلغ الغاية، فالبدار البدار البدار بالارتحال، والسرعة السرعة قبل أن يقع والعياذ بالله الإخلال.
وذكر أبياتاً من الشعر متمثلاً بها، ومادحاً لأحمد بن الحسن، ومثيراً لعزيمته فيها، وقال: حرر تأريخه ثالث وعشرين شهر جمادى الأولى سنة 1077هـ.
وعند هذا الجاري من الخروج على الإمام المتوكل صدق قولنا بأن اليمن لا ينبغي لصاحبه أن يتشاغل بالقصد إلى غزو إلى بلاد غيره والخروج عنه؛ لأنه كثير الاختلاف والمعارضات والدعوات، والكثير من أهله كامنة فيهم طلب الرياسات، ولذلك صح قول[112/ب] بعض ملوك بني رسول لما اطلع بعض خاصته على ما جمعه من الخزائن والمحصول، فقال ذلك الرجل للملك: لو تريد فتح مصر بهذه الخزائن الكثيرة فما الذي يصدك عنه وهي هكذا مجموعة؟ فقال مجيباً عليه: هذه تحتاج لمن يعارض في اليمن بأقداح الشعير من الخارجين فيه عند الإهمال والتقصير، فاستصوب رأيه ورجع إلى قوله.
والكل إخوان وأقارب، لكن الملك عقيم والمحملين عليه لا يزالون في كل وقت لهم فيه القول الجسيم، لا سيما أهل الأطماع والرعاع من الناس الذين يحثون إلى الأهواء، والله يصلح كل فساد ويلم شعث المسلمين.
وسبب هذا الأمر من علي بن أحمد أن الإمام لما وقع[113/أ] منه الكتاب إلى ولده الحسن أنه يتقدم إلى جهات صعدة ويقرب من ضبط القبائل الذين صاروا يفسدون في طريق العمشية لإهمال علي بن أحمد لهم وعدم مبالات القبائل لأمره فيهم لما هو عليه من مصالحتهم والإستظهار لأمره بهم، وصار ما يجري منهم من الفساد ونهب أموال العباد يتغاضى له أو يرضى به لأول مطابقته لهواهم والاستظهار بهم وهم مالوا إليه واستنصروا به لما أحسوا بأن الإمام صار في نفسه عليهم من جهة سوء أعمالهم، فحملوه على الدعوة وأن يكون إمامهم، وصار كما قال شاعرهم:
لهوى النفوس سريرة لا تُعلم
ولم يجبه من الفضلاء من يعتمد عليهم، وإنما انقاد له هؤلاء ممن ذكرناهم، وكانوا ممن دخلوا في سلك الحديث عنه÷: ((الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها )).[113/ب]
واتفق عند هذا أن أحمد بن الإمام أراد إخراج رصاص من المخزون في حصن شهارة، كون أمرها ونهيها إليه، فاعترضه قاسم بن المؤيد، وعَصَّب معه أهل شهارة، وقالوا: هذا معدود بشهارة لا يخرج عنها، فافترقوا على غير طيبة نفوس بينهم.
وفي سلخ جمادى الأولى أخرج أحمد بن الحسن الوطاق، وبرز به خارج الغراس لقصد علي بن أحمد على مقتضى أمر الإمام إلى تلك الآفاق.
وفرق محمد بن الإمام على أهل سوق صنعاء دراهم لمن يسير منهم، معهم فتضرر من تضرر منهم بما فرق عليهم، لما حصل من الزائد والناقص لا على قدر أحوالهم.
وفي ليلة الجمعة وقت السحر وأول الفجر خامس شهر جمادى الآخر سنة سبع وثمانين وألف مات الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم بن محمد بجبل ضوران، وكان مرضه وانحطاط قوته يوم الثلاثاء والأربعاء، والخميس تنفس، واتفق به جماعات وابتهج وبش، وكان ضعفه قد أوهاه وقل قواه من ذلك الألم الذي طال به من الباسور، وكان وصول الخبر مدينة صنعاء صبح يوم السبت بوفاته ومضي دولته وأيامه. وقبر صبح يوم السبت في جبل ضوران، وكان مولده كما ذكره[114/أ] السيد إسماعيل بن إبراهيم جحاف ونظمه بقوله:
أوفى البرية عند الله ميزانا
فهاك تاريخه في شهر شعبانا
خليفة الله إسماعيل مولانا
في ليلة النصف من شعبان مولده
يريد بذلك سنة تسع عشرة وألف.
وكان في مدته أحوال الناس ساكنة في غالب وقته، لم تحصل له معارضة في أمره؛ لأجل قيام أولاد إخوته بنصرته، وحفظهم لما أمرهم به من البلاد بعساكرهم وعساكره.
فلما مات محمد بن الحسن، تقاصرت أحوال كثير من الناس، وتغيرت عليهم الأحوال، وما ألفوه من العطاء والقرب لبعض الأغراض والموافاة والعادات، فشق على كثير تلك الحالات، وعسرت عليهم كثرة المراجعة والملاحقات، فمنهم من صبر وأخذ بعد العسرة ما صدر، ومنهم من زرع ماله واشتغل عن الطلب في أكثر أحواله، وكثر منهم التشكي والتوجع ولكن لا يجدي ذلك، كما قال المتنبي شعراً:
تعبت في مرادها الأجسادِ
وإذا كانت النفوس كباراً
وحصل بسبب ذلك بعض الإهمال وعدم النفع، ولولا أن مملكة اليمن لم يبق فيها من المعارضين، والملوك الذين كانوا فيما مضى كائنين، لكان بسبب ذلك الخلل العظيم، ولمال من الناس عنه من يميل، إلا أن الأمور لما اجتمعت لأولاد إخوته وهم معاضدون له استقامت لهم الأمور واجتمعت الكلمة في هذه الدهور.
[114/ب]وللسيد أحمد بن محمد الآنسي الشاعر قصيدة طويلة منها قوله:
أما الإمام أصلح الله دولته
وزاده بسطة ما أورق العود
فقد أجاع ذويه ثم قال لأبناء
العراق عودوا للنديم عودوا
وفي الخزائن مالا عد يحصره
ولا حواه ابن مودود ومودود
ما بالخليفة من قل ولا بذوي الْ
حاجات من قبل لو يسعد الجود
كم فارق الباب من شيخ ومن حدثٍ
باك وكم آب بالحرمان مطرود
وكم تلونت الحرباء بوجه فتى
فؤاده من هوان الباب مفؤود
وإن سمعت بفتح الباب آونة
فلا تلجه فباب البذل موصود
تجاوز النفر الأدنى بنائلة
وفاز منه بحظ الأبيض السود
فكم من الشحر أوبغداد أوبلد الـ
إحساء لعمرك مذروع ومعدود
ولا تقل أنا من أبناء فاطمة
ولا ذرى يمن آبائي الصيد
أتجمع المال بعد المال معتبراً
بمن مضى ولجمع المال تبديد
جمع المكارم أولى ما همت به
ولن تكن وسيف البذل مغمود
وكل بذل أتى من بعد مسألة
وطول مطل فمذموم ومنكود
ما يصنع المرء بالدنيا وزخرفها
وجمعها وهو في الأطيان ملحود
بمن مضى لذوي الألباب معتبر
غالت جموعهم السودان والسود
هذا يناهبه الحساد والسفل الأ
وغاد وهو لا ترثي له الدود
الله أنزل آيات مبينة
فيها لمطلق ما يأتيه تقييد
فاعرض على حكمها ما أنت فاعله
تلقى الإله غداً والسعي محمود
[115/أ]وأراد الشاعر المذكور أن البذل كان للبعيد دون أهل البلد القريب فمطرود وفي حيز التشريد، والأمر كما قال بلا إشكال، وكان الولاة العمال معه هم المقدمون في الأقوال والحجة على غيرهم من الرجال، ولا ينال أحد من أرحامه صلة ولا عطية حسنة، ولا أخلاق إليهم مرضية، إلا من كان منهم من ولاته، بل استأثر بالأموال، وأعطاها أولئك الرجال، للتخيل معه أنه يستميلهم إلى مذهبه وطاعته من طلب المحال، والعلماء لا يبذلهم بالعطاء ولا يذكرهم بالإحسان، كما كان عليه سلفه فيما مضى، بل هم عنده في حيز الإهمال، يريد تبعيدهم عنه لا يقربهم؛ لأجل يسلم من الاعتراض عليه في أوامره ونواهيه منهم، فلا قوة إلا بالله، واقتدى به في أيامه سائر ولاته وكذلك من بعده، حتى بلغ بهم الحال النقص في المقررات والعادات التي كانت جاريات. وخطيب صنعاء أيضاً أنشد القصائد في الهجو لمحمد بن المتوكل لما نقص عليه ما كان يعتاده، ولم يعطه ما طلب من قضاء دينه، كما كان يعطيه والده، وسافر إلى اليمن الأسفل وأنشد القصائد في مدح أمرائه، للتعرض لعطاهم خصوصاً بعد وفاة المتوكل وأحمد بن الحسن، وهذا الخطيب يسمى محمد بن إبراهيم السحولي- بالسين المهملة المضمومة وضم الحاء المهملة -نسبة إلى أصل بلدهم سحوله بأطراف قاع جهران[115/ب].
وكانت العادات السالفة، والتقارير التي كانت أولاً ماضية جارية، لا هو أوفى الناس ولا هو عدل في الرعايا بل زاد عليهم المطالب، مع النقص في الغالب، فلا قوة إلا بالله.
وأخبر السادات والأغنياء أن الزكاة محرمة عليهم وأنها لا تحل لهم، فالورع منهم تركها وابتغى من فضل الله تعالى عوضها ممن كان له منها وهم اليسير، والأكثر ما عذروه عن الطلب ممن هو ملازم لمقامه ما هو له، وكذلك الأغنياء كما أخبر أنها لا تحل لهم، فمنهم من أعطاه، ومنهم من حرمه وأقصاه. ولا شك أن الزكاة حرام على بني هاشم وعلى الأغنياء إلا أن منهم ابن سبيل وغارم ومجاهد ومؤلف وفقير. ومع الزكاة من البلاد مرتفعات غير الزكاة كالمعاون والضيف، وهي تقوم بالجانبين[116/أ] إلا أن المذكور جعله عذراً في الحرمان زكاة، مع أنه زاد على ذلك في أيامه في المطالب الكثيرة في اليمن الأسفل من غير الزكاة المفروضة، بما يكثر محصوله، ويجتمع الكثير مدخوله. وكان كما قال بعضهم إنما الناس مسخرون لهذا الإمام، وإلا فمن رأى الأحوال عجب في الاستمرار. وكان القائم معه محمد بن الحسن، وإليه أكثر اليمن فكانت الأمور في أيامه جميلة، وأحوال الناس مستورة.
فلما مات ظهرت العجائب، وما زالت الأمور إلى نقص وفيها غرائب، مع أنه ناقض قوله في الزكاة، فإنه قال: اليمن خراجي، مع بطلان قوله ومخالفته لإجماع من قبله، فكان على قول مذهبه تحليل الزكاة لمن منعه[116/ب]، ولعله إنما أراد بذلك التحيل على الناس وإلا فلا يخفى ذلك، فأما الولاة فصاروا يفعلون معه ما شاؤوا وكان المقصود في الجمع والتحصيل منهم من غير معرفة، بما صاروا يقبضون ويزيدونه على الرعايا في المطالب، وكل من شكاهم فلا سماع له؛ لأنهم عرفوا طباعه في محبة التوفير، وكذلك الجلساء، ومن يتصل به من الأعوان والسادة والأغنياء لم يعذروه في الطلب، وصار يسلم لهم ذلك على أوفر الأقسام، وإنما الذي اتضع عنده عن الصرف من أهل العوائد الماضين سائر الناس المخرجين، فكان لا يصير إليهم إلا التافه الحقيرة، وبعضهم ممطول بالجملة الكافية، خصوصاً من لم يكن إليه كثرة الحاجة ومطالبه -ولله در البهاء- زهير ، حيث يقول:
يا أيها الباذل مجهوده
في خدمة أف لها خدمه
إلى متى في تعب ضايع
بدون هذا تأكل اللقمه
تشقى ومن يشقى له غافل
كأنك الراقص في الظلمه
وقال أيضاً:
كم أناس أظهروا الزهد لنا
وتجافوا عن حلال وحرام
قَللّوا الأكل وأبدوا ورعاً
واجتهاداً في صيام وقيام
[117/أ] ثم لما أمكنتهم فرصة
أكلو أكل الحرامي في الظلام
وكان للمتوكل اختيارات في مسائل غريبة خالف فيها الإجماع، منها: الولاية للأم على أولادها في البيع والشراء وجميع التصرفات، وهو خلاف الإجماع، لكنه رجع عن ذلك في حياته.
ومنها قوله: بأن الأولياء إذا أنكحوا الصغيرة حال صغرها فلا فسخ إذا بلغت، ولو كان المنكح لها غير الأب من سائر الأولياء، وهو خلاف للإجماع في غير الأب.
ومنها: أن المشروط بعلم الله فاسد، خلاف الإجماع.
ومنها: أن الخيار للمشتري مدة معلومة، إذا انتفع به في مدة الخيار يكون من الربا الحرام، وهذا خلاف الإجماع. ومنها: أن الغروس التي يغرسها الأجير يملكها صاحب الأرض، يعني إذا كان لا بأمر من المالك بل الأجير غرسها في مال صاحب الأرض، وهذا خلاف الإجماع.
ومنها: أن الكلا لا يمنع طالبه من ملك الغير على وجه لا يضر، وهو خلاف الإجماع.
ومنها: أمره لولاته وحكامه وقضاته بإرجاع الزوجة إذا طلقها الزوج ثلاثاً بلفظ واحد متتابعا، وإن كان مذهبه التحريم أمره بإرجاعها، وهذا خلاف الإجماع؛ لأن الملتزم للمذهب لا يجوز له الإنتقال عنه.
ومنها: أن المشتري إذا اشترى لنفسه في عقد الشراء وكانوا شركاء قبل القسمة أنه يكون المشتري للجميع من الشركاء، وهذا خلاف الإجماع، فإنه لمن وقع العقد له وعليه إن استهلكه في الثمن على الشركاء غرامة مثله فقط[117/ب].
ومكن أولاده في الولايات، وأجاز لهم التصرفات، فأحمد بشهارة وبلادها جميعاً، وحسن برازح وتهامة، ومحمد بصنعاء، وعلي باليمن الأسفل، وحسين بحضرته متولياً لبلاد آنس، متصرفاً بما شاء.
وذكر في وصية له لأولاده ما لفظه: (وأوصيكم أيها الأولاد ذكركم وأنثاكم وسائر قرابتي، وسائر بني هاشم أن تجتنبوا الزكاة ولا تأكلوا منها شيئاً، ولو أكلتم الشجر فإن الذي خلقكم هو الذي يرزقكم، ولا تفعلوا كما يفعل كثير من الناس من التمسك بالشبه في ذلك. وابتغوا من فضل الله ولا يحملكم التقيد بالسكون في البيوت على ذلك، فاطلبوا الرزق من فضل الله، وتنقلوا ولا تتخذوا السؤال حرفة، فبئست الحرفة هي، وإنها معينة على الفقر، ولكن اطلبوا الرزق الحلال بإحياء الأموال، وإن أمكن أن تجعلوا لكم نواباً في البيع والشراء فهو حسن نافع، وإن لم يكن إلا بأنفسكم فافعلوا، فلأن يؤجِّر أحدكم نفسه خيرٌ له من أن يأكل الحرام). انتهى ما ذكره المتوكل.
وكلامه صدق وحق لا شك فيه، وكان في نفسه لا يأكل الزكاة، يقتصر بخاصته على تجنبها مما[118/أ] يصل إليه من النذور والهدايا ومستغلات الصوافي، وكانت حالته في ذلك حسنة، إلا أنه لو كملها بالعدل باليمن الأسفل في مطالبه وجور ولاته الجور المفرط، وأزال عنه الشبهة في تكفيرهم بالجبر والتشبيه الذي لا يقولون به ولا يلتزمونه، لكان كاملاً بأوصاف الخيرات جامعاً للأحوال السنيات، لكنه قصر في النظر، وقلد في الأصول والأثر، ولم يعرف بحقائق أقوال أهل الخلاف وتفاصيل محققي علماء السنة، ليعرف بذلك أقوالهم البينة، كما عرفه غيره من الأئمة، والله أعلم.
وله وصية أخرى ذكر فيها أن كتبه على كثرتها كان وقفها وصية، ثم رجع عنها، ثم رجع إلى أنها للمصالح، وأوصى بأن جميع ما في مخازين بيت المال لبيت المال من النقد والسلاح والخيل والعبيد، إلا ما هو يختص به لنفسه، وقد بينه، ولولا طول وصيته هذه لذكرتها هنا، وفيها شهادة السيد محمد بن صلاح الجحافي وعز الدين القاصر والوصي ولده محمد، تاريخها جمادى الأخرى سنة 1087هـ. ومحمد بن المتوكل قسم كتب والده بين ورثته من فيها رسم والده، والباقي بقت تحت يده لبيت المال.
وفي وصية أخرى لولده محمد بن أمير المؤمنين لما ولاَّه بلاد ضوران ما لفظه: (واترك الإكثار من المتعلقين الذين همهم الدنيا، ويكفيك القيام بأهل الحصين، فإنهم عدة إن شاء الله، واستصلحهم بالرغبة والرهبة، وأحبب حبيبك هوناً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، فلعل الحبيب لا يدوم حبه وما أكثر ذلك فيمن محبته لأجل الدنيا، ولعل البغيض يكون حبيباً، وما أكثر فيمن كان بغضه لأجل الدنيا، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وأكثر من ذكر الله).
وفي وصية أخرى له إلى أولاده يقول فيها ما لفظه: (وأوصيهم بإصلاح ذات البين، فإنه أفضل من عامة الصلاة والصيام، كما جاء بذلك الأثر، قال الله تعالى:{فَاتَّقُوا الله وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } ولا يتم ذلك إلا بالاحتمال والصبر، والتغاضي من كثير والعفو، والله يأخذ بنواصيهم ويتولى إعانتهم)، آمين.
[118/ب] وكانت هذه الأعوام التي قد مضت في أكثر زمانه من الشدة العظيمة وشح الأمطار، وغلاء الأسعار، تصديقاً لحديث الصحيحين عنه÷ إنه قال: ((لا توكي فيوكى عليك )).
وكانت قد جارت ولاته في اليمن الأسفل الجور العظيم، والبلاء الذي نالهم الجسيم مثل بلاد العدين وبلاد بُرع وبلاد تعز وجبل صبر ، بحيث فقر منهم جماعات كثيرة، ورحل منهم من رحل إلى الجهات النائية البعيدة، ولم يرعوي المذكور لشكوى الشاكين، ولا رحمهم وتعطف عليهم بحيث بقوا للشكوى سنين.
وفي الحديث عنه÷ كما في أبي داود: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))[119/أ] وكان لو أنه لم يرض بما زاده الولاة في هذه الجهة من الزيادات، وأمرهم على ما كان من المقررات والعادات، لكان فيه العدل التام، والسلامة من الآثام.
ولما عرف حاله الولاة باستراحته بالتوفير في الدفعات، جاروا على الرعايا في المطالبات، وفرضوا الزيادات، ولفقوا فيها التلفيقات وساعدهم فيما يذكرونه من الزيادات، فحصل بسببه الجور من هذا الباب. ولقد حكى من يعرف زمن الأتراك أنه عرض رجل من أهل سوق صنعاء على سنان باشا زيادة بالنصف على الأسواق فقال له سنان: من أين هذه الزيادة تجيء بها، إنما تكون من ظلم الرقاب وأمر بحبسه وتأديبه، والله يتجاوز عنه ويرحمه.
ولما وصل خبر وفاته إلى صنعاء، وكان قد أمر أولاده بالتهيؤ إلى الحادث الذي حدث بصعدة وتلك البلاد الأقصى، والناس غير راغبين إلى السفر لما نالهم من التقصيرات فيما مر من الملازمين، فضلاً عن القاصين، سكنت تلك الأمور وقرت، واشتغل بغيرها، فكان من محمد ابن الإمام أنه كتب إلى أحمد بن الحسن تعزية وذكر له أنه يصلح دخوله صنعاء للخوض فيمن يصلح للمسلمين، وما يكون عليه[119/ب] البناء هذا الحين، فالله يصلح أمور المسلمين، ويختار لهم ما فيه الخير، فإنهم إن اجتمعوا على الصلاح ولم يتبعوا هوى أنفسهم ومحبة الرياسة وآثروا صلاح المسلمين كما هو الواجب عليهم صلحت الأمور لهم وللناس، وإن تفرقوا وتنازعوا كان الأمر كما قال الله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا } وكان الضرر والفساد عليهم وعلى المسلمين، والله يتداركهم إلى صلاح ذات البين.
وكان قبره في رأس جبل ضوران، وكان المذكور كثير التشديد في التكفير بالإلزام في مسائل أصول الدين، وشبهته في عدم إنصاف المظلومين من أهل اليمن الأسفل هو هذا، مع أنهم لا يلتزمون ما ألزمهم، ولا يقول أحد من أهل السنة بالجبر والتشبيه[120/أ] بالجملة في جميع كتبهم، يعرف ذلك، من عرف منهم، وقد روجع بمثل ذلك فلم يرجع. وكانت جواباته كلها بمحل النزاع، كما ذكرناه فيما سبق، في جواب السيد العارف أحمد بن علي الشامي ، وفي جوابه للقاضي عبد القادر المحيرسي ، وقد أجبنا على أقواله وعارضناها بالأدلة، ولكن لما عرفنا عدم قبوله بها لم نراجعه فيها، وطوينا خافيها وباديها. وكان في زمانه قد أهدى إلى صاحب الهند نسخة التهذيب في التفسير للحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي، وهو في قدر ثمانية أجزاء، يريد يدعوه إلى مذهب الاعتزال، فأرسل إلى المتوكل هدية إليه بتفسير ابن الخطيب الرازي في عشرين جزءاً؛ لأن فيه الردود على المعتزلة ومناقضة أقوالهم.
وكان يوم ثانيها وهو يوم الأحد، وطلب أحمد بن الحسن قضاة صنعاء، ومحمد بن أحمد صاحب الروضة، ومحمد بن الإمام، وأحمد بن محمد ، فساروا الجميع، وكان مضمون طلب المذكور لمن ذكر أنهم يحضرون للنظر فيمن يقوم بهذا الأمر، وكان محمد بن الإمام قد ذكر إليه في كتاب التعزية أنه يدخل صنعاء، ويجتمع هو وإياه وسائر القضاة والأشراف للنظر فيمن يصلح لهذا الأمر، ويقوم بأمانة أهل العصر، فكان جواب أحمد بن الحسن بأن الاجتماع يكون بالغراس، وأنه يصل إليه وكافة القضاة وأعيان الناس، فخرج المذكور إلى الغراس وكافة القضاة والأشراف مثل القاضي علي بن جابر الهبل قاضي صنعاء، والقاضي محمد بن علي العنسي، والقاضي محمد بن علي قيس الثلائي ، وهو كان غير راض، لكنه لزمه المحضر، فكان قريب القهر، والقاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال ، والسيد غوث الدين بن يحيى، والسيد عبد الله الكبسي ، هؤلاء أعيان علماء الوقت في صنعاء، وانضم إليهم القاضي عبد الواسع قاضي أحمد بن الحسن، فكان المجلس الأول في الحضرة العامة النظر فيمن يصلح للمسلمين[121/أ ويقوم بأمرهم في هذا الحين، فأوجم الحاضرون، ثم تكلم فيهم السيد عبد الله الكبسي بأن أولى قائم أحمد بن الحسن، بعد أن تكلم أولاً محمد بن الإمام، وكان كلامه أن أمر الإمامة عظيم لا يدخله إلا من علم نفسه الكمال، وأن هذا -يريد أحمد بن الحسن- الأكبر سناً، من علم أنه يصلح نصبه اتبعناه، وإن علم من نفسه الكمال نصبناه وقدمناه، ثم تكلم الحسن بن الحاج أحمد الأسدي من بيت أحسابة ومن أعوانه فقال: لا يصلح لها غير أحمد بن الحسن، لأنه المجرب للأمور وله الصيت في البلاد النائية كما هو مشهور وبه مذكور، وتكلم محمد بن أحمد بن القاسم فقال: قد تقدم صنوه علي بن أحمد في جهات الشام، ولا ينبغي العجلة حتى يجتمع الكلام ولا تكون كبيعة أبي بكر فلتة، فتغير أحمد بن الحسن من قوله، وقال:
إنما حمل الإمام المتوكل على دعوته انتصاب والدك أحمد بن القاسم، وإلا فكان تاركاً لذلك حتى يحصل الاجتماع، فعند ذلك انصرم[121/ب] المجلس الأول على هذا لا غيره.
ثم إنه جعل لهم مجلساً خاصاً لمحمد بن الإمام، ومحمد بن أحمد، وأحمد بن محمد، والقضاة، وأبرموا الأمر على العقد لأحمد بن الحسن بشرط عدم قيام أصلح منه وأعلم، فإن قام من هو كامل الشروط تنحى له، وعرق الشجرة إذا قد غرس لم يمكن نزعه إلا بتعب، ثم بايعوا الجميع، وكان أول مبايع لأحمد بن الحسن محمد بن الإمام، بذلك الشرط والكلام، ثم محمد بن أحمد، ثم القاضي محمد بن علي العنسي، ثم سائر القضاة من الحاضرين، فمنهم من شرط الشرط، ومنهم من لم يشرط، وأما القاضي أحمد بن صالح أبي الرجال فإنه اعتقد إمامته، قال أنه يقول بإمامة المقلد، وخطب أول جمعة له وقال: هو الرضا، وبعض من راجعه أجاب عليه بأن المتوكل إسماعيل كان مقلداً، وأن الاجتهاد قد تعذر، ثم خرج بعد ذلك إلى الديوان العام، بايعه سائر أصحابه من العسكر ومن عنده له الإحسان والإنعام، وكتب الولايات لمحمد بن الإمام وغيره من أقاربه وسائر ولاته وإلى صنوه[122/أ] حسين بن الحسن، وكتب إلى سائر أولاد إخوته بشهارة وإلى علي بن أحمد صاحب صعدة وإلى حسن بن الإمام صاحب جبل رازح وصاحب كوكبان .
وكانت هذه البيعة عشية الأحد سابع شهر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين بعد العشاء ليلة الإثنين، والطالع الحمل، وسرير الملك الجدي، خال عن النحوس في وسط السماء، والمريخ وزحل كانت في الثور بوطنه، ومسكنه الغراس بحارة قلعة حصن ذمرمر.
وفي هذه الأيام استمرت الأمطار الغزيرة المتصلة في فصل الخريف، وعمت جميع اليمن، وأقبلت الزرائع، واخضرت البلاد والبقائع، إلا أن الجراد أخذتها، ولم تتم ثمرتها كما تأتي، ولو تمت لبلغ السعر إلى خمسة عشر بقشة، لصلاحها وقوة تحملها.
وصاحب كوكبان كان حال بلوغه الخبر في شبام، ثم أمر حال وصول الخبر بالطلوع إلى قلعة كوكبان بأهله وخزانته وخاصته، وكان شرعت صنعاء تقلق ظناً أن محمد بن الإمام يبايع، وأنه إذا بويع له يحصل ما يحصل من أحمد بن الحسن[122/ب]، فحصل المعقول من محمد بن الإمام، بعد أن كان طلبه للبيعة من يريد التفريق بين المسلمين والعجلة وإثارة الفتنة، فوقى الله شر ذلك، وسكنت الأمور في هذا الوقت ببلاد صنعاء، والله أعلم ما يكون من أهل شهارة وصعدة.
وأرسل محمد بن الإمام للحيمة وغيرهم، فأخروا الوصول لحضورهم وقالوا: لا يكون إلا عند معرفة من يستقر لهذه الأمور، ويتفق عليه الجمهور، ومما شرطه في البيعة القاضي محمد بن علي قيس الثلائي القرب من الناس، وترك الاحتجاب والإيناس، وتسليم الديون اللازمة في المشتريات، وتقريب أهل الفضل وتبعيد غيرهم من الأجناس، وعزل الجَوَرة من الولاة في اليمن الأسفل، هذا ما بلغ به الخبر، ولم نحضر ذلك المقام، ولم نشاهد فيه الكلام.
وأكثر من بالغ في المبايعة الفقيه أحمد بن صالح بن أبي الرجال، وأعلن بالخطبة على المنبر بصنعاء والغراس، وكان هو أول من خطب وحرض، ولما انعقد هذا العقد اختلف الناس، فقال كثير من العامة والخاصة: أحمد بن حسن غير كامل لشروط الإمامة من العلم التام، وإنما هذا ملك وسلطنة، وبعضهم يقول: هذا صحيح، إلا أنه نصب للمصلحة لجمع الكلمة وتسكين الدهماء والفتنة؛ لأنه إذا قام غيره حصلت الفتنة، لما بيده[123/أ] من العساكر والخزائن، والنظر في المصالح ودرء المفاسد أمر مهم، مع أن سائر المترشحين لها من السادات الغالب عليهم أيضاً عدم كمال شروطها، فكان هذا الرجل ترجيحه مع كبر سنه في آل القاسم أولى بها.
ومنهم من قال: هذا كله يجيء على قواعد أهل السنة، من ترجيح المصلحة مع خشية الفتنة، ولكن العقد عند أهل السنة لمجرد المصلحة غير معتبر، وإنما المصلحة إذا غلب وقهر، أو كان والياً وفي نزعه تقع ثائرة فتنة، فأما العقد ابتداءاً لمجرد المصلحة عندهم فلا يعتبر بها، بل قد قال في البحر: الإجماع على أنه لا يعقد له لمجرد المصلحة، ولكن هنا خشية ثائرة الفتنة حاصل، مع عقدها لغيره، وحصول مفسدة عظيمة وفتنة جسيمة، ودرء المفسدة أولى من جلب المصلحة، كما ذكره العلماء، فهو كنزعه عن التولية، ومنهم من قال: إنما هذا على قول من قال بإمامة المقلد، وقد قال به الدواري من المتأخرين، لكنه مسبوق بالإجماع على اشتراط الاجتهاد، ومن قال بجواب خُلوُّ الزمان عن المجتهد، كما هو قول بعض أهل السنة، فلم يجعلوا القيام عند تعذره قيام إمامة تامة، بل حسبة وملك وسلطنه، وظاهر أهل الزمان الأغلب أنهم في مقام التقليد، فالمقصود قيام أمثل مقلد ....... المنصب لجمع كلمتهم إن اجتمعوا.
وجاء في مختصر بعض المطالب من جفر الإمام أبي طالب ذكر أحمد بن الحسن بعد دولة الإمام إسماعيل. وخرج السيد علي بن حسين المسوري من صنعاء إلى خولان مباعداً نفسه وهارباً عن مبايعة أحمد بن الحسن[123/ب]. وخرج أيضاً خارج يقال له: السيد ناصر الدين من بلاد آنس وزعم أن الخل حرام، أن أصله الخمر، وأن البقول كالفجل والكراث حرام، وأن تقبيل اليد حرام، وغير ذلك من البدع في الإسلام، ولعله يعتقد دين الخوارج من إبطال سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فانتظم في جملة الدجالين الذين يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله، ولكن لم يجبه أحد إلى دعواه، ولم يمل أحد من المسلمين إلى هواه، واضمحل أمره وزال خدعه.
وجاء الخبر بأن القاسم بن محمد المؤيد بالله ابن القاسم دعا إلى نفسه بشهارة، وأجابه الأهنوم وغيره من تلك البلاد.
وكذلك خبر آخر أن حسين بن حسن دعا إلى نفسه في بلاد ولايته بجهة رداع، فالأول أجابه الأهنوم وغالب أهل شهارة، ولم يجبه أحمد بن الإمام المتوكل،ولكن كانت الغلبة لقاسم، فلما طلبه البيعة[124/أ] امتنع منها وخط جانبه مجازاة له بما كان يصدر من عدم الرعايات لآل المؤيد من المذكور ولما كان يحصل من التقصيرات، وهكذا الأيام والليالي تأتيك بالغرائب المعجبات، والثاني بايعه أصحابه، وكتب كل إلى سائر الجهات الرسالات. وظاهر هذا إنما هو إمارة ورياسات، فأما كمال الإمامات فإن شروطها كالمنتفيات في جميع من ادعاها هذه الأوقات، والله يجمع كلمة المسلمين على واحد ويدفع التعصبات والتفرقات.
وكان عقد قاسم لبيعته بشهارة يوم الإثنين ثامن شهر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وألف، وبايعه السيد يحيى بن أحمد الشرفي ، والسيد يحيى بن إبراهيم ، وصنوه إسماعيل بن جحاف الحبوري، وكذلك زاد لحق لما وصل إلى شهارة القاضي محمد بن علي قيس الثلائي، بعد أن كان بايع لأحمد بن الحسن، والسيد علي بن صلاح الضلعي العلوي صاحب ضلع الأشمور ، هؤلاء الذين بايعوا قاسم من الأعيان، ودعوا الناس إلى إجابته وتحريم مخالفته، وجعل السيد يحيى الشرفي بيعته في ورقة طويلة أطنب في مدحه وتزكيته ووصفه، حتى قال: إن موافقه سعيد ومقتدي، ومخالفه شقي وباغ،وكل ذلك منه وهو في بيته بالشرف، لم يصل إلى شهارة، بل مكاتبة، وقد هؤلاء إلى الآن أربعة دعاة مع علي المتقدم في الجهات الصعديات، والله أعلم بالزيادات، وما تنتهي إليه معهم الحالات، وهذا قد جرى كما جرى مع أولاد مطهر بن شرف الدين من الاختلافات، وعدم الإنصافات والاجتماعات، بل زاد هؤلاء عليهم بدعوى الإمامات[124/ب] فإنهم إنما بسطوا على ما تحت أيديهم من الجهات، وما لهم من الولايات، من غير دعا الإمامة إلى أنفسهم، فكانوا بهذا الاعتبار أَعْقَل من اللاحقين بهم، فإن الإمامة لا يدعيها إلا من أحرز نصاب الاجتهاد فيها، وإلا فليس ذلك إلا من قبيل السلطنة لمن غلب، والأمر كما قال صاحب الحماسة من قول المساور بن هند بن زهير ، من العرب، حيث يقول شعراً:
لما رأيتُ الناس هرَّوا فِتنةً
عَمْياءَ توقَّد نارُها وَتَسعَّرُ
وَتَشعَّبوا شُعَباً فكل جزيرةٍ
فيها أمير المؤمنين ومِنْبَرُ
[125/أ] وكان لقب أحمد بن الحسن المهدي، ولقب علي بن أحمد المنصور، ولقب حسين بن حسن الواثق، ولقب القاسم بن محمد بن المؤيد المنصور، فأعجب لهذا التفرق بينهم، وكان لو جمعوا قولهم على أحدهم بجمع أمرهم، لكان الأصلح لهم، وتكون حسنة معهم.
فأما التفرق على هذه الصفة معهم خلل عليهم وعلى المسلمين، أما عليهم فقد يخرج إلى غيرهم بسبب تفرقهم أما من اليمن أو من السلطنة، ويحصل أيضاً كثرة الشقاق فيما بينهم، وتغلبات جهات اليمن بسببهم، وأما على غيرهم فما يحصل من المفسدين من الفساد والتغلب وعدم الأمان، ولكن لله في كل وقت شأن، والأمر لله تعالى في جميع الأوقات والأحيان.
وجاء خبر دعوة السيد محمد بن علي الغرباني صاحب برط، وجاء معه خبر دعوة للسيد أحمد بن إبراهيم المؤيدي، واستولى أولاد عبد الله بن الإمام القاسم على قصر ذمار وانتهبوه، وانتهب عسكر علي بن المتوكل سوق جبلة، وقطعوا طريق اليمن إلى سُمَارة ، وحصل بين حسن بن محمد بن أحمد المؤيدي وبين السيد جعفر الجرموزي بالعدين فتنة، وقتل نفوس على سبب المملكة، يريد السيد حسن أن يتولى البلاد كما كان عليه والده، وحصل بصعدة انتهاب من العسكر الذين بها ومن أهل سحار دخلوها من دوائرها، فراح كثير من الحوانيت قريب المائتين انتهبوها، وعلي بن المتوكل لما سار إلى تعز استولى على خزانة الشيخ راجح متوليها، وكان الشيخ راجح يومئذٍ في بيته بلاد ضوران.
ووصل كتاب من قاسم صاحب شهارة إلى أحمد بن حسن يذكر فيه أنه غير[125/ب] كامل لشروط الإمامة، وغير صالح للزعامة، واحتج عليه بأنه دعا إلى الرضا، وأنه لم يرض به، وكان قد خطب القاضي أحمد بن أبي الرجال بمنبر صنعاء لأحمد بن الحسن بأنه دعا الرضا وهو الرضا مع أن قاسم بن المؤيد أيضاً كانت دعوته إلى الرضا ولكن هو عند نفسه الرضا، والله تعالى يقول: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى } وأحمدبن الحسن أجاب عليه بأن الأولى الاجتماع، وذكر ما قد سبق من دعوته بحضور جماعة من العلماء والأعيان والأتباع، وما أحسن قول المتنبي حيث يقول:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
وقال أيضاً:
ما كل من رام المعالي ناقداً
فيها ولا كل الرجال فحول
وحسين بن المتوكل إسماعيل بن القاسم بضوران، فصرف فيما عنده من الخزانة وأعطى منها جماعة، وتغير بسبب ذلك خاطر صنوه محمد بن الإمام؛ لكونه الوصي والمسند إليه في الخزانة الكلام، وخزائن الإمام مفرقة في ضوران وصنعاء والسودة وشهارة، بحيث أن منها ما أخذه بعض من يتعلق بهم على كثرتها، فإنه أخذ الفقيه حسين الجملولي صندوقاً ذهباً وهو نسب ابن الإمام ومن أصهاره، ولما حازه في يده وفرح بأخذه سرق عليه من يده، وهكذا أرزاق الحرام ممحوقة، كما قال الله تعالى :{يَمْحَقُ الله الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } ووصلت كتب صاحب حجة[126/أ] السيد علي بن الحسين بن جحاف إلى أحمد بن الحسن، وأرسل له بدفعة وأرسل ببعضها إلى قاسم بن المؤيد يتقي بذلك أمره.
وخرب في هذا الشهر بيت بصنعاء قريب مسجد عقيل، فهلك فيه أهله قدر أربعة أنفس، وخرب بيت آخر في بير العزب من بيوت اليهود فهلك فيه أهله، ومن جملتهم معلمهم في التوراة.
وفي ضوران خرب بيت على سبعة أنفار، فهلكوا جميعهم، وخرب من البيوت والحدرات كثير لقوة المطر الذي وقع في الرابع الأول، ورخصت أكثر المجلوبات مثل السمن والغنم وغيرها، فلله الحمد.
وأجاب قاسم مع بلاد الأهنوم بلاد وادعة والشرف وظفير حجة وعفار وظليمة إجابة غير كاملة سوى الأهنوم فإنهم مخلصون، واشتبه على كثير من الناس أمرهم وتفرقهم، وكل منهم توقف على البلاد التي أجابته، وتصرف في الأوامر والنواهي بالاستقلال، يدَّعي الإمامة، ونفوذ الكلام والزعامة.
[126/ب] واتفق أن غريباً من الذين يطلبون الصدقة أنشأ معه مديحة يقول فيه:
وأما قاسم بشهارة قد نشر
وأحمد حسن تعب من ذاك الخبر
فأعجب حيث لم تنطق العامة إلا بذلك، مما يتعجب منه، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
وسار محمد بن المتوكل إلى جهة ذمار يريد الإصلاح فيما بين حسين بن حسن وبين وصنوه أحمد بن الحسن، وأنه يدخل في البيعة فاتفقوا في مَنْقَذة ورجع حسين إلى بلاده رداع، ولم يسعد في البيعة، إلا أنه قال: لا يحصل منه خلل بل يسكن في بلاده. ومحمد بن المتوكل سار ضوران، ثم عاد صنعاء.
وأرسل أحمد بن الحسن يحيى بن الحاج أحمد إلى شهارة، حضرة قاسم بن المؤيد الداعي بها، يخوض في أمره، ويصلح شأنه، ويحيى بن حسين بن المؤيد وصل كتابه إلى أحمد بن الحسن صدره من عيان، ورجع من صعدة.
وجاء الخبر بأن السيد يحيى بن إبراهيم بن جحاف وصل الجمعة برسم قاسم والدعاء له، وكان في الجمعة الأولى متوقفاً عنها، إلا أنه لم يطلع إلى شهارة.
ولما وصل الحاج العلامة يحيى بن أحمد الأسدي إلى حضرة أحمد بن الحسن يقال: أنه كان رسولاً من قاسم، أو مريداً للصلح، وطلب المناظرة، فأجاب عليه أحمد بن الحسن بجواب وعاد إليه للمخابرة والمصالحة، وطوى ذكر المناظرة.
وعلى الجملة[127/أ] أن أحوال الناس صارت مضطربة، وأقوالهم مختلفة، هذا محمد بن الإمام بعد المبايعة يضطرب كلامه، وهذا محمد بن أحمد كذلك، والسيد حسين بن صلاح ، والفقيه حسين بن يحيى حنش بايعوا بعد أن كان امتنعوا أولاً، قيل: إنها بيعة اضطرار لقاسم بن الإمام، وقيل: لم يبايعوا وأنه عذرهم عنها، وإنما دخلوا تحت أمره ونهيه اضطراراً، والسيد يحيى بن أحمد الشرفي وصل جوابه من الشرف بإجابة دعوة قاسم من جملة تلك الجهة، وكذلك أحمد بن المتوكل لم يبايع، غير أنه دخل تحت الأمر اضطراراً.
وجاء كتاب من أحمد بن المؤيد ويذكر أنه أجاب إلى أخيه القاسم، وكذلك رتبة ضوران وبلاد الشَرَف والأَهْنُوم وسُفْيان والعُصَيْمَات ووادَعَة وحَجَة وظُلَيْمَة وسادة حبور، والسيد يحيى بن أحمد الشرفي، وأنه الخطيب يوم الجمعة بشهارة، وحث الناس على المناصرة لقاسم.
وحصلت فرقة بين بلاد خِيَار فيما بينهم على سبب سوق الدبا من الجراد، لما أحله بعضهم إلى أموال البعض، فاقتتلوا راح من الفريقين تسعة أنفار.
والحرب الذي جرى فيما بين السيد حسن بن محمد بن أحمد المؤيدي في العُدَين راح فيه سبعة أنفار من الجانبين[127/ب]، ويحيى بن حسين خرج من صَعْدة مطروداً، قيل: نفره علي بن أحمد عنها؛ لأجل أن منازعة حصلت منه له فيها، وقيل: خرج بنفسه؛ لما رأى ما جرى فيها من الإنتهاب، وركة الأمر والنهي لصاحبها، وكان قد طلب إلى حضرة علي بن أحمد على وجه القهر بجماعة عسكر، فخرج هارباً على مشقة نالته من ذلك الأمر، وإنما تنجى ببعض قبائل آل عَمَّار، وكان يريد علي بن أحمد البيعة منه في القيام الجديد، فأباها يحيى بن حسين، فهذا سبب خروجه عنها.
وعلى الجملة أن حال هذه الدعوات المنازعة المنهي عنها والتفرق الذي هو عين الاختلاف، ودرجهم فيما بينهم متقاربة بعد تعذر الاجتهاد معهم، فلو أنهم جمعوا كلمتهم على أحدهم وسلم الناس من الفتن، وإن حصل النقص بالمنصب الكامل الشروط، فأما إذا[128/أ] أصروا على هذا النزاع والاختلاف وشبوا الفتنة فيما بينهم فيا لها من مصيبة عليهم وعلى المسلمين، نعوذ بالله من ذلك. وبعد ذلك أمورهم إن الفتنة استمرت بينهم إلى نقص وخلل عليهم وتقوية لخروجها عنهم إلى غيرهم، وقد يطمع فيها غيرهم.
وسارت كتب محمد بن علي الغرباني الذي سكن برط يدعو الناس إليه، ويخبر أنه قد دعا إلى نفسه وتلقب بالمهدي، فكان المتلقب بالمهدي هو وأحمد بن الحسن، اتفقا في عصر واحد بهذا اللقب.
وممن لقب المنصور علي بن أحمد وقاسم، وتلقب أحمد المؤيدي بالهادي، وكذلك حسين بن حسن تلقب بالواثق، شل لك يا شلال، ولم يتفق ذلك قبلهم لأحد، وجاء في كتب صاحب صعدة أحمد بن إبراهيم المؤيدي في كتبه بالآية، وهي قوله تعالى: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ ........... وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِي الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ}، وهذه الآية إنما هي في النبي÷، وليست لغيره من سائر الناس، فهذا تحريف لكتاب الله.
[128/ب] وفي يوم الأحد ثامن وعشرين شهر جمادى الآخرة وصل جواب أحمد بن الحسن من قاسم بن المؤيد، الذي سار مع يحيى بن الحاج ، فيه محاججة على مساوي، وعتب على ما جرى من المبايعة، وثلب لمن بايع أحمد بن الحسن من السادة والقضاة وسائر المبايعين من الملازمين، فتغير أحمد بن الحسن[129/أ] من كلامه وخطابه.
وحسن بن الإمام خرج عن رازح إلى تهامة، لا لموجب بل حصل معه فشل وجبن كثير، وإلا فإنه قد صار في قلعة حصينة رأس جبل رازح، بين السحاب والعسكر، وأهل البلاد بين يديه، والمخازين معه مملؤة من الحبوب وغيرها، وعلي بن أحمد بعيد عنها، فترجح له انسل عنها من غير محاصرة له ولا حرب، ونزل تهامة إلى أبي عريش، فلما بلغ علي بن أحمد ذلك فرح بها، وأرسل ولده إليها، وقبضوا ما فيها ونهب العسكر أثاثه وحوائجه، وتصرفوا في قصره وخزانته، واستولى على بلاد رازح جميعها.
وكان بهذا الأمر عاقبته إلى الحرب فيما بينهم، ويكون حدوده حدود الحروب التي جرت فيما بين الإمام القاسم وبين محمد باشا؛ لأنه كان إلى الإمام القاسم إلى حدود عفار، فكانت الحروب في أطراف هذه البلاد، وفي خمر ووادعة، فالله يكفي المسلمين شر مضلات الفتن، ولله قول الشاعر حيث يقول:
دع المقادير تجري في أعنتها
واصبر فليس لها صبر على حالِ
ما بين نومة عين وانتباهتها
يحول الدهر من حال إلى حالِ
يوماً تراك خسيس الحال ترفعه
إلى السماء ويوماً تخفض العالِ
وقول الآخر :
ما اختلف الليل وما دار النهار وما
دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل النعيم من ملك
إذا انقضى ملكه إلى ملك
والسيد أحمد بن إبراهيم تحول من بلده إلى قُرَاظ؛ لأن الناس مال أكثرهم[129/ب] إلى علي بن أحمد في جهات صعدة، وفرغت له تلك البلاد قاطبة، وانفرد فيها أمره ونهيه:
هذا على ناقوسه
وهذا على جبل يصيح
كل يصحح دينه
يا ليت شعري ما الصحيح
وما هي إلا نيات أهوية، وحالات غير مرضية، قد بنوا على ارتكاب ما نهى الله عنه من التنازع والاختلاف، وترك النظر في التسكين والإنصاف.
ووصل السيد حسن بن محمد بن أحمد بن الإمام محسن المؤيدي من العدين، لما نزلت ولاية أحمد بن حسن لجعفر الجرموزي وتوليته، وأبقاه على حالته، وكان ظن حسن أنها تنتقل إليه.
وبلغت الإجابة لقاسم إلى عمران وإلى ذيبين، فكان أول تحريك أن أرسل أحمد بن الحسن فقيهاً وأمره بالخطبة في بلاد ذيبين، فلم يحضر الجمعة أهل البلاد، وقالوا: في أعناقهم بيعة قاسم بن الإمام.
وفي يوم الثلاثاء سلخ شهر جمادى الآخرة منها دخل محمد بن أحمد بن الحسين إلى دار أحمد بن الحسن لموعد بينهما في طلب[130/أ] ولاية، فتأخر الأذن له في درج داره، فخرج المذكور وطلع بيت رَدَمْ ولحقه أصحابه، ثم إن أحمد بن الحسن لحق له للعود، وكان وعده في الولاية، ويقول: لا ينبغي في ذلك العجلة، لرفع التهمة بالبيعة، فإنه قد يقال كانت في مقابل زيادة ولاية، ولئلا يناظر غيره.
والأمور عجيبة فإنه كغيره ممن شرطها في دعوة الإمام المتوكل الأيام السابقة، وهو من جملتهم والله يصلح المسلمين، قال بعض من سمع من خواصه: أن سبب هذا منه أنه لما كان قد طلب من أحمد بن الحسن زيادة ولاية على بلاده الأولة، وأن أحمد بن الحسن كان وعده ثم طال مطله، وكان وصل عند ذلك جواب من قاسم بن المؤيد بأنه قد ولاه بلاد أبيه جميعاً، عرضه على أحمد بن الحسن ظاناً نجاز الوعد، وأن هذا الكتاب محركاً له في ذلك الأمر، فعاود لذلك، ثم حصل من صاحب الباب الداخلي صاحب الحجرة والدرجة التحيير له في بابه لاستئذانه، فكان سبباً في إزعاجه.
والحسن بن المتوكل بايع للمهدي أحمد بن الحسن وبنى على الوصول إلى حضرته، فلما وصل قريب الصلبة لقاه أولاد النقيب سعيد المجزبي بخط بأيديهم من المهدي إليه أن يرد لهم ما أخذه من مراكب والدهم التي أخذها عليهم، فتحامق من ذلك، وقال: هذا أول فائدة من المهدي يقصد قاسم صاحب شهارة ترك بيعة هذا، فسار إلى شهارة، وبايع القاسم ثانياً بعد البيعة الأولة التي لأحمد بن الحسن، ثم نزل إلى حبور، ثم أمره قاسم بالعزم إلى حصن مبين بحجة ليكون رداً للرتبة الذي أرسلهم إلى الصلبة، فسار إليه.
وظهرت دبا واسعة حتى دخلت من داير صنعاء من سوائل نقم، وطلعت إلى سطوح البيوت في القطيع، ودخلت قصر صنعاء[130/ب] وانتشرت في كثير من الجهات اليمانية في بلاد الظاهر والجوف في بلاد صنعاء وبلاد الحيمة والعرشي وبني مطر وسائر الجهات، وشرعت في أكل الزراعة، فضرت مع كثرتها، فلله الأمر، والجراد الكثيرة التي انتشرت في الأغلب تكون للفتن المنفتحة.
وأحمد بن حسن ومحمد بن أحمد اجتمعوا على بعث السياق إلى خمر، ليكون موضع المطرح على شهارة، إما أن قاسم يسلم الأمر وإلا فتحوا الحرب، وأحمد بن محمد كان جواب أحمد بن حسن على مطلبه بأنه لا تولية هذه الساعة غير ما معه من ولاية حضور من أول، إلا أنه يعُد لعسكره كل شهر من جملة أصحابه، ثم إنه جعل له بلاد حفاش ومِلْحَان ، وكان واليها قد مال إلى قاسم بن المؤيد، فهرب عنها، والله أعلم ما يتم منها. وحمل جميع ما قد جمع إلى قاسم، وأما والي حفاش فوصل إلى صنعاء.
وأولاد حسن بن الإمام وصل بهم من صعدة عبد الله بن أحمد وأدخلهم شهارة، وخلصت الشام لعلي بن أحمد:
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
ويقال: إن حسن بن الإمام بلغ إلى كمران وهو حيران، فلله الأمر من قبل ومن بعد[131/أ] مع أن علي بن أحمد يده ضعيفة في بلاد الشام؛ لأنه إنما صار يراشي القبائل، ويستعين بهم على هذه الأفعال والعمايل، ولم تكن له قوة قاهرة عليهم، ولذلك حصل النهب في صعدة منهم، وكل ذلك في صحايفه والمشارك فيما ينشأ، لا هو ضبط البلاد، ولا هو خلاَّها لغيره من الولاة يصلحها ويزيل عنها الفساد. وزاد مع ذلك ادعى أنه إمام، فتضرر كثير من المتسببين والتجار الذين بصعدة من دولته، وإنما مال إليه وأحبه في الغالب المفسدون المتمردون من أهل جهته، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي غرة شهر رجب منها غزا السيد محمد الغرباني الداعي ببرط إلى سفال الجوف، فوقع المدافعة لهم وقتل جماعة من برط وانهزم أصحاب السيد ولزم منهم ملازيم، ودفع الله شرهم، والسيد هرب معهم ورجع بخفي حنين، لم يظفر بما قصده.
[131/ب]والجراد عمت بلاد القبلة وشهارة وأكلت زروعها جميعاً في سفيان والأهنوم ووادعة، فخيب الله أمل أهل شهارة في جمع الثمرة فيها، وتوجهت الجراد بعد ذلك إلى ظليمة وعذر وما إليها، ثم سارت منها إلى بلاد الشرف وعفار وحجة، ثم إلى لاعة، ثم حراز والحيمة وبلاد عتمة وآنس وضوران والسحول باليمن الأسفل، وانعطفت راجعة إلى بلاد ذمار، ثم إلى بلاد رداع، ودخلت المشرق، فلم تبق هذه الجراد في جميع هذه البلاد إلا اليسير، بحيث أكلت طفلاً، فطلع السعر في جميع هذه البلاد النصف في الزيادة على ما كان قبل مرورها: الشعير إلى خمسين والذرة إلى حرفين والبر إلى مائة بقشة وأكثر، وسلّم الله بلاد صنعاء، فتمت الثمرة، وحصدت قبل مرورها، إلا أن السعر ارتفع فيها كغيرها، وقد كان في الثمرة تجهز عظيم قربة الصراب، بحيث أن من كان معه من الحب من العام شاطه بأبخس الأثمان، وأقرضه لتفريغ المدافن والمخازن للثمرة الجديد، ثم انتشرت هذه الجراد، فندموا غاية الندم. وسائر الدبا في الجهات أكل جانباً وما قد احتمل، وأهل ذمار وفدوا إلى صنعاء بغنم باعوها واشتروا بها طعاماً، ولم يعهد أن أهل ذمار يشترون من صنعاء الطعام أصلاً، بل العكس في الرخص له وحين يغلا وينقص على صنعاء أسعاره في أكثر أوقاته، ولله الحكمة في صنعه وأحكامه.
وفي يوم الخميس سابع عشر شهر رجب[132/أ] خرج أحمد بن الحسن من صنعاء إلى الغراس، مظهراً للغضب على قاسم ابن الإمام ومن إليه من الناس، وعاتباً على من لم يقل بإمامته، وذكر لهم اجتهاده في العلم، فلا يعتقدون أنه على طريق الحسبة في إمرته، لما رأى في بعض الجوابات التي أرسل بها قاسم إليه ممن حضر حضرته، وأن في بعضها أنهم نظروا في قيام المذكور من باب الصلاحية على جهة الحسبة وجمع كلمة المسلمين.والمذكور إذا وردت عليه الفتاوى لا يجيب في شيء منها بل يتركها أو يحيلها على من يجيب فيها ثم يضع علامته عليها، وقد يجيب في شيء منها كيف اتفق الجواب. والقاسم بن المؤيد وصل إليه بعض الفقهاء من جهات صعدة لخبرته والنظر في معرفته، فلم يجد عنده في الأصول معرفة، ولا قدر يجيب عليه فيه بالحقيقة، بل وهم في مسألة العموم، وقال: إنه قطعي، ولم يظهر عنده التفاصيل فرجع المذكور هو وآخر معه وامتنعوا من بيعته وقالوا: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)، والظاهر أن بعد قيام هذه الدعوات لا تنحسم إلا بحكم قاهر[132/ب] للخصمين، وإنما ينبغي السعي للمعترفين في الصلح إن علم أنهم يدخلون فيه أو ظن وإلا فالترك لذلك أولى، ولا يجب غيره لمن عرف بتفرق الأهواء. ألا ترى أن أحكام الشريعة لا تتم إلا بيد منفذة لها، وهي الدرجة العلياء! فكيف ولا يد منفذة هناك وإنما هي فرقة! ولذلك أن التحكيم الذي حصل بين علي ومعاوية بعد الفرقة لم يتم له، وبطل أمره، وغيره قد جرى مع الأئمة، فإنهم يتناظرون ولا يرجعون في الغالب إلى ترك ما يطلبون،ومنهم من يرجع ببذل شيء من الدنيا.
وقد طلب قاسم بن المؤيد المناظرة أولاً والتحكيم، وينفذ تمامه بعد الفرقة والمراكزة، إلا أن يحصل مع أحدهم غلبة وقهر له أو بذل لما يطلبه.
[133/أ] وأمر أحمد بن حسن بدار الضرب للدراهم وصغر بقشها. وحسن بن الإمام لما مر ثالث عشر شهر رجب في حجة طالعاً من تهامة بعد أن نزل من رازح أراد يدخل الظفير، وكتب إلى هنالك كما قيل، فقالوا: يدخل بخمسة عشر نفراً أو عشرين نفراً لا غير، فترك دخوله، وعرج عنه إلى طريق شَرِس وخرج إلى حبور، وأجاب قاسم صاحب شهارة وطلع إليها، قيل: وسببه أن أحمد بن الحسن جعل خطاً لأولاد المجزبي في إرجاع السفن التي كانت لوالدهم يَكْروها، وكان حسن بن الإمام قبضها يوم نزل إلى اللحية كما مر سابقاً، وكان المذكور قد بايع لأحمد بن الحسن في قريب حَرَضْ وهو خارج من ساقين. ويحيى بن حسين بن المؤيد بالله لما وصل إلى خمر بعد هربه من صعدة وأمن كتب إلى بعض القبائل في تلك لجهة بأنهم ينصرونه إلى القيام، وأن قاسم وأحمد بن الحسن لم يحصل منهم التئام، فلم يساعده أحد، فكتب بعد ذلك إلى قاسم يجبه على الاجتماع.
فاعجب من سادة اليمن ما أكثر محبتهم[133/ب] إلى الرياسات، والدخول في الإمامات والتكليفات، والله يقول: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإْنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} ولما وصل حسن بن الإمام إلى حدود حجة انجفل البدوان بالهرب بالبقر والأغنام إلى الجبال ظناً منهم أنه أحمد بن الحسن وأرسل أحمد بن الحسن قاسم بن أحمد بن القاسم إلى صنوه علي بن أحمد صاحب صعدة بأن يسعى في صلحه، وله ما طلب من توليته، فسار المذكور إلى تلك الجهة.
وأرسل بعض القضاة إلى عند قاسم بن المؤيد عسى يحصل الصلح بينهم، ولا شك أن الصلح خير، كما قال الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }، وكما في الحديث الصحيح في حق الحسن بن علي أنه قال÷: ((إن ولدي هذا سيدٌ وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين دعواهما واحدة ))، فدل هذا الحديث الصحيح المتفق عليه بين الأمة أن ترجيح المصلحة هو الأولى رعاية لسكون الدهما وسكون ما هو[134/أ] الأعظم من مصالح المسلمين وحسماً للأهواء.
ومن العجيب الذي قل أن يتفق مثله أن فقيهاً من بني النزيلي من الشافعية يقال له: محمد بن أحمد صار شهارة عند قاسم ولازمه، وصار عمدة لديه بل وكاتبه، لما يعرف من عادات شهارة وساداتها وفقهائها من التشديد في عقائدهم وكراهة مذاهب من يخالفهم. وهذا الفقيه محمد بن أحمد له معرفة في علم النحو وسائر العربية وكذا في أصول الفقه وفروعه على مذهب الشافعية.
وظهر من كثير عدم الميل إلى أحمدبن الحسن حتى من أهل صنعاء وجميع أهل المغرب عن بكرة أبيهم، غير أنهم بين البين يظهرون أنهم غير مخالفين لأحمد بن الحسن لخوف جانبه أن يقوى، وقلوبهم عنه مايلة والأهوى، ولم يخلص في بيعة الاختيار من الأعيان لأحمد بن الحسن غير اثنين: أحمد بن صالح بن أبي الرجال[134/ب] المرهبي وغير القاضي عبد الواسع العلفي صاحب أحمد بن الحسن، وسائر الناس غير راغبين ولا مختارين، بل مضطرين إليه ومتقين. وقاسم أكثر من بايعه من الخاصة والعامة بالاختيار واليسير منهم بالاضطرار، وأما العامة من الناس والقبائل فالأكثر يقول: لمن استقر أمره وغلبت دولته لا يميلون إلى أحد الرجلين، والله يصلح أحوال المسلمين.
ومنهم من هو غير قابل بإمامة الرجلين إمامة إختيارية أصلاً، أما أحمد بن الحسن فلأن سيرته سيرة الملوك، مع عدم المعرفة بالعلوم، وأما قاسم فلعدم كمال علمه واجتهاده، وإنما العمل منهما لمن تم أمره من باب القهر والغلبة، دولة اضطرارية، وملك على جهة القهرية لمصلحة الإسلام وسكون الدهماء، مثل دولة علي بن صلاح، ودولة المطهر بن الإمام شرف الدين، ودولة الحمزات من دول الأشراف لا غير ذلك.
وعلى رأي من قال بإمامة المقلد، وخصوصاً عند تعذر وجود المجتهد الكامل لسائر الشروط.
وفي هذا الشهر توفي السيد شرف الدين بن مطهر بن عبد الرحمن بن مطهر ابن الإمام شرف الدين بوطنه الذَّنوب من بلاد حجة، كان هذا السيد أميراً مع الإمام المؤيد بالله، متولياً لبلاد رداع في مشارق ذمار، وكذلك أول دولة الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم، ثم عزله عنه بسبب أن رداع ولي لحسين بن الحسن بن القاسم، فلما عُزل سار إلى وطنه بالذنوب، واستقر فيه مجللاً، وله سبارات وجاريات من والي حجة مع ما له من الصوافي ومن الأملاك التي كانت لعبد الرحيم كالحَوْضَيْن تحت مبين فإنه بيده ويتصرف فيه وفي غيله، وفيه من القات والبن وغير ذلك من الأشجار والمزارع مدته. وكان يتنقل من الذنوب إليه حتى توفي هنالك، وهو الذي كان وليَّ بلاد يافع في دولة إسماعيل بن القاسم، ثم لما حصل الخلاف بعد فتحه الأول وأخرجوه عنه عذر[135/ب] عن الولاية، واستقر في البلد المذكورة.
وقاسم بن الإمام المؤيد لما كثر الوفد عليه من بلاده، واستقر منهم عنده البعض من أنجاده، وكانوا لا يزالون مع قرب بلادهم يصابحونه ويماسونه، فما زال يحتاج لهم الطعامات والإقامات، مع قل المدخول فاستمد أكثر مدافن شهارة، ثم استمد بمدافن السودة ومخازينها لمن عنده. ولم يكن من البلاد التي يستمد منها إلا الشرف وعذر والسودة وظليمة بلاد حقيرة أكثرها، وزاد الجراد أحطبتها، وأكلت جميع الذرة من ثمرتها، فإذا استمر على هذه الحالة أنفق ما لديه وما جاء له ويضطر بعد إلى التقصير في أكثر الذين هم أنصاره، فيتفرقون عنه ويقل منهم اتباعه.
[136/ا] ويبلغ أن أحمد بن الحسن صارالآن يبذل لمشائخ من تلك البلاد من الدراهم التي يجذب بها كبارهم، ويفسد عليهم بسببها أمرهم.
ولما كان أحمد بن الحسن قد ظهر له بعض ما غفل عنه من كتب بعض الذين بايعوه بما ذكروه من بعض الشروط وما قصدوه، وإن ذلك إنما هو بيعة حسبة لا إمامة، وتغير من ذلك وظهر عليه الغضب، وكان خروجه الغراس مغاضباً، وبنى أنه يقصد إلى تلك البلاد، غير مراع إلى ما شرطوه، وعلى العمل بمقتضى الإمامات لا الاحتساب، فصار الناس والقضاة بين بين لا يقدرون على أمر من الأمور، فعاد حالهم إلى الإنخراط ظاهراً من التقية، واضطروا إلى إمرار إمامة الغلبة على مذهب أهل السنة والعلماء الذين في غير الحضرة، لم يصل منهم أحد، ولم يجب منهم بجواب صريح إلا بمجاملات: كالسيد علي العلفي، والقاضي مهدي صاحب ثلاء، ويحيى صالح صاحب ذمار وغيرهم، والله يصلح الحال للمسلمين.
[136/ب]وفي شهر رجب من هذه السنة وصل كتاب من القاسم بن المؤيد، وهذا لفظ كتاب القاسم بن المؤيد بالله إلى محمد بن الإمام وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، من عبد الله أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن أمير المؤمنين المؤيد بالله ثبته الله تعالى إلى الصنو السيد العلامة الأوحد رضيع المحامد والفخامة، ربي حجر الخلافة والإمامة، عز الإسلام والمسلمين سليل الأئمة المطهرين محمد بن أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين، حفظه الله وحماه، وحرسه ووقاه، وأهدي إليه شريف السلام، وسنى التحية والإكرام ورحمة الله وبركاته على الدوام. وبعد: فصدور هذا السلام وإنه قد سبق إليكم حماكم الله كتاب، وعرَّفناكم الوجه المقتضى لتأخير الاتفاق، إلى آخر ما ذكرناه لكم، وإلى تحرير هذه الأحرف ولم يعد الجواب، ثم إنا بحمد الله الذي لا إله إلا هو ونسأله أن يصلي ويسلم على محمد وآله وأن يجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم، ومقربة إلى جنات نعيم، وإنه لما طلب الصنو صفي الدين أحمد بن الحسن حماه الله المفاوضة والاجتماع، ونحن كنا طلبنا ذلك لما كنتم ذكرتم سابقاً أن الدعوة على تلك الصفة، وأن المراد وجه الله سبحانه والنظر في صلاح المسلمين، ثم تعقب من قبله جملة ما ذكرناه لكم في الكتاب السابق، والكتاب هو مما يحسن، إلا أن في النفس أشياء نذكرها لكم صار من في جانبنا من أهل النظر يطلبون معرفة المخلص عنها حتى نكون نحن وهم على بصيرة، وذلك أنه قد[137/أ] كان من الصنو أحمد حماه الله هفوات ليس عندنا ولا عندهم معرفة المخلص منها ومن تحقق التوبة عنها: وذلك بَغْيه على إمام الزمان المؤيد بالله مرتين فإنه خرج في الأولى إلى الحوادث، وتولى حربه الوالد الحسين بن القاسم رحمه الله، وحصل فيها قتل كثير من أهل آنس وريمة ووصاب، وذلك بفعله وسببه على ما شاع هو وسرور شلبي ، وتلك دماء محترمة؛ لأنهم من جند الإمام وهي مضمونة بالإجماع؛ لأن الباغي يضمن الدم بلا إشكال إلا أن يهدرها الإمام لوجه شرعي، ولم يبلغنا أنه تخلص وودى دية ولا ظهر أمر، وإنما سكن لما أسر.
والثانية خروجه إلى نقيل الشيم، وتولى حربة حي الإمام المتوكل على الله رحمه الله وكان فيه قتل كثير، ولم يحصل تخلص ولا علمنا، وأيضاً فإنه خرج بالأموال التي كانت مجموعة مع والده، وهي تجل وتعظم فنهبها العساكر وبذل منها في مقابل قطع الرؤوس من أصحاب الإمام شيئاً واسعاً، فإن كانت تلك الأموال بيوت أموال، فهل تخلص منها بالغرامة إلى إمام زمانه؟ ولا نكتفي في هذا إلا بإظهار أوجه شرعية تكون فيها عليه النفوس طيبة، وإن كانت الأموال ملكاً لوالده، فهل أصلح ما بينه وبين ورثة أبيه بالغرامة أو البرا، فنحن نعرف بعض الزوجات ما ذكر لهن شيء من ذلك. ومن ذلك ما حصل مع التجار كالحُطْروم وقاسم سبحة[137/ب] وغيرهما فإنه أجحف بأموالهما كلها، وصارا من جملة الفقراء والناس كالمجمعين أنه استدان منهما ولم يقض شيئاً. ومنها على ما وقع -والله أعلم بالحقيقة- أنه ضرب أمة من إمائه حتى ماتت عدواناً وكسر يد أخرى وضع يدها على خشبة وضربها؛ لأنها ناولت ولداً صغيراً كتاباً طلبه الصنو أحمد، فسأله من ناولك الكتاب؟ قال: فلانة، فطلع من الديوان وفعل هذا الفعل، ولعله استمر على تسرِّيها بعد ذلك.
ومنها أنه بلغ أن معه داراً تسمى دار المحجبات، وفيه إماء منتخبات من مكة بذل فيهن أموالاً من أموال المسلمين، وقيل: -والله أعلم- أنهن من أهل السماع والملاهي، ولا يترك أحداً يتصل بهن أبداً، ومنها قضية الفلوس هذه التي كانت قبل موت الإمام، فإن الإمام أراد أن يمضي كلامه فيها، فامتنع الصنو أحمد أشد الامتناع، مع أن أمر السكة إلى الإمام وغير ذلك من قتل النفوس التي قتلت في زمن حي المتوكل على الله بغير حقها، وتولى قتلها بيده فهذا في النفس ونعيذه بالله من الإصرار على ذلك. ويجب أن يطلعنا ويطلع من شاركنا في وجه هذا على وجه الخلوص إما بأحكام شرعية يبرزها أو بشهادة عادلة، فإن هذا المقام الذي ارتقاه يحتاج إلى العدالة المحققة، ولا يعرف حقيقتها إلا بعد الخلوص من هذه التي شاعت وتناقلها الناس، وبعد أن يعرف إصلاحه لذلك الوجه الصحيح في ذلك الوقت وبعده لا في هذا الوقت[138/أ] بعد الدعوة فإنه غير مقبول؛ لأنه مع ذلك الدعوة غير صحيحة، فإذا صح لنا ولأتباعنا حسن الاجتماع وطوت هذه الأشياء وكان النظر للعلماء وأهل الخير والفضل ونحن أحب الناس للحق، وما لنا في القيام بهذا الأمر غرض دنيوي، الله يعلم النية، وإنما كلفنا عليه.
واعلم يا صنو محمد حماك الله أن هذا واجب عليك تبحث عنه وعن وقوعه وعن كيفية إصلاحه، ثم ترشدنا إلى طريق تسكن به النفس. وما كنا نحب ذكر شيء من هذا، ولكن المقام صار لله سبحانه وتعالى والدخول فيه والخروج عنه مسؤول عنها، ونعوذ بالله من الهلاك. وقد أوجب الشارع البحث عما يوجب الشك حتى يزول فاعرف هذا. ويجب منك -حفظك الله- أن تطلع هذا على الوالد زيد بن علي حماه الله؛ لأنه حضر في حرب الحوادث وكذلك الفقيه بدر الدين محمد بن علي جميل فإنه حضر في حرب نقيل الشيم، وقد عرفتم أن التوبة الصحيحة لا تكون إلا بالتخلص من الدماء والأموال على الوجه المشروع كمالا يخفى، وقد طوينا غير ذلك مما تلهجون به، وحسبنا الله ونعم الوكيل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ولقد سبق لك القصد إنا حمَّلناك وألزمناك هذه الأمانة تبحث عنها وعن التخلص عنها ثم تعرفنا؛ لأنه ينبني على ذلك إتمام سرعته، ثم ذكر آخره أنه بلغ وصولكم، فإني بريء من الوصول هذه الساعة[138/ب] لما يحصل من التَشْعبَة على القبائل، ولأجل الجراد التي أكلت الثمار، فأرسل به محمد بن المتوكل إلى أحمد بن الحسن، وهذا جواب أحمد بن الحسن على المذكور، قال فيه ما لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} من عبد الله أمير المؤمنين المهدي وفقه الله إلى الصنو العلامة النبيل علم الدين القاسم بن أمير المؤمنين المؤيد بالله حفظه الله وأصلح حاله وسدده إلى الخير وأرشدنا له، وعليه أفضل السلام ورحمة الله. وبعد: فإني أحمد الله الذي لا إله سواه وأصلي على رسوله÷، وإني وقفت على كتابين منكم أحدهما إلى الصنو السيد الجليل العلامة محمد بن أمير المؤمنين والآخر إلى السيد الولد النجيب أحمد بن محمد بن الحسين، مضمونهما واحد في أمور قلتم بعد ذكر الاتفاق الذي طلبناه منكم أن في النفس أشياء نذكرها لكم، إنه صار من في جانبنا من أهل النظر يطلبون المخلص إلى آخر كتابكم فأقول مستعيناً بالله: إني كنت فعلت هذه الأفعال في وقت إمام صادق لله فيما أمر ونهى ذي عزيمة وشكيمة معروفة وصلابة ظاهرة، ورجعت إليه ومضت مدة مديدة وأنا عنده وبين يديه وختم آخر عمره بأن ولاَّني بلاد وصاب،وكان لي معظماً مجللاً وهل الإمام المؤيد بالله دَاهَن صنوه الحسين في شكوى شيخ واحد من مشائخ[139/أ] الحيمة؟ وهو ابن مفضل، فرفع يد صنوه من جميع بلاد الحيمة وما بالى بقدره الجليل، ولا نظر إلى سابقته مع والده ومعه، ولا استحى من أخيه شرف الإسلام الحسن بن القاسم، فكيف يداهني فيما ذكرت جميعه وأنا ولده ولا سابقة لي معه! فهل داهنني في جميع ذلك؟ فاستحى مني! فما هذه الغفلة منك الكبيرة! ثم أنت في نفسك أصلحك الله أنه الذي كان يجب عليك عند أول سماعك هذه الأمور عني أن تخرج من واجب أوجبه الله عليك بالقول لي بما عندك في هذه القضايا، ولا تسكت حتى تعرف ما عندي فيها، وأنت تعلم قول الله سبحانه:
{كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} وقول رسول الله÷: ((لا يحل لعين ترى الله يُعصى فتنظر حتى تغير أو تنتقل ))، بل كنت عندك أصلحك الله مرضياً بالأمس، فلما قمت بهذا الأمر الآن قلت فيَّ ما قلت، فما عدا مما بدا، أليس كتابك إليَّ بخطك في مرض الإمام رحمه الله ما لفظه: سيدي مولاي صنوي بركتي السيد الإمام العلامة شمس الملة والدين، وسيد سادات العترة الأكرمين، فلما قمت هذا العام صار المخاطب بالإمام وسيد سادات العترة الكرام من ألأم الأنام، ومرتكب الفجور والآثام.
وأما قتل النفوس في زمان المتوكل فهي عندي من أقرب القرب، فإذا أنكر على من قتل علي بين يدي رسول الله صلى الله[139/ب] عليه وآله وسلم يوم بدر وأحد، وفتح خيبر والخندق ويوم حنين أنكر عليَّ بمن قتلت يوم أبين ويوم نجد السَّلف ، ويوم يافع ويوم بَحْران بحضرموت، وأرجو أن يبلغني الله ما بلغه بعد دعوتي هذه من القتل يوم الجمل وأيام صفين ويوم النهروان. وأما أمر الفلوس وإني امتنعت من أمر الإمام، فلو نطق المعترض بالحق لما قال هكذا، وإنما راجعته أشد المراجعة رحمة مني، لضعف رعيته؛ لأنهم ضجوا من كسرها وتعبوا تعباً شديداً، فلما لم يتراجع لي نفذت أمره والأمر ظاهر ويكفيك إنما مات حتى أمرني بالتجهيز إلى شام صعدة كما علمت، وجعلني أمير أمرائه الذين أمر بتجهيزهم، وفوضني تفويضاً كاملاً، وولاَّني بلاد خولان، والحرجة فهل هذا الفعل لعصيان مني أو لطاعة له؟ ووصلني خبر موته وأنا بأول مرحلة متجهزاً في طاعته. وأما أمر الحطروم وقاسم سبحة، فالحطروم لم يعاملني مدة حياته، وأما قاسم سبحة فهو عميلي الآن، وطلع بأشياء من المخا، أكثرها صارت إلينا فلو كان فقيراً كما ذكر لما طلع بشيء، وعملتي له وغيره مثل عملة سائر الناس إن وجدوا قضوا وإن لم يجدوا صبر الغريم، وأنت كذلك بلا شك،وهذا دأب الناس في هذا الزمان وغيره. ومات مولانا المؤيد بالله ودَيْنه يفيق على أربعين ألف قرش، فهل ذلك قادح في إمامته؟! وأما ذكر[140/أ] القتيل الذي أراد الفتنة بين العسكر فلم يقع من ذلك شيء، ولو يقع من أحد من الناس الآن إرادة إثارة الفتنة بين العسكر لقتلته، فإنه روى لي إمامنا المتوكل على الله وحي الصنو محمد رحمه الله أن الإمام القاسم كان يقول: من قال يا حاشداه أو يا بكيلاه فقد حل قتله، فإنه من الساعين في الأرض فساداً، ومذهبي في ذلك مذهبه، وأما ذكر الخزايا والبلايا على مختلفها، عدا من ذكر قتل جارية
وكسر يد أخرى، وجعل بيت مختص بالغناء لا يدخله أحد فلو تأدبت بما أدب الله عباده من قوله تعالى: {وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } وذكر من قول الله في قصة الإفك والجامع الافتراء وقوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وقوله÷: ((لا تتبعوا عورات المسلمين ))، وقول أمير المؤمنين: (من عرف من أخيه وثيقة فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال)، والله أعلم.
انتهى الأصل من القاسم والجواب من أحمد، وفي كل من الأصل والجواب قوة وضعف، والرجوع إلى قوله تعالى: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هو الأولى في ذلك، كما ذكر بعض الفقهاء أنه بقي حائراً في هذه الأحوال مهتماً بها في بعض الأيام والليالي، فرأى في المنام أنه يقول: النفس علينا من ذاك الإمام من هؤلاء السادة، فتليت عليه الآية، والله أعلم.
وجه القوة والضعف في هذين الكتابين، أما كتاب القاسم فمنه قوله: أن الباغي يضمن الدم بالإجماع، ولم يبلغنا أنه ودى دية ولا تخلص، فهذه مسألة خلاف بين العلماء، منهم من لم يوجب الدية، فلو قال على قول من قال بوجوب ذلك[140/ب]، ومنه قوله: وكذلك النفوس التي قتلت في زمن حي المتوكل على الله بغير حقها، فما قتل في الحروب مع المتوكل للبغاة، ومن امتنع من تأدية الزكاة، بعد استقرار إمامة المتوكل، فهي ساقطة بإجماع العلماء.
وأما كتاب أحمد بن الحسن في جوابه: إن كنت فعلت هذه الأفعال في وقت إمام صادق لله فيما أمر ونهى ذي شكيمة وعزيمة معروفة وصلابة ظاهرة، ورجعت إليه، ومضت مدة مديدة وأنا عنده وبين يديه، وختم آخر عمره بأن ولاَّني بلاد وصاب، وكان لي مجللاً معظماً، إلى آخر ما ذكره، فهذا ليس بجواب على السؤال والاعتراض، وطلب المخلص منه ما جرى من تلك الأفعال، فإن سكوت ذلك الإمام عما جرى من تلك الأفعال وما مضى من تلك الأعمال ليس بحجة في سقوط الحقوق للعباد، فإن حقه قد أخذه منه قسراً وقهراً، وأسره وأمنه، وبقي حق العباد متى طالبوه في رقبته، هذا ضروري لا يخفي أهل البصائر، ومنهم المطالب له، ومنهم الخائف له عن مطالبته، فليس بحجة ما قاله تسقط الأمور اللازمة له.
وأما ولاية وصاب له فهو كان قبل أن يخرج عليه إلى الحوادث، فإنه كان وضع له ولاية وصاب، فلم يقبل ذلك منه، وسار مغاضباً من ذمَرْمَرْ إلى ذمار عند صنوه، ثم دخل وصاب، وتقدم على عُتمة يحارب السيد مطهر واليها من قبل الإمام المؤيد، وجرى ما جرى.
وأما تزويجه المؤيد لبنته، فليس بحجة؛ لأن رضا الولي يكفي في ذلك ، وقد غلط أحمد بن صالح بن أبي الرجال في رسالته، حيث قال: إن المؤيد والمتوكل زوجا من لا يحل تزويجه بإجماع العترة، كيف؟ وهو عند هذا مصرح بتصويب فعله في خروجه على المؤيد بالله، فإنه ذكر الثقة أنه سمعه يقول: ولم يجازي المؤيد فيما فعله معنا، وقد كان روى رجل من أصحابه أنه ذكر أحمد بن الحسن ما جرى معه في الخروج على عمه المؤيد ومحاربته، وذكر أن سببه إنعام والده عليه، وبره له، فتاقت نفسه إلى ما كان ألفه وليس فيه غير ذلك.
وأما تأخير قوله إلى هذا الوقت، فعذره ما يترتب عليه من الأحكام للرياسة العامة للإسلام، بخلاف قبل ذلك في مدة الأئمة السابقين، فالعهدة عليهم، وأما خطه بما ذكر في كتابه ففيه حجة عليه، كما ذكره.
وأما قياسه على من قتل بين يدي رسول الله÷ يوم بدر وأحد، فلعل قاسماً أراد مما قتله في غير القتال للبغاة على الإمام[141/أ] وذكره للقياس على من قتل بين يدي رسول الله÷ لا حجة فيه؛ لأن ذلك جهاد كفار بين يدي نبي من الأنبياء، فأين هذا من هذا؟ والله المستعان.
وأما الفلوس التي ذكرها فإنه استمر فيها إلى أن توفي الإمام، ولعله قصد المراجعة في ذلك، كما ذكره، والانتظار فيها حتى ينظر ما ينتهي إليه قول الإمام، كما ذكره، وفيه ما فيه. وأما المطل بالديون فالأمر ظاهر مشهور عنه ضرورة، ولقد شكى عليَّ يتيم قماط في الغنم أنه مات والده وعليه دين ما أوفاه أحمد بن الحسن ولا سلم إليه إلا مائة حرف من أصل تسعمائة حرف وأكثر، ومضت أعوام وهو يطالب أبوه حتى مات أبوه، وكذلك شهد معه على قوله بعض قرابته، وقالوا: نشفع لهم بتعريف إلى أحمد بن الحسن، فقلت لهم: روحوا إلى قاضيه عبد الواسع، وهو لا يترك ما يجب عليه. ومطل حسن الطحم في ألف قرش صار يدَّعيها عليه، ولم يحصل شيء له وأيس منه، وغيرهم كثير.
وأما قوله: إن وجدوا قضوا وإن لم يجدوا صبر الغريم، فمخالف للإجماع في الأغنياء مع الجدة، وأنه لا يستثنى له إلا ما يستثنى للمفلس، وأنت ليس بمفلس بل واجد، والخزائن مملوءة معك بالضرورة.
وأما الاحتجاج بالمؤيد أنه مات وعليه ذلك القدر، فاتفاق موته أنه استدان قبل القضاء في عامه وفي قدر مهلته، وأما المطل الطويل والخارج عن التأجيل فحرام قطعاً.
وقوله: من قال: يا حاشداه أو يا بكيلاه فإنه يقتل لأنه مفسد، فهو قول باطل؛ لأن المفسد في الأرض لا بد أن يكون قد قتل، وإلا لم يجز عنه قتله أصلاً، فلا حجة فيه بل التأديب له.
وأما إنكار قتل الجارية فقد اشتهر ذلك وصح، وهي جارية كانت لبنته، زوجة إسماعيل بن محمد بن أحمد بن القاسم بالروضة، وكذلك تواتر قتل أفراد في المدة السابقة بالضرب بالدبوس، كالذي قتل بعد صلاة العيد في باب شعوب لما رمى إلى الداير للنصع بعد منعه له وخالفه، فالتخلص واجب عليه من جميع ذلك، والله يغفر ويرحم.
هذا في المجمع على لزومه من غير المختلف فيه، مما جرى في بغيه على المؤيد بالله مرتين في الحوادث ونقيل الشيم.
[141/ب] وكذلك أجاب على السيد يحيى بن أحمد الشرفي أحمد بن صالح بن أبي الرجال لما ذكر وصف قاسم بطهارة المنشأ، فقال أبي الرجال: التعريض بغيره -يريد أحمد بن الحسن- لا يحل، فإن العصمة منتفية عن الجميع، وقال: إذا كثرت السيئات وتاب كثرت الحسنات، ثم ساق ذلك، ولكن يقال: التوبة من حقوق العباد لا بد من شرطها التخلص وإرضاء الخصوم، فالأمر مشكلاً.
ومن عجائب هذا القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال أنه أكثر الذب والنضال عن أحمد بن الحسن، وأول من خطب، ثم انقلب بآخرة في أول سنة1089هـ راجعاً إلى الهجو والذم، فإنه قال: ما أعظم مما وقع منا -مخاطباً نفسه- من مبايعة أحمد بن حسن رجل غير صالح، وسخط حالته لما أرجع من بابه مراراً لما وصل إلى جنابه، وبقي أكثر وقته في عَافِش ، وله بعض اتصال بعيال المتوكل، فلا قوة إلا بالله، بعد أن كان هو أول من خطب ومدح وعظَّم المهدي، بحيث أنه لم يكتف بخطبه وجواباته، بل جعل كراسة مستقلة في المسلمين في تصحيحه لدعوة أحمد بن الحسن، وذكر أعيان من عقدها له من السادة والقضاة وغيرهم عقد اجتماع محضرهم بالغراس، ولقد ذكر كاتب الأحرف فيها وكذب عليَّ فيها، فإني لم أحضر محضرهم، ولا بايعت بيعتهم.
وفي آخر شهر رجب وصلت رسالة من السيد أحمد بن إبراهيم المؤيدي الملقب ابن حورية، من أولها قوله: وبعد فيقول العبد الفقير إلى مولاه الهادي إلى الحق المبين أمير المؤمنين أحمد بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن أحمد بن عز الدين بن علي بن الحسين بن أمير المؤمنين عز الدين بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن المؤيد وفقه الله، حتى قال: ومن دين الله الواجب وحقه الواضح الواجب أن أوجب على الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ينصبوا إماماً عادلاً لإقامة الحدود والجهاد والجمعات، وتأمين الطرقات، ودفع المظالم من غير فرق بين قوي وضعيف، ووضع الحقوق في مواضعها في الثمانية الأصناف، وشرط الفقير أن يكون غير هاشمي، والتسوية، وفي نهج البلاغة: وجوب القسم بالسوية، ثم قال: ولما رأى رسم الدين قد عفى، وعلم أن هؤلاء الذين دعوا مع فرض الكمال واجتماع الشروط المعتبرة فيهم ظاهر الاختلال، لا يسيرون إلاَّ هذه السيرة، ولا يميلون إلا نحو هذه العادة الماضية التي تخاف في السكوت عليها في مضي الأخذ بالجريرة، فإنا رأينا المسكين محروماً،والضعيف مدحوضاً ومظلوماً، والفقراء من بني هاشم وغيرهم لا يجدون في أكثر الأوقات ما يسد جوعهم ويستر عورتهم، وصارت حصتهم من الفيء والمصالح دولاً، وقد تكلمنا في الماضي فلم يلتفت إلى أقوالنا[142/أ] ولم يعول على شيء من أعمالنا، كذلك رأينا الأخذ من الرعية غير متوقف على كتاب ولا سنة، قال: فلما رأينا الأمر هكذا وجب عليه القيام بأمر الله، والدعاء إليَّ أو من هو أصلح علماً وعملاً وزهداً وورعاً، وبقية الشروط المعتبرة، إلى آخر ما ذكره، مما محصوله هذا ونحوه. وقال: حررت تاسع عشر شهر رجب الأصب سنة سبع وثمانين وألف. فلم يرفع لهذه الرسالة أحد رأساً، ولا تلقاها أحد بقبول، ولا ظهر لها عند الناس نفوذ؛ لأن صاحبها كان مناقضاً لما فيها، فإنه ما زال يفد إلى الحضرة المتوكلية مسترفداً وطالباً من الحطام المالية
والكسوات الهندية كل عام ويسير بها إلى بلاده، وكان مع ذلك مقطعاً إقطاع أبيه من قبله بلاد العشة وما إليها في سباره وأصحابه، وهي من عين الزكاة التي نهى عنها وقال بتحريمها، وناقض ما ذكره من الاستيثار والمساواة، فإنه استأثر بإقطاعه عن غيره من فقراء بني هاشم وغيره من الفقراء من أهل جهته، فكان أمره لنفسه بالمعروف ونهيه عن منكره أَقْدَم وأحرى، فإنه يقول الله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ومرفوعات اليمن أكثرها زكاة قد حصلت البلوى بها لأكثر الخلف من الأغنياء وبني هاشم، وعزة الشروط في الفقراء الجائعين، ولا يخلو منهم من يصير إليه منها ما يصير، على أن المطالب التي ليست بزكاة كثيرة تصير إلى بعض بني هاشم والأغنياء منها جانباً، وهم في ذلك وغيرهم على سوى.
وأما الأخذ من الرعية بالمطالب الكثيرة فكلامه حق، خصوصاً باليمن الأسفل مما هو لا شك من متنكر على الماضي والمستقبل، وأما القسم بالسوية ففيه الخلاف بين العلماء.
[142/ب] وهذه الرسالة سببها لما بلغه أن عقدهم كان مشروطاً للرضا والصالح لها ففرح السيد بهذا الشرط، وكان ذريعة له في إقامة الحجة والفرض، وقالت نفسه: عسى يتأتى هذا، وكذلك قاسم بن المؤيد صار يحتج عليهم بهذا، والأمر فيه اختلاف كثير واضطراب شديد، الكل منهم بين طرفي النقيض، والحال بينهم العجيب المستفيض، مما يتعجب منه.
وفي هذه المدة التي مرت بعد موت المتوكل من هؤلاء السادة المتعارضين لم يرفع أحد منهم مظلمة ولا مطلبه زائدة، ولا عزل والٍ جائر، ولا إصلاح خلل حاصل[143/أ] بل الأمور على ما كانت عليه في العدين وبلاد جبل صبر، وبلاد بُرَع وقُعار من الزوايد التي زادها الولاة الذين كان شكوهم، والولاة أولئك أبقوهم.
ولقد انكشف لمحمد بن الإمام لما وصل ضوران من الخزائن التي لا تنحصر بعدد، ولا يوقف فيه على حد من الذهب الأحمر والقروش والنقد، فعجب يحيى جباري قاضي الإمام من ذلك وقال: ما كنت أظن أن في خزائن الإمام هذه الممالك. يريد فما الوجه للمطالب والجور في اليمن الأسفل؟ ولا حاجة هنالك على من يقول بجواز المعونات في الهُدَن فكيف لمن منعها؟ إلا عند الحاجات وعدم المكن، وهو يقال للقاضي ففي شهارة والسودة وصنعاء غير ذلك من النقديات، والله أعلم لمن تصير تلك المجموعات.
وما دار على أكثرها ثلاث سنين إلا قد راح منها الجزيل في فتنة شهارة، ثم في الجوع الحاصل بعدها والغلاء في الأسعار بسبب الجراد، فإنه احتاج محمد بن الإمام إلى كثير منها، وتمزق بعضها مع حسين بن المتوكل وبعضها مع غيره من المتصرفين، حتى أن منها ما سرقها بعض الخدم[143/ب].
وكانت الخطب في شهارة متضمنة للحث للجهاد للبغاة الخارجين عليهم مع زيادة في الاستحداد، ويذكرون الآيات النازلة في قتال المشركين، وفي وقت الأنبياء عليهم السلام الماضين، وما عرفوا فيمن نزلت الآيات، ولا من تضمنه تلك الصفات المتلوات، كأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، وأن هذا من الغلو في الدين الذي نهى الله عنه، واقطع من عنده من الرؤساء ولا يأت وعدهم بها، وجعل بأيديهم الخطوط فيها من أرض اليمن وهو لا يمر خطه فيها، لكن أراد الترغيب لهم يعدهم ويمنيهم،وجعل لكل من وصل من الرعايا خطوط الجبريات.
وزلج أحمد بن الحسن الشيخ منصر العولقي إلى بلاده وأرجعها[144/أ] إلى نظره، وقد كان له مدة عند حي الإمام المتوكل، منعه حسين بن الحسن عن إرجاعه، وكان ولَّى صنوه بلاده، وكانت طريقه الجوف، تجنب طريق رداع لأجل الحسين بن الحسن، وجهز أحمد بن الحسن يومئذٍ حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم إلى خمر لحفظه.
وأرسل أحمد بن الحسن القاضي جعفر بن علي بن تاج الدين الظفيري للسعي في الصلاح، فسار إلى شهارة وذكر له الاجتماع وسكون الدهماء، وأنه إن أحب المناظرة فتصلح في أي مكان يليق بها. فلما وصل المذكور لم يقابل بقبول، وسمع خطبهم وما صاروا يأخذون في جانب أحمد بن الحسن ومن معه. وأجاب بتعذر الاجتماع في الأقوال، وأنه يدَّعي الكمال، وغيره في حيز الإهمال، والتخطئة لمن قال بانتصاب أحمد بن الحسن ومن إليه مال. وكان من المحرضين لقاسم السيد يحيى بن أحمد الشرفي[144/ب] فإن السيد يحيى بن أحمد الشرفي صح عنده إمامة قاسم، ولهذا قال في جوابه على قاسم لما بعث إليه الدعوة: وذكرتم ما اهتديتم إليه من الانتداب إلى ما ندب إليه سيد الأولين والآخرين من تحمل أعباء هذه المرتبة الجليلة، وذلك إظهار الدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله وإلى الرضا من آل محمد، فذلك الفضل من الله، ولأنت الرضا من أهل هذا البيت الطيب.
وقال في جواب أحمد بن الحسن بعد أن ذكر أول الكتاب ما لفظه: هذا والمرفوع إلى مقامه العظيم ما قد أحاط به علمه الكريم من تقدم دعوة من مولانا أمير المؤمنين القاسم بن أمير المؤمنين المؤيد بالله وجهها إلى جميع الجهات، فأسرع الناس جميعاً إلى إجابتها أفراداً وثنايا، وجاءنا خصوصاً منه كتاب يخبر بما اختاره، وبما أجمع عليه أهل شهارة من أهل الحل والعقد من تحمله للأعباء، وهو لما كنا عالمين بما هو عليه من طهارة المنشأ واستكمال الشرايط المعتبرة[145/أ] في ذلك الباب والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لم نجد عذراً عند الله من التوقف عن إجابة دعوته،ولا دفعاً إلا الكون في جماعته مثل قوله÷: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم ))، ويقتضي هذا وجوب الإجابة إلى المبادرة مع انتفاء الأعذار المرخصة في التراخي، إذ الفاء للتعقيب، وهذا الكتاب من المذكور يخالف ما نقله كثير من العلماء الذين وصلوا إليه وأخبروا عن حاله فاتفقوا أنه ليس يكمل بالاجتهاد أصلاً وإنما له مسكة في الفقه، ولم يكن له في الأصول معرفة هكذا أخبرنا به جماعة من العلماء منهم السيد العارف عبد الله بن محمد الكبسي قال: وهو عارف بقراءته من قبل هذه المدة وتحصيله. وكذلك الشيخ القاضي الفقيه العارف جعفر بن علي الظفيري قال: الاجتهاد ما بلغه ولا حام حوله، وغيرهما، فقول السيد باستكمال الشرائط لعله يريد في العدالة والتقوى، ولعله يريد إلى إمامة المقلد على قول الدواري المسبوق قوله بالإجماع، وبهذا حكم أيضاً الفقيه أحمد بن صالح أبي الرجال بإمامة أحمد بن الحسن، وأن الرضا بني على مذهبه؛ لأنه يقول بإمامة المقلد، وحيث كانا مقلدين، فكان دعوة المتقدم أوجب على قول مذهبهما، ودعوة أحمد كانت متقدمة بيوم وليلة على دعوة قاسم، مع ضعف هذا القول ومخالفته للإجماع، والملك لله يؤتيه من يشاء.
وأما احتجاج السيد يحيى بن أحمد الشرفي بأنه[145/ب] وجب عليه إجابة قاسم بن الإمام لحديث روى عنه÷ أنه قال: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه يوم القيامة ))، وهذا الحديث باطل موضوع، لا أصل له ولا يسند عليه تعويل ولا رجوع، وإن كان بعض الهدوية قد ذكره بالسند المقطوع فهو بناءاً على قبول المراسيل، ورواية المجاهيل، وهو مخالف لما عليه الجماهير، منهم ومن غيرهم من العلماء النحارير.
وجاء الخبر يومئذٍ في عاشر شهر شعبان بأن علي بن أحمد تفرقت عليه آراء قبائل الشام، ورفع كثير منهم رؤوسها واستخفوا بما يصدر منه من الأوامر والكلام فيها، فتضعف أمره ونهيه، وانكسرت نفسه وبقي في حيرة من هذا ولا سيما مع ميل بعض جهاته إلى إجابة قاسم، والمشي إليه بالعزم الجازم، وبعضهم إلى السيد أحمد بن إبراهيم المؤيدي، وبعض بلاد الشام عن بدء، وهكذا الأيام تلعب بالفتى وتتقلب فيها تارة على الوجه، وتارة على القفا، ولله قول الشاعر:
وما الدهر إلا مجنوناً بأهله
وما صاحب الحاجات إلا معذبا
فحدثته نفسه أن يترك ما عقده من الإمامة في أمسه، أو أنه يساير من بقي معه من القبائل، ويرضى بالحاصل منهم والزايل، والله أعلم ما ينتهي إليه حاله، وما يضطر إليه مآله.
ووصل في هذا التاريخ شكاة العدين الذين أضعفهم[146/أ] الجور والظلم لحسن. ظن بهم للإنصاف من هذا الآخر بعد مضي الإمام الأول الذي لم ينصفهم في شكواهم، وما جرى عليهم من الاسترسال في أموالهم، فلما وصلوا إلى أحمد بن الحسن صاحوا بالأصوات وقالوا: هل أنت ممن يزيل الجور والظلمات؟ وتخفف ما صار عليهم من المطالب المحدثات المخترعات؟ فأرسل أحمد بن الحسن على واليهم جعفر الجرموزي، ولا يُعرف ما إليه أمرهم ينتهي.
ووصل في أثرهم شكاة من بلاد قعار من واليهم الحاج عاطف أنه استأصل أموالهم بالظلم، فطُلِب إلى حضرة أحمد بن الحسن، واستقر هؤلاء السادة متباينين ومتفرقين غير مجتمعين ولا مؤتلفين لم يتَّضعُ أحدٌ منهم للثاني، ولم يسمع المكاتبات بعضهم لبعض ولا من قاصي ولا داني، وكل منهم ادعى الإمامة على هذه الصفة المذكورة والحالة، وخطب له في حضرته ومن أجابه، فكان حالهم كما يقول القائل :
وتفرقوا فرقاً وكل قبيلة
فيها أمير المؤمنين ومنبر
وكم سعى الوسائط في الصلاح فيما بينهم، واجتماع كلمتهم، فلم يقبل نصحهم ولا صلحهم لأمر قد علمه الله فيهم، وكان حالهم كما قال بعضهم: [146/ب]
ولا تصرفوها عن هواها وسؤلها
بعذلكم فالعذل يمنعها الصرفا
ولا تعتبوها فالعتاب يزيدها
هياماً ويسقيها مدام الهوى صرفا
ولله قول الشاعر حيث يقول:
واستيقظوا فالسيل قد بلغ الزبا
وعلت عواريه على العربان
وذروا التحاسد والتنافس بينكم
وكلاهما نزغ من الشيطان
واستعملوا الإنصاف واغضوا كاشحا
لفسادكم والضم لكل لسان
وتداركوا إصلاح ما افسدتموه
ما دمتم منه على الإمكان
فتحدثوا في لم شعثكم فما
الساعي لفرقة قومه بمعان
وقد أبلى أحمد بن الحسن في العتاب غاياته وأنذرهم بأنه لا يتركهم على مخالفاته، كما قال الشاعر:
لا تنكري عتبي عليك فإنه
جميل وشر الناس من لا نعاتبه
أعاتب من أهوى على قدر وده
ولا ود عندي للذي لا أعاتبه
ثم قال لسان حالهم:
فعزما فقد طالت مداراتنا للعدى
وطال بسوء العتب فينا ولوعها
فلا دار إلا حيث يهتضم العدى
ولا عز إلا حيث يبدو خضوعها
فجردوا الهمة على كشف القناع، والتهيؤ للحرب والوقاع، ذاك من تلك الجهة، وهذا من هذه الجهة، وكان أول باديهم أن أرسلوا الحسين بن محمد بن أحمد إلى خمر، كما سبق ذكره، يوم الخميس نصف شعبان.
[147/أ] وفي يوم السبت سابع عشر شهر شعبان وصل مشائخ الحيمة إلى حضرة محمد بن الإمام، فاستلقاهم بالتجليل والإعظام، ومن أفرادهم من سار إلى شهارة عند قاسم بن الإمام.
وفي هذه الأيام ظهر في البحر المقابل للمخاء جلاّب انكشفت فيها طعام وصل من سواحل الحبشة، لما بلغهم الجراد باليمن وارتفاع السعر.
وفي عشرين شهر شعبان غزا السيد محمد بن علي الغرباني الساكن ببرط بجماعة معه من أهل برط إلى حصن الزاهر بالجوف، فدخل جانباً منه، ووقع بينهم القتال فقتل من برط من كبارهم إثنان، وصوايب كثيرة من الجانبين، وانهزموا وأخرجوهم من الحصن بعد أن كان دخلوا.
ولما بلغ أحمد بن الحسن ذلك الحادث بعث[147/ب] إليه غارة بجماعة من العسكر، فساروا وقد عاد أولئك النفر.
وأرسل قاسم بن المؤيد إلى مبين بحجة جماعة عسكر، ومعهم فقيه من بني الغفاري ولد أحمد هادي، وأمرهم بسياق الطعام من مدافن مبين إلى شهارة للحاجة إلى الطعام ومن معه في هذه الأيام، لعدم الثمرة بسبب الجراد وغلاء الأسعار، فشرع المذكور في السياق، وتضرر السيد علي بن حسين جحاف متولي حجة، وحصل معه بسبب ذلك المشقة.
وفي هذه الأيام بهذا التاريخ في يوم الإثنين عشرين شهرشعبان خرج إبراهيم بن حسين من شهارة بأمر قاسم له إلى جهات ذيبين، ومعه من العسكر عينة.
وأحمد بن حسن لماّ كان قد أمر ابن خليل باللحوق إلى خمر بلغه عند ذلك هذا الأمر، فاسترجعهم[148/أ] وبنى على التجهيز والتأكد، وتحركت عليه الأمور الساكنة والتأكيد، واختل عليه الأمر الذي كان يظنه، فإنه كان قال: ما يظن أن أحداً يخالفه أو يخرج عن أمره.
وعند هذا انتبه أحمد بن الحسن عرف أن الدهر يتقلص، وأن الأوقات قد تنغص، وأيس عن رجوع أحد من هؤلاء الدعاة المعارضين له إلى طاعته، والإصرار منهم على مخالفته ومنابذته، تعب باطن خاطره وكثر الشاغل معه، غير أنه مراعي لجانب بعض من اتباعه لما شرطوا عليه في إجابته وبيعته، وهو محمد بن الإمام وغيره، فإنه شرط أن تكون السيرة سيرة الحسبة، فلا يبدي بالغزو، وعامة الناس وخاصة أصحابه ما زالوا يحرضونه على الغزو وهو عند نفسه ليس بمحتسب، فوافق قولهم ما يهواه.
[148/ب] وفي يوم الثلاثاء سابع وعشرين شهر شعبان جهز المهدي أحمد بن الحسن الشيخ زيد بن خليل الهمداني إلى عمران، وأمر محمد بن أحمد بتجهيز من عنده من غير توان.
وجهز عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن ، ومعه جماعة من الأعيان إلى جهة بلاد ذيبين، فسار الجميع إلى تلك الجهة التي إليها أمروا، فوصل عبد الله بن يحيى إلى المقضضة من بلاد الصَيَد وبها استقروا، ووصل ابن خليل إلى عمران، وسبب هذه الحركة وصول إبراهيم بن حسين إلى ذيبين، كما سبق ذكره، ووصول حسن بن حسين إلى العر، ومحمد بن الإمام جهز إلى حصن ثلاء ابن ناجي لحفظه عن دخوله والتقدم على أهله؛ لأنهم أظهروا الميل إلى إجابة السيد قاسم، ووجه عقبه أحمد بن الحسن أيضاً ولده علي بن أحمد بجماعة من العسكر فمروا ثلاء ثم نزلوا وادي لاعة يريدون الصلبة وحجة.
ووجه أحمد بن محمد بن حسين إلى الصلبة وحفظ بلاد ملحان وحفاش، فسار الجميع إلى حيث أُمروا به، وكانت طريق أحمد بن محمد من الأهْجِر والمحْويت ، والأمير عبد القادر كان وصل إلى بلاده من قبل قاسم بن المؤيد بعض أصحابه، [149/أ] فمنهم من وصل إلى مسور، ومنهم إلى بيت عِذَاقة ، ومنهم إلى الطويلة ، فجهز الأمير إلى مسور السيد صلاح بن يحيى بن أحمد سند في جماعة من العسكر، للسكون في مسور، وحفظه عن أحد يصل إليه، فقبضه وطرد من قد وصله، فسار الجميع إلى هنالك، وأزالوا من وصل من أولئك.
وعبد الله بن أحمد بن القاسم لما وصل من صعدة إلى شهارة بأولاد حسن بن المتوكل سكن وبايع القاسم، ويحيى بن حسين بن المؤيد وصل إلى أحمد بن الحسن إلى الغراس، وباين عمه القاسم، ولم يدخل شهارة لما خرج من صعدة، فكان حالهم كما قال الشاعر:
سارت مشرِّقة وسرت مغرِّباً
شتان ما بين مشرِّق ومغرِّب
وفي هذا الشهر بالعشر الأولى منه وصل القاسم بن محمد بن أحمد بن القاسم من عند صنوه علي بن أحمد صاحب صعدة بجواب الرسالة، وأنه داخل في الجماعة، ومجيب لأحمد بن الحسن على كل حاله. فاغتاظ صاحب شهارة من ذلك، وضاق صدره، وعيل صبره، وكَلَّ جهده فيما قد عاناه من الناس، وطلبه، فلم يجبه غير أهل[149/ب] بلده ومن بقربه، بعد أن كانت طارت كتبه إلى جميع النواحي، وفيها من التخطية والخط في جانب من لم يدخل في أمره ونهيه وإجابته.
ولما كثرت الكتب إلى صنعاء والرسل خرج عليها المهدي، ومنع عن كل من وصل بها، فتقالل أمرها، وسكن كثرة ما كان يصل منها.
وفي يوم الإثنين ثالث رمضان سار محمد بن الإمام إلى ضوران، يعتذر بتنفيذ وصايا الإمام وافتقاد بيوت أبيه، وحفظ المخازين عن تصرفات أخيه، ويباعد نفسه عن المخارج إلى جهات شهارة بعروض الشك معه في الأحوال، ومحبة أن يكون انتظامها بواسطة غيره، والداخل في الأمر غير معذور، لكن المهدي أحمد بن الحسن ربما يعذره لجلالة قدره عنده، وكونه القائم ببيعته أول أمره، واعتذر المذكور بأنه ما كان يظن أنه يؤدي إلى التفرق والمحذور، وأنه أما إذا أدى إلى الشرور والحروب فحاله يكره ذلك، وأحمد بن الحسن المهدي ذكر له أن بعد ابتداهم في المخارج، وإرسال[150/أ] جنودهم في المشارق والمغارب ليس بعده ترك ملاقاتهم.
ووصل كتاب من السيد يحيى بن إبراهيم من جحاف إلى من قرأه من الناس فيه تعظيم الاختلاف، وما يجري بسببه من الفساد وعدم الصلاح والائتلاف، وانتهاك الحرمات، ولاوح السيد بل صرح بأنه كان يجب أن يبقى السيد قاسم بشهارة على حالة الإمامة، والمهدي على حاله، وأنه قد كان يوسف الداعي والقاسم بن علي العياني كذلك أيامهم.
وهذا قول غير صحيح، واحتجاج غير مليح، لأن انتصاب قائمين في قطر واحد مع تقارب الديار، لم يقل به أحد من العلماء، ولا يتم به صلاح المسلمين، فإن الأهواء للناس مختلفة، وطباع البشر غير مجتمعة، مع طعن هذا في هذا وكل يدعي أنه الإمام المحق[150/ب]، وإنما ذلك يتم لو لم يتسمَّوا بالإمامة ويجعلوها حسبة، وأنهم في درجة، فكل يبقى متصرفاً على جهاته وحوزته، غير قاصد لجهة غير ولايته.
وفي هذه الأيام سار أهل الغصيرة من بلاد خمر إلى حضرة قاسم صاحب شهارة وبايعوه وسلموا إليه واجباتهم، فأرسل عليهم المهدي ومحمد بن أحمد والي البلاد من أول بأدب.
ووصلت يومئذٍ هدية من حضرموت وكتاب إلى المهدي وأنهم إليه منتمون.
ووصل الشيخ جعفر الذي أرسله محمد بن المتوكل إلى السودة بالدراهم التي كانت في خزانة أبيه مجموعة، فوصل بها إلى ولده محمد بصنعاء.
وفي هذه الأيام اشتدت الأزمة والغلاء ببلاد الأهنوم، ولولا سياق حصن مبين من بلاد حجة إلى قاسم لما وجد شيئاً، فإنه قد كان أرسل قدر ألف نفر رتبة في مبين وحجة، وبقي السياق إلى شهارة هذه المدة منها ومن الشرف.
وفي سادس عشر رمضان وصل الخبر بدخول أحمد بن محمد إلى حفاش واستقراره بالضفتين ، واتفق قتل واحد من عسكره على سبب الخِطَاط، في بعض بيوت البلاد.
وفي هذه الأيام جهز المهدي ولده علي بن أحمد بن الحسن إلى ثلا، فدخل ثلا وسكن بحصنه، وأصحابه بالمدينة؛ لأجل أنه بلغه ميلهم إلى صاحب شهارة، ثم توجه نازلاً إلى بلاد الصلبة، بعد أن نزل أيضاً صاحب كوكبان إلى قراضة . وكان القاسم قد رتب[151/أ] في الصلبة رتبة قوية، فسارت عليه الأجناد الأحمدية والتقت من حفاش أحمد بن محمد، ومن قراضة صاحب كوكبان عبد القادر بن الناصر، ومن بلاد علي بن أحمد بجنودهم وعساكرهم وقصدوا إلى الصلبة.
وكان صاحب شهارة قد أرسل ولده إسماعيل بعساكر معه من الأهنوم ومن ظليمة، وقد كان اسماعيل بن قاسم في حبور، فسار إلى حجة، ودخل حصن مبين بحجة، وكان دخوله يوم الأحد ثالث وعشرين شهر رمضان، وتقاربت جنود المهدي إلى الصلبة[151/ب]، فأول داخل إليها أحمد بن محمد بن الحسين نزل من حفاش بعد دخوله إليه واستقراره بعض أيام فيه، فلما وصلها راسل إلى رتبتها، وكان بعضهم في بيوت بني قُطَيْل فوق سوقها، وبعضهم في سوقها، وهم قدر مائة نفر، منهم قدر ستين نفراً في بيوت بني قطيل والباقي بسوقها، فراسلهم أحمد بن محمد بالإجابة وعدم المخالفة، وأنهم يريدون دخول الصلبة، وكان رئيسهم النقيب أبو راوية من ظليمة، يقول في جوابه: لا يمكن الدخول، ولا يصدر منا مواجهة ولا وصول. وكان من جملتهم جماعة من أهل الحيمة ومن الشرف، فواجه أهل الحيمة، وأهل الشرف هربوا بلادهم، وثبت النقيب وأصحابه من ظليمة والأهنوم فكان قدرهم في بيوت بني قطيل قدر ستين نفراً، ولما كان جوابهم كذلك تقدم أول أصحاب أحمد بن محمد في الطريق يريدون[152/أ] دخول الصلبة، فدفع الرتبة إليهم البنادق، فأصابوا منهم جماعة، ثم تلازم الحرب في يوم الأربعاء سادس وعشرين شهر رمضان من أول شروق الشمس إلى قريب آخر النهار، ووصل عند ذلك جنود كوكبان، وعلي بن أحمد بن الحسن، وحسن بن محمد بن أحمد بن القاسم وهم الجميع حول أربعة آلاف، ولفوا عليهم من جميع الجهات على البيوت والسوق، فاستولوا عليهم وقتلوا منهم أكثرهم.
قيل: جملة الفايت منهم قدر ستة وثلاثين نفراً، منهم النقيب أبو راوية الظليمي، والذي قتل من أصحاب المهدي أحمد بن الحسن قدر عشرة وصوايب في جماعات، وانتهب العسكر سوق الصلبة من الدراهم والبز، ولم يتركوا فيه لأحد ما يدخر، وأكثر النهب على البانيان الذين فيه؛ لأنهم ما رفعوا الذي معهم قبل الدخول إليه[152/ب] فراح مالهم وأسبابهم، وخرجوا منها فقراء لا يملكون شيئاً، وكان جماعات من التجار قد رفعوا أموالهم، قبل وقوع الحرب، فسلمت أموالهم فلا قوة إلا بالله.
وباع الناهبون الشقة بعشرين بقشة والثوب بنصف ثمنه، رزق الحرام حرام، لا هم انتفعوا به الانتفاع التام، ولا هم تركوه لأهله وسلموا من الآثام.
ووصل إلى صنعاء من ضوران يوم الجمعة ثامن وعشرين شهر رمضان حسين بن المتوكل بأصحابه وهم قدر أربعمائة ومن أصحاب والده، وخرج يوم ثاني إلى حضرة أحمد بن الحسن إلى الغراس وكان عيد الفطر بحضرته معه، فاظهر أن موجب وصوله أنه يريد السعي في الإصلاح، وانه كان برأي من صنوه محمد وحسين بن الحسن وعلي بن المتوكل لما اجتمعوا بذمار، وأنه يريد العزم إلى شهارة.
وظهر أن مضمون هذا الرأي أنهم الجميع يجتمعون ويختارون من يجمع عليه الحاضرون، فلم يعجب هذا الرأي أحمد بن الحسن.
[153/أ] وقيل: إنما اعتذر بذلك، وإلا فسيره مغضباً لصنوه لما منعه من التصرف في المخازين وضيق عليه وحمل من خزانة بيت المال بضوران من الدراهم كثيراً، وكان صنوه محمد يومئذٍ غائباً في ذمار، وسار بها من ضوران، وأن ميلته في الباطن إلى القاسم صاحب شهارة.
وفي يوم الثلاثاء ثاني يوم في شهر شوال خرج أحمد بن الحسن من الغراس إلى موضع يسمى الحِمَا طرف الرَّحَبَة ، وخيم فيه بالخيام، وجمع فيه القبائل من بني الحارث وبني حشيش، وحثهم على السير معه والارتحال مع من جمع من ذيبان وعيال عبد الله وهمدان، فاجتمع عنده خلق كثير. وحسين بن المتوكل فارقه من ذلك المقام، بقصد ما قاله من ذلك الكلام، وسار جهة شهارة. وكان قد وصل القاضي محمد قيس الثلائي من شهارة إلى حضرة أحمد بن الحسن ليلة العيد، واتفق وصوله عند وصول خبر الصلبة وما جرى فيها من الفعلة، فاستنكر ذلك القاضي، وكان قد أراد الصلح بين الرجلين، وأنه يكون القاسم إماماً في جهات شهارة والبلاد التي قد أجابته، ولا ضرر هناك في هذه الساعة كما هو مذهب الجارودية فإنهم صححوا الإمامة[153/ب] في العصر الواحد المتضايق لإثنين فأكثر، وهو قول باطل بحصول الاختلاف المؤدي إلى الفساد، فلم يسعد أحمد بن الحسن، وقال: إن هذا ما قد جرى مثله في أرض اليمن من السابقين، وهو مظنة التنازع والفتن (وسيفان في غمد لا يصلحان ولا يتفقان) في قطر واحد ولا يجتمعان، ولكن إذا أرد إقطاع تلك البلاد التي أجابته وتوليته والاعتزاء إلينا فعلنا ذلك وأجبنا، وكان يوم ثاني خروجه كما ذكرنا. وعند ذلك الحادث في حجة واجه أكثر بلاد حجة ووصل مشائخهم، وطلبوا الأمان على بلادهم، فهم في ذلك وقد وصل عبد الله بن أحمد بن القاسم من جهة القاسم بن محمد بعساكره خارجاً من السودة، فدخل إلى حَوْرَة ، فحصل مع أهل البلاد الخوف العظيم والوجل الجسيم؛ لأجل ما قد جرى منهم من المواجهة إلى جهة أصحاب أحمد بن الحسن[154/أ]، فعند ذلك سلموا الأمر وتوقفوا وعبدالله بن أحمد حجر عليهم، وغلق على بلادهم بسكونه في حَوْرَة، ولو كان أرادها عساكر أحمد بن الحسن بعد دخولهم الصلبة كانت البلدة مفرغة، إلا أنهم سكنوا عقب الحرب بالقرى حول الصلبة مثل المرواح والمحاضة.
وجاء الخبر يوم العيد أن أحمد بن المؤيد صنو القاسم أجاش القبائل، ونَكَّفهم وأرسل إلى بلادهم، وغزا إلى خمر، فأحاط بالدار التي فيها حسين بن محمد بن أحمد، ومنع عنهم الماء، فاحتازوا قدر يوم ورموا إلى أولئك، أصابوا أربعة أو خمسة ثم اضطروا إلى الخروج لعدم الماء، فطلب حسين بن محمد ومن معه الأمان والخروج عن ذلك المكان فوضع لهم الأمان، وسلَّموا له الدار[154/ب] بما فيه من المال، وسار حسين بن محمد إلى حَمِدة ، وكتب إلى والده وإلى أحمد بن الحسن. ولما دخل أحمد بن المؤيد تصرف في الطعامات الجميع وأنفقها على نفسه ومن معه من العسكر والقبائل، كأنه لا رحامة بينهم ولا صداقة، فإن أحمد بن المؤيد أخته زوجة محمد بن أحمد في الدار، حصل معها الفزع وتعذر عليها الفرار، ولله قول الشاعر:
ونهاية الدنيا وغاية أهلها
مُلْك يزول وستر قومٍ يهتك
فلا قوة إلا بالله من هذه الأفعال.
وعند ذلك جهز محمد بن أحمد جماعة غارة قبل أن يشعر بخروج ولده، فوصلوا إلى نقيل عَجِيْب ، ولقاهم الحسين، فعادوا معه، وأحمد بن الحسن هو الذي حمله على الخروج من الغراس والمبادرة بالارتحال بالناس، ثم سار إلى ذيفان يوم السبت سادس شهر شوال، وسار معه محمد بن أحمد بن القاسم وخيم في ذيفان هذه الأيام[155/أ]، فلما وصل إليه أقبلت قبائل البون مواجهة.
وأرسل محمد بن الإمام إلى صنوه حسن الشيخ العارف جعفر بن علي تاج الدين إلى مبين بدراهم.
وفي هذه الأيام ارتفعت الأسعار بسبب ضعف الثمرة، وأكل الجراد لها بالمرة، لم يبق إلا القليل في بعض الجهات، فبلغ القدح البر إلى أربعة والشعير إلى حرفين ومائة واشتدت الحاجة مع الكافة، فالحكمة لله تعالى فيما شاء وأراده.
واجتمع على الناس عُسرين الغلاء وهذه الفتنة، فالله يرحم العباد.
وفي أول شهر شوال منها رجع زحل في آخر برج الثور بالمشاهدة له، كان قد حاذى الثريا ثم رجع عنها إلى الورى.
وفي هذه الأيام أرسل القاسم بن الإمام رتبة من العسكر[155/ب] إلى رأس نقيل عجيب لحفظه وَرَدَّ من وصله، وكثر العسكر إلى حجة من جايش القبائل، وأحمد بن الحسن تقدم من ذيفان إلى الماجلين، وكان قد أرسل يوم العيد بدراهم ومصروف لأهل شهارة ولقاسم بمثل ذلك وكسوة، وهم في طرفي نقيض، يريد أن لها عندهم أثر في التقريب، وهم إنما صاروا يستعينون بذلك على ما هم بصدده والاهتمام به، وصار في هذا الجوع كلما وصل إليهم استغاثوا به، فلقد حصل معهم من المعونة بذلك وبما نهبوه من قصر خمر ما لا يزيد عليه، حتى بلغ القدح بخمر عند خروج الطعامات بدون الحرف كل قدح بعد أن كان بثلاثة، فجاء الجمع والتعب من أحمد بن الحسن ومحمد بن أحمد للناس، وأن هذا من العجائب، ومما يستغرب من الغرائب [156/أ]فكان هذا كما قال ابن المقرب:
والبخل خير من الإحسان في نفر
أبرُّهم لك من أغرى ومن شتما
واضع الجود في أعداء نعمته
كمودع الذيب في برية غنما
وزاد أحمد بن الحسن عزز بمكاتبة ظناً منه أنه يؤثر؛ لأجل نهضته والمقاربة، فكان جوابه المعاتبة والشدة في المخاطبة.
وأقطع أحمد بن الحسن يحيى بن حسين بن المؤيد بالله ولاية يَرِيْم وما حولها من البلاد لمطالبته له وملاحقته لشدة رغبته إلى الولاية والعلو والرياسة؛ لأجل ما قاساه من التضرر بعدم توليته في زمن المتوكل، فما زال من ذلك التاريخ بعد وفاة عمه علي بن المؤيد صاحب صنعاء يتعرض للولاية، والمتوكل أعرض عنه، ولم يساعد رأيه، فلم يستقر به قرار، وما زال في الحركات والأسفار إلى مكة يعتذر بالحج المرة بعد المرة، ومرة يقول" يدخل العراق، ويجاور مشهد علي [156/ب] ومرة يقول يريد الدعوة فلم يجبه أحد إلى ما طلب، وكان آخر أمره دخوله بلاد عفار، ثم خروجه عنه إلى صعدة ونيته كانت بدخوله مكة، حتى وقع موت الإمام، فعاد وسكن وحصل له أمنيته من الولاية والرياسة واطمأن. واحمد بن الحسن أحب التركيز به على بني المؤيد بالله؛ لأنه منهم.
ومحمد بن الإمام وحسين بن حسن وعلي بن الإمام اتفق رأيهم الجميع أنهم ينتظرون ما يكون بين الرجلين ومن يغلب منهم الآخر ولا يشاركون في الحضور في الحرب؛ لأنه إنما أقام أحمد بن الحسن إقامة حسبة لا إمامة تامة، هذا قول محمد بن الإمام، وأن الإمام ليس له أن يغزو إلي غير جهته التي أطاعته، كما قرره علماء الإسلام، فلذلك تباعد المذكور إلى ضوران، وترك ذلك[157/أ] المرام.
ونزل من شهارة علي بن قاسم بن المؤيد بالله أرسله والده إلى الأمروخ من بلاد الشرف، سكن فيه وكتب إلى أصحاب أحمد بن الحسن: بأنه لا يجوز لكم الإقدام إلى هذه البلاد، وأنكم إن طلبتم من القاسم من البلاد ما أردتم فعل لكم مطلوبكم وولاَّكم. وكان قد وصل أمر من أحمد بن الحسن بالتوجه إلى حجة والقصد لتلك الجهة، ثم كان خلاله وصول كتاب من محمد بن الإمام إليهم أنه قد أرسل صنوه حسين بن الإمام إلى شهارة للخوض في الصلح، فلا يفتح شيء حتى يعود الجواب، وكان قد أرسل علي بن أحمد بن الحسن الخياطي بجماعة عسكر رتبة في وعيلة طرف بلاد لاعة غربي مسور فوق بلاد هربة من حجة، فكتب إليه عبد الله بن أحمد[157/ب] من حورة انه يرتفع من وعيلة، فلم يسعده إلى قوله، ولم يلتفت إلى أمره ثم إنه توعده إن لم يخرج عنها، فكتب إلى حضرة علي بن أحمد وهو بنواحي الصلبة يطلب منه زيادة في العسكر والمادة، فأرسلوا إلى ذلك المكان رتبة قوية، وأرسل الأمير عبد القادر أيضاً إلى شَهمة السيد يحيى بن إبراهيم في جماعة لحفظ أطراف بلاد لاعة، وأرسلوا الفقيه محمد بن نجم الدين في صلح خمسة أيام آخرها يوم الأربعاء عاشر شهر شوال، بينما تعود الجوابات من السيدين أحمد وقاسم، وأرسل علي بن المهدي أحمد بن الحسن من الصلبة رتبة إلى الطور . وبلغ خبر الاشتجار بين النقيب ابن جلا الأهنومي وبين المحبشي في بلاد[158/أ] الضحي من تهامة، لأن المحبشي اعتزى إلى أحمد بن الحسن وابن جلا إلى القاسم بن المؤيد، وصاروا متراكزين هنالك.
وفي هذه الأيام حال وقوف الشمس ورجوعها زادت الأنهار، وغالت كثير من الأودية الغيول الخيرية مثل وادي سعوان قرب صنعاء اليمن فإنه ظهر غيله وسقى أمواله، وهو قد يخرج في غزر الأمطار، وينتفع به أهله في حال ذلك، لكنه لا يستمر ظهوره بل يخرج في أوقات.
ولما بلغ القاسم ومقادمته في حجة خروج أحمد بن الحسن ارتجفوا وقهقر عزمهم وتصميمهم الأول وانقبضوا وسقط في أيديهم.
[158/ب] وفي هذا الشهر توفي السيد يحيى بن إبراهيم صاحب عارضة كوكبان، كان مع صاحب كوكبان أميراً كبيراً، وله قطعة بلاد، وكان صاحب ثروة ورياسة، وكانت وفاته بمنابر تهامة في محل يقال له: الطور بجوار تهامة مما يلي جبال لاعة، وكان نزوله إلى هنالك مع علي بن أحمد بن الحسن، لأجل ما جرى من ابن جلا في تهامة من قبل القاسم، ومات جماعات في الطور لما فيه من الوباء الحاصل في الحقار بآجالهم.
وفي يوم الجمعة عقب الصلاة عشرين شهر شوال سار عبد الله بن يحيى والسيد صلاح بن محمد من المقضضة التي في بلاد الصيد بعد أن استقروا فيها قدر شهرين إلى بلاد بني جُبَر ، ونزلوا في مكان يقال له: العيانة، وصلَّوا فيها الجمعة، فلم يشعروا وهم كذلك حال الصلاة إلا بحضور الغزاة وهم: السيد إبراهيم بن حسين بن المؤيد بالله بمن معه من ذيبين والقبائل من عيال أسد والأهنوم ووادعة مجموعين، ورموا بالبنادق إليهم، ولم تأخذهم رحمة عليهم، فقتلوا منهم نقيباً وآخر معه وصوايب في آخرين، ثم إنهم دافعوا على أنفسهم وقاتلوهم، فقتلوا منهم قدر ستة ومصاويب، ثم انهزموا إلى ذيبين لما دنا عليهم الليل ورأوا من أصواب الحرب فيهم والمقتولين ما كانوا عنه غافلين.
وبلغ أحمد بن الحسن وهو بالماجلين هذه القضية بعد أن جاء تحقيقها من السيد عبد الله بن يحيى والسيد صلاح وطلبهم للمادة، فأرسل أحمد بن الحسن في الليل عقب العشاء بغارة نافعة من همدان، وساروا في الليل إلى تلك الوديان، فلما اجتمعوا بأصحابهم[159/أ] وتحققوا خبرهم وما جرى فيهم قصدوا إلى بلد ذيبين، لمناجزتهم في الحرب في ذلك الحين، فصابحوهم بكرة يوم السبت ثاني ذلك اليوم الذي جرى فيه ما جرى بالأمس، فلما عرف بنو أسد بوصول الغارة هربوا آخر ليلهم، وكان قد أرسل إليهم أحمد بن الحسن وبذل لهم بعض شيء. وبقي إبراهيم بن حسين بمن بقي من خاصته، واحتازوا في البيوت، ولم يبرزوا إلى الخروج عنها إلى الخبوت، وشنوا على الواصلين البنادق، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وفعلة جسيمة، وكان أكثر القتل في همدان، لما حملوا أول القوم في تلك الهضبان، يقال: إن قدرهم نحو ثلاثين أو أكثر للاختلاف في جملتهم، ثم غشيهم القوم ودخلوا البيوت، وعلوهم منها بالحتوف، وانتهبوا البلد لما حصل فيهم من الذي فيها، وقتلوا منهم نحو ثمانية وكفوا عنهم. وبقي إبراهيم بن حسين [159/ب] محتازاً في دار المشهد، فلما لم يبق له طاقة في هذه الحالة خاطب بالأمان وأنه يخرج إلى شهارة، فأمنوه وسار إليها وقد جرى ما جرى فيها، وأسروا جماعة حال الحرب من أولئك الفعالة، وأتوا بهم إلى الحضرة الأحمدية المهدية، فأطلق رقابهم وعفا عنهم وساروا بلادهم.
وكان المباشر لأكثر القتل بالرمي إبراهيم بن حسين ونقيب من وادعة، واشتهر عن إبراهيم بن حسين أنه ممن يعتمد الشراب بشهارة، وأنه قد ظهر عليه السكر غير مرة، وأرسل المهدي أحمد بن الحسن حينئذٍ بيوم الأحد بلقاً وعسكراً إلى بلاد الكِلْبيَّين شرقي بلاد خمر، وهو سار من الماجلين يوم الإثنين، وجاءت طريقه ما بين حمدة وبين نقيل عجيب طالعاً إلى بلاد خمر، فلم يشعر أحمد بن المؤيد إلا بدخول أحمد بن الحسن إلى بلد يشيع غربي خمر، ورأى خيامه ووطاقاته وبلغه وصول العسكر إلى الكلبيين من شرقيه، فبقي حائر الفكر في أمره وكيف يكون عمله، وسقط في يده، ودارت عليه دوائر محنة، مع مواجهة مشائخ وادعة إلى أحمد بن الحسن ووصولهم إليه عند وصوله، فلم يسعه عند ذلك إلا يذكر ما قال الله تعالى: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وخرج صبح يوم الأربعاء إلى الحضرة الأحمدية للمواجهة، وتسليم الأمر وعدم المنازعة، بعد أن كان قد أنهى في مناصبته أوامره، وكان قد رتب نقيل عجيب برتبة ورتب فوق حمدة رتبة وعينة، فانقشعت جميع هذه الرتب عند طلوع المذكور من الطريق الوسطى، وحصل معهم الريب.
وبقي قاسم في شهارة يشاهد هو والأهنوم ما كان أشار عليه أهل النصائح، ووقع فيما حذروه منه لعدم استنصاحه النصائح[160/ب]. وخرجت عينة من العسكر الذين بعمران ودخلوا الخدْرَة ، فأحاطوا برتبة المضلعة من خلفها، وطلعوا إلى الهجر ببني قطيل، وأشرفوا على رأس الجبل المطل على كحلان والمعازب، فهرب بعض رتبة العرة في الأشمور حينئذٍ وكذلك المضلعة، وواجهت بلاد كحلان وغيرها من تلك الجهة.
ووصل محمد بن الإمام من ضوران إلى صنعاء يوم الإثنين ثالث وعشرين شهر شوال وصنوه على أمره بالسكون بمدينة ذمار، وفرحان عاد من شهارة إلى حضرة أحمد بن الحسن وأمره بالعزم لموسم الحج إلى بيت الله الحرام، على مقتضى عادته، وأمر محمد بن الإمام بزلاجه.
وكان قد وصل السيد أحمد بن إبراهيم المؤيدي الذي كان دعا في بني جماعة بشام صعدة إلى شهارة، وابن جلا صاحب حسن ابن المتوكل سكن في بيت الفقيه [161/أ] [و] الزيدية بتهامة، معتزياً إلى جناب القاسم صاحب شهارة، وخرج عند وصول المحبشي من بلاد الضحي وتلك الجهة، وسار إلى بيته بجبلة، وساق ابن جلا من تهامة الطعامات إلى شهارة، فلما عرف بذلك الذين بالصلبة قصدوا إلى طريقهم في بلاد بني قَيْس مساقط حجة، فمنعوهم وانتهبوا عليهم، فانقطع السياق حينئذٍ من تهامة إلى شهارة، فحصل التضرر معهم، وكان قد أرسل أحمد بن الحسن إلى تلك الجهة السيد حسين بن معل، وجاب طريق ضوران وبلاد آنس.
ووصل خبر بأن الهياثم في بلاد مشرق رداع دخلوا إلى حصن دَثِينة ، وقتلوا من رتبته نفرين، واستولوا على جملته، فتغير حسين بن حسن؛ لأنها موجهة إليه، وفي حوزته، وفسح أحمد بن الحسن للشيخ الهيثمي بالعزم إلى جهاته.
ودار هذا الوقت الغلاء في الأسعار مع الأمطار في فصل الشتاء، والله يفيض [161/ب[على] المسلمين بالخير الشامل برحمته.
ونزل هذه الأيام بصنعاء ثلج من السماء في فصل الشتاء عند رجوع الشمس، أصبح على الأرض مفروشاً، وعلى ساحاتها مبسوطاً كالملح المدقوق، فإذا حمت الشمس ماع وقل ما يتفق فيها، فلذلك يؤرخ ذكره لندوره، وأما محل عادته فهو جبل قاهر حضور، يقع فيه كثير من السنين.
وجاء الخبر عاشر شهر القعدة بأن أحمد بن الحسن تقدم إلى جهة شهارة فبات في غربان ثم سار إلى البطنة اليوم الثاني ودخل وادي أقَرَ المعروف ببيت القابعي. وكان خروجه من خمر يوم الإثنين ثامن القعدة ودخوله بيت القابعي يوم الأربعاء. وظهر الخبر من المهدي أن القاسم إن نزل من شهارة فهو المقصود وسكنت الحالة، وإن لم طلع شهارة، فإن واجه فهو المطلوب وإن حاربوا تحاربوا، والمحطة التي كانت بذيبين من أصحاب المهدي لحقت[162/أ] إلى بيت القابعي، فكان جملة الذين بحضرته حول سبعة آلاف وقيل أكثر.
والسيد أحمد بن إبراهيم المؤيدي عزم من حضرة القاسم يومئذٍ، وأحمد بن الحسن في غربان، وولاه القاسم بن المؤيد جبل رازح ولاية ما لها أصل ولا صحة؛ لأن أمرها والحكم فيها إلى علي بن أحمد يومئذٍ، لتغلبه عليها بعد خروج حسن بن المتوكل عنها.
وفي هذه الأيام أرسل القاسم إلى الشَّاهِل بالشرف جماعة من القبائل الأهنومية، ومن معه من غيرهم من البلاد الشامية، فدخلوا إليه وكشفوا أهل البلد ودخلوا بيوتهم قهراً عليهم من أشراف وغيرهم، ولم يسلم إلا بيت السيد يحيى بن أحمد الشرفي فكان ذلك أعظم حادث على بلد الشاهل، وسبب دخولهم إليه[162/ب] وإرسال القاسم عليه أنه بلغ القاسم بن المؤيد أن محطة الصلبة تريد الطلوع إلى الشاهل؛ لأجل الإستيلا على الشرف بالأمر القاهر، فأرسل هؤلاء إليه لحفظه وإصلاحه وما هو في التحقيق إلا لإفساده وهتكه؛ لأن سبب ما صار يرسل من الرتب يحصل فيها الحرب، فتقع على البلد الذي فيها الضرر والنهب فما هذه الأفعال من صلاح الإسلام، ولا من الرحمة لهم والدفع عنهم، ولكن بعد دخول أحمد بن الحسن بيت القابعي لم يبق لهم تابعي، والعجب من السيد يحيى بن أحمد الشرفي الشاهلي ما يذكر إنكار والده على مرجان شاوش في مدة دولة أولاد مطهر، فاذكر أن أصحابه دخلوا [163/أ] بيوت الشرايف في الشرف، وأن سبب ذلك كان قيام السيد علي العالم والسيد علي العابد لإنكار ذلك المنكر، وأنه جهز عليهم عساكر السلطنة فطردوهم ولم يثمر فعلهم، فكيف رضى السيد يحيى بن أحمد الشرفي من صاحبه القاسم بهذا؟ فالحق لا يحابى مع تشدده في الأمر للناس بفعل الواجب، وإلا فكان من كلمة الحق التي يراد بها الباطل، مع أن السيد صار يشدد ويحرج في تحريم التتن الذي لا دليل صحيح على قوله، فكيف ترك الواجب بالإجماع وتعاطى ما لا يقول به من عرف العلم بزعمه ووسعة الباع. وكان يجب عليه أن يقول لهم: اذكروا لقاسم يخرج لكم الخيام لتسكنوا فيها وتتركوا بيوت أهلها، كما هو قاعدة عساكر السلطنة، والأئمة أولى بفعل الخير والمحسنة: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وحسن بن المتوكل بعد أن بلغه
دخول المهدي إلى بيت القابعي خرج من حصن مبين مواجهاً إلى حضرته، وأهل حبور بظليمة خطبوا لأحمد بن الحسن واسقطوا ذكر القاسم[163/ب]، فلما رأى ذلك منهم وما وقع من ميلهم بقي حائر الفكر هائماً في أمر الإمامة غاصاً بريقه في بلع ما قد جرى إلى قلبه من تحمل الزعامة، تقول نفسه كيف تطرح نفسك بعد العلو ويسقط ذلك السمو؟ إن النفس لأمارة بالسوء.
ولكنه لما ضاقت عليه مجاري نفوذ الكلام، وصار في حبل الزمام، وحكمت عليه المقادير وليس لأحد من قضاء الله اعتصام، فإن الملك ملكه يعطيه من يشاء من خلقه، اضطر إلى الإلتقاء والنزول إلى حضرة أحمد بن الحسن لينتظره ما يقول، وكان نزوله يوم السبت ثاني عشر شهر القعدة، ووصل يومئذٍ ولد علي بن أحمد صاحب صعدة إلى بيت القابعي واجتمع بتلك الحضرة ومعه قافلة من الطعام؛ لأن جهات صعدة كانت صالحة الثمرة سالمة من الجراد بالنظر إلى غيرها، السعر فيها بحرف مع وسعة الحب فيها والكثرة.
وعند هذا سكنت بعض أحوال العباد وقرت عن ما كان من الاختلاف والفساد، وخضع أهل الأهواء[164/أ] ودانت رقابهم إلى الدخول في جماعة المسلمين كرهاً.
رضيت قسر وعلى القسر رضا
والله يجمع كلمة المسلمين ويصلح أمورهم.
قالوا: وكان وصوله إلى بيوت والده المؤيد بالله التي ببيت القابعي، وكان أحمد بن الحسن في وطاقه في الحدبة الشرقية التي قريب مصلى الجمعة، ولما دخل المذكور إلى محل والده وصل أحمد بن الحسن إلى حضرته، ولم يحصل من القاسم التنحي عن ما دخل فيه، غير أنهم يريدون المراود والأمل أن أحمد بن الحسن يواليه وهم على ذلك.
واتفق أنه جرى بين بعض أصحاب المهدي وأصحاب قاسم خصام، ومهاوشة وكلام، فانتهب بسبب ذلك سوق قاسم بن الإمام، ثم إن أحمد بن الحسن عند ذلك[164/ب] اجتمع هو والقاسم بن المؤيد وصنوه أحمد بن المؤيد وأحمد بن المتوكل وحسين بن المتوكل وحسن في الوطاق العام. وذكر أحمد بن الحسن ما يكون عليه حزم الكلام وما ذاك الذي يبني عليه في التمام، فأجاب القاسم أنه يريد المحاكمة فيما بينهم، وأنه لا ينزع نفسه مما دخل فيه إليهم. فأجاب أحمد بن الحسن بأن هذا الذي طلبت كان يصلح قبل أن يجري ما جرى بيننا وبينك من الحروب، وقبل الحركة والجمع للجيوش والخطوب، وأما الآن فما بقي عندي مناظرة ولا محاكمة غير الدخول فيما دخل فيه الجماعة، فأوجم القاسم عن الخطاب، وسكت عما يجاب، وتكلم صنوه أحمد بن المؤيد ببعض الكلام، ثم إنهم طلبوا من أحمد بن الحسن المهلة إلى عقب العيد، وصار القاسم[165/أ] حائر الفكرة متبلد القريحة مغضباً، لو أنه يجد قوة، وكان ذلك يوم الخميس سابع عشر شهر القعدة. وطلب أحمد بن الحسن عند ذلك من القاسم تسليم السلاح من الذين معه من الأهنوم مما أصله لوالده الحسن بن القاسم، وأنه معهم في حكم المغصوب، كل ذلك لأجل إقامة الحجة عليه.
وفي هذه الأيام خرج الداعي الغرباني، الذي ببرط، يؤم بلاد نجران، يريد العزم إلى الأطراف خشية من أحمد بن الحسن لا يقصده، لأجل ما جرى منه من الخلاف وأحب ذلك أهل برط، لئلا يحصل عليهم بسببه من المعرة في بلادهم، والدخول للجنود إلى جهتهم. فلما وصل المذكور إلى بلاد نجران منعه الأمير أحمد الجوفي المتولي هنالك، وقال له: لا يمكن مرورك، وأراد القبض عليه وشفع فيه الجماعة الذي سايروه من بلاد برط وقالوا: يرجع من حيث جاء.
والقاسم طلع شهارة يوم الإثنين حادي وعشرين شهر القعدة بمن معه، وأحمد بن الحسن بقي بمكانه، وكانت مع صلاة الجمعة الماضية القاسم غربي بيت القابعي، وأحمد بن الحسن شرقيه، كل منهما وحده بأصحابه وبعض العسكرين ما صَلَّوا لحفظهم للآخرين؛ لخوف بعضهم بعضاً. وعلي بن أحمد بن الحسن سار من محطة الصلبة إلى الطور؛ لأجل النقيب بن جلا، فضايقه في الضحي ثم استأمن وبذل له الأمان وسار بلاده الأهنوم، وقبض علي بن أحمد الضحي وبيت الفقيه.
[165/ب]وفي ثالث شهر الحجه نزل حسن بن حسين بن المؤيد من غرة الأشمور إلى كحلان تاج الدين، وسكن بيت الهوسي، وسط البلد، وجرت يده بالسبار للعسكر مع طول المستقر.
وفي هذه الأيام اشتد الجوع بمخلاف جعفر بإب وجبلة وبلادها بسبب الجراد التي حصلت فيها مع الجور من الولاة بها، فمات كثير منهم جوعاً، وبعضهم نجع ورحل عنها إلى تهامة، وبعضهم إلى اليمن الأعلى في أشد حالة.
وانقطعت طريق شهارة من الباب العدني ومن طريق سوق الثلوث ووادي رجم وبقي لهم الباب الغربي والطريق التي تنزل من نجد بني حمرة وهنوم إلى صومل ومور وجهة الشرف، وحجة مستمرة، إلا أنه قد نفد ما في الشرف من المدافن وحصن مبين. وانقطع السياق الذي كان من تهامة بعد الاستيلاء عليها من علي بن أحمد، وطرد ابن جلا عنها، والحكم على بيت الفقيه والضحي، وزوال أوامرهم منها فرجع سبارالرتب والعسكر على القبائل، فتضرروا من ذلك، وفتر بسببه الاعتقاد الأول الذي كان معهم للقاسم، وشاهدوا عياناً ما حل بهم من الضرر بمن عندهم.
والقاسم صار يتعلل بحضور القضاة، فأمرأحمد بن الحسن إليهم السيد عبد الله الكبسي وقال: لا تعذرهم، فسار القاضي علي بن جابر الهبل قاضي صنعاء والخطيب محمد بن إبراهيم السحولي وقاضي ضوران وذمار يحي جباري[166/أ] وقاسم طلب قضاته السيد يحيى بن أحمد الشرفي من الشرف والقاضي محمد بن علي قيس والسيد يحيى بن إبراهيم بن جحاف وإسماعيل من حبور، فاعتذر السيد يحيى الشرفي، وأرسل برسالة بتصحيح إمامة قاسم عنده، وحضر ابن قيس وبني جحاف إسماعيل ويحيى إلى شهارة في نصف شهر الحجة، وما زال الخوض في ذلك هذه المدة، ولم تظهر له ثمرة.
وهذه الأيام ظهر عن جماعات من فقهاء صنعاء المكاتبة والميل إلى جناب القاسم صاحب شهارة ومنهم الناظر على الوقف يحيى بن حسين السحولي، فإنه نقل عنه أن أرسل ببعض شيء من الدراهم من الوقف وخطب للقاسم بشهارة خطبة العيد، بتحريض أصحابه على الجهاد، وحثهم على الصدق والإنقياد، وخرج يوم الغدير مظهراً التعظيمة وأعطى جماعات من الأهنوم من بنادقه، وأظهر تغليظ التخطئة بجناب أحمد بن الحسن. وظهر منهم من الأقوال والأفعال ما هو سبب في الوحشة والاشتجار، فإنه بعد طلوع قاسم شهارة حصل رمي إلى وطاق أحمد بن الحسن ببيت القابعي من الجبل في الليل، وكان يصدر أصوات فيها الشتم والميل، فكان سبب ذلك انتقاله إلى المطرح الآخر؛ لأجل أن ذلك كان قريباً[166/ب] من جبل شهارة ليزول ضررهم، وكان قد جرى في بيت القاسم ببيت القابعي قبيل طلوعه حريق خرب جانب الثلث، وما وقع من الفرقة ونهب سوقه وتلاقحت من الجانبين أسباب الشحناء والعداوة والبغضاء، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأحمد بن الحسن بعد طلوع القاسم تحول من بيت القابعي إلى قريب مسور، شرقي جبل شهارة كونه أنزه من بيت القابعي، فاستقر فيه في شهر القعدة منها وظهر من الخواص من أصحاب أولاد الإمام المتوكل هذه الأيام أنهم ما عدلوا إلى جناب أحمد بن الحسن واتبعوه في أمرهم وتقليدهم إلا وصية الإمام إسماعيل لهم لمَّا حصل الحاصل من علي بن أحمد واشتد الألم بالمتوكل مع ما حصل من الغم، فقال لمحمد ولده في وصيته الآخرة: إن وقع عليه حال، فلا تعدل عن أحمد بن الحسن لأجل تباشر علي بن أحمد وغيره من أولاد[167/أ] المؤيد. هكذا ظهر الخبر به عنهم مع أنه أولاً قبل قضية علي بن أحمد قد روي أنه أوصى إلى ولده محمد بأنه خليفته وولي عهده، فنقضه هذا الأمر الآخر لما حركه عليه ما جرى من علي من الأمر الساهر ولكل شيء سبب، فلله الأمر من قبل ومن بعد والملك لله يعطيه من يشاء من أهل النهي والأمر، وهو المذكور في مختصر الجفر.
وأخبر السيد عبد الله الكبسي عن حقائق حالات القاسم، وأن العلم والإجتهاد غير حاصل فيه ولا كامل، وإنما له مشاركة في الفقه لا يخرج به عن التقليد، وأنه يعرف حاله من قبل هذه المدة مع الاتصال به في هذا الوقت والحضور عنده، وذكر ما نصحه به من الاجتماع بأحمد بن الحسن وترك الافتراق؛ لأجل صلاح الإسلام[167/ب] وتأثيره عن الشقاق، مع كثرة المائلين إلى أحمد بن الحسن والاتباع، وحصل له فرض مسألة للترجي في الانخراط إلى المساعدة بأن قال له: حيث ذكرت أنه لم يكن لك عذر في التنحي، فانظر إلى حالة الحسن في تنحيه، وخلع نفسه وترك إمامته ومصلحته لمعاوية صيانة للمسلمين، وهو ممن قال النبي÷ فيه: ((سيصلح بولدي هذا بين فئتن عظيمتين من المسلمين ))، وقال فيه: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)) الحديث كما في الصحيحين، قال: فلم يجد ذلك عنده ولا ظهر معه ثمره، قال والحرب بذيبين الجاري سببه أمر القاسم لمن فيه بالقصد إلى حرب عبد الله بن يحيى ومن معه، فهو البادئ[168/أ].
قال: والمهدي ما كان عزمه وخروجه من الغراس بنية الحرب، بل الإصلاح والقرب من القاسم للترجي في الإتفاق، وترك الافتراق، ولما سُئل عن الأمر الذي شاع مع الناس من إباحة القاسم لأموال المسلمين لأصحابه، ووعدهم بانتهابه، وتحويلات في بعض بيوتهم لأتباعه قال: هو شائع، قال: وعلى الجملة أن أحوال القاسم وصنوه أحمد ومن معه من أهل شهارة موحشة في سوء الاعتقادات بالمسلمين، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال السيد عبد الله الكبسي والسيد أحمد الملقب ابن حورية المؤيدي لما كان قد بايع القاسم قبيل وصول المهدي أحمد بن الحسن، ونزل السيد عن شهارة اتفق وصول المهدي، فاضطر إلى لقياه، فأعطى وأحسن إليه وعذره أحمد بن الحسن[168/ب] من البيعة وقال له: ليس عليك بعد بيعة القاسم إلا السكون في بيتك، والتوقف حتى يستقر الأمر، وزلجه ومن معه وسار جهته، فلما وصل إلى العمشية ببلاد سفيان، قصده جماعة من قبائل سفيان، واقعوه وانتهبوه واصتاب بصوب وصنوه معه، ثم لما قارب صعدة أرسل له علي بن أحمد جماعة أدخلوه صعدة واعتقله فيها وسقطت إمامته ودعواته التي سبقت، وتلاشت اعتراضاته، وردوه، فعاد إلى حضرة أحمد بن الحسن على هذه الحالة. فانظر أسباب الخفة ومن يريد الفتنة، فإنه أولاً كان دعا لنفسه، ثم ثانياً قصد إلى قاسم بايعه، ثم ثالثاً سار إلى حضرة أحمد بن الحسن.
قال السيد: وظهر أن المسبب لذلك أحمد بن المؤيد كتب إلى صُبَارة بذلك لما حصل من السيد المرور على المهدي وعدم تنفيذ أمر صنوه، والله أعلم.
وعلى الجملة أن الأمور عجيبة[169/أ] قال: وأشار عليه القاضي محمد بن قيس لما سار إليه أنه يماطل أحمد بن الحسن في المهل وأن مع ذلك لعله يرجع الأمر إليه، لما كان قد أراد الصلح بأنه يبقى إمام في بلاده التي قد أجابته، وهذا إمام في الجهة التي إليه، وهذه قسمة ضيزى، ومخالفة للإجماع واتباع الأهواء، ولذلك لما قام سعد بن عبادة في الأنصار وقام أبو بكر قال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فقال عمر: سيفان في غمد لا يصلحان، وإنما كان فرضهم الجميع لو أنهم اتبعوا الواجب عليهم وتركوا أهواء أنفسهم وصلاح المسلمين أن يجمعوا كلمتهم على نصب واحد منهم، ويتركوا التفرق، وينظروا بذلك صلاح المسلمين[169/ب] إذا وجدوا احداً منهم كاملاً بالإمامة، قالوا: فإنا متبعون له غير خارجين عن منصبه؛ لأن كمال الإمامة هو الواجب اتباعه إذا وجد وحصل أهله، وإن لم يوجد المجتهد الكامل بشروطها، وقالوا أما الاجتهاد فغير معلوم في أحد أو وجد مجتهد وامتنع فيرجع مع تعذره إلى نصب أمير حسبة يجمع شمل المسلمين ويلم شعثهم ويدفع ظالمهم من مظلومهم، ولا إمامة ولا بيعة، بل انتصاب؛ لأن البيعة إنما تكون لكامل الشروط، هذا كان عليهم أولاً، وكان عليهم ثانياً بعد صدور هذا الإفتراق وعدم المساعدة إلى الاجتماع والاتفاق[170/أ] أن يقولوا لهم الواجب عليكم أن تمحوا التسمي بالإمامة وينتصب أحدكم حسبة من فيه صلاح الأمة، أو يكون انتصابكم حسبة في البلاد التي قد أجابتكم، وتقرر الأحكام هكذا، وتبرم على هذا.
ولكن حصلت الطامة الكبرى أن كل منهم غير مُسَلِّم أنه يكون محتسباً وأنه إمام كامل الشروط، وهو لا يستنبط مسألة ولا يجيب بعرفان في حادثة، فهذه القضية الكبرى، والحالة التي تزاحمت فيها الأهواء، وكل من أصحابهم قائم معهم، غير معترف بنقص مراتبهم، وبعضهم مضطر إلى كتم ما يكرهه من نزع الأمر عنه خشية واتقاءً فعند هذا وتعذر انخراطه رجع القول إلى قول أهل السنة في تقرير مدعي الإمامات القهرية بالغلبة القسرية، فمن غلب منهم جرى عليه أمرهم[170/ب].
وفي هذا الشهر اشتد الجوع والغلاء في الأسعار مع جميع المسلمين، بلغ القدح البر إلى خمسة حروف والذرة إلى أربعة ونصف والشعير ثلاثة وربع، وعم الغني والفقير، والله لطيف بعباده.
وزادت الشدة مع أهل شهارة بقل الطعام، لما نفد حصن مبين هذه الايام انقطع السياق من تهامة وعدم الثمار في حجة والشرف هذه المدة إلا ثمرة حقيرة من الربيع لا تكاد تكفي إلا أهلها، مع ما نالهم من المشاركة للرتب بمطالباتهم لهم فيها، فضاقت أنفا سهم من ذلك الأمر.
وجاء الخبر من الجهات الهندية أنه خرج خارجي على سلطانها من الرازبوت، وفعلوا مع عساكر سلطان الإسلام فعلة عظيمة ومكيدة جسيمة عليهم فكسرهم فهلك منهم طائفة، ثم انعطف عساكر سلطان الإسلام عليهم، فكسروهم وقتلوا منهم، وكسروا شوكتهم.
وفي هذا الشهر[171/أ] فرق محمد بن المتوكل إسماعيل بن القاسم الصدقة الهندية التي كانت وصلت، وهي من سلطان الهند للشرايف والأشراف تفرق، وعلى الفقراء من أهل اليمن تنفق، فوافقت هذه الأزمة الشديدة، فصارت في محلها، وكان للسلطان بها الثواب الجزيل، خصوصاً مع موافقة الحاجة إليها، فانظر هذه الصدقة التي جاءت من الأقطار البعيدة من غير سؤال خالصة نافعة.
وهذه الدولة كانت هي الأولى بالصرف لفقراء جهاتها، وأنه لا يضيع عمل عامل، والله يقول: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ }.
ودخلت سنة ثمان وثمانين وألف
استهلت بالجمعة بالرؤية وبالحساب، وفي هذا اليوم اتفق قران المشتري والزهرة في برج الدلو، وكانت الزهرة المرتفعة على المشتري.
وفي هذا الشهر اتفق أن رجلاً من أهل الظهرين بحجة مات وغسل وكفن وحمل على نعشه، فبينماهم في قبره ويريدون إدخاله إذ قد[171/ب] انتعش وجرى فيه روحه، فسبحان المحي المميت، فأعاده أهله إلى بيته حياً.
وأرسل أحمد بن الحسن بكتاب إلى سادة شهارة وفقهائها، يقول فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
السادة العلماء الأخيار، زادهم الله صلاحاً وفلاحاً وسلام الله عليهم ورحمة الله وبركاته ومرضاته، وبعد: فإني أحمد الله الذي لا إله سواه، وأصلي وأسلم على نبي الله وآله، وأعرِّفكم أني قد وصلت إلى هذه الجهة أريد جمع الكلمة وتمام الألفة، وكان الصنو قاسم قد طلب مني أن أجمع جماعة من السادة والفقهاء أهل العلم ليحكموا بيننا بما يريهم الله، أسْعدته لذلك طلباً لحقن الدماء، وسكون الدهماء، واقتداء برسول الله في قبوله صلح الحديبية على غيظ من أصحابه، وبأمير المؤمنين، لما طلب منه معاوية التحكيم بعد أن قال علي: كلمة حق يراد بها باطل، فلما رأوا أن في ذلك حقن دماء وسكون دهما أجاب وإن كنت وكان صنوي -أصلحه الله- ليس فينا من هو كقريش أهل مكة ولا كمعاوية وأهل الشام وكان الأجل لوصول العلماء إلى خمر بعد العيد، فما وصل ذلك الوقت إلا وبلغ أن الصنو أصلحه الله كتب إلى القبائل يستنهضهم عليَّ، وأمر أهل هذه الجهات أن لا تجلب إلى هذه المحطة التي أنا فيها شيء، مع إيهامات توجب تخطفاً في الطرقات[172/أ] وحسبنا الله من هذه الأفعال الموصلة إلى المقاطعات. وما أجر هذا الأمر منه على ما أراه إلا التسرع منه إلى ما يوجب سفك دماء محترمة ونهب أموال معظمة، فإن الهجر هذا رتبة، وفيه أموال لأهله ولأهل صعدة إذا أثار الصنو الفتنة توجهت إليه عينه، وكان أمره كأمر ذيبين، وكأني به يرسل عينة إلى حبور، فيكون فيه ماكان في الصلبة، ثم يقول نهبت أموالاً وسفكت الدماء، ولا ينظر من المسبب لذلك، فإن قد أجابني من صعدة إلى حضرموت، وما زال يكتب إلى الناس ويقول ما يقول حتى كادت الأمور تنهار، وجهز على غير نظر ولا اختيار، فنهضت وكان ما كان إلى الآن، وبقي في نفسي هؤلاء الأهنوم فإنهم أهل سوابق عظيمة، فيجب عليكم مناصحة أخي هذا أن يتقي الله في هذه النبذة التي مالت إليه، فإني أكبر منه سناً، وأشهر كلمة، وأكثر إجابة ورأياً وخبرة، والعلم إن أراد أن
يختبر فله الاختبار، انتهى.
أخبرني القاضي أحمد بن علي العنسي وهو من المائلين إلى القاسم قال: سأل أحمد بن الحسن سائل في الخطيب يوم الجمعة إذا قهقه، فقال يتوضأ قال وقال له السيد عبد الله بن محمد الكبسي: أن فتوى جاءت إلى أحمد بن الحسن في دين لازم لغريمه، وليس معه إلا أطيان، قال: فأجاب: نظرة إلى ميسرة، فقال له السيد: هذا خلاف الإجماع، فإن الواجب مع المطالبة، ثم يقطع له من ماله ولا يبقى له إلا ما يبقى للمفلس. والقاسم ذكر أنه سُئل في أصول الفقه في بحث العموم، فلم يجد عنده السائل فيه معرفة. ويقال: أن له بعض شيء في الفقه، والله أعلم بحقيقة ذلك، ومتحمل هذه الزعامة إن أراد كمال لشروط الإمامة لا بد له من المعرفة الكاملة في مسائل الفقه وخلاف العلماء، وأما مجرد دعوى الاجتهاد، وأنه يقول كذا أو يقول فلان كيفما ما اتفق وظهر له ولم يرسخ قدمه في الفقه مجازفة ظاهرة[172/ب]. ورأيت فتوى له في أن امرأة باعت في مرض موتها من مالها بغبن في حجة، فهل ينفذ؟ أجاب بأن البيع لا يصح مع الغبن، وهذا غلط فاحش على جميع الأقوال، أما ما على قول الهادوية والحنفية فلأن الوصية بالحج والبيع تنفذ في مرض الموت من الثلث، وفي الغبن من الثلث أيضاً، وأما على قول الشافعية وغيرهم حيث قالو: بأن الحج من رأس المال فينفذ في الغبن من الثلث، وأما قيمة المثل فينفذ من رأس المال.
أخبرني بعض السادة أن المهدي أفتى بأن الفقير إذا حج قبل الاستطاعة لا يصح حجه وعليه الحج وهو خلاف الإجماع.
وأخبرني بعض السادة أنه وقف على كتاب إلى أحمد بن الحسن من بعض الناس يقول فيه: إنها وصلت فتوى منكم وعليها علامتكم في مسألة واحدة مختلفة فيها خمسة أجوبة ينقض بعضها بعضاً، وهذا تخليط منكم ومن أهل حضرتكم، وصار الحال كما قال تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } ، قال: فتغير المهدي من ذلك، وسألته هل له معرفة؟ وكيف القراءة معه في شرح التجريد ، فقال: مجرد حضور وما رأينا هناك شيئاً من العلم إلا مجرد الحضور.
وأخبرني بعض الفقهاء الثقات أنه سأله سائل وهو بحضرته في مال ابتاع بقروش والصرف يوم البيع بثلاثة أحرف، وجاء شافع يشفع والصرف من أربعة أحرف، فأجاب: الشفعة قد بطلت، قال: وغير ذلك من المسائل يكفي فيها الإشارة، قال: وهو مع هذا مصرح بالاجتهاد، وسائر الدعاة المعارضين له بينهم وبين الاجتهاد مسافات ومراحل، ولو أنهم اعترفوا بأنهم منتصبون للاحتساب ولصلاح المسلمين وجمع كلمتهم[173/أ] لكان الأولى منهم، وأن العلم والجوابات ما عرفوا أجابوا فيه، وما لم يكن لديهم معرفته أحالوه على غيرهم من القضاة والحكام من المتفرغين للعلم، فإن عهدة العلم وثيقة، وعراه شديدة، وما كان عليهم لو اعترفوا وتواضعوا وصدقوا واتبعوا حالة العلماء الذين: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} . ولم يزكوا أنفسهم اتباعاً لقول الله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} ولم يدعوا العلم الكامل، اتباعاً لقول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} فما رأينا حالات العلماء من العارفين إلا إظهار القصور، وعدم دعواهم الكمال اتباعاً لقول الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } وماذا عليهم لو قالوا بذلك، وقالوا: إذا سُئلوا ولم يعلموا لا نعلم وماذا عليهم لو قالوا: نحن قمنا لصلاح المسلمين وصلاح ذات البين، وما علمناه قلناه، وما لم نعلم أحلناه، لكن لما كان المذهب الهادوي والزيدي لا ينصبون إلا من كان إماماً عالماً مرجوعاً إليه، وعلموا أنهم إذا لم يدّعوا ذلك لم يجابوا إليه، احتاجوا إلى الدعوى لذلك؛ لأجل يجابوا إلى ما هنالك بخلاف سائر المذاهب، فإنهم وإن كانوا قائلين بشروط الإمام الكامل، لكنهم إذا غلب غير الكامل قرروه، لأجل مصلحة الإسلام، وسكون الدهماء، ولا يتسمون بالإمامة بل
بالسلطنة والإمارة، مع أن المتغلب منهم لا يدعي ما ليس في وسعه، ولا يعلم به بل يَكِلْ ما تعلق بالشريعة إلى القضاة والحكام، والله يرحم الجميع، ويختم بالخير، ويصلح أمور المسلمين.
[173/ب] وكثير من الذي نصب أحمد بن الحسن قالوا: ما نصبناه إلا حسبة لا إمامة، والسيد محمد بن علي الغرباني الذي دعا أفتى في مسألة المحتاج أنه يبيع مال الوقف الذي على الذرية ولا قائل به، فأراد الذي اشتراه التخلص فسألني وقال: البائع فقير فكيف في ثمن المال الذي سلمه؟ فأجبت عليه أنه يستغل هذا المال المشترى وبحسب قدر قسام الشرك المعتاد في الجهة، حتى يستوفي الثمن ثم يعيده على البائع الموقوف عليه، فقال: إنه سيفعل ذلك.
ووصل ولد السيد مبارك بن شبير، وكان بتهامة ساكناً، فلما وصل إلى وادي جيزان يريد القصد لأحمد بن الحسن انتهب في ذلك المكان، وذلك بأمر من صاحب شهارة، فإنه كتب إلى بلاد العصيمات وبرط وسفيان أنهم ينتهبون من وجدوه قاصداً إلى أحمد بن الحسن.
وفي نصف هذا الشهر أرسل أحمد بن الحسن من المحطة شرقي شهارة إلى حاشف جنوبها مما يلي بلاد ظليمة.
وفي هذه الأيام لما قل على علي بن المتوكل المحصول من اليمن الأسفل لخُلْفه وشداد أهله سار إلى ضوران، أخذ من خزائنه بعض شيء من المال، فلما بلغ صنوه محمد بن المتوكل ذلك تغير منه كونه وصي والده، وقال: لِمَ يأخذ ذلك من غير إذنه؟ ولم يلبث أن عاد إلى ذمار بها، وتصرف منها.
وفي تاسع عشر شهر محرم كان تحويل السنة ودخول الشمس أول درجة في برج الحمل، وزحل[174/أ] في الجوزاء راجعاً، ورجوعه هذا استمر من شهر رمضان والمشتري في الدلو والزهرة والمريخ فيه أيضاً، والذنب في الثور، والرأس في القوس وكذا القمر، هذا على حساب المتأخرين، وأما على حساب المتقدمين فتتقدم برج من هذا، والزهرة راجعة يومئذٍ وهي ستقارن المريخ والشمس في شهر صفر قران آخر، وكانت الزهرة قد قارنت المريخ، كما سبق ذكره.
وفي شهر محرم منها وصل كتاب تعزية من أبي العرب سلطان بن سيف بن مالك اليعربي، صاحب بلاد عمان إلى محمد بن المتوكل في والده، مضمونه أنه لما بلغه وفاة والده صدَّره، وذكر فيه أنه بلغه قيامه في مرتبة والده، وأنه استخلف خليفته، ووصَّى في أصحابه الذين يخرجون بالبضائع العمانية بالرعاية، فأجاب عليه محمد بن المتوكل بجواب التعزية، وذكر له أن الأمر صار إلى أحمد بن الحسن.
وكام يوم الثلاثاء عشرين شهر الحجة قد وصل كتاب المهدي أحمد بن الحسن إلى محمد بن الإمام، ووصل عقبه يوم الخميس كتاب قاسم وفي طيه كتاب من السيد يحيى بن أحمد الشرفي، والكل اختار ما اتفق من اجتماع القضاة بالرحبة ما بين شهارة وبيت القابعي، وأن الحاضر من أصحاب قاسم السيد يحيى بن إبراهيم بن جحاف وصنوه إسماعيل ومحمد قيس، ومن قبل أحمد بن الحسن القاضي يحيى جباري الذماري والقاضي علي بن جابر الهبل، ومحمد بن إبراهيم السحولي الخطيب بصنعاء، وكان ابتدء قول الحاضرين من أهل شهارة طلب الصلح في هذه الساعة، واما الخلع فمتعذر فيه المقالة[174/ب] وأنه يبقى كل من السيدين إمام في جهته التي قد أجابته، فلم يجبهم إلى ذلك قضاة أحمد بن الحسن، وحصل بين جباري وبين السيد يحيى بن إبراهيم جحاف هدار وخصام، ثم افترقوا على غير تمام شيء، فكان حالهم كما يقال:
إن القضاة تجمعوا
يريدون صلحاً أحمدا
قصدوا عن ذاك المقام
وعنه تفرقوا ولم يحمد
ولم يحضر من قضاة شهارة الفقيه حسين بن حنش ولا السيد حسين بن صلاح. والسيد يحيى بن أحمد الشرفي كتابه كان مضمونه صحة إمامة القاسم عنده وعند ابن حجاف وقيس وإسماعيل، وبعثوا برسائل الجهات بحكم أولئك الحكام بإمامة قاسم، فتغير محمد بن الإمام من ذلك، وطلب قضاة صنعاء يكتبون أن الذي صح عنده وعندهم إمامة أحمد، وأرسلوا بذلك إليه، وكتاب آخر إلى القبائل وقام وقعد. وكان قد طلب القاسم عقد صلح مدة معلومة ويبقى على الإمامة[175/أ]، فلم يجب إلى ذلك، ونبح عند ذلك نابحه، وهو أن محمد بن أحمد بن الحسن بن القاسم تصرف في موزع واستولى عليه في أوامره ونواهيه ومرجوعاته، وقال: هو يحتاج إليه ولا يرضى بمصيره إلى غيره ولا يسامح فيه، وظهرت التربشات، فنعوذ بالله من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
ووصل أول الحجاج على قلتهم إلى اليمن، وكان وصولهم متأخراً عن عادتهم، فلم يصل المُخِفِّون منهم إلا خامس وعشرين شهر الحجة والعادة يصلون العاشور وقبله، فسألت حاجاً منهم فقال: كان الحج مباركاً، وقف الناس الجمعة، وأقواهم الشامي ثم بعده المصري ثم العراقي، قال: وخرج مع الشامي ولد الشريف بركات، وأنه كان دخل العام الماضي وخرج هذا العام بكسوة لوالده وتقريرات يده[175/ب]، وخرج أمير مع المحمل الشامي وكان الشامي معتمدهما لكونه من باب السلطان، وفرحان ساروا وهو بمكة ما كان قد خرج عنها،وكان دخولهم من طريق تهامة مع فرحان لأجل قلتهم هذا العام، وضعف حج اليماني عن سائر الزمان، قال: وكانوا في نية العود مع فرحان من طريق تهامة لأجل قلتهم عن العادة، فانتظروه، ثم لمّا طال انتظارهم اضطروا إلى السير وحدهم من طريق السراة معتادهم متوكلين على الله، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } فاجتمعوا نحو خمسة وعشرين نفراً، ومروا طريق السراة، فلم ينلهم مكروه، إلا أنه تأخر وصولهم.
قال: وكان سعر مكة مرتفعاً، بلغت الكيلة إلى ستة عشر بقشة مصري، وأما الأعلاف والحشيش والكلأ فخير كثير وكذلك اللحوم، بسبب جراد ظهرت في الحجاز ومصر فارتفع السعر، بلغ الإرْدَب بمصر إلى ثلاثة قروش، وهو يأتي اثني عشر قدحاً حساب كل قدح بحرف بدراهم اليمن؛ لأن القرش بلغ إلى أربعة حروف في الصرف.
وانتقل أحمد بن الحسن من محطة مور إلى حاشف. وجاء الخبر بأن أحمد بن المؤيد توجه إلى وادعة، وكان نزوله يوم الجمعة ثامن وعشرين شهر محرم من شهارة، وتأهب أحمد بن الحسن للقياه، فعرج عن الوصول إليه وسار من طريق وادعة ومعه نحو ثلاثمائة، ووصل إلى قرية السوق الحض ودخل بيته الذي فيها له، فالتقاه أهل وادعة جميعاً، ودخل مدخلاً عظيماً وأكثرهم أو كلهم مائلاً إليه، وهو مظهر للمباينة، غير مقترف لأهل تلك الطائفة، وذكر أهل بلاد وادعة أنهم مائلون إلى القاسم لقرب جنابه إليهم، وبشاشته بهم، وكذلك بلاد الأهنوم مثلهم أو فوقهم، وأن أحمد بن الحسن تحرك يومئذ وبنى على مقابلتهم بالحرب، وكذلك محمد بن أحمد قد بنى على ذلك، وكذلك العساكر الذين بحجة، وانفتحت يومئذٍ بينهم المباينات، وانتهت بينهم المخاطبات، وعاد القضاة الذين ساروا إلى أماكنهم بعد ذلك.
[176/أ] وأظهر أصحاب القاسم بن المؤيد بأن محمد بن أحمد بن الحسن صاحب الحجرية كاتب إلى القاسم صاحب شهارة، وكذلك حسين بن حسن وأنه في شهارة أشاع البشارة، وضرب بالحرانى للإشاعة، فأرسل محمد بن الإمام السيد محمد بن حسن بن حميد الدين إلى حسين بن الحسن -إذ هو أخوه من قبل الأم- عسى أنه يرجع إلى أخيه أحمد بن الحسن للمساعدة، ويطلب منه ترك المشاققة.
وفي يوم الثلاثاء ثالث شهر صفر وصل الخبر إلى صنعاء بمواجهة بلاد ظليمة، وعند ذلك جهز القاسم من شهارة إبراهيم بن حسين بن المؤيد الذي كان خرج أولاً إلى ذيبين إلى مساقط الأهنوم ليحفظه ويفاتح أن أمكنه، فبلغ إلى موضع يقال له الأبرق ، ما بين الأهنوم وظليمة، وهو من أطوار بلاد ظليمة فوق سوق الثلوث، فجهز أحمد بن الحسن عليه جماعة من عساكره، فردوه إلى بعض القرى من معاقله، واستدعى أحمد بن الحسن أحمد بن محمد من الصلبة بمن معه، فطلع منها طريق وادي لاعة، ثم طلع إلى الطويلة وخرج إلى حبابة غربي كوكبان، ونفذ إلى عمران، وسار إلى حيث طلعه[176/ب] هذا الأوان، وعرج عن طريق حجة، وإلا فهي كانت قريبة؛ لأجل ما فيها من الرتب من قبل القاسم الوثيقة، وكان قد أراد أولاً أنه يطلع الظفير، فمنع أهله دخوله، وقالوا هم إلى القاسم لا يخالفونه.
وفي ليلة الجمعة سادس شهر صفر توفي الشيخ المقام عامر بن صلاح الصايدي، بداره بصنعاء اليمن، وقد كبر سنه، وكف بصره آخر مدته، فبقي في بيته كذلك حتى توفي.
وهذا المذكور كان من أصحاب شرف الإسلام الحسن بن القاسم ومن أمرائه، وكان له عنده وجاهة مدته، وكان المذكور ظاهر الصلاح متنزهاً عن دخول الأسواق، وكان نادرة في وقته؛ لأن من كان مثله يدخل الأسواق من الأمراء خالفهم، وكان له عبادة سيما آخر مدته رحمه الله تعالى.
وفي يوم السبت سابع شهر صفر وصل الخبر إلى صنعاء بأنه وقع حربٌ شديد بين إبراهيم بن حسين بن المؤيد وبين أصحاب أحمد بن الحسن، فقتل من الجانبين كثير، وظفروا به ولزموه أسيراً، وعند ذلك طلع أحمد بن الحسن الأهنوم، وتسور تلك البلاد بجيوشه، ومن عليهم من بعض قراه وبيوته، فأمر أحمد بن الحسن بإخراب تلك البيوت التي وقع منها الرمي بعد الحملة عليهم والقهر، فخربها وحرق بعضها، فلما رأى ذلك الأهنوم أقبل إليه كثير منهم مواجهين فأمنهم، وطلع إلى نجد بني حمرة، غربي شهارة، وهو وسط الأهنوم، وهو مجمع الطرق القريبة من شهارة[177/أ] واختلف في خبر القتلى، فقيل: قدر ثلاثين نفراً ومن أصحاب أحمد بن الحسن ستة أنفار، قالوا: وسبب قلة القتل في أصحاب أحمد بن الحسن أنهم حملوا عليهم وترَّسوا بِشِمَال مبلولة بالماء، فكانت الرصاص إذا وقعت في الشِمَال تطفي ويبطل فعلها، كذا يروى، وأسروا كثيراً من الأسرى.
وجاء الخبر يومئذٍ بأن محمد بن أحمد بن الحسن صاحب الحجرية لما خالف على والده ومال عن جانبه أمر عليه ولده علي بن أحمد بن الحسن بأنه يتوجه من تهامة إلى جهاته فسار حتى بلغ إلى نواحي تعز ويفرس، وعند ذلك انسل أكثر أصحاب محمد بن أحمد بن الحسن وتفرقوا، وكان قد وصل إليهم كتاب من المهدي يحذرهم من إعانة ولده في أمره لهم ونهيه، والذين معه هم من عسكره، وعليهم نظره، فخافوا وتفرقوا، وبعد تفرقهم وعدم الميل إلى رأي محمد بن أحمد وإقبال أخيه علي بن أحمد سقط في يده، وندم على ما جرى منه، وترك ما كان أراده.
وفي يوم الإثنين تاسع شهر صفر وصل الخبر إلى صنعاء بأن القاسم يريد أن يواجه [177/ب].
وجاء خبر آخر أن الحرب بالأهنوم شديد، استمر من الأبرق بظليمة إلى نجد بني حمرة، وأوله كان بالأبرق علي بن إبراهيم بن حسين ومن معه، وأن بعض ظليمة اختلت بعد المواجهة، وقاتلوا مع أصحاب القاسم في جملة المقاتلة، وبرق عليهم من الأبرق وحوادثه، ثم استولى عليه ومن معه بالقتل والأسر، لم ينجل إلا بقتول كثيرة من الجانبين، وأن بعضهم هلك بالحجارة وبعضهم فقد خبره، وكانت حادثة عظيمة، ثم لما تقدم أحمد بن الحسن من سوق الثلوث طالعاً إلى الأهنوم عاطفاً رموا عليه من القرى فوق الطريق، فأمر بخرابها وانتهابها، وخربت قرى في سَيْرَان ونحوها وحرقوها بالنار، وأنها حصلت معرة عظيمة في الأهنوم، ومن النساء من هرب حاجاً ، ومنهن من راح في الحِيْود ، وانتهب مع ذلك ما في تلك البيوت، وكذلك سلاح المحاربين الحاضرين، ثم انعطف راجعاً بعد هذه العملة إلى محطته بحاشف، وقد انجلت على قتول كثيرة.
ولما حصل ذلك الحادث، وشاهده القاسم من شهارة وما جرى من ذلك الأمر الكادث، وأسر إبراهيم[178/أ] بن حسين وجماعة من أعيانه جاء كتابه وأحمد بن المتوكل بأنهم لا يخالفونه كما قال أبو تمام:
السيف أنطق أنباءاً من الكتب
في حده الحد بين اللهو واللعب
ووصل الأسرى إلى صنعاء معهم السيد صالح عقبات، وفيهم السيد إبراهيم بن حسين وفقيه من بني الأكوع، ومن الأهنوم جملتهم أربعة عشر نفراً من مشائخهم، وخرج عامة أهل صنعاء للتفرجة عليهم، خرج أولهم إلى أن بلغ الحصبة ، والطرق ممتلئة، فجنبوا بهم إلى الجراف للعشاء والتغليس لدخول صنعاء خشية من كثرة المتفرجين، فكان دخولهم وقت العشاء، ولم يترك الكثير من أهل صنعاء التفرجة من الصغار والكبار، واجتمع في ضوء القمر للتفرجة خلق كثير وصاح عليهم الصبيان بالأصوات والتنصيرات والصولات، حتى دخلوا بهم قصر صنعاء على تلك الحالات، وكان الصبيان يقولون لرئيسهم: أين جيت بعقلك؟ وبقو تحت الترسيم.
وجاء خبر أن القاسم استدعى السيد زيد بن علي جحاف للوثاقة والشروط بينه وبين المهدي أحمد بن الحسن وإلاكادة، فطلع[178/ب] المذكور إليه، وأمر عند ذلك بارتفاع رتب بلاد حجة وكحلان، وكانت هذه القضية رادعة لأهل شهارة والأهنوم، لم يصدقوا بحقيقتها حتى رأوها مشاهدة؛ لأنهم أهل غباوة مشهورة لا ينظرون في العاقبة، ولا يعرفون الأمور الغالبة، فما صدقوا لأجل غباوتهم حتى شاهدوا ذلك بأعيانهم وأبصارهم، فكان حالهم وحال القاسم كما قال ابن المقرب:
علام تجشم الأهوال فرداً
تغير البيداء أو لجج البحار
آمالاً تحاول أم علواً
هديت أم اجتواء للديار
وأما أهل شهارة فإنهم مع ذلك أقاسوا على الإمام القاسم بن محمد بن علي، والإمام القاسم ما قام تلك المدة إلا بملاحم معزَّوة إلى علي من منقولات الجفر وغيرها، مما ليس عنده يخفى.
وأما عمل هذا القاسم فإنه مخالف للملاحم، فإن المعروف في المنقولات الجفرية أن المُلك يصير بعد المتوكل إلى أحمد بن الحسن، والأمور السابقة في علم الله لا تنقلب جهلاً ولا خلفاً، فلله الأمر من قبل ومن بعد، له الملك يعطيه من يشاء، [179/أ] وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وجاء خبر آخر فيه تحقيق أن الحرب كان يوم الخميس خامس شهر صفر، وأن القاسم كان قد أمر الأهنوم وظليمة وسائر القبائل أنهم يقطعون الميرة إلى محطة أحمد بن الحسن بالمرة، وأنهم يمتنعون عن إيصال شيء من المصالح إلى المحطة الأحمدية من علف وطعام وحطب وغير ذلك، قال: فمنعوا ذلك كما أمرهم القاسم، وتقرب إبراهيم بمن جمعه من قبائل الأهنوم وأهل شهارة وظليمة إلى جبل الأبرق المطل على سوق الثلوث، وهو من بلاد ظليمة وحد الأهنوم.
فلما خرج أحمد بن الحسن وأصحابه وأجناده إلى حدود أسفال ذلك الجبل رموهم بالبنادق البالغة من أعلاه حتى وقع بعضها بين أيدي أحمد بن الحسن، فأمر أجناده عند ذلك بالحرب، فطلع عليهم[179/ب] همدان وبنو الحارث حملة رجل واحد وترَّسوا بالشِمَال في أيديهم اليسار، ولم يبالوا بالبنادق حتى بلغوا رأس الجبل وأعلاه، واقتتلوا بالسيوف والسلاح ضرباً وأسراً، وحرقوا بيوت قرى الأبرق بالنيران، وخربوها ونهبوها واستولوا عليها عنوة وملكوها، وأسروا إبراهيم بن حسين ومشائخ الأهنوم وظليمة فيها، وكان القتل كثيراً، والقليل من أصحاب المهدي قيل: حول ثمانية، وأما من أولئك فجماعة كثيرة، قيل: نحو خمسين، وقيل: أكثر، وكانت هذه الحملة لبني الحارث وهمدان أعظم نجدة، وكل ذلك لما بلغهم أن الأهنوم قالت أنهم غير شيء، وأنهم من القصَّابين استحقاراً لهم واستخفافاً بجنابهم، واستكباراً عليهم وعُجباً والعجب[180/أ] مهلك والكبر مردي مربك.
قال الراوي: ممن كان حاضراً في تلك النواحي: أنهم قد جمعوا كثيراً من الجمع في ذلك الجبل وجهدو بغاية مقدورهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد، والملك ملكه يعطيه من يشاء من خلقه.
والمهدي أحمد بن الحسن حال الحرب عطف من طريق وادي رجم، ثم أنفذ الجيوش في تلك الطريق حتى بلغوا إلى نجد بني حمرة، ووقع بعض مراماة من تلك القرى والجبال، كانت سبباً لخراب القرى التي صدرت منهم الاعتداء.
ووصل خبر يوم الخميس الثاني ثاني عشر شهر صفر إلى صنعاء بكتاب من أحمد بن المتوكل إلى أخيه محمد يذكر فيه: أنه صدر والقاسم قد استخار الله وبنى على تسليم الأمر إلى أحمد بن الحسن وأنه في نية النزول إليه يوم الإثنين، وأنه لم يبق إلى جنابه أحد مائل حتى أهل شهارة، هذا خبره.
[180/ب] ففرح الناس بسكون هذه الفتن المضلة، والأحوال المشتتة المتعبة، والمنازعة المفشلة التي نهى الله عنها.
والله يجمع كلمة المسلمين على الصلاح.
والسيد محمد بن حسن بن حميد الدين الذي أرسله محمد بن الإمام إلى حضرة الحسين بن الحسن وإلى حضرة علي بن المتوكل وصل وأصلح أمرهما، وتدارك به ما قد كان حصل من الخلل معهما، وما كان أشفوا عليه من الأمر العظيم الذي هو عين الغرر، فإنه ذكر أن حسين بن الحسن وعلي بن المتوكل كانا قد بنيا وأزمعا وتواطيا على إعلان الخطبة للقاسم صاحب شهارة في رداع وذمار، من غير مخالفة في تلك الجمعة الآتية، فأنسد بوصول السيد محمد بن حسن بن حميد الدين ذلك الأمر الذي كان أرادوه وبنوا عليه ونووه، وتراجعوا عنه وأضربوا فيه.
فلو كان حصل منهما لكانت فتنة عظيمة، وفعلة جسيمة ضارة للمسلمين قاطعة للطريق اليمنية عن المصالح إلى صنعاء بالكلية[181/أ] مفرقة للمسلمين، مقوية للفتنة، موجبة لطولها ما حقه على صغيرها وكبيرها، فوقى الله شرها بتدارك أمرها قبل حصولها؛ لأن تلك البلاد لو تم ذلك المراد رفعت القبائل رؤوسها، وتقوت به البلاد الشهارية، وهاجت بسببها الفتنة النجدية، ولكن الله لطيف بعباده، والملك لا بد أن يكون لمن يشاء الله وأراده، فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن.
وقد حصر ما راح هذه السنة والتي قبلها في الصلبة وذيبين وهذه في ظليمة والأهنوم قدر مائتين نفس، بل قد قيل أكثر من ذلك لا سيما في هذه القتلة الآخرة بظليمة والأهنوم فإنه على ما قيل هم كثير غير منحصرين، فمنهم من يقول مائة ومنهم من يقول أكثر؛ لأنهم طلعوا عليهم جملة بالسيف، فقتلوا معظمهم ولم ينج إلا من هرب في أول القتال، ومن احتاز حتى أُسر واستأمن، والأسرى هم اليسير وتفرقوا في العوادر وأكلتهم النسور والسِّبَاع في تلك الجبال والعوابر .
وكان أحمد بن المؤيد بوادعة يترقب الفرصة فيهم والهزيمة، وأنها إذا وقعت فيهم بادر بالحملة بمن معه وبقبائل[1181/ب] وادعة والعصيمات للإنتهاب والغنيمة من المحطة التي بحاشف، والتلقي لهم إن اهتزموا بالقتال بالسلاح والمعاطف، وكان قد اجتمع بحبور جماعات من المغارب الشرقية والحَجِّية ينتظرون ما ذاك يتم من الحرب الواقع فيما بين ظليمه والأهنوم، وأن الهزيمة إذا حصلت لفوا عليها من جهتهم وأحمد بن المؤيد من خلفهم والأهنوم من قدامهم، هذا كان هو غرضهم ومقصدهم، ولذلك فإن المهدي لما عرف بعض هذا الأمر منهم الجاري أرسل لأحمد بن محمد من الصلبة إلى خمر، زيادة لمحمد بن أحمد وقاسم بن المتوكل ؛ لأجل المحاذرة من طارقات أحمد بن المؤيد إذا تحرك من وادعة، فيتبع أثره ويلحق من خلفه، فلما وقع هذا الحرب الجاري، وكان على ما وصف من الظفر بهم والغلبة لهم على الوجه الماضي، سُقط في أيديهم الجميع وكفوا عن قصدهم الذي عليه نياتهم، وطفت لذلك الحاصل جمراتهم. وعند ذلك أقبل أحمد بن[182/أ] المؤيد مبادراً بالمواجهة والمبايعة والدخول تحت الطاعة، ولا سيما بعد أن بلغه أن عساكر خمر توجهت نحوه، وتفرق الذي كان وصل إلى حبور من قبائل المغرب ورجعوا من حيث جاؤوا وشاهدوا ما لم يشاهدوه في زمانهم، مما جرى في الحرب أمامهم، وواجهت المغارب جميعها، وخطبوا للمهدي فيها، ونزل أهل شهارة إلى الحضرة الأحمدية طائعين مسلمين، وتفرقت رتبة الهجر التي كانت للقاسم، والقاضي محمد بن علي قيس الثلائي رجع بيته وترك القاسم بعد إياسه، ورتب أحمد بن الحسن الهجر ونجد بني حمره وتحت شهارة الفيش خشية لا يخرج القاسم، ثم رحل أحمد بن الحسن بنفسه من حاشف وطرح بمحطته بحدبة الهجر، ولم يبق إلا قاسم بن المؤيد فريداً وحيداً حليف هم وحزن في شهارة، وأحمد بن المتوكل بشهارة يأمر وينهي، ولم يبق للقاسم أمر فيها.
واتفق تاريخ زوال دولة القاسم هو هذا اللفظ الجاري[182/ب]: زالت دولة قسمي . فلله الأمر من قبل ومن بعد، يؤتي ملكه من يشاء، وينزعه عمن يشاء وعند ذلك ارتفعت رتب حجة وعفار والشرف وتفرقوا، وفرغت البلاد، وواجهت ، والله أعلم.
وحصل مع الذين مالوا إلى القاسم من البؤس والكدر والحزن غاياته، ومن الضيق والإنكسار نهاياته، مع ما كانوا عليه من اعتقاد نصرهم ونصره وتزكية أنفسهم وتزكيته ما لا يوصف، ومن المبالغات التي لا تعرف، ولقد وصف لي من مبالغتهم بعجائب يحيلها العقل، منها: وصف لي بعض الفقهاء أنه حاكاه جماعة من القبائل المائلين إلى القاسم بأنه أكل أربعمائة نفر من مقلا واحد بين يدي القاسم. ومنها: أن تيساً نُذر به إليه فغلط صاحبه بذبحه أو رجع في نذره، فهرب التيس وقد حُزت رقبته إلى بين يدي القاسم من سوق الثلوث والدم يسيل فيه من أثر ذبح الجزار له فباعه من جزار، وقال: إنه يسلم لقاسم ثمنه لمشقة إطلاعه إلى شهارة؛ لأنه ما زال يهرب عليه.
ومنها أن الجراد فيها مكتوب قاسم بن محمد في رقبتها، فأما الجراد فشاهدنا فيها رقهما الذي لا يزال في كل جرادة برقبتها أشبه شيء بالألفين مختلفين هكذا(×)، وهو في جميع الجراد، إلا أنه يظهر[183/أ] بيناً في الجراد الصفر.
والقاسم المذكور تعلقت به ديون واسعة، استدانها وتكلف من الناس لطلبها وسؤالهم إياها، ولا يفي ماله بالقضاء لها، فإذا لم يقضها له أحمد بن الحسن من بيت المال والأعشار ارتبك في المضيق، وناله إثم التفريط، فإن حقوق العباد شديدة وقد شدد النبي÷ في الدين ما شدده لمن أوفى به، فكيف إذا لم يحصل الوفاء له؟ والورع لا يدخل في تكثير الديون، وإن دخل في شيء للضرورة فاليسير، مع العلم من نفسه أن ما له في القضاء يفي به من ماله أو مما هو تحت تصرفه ويده، فإما تجشم ما لم يعلمه، وتوهمه أنه يقضيه مما سيفتحه فمن الغرور الذي لا يخفى على أهل المعقول، وقد قيل: إن ديون القاسم هذا بلغت إلى نحو مائة ألف.
وفي هذه المدة ظهور نجم وقت السحر له شعاع من قدامه قدر نصف ذراع من مجرى الثريا ومكان طلوعها، بقي كذلك قدر ثلاثة أيام ثم اضمحل، والله أعلم.
والمهدي عند ذلك فرق اليمن بين أولاد المتوكل أكثرها وبين أولاد أحمد بن القاسم وغيرهم، وبقي معه بلاده الأولة وزيادة معها اليسير، وكل منهم قال ما يكفيه إقطاعه، ولله قول الشاعر :
ما كل ما في البسيطة كافياً
فإذا قنعت فكل شيء كافي
وكل منهم مد يده في رعايا بلاده في غالبهم[183/ب]، وبعد تقضي عمل شهارة، وسكون ما وقع فيها من الأمور المنهارة سكن المهدي أحمد بن الحسن بالهجر مبرزاً لوطاقه وخيامه بميدانه وحدبته، واستقر جميع أصحابه بجنابه، فكانت محطة واسعة؛ لأجل اجتماع أهل الناحية ومواجهة القبائل العذرية والبلاد الأهنومية قهراً عليهم وخوفاً أن يجرى فيهم ما جرى في أصحابهم.
ولما أيس القاسم بن محمد صاحب شهارة عن تمام إمامته وما دعاه إلى نفسه وما شاهده من الحروب بعينه لم يسعه إلا الهبوط من جبل شهارة والنزول إلى المحطة، فاتفق بالمهدي وقفة المسالمة، وتمثل لسان حاله بقول المتنبي في ديوانه:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بدُ
وجعل له قطعة من بلاد الشرف يتمتع بها هو وخاصته وأتباعه وجماعته، ثم سار إلى قرن الوعر وقاسم عاد إلى جَبَلِة ، وعرج المهدي عن طلوع شهارة لما في النفوس، وما ظهر له من حالات القاسم وأصحابه من الكمد الذي نزل بهم والبؤس، ووصل إلى قرن الوعر قبائل العصيمات مواجهين فتوثق عليهم في صلاح الطرقات، وترك التعديات، ثم سار عنه إلى الفُقْم طرف العمشية، فسكن به قدر نصف شهر، ثم سار إلى بركة مداعس وسط العمشية، وسكن بها بعض أيام وأكد على سفيان في الطريق، وشرطوا عليه الموافاة لهم ما يعتادونه في حفظها من الملوك السابقين، وإلا فليس عليهم دَرَك[184/أ] فصلحت، وإن حصل على النذور بعض تخطف فيها من قبل دهمة لمن انفرد عن الرفقة. ثم تقدم يؤم جهات صعدة، فلما وصل إلى العيون وقدم وطاقه إلى رَحْبان اليوم الأول خرج صاحب صعدة علي بن أحمد لاقياً له ومهنياً ومرحباً، ثم تقدم إلى رحبان، وسكن فيه هو ومن معه من الجنود والأعوان، ثم دخل صعدة لمجرد الضيافة والصلاة فيها للجمعة، وكان استقراره برحبان في نصف ربيع الأول من سنة ثمان وثمانين وألف سنة.
ووصلت إليه قبائل صعدة من البلاد الشامية والخولانية رغبة من القليل والأغلب فيهم الرهبة. وجهز الفقيه أمير الدين بن أحمد العلفي الأموي إلى تهامة، وأمره أن يبني البرك في أطراف بلاد الحرامية، فوصل المذكور إلى صبيا وسكن فيها، وتعذر عليه النفوذ إلى حيث أمر إليها، ثم لم يلبث أن توفي بصبيا، وكان المذكور قد بقي متولياً مدة طويلة لعدن، وعمر فيه مسجداً قريب الساحل باسطوانتين وثلاثة عقود. وكان المهدي أحمد بن الحسن قد كتب إلى البلاد النجدية وإلى شريف مكة يطلب منهم الطاعة، فكان جواب الشريف بركات الإجمال، وأنه مثل واحد من أشراف اليمن لا يجهل الحق ولا يترك ما فيه الصلاح للمسلمين ولا يرضى بالمحق، إلا أنه يخشى إذا حصل تغيير من السلطان [184/ب]. ثم تحرك بعد ذلك في شهر رجب إلى بلاد نجد ويقال: أنه بلغ إلى بيشة ، كل ذلك منه لتسكين بلاده، وخشية لا يحصل تغيير عليه في جهاته.
وكتب إلى باشا سواكن بسواحل الحبشة يدعوه إلى الطاعة وهو عمر باشا، وهذا كله عين الخطأ، لامتناع من بحضرته عن تبليغه، وأراد الكتابة إلى مصر فلم يجد له رسولاً. وأحمد بن الحسن أقطع بلاد صعدة لعلي بن أحمد، فطاب بها خاطره، ورغب بسبب ذلك إلى جانبه، ولم تطب نفوس بلاد خولان بولايته؛ لأجل أنه كان جعل لهم خطوطاً برفع ما عليهم من المطالب أيام مخالفته على عمه إسماعيل، وقال لهم: أنتم عون على عمي المتوكل وجعلت لكم بالنصرة رفع المطالب عنكم في هذه المدة، فلما انقضت تلك الأمور الماضية ومات المتوكل وصارت الأمور إلى هذه الحالة الثانية طالبهم في الذي عليهم من أول من العادة، فأبوا عنها ولم يمتثلوا أمره فيها وشكاهم إلى المهدي، فطلبهم إلى رحبان وقال لهم: يسلمون ما عليهم من المطالب، ولا يخالفون علياً في شيء من المآرب، فقالوا: إذا لم يحصل منه الوفاء بما وقع، فليس لنا بولايته مطمع، ونولي بلادنا[185/أ] غيره، ونسلم ما علينا له، فبقي علي بن أحمد بذلك تاعباً. وأحمد بن الحسن صار مُعْرِضاً؛ لأجل ما عرف من علي من اتباع الهوى، وعدم مراعاته لما يصلح المسلمين فيما مضى، فبقي الأمر كذلك وليس عليه في التحقيق إلا أن يقول له: قد صارت البلاد الشامية الصعدية إليك، فخيرها وشرها عليك، وإلا تركت أمرها ومصالحها وأصلحناها.
وفي آخر شهر جمادى الأولى عادت الجراد التي كانت توجهت إلى اليمن الأسفل تؤم جهة القبلة من حيث جاءت أولاً، فضرت في هذه البلاد التي مرت بها في الزراعة، أكلت منها بعضها وهي نبات، وعند ذلك غلت الأسعار في الجهات لا سيما مع قل المطر في الخريف، فبلغ القدح بصنعاء أربعة حروف، والشعير إلى ثلاثة، وأما الذرة فمعدومة لأجل جراد العام الماضي، واشتدت الأزمة مع أهل اليمن الأسفل، ورحلوا إلى البلاد العليا، وخلت بالسحول قرى كثيرة، وصلبت أموال عديدة وعرضت بأبخس الأثمان، فلم يشترها أحد لعدم من بقي من الساكنين لإقامتها فلله الأمر. ومات في اليمن الأسفل عالم لا يحصون، بحيث أخبرني رجل[185/ب] أنه دخل بيتاً في قرية فوجد فيه سبعة موتى، قد ظهرت رائحتهم ونتنهم، ثم دخل مكان آخر فوجد رجلاً في آخر رمق وامرأة ميتة وطفل يرضع منها وقد هي ميتة، قال: فسأل ذلك الرجل ما شأنكم؟ فقال: الجوع وأمر الله الذي قضاه، قال: فاستعبرا وحمل الطفل إلى راعي غنم قد رآه فمكَّنه الطفل يرضعه من غنمه، وسار فارَّاً من الأمر الذي رآه وأفزعه. ووصف لي آخر من أهل جبلة وصفاً عجيباً وقال: ما قد رأينا مثل هذا الزمان في اليمن، خلت قرى وصلبت أموال ومات عالم لا يحصى، وفقر في الناس كثير وغني آخرون ممن معه من الحب.
وعلي بن الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم نزل من ذمار في شهر جمادى إلى اليمن، فاستقر بإب على ضعف اليمن الذي ينبغي الفرار منه فازداد مع أهله التضرر لما قد نالهم من الحاجة والخُلف في بلاده، ووصلوا إليه شكاة، وقالوا:[186/أ] المطالب متعذر جمعها لضعف البلاد وتفرق أهلها، فأمهل بعضهم إلى الثمرة، ولم يكن فيه إلا اليسير من الذرة، فلما وصلت الثمرة فرَّق عليهم المطالب، فسلم من معه منها شيئاً وهرب الآخرون عن اليمن، فلما رأى ذلك الحال، وعاد عليه البعض في مرتفعات الأموال، طلع منه إلى ذمار بعد أن كان جرت يده في اليمن الأسفل مع خُلْفه، فلم يحتمله أهله ورده وهم العدم له؛ لأنه أراد طلب ما قد جرى عليه من زمن والده، فكان مع كثرة المطالب يحتمله الناس لبركة اليمن، والخير الذي لا يزال فيه في أغلب الزمن، وكان طلوعه إلى ذمار في شهر شعبان.
وكان قد مات بيفرس في جمادى الأولى منها علي بن أحمد بن الحسن بن القاسم، وقبر في حوطة النقيب علي، وزال عن صنوه محمد بن أحمد صاحب الحجرية ماكان يخشاه من صنوه، فإنه كان أنفق جميع ما عنده، وتغيرت أحوال قرية يفرس وخرب فيها ما خرب.
قال الراوي: بسبب ما كثر فيها من الفساد من أهلها، والراوي من أهل اليمن من بني الكاظمي من أهل إب قال: وكذلك اليمن الأسفل الذي وقع فيه الحطمة والموت والرحلة إنه اجتمع عليهم الجور والفساد، لعدم الغيرة منهم والقدرة على الدفع عن حرمهم وبيوتهم من عساكر الدولة، فإنهم ينزلون بيوتهم ويختلطون بحريمهم وأولادهم، ويقع ما يقع من الفساد وعدم قدرتهم، وضعفهم عن الدفع وضعف أهلهم، وترك الصلاة الواجبة لله، فلا حول ولا قوة إلا بالله[186/ب].
ومحمد بن أحمد بن القاسم عاد من خمر إلى عمران بالبون، فسكن في دار له هنالك، ووصل إليه متعينات بلاد حجة وذلك جميع الدفعة، وتصرف في بلاد كحلان، واستمدت يده في المشاكي إلى بلاد عفار، وفتح عند ذلك دار الضرب، فتعب من ذلك محمد بن المتوكل، واستثقل أمره، وكتب إلى المهدي أن ضريبة عمران كثر فيها الغش وأن الأولى رفعها. وأودع محمد بن المتوكل إلى محمد بن أحمد بذلك، وأنه ينبغي إزالة ما هنالك، فلم يسعد محمد بن أحمد، وأجاب: بأن الأمر قد تغير عن الوقت الأول وقد زال الأمر وانتقل، وأن الضرايب إذا زالت كلها أزلناها، وما المخصص لنا دون غيرنا في إزالتها، ولكن ضريبة عمران لا سيما بآخرها حصل فيها غش كبير بسبب أن محمد بن أحمد يقبض من التجار الحصة التي للدولة على الضريبة قروشاً ثم يتركهم يضربون على ما شاءوا فلذلك غشوها لأكثر من نصفها من النحاس.
وأحمد بن الحسن هذه المدة برحبان ما زال يتحدث بالتقدم إلى البلاد النجدية، أو إلى الجهات الحسائية والمكية والحجازية ويقول: إن في بعض الملاحم التي أظهرها الإمام القاسم في دولته وأنه يملك إلى عَقَبة مصر الثالث من ولده، وربما كتب إلى محمد بن المتوكل بهذه النية[187/أ] وما هو عليه من الهمة العلية، فأجمع الناس عاقلهم وجاهلهم أن التعدي عن اليمن إلى غيره، ومفاتحات بلاد السلطنة عين الخلل في عواقبه. وأن السلطان قد صار في مزيد قوة في هذا الزمان على ما كان فقد يؤدي تحريك تلك الجهات إلى تحريكه، والعزم والالتفاف إلى تخريجه.
وكتب محمد بن المتوكل إليه بمثل هذا الرأي، وأن الناس كافة غير منخرطين، مع ضعف اليمن أيضاً في هذه السنين، وتعقب ذلك أن تفالت أصحابه من حضرته، وانسلوا من حوزته، فلم يبق عنده برحبان غير خاصته، ونفسه غير مائلة إلى غير -مشورته حتى أنه بلغه في خلال ذل تحرك الشريف بركات، أو طلوعه إلى جهات بلاد نجد وأمور من جهات السلطان متوهات، انقلب المذكور راجعاً إلى عيان، أطراف بلاد سفيان في شعبان، واستقر به رمضان، وفترت تلك النيات واضمحلت تلك الإرادات، واجتمع عنده في العيد قبائل سفيان في العصيمات، ووصل إليه صاحب صعدة.
ومحمد بن أحمد[187/ب] سار من عمران إلى خمر، وكان عنده في عيان بجميع من تعلق به ومن حضر، وأردفه أحمد بن المؤيد عيَّد بعيان معه.
وفي هذه المدة حصل اختلاف النظر في بلاد يريم التي ولاَّها أحمد بن الحسن، يحيى بن حسين بن المؤيد بالله، فإن علي بن المتوكل وحسين بن حسن وحسين بن المتوكل جرت أيديهم فيها، وكل واحد منهم شارك فيها. وتغير خاطر يحيى بن حسين بن المؤيد، ولم يصل إليه من مطالبها إلا بعضها، واختلف النظر أيضاً في بلاد عفار بين أحمد بن المتوكل صاحب السودة وبين محمد بن أحمد، وكذلك بين قاسم صاحب شهارة وبين صاحب السودة، حتى أنه خرب بسبب ذلك بيت في الهجر من الأهنوم لما حصل اختلاف بين عسكر أحمد بن المتوكل وبين عسكر قاسم صاحب شهارة.
وكان قد أرسل أحمد بن الحسن من رحبان ابن أخيه عبد الله بن أحمد بن القاسم إلى حجة، فسار إليها فرحاً مسروراً طامعاً في ولايتها، مؤملاً لها، واستقر[188/أ] بمبين عند واليها السيد علي بن حسين بن جحاف، والله أعلم.
ومحمد بن أحمد صنوه كان عزمه من عمران لما بلغه وصول صنوه إلى حجة، كما سبق ذكره.
وفي غرة شهر شعبان منها وصلت كتب أحمد بن حسن إلى محمد بن المتوكل صاحب صنعاء يذكر له فيها أنه رأى أن اليهود كثرت ضريبتهم المشبهة على دار الضرب، وفيها نحاس كثير وغش وكثر منهم بيع الخمر من المسلمين وأعمال السحر، وأنه قد رأى إخراجهم من جزيرة العرب لما ثبت في الحديث عنه÷ أنه قال: ((أخرجوا اليهود من جزيرة العرب )) ، وأنه مع هذا الذي رآه لا يستغني عن استمداد الرأي في مثل ذلك، فعرض محمد بن المتوكل الكتاب على جماعة من الحاضرين، فأجاب الفقيه أحمد بن صالح بن أبي الرجال بأن الرأي إخراجهم عن جزيرة العرب، ولا يبقى منهم أحد، وصنف في ذلك كراسة كل حججها مقلوبة معلولة، ووافقه يحيى جباري قاضي ذمار، فاستحسن إخراجهم، مصانعة مسايرة للمهدي ويحيى بن حسين بن المؤيد كثر في تحريض المهدي بإخراجهم.
وقال القاضي محمد بن قيس: الأمر كذلك، وأنه لا ذمة لهم في اليمن وليس من مساكنهم، لكنه يجب عليكم تأمينهم وحفظهم من تخطفات القبائل إلى مأمنهم؛ لقوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وأجاب القاضي محمد بن علي العنسي بأنه (يخرج المفسد لا غيره).
[188/ب] وأودع محمد بن المتوكل إلى كاتب الأحرف ما ترونه في هذا؟ فقلت للرسول: ما أقول بشيء غير ما قال العلماء السابقون والعلماء المحققون: فهذه المسألة قد فرغوا عنها وقرروها في كتبهم وحرروها، فلا ينبغي منا قول يخالف ذلك، وهذا كتاب (البحر) أجمع كتاب في الخلاف، وأقوال العلماء في آخره في السير يقول فيه: أن المراد بجزيرة العرب، هو الحجاز لا غيره وإن مراد النبي÷ بالجزيرة لحديث آخر رواه البيهقي وغيره أنه قال÷: ((أخرجوا اليهود من الحجاز )) وأن قوله في الحديث: أخرجوا اليهود من جزيرة العرب من تسمية البعض باسم الكل، من المجاز المرسل.
فأجاب محمد بن المتوكل على أحمد بن الحسن المهدي: أن الحاضرين بصنعاء اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: يخرجون ومنهم من قال لا وجه لإخراجهم، وإن من صدر منه ضريبة وغش وبيع خمر وجب تأديبه.
ثم جاء أمر منه بعد ذلك بأنه تُخَرب جميع الكنائس، فأخرب في البون على طريقه لما عاد ما أخرب، وكذلك أخرب ولاته باليمن الأسفل بعضاً من الكنائس وأمر بإخراب كنيسة صنعاء ، فراجع عليها محمد بن المتوكل، وقال: هي قديمة غير محدثة ووجد في سيرة صنعاء للرازي أنها من زمان النبي÷، وذكر أنها قبلي المدينة قريب الباب، وأنها التي نزل بها وبر بن يخنس الصحابي الذي أرسله النبي÷ على أبي الأسود العنسي الكذاب ، وذكر الرازي في تاريخه الكنيسة الأخرى التي كانت للنصارى، وأنها خراب بقي منها عقود، ولعلها التي كانت في القليس ، وكنيسة اليهود غيرها في الربع القبلي من المدينة يلي الضرب، باقيه الآن، والله أعلم ما يتم من أمر أحمد بن الحسن فيها.
وخربت كنائس كوكبان وشبام وتلك الجهة، وروي عن الفقيه أحمد بن أبي الرجال أنه ذكر أن القاضي زكريا من علماء الشافعية قرر وجوب إخراجهم من جزيرة العرب، وهو كذب من أحمد بن صالح على القاضي زكريا، فإننا رأينا مصنفاته في شرح الروض ، وشرح مختصر المنهاج له أن الإخراج مختص بالحجاز لا غيره، كما يقول سائر الشافعية والعلماء.
والعلماء جميعاً مقررون الحنفية والشافعية والحنابلة في كتبهم أن الأمر من النبي÷ بإخراجهم إنما[189/أ] هو من الحجاز، وقد أخرجهم عمر امتثالاً لأمر النبي÷ لا غيره، ولم يخالف في ذلك إلا المالكية فقالوا: يخرجون من جميع اليمن. وأما قول القاضي محمد بن قيس بأنه لا ذمة لهم ولا عهد فمصادم لما في سيرة ابن هشام بمعاهدتهم في كتاب عمرو بن حزم إلى اليمن وكتاب معاذ بن جبل لما أرسلهما النبي÷، والكفار مما ينبغي إبعادهم وتفسيرهم، إلا أن الذمم بعد عقدها لا يخفى ما في نقضها؛ ولأن ظلم أهل الذمة سبب إلى زوال الدولة، كما ذكره ابن هشام في السيرة وغيره عن النبي÷.
وعلى الجملة فإن المتورع في هذه المسألة لا يجيب بلا ولا بنعم؛ لأن ولاية الكفار منقطعة عن المسلمين فلا يكونن ظهيراً للمجرمين، وإنما حكينا حكاية ما قاله العلماء الماضين في العهد لا غير ذلك، ولذلك لما طلبنا نقد في جواب القاضي أحمد بن صالح في رسالته كان الجواب معلوماً، لكنا تركناه تورعاً، وقلنا: أقوال العلماء ظاهرة، فقلدوهم وأفعلوا فيهم ما ذكره العلماء في أمرهم.
ولما طلعت الحمولة من المخا وجاءت طريق تهامة حتى خرجت إلى الهجر لقاها المهدي برحبان قبيل نزوله إلى عيان جماعة عسكر، لحفظها في طريق العمشية، فاتفق أنهم لما شدوا من حباشة تأخر العسكر للغداء في حباشة، فقصدها دهمة عند الضيق هنالك لما رأوها لا رفقة معها، فدافع عنها الجمالة وصاحت الصوايح حتى وصلت الغارة[189/ب]، وكان أحمد بن الحسن قد بلغه ذلك وهو في التمشية فقصد إلى العمشية، ثم تعقب خروجه إلى عيان واستقراره فيه.
وفي هذه المدة انقطع الفقيه أحمد بن عبد الله الجِرْبي في بيته بالروضة من منتزهات صنعاء وتزهد، ولم يقبل من الدولة عطاء، واكتفى بدرس القرآن والختم يهديها لمن أعطاه فيها، بحيث أنه مرة سرقت حوائجه وثيابه، فأرسل له صاحب الروضة بكسوة، فردها وصار يكتفي بالبلغة فيها، وقد كان قرأ في الفقه كتباً مثل: (شرح الأزهار) ، (والتذكرة) ، وكان له إمامة بعض المساجد، فترك ذلك كله، وصنوه الذي اعتراه الجذب، وخرج من صنعاء، ظهر هذه المدة أنه الذي سكن بجبل جُبَع ما بين حُفَاش والمحويت، وصار متوارياً هنالك، يتصل به جماعة، ويقبضون له الفتوحات والله أعلم.
[190/أ] وفي يوم السبت ثاني شهر شوال مات الشريف محمد بن عبد الله بن عامر بن علي بقصر صنعاء، كان في الدار التي فوق باب القصر الخارجي دار علي آغا بقصر المذكور، ساكناً بها هو وأبوه من وقت دخولهم صنعاء وخروج حيدر باشا عنها، وكان المذكور محترقاً جارودياً، يتحامل على صحابة المصطفى، ويأكل لحومهم بالأهواء، فلا قوة إلا بالله، استعار مني كتاب(الاستيعاب) للحافظ بن عبد البر ، فوضع في بعض هوامش الكتاب من الشتم ما يقشعر الجلد عنه، فطمسته وأزلته؛ لأنه كتبه من غير معرفة ولا احترام لكتب غيره وهو أعظم معصية، ثم طلب بعد ذلك عارية فلم أعره، لمحقه للكتب وتغيير مقاصد المصنفين، وما لا يحل ذكره من السب، وذكرت عند ذلك قول إسماعيل المقري في الروض في باب الوصايا: أن أجهل الناس من تعرض للصحابة بالسب[190/ب] مع أنه لم يكن له من المعرفة بدقائق العلم وحقائقه، وكان إذا اتفقت شيء من المسائل موجهاً إلى غيره عارضها بالوهم الباطل، والغلط العاطل، والخروج عن مقصد السائل، وكان عاطلاً عن غير معرفة المثالب والمناقب كما هو حال الإمامية وغلاة الشيعة فإنهم يجتهدون في تقول ما وجدوه من المثالب والمناقب، وما شجر بين الأوائل، هذا غاية مرماه، وصيده الذي كان يهواه.
ومرة اتفق أنه صلى بجنبي جماعة، فأحصر الإمام في الركعة الثانية، ففتح عليه فقلت له بعد تمام الصلاة: هذا فتح بعد تأدية الواجب على قول من قال بالفتح، وهو مفسد للصلاة، فقال: رحمته، فاعجب!.
ومرة قلت له: ما ينبغي سب الصحابة، فأجاب علي بقوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} فتجارى على تحريف القرآن كما ترى، وجعل الصحابة رضي الله عنهم ممن يدعون من دون الله بمثابة الكفار، فاستوحشت من عقيدته هذه، ونَفَرَتْ نفسي عنه، فلم أكالمه بعد ذلك إلا جواباً.
[191/أ] ودفن في جربة باب اليمن في الكناسة التي يضع فيها أهل المدينة الكناسات، لقربه من الباب والطريق.
ومن العجائب أنه استعار مني نسخة سنن أبي داود وقال: يريد السماع فيها، فبقيت عاجباً ورجوت أن إسعافه إلى ذلك فيه إما رجوع عن قوله أو مزيد حجة تقرر عليه في نظره، فسمعها على الفقيه علي بن محمد بن سلامة عن الفقيه هادي بن عبد الله القويعي الحضرمي الشافعي عن مشائخه إلى آخرها ولم يتعرض لمحق شيء فيها، فكانت حجة عليه قائمة، وسنة على بدعته قاهرة، والله أعلم.
وفي هذه الأيام بمدينة عيان حضرة المهدي أحمد بن الحسن، اتفق أن الفقيه يحيى بن حسين الجمالي الحيمي دق جبهته رأس حصانه لما رفعه إليه لقوة صدمته، فمات وهو مع أحمد بن الحسن، والخيل التي ترفع رؤوسها وسلمها مالها إلا السباق يمنعها إلى حرامها. وكان المذكور شاعراً وله قصائد في مدح أحمد بن الحسن كثيرة، وعمل ترثية في المتوكل إسماعيل لما مات، وتهنية لأحمد بن الحسن، مستهلها قوله شعراً:
أحسن الله يا زمان عزاكا
قد ثوى في الثرى هلال سماكا
وفي سابع عشر شهر شوال يوم الأحد توفي السيد العارف عز الدين بن علي بن عز الدين بن حسن بن علي بن مطهر العُبالي الحجي،نسبة إلى بلد العُبال ببلاد حجة وكانت وفاته بمدينة صنعاء، وهو وأقاربه يقولون: إنهم هدوية من أولاد الهادي، ويقول غيرهم: إنهم علوية وبعض السادة الذين سكنوا الأهجر أولاد السيد حسين بن علي بن شرف الدين بن عز الدين بن مطهر الأهجري، وذكروا أنهم ينتسبوا إلى جدهم مطهر هذا من علي بن محمد بن هادي بن أحمد بن محمد بن سليمان بن قاسم بن يحيى بن حسين بن قاسم بن حسين بن قاسم بن يوسف بن الإمام الداعي، ولم أجد هذا النسب في المشجرات أصلاً، وكذلك السادة بنو العوامي ويزعمون أنهم من أولاد الإمام أحمد بن سليمان فلم أجد نسبهم الذي ذكروه في شيء من المشجرات أصلاً، والله أعلم.
وسبب ذلك أنهم أرادوا نكاح من سادة فاطميين من أهل كوكبان، فمنعوا وقالوا: لا بد من معرفة النسب، لأجل الكفاءة، فأتوا بتدريج إلى أحمد بن سليمان أو إلى أحمد بن الحسين ، فلم يوجد في الأنساب ذكر تلك الأسماء جميعاً حتى ولد ذلك الإمام.
كان له معرفة بعلوم العربية من نحو ومعاني وبيان ومنطق وأصول فقه، وكان الرجل فيه التسليم مع مداخلة لبعض الدولة، وكان يدرس في فنه مع حسن العقيدة في الصحابة والأصول، يعتمد على كتب السنة وكتب المعتزلة، جمع بينها وعرفها، وله في التصوف أيضاً معرفة وحسن ظن بهم وبالمسلمين[191/ب]، وكان آخر مدته سريع الدمعة رحمه الله تعالى.
ورفعت هذه الأيام الضرايب التي كانت لعلي بن المتوكل باليمن الأسفل، وضريبة صنوه حسن بحبور، وضريبة محمد بن أحمد بعمران، وضريبة كوكبان، واستقرت ضريبة محمد بن المتوكل بصنعاء، وضريبة الغراس بذمرمر.
وكان علي بن المتوكل أراد النفوذ من ذمار إلى صنعاء، فكتب إليه صنوه محمد أنه يتأخر هذه المدة، فعند ذلك سار إلى ضوران؛ لأن له فيه حلة ، واليمن الأسفل قد بلغ في الغاية من الركة، ولم يلبث أن عاد إلى ذمار.
وفي شوال وقع [في] قَروْى من بلاد سنحان قتال فيما بينهم، فراح منهم جماعة ومصاويب، الغالب قيل: أربعة.
وجهز أحمد بن الحسن المهدي مع الحجاج طريق تهامة السيد صلاح بن عز الدين كاتبه، وأمر معه من الصُّر ما كان قد فعله المتوكل.
وفي شهر القعدة سرج مسجدة النهرين الذي جنب سايلة وادي صنعاء كما سرج الأيام السابقة.
وفي عاشر شهر القعدة اقترن المشتري والزهرة في برج الدلو، وكان المشتري المرتفع.
[192/أ] وفي هذا الشهر خرج المهدي من عيان إلى خيوان راجعاً إلى وطنه الغراس فما زال يترجل قليلاً قليلاً إلى أن وصل الروضة أول يوم بشهر الحجة.
وفي هذه الأيام ظهر مصنف في أصول الفقه سماه صاحبه (زبدة الأصول) لبهاء الدين العاملي الرافضي ، أبان فيها بجهله إظهار مشاركته وأصحابه الإمامية للعلماء، وهو بجهله متناقض عليه. فمن جهله ما ذكره فيها أن خبر الآحاد معمول به، ثم قال في زبدته هذه: وما لا ينتهي إلى المعصوم لا يكون خبراً عندنا، فانظر واعجب من هذا القول الذي لم يقم عليه برهان، لما علم منه البطلان، فإن المعصوم على زعمهم قد قبل رواية الحديث من غير المعصوم وقبل شهادته ويلزم المصنف لا يقبل شهادة غير المعصوم، وهو خلاف المعلوم، ويلزم أيضاً أن لا يحتاج إلى حديث يروى للمعصوم، بل يحتج بقول المعصوم مطلقاً على أصولهم الفاسدة، وهذه مناقضة لأقوالهم بأقوالهم، ويلزمه أيضاً امتناع الاجتهاد منهم؛ لأن الاجتهاد إنما هو للمعصوم فيما يحدث من المسائل لمنعهم لقول غيره، وإن قال بصحة الاجتهاد من أصول الإثني عشر وما جاء من طريقهم، فنقول: الأحق بالاجتهاد من أقوال الله في كتابه وسنة رسوله÷ أن يجتهد ويستخرج الحكم لا من أقوال المعصوم، ونحن نجد ذلك مبيناً ظاهراً مع تسليمكم للاجتهاد من الأصول، فعرفت بطلان أقوالهم. وهذا العاملي له أيضاً لشرح أربعين حديثاً أسندها من طرق الإثني عشر، وزعم أن المهدي المنتظر في مستتر[192/ب] ما قد ظهر، على قولهم الفاسد. وقد ترجم لهذا العاملي الخفاجي في كتابه (الريحانة) ورماه بالزندقة والإلحاد واعتقاد الرفضة، فلا يعتبر بقول العاملي، فإنه من المبتدعة، وما ذكره الخفاجي حقاً فإنه من أهل السنة. ورأيت للعاملي هذا المذكور الرافضي قصيدة ملحونة ضعيفة، تدل على أنه ليس له معرفة في علم العربية، والله أعلم.
وفي هذه الأيام ذكر الفقيه حسن بن محمد المغربي بصنعاء أنه لم يجد دليلاً متواتراً قطعياً في الحجة على إجماع أهل البيت غير آية التطهير على من احتج به في ذلك، وإجماع أهل البيت لا يقول به إلا الإمامية ومرادهم بأهل البيت الإثني عشر لا غير، كما عرف من قاعدتهم، وعند الزيدية جميع علمائهم، وبعض الزيدية وافق أهل السنة أنه ليس بحجة، وبعضهم قال: وإن كان حجة لكن أدلته ظنية، والمسألة مختلف فيها، وإنما الحجة إجماع الأمة مع ما فيه أيضاً من الكلام في كونه ظنياً، والله أعلم.
وفي هذه الأيام لما وقف أحمد بن الحسن على سيرة السيد أحمد الشرفي التي صنفها في سيرة الإمام القاسم وولده المؤيد، وذكر فيها قول الإمام المؤيد ببغي أحمد بن الحسن عليه أيام خروجه، وذكر كتبه ونصوصه، فتغير أحمد بن الحسن من ذلك وقال: هذه السيرة لا يلتفت إليها، فأمر السيد يحيى العباسي الشاعر أن يصنف سيرة أخرى تكون ألفاظها موافقاً للهوى، ففعل السيد يحيى العباسي العلوي ذلك على ما يهواه، وما اشتبه عليه، عرضه عليه وهو يكتبه بخطه، كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فوافق قلباً فارغاً فتمكنا
ولما وصل العباسي إلى وفاة المؤيد بالله وقيام صنوه أحمد بعده قال العباسي لأحمد بن الحسن: ما سبب عدم القيام بدعوة أحمد؟ وما عرفنا ما نكتب حال دعائه لكم، وترك ذكره بياضاً، فطلبها منه وكتب بخطه أن السبب أنه ادعى العصمة، وأن الولاة يكونوا مثله، وليس كذلك، وإنما السبب الذي عرف أنه وغيره من الرؤساء طلبوا ولايات، فلما لم تحصل منه وأجاب بتعذر مطلبهم لم يتم منهم له الإجابة.
وفي شهر القعدة منها أرسل السيد محمد بن علي الغرباني الساكن ببرط رسالة يقول فيها بعد الترجمة وذكر القاسم بن المؤيد وأحمد بن الحسن وأنهما غير كاملين بما عنده ما لفظه:
وكنت دعوت لما عليه من كمال نظامها فيّ، وعدم علمي أنه فيها وفيّ مع كثرة من المرجحات، ووفرة من المصححات، لما رأيت البدع قد حمت على الأبدان صروحاً، وزرَّت على البلدان مسوحاً، ولم يبد عالم في حَنْدسها شعاعاً، ولا بلَّ كاتب بمداد إنكارها يراعاً، بل عميت عليهم يومئذٍ، فهم لا يتساءلون، واشتد العمى على الأكثر منهم عن إنكارها يتهازلون، فدعوت رغباً في الفوز بدرجات السبق الفاخرة، وما أكرم الله به ذويه في الدنيا والآخرة، وترهباً من ظهور الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وتضييع: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} وقول أولي الأمر: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } وتصميمهم على تلك البدع وهم يحسبون أنهم مهتدون، وكان كثير من الأنام من العلماء والعوام متوقفاً في صحة إمامتي، متردداً في شمول زعامتي، توهماً لسبق دعوته، ويستمد من المجد لذروته ولم يدر أن دعوتي العادية ضبحاً، المورية قدحاً، المغيرة صبحاً، المثيرة نقعاً، الواسطة جمعاً، السابقة قطعاً، إذ دعوتهما إلى الرضا من[193/ب] آل محمد، ودعوتي إلى نفسي لم تتردد، كما مر جوابه عن نفوسهم، وبعثوا به إلى الآفاق في طروسهم ، فدعوتي خاصة لي بعيني، ودعوتهم مردودة بينهم وبيني، فقد شاركتهم إلى غير المعين، واختصصت بسبق الدعوة إلى من يعين، وهل يختص بالسبق من أنا بشريكه فيه؟ أو يدعي مدع خلاف ما حذر عن فيه! كيف وأنا مدع إلى التفرد باسم الرضا! والمحكوم له في الكتاب والسنة بذلك القضاء، ومن شك في كمال الخلال خلال الكمال فيا لله قل له ليختبرني فيما أراد، فأما أهان الفتى أو أجله، فهذا الحصان يلوك العنان ، وهاك الرهان وهات التعلى، فلست بأمعة في الرجال بسائل هذا وذا إن يدله، ولا أجد
لي في الله لومة لائم، ولا مداهن للأجله، إلى أن قال: والإمامة إنما جعل مناطها التقوى، وشرطها السوي: العلم.
الثاني أوضحه الكتاب أنه الشرط الثاني قصد به الألباب فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} والآن جددت الدعوة التي لم تبلى إلى العباد ورددت {يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } {وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِي ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ الله مِنْ عَاصِمٍ[194/أ] وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} ثم قال:
فليعلم كل من بلغته هذه الرسالة، وبرق بصره في هذه المقالة، من أهل العلم والجهل، وسكان الجبل والسهل، إني لا أعذر أحداً من الأنام، من العلماء والعوام ممن صححت لديه إماماً، أو صحت عنده باغياً ظلاماً، عما لا يشك في وجوبه عليه من كان عاقلاً، ولا يمترين في العقاب على تضييعه وإن كان جاهلاً، من الراوي ومنازعي الحوض الروي، الذي لا يظمي وراده، والمرعي المرى الذي لا يطوى رواده، من بين يديه تنزيل من حكيم حميد، وسنة رسوله المروية عن كل ضابط من سند الذين أوجب الله إليها الرجوع عند النزاع، وجعله شرطاً لإيمان به تنزيلاً، فقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول ِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فمن تولى منا عن تحكيم الكتاب والسنة رد إليه، ومن أبى قضائه حل القسر عليه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِْنجِيلَ [194/ب] وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وإني داع إلى المحاكمة إلى كتاب الله، مستعين بكم يا جميع خلق الله، منقاد لحكم الله بأضعف الشعر، مضمن في إمضائه على من أريد من البشر ولا يقال: هذه كلمة حق أريد بها باطل، إذ أنا عن المال والقوه بغير الله عاطل، وإني أنشدكم الله الذي خلقكم وسوى، وألهمكم سبل الفجور والتقوى هل أكون باغياً وأنا أدعو إلى تحكيم كتاب الله؟، وهل يحل لكم تردوا الشارد حتى يفيء إلى حكم
الله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } . هذا مضمونها وأكثرها بلفظها، وقال: حررت يوم الإثنين لتسع خلت من شوال سنة ثمان وثمانين وألف ، ثم عقب ذلك بقصيدة مستهلها قوله:
أحمد ربي المهيمن القاهر
ذي النعم الغر والسنا الزاهر
أيها الناس فاسمعوا ثنائي
سماع خاشٍ لربه حاذر
ها قد دعا خمسة وكلهم
قد ادعى أن سهمه العامر
يا أكثرهم جاعل المكوس له
ديناً لديه مضيعها خاسر
يمكس في السوق والطريق جميـ
ـع الناس من مؤمن ومن فاجر
فالجل قدفاً عن تقدمه
ويؤا لوفر ذروة الفاطر
وقلدوا الأمر منهم رجلاً
من دون رُب حاجب باسر
مستأثر مؤثراً لأسرته
كأنما مال ربه هادر
وليس في العلم راسخاً قدماً
إلا أماني يقرح الخاطر
مقسم للبلاد بين ذوي
قرباه كل بقسمه حاجر
أكثرهم جاهل ولايته
خيانة للإله الحاشر
مع ما فيها من الإزحاف وعدم الفصاحة، وقد جعلها ساكنة القافية، وإلا فكان فيها لحن ظاهر، والإنزحاف في قوله: يا أيها الناس، صوابه: أيها الناس، وقوله: اسمعوا ثنائي ،الثناء إنما هو المدح في اللغة العربية والوصف الحسن، وهو قد جعله للشتم والذم.
[195/أ] وساق في القصيدة، وذكر أن هذه الدولة كدولة كسرى وقيصر، ثم بعد ذلك ذكر في هذه القصيدة الثناء على نفسه بالكمال، والصفات المرتضاة في الرجال، وأن غيره في حيز الإهمال، وإنما تشدده لإنشاء هذه الرسالة، والتفوه بهذه المقالة ما ظهر له من عزم أحمد بن الحسن على ترك القصد إليه، وأنه قد صار يريد التعريج والارتحال من حدود تلك البلاد التي لديه، فأمن ذلك الجناب، وجدد الدعوة ومد في الخطاب، واعتقد في هذه الدولة ومن معهم البغي والعناد، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولكنها شنشنة في البلاد اليمنية معتادة، وأحوال الملك لمن أراده من يحط لجانب من خالفه وتزكية نفسه ومن أجابه، والدنيا لو عرفها الإنسان غرارة، والدخول في تكاليفها لا يكمل بها العبد الضعيف ولا يتم له فيها مراده، ولو عرف معنى قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِْنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} لكان عند ذلك يعرف عجزه عن الوفاء بها ولو عرف بقوله تعالى[195/ب]: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} لكان ذلك رادعاً له عن مدح نفسه وتزكيته، ولو عرف بمعنى قوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَْرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ } وقوله تعالى: {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } وغير ذلك من الآيات القرآنية والسنة النبوية التي يضيق ذكرها هنا؛ لأن هذا تاريخ لا يراد فيه إلاَّ الأخبار، لا المحاججة والجدال، على أن قوله واحتجاجه بقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ }
خطأ فاحش من هذا السيد وجهل منه رابش ، لأن الآية لا يجوز لأحد من البشر أن يحتج بها؛ لأنها في سبب خاص، إذ هي في سياق قوله تعالى:{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فالهادي الله تعالى لا غيره من هذا العالم المخلوق، فليس إليه هدىً أصلاً إنما الهادي الله تعالى، وكذلك في تلاوته لقوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِْنجِيلَ} فهو خطاب من الله تعالى إلى اليهود والنصارى، ومن لم يعرف بدلائل الخطابات، كيف يدعي الإمامات! فأين وغيرك من هؤلاء الدعاة أيها السيد بمعزل عن شروط الإمامة الصحيحة. وأما طعنك في أحمد بن الحسن فهو قد قام أميراً محتسباً، وجمع كلمة المسلمين، وصلح بسببه كلمة المسلمين، وزالت الفتنة التي كانت ثائرة[196/أ]. وبعث السيد محمد الغرباني هذا بتلك القصيدة الأولة إلى بعض الجهات، ويحثُ على الدعا للناس إلى الإجابة له مع تطلبات، وأن الهجرة إلى حضرته كالواجبة على زعمه والقيام بنصرته، وفيها بعض تحويل للقصيدة السابقة، وذم فيها دولة أحمد بن الحسن وولاته وأتباعه، وهو لم يشعر أن هجرته التي هو فيها مما يجب بالإجماع الهجرة عنه؛ لأن فيها أحكام الطاغوت ظاهرة شاهرة، والشريعة فيها إنما هي لمن شاء من أهلها على سبيل المراضاة لا القهرية، ولا الأخذ من الحاكم إن وجد فيها عليهم باليد القوية، فالعقود بينهم على هذه الصفة لا تحل؛ لأن أحكام الطاغوت كفرية، بنص الله تعالى في كتابه العزيز، حيث قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } ونحوها من الآيات الكريمة في الطاغوت، والصفات الذميمة هذا حيث كان دعاك إلى الهجرة
أيها السيد لغيرك، فأنت المدعو لها المخاطب بها إن كنت تعرف وتعقل، مع ما في التفريق بين المسلمين من المخالفة لنهي رب العالمين، ولكن الأمر كما قال الشاعر :
لهوى النفوس سريرة لا تعلم
وفيها بعض القضاة من بني العنسي تراهم يتدينون وينكرون على غيرهم بزعمهم وهم[196/ب] المستنكر عليهم بقعودهم في بلاد تجب الهجرة عنها، فإن بلاد برط وسفيان التي صاروا فيها يحكم فيها بالطاغوت على رؤوس الملأ لا ينكر ذلك أحد ويقطعون السبيل، وقد ذكرت لبعضهم ذلك، فقال: ما يكره تركه لها إلا أن له منها زكاة تصرف إليه، فانظر كيف آثر الدنيا على الدين! فلا قوة إلا بالله، وأمثلهم قال: لما اعترضته إن محلته وجيرانه شارط عليهم أن لا يحكم أحد منهم بالطاغوت في بلده، ولكنهم يحكمون به في غير حوطته، وهذا غير مصوغ له في التخلص من العذر في ذلك، كما لا يخفى.
ولما كثر منهم هذه السنين النهب وأذية المسلمين ابتلاهم الله بالقحط والجوع، حتى خلت أكثر بلادهم وطاسوا في الأرض، وأما طعن السيد في أحمد بن الحسن، فأحمد بن الحسن قام أميراً محتسباً، وإن كان عند نفسه إماماً، وأما شروط الإمامة فهي في الجميع غير حاصلة، والملك لله يؤتيه من يشاء وأهل اليمن هم كثير في الاختلاف والدعاوي، فلعل هذه لكون يده قوية في مصلحة صدم أولئك، وحسم شجارهم واختلافهم[197/أ]، ووجدنا الدلائل القرآنية، والسنة النبوية دالة على أن مقصود الشارع حسم الهرج والفتنة، والسعي في إصلاح الأمة، وفي الخروج بعد هذا الاستقرار ما لا يخفى من الهرج والتهييج للفتنة والأشرار، وكل أحد ممن يخاف الله ويتقيه يتورع عن إشعال نار الفتنة ولا يبتغيه، ففي الحديث عن النبي÷: ((الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها))، ثم إنا رأينا في الجفر المنقول عن الإمام علي ذكر أحمد بن الحسن بإسمه، بعد موت عمه بحروفه في مختصر بعض المطالب من جفر الإمام علي بن أبي طالب، الذي أخرجه الشيخ طاهر المغربي لوالده الحسن بن القاسم، ورأينا أيضاً في جفر آخر الذي فيه الملاحم لمحمد بن سالم يذكر فيه صفة إسماعيل بن القاسم ثم محمد بعده خادمه الملك بن الحسن، حيث قال ما لفظه: المائة الحادية عشر يظهر فيها الظلم، ويبطل فيها الشرع، فتصير الأرض هملاً كأيام الفترة، ولا تجود السماء يومئذٍ بقطرة، وفيها يظهر الإمام الرحيم صاحب القلب السليم فينفي الغين، وينهى عن كل شين، وبعده سبطه القوام المعروف بالإمام، يعاديه أقاربه، ويحبه وزيره وصاحبه، وبعده خادمه المنسوب إلى الحاء وهو الملك الزاهر، فيقرر المقررات ويعود العوائد.
وفي سنة 93 يظهر الخراب، ويمزق الكتاب، والله أعلم بالصواب إلى آخر ما ذكره، فقد أفادك ذكر الإمام القاسم ظهوره وقلة المطر في هذه المائة وكثرة القحوط، وهو كذلك وبعد سبطه أي ولده، وهو إسماعيل تطول مدته، وتمكن بسطته وأسقط المؤيد وبعده خادمه، هو أحمد بن الحسن المذكور خادمه، ومناصره والقائم بدعوته وأوامره في أيامه، وهو ملك كما وصف، فبعد ذكره في الجفر، لا يمكن أن يتم لأحد معارضته أصلاً، وهو ملك من الملوك أعطاه الله ذلك كما أعطى غيره قبله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ } والله يصلح المسلمين. ويقال للسيد محمد: أما يكفيك ما قد جرى بين المهدي أحمد بن الحسن والسيد قاسم بن المؤيد من الفتنة العظيمة؟ وطول المكاتبة بينهما، والمناظرة! وإرسال الحكام لقصد جمع الكلمة! فلم يحصل بين الرجلين تسليم الآخر، حتى وقع بينهما التناحر، وكان المحكم بينهما السيف الذي جرى! ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ، ولم يكن للأقلام بينهما جدوى، وقد سكنت الأمور بعد ما جرى، فما الفائدة في رد الفتنة جذعاً، أما تعتبر أيها السيد إلى ما مضى، وتقول على الدنيا العفا؟! وأن الملك لله تعالى يؤتيه من يشاء.
وحيث قد تم إعراض المذكور عنك، فذاك عُدَه أعظم غنيمة واسكن كما سكنت في المدة السابقة [197/ب] في مدة المتوكل، إن كنت تحب تأثير المصلحة.
ولو رجع السيد إلى داره وبين أهله وأرحامه، وخمل وسار سيرة أمثاله، لكان هو الأولى له من تجشم المهالك، وقد جرى عليه قلمه بجوابه، وهو لا يشعر في قوله: وكنت دعوت لما علمته من كمال نظامها فيّ، وعدم علمي أنه فيهما وفيّ، فنقض قوله لفظه كما ترى؛ لأن المعطوف حكمه حكم المعطوف عليه في الخطابات اللغوية، فإنه نفى بقوله: وعدم علمي أنه فيها وفيّ، أي وعدم علمه أنها فيه أي الإمامة بعد أن أثبت أولاً، فناقض كلامه، وجرى في نقضه عليه أقلامه، مع أنه كان في هذه الرسالة التي بعثها إلى الحكام بعضها يقول في مستهلها وفي كتاب عنوانها إلى من صدرها، أنه بعد وصول كتابكم إلينا، كما رأيته في كتاب صدره إلينا، ولم نكتب إليه بكتاب، ولم نذكر في شفة ولا خطاب، فتعمد الكذب مما يقدح في قائله وينقض ما يدعيه من كماله، ودعوى الكمال خطأ في أحوال هذا العالم، لا يجوز لأحد التفوه به؛ لأن القدر لا يفي به، ولا يتم لأحد دعواه، ولا يطيق له ولا يحواه، فإن المتفرد بالكمال إنما هو الله تعالى الذي لا شريك له، فأما هذا البشر المخلوق فهو ناقص على كل حال والله يبصرنا بعيوب أنفسنا ويغفر لنا.
وفي هذه الأيام خرج محمد بن أحمد من عمران، فصعق عند حال خروجهم في أبي سعيد مطر فهلك هو وحصانه جميعاً.
وفي نصف شهر القعدة وصل علي بن المتوكل وصنوه حسين من ذمار إلى صنعاء وسكنا عند صنوهما محمد فخطب صاحب المدينة[198/أ] إلى آخر شهر الحجة، وعادا إلى بلادهما. وكان أصحابهم قد استدانوا من العمانين بالمدينة حول ثلاث مائة حرف، فلما سار صاحب أمرهم لحقوه، فلحقهم الغرماء، فمنعوا عن التسليم لهم، وضربوا بعضهم على القاعدة التي ألفوها باليمن الأسفل، لعدم الضبط عليهم من أميرهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي هذه المدة رحل من شهارة الحِلل التي كانت فيها ساكنة من مدة الإمام القاسم وولده المؤيد بالله من أول الفتنة لما تقاصرت أحوالهم، وتقاللت مقرراتهم فاضطروا بالعود إلى بلدانهم، واستقروا حيث كانوا قبل، وسكنوا بأوطانهم، وقر فيها قرارهم كما قال الشاعر، وهو ابن المقرب:
ولكنها الأيام تبعد تارة
وتدني ولا بعد يدوم ولا قرب
وكان ذلك أول تغير على أهل شهارة من حالهم ووضع عليهم من افتخاراتهم، والتعاظم على غيرهم واستخفافهم بالمسلمين، واستحقارهم، وسوء الظن بهم، والعُجب قد نهى الله عنه، وتزكية النفوس، كما قال الله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} وكانوا يعتقدون أن الأمر كله ينتشر من شهارة، وأن القائم فيها هو الغالب لكل غارة، ولم يعرفوا أن أمورهم منهارة، ولله قول الشاعر، حيث يقول:
هي الدنيا تقول بملء فيها
حذار حذار من بطشي وفتكي
ولا يغرركم مني ابتسامٌ
فقولي مضحك والفعل يبكي
ثم بعد هذا بأيام تبع الضرر سائر أهل شهارة، من الفقهاء والسادة، فوصلوا إلى صنعاء في غاية الحاجة، وبعضهم خرج عن شهارة، وتمزقوا كأيدي سبأ[198/ب] وملك عليهم من هو عندهم غير موافق لهواهم، ليعلموا أن الأمر لله لا لهم ((قل اللهم مالك الملك )).
وفي شهر القعدة سار علي بن أحمد صاحب صعدة إلى بلاد رازح، والعسكر يقبضون منهم المطالب، ويجرون عليهم ما كان عليهم من المراتب، فمنعوهم عن تنفيذ ما طلبوه، ولم يمتثلوا لما أمروه، وقالوا: لا نسلم إلى صاحب صعدة، ولا نرضى أحداً يأتي إلينا من عنده. وقال خولان: خطوطه عليه شاهدة برفع مطالبنا، وما وضعه لنا، فلم يقررهم أصحاب[199/أ] علي وقالوا: لا بد من التسليم منكم، لما به أمرتم، فقالوا: هذا السيف بيننا وبينكم، فاقتتلوا وراح من الجانبين نفوساً، وردوا أصحاب علي يؤوساً، فلما أن بلغ علي قصدهم، ودخل قلعة رازح. وعيال المتوكل إسماعيل بن القاسم قد كان استراحوا بهذا الصد منهم، والمنع لهم، لما في نفوسهم وقالوا: تلك البلاد لحسن صنوهم، والمهدي أحمد قالوا: ما كان ينبغي منه تخلية علي يتولاهم، ولكل منهم هوى والميل لمحبة الرياسة من الجميع، والمنافسة في هذه الدنيا وهو عين المحق عليهم، مع اختلاف نياتهم، فإن نيات الملوك مؤثرة في رعاياهم وبسببها يعود المحق عليهم.
وفي أول يوم شهر الحجة رحل أحمد بن الحسن من قاع الرقّة إلى الروضة، وكان قد لقاه صاحب صنعاء محمد بن المتوكل وغيره اليوم الأول إلى الرقة، وعادوا بيومهم، وأحمد بن الحسن دخل صنعاء من الروضة من باب السبحة مجرداً ، بُعَيد شروق الشمس.
[199/ب] وفي شهر الحجة العشر الأولة انتهبت دهمة من برط بعض حمولة خارجة من صعدة يقال: ستة أحمال، وغزوا إلى الجوف، أطراف بلاد معين، انتهبوا على أهلها إبلاً، قيل: وذلك بأمر السيد الغرباني إمامهم، فهو الذي أفتاهم بذلك وأغراهم، ولا يخفى ما في السعي لانتهاب أموال المسلمين والمساكين من الأمر العظيم، فلا قوة إلا بالله.
وفي شهر القعدة مات السيد حسن الحرة، صاحب عدن.
وفي هذا الشهر طلعت القمر ليلة سابع عشر من الشهر حمراء، ظن كثير من العامة أنها خاسفة، فالحكمة لله تعالى.
وفي هذه الأيام ظهرت زلازل في بلاد ريمة وأصاب وقعار وحراز، لم تظهر في غير هذه الجهة، فالحكمة لله تعالى.
وكتب القاضي محمد بن علي قيس إلى صاحبه قاسم صاحب شهارة رسالة يعظه وينهاه عن الجور في بلاد الشرف، لما استفاض الجور فيها مما تضرر منه أهلها، وهذا من عجائب أحوال الزمان، فإن القاضي كان قد بايعه ومال إليه وغلا فيه وشهد بإمامته، ثم شاهد بعد ذلك ما شاهد من الخلل والجور الذي هو رأس الإمامة في القول والعمل. وزال بسبب ذلك مع أهل تلك البلاد بعض الاعتقادات في السيد قاسم الأولة، وزال بما رأوه من الذي نالهم منه العقائد الماضية.
وأحمد بن الحسن لما بلغه ما جرى من آل دُمَيْنة من برط من النهب للقافلة من العمشية تغير خاطره، وبعث إليهم برسالة يتوعدهم فيها.
[200/أ] وفي هذه المدة قد كان تقالل السرق بصنعاء من السُرَّاق، ثم تحرك، فسُرق حانوت في السوق، ثم بعده ثلاثة بيوت، فتربص الحراس بصنعاء إلى دخول السَّرَق بيتاً، ثم أجمعوا عليه من خارجه مع زيادة من العسكر، فحازوه حتى لم يتمكن السراق من الهرب، فسلموا أنفسهم وطلبوا الأمان، فوجدوا اثني عشرة رجلاً عشرة من الحراس واثنين من السرق الذين يقال لهم بنو الرعدي من بني قرمان من سنحان. وقد تكرر منهم السرق، فحبسهم والي المدينة، ولم يقم عليهم الحد فيما قد سرقوه، وكان هو الواجب شرعاً عليه فيما فعلوه.
وفي غرة شهر الحجة وصل الخبر إلى صنعاء بالأمر العظيم الجاري بالمسجد الحرام كعبة الإسلام، ومحل الأمن والإحسان، والقبلة التي فرضها الله على الأنام، وذلك أنها أصبحت في بعض تلك الأيام وإذا في جدرانها وبابها الشريف وأركانها ومطافها وزمزم ومقام إبراهيم وسائر المقامات للحنفي والشافعي تلطيخ النجاسة، التي نزهها الله عنها وشرفها وطهرها من الوسخ والغائط، فلما أشرف الصباح وظهر ما فيها من تلطيخ تلك الأوساخ، حملت الحمية العينة التي فيها من العسكر الإنجشارية وقتلوا فيها قدر ستة أنفار وجدوهم فيها من طائفة العجم، وحصل فيها بعد ظهور القتل من أهل مكة الخوف والاحتياز بالبيوت، فأغار سائر أصحاب الشريف، وبلغ الخبر إلى جدة، فأغار أميرها إليها. وكان إذ ذاك الشريف بركات متولي مكة غائباً في بلاد نجد، فلما بلغه ذلك الخبر بعد حصول ذلك الواقع وصل إليها وقد انصرم ذلك الأمر الذي جرى فيها، فسكَّنوا فيها الأمر وأَمَّنوا طوائف العجم الذين بها من الإثني عشرية، ولم يعرف بحقيقة الفاعل بذلك الأمر، فمنهم من يقول: من القرامطة[200/ب] ومنهم من يقول: لعله من اليهود، ومنهم من يقول: من النصارى. وأما العسكر فقالوا: هم العجم، وهو يبعد ذلك منهم، لأنهم من المسلمين ما يفعل ذلك إلا من كان من الكافرين، وإن فعل ذلك أحد من المسلمين فقد كفر به وخرج عن الإسلام بعمله.
وعلى الجملة فإن ذلك الأمر عظيم، وفعل جسيم، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما قد جرى مثله، ولا اتفق فعله، والسلطان إذا بلغه ذلك يتغير منه، وكل مسلم من المسلمين، ومن يتق الله رب العالمين.
إلا أن الراوي روى أن هؤلاء الذين وجدوا صبح ذلك اليوم الذي ظهر فيه الحادث في المسجد ستة نفر من الرافضة العجم، فأخرجوهم إلى باب العمرة وقتلوهم فقد يمكن أنهم الفعلة فإن القرامطة أحد فرق الرافضة، ويظهرون الإسلام في الجملة، وأصلهم من طوائف العجم أو من غيرهم، والله أعلم بحقيقة حالهم، فقد روى بعضهم أنهم وجدوا هؤلاء الرافضة الذين قتلوهم في أيديهم أثار القذر.
ويحتمل أن يكون الفاعل من النصارى، فأما اليهود فهم كما قال الله تعالى:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } ولأنهم يعظمون البيت الحرام في كتبهم؛ ولأن النصارى من الفرنج قد دوخهم السلطان ودمغهم بأخذ مالطة، وهي قاهرة لبلادهم وكسر ثائرتهم وشوكتهم وقتلهم وشردهم، لم يبق لهم قدرة على شيء من النكاية للإسلام. وقيل: إن السلطان كسر صليبهم في بلادهم، ففعلوا هذا لأجل ذلك، نكاية للإسلام.
ثم بلغ مع بعض الحجاج في السنة الثانية أن الفاعلين لذلك من النصارى، وظفر بهم في المغرب الجوان لما تحدثوا هنالك بما فعلوه، فقتلوا، والله أعلم.
واليهود في اليمن هذه الأيام صاروا في حيص بيص من أمر المهدي أحمد بن الحسن بإخراجهم من اليمن، مع ضعفهم والشدة والقحط العام بالمسلمين وبهم، والأمر بإخراب كنيستهم بصنعاء، فصار محمد بن المتوكل يراجع عليهم، والرجل مصرٌّ في شأنهم، واعتل بأن المتوكل قد كان يريد ذلك فيهم مع فتوى أحمد بن صالح بن أبي الرجال، والتحريض منه بنفيهم، وكذلك يحيى بن الحسين بن المؤيد بالله.
وفي هذه السنة اعترض المهدي أحمد بن الحسن بعض الفقهاء في التمشية وقال: لو كان واجهت في مصالح المسلمين وقضيت الغرض كان أقدم، فهز رمحه عليه [201/أ]وقال: هذا جوابك، فسكت الفقيه، والتمشية لا تنافي المصلحة مع إبلاغ الجهد في القيام بأحوال الناس.
وفي آخر شهر الحجة خرجت قافلة من بلاد حيدان، الطريق الغربية في العمشية، وفيها طعام وغيره قدر أربعين حملاً، فلما وصلت إلى حدود بلاد عذر قاصدين طريق الهجر انتهبها قبائل سفيان والعصيمات.
وفي هذه الأيام اعتذر يحيى بن حسين بن المؤيد بالله محمد بن القاسم بن محمد بن علي عن ولاية بلاد يريم، وقال: إنها ما قامت به وخدمه وأهل بيته وأصحابه، وأن فيها مقررات كثيرة، ثم لم يلبث إلا نحو أربعة أشهر ورجع إلى طلبها من المهدي، وشرط على المهدي ترك التحويلات والطوارئ من أهل المطالب، وإسقاط بعض المقررات، فساعده إلى مطلبه وأرجع ولايتها له، بعد أن كان المذكور حلف الأيمان لا تولاها، وحلف بطلاق زوجاته وإعتاق عبيده كما رواه الرواة عنه، واقتصر في هذه الولاية الثانية على خواصه. ولم يرجع العسكر الذي قد كان في الولاية الأولة جمعه، وكان يجتنب صلاة الجمعة في صنعاء، ويخرج إلى الجراف أو نحوه يتغافل عنها؛ لئلا يحضرها، ثم حضرها بعد هذه الولاية الآخرة .
ودخلت سنة تسع وثمانين وألف
استهلت بالثلاثاء، والأسعار في الشدة والغلاء: القدح الحنطة بسبعة حروف، والذرة بخمسة، والشعير بأربعة[201/ب] والشبكة التبن بسبعة، والرطل السمن بستين بقشة، واستوى هذا السعر في جميع اليمن، إلا أنه قد ينقص حرفاً ويرجع إليه.
ووصل بعض شيء من الطعام من بلاد الحبشة، لما بلغهم الغلاء، فدخل إلى اللحية وغيرها واستمر هذا السعر إلى آخر هذه السنة، إلا أنه استقر من بعد على الثلاثة الحروف للشعير، والذرة إلى أربعة، والبر إلى خمسة؛ وسبب ذلك قلة أمطار الخريف، فكانت ثمرة الصراب ضعيفة.
وفي خامس هذا الشهر وصلت كتب الحجاج إلى اليمن يخبرون بأن الحج كان مباركاً، وأن السعر الكيلة المكية بعشرة كبار مصري، والخارج من الشام ومصر والعراق العادة، والشامي أقوى من المصري والعراقي. وخرجت أوامر من السلطان إلى الشريف بركات أنه يخرج من مكة، ويكون استقراره بالحجاز؛ لأجل قبائل عنزة، فخرج عن مكة بعد أن أراد الاعتذار، فلم يعذره، وأخرج أهله وحريمه وخزائنه وأكثر عساكره، وجاء الخبر بعد ذلك بأن الزوار وافقوهم في المدينة، وحصل مع الشريف أوهام من ذلك الأمر بالخروج من مكة، وإن كان ظاهره لإصلاح الطرق، لكنه كان العادة لوالي مكة الاستقرار بها، ويكفيه غيره في تلك الجهة.
وجاء خبر وفاة الوزير الأعظم للسلطان بالروم وأقيم آخر في مقامه، ولما بلغ محمد بن سليمان الذي كان انتصب بمكة بتصريف المقررات، وكان المولي له ذلك الوزير خرج عنها إلى المدينة النبوية، ولعله يرجع بلاده، إذ هو من بلاد فاس بالغرب الجوان، وهو من أهل العلم والعرفان.
وفي هذا الشهر طلع السيد جعفر بن مطهر الجرموزي متولي العدين، واطلع معه حمولة للمهدي قريب ثمانين حملاً، وطلع في أثره جماعة من مشائخ العدين يشكون على المهدي من كثرة المطالب، فاستبقى المهدي جعفر عنده وزلجهم.
واشتد الغلاء في الأسعار والقحط في بلاد عمان لأجل الجراد، وضعف الثمار.
وفي آخر نهار السبت سادس وعشرين شهر محرم عند الغروب توفي بدر الدين الأمير محمد بن أحمد بن القاسم بوطنه ومحل ولايته الروضة، قبلي صنعاء، ودفن بها عند جامعها الذي من مآثر والده . وكان علته ورم برأسه وقروح ظهرت بوجهه، وكان ابتداء علته من الطريق حال رجوعه مع المهدي من الجهات الشامية، وكان دخوله صنعاء[202/أ] عقب وصوله تكلفاً منه، ثم لما عاد إلى الروضة انقطع مريضاً، وأقعد في داره أليماً، وانطفئ ملكه، وتحول أمره، بعد أن كان لهجاً في الولاية، وطامعاً في الزيادة، لما كان معه من البلاد الأولة، لتمكين الرياسة، فغلبت عليه الأقدار ولم يظفر من مقصده إلا بمخالفة إرادته، فإنه كان طالب أحمد بن الحسن أول إمرته وقيامه في ولاية حجة، فوضع له ولاية، واستراح بذلك بعض الاستراحة، وحسب أن ذلك هو البغية المقصودة، والحاجة المطالب فيها المرغوبة، وموانع الأقدار تعمل في عدم الهناء بذلك الذي صار. وأول حاسد له ومعاند أخوه عبد الله بن أحمد بن القاسم الذي من جهة صعدة، فإنه لما عانده أخوه علي بن أحمد وغلبه على أمره واستضعفه ومنعه أيس عن ولاية في الشام، ولم يبق له طوالع الأمل إلا فيما كان قد عرفه من حال قيامه مع صاحب شهارة وصهارته له. وكان صاحب شهارة تلك الأيام قد بعثه في مقادمته رئيساً إلى حورة بحجة، فلما انعكست على قاسم أموره، ولم يتم لها مقصوده، كما سبق ذكره، وصل عبد الله بن أحمد مواجهاً[202/ب] إلى المهدي بعد فتحه لشهارة كما تقدم إلى ذكره الإشارة. وكان قد نظر إلى حجة، وعرفها هذه المدة، مع تهالكه في الولاية والرياسة، فما زال يعمل الحيلة والتزويف للمهدي في أن يبعثه إلى عمل في حجة، فاتفق من المقدور أن ساعده أحمد بن الحسن المهدي على العزم إلى تلك الجهة، وأنه يمنع صنوه محمد بن أحمد عن إمتداد اليد، لا يكون له منها إلا ما عينه، وقيل: بل محمد بن
المتوكل عرَّف أحمد بن الحسن في أن عبد الله بن أحمد تصلح ولايته لحجة ونظره على بعض منها لكون محمد بن أحمد استأصلها، ولا يدفعه إلا مثل ذلك الرجل كونه أخاه. وقيل: إن المهدي انثنى عن ولايتها لمحمد بن أحمد، وأن هذا صنوه أرسله مناصباً له، ومانعاً من تصرفه فيها، فأول ما جرى من المذكور وقد معه من الظفر والسرور، بالطمع في ولاية ذلك المخلاف المشهور أن قبل صاحب الدفعة لما سار بها إلى جهة محمد بن أحمد، ولم يتبع أمره، وأخذها عليه قبله، واستقر بمبين، واسترسل في الآداب وجرت اليد على الرعية، واليد القوية، فأوجسوا منه خيفة، وقالوا: هذا بلية، لما كانوا آلفين من السادة بني جحاف من البرارة، والمسايرة لهم على الصفة المعقولة، العادة الجارية معهم المقبولة[203/أ]فكان المذكور كذلك في تلك الجهة منهم يقول: إنه متولي، ومنهم من يقول: هو مأمور بأوامر، وأن الولاية باقية لابن جحاف، وهو الثابت، ولكنه زاحمه المذكور في سياسات البلاد والمشكى والآداب، فصارت بلاد حجة متشاجر فيها بين المذكور وبين واليها، وبعض إلى محمد بن أحمد منهارة أعمالها، مختلف أحوالها، متضرر من ذلك أهلها. وأحمد بن الحسن قد كرر الطلب لعبد الله بن أحمد المذكور وصار يواعده ويماطله.
وكان تحويل السنة الشمسية بدخول الشمس أول درجة الحمل في تاسع وعشرين شهر محرم، والمريخ والمشتري في برج الحوت، وزحل في الجوزاء، والزهرة وعطارد في الحمل، وكذا القمر.
وفي هذه الأيام بآخر شهر محرم انتهب في العمشية بعض القافلة الخارجة من صعدة، وتركوا الحديد والجلود، واشتغلوا بالحاصل والنقود، وهاجت تلك القبائل بين صعدة وشهارة من دهمي وسفياني وعصيمي، حتى حصل التخطف في البطنات وأطراف بلاد عذر وحول حصن شهارة، لمن يختلف إليها وفي طرقها من المارة.
وفي نصف صفرها وقع مطر جود على جبل نقم، فنزل سيل عظيم إلى شعوب، من وادي فروة ، فعمه جميعاً، ودفن غيل الروضة القديم الذي يخرج من الصفاء، ودفن سائر الغيول، وخرب في شعوب بعض بيوته التي[203/ب] في الحافة مما لا يعتاد خرابه، وكان هذا بفصل الصيف، وصلح بسببه ثمرة الذرة في جميع اليمن، وشرع السعر ينحط، بعد أن كان قد بلغ القدح أربعة حروف.
وفي هذا الشهر حصل شجار بين أهل الديون وبين التجار، لما طالبهم أهلها امتنعوا عنها بسبب فتوى أحمد بن الحسن لهم بإنظارهم إلى ثمارهم وغلاتهم، وأدب المهدي المطالبين من التجار، وأجبرهم على الانتظار، وأمر القضاة بأنهم يحكمون بذلك عليهم، ويجرونه فيهم. وكان القاضي محمد بن علي قيس من الجارين على قول العلماء الماضين من وجوب التسليم مع المطالبة للميسرين، وأن النظار إنما هو للفقراء المعسرين، فأمر ببيع العروض مما كان حاضراً للغريم، إما شراه الغريم أو شرى شيئاً من مال المدين بالتقويم، أو باعه في ذلك اللازم من الدين، فتحامق عليه المهدي أحمد بن الحسن وطلبه إلى صنعاء. وكان القاضي قد أرسل إليه برسالة فيها حجج العلماء، مثل الحديث الذي[204/أ] رواه الحاكم والدار قطني والبيهقي عن أبي بن كعب بن مالك أن النبي÷: ((حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه)) ونحوه. فكان جواب المهدي: أنه أرسل عليه وعذره عن القضاء، وهذه مسألة ما أحد قد قال بها قبل هذا المذكور، واستنكر ذلك جميع علماء عصره، إلا إن الرجل ملك يريد إمرار قوله كيفما كان، وبعض من لا معرفة معه من الفقهاء قال: إن السبب نزول الآية كما ذكر الواحدي يقضي بقول المهدي، فإنه قال عن الكلبي ، وهو محمد بن السائب الكلبي بعد نزول آية الربا، قالت بنو عمروا بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا ولكم الربا ندعه لكم، فقالت بنو المغيرة: نحن اليوم أهل عسرة، فأخروا لنا إلى أن ندرك الثمرة فأبوا أن يؤخروها،
فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } فالرواي الكلبي، وهو ضعيف الرواية، ثم إنه مخالف لما رواه غيره، فإنه روى السيوطي في تفسيره عن كثير من المفسرين والحفاظ أنها نزلت في الربا، ولم يذكر مثل قول الكلبي أصلاً، ثم إن العُسْرة في اللغة: الفقر، والقرآن عربي، فكيف يصح قول الكلبي مع مخالفة العربية؟ ثم فعل النبي÷ ببيعه في مال معاذ لدينه وغير ذلك من الدلائل. ثم إن قد روى بعض العلماء أن هذه المسألة إجماعية أن من معه عروضاً أو عقاراً وجب تسليمها في الدين مع المطالبة بثمن مثلها، كما ذكره النووي في منهاجه وغيره، وقد روى الإجماع صاحب البحر .
وفي الحديث عنه÷ كما في الصحيحين: ((مطل الغني ظلم )) . ولهذا الاشتباه مع المهدي أحمد بن الحسن[204/ب] كان أصل الشبهة معه في مطل الديون التي في ذمته لكثير من المسلمين، فكم في ذمته لهم وكم وكم!، وكانوا يشكون على مخدومه المتوكل إسماعيل، فلم يقدر أن يؤثر فيه بأمره له، فاجتمعت عليه ديون كثيرة أيام دولة المتوكل وأيامه، والمطل ظلم، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وله شبهة في المطل أيضاً أخرى بأنه قال لبعض المطالبين له: أنا مشتري لبيت المال، فلا يلزمني لكم شيء، فانظر هذه الغفلة العجيبة، فإنه يقال له: إذا كنت ولي بيت المال فهو لازم لك القضاء منه، وإلا فلِمَ تشتري ذلك؟ والوكيل قد قالوا: إنه يتعلق به الحقوق فيما اشترى لموكله، فما فائدة هذه الأعذار التي لا تجدي ولا تنفع! ولكن الرجل قد أعجب برأيه، فتراه يتساهل أمر العلم، ويدخل نفسه فيه، ويتشبه بتدريس أهل الدنيا الذين يحابوه على سببها ويميلون إلى هواه لأجلها، ويصدرونه ويأخذون عنه وهم في الباطن يعتقدون أنه ليس كذلك، إلا أنهم لما رأوا تأثير ذلك إلى بذله لهم من الدنيا وضعوا عنده الكذب، وقد جاءت أحاديث أن آخر الزمان يجري مثل هذا الكذب عند الملوك، وأنه يكثر الجهل ويكثر أبناء الدنيا، والواضعين للكذب عند الملوك للتوصل إليها، والله يوفقنا إلى رضا رب العالمين، إلا أن المهدي المذكور لو كان اكتفى بما قد أصر عليه في نفسه، ويترك معاملة الناس للناس ويَكِل الأمر إلى الشريعة الجارية عند الحكام. وفي حديث رواه الطبراني والبزار عن سمرة قال: قال رسول الله÷: ((سترون قبل أن تقوم الساعة أشياء تستنكرونها عظاماً يقولون هل كناحدثنا بهذا الحديث))، وأخرج ابن أبي شيبة عن عبادة بن الصامت عنه÷ قال: ((سيكون عليكم أمراء يؤثرونكم بما تعرفون ويعملون ما تنكرون وينكرون عليكم فليس لأولئك عليكم طاعة)) [205/أ]. وهو أيضاً من أوائل مصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً؛ لأن قضاء الدين للغريم من المعروف ومطله من المنكر، وهنا قد انقلب حكمه، فصدق÷. وأخرج البيهقي وابن عساكر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله÷: ((سيكون بعدي خلفاء يعملون بما يعلمون ويفعلون بما يؤمرون وسيكون بعدهم خلفاء يعملون بما لا يعلمون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن أنكر عليهم برئ ومن أمسك يده سلم ولكن من رضى وبايع)) انتهى. وجعل في ذلك رسالة
مزخرفة بالباطل والحجج التي لا صحة لها ولا معنى، وكيف وضعها؟ منها: أنه احتج بأخبار موضوعة فيها مثل الحديث الذي قال:إنه جاء في الحديث الصحيح: ((إذا ضيق الأغنياء على الفقراء أذن الله بهلاك القرى )) بعد أن زعم أن سبب الغلاء والقحط هو إلحاح التجار في المقتضى من أهل الدين. ومن الحجج الضعيفة المعلومة التي لم يعرف بها المسكين أنه جعل مطالبة أهل الدين للغريم وبيعه لماله من بيع المضطر الذي نهى النبي÷ عنه، وقال عن أبي داود قال: خطبنا علي فقال: ((سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر فيه على ما في يده ويبايع المضطرون ولم يؤمروا بذلك)).
فهذا لا أصل له، وهو حديث مقلوب محرف مزيد في آخره ما ليس فيه، وإنما الحديث على غير هذا اللفظ. وقال في رسالته هذه محتج على غيره، وهو حجة على نفسه بقوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } قال: فبادروا بالرجوع إلى الله بالتوبة الصادقة والإقلاع عن المعاصي والتخلص عن المظالم لله وللعباد، فهذا حجة عليه بتخلصه من المظالم التي عليه، وما جرى منه سابقاً من البغي على الإمام المؤيد والقتول واستهلاك خزانة والده جميعاً ولا صار ما هو لبيت مال إلى الإمام، ولا صار ما هو ملك للورثة، وما هو مطالب فيه أيضاً من الديون من كثير من التجار ولم يسلمها لهم، وكذلك مطالب بأشياء من الجنايات التي صدرت منه[205/ب] في بغيه بغير حق وتهوره من بعد ذلك في بيوت الأموال، فإن مصروف بيوته في الشهر على ما روى أربعة آلاف حرف من غير الطعام والكسوات، ولو كان جزءاً يسيراً لكان بيت المال يحتمله في خاصتة، فأما هذا القدر فما قد اتفق لأحد قبله ولا يتفق لأحد بعده في ملوك اليمن: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . وذكر في رسالته هذه في التتن التشديد على ولاته وقضاته في تحريم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، وقال: ما لم يمتثل رفعوه إلينا، وسيرى من لم يمتثل سيف الإنتقام بأيدينا التي هي قادرة وشدة شكيمتها لدين الله القاهرة، فهذا من الجهل حيث أوجب فيمن باع الشيء بأكثر من سعر يومه يستوجب القتل، مع إجماع العلماء أنه لا يستوجب ذلك في الربا المجمع عليه المتفق وإنما يضرب ويؤدب، فكيف هذه المسألة! وهي بيع الشيء بأكثر من سعر يومه الذي في الحقيقة القائل بأنها من الربا مخالف للإجماع إن لم يقل به غير الهادي، وإجماع كافة العلماء أنها ليست من الربا. ثم ذكر التتن فقال: التتن من المضار في الأبدان،
ومن القبائح المفسدة والمانعة عن الأديان، واجتناب ذلك واجب، فمن يرجع إلينا ويعول في أمر دينه علينا فليترك ذلك ولا يقاربه، فمن لم يمتثل فقد برئ منا وبرئنا منه، انتهى.
فانظر وأعجب من هذاّ فإني لما ذكرت له ما وجه تحريم التتن فلم يجد حجة، فقلت له: مكروه، ولا دلالة على التحريم، فقال : نعم مكروه.
[206/أ] وفي هذا الشهر بعث الملك المهدي كتباً إلى اليمن الأسفل بأن التتن يترك إطلاعه إلى البلاد العليا، وأنه يرجح التحريم لتلك الشجرة المباحة التي توهم فيها من توهم ممن يعرف المعرفة التامة، فما كاد يتم به أمره كل التمام، ولا امتثل له أحد فيما أمر به ورام؛ لأن الحلال بين، والحرام بين، والله غالب على أمره، لا يمكن أحد أن ينفذ أمره في المخالفة لإجماع الإسلام، والأقوال الشاذة شاذة تضمحل فيها الأحكام.
وفي هذه المدة بشهر صفر ما زال التخليط في البلاد الشامية في طرقها وعدم انتظام أمور ولاتها وأمرها ونهيها، وتفرغ الحرامية للنهب، خصوصاً العصيمات، ومن إليهم من أهل الحرامات، فاستباحوا تلك الجهات. والقاسم عند ذلك صاحب شهارة أظهر بعض ما كان عليه من دعوته وعلامته إلى من كان يجيبه من أهل نصرته، فيكتب إليهم بالمنصور، وأما إلى غيرهم فبالقاسم، ومن كان بايعه أوأجابه لا يسميه إلا بالمنصور.
وحجة ظهر فيها تغلب عبد الله بن أحمد، وامتنع عن الوصول إلى المهدي. وزيد بن علي بن يحيى بن المؤيد لما استقر بظفير حجة أمر ونهى، وأدب وتصرف في مخازين الوقف لمن شاء، وقبض من زكاة أهل الظفير ومخلافه، وتصدر فيه للمشكى. واتفق هو والقاضي مهدي ووافق غرضه، لما كان حصل مع القاضي من أهل[206/ب] الظفير من الحاصل الماضي، فحصل مع مشائخ الظفير التضرر من ذلك الأمر الصادر، ومازال عنهم من المصالح في الزمن الغابر؛ لأن مثل الأداب اليسيرة كان النظر لهم فيها في بلدهم، وما استحسنوا مخالفة المذكور بمنعهم، ثم بعد ذلك لما كثَّر أهل الظفير الشكوى به أرسل له المهدي من يطلعه، فطلع إلى حضرته، سكن عنده حول سنة، ثم زلجه وشرط عليه أن لا يحصل منه تعرض إلى ما لا يعنيه.
وفي هذه الأيام تفوَّه المهدي بأن البلاد قد تقسمت مع عيال المتوكل، والأمر كذلك، ومحمد بن المتوكل وأخوته لا يسمحون بشيء يفوت عنها، بل قد زاد لعلي بلاد تعز، وهم إذا انتقص عليهم شيء لم يسامحوه ولو أدى إلى الخلاف عليه عندهم، كما أنه مع والدهم لو نقص عليه مما وضع له المتوكل شيئاً خالف عليه، فكان ذلك من عجائب الدنيا والتعارض فيما بينهما، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[207/أ] وفي ليلة سادس عشر شهر ربيع الأول خسفت القمر طلعت خاسفة بالرأس في برج العقرب بحمرة، طمستها جميعاً، ثم تعقب الحمرة سواد، فالحكمة لله، وقيل: إنها أكسفت عقب طلوعها بسرعة بنحو درجة.
وفي هذا الشهر هرب جماعة من عسكر علي بن المتوكل من تعز إلى حضرة محمد بن أحمد المهدي إلى المنصورة في جملتهم خيل وأعيان أصحابه، وشكوا تقاصر أحوالهم، وأن علي بن المتوكل قال: ما يُسَلِّم لهم من الجامكية إلا النصف، فأنصفهم وقررهم عنده وأوفاهم بجوامكهم، وأخذ أيمانهم أنهم منه وإليه مع الوفاء لهم، فضاق علي بن المتوكل من ذلك. وهرب من عند محمد بن المتوكل أيضاً جماعة عسكر إلى حضرة المهدي في هذا الشهر لعدم العدد لهم من جملة أهل حضرته وهم أيضاً أعيان عسكره وجمهورهم، فقررهم وعدَّ لهم المهدي وقال لهم: هم منه وإليه، فتغير أيضاً محمد من ذلك الأمر.
وفي هذا الشهر كَتَبْتَ إلى محمد بن الإمام، لمَّا حصل بعض ظن بقبول الكلام الشفاعة في تخفيف مطالب اليمن الأسفل، فقلت فيه ما لفظه: لا يخفاكم كثرة مطالب اليمن الأسفل، والولاة صار عذرهم التشديد عليهم في عدم نقص المرسوم من الدفعات، وهي قد زادت على المدة السابقة في زمن شرف الإسلام الحسن بن الإمام القاسم بقدر النصف، فالأولى الرجوع إلى الأصل المتقدم، مع أن الأولين كانت أحوالهم متكافئة، والبركات معهم والرعايا متكاثرة، فإذا أمكن سعيكم في حط[207/ب] نصف المطالب فهو الواجب، ولقد بلغ أن من جملة المطالب مطلبة الصلاة، فإذا قيل للجاهل صلّ قال: قد سلمت دراهم الصلاة. ومنها مطلبة أدب التتن، مع أنه يؤخذ فيه الزكاة، فهذه مناقضة، ثم بعد ذلك افتقاد فقراء كل جهة يصير إليهم من كل بلد ومن كل وال بقدر حالهم، ولا يلجأوون إلى الطلب كما كان يفعله الأئمة المتقدمين مثل الهادي وشرف الدين وغيرهما، ويستمر ذلك على الوجه الذي فيه الهنا، والله يصلح أحوال المسلمين، ويجمع أمورهم على الخير ورضا رب العالمين.
وفي الحديث عنه÷ أنه قال: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) كما في السنن لأبي داود وغيره، وحديث الصحيحين عنه÷ أنه قال: ((لا توكى فيوكى عليك )) والله أعلم، انتهى بحروفه.
وكتبت إلى الملك الزاهر بن الحسن بكتاب أيضاً نحو هذا، وذكرت له التخفيف على اليمن الأسفل والعدل، لتحصل رحمة الله بالمطر وصلاح الثمر، وذكرت الحديث: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) وأنه ينبغي رفع الزائد على ما كان في زمان والدكم شرف الإسلام الحسن، ويبقى الأصل أو يزاد عليه اليسير مما يحتمله الرعايا، ويسقط الزوائد، فإنها زائدة النصف على ما كان وأكثر.
وفي آخر شهر ربيع الأول وقع قران الزهرة والمريخ في برج الحمل في سابع وعشرين الشهر المذكور .
وفي هذه الأيام جمع محمد بن المتوكل كتب والده فجاءت ثلاثة عشر ألفاً، وقسم منها بعضها مما وجد فيه رسم والده، رأيت وصايا والده، أول وصية بوقفها، ثم رجع عنها في وصية أخرى، ثم جعلها في آخر وصية للمصالح وأطلق، وإنما استحسن ولده إخراج ما هو مرسوم. وكان فيها كتب الإمام القاسم، وهي ثمانمائة، وهي وقف ذرية اختلطت بكتبهم، ولم ينتفع ورثة الإمام القاسم منها بل ذهبت مع المتوكل، فإن الفقيه حسين بن محمد قيس خزان الإمام المؤيد بالله بشهارة ذكر أنه قبضها المتوكل جميعاً من خزائن المؤيد بالله بشهارة، فهي بين كتبه، ومات وهي في يده، وبعضها لورثة القاسم مطالبون فيها وهي معهم غير نازلين فيها، والله الموفق.
[209/أ] وفي هذه المدة عارض قصيدة البردة في مدح سيدنا محمد÷ الفقيه مطهر بن الحسين بن عبد الله مسعود بقصيدة حسنة، ما قصر فيها، وشرحها شرحاً وافياً بعقودها ولغتها وإعرابها ومعانيها وبيانها، ومستهلها قوله:
يا حادي الركب عرج نحو ذي سلم
عسى يوافيك أهل البان والعلم
ومر سلعاً ولا تخشى وقيت أذىً
فيه وسل عن بدور الحي في الأكم
إلى آخرها وجملتها ثمانية وثمانون بيتاً، استطرد فيها معجزاته÷، وشرحها شرحاً بديعاً، وقرَّض هذا الشرح الذي هو في مجلد الفقيه محمد بن حسن الحيمي بقوله:
إن ترد مطلباً رفيعاً كريماً
وكلاماً منظماً تنظيما
ورياضاً فيها زهور وربيع
من بديع يشفي الفؤاد الكليما
فتأمل هذا الذي ألَّف النَّدب
وكن بالذي حواه عليما
إلى آخرها وسمى ناظم القصيدة المذكورة (المطلب الرفيع في شرح أزهار الربيع).
وفي ربيع الأول حصلت زلزلة في ضوران، فلله الحكمة.
وفي شهر ربيع الثاني أزال محمد بن المتوكل قِبَال سوق الحب بمدينة صنعاء كان عليه كل يوم أربعة عشر حرفاً، فأزالها، ولم يبق إلا أجرة الكيالة أجرة المثل قرش على القدح.............. من غير دراهم، وقبال على الكيالة، ليحصل بذلك الصيانة وإزالة المظلمة. وقد زادت القبالات في الأسواق[209/ب] على ما كان في دولة الأتراك زيادة كبيرة، كان على سوق الحب في دولة الأتراك في كل يوم حرف واحد وللكيالين أجرتهم قدر ثلاثين كبيراً وعشرة كبار لشيخ السوق، وكذلك سائر الأسواق بصنعاء هذا القدر وأقل منه. وكان سوق الحطب عليه في دولة الأتراك مائة بقشة، والآن عليه كل يوم أربعة عشر حرفاً فأكثر، لا قوة إلا بالله، والعدل كان هو الواجب على هذه الدولة، فإنهم يقولون: إنهم ينهون عن المنكر والمظالم، فأقل حالة أن يردوا ذلك إلى ما كان زمن دولة الأتراك، فأنه عدل كبير لو فعلوه، أو إلى ما كان أول دولتهم، وكان هذه الزيادة أكثرها من سنة سبعين وألف في المطالب، وإلا فإنها كانت قبل أقل. زادت على أول الدولة هذه بمثل النصف، وزادت على دولة الأتراك مثل ثلاثة أرباع، والبلاء في هذه المظالم إنهم صاروا يرضون بمن يزيد في القبال ويتوهمون أن ذلك مصلحة لهم، ولا يعرفون أن الذي يزيد هو يزيد على الناس في المظلمة من هؤلاء المتقبلين والولاة، فلو كان حسموا جميع ذلك وأخذوا المطالب المعتادة في جميع اليمن الأعلى والأسفل ليحصل العدل ويزول الجور، كان هو الواجب عليهم.
وفي هذا الشهر بيوم السبت[210/أ] رابع عشر الشهر المذكور خرج المهدي من الغراس إلى شُرَع بالرحبة مما يلي بلاد الخشَب، فبات فيه وأمر حال خروجه من الغراس بتحريق التتن الذي فيه، وتكسير المديع على ساكنيه، فلما بلغ المتسببن بصنعاء من البياعين للتتن خبوه في البيوت، وخافوا عليه الفوت، وغلاء سعره على ما كان قبله حتى بلغت الأوقية إلى ثمانية كبار سبعة كبار.
وفي نصف ربيع الآخر مات محمد صالح، الطبيب العجمي الإمامي الإثني عشري الرافضي بصنعاء،كان المذكور محترقاً رافضياً غالياً، سبَّاباً للصحابة رضي الله عنهم، قال: وأصله من الجيل والديلم من بلاد العجم، قال: وتلك الجهة قد صار أهلها رافضة اثني عشرية بعد [أ[ن] كانت زيدية ناصرية في الزمان القديم، وأنه على دين أصحابه في الرفض، وكان يستريح لمن في اليمن من الزيدية الجارودية؛ لأن الجارودية يوافقون الرافضة في القول بالنص الجلي في علي، ويتحاملون على الصحابة رضي الله عنهم، ويذم الواقفية من الزيدية الذين يتوقفون في المشائخ.
قال مرة لواحد منهم: لا بد أن تقول: الإمام علي وغيره من الصحابة ليس كذلك، أو تقول: المشائخ أئمة كمذهب أهل السنة، ولا واسطة كما لا واسطة بين درهم مليح ودرهم نحاس، أين الواسطة بينهما؟ فانقطع ذلك وغلبه بالحجة[210/ب] لأنه لا واسطة، بل خلفاء أو غير خلفاء، وكان قد بلغ في السن على قوله فوق مائة سنة، وأقعد آخر مدته، وكان لا يستر مذهب الرافضة، مرة قال: إمام اليمن إسماعيل بن القاسم غير إمام عندهم، وإنما هو سلطان ملك وأمير كما أن الشاة عندهم كذلك؛ لأن الأئمة إنما هم اثني عشر لا غير، وكان لا يغسل رجليه بالماء للوضوء للصلاة بل يمسحهما من غير خف على مذهب الإمامية، وكان يقول: إنه طبيب فيقصده بعض الناس فيطلب منهم دراهم كثيرة إن سلموها وإلا قال: ما عنده شيء أو فعل له من الدواء ما يزيد في علته، قاتله الله.
روي أن مرة تداوى عنده رجل كان اسمه عمر، فأشار عليه من شار أنه إذا سأله عن اسمه فيقول: محمد؛ لئلا يفعل له ما يضره لكراهية التسمية بعمر، فداواه حتى برئ، ثم جاء آخر فقال: يداويه بمثل ما داوى عمر فقال: من هو عمر؟ اسمه محمد قال: بل اسمه عمر فأرسل له بمعجون يهلك منه، وقال له: بقي فيه بقية من ألمه يستعمله، فاتفق أن وضعه الواضع في بيته أكلته شاه، فهلكت في الحال، وهذا من شدة خبثه، قاتله الله، وسلَّم الله ذلك الرجل.
وفي هذه الأيام ظهرت ضريبة الملك الزاهر المهدي، وهي ذهب أحمر في حجم الدرهم جعل صرفه بحرف، من العددي من حساب الدينار سبعة حروف وليس بذهب خالص بل فيه غش فضة، وكذلك قطعة فضة في حجم ربع القرش جعلها بصرف حرف من العددي، وسماها رُبية، وكتب في وجهها: ((لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي خليفة حقاً المهدي لدين الله)) وما أحد تقدمه في هذه الضربة باليمن أصلاً ولا في هذه الكتابة، ولكنها اضمحلت بسرعة، وزاد غلت الأسعار بسبب هذه الضربة، وزيادة القدح قدر الثلث فأكثر.
وفي آخر شهر ربيع الآخر وصل عبد الله بن أحمد بن القاسم من حصن مبين بحجة لما تكرر طلبه من المهدي، وشدد عليه وتوعده إن لم يجيء.
ووصل السيد أحمد بن إبراهيم المؤيدي من بلاد صعدة.
وفي شهر جمادى الأولى جاءت جراد من المشرق من بلاد عمان، وأخبروا بأن بلاد عمان حصل فيها قحط، وغلاء وجراد في شهر جمادى الثاني.
[211/أ] وحصل في أول هذا الشهر قران الزهرة والمريخ في برج الجوزاء، وكذلك قران زحل والمريخ في آخر برج الجوزاء أو أول السرطان.
وفي هذه الأيام أظهر القاسم بن المؤيد أنه يسير إلى صعدة، ثم إنه بقي يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وهو إن كان علي بن أحمد يساعده ويعاونه فعل إن له هناك نفس، وإلا فإن البلاد لغيره. واضطر إلى أنه يقدم كتاباً إلى صاحب صعدة، فأرسل صاحب صعدة بكتابه إلى الملك المهدي أحمد بن الحسن، فلما بلغ قاسم ذلك فتر عزمه وخاب أمله.
ووصل في هذا الشهر والي حجة السيد علي بن حسين جحاف، فاستخف المهدي بجنابه، ولم يتلقاه عند وصوله ولا وافقه، بل خرج له بعض أولاده، ولم يوافقه إلا في اليوم الثاني في المجلس العام للقاصي والداني، ووصل بشيء من الدراهم، فاستقلها فزاد مثلها.
وفي آخر هذا الشهر تفضل الله بالأمطار العامة في وسط الخريف، فصلحت الثمار.
ووقعت صاعقة بذهبان أصابت سيداً من بني المؤيد، وكذلك بسعوان أصابت امرأتين، وكان في المطر شدة ريح اقتلعت سيَّالة كانت خارج باب اليمن، وأخربت حدرات، وساق ذلك المطر إلى أقاصي المغرب وعم المشرق والمغرب، فلله الحمد.
وحصل نكتة من بعض أولاد محمد بن أحمد بن القاسم بالروضة[211/ب] ومعهما المهتدي الهندي الشاعر يسامرهم وينشد أشعار المجون لهم، فبلغ المهدي أعمالهم وعادتهم أمر عليهم عسكراً للقبض عليهم. وكان قد وقع منهم تعدِّ على ساقي الغيل في الليل وهم سكارى وجناية فيه وهم ثمالى، فوجدوهم العسكر على الشراب وغيره من الفواحش والإنكار وقبضوهم وكتفوهم، وساروا بهم إلى الحضرة المهدية، فكبلهم في الحديد وأمر بهم حصن ذمرمر للتشديد، وحبس البغية التي كانت تسامرهم، وهرب المهتدي.
وفي رجبها مات القاضي أحمد بن علي العنسي الأصل ثم العياني ثم الصنعاني ببيته بير العزب غربي صنعاء، وقبر بخزيمة، وكان عارفاً بالفقه لا غيره من فنون العلوم، فلم يكن له فيه معرفة ولا لمسه، إنما كان فقيهاً بحتاً، مقرراً للقواعد لا يميل عنها على قاعدة المذهب، ودخل آخر مدته في بلوى القضاء. ولما مات المتوكل إسماعيل وقام بعده أحمد بن الحسن لم يقل بكماله، ولا اعتقد إمامته، ولا حضر الجمعة في مدته.
وفي جمادى الآخرة مات الشريف لطف الله بن علي بن لطف الله بن مطهر بن شرف الدين بالروضة وهو في الخريف، وكان المذكور له معرفة وبعض مشاركة، ولكنه كان جامد القريحة بعيد الهمة، بحيث أنه أسمع بعض الجزء الأول من (صحيح البخاري) على بعض الواصلين إلى صنعاء من دمشق، وهو الحاج محمد كزبر مدة سنة كاملة، ولم يبلغ إلا إلى صلاة الجماعة، وهذا شيء ما قد اتفق في قراءة فيما علمناه، وسبب ذلك أنه يعسر عليه الإملاء ويتلكأ فيه ويختل عليه مجاريه[212/أ]؛ ولأن شيخه المذكور الحاج محمد كزبر الحنبلي الدمشقي الواصل إلى صنعاء هذه المدة ببضاعة من مكة كان يملي عليه جميع شرح ابن حجر العسقلاني (فتح الباري على البخاري) فطالت القراءة بسبب ذلك. وكان هذا السيد قد دخل في مذهب الشافعي، ولبس لباس الفقراء، ثم إنه بعد ذلك تأهل بزوجه، وله منظومة في معتقده يذكر فيها أنه شافعي، وترك مذهب الهدوي وخرج عنه.
وكان يعتقد تكفير الرافضة والجارودية من الزيدية لأجل سبهم للصحابة، لردهم آيات كثيرة في مناقبهم، ومع ذلك كان لا يزال متجرماً من بني زمانه وبغضهم وغلوهم في بعض الصحابة رضي الله عنهم. وكان يشكو عليّ من حالاتهم، ويصف لي من أوصافهم، وأهم بالارتحال إلى مكة والمدينة للمجاورة والسلامة من سماع أقوال هؤلاء الذين يتعرضون للسلف الصالح بما لا ينبغي بمقامهم، وما فيه من الرد لكثير من الآيات الواردة في القرآن بفضائلهم ومناقبهم، مع تواتر الأخبار من السنة المنورة فيهم، وعند ذلك أنشأ رحمه الله هذه[212/ب] القصيدة الفريدة، والأبيات الرائعة المفيدة للسيد الماجد، علم الآل الفراقد، لطف الله بن علي بن لطف الله بن المطهر بن أمير المؤمنين يحيى شرف الدين، قاطعاً مادحاً لجده سيد المرسلين وآل بيته الميامين، وصحابته الأطهار الصادقين، وهي هذه:
رب يسر وأعن يا كريم:
أحرق البين فؤادي المستهاما
وجفا جفني لذكراك المناما
كلما لاح على ربع لكم
بارق أنحل جسمي والعظاما
أو نثرت ريح صباً من نحوكم
ملأت قلبي ولوعاً وغراما
عز عني يا حبيبي وصلكم
بعد ما صار فؤادي مستهاما
كيف أسلو بعدما يا منيتي
قد سقاني سحر عينيك السقاما
وكساني الحب وجداً فيكم
هيج الشوق وأشجاني دواما
وسباني حسنكم بين الورى
فلذا يا فاتني همت هياما
إن نوى قلبي سلواً عنكم
لا سلا القلب ولا رمت مراما
حبكم ما باح لحمي ودمي
فعن العذال قلبي قد تعاما
فأنا المضنا بكم يا جيرتي
وهواكم في حِما قلبي أقاما
وحياة الحب يا أهل الحما
إن وجدي لمواكم قد تراما
وودادي وغرامي فيكم
وولوعي واشتياقي قد تساما
وتلافي مهجتي في حبكم
أنا راضيةً وإن كان حراما
أهل ذاك البيت جار لكم
من ذوي القربى أتى يرجو الذماما
وجاءكم يا سادتي معتذراً
يخش أوزاراً تناهت وأثاما
[213/أ] كلما رمت وصالاً منكم
عاقني الذنب فمالي والملاما
فمتى أحضى بكم يا سادتي
وأطوف البيت ركناً والمقاما
ثم آتي زمزماً قصدي بها
أغسل الذنب وأوزاراً عظاما
فإذا جاوزتها أرقى الصفاء
وإلى المروة أسعى يا نداما
يا رفاقي من معي نحو منى
نقصد الموقف ندباً والتزاما
نقف آثار كرام سلفوا
ذكروا الله قعوداً أو قياماً
فإذا نلنا به كل المنى
ورأينا الخطب للخطبة قاما
وحَدَى حادي المطايا مسرعاً
وإلى وادي منى يبني الخياما
لليالٍ بمنى قد شرعت
وغدت للحج يا صاح ختاما
يا إلهي إن قصدي طيبة
فإذا بلغتني نلت المراما
لأزور المصطفى خير الورى
وكذا آلاً وأصحاباً كراماً
واغفر صفحات انخدفي
عرصات لهم تبري السقاما
يا رسول الله يا أشرف من
نصر الحق ومن صلى وصاما
اصطفاك الله نوراً للهدى
ولأهل الشرك حتفاً وانتقاما
كم لكم من آية بينة
وصفات قد تعالت إن تساما
كم لكم من معجزات ظهرت
مثلما الشمس غدت تجلو الظلاما
فعليكم صلوات الله ما
غرد القمري وما ناح وحاما
وصلاتي وسلامي سرمداً
ما جرى دهر وما دار ودام
صل يا رب عليه دائماً
صلوات طيبات وسلاما
وعلى آلٍ وأصحابٍ غدا
بهم الدين عزيزاً لا يضاما
أهل بيت المصطفى أنتم لنا
سفن الأمن إذا خفنا المقاما
كل من جاء إليكم يعتزي
يأمن الخوف إذا خاف الخصاما
وكذا أصحابكم أضحوا لنا
مثل ما الأنجم لا نخشى ظلاما
حجة الله على كل الورى
بهداهم يهدى من رام اعتصاما
بذلوا لله منهم أنفساً
وكذا أهلاً وأموالاً جساما
سورة الفتح بذا شاهدة
وبذا التوبة والأنفال قاما
ورسول الله أضحى مخبراً
إنهم خير مكاناً ومقاما
وعلي الفضل والى برضا
ورعا الأصحاب حباً واحتشاما
وكذاك الآل من بعدهما
حفظوا الود وما قالوا أثاما
أخذوا الأخبار عنهم حجة
ولدين الله عدَّوهم إماما
قد أمرنا بالدعاء منا لهم
حيث جئنا بعدهم عاماً فعاما
عرف الحق من استهدى به
وعن الحق تعاما من تعاما
يا رسول الله في جاهك ما
نحمل الكلَّ إذا خفنا القياما
يا رسول الله مالي شافع
غيركم يرجى إذا خفت الخصاما
يا رسول الله يا من قد غدا
لكرام الرسل ذخراً وختاما
فصلوا حبلي بكم يا سادتي
واجبروا كسري فتعذيبي ملاما
واصلوني واقبلوا عذري فقد
أحرق البين فؤادي المستهاما
تمت كما وجدت.
كتب الفقير إلى الله عبد الرحمن بن محمد الحيمي ، لطف الله به هذه الأبيات الرقيقة الرائعة، والمعاني البديعة الفائقة، وكان السبب في إنشائها أن قائلها رضي الله عنه وشكر مساعيه، وأعانه على حسن مقاصده الحسنة بما يؤمله من مراضيه أراد الحج سنة خمس[214/أ] وخمسين بعد الألف على قدم التحديد، فعاقه عائق عن ذلك القصد الذي يحبه ويريده. هذا وقد كان عزم إلى محروس كوكبان، فسلم الأمر لما قضاه الكريم المنان، وأقام بمحروس كوكبان لطلب العلم الشريف، وقاطعاً شكية إلى الله وإلى جده رسول الله÷ يطلب منهما الإعانة على ذلك المقصد العالي المنيف فجلب بحمد الله كل الحظ، وما ذاك إلا لحسن النية والمقصد، أقام الله حقها في هذه الجهة اليمنية وعظم شأنها في المدينة المشرفة المحمية، حتى أنه ذكر السيد الجليل العلم النبيل هادي بن محمد الحمزي النزيل في الحرم النبوي، المجاور للقبر المنير المصطفوي إنها خطيب الحظ الأكبر الفخيم، وحصلت كرامة يطول شرحها: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } وما ذلك إلا لسلامة صدر منشيها من العصبية والسلوك منا للسنة الحنفية النبوية، فسلك فيها طريقة آبائه الأئمة الهادين، وتبع فيها ما سنَّه سلفه الأبرار الصادقين، مبايناً للغلو في المحبة والتعصب، مجانباً للحقد والغل على أصحاب جده البررة الكرام غاية التجنب ممتثلاً ما أمر به الكريم الرحمن في قوله عز من قائل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ } منتهياً عن الغل الذي أرشد إليه القرآن العظيم في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ولما اطَّلع عليها الشيخ العلامة الأوحد الصمصامة إمام حرم المدينة المشرفة، ونزيل تلك الربوع
الزاهرة المكرمة تشكر للسيد تلك المساعي الحميدة[214/ب] والمقاصد المباركة الرشيدة، وقال: مثل هذا السيد لا يجهل شرفه وقدره ولا ينكر فضله وفخره، وأمر الشيخ العلامة الأديب الألمعي والفقيه الفهامة المحقق الأريب، اللوذعي عبد الواحد الدوقي ، حفظ الله ذاته وأبقى حياته بالجواب على السيد فخر الدين، فقال ممتثلاً، وشرع وأنشد وأبدع شعراً:
جرد الصب من الحب حساما
وبه وفى من الفضل المقاما
وصريح الحق إذ لاح له
لم يخف رداً ولا يخشى ملاما
نصر الدين بقولٍ أبلجٍ
خذل الله به من قد تعاما
أظهر الله به حجته
وأزال الشك عنه والظلاما
حبه من عالم من فضله
قد أقام الوزن منه فاستقاما
ثم أمضى صارماً من قوله
قطع الخصم ولم يبق اختصاما
يا لقومي هل رأيتم فاضلاً
أنصف الحق من النفس وداما
ليس إلاَّ هاشمي بطلٌ
لوذعي خير من طال وقاما
إنه من فتية خالصة
وبها المجد تعالى وتساما
من بني عبد مناف قد نفى
شبهة الجهل لزوماً والتزاما
وأتاه بالنصح منه قيما
ليس فيه عوج شأن الكلاما
قد تولاه ألمعي بالتقى
زاد في تلك علواً واحتراما
لم يزل فينا شريفاً قدوة
يهدي الله به ثم إماما
مترض عن صحاب سبقوا
جعل الله لهم أبداً قداماً
صدقَّ القرآن في آياته
بالرضى عنهم وللأعداء أضاما [215/أ]
شهر الفضل بنص المصطفى
وبآيات لمن رام اعتصاما
حج خصماً بحجاج قاطع
وعلى ذلك برهاناً أقاما
فأدمه يا إلهي للورى
واعطه ذلك برهاناً أقاماً
وابقه فينا إماماً سننا
ثم زد ذاك وبلغه المراما
واغنه لهبات ليرى
ما بقى في مثلها عاماً فعاما
ليقم بالفضل فينا منصفا
وبعدلٍ مستوٍ يرعى الذماما
إن هذا فاطمي علم
عالم للفضل قد صار ختاما
من بني حيدرة أسد الوغا
وبه الهيجاء هاجت ثم عاما
بحرها المظلم في تيارها
وأثار النقع بل أسقى الحماما
سيد من سادة بل سند
شيد المجد وما قال لماما
خير من قال ومن صال ومن
نال فخراً يمناً منها وشاما
يا له من عصبة منصورة
وسيف الحق ما أبقى خصاما
أيدوا بالسنة الغراء ما
بعدها رسم أمن سما وساما
ثم كانوا حيث قال المجتبى
وعلى ما كانت الصحب قياما
لم يسموا أهلها إلا لما
تابعوا فيه بها الرسل الكراما
ليس فينا فرقة ناجية
غير من تابع منا واستقاما
سنة الهادي بذا قاطعة
إن من تابع لم يلق أثاما
وكتاب الله أعلا حجة
بل هو الوثقى فلم يخش انفصاما
إنه سفن النجا كلا ولا
بعده قط نجاة والتزاما
ما لأقوام رضوا من أمرهم
كل ما لائم خرقاً لا التآما
جهلوا ذلك أم هم علموا
فعمو أزيد واصطماما وانبكاما
فانظروا أهل بما جرى ونصرو
أودعوا من بعد ما جاء اهتماما
هل نفى فضلهم كلا ولا
عرف الحق الذي للصحب داما
واسألوهم هل لهم من سند
وإلا ما كان هذا وعلاما
فارض يا رب عن الصحب.......
..........ترضى عنهم واخز اللئاما
وعن الخبر الذي ما شأنه
غير ما أولاه سادة عظاما
وصلاة الله تغشى أحمداً
خير من أولاهم طراً وداماً
وعلى آل كرام حفظوا
جدهم في صحبه ثم احتكاما
وعلى الصحب ومن تابعهم
صل يا رب صلاة وسلاما
[216/أ] تمت كما وجدت. والحمد لله رب العالمين
وفي هذه الأيام وصل اعتراض في صورة سؤال بعث به العماني إلى ولي الأمر باليمن، يذكر فيه أن القهوة لا ينبغي استعمالها، وأنها حرام عنده، محتجاً أن فيها شبهة بالإدارة بأعمال الخمر، وأنها مسكرة، وأن بعض الشافعية حال خروجها أفتى بتحريمها، هذا محصول اعتراضه وسؤاله. وهو اعتراض باطل، وسؤال عاطل، خالف فيه إجماع العلماء وأهل السنة وغيرهم، ولم يكن فيها من أدلة التحريم شيء، لا إسكار ولا غيره، فإنها من جملة الطيبات التي تضمنها قوله تعالى:{لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ } وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذِبَ} والأمر واضح فيها، لا ينبغي التطويل في دلالتها، وأما الإدارة فليس بمجرد حجة في التحريم فقد يدار الماء للشرب، وقد يدار شرب اللبن كما ثبت في شمائل النبي÷ أنه كان يديره على يمينه. وعلى الجملة: إن القول بالتحريم من الجهل الذي لا يخفى. مع أن العماني كان الأولى له نهي نفسه من قطع الطريق في سواحل بلاده إلى اليمن، وفي البحر بحيث أنه تعدى إلى سواحل اليمن وانتهب من أموال المسلمين[216/ب] ما لا يزال في هذه السنين، حتى كان سببه ذهاب أموال عظيمة على تجار من بلاد الحسا وبلاد العجم والهند وغيرها، بحيث أنه قطع مسيرة البن إلى تلك الجهات في هذه السنة والتي بعدها، ولم يخرج فيها من بلاد العجم والحسا أحد بسببه، وقطع الطريق أعظم شيء في التحريم فلو نهى نفسه أولاً عن ذلك لكان هو الأولى له، والله الهادي إلى سواء الطريق.
وقطع أيضاً طريق البصرة وتجارها إلى بلاد الهند واليمن، والله يسلط سلطان الإسلام ابن عثمان على زواله ودماره، فإنه صار من المفسدين في الأرض بغير الحق، مع بدعته التي هو فيها من اعتقاد مذهب الإباضية من الخوارج الردية.
وفي هذه الأيام اطلَّع علي بن أحمد بن القاسم صاحب صعدة على كتاب بلاغة بخط الفقيه حسن المتميز، الذي كان وكيلاً للمتوكل على الله إسماعيل على مخازين بيت المال بصعدة يذكر فيه إلى المتوكل أموراً كثيرة على علي بن أحمد، فطلب علي بن أحمد المتميز إلى حضرته وقال له: هذا خطك؟ فقال: نعم.، فقال له: ما حملك على هذا الذي نقلته إلى المتوكل وكشفته؟ فقال الفقيه: الغيرة عليكم يا أهل البيت، فأمر بحبسه في الحال ونهبه فنهبوه في الديوان، وخرج إلى الحبس، وهو عريان وكبله بالحديد، ثم أنه تشفع فيه من تشفع بإطلاقه، فأطلقه ولم يقر بالفقيه قرار، ووصل إلى صنعاء بقي فيها مدة من الزمان فوق السنة، ثم إنه عاد إلى بلاده، وكان المذكور من المشيرين على المتوكل بعزل علي عن صعدة وتولية ولده الحسن، فلم يُقدر الله ذلك، وحال بينه موت المتوكل.
[217/أ] وفي آخر شهر رجب منها رأيت حجارة مكتوباً فيها كتابة خلقة ما لفظه: محمد بن إبراهيم بهذا اللفظ، فقلت: لا يعلم أحد بهذا الإسم من المشهورين إلا السلطان محمد بن إبراهيم بن عثمان.
وفي هذه الأيام كتب القاسم بن محمد بن المؤيد صاحب شهارة إلى محمد بن المتوكل أنه يطلب له من صنوه أحمد بن المتوكل ولاية بلاد عذر، ما كفته بلاد الشرف، فذكر لصنوه أحمد ذلك، فلم يسعد.
وفي هذه الأيام بشهر جمادى الثاني خرج أحمد بن المتوكل إلى عند المهدي يطلب منه ولاية حجة، وخرج معه صنوه محمد بن المتوكل فلم يسعد المهدي إلى ذلك، فجعل له محمد بن المتوكل من بلاده بلاد ثلا، وما اكتفى ببلاد عفار والسودة وعذر، ولذلك طلب أحمد بن محمد بن الحسن زيادة بلاد إلى بلاده، فلم يسعد المهدي إلى مطلبه لكنه زاد له دراهم من حضرته.
وفي هذا الشهر تم بناء مسجد النهرين بصنعاء، عمارة عظيمة، ومطاهر واسعة؛ لأجل ما ظهر من تسريجه كما مضى تاريخه، ظهر لأهل المدينة بركته، وكان مسجداً صغيراً وله مطاهر قليلة، والمعتني بذلك جيرانه، وأعانهم بالبعض ناظر الوقف. وهذا المسجد الذي في بطن وادي صنعاء قريب باب السبحة.
وفي هذا الشهر اشتجر حسن بن المتوكل، وقاسم بن المؤيد على سوق أحدثه قاسم بمساقط بلاد الشرف بتهامة، فأراد حسن خرابه، فأرسل المهدي من يطوفه، وأنه إذا كان قديماً بقي على حاله. وكذلك أحدث حسين بن حسن صنو المهدي سوقاً في الحرشة، فأمره صنوه المهدي بإزالته، فامتنع[217/ب] وقال: إنه لم يحصل منه تغيير في بلاده فيتركه على حاله، فتغير المذكور من ذلك ورد تحويل حول به عليه من المعتاد لأهل جبل ضوران ورتبته، وأهم بالتقدم عليه، فعند ذلك طلب المهدي من صنوه الحسين الاتفاق والوصول، فلم يسعد إلى ذلك، وما زال يواعده ويماطله، فأهم المهدي التقرب إلى جهته، فإن وصل وإلا تقدم عليه إلى حضرته، والكتب ما زالت بينهما وبين ولده محمد بن أحمد صاحب المنصورة، وهم يواعدونه ويماطلونه ويعتذرونه، وإنهم يخطبون له ويمضون سِّكَته، لكنه يترك لهم بلادهم وحالهم.
واتفق في شمسان بني عكاب أن جماعة ساقوا الدبا من وادي الصلبة، فطلعت إلى مال أخرى، فلقتهم حُرْمَة رجمت أحدهم فسقط ميتاً لوقوعها في رأسه ثم رجمت آخر كذلك، وبقي الثالث منهم حمل على الحرمة قتلها، فسقط القود بها.
وفي هذه الأيام ظهر سَبْعٌ أخاف الحميان للذرة بجوار جبل نقم وسعوان، وهو أكبر من الضبع في حجم الصعب ، وله عقيق كعقيق البعير الصغير، فقيل: إنه السمع وقيل: السبسب والله أعلم.
[218/أ] وفي هذه المدة حصلت نفضة في الناس، بحيث يعم المرض بعض البيوت، فلا يجدون من يصنع لهم الطعام، وقد يصنعه لهم رجالهم ثم يمرضون، ويقوم الأولون، ومنهم من يقضي عليه أجله، وكان هذا في فصل الخريف.
وفي نصف شعبان ظهرت الجراد من تهامة، وهي التي أثرت فيها الواصلة من عمان كما مضى ذكرها، فأخذت على طريقها مواضع، وحضر كثير من الناس في مثل جهة المغارب، وسلم عنها اليمن الأعلى والمشارق، وصلحت الثمار في أكثر اليمن لولا حصول النقص بالحضر بسبب الجراد، وخلف في أطراف المشرق كَنِهْم والجوف وبرط، فبلغ الشعير إلى ثلاثين بقشة وحرف، والبر إلى حرفين.
وفي هذا الشهر سار علي بن أحمد صاحب صعدة إلى نجران لاستخلاص المطالب، فتلقاه أهله بالحرب، فراح من أصحابه سبعة ومن أهل البلاد أربعة، ومنعوه عن دخول بلادهم، وأخذ وجه المحاصر منهم في التزام بعض شيء من المال، وجعلوا معه رهائن وعاد صعدة. وكان قد استجاش بجماعة من ذي محمد من برط، فلما عاد صعدة وهم معه قتل واحد منهم بباب صعدة، فطلبوا من علي بن أحمد أن يرسل معهم عسكر عينة لقتل واحد من سحار بصاحبهم، فأرسل وقتلوا واحداً لا يعلم أنه القاتل، فلا قوة إلا بالله، بل قتلوه في باب بلده من كبارهم، وكان هذه المعونة من علي بن أحمد من الأفعال العظيمة والموافقة للجاهلية، وإطراح الأحكام الشرعية، وإنما كان عليه أن يقول لبرط: لا أعينكم على الضلالة ومخالفة الشريعة، بل لكم ما تحكم به الشريعة من القسامة أو غيرها في صاحبكم، ولا[218/ب] يجوز أن أعينكم في باطلكم، وفتنة أخرى، بعدها شكوا جماعة إليه من قبائل بلاده بقتل حصل من قبيلة فقال لهم: اقتلوا واحداً منهم بصاحبكم، وهذا من الأحكام المخالفة للشريعة.
وفي شعبانها مات القاضي محمد بن أحمد الشظبي، كان المذكور له معرفة في الفقه، وكان حاكماً في مدة المؤيد بالله بكوكبان، وأول دولة المتوكل، ثم عزله وانتقل إلى صنعاء وقل سمعه، ولم يخرج آخر مدته من بيته، وكان حافظاً لكتب أجداده وأهله، وهو من جملة من أخذ على السيد محمد بن عز الدين المفتي بصنعاء في زمان دولة جعفر باشا.
وفي هذا الشهر مات الفقيه عبد الله بن حسين بن يوسف بظفير حجة كان المذكور عارفاً بالنحو والتصريف، مدرساً فيهما، وأصله من حيز حجة، من بلد القذف ، ولكن والده دخل الظفير خوفاً من جانب عبد الرحيم أيام دولته بحجة، فخشي من فتنته وتسليطه، وأخرب بيته بعد دخوله الظفير.
وفي هذه الأيام بآخر شعبان طلع السيد حسن بن مطهر الجرموزي بحمولة من المخا إلى حضرة المهدي.
وفي رمضانها طلب أحمد بن الحسن جماعة من اليهود من صنعاء إلى الغراس، وأمرهم بالخروج من جزيرة العرب، وأنهم قد تراخوا بعد الأمر الأول، فطلبوا المهلة حتى يبيعوا من أموالهم، فأمهلهم خمسة أشهر.
وفي ليلة رابع عشر شهر رمضان خسفت القمر ببرج الثور، طمسها الخسوف جميعاً، وكان الخسوف بسواد ثم انقلب بحمرة، عكس الخسوف السابق، فإنه أوله كان بحمرة، فالحكمة لله تعالى.
[219/أ] وقد كان السرحي المنجم ذكر الكسوفين في هذه السنة عند تقويم أولها، كما وصف الواصف قبل حصول خسوفها، فاتفق كما ذكره فيها.
وفي آخر شهر رمضان وصل الخبر أنه وصل إلى جدة متسلم، وعزل الذي كان فيها، وأنه خرج صحبته قدر أربعة عشر مركباً فيها طعام من مصر، ولحق عقبها اثني عشر مركباً طعاماً أيضاً في شوال، وقووا جدة وزادوا في العسكر على العادة.
وفيها سرقت سرقة من بيت المتوكل بضوران، دراهم وسلاح وغيره، وفرحان اتَّهم جماعة، حبسهم وضرب بعضهم، فاعترف أحدهم، أرجع بعض شيء يسير من السلاح والباقي ذهب. وهم جماعة قد لهم أيام يستخرجون السرقة من طاقة مفتوحة ويردونها على حالها. وكان من جملة المتهمين من الملازمين في ضوران في جبل ضوران، فلما طلبه فرحان للضرب أمر الخادم بضربه، فحمل على الذين أرادوا قبضه، طعن أحدهم ومات من جنايته.
وطلع ثاني العيد علي بن المتوكل من اليمن الأسفل إلى صنعاء، ثم لم يلبث أن عاد إلى ضوران وتبعه صنوه محمد.
[219/ب] وفي آخر يوم من شهر شوال مات الأمير علي بن حسين الجوفي صاحب الزاهر، وكانت وفاته بصنعاء عقب طلوعه من الجوف، فقبر في حوطة جده المطهر ابن الشويع بخزيمة غربي صنعاء.
وفي شهر القعدة الحرام مات السيد العارف يحيى بن أحمد بن صلاح الشرفي في بيته بالشاهل من بلاد الشرف، كان المذكور له معرفة ومشاركة في بعض الفنون، وكان جارودياً على طريقة والده. وكان نظر أوقاف الشرف إليه. كان موته فجأة، وكان يحرم التتن، وفعل في تحريمه رسالة، وزعم أنه من الخبائث، واحتج بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } ولا حجة له؛ لأن الخبائث دلالته مجملة، والمجمل لا يحتج به على شيء إلا بعد البيان، وقد بين النبي÷ الخبائث، وبعض البيان أيضاً في الكتاب العزيز مثل تحريم الميتة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وكل مسكر ونحو ذلك، وبين تعالى الطيبات، ثم إن التتن لا تستخبثه النفس.
وفي هذا الشهر عاد حسن بن المتوكل من أبي عريش إلى الضحي وبيت الفقيه الزيدية بتهامة واستقر هنالك، ووقع بين أصحابه فرقة على سبب بندق عرفه رجل من الأهنوم وقال: هو له من النهبة التي وقعت فيها أيام الحرب الواقع بها، فحصل خصام بينه وبين الذي هي معه، وعصب مع أصحابه من الأهنوم.
[220/أ] وفي هذه المدة أخبرني بعض السادة من الهدوية أن رجلاً سأل الله أن يريه من أهل الفضل والكرامة ومن عنده الحق والخلافة بمكة، فترأى له في المنام أن أول من يلقاه بكرة ذلك اليوم فهو المطلوب، فرآه فسأله عن حاله، والآخر كذلك والرجل الذي طلب ذلك، ورآه في المنام ممن اعتقاده اعتقاد المعتزلة والهدوية، وذلك الرجل الذي رءاه لما سأله فتحاقره وأعرض عنه والهدوي كذك أعرض عنه. وقال: هذا ليس الغرض لما ترسم من مذهبه أنه لا يكون من وافقه، ثم سأل المرة الأخرى فرأى في المنام كذلك، فأصبح الصباح بالرجل الأول أول من لقاه، فلم يعجبه ثم الليلة الثالثة، فحرم الفائدة ولم يعترف بأن الحق مع ذلك الرجل أصلاً، والرجل ذلك كان من أهل السنة والحنفية أعني الذي طلب رؤيته من الحق في الاعتقاد معه، فلم يمكن الرائي أن يعتقد فيه ذلك أصلاً لمحبة المذهب، هكذا أخبرني السيد المذكور مع تعصبه وغلظته في مذهب المعتزلة، فذكرت هذا هنا لما فيه من الغرابة، [120/ب]. وما نعلم به أن الإنصاف يجب على كل مسلم، وأن الرجوع إلى السواد الأعظم هو الأولى لكل مسلم، لا سيما مذهب الأنبياء جميعاً عليهم السلام والصحابة والتابعين من السلف الصالحين.
وفي شهر القعدة اختطفت دهمة من برط قافلة في العمشية في الطريق الغربية في حد العصيمات حولي الفقم وحصل بينهم وبين العصيمات قتال، فراح من العصيمات ثلاثة قتلى منهم وجنايات في أهل القافلة من عذر، وانتهبوا القافلة وشارك برط في الطغيان بنو رُهم من سفيان، وذكروا أن المهدي ما سلَّم لهم إلا دون ما يعتادونه، وأنه نقص عليهم نحو ثلاثين خرقة من الكسوة.
واتفق هذه السنة أو التي بعدها أن فرحان لما وصل بلاد الحرامية طريق الحج أعطى بعض المعتاد لأهل الطريق، ثم مطل آخرون، وقال: لم يبق شيء عنده مما يعتادون مقابل المجبا، فكان إلى الليل وسرقت الحرامية أطراف المحطة، وانسل بعض مشائخهم إلى خيمة فرحان في صورة كلب يستر على بدنه بشعر على ظهره حتى دخل طرف الخيمة، فانتبه الحراس لذلك وقبضوه، فوجدوه رجلاً، فربطوه وساروا به معهم إلى عند الشريف بركات، فأمر بشنقه، وقد كان تفادوه بمال من فرحان، فقبض ذلك فرحان ولم يتم تخليته.
ولما اتفق ما اتفق في العمشية وتعدي نهم وبرط فيها وغزوهم إلى البراغشة أطراف بلاد عذر، أمر أحمد بن الحسن بالتبريز إليهم والخروج عليهم[221/أ]، وكان هذا التبريز في آخر شهر الحجة، وأظهر أن المراد السير إلى بلاد برط والعمشية.
وكان في هذه الأيام اجتمع جماعة من مشائخ بلاد خولان صعدة يطلبون والياً عليهم غير علي بن أحمد في بلادهم خاصة، فوعدهم بالنظر في أمرهم وعلم أن علي بن أحمد لا يطابقه إخراجهم عن يده، وأنه يكون سبب ذلك ثائرة فتنة من قبله، فلما طال عليهم البقاء ساروا بلادهم، وصارت بلاد الشام غير منتظمة لصاحب صعدة.
وفي هذه الأيام بأول شهر الحجة دخل المهدي صنعاء، وأمر بتسمير كنيسة اليهود بصنعاء وقبض ما حولها من البيوت المحصولة من اليهود لها، وأخرج اليهود من حوانيت سوق صنعاء وشدد عليهم في بيع أموالهم وبيوتهم وخروجهم، فباع القليل منهم ما باع من المنقولات واليسير من غير المنقولات، وقبض الحمَّام الذي لهم وشراه منهم، وصنوه شرف الدين الحسين بن الحسن، قال لليهود الذين لديه: أنتم على عادتكم لا تبيعون شيئاً من أموالكم، وقال: لا وجه لإخراجهم.
وخرج جماعة يسيرة من صنعاء من اليهود إلى بلاد ضوران.
وفي هذه الأيام نجع كثير من بلاد برط بأغنامهم، وداروا في الأرض[221/ب] للمعاش لخلو بلادهم وضعف أنجادهم، فمنهم من وصل إلى ضوران وجهران، وكلهم من ذي حسين من برط، والنَّهابة كانوا من ذي محمد من أصحاب صلاح بن كول، هذا والله أعلم.
وفي هذه الأيام أرسل المهدي جعفر الجرموزي والياً لبلاد العدين على عادته الأولة وكان قد سكن عنده قدر سنة، فزاد في قطفته في بلاد العدين قدر ألف حرف فكان كل شهر ثمانية آلاف، وأرجعه إليها وشرط عليه أنه لا يصل إليه شاكي منها. وكذلك ولىّ بلاد وصاب السيد صالح حيدرة الغرباني وعزل الفقيه عامر عنها لما زاد السيد قدر ألفين على ما كان أولاً منها، فإنه كان أولاً في زمان والده الحسن كل شهر ثلاثة آلاف كل شهر ، ثم زاد الفقيه عامر ألفاً، فكانت أربعة ثم زاد هذا الألف فكانت خمسة، وهذه القطفة في مقابل زكاة البن والأسواق وزكاة التتن، والمعونات ونحوها من المطالب. وأما الطعام فهو يقبض رأس السنة عند الثمر، وكان لو أنهم جعلوا ذلك بالأمانة، وأكدوا على العامل في عدم الخيانة كان هو أعدل ما حصل من قليل أو كثير فهو الواقع. فأما هذه القطفة فإنها ذريعة إلى زيادة الوالي، وقد تزيد الثمرة فتصير له، وما نقص فإنه يأخذها من الرعية، فتكون عليهم ظلماً بسبب ذلك، وسبب هذه الزيادات صغر هذه الضريبة التي ضربها أحمد بن الحسن، ولذلك طلع صرف القرش، فإنه الآن بأربعة حروف وأكثر. وكان في الزمان القديم صرفه بحرفين وكسور[222/أ] فحصلت الزيادة في هذه الدراهم على المدة الماضية بحول النصف ولذلك كان يبيع البن والبز الهندي بقروش على العادة لم تزد وإنما الزيادة بالنظر إلى صغر الضريبة، فمع ذلك الزيادة تحتملها البلاد، لكن دون هذه الزيادة التي جرت في هذه المدة بالنظر إلى صغر الدراهم وزيادة صرف القروش بسبب الضريبة، فإن الذي كان دفعته ثلاثة آلاف مثل العدين باليمن في مدة محمد بن الحسن عن ألف قرش والصرف بثلاثة حروف فكان
الزيادة إلى أربعة آلاف لما بلغ الصرف إلى أربعة حروف الآن نهاية الزيادة. فأما هذه الزيادة التي جعلت في آخر مدة المتوكل إلى سبعة آلاف، وزيادة الألف الثامن في دولة المهدي أحمد بن الحسن، فلا شك أنها زيادة بالنصف فيها جور، وكذلك غيره من سائر الجهات، والله يرحم المسلمين. ومحمد بن المتوكل كان شرع قي تخفيض المطالب حتى رفعها جميعاً غير الواجبات، فشكره أهل بلاده بالعدل، حتى قال بعض جهال الفقهاء من الشيعة: إن هذا فعله من المنكر بالتخفيف، فذكرت الحديث عنه÷ أنه قال: ((سيكون آخر الزمان المعروف منكراً والمنكر معروفاً )) فلا قوة إلا بالله، ولكنه لم يدم على ذلك بل أعادها. والمهدي أمر بإجرائها على عادتها، وما زاده الولاة في القطع قيل منهم، فلا قوة إلا بالله.
وهذه الدراهم التي تؤخذ في مقابل زكاة الأبنان ، وسائر المطالب والأسواق.
ودخلت سنة تسعين وألف
استهلت بالأحد، وجاءت الأخبار من الجهات المكية والبلاد الشامية في سابع الشهر المذكور، فرأيت كتاباً كتبه بمحروس منى يقول فيه: إن الحج كان هذا العام قوياً والركب كثيراً. وكان الحج المصري والشامي متوفراً، وكذا العراقي مجتمعاً، وأن جملة الأمراء قدر أربعة وعشرين أميراً، وأن اليماني حجاجه أيضاً كان واسعاً، وأن المحطة بلغت للجميع إلى وادي محسر وجمرة العقبة، والأسعار مع الكثرة رخية، الكيلة بستة كبار، وأن في عسكر الشامي زيادة على العادة، الخيل كانت قدر ألف مع الأمير الشامي من غير العسكر، وأما الأمير المصري فعادته، وأمير الشامي يسمى خليل، وكان الأوامر في مكة له حال دخوله لا للشريف. جاءوا بحرامية إليه فأمر بقطع رؤوسهم لديه، وكانت هذه الزيادة لأجل الأوهام التي قد بلغتهم في سابق الأيام، ورجع الشريف من الحجاز داخلاً مكة بعد أن سكن فيه قدر سنة متردداً فيه وفي المدينة، وزادوا في رتب العراق وتلك الأفاق لما بلغهم أن العماني في العام الماضي حكم على بعض تلك البلاد التي بين عمان والإحساء؛ ولأجل لا يحصل من اليمن خلل، أو من غيره من بلاد العجم، وجاءت الأخبار بأن عساكر السلطان استفتحت بعض الجهات في أطراف بلاد الفرنج وهزموهم وكسروا شوكتهم.
وأمر الملك المهدي الولاة الذين كانوا عنده بالعود إلى بلادهم كبني الجرموزي وغيرهم.
وفي نصف محرم توفي القاضي العارف العلامة صالح بن محمد العياني[223/أ] العنسي، وكان المذكور عارفاً بأصول الفقه والعربية، أديباً محاضراً، صاحب أخلاق حسنة، وكانت قراءته على جماعة من العلماء مثل عمه أحمد بن صالح، والفقيه العارف عبد الرحمن بن محمد الحيمي وغيرهما ورحل إلى مكة، فسمع صحيح البخاري والموطأ وأكثر صحيح مسلم على الشيخ محمد بن علي علان الشافعي المكي، وسمعت عليه صحيح مسلم قراءة ضبط وإتقان وتصحيح مع إنجار في الشروح والغريب وعرفان، ثم أجازني في جميع مروياته ومستجازاته التي من الشيخ ابن علان بإسناده إلى الشيخ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، وكان يحب السنة ويميل إليها ويعتمد عليها ويحب مذاكرتها وقرائتها. وكان قد أخذ على شرف الإسلام الحسين بن القاسم وعلى السيد محمد بن عز الدين المفتي، وكان كثير المذاكرة لأهل العلم منبسطاً متواضعاً أديباً، وقبر بخزيمة غربي صنعاء.
وفي هذه الأيام انكسرت جلبة فيها حجاج وبضاعة، فغرقت بمن فيها في باب جدة، وكان قد خرج البعض منها ثم تبعها جلبة أخرى انكسرت حال خروجها منها فيها أيضاً بضائع الشام وجماعة حجاج هلكوا فيها.
وفي آخر شهر محرم وصل خبر بأنه ظهر جلبة قريب المخا[223/ب] ووصل عندها كتب من صاحب عدن والمخا يخبرون أن في البحر جلاب من عمان في باب المندب، يريدون قطع الطريق للموسم، وأنهم ما زالوا يكثرون حتى بلغت جلابهم إلى فوق العشر، فقال المهدي: العسكر الذي بتهامة والبنادر، فيهم كفاية لحفظ البنادر لا سيما المخا لسهولته، وأما البحر فلا طاقة لهم به، فوصل من أول المراكب الهندية بعضها، فمنها ما قبضوه ورسموا عليه ومنها ما رجع من البحر قبل وصوله، ومنها ما دخل المخا ببذل مال لهم، وارتفع ثمن البز بسبب ذلك، ولم تخرج الأعبي الحساوي معهم من طريق البحر العماني الفارسي؛ لأجل ما قد جرى معهم في السنين الماضية من ذهاب أموالهم من الفرنج بسببهم ومنهم، فلم يخرج هذه السنة من الحسا أحد من طريقهم، وصاروا ساكنين في باب المندب، مانعين جميع شهر صفر ربيع الأول والثاني.
واتفق في العمشية انتهاب لقافلة[224/أ]، وكان الناهب لها من بلاد وايلة وبلاد شاكر ، واتفق معها أن العصيمات غزوا إلى بلاد سفيان فقتلوا منهم أربعة وانتهبوا منهم غنماً عوض ما جرى منهم من قتل أصحابهم في النهبة السابقة. والمهدي مر عنده جماعة من برط من ذي حسين كانوا ناجعين في بلاد ضوران وجهران بغنمهم لخُلف بلادهم، فأمر بقبضها عليهم وحبسهم ثم اطلقهم بعد أن قالوا له: ليس النهبة السابقة في العمشية منهم وإنما هي من ذي محمد.
ووصلت كتب من صاحب صعدة علي بن أحمد فيها كلام يائس يقول فيها: بيننا وبينكم شروط ما تمت ومعونة دراهم تبذلونها ما وصلت، فإذا اختلت الشروط اختل المشروط، وكتب أحمد بن الحسن إلى برط بوصول الفاعلين للنهبة السابقة أو الوصول بالسيد محمد الغرباني الذي عندهم؛ لأنه ربما السبب في إغرائهم وأنه منتظر لتأديبهم إن وصلوا، وإلا تقدم عليهم.
وفي ثاني عشر شهر صفر وصل الزوار وأخبروا بأمطار في الحجاز حصلت بأول الصيف قوية غزيرة، وسيول كثيرة شديدة، بحيث حملت طائفة من الحجاج بوادي الصفراء، وانقطعوا[224/ب] عن دخول المدينة بسبب سيل وادي قبا ، وخرب في المدينة بعض بيوتها لقوة المطر النازل فيها، وصل السيل من جبال الطائف؛ لأنه ينزل إلى المدينة، كما ذكره السمهودي في خلاصة الوفاء بدار المصطفى÷.
وأرسل أحمد بن الحسن خطيب صنعاء إلى صنوه الحسين بن الحسن إلى رداع يستدعيه فاعتذر، وكان بذل له الشحر، والشحر صار بعيداً، ومع خروج العماني قد محق طرقه ومصالحه، بل قد قيل: إنه استولى عليه، وأن صاحبه وادعه وصالحه.
وفي ثالث عشر شهر صفر منها كان تحويل الشمس ودخولها أول درجة في الحمل، وفيه الزهرة وعطارد، وزحل في الجوزاء، والمريخ في السنبلة، والمشتري في الحوت والجوزهر في الثور، والقمر في السنبلة.
وفي هذا الشهر دخل إلى جبل ضوران بعض السادات وزار مشهد المتوكل إسماعيل بن القاسم، وقال: إنه يريد الخلافة فأمره أهل الجبل والأمير فرحان بأنه يترك مثل هذا الكلام، ويرجع إلى حيث يريد، ويخرج من الحصن لئلا يكون عليه الملام، فسار إلى وادي الحيرة تحت ضوران، وأظهر لجماعة من الحاضرين عصا طرحها الأرض ثم أمرهم بحملها فلم يقدروا على ذلك، فلما عجزوا حملها بيده، ولا يخفاك التباس الكرامة بالمخرقة والسحر، وأنه لا بد من الخبرة للرجل الذي يظهر عليه ذلك، فإن كان صالحاً يأتي بالواجبات الشرعية فهي كرامة، وإلا كانت[225/أ] استدراجاً وبلوى، فمثل هذا العصا يمكن الاستعانة بالجن في رَزْم العصا حتى لا ينزعها أحد غير ذلك الرجل الذي له اتصال بهم، فإن الساحر يتصل بمردتهم فهو ممكن من غير الولي. كما اختبر حال سيد يقال له: السيد علي بن الجلال، من آل الجلال السادة ببلاد صعدة، فإنه يظهر على يديه من المخاريق كثير من جملة ذلك أنه أعطى شاش فحرقه وقطعه ثم جمعه في يده وفحسه ثم مده فإذا هو على حاله، فهذا من السحر ممكن؛ لأن المذكور كان لا يصلي في كثير من أيامه، شاهده كثير من الناس، فهو يكون من القلب لعينه كما يفعله السحرة بالتخييل، ثم يعود إلى أصله بعد، أو بإبداله من الجان بغيره وهم لا يرونه، فيدوم هذا المبدل إلى أن يبلى دون الأول.
وقد تقدم ذكر شيء من حكاياته فمثل هذا يجري من السحرة أو الممخرقين، مثل الذي يجري مع الأولياء الصالحين، غير أن الصالحين يختصون بمزيد ما لا يدركه الساحر بسحره مثل إقامة المقعد على حاله ودوامه وإبراء الأكمه والأبرص والأعمى، كما كان لعيسى عليه السلام وغيره من الأنبياء عليهم السلام.
[225/ب] وفي العشر الآخرة من هذا الشهر توفي يحيى بن حسين بن المؤيد بالله محمد بن القاسم بعد عوده من الحج بجهة شهارة، وكان المذكور له بعض معرفة بعلم النحو، وكان جارودياً في عقيدته، متحاملاً على الصحابة رضي الله عنهم، غالياً في الرفض لهم، محترقاً داعية، وكان جماعاً لكتب المثالب فيهم، مطرحاً لكتب المناقب، مبالغاً في إحصاء عثراتهم، معرضاً عن فضائلهم، آخذاً للمثالب من كتب الرافضة والكذابين مثل كتاب (المناقب والمثالب) لأبي حنيفة محمد بن النعمان الرافضي الإسماعيلي العبيدي قاضي العبيدية الذي كان بمصر أيام العبيدية، وهو من الرافضة الباطنية، ومن كتب غيره من الرافضة، وكان يطعن في مذهب الهدوية والمعتزلة وأهل السنة وينتصر للإمامية، ويدَّعي أن زيد بن علي رحمه الله كان رافضياً سباباً للصحابة، وحاشاه من ذلك، فإنه متواتر عنه خلافه، بل كان بسببه رفض الرافضة له وترك بيعته؛ لأنهم كانوا طالبوه بالكوفة لما وصل إليها أن يتبرأ من المشائخ، فامتنع وأملى فيهم حديث الرافضة المشهور، وهذا ظاهر عنه في جميع كتبه[226/أ] -رحمه الله- وفي التواريخ لا يمكن رده، وطمس من مجموع الفقه الكبير له بعض مسائله مثل: مسألة إمامة قريش وما ذكره في الأصول وذمه للقدرية وإثبات المشيئة لله وغير ذلك، فلا قوة إلا بالله.
ودخل بآخر صفر جماعة من عُمان الذين في البحر إلى ساحل العَارَة والعمارة بها بين المخا وعدن، انتهبوا منها بعض المواشي وهربوا بها البحر وباب المندب.
وفي هذا الشهر توفي السيد العارف عبد الله بن محمد الكبسي في البحر، خارج جدة حال عوده من الزيارة للنبي÷ فأرسب في البحر، وكان قد نوى الإقامة بمكة والمدينة، فلما عرض له ذلك المرض لم يتم له ما نواه وما كان عليه عزم.
والحمَّام الذي بخبان الذي يقال له: غيل الحرضة ، وكان غيلاً قليلاً يخرج من أكمة عالية وحولها أحواض متفجرة فيها الحمَّام، فكان إلى هذا الشهر وانفتح من ذلك الموضع ماء واسع كثير وسار في الوادي لا يعهد مثله من قوته، ثم نقص بعد تمام خروجه من احتباسه وكبس الحمام وتلك الأحواض التي كانت وزالها، ثم انقطع خروجه بالمرة، ولم يبق إلا الغيل المعتاد من تحته، وهذا الوادي والمناحي يصير إلى بلاد لحج ثم الساحل إلى البحر.
وفي ليلة سادس عشر خسفت القمر في برج[226/ب] العقرب بنصف الليل وكان الخسوف قدر ثلثها، فالحكمة لله في ذلك .
[227/أ]وأنشد هذه القصيدة هذه الأيام الفقيه الأديب علي بن صالح بن أبي الرجال ، أو بعض أصناه ، يقول فيها في شأن أحمد بن الحسن:
لا تحسبن وللزمان عجائب
إن الخليفة صادق لا يكذب
فلقد نزلت بسوحه إذ قادني
طوعاً إليه لسوء حظي أشعب
أسعى إليه على الجهالة سعي من
صاد الغزال ولم تفته الأرنب
فنزلت في خيش الخزائن وفرها
تثني على شح النفوس وتطنب
وبحيث ربع الصدق قفر مجدب
واليمن معمورٌ حماه ومخصب
وعلى الخزائن سور مميز محكم
عال محل النجم منه أقرب
قد أحكموا بنيانه ولعله
عما قريب يضمحل ويخرب
فرمى الإله الجاهلية والحما
حيث الجهالة والضلال مطنب
بفواقر تدع الديار بلاقع
يضحي الغراب بها يصيح ويندب
ورمى الغراس وساكنيه بجمرة
تشفي البعيد ويشقى الأقرب
فلطال ما نزل الغني بسوحة
فصفت موارده وطاب المشرب
وإذا الفقير ثوى به مستجدياً
ضاقت مذاهبه وعز المطلب
وترى الغني لدى الخليفة مائس
غرثان يرتع في النعيم ويشرب
وأخا الخصاصة لا يزال مجلا
عنها يذاد كما يذاد الأجرب
يغضي على وخز القنا وفؤاده
يمشي على جمر الغضى يتقلب
وإذا تكون كريهة يدعى لها
وإذا يجاش الجيش يدعى جندب
فعلى الغراس وساكنيه وكل من
يأوي إليه من الأنام ويقرب
غضب من الله الغيور وفتنة
في كل آونة تجل وتصعب
بلد إذا ما رمت تعرف أهله
فإليك ما يبدو وما يتغيب
قاض يداهن والوزير معربد
والجند تفسد والخليفة يكذب
وإذا الخطيب رقى المنابر واضياً
نقض الوضوء بما يقول ويخطب
يدعو ويطنب عند ذكر إمامه
غلط الخطيب ومات فيما يطنب
ولسان حال الشرع يدعو للذي
يأتي إلى تلك البقاع ويقرب
يا طالباً للشرع غير مقصرٍ
تطوي المشارق تارة وتغرب
لا تطلبن الحق عند إمامكم
القول ما قالت سماة ومجزب
إن الإمام يقول ما قالا له
كالببغاء ولكل عبدٍ مذهب
ولديه أسفار تكاثر عدها
محبوسة في جلدها لا تقلب
ولربما أملا ومخف بعضها
لزعانف تقرأ عليه وتكتب
وتراخ يرخي الشدق فوق كتابه
كالبكر أزعجه همام مغضب
فلقد أقول لمن يشيَّد ذكرهم
ويطيل في مدح الأمير ويسهب
إقصر بفيك الترب إنك كاذب
والمرء إن يك مؤمناً لا يكذب
أيقول بهتانا ويشهد باطلاً
والله يكره ما يقول ويغضب
وتروم أن يصغي لقولك مؤمناً
لا أم للمصغي إليك ولا أب
فدع التطاول والتعصب للذي
تلهو بلحيته الجوار وتلعب
و......... بجارية لديه ألذ من
قراته لديك بل هي أطيبُ
ويكاد يتخذ الرجيع طعامه
ويغوص في أبوالهن ويشرب
وتراه يضحك للجوار مقهقهاً
مثل الغراب على الخنافس ينعب
ويبيت في علم النجوم مفكراً
وتراه منها خائفاً يترقب
ويقول تأخير النجوم حقيقة
وفعالها في العالمين مجرب
ومقاله في البعث مثل مقالهم
يرويه عنه شقيقه والأقرب
فلك يدور على شموس بعدها
في الأوج أقمار تنير وتغرب
ولذاك يعتقد الشريعة مظهراً
والرسل تهزل والرواة تكذب
[228/أ] فعلى القرامطة الأساس لأنهم
شهروا عقيدتهم وبان المذهب
يا صاحبي وللزمان نوادر
تأتي على مر الليالي وتذهب
لا غرو إن أضحى الجواد مضللاً
والقطر يحبس في السماء ويحجب
فلكم وكم من بدعة وافى بها
والله يأنف للعباد ويغضب
أيقول للتتن المباح جهالة
هذا حرام لا يباع ويشرب
ويبيح للذكر الحرير فلم ترد
أبدأ أما.......... لمن لا يرهب
ألا بدفع مضرة يعطى بها
ثبت الدراية في العلاج مجرب
وقضى بإخراج اليهود ولم يكن
إلا إلى بلد ألذ وأطيب
إن رام تطهير الجزيرة منهم
فعلام حلوا في ذمار وطنَّبوا
أو رام تخطئة الأئمة قبله
فالأمر أشنع والقضية أعجب
وإذا تطالب بالدليل وجدته
حيران في حب الضلالة يخطب
وإليك يا بدر الشريعة نفثة
للغيظ أنفذها الأديب المغضب
واعلم هديت وللزمان عجائب
والعمر يذهب والصحائف تكتب
إن المقام على الهوان هو الأذى
والرزق عادته يجيء ويذهب
فإلى متى جد الأكارم ناكص
والجهل يعمر والشريعة تخرب
أين الفرار من الديار فقد دنا
منها العذاب وأين أين المهرب
ولقد ذكرت البعض من أفعاله
وتركت منها الجم وهو المتعب
انتهت القصيدة للفقيه الشيخ الأديب علي بن أبي الرجال، ويشهد له والله إنه على دين الرافضة من الباطنية، ما جرى منه من البغي على الإمام المؤيد مرتين، وما جرى منه من قتل النفوس بيده ظلماً، ولم يتخلص مما يجب عن ذلك شرعاً، ومطله بالديون، وكذلك شعار يوم الغدير شعار الرافضة، وكتابته في بعض الضربة بما يتضمن الغلو في حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، [228/ب]وإذا صح ما ذكره صاحب القصيدة هذه أن المذكور عقيدته عقيدة الباطنية في نفي البعث فهذه بلية عظيمة على من بايع هذا السيد، وقد تحملوا في أعناقهم آثامهم، فلا قوة إلا بالله.
وأما كونه رافضي في أصل الإمامة وأن النص في علي جلي فهو مصرح به، قائل به، معتقد معه متبجح بذلك، ولتهوره في اللذات الدنياوية وخصوصاً في النكاح، ويستعين على زيادة الباءة وتحريك المباضعة بأكل الزرنباد المشهور، ويأمر من يفعل له معجونه، وهو مشهور بقوة الإنعاظ، وتحريك الشهوة، وكثر المعاودة للنكاح لمن استعمله، حتى أنه مرة أعطى من البنايين شيئاً من معجونه؛ لأجل يتعجب على ما يحصل معه من تأثيره، فخرج عن البناء وأقل الحياء، ومثل هذا استعمال هذا المحرك للهوى لا يفعله إلا المسرف على نفسه. وقد نهى كثير من العلماء عن كثير من استعمال المحركات إلى مثل هذه الأدوية إلى زيادة الباءات؛ لأن ذلك يكون من طلب زيادة البلوى في التكليف، وقد يقع -والعياذ بالله- صاحبه في المحظورات والإنسان يود قمع ذلك.
وبهذا صار سراري هذا المذكور أحمد بن الحسن ثلاثمائة جارية ما بين سودا وبيضاء، مما لا يفعله إلا من تهور في اللذات والشهوات، والوصايف معه مثلهن، بلغ عددهن فوق عدد ما كان مع الصليحي من الباطنية الذي كان ملك اليمن في المدة الماضية، ويلبسهن لباس الرجال[229/أ] بالأزينة الحرير والقوايق القطيفة كلباس الصبيان، والبريمات على أحقاوهن ويجعل المخازين معهن وأعداد الدراهم بأيديهن، ويجتمع لغير واحدة منهن، يتنقل معهن مجتمعات ومتفرقات، ويجعل على رؤوسهن كالعمامة التركية وسطها مفروق، ولا يتهور في اللذات ويتبع النفس هواها إلا من أمن عقباها، والتشبه بالرجال حرام. ولقد أخبرني بعض الثقات أنه مرة حضر في الكشك ، فوصل إليه خواجا ببريمات من ذهب وفضة فشراها جميعاً بتقويم دلاَّل طلبه، فقومها بثلاثة آلاف قرش وأدخلها بيته.
وفي هذه الأيام بآخر شهر ربيعها الأول وصلت أول المراكب الهندية إلى المخا فتلقاهم العمانيون، رسموا عليهم وعشروهم في باب المندب، واستقروا فيه وصاروا يجولون حواليه.
وفي نصف ربيع الآخر وصل كتاب منهم إلى أصحابهم من التجار الذين بلغوا إلى صنعاء ومن جملتهم مملوك لأميرهم صار يشتري من السفياني، ومضمون الكتاب المبادرة بالنزول فقد آن السفر معهم. فلما بلغ المهدي طلب التجار ومملوك العماني وعاتبهم في الذي صار يجري من أصحابهم وقطع الطريق ومحق السواحل اليمانية، فأجابوا بأن هذا ليس لهم فيه سعاية وإنما هم متسببون. فكتب المهدي إلى صاحب عمان بمعاتبته والتلويم عليه في ذلك وأن كل من قد وصل إلى سواحل البنادر اليمانية من مسلم وكافر من الفرنج، فقد صار في أمانه، وأنه إن لم يترك أفعاله قصده وناجزه.
وفي هذه الأيام بتاسع وعشرين شهر ربيع الآخر اتفق قران بين زحل والزهرة في برج الجوزاء، ووصل مع بعض حاج اليمن تقويم لبعض المنجمين من بلاد[229/ب] مصر يذكر فيه تقويم هذه السنة، وأنه يحصل في اليمن فتنة، ولم أقف على تقويمه، لكنه كان في برج السنبلة المريخ والقمر.
قال أبو مَعْشَر في تحاويله: إذا كان المريخ بالسنبلة دل على كثرة القتال والحروب بناحية الجنوب، وسقوط بعض الأشراف عن مراتبهم مع فساد الهوى ويبوسته. ومثله ذكر ابن حبيب في تحاويله، فقال: إذا كان المريخ في طالع السنبلة دل على كثرة الحروب تلك السنة، وزحل في الجوزاء كثرة الجيوش ومغازيهم وإفسادهم تلك السنة. وقد كان في السنة الأولى في هذا البرج أعني زحل، لكنه كسره تربيع المشتري وغيره، والمشتري في الحوت غزارة المطر في أول الربيع السنوي مع فساد المطر للزروع والثمر، والقمر في السنبلة سلامة الناس والحيوان ورخص الدواب وكثرة المطر والطعام والثمار والزروع، وكون كسوف القمر وقع في العقرب فحرك كسوفها في السنة السابقة في برجه السابق، وهو طالع اليمن دل على تحريك شواهد المريخ بالسنبلة، والله أعلم[230/أ].
وفي هذا الشهر خرج مركبان من الواصلة من الهند إلى المخا، فرآهم العمانيون، فلحقوهم، فمال أهل المركبين إلى الساحل يريدون الخروج إليه والتقرب، وكان فيه أخلاط من المسلمين والفرنج، فنجوا عنهما إلى الساحل، وتكسر أحد المركبين بما فيه من المال في البحر بسبب مصاككته بساحل البر، وسلم أهلها وهربوا عنهما، وانتهب العمانيون المركب الآخر جميع ما فيه من البضاعة، ونالتهم بسبب ذلك الخسارة، ثم تبعهم آخر الموسم المراكب السلطانية الهندية ومعها أخلاط فواعدوهم بتسليم العشر فسلموا إليهم بعض شيء ثم ساروا إلى المخا، فلم يتعرضوهم إلا بعض مراكب لحقتهم فرموا عليها من المخا وأسلمومهم .
وفي تاسع شهر ربيع الآخر وصلت هدية إلى محمد بن المتوكل من علي باشا ، صدرها من جهات البحر، وذكر في خطه الولد السيد محمد بن المتوكل إسماعيل هذا لفظه، ولم يلبث رسوله وهو تركي ومعه خمسة من الخدامين إلا نحو ثمانية أيام وزلجه بمكافأة هديته.
وفي نصف شهر ربيع الآخر جد المهدي على التجهيز إلى البلاد الشامية البرطية، وقد كان وطاقاته في الرحبة لها مدة في مكان يسمى بير الدرج[230/ب] بحدود بني الحارث وهمدان مما يلي قاع الرقة من الجهة الشرقية، فجهز محمد بن المتوكل وأحمد بن محمد وولده حسين بن المهدي وغيرهم وساروا طريق البون، فساروا في هذا التاريخ إلى عيان سكنوا فيه بعض المدة وهم يكاتبون إلى برط بالوصول بمشائخها وقاضيها، والسيد محمد الغرباني الذي فيها، ووصول الناهبين منها. فوصل المشائخ بضيافة والقاضي علي العنسي معهم، ولم يصل السيد محمد، ووصلوا بأعواض الطاعات القدر الذي عليهم، وقالوا: النصف هو مع سفيان، ثم شدد عليهم محمد بن المتوكل في وصول الفاعلين، فقالوا: لا قدرة لهم عليهم، لأنهم قبائل لا يقدر يحكم أحد على أحد منهم إلا بالمعروف، وأنهم يسعون جهدهم، ثم ذكر لهم الدخول إلى بلادهم، فاعتذروا بضعفها، وأنها لا تحملهم، خصوصاً هذه المدة لخلفها، فلم يعذر عن الوصول إليها، وقال: إنه أمره بذلك المهدي. ثم رحل إلى رأس وادي المراشي وحط فيه، ووصل يومئذٍ إلى حضرته السيد محمد الغرباني، ثم تقدم محمد بن المتوكل ومن معه، وبقت المحطة في مكانها، سكن ببرط قدر شهر. ومات وهم هنالك القاضي علي بن قاسم العنسي الذي كان[231/أ] فيها، ويميل القبائل إلى قوله ويسلمون له زكاتهم، ويتحاكمون فيما شجر بينهم إليه في بعض أعمالهم، ثم خرج عنها ونزل إلى عيان في أول شهر شعبان. ووصل طلاب المهدي له بالعود، ووصل إلى عيان عقب نزوله إليه صاحب صعدة علي بن أحمد، لبث قدر ثلاثة أيام أربعة أيام وعاد بلاده. وعاد محمد بن
المتوكل وجميع من معه في نصف شعبان، وكان قد حصل أيام سكونهم هنالك جنايتان من سفيان على حطابين وجناية أخرى على عسكر كانوا هاربين فقتلوا واحداً منهم، وجنايات أخرى في الباقين.
وفي الشهر الماضي كان استأذن قاسم بن المؤيد صاحب شهارة المهدي في قبض زكاة بلاد عذر أيام سكونه في قرن الوعر، فأذن وقبضها، فلما بلغ أحمد بن المتوكل، وهو واليها أرسل من حضرته وهو بالسودة عينة من عسكر لقبضها، وأنه لا يحتسب بما سلموه إلى قاسم منها، فسلَّم من سلَّم وامتنع من امتنع، وتضرروا من تسليم زكاتين. ثم إن أحمد بن المتوكل خرج من السودة للقيا صنوه إلى البون حال عزمه إلى تلك الجهة العيانية، في الشهر الماضي في ربيع، ثم تقدم إلى حضرة المهدي، وحال وصوله أصابه البرسام وسقط على فراشه لا يقوم من مرقده، ومات في يوم الأربعاء لعشرين[231/ب] خلت من شهر جمادى الأولى بالروضة وقبر فيها، وكان أصحابه الذين يطلبون الزكاة في عذر ما قد أتموها فنفّس الله على من لم قد سلَّم بتركها.
وظهرت هذا التاريخ جراد في اليمن، وكان المطر أول الخريف قليلاً.
وفي هذا الشهر وصل كتاب من صاحب عدن الشيخ راجح بأنه وصل إلى سواحل عدن مركب من ............ ، فأرسلوا أهله إليه أنه يرسل إليهم في الليل جماعة من أعيان العسكر يدعون بينهم قصد عمان لهم وهم لا يشعرون بمن فيه من التضمين معهم، فسار جماعة كما طلبوه في الليل، واتصلوا بهم ودخلوه، فلما أصبح الصباح ولاح أقبل العمانيون إلى المركب يجرونه بالكلاليب ، فخرج فيهم الذين داخله بالقتال والسلاح، والرمي بالبنادق والكفاح، فأخذوا منهم خمسة وعشرين رجلاً وانكسر الباقون وسلم المركب بمن فيه ودخل عدن، ولما عرف العمانيون أنهم لا قدرة لهم على عدن، وقرب عليهم وقت السفر، وطلعت الثريا فجراً من المشرق عادوا بلادهم.
وفي [232/أ]آخر هذا الشهر أرسل صاحب المخا بجماعة نحو العشرة من عساكر السلطنة، وقالوا: إنهم هربوا من بندر جدة، وكان جملتهم نحو الخمسين، فبعضهم سكن بالمخا، وبعضهم كان مريضاً، ثم تفرقوا.
وفي يوم الأربعاء ثالث عشر شهر جمادى الأولى وصل كتاب من حسن بن المتوكل من بندر اللحية يذكر فيه أنه دخل إليها علي باشا ومعه أصحابه من العسكر نحو ثلاثمائة بنادقية، ومعه صنجق ونوبة، وقال: إنه كان متولياً في الحبشة، عُزل فسكن في اللحية، وأنزلوه في سمسرة الفرضة . قال الرسول بالكتاب أنه كان وصوله حاضراً، ووصف هذا الوصف وقال: إنه أول كتب يوم الخميس، وهو في البحر بالاستئذان وأنه هارب، فأذن له حسن ولم يعرف أن معه هذا الجمع.
قال: وكان دخوله إلى اللحية عقب صلاة الجمعة، ثامن شهر جمادى الأولى.
وفي هذه الأيام بعد تسمير كنيسة اليهود، كما سبق، فتحت الكنيسة، وأخرج ما لليهود فيها، من الكتب والتوراة، وأراق الخمر الذي كان في مخزان لها يباع مع اليهود[232/ب] في مصالحها، وأمر بخروج اليهود، فخرجوا عنها إرسالاً، وباعوا ما ابتاع من بيوتهم، وخربوا منها ما لم يبتاع وباعوا خشبها وأحجارها، وجعل الكنيسة مسجداً ورفع سقفها؛ لأنها كانت نزلت في الأرض كثيراً لقدمها، ومحرابها إلى بيت المقدس لم ينحرف عن القبلة؛ لأن بيت المقدس مقابل للكعبة، وأدبهم بالآداب من الدراهم، فساروا إلى موزع. واليهود أكثرهم الذين كانوا بها نزلوا إلى بلاد ذمار واليمن الأسفل، وأمرهم بالسكون في بلاد موزع، وكانت هذه الكنيسة قديمة من قبل النبوة. ومقابرهم غربي صنعاء بقدر نصف ميل من باب السبحة غربي الأعناب التي هنالك في القاع الغربي يدل على قدمهم وكونهم من اليهود الذين قررهم النبي÷ في اليمن وأمر معاذ بن جبل بأخذ الجزية منهم، كما في سيرة ابن هشام.
وفي هذا التاريخ أمر أحمد بن الحسن بالتحريج في التتن، وأن الناس لا يشربونه، ورسم على المتسببين الذين يبيعون فيه، فتضرروا بذلك، وقالوا له: تذهب أموالهم فيه وهي جزيله، فإنه حصر الذي بصنعاء من التتن مع التجار ما قيمته قدر مائة ألف، وأرسل إلى اليمن الأسفل يأمرهم بأنه لا يغرس فيه ولا ينبت، والنقص على بيت المال حاصل؛ لأن بعض دفعات اليمن ومحصوله من التتن، والله أعلم ما يتم من قوله فيه.
وجاء الشهر الثاني ونقص نصف الدفعات من أماكن مزارع التتن في مثل بلاد شَرْعب والدِمْنَة ووصاب وحفاش وملحان، فبقي المهدي حائراً من ذلك، وهو يسمى[233/أ] في كتب الطب الطباق، شجرة لا إسكار فيها ولا شيء مما يقضي بتحريمها، لكنها مكروهة فقط؛ لكونها مجرد دخان يقل الانتفاع بها، ولكنها ماكانت تستعمل الزمان القديم بشرب الدخان منها، بل استعمالها بالأدوية بالسفوفات والمعاجين.
وفي هذه الأيام وقع بَرَد كبار في حيز حجة والعبال، وُزِنت كل بَرَدَة ستة أرطال.
وضرب الملك الزاهر ضربة جديدة مثل البقش الأولة وأصغر، إلا أنها كانت أقل خلطاً من النحاس.
ولما سكن محمد بن المتوكل ببرط أقبلت إليه قبائل برط بالضيافة من الغنم، ولم يحمل الناس بلادهم بل طلعت القوافل من ورائهم، وارتفع السعر في برط بلغ القدح إلى ستة حروف والعلف ارتفع ثمنه، ونال الناس المشقة فيه، إلا أن محمد بن المتوكل بذل لهم، والقاضي علي بن محمد بن علي بن قاسم البرطي توفي ببرط، وأصله من قضاة عَنْس ، وإنما جدودهم من زمان المنصور عبد الله بن حمزة نقيلة في جهات عيان، كانوا في المدينة لما خربت في مدة الإمام القاسم، تفرق أهلها فطلع جده علي بن قاسم إلى برط، سكنوه من ذلك التاريخ في زمان محمد باشا فمال قبائل برط إليهم، وسلموا إليهم زكاتهم، وكان غير مبايع لأحمد بن الحسن، واستمر على ذلك مدته حتى مات بعد اتفاقه بمحمد بن الإمام إلى عيان، وكانت وفاته بشهر رجب ومحمد بن المتوكل يومئذٍ هنالك عندهم.
وفي هذا الشهر قطع المهدي رأس اثنين من الحرامية بمحطته في بير الدرج بالرحبة، وذلك بسبب قتلهما لرجل في المنزل من بلاد سُمَارَة وأخذ ما معه.
وفي نصف رجب توفي الحكيم الطبيب محمد لطفي بن الأمير الحرار، كان بمدينة صنعاء من الحكماء العارفين[233/ب] بالطب وعلى يديه يقع الشفاء، وكان عارفاً بأنواع العلل وأسمائها، والمعاجين ومجموعاتها.
وفي هذه الأيام بشعبان لما بلغ علي بن أحمد صاحب صعدة حركة محمد بن الإمام بالعود إلى بلاد عيان، وزال عنه الأوهام، وصل إلى عيان بقي نحو ثلاثة أربعة أيام، ثم رجع بلاده صعدة.
وفي نصف شعبان خرج محمد بن المتوكل من عيان وعاد إلى صنعاء، بعد صلاح تلك الجهة، وقبض جميع ما راح من النهب من سفيان ومن برط وأكدوا عليهم الأيمان، وولَّى في قصر عيان والياً وجعل معه عينة من العسكر إذا صبروا على الاستمرار في ذلك المكان، واستمر الدولة على الوفاء بمالهم من السبار كما كان أول الزمان في مدة السلطان، وكانت أيام السلطنة صالحة والدولة عليها حاكمة، حتى خربت وزال عنها الولاة، فما زال يحصل فيها ما يحصل، فلا قوة إلا بالله، وصار حالهم فيها كما قال الشاعر :
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
ولا يكاد يصلح إلا باستمرار الدولة فيها وعمارة المدينة إذا حصل لها كما كانت أولاً، فأما بلاد برط العليا فلا مصلحة فيها ولا طريق هناك يحتاج إليها، والله يصلح البلاد. رأيت مرسوماً سلطانياً تأريخه سنة عشر وألف للشيخ قاسم من آل سليمان والشيخ فلحان من أهل عيان بالأمان لهم والضمان والوعيد لمن تعدَّى عليهم من سفيان.
وأما الداعي السيد محمد بن علي الغرباني فبعد اتفاقه بمحمد بن المتوكل وضيافته له وصار على حاله في دعوته وعلامة اسمه ولقبه، وكان بعض أهل برط قد تبرى من جيرته وسكونه مثل الشيخ الذي يقال له: أبو عروف وأصحابه، ولكنه سكن عند أنسابه الردسة .
ووصل هذه الأيام إلى صنعاء[234/أ] الشريف العارف إسماعيل بن إبراهيم الحنفي الحسيني، وذكر أن صنوه كاتب مع السلطان محمد بن إبراهيم بن عثمان سلطان الروم، وأنه وصل إلى زبيد هذا العام بعد الحج إلى بيت الله الحرام، ووضع بعض كتبه وديعة بزبيد، وطلع إلى هذه الجبال متنفساً، وراجعه من راجع فوجده عارفاً بعلوم العربية والمنطق والحديث وفقه الحنفية، واتفقت به غربي صنعاء، باحثته في فقه الحنفية، فوجدته عارفاً، وسألته عن قول الحنفية في الماء الكثير أنه عشرة أذرع في عشرة بذراع الكرباس، ما الكرباس؟ فقال: الكرباس: الثوب باللغة الفارسية، ومراده بالذراع الذي يذرع به الثوب، ومعه من الكتب الخبيصي ، حاملاً له على ظهره، ولم يكن معه أحد من الخدم، بل يدور في البلدان يسكن في المساجد، وكان سكونه حال وصوله إلى خارج صنعاء، سكن ببعض مساجد بير العزب، ولما طالع (المجموع الكبير) لزيد بن علي قال: ليس بين أبي حنيفة وبين زيد اختلاف إلا القليل في نحو اثني عشر مسألة.
وفي يوم الثلاثاء ثاني وعشرين شهر رجب وقع قران المريخ والزهرة ببرج العقرب.
ووقع في بلاد خولان صنعاء فتنة بين بني جبر وبني سِحَام ، وخصام أفضى إلى الحرب والقتال[234/ب].
وأمر المهدي السيد الحسن بن مطهر الجرموزي صاحب المخا بعمارة باب المندب والتحصين له، فشرع السيد في ذلك، وكان في ذلك المحل آثار خراب عمارة كانت من زمان بني زريع الذين كانوا ملوك عدن ثم خرب، وهو مجمع طريق التجار الذين يخرجون من البحر الكبير إلى حدود بلاد المخا.
وأهدى للملك الزاهر بعض الواصلين من أهل الهند عربة صروف على عجيل، ويجرها بقر من بقر الهند، وفيها حلي وتزويق في العربة وعناية، وكان أحمد بن الحسن يركب عليها وتجرها البقر في التماشي وهو فيها، ولما دخل صنعاء مرة لقوها له إلى خارج الباب وركبها.
وفي عشرين شهر شعبان انتقل أحمد بن الحسن من المحطة الأولى التي غربي بني الحارث إلى محطة أخرى، خيمها في مكان يقال له: بير زاهر من الرحبة، ولم يلبث أن انتقل بعد ذلك إلى الغراس مستقره، وقَوَّض جميع خيامه.
قال الواصلون من البلاد البرطية: لما وصل علي بن أحمد إلى عيان، ووافق محمد بن الإمام ومن معه من الأعيان جرى بين محمد بن الإمام وبينه المعاتبة، وكان المعاتب محمد بن المتوكل فيما جرى منه إلى والده تلك الأيام، ثم جرى ذكر مسألتين أوردها علي على محمد أحدهما: إطلاق جميع الكثرة على القلة يعد من المجاز، والأخرى قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} فلم يتفق حضور جواب في المقام عند المسؤول بذلك وهو محمد بن الإمام، ولكن علي بن أحمد لم يكن في العربية بذاك، فإنه ادعى أن الممتنع ينصرف، ولا قائل به.
[230/أ] وأما السيد محمد بن علي الغرباني فإنه لما آن خروج محمد بن الإمام من برط أرسل بالحصان الذي كان قد عينه له يوم قدم إلى المراشي وآذنه بالارتحال، فأرجع إليه الحصان، وقال: إن له عذر بسبب تأثر معه عما كان وعد به في المقال، فعذره محمد بن الإمام وقال: لا تخرج عليه سواء صدق أو لا فيما تحدث به وقال، والمهدي لما وصل محمد بن الإمام كان ما يكره وصوله إليه، وذكر الواصلون أن السيد لم يكن في العلم كما يوصف، وإنما له بعض مشاركة في الفرائض يسيرة غير معتدة، أورد عليه بعض الحاضرين مسألة في النحو، فلم يجب عليها، واستبهم عليه إفادة السائل لحلها.
وأما الفقه فلم يكن له فيه معرفة ولا في الحديث ولا في السنة ولا في الأصول، والله أعلم.
وفي يوم الأحد عاشر شهر رمضان منها مات الفقيه العارف علي بن محمد بن سلامة بصنعاء، كان المذكور في المدة السابقة ملازماً للآغا عبد الله المعافا صاحب السودة بشظب، وكان متى نزل عبدالله المعافا متنزهاً إلى بساتينه التي بجوار السودة عند الغيل الذي كان له هناك قوة في ماجله، ويحصل بينهم المزاح والدعاب، ويحصل منه لهم الإعجاب، ثم إنه حصَّل العلم من بعد تلك الأيام، وكرع فيه بعد زوال دولة ابن المعافا وما جرى عليه من الباشا. ولما زالت دولة حيدر باشا من صنعاء، وصارت ولايتها إلى علي بن المؤيد بالله فيما مضى تعلق به ولازمه في كتابة الإنشاء، وكان [235/ب]بارعاً في الكتابة، سريع الجري للقلم مع الوقاعة ، فكان قد أخذ في العلم على جماعة من مشائخه، وكان مشاركاً في علم العربية والأصول، وله أيضاً مشاركة في الفقه إلا أنه كان طارحاً لنفسه متواضعاً، بحيث يقضي حاجته من السوق بيده، وكان قليل المراجعة في العلم إذا درسه أو قرئ عليه، بحيث القارئ عليه إذا قرأ لا يستفيد منه إلا مجرد السماع دون المراجعة والأبحاث والمناقشة فلا يحوم حولها ولا يستفيد منه طالبها. وكان مع ذلك قليل التصدر للتدريس، وكان قد أخذ في علم الحديث على الفقيه عبد الهادي القويعي الحضرمي الشافعي، ولكنه مع ذلك كما روى عنه كان جارودياً، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم، وكان ظن مخايله خلاف ذلك لأمرين:
أحدهما: كونه كان ملازماً للأمير عبد الله المعافا، الأمر الثاني: أخذه في بعض علم الحديث، وله من التصانيف (شرح الفصول) في أصول الفقه، شرح نقل لا شرح نظر؛ لأن الرجل كان نقالاً لا نظاراً، وله مختصر في علم اللطيف، وله سيرة للإمامين القاسم بن محمد وولده المؤيد في جزئين ، وله شرح على (الأزهار)، تحصيل حاصل نقله من شرحه المعروف، ولم يكن في مصنفاته فائدة، ومن جملة ما رأيته في (شرح الفصول) في باب الإجماع تخطئة الإمام يحيى والإمام المهدي أحمد بن يحيى في قولهم بأن حكم أبي بكر في فدك صحيح، وأن قولهم هذا مخالف لإجماع أهل البيت وإنهما مسبوقان بالإجماع، وهذا قول ساقط باطل فإنه لا إجماع بل قول زيد بن علي ظاهر في تصحيح ذلك وهو إمام الزيدية، وقائل: بأن الإمامة في قريش يعرف ذلك من عرف، لكن الفقيه علي المذكور حمله الميل إلى مذهب الجارودية. ومن غرائبه أنه سأله سائل عن كفارات وصية معه يدله إلى من يصرفها فقال له:[236/أ] اصرفها في بني هاشم، فإنهم أحق بها، وهذا مخالف لنصوص العلماء؛ لأن الفقراء من بني هاشم تحرم عليهم الزكاة والكفارات باتفاق العلماء، بحيث أن السائل لم يعمل بقوله؛ لأنه حنفي المذهب، وقال لي السائل: إنه قال له عند جوابه اصرفها كذلك ولا تقل لأحد أني قلت لك به، ولا دليل له عليه، بل ذلك من رأيه الذي لا يلتفت إليه استناداً منه إلى أن فقراء بني هاشم في ضرورة فهم أحق، ولكن لا تحقق الضرورة معهم، فإن من قال بجوازها للضرورة حيث تحققت معهم، مع أن الجمهور على خلافه.
وفي هذا العام حصل في الموسم الهندي حركة في البيع والشراء بالمخا، حتى راح الآخر بلا شيء من التجار، ونقص فيه سعر الذهب عن العادة، قالوا: ما يأخذوا الحرف الأحمر إلا بقرشين إلا ثمن.
وفي النصف الآخر من شهر رمضان ظهرت نار عظيمة في الجبل المقابل للمخا في البحر تلتهب وترمي بالشرر إلى البحر وتصعد في السماء كالمنارة العظيمة، يرونها كذلك في الليل من الجبال اليمانية البعيدة كجبال وصاب وغيرها وفي النهار يرون دخانها كالسحاب، وظهر في خلالها نتن في البحر بسبب موت كثير من الحوت المقارب من الجبل، لما حصل من حرة وهجها وقذف البحر بشيء منها إلى ساحل المخا، وحصل في المخا زلازل شديدة ثم تعقبه حريق حرق فيه النصف فأكثر. وركب السيد حسن [236/ب]، الوالي عليه في البحر بأهله وأولاده، وفات عليه من المنقولات بالنار كثير وعلى غيره من الساكنين، والنار يومئذٍ في الجبل المقابل للمخا باقية، يقال للجبل: سُقار- بضم السين المهملة ثم قاف ثم راء- مشهور هنالك، حتى إذا كان أول شوالها نزل عليها مطر من السماء أطفأها وزال بسببه لهبها واضمحل أمرها، فلله الحكمة فيما يشاء.
وقد كان اتفق من النار نار عظيمة في الجبال السبعة بين كمران ودَهْلَك ، كان يرى من جبال سردد كحفاش وملحان وفي النهار يرى دخانها كالسحاب وذلك في المائة الثامنة ، وكان بعدها ما حصل من الفناء العظيم باليمن المشهور، نسأل الله العفو والعافية.
وكذلك ظهور النار التي ظهرت قرب المدينة بالحجاز التي كان وعد بها النبي÷، كانت تأكل الحجر ولا تأكل الشجر، وحصل عقبها فتنة التتار المشهورة.
ورأى في شهر رمضان كثير من الناس السماء منشقة وخرج منها نور أضاءت له الأرض، هكذا رواه من رآها كذلك من الثقات وذلك في العشر الآخرة من رمضان، ولعلها ليلة القدر؛ لأنه قد روي أنها قد تظهر كذلك، والله أعلم.
وفي آخر رمضان[237/أ] وصل كتاب من الشريف بركات إلى المهدي، يذكر فيه أنه بلغ خروج كثير من باب السلطان هذا العام، فكان كما قال، امتلأت مكة من عساكر السلطان أيام الموسم، وذلك أنه حج كثير من الكبراء والأمراء وبعض خاصة السلطان من أولاده وبعض الوزراء والأمراء والأعيان.
وفي يوم الخميس ثاني عشر شهر شوال توفي السيد الشريف العارف غوث الدين بن يحيى بن غوث الدين بن مطهر بن الإمام شرف الدين بمدينة صنعاء، كان سكونه ومستقره بها من دولة السلطنة، وكان عارفاً بالعربية، ومشاركة في غيرها، قرأ على الفقيه عبد الرحمن الحيمي وعلى السيد محمد بن عز الدين المفتي المؤيدي، وعلى الفقيه أحمد بن سعيد الهبل ، وكان قد لقي كثيراً من العلماء الأولين مثل السيد صلاح الحاضري السراجي، والقاضي إبراهيم السحولي وغيرهما، والرجل كان حسن الطريقة إلا أنه دخل عليه آخر مدته عقيدة الجارودية، فلا قوة إلا بالله.
وفي هذا الشهر هرب جماعة من العبيد الخيالة من أصحاب المهدي إلى عند صنوه حسين صاحب رداع، وقال: ما كساهم المهدي في عيد رمضان، ولا عدَّ لهم جوامكهم.
وفي شهر القعدة وصل جواب[237/ب] المهدي من العماني إلى عدن ثم إلى حضرته، ولم يعرف ما لفظ جوابه إلا رواية أنه قال: عساكره مأمورة بالكفار من الفرنج والبانيان، أينما وجدوهم في البحر أخذوهم، ولم يأمرهم بتعدي إلى بنادر اليمن كما أجاب به على المتوكل.
ووصل خبر في هذا الشهر حصول قضية بالمدينة المشرفة فرقة بين عساكر السلطنة، راح فيها جماعة، وقتل فيها حاكم الشريعة، فطلبهم باشا مصر وقتل بعضهم ومحى الباقون من الدفتر ونكل بهم، وأبدلهم بغيرهم.
ودخل المهدي صنعاء في شهر الحجة عقب العيد، وبقي قدر نصف شهر وأراد جمع قاسم بن المؤيد وصنوه حسين وولده محمد، فاعتذر الجميع وقالوا: يلزمهم نفقات ولا موجب، فعاد الغراس.
وفي هذا الشهر غزا برط إلى البراغشة من بلاد عذر، فقتلوا منهم ستة، وقتل من برط اثنان، وغزوا بعد ذلك إلى سفيان، وقالوا: ذلك الجميع لقتول بينهم.
وفي هذه الأيام ظهر مجنونان أحدهما: ادعى النبوة وأنه قد رفع عن الناس الصلاة والصيام، وأن السماء قد امتلأت من الصلاة والصيام، فلم يبق بها اتساع، والآخر قال: إنه يطلع السماء[238/أ] ومعه بيرق يسير به مع العسكر، وخرافات المجانين كثيرة، نسأل الله العفو والعافية.
وفي شهر الحجة منها مات محمد بن زيد بن محسن المكي ببيت الفقيه بتهامة؛ لأنه سكنه منذ خرج هارباً من مكة حال أن طرد سعد عنها، ولما مات طلع أصحابه إلى المهدي، وانضم إليهم بعض أولاد سعد بن زيد يطلبون السبار، ورأيت من أصحابهم من يطلب الصدقة في الأبواب.
وفي هذه الأيام أرسل المهدي إلى اليمن الأسفل أن الولاة الذين قد اكتسبوا فيه الأموال كالشيخ راجح وولده، والسيد جعفر الجرموزي صاحب العدين وغيرهم يسلمون الذي على ما لهم من المطالب، بعد معرفة ذرعه، فتضرر أولئك، وقالوا بأيديهم مراسيم وخبريات من المتوكل وغيره.
ووصل خبر في هذا الشهر بأن العماني سلطان بن مرشد توفي ببلاده، وأقيم بعض أولاده.
بهجة الزمن
في
تأريخ اليمن
ليحيى بن الحسين بن القاسم
الجزء الثالث
[1/ب]
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
ودخلت سنة إحدى وتسعين وألف
في محرمها جاء خبر الحاج أنه كان فيه كثرة وقوة، خلاف العادة السابقة، وأن القوة كانت للشامي، وفيه كثير من الأمراء والأعيان من الروم. وقيل: إن فيه كان حاجاً ولد السلطان محمد بن عثمان، وبلغ الناس في منى إلى وادي محسر ، واستغرق العسكر كثيراً من بيوت مكة، حتى بيت المتوكل الذي بمكة، كان شراه في المدة السابقة، وكان ينزل فيه الحاج فرحان في أيام سعد بن زيد. وأما الحاج اليماني فكان ضعيفاً إلى الغاية، وخرج حاج اليماني قبل عزم الركب الشامي والمصري، ولبث حاج الشامي والمصري زيادة على عام قبله بمكة، ثم ساروا بعد عزم اليماني.
وفي يوم السبت آخر شهر محرم مات القاضي أحمد بن جابر العيزري الأهنومي بمدينة صنعاء. كان المذكور له معرفة بفقه الهدوية، لا غيره من الفنون العلمية. وكان متنسكاً يتشبه بالصوفية، ويخدم نفسه من السوق بالحاجات السوقية، ويحملها بيده وعلى جنبه، وكان كثيراً من أيامه يخرج بطعام في جرابه ،ويطوف به في السكك يطعم منه من تبعه من الغرباء والكلاب، حتى أن الكلاب تتعلق بثيابه وهو يلقي لها ما تأكله، وكلما رأته كلاب المدينة تكاثرت عليه وتبعته، وسأله بعض السائلين كيف يصلي في ثيابه، وقد تنجست من الكلاب التي تعلق[2/أ] بأطرافه وأهدابه، فأجاب بأنه يطرح عباية حال صلاته ............. في المَصَر وغيره على رأي إمامه الهادي، وقد كان آخر أيام المتوكل إسماعيل بن القاسم أيضاً لا يصليها، قال: لتغير سيرته فيها، فتركها، وقبر بخزيمة جنب القاضي إبراهيم بن حسن العيزري ، وكان من آخر يوم الخميس ويوم الجمعة، ومات بكرة يوم السبت.
روي عن زوجته أنها قالت: كان يقول حال مرضه هذا وشدة ألمه مخاطباً: لِمَ تقتلوه؟ ولا يدري من يخاطب بذلك.
قال الراوي: فيحتمل أن يكون من قبيل حديثه من الجان، لأنه كان يقول: إنه مخدوم وإنه سيحضرهم، والحكمة لله، فإنه قد ورد في قوله تعالى: كـ{الذِي يَتَخَبَطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } أن الصرع أحد أنواعه من قبل الجان، ومنهم من يموت من ذلك، وأحد أنواعه ألم من قبيل البخار، والتخلية قد تحصل لمن أراد الله، كما قال تعالى في سياق الحفظة من الملائكة:{ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ الله } .
{وَإذَا أرَادَ الله بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ } ، ونسأل الله العافية والكفاية. وهذا أحد الأشياء الذي ينبغي ترك تعاطي طلب الاستخدام بالرقى[2/ب]، فإن ذلك يحتاج إلى كمال شروط التقوى، لتكون اليد قاهرة وشروط الولاية والعصمة عسرة، نسأل الله الثبات على السنة. وكان المذكور مع هذا يحكم بالقضاء، ويتولى فصل الشجارات لمن إليه أتى، من غير ولاية له من المتوكل ولا من بعده، وقال مرة لمن سأله عن ذلك وكيف تقضي من غير ولاية؟ فقال: إنه لا يحتاج إليها، فإن ولايته من الله تعالى.
وفي هذه الأيام اتفق أن رجلاً رقد النهار بجامع صنعاء، فخرج حنش من الحيات يسعى في المسجد حتى دخل سروال ذلك النائم، فقال الذين رأوه: دعوه لا تحركوه لئلا يضره ولا تنبهوه، ثم خرج من سرواله لما لم يجد منفذاً، والرجل نائم، فلما قام من نومه أخبروه بالقصة، فحمد الله على السلامة.
وفي شهر صفر جَدَّ المهدي أحمد بن الحسن بإخراج اليهود من اليمن، وأرسل عليهم مترسَّمين ومتقاضين لهم ومخرجين، فخرج يهود صنعاء وجميع بلادها ما بين شهارة وسمارة، ونزلوا إلى جنوب موزع، حسبما أمرهم بأهليهم وأولادهم. وكان نزولهم إلى هذا المحل بمشورة محمد بن المتوكل، فإنه لما عرض أحمد بن حسن عليه الكلام في حديثهم، وكان محمد بن المتوكل غير راض بإخراجهم، ورأى أن المهدي قد أصر على إخراجهم أشار بأنه إذا كان ولا بد فإلى أطراف اليمن كبلاد السواحل، ولم يعرف أن ذلك لا يتم لهم لتفرق معايشهم في أرض اليمن لحرفهم وأشغالهم، واجتماعهم في محل واحد لا يحصل نَفَاق لمهرهم وصناعاتهم[3/أ] ونفعهم وانتفاعهم، فكان أرادوا بالخروج إلى سواحل تهامة في الجهة الغربية مما يلي بلاد المَهْجَم والكدر ، فمنع أهلها عنهم وقالوا: عليهم ضرر بتضيق مراعيهم وحقوقهم وبلادهم، وأن ذلك لا يتم لهم، فعدلوا إلى تهامة الجنوبية بنواحي بلاد موزع. وتضرر أهل البلاد منهم، وهم أيضاً تضرروا لعدم تمام نَفَاق معايشهم، فرجع أكثرهم إلى حيث كانوا، والقليل منهم تفرقوا في اليمن الأسفل وقرُّوا. وكان قد باعوا بيوتهم بصنعاء وغيرها بنصف قيمتها إلا اليسير منها، وكان بعض من اشتراها قد خربها وباع مؤنتها وحجارها وأخشابها. ولما تفرق اليهود كما ذُكِر كتب أحمد بن الحسن إلى صاحب أوسة بسواحل الحبشة أنهم يخرجون إلى جهاته وله جزيتهم، فأبى ذلك، وأجاب على المهدي أن البلاد للسلطان، فأمر لهم في السكون حيث كانوا، فمنهم من رجع إلى تلك البلد التي كان فيها، ومنهم إلى قريبها. ويهود صنعاء عمروا لهم غرب بير العزب خارج صنعاء ديماً وبيوتاً في أطراف أصلاب كانت بجانب الوقف استأجروا أرضها وعمروها.
وضرب أحمد بن الحسن ضربة جديدة فيها بعض أخلاص مع صغر البقشة، حتى بلغ الصرف لأجلها القرش بأربعة.
وفي هذه الأيام وقع سؤال بحبور في كتابة الترضية على الصحابة رضي الله عنهم كيف تكون فيمن خرج على علي بن أبي طالب كمعاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة وأشباههم فيمن كتبها من الشافعية في الأصل على مذهبهم؟ وكان الناسخ لا يروي مقالهم، فأجاب السيد يحيى بن إبراهيم بن جحاف: أنها تكتب من الأصل على حالها حكاية لقول المصنف ولا ينبغي تغييرها، وأجاب صنوه إسماعيل بن يحيى جحاف بحذفها[3/ب]. والجواب الأول هو الصواب؛ لأن كتابة ما لم يكتبه المصنف أو حذفه من الكذب عليه والتحريف لكلامه وتغيير قصده ومراده؛ لأن المصنِّف إنما يضاف إلى مصنفه، فلا يغير مقصوده وما قرره، والله أعلم.
وفي شهر صفر وقع فيما بين أهل صبيا وبني حبيب من القبائل التي حولها مما يلي الجبال شرقيها، وذلك أن السيد صاحب صبيا غزا بعض صرومهم فيها، فانتهبهم وسار بمواشيهم، فتغاور القبائل وصاحت عليهم، فتبعوهم، فوقع بينهم مقتلة، راح من الأشراف جماعة، واستردوا حقهم منهم، ثم صالوا من بعد على أطراف صبيا قصاصاً بما جرى معهم على زعمهم، فلم يقدر الشريف إلى دفعهم لركة يده، فكتب إلى المهدي أحمد بن الحسن بالإمداد لهم، فكان أَهَمَّ،ثم ترك ذلك ووعدهم.
وفي هذا الشهر وصل إلى صنعاء جماعة من عساكر السلطنة الذين كانوا مع الباشا علي، الذي سكن في اللُّحَيةَ بعد أن عزم الباشا وبقي بعضهم فيها، فلما وصلوا باب السبحة وقفهم والي المدينة حتى يستأذن لهم، ثم دخلوا صنعاء وهم قدر ثلاثين نفراً بسلاحهم وبنادقهم، ثم خرجوا إلى حضرة المهدي الغراس.
وفي يوم السبت تاسع وعشرين شهر صفر أكسفت الشمس على مضي سبع ساعات أو ست في برج الحمل، وكان المنكسف منها يسيراً بحيث لم يدرك كسوفها[4/أ] أكثر الناس، وصُلي لها صلاة الكسوف بالروضة لمشاهدتهم لها، ولم يُصَلِّ لها في صنعاء لاتفاق سحاب حجبها.
وخرج يومئذ محمد بن المتوكل إلى الغراس، ووصل يومئذٍ محمد بن المهدي صاحب المنصورة التي باليمن الأسفل بعد تكرر الاستدعاء له من والده وكثرة المواعدة له، فكان وصوله صنعاء نصف ربيع الأول. وكان خروجه من المنصورة وهو في غمرة التردد وتقديم رجل وتأخير أخرى، وسار إلى السواحل الجنوبية والبلاد التهامية ما بين عدن وموزع، ثم عاد إلى قعطبة، ثم طلع إلى الجهة الرداعية وافق عمه حسين بن الحسن، ثم تقدم إلى حضرة والده، وكان المتوسط والساعي بينه وبينه محمد بن المتوكل، وجعلوا له بلاد حيس، وكانت في ولاية السيد زيد بن علي جحاف. ولم يلبث عند والده بالغراس إلا دون الشهر وعاد إلى بلاده، إذ كان قد رحل من البلاد العليا بجميع أهله وأولاده. وأطلق والده يده في الأوامر والنواهي باليمن الأسفل في إنصاف الشاكي. ووالده المهدي خرج عقبه من الغراس يوم الإثنين رابع عشر شهر ربيع الثاني إلى الشَرَفة ما بين بني حشيش وبين بلاد نهم، فاتفق وصول نهم وهم يضربون الريح تجاه أصحابهم[4/ب] فمنعهم بنو حشيش من ضرب الريح في بلادهم، كما هو عادة القبائل منهم، وقالوا: يدخلون بغير طاسة ، فحصلت بينهم الفرقة، ولولا دخول خيل أحمد بن الحسن لفك الفتنة لحصل ما حصل منهم من المحنة. وعقر حصان السيد صلاح الديلمي بضربة، فلما اتفق هذا منهم تثاقل المهدي فوقهم وخطط عليهم الحاضرين بالأقوات حتى حصل الضرر معهم، ثم خرج عن بلدهم بعد مرور أيام.
وفي خلال ذلك وصل رتبة جبل ضوران شكاة من حسين بن المتوكل وما نالهم منه من التقصير فيهم، فطلب حسين إلى صنعاء وعوتب في ذلك الذي جرى، وخصوصاً مع أجرة يده في بلاده واعتلاقه، ولوم على محمد صنوه، ولا تأثير له معه، فبقي بعض المدة بصنعاء حول نصف سنة، ثم عاد إلى ضوران على ما يعتاده من البلاد، وكان حسين هذا يسمر في الليل طويلاً وينوم آخره، فيثقله النوم حتى تفوت عليه صلاة الفجر في بعض أيامه.
وفي هذه الأيام بشهر ربيع زاد المهدي في دفعة بلاد حجة قدر ألفين حتى أوفاها إلى السبعة، وكانت من قبل أربعة، فدخل فيها السيد علي بن حسين والي حجة، ورفع أحمد بن الحسن عن بلاد حجة مع هذه الزيادة[5/أ] زائد الربع، وكذا زَيَّد على والي ريمة السيد إبراهيم بن علي بن جحاف، وأزيلت يده عن ولايتها وتولاها حسن ناجي من الكلبيين، ودفع إلى محمد بن المتوكل كل شهر ستة آلاف بعد أن كان يدفع السيد إبراهيم ثلاثة.
وأزيلت يد السيد زيد عن ولاية بيت الفقيه بعد حيس، ولم يبق مع السيد زيد إلا بلاد زبيد، والسيد قد توسع كثيراً في بيوته وجواريه وخدامه، فحصل معه ومع بني جحاف ما حصل من الشدة والضرر هذه المدة. وكذلك تقاصرت أحوال تقاريرهم في بلاد حبور وما يعتادونه من سباراتهم ، وكذلك بلاد شهارة حتى رحل كثير من أهل شهارة عنها من الذين كانوا في الأصل من غيرها، والدنيا تقلب بأهلها، وفيها عبر لمن اعتبر فيها.
وفي سابع وعشرين شهر ربيع الآخر كان خروج المهدي من الشَرَفَة، بعد أن لبث فيها قدر نصف شهر، وجاءت طريقه إلى بلاد سنحان من خلف جبل نقم، ثم خرج إلى سوق الجمعة ثم إلى ثوبان ، ووصل إليه صنوه حسين من رداع والتقوا في ذلك المكان. وقبض المهدي جماعة من أهل المشرق من المتشاجرين، وضرب في أعناقهم الزناجير، وحصل في مروره هذا على بلاد بني بهلول ومسور معرة مع ضعف بلادهم هذه المدة، وطاف المهدي وادي نيعة، ولم يستقر فيها لأنها وبيَّة[5/ب]، وفيها حيات كثيرة، وكان وصول صنوه إلى ثوبان يوم الخميس ثالث وعشرين شهر جمادى الأولى، ولم يتلفق بينهم كلام في شأن إرادة المهدي بدخوله معه إلى صنعاء، واعتذر عن ذلك المجرى، ثم سار حسين إلى ذمار واعداً له باللحوق. وأحمد بن الحسن سار إلى زيلة يكْلاَ وانتظره فيها، ثم وصل إليه صنوه حسين إليها، وأصدق الإعتذار وأن دخول صنعاء يشق عليه النفقات واللوازم فيها، فعذره يومئذٍ ومنها تفرقا، فرجع حسين إلى بلاد رداع، وأحمد بن الحسن دخل صنعاء ثم خرج الغراس مستقره.
وفي هذه الأيام ظهر في أيدي الناس.........
وفي هذه الأيام وافقني رجل من جند السلطان الذين طلعوا من اللحية، فذكر انه أسلم بالمصوع، ثم دخل مكة وحج وزار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقرأ القرآن، ثم دخل الروم، ثم خرج مع الباشا علي، فلما عزم الباشا بعد أن استقر باللحية قدر ستة عشر شهراً، سنة وأربعة أشهر طلع صنعاء.
قال: وكان خيَّالاً معه حصان مات عليه في الطريق عند طلوعه حولي بلاد المحويت، ومعه زوجته وأولاده، وكان تأهل بالحبشة، وإنما رحل الروم برأسه.
قال: وبقى عند حسين بن المتوكل[6/أ] من أصحاب الباشا الأتراك قدر سبعين نفراً من غير الذين رجعوا مع الباشا علي، ووصف قوة السلطان محمد بن إبراهيم بن عثمان هذا الأوان، وكثرة استفتاحه في بلاد الفرنج النصارى، واستيلائه على بلاد مالطة وبلاد الجريد وغيرها.
قال: وهو يقرب لصاحب الحبشة الذي كان وصل إليه القاضي حسن الحيمي أيام المتوكل، الذي أرسله في الأيام السابقة، وأنه حال وصوله وهو هنالك قبل أن يسلم، وخرج من بلاده محبة في الإسلام. وأن ملك الحبشة العليا في جبالها من النصارى كان محباً للإسلام، لكنه لم يقدر على إظهاره خوفاً من النصارى أهل بلاده، وأنه كان في الباطن مسلماً، ومات على الإسلام، هذا خبره الذي أخبر به.
وفي هذه الأيام ظهر في أيدي الناس ذهب أحمر، ضربة الدينار، ووزنه وزنه ، ولكن رسمه مخالف، فيه: بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله، توكلت على الله، وداخلها الله حق ناصر الحق المبين، وفي الجانب الثاني: أحد وتسعين وألف، ضرب بحضرة أو .... حاطها الله، هذا لفظه، ولم يصرح باسم الضارب على هذا، ولم يعرف من ضاربه أصلاً، ولكن خروجه مع موسم الهند وظهوره من المخا، وقيل: إنه فهم ضربة فاس وهو في المغرب الجوان صاحبه الشريف الإدريسي، وعنده معدن الذهب الشريفي الذي يضرب منه في مصر، وهو هناك أمير مستقل شريف مالك، يهادي السلطان، والسلطان له أكثر المغرب الجوان كتونس وجزيرة الأندلس.
[6/ب] وفي شهر ربيع الآخر هذا لما دخل أول المراكب الهندية إلى بندر المخا دافع الفرنج بآخرهم في أطراف باب المندب قدر مركبين من مني بار ثم عادوا، وكان مرادهم بمراكب أهل عمان، إلا أنهم فاتوا عليهم.
ووصل رجل خواجا من الرافضة الاثني عشرية إلى حضرة المهدي، أعطاه من الهدايا وجازاه فيها، وعاد إلى بلاده.
وفي يوم السبت خامس وعشرين شهر جمادى الأولى مات القاضي العارف أحمد بن يحيى السحولي بصنعاء، وكان له معرفة بالفقه ومشاركة يسيرة بالنحو، وكان خطيباً بجامع الروضة، ويتولى بعض الأشياء في القضاء بعد أن كان أمره المتوكل بعد وفاة صنوه حسين قاضي صنعاء، فاعتذر عنه، وكان يتولى الأمور الخفيفة لا غيرها، وكان نشوءه وقراءته في زمان محمد باشا، وهو يعرف جعفر فمن بعده. وقبر جنب إخوته إبراهيم وحسين بالمحاريق، خارج باب اليمن.
وفي شهر جمادى الثاني غزت دهمة إلى الجوف، ولم يتم لهم النهب[7/أ] بل دفعهم الجوف، ثم أرسل المهدي الجوف لدفعهم، فجاءوا وقد هربوا. وكتب المهدي إلى محمد بن المتوكل كيف هذا جرى من برط؟ بعدما قرره عليهم من المواثيق والعهود عند دخوله إليهم، فأجاب محمد: أن الذي جرى إنما هو في التعرض لطريق العمشية من صعدة وصنعاء، وأما غير ذلك فلم يذكره. واتفق أنه كان عند المهدي هذه الأيام جماعة من برط، فقبض من كل حبل واحداً وحبسهم حتى يعود ما أخذوه من الجوف؛ لأنهم عادوا إلى مكان آخر انتهبوه، فأعادوا بعضه، وبقوا في الحبس مدة.
وفي هذه الأيام ترسل القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال إلى المهدي في شأن اليهود فيما جرى لبعضهم من الإنتهاب، وأنه لا ينبغي، فأجاب عليه المهدي: إنما ذكرتم لعله لتأخر المصروف، فصدرت حصة ثلاثة أشهر. والقاضي المذكور كثير التلون والآراء البعيدة والمناقضة، فإنه هو الذي حرض وشدد وترسل بإخراج اليهود من جزيرة العرب رسالة ثم ناقضها، كما ترى. كما قال شاعرهم :
يومٌ بحُزْوى ويوم بالعقيق ويـ
ـوم بالعُذَيب ويوم بالخُلَيْصَاء
واليهود قد............
[7/ب]وفي شعبان عادت النار بجبل سقار، التي كانت فيه العام، بقت مدة ثم زالت، والحكمة لله تعالى.
وفي هذه الأيام بشهر شعبان أرسل المهدي أحمد بن الحسن رسالة فيها عقيدته، وقال الخطيب يخطب بها يوم الجمعة، وخطب بمثلها بالغراس حضرته، فخطب بها الفقيه محمد السحولي عقب الصلاة يذكر فيها عقيدة الهادي، فعجب فقهاء الهدوية منها، وقالوا: هذا من تعريف المعروف، لا حاجة إليه، فإن الفقهاء الهدوية يعرفونها، وظن بعضهم أنه ربما رفع لمن ....... بعقيدة الرافضة، كما سبق من قصيدة الفقيه علي بن أبي الرجال، ولكنه صار يعظم يوم الغدير، ولم يعرف في عقيدة الهدوية، والله أعلم بحاله، لكنه قيل: أن أول من أبدعه المتوكل وهو بحبور، أعني يوم الغدير.
وفي هذا الشهر أظهر المهدي التجهيز إلى بلاد صبيا، معونة لصاحبه في غزو بلاد بني حبيب؛ لأجل ما قد كان وقع منهم أول السنة، كما تقدم ذكره، وطلب محمد بن المتوكل لأجل ذلك وأمره به، فلم يطابق رأي محمد بن المتوكل ما ذكره له، ولكنه لما لم يحسن في مخالفة أمره، قال: هذا شهر رمضان داخل لا يصلح فيه حركة، ويكون هذا من بعد إن شاء الله فساعده. ولما عاد محمد إلى الجراف ودخل من حضرة المهدي من الغراس طالبه العسكر في الجامكية والحساب، فاستحمق عليهم وأخذ الجريدة لضربهم لما في نفسه، وعند هذا فتح[8/أ] المهدي العدد لعسكره ووعدهم بالحركة لعقب العيد من غير مخالفة. ووصل إلى حضرته أحمد بن المؤيد من بلاد وادعة بمن معه من بلاد الظاهر ، لما حصل بينه وبين صنوه القاسم صاحب شهارة التشاجر والتنافر، ويطلب من المهدي أن تكون جميع وادعة إليه مع غيرها، فوعده بذلك وطابق غرضه، لمنافرته لصنوه القاسم؛ لأجل ما يحصل من ركة شوكته.
ولما كان غرة شهر القعدة الحرام جهز ولده حسين بن المهدي وصنوه إبراهيم إلى تهامة، فساروا، وجمع معهم من العسكر نحو ألفين، وأمر بني عمه وولده صاحب المنصورة كل واحد منهم بعينة، فبعث كل واحد منهم مائتين، وساروا غرة الشهر المذكور. واقترن حال خروجهم ظهور نجم الذنب من المشرق وقت السحر، فبقي نحو سبعة أيام، ثم طلع إلى قرينه نجم آخر، كان بينهما نحو المنزلة، فلما قاربه لم يبق إلا نحو ذراع، بينه وبينه أسفل النور وهو الذنب الذي بالأعلى إلى الأسفل وتباعد عنه به وسلب ذلك الذنب من الأعلى ثم غرب، فبقى في الغروب بقية الشهر، ثم ظهر من المغرب غرة شهر الحجة بذنب[8/ب] عظيم وشعاع كبير جسيم معتدل نحو الشام، وكان أصل ابتدائه بالمشرق ببرج العقرب، ثم قطع القوس في الغيبة، وظهر من المغرب في آخر برج الجدي، ثم ارتفع وظهر من أسفله النجم، ودخل برج الدلو ثم الحوت واضمحل في آخر الحوت في أول محرم من السنة الآتية، فالحكمة لله والقدرة له، وهال الناس ما رأوه من ذلك.
ولما سار أولاد المهدي بمن معهم طريق بلاد الظاهر وبلاد عذر والهجر، ثم خرجوا إلى عقبة القيرة ووادي جيزان ثم تهامة طريق الحاج، إلى أن بلغوا إلى أبي عريش وصبيا واستقروا بها، وكانوا مجتمعين هم والحجاج، فترجح لحسين النفوذ للحج وبقي هنالك بالعسكر صنوه إبراهيم. وأمر المهدي بالسياق من جوار جبال حراز ومساقط لاعة وحجة والشرف ومن غرابيها إلى هنالك، لضعف تهامة الشامية هذه السنة، وقبائل بني حبيب ترفعوا إلى جبال الحشر وشعابها.
واشتد الجوع يومئذٍ ببلاد برط من دهمة، ونجعوا وتفرقوا بعضهم إلى بلاد صعدة وبعضهم إلى بلاد صنعاء، وخلت في بلادهم قرى، تعجيل عقوبة لهم بإضرارهم بطرق المسلمين.
[9/أ]وفي هذه الأيام بشهر الحجة الحرام حصل بقدرة الله تعالى زلزلة في بلاد ثلا وبلاد عفار واتصلت إلى بلاد همدان، فالقدرة لله تعالى فيها، وكانت بالثلث الآخر من الليل، وآخره شيء يسير بنواحي الرحبة والغراس منها.
وفي آخر شهر الحجة مات الشيخ راجح متولي بلاد همدان، ولاَّه المهدي بعد وفاة الحرة، وكان قبل ذلك متولياً في زمان المتوكل لبلاد تعز وجبل صبر ، وكان المذكور جائراً طالما شكاه أهل جبل صبر إلى المتوكل، فلم يشكهم ولم ينصفهم بعزله، ولا حط عنهم ما زاده من المطالب، وقرره، وضَعُفوا وركُّوا كثيراً للجور فيهم، وشاجرهم وأخذ كثيراً من أموالهم بأبخس الأثمان، ثم قضى الله وفاته بصنعاء بعد طلوعه من عدن، مما عليه للمهدي من مال البندر، وأصله من بني الكينعي، جنوبي جبل ضوران وغربي ذمار.
وفي هذه الأيام اتفق أن رجلاً من أهل الشرف لما رأى القاسم صاحب شهارة يكثر الآداب بالدراهم على كل من شكاه من الآداب بحق أو باطل، ويصادق قول الناقل، فكتب إليه شكوى من مسعود أنه قال: يأكل عليه من عنبه ويغيره، فأرسل بأدب عليه قدر عشرة حروف، فوصل إلى البلد فلم يجد واحداً اسمه مسعوداً غير كلب، قال ذلك الناقل إنما هو أراده، وقال لقاسم: أنا أردت بهذا...... تكفوا عن تصديق الناقلين.
ودخلت سنة اثنتين وتسعين وألف
في أول محرمها جاءت أخبار الحجاج بأن الحج كان مباركاً على العادة، وأن السلطان أرسل بدراهم واسعة في تنفيذ العين الزرقاء المباركة عين مكة إلى وادي فاطمة، ثم تُجَرُّ إلى بندر جدة.
وفي محرمها وصل الخبر مع الحجاج بنو عضبَّبة أن حال مرورهم السراة وبنو حبيب الذين بجوار جبال [9/ب] بلاد صبيا ومساقط جبال الحشر لقوهم هاربين طالعين جبل السراة، وذكروا أن أصحاب المهدي قصدوهم إلى بلادهم، فاستأصلوا ......... وهربوا عنها. وكان ولد المهدي هو رئيس القوم قد استقر أولاً بدرب ملوح ما بين صبيا وبينهم، ثم تقدم عليهم، فهربوا عن بلادهم إلى جبال السراة.
وفي هذه الأيام قرر المهدي الجزية على اليهود، الذين كان حرج عليهم وشردهم وأراد إخراجهم، فلمالم يستقر لهم القرار في البلاد الموزعية وعادوا متفرقين في البر لطلب المعيشة أهملهم هذه المدة، وراحت عنهم الجزية حول سنة، بسبب تنقلهم من جهة إلى جهة وعدم طلبه للجزية، ثم قررها عليهم هذه المدة، فاستأنفوا العمارة لهم والشراء والكراء للمساكن في القرى، كل رجع إلى محله أو ما يقرب منه، ويهود صنعاء قال: يعمروا لهم جنوبي بير العزب خارج صنعاء، فعمروا لهم بيوتاً هنالك.
ومما اتفق أن رجلاً يقول أنه شريف، أصل جده من المغرب الجوان، وأن والده سكن الحجاز، وأنه انتقل إلى اليمن، وأنه سكن في بُرع ثم صنعاء ثم كوكبان،[10/أ] ويسأل من التأريخ وقال: أن جده ذكر الشرجي في الطبقات بعد أن ذكر أنه مات بالمغرب وقال: اسمه إبراهيم، ولا أصل له، لأن الشرجي إنما يذكر في طبقاته من كان باليمن الأسفل لا غيرهم. وقال المذكور: أنه يعرف تأريخ الشيخ حسين الأهدل ، فقلت له: نعم التأريخ له مشهور، وله غيره من المصنفات مثل شرح (دعاء أبي حربة ) ، فقال لي المذكور: ليس شرح دعاء أبي حربة له بل لغيره، فعرفت جهله. ثم قال: والشيخ حسين الأهدل سيد، قلنا: نعم، يذكر مثل ذلك، وقد أشار في ترجمة جده أنهم سادة، ثم قال: والشيخ أحمد الرفاعي العراقي المشهور سيد وهو -بضم الراء- وكل من كان بضم الراء فهو سيد، ومن كان بالكسر فهو غير سيد، فقلت له: المذكور قد ترجم له ابن خلكان في تأريخه، فضبطه فقال:لم يضبطه ابن خلكان، فعرفت جهل المذكور، وأنه يجادل بالباطل، فإن ابن خلكان ضبط الشيخ أحمد الرفاعي بالكسر للراء، ولم يذكر أنه سيد.
ورأيت رجلاً وخبره مُطلِّب في أبواب كثير من الناس بالتسبيح، وعلى جنبه إزار وسبحة طويلة، وتارة يقول: أنهم فقهاء، وتارة يقول: أنهم أشراف، وتارة يطلب عند سفر الحاج فيقول حجاج ، وكل هذا كذب منه وتارة يقول: هو من بلاد القبلة وتارة[10/ب] من بلاد آنس، وطلَّب مرة فقلت له: ما بالكم تقولون مرة أنتم أشراف ومرة فقهاء ومرة حجاج ومرة من بلاد كذا ومرة من بلاد كذا، الكذب لا ينبغي لكم، فاستحى وتوارى، وأجاب صاحبه بأن: لعله غيرنا.
وجاء الخبر مع الحجاج الواصلين الآخرين بآخر شهر محرم يذكرون أنه كان آخر الحجة والحجاج في هذه الرحلة، فانصب مطر غزير في جبال مكة، فلما رآه الناس شدوا جمالهم يريدون الهرب من السيول، لما رأوا الجبال تنصب إلى أعالي مكة، فانحدرت السيول من كل جانب، ولم تمهلهم، فحمل السيل كثيراً من الناس والجمال والأحمال، ودخل السيل المسجد الحرام، حمل من كان فيه وبلغ إلى باب الكعبة وتراجع السيل فيه وكبس إليه كبساً كثيراً وخرب من جوانب الحوانيت بعضاً ومن البيوت كثيراً في المسجد الحرام كبساً كثيراً، وعم المطر جبال مكة وكثيراً من الحجاز، وبلغ إلى القنفذة، وكان ذلك آخر شهر كانون وهو مطر الوقوف والربيع. وضرب مما يلي الغادي وخصوصاً الشبيكة وخرج السيل من العمرة، وكان خروج الحجاج على حالة شاقة، فأهل اليمن خرجوا إلى الناحية الجنوبية وشاهدوا السيل وهم في وجل عظيم بعد من راح منهم وعليهم، وباتوا خارج مكة، والشامي يقال: أنه كان قد خرج إلى جوار وادي فاطمة ، وأما المصري فدارت عليهم الدائرة وتعثكلوا بمكة، وحمل منهم وعليهم.
[11/أ] وفي عاشر شهر صفر وصل الخبر من عند إبراهيم بن المهدي من كلامه يذكر أن آل حبيب الذين يقربون جهات صبيا في حواز الجبال من شرقيها قد واجهوا وأصمتوا، وارتفع إبراهيم عنهم بجامع صنعاء، وحث الناس على إجابته وصحة إمامته، ورضاه به، ثم بعد ذلك نقض ما كان أبرمه، وأعلن فيه إلى إبطاله وندمه على ما سبق له من بيعته، وأظهر لكثير من خاصته كراهة ما تحمله، وأنه ليس بأهل لذلك، ولا يصلح لمنصب الإمامة، وتحمل الزعامة، في أقوال كثيرة، نعلم منها عدم كمال تحرير البصيرة، والتخليط والمجازفة، واتباع هوى النفوس، ولهوى النفوس سريرة لا تُعلم.
ومن مجازفاته اختباط أقواله في النقول عن أهل السنة، فإني... رأيت له شرحاً على عقيدة المتوكل إسماعيل يذكر فيه أقوال علماء السنة والمعتزلة، واختلافها بنصوصها وألفاظها، ويحتج بها على أنها متفقة في المعنى مختلفة لفظاً، كما هو القول المعتدل، ثم نقض ذلك، وندم على ما هنالك، ورد ذلك الكلام إلى الإبطال، والترك لتلك الأقوال.
وكان قد ولاَّه المتوكل في أول دعوته لبلاد الروس ، ثم عزله آخر مدته. وكان قد بنى له محلاً ما بين عافش وبين سامك ، وسكنه آخر دولة المتوكل، وفي مدة أحمد بن الحسن، وله اختلاف إلى الروضة وصنعاء. وكثر في النساء، فتزوج أربعاً بالروضة وصنعاء وعافش، وشق به النفقات، واستثقل سؤاله الأمراء، ولم يمدوه إلا بدون[11/ب] ما يطلب ويهوى، فلأجل ذلك أقال نفسه من البيعة، وغضب في نفسه من تلك الحضرة. وظهر من ذلك أن الأعمال ليس فيها تحرير النية، وأنها دنياوية، وحراسة العمل أشد من العمل، والقلم حجة على من يحمله إن........ مع الهوى، بل يصونه ويتبع الهوى، والله الموفق.
ومن جملة اضطراب حاله وأقواله أنه بعض سنين حجِّه اتفق بالشيخ العارف البابلي أيام سكونه بمكة، فطلبه إجازة في الحديث، ففعل البابلي حال عزمه ورجوعه إلى بلاده جهات مصر، وأثنى عليه وعلى الحديث والسنة، كما سمعته منه غير مرة. ويكفيك بتحقق اضطراب حاله، ومناقضة أقواله ما علم عنه من التشديد حال قيام المهدي أحمد بن حسن، وتحريضه على نصرته، وتولي الرسائل بخطه إلى الجهات، والغلو فيه بكمال الشروط والصفات. وأن أحمد بن حسن الإمام الرضى المرتضى. وصنف أيضاً عند ذلك كتاباً في صحة إمامة المقلد، واحتج على من سأله وعلى غيره، وجدواجتهد في إعلان أمره، ثم ما كان بآخره من انحطاط ما عقده بأمسه، والرجوع إلى نقضه، فعرف من ذلك إنما هو الاتباع للهوى، وأن جميع ما يرسل به وصنفه من كتب إلا هوى، والله عند لسان كل قائل. وله أنه اعتدل عن ذلك الطور مثل غيره وجامل[12/أ] وترك ذلك الأمر وأعرض عنه، واتبع قول رسول الله÷: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) وتكلم بما....... وماله لكان له فيه مندوحة، لكنه غلا غلو الروافض والخوارج، وتعدى الطور إلى التطور في الجانبين، والله أعلم بالسراير، وإنما قيام أحمد بن الحسن على التحقيق من باب الإمارة والملك.......... في سائر الجهات، وخرجوا من الغلبة على رأي أهل السنة رضي الله عنهم في اتباع المصلحة وسكون الدهماء. وأما كمال الشروط فمن ورائها........... ومع اتفاق الزمان بمعارضيه إن اتفق لهم بعض الشروط واختل الآخر، فلأجل ذلك كان ذلك هو الذي سكن الدهماء. ويولي الله ملكه من يشاء، والله الموفق.
وكان تحويل السنة ثالث ربيع الأول هذا بدخول الشمس أول درجة ....... والزهرة في الشمس، والقمر في الحمل، وكذا عطارد وزحل في السرطان، والمشتري في الجوزاء، والمريخ بالسنبلة، وجاء في ذلك والبلاد اليمانية صاحية من المطر أجمعه، من اليمن الأعلى والأسفل والمغرب وتهامة. والسعر ارتفع والوقت وقت الصيف، آخر شهر آذار، فلله الحكمة. بلغ القدح يومئذ البر ثلاثة أحرف[12/ب] والذرة بحرفين، وفي المغارب بأكثر، والشعير بسبعين كبيراً. والغنم غالية، الرأس أصبح يبتاع بثمن الأضحية، والسمن الرطل بستين بقشة، فلله في ذلك حكمة.
وفي شهر ربيع الأول وصل إلى حضرة المهدي بالغراس حسين بن عبد القادر صاحب كوكبان شاكياً من أبيه وأخيه على سبب الوزارة لأبيه عبد القادر بعد موت أخيه علي بن عبد القادر في الشهر الماضي، وكان صنوه هو أخوه من أبيه وأمه، فلما عين الأمير عبد القادر أخاه حسناً، وكان لأنه أكبر من حسين في السن تغير خاطر حسين، لكونه أقرب إلى أخيه علي؛ لأجل أنه من الأم والأب، فاشتجروا. فلما وصل إلى حضرة أحمد بن الحسن غاضباً زجره المهدي، وقال: الأمر على ما فعله والدك، وعليه فالأمر والولاية له، والحق للأكبر في السن، فلا يصلح منك مخالفته، وزلجه في بعض أصحابه من خاصة خدمه، واستبقى عنده من وصل معه وقال: سر إلى والدك فرداً، وكان قد كتب والده بسبب عزمه إلى المهدي، فحصل الرضى بذلك والسكون.
[13/أ] وفي غرة شهر ربيع الأول وصل إبراهيم بن المهدي ومن معه من تهامة وكان متأثراً بمرض، ووصل معه جماعة من مشائخ بني حبيب وواجهوا، وقرروا بينهم وبين أهل صبيا بعدم الفساد والتقدير والسلوك على الطريق المرضي.
وفي هذه الأيام خرج السيد محمد الغرباني من برط لأجل ما ناله من الجوع فيه والقحط إلى البلاد الشامية، فبلغ إلى قراض، ونجع كثير من برط وخلت فيه قرى واشتتوا في الآفاق بعضهم في بلاد صعدة وبعضهم في بلاد صنعاء وضوران وبعضهم بقي في بلاده. ومع هذا صار السيد الغرباني يدعو الناس في تلك البلاد إلى جانبه والخروج معه، فلم يرفع أحد منهم لكلامه رأساً، وأعرضوا عنه.
وفي عاشر هذا الشهر انتهبت سفيان قافلة بالعمشية قرب عيان وهي سائرة إلى جهات صعدة، فيها دراهم وبز وبضاعة خارجة من صنعاء أكثرها لشُماة من الذين يبيعون الخيل ولغيرهم من التجار، فقاتلهم أهل القافلة ودافعوهم بمجهودهم حتى قتلوا منهم رجلاً وهزموهم، فانعطفوا عليهم وجمعوا معهم غيرهم[13/ب] وأخرجوا عليهم البنادق ورموهم، فقتلوا منهم سبعة أو ثمانية، وصالوا على الحمولة انتهبوها أجمع دراهمها وبزها ومصاويب في آخرين، وفعلوا فعلة عظيمة، فلا قوة إلا بالله. فلما بلغ أحمد بن الحسن وهو بالغراس أرسل في الحال ولده إسحاق بمن حضر في المقام، وأمر محمد بن المتوكل بالتجهيز، فأرسل ولده القاسم بجماعة عسكر. وقد كان وصل إلى عيان أحمد بن المؤيد من وادعة واستقر بعيان، ثم خرج صاحب خمر في الأثر وهو حسين بن محمد بن أحمد بمن معه واجتمع الجميع بعيان، وكثر العسكر فيه حتى بلغوا إلى نحو ألفين، وتقدم حسين بن محمد بن أحمد وإسحاق وقاسم إلى البلاد، فخربوا فيها قرية الحرمة وقرية الحيفة ، وانتهبوها أجمع. وهربت سفيان إلى وادي مذاب ، وبعضهم في أطراف بلادهم، فلما بلغ أحمد بن الحسن أن هؤلاء الذين هربوا جاؤوا مذاب -ووادي مذاب قريب بلاد ظفار- خرج من الغراس بنفسه يوم الخميس تاسع ربيع الثاني ملتقياً لهم خشية من بني أسد لا يأووهم لأنهم من سفيان، ولما بلغوا إلى الملتقى -بين مذاب ووادي هران - حطوا فيه واجتمع معهم بنو نوف من دهمة وسكنوه. وأحمد بن الحسن لما وصل صلبة ظفار -ما بين ظفار
وهران- بادر بالقصد لهم بعد أن جاؤوه الدليل عليهم والجاسوس، فغزاهم إلى محلهم ، وقد كان ابن وارع شيخ بني أسد أراد إيواءهم فحبسه المهدي وتهدده، ثم استحر القتال[14/أ] في هذه الغزوة. وكان من جملة القتلى ابن سننان السفياني الحاكم بالطاغوت لسفيان المرجوع إليه معهم في الطغيان. وكان قد اجتمع بهم في ذلك المكان من بني نوف جماعة وانحازوا في وادي مذاب، فواقعهم المهدي غازياً من صلبة ظفار إلى ذلك المكان، صابحهم بالدليل، وقدم مقدمة من نهم لأجل يشاغلوهم عن النفور وليظنوا أن الغازي لهم منهم، فلما شرع ذلك فيما بينهم واستحر القتال معهم انصبت عليهم الخيل تحاوشهم، وباشر القتال المهدي بنفسه، وأراد واحد منهم أن يزرقه بعوده، فسلمه الله منه.
قيل: التقاه بيده ياقوت إسماعيل وقيل: أخطأه، ثم عطف عليه أحمد بن الحسن وياقوت إسماعيل فضربوه بالسيوف، وأذاقوه الحتوف، ثم لم يسعهم إلا الهرب في الجبال، والتسور للآكام، وتركوا ما معهم وأولادهم وحريمهم، فمنع المهدي عن حريمهم وأولادهم، وحوزهم إلى شعب هناك وأباح انتهاب ما تركوه من حوائجهم، فوجدوا كثيراً من البز الذي انتهبوه على أصله، فضمه معه، وقال لمن حضره من عرف بالذي له أخذه، ووجد سلب الذي قتلوه أيضاً فيها، فأرجعه إلى أهله. وكان جملة القتلى منهم اثني عشر نفراً، قطعت رؤوسهم، وحملت إلى المحطة معهم، وقتل من أصحاب المهدي نفران وعبد للسماوي لما تحير بشداد حماره وانفرد قليلاً في الوادي عن أصحابه، فانصب[14/ب] عليه جماعة قطعوه أوصالاً بالخناجر، ومثلوا به.
وفي شهر ربيع الثاني هذا بآخره ترجح لجماعة من أهل برط من ذي محمد منهم ولد الشيخ قاسم البرطي شيخهم، وهبطوا إلى الجبل الأسود، الحد ما بين سفيان وبين العصيمات، وترصدوا هنالك للمارة، فجاء الرسيسة إلى عيان يخبرون بأنهم صاروا كامنين لمن مضى في الطريق للانتهاب، لما أمنوا جانب سفيان، فأرسل الحسين بن محمد جماعة مسافرين، وأرسل خيلاً كميناً في جانب آخر فقال: انظروا ما يفعلوا بالمسافرين، وكونوا في أثرهم سائرين، حتى تباشروهم عند تعديهم. فلما رأى أولئك الحرامية المارة في الطريق وهي آمنة وجدوهم للسلب فدافعوا عن أنفسهم بينما وصلت الخيل إليهم، فقبضوا عليهم وكفتوهم وضربوهم وأسروهم إلى بين يدي حسين بن محمد بن أحمد، ووجدوا ابن الشيخ البرطي معهم. وكان أبوه الشيخ قاسم عند أحمد بن المؤيد يسبهم، فقال: هذا ولدك مع هؤلاء كيف ترضوا بهذا؟ فقال: هو مغير شعوره والجهل معه أوقعه في ذلك، ثم أمر بهم الحسين بن محمد إلى حضرة المهدي جميعاً، فأوثق عليهم وحبسهم وقال لهم[15/أ]:كنا نظن فيكم غير هذا يا برط. واعلم أن هذه القبائل التي حفت بلاد عيان الغالب عليهم الشرارة من قديم الزمان، ولا يزال منهم التعدي في الطرق والسرق من غير خوف ومراقبة لله لغلبة الشيطان، ولكن كانت مدينة عيان ودولها في قديم الزمان معللة بمثل هذا الطغيان؛ لأن الجاهل لا يزال يشاهد الدولة قريبة آمنة فيقل منه العدوان. وأما هذا الزمان فلخراب عيان وعدم قرار دولة فيه ولا إقامة شريعة كثر فيه منهم الطغيان، وهذا العمل في سفيان إذا لم يتعقبه دولة بعيان مستمرة فالفساد عائد إلى أصله، والله يصلح البلاد والعباد.
وقصد حسين بن محمد بن أحمد الباطنة من سفيان، فخرب قراها ونهبها أصحابه، ثم تعقب قصدهم، فوقع القتال بينهم، فقتل منهم ستة وقطع رؤوسهم، وأرسل بها إلى المهدي، ثم التقاهم صاحب صعدة لما هربوا إليه، فأسر منهم جماعة وانتهب أصحابه ما ظفروه عليهم، وصاروا في أضيق من حلقة الفاس، وصار الخوف معهم بعد أن كان أخافوا غيرهم. وكان قد قبض علي بن أحمد أيضاً جماعة من الشُمَيْلات من سفيان، وهم كما يروى ألفين، ووقع منهم ما وقع أولاً وأرسل بهم إلى المهدي، فضرب رأس واحد بيده.
[15/ب] وفي هذه الأيام بآخر ربيع الثاني آخر الصيف ارتفع السعر، البر بلغ إلى أربعة أحرف بصنعاء، والشعير ثلاثة، والذرة كذلك، ثم حصل مطر عند سقوط الثريا، وكان قد باع كثير من القبائل بقرهم وغنمهم بنصف القيمة حتى منَّ الله بهذا المطر، ونبتت المراعي وتراجعت المواشي، بعد ضعفها من قل المرعى، ونقص السعر، القدح البر إلى مائة بقشة والشعير إلى سبعين وكذلك الذرة، فلله الحمد، وذلك بغرة جمادى الأولى منها.
وفي أوائل هذا الشهر تمنع جماعة من البعاجرة من سفيان، وتعصبوا وأرادوا قطع الطريق، فقصدتهم محطة عيان، واستولوا عليهم، وانتهبوا مواشيهم جميعاً، فهربوا بنفوسهم، ووصلوا إلى المهدي مواجهين.
وروي أن هذا كله الذي زاد في فساده والإغراء في هذه القبائل من سفيان فيما سبق هو السيد الغرباني، فإنه صار يحرض هذه القبائل على قطع الطرق، واستباحة أموال المارة من التجار وغيرهم من أصحاب الدولة، وقال: إنه الإمام الداعي، وأن الولاية له في الزكاة والحقوق، وأن هؤلاء الدولة لا ولاية لهم، وأن الزكاة باقية على الناس، لا يجزيهم ما قبضته الدولة، فزاد هذا في الإغراء لهم لاستباحة أموال المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فإذا ثبت هذا بل قد روى لي كثير مثله، فكل ما جرى فهو في صحائف السيد المذكور، ومطالب به، ومشارك في العقاب عليه.
[16/أ] وهذه البلاد البرطية والسفيانية لم يكن ينفذ فيها الأحكام الشرعية، بل يحكم فيها بالطاغوت. ولقد ذكرت لبعض فقهاء من بني العنسي الساكنين عندهم: كيف يحل لكم المقام وأنتم توجبون الهجرة من دون هذه الآثام وما يفعلونه من الانتهاب في الطرق في كثير من الأيام؟ فلم يجد جواباً واعترف بأنها بلاد لا خير في أهلها. وقد حصل معهم هذه السنة من القحط والخلف الذي لا مزيد عليه حتى خلت في بلادهم القرى، وتفرقوا في الأرض، وخربت بعض تلك القرى الخالية، لما لم يكن فيها بعدهم من يسكنها، ولم يبق في برط إلا القليل في بعض القرى، والله تعالى قد عجل عقوبتهم في طغيانهم.
وفي أول جمعة في شهر جمادى الأولى غفل خطيب صنعاء الفقيه محمد بن إبراهيم السحولي، فأمر محمد بن المتوكل القاضي جباري يخطب، فخطب الواجب منها بالحمد والصلاة على النبي÷ ثم نزل وأقام المقيم، ثم رده محمد بن المتوكل، وقال: بقي عليك الشهادة، فقال القاضي: قد أتى بالواجب ، فقال محمد: لا، فرجع مساعدة له، وإلا فالأمر كما ذكر القاضي، وقد كان قام الناس للصلاة، فقعدوا ثم قاموا مرة أخرى، فاستنكر الناس ذلك، خصوصاً العامة؛ لأنهم لا يعرفون إلا الخطبة المعتادة الطويلة، مع أن قصر الخطبة من مئنة فقه الرجل، كما في الحديث .
وفي رابع هذا الشهر سار أحمد بن الحسن إلى الباطنة سفال سفيان، وواجه إليه جميع سفيان، ووصل إليه بنو رهم وتبرؤوا من القافلة التي راحت، وأنه لم يكن فيها من قبلهم؛ لأن بلادهم مائلة عن الطريق الشرقية، وعهدتهم في الطريق الغربية ووسط العمشية، فعذرهم أحمد بن الحسن، ولم يخرب شيئاً من بيوتهم، إلا أنه قد جرى انتهاب بعض شيء من مواشيهم[16/ب]. أما صبارة فجرى فيهم النكال وخربت بيوتهم وعقرت أغنامهم وانتهبت مواشيهم، وعم ذلك المجرم منهم وغير المجرم، ووقع فيهم من المعرة مالم يكن لهم في حساب، حتى فقر غنيهم. وكان لو اقتصر على الفاعلين منهم فإنهم كانوا معروفين عندهم لكان هو الواجب عليه، لكنه حصل ما حصل لأمر قد علمه الله تعالى، ثم إنه جمع منهم جماعة من الفاعلين وزنجرهم. وجاءت طريقه الجوف حتى طلع من بلاد نهم، ونزل من الشرفة ودخل الغراس يوم الأحد قبل الشروق ثالث وعشرين شهر جمادى الأولى، وتبعه حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم المتولي على بلاد خمر بجماعة معه كانوا تحت الحفظ، فدخل عقب أحمد بن الحسن، وكان دخوله إلى صنعاء والمزنجرين معه نحو أربعين رجلاً، فأدخلهم القصر، ثم خرج الغراس.
ووصلت القافلة إلى صنعاء عقب هذا من بلاد صعدة، ولم يعترضهم أحد، ولا طلب منهم مجبى، وأمر أحمد بن المؤيد بخفظ عيان، وأنه لا يخليها عن الرتبة كلام من غير أصل؛ لأن أحمد بن المؤيد قال: تحتاج إلى جامكية للساكنين، فقال أحمد بن الحسن: معك بلاد في ذلك، وهو قال ما تكفيه، كما قال له من أول. وعيان لو أنها مُدَوَّلة لكانت الطريق صالحة لتوسطها، ولكن عجزوا عن الجامكية وتواكنوا بها صاحب صعدة والمتوكل وأحمد بن الحسن، فهذا سبب هذه الأمور التي جرت فيها.
وفي هذه الأيام اتفق لناس بصنعاء أن بخشوا في بيت مقهوي قريب باب شعوب، ما بين مسجد المدرسة والأخضر عن كنز، قالوا يبديه واحد من جبل بيت خولان، ومعهم وجد السيد حسن الأحمر، قال إنه يعرف استحضاره وصار يدلهم عليه، فوجدوا حروفاً وقصاصات تحت الدببا ، وثبتوا في الحفر فوق ثلاثة أشهر. وشعر بهم والي المدينة، فقال تستمرون، وليس عليكم إلا الخمس إذا وجدوه، وحصل معهم مراجيم من الجان لبعض الحفارة، وقضايا عجيبة، والسيد يصدمهم ويكتب لهم أرصاداً على زعمه، ويعدهم بظهوره، ولم يتم شيء من ذلك.
[17/أ] وفي آخر شهر جمادى الأولى دخل المهدي أحمد بن الحسن صنعاء، وحضر هو ومحمد بن المتوكل، وعاتبه من جهة الضريبة أن فيها الكثير زيوف وتشبيه، وقال ابن المتوكل: لم يعلم بشيء في ضريبته، فحضر جماعة من التجار والقاضي محمد بن علي قيس، وقالوا في الحضرة بل في ضربة القصر ثلاث ضرائب، واحدة لمحمد طيبة، والأخر التي لأحمد النعماني ولعلي اليمني وللفقيه جابر ضعيفة، ضرب الأولة التي لمحمد أربعة حروف، وهذه خرجت من خمسة حروف، القرش بزيادة النحاس. ولما تحقق محمد ذلك الذي كان غائباً عنه أقسم بالله لا زاد ضرب بعدها، وأمر برفعها، وذكر أنه لم يشعر بذلك وكله لعدم التنبه منه عليهم وافتقادهم.
وفي ليلة الأربعاء ثالث وعشرين شهر جمادى الأخرى منها مات الملك المهدي أحمد بن الحسن، بوطنه الغراس، وقبر جنب مسجده هنالك، وكان قد حصل له ما يهواه من الملك وهذه الدنيا الناهية، ابتسم له دهره من عبوسه، وأعطته الدنيا عفوها، وسقته صفوها، وماشته مع جماعة من أتباعه ومتقبلي باعه وأهل نعمته. وطابت له أيامه في مَشِيْده ، وأطربه الأنس ببسطه ونشيده، وساعدته أيامه فيها من أول قيام المتوكل إلى هذا التأريخ. واجتمع له ما يريده فيها، فكان متوسعاً مسرفاً على نفسه في الجواري والسراري، بحيث بلغن إلى سبعمائة ما بين سرية ووصيفة وخدامة، لا يفارقهن في الحضر والسفر، وكان يلبسهن أغلى الملابس الغالية، ويشتري لهن الأحزمة والبريمات المفضضة المذهبة بأغلى الأثمان.
وكانت سيرته سيرة السلطنة، فأما العلم فلم يكن له فيه معرفة، بحيث أنه قبيل موته لما أقسم محمد بن المتوكل من الضربة أعتق عنه من مماليكه رقبة وأمر محمداً أنه يرجع إلى الضريبة وقد كَفَّر يمينه، وبالإجماع أن الكَفَّارة لا يصح التحمل فيها من غير الحالف، ولكن كان أصحابه يماشونه في مطابقة هواه[17/ب]، كما قال الصفي الحِلِّي في ديوانه شعراً:
فصرت إذا خَطيتُ جميل رأيي
أشير بما أرى فيه هواك
ولم أتبع خطاك لضعف رأيي
ولا أني أريد به رداك
ولكني أحاذر منك سخطاً
فأتبع كل ما فيه رضاك
وكان المهدي سلطاناً وملكاً، ولما حصلت المشاجرة له أيام قيامه من قاسم صاحب شهارة وغيره، وسار المعارضون له السيرة المطابقة لسيرة أمثالهم، قال لبعض خواصه: إن معه ولاية من السلطان ابن عثمان في أرض اليمن وعلامته. وأنه كاتبه في تلك المدة الماضية، ولعل ذلك كان أيام حروبه للمؤيد بالله وعدم توليته، ولذلك سماه الأتراك أحمد مراد، لما كاتبه السلطان مراد في أيامه بما أراد، هكذا روى عنه. ولكنه قد روي عنه عقيدة الجارودية، بل عقيدة الإمامية، بل عقيدة الرافضة فاشتبهت. وكان يظهر شعار يوم الغدير في جميع مدته، فاشتبه حاله ومذهبه، ولعله كان مع هواه وما يوافق صلاح رئاسته ويستعين به. فذلك الكتاب إلى السلطان وتوليته تكون عند حصول إهماله من الإمام المؤيد بالله، وما جرى له معه مستنصراً به، وإن كان مذهبه في نفسه غير ذلك المذهب كما هو الظاهر. وكان في مدته كثير الحجاب من الناس، لا يبالي بأحد من الكبير والصغير، لا سيما في مدة المتوكل، كان يبقى بين جواره من الصبح إلى العصر في غالب أوقاته، ولا يوافقه أحد إلا آخر النهار إن حصل، وكان لا ينال معه من الفقراء ما كانوا ينالون من المتوكل، وعدوا لجهله أن سيرته كانت عجيبة. نعم وكان لا يُقَرِّب من يصل إليه بسفرة ، ولا يصرف له لقمة، بل يصرف الواصل على نفسه من كيسه. وكان يعتمد مراعاة النجوم في أسفاره، ويرجع إلى سؤال المنجمين، كالفقيه أحمد الذيبة الملازم معه.
ودعا بعده[18/أ] المؤيد بالله محمد بن المتوكل، وكان المحرض له والمطالب القاضيان: القاضي يحيى جباري الذماري، والقاضي محمد بن محمد العنسي، وكان أول مبايع بعد إشارة القاضيان بالقيام والانبرام الحسين بن المهدي، ثم من بعده سائر القضاة والسادة أجمع.
وأجاب أحمد بن المؤيد عليه لما وصله كتابه وعلامته أعلاه بوضع علامته أعلاه، وادعى مثل دعواه، وترّبه وإلى رسوله أعطاه، مع أن أحمد بن المؤيد لم يقم في هذه الفورة، واكتفى بمن قام غيره، وله ميل إلى محمد بن المتوكل، إن تم أمره، وتوقف عن الإقدام والعجلة، إلا أنه أراد بذلك الأمر غيره من هضم علي في كتابه. وكذلك وصل كتاب حسين بن حسن إلى أولئك، وقال في دعوته: أنه قد دعا إلى نفسه لما كانت الدرجة واحدة، والإجتهاد قد انختم بالمتوكل إسماعيل بن القاسم في المدة السابقة. وكذلك وصل إلى الولاة والرؤساء من صاحب المنصورة مثل ذلك، واختلفت كتبهم، هذا يكتب إلى هذا يدعوه إليه، والآخر يكتب إليه يدعوه، وعلى هذا وصار الناس عاجبين في حالهم وإقداماتهم لهذا الأمر العظيم. والاشتجار فيه وعدم الاتفاق، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم، واستقر حسين بن حسن بيريم، وأرسل علي بن المتوكل عسكراً إلى إِرْياب رأس سمارة وطرف بلاده. وذمار فيه فرحان من قبل صاحب ضوران حسين بن المتوكل، والكتب صارت من هؤلاء تختلف وتفترق، فمنهم المجيب لهذا، ومنهم لهذا، ومنهم[18/ب] المتوقف، ومنهم الراضي، ومنهم الكاره.
[وجاء كتاب علي بن أحمد أنه دعا، وكذلك علي بن المتوكل، وكذلك القاسم صاحب شهارة، وكذلك حسين بن حسن، وكذلك حسن بن المتوكل ، وأحمد بن المؤيد بالله، وكل واحد يحجر الآخر عن التصرف إلا بأمره ونهيه، وكل منهم يركز نفسه، ويذم غيره] . فكان جملة الدعاة أولهم محمد بن المتوكل بصنعاء، ثم عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن شرف الدين بكوكبان، ثم قاسم بن المؤيد بن القاسم صاحب شهارة، ثم حسين بن حسن صاحب رداع، ثم علي بن المتوكل صاحب إب وجبلة ومخلاف جعفر، ثم حسين بن المتوكل صاحب اللحية والضحي وتهامة الشامية، ثم علي بن أحمد صاحب صعدة، ثم آخرون في تلك الجهة. وكل منهم ولاة أجابهم من إليهم، وأصحابهم يطمعون في قيامهم كما يطمع الروافض في انتظار ظهور القائم منهم، ولم يعلموا أن فيه الخلل عليهم في العقبى، والخبط والقتال بالراية العمياء، ولكن الحكمة لله في ذلك، فقد يكون سبباً لشيء لا يعلم، كما قال الصفي الحلي:
في فساد الأحوال لله سر
والتباس في غاية الإيضاح
فيقول الجهول قد فسد الأمر
وذاك الفساد عين الصلاح
فلكل شيء سبب، [ولما رأى محمد هذا الإختلاف قد جرى عظم عليه الخطب واشتد عليه التعب، وبعث بالكتب إلى هؤلاء الدعاة يحثهم على الالتقاء والاجتماع، والمراودة[19/أ] فيمن يرجع إليه الكلام، فأجاب حسين بن حسن: أن ذلك الصواب لكن إذا كان الكلام بظاهره ليس فيه بواطن فالاختلاف على حاله، وكذلك أجاب القاسم وعلي بن أحمد، وطلب حسين الالتقاء إلى حدود ذمار، وكان حسين بن حسن قد كرر الكتب إلى محمد بن أحمد ابن أخيه صاحب المنصورة في إجابته، فلم ينخرط له في شيء من مطلبه، فلما أيس عنه تحمل عليه، ونزل إلى خارج إب ما بين المخادر وسمارة لموافقته لعلي بن المتوكل باجتماع الكلمة، وأنه يكون هو وهو عوناً على صاحب المنصورة محمد بن المهدي، وانبرم الأمر على ذلك، وعادت الصداقة بينهما عداوة على حسب الملك، وانقطعت الرحامة؛ لأن الملك عقيم لا رحامة له] ، ثم رجع حسين بن حسن إلى رداع وأمر بالمحاربة على بلاد لحج وأبين بمن فيه من أصحاب محمد بن المهدي، فوقع الحرب هنالك وقتل من الجانبين جماعة، وانتهب سوق أبين وحرقوه، وكان جملة القتلى ............... وعلي بن المتوكل نزل من إب وجبلة إلى تعز، فبلغ صاحب المنصورة ذلك، فجهز عساكره إلى باب تعز، وكان وصولهم بعد دخول علي إلى تعز، فاتفق الحرب، وسيأتي تأريخه إن شاء الله.
[19/ب] وفي هذه الأيام بشهر رجب استولى محمد بن المهدي على بيت الفقيه ابن عجيل وزبيد، وجميع البلاد التي حولها من تهامة الجنوبية.
وفي هذه الأيام لما فتح حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم مخازين الصلبة التي كانت للمهدي فقر أولاده الذين بالغراس، وأرادوا الغزو إلى الروضة والاستيلاء على مخازين حسين بن محمد فيها من باب المعارضة، فامتنع عقال العسكر معهم وقالوا: لا يصلح هذا لهم، مع أن الروضة من بلادهم؛ لأن أكثر عسكر المهدي كانوا من بني الحارث والروضة من بلادهم، وأشار عليهم خواص والدهم بأن يذكروا إلى محمد بن المتوكل في شأنها، وهو الذي يكتب إليه في أمرها، فكتب إلى حسين ونهاه عن تصرفه فيها، وتركهم لها، حتى يستقر الأمر فيها، مع أن عزمه كان من صنعاء بغير أمر محمد، بل قال أنه يسير يحفظ بلاده جملة من غير تفصيل، فسار إلى حجة.
وفي عاشر شهر رجب حصلت هوشة بسوق صنعاء ما بين أهل الحيمة وعيال السوق فارتجموا، وسببه أن واحداً من أهل الحيمة ضرب واحداً من أهل السوق، فأغار أهل السوق عليه وفكوه ، ثم إن أهل الحيمة مالوا عليهم، فحصل بينهم ما حصل من المراجيم. وأغار جماعة من القصر فيهم قاسم بن محمد بن المتوكل، ولما كثرت المراجيم في أهل الحيمة والجنايات رمى جماعة منهم بالبنادق [20/أ] بباروت وواحدة منها مرصصة، وسلم الله. ووقع مرجام في ظهر قاسم بن محمد بن المتوكل، وأهل الحيمة متى اجتمعوا يحصل منهم ما يحصل، مع أن أكثرهم قد كان عادوا بلادهم.
ووصل خبر من جهات مكة أنه حصل فيها فرقة بين عسكر السلطان وبين عسكر الشريف على سبب قتل وقع في رجل تركي، قتله بعض أصحاب الشريف، فهاجت الأتراك على أصحاب الشريف، ثم تدارك الأمر بركات بقتل القاتلين من أصحابه.
وفي هذه الأيام زاد محمد بن أحمد صاحب المنصورة في ترقي العسكر في الجامكية، وأقلم من العسكر من وصل.
وجاء كتاب محمد بن المهدي إلى أخيه حسين وإخوته بالغراس يذكر لهم أنهم عجلوا في البيعة لمحمد بن المتوكل، وما كان يصلح منهم، وكيف ومحمد بن المتوكل لم يخرج إلى الغراس ويحضر في قبر والده، وغير هذا من المعاتبة.
وحاول محمد بن المهدي في قبض بندر المخا هذه الأيام، فصار السيد حسن الجرموزي يلين له في المكاتبة، ويرسل له بما طلب من المحصول من الدراهم والبز والماردة ، حتى كتب إلى محمد بن المتوكل بإرسال من يمنع إذا مراده يبقى البندر له. وكان قد أرسل بدراهم وصلت إلى زبيد قبضها حسن بن محمد بن أحمد بن الحسن الذي دخله، فانقطعت الطريق للمرفوع من البندر لبيت المال وللعسكر. ولم يتعرض لسائر الناس التجار وغيرهم ممن مر،[20/ب] فأرسل محمد بن المتوكل جماعة عسكر من طريق المحويت يخرجون إلى اللحية، ثم يركبون بحراً من اللحية إلى المخا زيادة للسيد حسن الجرموزي في البندر، فساروا إلى هنالك، وكتب محمد بن المهدي كتبه إلى سائر البلاد فمن وصلهم أكرمه الولاة وآنسوهم وأطعموهم وزلجوهم باللطف كبلاد ريمة ونحوها، وأثبت اليد محمد بن المهدي على زبيد وبيت الفقيه ابن عجيل وبلاد والده كعدن والدمنة، ولحج وذي السفال وبلاد المنصورة وشرعب وتلك الجهات جميعاً إلى باب تعز وإلى قعطبة. وفتح دار الضرب بالمنصورة، وفتح الأعداد، وأرسل لإخوته بالغراس شيئاً من الطعام لما بلغه تضررهم بقدر مائة حمل، وصار حسين بن المهدي يشتاط الطعام توافى من الأسواق.
وكان في سابع شهر شعبان اتفاق حسين بن حسن وعلي بن المتوكل لما نزل حسين بن حسن من يريم إلى قريب إب، بعد اضطراره إلى ذلك، وإجابة من ابن أخيه، وعاد إلى رداع وكتب إلى محمد بالاتفاق إلى نواحي ذمار، فسار محمد بن المتوكل يوم الاثنين حادي عشر شهر شعبان، وصار صحبته أحمد بن محمد بن حسين إلى زراجة ، وكان استقر فيها منتظراً لحسين بن حسن على وعده، فأجاب أنه يتقدم إلى مشهد الديلمي . وكان قد وصل القاضي جعفر الذي أرسله، [21/أ]بكتاب إلى محمد بن المهدي، ولم يحصل من محمد بن المهدي مطابقة له فيما طلبه أصلاً، بل كان عند وصول القاضي جعفر مشدداً، وبحيث أنه ما أجاب على محمد بن المتوكل كما روي. وأما جوابات أخوة محمد، وهو علي بن المتوكل، وحسن بن المتوكل فجاءت مطابقة لرأيه وأنهم من أعوانه، وإنما قاموا إذالم يقم هو وقام غيره، فاطمأن عليهم خاطره. وكذلك كتاب صاحب كوكبان مثل كلامهم، ولكن أما الخطبة فما تركوها إلا بعد اتفاق محمد وقاسم وعلي بن أحمد في خمر، كما سيأتي تأريخه إن شاء الله. وكلهم أقرب إلى محمد بن المتوكل بالمطابقة إلا محمد بن المهدي فيبعد منه له الموافقة، ويعسر عليه له المحاربة؛ لأن البلاد المحصلة قد صارت بين يديه، والعساكر صاروا ينجذبون إليه، لأجل العطاء والمال، والناس مع الدنيا كما قال الشاعر :
وإذا امرؤ ملك الدراهم أطلقت
شفتاه ألوان الكلام فقال
وتقدم الأقوام فاجتمعوا له
ورأيته بين الورى مختالا
ولما صل محمد بن المتوكل بعد خروجه من صنعاء إلى زراجة استقر فيها منتظراً لحسين بن حسن، فلم يبدو منه حركة، فكتب إليه محمد بن المتوكل أنه منتظره على وعده، فأجاب أنه يتقدم إلى مشهد الديلمي شرقي ذمار قريب[21/ب] رداع ويكون الإتفاق فيه، فتقدم المذكور إليه وهو غاصاً بريقه، باعثاً في الناظر من جهته إلى حيث ذكره ليزيل عذره، فسكن فيه أيضاً منتظراً بعض أيام، وشق بهم السكون في الخيام، والإنقطاع من جلب السبار والطعام.
وفي خلال ذلك نزل علي بن المتوكل من إب إلى تعز وأرسل حسين بن حسن عينة من أصحابه مع جماعة من أهل يافع إلى لحج وأبين للمحاربة عليه، وإخراج الرتب الذي في أبين والتي على باب تعز، فحصل الحرب بأبين وقتل من الجانبين من الرتبة التي فيه قيل: أربعة، وقيل: سبعة، وقيل: أكثر. ومن أصحاب حسين بن حسن مثلهم، وانتهب أصحاب حسين السوق وحرقوه وعادوا بلادهم، وانقطعت طريق أبين، وغلا السليط، بلغ الرطل بصنعاء إلى حرفين؛ لأن مداره وطلوعه من تلك الجهة.
ولما وصل محمد بن المؤيد إلى مشهد الديلمي وصل حسين بن حسن
وأما حرب تعز فإنه لما وصل علي تعز في رابع شهر شعبان جهز محمد بن المهدي زيادة للرتبة الذي منه خارج تعز بقدر ثلاثمائة أو أربعمائة، فوصلوا[22/أ] إلى ثعبات والتقاهم علي من تعز بعساكره جميعاً فاحتربوا واقتتلوا قتالاً شديداً بالبنادق أولاً ثم بالسيوف والرماح آخراً. وقتل من الجانبين حول أربعين، من أصحاب علي حول عشرين ومن الآخرين مثلهم، ومن جملتهم بيرق دار حق علي بن المتوكل، وأسر من لم يفر من أصحاب محمد بن المهدي كالسيد حسن بن محمد بن أحمد بن الحسن المؤيدي بعد أن قتل برمحه جماعة، وأسر ولد محمد بن المهدي المسمى إسماعيل وجماعة من الأعيان والرؤساء، وكانت وقعة عظيمة، واتفق حصولها بنصف شعبان وصباح خسوف القمر في برج الدلو، ووقعة أبين بلحج كذلك في ذلك اليوم والأسرى أولئك من أصحاب علي رسم عليهم بتعز إلا ولد محمد بن المهدي فزلجه إلى عند والده المنصورة، وكانت جملة الأسرى حول المائة من أصحاب محمد بن المهدي.
ومحمد بن المتوكل لما وصل إلى مشهد الديلمي انتظر وصول حسين بن حسن فوصل إليه، وفي خلاله وصل إليهم الحادث بتعز وأبين، فتغير خاطر محمد بن المتوكل وأرسل عبد الله بن أحمد بن القاسم والقاضي[22/ب] جباري للخوض في الإصلاح بينهم، فساروا ومعهم عينة من العسكر. ووصل عند ذلك كتاب من محمد بن المهدي إلى حسين بن حسن فيه كلام شديد، وتوعد له لما فعله بالحديد، ويذكر له أنه كيف انقلب في كلامه الأول الذي جرى منه بالذم لعلي بن المتوكل إلى المدح المنقاض لما جرى من قبل، وأن هذا من اتباع الهوى وقلة الدين، بكلام صليب، وخطاب عجيب، لم يدر حسين بن حسن فيه بما يجيب. وكان بعد ثلاثة أيام اجتمع بين حسين بن حسن ومحمد بن المتوكل الكلام بأنه تابع لما فعله قاسم صاحب شهارة، وأنه إن بايع محمداً فقد بايعه وإن بايع محمد لقاسم فقد وكله (يباعه) عنه. وبقي حسين على أصل دعواه واستقلاله وخطبته وافترقوا على هذا. [وقد كان علي بن أحمد يومئذٍ في خلال خروج محمد بن المتوكل من صنعاء قد خرج من صعدة إلى خمر، واجتمع بقاسم في وادعة، بعد أن كتب إليه بالإتفاق والمبايعة. فاستقر قاسم عند صنوه أحمد بوادعة وعلي بخمر ببيت والده، وكتبوا[23/أ] إلى محمد بالوصول للمناجزة، فتراخى محمد بمشهد الديلمي لتمام ما وقع بينه وبين حسين بن حسن وما اشتغل به من الحادث اليمني. فأهم علي بن أحمد بالوصول إلى الروضة وصنعاء، فكتب إليه حسين بن أحمد بن الحسن من الغراس بالتوقف حتى يصل محمد بن المتوكل؛ لأنه يحصل من أهل الجهة الصنعانية التشويش إلا أن يصل في جماعة مختصرة قدر العشرين أو العشرة فترك ذلك وبقي في خمر، وإن حصل تراخي فربما هو يأتي يتقدم إلى ثلا، فلما بلغ محمد بن المتوكل هذا بادر بالعود إلى صنعاء.
وعجب كثير من الناس في هذا الاختلاف وما وقع فيه وما قبله من الحروب وهم أقارب، وتعذر بينهم الائتلاف واتفاقه في وقت واحد، فإنه لما مات المؤيد بالله محمد بن القاسم وقع بين الأخوين أحمد وإسماعيل الحرب بخدار وبثلا وحوزة صنعاء في آخر شهر شعبان ورمضان] .
ولما مات المتوكل اتفقت الحرب بالصلبة وذيبين كذلك في آخر شعبان ورمضان، وتعقبه الحرب الكبير بشهارة، وكذلك هذا بعد موت الملك المهدي أحمد بن الحسن اتفقت بشعبان ورمضان.
ولما حدث ذلك الحادث بتعز وانكسر أصحابه إلى المنصورة وأسر من أسر منهم تغير محمد بن المهدي وطلب الرتب القريبة الذي بموزع وحيس، واستجاش بقبائل الحجرية، وقصد إلى جبل صبر فوق تعز. وكان قد فيه رتبة لعلي بن المتوكل، فيها النقيب ابن أمير الكلبيين ابن الأبيض، فوقع بينهم الحرب، فقتل من أصحاب علي خمسة ومثلهم من أصحاب ابن المهدي، ووقع الصلح في خلاله بسعاية عبد الله بن أحمد والقاضي جباري الذين أرسلهم محمد بن المتوكل حسبما سبق، فإنهم وصلوا حال هذه الوقعة وكانوا يريدون الفتح على تعز والتقرب منه وإزالة الرتب. وقد كان حط محمد بن المهدي بالزيلعي ، وكان أهل تعز غلقوا أبواب المدينة فعقد الصلح إلى بعد رمضان.
وأما محمد بن المتوكل فإنه لما عاد من مشهد الديلمي بعد اتفاقه بحسين بن حسن إلى صنعاء في آخر شعبان خرج يوم الاثنين ثالث رمضان إلى خمر، فكان أول استقراره ومحطته وخيامه في السِّنَتين ، ثم انتقل منها إلى خارج خمر فوق الغيل والتقى قاسم وعلي هنالك، وما زالوا يتفقون المرة بعد المرة من غير ثالث لهم[24/أ]. ولما رأوا محمداً قد بنى على ما هو فيه وكان قد تكررت الموافقة بينه وبين القاسم وعلي بن أحمد من غير حضور حاضر، ورأوا خلو ما بيد قاسم من الخزائن وضعف بلاد الأهنوم، وما قد جرى منهم من الميل إلى محمد بسبب ما بذل لهم من الذهب الأحمر والدراهم، فرأوا عند ذلك الإتفاق والتسليم لمحمد. فكان أول مسلم لمحمد علي بن أحمد، وصار مع محمد على قاسم كالمعين، فلم يسع القاسم إلا التسليم والاتفاق، وترك المحاربة والشقاق، فترك عند ذلك اللقب وطواه عن ذكره، ورجع إلى اسمه كما فعل لأحمد بن الحسن في أمسه. وطلب زيادة في البلاد، فجعل له محمد بلاد عذر وظليمة وبقية الشرف، وجعل له بيت الفقيه ابن عجيل بتهامة وبلاد زبيد، ولكن زبيد وبيت الفقيه ابن عجيل لم تكن تحت تصرفه، ولا جرى فيه أمره ونهيه، إذ قد المتولي عليها محمد بن أحمد ورتبها من عنده لولده حسن بن محمد، وبذل لعلي بن أحمد الذهب وجعل له جبل صبر في اليمن الأسفل، وهو أيضاً قد حكم عليه محمد بن أحمد بن الحسن قبل. وكان من جملة كلام محمد بن المتوكل للقاسم: أن هذا الأمر إن سلمناه لكم فأكثر هؤلاء الذين قد تبعونا لا يسلمون الأمر إليكم، بل هو الشرط الذي جرى من أولاد المهدي الذين بالغراس ومن معهم من العسكر وقبائل بني الحارث وهمدان، وأنه يكون سبب ذلك الاختلاف، فكان الاتفاق على هذا في يوم الاثنين سادس عشر شهر رمضان بخمر، وعاد القاسم إلى شهارة، وعلي بن أحمد إلى جهاته بلاد صعدة.
ولما بلغ صاحب كوكبان[24/ب] هذا الاجتماع خطب عنده بشبام وكوكبان لمحمد بن المتوكل وترك ما كان خطب لنفسه أولاً. ومحمد بن المتوكل سار إلى السودة استقر فيها بقية رمضان وعيد فيها.
وفي خلال هذا الاتفاق من محمد بقاسم خالفت بلاد يافع جميعاً وبلاد العولقي وبلاد الهيثمي على حسين بن حسن، وطردوا واليه منها، وقتلوا بعض أصحابه، وكان قد كاتبهم محمد بن أحمد صاحب المنصورة. وبقي حسين بن حسن في حيرة عظيمة من أجل خلافهم عليه، وتعذر تمكنه من القدرة وحده على قصده إليه، فبقي في بلاد رداع لا ينفذ له فيها أمر ولا نهي، وتعذر عليه ما كان تصوره من فتحه لبلاد أبين ولحج، وصار في رداع كالمحتار، واشتغل بمكاتبات إلى محمد بن المتوكل وغيره في المعونة له، مع أنه ما قد تم انخراطه في إجابة محمد ولا أزال عن اسمه لقبه، ومحمد يومئذٍ مشغول بالسداد بينه وبين صاحب شهارة.
والسعر هذه المدة في اليمن مرتفع، والوقت وقت الصراب آخر الخريف، بلغ القدح من البر إلى أربعة حروف، والشعير[25/أ] في حرفين إلى تسعين والذرة كذلك وتبلغ إلى مائة بقشة وثلاثة حروف، وفي صعدة القدح في خمسة حروف وأكثر، مع أن المكيال فيها افتر ، والسبب قل الأمطار في الخريف في أكثر بلاد اليمن، فالحكمة لله. والرطل السليط بلغ إلى سبعين بقشة والسمن مثله، وكثير من المشارق يدورون وظهر عليهم الجوع، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
ولما حصل الخلاف على حسين بن حسن من البلاد التي كانت إليه جهز بضرورة جماعة من عسكره، فلما وصلوا أطرافها أقبلت عليهم القبائل بما لا قبل لهم بها، فأخذوا منهم مقتلة فوق العشرة ورجعوا مغلوبين، وصار أهل بلاده عليه متغلبين. ومن الأمور التي ظهرت فيها الحكمة في هذه التي قد جرت باليمن الأسفل من هذه القضايا بين حسين بن حسن، وبين علي ومحمد من الفتنة أن علياً لما جرى منه جرة اليد في بلاده وإهماله لأصحابه في الإضرار برعيته سلط الله عليه محمد بن المهدي، وحسين بن حسن لما جرت منه المغادرة واختلال النية سلط الله عليه إخلاف بلاده.
[25/ب] ومن الأمور التي ظهرت حكمتها في البلاد البرطية والسفيانية مما جرى منهم من التعدي في الطرق والقتول التي ما زالت بينهم في المغازي والنهب والتخويف والمحق المرة بعد المرة والكرة بعد الكرة، وما كان قد جروا عليه من الأحكام الطاغوتية والأمور المخالفة للشريعة المَرْضية، وما بذله الذين ظُلِمَوا عليهم من الدعاء فيما راح عليهم، انتقم الله منهم بالقحط والجوع الذي أصابهم وأخلى قراهم، فصارت بلاد برط خالية وتفرقوا في الأرض، ومات من مات منهم بالجوع في السهل والنجد وأكلوا الميتات، وحاقت بهم الحرامات والظلامات، فالله سبحانه يمهل الكافر على كفره ولا يمهل الظالم على ظلمه تعجيلاً لعقوبته في إضراره، ونسأل الله التوفيق وحسن الخاتمة.
وفي هذه الأيام عاد محمد بن أحمد من الزيلعي إلى المنصورة بعد عقد الهدنة بينه وبين علي بن المتوكل بواسطة عبد الله بن أحمد والقاضي جباري الذماري.
وفي هذه الأيام بشهر رمضان أرسل محمد بن المتوكل السيد حسن بن محمد بن حميد الدين يخوض في صلح محمد بإقطاعه من تلك البلاد ما يقوم به، فسار إليه. وكان محمد بن أحمد بن الحسن قد عين لإخوته الذين في الغراس جانباً من بلاد أبيهم، وأمر ولاتها بإرسال محصولها[26/أ] إليهم، فما رضوا بها. ولما جرى ما جرى من الخلاف وعرف حسين بن حسن عدم طاقته على استرجاعها كتب إلى حسين بن أحمد بن الحسن بالغارة، فأرسل حسين بن حسن بكتبه إلى محمد بن المتوكل إلى السودة، فقال محمد بن المتوكل: يتوقف في ذلك حتى يكتب إلى يافع، فكتب إليهم: أن إذا كان مرادكم بتحويل الوالي وأنه غير صالح وجائر في مطالبكم عُزل، وهو الفقيه الملقب مسمار الأهنومي ، وولي واحداً يكون واسطة بينكم وبين حسين بن حسن، وإن لم تطيعوا أمرنا جهزنا عليكم، وكتب إلى مسمار ينتظر الجواب.
وفي هذه الأيام أخبرني السيد محمد بن حسين الحوثي أنه كان أرسله المهدي قبيل وفاته بافتقاد أوقاف المساجد باليمن الأسفل، والتنبه عليها ويصف إقامتها.
قال: فطاف في مساجد مخلاف جعفر بنواحي جبلة أولاً ، قال: فوجد ما كان نظره من المساجد لأهل البلاد فهو مقام في الغاية بالفراش والمواجل وما يتبع ذلك، وما كان نظره إلى والي البلاد وجده مهملاً لا فراش فيه ولا إصلاح، قد شعثت عمارته وتعطلت الصلاة فيه لأهله، بل وجد بعض المساجد قد صار صبلاً .
قال: ونزل إلى المخلاف الأسفل بنواحي ذي السفال من بلاد المهدي أحمد بن الحسن فوجد الأمر كذلك، ما كان نظره إلى أهل البلاد فهو مقام، وما كان نظره إلى الوالي خراب، فهذا ما اطلع عليه، حسبما كان أمره المهدي.
[26/ب] وكذلك هذا جاري في اليمن الأعلى فإنا قد شاهدنا ما كان منها نظر وقفه إلى الوالي مهملاً، وما كان نظره إلى أهل البلاد مقاماً بالفراش والقضاض.
وفي نصف شهر شوال سار حسين بن المتوكل بعد إرسال أخيه له من السودة غارة على حسين بن حسن، لما كثرت كتبه في استمداد الغارة، وما قد جرى من الحرب بينه وبين أهل تلك الجهة، وأنه صار في الحوزة، وأنه إذا لم تصله غارة نافعة لم يكن له فيهم طاقة، فسار المذكور وفرح به، إذ ناله في عوده إلى ضوران، وبقي فيه، ويعتذر بأنه ينتظر العسكر إذا وصلوا إليه. وأمر محمد بن المتوكل عسكر الحيمة بلحوقه والعزم معه، وغيره من مقادمته أمرهم بالغارة. فأما حسين بن المهدي وإخوته فصاروا مترددين في إعانة عمهم لما حصل منه من المحاربة على جانب بلادهم بأبين ولحج، فهم صاروا بين الإقدام والإحجام، وحسين بن حسن تجشم المفاتحة لهذه الجهة والمغالبة في الوقت الذي ما ينبغي فيه تحريك الفتنة.
وهو صار كما قال ابن المقرب في ديوانه:
والمرء يسعى بلا رهط ولا جدة
كالسهم يرمى بلا ريش ولا عقب
مع أن حسين بن حسن قد صار بين عدوين له بلاد يافع وما إليها، وابن أخيه محمد بن أحمد بن الحسن صاحب المنصورة، فهو إما بها وإلا عليها، وقد وقع الحربان: الأول في أبين ولحج وتحريق سوقه، والآخر هذا الذي قد وقع في يافع بينه وبين قبيلته، وما أثمر له نفعاً بل هو صار عليه نقصاً[27/أ]. ووصلت كتب أخرى من حسين بن حسن إلى محمد بن المتوكل وإلى أحمد بن محمد بالمعاجلة بالغارة، فإنه لما تقدم من رداع مغيراً على أصحابه الذين احتازوا بأطراف يافع لمسجد النور إلى الحَلَقة ، وتعذر عليه النفوذ والعبور والصعود إلى جبل يافع، وبقي كالمحاصر في الحلقة وأصحابه في غاية الحوزة والضرورة، فتثاقلت الغواير. وكانت قلوبهم مختلفة، وأحوالهم غير مؤتلفة، والرؤساء يقولون وما لهم من مصلحة في هذه الحركة، فإن البلاد تلك لحسين بن حسن متوجهة وضررها ونفعها له، مع ما كان منه أولاً من الدعوة، فصاروا يظهرون الحركة ويأمرون الناس بالسعي والحركة، وكل أحد متثاقل فيها، ورؤساؤهم يعتذرون بعدم المعاجلة لأجل حضورهم. والعسكر يعتذرون بعدم تسليم حاجاتهم، وكل منهم يحب ظهور العذر لِيُعذر، فصاروا على هذا الحال مدة الشهر. وحسين بن حسن مشغول بالخلاص من تلك الأقفاص، حيث لم يتم منهم الغارات، ولعلها تكون معه آخرها كما جرى مع عسكر السلطنة من الهزيمة من الحلقة والقتال في نجد السَّلف والانتهاب والفعلة الجسيمة، لأن هذه البلاد اليافعية جبال[27/ب] منيعة، إذ هي أطراف البلاد اليمانية، لا تتم اليد عليها إلا بتأكيد أمورها وسكون الأمر الشاغر لدولة صاحب اليمن فيها، ليكون ظهيراً لولاتها. وأما مع تفرق مملكة اليمن، والاشتجار فيه هذا الزمن، فهو لا يتم لهم فيه قوة الأثر، كما جرى فيما سبق لمن مضى وغبر.
وفي هذه الأيام شهر شوال أرسل القاسم بن محمد المؤيد رسله لقبض زبيد وبيت الفقيه ابن عجيل وما إليه حسبما ولاه إياه محمد بن المتوكل، وفيها الرتب من قبل محمد بن المهدي، فردوهم، وقالوا: البلاد لغيرهم، فرجعوا بخفي حنين وقالوا: الأمر قد برم بليل، وساروا ولم يحصل لهم ما قصدوا، ولله قول المقرب الشاعر في ديوانه:
فيا أيها الساعي ليدرك مجده
أفق إن هذا السعي منك اضلال
ودع عنك ما لا تستطيع فقد ترى
مساعي ما لا تطيق ليس تنال
ولله قول المقرب الشاعر:
ومن لم يدبر أمره ذو بصيرة
بكته عن قريب ثواكله
وكم من همام ضيع الحزم فالتقت
عليه عداه بالردى ودخائله
وصار يغريهم ويقوي أمرهم محمد بن مهدي بإتمامهم الخلاف على حسين بن حسن، وأنهم لا يخافون، فإنه لا يجد حسين ما يدفعهم، كما قال الأول :
مصائب قوم لقوم فوائد
والسيد زيد بن جحاف الذي كان متولياً لزبيد ذهب عليه ما كان يستقطعه من بلاده هذه، فصار[28/أ] عاضاً على يده، حائراً في توسع نفقاته والمتعلقين معه وتوسعه في بيته وكثرة إمائه وعبيده، فإنه كان سراريه أربعاً وعشرين جارية من غير الخدم. فلما ذهبت هذه البلاد بعد أن كان حظه من المتوكل فيها الإبعاد، وعلم أن ذلك الحال الأول قد صار إلى نفاد، إذ كانت تلك البلاد نصف محصولها فأكثر له من غير مطالبة ولا محاسبة، مع ما كان إليها غيرها له، فهبط حاله الذي كان فيها وزال، والدنيا تقلب من حال إلى حال.
[هذه الأيام بشهر شوال أرسل القاسم بن المؤيد رسله لقبض زبيد وبيت الفقيه ابن عجيل وما إليه حسبما ولاه إياها محمد بن المتوكل، وفيها الرتب من قبل المهدي فردهم، وقالوا: البلاد لغيرهم، فرجعوا بخفي حنين ولم يحصل لهم ما قصدوا، ولله قول المقرب الشاعر:
فيا أيها الساعي ليدرك مجده
أفق إن هذا السعي منك ضلال
ودع عنك ما لا تستطيع فقد ترى
مساعي ما لا تطيق ليس تنال]
وفي هذه الأيام كثر الوفد إلى محمد بن المهدي ممن يريد الملازمة في العسكر، مع حاجة السنة مع أصحاب والده الأولين الذين كانوا في الغراس ومن القبائل المستجدين، فسار من بلاد برط جماعة كثيرة لازموه واستعدوا من الجامكية، لضعف بلادهم ومن غيرهم.
وأرسل هذه الأيام زيادة في رتب بيت الفقيه ابن عجيل[28/ب] وزبيد، وسار إليه صنوه إبراهيم ومعه جماعة من أصحاب والده، وتنافر هو وصنوه حسين، وخرج من الغراس يريد اليمن الأسفل.
ومحمد بن المتوكل رحل من السودة إلى صنعاء، فدخلها عند شروق الشمس يوم الأربعاء سادس وعشرين شهر شوال، والشمس حالة في برج العقرب في آخر شهر تشرين الأول، والله أعلم.
وفي هذا الشهر استولى محمد بن المهدي على العينة التي من قبل حسين بن حسن في أبين، وهو السيد الحبشي ومن معه وأدخلهم المنصورة.
وفي هذا الشهر لما ضاقت على حسين بن حسن الأمور، وصار في الحلقة طرف بلاد يافع الرعينيين تحت العقبة ، وتعذر عليه النفوذ إلى صعود الجبل لإنقاذ من فيه من الرتبة، وبلغه ما جرى من تجمع القبائل اليافعية، ومن انضم إليهم من البلاد المشرقية، وأنهم استولوا على أصحابه وولده وحازوهم في دورهم، ولم يبق لهم من أنفسهم مخرجاً وحار في إنقاذهم، فاضطر إلى إرسال الشيخ ابن هرهرة -وكان عنده في الحضرة- بالسعي باستخراج ولده وتخلية بلادهم لهم، فسار كما أمره وأخرج ولده عنهم، وبقي في الحلقة ينتظر الغارة. وما زال يكاتب إلى محمد بن المتوكل بالإنقاذ [29/أ]له، وهو ما قد استقر أمره إلا في هذه البلاد العليا فإن اليمن الأسفل كله محكوم عليه من محمد بن المهدي، فبقي في محارة كلامه أن اجتمع له أحد مع حسين بن حسن حتى من صاحب اليمن الأسفل لا ينقلب إلى البلاد التي تحته، فصار بين الإقدام والإحجام بالغارة والناس مستبقون الحركة مع الغلاء في الأسعار وما يحتاجونه.
وأخبر من حضر الوقعة ببلاد يافع: أنه لما وقع أولاً مع مسمار ما وقع من الاشتجار بينه وبين الشيخ ابن العفيف ، وكان قد جار عليهم في مطالبهم مع ما كان سبق معهم، فاستولوا على مسمار، وحازوه في بعض تلك الديار، وقتلوا من أصحابه سبعة أنفار، وراح من أهل يافع أكثر بالبنادق من داخل الدار، ثم أنهم عقروا عليه أشجار البن التي كانت معه، وخربوا محاميه ودياره، ونهبوا جميع ما معه من سلاح وغيره. فلما أغار ولد حسين بن حسن بمن معه من العسكر وكانوا نحو سبعمائة أقبلت يافع كالجراد وقد تعاقدوا على الحملة عليهم إلى البيوت التي سكنوها في مسجد النور، ولا يبالوا بالرصاص ولا بمن قتل من الناس.
قال: فحملوا عليهم إلى البيوت، ودخلوا عليهم من حافاتها، وتماسكوا بالأيدي طعناً وضرباً، ولم يبالوا بمن قد راح بالبنادق منهم، حملة عنترية ، ووقعة عظيمة غضنفرية [29/ب]. ولم يبق إلا البيت الذي فيه ابن حسين بن حسن لا غير، وصاروا تحت أيديهم، وفي قبضتهم، ولم تنفعهم البنادق التي معهم، لأنهم لكثرتهم طفحوا على عددهم، ولم يبالوا بمن قتل بها منهم.
قال الراوي: وانكشف الحرب والقتل من يافع بالبنادق حال حملتهم قدر خمسين قتيلاً ومن العسكر دونهم، هذا صفة الواقع الذي جرى بينهم.
ثم خرج ولد حسين بن حسن برفاقة الشيخ ابن هرهرة، كما سبق ذكره، إلى حضرة والده وهو بالحلقة، وأخرجوهم من يافع لا يألون على شيء إلا السلامة لمن بقي منهم. وحسين بن حسن أيضاً في الحلقة محوزاً، وهي حد تحت عقبة يافع وهو طرفه، ومنها ابتداء بلاد الرصاص ونجده، وصار حسين بن حسن يستغيث بالغارة الكتاب بعد الكتاب إلى محمد بن المتوكل، وقد خالفت جميع البلاد اليافعية وما خلفها من البلاد الحضرمية من نجد السلف إلى أقصى حضرموت وخلف، ورجعت هذه البلاد لأهلها وسلاطينها ومشائخها، وتعقب ذلك خلاف بلاد الرصاص، وانتهبوا البيوت في البيضاء ، وما فيه لحسين بن حسن أيضاً[30/أ].
وفي هذه الأيام أنشأ السيد زيد بن محمد بن حسن بن القاسم قصائد عظيمة، وأشعار بليغة، ورقائق لطيفة، مع تضمينها المعاني القويمة التي لا يدركها إلا من قد مارس في الفكرة وكثر في المطالعة. فما هي إلا منحة له عجيبة، وحالة في هذا الزمان غريبة، على ما هو عليه من صغر السن فإنه أنشأ مثل هذه القصائد وهو في نحو عشرين سنة من يوم ولادته، إذ مات والده وما قد تم ختانه وإعذاره، وإنما ختن بعده، ووالده مات سنة تسع وسبعين كما سبق، وبلغ هذا السن وقد أحرز علم العربية، وقرأ العلوم النحوية، وقرئ عليه فيها، ومما أنشأه من القصائد قوله:
نحوكم قلبي المعنى جنحا
فلذا لوم عذولي قبحا
آح كم أشكو تباريح الهوى
وزماناً للقا ما سمحا
ورقيباً قد غدى يرقبني
في الهوى قد نلت منه البرحا
آح من دمع غزير هامل
كلما مر بخدي جرحا
آح من نار بقلبي أحرقت
وزنادٍ لفؤادي قدحا
آح من صد وهجر وقلا
حره في وسط قلبي لفحا
وإذا عرض لي في حبهم
عاذل أعرضت عنه أن لحا
يا أحبابي ومن ذكراهم
كلما مر بسمع شرح
وأعيدوا لي أياماً مضت
خصنا الله فيها بالمنحا [30/ب]
فاذكرونا كذكرنا لكم
رب ذكر قرب من نزح
ووصال قد حلا لي مثلما
قد حلا يعقب........... ملحا
وغيرها من القصائد كثيرة مع صغر سنه وحداثته، فما ذاك إلا منحة وعطية قل من يدركها، فلذلك توجه ذكرها، والإشارة إليها، وقد جمع قصائده في ديوان.
وفي هذه الأيام وصل الخبر من الهند أنه خالف ولد السلطان على أبيه، واستعان بالإنجريز من النصارى وسيواجي على والده السلطان، فوقعت بينهم حروب شديدة، وفتنة عريضة طويلة.
وفي هذه الأيام رجع رسول أحمد بن الحسن من بلاد المهري وهو السيد أحمد القطابري، الذي كان أرسله قبيل موته إلى المهري صاحب جزيرة سقطرى وسواحل بحرها ما بين الشحر وظفار بأنه يؤهب الضيافة وأنه يأتي بالإرتحال إلى بلاد العماني لاستفتاحه، فسبق الأجل عن ذلك الأمل، مع أنه كان يجري على اليمن المشقة، لأجل طول المسافة البرية، وعدم إدراكهم للأعمال البحرية ومع ما عرف من حال أحمد بن الحسن من تضييع من معه كما فعل عند دخول حضرموت[31/أ].
وفي سلخ شهر شوال منها لما خرج أصحاب حسين بن حسن من يافع الداخلي برفاقة ابن هرهرة، واجتمعوا بحسين بن حسن بالحلقة اجتمعت يافع وقالوا: نقصد حسين بن حسن ونخرجه من حدود بلادنا. والحلقة هي حد بلاد يافع، فتعاقدوا جميعاً على القتال كالمعاقدة الأولى، وقالوا: نحمل عليهم للقتال بأجمعنا، ولا نبالي بالبنادق، وأن من سقط منها ندعسه بأرجلنا، ونلاحمهم بالسلاح، ويروح من راح؛ فقصدوهم على هذه الإشارة والنية، وسلوا سلاحهم وفتئت رؤوسهم، واختلجت للقتال أجسامهم وقصدوهم. فكانت حملة عظيمة، ووقعة جسيمة، وقتل من الجانبين مقتلة شديدة بعد أن خرجت الخيل التي لحسين للمقاتلة والطعان بالرماح والمصاولة، وبنادق حسين تحميهم من الحلقة لمن حمل عليهم، والتحم القتال، وطال النزال ثم انقضى الحرب الأول على هذه المقتلة. وكان القتل في يافع أكثر في هذه المرة، ثم لما أصبح الصباح وظهر ولاح قصدوهم بزيادة قد جمعوها، ووفرة فيهم قد لقوها، منهم من يقول سبعة آلاف ومنهم من يقول أكثر، ولفوا عليهم وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر فكهلوهم . وانتهبت[31/ب] بيرق الخيالة بعد قتله وجماعة معه، وقتلوا فيهم أكثر من خرج من الحلقة عليهم، ثم انكسروا واحتازوا فيها، ولم يبق لهم طاقة على مقاتلتهم لكثرة جمعهم وعدم وصول غارة لحسين بن الحسن تعينهم، فلما أيس عن القدرة عليهم خاطب في الخروج عنهم وطلب الأمان، فبذل له الشيخ ابن العفيف، وهو يومئذٍ رأسهم والمتبوع فيهم. وخرج من الحلقة مكسوراً مهضوماً في الليل خشية من قبائل الرصاص؛ لأن قد صاروا في الطريق بعد إظهار الخلاف حتى وصل إلى الزهراء حد بلاد بني الرصاص، وكان قد وقع حرب ما بين الزهراء وبين نجد السلف بينهم وبين الغارة التي كانت وصلت إلى الزهراء من قبل صاحب صنعاء. وكان أيضاً بعد ذلك الحرب الذي جرى قد وقع ما هو أعظم منه من الموجب للخذلان، وعدم تمام الغارة التي كانوا قد أرادوها لحسين بن الحسن من الحريق
العظيم، والأمر الشديد الهائل الجسيم، وذلك أنه كان حسين بن المتوكل وأكثر أصحابه الذين ساروا معه نزلوا في دار هنالك لحسين بن الحسن. وكان قد وضع في سفال هذه الدار أحمال[32/أ] من البارود وبقت مطروحة في غرائرها وبعضها في مخزان فيها، فكثر الداخل والخارج من عسكر حسين بن المتوكل، والواصل منهم يصل إليها والفتايل مع بعضهم ملصاة ومنهم من يحكها في دهليز الدار بعد تعشريته، فلكثرة الناس وأكثرهم لا يعرفون ما في تلك الغرائر الملقاة فلم يحاذروا أحداً منهم عن شرار النار والفتايل ونحوها من الداخل والمار، فلعله في علم الله، اتصل من ذلك شيء من النار إلى أحد تلك الغرائر البارود فاشتل شلة واحدة، ونفض الدار نفضة هائلة بمن فيه من السادة والفقهاء والعسكر في ضوء النهار، أوان العصر عند أن صارت الشمس للإصفرار، على حين غفلة من أولئك الذين فيها، فكانت أعظم مصيبة وقعت عليهم بها. فقيل: أن جملة الذي حرق بالنار خمسمائة من سادة وفقهاء وعسكر وخدام، ومنهم سادة بني عامر وحسين بن المتوكل حرق أيضاً، وخرج من جانب من الدار، وقد علق به شيء من النار[32/ب] فكان هذا الأمر العظيم......... من هذا الحريق هو الموجب لخروج حسين بن حسن من الحلقة، وطلب التأمين...... ومن الإدبار. والعلم السابق الذي سبق في هذا الأمر الذي فيهم صار أنهم وضعوا بأيديهم ما هو سبب إلى حتفهم وهلاكهم من البارود بأسفل الدار، مما يحاذره الناس ولا يضعوه قربهم ولا تحتهم لجميع الملوك في الأقطار لكنها {لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وكيف يحاذر من دون البارود كوضع الأعلاف آحاد الزراع فإنهم يضعونه في مكان مفرد خشية من شرر النار، فأما البارود فهو أعظم في المحاذرة وأبعد في المجاورة، ولكن إذا حضر القدر عمي البصر، وقد يكون ذلك بحكمة الله عقوبة فيما جرى من حريق أصحاب حسين بن حسن لمن في أبين.
وهذه الحروب التي جرت من يافع ما قد جرى مثلها من القبائل؛ لأنهم حملوا على البنادق والرصاص، ولم يبالوا بمن رمى وفات.
وإنما تقع الحملات مع الملوك الكبار الذين يسوقون العساكر بالحملات، بالسيوف المرهفات، وبذل المال والأعطيات، وقد جرى من يافع نحو هذا مع عسكر السلطنة في مدة الوزير حسن لما خالفوا عليه وقتلوا الأمير أحمد واليهم وأخرجوه وهزموا الغارة التي وصلت والأمراء الذين بلغوا إلى نجد السلف وانتهبوهم، وبعد ذلك تركهم الباشا حسن ومن بعده ولم يتعرضوا لهم في جميع مدتهم مع ما اشتغلوا به من الغزوات التي جرت معهم.
وعند ذلك في عاشر[33/أ] القعدة أمر المؤيد محمد بن المتوكل أولاد المهدي بالعزم إلى بلاد ذمار، فسار إسحاق بن المهدي وحسين بن محمد بن أحمد صاحب الروضة واجتمعوا بذمار، وأمرهم أن يكون بقاهم في تلك الجهات، فساروا يوم السبت حادي عشر شهر القعدة. وكان قد طلب من حسين بن المهدي دراهم من الخزانة التي خلَّفها المهدي، فأجاب حسين أن والده أوصى بديون عليه كثيرة في ذمته لبيت المال وهي تستغرق أكثرها، وإذا بقي اليسير منها فالحاجة إليها. ولما وصل حسين بن حسن إلى الزهراء، لم يلبث فيها وتقدم إلى محل قراره ووطنه وبيوته برداع، وكذلك من بقي من أصحاب حسين بن المتوكل بعد الحريق الذي حصل معهم، وفرغت جميع البلاد المشرقية لأهلها وزالت دولته عنها.
وبقت المحاذرة للمؤيد صاحب صنعاء من محمد بن المهدي صاحب المنصورة ومن المشرق لا يحصل في رداع مع حسين بن حسن قضية، لقربه من بلادهم، فلذلك أرسل هؤلاء إلى ذمار يبقون فيه مما يجي من الجانبين.
وفي القعدة غزا الشيخ ابن شعفل إلى قعطبة فانتهبها وأخذ ما في أسواقها، وقال: قد هو أولى بنهبها؛ لأنها في حدود بلاده، و هو يخشى من غزو يافع إليها، فيستأثروا بها عليه وأصحابه، وأن الدولة قد صارت[33/ب] مفترقة وقد حصل ما حصل من خلاف قبائل يافع، وأخرجوا عنها حسين بن حسن. وحكى الراوي أن هذه الدار التي حرقت وشلتها النار بمن فيها، كما ذكر، كان عمرها حسين بن حسن واعتنى بها في أحسن أماكن تلك القرية وأرفعها، وجعلها ملتقى فيما بين رداع وبين تلك البلاد، لما يحتاج إليه وما يساق من المصالح من البلاد عليه. وكان فيها يومئذٍ دراهم وحبوب ومدافن ودقيق، حرق جميع ذلك، وما بقى من المدافن انتهبه قبائل الرصاص وغيرهم، وصارت تلك الدار خراباً كما وقع في بلاد يافع من خراب بيت الوالي مسمار وخراب بيوته التي كانت على المال الذي له ولحسين بن الحسن مما اكتسبوه من الأبنان، وغيرها من الأطيان، وراح على حسين بن حسن أكثر ما جمعه من الخزائن والبلاد، ولم يبق معه إلا ما في رداع، وهو فيه على وجل من أن يحصل غزوه من قبائل الرصاص لقربهم، فإنه لم يبق بينه وبينهم إلا مسافة اليوم.
قال الراوي: وكان الحريق عقب وصول أصحاب حسين من الحرب الذي جرى خارج الزهراء وقد أقبلوا إلى حسين بن المتوكل ومعهم بعض شيء من رؤوس القتلى، وانتظار الجمالة وتعاشير الوصلة، فكان الأمر العظيم[34/أ] الحريق حال هذه الوصلة على حين غفلة بسبب الفتائل حال دخولهم الدار وهم يطفونها في الجدار، فكان الحريق ذلك الحال فصدمهم هذا. وكان وصول حسين بن حسن أيضاً حال ما جرى، فكان سبب انكسار نفوسهم الجميع، واختذالهم السريع، ولم يبق لنفوسهم ثقة ولا رغبة بالبقاء في هذه البلدة وساروا منهزمين إلى رداع، مضربين عن ما وراءهم، مبتلدين مما هالهم، وقال بعضهم لبعض: ما بقى فينا لهذا اتساع.
وفي غرة هذا الشهر أطلق علي بن المتوكل الأسرى الذين كانوا عند علي بن المتوكل من أصحاب محمد بن المهدي، وكان جرى لهم من الإهانة ما لا مزيد عليه، فإنهم بعد الحرب الذي حصل معهم قد كان أمَّنهم علي، ثم إن أصحابه سلبوهم سلاحهم ولباسهم، وبقوا عراة، لم يبق إلا ما ستر عورتهم وزنجروا بعضهم وحبسوا البعض، وبقوا في الحبس إلى هذا التأريخ وأخرجهم، ومحمد بن المهدي ما زال محمد بن المتوكل يراسل إليه المرة بعد المرة ويكاتبه، حتى انصرم هذه الأيام جواباته بأنه لا يدخل تحت الطاعة إلا بشرط عزل علي بن المتوكل عن الولاية، ولكنه لا يقدر عليه[34/ب] صنوه، ورتب المراتب، وقوى بيت الفقيه ابن عجيل بولده حسن وجملة من العسكر، وكذلك زبيد. ولوَّم على محمد بن المتوكل في تولية علي بن أحمد صاحب صعدة لجبل صبر، وقال كيف هذا؟ وجبل صبر في حوزة بلدي، وجنب المنصورة عندي، هذا محال أن يتصرف فيه عمال علي وهو تحتي، مع أن علياً قد معه جميع الشام، مع ما انضم إليه من جبل رازح في تلك الأيام.
وصارت الأمور بين محمد ومحمد مشتجرة مختلفة، وصار أمره من ذلك في حيرة، مع قلة المدخول معه من البلاد، لاستيلا محمد بن المهدي على محاسن اليمن الأسفل، وللقطع التي قطعها لمعارضيه في اليمن الأعلى مع قلة محصوله. وقد أنفق خزائن والده وصار الآن يطلب من التجار قرضة، والتجار تعبوا من طلبه، وقالوا: يشق عليهم مطالبته، ولما رأوه من تفرق محاسن اليمن مع غيره، فمن أين يقضيهم إن تمت قرضته؟ ولما تقاصرت عليه الأموال والبذل في الجوامك والرجال هرب كثير من أهل الحيمة الذين كان جهزهم إلى ذمار، فمنهم من رجع بلاده، ومنهم من نزل إلى اليمن الأسفل عند محمد بن أحمد لملازمته، لمَّا بلغهم الوفاء لأصحابه.
[35/أ] وقد كان بعض مشائخ يافع مثل الشيخ ابن هرهرة وغيره كتبوا إلى محمد وهو بالسودة التجرم من الوالي مسمار، وأنهم ما وقع بينهم وبينه إلا بسبب تعديه عليهم وجوره، وكل ذلك تبريداً لمحمد عن مادة وتغوير غارة، حتى يتم له ما تم مما بنوا عليه في شأنه، وشكوا عليه ما سار من الزوائد على بلادهم في المطالب الكثيرة، وأنهم لا يصبرون على ذلك الوالي ولا يرتضونه، وطلبوا منه عزله وعزل حسين بن حسن معه، ثم أنهم أبرموا الأمر وأجمعوا على إخراج الوالي والحرب لمن غوره حسين بن حسن وأصدقوا، فوقع الذي وقع. ولقد انتهبوا محطة حسين بن حسن في الحلقة، لم يبقوا فيها شيئاً، وسوروا البيوت وأخذوا الخيام والسلاح. وكان جملة الواقع في الحلقة حربين اثنين الأول: كان فيه القتال العظيم، وقتل من يافع بالبنادق نحو السبعين والآخر: كانت الحملة من يافع الشديدة، والوقعة العظيمة. وكان خرج أصحاب حسين بن حسن وهو معهم للقتال لأول القوم، فقتل أكثر الخيل وبيرق الخيالة وانتهبوا المظلة والراية وجميع المحطة، وراح من أصحابه نحو خمسين نفراً، فطلب حسين بن حسن الأمان عند ذلك، وخرج عنها مكسوراً، وطاساته وطبوله مجفية ، وقتل[35/ب] من أصحاب حسين بن حسن كثير، قيل: أن جملة القتل من يافع ومن أصحاب حسين بن حسن نحو المائتين، من غير المصاويب والحريق الذي اتفق في الزهراء.
ولما وقع هذا الحادث العظيم وانكسار حسين بن حسن على هذه الصفة وزوال خزائنه والحريق الذي وقع عقبه سقط في يده وانكسرت نفسه، وأما يافع فإنهم جمعوا بلادهم، وأنفذوا كلامهم، وتقوت قلوبهم.
ولما كان نصف شهر القعدة الحرام، وتحقق ابن شعفل ما وقع من هذه القضايا على التمام، وهو في مساقط بلاد يافع مما يلي بلاد قعطبة وأبين، قال: ونحن نغزي قعطبة ونجيش عليها للنهبة، فقصدها وانتهبها، وهرب أهلها بعد أن راحت عليهم أموالهم من سوقها وبيوتها، وكشفوا حريمها، ولم يأمنوا سكونها، خصوصاً ما قاربها من البلاد، بعدما شاهدوا الواقع فيها كبلاد مُرَيْس والعثارب وغيرها، حتى بلغ الهارب عنهم من البلاد بعد أن خشيت من قصدهم وفعلهم فيهم مثلما فعلوا في قعطبة.
ومحمد بن أحمد صاحب المنصورة أرسل بعض زيادة من جنده إلى عدن لحفظه، خشية من أن يصول عليه أهل يافع؛ لأن بلادهم قُرْبه. ومحمد بن المتوكل بصنعاء صار يرسل ما وصله من العسكر إلى نواحي ذمار ورداع على ضعف همة وقل مادة؛ لأن البلاد قد صارت مفرقة وأكثر البلاد المحصلة مع ابن المهدي محفوظة، وفرحت هذه القبائل بما جرى في هذه الدولة من الفرقة[36/أ].
وفي هذا الوقت وهو خامس وعشرين شهر القعدة الحرام وصل كتاب من العولقي يذكر فيه أنه ناوٍ على الأمر الماضي، وأنه لم يكن منه مع هذا الخلاف، والواقع من يافع والرصاص تعدي، فأمر محمد بن المتوكل بإشاعة البشارة، والظفر والتنصير بالنيران لذلك.
وفي هذا الشهر أمر محمد بن المتوكل بالضربة بصنعاء، وربما أنه كَفَّر عن يمينه التي كان حلفها، ورسم أن يكون صرف القرش بثلاثة حروف ونصف، فتضرر الناس من هذا النقص بهذه العشرين البقشة في كل قرش لما يحصل على بعضهم من الخسران.
وأما ضربة محمد بن المهدي فكانت ضربته متقدمة على هذه، من حال انتصابه للأمر بجهته، ولم يرسم رسماً في صرفها، فكانت باليمن ضربتان: ضربة في اليمن الأعلى، وضربة في الأسفل.
وفي يوم الثلاثاء ثامن وعشرين هذا الشهر خرج عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن بن القاسم إلى جهة قعطبة، أمره محمد بن المتوكل لما طلب حسين بن محمد بن أحمد ذلك، فإنه استقر هذه المدة بعد عزمه في دمت ، واستقر قاسم بن المتوكل بمن معه في رداع تقوية لمن فيه، واتفق خروجه من صنعاء عقب العصر، والطالع الذنب في برج الحوت، وكذلك اتفق خروج حسين بن المتوكل قبله كما سبق في هذا الوقت وقت العصر والطالع الذنب في برج الحوت، وكذلك اتفق[36/ب] الحريق في الزهراء بدار حسين بن حسن وقت العصر والطالع الذنب في حال وصول حسين بن حسن منهزماً من يافع هذا الوقت، وهذا من عجائب الاتفاق في طوالع الذنب لذلك مما لا يكاد يتفق مثله، والقدرة لله تعالى.
وفي هذا الشهر وصل الخبر بأن قبائل الصبيحة والحواشب الذين بجوار جبال يافع وأطراف بلاد عدن وأبين قصدوا إلى لحج، فانتهبوا في أطرافها وأخافوا طرقها، فأرسل صاحب المنصورة ولده وجماعة عسكر معه، فحازوهم ولم يقدر أحد للخروج من البيوت لشدة محاصرتهم. ثم إن صاحب المنصورة زاد بغارة أرسل نقيب العبيد وجماعة معه، فالتقوهم إلى الطريق، احتربوا هم وإياهم، فهزموهم وظفروا بهم وانتهبوهم وقتلوا من قتلوا منهم، ووقعت بالنقيب منهم جنايات، وعاد الباقون إلى المنصورة، ولم يقدروا على النفوذ إلى عند أصحابهم. ووقع أيضاً في خلال هذا غزوة من ابن شعفل في طريق الدمنة انتهب فيها هو والقبائل الذين يقال لهم: الجحافل ، وهم الذين كان يقع منهم الخلاف آخر دولة بني رسول في تلك الجهات، كما ذكره المؤرخون. ومحمد بن أحمد بن الحسن ما أمكنه الخروج بنفسه إلى بلاد هذه القبائل خشية من قبائل الحجرية لا يخالفون بعده، فصار في حيرة وكتب عند ذلك إلى محمد بن المتوكل. وأرسل كاتبه أخص الناس به أنه يتفق به ويحضر الحكام والعلماء والقضاة، وتقام الشريعة فيما ادعاه، فأجاب عليه ابن المتوكل أن هذا هو المراد.
[37/أ]وفي أول شهر الحجة وصل السيد ناصر الديلمي رسول من عند محمد بن المهدي بكتاب إلى محمد بن المتوكل، يقول فيه: أن الاتفاق قد تعذر منه.
قال الراوي: وقد كان أولاً قال في كتابه الذي مع العيزري أنه يتفق هو وإياه والقضاة، ويحضر علي بن المتوكل وحسين صنوه، ويذكر بحضرتهم ما فيهم من الثلم والسيرة، ويحكم بذلك الحكام وما حكموا به كان العمل به، ثم ترجح له بعد عود جواب محمد بن المتوكل الترك لذلك، لما أشار عليه الناس أن هذا لا يكون منه إلا السبب للفتنة، والقضاة قد لا يحصل منهم ما يطابق الغرض مع التحشيد فلا يتم ذلك.
وزاد محمد بن المهدي في الرتب على زبيد وبيت الفقيه وولاَّهما، أما زبيد فجعل فيه ابن الغفاري، وبيت الفقيه آخر من أصحابه، وأمرهم بإخراج الولاة الأولين الذين كانوا من قبل السيد زيد بن علي جحاف، وقطع ما كان يجري إليه منها من غير دفعتها.
وفي هذه الأيام قبيل عيد عرفة وصل جواب الرصاص، لما كان طلبه محمد بن المتوكل منه بالطاعة وترك الخلاف إلى محمد بن المتوكل، يذكر له: أن حسين بن حسن قد خرج من بلاد يافع ومن بلادنا ولم نتعرضه في طريقه، بل خرج محملاً ومن الآن ما بقي إلى بلادنا سبيل في مطلبة ولا زكاة ولا شيء مما كان[37/ب] فلا يصل إلينا أحد، ومن وصل دافعناه وأخرجناه؛ لأنه صار يحصل من الولاة الجور في البلاد، وأما إذا مطلبكم الخطبة فعلناها لكم، وأن الولاية لنا في بلادنا.
وفي هذا الشهر الماضي كان ابتداء دخول زحل في برج الأسد من المثلثة النارية، وهو علامة للحروب وغلبة بعض الدولة على بعض، وتجددات كما ذكره أبو معشر والفارسي في أحكامهما وغيرهما، وقد اتفق باليمن، فإنه كان عند حلوله فيه الحروب باليمن وظهور دولة المؤيد والحسن بن القاسم، ثم دخوله في الأسد حروب جرت في اليمن، واستناد بلاد يافع للمتوكل وحضرموت، ثم هذه الأيام استرجاع يافع لبلادهم والحروب التي اتفقت منهم، وزحل يومئذٍ في آخر السرطان، ودخوله الأسد في حال الحرب، واستيلائهم على حسين بن حسن. وقبل ذلك أول قيام الإمام القاسم وما وقع من الحروب، وقبل ذلك ما وقع فيما بين أولاد مطهر واستيلاء السلطنة عليهم، وقبل ذلك خروج الوزير الأعظم وحروب مطهر، وقبل ذلك استفتاح الزمر ويكون بعض ذلك أقوى في الإنفلات من بعض، كمثل هذا الوقت؛ لأنه اقترن بتمام المائة. وقد جرب بأن على رأس كل مائة أحوال مستجدة، واقترن أيضاً بالنيزك العظيم، وبمقارنة المشتري بزحل في ذلك البرج وغير ذلك، والقدرة لله تعالى في كل أمر، والله أعلم. [38/أ]وقبل ذلك زوال دولة الجراكسة في مصر باستيلاء ابن عثمان عليها، وزوال دولة بني طاهر باليمن، وملك الإمام شرف الدين لليمن، وهلم جراء.
وفي هذه الأيام بعث علي بن المتوكل بجماعة عسكر من تعز إلى مدينة إب يسكنون فيها لحفظها لما بلغه انتهاب قعطبة وخلاف ابن شعفل وتلك الجهة. وكان قد تخوفت بلاد بعدان منهم، لا يحصل إلى بلادهم دخولهم، وخالف هذه الأيام بلاد الشعر وألصوا في بلادهم النيران، وسبب هذا الخلاف هو الاختلاف فيما بين محمد بن المهدي ومحمد بن المتوكل مع ما كان يجري فيهم من الجور من الولاة في المطالب والاعتساف.
ووصل كتاب من حسين بن محمد بن أحمد إلى محمد بن المتوكل يطلب الجوامك للعسكر، وأنهم صاروا في الحاجة إلى الصُّرف، فبقي محمد حائراً في ذلك، مع كثرة المخروج لهم من غير مدخول يقوم بهم، وصارت التوافي معه من خزانة أبيه.
وعلي بن المتوكل صار في تعز كالمحبوس، وظهر عليه الملل والبؤس، وعلم أنه إذا خرج عنه دخله ابن المهدي ولم يتركه، وكثرت عليه الجوامك، وتضنك أهل تعز وسائر بلاده من المطالب مع غلا الأسعار التي عمت، فبقي الجميع في مشقة عظيمة، وأما محمد بن المهدي فهو متنفس؛ لأن خيرة البلاد المحصلة [38/ب]تحت يده فلم يكن معه مثلما مع هؤلاء من المشقة، والمدخول من الدفعات لا تزال مستمرة.
وفي هذه الأيام زاد جور ناظر وقف صنعاء الفقيه يحيى بن حسين السحولي الذي فيها، وكثر من تأجير مفاسح سككها والفاضل من عريص أسواقها، وأمرهما بالبناء فيها واستغلالها، مع الإجماع أنه لا يجوز التعرض إلى شيء من ذلك، وأنها لمصالح المسلمين مشروعة، ولا حق فيها لوقف ولا غيره من الأمور المبتدعة، حتى بلغ به الحال أن سد بعض السكك النافذة بالكلية، وبناها للوقف صبولاً وبعضها أجَّرها وباعها. وصار يوهم الحكام والعوام وهم بين مجوز له فيما فعله من الأعمال، لعدم الشجار له من غيره وبين مجوز له فعله، وأمره مع علمه ببطلانه أو جهله بغروره وعدم كمال عرفانه، بحيث أن والده كان يستنكر ما يفعله النظار من التساهل في هذه الأعمال، وقال: لا يد مع الوقف في ذلك، وإنما صار يكتبونه في الوقف ظلماً بغير حق، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي هذه المدة اتفقت نادرة عجيبة وهي أن بعض الفقهاء من بني النحوي اشترى بقرة، فحفت من السير، فترجح له أن استأجر لها جملاً، وفرش عليها تحتها وحملها، فأنشأ أحمد بن علي الشارح هذه الأبيات متعجباً:
أمحمد كيف القضية
والقضايا لم تزل
قالوا اشتريت تبيعة
تشكو برجليها خلل
فرثيت أنت لحالها
فربطتها فوق الجمل
[39/أ]وحملته ما لم يكن
قدماً إلى صنعاء جمل
وعقلته كرهاً لذاك
وكان يهرب لو عقل
لكن تأمل نائب القـ
ـاضي فخاف من الهبل
فدنى لحمله عارة
بين المطايا وامتثل
وتنفس الصعداء وقال
بذلك القول المثل
من خصمه القاضي فيكفـ
ـيه التصبر والخجل
هذا وقد سلم البويزل
في الشوارع والحللل
من صولة الصبيان
للعجب المؤثر للزجل
ولما اطلع عليها بعض السادة قال:
إن يستطع تقميطها
فبقمطها العقدة تحل
ويدهنها أدهن رجلها
منها نعم العمل
ولربما وعسى عسى
نحوي من النحوي الأمل
واحفظ مقامتها لها
ودع الأغاني والغزل
ومن ابتغاك ملامة
قل لست أسمع من عذل
انتهى.
ودخلت سنة ثلاث وتسعين وألف
استهلت بالسبت، والشمس بالجدي بآخر كانون الأول، وفيه في أول يوم من محرم وصلت كتب الحجاج من مكة المشرفة بأن الحج كان مباركاً، وأن اليماني كان ضعيفاً، والأسعار متوسطة.
وأخبروا أنه اتفق للسيد محمد الغرباني حال الوصول إلى مكة، وكان قد ظهر أمره يدَّعي أنه المهدي، فقُبِض عليه بمكة، وكان أيضاً قد أظهر الدعاء من تحت الكعبة، ويدَّعي أنه المهدي المنتظر الذي يقوم آخر الزمان، والملاحم مطبقة على تأخيره عن هذا الزمان.
وفي هذا الشهر غزا صاحب صعدة علي بن أحمد إلىالقبائل الذي كان وقع منهم قطع طريق تهامة إلى جبل رازح، قريب النار فقتل منهم جماعة وانتهبهم.
وفي هذه الأيام أزمع محمد بن المتوكل على التحريك على محمد بن المهدي، فكتب إلى حسين بن محمد بن أحمد وإسحاق بن المهدي بأنهم يتقدمون إلى الدمنة وينتظرون ما يجري، وأنه سيكون في أثرهم إلى ذمار، وإنما يريد قربة تمام الشهر الحرام، فلا قوة إلا بالله، والأمر حري، كما قال الشاعر :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة .... على الحر من وقع الحسام المهند
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة .... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
مع قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ} [40/أ].
ولكن الأمر كما جرى به العلم السابق والإرادة، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والله يصلح ما فيه الصلاح.
وصار المؤيد هذه الأيام في حيرة عظيمة من جهة محمد صاحب المنصورة، وما من أمر يريد إبرامه هناك إلا انتقض.
ولو أنهم تقاسموا هذه البلاد وقال الأعلى لك أيها الأسفل ما قد ثبتت يدك عليه، ومع أنه إن والاه، فلا بد له من جعل تلك البلاد عطاه، ولم يبق الاشتجار إلا في مجرد العلامة واللقب، وأمرها سهل بالنظر إلى عاقبة الفرقة، وحصول الحرب والفتنة، ولكن الملك عقيم.
وأما البلاد اليافعية فإن كان مرادهم أنها لا ترجع إلا مع اجتماع الكلمة في اليمن لواحد، فنعم، لكن عيال المهدي غير محمد قد جعلهم ابن المتوكل أنصاره وأعضاده، وهم كما بلغ بواطنهم غير راضية بقتال صنوهم، فربما يختل مع ذلك أمرهم، ولا يتم النصح في قتاله ولا هو أن استولى عليه قهراً تم له النصح فيما قد خرج من البلاد المشرقية له، فالأمور منثورة، والله أعلم لمن تكون الغلبة.
ولعل هؤلاء كان السبب لهم في الاختلاف القياس على من مضى كالإمام المتوكل وصنوه أحمد بن القاسم فإنه جرى بينهما ما جرى وهما أخوان رحمان محرمان مما كان لا يظن أن يقع بينهما محجمة دم لقرابتهما وكبر سنهما، فلما وقع ذلك الاختلاف والاشتجار حتى أدى إلى الحرب والنزال ولم يسلِّم صنوه أحمد لأخيه إلا بالغلبة، ولكنه لما انحسم بسرعة لم يحصل بسببه من القبائل ما حصل في هذا الزمان الآخر[40/ب]. وكان اتفاق هذا في الزمن الآخر في سنين قاحطة وأسعار مرتفعة لم يكن مثلها مما سبق فيما كان جرى في الأيام الماضية، ولعل لهذا أسباباً وهو ما كثر في هذا الزمان من الجور من الولاة والزيادات في المطالب من غير مبالاة. ويقال: إنه ولىَّ أنو شروان عاملاً فأنفذ العامل إليه زيادة على الخراج ثلاثة آلاف درهم، فأمر أنو شروان بإعادة الزيادة إلى أصحابها وأمر بصلب العامل. وكل سلطان أخذ من الرعية شيئاً بالجور والغصب، وخزنه في خزائنه كان مثله كمثل رجل عمل أساس حائط ولم يصبر عليه حتى يجف، ثم أوقع البنيان عليه وهو رطب، فلم يبق الأساس ولا الحائط. وينبغي للسلطان أن يأخذ الذي يأخذه من الرعية بقدر وأن يهب ما يهبه بقدر؛ لأن لكل واحدٍ من هذين الأمرين حداً، ذكر هذا القضاعي في منهج السلوك، وقال أيضاً في التوراة: كل ظلم علمه السلطان من عماله فسكت عنه كان ذلك الظلم منسوباً إليه، وأُخذ به وعوقب عليه، وقال ازدشير : إذا كان الملك عاجزاً عن إصلاح
خواصه ومنعهم عن الظلم، فكيف يقدر على رد القوم إلى الصلاح، وقال الأحنف ابن قيس : شيئان لا تتم معهما حيلة إذا أقبل الأمر فليس للإدبار فيه حيلة، وإذا أدبر فليس للإقبال فيه حيلة، انتهى ما ذكره القضاعي، والله أعلم.
ولما اشتد الضرر لكثير من أهل مدينة تعز من أهل السوق والسماسر والجبارين خرجوا من تعز بأهلهم، وتركوا أعمالهم؛ لأنه صار أصحاب علي بن المتوكل يتدينون منهم، ولا يسلمون لهم القيمة بل يمطلونهم .
وفي نصف هذا الشهر دخل حسين بن أحمد بن الحسن من الغراس إلى صنعاء، وعرض عليه محمد بن المتوكل العزم إلى اليمن الأسفل، فأجاب بأن قد أرسل صنوه إسحاق ومن معه من العسكر، وعليه أعمال في بيوت والده بالغراس وحصن ذمرمر.
وفي هذه الأيام تلاحقت الكتب من حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم من دمت يطلب جوامك العسكر، وأنه قد هرب جماعة لما تراخى عليهم العدد مع غلاء الأسعار، ومحمد بن المهدي صاحب المنصورة ما زالت المكاتبة بينه وبين صاحب صنعاء وهو يذكر فيه الشروط إن تمت سلَّم لمحمد صاحب صنعاء وإلا فهو باق على ما هو فيه لإزالتها. وهي: عزل علي بن المتوكل، وعزل السيد حسن الجرموزي والي المخا، ومنع ولاة بيت المال عن قبض محصولات الأوقاف، فلم يدخل له محمد صاحب صنعاء في شيء من هذا، وقال: إنما يكون مثل ذلك من بعد التسليم لنا، فتمانعوا، وما زالت الكتب دوارة، والرسل متلاحقة من صاحب صنعاء في الدعاء له وهو لا يجيب إلا بتمام الشروط أولاً، ثم كان آخر الجوابات منه أن قال: إذا قد بنيتم على عدم فعل شيء مما شرط عليكم كنتم على حالكم في البلاد التي قد أجابتكم ونحن على حالنا في البلاد التي تحت أيدينا[41/ب] ولنا النظر من بعد على ما اقتضاه نظرنا. فتغير محمد صاحب صنعاء من هذا الجواب الآخر، وطلب القضاة وغيرهم من الأعيان، وطلب مشورتهم، وكيف يكون الأمر في ذلك؟ فاختلفوا، فمنهم من أشار عليه بالتجهيز والمناجزة والمحاربة، ومنهم من لم يجب بنفي ولا إثبات، ومنهم من قال: يجعل له بلاده جميعاً التي كانت معه من أول وما زاد إليها من بلاد زبيد وبيت الفقيه ابن عجيل التي قد أثبت يده عليها وجميع بلاد المشرق، ويكون عهدتها عليه فيها، وهي بلاد يافع وبلاد ابن شعفل مع عدن، وهذا كله غير مطابق لمقصوده، فإن هذه البلاد قد صارت تحت يده من غير حاجة له إلى ولايته، وأما يافع فأهله قد تغلبوا عليه، ولا يد لأحد غيرههم عليه.
وفي هذه الأيام زاد محمد بن أحمد بن الحسن في رتب بلاده مثل بيت الفقيه ابن عجيل جعل فيه من الخيل والعسكر قريب ثلاثة آلاف فأكثر، وهرب إليه من أصحاب حسين بن محمد من دمت جماعة من العسكر، وما زال أمره يقوى، ورتب بلاد الدمنة لما بلغه تحرك حسين بن محمد بن أحمد بخروجه من دمت إلى بلاد الجند. وإسحاق بن المهدي[42/أ] صار في ذي أشْرَق بمن معه وصاروا متراكزين ومتقابلين، كل منهم يراعي الفتح من جانبه، مع أن أصحاب إسحاق بن المهدي من أصحاب والده قلوبهم مع محمد صاحب المنصورة، لإحسان والده عليهم، وكونه من عساكرهم وجميع أولاده، وإنما أعمالهم مع هذا توجيهات. ولذلك صرح لمحمد بن المتوكل مشائخ الرحبة وهمدان بأنهم معه إذا كان المراد دخول بلاد يافع، وإن كان مراده قصد محمد صاحب المنصورة فلا يمكنهم حربه، فإنهم أصحاب والده. وهم معهم، مع أن هذه الساعة شاقة على الناس، فبقي محمد هذه الأيام مضطرب أحواله، وكان قد كتب إلى صنوه حسن صاحب اللحية أنه يجمع العسكر معه، وكتب إلى حراز ينضمون إليه ويقصدون بيت الفقيه، فامتنع أكثر أهل حراز وهم الشافعية، مع أن قد صار في بيت الفقيه قوة، يقال: قريب مائتين من الخيل، ومن العسكر قدر ألف نفر[42/ب].
وفي هذه الأيام كان قد أرسل قاسم صاحب شهارة كاتبه وصهره السيد أحمد الشرفي إلى عند محمد بن المتوكل من أجل بلاد تهامة وزبيد التي كان جعلها إليه حال اتفاقهم بخمر، فلما بلغ القاسم أن محمد صاحب المنصورة رتبها بالعساكر علم تعذرها، فأرسل إلى السيد بعوده، وأنه قد استخار الله في طلبها.
وفي هذه المدة بأول شهر صفر وصل الشيخ ابن شعفل إلى حضرة محمد بن المهدي إلى المنصورة، لما رأى أصحاب حسين بن محمد بن أحمد قد أرادوا التوجه إلى بلاده، وقال لمحمد بن المهدي هو من أعوانه وأنصاره هو وجميع قبائله، فأمر أصحابه بحفظ أطراف بلادهم، واتفق حال خروج حسين بن محمد بن أحمد من دمت يوم الإثنين تاسع عشر شهر محرم، والطالع الحوت مع الذنب.
وفي هذه الأيام ذكر لي بعض خواص محمد بن المتوكل أن محمداً أودعه ما يكون الرأي في هذا الأمر، وأنه في حيرة في النظر، وأن محمد بن المهدي قال: لا يسلم الأمر إلا بتمام الشروط التي شرطها، وأن ابن المتوكل قال: يصلح ذلك لكن بعد تقديم تسليمه أولاً، فأجبت أن الرأي في هذا أحد أمرين، إما الدخول فيما شرطه أو تركه في بلاده على حاله، وأنه لا بد له من تلك البلاد التي ثبتت يده، سواء وقع بينهم المعاملة[43/أ] أم لا، فما ذاك الفائدة، بل إن سلَّم له فلا بد له من زيادة عليها.
وقد قال النجري في معياره وابن عبد السلام في قواعده: أن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، ثم إنهم أرحام وأقارب، فلا يكون هذا قطيعة فيما بينهم ، وقد نهى الله عنه ومع تباعد الديار ولم يفت شيء غير مجرد اللقب، والنظر في المصالح والمفاسد مقدم خصوصاً مع تباعد الديار. فقال هذا الواصل المستمد للرأي: لكن علي بن المتوكل لا يقدر على عزله صنوه إلا بفتنة، فأجبت عليه أنه إذا كان هكذا وجب عليه أن يتبرأ من أفعاله، إلا إذا دخل في أوامره، فإنه بالإجماع جارت سيرته باليمن، وجار أصحابه ولم يكن له كلمة نافذة على أصحابه، ولا رفع بشيء مما شكاهم إليه أهل بلاده ، فإنه إن لم يفعل ذلك كان مشاركاً في إثمه. ثم إنه يحتاج إلى التنبيه في أمور في بلاده العليا، منها: خراب كثير من أوقاف مساجدها وإهمالها وتصرف غير مستقيم فيها وجمع بعض محصولها لغير مصرفها وتضييق سكك صنعاء بإدخال مفاسحها للوقف وهو لا يجوز وليس للوقف استحقاقها بالإجماع، كما ذكره السبكي في كتابه معيد النعم ومبيد النقم وافتقاد مكاييل صنعاء، فإنه صار صانعها يزيد فيها في كل وقت مما يمحق أسعارها ويغيرها ويؤدي إلى الحرام المجمع لمن اقترض بالمكيال الأول وقضاه [43/ب]بالثاني بعد الزيادة فيه مما هو ربا حرام فيها، وأنه يفتقد تقارير الناس وإمرارهم على عوائدهم، وتنزيل الناس منازلهم، ورفع المظالم منهم لكي يحصل من الله الرحمة لهم، ففي الحديث: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ))، وفي حديث آخر: ((لا توكي فيوكى عليك ))، ويقول تعالى: {إنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىَ يُغَيِّرُوا مَا بِأنْفُسِهِمْ } .
وأن المطالب في اليمن الأسفل قد زادت وكثرت، مع الطوارئ الزائدة، وعدم التوقف على الحدود الشرعية، بحيث أخبرني بعض أهل تلك الجهة: أن الذي يصير إلى الدولة فوق النصف، وهذا أمر عظيم غير معروف في السابقين الأولين في كلامٍٍ هذا محصوله، ولولا طلب المشورة ما كنت أذكره لما في الحديث عنه÷: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه )).
وقول الشاعر:
لا تبادي بالرأي من قبل أن .... تسأل عنه ولو رأيت عوارا
أحمق الناس من أشار على النـ .... ـاس برأي قبل أن يستشارا
وأخبر الحجاج أن المسجد الحرام تم فيه ما أمر به السلطان من رصه جميعاً، وتصليح مناهله، وجر عين الزرقاء إلى خارج مكة على طريق جدة.
وفي شهر صفر ظهر من إبراهيم بن المهدي الميل إلى صنوه، وأنه صار يكاتبه ويصل إليه دراهمه، وأنه جهز جماعة من[44/أ] عسكره إلى حبيش لقبضه فمنع عنهم واليه السرى، ووقع بينهم طرف من المراكزة، فلم يتم دخولهم ، ورجعوا إلى يريم ثم تهيأ للنزول إلى بلاد المخادر، وكتب إلى واليها التأهب بما يحتاج إليه، فطلع جماعة من عسكر علي بن المتوكل إلى سمارة، لمنع المذكور عن النزول لما ظهر أنه يريد القبض على تلك الجهة، فترك عند ذلك.
وفي نصف شهر صفر ليلة خامس عشر خسفت القمر في الساعة السابعة ببرج السنبلة بالرأس، تغشاها الخسوف جميعاً بحمرة، وكان صاحب الخسوف زحل في ثانيه ببرج الأسد، وكان المريخ في المقابلة بالحوت مع الذنب، وهذا الخسوف قد كان ذكره صاحب التقويم المصري الخارج العام الماضي.
وكان بأول صفر وفاة السيد يحيى بن أحمد بن محمد العياني الحمزي المعروف بأحمد سيد بداره كوكبان، وأبوه وجده كانوا مع بني شمس الدين بن الإمام شرف الدين.
كان هذا السيد من الطلعة الأولة قد ناهز الثمانين السنة.
وفي هذه الأيام أرسل صاحب المنصورة محمد بن أحمد المهدي إلى بلاد يافع بأنهم يرسلون إليه جماعة من أصحابهم، فأجابوا أنهم حافظون بلادهم، فلا يتم خروج[44/ب] أحد منهم.
وفي يوم الأحد ثاني وعشرين شهر صفر منها وصل كتاب محمد بن أحمد من المنصورة مصدراً في باطن كتاب من صنوه إبراهيم الساكن بيريم إلى محمد بن المتوكل المؤيد يذكر أنه قد سلَّم له الأمر صيانة للمسلمين، لكن بالشروط التي قد بذلها، والمواضع التي قد وضعها.
وفي خلال ذلك انتهبت قعطبة النهبة الثانية، ووقع فيها معرة عظيمة وفعلة جسيمة، والناهب لها الشيخ الجلاد بأصحابه من أهل يافع، بسبب كتاب وصل إليهم من صاحب المنصورة بالغارة في معاونته والقصد إلى قعطبة.
وفي آخر شهر صفر عند استكمال ربيع الأول اجتمعت الكواكب الخمسة الشمس، والقمر، وعطارد، والزهرة، والمريخ، والذنب أيضاً في برج الحوت، دليل الأمطار الواسعة.
وفي هذه الأيام ثاني يوم من شهر ربيع الأول وصل جواب صاحب المنصورة إلى صاحب صنعاء بالتسليم، وأنه يأمر برفع المحاط التي صارت مقابلة له في الجَنَد وذي أشرق.
وفي غرة هذا الشهر توفي القاسم بن محمد بن المتوكل برداع، وكان أرسله والده أميراً على العسكر الذي أرسلهم إلى هنالك، وتفرق أكثر عسكره من رداع من أهل الحيمة وغيرهم، وتحدث حسين بن حسن عند أن بلغه تسليم ابن أخيه لمحمد صاحب صنعاء بأنه يريد دخول بلاد يافع، وأن المحاط تدخل معه، فبلغ يافع حديثه، فاجتمعوا وقالوا[45/أ]: نغزوا إلى رداع قبل أن يجتمعوا ويغزونا، وكتبوا إلى قيفة أنهم يأذنوا لهم بالمرور في بلادهم، فامتنعوا وقالوا: لا تدخل قبيلة على قبيلة. وبلغ محمد بن المتوكل ذلك؛ فخشى لا يحصل ما حصل، فكتب إلى محاط اليمن الذين كانوا حاطين على صاحب المنصورة بالطلوع إلى نواحي ذمار ورداع.
وفي هذه الأيام تفلَّس بعض البانيان وهرب وعليه ديون واسعة للمسلمين، ودخل في صورة يهودي متنكراً، وجاء طريق اللحية.
وفي يوم الاثنين ثالث عشر شهر ربيع الأول كان دخول الشمس أول درجة في الحمل، وزحل في الأسد، والمشتري في السرطان، والمريخ مع الذنب بالحوت ،والرأس بالسنبلة، والزهرة محترفة مع الشمس، وعطارد بالحمل والقمر في السنبلة، وسيكون قران الثقيلين زحل والمشتري في برج الأسد في آخر السنة، والله أعلم.
وإبراهيم بن المهدي قبض دفعة العدين لما وصلت يريم في الطريق، فتغير محمد بن المتوكل من ذلك تغيراً عظيماً، لأجل أخذه لها من غير إذن مع حاجته، واعتذر إبراهيم أنه احتاج ذلك لمن عنده من العسكر.
[45/ب] وفي هذه الأيام أمر محمد بن المتوكل بأن تكسر ضريبة صنوه علي بن المتوكل بتعز، وأنها لا تمر بصنعاء، فبقي الناس في حيرة من أجلها، ثم تراضى أكثرهم على قبولها وبعضهم لم يقبض شيئاً منها.
والمهدي صاحب برط المسمى محمد بن علي الغرباني من بني مكنَّى من سادة غربان، عاد من البحر بعد الحج والزيارة للنبي÷ فوصل مع جماعة حجاج من أشراف كوكبان، وسكن بكوكبان حتى يتوثق في الوثاقة في الدخول إلى بيت والده بصنعاء، وربما تيسر له من السبار ما يهوى، فترك المؤيد بن المتوكل جوابه، وأعرض عن خطابه وأيس المذكور عن المناصر لدعوته التي دعا بها بالبلاد البرطية، لما أصابها الجوع وارتحال جميع أهلها عنها وتفرقهم في البلاد والأنحاء للمعيشة؛ خرج منها وقصد الحج من طريق الخوخة . فوقع عليه في الطريق ما وقع من الانتهاب لحوائجه وكتبه، والترسيم من صاحب بيشة لما أظهر نفسه باللقب فيها، وتخلص بمشقة حتى دخل مكة وحج فرضه وزار، وخرج بحراً مع حجاج كوكبان[46/أ]، وكان في صحبته أولاد الأمير ناصر صاحب كوكبان، اضطر إلى مرافقتهم لانقطاع زاده، فلما وصل كوكبان أعاد ما كان طواه من الدعوى في سالف الزمان، وقال: هو الذي يصلح وفيه كمال العلم التام، فعند ذلك باحثه من بكوكبان من العلماء والأعيان في المسائل العلومية والأحكام، ، فحصروه في عدة مسائل وظهر لهم كمال قصوره. وكان أكثر من تصدى لمراجعته ومباحثته الفقيه العارف محمد بن حسن الحيمي في النحو وعلم الأصول والفقه، ورأى من المسائل والمناقشة ما حار فيه فهمه، وتبلدت معرفته وقريحته، وما ذاك منهم إلا لما رأوه يطلب البحث ويدعي العرفان، فمن جملة ما أحصر عنه: السؤال في فائدة قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} .
ما القصد في تخصيص توجيه سؤالهم للجلود دون سائر أعضاء الجسد التي شهدت؟ والمراد به، كما ذكره أبو السعود ، هو أنها لما كانت المباشرة لفعل القبيح، وكان المراد بها الفروج كما في تفسير ابن عباس خصت بالسؤال لها فهي المباشرة الملتذة دون غيرها. وسؤال آخر فقهي وهو: ابتاعت أرض لها ساقية تمر في ملك ثم تخرج إلى مباح ثم تدخل الأرض المبيعة، هل فيها شفعة؟، فأجاب بثبوت الشفعة، ولا ينبغي كذلك لأنه يشترط ملك الساقية ولا ملك. ثم بعد ذلك انكسرت همته التي كانت في نفسه، وقنع بالإياب عما كان طواه بأمنيته، وصدق من قال: من لم يعرف قدره وقع في خطره، وما هلك امرؤ عرف قدره، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان. وعلموا عند ذلك أن علمه علم بادية، وعوارش غير خافية، كأنه سراب بقيعة يحسبه الضمآن ماءً.
مع أن التزكية للنفس لا ينبغي للعالم، فإن الله تعالى قد مقت على ذلك، وامتحن موسى عليه السلام لما أجاب السائل[46/ب] عن من أعلم في الأرض فقال: أنا فامتحنه الله بلقيا الخضر ، وطلبه والاتفاق به على مشقة، كما قصه الله تعالى في كتابه ووصفه النبي÷ في روايته حتى ظهر له علم ما لم يعلم، وقد قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } ، وقال: {فَلاَ تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ} .
فكيف حال من كان دون الأنبياء من هذا البشر، الله المستعان. ثم وصل السيد صنعاء، ورجع إلى حضرة والده وهو يهرول ويسعى. وأخذ عليه المؤيد محمد بن إسماعيل المتوكل البيعة لنفسه فلم يسعه إلا موافقته، مع أن محمداً ما طالبه لذلك إلا لما صار يدعو إلى نفسه، فأراد قطع حبله وذريعته، مع أنه قد أدبه الزمان، وصار مضطراً إلى ترك ما عليه كان.
وفي نصف شهر ربيع الأول وصل كتاب حسين بن حسن إلى المؤيد محمد يقول فيه: إنه بلغنا أنك اصطلحت أنت وصاحب المنصورة وأقطعته بلاد المشرق من يافع وغيرها، وهذا لا ينبغي منك وأنه لا يسمح ببلاده، وأنه باقي بالارتحال إليها، وما يصلح منك إلا المعونة على إرجاعها وردها على حالها، وإن لم يكن منك ذلك فلا تتعرض لتوليتها.
وكذلك وصل كتاب من علي صنوه فيه معاتبة، يذكر له: أن الشروط التي جعلتها ما كان ينبغي فعلها منقوضة، ولا يتم أمرها لما بلغه أن شرط ابن المهدي رفع علي عنها، فجمع المؤيد صاحب صنعاء القضاة وحسين بن المهدي، وقال: ما ترون في هذا؟ فأجاب البعض أن الشروط التي شرطها ابن المهدي أرجع عنها وقرر كلاً على بلاده، فأهم بذلك وراق في خاطره، فعارضه حسين بن المهدي، وقال: كيف ترجع في شيء قد وضعته وجهزته وقررته وأمرتنا بوضع شهادة مثل ذلك للصنو محمد بن المهدي؟ فهذا لا ينبغي، ومثله تكلم السيد أحمد بن إبراهيم المؤيدي والقاضي محمد قيس.
[47/أ] ولفظ الوضع الذي وضعه محمد بن المتوكل لمحمد بن أحمد بن الحسن هو ما لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ألف بين قلوب أصفيائه، وجمع شمل من اختار من أوليائه، لصلاح بلاده وعباده: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بأمره وإنفاذه، والصلاة والسلام على محمد الذي جمع الله به شمل الأمة، وكشف به كل بؤس وغمة، وهدى الخلق من الجهالة، وأرشدهم من الضلالة، وصلى الله عليه وعلى آله في كل وقت وحين. أما بعد: فإنه لماوصل إليَّ السيد النجيب العلامة النسيب بدر الدين محمد بن صلاح القطابري أسعده الله بذلك الوجه الذي وضعناه بخطنا وطلبنا فيه والشروط الدينية التي اشترطنا، وعاد الجواب في قفا خطنا بخط الصنو الإمام المؤيد بالله داخلاً فيما اشترطنا، ملتزماً على نفسه بما ذكرنا، وأشهد الله على ذلك وهو خير الشاهدين، ثم أشهد على وضعه الصنو السيد الجليل الأوحد علم الدين القاسم بن أحمد بن أمير المؤمنين ومن حضر من الأصناء الكرام، والقادة الفخام، والعلماء الأعلام، بأسمائهم المعروفة في ذلك الطرس ، استخرت الله تعالى وهو المستخار، وتوكلت عليه وهو الملك القهار بموالات الصنو المؤيد بالله أيده الله، وواليناه وحللنا هذه القلادة[47/ب] بهذه الشروط الدينية، وحقن دماء المسلمين وأشهدنا على ذلك من حضر لدينا وجعلنا موضوعنا هذا شاهد يطلع عليه الأصناء الكرام، والعلماء الفخام، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
حرر بمحروس المنصورة حرسها الله تعالى، يوم السبت ثاني وعشرين شهر صفر، سنة اثنتين وتسعين وألف ، ثم ما أمر أيدينا، عليه من البلاد التي تحت أيدينا وما منَّ به علينا من أهل المشرق كافة ويافع حسبما تضمنه الموضوع الذي بأيدنا، وما اشتمل عليه من الموالاة، وأشهدنا من حضر ورقم اسمه في هذا الطرس، والمرجو من الله الوفاء بما شرطناه من الأمور الدينية، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم انتهى.
وفي هذه الأيام بقي المشرق تضطرب أحواله، وتغير أعماله، فبقي المؤيد مشغولاً بذلك، وتقوى في ذهنه أن مراده قصده، فأفاض على الفقير إلى الله كاتب الأحرف هذا فقلت: وقد عزمتم على ذلك وحررتم النية، وإلا فما كان لفتح المشرق مصلحة، فقال: نعم قد بنى على ذلك، فقلت له: لا بد لكم من النصاب الكامل من العسكر وما يحملهم أقل حالة مثل عسكر بني طاهر، وهم قدر عشرين ألفاً، فأنتم تقدرون على هذا؟ وإلا فالترك أولى، فقال: نعم هو يحصل ربما إذا طلب من أولاد أعمامه وإخوته إذا لم يحصل مما كره منهم، فقلت: لكن قدَّموا اجتماع الكلمة بينكم وبين صاحب المنصورة أولاً، فلم يعجبه هذا بل قال: هو قد سلَّم الأمر لنا وظهر منه أن مراده إرجاع البلاد إلى حسين بن حسن على أنه خاب وهو عين المخاب، وما الأمر إلا كما قال الشاعر:
إن صحبنا الملوك تاهوا علينا .... واستبدوا بالرأس دون الجليس
[48/أ] وليت هو رأي لا يرجع فيه، ولكن متى عقد الرأي لم يتم بل يرجع فيه وينقض في الحال، فلا قوة إلا بالله.
قال السيد أحمد بن إبراهيم المؤيدي والقاضي محمد قيس: فسكت وتردد في ذلك الأمر، وعليه التبس، وبلغه ما قالته يافع، وكتبوا به إلى بلاد قيفة من أنهم يأذنون لهم في غزو حسين بن حسن إلى رداع لما بلغهم كلامه. وأنه يريد الدخول عليهم بعد شرطهم عليه حال إخراجه، وكل ذلك منهم إنما هو هنجمة على حسين بن حسن، لأجل يعرف أنهم غير راضين به، ولأجل يكف عنهم دخوله.
واتفق عند ذلك أخذ إبراهيم بن المهدي لدفعة العدين، وكانت واصلة إلى صنعاء، فأخذها، وقال: هو في حاجتها لمن عنده من العسكر الذين في يريم، وكان محمد منتظراً لوصولها وواعداً للسيد أحمد بن إبراهيم المؤيدي بالزلاج منها. والسيد أحمد طلب الزلاج، فأجاب عليه محمد بالانتظار حتى يدخل يده ما يمده به، واعتذر إليه أنه تعطل ما في يده، وأنه لا يعلم في الخزانة بغير مائة حرف، فعند ذلك استأذنه السيد في العزم، فقرره وسأله الانتظار،، وسبب تعطيل خزائنه وقل ما في يده ضعف هذه السنين، وتفرق البلاد مع غيره.
وفي هذه الأيام تكاتب علي بن المتوكل وحسين بن حسن أنهم يد واحدة [48/ب] على محمد بن المهدي، وأنهم لا يدخلون في شرط محمد بن المتوكل في نزع أيديهم من بلادهم، وأنه أمر محال، ودونه خرط القتاد والخلاف والجلاد. فعند أن بلغ صاحب صنعاء كتب إليهم أنه يريد منهم الجميع الاجتماع في ذمار أو غيره والاتفاق، وتقرير الأمور على ما ينبغي وترك الشقاق. فبعث إلى صاحب المنصورة الرسمي بكتاب، وإلى صنوه علي حسن المحبشي كاتبه، وإلى حسين بن حسن محمد بن إبراهيم السحولي الخطيب بمثل هذا، فالله أعلم ما يتم من ذلك بينهم، وما يتلفق لهم.
وفي هذه الأيام وصل من كوكبان وشبام أعيان من السادة وغيرهم يشكون عبد القادر في الذي لهم، وأنه لم يسلم لهم تقاريرهم، واختص بالبلاد، وجعل التصرف للحريم، فأمر المؤيد عليه بالحجر عن التصرف حتى يوفيهم حقهم الذي لهم.
وفي هذه الأيام بآخر ربيع الأول اتفقت نادرة من النوادر وهي أن شيخاً جندياً من بني الرَمَّاح الذين يسكنون بني مطر كان ملازماً لأحمد بن محمد يركب الخيل، وكان له بيت بصنعاء يسكنه أكثر مدته لملازمته، وأهله في بلد النشمة ببني مطر، وبيته بصرحة الأبهر أن قتل هو وخادمه الحَالّ في بيته حرمة من بني هاجر كان زوجها قد مات فأدخلتها امرأة الحَالّ مع الشيخ الرماح في بيته هذا إلى[49/أ] بيته ، ووقع معها هذه الفعال وقطع رأسها وأيديها ومثل بها، وحملت في باقي عباءة إلى شارع طلحة ، وطرحت قريب باب خالها، ثم لم يظهر ذلك إلا بعد يوم وليلة بعد تحسس خبرها. ولما ظهر ذلك الحادث هرب الغلام وأمسك الشيخ الرماح والحَالّ معه في بيته وامرأة هذا الحَالّ، وحبسوا بعد أن ضربت امرأة هذا الحَالّ وكذلك الشيخ وأوثقوا في الحبس. وكانت هذه الحرمة ببيت مجاور لبيت الشيخ هذا المسمى عبد الله بن عز الدين الرماح وخادمه يسمى شجير. كان أولاً بواباً مع أحمد بن الحسن، والله أعلم بحالها وسبب ما وقع بها، فمن قائل: أنه عمل غير صالح كان بينه وبينها، ومن قائل: أنه لطمع ما معها، ومن قائل: أنه كان طلب معها ابنتها وبذل لها دراهم فلم يتم قولها، فحاق بهم الجميع أعمالهم. وذكرنا هذه القصة لندورها من أجل المثلة بها.
ووصل إلى المؤيد محمد صاحب صنعاء هذه الأيام بأول شهر ربيع الثاني دراهم من السيد حسن الجرموزي صاحب المخا من طريق تهامة وسِهَام والحيمة، وترك طريق اليمن خشية من إبراهيم بن المهدي الساكن بيريم لا يأخذها كما أخذ دفعة العدين أو غيره.
وفي غرة هذا الشهر تراجع أهل المواشي من بلاد برط الذين[49/ب] كان نجعوا بها إلى بلاد جهران وضوران وبلاد رداع وعنس لطلب المرعى لنعمهم بعد أن بلغهم مطر بلادهم. وقد كان خلت بلادهم وتفرق أهلها وصارت خاوية بما ظلموا فيها وقطعوا السبيل بطرقها، وهلك منهم أمة في هذا الجوع الذي أصابهم، والله أعلم.
وفي شهر ربيع الأول أو الثاني توفي الشريف السيد علي بن صلاح الضلعي في بلده ضلع الأشمور، قريب كحلان تاج الدين عقب عوده من صنعاء حضرة المؤيد محمد بن المتوكل، وهو من العلويين أصلهم من سادة المأخذ ، ينتسب إلى عبد الله بن العباس .
كان هذا السيد له ولاية القضاء وفصل الأحكام في تلك الجهة مدة المتوكل والمهدي أحمد بن الحسن، وكان مع ذلك أيضاً قد ولاَّه المتوكل بلاد كحلان، وعزل عنه أولاد الهادي بن الحسن بن شرف الدين وبقي مدة طويلة جامعاً بين الولاية والقضاء، ثم أعاد المتوكل أولاد الهادي بن الحسن لولايتهم لكحلان، وبقي السيد له مجرد القضاء والشريعة، وزالت عنه الولاية رحمه الله. وكانت معرفته بالفقه لا غيره من الفنون، فإنه كان عارياً عن علم النحو بالمرة. وشيخه القاضي أحمد بن سعيد الهبل، فإنه قرأ عليه بصنعاء في مدة طلبه في زمان المؤيد بالله محمد بن القاسم، فلما دخلت دولة المتوكل ولاَّه تلك الجهة قضاءها وفصل أحكامها وأوقافها.
وفي ثامن عشر شهر ربيع الآخر وصل حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم راجعاً من اليمن الأسفل إلى صنعاء، فقال له المؤيد بن المتوكل: لو كان بقيت بذمار، فقال: تحتاج العسكر إلى جوامك وسبار.
[50/أ] وأما إسحاق بن المهدي فاستقر بذي أشرق، واستمد من البلاد التي تليه له وأصحابه. وإبراهيم بن المهدي صنوه استقر بيريم تصرف فيها واستولى على ما فيها. وعبد الله بن محمد بن يحيى بن الحسن استولى على نقطة اليمن الأسفل العدين، ودخله وتصرف في محصوله. ومحمد بن المهدي أرسل أبا ريحان بعييِّنة لقبض ربع المخا حسبما وضع له محمد بن المتوكل في شروطه. وخلت يد المؤيد بن المتوكل عن جميع اليمن الأسفل بالمرة. ولم يبق له فيه إلا مجرد الخطبة وصار في أشد حاجة، وخلت خزائنه، ولم يبق له من البلاد إلا دون ما كان له منها في وقت والده؛ لأنه زاد خرج من بلاده الأولة قبل انتصابه بلاد حراز لأحمد بن محمد بن الحسين ، وبلاد ثلا لصنوه قاسم بن المتوكل.
وابن المهدي محمد صاحب المنصورة أرسل ولده إسماعيل إلى بلاد ابن شعفل لإصلاحها، وتسكينها، وصلاح طرقها، ورد ما نهبوه فيها، فلما دخلها وصل ابن شعفل وأبرز خطوط صاحب المنصورة بأنه الذي أمر له بدخول قعطبة والتقدم إلى إب وجبلة من خلفها وشرقها، فكان قد أراد ذلك بأمره. والذي وقع في قعطبة بإشارته[50/ب] وخطوطه وأوامره، فأجاب عليه بأن الأمر بدخول تلك الجهة لا بالانتهاب على الضعفة ، فأمرهم بتسليم ما قد أخذوا، فأرجعوا ما بقي بأعيانه وأخذ منهم آداب وأعواض. وكاتبوا إلى يافع، فأجابت يافع بجوابات فيها مغالطة ومواعدة. وتفرق اليمن الأعلى والأسفل بين خمسة عشر دولة متفرقة، وكل منهم مع ذلك يقول ما حصل الوفاء لحقه، فكان بهذا التأريخ اتضاع كثير من الولاة والرؤساء وزوال دولهم، منهم حسين بن حسن بن القاسم، ومنهم السيد زيد بن علي بن إبراهيم جحاف الذي كان له بلاد زبيد وبيت الفقيه، ومنهم السيد حسن بن مطهر الجرموزي صاحب المخا، فتولى فيه أبو ريحان من قبل محمد بن أحمد بن الحسن، ومنهم جعفر بن مطهر الجرموزي صاحب العدين استولى عليه عبد الله ابن يحيى بن محمد بن الحسن بن القاسم، ومنهم الفقيه حسين الثلايا الذي كان متولي ثلا، ومنهم صاحب حجة السيد علي بن حسين بن جحاف، بسبب حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم، ومنهم السيد إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن جحاف زالت ولايته بريمة، كذلك والي حفاش الجملولي وغيرهم، تحولت حالاتهم، وزالت ولايتهم.
وفي هذه الأيام لما استقر عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن بن القاسم بالعدين قبض محصولاته، وتصرف من نفقاته وثمراته وقال معتذراً: إن الذي جعل له محمد صاحب صنعاء ثلاثة آلاف لأصحابه وأنه يقبضها من غير واسطة واليها، ويرسل بالباقي إلى صاحب صنعاء، فأرسل بالباقي وهو النصف، فلما وصل إلى يريم أخذها إبراهيم بن أحمد بن الحسن وقال: هو الذي جعل له محمد لأصحابه، فانخلعت يد محمد من فائدة العدين، وبقي في صنعاء صفر اليدين، ليس معه إلا الإسم، ودون ما كان معه وقت والده من محصول بعض بلاده، وكثر الاشتراك في المملكة بسبب الضعف، واختلاف الكلمة.
[51/أ] وفي هذه الأيام شهر جمادى الأولى استقرت دولة ابن المتوكل بعض الإستقرار، بعد البذل لأولاد إخوته ما طلبوه من البلاد، ولكن لم يبق معه إلا الجزء اليسير منها، وأعطاهم فوق ما يطلبونه، وأقطعهم البلاد كما شرطوه. وأما يافع فإنهم تغلبوا وامتنعوا، وكانت الأحوال لمن كان من أهل الرئاسة مع هذا المذكور في غاية النفاسة، وأما سائر أهل التقارير فصارت مجرد رسوم وأسماء ولا ظهور لها ولا جدوى، وما أحسن قول كما قال أبو حفص عمر بن علي المهدوي :
ولقد رجونا أن ننال بأمركم .... رفداً يكون على الزمان معينا
فالآن نقنع بالسلامة منكم .... لا تأخذوا منا ولا تعطونا
ولم تحصل فائدة منهم إلا السلامة من ترك بيعتهم، والفائدة الثانية للمسلمين من اجتماع كلمتهم إذا حصلت وسكون الفتن هو الأولى، لأن البيعة إنما تكون لكامل الشروط، حيث كانت إمامة اختيارية وذلك مفقود فيهم، وبسبب تركهم المطالبة عدم طلبنا لهم في شيء من الدنيا، لأن القاعدة أن ((من أكل حلواهم مال إلى هواهم)).
وفي الحديث عن النبي÷: ((أن من أخذ منهم دنياهم أخذوا أكثرمن ذلك من دين من أخذ منهم)).
وكان الحال كما قال المتنبي:
إنا لفي زمن ترك القبيح به .... من أكثر الناس إحسان وإجمال
قال الواحدي في شرحه: يقول من لم يعاملك بالقبيح في هذا الزمان فقد أحسن إليك لكثرة من يعاملك بالقبيح، وهذا المعنى[51/ب] أراد أبو فراس في قوله:
وكنا نرى أن المتارك محسن .... وأن خليلاً لا يضر صديق
وقال المتنبي عقبه:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته .... ما قاته وفضول العيش أشغال
قال الواحدي في شرحه: أي إذا ذكر الإنسان بعد موته ذلك حياة ثانية له، وما يحتاج إليه في دنياه قدر القوت، وما فضل من القوت فهو شغل، كما قال سالم بروايته:
غنى النفس ما يكفيك من سد فاقة .... فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا
وفي هذا الشهر رفع المؤيد بن المتوكل النائب للقاسم من المخا فيما كان عَيَّنه من البندر وهو ربع لمحصوله، وقال: إن السيد حسن متولي البندر يكفي وأنه يسلم محصول الربع ويرسل بها إلى حضرته، ويكون عليه كسوة أهل شهارة، فتغير قاسم من هذا العمل وقال: هذا رجوع فيما قد كان فعل، ولِمَ أبقى نائب محمد صاحب المنصورة وأخرج نائبه.
وفي هذه الأيام بنصف شهر جماد الأول وصل خبر من مكة المشرفة أنه توفي الشريف بركات متوليها، وأراد ولده الإستقامة في الأمر بعد والده، فحصل نزاع بينه وبين الشريف ابن غالب وغيره وبين عساكر السلطان، واختلاف حصل أيضاً بين الأشراف وعساكر السلطان، وأنهم بعد ذلك متوجهين إليها حيث هرب عنها بعض أهلها خشية من معرة تحصل فيها.
والمؤيد كان قد أراد الاجتماع هو وإخوته والنظر في تقرير أموره لتكاثر المخروجات عليه، فبقي حائر الفكرة. ومن جهة عمل المشرق لما كثر عليه حسين بن حسن بالتقدم إليه وطلب المعونة، فكان قد أراد التقدم إلى ذمار والاجتماع هنالك بحسين بن حسن وصنوه علي وغيرهم، ثم إنه خير في ذلك وكتب إلى حسين بن حسن بالترك هذه الساعة. ومحمد بن أحمد صاحب المنصورة قد كان سعى في شأنهم -يعني أهل يافع- وما زالوا يغالطونه في جوابات، ويظهرون الميل إليه إذا كان ولا بد من قصدهم. وقد كان وصل إسماعيل بن محمد بن أحمد بن الحسن صاحب المنصورة إلى قعطبة وراسل إلى الشيخ الجلاد أطراف بلاد يافع في رد ما انتهبه من قعطبة، وصار أيضاً يواعده.
ووصل هذه الأيام رجل ممن خرج إلى بندر المخا مع أهل الهند، ووصل إلى حضرة المؤيد بالله محمد بن المتوكل بهدية ذكر أنها من سلطان الصين وهي حقيرة مَجْمَرة من فضة وخمسة أَسِّنَة مزوقة ونحوها. وقال هذا الواصل: أن أصله من البصرة وأنه دخل إلى الهند، ثم ساقته المقادير إلى الوصول إلى الصين، فوافق سلطان الصين، فجرى منه سؤاله عن سلاطين الأقاليم، ثم ذكر اليمن فقال: سلطانه شريف من بني الحسن، فقال: قد هادينا سلطان الروم وما نزال نهادية، وهذا ينبغي أن نكتب إليه معك. قال: وباطنيته محبة الإسلام، إلا أنه لا يقدر بإظهاره خشية من أهل بلده[52/ب]، قال: وبلاد الصين كفار بين مجوس ونصارى ونحو ذلك، والسلطان هذا معه خمسمائة من عسكر المسلمين وهو يجلهم ويعظمهم، وأرسل بصدقة إلى الحرمين الشريفين في المدة السابقة أيضاً والله أعلم.
قال: وكان خروجه من بحر الصين إلى الهند مسافة ثلاثة أشهر، قال: وخلف الصين من الجهة الشرقية البحر المحيط متصل به هذا خبره، ويستمد من صاحب اليمن في وصايته المسامحة لمن مرّ إلى الحرمين الشريفين من المسافرين الحجاج ومن المسلمين الذين بجهاته والتجار، وأنه يشق عليهم طريق البر، ومرادهم بطريق البحر، فأجابه المؤيد بالإسعاف، وأنه يمر منهم المار، وليس عليه في بنادر اليمن مشقة.
وفي هذه الأيام أرجع محمد بن أحمد صاحب المنصورة ربع المخا الذي كان وضعه له محمد صاحب صنعاء له، وقال: بلغنا حاجتكم فرجع ذلك إليكم. وقيل: إن المؤيد كتب إليه يذكر أن اليمن قد تفرق، وصار الوافد إليه ولا يجد ما يقوم فيهم، وأنه يشق عليه هذا الأمر، فأجاب المذكور بأنه قد أرجع له ربع المخا وبلاد زبيد بها قد اكتفىمع بلاده الأولى[53/أ]. وطريق عدن صارت مقطوعة من الصبيحة والحواشب لا يمر فيها عقال،فرجع بعض من كان وصل من الهند ولم يدخلها وعرج عنها إلى المخا. ولما بلغ حسين بن أحمد بن الحسن صاحب الغراس بأن صنوه أطلق ربع المخا إلى المؤيد محمد بن المتوكل كتب حسين المذكور إلى المؤيد: إن الصنو بلغ إطلاقه لربع المخا فإذا هو عنه قد اكتفى فلا يسمح بخروجه عنه، وأنه يُرد إليه ويصير محصوله لمن لديه، فعجب محمد بن المتوكل من ذلك وتردد في جوابه.
وفي آخر جمادى الآخرة خالفت بلاد قيفة على حسين بن حسن صاحب رداع جميعاً، وسببه أن أرسل حسين بن حسن عُمَّاله لقبض العدة وما يعتاد من مطالبه فأرجعوهم، وقالوا: البلاد بلادنا وحكمنا حكم بلاد الرصاص في أوامرنا وعلينا إصلاح الطريق وعدم التعويق، وجعلوا لهم سوقاً، فبقي حسين بن حسن حائراً وطبق المشرق جميعه على الخلاف إلى باب رداع. وكتب إلى محمد صاحب صنعاء، ومحمد صار متردداً لأجل تفرق البلاد، وعدم ما يحتاج إليه من الإمداد والإعداد، وطلب القضاة والأمراء للمراودة والاستشارة، فأجاب حسين بن المهدي أن دخول المشرق لا يكون إلا بعد انتهاء مكاتباتهم وبعد إنصافهم فيما يذكرونه من المظالم، ولا يجوز لنا القصد إليهم[53/ب] إلا عن النصيحة. وكذلك أجاب القاضي محمد قيس وقال: لا يجوز قتالهم، فتوقف محمد بن المتوكل واستحسن منهم هذا الخبر، وقال من قال: وكيف وهم مُؤَمِّنَون للطريق المارة تسير في بلادهم على حالها الأولة إلى حضرموت في أمان؟ وهم ذكروا أنهم إليكم منتمون، وإنما الذي شرطوه إن تركتوهم ولم تولوا عليهم، وأنهم لواجباتهم مسلمون وإنما نقموا الجور عليهم من الولاة وعدم الإنصاف للشكاة.
ووصلت كتب من محمد بن أحمد بن الحسن من المنصورة إلى المؤيد وغيره يذكر فيها صلاح المشرق وأنهم مسَّلمون الواجبات ويخطبون الخطبة ولا يجري منهم تعرض لا طريق ولا إلى غير ذلك، لكن بشرط أن لا يتولهم حسين بن حسن، فتعقب ذلك.
وفي آخر نهار الخميس تاسع عشر شهر رجب بعد العصر خرج المؤيد من مدينة صنعاء إلى ضوران، وقال: إن مراده الاستقرار فيه هذه الأيام، وقال: هو أصلح للقرب إلى اليمن ومَرافقه أحْسن، وصار يظهر أن مراده الحركة إلى المشرق. وخرج في يومه ذلك إبراهيم بن المهدي طريق يريم خشية عليها من المؤيد؛ لأنه لم يوله إيَّاها.
وكان إبراهيم بن المهدي قد وصل إليه إلى صنعاء من يريم، واستخلف ياقوت إسماعيل، فأرسل المؤيد إلى يريم ناظراً لأجل محصوله.
ووصل هذه الأيام قبيل عزم المؤيد من صنعاء بيومين بواقي العسكر الذين كانوا من الحيمة برداع، وشَكَوا عدم الوفاء بالجوامك والأقوات مع طول المدة بالبقاء من غير ثمرة، وهناك من الرتبة من يقوم بحفظ المدينة. وأما المشرق فإنهم إنما خالفوا في بلادهم، فإن أنتم مثبتون لهم تاركوهم فلا تخشوهم، وإن كنتم نية في الدخول إليهم فلا بد لكم من عساكر[54/أ] قوية مما يكمل نصابهم ونحن معكم، ففسح لهم إلى بيوتهم وقال: الأمر كما ذكرتم، وإذا احتجناكم كتبنا إليكم.
وفي يوم الخميس خامس شهر رجب منها توفي الفقيه العلامة العارف المحقق: حسين بن يحيى بن حنش في بيته بشهارة، كان عقب عوده من بلاد ذيبين. وكان في الأيام السابقة وصل إلى حضرة المؤيد بصنعاء، فاستقر عنده أشهراً ثم سار إلى ذيبين بيت أهله وأجداده، استقر فيه نحو ثلاثة أشهر وتقدم شهارة وبيته بها واستقراره بعد أبيه فيها. وكان شروع مرضه بذيبين، وكان بنظره مجاري شهارة في أيام الإمامين المؤيد محمد بن القاسم، والمتوكل إسماعيل بن القاسم، وإليه التصرف في الحبوب من التقارير. وكان وفياً عارفاً بالمقادير، ومن يرآه طالباً للعلم زاد في تقريبه وتأنيسه والإفاضة عليه في سباره. وكان حسن العقيدة منصفاً عارفاً مطلعاً حسن الإعتقاد في الصحابة، مرضياً عليهم من غير تعرض إلىما صار يقع من الجهال فيهم. وكان من رآه من الفقهاء أو السادة المتغربين يظهر منه التعرض في جانبهم قطع سباره، وقال له: ما تستحق عندي شيئاً وأنت على هذه الحالة مع كثرة من يشطح من أهل شهارة في الصحابة رضى الله عنهم[54/ب]. وكان المذكور فيها قامعاً لكثير من المتمردين ناهياً زاجراً. وله الشرح العظيم الذي جمعه على (البحر) في علوم الإسلام استوفى فيه الأدلة والتخاريج للحديث من أصولها وبيَّن العزو والتخريج فيها مع شرح ما يحتاج إلى شرحه وبيانه وتكميله والمناقشة عليه فيها. وله أنظار دقيقة وأقوال سديدة تدل على عرفانه وإنصافه وتحقيقه، ويميل في ذلك مع الدليل وإن خالف مذهب الهدوية كمسألة رفع اليدين في الصلاة، ووضع الكف على الكف، فإنه ذكر الأحاديث المشهورة في مقابلة الحجة ووهىَّ حجة الهدوية، وكذلك غيرها من كثير من المسائل التي يكثر تعدادها، ولا يتسع لها هذا التأريخ لكثرتها، يعرف ذلك من اطلع على شرحه هذا مع وسعته؛ فإنه بلغ ثمانية أجزاء مجلدة كبار، فلقد أفاد في هذا الكتاب وأجاد، وحقق فيه وبيَّن المراد رحمه الله. وذكرت له ذلك، وقلت له: شرحك هذا ما قصرت فيه
وما كنت أظن أن أحداً يفعل عليه ذلك، وجزيته خيراً فيه، وناولني نسخته من شرحه رحمه الله تعالى، وكان لا يكفر بالإلزام في مسائل علم الكلام[55/أ]، وأمرت بتحصيل أكثره، وشريت بعضه لمَّا رأيت كثرة فائدته وكماله.
ومات في هذا الشهر الفقيه العارف: صالح بن داود الآنسي، كان له مشاركة في علم النحو والفقه، إلا أنه يميل إلى التحامل على الصحابة، فلم يسلم من الملامة، وكانت وفاته وهو ببلاد صنعاء؛ لأنه استقر فيها بعد أن كان أول طلبه للعلم بصعدة على القاضي أحمد بن يحيى حابس وغيره، والله أعلم.
وفي هذا الشهر قتل رجل بالروضة في باب بيته، تَكَمَّن له جماعة.... أخذ نفسه هو وحرمه معه من أهل بيته، وذلك بعد العشاء، وحمل صاحبهم وإخفائه في الطريق، ثم لماوصل بلده دفنوه ولم يظهر، ثم ظهر لولي الأمر ذلك وأخرجوه.
وتتابعت القرانات في هذه السنة جاءت في النصف الأخير من هذه السنة، فإنه اتفق قران الزهرة وعطارد والمشتري لسلخ جمادى الآخرة في برج السرطان، ثم سيكون برمضان قران المشتري والمريخ في نصف رمضان في ذلك البرج أيضاً، ثم قران الثقيلين المشتري وزحل في برج الأسد بآخر شهر شوال منها في الدرجة الثامنة من الشهر المذكور، ثم شهر الحجة منها، وهو دليل قوة سلطان الإسلام الأكبر كما ذكره المتخصصون المقومين من أهل علم الفلك والمؤرخون، والله أعلم.
وفي أول شهر رمضان ظهر نجم الذنب من المغرب ولكنه ليس بالطويل ولا بالعريض، عرضه نحو ثلاث أصابع أو أقل وطوله ثلاثة أذرع، ويقال: أنهم رأوه أولاً حال ابتداء ظهوره بالمشرق، والله أعلم.
وكان ظهوره هذا عقب الأمطار وصلاح .......... الثمار في الخريف والصيف، في جميع أرض اليمن، المشرق والمغرب، بعد أن كان تتابع عزة الأمطار في السنين الماضية، والله يصلح الثمار[55/ب].
وأرسل المؤيد محمد بن المتوكل من ضوران الشيخ جعفر بن علي إلى حضرة الرصاص للإصلاح، فتشرط الرصاص إبقاء بلاده بيده، ولا يدخل عليها أحد من الولاة، وأنه يسلم الواجبات بنظره وأن الطريق آمنة والبلاد صالحة.
وأما حسين بن حسن فصار يأكل يده ، ويحترق على ما جرى معه، وصار يكاتب إلى أولاد أعمامه بالنصرة له والدخول إلى إصلاح ما كان من بلاده ، فأجابوا عليه أن الأمر إلى المؤيد، ولا يصلح إجابتنا ودخولنا من غير أمره، والمؤيد ظاهره محبة الإصلاح ومراعاة ما هو أصلح للمسلمين في سكون الدهماء، والله يصلح الإسلام.
وإبراهيم بن أحمد بن الحسن لما وصل إلى يريم طرد واليها، فلما وصل إلى المؤيد بضوران حصل مع المؤيد التعب وأهم أن يقصده، ثم إنه تراجع، وكتب إلى صنوه حسين الذي بالغراس، فكتب إلى إبراهيم بالانخراط في طاعة المؤيد، وإلا فهو عون عليه، وكتب إلى العسكر الذي عنده يتهددهم وهم من قبائل الرحبة التي تقربْ منه ، فتفالت العسكر من عنده وبقي وحده بخاصة عبيده وخدمه، فاضطر حينئذٍ إلى الوصول إلى ضوران[56/أ] حضرة المؤيد وسكن. ثم إن إبراهيم بن حسين الشهاري طالب المؤيد في يريم، وقال: إنه كان وعد بها، وأنها كانت لأخيه من المهدي، وإلا عوضه غيرها، فما زال يماطله هو وإبراهيم بن المهدي في مطالبتهم حتى أصدقهم أن ما عنده شيء، وأن البلاد قد تفرقت، ولم يبق إلا اليسير منها بيده. وأهم أن يخلع نفسه إن لم ينخرطوا على طاعته، فسكت الإبراهيمان عن طلبه، وحسين صاحب الغراس تضرر من أخيه إسحاق الذي كان أرسله إلى اليمن الأسفل، فإنه منع عنه المطالب من البلاد التي كان تعينت له كَذِيْ أشرق وما إليها، وصار يهم بأنه يقصده إليها، فإنه لم يبق معه إلا بلاد وصابين وبلاد الرحبة وبعض بلاد همدان وخولان، وصار يوفي السبارات لمن عنده وبيوت والده من الخزانة، والأحوال مع الجميع عجيبة.
وفي هذه السنة كثرت الضربة للدراهم ففعل علي بن المتوكل ثلاث ضرائب مع ضعفة الدراهم، وكثرة الغش فيها، ومع ضربة المؤيد وضربة حسين صاحب الغراس، ثم فعل حسين بن محمد بن أحمد صاحب الروضة ضربة في عمران، واستقر فيه ورحل عن الروضة، فمنعه المؤيد، فامتنع وتركها على مشقة. وأما صنوه علي صاحب اليمن[56/ب] فقال: فيها مصلحة للجند والحاجة إليها، فاستمر عليها البلاد والعباد، وكذلك محمد صاحب المنصورة مستمر عليها، فبلغ صرف القرش يومئذٍ إلى خمسة حروف لأجل كثرتها، وصغر الدراهم وغشها واعتمدوا فيها بقشة الخمس، وتركوا ضربة الصغار، لعدم خراجها؛ لأنها لا تجزى إلى خمس مع صغر الأصل، بحيث أن الضربة الأولة قلَّت وعدم أكثرها؛ لأنهم صاروا يصرفونها ويصوغونها لما فيها من الزيادة بالنظر إلى هذه الضربة الآخرة. والزيادة بعد هذه الضربة إذا فعلت ضرَّت الناس بانكسار يحصل عليهم. فلو أن الدولة يضبطون وزن الضربة لا تختلف كان أحسن، وكذلك المكيال فإنه قد حصلت فيه الزيادات الكثيرة شيئاً فشيئاً، وما كاد يستقر على قاعدة.
وفي نصف رمضان منها ختم على الفقير إلى الله صحيح الإمام مسلم بن الحجاج القشيري قراءة محققة الضبط والحراسة من أوله إلى آخره، فلله الحمد، وذلك بصنعاء اليمن بعد سماعي له عام إثنين وسبعين وألف على الفقيه صالح بن محمد العنسي بسماعه له على الشيخ العارف محمد بن علي علان الشافعي بمكة المحروسة. وفي السنة التي بعدها شرع لي قراءة سنن أبي داود، فسمع عليَّ أكثره، لم يبق إلا قدر الربع من آخره فلله الحمد، وذلك بصنعاء اليمن.
وكان هذا من جملة النعم؛ لأن هذا الكتاب والبخاري وغيرهما لم يعرفهما أحد بصنعاء من رأس الألف إلى هذا التأريخ، قدر مائة سنة، فلا قوة إلا بالله[57/أ].
وفي شهر شوال وصل الخبر بأن بندر الشحر استولى عليه علي بن بدر الكثيري صاحب حضرموت، وطرد عنه الوالي الذي كان من قبل محمد بن أحمد بن الحسن صاحب المنصورة، وهو ابن قاسم الرسمي، وما خرج منه إلا برفاقه. وحصل في البندر ما حصل من الانتهاب بعد وقوع طرف حرب هنالك، وخرج جماعة من أهل البندر في جلاب طريق البحر بأهلهم وأموالهم فغرقوا في البحر؛ لأن البحر يومئذٍ ما قد هو وقت ركوبه إذا كان في تشرين وهو إنما يرتكب في كانون عقب رجوع الشمس. واستولى المذكور على البندر، ثم حصلت فتنة فيما بين علي بن بدر المذكور، وبين بعض أقاربه ويسمى حسن الكثيري بسبب أن محمد بن أحمد صاحب المنصورة ولىَّ حسن الشحر والمؤيد ولاَّه علي بن بدر. ثم تعقبه بآخر الشهر المذكور استولى العولقي على بندر أحور الذي بين عدن وبين الشحر، وكان وصل خبر أنه وقع بحضرموت قبل هذا الحادث مطر عظيم فيه بَرَد كبار، بحيث ذرع بعضها بالذراع في بعض بلاد حضرموت ومن وقع فيه شيء منه هلك.
ووصل زيد بن المتوكل إلى صنعاء متولياً من قبل صنوه المؤيد، وكان وصوله إليها ليلة ثامن عشر هذا الشهر أرسله من ضوران، فلما وصل إليها كان أول شيء أن منع الناس من أهل البيع والشراء أن لا يبيعوا إلا بنقد، فعظم ذلك على البائع والمشتري، وتضرروا. ومنع المصلحين من الإصلاح في البيوعات. وأمر أن النساء لا تدخل الحمامات ، ومنع من التصفر بالحناء، فبقي هذا قدر ثمانية أيام ورجع كل شيء إلى أصله الأول، ولم يتم من ذلك شيء.
وفي هذ الشهر أتم محمد بن أحمد بن الحسن دائر المنصورة الذي بناه.
وفي خلاله بأول شهر[57/ب] القعدة انتهب القبائل أبين وتصرفوا فيه بالنهي والأمر، وانقطعت طريق عدن، فأرسل محمد بن أحمد صاحب المنصورة ولده الحسن بجماعة من العسكر إلى بلاد الحواشب، ورفع الخبر بذلك إلى المؤيد وهو يريد بذلك الاستظهار على صلاح بلاده إن احتاج إلى شيء منه. فعند ذلك قال المؤيد: الصواب أن هذا المخرج يكون إلى بلاد يافع وأن هذا كله بسببهم، وكتب إلى إخوته وبني عمه بالتبريز والتأهب، فراجعوه بأن هذا يحتاج إلى نهضة قوية، فلا ينبغي فيه العجلة، فأجاب بأنه لا بد من ذلك، وأنه يعينهم بما يعين من خزائنه إن احتاجوه إلى شيء. فبرزوا جميعاً المؤيد في قاع بكيل، وحسين بن المهدي خارج الغراس، وأحمد بن محمد خارج صنعاء، وحسين بن محمد بن أحمد خارج عمران، وحسين بن حسن برداع، وعلي بن المتوكل باليمن الأسفل، ثم تقدم حسين بن حسن إلى ضوران، وفرح بهذه الحركة لما قد جرى من يافع معه، فوصل إلى ضوران لمزيد التحريض للمؤيد بتمام الحركة والهمة، وكذلك طلع عليه علي بن المتوكل إلى ضوران. ولما وصل حسين بن المتوكل من رداع صحبة حسين بن حسن لقيه أولاده وشكوا عليه ما جرى معهم من التقصير في السبار بسبب عمهم المؤيد، فإنه قبض محصول البلاد، فتغير من ذلك وعاتب صنوه عند وصوله بمعاتبة طويلة.
وفي هذه الأيام لما حصل قلة الطالع من السليط من بلاد لحج وقعطبة بسبب ما جرى من القبائل وارتفاع ثمنه[58/أ] بصنعاء أحدث فيها سبع معاصر للسليط مخروطة من الحجارة، وبالغوا فيها لأجل غلاء السليط وقلة طلوعه من اليمن الأسفل، بسبب ما جرى في قعطبة وبلاد لحج وأبين من التغيرات والانتهاب والفعلات، وعصروا فيها الخردل؛ لأنه الذي يزرع في البلاد العليا دون الجلجلان؛ لأنه لا يصلح إلا في البلاد الحارة دون الباردة.
وفي شهر القعدة مات السيد العارف علي بن حسين بن إبراهيم بن جحاف المتولي على بلاد حجة، وكان موته بمستقره في حصن مبين، وكان والده هو المتولي لها من زمن الإمام المؤيد محمد بن القاسم ثم ولده محمد بن حسين ثم صنوه علي بن حسين هذا. وإبراهيم جدهم هو الذي كان متولياً للمطهر بن شرف الدين في بلاد الأهنوم وظليمة في أيامه، وخالف عليه، وقبض عليه المطهر وحبسه بحصن ثلا، ومات في حبسه، وأصل محل السادة من حبور في بلاد ظليمة.
وفي أول شهر الحجة قبل عيد عرفة وصلت كتب من محمد بن أحمد صاحب المنصورة إلى المؤيد يذكر أن بينه وبين المؤيد شروط ما تم منها شيء، وظهر منه أنه إن لم يوف له بها، رجع إلى ما كان عليه أولاً وحصل معه اضطراب في الرأي[58/ب] بحيث أنه عند ذلك أمر برفع الوطاق الذي كان برزه على جهة المشرق، فعند ذلك أرسل المؤيد صنوه إبراهيم إلى عنده وأقطعه بلاداً من بلاده، قيل بلاد أبين ولحج وكل ذلك إرادة منه أن تكون يداً له عليه، فلما وصل إبراهيم إلى يريم بلغته كتب من صنوه بأنه يبقى بيريم ويبسط عليها، فهي تصلح له، وقد سكنها أولاً، وهي بلادهم في الأصل، وأما النزول والتولية على شيء من بلاده فلا سبيل إليها، فأراد السكون فيها، وعيَّد عيد عرفة بها، ثم طلع علي بن المتوكل من اليمن الأسفل قاصداً حضرة صنوه المؤيد، ولما مر بلاد يريم أمر إبراهيم بالنزول وتمام أمر المؤيد صنوه، فنزل المذكور واستقر بجبلة.
ولما أرسل محمد بن أحمد صاحب المنصورة ولده الحسن بجماعة من العسكر إلى الحواشب الذين حولي بلاد أبين ترفعوا عنهم واستدم بعضهم وتركوا التغيير في الطريق. وأما أبين ولحج وخنفر فحصل فيها الضعف لأجل ما جرى فيها من القبائل من الفتن، وحصل يومئذٍ اضطراب الرأي واختلاف الأقوال فيما بين محمد ومحمد ، فحينئذٍ كتب المؤيد إلى حسين بن المهدي وأحمد بن محمد وغيرهما بأنهم يتأنون عن الحركة حتى يكون البادي منه فيها. وأما بلاد يافع فإنهم أجابوا على المؤيد مع رسوله أنهم يسلمون الواجبات بشرط أن[59/أ] لا يتولاهم حسين بن الحسن وأن بلادهم لهم.
وعلى الجملة أن الأمور صارت مضطربة.
وفي عيد عرفة حكم السيد مهدي الكبسي بأن أول الحجة الاثنين والعيد الأربعاء، وكان الناس غير مترقبين لهذا لأجل المنازل، فعمل المؤيد وأهل صنعاء بحكمه وعيدوا الأربعاء، وأما سائر البلاد فعيدوا الخميس، ومن الناس من احتاط فضحى في يوم الخميس.
وبعد الصراب للأثمار نزلت الأسعار في جهات صنعاء إلى ثلاثين بقشة الذرة والشعير مع كبر القدح عما كان سابقاً. وأما اليمن الأسفل فسعره مرتفع زائد على صنعاء، القدح فيه بخمسين بقشة خلاف العادات الماضية، فإنه يكون سعره دون اليمن الأعلى. وحصل في بعض الجهات في الذرة عسل حصل بسببه النقص فيها، وهذه البلاد هي الحيمة وما يليها غربي صنعاء، بحيث أن بعض الناس أكل من العسل ذلك الذي فيها فهلك منه.
ودخلت سنة أربع وتسعين وألف
في ثاني الشهر وصلت كتب الحاج من مكة بأن الحج كان تاماً، وكان الوقوف يوم الأربعاء والعيد الخميس، ورخص السعر، وصلاح الثمار وطيبها وكثرة الحاج الشامي والمصري، وأن العراقي هذا العام كثير، وأما اليماني فضعيف إلى الغاية. وأخبروا أن الولاية من السلطان تقررت لسعيد بن بركات ، ثم وصلت الحجاج فأخبروا بمثل ذلك. وأخبروا أن يافع اشتهر الخبر المستفيض بمكة بأنهم كتبوا إلى السلطان بما فعلوه من التغلب على بلادهم وإخراج ولاتهم وأن[59/ب] دولة اليمن قد صارت ركيكة، وأن السلطان يبعث طائفة من عساكره، وهم عون لهم في الاستيلاء على جميع اليمن.
قالوا: واتفق انهدام بعض الآبار في طريق الشامي لما ازدحم عليها الناس، فهلك جماعة فيها.
وفي شهر محرم خرج حسين بن أحمد بن الحسن من الغراس إلى صنعاء لمَّا طلبه المؤيد لأجل المخرج إلى المشرق، ووصلت الأخبار من يافع بأنهم قد خربوا رأس النقيل الذي في جبل العُرّ، وجعلوا فيه خنادق وبنوا فيه النُّوَب والقليع وحصنوه، وأن قد صار ابن العفيف مستعداً بالمال والرجال والبنادق الكبار، وصار مظهراً للدفع والقتال وعدم الامتثال. وكان خروج حسين بن المهدي بعد أن اختار له الفقيه أحمد الذيبة الذي كان يعتمد والده، فقال له: يخرج يوم الأربعاء ثامن شهر محرم، فخرج من الغراس ضحاً، وكذلك خرج من صنعاء ضحاً في يوم الإثنين ثالث عشر شهر محرم، واتفق في ذلك جميعاً أن الطالع كان الدلو وفيه الذنب، كما اتفق في المخرج الأول لمن سبق، والفقيه أحمد اعتمد الساعة وحلول القمر في البروج، ولم ينظر إلى الطالع، مع أن التوكل في جميع ذلك كان هو الأولى، ثم إن في اختيارات الأيام لجعفر الصادق أن يوم ثامن الشهر غير مختار للأعمال، وكذلك الثالث عشر.
وأما بلاد بني أرض وهي بلاد الرصاص فلما بلغهم التبريز والحركة أرسلوا منهم جماعة أنهم مواجهون[60/أ] وأنهم غير مانعين لمَّا كانت طريق يافع في بلادهم، وهي وطا لا معقل مانع فيها، وقد عرفت قاعدتهم فيما مضى في خلافاتهم على عامر بن عبد الوهاب وعلى الوزير حسن أنهم تبع ليافع، ولكنهم ينظروا ما يفعلوا، فإن أنهضوا ومنعوا كانوا من المباشرين لمن في بلادهم كائناً من كان، وإن كانت يافع إلى الغلبة أقرب كانوا من المتخلين.
وفي هذه المدة وقع بين سفيان بينهم البين حرب قتل منهم جماعة، من جملة المقتولين شيخ بني رهم داود. وأخبر الحجاج من بني عضيَّة الذين جاءوا طريق السراة أنهم لما وصلوا قرية مضفاة وجدوا جماعة على أبواب قريتهم مقتولين وذلك لغزوة غزتهم قرية أخرى بينهم وبينهم خصومة وفتنة لا تزال ثائرة، لعدم الدولة عليهم؛ لأن هذه البلاد بين دولة صاحب اليمن والشريف صاحب مكة ما بين الحرجة وبين تبالة وبين هذين المحلين نحو خمسة أيام، وهي البلاد المقابلة لبلاد الحرامية على طريق تهامة، ومن جملتها قرى وادي ذهبان شهران ، فهذه البلاد لا دولة عليها لانقطاعها وانفصالها بين الدولتين دولة صاحب اليمن وصاحب الشام.
قال الحجاج: فلما وصلوا إليهم قالوا لهم: بينهم حاسب يريدون يحسب لهم فيما صار يجري بينهم وبين خصومهم، وأن خصومهم صاروا ينتصرون عليهم ويضروهم، فقال الحجاج: ما بينهم حاسب، فرسموا عليهم وقالوا: لا بد[60/ب] فلم يطلقوهم إلا بعد أخذ أيمان بعضهم والتشديد عليهم.
قال الحجاج: وكان صرف القرش بالطائف من ثلاثة حروف ونصف مصري، وبمكة من ثلاثة حروف مصري.
وفي يوم السبت ثامن عشر شهر محرم في آخر الساعة الرابعة والطالع الحوت والمقابل لبرج السنبلة فيه المريخ خرج أحمد بن محمد بمن معه، فبات بحدة بني شهاب، ثم سار ضوران. وخرج في هذا اليوم من عمران حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم إلى الروضة ثم إلى ضوران بأصحابه، ولعله كان خروجه من عمران ضحوة النهار، والطالع في ذلك الوقت يكون الدلو، وفيه الذنب، وتعقبهم صاحب كوكبان خرج يوم الاثنين عشرين شهر محرم، وإذا كان ضحوة النهار خروجه فكذلك الطالع الذنب.
وأكثر هؤلاء الرؤساء أسماؤهم حسين، أولهم: حسين بن حسن، ثم حسين بن المهدي، ثم حسين بن محمد بن أحمد، ثم حسين بن عبد القادر، وهذا من عجائب الاتفاق. وبذل حسين بن حسن من خزائنه معونة للمؤيد في سبار العسكر. ولما وصل حسين بن المهدي جهران قبض على ثلاثة أنفار عرفوهم بأنهم جواسيس من يافع وأمر بالزناجير في رقابهم، فلما وقع ذلك بهم اعترفوا من بعد وأخبروه بأخبار يافع، وأنهم قد حصنوه وغيروا الطريق قريب جبل العر وخندقوه، ودفنوا في الطريق البارود على ضفة الساقية تصل إليهم، وبنوا على أنه متى وصل إليه العسكر اليمانية وسبر الحرب أحرقوا البارود ليحرقوا فيه، وهذه مكيدة عظيمة وقد لا يؤمن أن يجعلوا في أطرف بلد من يافع في بيوتها شيئاً من البارود لأجل إذا دخلوها حرقوها بهم. فصار حسين بن المهدي يحذر أصحابه من ذلك متى دخلوا إليها[61/أ]، وبنوا المتارس وحصنوا جبلهم بكل ممكن.
وفي آخر المحرم تكاملت العسكر للمؤيد ومن طلب معهم من الحوايش والغواير وساروا ضوران، وعند ذلك ظهر من أن حوزة خرجت من رداع أضافها أصحاب حسين بن الحسن إلى يافع، وأنها منهم مضمونها الافتخار بما فعلوه من تغلبهم على بلادهم وإخراج حسين بن حسن منها بقهرهم، وأنهم يأتون على غيرها من اليمن إن لم يتركوا قصدهم، وأرعدوا وأبرقوا، ومن جملتها بمعناها:
ونستولي على ضوران قهراً .... ونقسِّم المنهوب لكل دال
فقيل: إنها منهم على الحقيقة وقيل: إنما هي معمولة مزورة من أصحاب حسين بن الحسن؛ لأجل حمل الناس من أصحاب المؤيد على قصدهم، وأجاب عليها من أجاب على لسان حاشد وبكيل، وتوعدوهم بالاستباحة لبلادهم وبهذا تغيرت نياتهم. وعند هذا أثار للسيد محمد بن علي الغرباني من بني مكنى بالرجوع إلى عادته الأولة من الرسائل على هذه الدولة والطعن في السيرة، كما فعل مع المتوكل في المدة الماضية، فأظهر رسالته وخرج من صنعاء إلى بلاد خولان، فاستقر بعَاشِر ، فأرسل في الأثر زيد بن المتوكل جماعة لقبضه وإرجاعه، فلما وصلوا إلى خولان قال أهل خولان: نكتب إلى المؤيد، وما اقتضاه نظره كان، فجاء جواب المؤيد: أن السيد يبقى عندكم[61/ب] بشرط أن تقيموه حيث اختار البقاء، وإن أحب الوصول إلينا وصلتم به، ويقام بما يحتاج إليه منا، فاختار البقاء عندهم هذه المدة يريد بفطانته أن ينظر ما يكون من أهل المشرق وفتنته، ويؤمل أنه إذا لهم غلبة أن يدعو إلى نفسه، كما قال الشاعر :
مصائب قوم لقوم فوائد
وكما قال الآخر :
لكل امرئ من نفسه ما تعودا
ومن جملة ما يقول في رسالته التصويب لعمل يافع في الخروج على هذه الدولة، والمنع لبلادهم عن هذه الغزوة.
ولما وصل الرؤساء والأجناد إلى ضوران جمع المؤيد السادة القضاة، وقال لهم: المراد التجهيز إلى يافع لمَّا أصروا على التغلب على بلادهم، وعدم الامتثال لما أمرناهم، فما عندكم من الكلام؟ فتكلم الحاضرون بأن رأيكم حسن والناس قد وصلوا إليكم للإجابة، وقد أعذرتم إليهم، وما غدر من أعذر. وأجاب القاضي محمد بن علي قيس الثلائي بأن يافع تجرموا من الولاة عليهم وشكوهم ووصفوا الجور عليهم، فيجب عليكم إنصافهم وتحويل الولاة وإزالة المظالم التي زادت فيهم وقدحوا بها على الولاة عليهم، فأجاب[62/أ] عليه حسين بن المهدي في الحال بالجواب الحاد وقال: يا قاضي أنت أفتنت بين إمامين وبايعت بيعتين وفعلت الذي فعلت، والآن بعد هذه الجموع لم يبق إلا التقدم عليهم، وإصداق الفعل فيهم فقد أظهروا المباينة على الإطلاق، وليس لمجرد إزالة الوالي بالاتفاق، فقال القاضي: المراد التوقف على أقوال العلماء، فقال حسين: ليس معنا إلا السيف، فسكت القاضي، وأصبح الصباح، وأمر بالسفر وراح، ثم تبعه الآخرون، وهم على مراده موافقون.
وأهل يافع لما كانت بلادهم جبالاً عالية وهي في جانب من اليمن وزاوية أعزتهم جبالهم ومنعتهم حصونهم، ولأجل عسرة الطريق من غير الطريق الشرقية إليهم ووعارة مسالكهم واجتماع كلمتهم وميل البلاد الشرقية المحاددة لهم إليهم مع وسعتها وامتدادها، فإن بلاد يافع جبال ممتدة من فوق دمت وقعطبة إلى فوق عدن، مسافة خمسة أيام مع ما يليها من البلاد المشرقية، فلهذا من قديم الزمان عسرت عن تناولها للدول لمن قصدها، فكانوا مع الدول الأولين[62/ب] في العالم لا تتصل بهم من الدول، وإن اتصل بهم أحد على مشقة ما زالوا يترقبون فرصة بسبب اختلافهم في ذات بينهم، ويتغلبون على بلادهم، ويطردون عنها واليهم، كما فعلوه مع الوزير حسن ومع بني طاهر، مع أن مذهبهم شافعية فكان مقتضى مذهبهم ومذهب أهل السنة الصبر على جور السلطان، وعدم الخروج عليه والطغيان. وهم مع ذلك قد كتبوا إلى السلطان ابن عثمان كما جاء الخبر به مع الحجاج، وأخبروه بضعف دولة اليمن، وأنهم قد تغلبوا على بلادهم وأخرجوا عنها حسين بن حسن بالسيف الضارب والقهر الغالب، وذلك إرادة منهم الاستنصار بهم، وإرادة أن يعينوا عليهم، وإلا فإنهم لا يريدون الدولة من حيث كانت.
وفي عشرين صفر وصل الزوار من المدينة المنورة فأخبروا أن سعر الحبوب كان بالمدينة مرتفعاً، وأما مكة وجدة فهو متهون دون ذلك. وذكروا أن النهر الذي أمر السلطان بجره من مكة إلى جدة بلغ إليها، وانتفع الناس به فيها، ودخل إلى داخلها وبني فيها مسجداً يدخل الغيل إليه، فكان ذلك من المحاسن العظيمة والصدقات السلطانية، وقوت جدة هذه المدة وزادت في عمائرها، وكذلك المدينة بسعاية السلطان، هكذا أخبر الزوار[63/أ]، وأخبروا أن أمير الشامي لما وصل إلى بدر توفي فيها.
وفي هذه الأيام بآخر شهر صفر وصل الخبر أن ابن العفيف صاحب يافع وصل جوابه على حسين بن المهدي إلى الزهراء بعدم المواجهة. وكان عند وصول الرسول وهو القاضي حسين بن يحيى المخلافي القبض عليه والترسيم لديه، وانتهب حوائجه، وقال: لولى أنك رسول لكان الأمر غير هذا فعند ذلك أزمع حسين بن المهدي بالارتحال إلى جهاته، والبِنَا هو ومن معه على قتاله، وعند ذلك اقترن من صاحب المنصورة إلى بلاد يافع حدود وإرسال معونة، وأرسل ولده الحسن بن محمد إلى مساقط بلاد يافع، والتقى هو وابن العفيف بعد المكاتبة فيما بينهم، قيل: واتفقوا على التظاهر على الواصلين من قبل المؤيد، فطلع إلى بلاد يافع من طلع، وتأهبوا معهم للحرب . وكان محمد بن أحمد صاحب المنصورة أقواله مضطربة، وكتبه ما زالت مختلفة، آخرها ينقض متقدمها، فإنه ما خرج صنوه حسين بن أحمد بن الحسن من الغراس إلا بعد وصول كتاب منه إلى أخيه بأنه قد بالغ من أجل يافع في الرجوع على ما كانوا عليه، والإذعان لما يطلب منهم من غير مشاققة ، فلم يجد منهم إجابة، ولم يبق هناك ما يصلح فيه المعاودة، فظن حسين بن أحمد بن الحسن أن الكلام عل ظاهره، فخرج من الغراس ظناً أنه لا [63/ب] يحصل نقض من جانب صنوه ولا مخالفة، حتى وصل إلى ضوران وبلغه ذلك الاجتماع والنية لقصد ذلك الشأن، وصل كتاب آخر منه بما ينقض ذلك وأن الشروط التي بينه وبين المؤيد ما تمت بعد أن كان وعده محمد بن المتوكل أنه يزيلها على التدريج مما يقدر عليه. فلما لم يتم حصل ذلك عذراً له وقال: أنه باق على ذلك الأصل ولا سيما بعد تحريك وقع من المؤيد عليه بكتاب كتبه ووصل إليه، مضمونه: طلب اللقيا له والمفاوضة، والاجتماع على حرب المشرق على اليد الواحدة. وربما فعل من الكلام بعض شيء مما نفره، فعاد الأمر الأول جذعة ، وجهز ولده الحسن إلى لحج ينتظر ما يكون، كما سبق ذكره، ووصل حينئذٍ إلى الزهراء صالح الرصاص وأولاده في حكم المواجهين، وأنهم
معهم إلى ما يريدونه سائرين وماشين ومقاتلين. ثم لما كان ثامن وعشرين شهر صفر يوم الخميس خرجت العساكر المؤيدية من الزهراء قاصدين إلى البلاد اليافعية ، فلما بلغ المؤيد خبرهم وما جرى من محمد صاحب المنصورة معهم اشتغل بهذا الأمر، وتبلبل باله، واختلفت آراؤه وأقواله، وأمر عثمان زيد أنه يقصد إلى تهامة بجماعة عسكر، وقال له يظهر أنه رسول لافتقاد المقررات التي من زبيد وبيت الفقيه، وإذا وجد مجالاً للتغلب وطرد الولاة لمحمد فليفعل، وهي قد كان قبضها صاحب المنصورة من وقت موت والده أحمد بن الحسن[64/أ] وتغلب عليها بالقهر. وكتب إلى صنوه علي بن المتوكل أنه يتقدم إلى قعطبة أو ما يقرب إليها من تلك الجهة، وكتب إلى صنوه الحسن الذي باللحية بالسير إلى جهات زبيد وحدود اليمن.
وفي يوم الإثنين ثالث شهر ربيع الأول لما وصلت الجنود المؤيدية إلى طرف بلاد يافع طرحوا محطتهم في سفال جبل العر، عند بلد يقال لها: حصن جوهر ، فيها مزارع وآبار وجبل العر فوقها. وكانت طريقهم من الزهراء في وادي ضيق خرجوا منه إلى هذا المحل، وعرجوا عن طريق الحلقة بسبب الرصاص، فكان إلى يوم الجمعة سابع ربيع الأول وطلعوا جبل، العر لقصد الحرب والقتال حال توفر اجتماعهم ووصول غوائرهم. وقد كانوا بنوا المتارس القوية في عرض الجبل، فجروه من جميع طرقه ومداخله، وكانت تلك المتارس كالدوائر العالية فوق القامة، على جميع عرض جبل العر من حيث منه المدخل طول تلك العمارة قدر ميل. فحمل أول العسكر من حاشد وبكيل ومن معهم من المغورين إلى جهة تلك المتارس، فرموهم من داخله، فقتلوا منهم كثيراً من فوقهم ومن جوانبهم؛ لأنهم جعلوا متارسهم مخلوفة، مقابلة لبعضها بعضاً معصورة؛ لأجل يكون الرمي من جهة المقابلة ومن جهة الدائرة بصفة محكمة. وكان من جملة المقتولين بيرق دار حق حسين بن المهدي. وكان الرمي من داخل يقتل لتظهرهم والذي من خارج لا يصيبون شيئاً، بل الرصاص تقع إلى أحجار الدوائر، مما لا يقع تحتها طائل، فعند ذلك انهزموا أول هزيمة من تلك الحملة إلى متارس أصحابهم[64/ب] وفترت عند ذلك همة المتأخرين خلفهم، لما رأوه من القتل لأصحابهم، فبنوا متارس ضعيفة وكانوا يرامون بلا طائل؛ لأن الرصاص لا يقع إلا إلى الدائر، والذين من داخل يأخذون فيهم لمن أشرف منهم، ورسى الحرب بالمراماة إلى العصر وعلي في منزله ومكانه حتى تعبوا وجاعوا، بحيث أن بعضهم جلس تحت الحجارة، لعدم تحصيل الفائدة، وعند ذلك اختلف رأيهم كيف يكون المخرج إلى المحطة أو المساء؟ فلما عرف الرصاص ذلك قال: نجعل لهم ذمة أربعة أيام ويعودون إلى محطتهم، فأسعد إلى ذلك حسين بن أحمد بن الحسن، وهو المرجوع إليه في أمرهم. وقال: لا بأس، ولم يكن لهم الجميع معرفة كيف خدائع الحروب، وكيف
يكون صفة الرجوع، فانحرفوا للعود آمنين مطمئنين ثقة بكلام الرصاص، وإذ يروا جميعاً نازلين فما هو إلا أن رأوهم كذلك دفعت إليهم البنادق ضربة واحدة من كل جانب في ظهورهم، فسقط منها كثير، منهم الهالك في الحال ومنهم المصاب، ثم خرج سائر القبائل الذين ليس معهم البنادق في أعقابهم يضربون ويقتلون ويرجمون ويصيحون، فحصلت عند ذلك رجة عظيمة، وكل هرب على رأسه لا يلوي على أحد، وتفرقوا في الأعتاب والشعاب والطريق، والقتل في الآخر. وكان من جملة من رمي أحمد بن محمد [65/أ] لأنه كان آخر القوم والبنادق خلفه، وأصيب أحمد بن محمد، وقع فيه رصاصتان أحدهما هي القاتلة والأخرى في رجله دفعة واحدة عند ذلك، فحملوه أصحابه فوق بغلة إلى بعض الطريق وحسرت البغلة والقتل عمال في الناس، فطرحوه أصحابه عند مسجد صغير على الطريق لما حصرتهم القوم، ولم يسع أحد منهم إلى حمل له ولا دفع. وقتلوا الحاضرين عنده جميعاً، فقتل من أصحابه من بقي حوله قدر سبعين نفراً من خلفه وقدامه وعنده، واحتزوا أكثر رؤوسهم، وكان من جملتهم أحمد بن محمد المذكور. واهتزم الناس إلى المحطة، ودخلوا حصن جوهر، وأظلم عليهم الليل وباتوا في أشر ليلة ممن قد فات ومن التعب ومن الخوف، وبنوا المتارس وحصنوا حصن جوهر بالحجار لما يخشوه منهم. وكان لما وقع هذا الحادث العظيم وقع في المحطة بعض انتهاب من أصحاب الهيثمي والجلاد، ومن بعض الأجناد، حال حمل الأثقال من المحطة إلى حصن جوهر الذي هو عندهم، فراح ما راح وحضر القتال أيضاً والمدافعة. وانتهب الهيثمي قافلة صاحب كوكبان كان قد شدها، فساقها بأحمالها وفيها خزائنه ووطاقه، وزالت عقول بعض أهل السوق وهرب الهارب في الليل على رأسه إلى الزهراء فالهارب الأول نجا؛ لأن أهل البلاد ما قد كان تحققوا القضية[65/ب]، والذي تأخر قتل في الطريق وانتهبوه، خصوصاً في بلاد قيفة، فإنهم قتلوا كثيراً من الهاربين ونهبوهم، وكان أعيان المقتولين مع أحمد بن
محمد: الشيخ محمد فارع كاتب أحمد بن محمد ومن بيده دفتر العسكر، والشيخ علي دغيش شيخ بني حشيش من بني الحارث، والشيخ عبد الله بن سعيد العنبري شيخ الإسماعيلية في بلاد حراز، والصباحي من مشائخ شَمَات وجماعة من سادة غربان، واختلف الناس في عددهم فمن المقل ومن المكثر؛ لأنهم ما عرفوا بحقيقتهم، فمن قائل: أن جملتهم سبعمائة في الحرب والطرق، ومن قائل: أربعمائة، ومن قائل: ثلاثمائة، وكل منهم يخبر على المعرفة، وأكثرهم لا يعرف؛ لأن منهم المغورين ليسوا في دفتر، والقتل الذي كان في أول الحملة منهم قبل البيارق من أشَمْح والغُرُب وأهل بعيدان، ولعل جملتهم يكونوا إلى نحو ثلاثمائة ومائتين مصاب ومقتول حال الحرب وفي الطرقات، من باب الظن والجمع بين الروايات، والله أعلم.
ولما أصبح الصباح وظهر نوره ولاح نزلت يافع من جبل العر كالجراد قاصدين أهل المحطة، فلم يخرج أحد من المحطة عن الحصن لما رأوه من كثرتهم، وما قد حصل معهم، ولم يبق لهم مطمع فيهم إلا الدفاع عن أرواحهم. فلما قاربوهم دفعوا فيهم بنادقهم، فقتلوا منهم نحو ستين نفراً وكان خرج أهل الحيمة من لكمة فرموهم من وراء أظهرهم وأهل المحطة من قدامهم، فاهتزموا عند ذلك. ثم كان[66/أ] يوم الأحد ونزلوا أيضاً للحرب فلم يأخذوا منهم شيئاً، وقتل منهم أيضاً، ثم يوم الإثنين ثم يوم الثلاثاء، ثم اكْتَفَّ الحرب وخاضوا في الصلح بواسطة الشيخ عبد الغفار بن شيبان الجوفي فقال ابن العفيف: لا بأس بالصلح والأمان ويسيروا بلادهم، ولكن بشرط حط سلاحهم، فأبت العسكر من وضع السلاح، فقال حسين بن المهدي: نسلم عوضاً عنه من الدراهم، فسلم أربعة عشر ألفاً، ووضع لهم الأمان، وأرسل معهم ثلاثة أنفار رفقاء بالأمان إلى أن بلغوا الزهراء، فتم الأمر على هذا وساروا. وسبب العزم ما حصل معهم من ذلك الحاصل، وانقطاع الطرق خلفهم من المواد، ونفد ما معهم من البارود والرصاص وغير ذلك. وكان المؤيد قد طلب غواير عليهم؛ بناءً أنهم باقون حتى تصل إليهم، فتراخت الغوائر، وهم أحمد بن المؤيد ومن معه وغيرهم. وكان عند وصولهم ضوران وقد خرجوا من الزهراء وصاروا برداع، ثم تجدد ما شغلهم عن ذلك الأمر بما وقع من الخلل في بلاد الحجرية وحوزة صاحب المنصورة، كما سبق في تأريخه، ومكاتبته بالغارة عليه واستنقاذه فهذه جملة خبرهم.
وكان لما تغيرت الطريق ببلاد قيفة قد أراد علي بن جميل العزم بالجامكية، [66/ب]فوصل إلى نحو مرحلة من رداع، وبلغه ما وقع بمن يخرج من الزهراء من القبائل، فرجع خشية على ما معه من الطمع، فعند ذلك تضرر العسكر، وكان وصولهم إلى الزهراء في عشرين شهر ربيع الأول.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشر شهر ربيع الأول مات الشيخ العارف محمد كزبر الدمشقي الحنبلي بمدينة صنعاء اليمن.
كان المذكور عارفاً بمذهب الحنابلة، وكان قد حج إلى مكة المشرفة قدر خمسين حجة؛ لأنه كان يسافر مع حاج الشامي ببضاعة من بضائع الشام، ثم كان آخر مدته وخرج إلى صنعاء ببضاعة من الخوخ والمصطكى والزعفران وسائر بضائع الشام، وتزوج فيها وسكنها، ثم بعد عامين عاد إلى بلاده وقت موسم الحج وتعوض من البن وسار مع المحمل الشامي إلى دمشق، فبقي في دمشق عند أهله ذلك العام، ثم خرج في موسم الحج المقبل إلى مكة، ثم إلى صنعاء، فسكن بصنعاء قدر سنتين أو ثلاث. وذكر أن أول خروجه وكان والده في الحياة قد بلغ عمره إلى تسعين سنة، ثم مات وولده باليمن، ولما وصل إلى اليمن طلبت منه عارية كتاب في فقه الحنابلة يسمى(منتهى المرادات) فنقلت عليه نسخة للإطلاع على فقههم وإليه مختصر في أصول الفقه على مقتضى أصولهم، وقبر رحمه الله تعالى بمقابر باب اليمن، والله أعلم.
وفيها مات السيد علي بن خالد المتولي على بلاد عفَّار بقي فيه مدة طويلة من قبل دولة المتوكل إلى أن مات، وكان سكونه بصبر، ومات فيها.
[67/أ] وفي آخر شهر ربيع الأول اتفق أن جماعة من أهل الحيمة ساروا من الزهراء لمَّا قل عليهم السبار والأقوات، فلما وصلوا إلى ما بين رداع وبين الزهراء لقاهم في الطريق السيد مهدي الكبسي والسيد صلاح بن عز الدين الظفري ومعهم بعض شيء من الطعام وجوامك العسكر التي كانت متحيرة برداع يريدون الوصول بها إلى الزهراء فقالوا لهؤلاء العسكر عودوا فقد هذا معنا سباركم، فقالوا: لا يمكن ذلك، فقد اشتدت به الحاجة وأشرفوا على المهالك، فلم يعذروهم، فرجع بعضهم وسار بعضهم، ثم إن قيفة انتهبتهم وقتلوا منهم، ثم لما وصلوا إلى رداع زاد انتهب حسين بن حسن ما بقي معهم من السلاح، لأجل هربهم، فلا قوة إلا بالله.
ونصب العسكر والرؤساء عوض أحمد بن محمد صنوه يحيى بن محمد ، وأثنوا عليه، وقالوا: هو أحسن لهم من أحمد لما فيه من النباهة والرئاسة والوفاء، وحسن المعرفة والسخاء.
وفي غرة شهر ربيع الآخر خرجت الدولة من الزهراء إلى رداع، بعد أن خرج قاسم بن المهدي الذي كان أسيراً في البيضاء، بعد أن كساه الرصاص وأعطاه فرساً عوض حصانه الذي انتهبه الشيخ الهيثمي؛ لأنه الذي أسره ونهبه، فاستنقذه منه الرصاص، وسكنه عنده ثم أرسله إلى الزهراء.
وفي هذه الأيام انتهب الصبيحة والحواشب قافلة كانت خارجة[67/ب] من عدن، وقتلوا تجارها، وقلعوا لسان أحد التجار منهم فيها، وعبثوا بهم، وانتهبوا جميع بضاعتهم.
وهذه البلاد من بلاد محمد بن أحمد صاحب المنصورة، وكان أثار الخلاف فيها وقطع الطريق ثائراً من حال موت أبيه أحمد بن الحسن، ولم يقدر على الحكم عليها، ولا تأمينها، وهو يدل على ضعف يده هنالك، وإنما صار القبائل هم في الحقيقة أهل الغلبة له، وإلا فكان أقل حالة الحكم على الطريق مع قربهم من المنصورة. وهذا سببه الإختلاف للأنظار فيما بينه وبين المؤيد، وعدم اتفاقهم. ما زال هذا الأمر يجري في بلاده، وكذلك ما جرى في غيرها، فلا قوة إلا بالله.
ووصل خبر أن عثمان زيد لما أراد دخول زبيد منعه أصحاب صاحب المنصورة، وحاربوه، وردوه، ووقع فيه صائبة.
ووصل خبر أن عثمان زيد الذي كان أرسله المؤيد إلى تهامة لمَّا وصل إلى بيت الفقيه بالزيدية منعه أصحاب صاحب المنصورة وحاربوه، ووقع فيه صائبة منهم.
وجاء خبر أن ابن العفيف لما راسلوه بالخروج من ذلك قال: لابد من وضع السلاح، فبذل حسين بن المهدي نحو ......... عشر ...... دراهم، فقبل المذكور وخرجوا، وهذا ابن العفيف اسمه معوضة بن محمد بن معوضة، وجده هذا معوضة هو الذي كان في مدة الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم، الذي كاتبه في مدة دخول أحمد بن الحسن مستجيراً بهم.
[68/أ] ووصل كتاب من ابن العفيف إلى المؤيد بضوران يذكر فيه ما حدث من هذا الحاصل، والشجار والخراب والافتتان، وأنهم إنما دافعوا عن أنفسهم وحريمهم وأولادهم.
ولفظ بعض كتابه هذا أن قال: إنا لو عرفنا منكم من الإنصاف ما حاربنا ولا جرى منا شيء، وأنتم قبلتنا، والقصد إنا مطيعون لله، ولكم مُسَلِّمون الحقوق الواجبة إلى من رأيتم غير سيدي الحسين بن الحسن، خاطبين لكم، ونحن مُسْلِمُون، ما يجوز لكم محاربتنا، فلا تجعلونا أعداء لكم، بل من أصغر الخدم.
هذا لفظ كتابه، وفيه كلام آخر، هذا مضمونه. فلما وصل هذا الكتاب إلى المؤيد جمع أهل مشورته وأعيان حضرته، وقرأ عليهم فاختلفوا في ذات بينهم، وقال أكثرهم: إن هذا خديعة منه وتسكيناً لثائرتكم.
وهذا الحرب وقع على غير قياس من أصله؛ لأن يافعاً كان مطلبهم رفع المظالم ورفع واليهم الأول، فلم يجابوا إلى ذلك أصلاً، فعلى رأي الهدوية أنه إذا لم ينصف ولي الأمر جاز الخروج عليه، فقد وافقوا قولهم وإن لم يوافقوا مذهبهم أنفسهم؛ لأنهم شافعية والشافعية لا يجيزون الخروج على الجائر، مع أن المؤيد هذا لا يرضى بالجور، لكن ماله أثر في ولاته أصلاً، فكان مع ذلك عليه أن يترك، وكان قد طلب المؤيد محمد بن المتوكل من خزائنه قدر عشرة أحمال من الدراهم قبل وصول هذا الكتاب، ثم إنه عند ذلك ظهر منه تبريد الكلام، وقال للحاضرين من الذين كان طلبهم من الآخرين: ما شاء منكم أن يسكن سكن ومن شاء أن يعزم عزم. وما زال يمد إلى صنوه علي الزيادات بالعسكر إلى العثارب قريب قعطبة. وعلى الجملة أن ما دام صاحب المنصورة وهو غير مجتمعين في رأيهم ولا متفقين في أفعالهم وأقوالهم فلا يكاد يتم له أمر في هذه القبائل المخالفة؛ لأنهم صاروا يتقوّون بذلك، والله أعلم.
وفي هذه الأيام غزا أهل الجوف ومن إليهم من بلاد بيحان إلى أطاريف بلاد بني أرض[68/ب] من حدود بلاد الرصاص، وأنهم ظفروا بكثير من مواشيهم فنهبوها وأخذوها وانتصروا عليهم فيها. وكان قد هرَّب إليها الرصاص كثيراً من مواشيه، وحصلت غزوة من بلاد عنس إلى بلاد قيفة أيضاً قتلوا منهم وانتهبوا من بلادهم، ولما وصلت الدولة إلى رداع حبسوا مشائخ قيفة في القلعة برداع، وهو الشيخ مصعب والشيخ عبد القادر، لما قد حصل منهم من الضرر في الطريق، والنهب والقتل والتعويق، ولما خرجوا من رداع إلى بعض القرى حطوا فيها وقد هرب أهلها عنها، فوجدوا امرأة عجوز سألوها أين المدافن في البلد؟ وإلاَّ تخبرهم قتلوها، فدلتهم عليها، فأخرجوا كثيراً من الطعام وتصرفوا فيه وأكلوه، مع ما قد كان نالهم من شدة الجوع.
وفرحان دخل بلاد الشعيب من مساقط جبل يافع واستولى عليها، لأنهم كانوا قد خالفوا أيضاً وانتهبوها واستولوا على طعاماتها، وابن شعفل ترفع إلى الجبال فوق جبل حَرِيْر وأخلى كثيراً من تواطي البلاد خوفاً من الدولة.
وعلى الجملة أن المشرق قامت فتنته، واختبطت أحواله، وصار الدولة يتقربون منه، ويحشدون عساكرهم إليه، وصارت قبائل...... .
[69/أ] وفي ثامن شهر ربيع الآخر أرسل المؤيد السيد صالح عقبات إلى صاحب المنصورة لتقرير الكلام والاجتماع على دخول المشرق. وخرج علي بن المتوكل من العثارب إلى قعطبة، وأرسل أحمد بن المؤيد إلى ذمار، وعلى الجملة إن بين الرجلين محمد ومحمد اختلاف الأنظار وبين طرفي نقيض، كلما أبرم كلام انتقض بسرعة ولم يتم منه شيء لأمر هناك، وحكمة قد سبقت في علم الله سبحانه.
وفي هذه الأيام ما زال الواصل من عسكر الدولة الذين خرجوا إلى رداع يصلون إلى ديارهم وبلادهم، ولم يبق إلا اليسير هنالك منهم، ووصل المصاويب أيضاً إلى جهاتهم، وإذا بنوا على دخول المشرق، فإذا جاؤوا من طريق جُبَنْ فهي ميسرة أمورهم بعد إصلاح صاحب المنصورة، فإن من جبن إلى الحلقة مسافة مرحلة لا غير، وهو وادي ناحية مرونة، وهي طريق قريبة، وهي التي كانت يافع تغزي جبن منها في مدة عامر ، ودخل عامر عليهم منها حال استيلائه على يافع بعد خلافهم عليه.
وخرج قاسم بن المهدي الذي كان أسره الرصاص في الزهراء وقد أعطاه حصاناً وكساه عوض حصانه الذي انتهبه الهيثمي، وتقدم الجميع إلى رداع لمَّا عدم عليهم الطعام والحاجة وعدم الميرة من القبائل، وخرج الرصاص عليهم بالعزم من الزهراء، فخرجوا كما ذكر والأراء مضطربة والأقوال مختلفة، كما قال ابن رشيق :
[69/ب]ما دمت مستوياً ففعلك كله .... عوج وإن أخطأت كنت مصيبا
كالنقش ليس يصح معنى ختمه .... حتى يكون بناؤه مقلوبا
وقول الصفي الحِلِّي:
لكنها الأيام في تصريفها .... تقضي عليه بنحسه وبسعده
إن أقبلت وهبت محاسن غيره .... أو أدبرت سلبت محاسن نفسه
والآن صاروا في رداع بمن بقي من الجند وتفرق أكثرهم، والمؤيد صار الذين كان طلبهم غارة بعضهم عنده بضوران وبعضهم زلجه إلى عند صنوه علي بن المتوكل، وزلج أحمد بن المؤيد إلى ذمار بمن معه، وانقلب الأمر عليه بالمحاورة من جانب محمد بن أحمد بن الحسن صاحب المنصورة وعد للعسكر، وصار ينتظر الرسل إلى صاحب المنصورة، ورسل يافع في جوابهم على ما كتبوه.
وعلى الجملة أن هذه الحركات مع المؤيد لا تتم له إلى يافع إلا بعد سد الخلل من جانب محمد صاحب المنصورة، فأما والحالات بينهم مبتورة فلا يكاد يتم له أمر، كما هو ظاهر والله أعلم.
وفي عشرين شهر ربيع الآخر وصل جواب صاحب المنصورة مع السيد صالح عقبات[70/أ].
قال الراوي: إن مضمون كتاب المؤيد إلى صاحب المنصورة المعاتبة له في عدم المعونة في أعمال المشرق، وأنه كان يتوجه عليه ذلك، قال: فأجاب مع السيد صالح عقبات بأنه لم يؤمر بذلك، ولا وصل إليه كتاب بالسير إلى هنالك، ولكن الأمر في المشرق عليه سهل إن ترك نظره إليه، وأنه يرسل بعض أولاده ويكون الدرك فيه عليه، فأجاب المؤيد ثانياً عليه صحبة السيد صالح عقبات المذكور أنه يصلح ذلك، ولكن بشرط وصول ولده إلى حضرته ويكون من عنده الصدور، وزلجه وأعطاه البيرق المنشور. فما هو إلا أن عاد السيد صالح عقبات إلى بعض الطريق ووصل رسول صاحب المنصورة إلى محمد بكتاب يذكر فيه استمداد الغارة والمبادرة، فإن قبائل الحجرية صالت عليه، والتفت من جميع النواحي إليه، فأرسل محمد المؤيد إبراهيم بن حسين ببعض العسكر، وهو في الباطن قد فرح بهذا الخبر، وقال لسان حاله:
وواحدة بواحدة جزاء
وإن كان الخلل عليهم الجميع، وقال لإبراهيم بن حسين: سيروا ولا تعجلوا، وتحققوا الخبر ولا تقدموا، لئلا يكون هناك خديعة تحصل في الطريق، أو شدة اجتماع قبائل مما مثلهم لا تطيق، واستحر الحرب فيما بين صاحب المنصورة وبين الحجرية ثلاثة أيام، فأول يوم كان تلقاهم إلى خارج المنصورة وحط بخيامه ووطاقه، فهزموه وانتهبوا جميع محطته ووطاقه وخيامه، واشتد الحرب، والبنادق والقتل والضرب، ثم جاءت الهزيمة في محمد صاحب المنصورة، حتى أدخلوه المنصورة وقتل من أصحابه جماعة من أعيانهم: الذانبي من عماله، والقاضي الشبيبي من قضاته وغيرهم من العسكر والمجاريح من غيرهم أكثر. وبعد ذلك اضطر محمد صاحب المنصورة إلى الرمي بالمدافع التي كان أدخلها من عدن إلى المنصورة فسحبها ورمى بها، فقتلت منهم جماعة كبيرة واهتزموا منها، وتركوا المنصورة من بعد ذلك على حالها. وكان في خلال هذا الحرب قد طردوا عمال صاحب المنصورة من بلادهم، وقتلوا من قتلوا منهم، واستولوا على الدمنة والجند والزيلعي، وبلغ حد الخلاف من باب عدن من الصبيحة والحواشب إلى باب تعز، وغلقت أبواب تعز وعدن والمخا، وانقطعت الطريق إلى البنادر من باب تعز، وأرسل علي بن المتوكل من قعطبة زيادة لرتبة تعز لحفظه. وقد كان أهمَّ السير إليه بنفسه، وكان الذي قام معهم رجل يقال له: علي بن حسين الرجبي، صوفي حثهم على ذلك، وكان المذكور قد أرسل عليه صاحب المنصورة رسله فقتلوهم. والحجرية لولا توسطها في اليمن لكان شوكتهم أعظم من يافع، فإنهم لايزالون يخالفون إذا رأوا فترة في الدولة، أو اختلاف بينهم،المرة بعد المرة مع أن طريق البنادر في بلادهم، ولذلك خالفوا على محمد باشا في زمانه، وطالت الحروب فيما بينهم.
قال الراوي[71/أ]: وكان هذا الحادث في المنصورة يوم الثلاثاء ثالث وعشرين شهر ربيع الآخر، والحوزة للمنصورة يوم الأربعاء والخميس، وأنهم اجتمعوا على المذكور قريب عشرين ألف. وكان قد جرى على الحجرية الجور العظيم في مدة المتوكل، ثم استمر إلى الآن، فذلك هو الذي حملهم على الخلاف مع ما بلغهم من قضايا يافع والإختلاف. ومحمد بن أحمد بن الحسن هذا ما كاد يجتمع الكلام بينه وبين المؤيد بل كلما كاتبه ذكر شروطه، وزاد هذه الأيام في جوابه مع السيد صالح عقبات ذكر تلك الشروط. وزاد معها شرطين إخراج اليهود إلى المحل الذي كان أخرجهم والده إلى موزع، وتحريم التتن مع أن والده إذا كان متابعاً له قد قلده في هذا، فقد كان رجع عن ذلك، وقرر اليهود حيث كانوا أولاً، لما جاء ولا يتم ما كان أراده من جمعهم في محل واحد، لأن رزقهم مفرق في الأرض لا يتم باجتماعهم. ثم لو فرض اجتماعهم أنه يتم في محل واحد ففيه مفسدة ظاهرة، فإنه يخشى إذا اجتمعوا جميعاً حرموا الذمة وأفسدوا وتقووا ، ثم إنه لا وجه لنقض عهدهم الذي وضعه رسول الله÷ بتقررهم باليمن كما في كتابه إلى معاذ ، ونقض العهد لا يجوز كما عرف. والتتن أحمد بن الحسن قد رجع عنه أيضاً، وقال: أما التحريم فلا دليل عليه لما روجع، ولكن مكروه فقط.
[71/ب] وكان في هذه الأيام بالنصف الآخر من شهر ربيع الآخر قد أمر المؤيد بني عمه أن يتفرقوا من المحط الذي كان حطوا فيه خارج رداع وهو السرير، فسار يحيى بن محمد إلى المعسال، وحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم المكنى بأبي طالب إلى مكان آخر. وحسين بن المهدي استقر في موضعه وتفرقوا، فكتبت قيفة وأرسلت إلى يحيى بن محمد أن لك مهلة ثلاثة أيام إما خرجت وإلا قصدناك، فبقي هنالك وبنى على القتال لمن قصده، مع أن العسكر قد تفرقوا وهربوا من عندهم الجميع، لم يبق مع كل واحد إلا اليسير، فهم في ذلك إذ جاءهم خبر الخلاف في الحجرية، فسقط في أيديهم وقال: بعد هذه القضية ننسى المشرق ونشتغل بغيره، ولا ينبغي إلا الرجوع إلى رداع والرحلة، فرحلوا إلى رداع مع قربهم منه، إنما بينهم وبينه نحو نصف مرحلة.
وقال كثير من الناس: هذا الجاري من محمد بن أحمد صاحب المنصورة من المناصفة؛ لأنه كان من المعاونين ليافع على القتال، وقد جاء في المثل السائر: من حفر بئراً لأخيه سقط فيه، وعاد جانب محمد بن أحمد صاحب المنصورة أيضاً مغلولاً مكسوراً، وكان أمر الله قدراً مقدورا.
وفي خلال هذا الأمر وصل من جهة الشام الخبر وهو أن جنوداً خرجت من حضرة السلطان ابن عثمان إلى بلاد مصر، وفيها سبعة صناجق وأمراء وعساكر.
ورأيت كتاباً وصل إلى بعض أهل صنعاء من تلك الجهة فيه تحقيق هذه القضية قال فيه: ظهر رجل صوفي في الحجرية من المَعَافر أقبلت إليه أهل اليمن بأجمعهم بالنذور، وسلب الناس عقولهم[72/أ]، فلما بلغ محمد بن أحمد صاحب المنصورة كثرة الجمع لديه، والمال الذي ما زال يصل إليه، مع كثرة الجمع الحاصل بين يديه، أرسل بالوصول إليه، فلم يمكنه ذلك، ولا أسعد لما هنالك. فتغافل عنه بعض أيام ثم بلغه أن الصبيحة الذين نهبوا القافلة الخارجة من عدن من أهل النعمان وغيرهم لديه، فأرسل إليه واليهم الشبيبي في عشرين نفراً صحبته من العبيد والتوابع. فلما وصلوا إليه وإليهم ذكروا لهم أنهم يصلون صحبتهم إلى المنصورة، فأجاب الصوفي عليهم أنهم يسيرون معهم، لكن بشرط لا يربطوهم وهو ضامن بهم، فساروا بهم إلى خلف بلده ثم ربطوهم، فبلغ الصوفي ما جرى منهم ومما خالفوا عليه ما شرطه عليهم، فأمر عليهم من حضرته جماعة من الجُعلاء والشفاليت فوقهم، فقتلوا من العبيد ثمانية وكذلك القاضي الشبيبي وهرب الآخرون، وزاد قتل من الهاربين أيضاً جماعة، واستأصلوهم أجمع.
ولما وقع هذا الحادث المذكور، والأمر المقدور وصل إلى الصوفي المذكور الشيخ محسن صاحب قَدَسْ وابن مغلس صهر محمد بن أحمد صاحب المنصورة، متزوج صاحب المنصورة ابنته وأشاروا عليه بالحرب لصاحب المنصورة والغزو، وهم أنصاره وقومه، فاجتمعت الحجرية بأجمعها، فوصلوا إلى قريب المنصورة خامس وعشرين شهر ربيع الآخر[72/ب] والتقاهم محمد بن أحمد صاحب المنصورة، فاحتربوا حرباً شديداً، واقتتلوا قتالاً عظيماً بالبنادق وغيرها، فقتل من أصحاب صاحب المنصورة ثلاثة عشر نفراً ومن أهل الحجرية عدد كبير نحو أربعين بالبنادق. ثم كان يوم الجمعة فثنوا الحرب، فقتل من أصحاب صاحب المنصورة نفران ومن أهل الحجرية جماعة، وبقوا يوم السبت ويوم الأحد مراكزين وحائزين المنصورة. ومحمد بن أحمد صاحب المنصورة يرميهم من داخلها بالمدافع والبنادق البالغة، وصاروا محتازين ومانعين لأنفسهم من داخلها، فلما كان إلى يوم الإثنين خرج الحاج قاسم الرسمي إلى عند الصوفي وإلى عند الشيخ محسن صاحب قدس يأخذ مهلة لصاحب المنصورة قدر ثمانية أيام، ويخرج من المنصورة بالأمان، وطلب منهم نحو خمسمائة جمل لخزائنه. وما طلب ذلك صاحب المنصورة إلا ريثما تصل غارة من المؤيد، إذا وصلت أوثق وإلا خرج، وخالف جميع اليمن الأسفل، وخرج عبد الله بن أحمد بن القاسم من شمير إلى تعز برفق وسكن فيه. وجبل صبر خالف منه الجهة الغربي، وعبد الله بن محمد بن أحمد بن الحسن كان يومئذٍ في جحاف فلما خالفت البلاد وصل إلى دمنة خدير، وقبض على جماعة من مشائخها ومن كان في هذا البلاد[73/أ] من العسكر، وأصحاب محمد بن أحمد صاحب المنصورة نهبوه وأخذوا سلاحه، ولم يبقوا معه إلا ما يستر العورة لا غير. بنو محبش أهل ترداد نهبوا جمال أهل القاهرة وهي موقرة من البن، وأهل عريش نهبوا سوق جَبَا وأخربوا فيه بعضه، أهل جبل حبشي نهبوا سوق يفرس وبيوته، الشمريات نهبوا سوق القاعدة والطريق ما يمضي فيها أحد.
انتهى تحقيق هذا الحادث ممن هو حاضر هنالك حال الحرب، وقال إن الحرب كان يوم الخميس بالبنادق خارج المنصورة، وفلت أهل المنصورة عليهم الحجارة في الشعب الذي فيه الطريق، فقتلوا منهم، ثم رجموهم لكثرتهم فكسروهم إلى داخل المنصورة، كما سبق ذكره، وحمتهم المدافع بعد الحوزة، فلم يقربها أحد، ولولا المدافع لدخلوا عليهم إليها، ثم بقوا في الحوزة وجروا على ظهور أبواب المنصورة التراب ورصوه من داخل بالحجارة.
وفي عشرين شهر جمادى الأولى جاءت الأخبار وكتب إلى المؤيد من صاحب المنصورة، روى الراوي أن مضمونها: أن الحوزة طالت، وأنكم إذا معكم نهضة وغارة وقدرة بادرتم، وعند ذلك اتفق انتهاب سوق دمت، نهبه القبائل الذي حوله من الرياشي وغيرهم، واحتربوا هم وعسكر الوالي فيه ثم حازوه، فلما بلغ حسين بن حسن كونه من بلاده أمر علي بن قاسم بن المؤيد بن القاسم بالغارة إليه بمن معه من العسكر، فسار إلى هنالك مغيراً وتبعه غيره.
[73/ب] وفي خلال هذا وصلت أخبار بأن في البحر أتراك، وأنها من جنود السلطان متوجهة إلى اليمن، وكان الخبر متلاحقاً بهذا، فأوله في نصف شهر جمادى الأولى، لكنه من صاحب صبيا إلى بعض أصحابه بصنعاء، ثم خرج خبر آخر مع دراويش كان في تلك الجهة، خرجوا إلى صنعاء، وقالوا أصلهم من بلاد سمرقند بخارى، كانوا في العام الماضي حجاجاً، فخرجوا بحراً وأخبروا أن وراءهم في البحر سلطان سمرقند كان حاجاً، وأنهم يريدون الخروج والمسمى عبد العزيز، وأنه خرج في العام الماضي حاجاً من طريق البر ويريد العود من طريق البحر وصحبته نحو ثلاثة آلاف، وقيل: قدر ألفين، وأنهم قد وصلوا إلى بندر المخا، وليس في هذا الخبر شك ولا مرية، وهؤلاء الذين أخبروا قدر اثني عشر نفراً، مما يفيد خبرهم مع الخبر الأول التواتر والله أعلم، وكان وصول هؤلاء إلى صنعاء في عشرين شهر جمادى الأولى.
وفي خامس وعشرين شهر جمادى الأولى اتفق القران الثالث لزحل والمشتري في برج الأسد في عود المشتري بعد رجوعه؛ لأنه كان قارنه، كما سبق ذكره حال سيره في الاستقامة القران الأول، ثم قارنه ثانياً حال رجوعه، ثم قارنه هذا القران الثالث حال عوده من الرجوع إلى الاستقامة، والمريخ يومئذٍ في برج العقرب راجعاً رجوعاً كبيراً، فالقدرة لله في جميع ذلك.
وفي يوم الإثنين حادي وعشرين شهر جمادى الأولى وصل الخبر إلى صنعاء بأن الذين خرجوا من رداع على بلاد دمت بعد حصول الواقع من انتهابه من قبائل الرياشي الذين حوله فتكوا فيهم واحتزوا منهم فوق المائة الرأس، واتفق مع ذلك أيضاً خبر وصل من الغارة وانتهبوهم عوضاً عما جرى منهم، كما سبق[74/أ]. واتفق مع ذلك أيضاً خبر وصل من الغارة التي أغارت على صاحب المنصورة بأنهم بلغوا إلى الجند، ثم تقدموا إلى حدود الدمنة والحجرية، فاستولوا على قرى من بلادهم وانتهبوها وهرب أهلها، ولم يقاتلوهم بحرب فيها، فعند ذلك تنفس صاحب المنصورة، وزالت عنه الحوزة.
ووصل في إثرها خبر أيضاً بأن الآغا فرحان أمره علي بن المتوكل من قعطبة لغزوه إلى بلاد ابن شعفل، فاستولى على شيء من بلادهم وهرب من هرب منهم وقتل من قتل، وكانوا قد استباحوا الطرق، وخالفوا وقطعوا طريق عدن إلى قعطبة ولحج وأبين وغيرها من تلك الجهة.
وكان وصول أحمد بن المؤيد إلى الجند بأصحابه وقبائل سنحان وغيرهم رابع شهر جمادى الأولى، ثم كتب إلى الشُرْمَان وإلى بلاد السلمي أنهم يصلوا مواجهين، ويرجعوا ما قد انتهبوا في الطرقات وغيرها، ويكونوا آمنين، حتى مضى قدر يومين ورجع جوابهم أن عقالهم والمشائخ وَصَّالون، وأما الأطماع فهي قليلة وإنما هي بينهم البين، ثم إنهم تباطأوا فأمر أحمد بن المؤيد عليهم عبد الله بن أحمد إلى الدمنة قدامه، فوصل إلى بلاد السلمي وأخذوا منهم نحو أربعمائة من الغنم، وتقدم الدمنة فدخلها. وأحمد بن المؤيد خرج من الجند إلى بلاد الشرمان قريب الجند فلما وصلوا طرف البلاد حمل العسكر عليهم مرة واحدة ومعهم الخيل، فهرب الشرمان ولم يبق أحد منهم، فلحقوهم إلى حد جبل جحاف، وظفروا منهم بخمسة أنفار ملازيم، ولم يحصل شيء من القتل[74/ب] لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، ثم عاد العسكر للانتهاب، فانتهبوا منهم من البقر والغنم قريب ثلاثمائة ومن الجمال قدر مائة، ومن أثاث بيوتهم، وأما الحب فشيء كثير، ولكن تركه العسكر ورجع أحمد بن المؤيد ومن معه إلى الجند، فلما وصل إليه وصل الرسول منهم في الليل أنهم قد صاروا مواجهين ومسَلَّمين ما طلب منهم.
ولما بلغ سائر بلاد الحجرية والمحاصرين للمنصورة ارتفعوا وهربوا إلى بيوتهم، وتنفس صاحب المنصورة من الحصار، و ما قد جرى عليه من الشدة البالغة، وقد كان في حيرة، وكيف يكون الخلاص من الأقفاص؟ وعند هذا استبشر الناس بأمان الطرق وسافر الناس وشدوا أثقالهم إلى اليمن، ونزل التجار من صنعاء وغيرها إلى البنادر، بعد أن كان قد غلا البز بلغ الثوب الفرَّادي إلى ثمانية حروف وعشرة ، والفصدي إلى سبعة حروف وثمانية.
ويقال: إنه اتفق أيضاً مغزى من عند علي بن المتوكل من قعطبة إلى بلاد ابن شعفل، واستولى على الشيخ وغيره وأتوا بجماعة إلى حضرته، فأمر بهم في الزناجير، وكان اتفاق هذا الحادث في جميع هذه الأماكن في وعد واحد من هذا الشهر.
[75/أ] وفي بعض الكتب أظهرها الفقيه أحمد القمادي الواصل بكتاب من محمد بن أحمد صاحب حصون الدُّمْلُوَة أنه لم يقع له المرور والنفوذ إلى البلاد العليا إلا بعد أخذ خط من الشيخ علي الصوفي القائم في الحجرية، فجعل له خطاً محصوله: بعد حمد الله تعالى، ليعلم أهل الطريق وقبائل الحجرية أن الفقيه أحمد القمادي في أمان الله لا يعترض في سفره إلى اليمن الأعلى، ولا يتعرض في الطريق، ولا يجري عليه شيء من التعويق، وعلامته أعلاه لفظها داعي الله علي بن عبد الله، وهذا من العجائب كما قال الشاعر:
والليالي من الزمان حبالى .... مثقلات يلدن كل عجيب
ولقد صالت الحجرية صولة عظيمة، ونهبوا ما نهبوا من القرى والأسواق والطرق، وتعدوا على نهب بعضهم بعضاً، فإن جبل حبشي قصدوا إلى سوق يفرس انتهبوه وانتهبوا بعض بيوته، ولم يحترموا حرمة الشيخ أحمد بن علوان وهم في بلده وحوطته، ولما حدث هذا الحادث بالحجرية وحوزتهم لصاحب المنصورة كتب المؤيد إلى فقهائهم، وخص ذلك بكتاب إلى الفقيه عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز المفتي صاحب تعز أن يعرفهم ما سبب هذا الخلاف ويسعى في الصلح والائتلاف، فقصدهم واستكشف خبرهم، وأجاب على المؤيد أنهم ينقمون في هذا الخلاف على صاحب المنصورة الجور في المطالب، وأنه طال بهم الصبر على ذلك حتى بلغت بهم القلوب الحناجر وأشرفوا على المعاطب، وأنهم يريدون الإنصاف وترك الاعتساف، وأنهم لما عرفوا عدم اجتماع الكلمة بينه وبين المؤيد أيسوا[75/ب] عن التأثير في الشكوى، وأنه لا يمكن المؤيد أن ينصف منه أو يعزله؛ لأنه دولة قائمة مستقلة بنفسها، فدافعوا عن أنفسهم وأموالهم، فمرادهم إزالة دولة صاحب المنصورة عنهم.
هذا مضمون جوابهم وأنهم يعلمون في المؤيد أنه لا يرتضي ذلك، لكنه عندهم معذور لعدم نفوذ الأمر لما هنالك. هذا وظهر على صاحب المنصورة التضرر من هذه الحوزة، وعدم ارتفاع شيء من المطالب المعهودة، وصار يستغيث إلى محمد بالغارة، ومحمد قد كان أمر أحمد بن المؤيد ومن معه حتى بلغوا إلى الجند، كما مر ذكره. فلما وصلوا إلى تلك الجهة وبلغ المؤيد جواب الحجرية وما ينقموه كتب إلى أحمد بن المؤيد أنه لا يفتك في الحجرية بحرب، وأنه يرد ما طمع عليهم منهم من الدمنة والشرمان، وأنه يسعى في الصلح والسداد لا غير ذلك، فسكنت الأمور في الحجرية بعض السكون، وتنفس صاحب المنصورة بعض النفس، وإن كان قد صار كالمسجون، وسلك في الطريق بعض من سلك على حذر، وصارت الأمور متراقدة بين البين. ولما علم التجار في اليمن الأعلا كصنعاء بهذه الأمور، لم تطمئن نفوسهم بالسفر إلى المخا؛ لأنه كان هذا الوقت وقت الموسم الهندي قد خرجت المراكب إلى المخا وبقوا منتظرين للتجار، فلم ينزل منهم أحد إلى الآن، ولم يطلع إلى صنعاء شيء من البز في هذا التأريخ، وارتفعت أسعار البز لانقطاع طريق المخا.
[76/أ] ولما كان حادي عشر شهر جمادى الأخرى وصل أحمد بن المؤيد إلى سوق الخميس ، خاطب إلى بلاد الحجرية أنهم يدخلوا في يده ويطلعوا صحبته إلى المنصورة ويصلح بينهم وبين محمد بن أحمد بن الحسن، فأجابوا أنهم يشرطون إزالة ولاية ابن المهدي أحمد بن الحسن عنهم أو خروجه من ديارهم أو رفع المطالب الجائرة عنهم، وكان ذلك كالمتعذر عند أحمد بن المؤيد وعند صاحب المنصورة ، فسار أحمد بن المؤيد بمن اجتمع معه من سنحان وغيرهم من الأهنوم ووادعة قدر ثلاثة آلاف، وخرج من الدمنة من طريق يسمى العروق شرقي المنصورة، وتلقاه كثير من أهل الحجرية في الطريق، فقتل في الطريق من الدمنة إلى المنصورة من أهل البلاد كثير، يقال: نحو الثلاثين، وكان الرجبي في مكان يسمى القعيد، قريب المنصورة حاكم عليها وعلى من فيها، فتلاقى الفتيان وحمل أصحاب أحمد بن المؤيد ومن انضاف إليهم من أصحاب صاحب المنصورة. وقتل من قبائل الحجرية وأصحاب الرجبي فوق المائة، وانهزم الرحبي وأصحابه، ودهم الناس الليل فدخلوا المنصورة، [76/ب] وانتهب الناس محطة الرحبي وخيامه ووطاقه، وقتل من أصحاب الدولة قدر خمسة عشر نفراً منهم ياقوت إسماعيل وغيره، وهذا الوطاق هو الذي كان انتهبه في الحرب الأول على المنصورة، كما سبق. ومحمد بن أحمد في المنصورة كان في حالة ركيكة من المحاصرة، فتنفس بذلك، وبات أحمد بن المؤيد عنده تلك الليلة، ولم يلبث فيها إلا يوم واحد، وخرج عنها إلى مكان يسمى القَدَسْ بيوت المشائخ بني مغلس، ثم تقدموا إلى بيوت الرجبي أخربوها وقطعوا أشجارها ورجعوا إلى قَدَسْ، ثم واجه إلى أحمد بعض بلاد الحجرية كالمقاطرة وأهل الأعروق والركب وبلاد اليوسفي . وتخلف عن المواجهة بلاد الأحمدي وأصحابه وغيرهم، ثم تقدم أصحاب أحمد بن المؤيد إلى بلاد الأحمدي أخربوا بيوت الشيخ وأصحابه واحرقوها بالنار، وطمعوا ما وجدوا من الغنم والبقر والإبل والأثاث، ثم رجعوا إلى قدس.
ثم لما كان إلى ثالث وعشرين شهر جمادى الأخرى خرج صاحب المنصورة بنفسه من بلده إلى بلاد ابن أنعم ، طمع أصحابه منها طماعات كثيرة، وقبضوا عشرة أنفار أسرى، وقتل خمسة منهم ثم رجع المنصورة. وأحمد بن المؤيد سكن في قدس ثم كان إلى آخر شهر جمادى الأخرى عادت الحجرية في الخلاف أجمع كالخلاف أول مرة من جبل صبر إلى البحر. وحازوا المنصورة ثانياً[77/أ] وخالفوا ما بينه وبين ابن المؤيد أحمد بن محمد بن القاسم. وكان قد تقالل عسكره لما سار بعضم بالأطماع من عنده ورجعوا بلادهم، وبعضهم سار مغاضباً من العسكر، لما أراد ابن المؤيد أن يقطع جامكية شهر في مقابل ما صار معهم من الأطماع، فقالوا: هذا لا يمكن ولا يعرف مع عسكر كل دولة أن يحسب عليهم الطمع، ثم إن بعض العسكر ما صار إليه شيء من الطمع، وبعضهم بعد خروجه من الدمنة مرضوا، فانتهز قبائل الحجرية الفرصة وخالفوا ثانياً. وكان ذلك أيضاً بسبب أن أحمد بن المؤيد أرسل بجماعة من المشائخ الذين قبض عليهم إلى عند صاحب المنصورة، فلما وصلوا إليه قتل بعضهم، وقَتْل الأسير حرام لا يجوز، مع أنه روى أن قد كان أمَّنهم أحمد بن المؤيد.
وعلى الجملة إن سيرة صاحب المنصورة عجيبة في ذلك، ولقد روى راوي أنه في الخلاف الأول وحوزته ومضايقته لما كان أهم بالخروج من المنصورة، إذا لم تحصل له الغارة من المؤيد محمد بن المتوكل أدخل جواريه في دار من دور المنصورة، وجعل تحته باروداً وقصباً، وقال: إذا دخل قبائل الحجرية[77/ب] عليه أحرق البارود ليهلك الجواري، لئلا تأسرهم قبائل الحجرية، فلما ظهر الخبر عند الجواري مات منهن من مات، لهذا الأمر العظيم.
قال الراوي وهو من الفقهاء: وهذا جهل مفرط من المذكور، وظلم بَيِّن على النفوس بغير حق، والأمر كما ذكره، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولهذا ونحوه ما زالت الفتنة ثائرة عليه في اليمن الأسفل، وما سد من خرق بدا غيره، فإن الخلاف ثائر هنالك. وكتب صاحب المنصورة إلى صنوه حسين بن أحمد بن الحسن وهو بيريم أن ينزل إليه، ويتقرب مغيراً عليه، فخرج من يريم من المحال أن بلاده تصلح له؛ لأن يده ضعيفة مع اجتماع كلمتهم عليه وتوسطه فيهم، وأما هذه الغوائر عليه فهم لا يدومون في البقاء حراساً عليه، فمتى رجعوا حصل الخلل عليه، وكيف؟ وهذا الخلاف ما انفصل مع سكونهم هنالك.
[78/أ] وفي خلال ذلك واجه ابن شعفل إلى علي بن المتوكل، ووصل إليه إلى قعطبة، واعتذر بأن بلاده صارت بلا دولة، والله أعلم.
والمؤيد محمد بن المتوكل كتب إلى عبد الله بن يحيى الذي تغلب على العدين بأنه يرفع بعض المطالب عن أهل العدين، ويرفع الضريبة التي ضربها بغير رأي منه. فلم يلتفت عبد الله إلى أمره ونهيه، فتغير المؤيد من ذلك، وقال: قد عزله، قول بلا عمل، وهو الذي أراد توليته وغرس شجرته هنالك، وإلا فما كان العدين إليه من أول، وعزل الأقران كقطع الشجرة بعد العروق التي سرت للشجر، فلو كان من أول الأمر لسهل عليه من غير تعب، وإنما كان لعبد الله هذا بلاد قعطبة كما سبق تأريخه، ولكنه الذي أراد المؤيد لهذا، وأثنى عليه ثم رجع إلى ذَمه، ولقد ضرب ضربة ما أحد ضربها في صغر البقش، بحيث جعل الخمس مثل البقشتين، فغيَّر الدراهم.
وفي هذا الشهر حبس المؤيد المنجمين الذين بصنعاء لما كثر منهم الخطأ والوعد للناس بالأكاذيب في أوقات، وأشهر يحدُّوها ولم يتفق منها شيء أصلاً، وتكرر منهم هذا المرة بعد المرة، وكثر منهم التخليط على الناس والتمويهات والتعاطي لما لا يحسنوه ولا يعرفوه. وهم: سليمان الديعري والمهلا وغيرهما ممن لا معرفة لهم إلا من باب التعاطي، وكذلك المموهين غيرهما المهتدي والإسنافي وغيرهم من المشعوذين بأعمال السحر من قلب العصا حية والورقة بقشة، ونحو ذلك، واغتر بهم الجهال.
[78/ب] وفي آخر جمادى الأخرى ترجح للسيد حمزة بن أحمد بن الحسن أن تسودن ، ودخل قبة والده بالغراس، وكتب إلى بني حشيش أنهم يصلون إليه لموجب البيعة له؛ لأنه بلغه أن المؤيد صاحب ضوران تنحى، فوصل إليه من استدعى وطلب البيعة فأنكر عليه القاضي عبد الواسع، وعلي بن حسين بن أحمد بن الحسن بن أخي المذكور، لأن الأمر في الغراس إليه باستنابة والده حسين بن أحمد بن الحسن، فعند ذلك لم يلتفت إليه أحد وأرادوا ربطه لمَّا سل السيف على القاضي عبدالواسع، وبقى في حالة جنون بعد ذلك، وخرج إلى السوق بسيفه وجنبيته، فقتل بغلة، ثم سكنوه، وقالوا له: إما سرت إلى ضوران وإلا سكنت عن هذا الأمر.
حالة عجيبة، مع أنه في سن التكليف، والشباب لا يحفظ من العلم باباً، ولا يعرف مسألة ولا خطاباً، فيا للعجب من ذلك! لو ادعى المملكة كان أستر له[79/أ]. وعند ذلك أرسل به ابن أخيه علي بن حسين بن المهدي النائب في الغراس عن أبيه وقبائل بني حشيش إلى المؤيد، فساروا به إلى ضوران بعد وصول رسول من المؤيد لمثل ذلك. واقترن به من العجائب أن رجلاً وصل إلى بلاد حراز خرج من اللحية، فلما وصل إلى حراز ادعى أنه من أولاد المتوكل إسماعيل بن القاسم، وأن اسمه أحمد بن المتوكل، وأنه استخطف من شهارة إلى بلاد الشام، وأنه يريد زيارة صنوه محمد بن المتوكل، فصدقه كثير من أهل حراز وأضافوه، فلما بلغ والي حراز وهو الفقيه أحمد بن محمد السلفي أرسل إليه أربعة عسكر، وقال لهم: انظروا هذا الرجل إن رأيتموه عليه سيماً وجلالة قبضتموه على الوجه الحسن، وإن كان على غير ذلك فعلى وجه الإكراه، فلما وصلوا إلى بيت الشيخ محمد السهلي وجدوه عنده في بيته، وقالوا: المذكور مطلوب إلى عند الوالي، فساروا به ووجدوه بباقي صاية وحزام بغير جنبية ولا سروال، معه مصري تهامي، فسألوه فأخبر بمثل ذلك، وكان وصل إلى السلفي كتاب منه بخط فقيه من أهل البلاد يذكر للسلفي أنه ولد المتوكل، وأنه سيصل إليه، وأنه يتأهب[79/ب] له، وعلامته أعلاه بخط الفقيه، فأما هو فلا يقرأ. فلما وصل إلى عند السلفي أخبر بمثل ذلك، وكان عند السلفي رجل وصل من المدينة المشرفة يعرفه، فقال له: أليس أنت الذي كنت في المدينة المشرفة؟ واسمك هناك إبراهيم، وكنت من أهل السوق هنالك والخدمة بأعمال الشربة والطعام، وأنت الذي كنت تصل إليَّ وأنا في المدينة بالشربة، فكيف قلبت اسمك أحمد بن المتوكل؟ فسكت ولم يدر ما يجيب عليه، فأمر السلفي بحبسه وحُبس بقيد في حبسه، فهذا من العجائب، وأدب السلفي الذين صدقوه في دعواه وكذلك الفقيه الكاتب له.
وبعد عزم حسين بن أحمد بن الحسن من يريم أمر المؤيد مكاتبة يحيى بن محمد أنه ينتقل من رداع إليه بأصحابه، فسار إليه، ومن العجائب أن جميع خلل اليمن الأسفل هذا وهذه الفتن صاحب المنصورة وحسين بن حسن هم الذين أثاروها، وباينوا محمد بن المتوكل، ولم يسيروا في أوامره، ثم لما اضطروا إليه رجعوا إلى طلب معونته، فأعانهم والله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ} .
مع أنهم فيما يريد منهم[80/أ] غير منقادين له، فالعجب من هذا التسخير! وما هو إلا لحكمة من الله، وإلا فكان الواجب عليه على مقتضى الطريق الشرعي أن يقول لهم: أنتم ما أجبتموني في أوامري، فلا أعينكم في شيء بل بينكم وبينهم، وهم يدعون عليكم ما يدعونه من الجور في السيرة، إلا أن ترتفعوا عن بلادهم وتزال جميع هذه الزوائد من المطالب، أو جعل واسطة بينهم وبينكم وليقبض ما رسمناه ويصل إليكم أعنَّاكم، وإلا فلا.
وفي شهر رجب وصل الخبر بأن جبل صبر استمكل خلافه مع الحجرية، وبلغ الخلاف إلى قاهرة تعز، فتحرك أحمد بن المؤيد من قدس إلى الزيلعي وبلاد يفرس، وجهز عيال أخيه إبراهيم بن حسين وعلي بن قاسم إلى حدود جبل حبشي، فوقع الحرب بعد أن كان أظهروا المواجهة. فلما اتفقوا حصل ما حصل من الحرب وراح من القبائل كثير ومن أصحاب الدولة نحو العشرة من غير المصاويب. وأصدق في القتال عبد الله بن أحمد أبو طالب، وباشر القتال وقتل منهم ودفعت فيه بنادقهم ومن بحضرته، فراح جماعة ووقعت رصاصة فيما بين حزامه وبطنه وحماه أجله. ووقع بعض الرصاص في بعض الخيل الذي معه فهلكت، وكان قد أخرج أهل جبل صبر واليهم الفقيه على السبارات، وهرب إلى تعز، واستولوا على خزائنه وما جمعه بعد حرب جرى بينهم، وقتل من الجانبين. ولما بلغ أهل جبل صبر نزول حسين بن أحمد بن الحسن من يريم للغارة واجهوا، وبلغ حسين بن أحمد بن الحسن إلى ذي أشرق ثم نزل إلى الزيلعي.
وفي غرة شهر شعبان بلغ الخبر أن حسن بن المتوكل خرج[80/ب] من اللحية إلى بيت الفقيه ثم إلى زبيد.
وفي ثالث شهر جمادى الأخرى مات القاضي العلامة: مهدي بن عبد الهادي الملقب الحسوسة الثلائي، وهو الحاكم بثلاء من مدة المؤيد بالله محمد بن القاسم، ثم دولة المتوكل إلى آخرها، ثم دولة أحمد بن الحسن إلى هذا التأريخ، وكان عارفاً بعلم الكلام على رأي المعتزلة، أخذ على والده فيه، وكان معه بثلاء في بيته ووطنه، رحمه الله.
وسلطان سمرقند الخارج في البحر لما وصل إلى مرسى المخا أرسل إلى السيد حسن الجرموزي متولي المخا بقدر ألف حرف ذهب، واستأذنه في الدخول إلى البندر، فأذن له، لكن يدخل بقدر مائة نفر، ويبقى أصحابه في المرسى، فدخل المذكور بمائة نفر بقي فيه نحو شهر ثم سافر بحراً إلى بلاده. وكان خروجه للحج براً من بلاد الشام ثم العراق، وحصل بينه وبين قبائل الحجاز حرب قتل منهم نحو الخمسين حال خروجه لما طالبوه في المجبى، فامتنع عن تسليمه، وكان سبب القتال بينه وبينهم.
[81/أ] وفي هذه الأيام بآخر شهر رجب منها أرسل علي بن المتوكل رسولاً إلى بلاد يافع وهو السيد قاسم بن أحمد بن لقمان بكتاب ووصاية، مضمونه: استدعاء تمام وعد الشيخ معوضة بن محمد بن معوضة العفيف بالوصول. فلما وصل السيد المذكور إلى الشيخ معوضة اليافعي أجاب بأن حقيقة القول الذي هو باني عليه، وتقديم تقريره قبل النزول إليه ترك بلاد يافع أجمع، وأنها تكون إليه وإلى من فيها من العقال بنظره، والواجبات مسلمة والخطبة والسكة للمؤيد ماضية، ولا سبيل إلى ولاية أحد، وكتب كتاباً إلى علي بن المتوكل بذلك، وأرسل الشيخ عبد الغفور بن شيبان الصوفي بذلك، فدخل علي بن المتوكل في ذلك، وبلغ شيبان إلى حضرة المؤيد بتقريره.
وفي هذه الأيام شهر شعبان وصل كثير من التجار الذين نزلوا من صنعاء أنهم لما بلغوا تعز تحققوا الأخبار من الحجرية والطريق فوافقوها مختلة، وأنهم يخشون على أموالهم وأنفسهم، فتحيروا هنالك. وأصحاب أحمد بن المؤيد سار كثير منهم ومرض من مرض منهم لما دخلوا الدمنة، لضعف هواها ووباها، وصادفوا أول أمطار الخريف في أوديتها.
وفي شهر شعبان كان وصل السيد صلاح بن إبراهيم المؤيدي، من السادة آل المؤيد الذي ببلاد صعدة[81/ب] إلى حضرة حسن بن المتوكل صاحب اللحية هو وجماعة معه من طريق حيدان للطلب من الدولة، فلما قضى غرضه حسن بن المتوكل وأعطاه ما سمح به من عطاه عزم من عنده قاصداً للمرور على دولة اليمن الأسفل، ثم يطلع إلى حضرة المؤيد من تلك الجهة، فلما بلغ إلى أسفل العدين صالت عليه القبائل من المعادية، فاستأصلوهم ونهبوهم وقتلوهم عن آخرهم وحزوا بعض رؤوسهم، وأظهروا الخلاف على الدولة، والامتناع من التسليم للمطالب لما قد نالهم من الجور في المدة الماضية من دولة المتوكل وما بعدها، وعدم إنصافهم في شكواهم على المتوكل من أجلها، فصبروا ذلك الزمان لغلبة الدولة واجتماع الكلمة. فلما كان هذا الوقت ورأوا الدولة تفرقت آراؤها واختلفت أنظارها خالفوا، واتفق ذلك حال إرادتهم للخلاف وحصل خلاف العدين هذه المدة، فقيل: إنهم ظنوهم من أصحاب الدولة، فحصل ما حصل فيهم. فلما وصل الخبر إلى عبد الله بن يحيى الأحول جهز عليهم الفقيه علي العلفي وجماعة عسكر من أصحابه، فقابلوهم بالقتال، فقتلوا الفقيه علي العلفي وجماعة معه من أصحابه نحو عشرة وهرب الباقون، وعبد الله بن يحيى هاب جنابهم، فتركهم ولم يطالبهم، وتغلبوا على بلادهم وهو في رأس العدين يترقب.
وفي النصف[82/أ] الآخر من شهر شعبان بعد وصول التجار إلى تعز تحيروا فيه وبلغهم ما في الطريق بوادي الغيل ببلاد القَمَاعِرة من الحجرية من الأمور الذي يتعذر معها المرور. وكان قد استقر أحمد بن المؤيد وحسين بن المهدي بالزيلعي، فخرجت رسلهم إليهم، فأمروا معهم جماعة من العسكر الذين معهم، وأنهم يصحبوهم إلى المخا، فساروا معهم إلى بلاد شرعب، ولعل وصولهم يصادف حركة الهند بالعود بلادهم؛ لأن الوقت قد تضيق عليهم.
وفي هذه السنة شهر جمادى الأولى خرج من مكة رجل يقول إنه السيد محمد من ذرية السيد عبد القادر الجيلاني ، وله في العلم معرفة، قال: إنه أخذ على محمد بن سليمان بمكة، ومذهبه مالكي كمذهب شيخه محمد بن سليمان، وقال: أن أصل بلده من حماة بالشام، وقيل: وهو يريد الخروج إلى الهند، وقيل: بل إلى اليمن. ورجع بلاده ومعه تأريخ في مجلد تتمة لتاريخ ابن خلكان على ما ذكر مصنفه حيث قال في ترجمة كتابه هذا: ولما وقفت على كتاب وفيات الأعيان لقاضي القضاة ابن خلكان وجدته من أحسنها وضعاً، لما اشتمل عليه من الفوائد الغزيرة والمحاسن الكبيرة، غير أنه لم يذكر أحداً من الخلفاء، ورأيته قد أخل بتراجم بعض فضلاء زمانه، وجماعة ممن تقدم على أوانه، فأحببت أن [82/ب]أجمع كتاباً يتضمن ذكر من لم يذكره من الأئمة الخلفاء، والسادة الفضلاء، وأذيل من وفاته إلى الآن، وسميته بوفاة الوفيات ، ورتبه على الحروف كأصله، غير أنه لم يذكر ضبط الأسماء، كما هو شأن ابن خلكان. وقاعدة الذيل أن يقْفوا طريق الأصل، مع أن ابن خلكان إنما ذكر الأعيان، فلم يترك من أغفله إلا عن قصد منه وعيان، مع أن هذا الكتاب قد يذكر فيه من قد ذكره ابن خلكان مثل إبراهيم بن إسحاق الحربي فإنه مذكور في تأريخ ابن خلكان، ثم الخلفاء والسلاطين لم يغفلهم ابن خلكان كلهم بل ذكر بعضهم دون بعض؛ لأجل شرطه الذي ذكره أنه يذكر الأعيان والملوك الكبار دون غيرهم على أن الخلفاء لهم تواريخ مفردة، لا حاجة إلى ذكرهم، ولذلك لم يذكر ابن خلكان أحداً من الصحابة والتابعين لظهور أحوالهم وتواريخهم. وصاحب هذا التأريخ صلاح الدين محمد بن شاكر بن أحمد الشافعي رحمه الله، وذكر فيه ترجمة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وسائر تراجمه في تواريخ الذهبي والطبقات موجودة معروفة، وكذا في طبقات الحفاظ، مع أن المذكور متعصب في تركه لكثير من الأعيان
أيضاً ممن تأخر عن ابن خلكان لم يذكروا،[83/أ] وليس أوفى من تواريخ الذهبي وتواريخ المذيلين عليه كابن حجر العسقلاني في كتابه (الدر الكامنة في المائة الثامنة) في مجلدين، وكتاب (الضوء اللامع في القرن التاسع) للسخاوي في أربعة مجلدة، وكتابه الآخر (الوجيز) في مجلد، فإنهم الذين استوفوا من بعد التواريخ السابقة من علماء وملوك وخلفاء ما لم يستوف غيرهم. وأما تواريخ السيوطي في الخلفاء فهو مجحف في الاختصار، وإن كان قد استوفى الخلفاء، وكذلك كتابه (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) كتاب صغير مجحف اختصره من كتاب ابن أبي حجلة المسمى سكردان في أخبار مصر وملوكه من بني قلاوون الأتراك، الذين قبل الشراكسة وبعد بني أيوب، وتعرض لأطراف أُخر من عجائب مصر فهو يغني عن كتاب السيوطي؛ لأنهما في حجم واحد يأتي كل منهما في ثمان كراريس.
وفي هذه المدة بنصف شعبان وصل جماعة من مشائخ يافع إلى قعطبة حضرة علي بن المتوكل حسبما راسلهم وواجهوه بعد تقرير الشروط التي شرطوها أن لا أحد يدخل بلادهم على ما كان شرطوه أولاً، فتم ذلك بينهم. وعند ذلك سار علي بن المتوكل إلى إب وتخلص عن قعطبة بذلك. وأما ابن العفيف بنفسه فما وصل[83/ب]، وكان تقرير الصلح بعناية علي بن المتوكل لما طال عليه البقاء في قعطبة، فبذل بعض شيء من المال لذلك. ووصل من عند ابن العفيف الشيخ عبد الغفور بن شيبان لتمام الشروط من المؤيد، فوصل إلى ضوران وتمت الشروط بأن البلاد لابن العفيف وهو يسلم من الواجبات ما أمكن فتم ذلك، وعلي بن المتوكل عند ذلك نزل إلى بلاده إب وجبلة بعد أن مَلَّ من البقاء في قعطبة، فلما نزل إلى إب وجبلة وتم صلح بلاد يافع سكنت بلاد الحجرية عن إثارة الفتنة، ووصل من مشائخهم من وصل إلى حضرة أحمد بن المؤيد، وسكنت الأمور.
[84/أ] ولما اتفق محمد بن أحمد بن الحسن بصنوه حسين في الزيلعي تقسموا البلاد، فجعلوا لإسحاق بن أحمد بن الحسن مدينة زبيد وبلادها، وجعلوا لمحمد صاحب المنصورة الدمنة مع بلاده الأولة، وجعلوا لإبراهيم بن أحمد بن الحسن بلاد أبين وما إليه، وسائر بلاد والدهم لحسين بن أحمد بن الحسن، وتقسموها بينهم هكذا، وكل رضي بما معه.
قال الراوي: والبلاد في حكم المخالفة إنما سكنوا هذه المدة لما بلغهم الصلح بين علي بن المتوكل والمشرق، ورجوعه إلى إب وجبلة. وأحمد بن المؤيد لقد أصلح الحجرية ونَفَّس على محمد بن أحمد بن الحسن، وقبض مشائخ جبل حبشي من قبض، ومن سائر الحجرية فرقهم، فبعضهم أرسل به إلى ضوران وبعضهم إلى المنصورة.
قال الراوي: وما صلح المشرق إلا ببذل من علي بن المتوكل ووسائط في الصلح وتقرير القول وضمانات عليهم في صلاح الطرق وسكون ثائرة الفتنة. وشرطت يافع أنه لا يدخل بلادهم أحد، بل يسلمون من الواجبات، ويرسلون بذلك من غير ولاة عليهم ولا واسطة.
قال الراوي: ثم رجع أحمد بن المؤيد إلى تعز وفي نيته الرجوع والطلوع، وكذلك حسين بن أحمد بن الحسن رجع إلى تعز، ومحمد رجع المنصورة هذا تحقيق خبرهم.
[84/ب] وفي هذا التأريخ خرج من رداع حسين بن محمد أبو طالب إلى ذمار، وكذلك صاحب كوكبان بعد تمام الصلح للمشرق.
فانظر أيها الحليم كيف دولة اليمن ما قدروا يحفظوا ويصلحوا ويملكوا ما هو تحت أيديهم من اليمن، وكيف قاموا عليهم وأرادوا التغلب وقد فعلوا، فإن يافع تغلبوا على بلادهم وحاربوا وقاتلوا وهزموا، فكيف يقدر أن يملك صاحب اليمن غيره من الجهات النائية كما كان نوى ذلك المتوكل والمهدي، هذا من المحال على كل حال.
وفي عاشر شهر رمضان وصل الخبر أن إبراهيم بن أحمد بن الحسن طلع بعد الاجتماع في الزيلعي إلى يريم، ومعه جماعة عسكر قدر أربعمائة نفر، وسكن فيه مريداً الاستقرار فيه. وكان قد وضع له المؤيد لما سكنه وأراد التغلب عليه الثلث، ولعله مع استقراره فيه تبسَّط على جميعه. وبلغ الخبر أن اجتماعهم في الزيلعي انطوى مع تقاسمهم البلاد على تحالف بينهم أنهم يد واحدة على من خالفهم، وظهر أنه إن أمكنهم التغلب على اليمن كانوا يداً واحدة وجعلوا رئيسهم صاحب المنصورة. وحسين بن أحمد بن الحسن استقر في تعز وقبض مفاتيح المخازين من ابن راجح ، وتصرف في الطعامات وغيرها. والمؤيد عند ذلك عجب من هذا الأمر منهم، وبقي حائراً من عملهم، وكيف تعقب الإحسان؟ منه بالمعاونة بفكه من الحصار إرادة الخلاف والإستقلال؟
واتفق في هذه الأيام بأول رمضان أنه كان وصل من وصاب شكاة يطلبون التخفيف عليهم من المطالب الجائرة، وأنه ما جرى منهم ما جرى من المنع للوالي من التسليم إلا ذلك، فأجاب حسين بن أحمد بن الحسن أنه لا يرفع شيئاً في بلاد أحمد بن الحسن، فلما وصلوا بلادهم امتنعوا من التسليم إلى العامل عندهم، وأهل العدين طردوا المُثَمرِّين وانتهبوهم.
[85/أ] وفي نصف رمضان لما وصل أحمد بن المؤيد إليه استقر فيه باقي رمضان، وسار من أصحابه أكثرهم ممن بقي بعد، وإلا فكان طلع كثير منهم قبل طلوعه، وفيهم أمراض كثير، ومات من مات بالدمنة، لأنها بلاد وبيئة.
قيل: وربما دفن فيها القبائل السمن بين التراب، وهو يحصل منه ما يحصل وكان صاحب المنصورة قد فرق آداب على بلاد الحجرية، فلما علموا بأن أحمد بن المؤيد قد طلع وعاد وخرج من تعز امتنعوا من تسليم الآداب وأرجعوا الرسل الذين من بلادهم، وقالوا: لا نسلم إلى صاحب المنصورة، وإنما نسلم الواجب إلى من نظره المؤيد، وقالوا قد بعض المشائخ من بعض بلاد الحجرية طلعوا صحبة أحمد بن المؤيد فالجواب معهم. وامتنعت الحجرية أجمع عن الدفع إلى صاحب المنصورة، مع أن أحمد بن المؤيد إنما استطرق بعض تلك البلاد المخالفة، فأما جبالها العالية مثل جبل الزعازيز وغيره فلم يتمكن من دخوله، لعسرة طريقه، وغيره من سائر القلاع التي في جبل حبشي منعوا أنفسهم بها وحاربوا فيها. وابن المؤيد لما طال عليه الأمر واستشق البلاد وعرف أحوال صاحب المنصورة وعدم انقياده واختلاف أنظاره لم يسعه إلا العود، فإنه كان صحبته من المؤيد محمد بن المتوكل كتاباً إلى صاحب المنصورة مضمونه[85/ب] أنه لا يقدم إلى شيء من الآداب لأهل الحجرية، بل يتوقف حتى يستكشف عملهم، فلم يسعد إلى ذلك وجرى بينه وبين أحمد بن المؤيد كلام في ذلك كان من جملة الموجبات لعوده وتركه، مع أنه ما نَفَّس عليه من الحصار إلا هو. وكان أيضاً اجتماعه في الزيلعي وإخوته بغير حضوره.
وفي خلال ذلك عقب طلوع أحمد بن المؤيد إلى اليمن الأعلى من سمارة غزا أهل العدين وما يتصل به من القبائل إلى وصاب سوق الجَبْجَب في بلاد حبيش وكذلك ظلمة التي غربي إب فوق العدين مما يلي الشمال، وخالفت وصاب لاتصال هذه البلاد به كبني مهدي وغيره.
وحصل أيضاً في هذا التأريخ بنصف رمضان خلاف شرعب وأخرجوا جميع من عندهم من العسكر، وتحالفوا على أنهم لا يسلمون شيئاً، وإن كان كل يمر من أصحاب الدولة في جهتهم فهو هدر. وخرج السيد صلاح الديلمي بجماعة عسكر من قبل حسين بن أحمد بن الحسن إلى بلاد شرعب، فمنعوه عن دخول بلادهم، ثم وقع بينه وبينهم حرب فقتل من الجانبين وأخرجوه من بلادهم مكسوراً، وقتل من أعيان أصحابه من أشراف الجوف.
والتجار الذين نزلوا المخا قالوا كل من كان تاجراً ولم يكن من أصحاب الدولة فلا يعترض، ومن كان من أصحاب الدولة انتهب.
وفي شهر رمضان حصلت زلزلة في بلاد كحلان وما يتصل به، فالقدرة لله تعالى.
[86/أ] قال الراوي: وهما زلزلتان أحدهما يوم الأحد ضحوة النهار، والأخرى يوم الثلاثاء نصف رمضان وقت العصر، فتسلخ بعض الجبال في بلاد كحلان وعفار، وخربت بيوت في بلاد قراضة، فالقدرة لله على ما يشاء، وكان حدها إلى بلاد ثلاء، ولم يقع شيء منها في بلاد صنعاء ولا غيرها من سائر اليمن.
وفي هذه الأيام انتهب سوق الضامر من مساقط بلاد حراز أطراف الحقار، غزوه جماعة من المعازبة ، وحسن بن المتوكل دخل زبيد لتسكين ثائرة الخلاف.
وفي هذه الأيام جاء خبر أن عبيدة بنواحي بلاد شام صعدة تحاربوا هم وقبائل بلاد الدرب ، ما بين الحرجة وبني ذهبان شهران، فهزمت عبيدة أهل الدرب وخربوا الدرب. وهذه القبائل بين الدولتين دولة صاحب اليمن وصاحب مكة، والسلطان ابن عثمان لا دولة عليهم على مرور الزمان.
وفي شهر شوال وصل الخبر بموت الملك عبد العزيز سلطان سمرقند وبخارى ببندر المخا، وهو الذي حج العام الماضي إلى بيت الله الحرام، كما سبق ذكره، وخرج راجعاً بلاده من طريق البحر، فلما وصل قريب المخا دخله واستقر فيه حتى سبر البحر الشرقي للمراكب، فسبق أجله فيه، وقد كان كبير السن له مدة في السلطنة لبلاد سمرقند وبخارى[86/ب]، حنفياً له سيرة مليحة في المسلمين، رحمه الله تعالى.
وفي هذه الأيام ما زال المؤيد يسعى في رفع المجاب من الطرق والأسواق، فرفع الأكثر منها، ورفع كثيراً من المطالب الزائدة فما قصر، ودعت له الرعية خصوصاً في بلاده ومن أطاعه من غيرها، وأما صاحب المنصورة فما عذر أهل بلاده.
وفي هذه الأيام ذكر لي الشيخ حسن بن أحمد المصري لما وصل من مكة المشرفة إلى اليمن، فقال المذكور: إنه كان في العام الماضي بمكة فأشار جماعة إلى شريف بأنه المهدي المنتظر قال: فأنكر ذلك الشريف قولهم.
قال الشيخ هذا: فقلت لهم المشهور أن المهدي إنما يكون سنه في أربعين سنة وهذا الذي أشرتم إليه في الستين السنة، قال فانصرفوا وتركوه، ولا شك أن المهدي متأخر زمانه عن هذا الوقت بكثير كما قضت به الملاحم المنسوبة إلى علي كالقطعانية وغيرها. وسألته عن الشريف سعد بن زيد المكي وكيف ترك عقوبته السلطان محمد؟ فقال: السلطان محمد له محبة لأهل البيت كائناً من كان، فإذا صدرت من أحد هفوة صفح عنها بجهده وعفا، وكان السلطان ولاه أطراف البدو بالشام ثم عزله وطلبه، وهو الآن عنده.
وفي غرة شوال غزا معوضة بن محمد[87/أ] بن معوضة اليافعي البيضاء من بلاد الرصاص، فحاصرهم فيها واحتازوا في البيوت، ثم اصطلحوا.
قال الراوي: وسببه على طلب مجبا على بعض أهل بلاده في سوق البيضاء.
ووصل في نصف شوال جماعة من مشائخ بلاد يافع يذكرون أنهم مُسَلِّمون ما عليهم من الواجبات بغير واسطة ابن العفيف، فأجابهم المؤيد إلى ذلك وكساهم، وكانت طريقهم بلاد يريم، ولم يصلوا إلى حسين بن حسن.
وفي نصف شهر القعدة خرج السيد صالح بن عبد الله حيدرة الغرباني من وصاب، أخرجه أهل البلاد وقالوا ما يسلموا إلا الواجبات حسبما وضع لهم المؤيد، بعد أن حسبت المطالب في وصاب سبعين مطلبة، وإبراهيم بن المهدي وصل إلى ضوران بطلاب وصل له من يريم.
وفي هذا الشهر لما تفاقم على صاحب المنصورة الأمر، وعرف ما جرى معه من خلاف الحجرية، وأنه لا ينفعه إلا تأليف الشيخ ابن مغلس صهره ليكون يداً له وعوناً على سائر قبائل الحجرية وغيرها، فطلبه وأحسن إليه بالمال، وأمر بعمارة بيته الذي كان خربه أحمد بن المؤيد، واستجاش به على جبل حبشي فأجاشه فاستفتحوه ونهبوه.
وفي شهر القعدة كتب عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن[87/ب] إلى صاحب المنصورة وصنوه حسين بالغارة عليه، فإن أهل العدين منعوه من تسليم المطالب، فأرسل حسين بن أحمد بن الحسن من محروس تعز صنوه إسحاق في جماعة عسكر، فلما وصلوا إلى العدين وقع الحرب بينهم وبينهم، فراح قتول وجنايات واهتزمت القبائل.
وفي هذه الأيام لما وصل حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم من رداع وضوران إلى دياره بالروضة تقدم إلى عمران للسكون فيه. وكان قد أرسل لعلف من المَعْمَر في بلاد همدان، فمنعوه، فأراد تأديبهم فلم يمتثلوه، وشرع يحصل بينهم ما يحصل، فتركهم، وقالوا البلاد لغيره ولا ولاية عليهم له، وقالوا له إما صافيكم فأهلاً وسهلاً دون حمل علف على الجمال.
وفي هذه الأيام وصل إلى المؤيد من زبيد جماعة شكاة من صنوه حسن بن المتوكل أن أصحابه وعساكره ضروهم واستهلكوا أموالهم وسكنوا في بيوتهم، وأن قد شد منها بعضهم وخرجوا عنها بأهلهم.
وفي هذه الأيام وقع في بلاد خولان فتنة عظيمة فيما بينهم، وذلك أنهم افترقوا طائفتين، الأحلاف والجهوز ، ودارت بينهم المعارك والحرب يوماً بعد يوم، فتنة عظيمة.
[88/أ] قال الراوي: ممن حضر الفتنة الواقعة بين خولان في بلاد صعدة أنها ثارت ما بين خولان أنفسهم الجهوز والأحلاف، فصالوا على بعضهم البعض واقتتلوا قتالاً قبيحاً، وأبلى كل منهم جهده الواسع وألقوا أنفسهم للتهكلة للهلاك، وصبوا على بعضهم البعض البنادق في المعركة، فراح منهم عالم كثير نحو المائة. وزادهم ذلك القتال غلظة أنهم كانوا يهتكون بيوت بعضهم البعض بالنهب وكشف الحريم والخراب والغيار في الأبنان والأشجار، وفعلوا من الظلم العظيم لبعضهم البعض ما لا مزيد عليه، وظهر على كثير منهم الفقر وذهاب المال، وبقي الدولة الذين غاروا من صعدة متفرجين عليهم من جبل هنالك لا يمكنهم التأثير ولا الكف عن هذه الأفاعيل، بل زاد نالتهم في الليل إلى محلهم المراجيم.
قال: ولا شك أن هذه عقوبة قد استحقوها فيما مضى، وما سكنوا إلا لما مَلِّوا وشبعوا، حتى أن مشائخهم لما رأوا ما جرى ولم يبق لكلامهم عند أصحابهم تأثير في الكف عما قد وقع وجرى، وإن كانوا أولاً من المشاركين في إثارة الفتنة[88/ب] قبل ما شاهدوه من المحنة ألقوا بأنفسهم بين يدي صاحب صعدة، وقالوا: يدخلهم الزناجير بذنوبهم، وما قد حصل منهم من المشاركة في ابتداء فتنتهم، وعسى يكتف أصحابهم.
قال فعذرهم وقال: الفتنة قد عمتكم، وقد أصابكم من العقوبة بأيديكم ما يغنيكم، إلا أنه قال بعد أن حضر الحاضر من سادة بني المؤيد وغيرهم في الصلح: لا بأس بما ترونه من العسكر يكون بسببهم بعض التسكين وربط جأشكم، لما حاق عليهم الأمر بتبعته.
قال: فانعقد الصلح فيما بينهم ذمة مدة معلومة، وسكنوهم بشرذمة من العسكر قليلة، ثم عاد علي بن أحمد إلى صعدة.
وفي شهر الحجة قبيل العيد ترجح لسيد يقال له: أحمد بن حسين الأخفش ادعى أنه إمام، وهو في كوكبان وشبام، وكان جارودياً رافضياً في الاعتقاد، يتحمل على الصحابة رضي الله عنهم، وفي غيرهم من المسلمين يمد لسانه، ويزكي نفسه، ويتخيل أن الحق ليس مع أحد إلا معه، مثل الأعرابي الذي بال في المسجد، فزجره أصحاب النبي÷ فقال÷: ((دعوه لا تقطعوا درته وصبوا عليه ذنوباً من ماء)) فلما أكمل حاجته قال: اللهم ارحمني[89/أ] ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فقال له النبي÷: ((لقد تحجرت واسعاً )) .
وخطب خطبة بعد صلاة الجمعة بالجامع وذكر فيها ما ينبي عن اعتقاده الردي، حتى ذكر أنه يوحى إليه بالوحي وأن الله قد أوحى إلى النحل، فبالأولى هو، فلما ظهر للأمير عبد القادر ما تفوَّه به من القول الفظيع وادعاءه للوحي الذي للنبي، أمر بأن يقيد بقيد حديد في بيت والده، فقيد أياماً ثم فك القيد عنه بشفاعة والده، ولا يخرج عنه إلى غير يده، وأمر بأن حبسه بيته، فانتظم المذكور في الثلاثين الدجال الذي وعد سيدنا رسول الله÷ بظهورهم بعده، وبعضهم قد مضى في زمنه÷ كمسيلمة والأسود : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} ، وفي الجامع الكبير للسيوطي من طريق ثوبان قال قال رسول الله÷: ((إنه سيكون في أمتي ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيبن)) ، أخرجه الترمذي، وأحاديث أُخر.
وردَّ هذا السيد المذكور جميع السنة، وقال: أنه لا يحتج إلابالقرآن كدين الخوارج. واقترن به رجل آخر[89/ب] في بلاد موزع عمر مسجداً، وقال للناس أنه الكعبة، وأظهر له مخاريق من أعمال السحرة، فقصده صاحب المخا، فرق جمعه ومزقهم، وعجائب اتفقت هذه المدة وسببها ضغف يد هذه الدولة.
وفي هذا الشهر خرج حسن بن المتوكل من زبيد إلى بيت الفقيه وبقي بعده جماعة من أصحابه، ورئيسهم النقيب عثمان زيد.
وفي هذه الأيام بعد أن دخل إسحاق بن أحمد بن الحسن طلع إلى جبل وصاب، واستقر فيه وتصرف في تلك البلاد، وقتل بعض مشائخها، فلا قوة إلا بالله.
وفي هذه الأيام خرج شرح إلى اليمن على الجامع الكبير للسيوطي الذي في الحديث في أربعة مجلدة، صنفه بعض العلماء المتأخرين في تلك الديار، وخرج أيضاً معه شرح على المواهب اللدنية في السيرة النبوية.
وفي هذه الأيام قصد عبد الله بن يحيى صاحب العدين إلى بعض جهات العدين من المخالفين عليه، فالتقوهم بالحرب، فوقعت الهزيمة في أصحاب عبد الله بن يحيى وقتل جماعة منهم.
وفي هذه الأيام بآخر شهر القعدة رفعت الضريبة من عند علي بن المتوكل، بعد أن أرسل صنوه إليه القاضي جباري، فنزل الصرف إلى ستة حروف، ثم عادت بعد شهرين فرجع الصرف إلى سبعة ثم إلى ثمانية، فسار تجار صنعاء إلى حضرة المؤيد يشكون ومعهم خطوط من القضاة وغيرهم من أجلها؛ لأنها ما زالت تصغر كل شهر ضريبة، فحصل التضرر من جهة مسارقتها لم يستقر على حالة واحدة، لكنه حصل لطف للرعايا.
ودخلت سنة خمس وتسعين وألف
في رابع شهر محرم وصلت أخبار مكة مع أول الحاج، فقالوا فيها: إن الحج كان صالحاً إلا أن الأسعار مرتفعة، بلغت الكيلة إلى أربعة وعشرين بقشة مصرية، وهي في زمان الخير ما تزيد على ثلاثة كبار أو أربعة كبار، وأن صرف القرش بمكة بثلاثة أحرف ونصف مصرية، زاد الصرف فيها، لكثرة القصر فيها وإن كان صرف القرش بدراهم مصر الأصلية أقل من ذلك، قال الحجاج: وسبب الغلاء القحط ببلاد الحجاز ومكة وغلاء العلف.
قالوا: وخرج أمير الحاج المصري والعراقي والشامي على العادة، وكان أمير المصري الباشا صالح، وخيله قدر سبعمائة من غير العسكر.
قال: وكان بين سعيد بن بركات صاحب الولاية بمكة وبين الشريف أحمد بن غالب مراكزة، وأنه مال إلى أحمد بن غالب جماعة من الأشراف، وأنه مريد للمنازعة في المملكة لمكة، وأنه والأشراف الذين مالوا معه كتبوا إلى السلطان بأنه الذي يصلح للولاية، والشريف سعيد بن بركات قد كان أعطاه ومن معه ربع متحصل البلاد تسكيناً لهم، فسكنوا.
وفي هذه الأيام صالت قبائل مشارق الجوف على معين أطرف بلد في الجوف الأسفل، فانتهبوا منه بعض شيء واستعان[90/ب] الشريف الشيخ الجوفي بقبائل سفيان عليهم، يحدوه، وأغاروا إلى تلك البلاد، واستنصفوا منهم، ثم أن الشيخ الجوفي صال على صافية المهدي أحمد بن الحسن، فنزل عليه محسن بن المهدي من الغراس بمن عنده من العسكر فقبض عليه وأطلعه إلى الغراس تحت الترسيم.
وفي نصف شهر محرم وصل الخبر بأن صاحب المنصورة جهز ولده عبد الله، إلى زبيد وأنه دخلها، فلم يقابله أحد من الرتبة الذين فيها بقتال صوباً ومعقولاً، بل خرج بعضهم قبيل الدخول وبعضهم بقي هنالك، واستولى على زبيد، وكتب إلى المؤيد ووالده أن البلاد إلينا بالوضع منكم والإشهاد ولا خلاف بيننا، وعند ذلك أرسل المؤيد من ضوران إبراهيم بن المهدي إلى تلك الجهة، فسار إلى هنالك واستقر في بيت الفقيه ابن عجيل، وقيل: في غيره.
وفي هذه السنة كان خرج في الموسم الماضي خواجا من الهند يقال له: الشيخ محمد بن أحمد الأشتر، وطلع إلى ضوران حضرة المؤيد بعد بيع ما معه من البز بالمخا وما معه من الدراهم من أعواضها ومن الذهب غيرها، واشترى من الخيل ما طابقه، ولكنه لم يثمن كغيره ممن مضى، بل زيادة قليلة على ثمن اليمن بنحو الربع، وعرض عليه من الكتب بعض شيء، اشترى ما طابقه مثل: نجم الدين الرضي ، وتفسير الشيرازي ، والكشاف من صنعاء وغيرها من اليمن الأسفل، [91/أ]وقال: إن سكونه في بندر سرات، وأن سلطان الهند أو قنقريب باقي على السلطنة، وإنما خالف عليه بعض ولده، واستعان بالرازبوت والأمر مستقر لولده. وكان هذا الشيخ الأشتر رافضي العقيدة إمامي إثني عشري، وقال: إن أصله من الجزيرة بالعراق، وأنه من ولد الأشتر الذي كان من أنصار علي، وإنما هو برأسه في سرات والهند للبيع والشراء. ولما وافقني ذكرت له الإشكال على الإمامية في رجوعهم في تقرير بعض المسائل إلى الاجتهاد، مع أن أصولهم تقضي بأن أحكامهم لا تؤخذ إلا من المعصوم عندهم كصاحب التحرير في فقههم، ذكر ذلك في مسائل وغيرهم منهم، وقال: إن من علمائهم من يكون يلقى إلى قلبه الحكم في المسألة ولكن هذا الجنس قليل أعز من الكبريت الأحمر، وتعجب أيها المنصف من هذا! فإن هذا الذي زعمه إن كان من الإلهام فلا يختص به الإمامية على بدعتهم بل غيرهم أحق بالإلهام منهم، وإن كان من الاجتهاد فهو ثابت عند غيرهم لا عندهم.
[91/ب] وفي هذه الأيام تجدد التغير في أطراف بلاد الحجرية على محمد بن أحمد بن الحسن صاحب المنصورة، وتغلبوا على بلادهم، فجهز إليهم ولده إسماعيل بجماعة من العسكر على جهة المغزى لهم، واستقر بحيس.
وفي سلخ ربيع الآخر منها مات حسين بن أحمد بن الحسن بمدينة تعز.
كان باقياً فيها من حال عوده من المشرق وبعد اجتماعه هو وصنوه محمد كما سبق ذكره، وتعاقد هو وإياه على اجتماع الكلمة فيما بينهم وحفظ بلادهم.
وكان قد لهم نية في المفاتحة للتغلب على بلاد علي بن المتوكل على ما روي وإثارة الفتنة، فلله الأمر، والله ألطف بعباده، فإنها لو ثارت فتنة فيما بينهم كانت مفسدة عظيمة، ودالة على المسلمين وخيمة، والله يصلح العباد والبلاد.
وكان ابن المتوكل شحن حصن جبل حَبّ وشد بعض أهله إليه للتحفظ، فلما حدث هذا طفت تلك الأمور، وكان قبر الحسين بن المهدي جنب الإمام إبراهيم بن تاج الدين ، الذي خارج تعز بالأجناد.
وفي خامس ربيع الثاني كان وقت تحويل سنة العام بدخول الشمس أول درجة برج الحمل والزهرة، والشمس وعطارد والمريخ في برج الحمل، بعد أن وقع قران المريخ والزهرة في آخر الشهر الماضي في برج الحمل، لكن القران قبل دخول الشمس برج الحمل، وزحل في آخر برج الأسد، والمشتري في السنبلة، والقمر في الثور، والذنب في الجدي، والله أعلم.
[92/أ] وفي آخر ربيع الثاني وصل جماعة من مشائخ يافع من أقارب ابن العفيف إلى حضرة محمد بن المهدي صاحب منصورة الدملوة، وكان وصولهم تعزية في صنوه حسين.
وفي هذه الأيام التقى صاحب المنصورة وصاحب جبلة علي بن المتوكل إلى حدود بلاد الدمنة بعد أن أرسل إليه بتعزية في صنوه من الغنم وغير ذلك، وتلاقوا هنالك، وطابت نفوسهما، واعتذر كل منهما فيما قد جرى بينهما من الحرب السابق الذي اتفق في تعز، بحيث قال علي بن المتوكل لمحمد: تعز لك، فلم يقبله منه وعاد كل إلى مستقره.
وأهل يافع ساقوا بعض الزكاة من الحب إلى قعطبة، وتغلبوا على بلادهم وقالوا: لا نريد والياً من غيرنا.
وفي النصف الأول من جمادى الأولى وصلت أخبار من الجهات السلطانية العثمانية الشامية المكية والرومية، فأخبروا أنه حصل بمكة قتال، وراح من الأشراف جماعة ومن غيرهم، وأن العساكر السلطانية كانت قصدت بلاد الفرنج، فلما شارفوا على بعض بلاد الفرنج حازوهم وخاطبوا في الصلح والدخول في الذمة وبذل المال والجزية، فهم في ذلك حتى وقع اختلاف بين الباشتين، فأحدهم قال: ما سلموه من المال وما قبض عليه من ديارهم يكون للسلطان؛ لأن القاعدة ذلك مع السلطان أنما سلم بغير سيف فهو لبيت المال، وما دخل بالسيف فهو للجند، فقال الباشا الآخر: ليس ذلك المال إلا للجند[92/ب] فأدى الاختلاف والنزاع إلى القتال بينهم. فلما رأتهم الفرنج كذلك صالوا عليهم، فقتلوا منهم كثيراً وهزموهم، وقيل إنهم فعلوا سراديب في البلد وملؤوها من البارود وخرجوا عنها، فدخلها عساكر السلطان، ثم اشعلوها فيهم، فهلك عالم من المسلمين، فأعاد السلطان العساكر إلى جهتهم ولعله قد ظفر بهم؛ لأن هذا الواقع كان آخر العام الماضي، والاستنهاض والرجوع عليهم في شهر الحجة من سنة أربع وتسعين وألف ، والله أعلم.
والفتنة بالهند مستمرة ما بين الرازبوت ومعهم ولد سلطان الهند؛ لأنه المخالف على أبيه، والمعين على الإسلام، ومستعين بالرازبوت من طوائف فرق النصارى؛ لأنهم أخواله، وصار مذهب هذا الولد ابن السلطان إلى مذهب الرافضة، وخرج عن مذهب أهل السنة وعن مذهب والده، فصارت فتنة عظيمة في الهند.
وفي شهر جمادى الأولى صعق السيد العارف محمد بن حسن الشرفي وهو في بيته بشهارة من بلاد الأهنوم منتظراً لصلاة المغرب، فمات من الصاعقة في الحال. وكان له ولاية وعمالة من حي المتوكل، واستمر عليها في نصف بلاد عذر.
وهربت الرهائن من مشائخ بلاد قيفة من حبس رداع على حسين بن حسن متوليهم إلى بلادهم.
[93/أ] وفي شهر جمادى الأخرى طلع علي بن المتوكل إلى عند صنوه المؤيد بالله إلى ضوران، وبقي أكثر أصحابه في اليمن الأسفل، وتقاصرت عليهم السبارات والأعداد بسبب رفع الضربة التي كانت لعلي، فسار البعض إلى صاحب المنصورة وفتح لهم العدد والسبار، وعند ذلك أرسل الذانبي من مقادمته إلى بلاد أبين لإخراج أصحاب ابن العفيف منه، فأخرجوهم بعد أن وقع حرب فيما بينهم. وأولاد أحمد بن الحسن المهدي زلجهم أخوهم من عنده إلى حضرة المؤيد، ولم يجعل لهم شيئاً من البلاد التي تحت يده بعد أن طالبوه، بل قال: الأمر إلى المؤيد، حتى زلجهم ثم حفظ البلاد. وأما محسن بن المهدي فإنه وصل من الغراس إلى ضوران وقُررت له الولاية في البلاد التي كانت لحسين بن المهدي، وهي بلاد بني الحارث وما إليها من بلاد همدان واليمانية ووصابين، ثم عاد إلى الغراس وذمَرْمَرْ، ثم إن علي بن المتوكل سار من ضوران إلى جهة بلاد يريم فسكنها.
وفي شهر رجب كتب مسمار أن زوجته التي كانت ببلاد يافع تزوجها ابن العفيف وهي زوجته فتحمل المؤيد، وقال: هذا منكر يجب النهي عنه وكتب في الحال إلى الأمراء وبني عمه بأنه يجب الارتحال إلى يافع لإزالة هذا، فبلغ يافع، فصاحوا في أسواقهم أن الرصَّاص واليافعي يد واحدة على الزيدي. وكان يافع قد اكتسبوا في هذه السنة من البنادق زيادة إلى ما معهم كثيراً، حتى من مدينة صنعاء وغيرها ما زالوا يشترونها[93/ب] ويتعاقدون أنهم يحفظون بلادهم. وعمل المؤيد هذا عجيب فإنه لا هو الذي تغافل عنها إلى طرف، ولا هو الذي قصدها وأجد في الإقدام والبذل للخزائن وتحريض الرجال، وعرف الطرق التي يصلح منها المداخل مثل الطرق الغربية ليافع لتكون المواد أقرب إليهم كطريق جبن وجحاف وأبين ولحج.
وفي يوم الخميس رابع وعشرين شهر رجب خرج من ضوران إلى معبر وهو متردد يقدم رجلاً إلى الجهات المشرقية ويؤخر أخرى، وبنو عمه في طرفي نقيض، والناس أقرب إلى الملل من دخول المشرق. أما العسكري فلعدم الوفاء، وما قد وقع معهم، وأما المغَوِّر فالغالب عليه الاعتذار لبعد المسافة، وما يحتاج إليه من الزاد والراحلة. وكان قد كتب اليافعي إلى المؤيد كتاباً فيه المعاهدة، وذكر له في جوابه عليه ما بلغه من الزواجة بزوجة مسمار فيقال: إنه إنما كان بعد طلاق مسمار، مع أن الشافعي مذهبه الفسخ للنكاح، إذا لم تحصل النفقة للزوج بالغَيبة بمسافة القصر لكنه للمغيبة، ومسمار غير.... فلا فسخ على مقتضى الشافعي الذي هو مذهب اليافعي، ولكنه ادعى الطلاق من زوجها الأول، والله أعلم.
[94/أ] وفي هذه المدة بالشهر الماضي مات السيد العارف حسين بن صلاح بداره بشهارة، وقبر فيها. وكان هو الحاكم بالشريعة والقاضي بها من مدة الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم إلى هذا التأريخ، وكان لا بأس به في القضاء والحكم على بصيرة. مما اتفق له أن رجلاً كان يدَّعي آخر عليه ديناً في ذمته فينكره ولا يعترف له بشيء، والقاضي يأمر المدعي بإحضار البينة فلا يجدها، وقال للقاضي إن هذا الدين لازم للمذكور، وكان إذا طالبه وحده اعترف به ولا ينكره، وإذا طالبه عند الناس أنكره وما عرف بعلاجه، فاحتال السيد وأمر عدلين من المعتبرين عنده، وقال له: أدخلهما بيتك، واجعلهما في كُمَة دارك، وأدخل الخصم وجابره واصنع له من الطعام ما تراه، ثم طالبه بالدين في المكان الذي يسمع منه العدلين ليأتوا لي بالحقيقة، ففعل ما أمره السيد وطالبه، فاعترف بذلك، وقال له: دينك المطلوب عندي وقدره كذا وكذا ولا مخالفة، فقال له: اجعل لي وضعاً في الدين فقال: أما هذا فلا[94/ب] والشاهدان يسمعان ذلك كله، ثم أخرجه من داره وخرج الشهود الذين خبأهم للسماع وطالبه عند القاضي، فأنكر وحلَّفه أيضاً، ثم جاء المدعي بذينك الشاهدين، فشهدا بالدين وما سمعاه من الاعتراف والإقرار على الصفة المذكورة، فحكم القاضي عليه بذلك وأمره بالتسليم والحبس حتى يوفي. فهذا من عجائب القضايا. وللسيد المذكور تفسير على القرآن جمع فيه تفاسير بعض الأئمة، فنقل من تفسير الهادي والإمام أبي الفتح الديلمي والحسين بن القاسم في جزئين.
وجاء جواب ابن العفيف صاحب يافع إلى المؤيد يذكر من جهة زوجة مسمار: بأنه صدر إليكم كتاب مسمار بطلاقها يطلعون عليه، ليعلموا أن النكاح إنما كان بعد ذلك، فأطلعه المؤيد على جماعة ممن يعرف خطه فقالوا: نعم هذا خطه وبعضهم توقف فيه، والله أعلم.
وفي هذه السنة بأولها مات الشيخ العارف محمد بن سليمان المغربي المالكي بمكة المشرفة[95/أ]، وكان له بعض النظر في مكة لمن بالحرم الشريف بأمر السلطان، فنظمها زيادة على ما كان أولاً فيها بأن صار إلى كل شيء إلى محله، وكان مدرساً بها في كل فن، يغلب عليه المعرفة في علم المعقول. وكان قد جمع من الكتب ما يعسر حصره ويكثر وصفه من الكتب المجلوبة إلى مكة ومن غيرها من كتب مصر والقاهرة، وله من الصّر زائد على غيره من علمائها وقطَّانها.
قال الراوي: وكان عارفاً بعلم الحرف وعلم الفلك، وهو من بلاد فاس بالغرب الجوان ارتحل إلى باب السلطان، يريد الحج إلى بيت الله الحرام، فأمره السلطان بالبقاء في مكة، وكان ذلك هو إرادته ومقصده.
وفي ضحى يوم الأحد رابع وعشرين شهر شعبان منها مات القاضي العارف العلامة محمد بن علي قيس في قرية القابل وادي ضهر، كان ذلك بعد خروجه من صنعاء للخريف، فمرض هنالك سبعة أيام بالحمى وقضى الله عليه وقبر هنالك. وكان المذكور له معرفة بفقه الهدوية مدرساً وحاكماً، وله بعض مشاركة في الأصول، وكان حسن الظن بالصحابة رضي الله عنهم وبغيرهم من علماء الإسلام، لا يقول بشيء[95/ب] من التكفير بالإلزام في مسائل الكلام، ويرى أن الخلاف لفظي بين المعتزلة والأشاعرة، وجمع في ذلك كتاباً نقل فيه أقوال الإمام يحيى بن حمزة وغيره، واستنسخ كتاب (العواصم والقواصم) للسيد البحر محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله في الذب عن سنة أبي القاسم، وقال: ما ذكره السيد محمد بن إبراهيم هو الحق الذي يجب على كل منصف اتباعه.
وفي شهر شعبان حصل مطر فيه بَرد عظيم على معبر بقاع جهران وقبة المؤيد، كان كل بردة كالبيضة بحيث أن منها ما خزق الخيام، ووقعت واحدة في حصان حتى سقط، فالقدرة لله.
ووصل إلى حضرة علي بن المتوكل الشيخ ابن شعفل وهو بيريم يومئذٍ، فأمره بأن يصل إلى حضرة صنوه المؤيد، فوصل إلى معبر، فخلع عليه المؤيد الكسوات وغيرها من الجوخ والدراهم. وأما الرصاص فوصل إلى حسين بن حسن مكاتبات وإلى المؤيد وهدية لا غير، واستقر بأطراف بلاده بالزهراء.
والمؤيد أعد لدخول المشرق بعد الصراب، وتكون الطرق: من أبين ولحج محمد بن أحمد صاحب المنصورة، ومن قعطبة علي بن المتوكل، ومن جبن ومن الزهراء، هذا ما تكاتبوا به وتواعدوا، والله أعلم، وكل ذلك كما قال تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ في المِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ الله أمْرَاً كَانَ مَفْعُولاَ} .
وفي نصف رمضان وصل إلى المؤيد جواب من ابن العفيف اليافعي في الكتاب الآخر الذي كتبه إليه، وفيه التوعد بالدخول، وفيه أن مسمار أنكر الطلاق وحلف عليه، وذكر[96/أ] القصد إلى بلاده، فأجاب أما ما نقمتم من النكاح لزوجة مسمار فذلك حلال بعدما رفع إليكم من كتبه بالطلاق ونحوه، وأما قصدكم فالأمر فيه كما قال تعالى: {إنْ يَنْصُرْكُمْ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} .
فإن تكن الهزيمة فيكم كانت إلى ضوران، وإن تكن فيه كانت إلى حضرموت، فعند ذلك أمر المؤيد بالتبريز للوطاق من معبر إلى جهة ذمار، وعند ذلك جاء خبر أن الرجبي الذي كان قام بالحجرية عاد إلى الدعاء إلى نفسه، وكان عند صاحب المنصورة جماعة من مشائخ الحجرية فأمر بهم الحبس بحصن الدملوة الذي فوق المنصورة، وقال: إما أتيتم بالرجبي، وإلا كان ما تكرهون، فإن اتفق خلاف الجهتين فيبعد دخول يافع، ولا سيما وكل من الأمراء له رأي مستقل به، ما هناك كل الانخراط في جمع الكلمة معهم.
والأسعار يومئذٍ ارتفعت في بلاد صنعاء وما اتصل بها إلى اليمن الأسفل، بلغ بصنعاء القدح الحنطة إلى خمسة حروف ونصف، والذرة أربعة ونصف والشعير إلى ثلاثة ونصف، وكذلك في بلاد تعز، بحيث زاد السعر فيه بلغ القدح إلى ستة حروف، وعم الغلا في جميع المشارق، وذلك لقلة مطر الخريف، فلله الأمر، والمغارب وتهامة سعرها أمثل، الذرة إلى حرف في تهامة، والجبال في المغرب إلى ستين بقشة.
وفي هذه الأيام لما تحرك الرجبي في الحجرية أمر صاحب المنصورة المشائخ الذي عنده برهائن، بإرساله والوصول إلى حضرته[96/ب] وتوعدهم إن لم يأتوا به جهز عليه إلى بلده فحصل بين العسكر وبين تلك الجهة قتال، راح فيه نحو أربعة ومن العسكر واحد، وهرب الرجبي، فأخربوا بيته.
قال بعضهم: وربما أن بين أهل الحجرية وبين اليافعي مواطأة على ذلك، وما وقع سابقاً لأجل لا يتم دخول يافع لكنه صار يقع البلاء بأهل الحجرية لتوسط بلادهم في اليمن الأسفل وعسرة يافع بسبب جبلهم. ومع هذا الأمر لا يكاد يتم دخول يافع كما لم يتم أولاً، فإن أحمد بن المؤيد والغواير الذي كان بعثهم المؤيد إلى يافع ووافق اختلال الحجرية في خلاله انصرفوا إلى الحجرية، ولولا هم لما كان حصل التنفيس على صاحب المنصورة، فإنه قد كان في أضيق من حلقة الفاس محاصراً. ووقع انتهاب يومئذٍ في لحج للسوق.
وفي شهر رمضان خرج السيد أحمد بن حسين الأخفش من كوكبان، بعد أن كان حبسه الأمير عبد القادر في بيت والده، ففلت إلى نواحي برط، فلم يقبله أحد منهم، فدخل نواحي بلاد خولان وأطراف بلاد صعدة كما هو عادة سادة اليمن بالدعاوى العريضة الطويلة، فلا قوة إلا بالله. وتضرر منه علي بن أحمد صاحب صعدة، وأرسل إليه ببغلة، ويسعى في استمالته إلى حضرته.
ولما تحقق المؤيد هذه الأحوال، وما قد أعده أهل يافع من التحريز لجبالهم، والبناء للمتارس في المداخل والطرق وكثرة ما[97/أ] أعدوه من البنادق، وما رآه من أحوال الناس تقاصرت همته وفترت عزيمته، وقال: يؤخر هذا الأمر إلى بعد عود الحجاج في السنة القابلة، والله أعلم.
ولعله بلغه خبر من جهة بلاد السلطنة......... ولعله كان سبب وصول ما كان ظهر به الخبر العام الأول من يافع بالكتب والأخبار بما جرى من القتال والإدبار، وأنهم يستمدون الغارة قد ذكروا له... وابتعث إلى اليمن من يعينه، وهم ما جانبهم باليمن الأسفل للمعونة. وأن دولة اليمن قد صارت متفرقة، وأحوالهم غير منتظمة،. ولكل شيء سبب، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه. وما ذاك منهم إلا خشية من النهضة عليهم كما قد وقع منهم، وإلا فليس يافع يؤذون الدولة من حيث كانت، ولذلك جرى منهم من الحروب بينهم وبين سنان باشا ما وقع وغيره من بني طاهر ممن مضى.
[97/ب]ثم إن المؤيد رجع إلى تزليج صنوه زيد، ولا يسير بأحد من أهله، ومنع صنوه القاسم، فقيل: إنه للحج، وقيل: إنه لأجل رفع الأوهام.
ووقع في بلاد صبيا حرب ما بين الأشراف وبين آل حبيب، فقتل الأشراف شيخ بني حبيب وانتصروا عليهم، والله أعلم.
ووقع قبل ذلك أيضاً حرب فيما بين بلاد خيوان والعصيمات، فراح من الجانبين سبعة، وأعان خيوان بالغارة سفيان، فكلٌ رد من نفسه لما أقبلت عليهم العصيمات، فانتفع أهل خيوان بمعاضدة سفيان؛ لأن خيوان قليل والعصيمات كثير، وكان المقتول من العصيمات ثلاثة ومن خيوان وسفيان أربعة.
وفي ذي القعدة اتفق قران زحل والمريخ في برج السنبلة، وكذا الزهرة والقمر في برج السنبلة جميعاً، وأرسل المؤيد إلى طرف بلاد أبي عريش الفقيه علي بن محمد بن علي جميل في جماعة عسكر.
وبلغ صرف القرش هذه الأيام إلى عشرة حروف، فكان بسببه النفس للرعايا في اليمن الأسفل في المأخوذ من المال عليهم؛ لأن العمل في ذلك على القرش، وكانت دفعة العدين للأثمار الأخرى............. من الضربة المتقدمة، وصرف القرش بحرفين، والآن صار صرف القرش فوق العشرة، فكان في الحقيقة المأخوذ عليهم هو ذاك الأول وأقل؛ لأن جميع الأسعار على القرش، فجاء لهم في اللطف لطف رحماني من حيث لا يشعر به.
[98/أ] وفي شهر القعدة حصل بين خولان صنعاء خراب بيت رجل منهم واختلاف واشتجار، فبلغ المؤيد ذلك وأرسل عليهم أحمد بن محمد بن جميل الحبوري بجماعة، فوصلوا إليهم، فقالوا لهم: الواقع بينهم قد حصل فيه سدوا أنتم، ارجعوا إلى المؤيد وأخبروه أن قد حصل السداد وزاد الكلام بينهم واستحمق أحمد بن محمد جميل عليهم، ثم افترقوا بالمراجيم أولاً، ثم غيرها، وأرسل المؤيد عند ذلك جماعة عسكر، وكتب إلى محسن بن أحمد بن الحسن صاحب الغراس أنه يلقى من تلك الجهة بمن معه، وكان تسكينهم أصلح.
وبلغ أن الذين ساروا للحج بطريق تهامة تحيروا فيها ولم ينفذوا إلى هنالك ، فلما وصلوا ضبطوا المشائخ الفاعلين سبعة أنفار من المثيرين للفتنة، وساقوهم إلى حضرة المؤيد، وكان سبب الواقع بينهم كما وصف المحقق من بلادهم أن رجلاً ساق امرأة منهم، فقصدوه فهرب، فأخربوا بيته ونهبوا ما فيه واستجار بقبيلة أخرى يقال لها بني شدَّاد ، والرجل الذي خرب بيته من بني جبر، وقالوا: إن ذلك حكم القَبْيَلة في بلادهم لمن فعل ذلك وحكموا على الفاعل أن يسلم دية المرأة وهي حية، صفة حكم طاغوت، هذا خبرهم.
[98/ب] وفي هذه الأيام بآخر شهر القعدة لما تصرف المؤيد وصنوه علي في مطالب جبل صبر باليمن الأسفل، وكان قد جعل دفعته زيادة لصاحب صعدة علي بن أحمد تغير من ذلك وانحرف مزاجه، وطلب أصحابه وبعض مشائخ بلاده، وكتب رسالة يلفق فيها اعتراضات، كل ذلك لبيت القصيد من الدفعة تعود له. وأخبرهم أنه يريد الحركة والخلاف، فأجاب عليه بعض مشائخ البلاد أن هذا الأمر إن كنت تبغي به الغضب لله وكان هناك ما يوجب فهم معه، وإن كان لأجل دنيا يريدها فهم أبرياء من المعونة له، فكان الجواب هذا موافق قاطع له من رجل عامي، فقطعه ولم يجد حجة له.
وفي هذه الأيام ليلة عيد عرفة وصل إلى المؤيد وهو بمعبر جهران رأسان من الخيل أو ثلاثة وبعض دراهم، نحو ثلاثة آلاف من شيخ يافع ابن العفيف، وقال: ذلك عن الفطرة في بلاده. والمؤيد لما بلغه خبر صاحب صعدة بعث إليه بالدواء لجراحته وعلته، وما يزيل مرض قلبه من التأليف بالمال، وقال: عن دفعة جبل صبر.
وفي خامس عشر من شهر الحجة وصلت كتب من جدة إلى الدولة يذكرون فيها ثبوت خروج عساكر السلطنة إلى مكة، وتجديد ولاية مكة لأحمد بن زيد بن محسن بعد صنوه[99/أ]، وولاية جدة لأحمد باشا.
ودخلت سنة ست وتسعين وألف
استهلت بالجمعة بالرؤية والحساب اتفقا جميعاً.
وفي رابع شهر محرم وصلت كتب الحاج يذكرون تصحيح الخبر الذي سبق من خروج الشريف أحمد بن زيد بن محسن متولياً لمكة من باب السلطان ومعه جنود كثيرة وأمراء وأعيان، وكان الخارج في الحملة سبعة صناجق، وقيل: ستة، وفي بعض تلك الصناجق أعلام الريشة، وكان سعيد بن بركات لما بلغه خروج أحمد بن زيد هرب عن مكة، ولم يوافق أحمد بن زيد خشية لا يكون عليه من السلطان أمر فيه ما يقتضي المعرة، ونقول: سبقت مما جرى بمكة من ركة الأمر والتسهيل فيها عليه، خصوصاً لما قد سبق بينه وبين أحمد بن غالب من المنافسة العام الماضي، وعدم اليد الوثيقة في الولاية، فلما أقبل أحمد بن زيد إلى مكة ووصل إلى تلك الجهة دخل في زفة عظيمة، وجنود واسعة، والصناجق منصوبة، والنوب تضرب خلفها محفوفة، والخيل الواسعة، وهو في آخر الجند عليه المظلة، فأول أمر جرى منه الشنق للحرامية الذي نقل إليه أهل العهد بمكة أنهم أفسدوا، فشنق منهم ثمانية في المسعى والمعلاة، وأبرز بعد ذلك على صاحب جدة لما وصل إليه مرسوم الولاية وزيادة بندر جدة وتوجيه مطالبها إليه. وكان مع الأشراف الأولين نصف محصولها، فجعل السلطان إليه جميع مرفوعها، وأظهر اليد المعونة، وقام بالأمر فيها على الحالة الملوكية، بعد أن كان ركب أمور سياستها، واستراح بذلك تجارها وأهل الأسباب فيها، حتى فرشوا بالبضائع في بطون الأسواق. وأحمد بن غالب كان لأحمد بن زيد معاضداً، ورضي به بعد ما جرى[99/ب] بينه وبين سعيد بن بركات العام الأول ما جرى. ولما استقر بمكة المذكور، وهابه أهل تلك الجهات والثغور وجلبوا إلى مكة المحصول أرسل إلى بلاد بيشة متولياً وإلى بلاد عتود قريب صبيا كذلك نائباً على ما كان عليه أبوه سابقاً وكانت هذه البلاد قد ذهبت عن ولاية صاحب مكة وزالت، فأرجعها على حالها، وقوَّاها بالعسكر وولاها.
وكانت أسعار مكة هذه السنة حيَّة، والخصب فيها وجميع بلاد الحجاز، الكيلة المكية سعرها إلى عشرة كبار مصرية، وصرف القرش بثلاثة أحرف من الضربة المصرية.
وكان قد أرسل المؤيد بن المتوكل إلى صبيا رسولاً من أجل ما جرى بين أشرافها من الاختلاف على الأمر فيها، وأمر بإصلاح الطريق والآبار وكان قد انتصب فيها الأمير طالب، ودفع عنها القبائل من بني حبيب صولاتهم وتعديهم حتى قتل بعض مشائخهم، وصبيا أمرها مستقل لهم ولا يمر فيها إلا السكة السلطانية والدراهم المصرية.
ولما تم الحج المبارك بمكة وقرت ولاية أحمد بن زيد، وكان خروج الحاج اليماني عنها ثامن عشر شهر ذي الحجة الحرام ورجوعهم إلى بلادهم، وأخبروا أن حال خروجهم. وأكثر الجنود الخارجة مع أحمد بن زيد باقية فيها، لم يرجع إلا المحامل والحجاج وأمراؤها.
وفي هذا الشهر تفلَّس رجل بانيان من الكفرة المجوس، يقال له: ميداس، وكان قد أمال إليه كثير من الناس بوضع الأمانات عنده والمعاملات، ولا أمانة لكافر قال الله تعال: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} فأظهره، فبقوا في حيرة عظيمة، وحال[100/أ] جسيمة من جهة فوات أموالهم. يقال: أن جملة ما كان عنده ما يقارب أربعين ألفاً فأكثر، مفرقة لتجار وغيرهم، ومثل هذا المال لا يسعه بطنه، فقدر ما كان يرسل به إلى الهند مع أصحابه شيئاً فشيئاً في المواسم، وكان قد تفلَّس قبله العام الأول بانيان ففلت من صنعاء إلى بندر اللحية ولبس لبس اليهود، وركب بحراً. ولم يعتبر الآخرون به في أمانة الكفار الملاعين. وأما هذا الآخر فبقى عند المؤيد مستجيراً وزاعماً أنه يسوق ما عليه بقدر حاله مما بقي تحت يده، فأجاره المؤيد على ذلك وأمر غرماه بالكف عنه، وتفريق ما يكسبه على الغرماء في كل عام مما لا يفيدهم ولا ينفعهم، ولكنه بما كسبت أيديهم.
وفي ليلة النصف من شهر محرم وقع خسوف قمري في أول برج السرطان، قيل: كان في الساعة السابعة.
وفي هذه الأيام خرج محسن بن أحمد بن الحسن من وطنه الغراس وذي مرمر إلى اليمانية، فاستقر بسوقها سوق الجمعة، وسبب ذلك أنه بلغه أن صنوه إبراهيم أخذ ولاية من صنوه محمد صاحب المنصورة عليها، فسبقه بالعزم للمحافظة إليها، لئلا يسبقه بالمسير والسكون فيها.
وفي هذا شهر محرم هذا استولى صاحب المنصورة على جبل القماطرة بالحجرية بعد طول محاصرة، ولما استولى على ذلك الجبل أمر أولاده بالتقدم بمن معهم من عساكره لإصلاح طريق عدن ولحج وأبين، والخلاف الذي جرى من قبائل ابن شعفل، فساروا إلي تلك الجهة، وحصل بينهم ما حصل، ثم انهزم ابن شعفل إلى معاقله، ثم غزا سوق بقار وانتهبه. وكان ابن شعفل الأول الذي وصل إلى المؤيد العام الأول قد مات وتعقبه هذا الآخر منهم من بني شعفل.
[100/ب] وفي آخر هذا الشهر وصل كتاب من حسين بن حسن بن القاسم إلى المؤيد محمد بن المتوكل إسماعيل بن القاسم، يتضمن العتاب له في ترك الحركة على يافع ، وأنه لا ينبغي التغافل عنه بعد ما قد جرى منهم، وأنه إن لم يتحرك كاتب إلى صاحب المنصورة ابن أخيه، وأنهما يكونا يداً واحدة على القصد إلى تلك الجهة، فتغير بتغافل المؤيد عنه، وواعده مواعيد الاختلاف التي يقول الله فيها: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ في المِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ الله أمْرَاً كَانَ مَفْعُوْلاَ} .
وكل ذلك من المؤيد لما لم يجد كمال العدة، ورأى الناس أقرب إلى الملل وعدم اجتماع الكلمة، وكون اليافعي لا يمكن إن فرض فتح بلاده إرجاع الولاية إلى حسين بن الحسن إلا بمشقة وكثرة اختلاف منهم وخلاف وانتقاض مما لا يظهر فيه كل الفائدة. واليافعي قد صار يظهر الانتماء إلى المؤيد ويتبرأ من حسين بن حسن، فلما أيس حسين بن حسن عن أخيه المؤيد له كاتب إلى ابن أخيه، فأجابه بمثل ذلك، وقال يصلح ما طلبه وهو بعد إصلاح بلاد ابن شعفل يكون طريقه من هنالك. فلما بلغ المؤيد قام وقعد، ولم يعجبه ذلك الذي جرى بين الحسين بن الحسن وابن أخيه من هذا العمل والوعد، وأرسل السيد يحيى العباسي في شأن ذلك، فسار إلى حسين بن حسن يستدعيه للوصول، فاعتذر عن الوصول، ثم عاد السيد إليه للتحريض على الوصول لمفاوضته، فوصل إليه.
وفي خلال هذا جاء إلى المؤيد رسالة من صاحب صعدة يلوم عليه في ترك ما كان يعتاده من دُفعة جبل صبر الذي كان شرطه له في البيعة، وأنه جعله لصنوه علي بن المتوكل، وهذا يؤدي إلى النقض واستدرج مطاعن يطعن بها عليه، ويلوم في اختلاف الأقوال والمواضيع لديه، وأن هذا ليس من دأب أهل الوفاء بما عاهدوا ولا ما وضعوا وكتبوا وقالوا، فعند ذلك أرسل له المؤيد بمقدار دفعة جبل صبر من حضرته[101/أ] لمداواة جرحه، وإلا فإن مع علي بلاداً واسعة وأقطاراً من جهة الشام كافية، ولكن الدنيا غرارة، ولا يزال طالبها لا يقنع بقليلها ولا كثيرها، بحيث أنه كان أهم وتحدث في بلاد الشام إن لم يعد له ما قد وضعه خالف عليه، واستقل في بلاد الشام بالأمر من دون انتماء إليه، ولله در الشاعر حيث يقول:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة .... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
وقد قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وَتُقَطِّعِوا أرْحَامَكُمْ} .
وأما التخلف في القواعد والمواضيع فهو لا شك لا يصلح لأهل الدين، بل ولا لأهل الأمر في اعتبار سياسة الملك والمسلمين؛ لأن كثرة التخلفات وقطع العوائد والمألوفات والموضوعات تنفر الخواطر، وتكسر نفوس أهل المناصب والعساكر، فما الملك إلا بالكرم والجود، وتمام العطاء والنقود.
وفي شهر صفر نزل علي بن المتوكل من إب وجبلة إلى مدينة تعز، باليمن الأسفل.
وكتب المؤيد إلى مشائخ بلاد آنس أنهم لا يسلمون شيئاً من زكاة البن إلى صنوه حسين بن المتوكل، وإنها تكون إليه، فنزل حسين بن المتوكل من ذمار إلى وادي النائجة حتى بلغ إلى مدينة العبيد، وأرسل عليهم عساكره وقبضها منهم على التمام والكمال. ولم يعرج على أمر صنوه لهم ولا له، وتغلب على بلاده، وقال: هي بلاده من والده، وليست من صنوه. ومحمد هذا المؤيد حاله عجيب[101/ب] في تسلطه على التنقيص، وعدم الوفا وعدم الجري على قواعد من مضى كائناً من كان من الناس، مع الإمكان لا يرده إلا من خاف جانبه ومنع على ما تحت يده، مع أنه لم يفده القبض؛ لأنه صار ما عنده يذهب بعضه مع المتصرفين، ويلعب به أهل المخازين، أولاً ما كان جمعه والده المتوكل بضوران وصنعاء وشهارة والسودة، فإنه تصرف في بعضه، وراح بعضه بالسرقات وغيرها في أيدي المتصرفين، وما زال ذلك كذلك، فلا قوة إلا بالله، وفي الحديث كما في الصحيحين عنه÷ أنه قال: ((لا توكي فيوكى عليك)).
ولم يكن فيه من المحاسن إلا خصلة واحدة وهي التخفيف عن بعض الرعايا في المطالب، والعدل فيهم في المأخوذ، فإنه قد حط عن من أمكن الحط عنه ما حط، والله يصلح الإسلام والمسلمين.
وفي هذه الأيام أحدث أهل الأهجر سوقاً لهم في بلادهم بسبب ما جرى مع بعض قبائلهم في شبام من بعض أصحاب عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب من المضاربة والتعدي وبعض الجناية. ولم ينصف السيد عبد القادر فيما جرى، وقام مع أصحابه بعد مطالبتهم للشريعة أو المناظرة، والسيد المذكور قد عرف حاله في الأوامر والنواهي، فإنه يقوم مع أصحابه، ولا ينصف في الغالب من ليس إلى جنابه، ويختلف في خطوطه ومواضيعه وأوامره في الحال مثل ذلك الشأن، ولكن هو دأب هذا الزمان، فإن أكثر الولاة فيه على هذا المنوال.
وفي شهر ربيع الأول استأصل صاحب المنصورة ابن شعفل وكسره إلى جبل حرير[102/أ] وقتل من أصحابه كثير، وانتهب عليهم سلاحهم، وانحاز إلى جبل يافع، فتغير المؤيد من هذا الفعل، وقال: هو ابن شعفل في صلحه الذي عقده له، وأن هذا كله مخالف لأمره. وحسين بن حسن زاد أرسل له المؤيد السيد يحيى العباسي مرة أخرى، بعد أن كان أرسل له أولاً، وقال: مراده منه المفاوضة، فوصل إليه آخر شهر ربيع الأول، فكان عند وصول المذكور التشديد على المؤيد، والعتاب الطويل العريض في البَرْدَة والتأخير عن التحرك للمشرق، وأن السكوت عن ذلك فيه خلل علىالدين، والمؤيد عند ذلك كتب إلى الرؤساء من أقاربه للمفاوضة، وأنهم يصلون بمن حضر عندهم في هذه الساعة.
وفي هذه المدة جهز صاحب المنصورة أولاده إلى بلاد ابن شعفل.
ووصل هذه المدة جاسوس رومي من حضرة باشا مصر إلى اليمن، ودخل صنعاء، وكان يصلي في جامعها النوافل، ولم يلبث أن عاد بلاده أخبر بذلك درويش وصل إلى صنعاء بعد عزمه.
وفي هذه الأيام وصل كتاب من أحمد بن زيد إلى صاحب اللحية حسن بن المتوكل على جهة الاعتراض عليه في سيرته، وأنه زاد على التجار زيادات ما كان لينبغي لمثله. ومن جملة ذلك ما صار يأخذه على موقع الملح من الدراهم وهو مباح، ولا ينبغي الأخذ عليه، ومن هذا وما شاكله. نعم لما كان آخر شهر ربيع الأول ترجح لمحمد بن أحمد بن الحسن [أن] أرسل ولده الحسن وعبد الله إلى بلاد ابن شعفل، وقصده إلى معاقله واعتل عليه بما صار يحصل في الطريق التي في بلاده وكثرة التعويق، وما جرى منه من انتهاب سوق بقار والقتل في سوقه[102/ب] وعدم كمال سلوك طريقه. وهو اعتل بقطع جامكيته المعتادة من عدن، فالتقاهم بالمنابذة والحرب، فوقع الحرب، ثم انهزم إلى نواحي جبل يافع، وانتهبت العسكر ما ظفروا به من المواشي والسلاح. فلما وصل يافع وطلب من يافع الغارات والإمداد،فأجابته يافع بالغوائر وأرسلوا ابن هرهرة في أصحابه والشيخ الجلاد من جانبه، وبادوا أولاد محمد بالحرب، والرمي بالبنادق والطعن والضرب. فقتل من أصحاب حسن ومن يافع، وأحاطوا به من كل جانب في محل يقال له:(محرقة الراحة)، وعبد الله أحاطوا به في جبل حرير طرف بلاد ابن شعفل ومعقله، فأما عبد الله هذا الذي في جبل حرير فإنه متحصن، كان القتل بالبنادق منهم. وأما حسن ففي محل غير منيع، فحال أن وصلت والدهم الأجناد جهز إليهم الغارات، وكذلك أغار عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن من العدين، وكذلك علي بن المتوكل والمؤيد أرسل غارة من عنده غرة ربيع الثاني حال وصول الخبر بجماعة من رتبة الجبل وغيرهم من العسكر مع صنوه حسين والأمير فرحان. وحسين بن حسن كان حال هذا الواقع في معبر قد وصل في الخوض في أعمال المشرق، وكان المؤيد قد أرسل له من قبل لما كثر عليه الكتب ليفاوضه، وكان يود الترك إن أمكن مع التردد في أمرهم ومع النظر في تلاؤم الجمع للكلام في شأنهم بينه وبين صاحب المنصورة، وأنه لا يكون عمل الحركة
إلا بعد اجتماع الرأي والكلمة. فهم في ذلك إذ جاءه خبر هذا الحادث والغوائر من يافع ومحاربتهم[103/أ] لأصحاب محمد بن أحمد، والتضييق عليهم وتواطؤ الكلام من غير عزيمة على توجه الحركة إلى المشرق، فحسين بن حسن ذكر أن طريقه تكون الزهراء، وهو منه عين الخطأ.
وفي هذه الأيام بخامس عشر شهر ربيع الثاني كان تحويل سنة العالم بدخول الشمس أول درجة الحمل، ولم يكن فيه شيء من القرانات بل كانت الكواكب متفرقة في البروج، فزحل في برج السنبلة، والمشتري في الميزان، والمريخ في العقرب، والطالع الدلو.
ولما اضطر صاحب المنصورة إلى المعونة على قتال اليافعي لما حاصر ولده عبد الله في جبل حرير بعد أن كان أولاً لا يوده، ولذلك لم يعين في الجاري بيافع من الحادث الأول. والمؤيد لما وقع هذا الواقع وكثرت كتب صاحب المنصورة باستمداد الغارات، فأمر من وصل عنده إلىمعبر النفوذ إلى ذمار حتى ينظر فيما يصلح. ووصلت الأخبار بأنه لما كثر أهل يافع على جبل حرير، ووقع ما وقع من القتل من الجانبين، وكان القتل في يافع أكثر لأجل البنادق من الجبل والبيوت، وكان القتل فيهم مثل القتل الذي وقع منهم في الحرب السابق جاءت رمية من غير رام، وإلا فإن صاحب المنصورة غير قاصدٍ بذلك الانتقام بالثأر، ثم قل عليهم الماء وتضرروا، فصالح عبد الله ومن معه بالخروج من الجبل، واختلفت الأخبار في جملة القتلى من يافع، فقيل: ثلاثمائة، وقيل أكثر، وقيل: أقل، وقيل: سبعمائة؛ لأنهم كانوا يحملون مع كثرتهم، فتدفع الرصاص فيهم، فقد تأخذ الرصاصة الواحد والإثنين، ومن أصحاب عبد الله الفقيه حسن بن عامر الهبل بمن معه نحو ستين نفراً.
ولما بلغ ابن شعفل التحرك إلى بلاده كاتب إلى علي بن المتوكل: إنَّا في عهدكم وصلحكم، وهذا الحادث الذي جرى نقض للعهد لا يجوز لكم، وكذلك كتب اليافعي بمثل ذلك وكان قد هرب إلى قعطبة وتركوها، فأقره حسين من قصد القبائل لنهبها، ثم إنه كان أرسل إليها القبائل تلك جماعة من أصحابهم، فقصدهم عبد الله بن محمد بن أحمد بن الحسن بعد خروجه من جبل حرير، وقتل منهم جماعة وهرب الباقون عنها[103/ب]. ثم إن علي بن المتوكل طلع من اليمن الأسفل إلى عند صنوه المؤيد ليحقق له عمل المشرق، وأنهم في صلحه وعهده، وطلع صحبته الشيخ المفلحي من مشائخ بلاد المشرق، وصحبتهم بعض شيء من الدراهم من واجبات بلادهم، وأولاد صاحب المنصورة تميلوا إلى نواحي بلاد الدمنة، ثم قرت الأمور وسكنت. وجاءت كتب يافع أنهم على ما قد بينهم وبين علي بن المتوكل، وإنما وقع منهم ما وقع لأجل الدفع عن............ ، وصار باطن المؤيد ترك ذلك من أصله مع قل الخزائن معه بسبب تفرق أكثر البلاد ونهضة المشرق.
وحصل بنقيل عجيب مطر عجيب، نزل من البرد كل بردة مثل بيضة النعام، فالقدرة لله تعالى، في مطر الظافر الآخر، أول فصل الصيف.
ووصل كتاب من أحمد بن زيد إلى صاحب اللحية يذكر فيه أنكم لا تأخذوا العشر على التجار الذين يصلون من عندنا؛ لأن العشر صرنا نقبضه بجدة منهم، وأما تجاركم فخذوه ولا نأخذه نحن في بندر جدة؛ لأن العشر الواحد كافي مع قرب المسافة، كما روي. فلما وقع من العزل للشريف طالب صاحب صبيا من قبل حسن بن المتوكل سار إلى أحمد بن زيد وأخذ ولاية منه؛ لأن صبيا قاعدة ولايتها من قديم الزمان وأشرافها في كل دولة، مع أنها الحد فيما بين بلاد صاحب مكة والسلطان ابن عثمان وبين ولاية صاحب اليمن، فقررها المؤيد بعد أن كتب إليه الشريف طالب بذلك، فقال: لا بأس به.
ولما سأل كاتب الأحرف بعض من له بعض علقة بالمؤيد عن بذل نصيحة بما توجه من أجل عمل المشرق كتبت بما حاصله: أن الأولى ترك يافع والإعراض عنه، لأن أعماله تحتاج إلى مصابرة، وخزائن قارونية وعساكر خاقانية ، ثم لو فرض القصد لهم ودخوله، فلا مصلحة فيه تعود نفعها عليكم ولا على المسلمين، ولا تقوم بجوامك من يسكنه من العسكر محافظاً؛ لأنه يحتاج إلى قوة[104/أ] عسكر، وإلا خالفوا عليهم وأهلكوهم أو أخرجوهم بأمانهم، كما فعلوه مع السيد شرف الدين ابن مطهر، مع أنه لا يكاد يتم دخوله لو فرض حصوله إلا من الطرق الغربية مثل طريق جحاف وجبن وقعطبة ولحج وأبين؛ لأجل قرب المواد من اليمن ومقابلة قبيلة واحدة من قبل وجوههم. وأما الطريق الشرقية التي جاؤوها من أول وهي طريق الزهراء فإنها بعيدة، وبين قبائل مخالفة، فمن الغرب يافع، والقبلة قيفة، ومن العدن الهيثمي، ومن الشرق الرصاص، فأدنى كسيرة من يافع وحازوهم من قدامهم وخلفهم وأيمانهم وشمائلهم، وقد صاروا هذا الزمان أهل بنادق كثيرة وهم معروفون بعدم الرغبة إلى الانقياد للدولة كائنة من كانت، ولذلك حاربوا طاهرهم عامر بن عبد الوهاب وعمه الملك المجاهد قبله، وما دخله إلا بعد حروب شديدة طر[يق] جحاف. وقد استعد لحربهم قدر عشرين ألفاً، وبقي عليهم بجحاف مدة يحاربهم، وكان قد خربوا عليه قصره بجبن وانتهبوه. وكذلك سنان باشا لما قصد إلى يافع وحط عليه قدر ثلاث سنين ونصف، وخرج عليهم بثلاثة مدافع وحط عليهم بمكان يقال له الظهيرة. وكان ذلك الوقت ما قد ملكوا البنادق وإنما حروبهم بالعيدان، وما استفتحه سنان إلا على مشقة وبذل أموال عدة. وكان قد عمر قلعة يَرَاخ وجعل فيها[104/ب] رتبة لأجل الطريق بالمواد والقوافل إلى المحطة، ثم كان منهم بعد ذلك الخلاف المشهور، وقتلوا الأمير أحمد متوليهم في الحلقة، وحفظوا بلادهم، وبعد ذلك تركهم سنان ومن بعده من الباشات بالمرة، حتى أن سنان باشا
أمر بخراب ما عمره بقلعة يَرَاخ للرتبة. وقال: لا يبقى بيننا وبين يافع اتصال البتة، لعدم المصلحة من بلادهم ولا عائدة، واستمر ذلك الترك لهم إلى مدة الحسن والحسين والمؤيد بالله، تركوها كما تركها السلطنة. وقد خالفوا على المتوكل مرتين، وحصل فيها من الفتن وإنفاق الأموال ما لا يخفى، وكان المتوكل خزائنه متوفرة، وأولاد إخوته كانوا على قلب واحد ورأي متحد، فكيف يتفق دخولها هذه المدة إلا بقوة عظيمة وخزائن وجنود واسعة، وهذا شيء بعيد مع العلم بعدم المصلحة.
وفي هذه الأيام توفي مسمار الذي كان والياً مع حسين بن حسن لبلاد يافع تلك الأيام.
وفي هذه الأيام خرج من البز نحو ثلاثين مركباً أو فوق، ومن جملتها مراكب السلطان صاحب الهند، فتهون البز عما كان، وكان العام الأول مرتفع. وخرجت هدية للمؤيد من الهند ومن جملتها فيل. وكان قبل خروج هذه المراكب الهندية خرج من عمان براش يتسرقون كما هو عادتهم من قديم الزمان، فلم يظفروا بشيء، حتى جاء وقد تغير الريح عليهم في البحر الشرقي فانصرفوا صرفهم الله، وخرجت مراكب الهند في أمان الله للابتغاء من فضل الله.
وفي نصف شهر جمادى الأخرى وصل كتب من الشريف أحمد بن زيد صاحب مكة إلى المؤيد بن المتوكل يذكر فيها كما روي من أجل توليته للشريف طالب لمدينة صبيا وما إليها، وأنه لما وجه لعزله عنها فقرره المؤيد على ما قال.
وفي هذه الأيام اشتد الغلاء ببلاد الحجرية، بلغ القدح إلى سبعة حروف، وكذلك في بلاد يافع والرصاص وقيفة. وكتب المؤيد إلى ابن عفيف بأنه يصل إلى حضرته، وزلج صنوه علي وقرر رأيه في تسكين المشرق، فأجاب ابن عفيف بأن الوصول يشق به ويتعذر عليه لكثرة من يتبعه من أصحابه، وأن الطريق يصلح شأنها، وابن شعفل قد دخل في تقريرها وتأمينها، ولا يحصل فيها تعدٍ من قبلهم فيها .
[105/أ] وفي نصف شهر جمادى الأخرى وصل من الشريف أحمد بن زيد صاحب مكة كتب إلى المؤيد قيل أن مضمونها أن بيت الشرف بيننا وبينكم واحد، وأن السلطان وجد علينا أنا نذكركم في الخطبة وأمر أن تكون له وانا كنا نرى لكم ذلك،وقد سبق كتاب إلى صنوكم الحسن صاحب اللحية،فلم يظهر بمسرته، وأنه بلغنا أن التجهيز إلى دياركم،فاشتغل بذلك المؤيد وتغير منه.
وولد مولود في بلاد الرحبة عجيب الخلقة لبقرة نصفه الأعلى صورة آدمي ورأسه وصدره ونصفه الأسفل صورة البقر، فالقدرة لله تعالى، ولم يلبث أن مات، وقيل إنه نطق جواباً على المرأة التي رأته لما قالت أعوذ بالله من الشيطان، فقال مجيباً عليها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وفي هذه الأيام خرجت المراكب الهندية[105/ب] بالبضاعة من البز ونحوه قدر خمسة عشر مركباً من جملتها المركب الكبير الذي لسلطان الهند، وهو لم يخرج العام الماضي .
وفي هذا الشهر خرج من الهند شريف له معرفة بعلوم العربية، وكان قد سكن بمكة في المدة الأولى، وإنما أرسله سعيد بن بركات بهدية إلى سلطان الهند، فبلغ إلى سرات، وجاءت الأخبار بعزل الشريف سعيد وتولية أحمد بن زيد، فعاد من سرات.
قال الراوي: وكان المذكور له ترجيحات خرج بها عن أصل مذهب الحنفية، منها الجمع بين الصلاتين، وصنف في ذلك كتاباً وذكر ما جاء من الأحاديث في جواز الجمع للصلاة من غير عذر. وهو كما قال، فإن الأدلة قاضية بالجواز، وقد رجحه كثير من الشافعية وغيرهم، كما حققه السيوطي في الديباج شرح صحيح مسلم . ولكنه روى عن هذا الشريف المذكور مسألة ضعيفة، وهو أنه يعتقد أن لا كفر يوجد في الأمم، وهذا خطأ عظيم ورد للكتب المنزلة على جميع الأنبياء. فقلت للراوي هذا: وما شبهته في هذه المقالة الشنيعة؟ فقال: لعله يتابع ابن عربي ، فقلت له: حاشا ابن عربي عن هذه المقالة؛ لأنه وإن قال بوحدة الوجود، وأنه لا معبود إلا الله تعالى، وأن عبادة الكافر للصنم منصرفة إلى الله تعالى، فمراده أنه لا واحد موجود في الحقيقة إلا الله تعالى، فالعبادة التي وجهها الكافر إلى الصنم منصرفة في الحقيقة إلى الله تعالى؛ لأنه لا موجود حقيقة إلا الله تعالى وكل ما سواه فاني، والرسوم ممحوة من باب محو الرسوم والفناء، فالكافر كافر[106/أ] بعبادته للصنم وإشراكه واعتقاده أن شيئاً غير الله يعبد، فهو ضال في الشريعة والحقيقة، أما الشريعة فظاهر، وأما الحقيقة فلكونه اعتقد أن شيئاً سوى الله تعالى يعبد، ولا معبود إلا الله تعالى وما أظن هذا يصح عن الشريف أصلاً، فلعله إنما يقول بمقالة ابن عربي فقط، وإنما حصل التركيب من الرواة لعدم معرفة الحقيقة ما هي عند الصوفية، فتوهم من قوله بمحو الرسوم ووحدة الوجود والفناء، وأنه لا موجود ولا معبود إلا الله، وأن العبادة وإن توجهت إلى الصنم للكافر فليست في الحقيقة إليه مع كفر الكافر باعتقاده بعبادة الصنم، فظن الذي لم يعرف قواعدهم أنه يصوب عبادة الأصنام، كما توهم كثير في ابن عربي بمثل ذلك، والله أعلم.
وفي ليلة ثالث شهر رجب الفرد من هذه السنة اتفق حريق سمسرة بصنعاء في طرف سوق الإسكافيين لرجل يقال له الخولاني، كان من أصحاب أحمد بن الحسن، بسبب بارود وضعه فيها يهود من المتسببين الذين يصلون به. فاتصل بالبارود منهم نار أول الليل، فاحتمل الربع العدني من السمسرة، وسقط الجانب العدني من السمسرة على الحوانيت التي من خارج، هلك في الحوانيت جماعة كانوا في السمسرة، وكذلك اليهود أهل البارود أجمع وهم ستة، فجملة الذي هلك أحد عشر نفراً. وهرب الباقون من الجانب القبلي الذي سلم عن الخراب، والبارود ما ينبغي وضعه في أسفال البيوت وفي السماسر، وإنما يوضع في الأماكن[106/ب] المنفصلة البعيدة عن الساكن.
وفي ليلة خامس عشر من شهر رجب قيل وقع خسوف القمر في برج القوس، وقد كان حكم المنجمون بذلك قبل حصوله، وأنها تطلع خاسفة ولم ير الخسوف لاتفاق سحاب متراكمة كان ذلك الوقت، إلا أنه أخبر برؤيته من جهات أخر.
وفي شهر شعبان مات القاضي علي بن عبد الهادي الحسوسة الثلائي في بلده بثلاء، وكان قد انتصب حاكماً بعد موت صنوه. وتبعه موت القاضي محمد النهمي بصنعاء كان قد نصبه المتوكل قاضياً في البيضاء من بلاد الرصاص، فلما مات المتوكل خرج عن البيضاء مسارعاً، قال: لأن قبائل الرصاص لا ينخرطون إلا بدولة قاهرة، فلما مات المتوكل مع ما كان يكابد المشاق معهم خرج عنها إلى محل سكونه بصنعاء.
وفي هذا الشهر ارتفع السعر بصنعاء بلغ القدح البر سبعة حروف، والذرة والشعير خمسة وذلك بأول فصل الخريف، ثم حصل المطر بأول الخريف في أكثر البلاد، لكنه انقطع المطر في وسط الخريف، فحصل النقص، والسعر ما نزل؛ لأنه كان ظهر من الدود الذي يسمى الجرمي، ومنهم من يسميه القاشر الدودة المصوفة، فأكل الذرات في أكثر بلاد اليمن، فنقصت خصوصاً الصفر منها. ثم لما ارتفع آخر الشهر رجع نقصها، واستمر هذا الغلا بالسعر في هذه المدة بصنعاء، وسائر البلاد أهون، ففي المغارب السعر على النصف من هنا، وكذلك باليمن الأسفل، وإنما الغلا بصنعاء لقل الواصل إليها مما كان يعتاد من اليمن الأسفل[107/أ] من الحبوب، لضعف اليمن الأسفل بالنظر إلى ما كان، ولاستغراق ما جلب هنا، ثم لمن هنالك من الدولة. وعلى الجملة إن الأسعار ما زالت مرتفعة من سنة ست وسبعين وألف إلى هذه المدة، حول إحدى وعشرين سنة، ما يعلم أن اتفق مثله.
وفي هذه الأيام بشهر شعبان وصل زيد بن المتوكل إلى صنعاء، فحبس خلق الله كثيراً من الناس ممن نقل إليه بحق أو باطل مما نهي عن التجسس له، وأمر النبي÷ بالستر عنه من غير مراعاة مناظره، فأملى حبس قصر صنعاء وغيره.
وفي هذا الشهر بلغ أنه حصل في بيت الشيخ ابن العفيف اليافعي صاعقة أخربت جانباً منه، وأشاع الناس بأن ابن العفيف من جملة من هلك منها، ولم يصح وإنما حصل ذلك.
وفي ثالث شهر رمضان آخر نهار السبت توفي علي بن المتوكل بداره بمحروس مدينة إب باليمن الأسفل، عقب نزوله من يريم بلا فصل، فإنه خرج من يريم يوم السبت سادس وعشرين شهر شعبان، وكان قد أحس بنواخز معه فلما وصل إلى إب دخل الحمام ثم بقي نحو يوم أو يومين وأتبعه الفصادة ، ثم تبعه الحِمَام ، وقبر بحوطة الكاظمي بإب، رحمه الله تعالى. وقال راوٍ آخر ممن يختص به أنه كان يعهده غم وهو بيريم، ثم يزول عنه ذلك، فلما كان يوم السبت عهده ذلك وقت الظهر في ثالث رمضان، فمات آخر ذلك النهار منه، فكان من يوم نزوله من يريم من السبت إلى السبت. وكان دخوله إلى إب في أبهة ملوكية مع خيل كثيرة نحو أربعمائة عنان، والنوبة تضرب والصناجق تخفق، فالقدرة لله العظيم. وكان الرجل فيه الكرم الذي تميز به عن إخوته، ولكن كان جار اليد على رعيته، ولم يترك شيئاً من مطالبه[107/ب] فإن صنوه المؤيد كان أمره بذلك، فاعتذر لشدة الحاجة للجند معه، فالله يغفر له فهو الغفور الرحيم بعباده من المسلمين. ومثله في جرة اليد صاحب المنصورة، لكن أهل الحجرية ليسوا كاليمن الأوسط، فإنهم يمنعون عن أنفسهم بعض المطالب، لا سيما جبل القماطرة . ولا يدخل العسكر بيوتهم أصلاً بل يجعلون له منزلاً منفرداً أو في المساجد، بخلاف اليمن الأوسط، ولا يسلمون إلا ما فرض عليهم، وما انطلبوا فيه من سبارهم.
وقد كان علي بن المتوكل بنى بفتح الضريبة في إب، واستأذن صنوه، وقال إنه صار يحتاج لمن عنده، وكان الصرف يومئذٍ قد نقص عما كان، بلغ القرش إلى سبعة أحرف بعد أن كان في عشرة حروف، ولو تمت الضريبة رجع الصرف على حالته الأولة وأكثر.
وفي هذه الأيام رجح لسيد يقال له السيد علي بن حسين الشامي وهو ساكن ببلاد خولان صنعاء الدعاء لقبائل خولان إلى نفسه، وقال لهم: إن أحوال المؤيد تغيرت، فلم يجبه أحد منهم، فسكن. وهذا من عجائب اليمن لا يزال دأبه هكذا فيهم، مع أن المذكور ليس له إلا الفرائض ومشاركة في الفقه، وفي مذهبه أن الإمامة تحتاج فيها إلى العلم الواسع .
[108/أ] ولما انقضى أمر وفاة علي بن المتوكل باليمن الأسفل كتب جماعات من الذين كانوا ملازمين معه من رؤسائهم إلى أخيه المؤيد بأن الولاية تكون لولده حسين بن علي بن المتوكل ، وأنه يكون بذلك حفظ الجند والاستمرار، فتغافل المؤيد عن الجواب، حتى ينظر في الصواب ولم يجزم بوضع الولاية، بل أبقاه على تلك الحالة. ووصل في خلاله شكاة من اليمن الأسفل يذكرون ما قد كان نالهم من تلك المطالب الكثيرة والمظالم الواسعة من الأيام السابقة. وكانوا قد شكوها إلى والده المتوكل، فلم يتقدر فيها ارتفاع، على ما هي من الاتساع، فأمر المؤيد برفعها وإزالتها، وأنه لا يريدها ولا يأمر بها. وأرسل الفقيه أحمد بن عبد الحق الحيمي لافتقاد تلك البلاد، ورفع حقائق المطالب الزائدة في تلك الآفاق، فدعا له أهل اليمن، وعادوا ونفوسهم طيبة. وحسين بن علي بقي في إب، وكان قد كتب إلى خاله محمد بن أحمد بن الحسن صاحب المنصورة في شأن تلك البلاد، فأجابه بكتاب أنه يصلح للبقاء على ما هو عليه، وكتب بكتاب إلى المؤيد بمثل ذلك، هذا والله أعلم.
وتوفي عقبه بلا فصل أحد أولاده المسمى محمد بن علي بن المتوكل بالروضة، بألم الحلق، وكان قد بلغ في السن نحو عشرين سنة.
وفي بكرة يوم الأربعاء عشرين من شهر شوال توفي الولد شرف الدين الحسن بن يحيى بن الحسين، ولد كاتب الأحرف بألم الحلق.
كان مرضه رحمه الله من آخر نهار الجمعة خامس عشر الشهر، ومات بصنعاء، فكان له موقع عظيم[108/ب] عند والده كاتب الأحرف للغفلة الطارئة التي حصلت في هذه المدة، ثم شيعناه رحمه الله من الدار التي لنا قريب الأبهر إلى بير العزب، غربي صنعاء، وقبرناه قريباً من بيتنا ومخرفنا -في مكان مناسب لمثله ويقرب من التذكر لنا والتأسي به وللدعاء- بأطيان بير طاهر التي لنا. وكان هذا المحل الذي قبر فيه رحمه الله كثيراً ما يتعود القعود فيه وحده، عند ساقية الماء الجاري من البير لسقي الضيعة التي معنا والأعناب فيها. وكان سنّه يومئذٍ في عشرين سنة ونصف، ومولده سنة خمس وسبعين وألف ، وكان لا يفارقنا رحمه الله في بقانا بصنعاء وفي الخريف في هذا المحل خارجها، إلا هذه السنة، فإنه اختار واسترجح عدم الخروج لنزهة الخريف معنا، وكنا نحب مطابقة غرضه ومسايرته، فسكن هنالك إلى آخر الخريف وكان موته رحمه الله. وكان فيه صفات ما رأيتها في أحد من أمثاله وأبناء جنسه رحمه الله من السكينة التي رزقها وكمال العقل والقناعة، بحيث لم يسألني في حاجة ولا مطلبة، وإنما كنت أعرض عليه ذلك عرضاً، فيأخذه مني. وكان لا يخطر بباله يسأل الدولة ولا القصد إلى أبوابهم ولا الاتصال بهم بالجملة الكافية، فما وصل إلى أحد منهم في جميع مدته ولا عرفهم ولا كاتبهم. وكان قد ولع بالصلاة[109/أ] بجامع صنعاء محبة منه للجماعة والتلاوة، فكان لا يتركها للمغرب والعشاء كل ليلة رحمه الله. وكان من جملة المثبطات له في السكون بصنعاء هذا العام وعدم الخروج لنزهة الخريف هو ذلك، وربما زوجته أحبت سكونه بصنعاء، فسكن معها. وكان رحمه الله يشتري من الكتب ويحب مطالعتها، خصوصاً ما فيه من القصص والأخبار والآداب، وكان قد قرأ على كاتب الأحرف في كافية ابن الحاجب شرفاً واحداً، وله الخط الحسن، واللفظ البليغ المحكم. وكان يظهر معه رحمه الله البركة فيما تحت يده، بحيث ذكرت له
مرة أني عجبت فيما رأيته معك من الفراش والكتب ونحو ذلك، وما يشتريه من الكسوة له وأهله، من أين هذا؟ فقال: الأمور متيسرة، فعلمت أن ذاك إنما هو بركة القناعة، فإنها رأس الغنى، فرحمه الله رحمة واسعة، وتلقاه بالروح والريحان، والرضى والغفران. ولقد كان رحمه الله في بعض السنين ونحن بالخريف يدخل في رمضان إلى جامع صنعاء من بير العزب للصلاة، ويبقى في الجامع إلى قريب الغروب يصلي فيه ويتلو القرآن هنالك ثم يخرج إلى عندنا هذا دأبه. ووصلت أبيات في تأريخه رحمه الله من سنبل بن سرور رعاه الله برعايته، وعانه وأحسن إليه في دنياه وآخرته، يقول فيها:
[109/ب]َجرى حكم المنيَّة في الزمَانِ .... بأن المرء مُخترم الأمَاني
الفارس الحسن بن يحيى .... يموت وما سوى الرحمن فاني
مضى لم يقض من دنياه سُؤْلاً .... ونادى يا خليلي وَدِّعَاني
وأنموَوَلَّى غيرُ ملتفت إليها .... سريعاً غير ثانٍ للعِنَانِ
فإما رُمْتَ تعرف أين وَلَّى .... فأرخه إلى ظل الجَنَانِ
سنة 1096 .
وقال السيد علي بن صلاح السراجي:
يا أيها المولى العماد ومن غدا .... بجميل أوصاف المكارم يحمدُ
وأجل من يغني الذرا بعلومه .... ويحل أمر المشكلات ويعقد
بك أسوة بمحمد ووصيه .... فالشكر أجمل والتصبر أحمد
ولأن مضى رزء حل قلوبنا .... لكن هو يا خير مولى يوجد
حسن العز ألماً أتى تأريخه .... حسن بعزٍ في الجنان مخلد
1096
وللقاضي زيد بن صالح العنسي قوله:
ما قضى حسن نجل الهدى وطراً .... عن الحياة وسبل الراشدين مضى
وحاز أجراً بحسن الصبر والده .... يحيى عماد الهدى والدين واتعضا
لأقره الله في عَدْن وأسكنه .... بالخلد كيما أتى التأريخ منه رضا
[110/أ] وللفقيه أحمد بن علي الشارح قوله:
وجزاه الإله جنان عدن .... في مقام نعيمه غير فان
وإذا رمت فيه تحقيق نظمي .... فاصغ سمعاً لما يقول لسان
ألفاً زد به وقل أرخوه .... حسن خالد بدار الجنان
1096هـ انتهت.
هذه الترثية للفقيه الأديب صلاح بن صالح الأحمر
ورأى له رحمه الله السيد الفاضل قاسم بن ناصر الغرباني رؤيا، هي من المبشرات، بأنه اتفق به وسلم عليه وسأله عن حاله فقال له في نعيم وأمان وخير جسيم، وأنه رآه على حاله التي يعرف، وأخبره ببعض صفات الجنة والحور العين، ثم أنه حان وقت الصلاة، فقام السيِّد وقال له: قم نصلى، فقال له الآخرة قد ارتفع فيها حكم الصلاة والتكليف، رحمه الله تعالى.
وفي هذه الأيام شهر القعدة الحرام جاء الخبر بأن صالح الرصاص واليافعي التقوا للحرب فيما بينهم، فراح منهم مقتلة، وكان القتل من يافع الكثير ومن أصحاب الرصاص اليسير. وأرسل اليافعي عند ذلك للرتبة الذين كانوا معه بجحاف وأخلاه عن ما كان رامه من الاعتساف، وكتب إلى المؤيد بأنه داخل بالفطرة نحو أربعة آلاف، وقال إنه لا يحصل منه تغيير على تلك الأطراف.
وفي شهر شوال هذا صالت قبائل دهمة من أطراف الجوف على بلدة معين، فانتهبوه، واستلبوا الحلي من حريمها، وأعانهم بعض أشراف الجوف، بل قيل أنه الذي استدعاهم إليها، فلا قوة إلا بالله.
وفي هذه المدة بعد حصول الغلا في الأسعار لقل الأمطار وضعف الثمار ومما حصل من أكل الجرمي من الدود للزرائع حصلت الركة في كثير من الناس، بحيث أنها غلقت بعض حوانيت مدينة صنعاء، وضعف فيها البيع والشراء، وترك جماعة المساني بشعوب لفترة العلف لقراشهم، وأكل الدودي لثمارهم، وصارت أصلاباً أموالها، وخلت بيوتها، وصلب بعض أعناب الجراف، ويبس [110/ب] الغيل فيه وعدم المساني، وغور الآبار، ونزول الماء فيها، وعدم الاستقرار فيها على ما كان أولاً. وكذلك صلبت بعض الآبار التي داخل صنعاء كسَمْرة والعَلَمي وغيرها وبعض المقاشيم ، وبطلوا المسنا فيها، ويبس غيل وادي بقلان ببني مطر، ويبست فيه الأبنان. وشعوب صلبت بعضها لعدم قدرتهم على علف قراشها، وأكل الدودي لزراعتهم فيها، وعلى الجملة إنه لا يعلم أن قد اتفق مثل ذلك، فالحكمة لله سبحانه.
وفي ثامن هذا الشهر جاء خبر من اللحية بأن الجلاَّب الذي لحسن بن المتوكل حيّرت بجدة عن رجوعها إلى اللحية، فتحير بسبب ذلك المسافرون في اللحية من التجار وبعض الحاج.
وفيه أرجعت قبائل قيفة والرياشية القباض الذين أرسلهم حسين بن حسن للزكاة من تلك البلاد، فوصل حسين بن حسن من ضوران وهو مستقر فيه هذا الأوان إلى حضرة ابن عمه المؤيد وهو بمعبر جهران، وقال يرسل بعسكر لهذا الشأن ولا يترك المشرق، فبقي المؤيد في الحيران، لما كثر الاختلاف عليه من الأقران. ووصلت رسالة من قاسم صاحب شهارة يذكر له أنه بلغه رفع المطالب من اليمن الأسفل بلاد حي صنوه علي بن المتوكل، وخصوصاً دراهم دكة تعز؛ لأنها قد بلغت هذا الزمان في الشهر ثلاثين ألفاً بعد أن كانت..... ، وأنه يحتاج إلى ذلك للعسكر وغيرهم. وقد مر عليه أبوه المتوكل فمن قبله، وكان يومئذٍ هذه المطالب باليمن الأسفل دون ما كان آخر مدة المتوكل، فلو أنه خفف من المطالب الزوائد، وإلا فإن الجور قد حصل عليهم، فالمؤيد مصيب في رفعها والعدل واجب[111/أ] فيها بلا شك، والله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلى الَبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالعُدْوَانِ} .
والظلم ظلمات يوم القيامة، وعقباه الحسرة والندامة، فلا وجه لاعتراض صاحب شهارة ولا صاحب المنصورة، ويجب عليهم العدل في الرعية، والسيرة المرضية، واجتماعهم في الكلمة مع أن رفع المطالب الأخر في اليمن أقدم من دراهم دكة تعز؛ لأنها تخص أهلها، ودراهم دكة تعز تعم؛ لأنها للطالع والنازل من التجار من جبلها وسهلها، فرفع المطالب في اليمن على رعيته أقدم وأهم؛ لأنها كثرت عليهم، فإنها نحو عشرين مطلبة، فالمؤيد رجح رفع الزوائد في المطالب في بلاد دكة تعز من الشيخ راجح، وأبقى ما كان قبله.
وفي هذه الأيام أمر صاحب المنصورة أنه لا يخرج أحد من الباب إلا بتذكرة إلى البواب، فتضرر الناس بسبب ذلك. وسبب ذلك أن العسكر الذين يصلون إليه لا يستقرون، بل يستعدون ويخرجون، فعمت القضية فتضرر الناس بسبب ذلك. العسكر وغيرهم، وتقاللوا بحضرته؛ لأن ذلك جرى مجرى الحبس والترسيم عليهم، مع ركة أحوالهم، وغلاء الأسعار، ومشقة السبار، فإن الغلاء هذه الأيام قد طال، والأسعار باقية على الارتفاع. فإنه هذا الوقت كان وقت الصراب، ولم ينقص السعر، بل القدح الصنعاني بثمانية حروف والشعير بأربعة ونصف، والذرة بخمسة، وله في الارتفاع من شهر رجب، فظهر على كثيرٍ الركة. ورحل كثير من المشارق وبلاد صنعاء لطلب[111/ب] المعاش، وظهر على الدولة الضعف والركة والحاجة الماسة، خصوصاً أولاد أحمد بن الحسن، وباعوا في الأسواق أثاثهم، وكذلك من ينضاف إليهم ممن كان ملازماً لهم. ورخصت الأسعار في المغارب وبلاد خبان ويريم إلى ذمار؛ لأن الثمرة كانت فيها أحسن من غيرها، فبلغ القدح إلى حرفين وستين بقشة، وأما صنعاء فلم ينزل سعرها بل على حاله، وسببه ضعف مخاليفها، وصار يصل إليها الحب محمول، ويلحقه ملحوق الكرى من هذه البلاد مثل النصف، فلذلك كان في صنعاء على الارتفاع، القدح البر بسبعة حروف، والشعير بأربعة، والذرة كذلك.
وفي هذه الأيام بهذا الشهر ترجح للسيد محمد بن علي الغرباني الذي كان مدة المتوكل ببلاد برط يدعي الإمامة، كما سبق، وكان هذه المدة بصنعاء أن دخل بلاد يافع متنكراً في لباس أهل المشرق يسير معية مع بعض من سايره.، وكانت طريقه مشرق رداع، حتى دخل إلى تلك الجهة، يريد إذا وافقته يافع على إجابة دعوته ويحملهم على البغي على المسلمين مما يبوء بإثمه، فلا قوة إلا بالله. ولما وصل يافع صار يحسن لهم ما فعلوه مع الدولة.
وفي هذه المدة صالت قبائل دهمة على صوافي أحمد بن حسن التي حول بلاد معين من الجوف، فأرسل ولده محسن من الغراس أحمد بن شمسان بجماعة وقد كان وقع منهم ما وقع في أهل الجوف من الانتهاب، وقتلوا وكيف ولم يحترموا الأشراف.
[112/أ] وفي هذه المدة شهر جمادى الأولى سنة ست وتسعين وألف صالت الفرنج الملاعين على أطراف بلاد الجريد، وذلك بسبب أن وزير السلطان لما حصل منه التمثيل بالرسل الذين أرسلوهم إليه بأن قطع آنافهم وآذانهم ومشافرهم، وعلق الكتب في أعناقهم، وأرجعهم إليهم على تلك الكيفية، وهم أربعة أنفار منهم. فقاموا وقعدوا وكاتبوا جميع طوائف الفرنج النصارى والإنجريز، فاجتمع منهم طوائف لا يحصيهم إلا الله، وقاتلوا الوزير للسلطان محمد بن إبراهيم بن عثمان قدر خمسة عشر يوماً. واستشهد من المسلمين كثير، وقتلوا الوزير ، واستولوا عليهم الجميع، واستولوا على كثير من بلاد الجريد، ثم ارتحلوا إلى طرابلس الغرب من بلاد السلطان، فأخذوها، وكذلك إشبيلية من بلاد الغرب الجميع في جزيرة الأندلس، وفعلوا في الإسلام أفعالاً قبيحة من الأسر والنهب[112/ب] والتحريق. ولما بلغ السلطان هذا الخبر العظيم في الإسلام إلى اصطنبول خرج بنفسه، وأخرج لوكأً من الخزانة نيوى، وخرج يصيح الجهاد الجهاد في سبيل الله، وتوجه إلى تلك الجهات، وكتب بمثل ذلك الشريف سعد بن زيد إلى أخيه أحمد بن زيد، وقال: إنه توجه مع السلطان محمد بن إبراهيم بن أحمد خان للجهاد.
قال الراوي: وقد توجهوا إلى قصد بيت المقدس، وأنه لم يبق بينهم وبينه إلا نحو نصف شهر أو أقل، ولذلك خرج السلطان بنفسه، وكانت هذه الأخبار الرافع لها إلى اليمن وزير أحمد بن زيد عثمان بن علي بن حميدان وغيره من الواصلين من مكة وجدة.
ووصل كتاب من أحمد بن زيد إلى بعض أهل اليمن يذكر فيه أنه كان خروجه إلى بلاد نجد وقصد فروح وبني حسين، وذكر الشريف أحمد بن زيد أن خروجه من مكة كان سابع عشر شهر جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وألف ، وكان رجوع الشريف من الحجاز كانت حول المدينة، ثم رحل مكة مع الحجاج.
[113/أ] وفي نصف شهر الحجة قبض المؤيد بلاد تعز، من البلاد التي كانت مع صنوه علي بن المتوكل، فتغير من ذلك حسين بن علي بن المتوكل إذ محصولها بلاد والده. وأرسل رسولاً إلى المؤيد من أجل ذلك، وكاتب إلى صاحب المنصورة وتقوى بجانبه إن احتاج إليه في حفظ بلاد والده. وعند هذا سار[113/ب] صاحب عمران حسين بن محمد بن أبي طالب إلى حصن مبين بحجة، فتعب من ذلك المؤيد كثيراً وأرسل إليه أنه يعود إلى محله، فاعتذر بأن معه هناك حلة من مدة أحمد بن حسن، وطلب منه المهلة وهو يعود، فاستمد من البلاد بعض شيء مما كان له منها، معيناً وزاد؛ لأن أحمد بن الحسن هو الذي كان ولىَّ بلاد حجة والده محمد بن أحمد؛ لأجل دخوله تحت طاعته، وجعل له من محصولها جانباً، واستثنى جانباً، فاستمر على ذلك ولده بعده ، وكان هذا العزم طمعاً في ثبوت اليد له عليها أجمع. والمؤيد كان قد كتب أنه يقتصر على المعتاد له، ولا يسلم إليه أحد من أهل البلاد.
ودخلت سنة سبع وتسعين وألف
استهلت بالحساب بالثلاثاء وبالرؤية الأربعاء، وحصل في هذا اليوم مطر من أوائل الربيع عم أكثر اليمن الأعلى والأسفل، وتهون السعر الثلث مما كان أولاً، لكن حصل من قبل الدراهم الانكسار في البيع والشراء؛ لأجل ترك الضريبة، فنقص الصرف للقرش بدون وزنه بمثله من هذه الدراهم، مع كثرة النحاس فيها، فإنه كان الصرف للقرش للتجار بعشرة حروف أولاً وهذا الوقت بلغ إلى ستة أحرف، مع أن الأسعار والأجر بعد ارتفاعها أولاً لأجل فرق الدراهم ما نقصت بنقص الصرف، لعدم جري الضربة على مقدار واحد، لا يختلف، فأوقع في هذا الخلل.
وأخبر الحاج أن السعر كان بمكة[114/أ] الكيلة بستة عشر بقشة مصري، والزوارأخبروا أنه كان بالمدينة المنورة الكيلة بأربعة كبار، وأن تلك البلاد والحجاج صالحة، وأن الغلا في اليمن. وأخبروا بقوة يد أحمد بن زيد وكثرة الخيل والجند معه، يبلغ الخيل معه في هذه المدة بعد عود الزوار إلى قريب ألفين فارساً، وأن يده امتدت على جميع بلاد نجد، إلى قريب نجران والحرجة وإلى صبيا في تهامة.
والسيد صلاح أمير الحاج اليماني لما عاد من الحج إلى الغراس مات فيه، وقد كان متأثراً من الطريق. وكان قد أهدى المؤيد إلى أحمد بن زيد هدية زيادة على المعتاد من الدراهم التي عودها والده، فأهدى نحو ثلاث خيل من الجياد، وثلاثة سيوف من السيوف الهندية العظيمة، واتفق اشتجار بين الحجاج حال الدخول في بلاد الحرامية على الطريق بين تركي خواجا وبين عسكر السيد صلاح من مرهبة، فقتلوه، فقبض السيد على القاتلين وسلمهم إلى السيد أحمد بن زيد بن محسن، فحبسهم الشريف وقال: يكون النظر للشريعة في أمرهم.
وفي آخر نهار الأربعاء سابع شهر محرم مات الأمير عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين بحصن كوكبان، وأنزلوه إلى شبام، فقبروه جنب والده. وكان إليه جميع ولاية بلاد[114/ب] لاعة من كوكبان إلى منابر تهامة والطور.
وفي ليلة نصف شهر محرم خسفت القمر في برج الجوزاء عقب نصف الليل، ابتدأها بسواد ثم بحمرة وتجلت أول السحر.
وفي هذا الشهر مات الذانبي المتولي لبلاد لحج، فحصل طمع اليافعي في تلك الجهة، فقدم تقدمة إلى نواحي جحاف، وجهز إلى أبين، وقال: هو في ولايته من محمد صاحب المنصورة من تلك الأيام السابقة. فلما حصل هذا الحاصل كتب صاحب المنصورة إلى المؤيد وإلى بني عمه من الولاة وإلى مشائخ البلاد أنهم يمدوه بمعونة، فإن أهل المشرق قد صاروا في حدود بلاده، وتعقب ذلك رتبة أيضاً إلى قعطبة من اليافعي، يقال: إن رئيسهم السيد عبد الرب، وأن الغرباني رئيس الذي بجحاف، قيل: وهذه الحركة من اليافعي بسبب الغرباني، كما قالوا أثار حفائظهم، وحثهم على ذلك. وكان المؤيد قد أحسن إلى الغرباني هذا وأعطاه وشرى له بيتاً وفرشه له بالمفارش الرومية، يتألفه بذلك فما نفعه ذلك، وصار يطعن في سيرته وسيرة إخوته وأهل دولته، كما كان يطعن في دولة الذين قبله، ففرح يافع بهؤلاء لما طابق هواهم والقدرة لله تعالى.
وكان من جملة كتب محمد صاحب المنصورة إلى المؤيد: إنك إن كنت باني على المعونة، وإلا ترفعنا عن هذه[115/أ] البلاد، فكان حاله فيها كحال مجير أم عامر ، فإنه كان في تلك الفتنة الأولة التي جرت في يافع معيناً ليافع على الدفع والإمداد لهم، كما تواترت به الأخبار عنه معهم، ثم هاهم رجعوا على بلاده ومحاربته.
وفي نصف صفر وصل الزوار فأخبروا أن الخير بالمدينة والحجاز كثير، سعر الكيلة أربعة كبار، وأن عند أحمد بن زيد جمع كثير من الخيل والرجل............. وأن الخيل وجدها تأتي قريب الألفين.
وفي هذه الأيام بشهر ربيع الأول عادت جوابات كتب صاحب المنصورة عليه من القبائل ومن بني أعمامه، فذكر الأهنوم في جوابهم أنهم لما نزلوا المرة الأولى مع أحمد بن المؤيد وأنقذوا محمد بن أحمد صاحب المنصورة من الغرق لم ير لذلك منهم مروة، ولا جازى أحداً منهم من المصروف والكسوة. وهذا المخرج المطلوب إن كان فيه ما يحملهم من المصروف والزاد، ويكون لهم أمير يسير معهم بخزانة كاملة لما احتاجوه فهم يسيرون، وإن كان غير ذلك فهم باقون، فأرسل به القاسم صاحب شهارة إليه بجوابهم. وكان جواب قبائل بني الحارث وهمدان أن قد خرجوا الخرجة الأولة واحتاجوا حاجة شديدة ولهم جوامك مقطوعة، فإذا أرسلوا لهم بالجامكية إلى عندهم ساروا. وكذلك مثله جواب أهل الحيمة. وأما جواب صاحب صعدة فأجاب بأنه مشغول ببلاده والعسكر الذي عنده يحتاجهم للمحافظة عليها، مع أن قد تغلب عليه بلاد نجران ولم يتمكن من أخذ شيء من واجباتهم في هذا الزمان، وأنهم منعوا بلادهم بالرتب[115/ب] ولم يصل شيء منها. ومع اشتجار بلاد خولان واختلافهم فيما بينهم وهم العمدة معه وأكثر عسكره منهم، فلم يبق له يد عليهم نافذة، ثم ذكر أشياء من المطاعن في سيرة المؤيد من نحو ما كان يطعن به على والده المتوكل آخر مدته، كما سبق ذكره. ولكنه قدم كتاباً إلى المؤيد يذكر أنه إذا هو باني على الحركة فقد اجتمع له طائفة كثيرة، وشرط أن يعوضه في بلاد اليمن لأجل ما يحتاجه ومن معه، فتغافل عن جوابه للنظر كيف يكون خطابه، وما تمس إليه حاجته.
وبسبب هذه الأحوال واختلاف الأنظار والتنازع حصلت الضعف في هذه الدولة، واستولى اليافعي على سوق بقار بحدود الدمنة وقعطبة، واصطلح هو وابن شعفل، وكانت أيديهما واحدة، وأمنوا طريقهم إلى جهات عدن، وأخذوا المجابي التي كانت بقعطبة على العادة السابقة.
وحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم أبو طالب صاحب عمران لما سار من عمران إلى حجة، كما سبق ذكره، وكانت رسل المؤيد عنده، فلما تم عمله من استقراره المدة التي طلب لحنان أولاده، ذكر الرسل ما يكون الجواب وأنه يأذن لهم في العود، فأجاب بأنه يثقل عليه الارتحال، ويتعذر عليه الإجابة إلى دخول الحجرية وحدود يافع على كل حال وأنه باقٍ بين أهله ولا يتعرض في شيء، بل العهدة على السادة من بني جحاف في الولاية على العادة. ثم لما بلغه تحرك عمه من صعدة طلع وخرج من مبين وعاد إلى عمران، فعاد الرسل، وهو وقف في حصن مبين[116/أ] وأراد التباعد عن المؤيد وحفظ الحصن لأمل معه يريده من الدنيا والاستيلاء على تلك الجهة عند التمكن منها، كما قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا } . وصار كالمستجير في الحصن، لما قد أصابه من الهزيمة في البلاد اليافعية، وتلك القضية، وأنه إذا تمكن فهو يطلع من بعد إلى عند المؤيد، وتقاعد عن الحركة وحط رجله في العقبة، وظهر من حاله أنه في هذه الساعة راضٍ بما تيسر له، ولا يعرج على ما قطعه المؤيد إن قطع من معتاده من حجة إلى وقت تنزيعه إذا أمكنه آمال معه مبسوطة، والحكم لله العزيز في جميع الأعمال المقدرة.
فلما بلغه تحرك عمه من صعدة بجيوشه فتحرك حينئذٍ واستأنس وقوى جأشه، وقال: أما مع الإجتماع فتتوجه المسارعة إليه من غير نزاع، فطلع من حصن مبين وخرج عنه إلى عمران وبنى على السير مع الطلب، لكنه تثاقل كأنه ينتظر وصول عمه إن تم وصوله، وهو أقرب إلى العجز والملل. وعند أن عرف المؤيد أحواله أمر بقطع نصف دفعة حجة عنه، ولما تأهب الناس وخرج يحيى بن محمد من البستان، وكان قد تقدمه النقيب فرحان إلى جهات ذمار، وبلغ ابن العفيف ذلك ترجح لأن يبعث كتاباً إلى المؤيد، وإرسال دراهم من الواجبات، وقال: هو مطيع ومسلم للواجبات، ويعتذر مما جرى في أطراف الدمنة من قبله، والتعرض في ذلك إنما كان على وجه[116/ب] أنه وصل جماعة كالمستجيرين إليه وأنه بعث معهم من بعث، وليس قصده بذلك الخلاف مما فيه في الظاهر المخادعة. فحصل الشك مع المؤيد وقال: إذا الأمر هكذا فلا وجه حينئذٍ لقصده، وقال حسين بن حسن وغيره كيف الرجوع وقد تعبت في الكتب إلى كثير من الجهات؟ وقد ارتحل أولهم، هذا لا يصلح. وتقدم حسين بن حسن إلى رداع، ولما تحقق يافع هذا الاجتماع رفعوا رتبهم من سوق بقار وقعطبة، ولم يبق إلا جحاف، وكتب إلى المؤيد أنه قد كان وضع له تلك البلاد وغيرها محمد بن أحمد بن الحسن الأيام السابقة، وأما جحاف فاستبقاه، وقال إنه في الأصل من حدود بلاده. وكان قد أول العسكر وصلوا إلى يريم، فلما بلغ صاحب المنصورة بالإمداد جهز إلى جحاف جماعة من العسكر رئيسهم ولده إسماعيل وابن مغلس الحجري وغيره، فلما قاربوه هربت يافع إلى بلادهم، ودخل أصحاب محمد بن أحمد بن الحسن إلى جحاف، وكان هذا آخر شهر ربيع الأول.
وفي غرة شهر ربيع الثاني اتفق قران الزهرة والمريخ في برج الحوت.
وفي هذا الوقت وصل خبر أنه وصل زيادة من عسكر السلطنة من عند أحمد بن زيد صاحب مكة إلى صبيا مع واليها الشريف طالب بن حسين، وإخراج عنها الفقيه الوالي الذي كان في بعض بلاد صبيا من قبل حسن بن المتوكل من مدة والده، فقال: أصلها لنا وللسلطان.
[117/أ] ووصل كتاب من اليافعي إلى المؤيد في نصف شهر ربيع الآخر يذكر فيه من جهة محمد بن أحمد بن الحسن أنه ما زال يجهز إلى تلك البلاد التي كان دخلها مثل أبين وغيرها، وأنه رجع في وضعها له، وأنه كان وضعها له، وكذلك جحاف قد دخله أصحابه. وأنه بلغه أن إعانتكم له وتجهيزكم، فمع ذلك قد خلع الأمر الذي كان بينه وبين المؤيد على يد صنوه علي وأنه قد بنى على المخالفة في كلام معناه ومحصوله هذا، وكتبوا يومئذٍ إلى سلطان الإسلام، فاستشار المؤيد الحاضرون، فأشار من أشار منهم أنكم إن كنتم بانون على دخول يافع، فتحتاج إلى قوة عسكر، وبذل خزائن، وصبر على المراكزة كما فعل سنان باشا في المدة السابقة، وإن كنتم بانون حفظ البلاد هذه التي كانت قد دخلها اليافعي فهو الأصلح لكم وأعنتم محمد بن أحمد وظاهرتموه وهو الأمر الأيسر لكم والأقرب في هذه الساعة، فاستحسنه. وجهز زيد صنوه بالمظاهرة ليحيى بن محمد وفرحان الذين قد ساروا إلى[117/ب] جهات بلاد مريس، وزيد وصل إلى يريم ظهراً لحفظ البلاد التي قد استرجعها محمد بن أحمد، وتقوية له، وأرسل محسن بن أحمد بن الحسن صاحب الغراس إلى بلاد جبن، واستقر الأمر على هذا.
وهذه السنة ما زال السعر فيها مرتفع، البر بلغ إلى سبعة أحرف من حساب قرش واحد، ولكنه دون سنة القحط الكبير الذي في سنة تسعة وسبعين، فإنه بلغ فيها سبعة عن قرشين وكسور؛ لأن الصرف كان ذلك التأريخ من ثلاثة حروف، والقدح كان أصغر، وإن كان القدح قد فيه زيادة على ما كان زمن حيدر باشا وأول هذه الدولة بقدر النصف، ولكن فيه غلا، والحكمة لله. ولقد أخبرني رجل وصل هذه المدة إلى صنعاء، يقول إنه شريف من مدينة قندهار ما بين بلاد صاحب سمرقند وبخارى والأزبك وبين بلاد الشاه عباس الإمامي قال: نفس مدينة قندهار مذهبهم اثني عشرية على مذهب الشاه عباس، وهم خارجها حنفية لأنها طرف بلاد الشاه وما اتصل بهم بلاد بلخ حنفية تتصل إلى سمرقند وسلطانها وسلطان صاحب سمرقند والأزبك بلاد كاشغر حنفية كلهم، فقال المذكور: بلادهم بلاد خير، والأسعار بالنظر إلى اليمن رخية، وأن قدر عشرين قدحاً بقرش، والخمسين الرطل من السمن بقرش، وبلادهم تزرع الأرز والبر والشعير والعنب والفواكه دون الذرة، فلا تجيء في بلادهم لأنها باردة بردها أشد من جبال اليمن؛ لأنه ينزل فيها الثلج في الربيع والشتاء، والأنهار تفجر من آثاره من الجبال ويزرعون عليها، هذا ما ذكره المذكور.
[118/أ] وفي نصف شهر ربيع الآخر دخل يحيى بن محمد والأغا فرحان قعطبة وسكنوا فيها، وكان اليافعي بعد انهزام أصحابه من جحاف بدخول عسكر محمد بن أحمد بن الحسن صاحب المنصورة، كما سبق، بعث الغوائر في بلاده واجتماع قبائله، وزعم أن جحاف في الأصل من بلاده. فلما اجتمعوا وساروا إلى قربه ذلوا وجبنوا، وذكروا الغوائر منهم التي أغارت على جبل حرير، وما قتل منهم من الجمع الكثير منهم، لا سيما بعد أن بلغهم وصول يحيى بن محمد وفرحان بمن معهم إلى قعطبة، فرجعوا عن قصدهم ذلك إلى بيوتهم، وانكمشوا في معاقلهم ودورهم وتفرقوا شذر مذر . وكان بعضهم قد دخل جبل حرير، وأرادوا التبريد له والتحرير، فطلع إليهم الشيخ هادي بن شعفل، وقال: جبل حرير من بلاده، ولا يصلح أن يكون محلاً لهم، لئلا يحصل بسببهم معرة على قبائله، وكان قد بقي في أبين نحو ثلاثين نفراً من يافع ما تحتهم طائل، وعلى الجملة إن يافع تحيزت إلى بلادها وانقشعت جميع ما كان أقدموا إليه من نواحيها.
وفي سادس وعشرين شهر ربيع الآخر كان تحويل سنة العالم بدخول الشمس أول درجة الحمل، فكان المشتري في العقرب، والمريخ في الثور، وكذا الزهرة وعطارد وزحل آخر السنبلة، والقمر في الحوت، والذنب بالقوس، وكان أيضاً طالع السنة[118/ب] اختلاف الرأي، حتى إنه كما قيل وقع بينهم فرقة وقتول.
وفي هذه الأيام خرج بعض مشائخ يافع يريد المواجهة إلى قعطبة، فلقيه في الطريق الشيخ عبد الغفار بن شيبان فكأنه أخبره بمرض المؤيد، فكان ذلك سبب عود الشيخ إلى بلاده.
وفي نصف جمادى الأولى وصل أحمد بن المؤيد من نواحي بلاد شهارة في أصحابه وبعض مشائخ بلاده قدر أربعمائة، ومر صنعاء، سكن بها قدر ثمانية أيام. وصنوه القاسم بن المؤيد نزل من شهارة واستقر بخمر، وأجاش كثيراً من أهل تلك الجهة، وأظهر أن هذا إجابة للمؤيد في طلابه الأول، فاجتمعوا إلى خمر وأمرهم بسكون بيوت أهل خمر، فقالوا له: ما يصلح دخولهم البيوت إلا ما هو معتاد وما زاد فالخيام، فلم يعذرهم، فاستنكر منه ذلك من لم يعرفه على ما هو عليه من اعتقاد تلك الجهة فيه. ولما استقر أحمد بن المؤيد بصنعاء ضرب الناس فيه وفي صنوه القاسم الظنون والأوهام، وقال من قال: هذا يريد أنه إذا جرى على المؤيد بن المتوكل حال هو الأمير وصاحب الكلام، وأن مراده في الباطن التقرب من صنعاء والبسط عليها، وحسين بن المتوكل داخله الوهم أيضاً فقيل: أنه كتب إلى صنوه المؤيد أنه يرسل لأحمد بن المؤيد إلى حضرته، ثم سار أحمد بن المؤيد إلى معبر.
[119/أ] ولكن القاسم من بعد ذلك فكر في هذا الأمر، وأن القيام في هذا الوقت كالمتعذر من كل وجه؛ لأن بلاد اليمن أجمع قد استكمل فيها التقسيم والتغلب في بعضها من أولاد المتوكل ومن أولاد أحمد بن الحسن وأولاد محمد بن الحسن وأولاد أحمد بن القاسم وغيرهم. وكان بقي الذي في يد المؤيد من المتوكل، مع أن محصولها كان لا يقوم بحالة، والآن استغرقت. فصنعاء وبلادها مع صنوه الحسين، وتعز والمخا تغلب عليه محمد بن أحمد بن الحسن صاحب المنصورة ، وحراز أرسل إليه حسين بن المتوكل من اللحية بعض أولاده، وريمة وبُرع ونواحيها دخلها زيد بن المتوكل، وضوران وآنس استولى عليه يوسف بن المتوكل، فاستغرقت بلاد المؤيد التي كانت باقية بيده مخرجة عن المقطعات في زمانه، فلم يبق حينئذٍ مادة لمن يقوم في هذا المنصب مع أن أكثر المخاريج والعائدات إليه، فما ذاك يسلم لهم. فلهذا الأمر اقتضى نظر القاسم صاحب شهارة التوقف وعدم المسارعة في الدخول في هذه المنصب مع من ادعى من أهل الإقطاعات هذا المنصب وليس له أهلية، ولكنه قدم المكاتبات إليهم بالنظر فيمن يصلح، يريد عسى يجتمعوا عليه ويضعون الأمر إليه، ويمدونه بما يحتاج إليه وهذا أمر متباعد.
وفي هذا الشهر قصدت برط إلى الجوف لإرادة الانتهاب للثمرة معهم، ويفعلون كما فعلوا المرة الأولى، وكان أهل الجوف من الأشراف والقبائل قد حذروا منهم واستعدوا لهم إن قصدوهم فدافعوهم عن أنفسهم، وخرج فيهم فرسان الأشراف، فمنحهم الله أكتافهم، وقتلوا كثيراً من كبارهم وأشرارهم، بلغ القتل منهم قدر اثنين وسبعين نفراً، وهرب الباقون إلى بلادهم، أخذوا بالثأر فيما وقع منهم[119/ب] سابقاً، كما وصفه رجل منهم.
وفي هذه الأيام شهر جمادى الأولى وصل الشريف طالب صاحب صبيا إلى حضرة المؤيد، فوافق وصوله مرض المؤيد بمعبر جهران، ثم عاد إلى بلاده. ولعل غرضه من جهة صنوه الحسن صاحب اللحية أنه يترك التعرض إلى بلاده، حسبما جرت به عادتهم، وحسبما وضع له الشريف أحمد بن زيد من الولاية.
والمؤيد هذه الأيام لا يقضي لأحد غرضاً ولا يتصل به لا أقصى ولا أدنى، والآلام قيل أولها من قبيل السل الدق، وقيل من قبيل الاستسقاء وأنه طال عليه، ثم ظهر آخره الورم العظيم في وجهه وأيديه واستقوى عليه الألم، ففصد في القيفال عرق الرأس، ثم وصل طبيب من المخا زاد أمره بفصد آخر بين أصابعه، ثم أعطاه شربة وكثر عليه متابعة الاستفراغات، فانحطت قوته بالمرة، والحكماء يمنعون متابعة الاستفراغات، لا سيما مع ضعف قوة المريض، فإنه لا يعارض شيء منها، فكان يحصل معه ما يحصل، ثم آخر أمره تقبض كثيراً بمعبر وأمر بإخراجه منه إلى حمَّام المعرة ، ثم يريد طلوعه جبل ضوران، فساروا به في التختروان في جهران، ثم لما أشرفوا على وادي الخيرة حمله الرجال فوق أعناقهم، وكان قد منع الناس عن السير معه، فلم يسر معه إلا من يحتاج إليه من الخدم، وكان خروجه من معبر يوم الأربعاء آخر يوم من شهر جمادى الأولى، ومات آخر نهار الخميس غرة شهر جمادى الأخرى في الحَمَّام.
[120/أ]وقضى الله عليه الوفاة بأجله المحتوم، الذي لا يفوته الهارب، ولا ينفعه الدواء من أمر الله الغالب. وكان المذكور قد رفع مظالم كثيرة من البلاد التي نفذت بها يده وحكمه كبلاد صنعاء، وبلاد حراز، وضوران. وأما اليمن الأسفل فلم ينفذ فيها كلامه، ولم يسمع فيها قوله. وكانت البلاد قد تفرقت، فكل له فيها حكمه وإنما له منها مجرد النسبة والخطبة والسكة، ورفع من الأسواق بصنعاء وغيرها المجابي، وكان يحب العدل والرفق، ولا يعاقب في الغالب إلا بمقتضى الشرع، إلا أنه كان قليل الرأي، ومن ولاَّه من العمال والخزان لا يحاسبه، ولا يسمع من شكى به ولا يرفعه، فأكلوا وجمعوا من ذلك جمعاً كثيراً من الذهب والقروش والخزائن والفلوس، ونقص على كثير من أهل التقارير تقاريرهم وعاداتهم، وكان قد شرع في ذلك والده آخر مدته، فربما تبع أثره، ولكنه رحمه الله غلب ذلك عدله الذي تفرد به في هذا الزمان عن غيره. واتفق بحكمة الله وتقديره جميع مدته من أول ولايته بصنعاء في وقت والده، عقب وفاة علي بن المؤيد بالله بن القاسم [120/ب]إلى آخر مدته غلاء الأسعار وقل الأمطار، والسعر في هذا الشهر، البر بقرش، والذرة بقرش إلا ربع، فالحكمة لله تعالى. واتفق أيضاً وفاته ووفاة والده وأحمد بن الحسن في شهر واحد وهو شهر جمادى الأخرى، فهذا قل أن يتفق مثله.
وقبر بجبل ضوران جنب والده رحمه الله تعالى.
وكان له حالة عظيمة في التواضع، وعدم التكبر والترافع، على ما هو فيه من الملك والرئاسة، ولا يتعرض إلى شيء من جوابات المسائل والفتاوى، بل يردها إلى العلماء والقضاة، ليس كأحمد بن الحسن في بعض المسائل يجيب بحسب الاتفاق، وإذا اعترض قال هو له باجتهاد، وما هلك امرؤ عرف قدره، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وأول نابح في خامس هذا الشهر جاء الخبر بأن يوسف بن المتوكل صنو محمد دعا من عنده إلى إجابته، فأجابه البعض وخالفه الأكثر، وكذلك حسين بن عبد القادر الكوكباني فإنه كان حاضراً بمعبر ينتظر الولاية هو وصنوه وبعض أعمامه، فترجح له دعا إلى نفسه، فأجابه أصحابه وخالفه سائر الناس، وخرج من معبر ساعياً إلى بيته حصن كوكبان وبلاده، مع أن صنوه حسن مغاير له وغيره من أقاربه، وابن حورية المؤيدي السيد أحمد بن إبراهيم كان بصنعاء عقب وصوله من بلاد صعدة يريد القصد إلى معبر، فلما بلغه مرض المؤيد تحير بصنعاء، ثم لما بلغه موت المؤيد أصبح مسافراً وخرج عازماً إلى بلاده[121/أ]، ثم جاء خبر بادّعاء السيد علي بن حسين الخولاني من خولان صنعاءأجابه السادة بنو الشامي وبعض أصحابه، وخالفه جميع القبائل، فلم يجيبوه إلى ما أراد، وكتب حسين بن المتوكل إلى مشائخ بلاد مسور وخولان بأنهم لا يغتروا به. ثم جاء خبر صاحب عمران حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم أجابه أصحابه، وجاء خبر صاحب المنصورة، كل هؤلاء ادعوا الإمارة والإمامة على زعمهم وما هو إلا دعوى ملك وسلطنة، لعدم كمال الشروط في جميعهم، وأكثرهم نيته بذلك إنما هو لحفظ بلاده، فلا قوة إلا بالله، ونية دعوى الملك قد ذكر العلماء أنه يحرم إجابته مع كمال الشروط، فكيف مع الاختلال من الجانبين، فكان هؤلاء إلى الآن من هؤلاء الدعاة ما سطر من الكثرة مع علي بن أحمد صاحب صعدة تفرقوا في هذه الدعوات، وكل من الناس اتبع هواه في إجابته مما له تعلق بهم، وأما سائر العباد ممن ليس له
تعلق بهم فبقي حائراً في أمرهم. وخزائنه التي بصنعاء كانت بنظر الفقيه جابر ، بادر إلى حمل بعض شيء من الصناديق إلى بيته وفرقها مع أهل عملته وتجارته، لئلا يظهر عليه طلبه، وبقي في بيته بعضها، فلما فطن حسين بن المتوكل ببعض شيء من ذلك قبض منه المفاتيح ليحفظ ما بقي من الخزانة، وأما خزائن ضوران فهي مع يوسف بن المتوكل ومع إبراهيم بن المؤيد تصرف فيها وقبضها أيضاً من يد ولد الفقيه جابر الخازن هناك لها، وانتهبه وحصانه لما بلغه أنه قد حمل إلى بيته منها، فاستدرك أيضاً باقيها.
ووصل إلينا كتاب حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم[121/ب] يذكر فيه دعواه إلى درجة الإمامة التي صار هذا الزمان يتطفل عليها الناس، فأجبناه بما هذا لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلت إشارة السيد شرف الدين الحسين بن محمد، سلمه الله، وأرشده إلى سبل الخيرات إن شاء الله، والكتاب وصل بالتعزية في المرحوم المؤيد بالله رحمه الله، فالله يخلفه على الجميع بأحسن الخلافة، ويتلقاه بالرحمة والرأفة والرضا والمغفرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والدنيا حقيرة، وأحوالها خطيرة، وتكاليفها شديدة، أبى من تحمل التكليف فيها السموات والأرض والجبال، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا، كما ذكر الله في محكم الكتاب بقوله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَالْجِبَالِ فأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَهَا وأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَها الإنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومَاً جَهُوْلاَ} .
فالله يرحم ضعفنا، ويحسن خاتمتنا، ويبصرنا عيوبنا بفضله وكرمه.
وما ذكرتم من جهة الدعوة فلها شروط كثيرة معروفة في الكتب المسطورة، وصار هذا الزمان تلك الشروط مطرحة، وأما دعوى الملك فالملك لله يؤتيه من يشاء، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاء } .
وكان عليكم وعلى غيركم أن تبقوا على ولايتكم الأصلية، المنتسبة إلى التولية الأولة من الآباء والأجداد، وتنهوا عن المنكر وتأمروا بالمعروف في جهتكم، وغيركم من الولاة كذلك يقتصر كل على جهته بتلك الأصالة الأولة، كما هو قول كثير من العلماء، ولا يتعدى أحد على أحد بمحاربة ولا مضاررة، فإن سفك الدماء والمظالم عند الله عظيمة، ومع صلاح النية إصلاح [122/أ]المسلمين لا لصلاح الخاصة، فإن الأعمال بالنيات كما في حديث البخاري المتواتر عن النبي÷ أنه قال: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها أو دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) .
قال جدكم الإمام القاسم رحمه الله في جواب من سأله عن الإمامة، فقال: من كملت فيه شروطها، ومن علم منه أو ظن أنه ما يريد بذلك القيام إلا الملك ولا يريد صلاح الإسلام حرمت معاونته والقيام معه، وكذا ذكره غيره من العلماء، فكيف وسائر الشروط لم تكمل، فإنما هو ملك والملك لله، فالذي أنصحكم به من النصيحة الواجبة أنكم تبصروا في أنفسكم، وتستخيروا الله في أمركم وتعتبروا بالماضين من أسلافكم، فلم تنفعهم الدنيا، وإنما الإنسان مرتهن بعمله مع إحراز دينه، وتركه لاتِّباع الهوى، ولا تعجلوا، هذا الصنو قاسم بن المؤيد بالله محمد بن القاسم عافاه الله بلغنا أنه وهو بذلك المحل اعتذر عنها، فكيف من هو دونه؟ والله يأخذ بنواصيكم إلى الخير ويصلح المسلمين، وإياكم إياكم إياكم عن التناحر على الملك وأنتم أقارب وأرحام، والدنيا أحقر من أن تذكر، وجميع مما لكم عندنا بقلامة ظفر من أظفارنا ودعوة الحق لله تعالى على عباده، كما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } ، ولا يغرك أهل نعمتك، فإن المتابعين لك أبناء دنيا، مبايعتهم لما يُنْقد لهم من الدراهم، فتوقف إن كنت ممن [122/ب] يقبل النصيحة انتهى.
وهذا كله مني لكم نصيحة، كانت الدعوة للإمامة لأن لها شروط، وأما دعوى الملك والسلطنة فلها باب آخر، لكن أنتم أهل البيت ما يصلح لكم إلا الاجتماع على من يكمل بها، وإلا اختل النظام، ويؤدي بينكم إلى الفتنة والتنازع والخصام، وهو خلل عليكم وعلى المسلمين، لقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ } ، أي: قوتكم، فهذا غاية نصحي لكم، إن أريد إلا الإصلاح.
وفي عشية يوم الإثنين وقت العشاء دخل السيد محسن بن أحمد بن الحسن إلى صنعاء واصلاً من ذمار، يريد محله الغراس.
وأساس انحطاط درجة الإمامة والدخول فيها بغير كمال شروطها أحمد بن الحسن، وسببه الحاضرون من السادة الفقهاء ومحمد بن المتوكل لما............... فسهلوا له الوسيلة، فدخلها ورغب مع ذلك إليها، وإلا فإن كتابه إليهم إنما هو بالوصول للمراودة في إقامة من يصلح والنظر. فلما حضروا مجلسه تكلم الجهال أولاً بالصلاحية من أبناء نعمته من الملازمين له، وفتحوا له الباب إلى ذلك، فجرى ما جرى، فسن للمتأخرين هذه الدعاوى العريضة الطويلة في درجة الإمامة، ومعلوم بالضرورة اعتبارهم شروطها ومعرفة العلم الذي هو العمدة فيها. وربما لفق من لفق من الجهال إمامة المقلد، وهو خلاف الإجماع، على أن إمامة المقلد لمن يعرف بمسائل الفقه لمن قلده، فكيف فيمن عري من هذا وهذا؟ فلا قوة إلا بالله، [123/أ]فلو أنهم جعلوها دعوى الملك والسلطان، وجمعوا عليه بالحسبة مع ما فيه الخطر كان هو القياس، ولكن لا ذا تأتى ولا ذا حصل، فلم يبق معهم إلا التنازع والدعاوى هذه التي قد ادعوها، والله يلطف بالمسلمين ويرد ضرر الأشرار والمعتدين في نحورهم آمين.
وزيد بن المتوكل لما نزل اليمن بأمر صنوه المؤيد وصل إلى إب وجبلة، وأمر ابن أخيه حسين بالملقى له، وتعمد تقدمة حصان عقور نفور قد أهلك من أهلك، فركبه المذكور فشنع به حتى أسقطه ثم أراد رفسه وركضه، فلولا الأعوان ضربوه لأهلكه في الحال، ولكنه عاقه وصار مريضاً هنالك. ومات صنوه وهو على هذه الحالة، ولم يثمر وصوله شيء مما أمره صنوه، لقوة يد حسين وكثرة جنده وخزانته.
وفي ثامن شهر جمادى الأخرى وصل من القاسم بن محمد بن القاسم هذا الكتاب، يقول فيه بعد الترجمة إلى كاتب الأحرف: وبعد حمد الله حق حمده، وصلواته على محمد وآله من بعده، فإنها وردت إلينا كتب من الأصناء الكرام، ومن غيرهم من الأعيان الأهل الفخام، منبهة بما اختاره الله وقضاه، وحكم وارتضاه وفاة الصنو أمير المؤمنين وسيد المسلمين المؤيد بالله رضوان الله عليه وسلامه، ونقل روحه الطاهرة إلى دار الآخرة الباقية، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا إلى ربنا لمنقلبون. والحمد لله الذي لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه الذي خلق الموت والحياة[123/ب] ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأطول اغتراراً وأملاً، والله يعظم للإسلام والمسلمين فيه الأجر، ويعصم القلوب بعصمة الله الصبر، ويخلفه بأحسن خلافة، ويتلقاه بالرأفة والرحمة، ويلحقه بسلفه الصالحين وآله الطاهرين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. والله يرزق الجميع حسن الاستعداد ليوم المعاد، والتزود من التقوى بأكمل عدة وأكرم إرادة، وبعد شريف السلام ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، تأريخه شهر جمادى الأخرى سنة سبع وتسعين وألف .
ثم قال بآخره إلحاق خير إن شاء الله: لا يخفاكم حماكم الله وقوع هذا الحادث الجليل، والخطب المهيل، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فحال صدورها ونحن في محل الاستخارة لله عز وجل، وطلب الاستشارة من الأصناء ومنكم ومن جميع من دار عليه رحى الإسلام، فيما يصلح به أحوال الأنام وحفظ بيضة الإسلام، والله يقضيها بالخير والخيرة وشوركم مستمد ودعاؤكم، وبعد شريف السلام ورحمة الله انتهى كتابه.
وهذا جوابه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الصنو السيد الأكرم العلامة الأعلم علم الإسلام القاسم بن أمير المؤمنين: محمد بن أمير المؤمنين القاسم بن محمد حفظه الله، وأهدي إليه شريف السلام ورحمة الله وبركاته...وبعد..
فإنه وصل كتابكم بما بلغكم من وفاة الصنو الفاضل العادل المؤيد بالله: محمد بن المتوكل على الله، فالله يتلقاه بالمغفرة والرضا والرحمة، وأن يخلفه على المسلمين بأحسن خلافة، وينشر على روحه الروح والريحان فإنه الجواد الكريم. وكان المذكور كما عرفتم نادرة هذا العصر في محبته للعدل، ورفع المظالم واهتمامه بذلك مما يمكنه رفعه ويمر فيه كلامه، إلا إنه رحمه الله كان قد امتحن بأهل عصره من المخالفات، وعدم الامتثال في المنهيات، إلا اليسير منهم ممن آثر كلامه، وما هو تحت يده وهي الخصلة الرفيعة، والمنقبة له الجسيمة، هذا وما ذكرتم من توقفكم رعاكم الله وأحسن إليكم عن المسارعة إلى الانتصاب لهذا الأمر العظيم والتكليف الشاق الفخيم الذي هو كما قال الله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأرْضِ وَالجِبَالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَهَا وأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومَاً جَهُولاً} .
وإنكم اقتضى نظركم الاستمداد للمشورة من الأصناء والعلماء فلقد اتبعتم عين الصواب، ووافقتم الأمر الذي لا يستعجل لمثله ولا يعاب، فإن المسارعة عن الاجتماع للكلمة هو محل المنازعة التي بسببها يحصل والعياذ بالله المظالم، وعدم الصلاح للمسلمين والمآثم، لا سيما ما يقع فيه من سفك الدماء وانتهاب الأموال، ولا سيما ما يقع فيه من قطيعة الرحم قبل الاتفاق والنظر، فلقد أدركتم بذلك الفضل والرأي الحسن، وإلا فإن هذا الزمان قد ارتكب الناس التطفل على مرتبة الإمامة والدعوى بمحلها والتسمي باسمها، وجهلوا شرطها، وما هو المقدم فيها، مما يحار الإنسان فيه، ويعجب من الذين بغيتهم عليه، فإن الإمام القاسم رحمه الله ذكر في جواب من سأله عن الإمامة، فقال في الجواب: هي لمن تم له شروطها المعروفة عند العلماء ولا بد مع تمام شرطها من العلم أنه بدخوله فيها لم يرد الملك والدنيا وإنما يريد صلاح عامة الإسلام، فإن علم منه أنه يريد الملك حرمت معاونته وإجابته[124/ب] وذكر مثلما ذكره رحمه الله غيره من العلماء، فإذا كان هذا الشرط مع كمال الشروط، فكيف حال هؤلاء الذين دخلوها وليس لهم من شروطها إلا الدعاوى الباطلة؟ فإنهم ادعوا من جهة تصرفهم في بيت المال لمن يتعلق بهم ، فتعجب أيها العارف هذه الشبهة الظاهر بطلانها؛ لأنهم أظهروا أن مرماهم الاهتمام بالمحبة للدنيا، فأظهرت عليهم نيتهم الفاسدة أنها ليست لصلاح الإسلام وإنما هي لأكل الحطام، ثم إن كيف تصرفهم مع بطلان دعواهم بكمال شروط الإمامة؟ فإذا بطلت الإمامة بطل فرعها من الولاية وصحة التصرف، فكان لو أنهم جعلوها سلطنة كغيرهم من السلاطين، وتحاشوا عن دعوى الإمامة، فإما أن تكون حسبة على قولٍ أو بالغلبة على قول أهل السنة، والإمام شرف الدين في جوابات مسائله ونهج البلاغة وشرحها للإمام يحيى في بعض خطبه، فإنه قال الإمام يحيى في الديباج عند شرح الخطبة المصرحة بتقرير المتغلب للضرورة:
سلطان ظلوم، خير من فتنة تدوم، والله يأخذ بنواصينا وإياكم للخير آمين، لكنه صار تُورِّطهم في ذلك جلساء السوء وأهل نعمتهم لأجل يأكلوا معه مما جمعه لهم، فالله يوفقنا وإياكم لرضاه.
وأنت أيها الصنو مع توقفك، واقتحام من هو دونك لها، وعدم التوقف على شرطها أولى بها وأحق إن شاء الله، وأن صنوكم ليس له خبرة إلا بمجرد الوصف، بيد أنا ننبهكم على أشياء تبلغنا في مثل المسارعة في الآداب لمجرد وصول الشاكي من غير مناظرة وحقيقة، وترك شيء من العوائد المارة للسابقين ومن له رعاية لمن وضعوها من استحقها، فهذا مما ينبغي مراعاته وشرطه، والتخفيف في الآداب بالدراهم بالأموال مع ما في الآداب بالمال من الخلاف بين العلماء كما حققه ابن بهران في (بهجة الجمال) وغيره، فإن المصادقة لمن له هوى وعداوة لا يخفاكم خطرها، وعليكم[125/أ] إن شاء الله مع تمام هذا الأمر، إن تم الافتقاد للعمال ومحاسباتهم كل سنة؛ لأن المؤيد رحمه الله أهمل المحاسبة لهم، وأبقى أهل التقارير بالمكيال الأول، حسبما كان عليه والدكم وإخوته، وعدم الرجوع في الخطوط والمواضيع الأولة واللاحقة، وتنزيل الناس منازلهم، ورعاية أهل المناصب والعلماء والمتعلمين بالكفايات ، وافتقاد الأوقاف والمحاسبة فيه للنُظَّار عليه كل سنة، وافتقاد المكيال الذي صار الصانع له يلعب به كل وقت، وهو الجحدري الحداد، فإنه ما يزال يسارقه في الزيادة شيئاً فشيئاً في كل شهر مما يؤدي إلى الربا المحرم في القرض والمداينة، حيث يأخذ بمكيال ناقص ثم يقضيه، وقد زيد فيه، والرجوع إلى مكيال والدكم المؤيد رحمه الله الذي كان بصنعاء في مدته وآخر دولة السلطنة ، فإنه الآن قد صار نصف هذا المكيال، ولأجل صيانة بيت المال بسببه في التقارير؛ لأنه زاد النصف وزادت بسبب الزيادات الأسعار وكذلك الضريبة تغيرت فيكون عملها على قدر معلوم بالميزان لا يختلف، كما لا يختلف قدر القرش.
هذا ما يتوجه التنبيه عليه، وكذلك إن حصلت المكنة في مطالب اليمن الأسفل، التي زادت على ما كان الزمان الأول، وقد كان أراد المؤيد بتخفيفها، لكنه ما تم له ذلك كله لموانع منعته، وكنت ذكرت له من أجلها وكانت نيته مباركة رحمه الله، وخيار الأمور أوساطها، هذا ما يتوجه إليه عليكم إن شاء الله. وقد أجبنا على بعص من ادعى مرتبة الإمامة وليس بأهل لها بأن الأولى له أن يتوقف فيها، كما سبق ذكر جوابه هذا. ولا تتركون المفاوضة كما قد ذكرتم بمثل حسين بن حسن وصاحب المنصورة ومحسن بن أحمد بن الحسن؛ لأنهم إذا وافقوكم فهم الذين نخشى من جنابهم، وأنتم أمثل موجود إن شاء الله وكذلك مفاوضة حسين بن المتوكل، ولعله يجب إلى جنابكم، والله يلهم[125/ب] الجميع إلى اجتماع الكلمة فيما بينكم، فإن المطلوب المهم تسكين الدهماء وصلاح المسلمين، ((وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) الحديث.
ووصلت كتب عيال المتوكل أجمع إلى صنوهم الحسين بن المتوكل، وهو بصنعاء، وهم: قاسم صاحب ثلا وإخوتهم الذين بضوران أجمع وأنهم مجيزون لما رآه حسين بن المتوكل وتابعون له، وكذلك وصل كتاب حسين بن حسن صاحب رداع بان المقصود النظر فيمن يصلح، وتوقف كما توقف قاسم.
وجاء خبر بأنه ظهر في بلاد الشرف بالمغرب تحت شهارة سيد يقال له: السيد عبد الله بن علي بن خالد، ووالده هذا هو الذي كان متولياً ببلاد عفار، وادعى بالدعاوى للإمارة فلم يجبه أحد. وكذلك السيد علي بن الحسين الشامي الخولاني جعل رسالة إلى الناس يطلب الدعاء لهم بعد أن ذم آل القاسم وأعوانهم من القضاة والوزراء والأعوان لهم جميعاً، وقال: لا يصلح أحد من آل القاسم، وذكر أن الكمال فيه لهذا الشأن، فارتكب أمرين: التحقير للناس والسب لهم مما باء بوزره، والتزكية لنفسه التي نهى الله عنها بقوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} . ودخل أيضاً في حديث الأعرابي لما بال في المسجد فنهره أصحابه÷ فقال: ((دعوه لا تقطعوا درته))، ثم لما أتم أقبل إلى النبي÷ وقال له: اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحدا، فقال له النبي÷: ((لقد تحجرت واسعاً)).
فالله يرحمنا ويوفقنا، وأنه ذكر أن مقام الإمام مقام النبي÷، فهذا خطأ عظيم من المذكور، فإن مقام النبوة رفيع، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضَاً} .
وقال تعالى: {النَّبِيُّ أوْلَى بِالمُؤمِنِينَ مِنْ[126/أ] أنْفُسِهِمْ } وغير ذلك من الآيات والأخبار النبوية كحديث الصحيحين: ((إنها تنام عيني ولا ينام قلبي )) ، وسائر خصوصياته التي اختص بها عن غيره، كثيرة فيها مجلدات مصنفة كـ(الخصائص والمعجزات) للسيوطي في مجلدين و(شفاء القاضي عياض ) وغير ذلك، ولأن الأنبياء عليهم السلام معصومون وليس كذلك الأئمة إلا عند الأمامية الإثني عشرية في الأئمة الإثني عشر لا غير، وهو ظاهر البطلان.
وأما ما ذكره في العطاء وتحيير الناس في الأبواب، فهو لو ولِّي ما هُمْ فيه لكان فعله كفعلهم أو أعظم منهم، لأن رضاء الناس وكفايتهم جميعهم غاية لا تدرك، ولا يكفي الخلق إلا خالقهم ضرورة. ولذلك لما أراد سليمان عليه السلام وقد ملك الأرض كلها أن تكون الأرزاق على يده وقد جمع جمعاً كثيراً فجاء حيوان واحد وهو التنين من حوت البحر لرزقه، فاستوعب جميع ما قد جمعه من الطعام، فعند ذلك اعتذر سليمان عليه السلام إليه، وعلم أن الرزق لا يقوم به إلا الله تعالى. إلا أن العمال ينبغي منهم الزهد في بيوت الأموال والتوقف على قدر عمالتهم لا غير ذلك. وكذلك يتوجه على السائلين أن لا يستكثروا من السؤال خصوصاً الأغنياء منهم، لكن هذا محال فإنه لا يتم ذلك منهم لما في الحديث الصحيح عنه÷: ((لو أعطي أحدكم واديين من ذهب لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) .
[126/ب] وأنت أيها السيد ادعيت كمالك، فذا شيء ما علم، فإن قراءتك إنما كانت في الفرائض والمترب وعلم الغبار والقسمة، وهذا إنما هو باب من أبواب الفقه. وأما سائر علوم الإجتهاد مثل أصول الفقه وأصول الدين وعلم المعاني والبيان والتفسير فليس لك في ذلك ما يعتمد عليه أصلاً، ولا الحديث والأسانيد ورجال الحديث والجرح والتعديل وما هو صحيح من السنة وما هو ضعيف أصلاً. ولم تسمع شيئاً من كتب الحديث المسندة المعتمدة إلا مختصر جامع الأصول ، وليس ذلك بمفيد؛ لأن الرجال ما عرفتهم ولا ما تكلم فيه بالضعف والصحة والحسن وهو من شرط الأئمة ثم الاجتهاد وهو الاستنباط. وإنما غاية ما عندك التقليد، وإمامة المقلد لا تصح، كما سلمنا، فأين استحضار مسائل الفقه ومعرفة الخلاف ومعرفة أدلة المسائل وكيفية معرفة الترجيح فيها والمراجعة؟ هذا على سبيل المجاراة على فرد دعواه، وأما إن كنت تريد مجرد الدعوى المتعارف بها من غير مراعاة الشروط كما قد فعله غيرك فذا يرجع إلى باب الملك والسلطنة، وهو إنما يكون بالغلبة لا بالاختيار، فلا عند كافة العلماء. وأما قوله أنه لا يصلح أحد من آل القاسم لها فما يغلب إلا الله، فلو بحث السيد لوجد من هو متبحر في العلم، فهذه دعوى نفي والشهادة على ذلك لا تصح كما هو مقرر في كتب الفقه[127/أ] لكن منهم من زهد فيها واتبع قوله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأرْضِ وَالجِبَالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَهَا وأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومَاً جَهُولاً} .
ومنهم من عنده من العلم مثلك، وهو إنما يريد الاجتماع في الكلمة لئلا يحصل منازعة ومشاققة ومقاطعة أرحام، وصلاح الإسلام بتسكين الدهماء، وهم الآن وإن كان بعضهم من القاصرين فليس له أهلية، ولعله يرجع عن ذلك، أو يكون من الملك والتغلب وله حكم آخر. فإن الملك لله يؤتيه من يشاء، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} .
وأما قولك:أنك الكامل والأحق بها، فإن كان للهوى فهو كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى .... فوافق قلباً فارغاً فتمكنا
وللعُجْب بالعمل دخل في المحرم، فإن من عجب بعمله هلك، كما في الحديث عنه÷ أنه قال÷: ((لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أعظم من ذلك العجب العجب))، رواه البزار، وذكره صاحب البيان في الفقه أول كتابه، والمهدي في تكملته أو لمحبة الملك والدنيا دخل تحت الحسد، وهو محرم كما قال تعالى: {قَالُوا أنَّا يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} .
وفي (المطالب العالية) لابن حجر قال مُسَدَّد: حدثنا عبد الله بن داواد عن موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبد الله بن كريز قال: قال عمر بن الخطاب: ((إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه ، ومن قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: إني في الجنة فهو في النار)) ، وقال عمر: سمعت رسول الله÷ [127/ب] يقول: ((من زعم أنه في الجنة فهو في النار )) .
فالسعي بالإصلاح بين المسلمين هو الواجب، كما ذكره الله تعالى حكاية عن النبي شعيب أنه قال: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ} . وقال حاكيا عن نوح عليه السلام: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ الله يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} والله أعلم.
وفي عاشر شهر جمادى الأخرى وصلت أخبار اليمن الأسفل بأن محمد صاحب المنصورة قام بالمملكة، واستولى على المخا وتعز ولم يكن له من قبل، كما استولى على زبيد وبيت الفقيه بعد موت أحمد بن الحسن وغلب عليه في دولة المؤيد ودعا الناس إلى إجابته، فأجابته بلاده، فصارت البلاد اليمنية هكذا بعضهم ممن توقف وحفظ بلاده وهم العقال، وبعضهم دعا الناس إلى المملكة العامة والسلطنة كصاحب عمران وكوكبان ، وصاحب المنصورة ولم يجبهم إلا بلادهم، ومنهم من لم يجبه إلا أهل حضرته وما قاربه من بلاده.
هذا ما جرى معهم، والله أعلم كيف يكون منتهى عملهم، وبعث بكتبه إلى سائر قبائل اليمن الأعلى، وغالبهم التوقف على من اجتمع عليه العلماء والأعيان والعقلاء.
وجاء خبر صاحب صعدة بأنه أيضاً أظهر دعواه للمملكة.
هذا على ناقوسه .... وذا على جبل يصيح
كل يصحح دينه .... ياليت شعري ما الصحيح
ووصل رسول صاحب المنصورة محمد كاني التركي وأصحبه بدراهم إلى حسين بن المتوكل كثيرة، قيل: سبعة آلاف، ويطلب منه الإجابة، واشتغلوا بطلب الملك، وما اعتبروا بمن مضى، وما قد جرى، وأن الملك لا ينفع. ولقد وصف من حَضَرَ موْت المؤيد بالمعرة بوادي النائجة مما فيه عبرة، وهو أنة لما وصل إلى الحمام مات[128/أ] فيه وذاق الحِمَامَ، وأن مرضه كان هو الورام الشديد في وجهه ويديه ورجليه، حتى صار كالمنتفخ، وأنه لما قضى الله عليه الموت والأجل المحتوم وساقته الحفرة إلى ذلك الموضع باختياره، وما ناله في الطريق والجبال من آلامه، مع الألم الذي مسه؛ طلب له الكفن فلم يوجد في محله، وإنما كفنوه في بقايا ثياب، ثم طلبوا له نعشاً فلم يوجد له، فكأنهم حملوه فوق عيدان إلى قريب قرية هنالك لعلها الحيرة، وطلبوا منهم قعادة . فأعطوهم قعادة بالكرى فلما وضعوه عليها جاءت قصيرة بقت أرجله معلقة عليها، وحملوه كذلك، فاتفق نزول مطر غزير، فنزل سيل في شعبة على الطريق، فوضعوه فيها، وبقي السيل والمطر يمر من تحته وفوقه حتى أضحى، ثم أطلعه الحمالون على مشقة في العقبة إلى الجبل، فكان ذلك عبرة لمن اعتبر، وتذكرة لمن ادَّكر، فأين كان الملك الذي كان؟ ثم لم توجد له الأكفان ولا ما يحمل عليه من العيدان، فسبحان القادر على كل شيء، الذي كتب الموت على العباد والحيوان، وساوى بين الملوك فيه والمساكين والفقراء والغربان، من الماضين واللاحقين إلى آخر الزمان.
وفي هذه الأيام بعاشر شهر جمادى الأخرى التقى السيدان صاحب كوكبان وعمران إلى وادي تَعْوّد للاجتماع منهما في رأيهما، وهما على دعاويهما، كل منهما أمير في بلاده لا يتقيد للأخر في بلاد غيره كلامه، مختلفين ولم ينظروا في مصلحة المسلمين وصلاحهم، بل في رئاستهم ومملكتهم يخبطون فيها خبط عشوى، وقد جاء في جفر علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه قال: بعد دولة أحمد بن الحسن ومن تبعه الملك الخراب الممزق للكتائب.
وفي هذه الأيام انحطت الأمطار بحمد الله في جميع اليمن، المشارق والمغارب، وهو مطر الصيف، فصيفت جميع بلاد اليمن، وصار الناس في مذاري الذرات، وأما الأسعار فباقية على الارتفاع؛ لأنه لا يردها إلا الصراب، وقد لحقت الناس الأعسار في جميع مدة محمد بن المتوكل من حال تولي صنعاء وقيامه بعد أحمد بن الحسن، وفي مدة أحمد بن الحسن إلى الآن نحو إحدى وعشرين سنة ، فلله الأمر من قبل ومن بعد. ولما تحول حال محمد بن المتوكل، وتقضت أيامه، وكان قد حَصَّل في معبر أبنية وحوانيت خربها أهلها، وحملوا أخشابها وعادت كما كانت أولاً، لم يبق فيه إلا أهله الأصليين عبرة للمعتبرين.
وزيد بن المتوكل لما طلع من اليمن الأسفل كاتب إلى أطراف بلاد سنحان للقيا له، وأن صنعاء في ولايته، فمنعهم صنوه حسين، فخرج عند ذلك إلى بلاد ريمة وما يليها.
[129/أ] ووصل كتاب من يوسف بن المتوكل يذكر فيه الدعوى من جملة غيره، فقلت في جوابه في ظهر كتابه ما هذه صورته:
وعليكم السلام، وصل مكتوبكم هذا بالتعزية في صنوكم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والله يخلفه على المسلمين بأحسن الخلافة ويتلقاه بالرحمة والرأفة، وأن يجمع كلمة المسلمين على الخير. وذكرتم دخولكم بعده للإمرة، وجعلتم ذلك مشروطاً برضى غيركم، فقد شارككم في ذلك كثير مثل صاحب المنصورة وصاحب صعدة وغيرهما من الرؤساء. وذلك محل التنازع المنهي عنه، وفيه عدم السعي في صلاح الإسلام؛ لأن كل واحد شرط ذلك، والشرط يتوقف على المشروط، ولم يتم المشروط؛ لأنهم منازعون لبعضهم البعض في دعوى المملكة، وكل أجابه أصحابه وأهل نعمته ميلاً إلى الدنيا، فكان القياس أنكم تجمعون كلمتكم بهؤلاء الذين يريدونها، كما توقف القاسم بن محمد المؤيد رعاه الله وحسين بن حسن. وأما هذه الانتصابات في كل جهة فهي خلل على المسلمين، ولا ينظر أحد منكم إلى صلاح الخاصة، بل صلاح العامة وتحرير النية؛ لأن النية إذا كانت مشوبة بما يفسدها من طلب الملك فسدت وبطلت، وأما شروط الإمامة الكاملة فنعلم ويعلم غيرنا تعذرها، وعدم الأهلية لها فيمن قد طلبها. فالأولى التوقف صيانة للمسلمين من الاشتجار والاختلاف فيما بينكم، وأنتم أرحام، وقطيعة الرحم فيه الوعيد الشديد في القرآن والسنة.
ولأن إذا بلغ الأروام اختلافكم خرجوا عليكم، وأزالوا هذه الدولة عنكم بأشر حال، كما فعلوه لأولاد مطهر بن شرف الدين لما اختلفوا. وقد كان بلغنا أنكم قد رجعتم عن ذلك، وقلدتم صنوكم الحسين بن المتوكل، ثم جاء كتابكم هذا بخلافه[129/ب]، وليس في هذه الدعاوى سكون الدهماء، بل هي عين المحركة للاختلاف والاشتجار، إنما السكون لو توقفتم جميعاً، وبقي كل منكم فيما إليه من البلاد التي قد ولاها المتقدمون على قول الجمهور: أن الولاية لا تبطل، ولا يشاجر أحد منكم الآخر في الزائد على ما تحت يده ومن ناب ولكل ولاء أمام فعله بلا نصب على الأصح فيما تحت يده. هذا هو تسكين الدهماء إن أردتموه، وإلا فهي سترجع بعد لمن غلب من القهر والغلبة -على قول أهل السنة والإمام يحيى والإمام شرف الدين - بعد مظالم وسفك دماء وانتهاك حرم وأموال ومآثم كبيرة. فلا حول ولا قوة إلا بالله. فإن تحب السعادة فلا تدخل في هذه الشبكة العظيمة، هذه نصيحة، ولا تغتر لمن يلفق لك الأقوال، واعتبر بمن مضى، فلم ينفعهم لا ملك ولا مال والسلام.
وأرسل حسين بن المتوكل إلى عند السلفي والي حراز يعينه ومعهم الأمير عبده الداعي، وأمره بالسكون[130/أ] في مناخة عند السلفي. وأما صنوه حسن فوصل أصحابه إلى الجانب الغربي من حراز من بلاد حَصُبان ، منعته القبائل ومنعت القبائل هذه الوالي من طلوعه. وحسين بن علي بن المتوكل أمر بخراب بيت لابن راحج؛ لأجل أنه سلم تعز لصاحب المنصورة، وفتح الباب لعسكره، فأشرف عليه صاحب العدين عبد الله بن يحيى بن محمد بن حسن الأحول من مغربة سد مَشْوَرة وإسحاق من الجبل الذي فوق جبلة للإرعاد عليه والإبراق؛ لأنهم إلى جانب صاحب المنصورة.
ووصل أصحاب صاحب المنصورة إلى مَيْتَم قريب جبلة، وعلى الجملة إن حسين بن علي صار في إب كالمحاصر. واستولى المذكور على جميع اليمن الأسفل بأجمعه، وأرسل على حسين بن علي خيله ورجله، وحسين بن علي قيل: إنه إذا اضطر واجه وسلم الأمر.
قال الراوي: ولعله يبلغ إلى اليمن الأعلى يريد أخذه بالسيف من غير مراعاة رضى، فصار الناس في حيرة مما يخشى من المعرة؛ لأنه ينضاف معه إذا طلع إلى ذمار القبائل فيحصل على البلاد المعرة، مع ضعف البلاد وغلاء الأسعار، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأما مشائخ الحجرية الذين كانوا بالحبس عنده فإنه شدد عليهم وأطلعهم حصن الدملوة، لئلا يخالفوا عليه، واستمال من استمال من المشائخ الآخرين كالشيخ ابن مغلس صهره، وهو من كبار مشائخ الحجرية.
ووصل كتاب من محمد بن أحمد بن الحسن يذكر دعوته وتلقب بالناصر، وأنه أجابه قضاة تعز والقضاة بحضرته وأهل بلاده، وقال الرسول: لعله تهيأ للخروج من المنصورة، واستخلف ولده عبد الله فيها، وأن قد ألزم بالضيافة في الجَنَد، وهذا لفظ جوابه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الصنو الجليل النبيل سليل الآباء الأكرمين، عز الإسلام والمسلمين[130/ب] محمد بن أمير المؤمنين حفظه الله وأهدى إليه شريف السلام ورحمة الله وبركاته. وأنه وصل كتابكم لما بلغكم من وفاة المؤيد بالله محمد بن أمير المؤمنين، وإنا لله وإنا إليه راجعون، والله يتلقاه بالرحمة والغفران، ويحسن خلافته على جميع أهل الإسلام. وذكرتم انتصابكم بعد بلوغ خبره وبث رسائلكم إلى الجهات، والله تعالى يصلح الأحوال، ويجمع الكلمة على الخير في الحال والمآل، ولكن الأمور قد انتثرت في هذا البلاد العليا، وادعى هذا المنصب جماعات مما صرنا وغيرنا في حيرة عظيمة منها؛ لأنه يحصل بسبب الاختلاف شجارات تفضي إلى القتال، وعدم سكون الدهماء فيما بين هؤلاء الجماعات مما بسببه الخلل على المسلمين وانتهاك الحرمات، ولا سيما وأكثر هؤلاء الدعاة أرحام وعصاب، ولا يخفاكم ما في قطيعة الرحم من الآيات البينات، والأحاديث النبويات، وأما والدكم الحسين بن الحسن والقاسم بن محمد فإنهم لما رأوا هذا الأمر وما يؤول إليه توقفوا فيه، ولم يقدموا عليه، وأشدهم وأصلبهم في طلبه صاحب صعدة، وإن كان غيره أهون شوكة، وبقي معكم والدكم الحسين بن الحسن والقاسم بن محمد، وكذلك حسين صاحب صنعاء إذا رأيتم تقديم اجتماع كلمتهم قبل حصول حادث فيما بينكم وبينهم فالأمر إن شاء الله متماثل ومتقارب، وإذا قد اجتمعتم على كلام واحد، فسائر الناس أجمع أتباع ، ولا يخشى منهم ضرر ولا نزاع، وأنتم أعرف بالصواب إن شاء الله، وممن يسعى في المسلمين بالصلاح والاجتماع. وأما صنوكم فلا يخفاكم حاله، وأنه تخلص عن جميع علق تكاليف الخلق للأولين والآخرين، وعرف منا ذلك المتوكل فيما مضى، فعذر وارتضى، وكذلك والدكم، وكذلك محمد بن المتوكل، كلهم سايرونا على ما نحبه من عدم تعلق أمر، ولا تكليف ولا محاضر ولا مجامع، وإعذارانا مما لا يخفاكم اتباعاً لقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} والسلام.
وانتهت النصائح للمذكورين في الاجتماع في جميع هذا الشهر، فلم يُجْدِ، فكان الأمر كما قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً .... تعبت في مرادها الأجسام
[131/أ] وكان حسين بن المتوكل وأحمد بن المؤيد قد جمعوا القضاة والسادة وغيرهم يوم الأربعاء آخر يوم بشهر جمادى الأخرى، وقال: الأولى قيام القاسم بن المؤيد وأمر الحاضرين بكتابة شهادتهم، فكتبوها وشاع في الناس أن قد بايعوا القاسم ولم يحضر محسن بن المهدي معهم، بل قد كان بنى بالخطبة بالغراس لصنوه محمد صاحب المنصورة، ولكن غلبه القبائل من بني الحارث وهمدان والقاضي عبد الواسع ، فامتنعوا عن الخطبة لمحمد، ودخل القاضي عبد الواسع صنعاء.
وكان من جملة من شهد لقاسم، وكان في خلال ذلك بيوم الخميس غرة شهر رجب وصل كتاب من حسين بن علي بن المتوكل من بلاد إب وجبلة يذكر فيه إلى عمه حسين بالمبادرة بالغارة عليه، وأنه قد صار بإب محاصراً، لم يبق بينه وبين إسحاق بن المهدي إلا مقدار ساعة، فالغارة الغارة والبدار البدار، فلم يتمكن صنوه بمادة من صنعاء، بل كان أرسل بكتب إلى محمد بن المهدي من السادة والأعيان والقضاة بالنصيحة في جمع الكلمة وترك الفرقة، وأن هذه المفاتحة بالحرب لا تصلح، وأن على المسلمين مشقة لا سيما هذه المدة بسبب غلاء الأسعار وضعف الناس وترك الحركة إلى البلاد العليا، فالله أعلم ما يتم من ذلك.
وفي شهر رجب وصل الخبر إلى صنعاء أن صاحب المنصورة جهز بعض خزائنه إلى تعز، وأنه متجه في الأثر يريد التجهيز إلى اليمن الأعلى[131/ب]. ولما وصل هذا الخبر تغير حسين من ذلك، وأمر أهل الحيمة باللقيا إلى ذمار، فاعتذروا عن ذلك، وقالوا: لهم جوامك مقطوعة ولا يتركزوا في وجه جنود صاحب المنصورة وامتنعوا، فأراد إرسال عبد الله بن أحمد بن القاسم وتوليته لذمار؛ لأنه له من زمان أخيه محمد بن المتوكل، فاعتذر أيضاً، وعلم أن التولية له فيه إنما هو إغراء ومحرك للفتنة والحرب مما ليس فيه جدوى، لعدم القوة الناهضة والخزائن الواسعة، فلما لم يحصل ذلك تحدث وربما كتب إلى صنوه القاسم صاحب ثلاء، وأنه يجتمع هو وإياه وصاحب عمران وكوكبان على كلمة واحدة، ويبايعون لقاسم، ويجمعوا جندهم على صاحب المنصورة، ثم فسد ذلك الحديث ولم يتم، وكلما أهموا بشيء لم يتم مما يتعجب منه.
ربما تكره النفوس من الأمر .... له فرجة كحل العقال
ووصل خبر بأن ظفار حضرموت دخله طائفة من البحر استولوا عليه، وأنه حصل حرب فيما بين الفضلي ويافع، والله أعلم.
وكتبت يافع إلى حسين بن علي بن المتوكل: إنك إذا احتجت إلينا أعنَّاك، فأشار عليه من أشار من أصحابه: لا تركن عليهم فإنهم لا يؤمنوا على الجميع.
وفي خامس جمادى هذا وصل الخبر بأن صاحب المنصورة مريض، وأنه كان أراد الخروج، فاعتقل بسبب المرض، فسكن الحال مع الناس هذه الأيام، وأحاط إسحاق وإبراهيم ابني أحمد بن الحسن بحسين بن علي بن المتوكل، فإبراهيم سكن ظَلْمَة وإسحاق صُهْبان .
[132/أ] وفي ثالث عشر شهر رجب وصل الخبر بأنه حصل فيما بين إبراهيم بن أحمد بن الحسن وبين حسين بن علي بن المتوكل حرب، فكان ذلك أول فتح بين المذكورين. وذلك أن إبراهيم بن أحمد بن الحسن تحرك من ظلمة إلى سد مشورة المطل على العدين، فترجح لحسين بن علي بن المتوكل اللقيا له إلى ذلك المحل واحتربوا، فوقع القتل بين الطائفتين، ثم انهزم أصحاب إبراهيم واحتاز إبراهيم في بعض البيوت هنالك. وكان المباشر للحرب الأمير فرج، ثم أغار قاسم بن علي بن المتوكل والشيخ حسين بن محمد الوادعي من عند حسين بن علي بن المتوكل، فأحاطوا به في الدار، وما زالوا يرمون من داخل أصتاب من ذلك جماعة، ومنهم الشيخ حسين بن محمد الوادعي برصاصتين، وكان ذلك يوم الأحد حادي عشر رجب الفرد في شهر الله الحرام. وكان القتل من أصحاب حسين بن علي كثير، وكذلك من أصحاب إبراهيم، أولاً كان القتل في أصحاب إبراهيم وآخره كان في أصحاب حسين بن علي. فمن أصحاب إبراهيم نحو خمسة وعشرين نفراً ومثلهم مصاويب في حرب اليوم الأول، وفي اليوم الثاني كثير، وأكثر القتل في اليوم الثاني في أصحاب حسين، لما أقبلت الغواير من الجانبين من إسحاق وغيره، ثم اهتزم أصحاب حسين بن علي إلى إبّ وجبلة وتفرقوا وتمزقوا إلى كل جهة. وحينئذٍ خطب محسن بن المهدي بالغراس لصنوه في يوم الجمعة ثالث وعشرين شهر رجب، فلم يعجب القاضي عبد الواسع خطيب الغراس ودخل صنعاء فخطب غيره. ويوسف بن المتوكل حال أن بلغه هذا الحادث أرسل بقدر مائتين رئيسهم القاضي يحيى جباري مأموراً من عنده بالإصلاح إن حصل، وإلا كان يداً مع حسين بن علي بن المتوكل.
ولما ثُلَّ عرش الخلافة وهوى نجمها، ووهى ركن الإمامة وطمس رسمها، وصارت الإمامة دعوى[132/ب] وعادت العافية بلوى، والخزائن التي حفظوها تزول وتهوى، حتى عطلوها وتحاربوا بها، فلا قوة إلا بالله، ويخشى عليهم -مع هذا الاختلاف، والتحارب فيما بينهم وعدم الائتلاف- زوال دولتهم أجمع، فيزول عنهم الطمع:
لما دنى الوقت لم تخلف عدة .... وكل شيء لميقات وميعاد
إن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا .... وقد خلت من قبلهم أرض بغداد
وكان حسين بن علي بن المتوكل قد بعث رسولاً السيد قاسم بن لقمان إلى حضرة محمد صاحب المنصورة، فكان جوابه أنه يبقى لحسين ما بقي تحت يده جبلة وإب وما حولها دون تعز فلا سبيل إليه، فقال حسين: هذا لا يسمح به، وبنى على القتال، فحصل ما جرى وترك النصيحة بأنه يتوقف وأن ترك المفسدة أولى من جلب المصلحة، كما ذكره العلماء، فلم يحصل لذلك جدوى، فأصبح حيث أمسى، وانقلب الأمر عليه، وزال ما في يديه، وكان كما قال الله تعالى: {وَلاَ يَنْفَعُكُم نُصْحِي إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكُم إنْ كَانَ الله يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكُمْ} لحكمة علمها تعالى.
ووصل خبر أن بعد هذه الواقعة والهزيمة لأصحاب حسين بن علي بن المتوكل وما جرى فيه وأصحابه من الكسيرة، وعاد سيفه مغلولاً، وجنده ما بين مقتول ومنهوب، انصبت تلك الجنود الصائلة إلى وادي جبلة، من تلك الجبال التي فوقها زاكية، وعليها عارية، لاتصالها بسد مشورة حيث وقع الحرب أول مرة فانحدروا إليها كالسيل، [133/أ] وأظلمت على أهلها الآفاق كما يظلم الليل، وأرادوا أن يدخلوها بالسيف الضارب وانتهبوها، وفر من فر وانكسر من انكسر من أصحاب حسين بن علي وغيرهم من ساكنيها، وكان حسين بن علي يومئذٍ بجبلة وعادت رجال الجالبين لميرة الطعام من الطريق، وانقطع المسافرون من التجار خوف التعويق. وكان بعض الواصلين إلى جبلة بدراهم لشياطة الحب انتهبت عليه حال الحرب، ورجع عطلاً آسفاً حتى أمسى تلك الليلة بجَرْف وهو خائف يترقب، وإذا برجل يحفر تحته حفرة ودفن فيها شيئاً يقرب من ذلك المحل الذي هو فيه وهو لا يشعر به مما انتهب يوم الحرب حال الكسيرة، فلما أصبح الصباح، وظهر أوائل الفجر ولاح، سار إلى ذلك الموضع ينظر ما دفنه فيه ذلك الرجل، فإذا هو بجنبيه محْلِيَّه وسيف وغدارة أيضاً محلية ، فحملها وسار الطريق، وقال: قد هذا من العوض فيما راح من الدراهم والتعويق، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم إن حسين بن علي بن المتوكل لما علم القهر له والغلبة، والجنود التي ليس له بها طاقة وعاين ما جرى خضع ودخل فيما كان رسم عليه، وجرى أهل المدينة ومن لديه، ومن بقي له من بلاد إب وما إليه، وبايع ودخل في مبايعة صاحب المنصورة [133/ب] لما لم يجد له منقذاً ولا ناصراً إليه، ونَصَّرت جميع بلاده لصاحب المنصورة المسمى بالناصر.
واكتف ذلك الأمر الذي جرى، بعدما وقع ومضى. وكان جملة القتلى من الجانبين كما قيل: ستين قتيلاً .
قال الراوي: وسبب حصول الحرب في سد مشورة أن إبراهيم لما جاء له الرأي من صاحب المنصورة بالمناجزة نزل من ظلمة أطراف بلاد حبيش التي إليه إلى سد مشورة، وبرز فيها خيامه، يريد النزول على قصد جبلة لفتحها، وكان حسين بن علي فيها، فتلقاه عسكره إلى سد مشورة وفيهم من الرؤساء معه أخوه قاسم والشيخ حسين وفرج العبد فكان الحرب هنالك، ثم احتاز إبراهيم إلى بيت من أطراف بلاد حبيش، فخاطبوه في الذمة، وأنه يخرج من الدار ويرجع إلى ظلمة، فساعد في الظاهر وهو مضمر خلافه، ولعله باختياره إنما يريد به الخديعة، فتقرب الشيخ حسين بغروره إلى جنابه، هو وجماعة من أصحابه ينتظرون خروجه، فرموه من الدار فقتل واحتزوا رأسه وقتلوا الذين معه. ثم انكسر أصحاب حسين بن علي، فحين رأى حسين بن علي هذا الواقع واجتماع الغارات دخل في الصلح لصاحب المنصورة، ووضعوا الأمان لأهل جبلة وسائر البلاد إلى رأس سمارة[134/أ]. والشيخ حسين المقتول وقع معه عدم النظر في العواقب، وأن الأمان ليس وضعه في الحروب من الخارج حيث قد انحصر إحدى الطائفتين، وإن حصل ذلك كان على جهة التباعد والاحتراس وعدم التساهل، لأن قلوب المتحاربين تكون محترقة، وكل منهم يتربص بصاحبه الفرصة سيما من له رئاسة في الحروب؛ لأن نكايته وهلاكه انكسار قومه، قال صاحب (الغرر الواضحة والمساوئ الفاضحة) في باب ذم التصدي للهلكة ممن لا يطيق بها ملكه قال تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ } .
وقال تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ } .
وقالوا: الشجاعة تغرير والتغرير مفتاح الهلكة، وقال يزيد بن المهلب : الإقدام على الهلكة تغرير، والإحجام عن الفرصة جبن. وأنشد لجمال الدين بن الحسين :
ركوبك الأمر ما لم تبد فرصته .... جهل ورأيك في الإقحام تغرير
فاعمل صواباً وخذ بالحزم مأثرة .... فلن يدوم لأهل الحزم تدبير
ويقال: أهوت إلى يزيد بن المهلب حية فلم يتَوقَها، فقال له أبوه: ضيعت الحزم من حيث حفظت الشجاعة، وقال الشريف الرضي :
العزم في غير وقت العزم معجزةً .... والإدبار بغير العقل نقصان
ويقال: من قاتل بغير نجدة، وخاصم بغير حجة، وصارع بغير قوة، فقد أعظم الخطر، وأكثر الغرر، وقال بعض الحكماء: من أعرض عن الحذر والاحتراس، وبنى أمره على غير أساس أزال عنه العز، واستولى عليه العجز، فصار من يومه في نحس، ومن غده في لبس.
وفي كتاب الهند الحازم يحذر عدوه على كل حال[134/ب]، ويحذر مواثبته إن قرب وغارته إن بعد، وكمينه إن تبع، ومكره إن انفرد، واستطراده إذا ولي. وقال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد: إذا دخلت أرض العدو فكن بعيداً عن الجملة، فإني لا آمن عليك الجولة، وقول الشاعر :
ومن يأمن الأعداء لا بد أنه .... سيلقى بهم في موقف الموت مصرعا
وقيل لعنترة العبسي المشهور بالشجاعة: أنت أشجع العرب وأشدها قال: لا كنت أقدم إذا كان الإقدام عزماً، وأحجم إذا كان الإحجام حزماً، ولا دخلت موضعاً إلا أرى لي منه مخرجاً. ويقال: تفكر قبل أن تعزم وتدبر قبل أن تهجم، فإنه من لم ينظر في العواقب، فقد تعرض لحادثات النوائب، إلى آخر ما ذكره.
فالشيخ حسين عرض نفسه للهلاك وهم في الدار متحصنين وتقرب لهم كالنصح ينتظر خروجهم إلى يده، وهذا أعظم شيء عليهم، كيف وهم مقاتلون على خلاف ذلك، فوقع فيما وقع، ولما قد كتب عليه وسبق به علم الله تعالى مات بأجله المحتوم، مع أن هذا القتال من المشتبهات، ظاهره القتال على الملك من الطائفتين، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولما بلغ هذا الحادث حسين بن المتوكل صاحب صنعاء تغير من ذلك كثيراً، وأمر بعض القضاة إلى القاسم بن المؤيد بتمام الدعوة، وإنه مجيب له، يستظهر به على صاحب المنصورة، ثم جاء الخبر من جبلة بأنه وقع فيها الحرب العظيم والاستيلاء عليها وعلى حسين بن علي بن المتوكل، وانتهبت جبلة وقتل فيها كثير من جبن من اليهود والنساء[135/أ].، وكان الحرب ودخول جبلة يوم الخميس تاسع وعشرين شهر رجب منها. وبعد بلوغ الخبر إلى صنعاء حصل مع حسين بن المتوكل وغيره الوشا ، وعقد الخبر هو ويحيى بن محمد بن الحسين صاحب البستان على بعث كتاب إلى صاحب المنصورة بأنهم يسلمون الأمر إليه ويواجهون، وزلجوا الرسول يوم الإثنين ثالث شهر شعبان. والقاسم بن المتوكل يسلم الأمر ببلاد ثلاء لصاحب المنصورة. وأراد به قمع صاحب عمران وكوكبان لقربهم منه؛ لأنهم صاروا يرجعون عليه. فأراد التقوِّي بذلك عليهم، والإرجاف عليهم وواحدة بواحدة جزاء، فالدنيا عبر. ولما بلغهم هذا الحادث فشلوا وخضعوا لا سيما صاحب عمران، فإنه قد كان سارت كتبه بالدعوى للإمامة إلى كثير من الجهات البعيدة، وكتبه متربة بالحمرة، معلومة رأسها العلامة وعمم بذلك جميع الرؤساء مما يدل على قلة الحياء ممن هو أكبر منه سناً. فكانت علامته وتربته الحمرة إلى صاحب المنصورة، وإلىقاسم بن المؤيد وإلى غيره من العلماء والأعيان والقضاة والسادة مما فيه طغيان، وليت وأثرت أحد كتبه في واحد ممن كتب إليه وزوره، لكن جميعهم لم يلتفت إلى زخرفه، لمعرفتهم بعدم علمه وغلبته بالمرة، وإنما صار كثير من الناس من يستهزئ به، فلا قوة إلا بالله.
وكان قد طغى أيضاً وضرب الضربة وجعل رسمها بلقبه الذي تلقب به وهو المتوكل، ضربته ضعيفة، وحاله ركيكة، والدنيا أحوالها عجب، وزمانها قلب.
[135/ب] ولما بلغه حادث جبلة وما وقع فيه من القتلة ارتجف ارتجافاً عجيباً، وأمر بالحراس في نُوب دائر عمران، خشية من جهة محسن لا يقصده لما قد بلغه هذه القضية، فتحريه على أمر يفعله ورفع الضربة في الحال، وانكسر عما كان من دعوى المحال، فسبحان المعز المذل لمن يشاء، واستيقظ من نومته وانتبه من غفلته. قيل: وجملة جنود عبد الله التي طلع بها من عند والده خمسة آلاف أو ستة، مجموعة من قبائل الحجرية ومن العسكر، فوقع أول الحرب والقتل في أول القوم، وهم الحجرية بالبنادق من البيوت، ثم اختلطوا لما خرجوا فيهم، وكان فيه الاستيلاء على حسين بن علي .
وفي رابع شعبان وصل جواب قاسم بن المؤيد على حسين في شأن ما كان كتب به من الوصول إلى صنعاء وإظهار الدعوة مضمونه الوعد بذلك إلى نصف شهر شعبان، وقيل وعد مطلق، فظهر بسبب ذلك عدم القيام من قبله لما طلبوه منه مع قرب الجيوش المحمدية لصاحب المنصورة، فإنه الآن بلغ أن قد بلغت أوائل جيوشه إلى يريم وذمار، وأن قد واجهت بلاد ذمار عن بكرتهم وولى فيها إسماعيل بن عبد الله بن القاسم ، وأن حسين بن حسن صاحب رداع أجاب إلى ابن أخيه، وأنه لم يبق إلا يوسف بن المتوكل صاحب ضوران.
[136/أ] وفي هذه المدة بنصف شهر شعبانها واجهت بلاد ذمار لصاحب المنصورة وجميع بلاد عنس وزبيد، وجعلت الولاية فيها لإسماعيل بن عبد الله بن القاسم، وكانت في ولاية حسين بن المتوكل، ثم واجهت صنعاء، واضطروا حسين بن المتوكل إلى ذلك. وكذلك صاحب كوكبان حسين بن عبد القادر، وعند ذلك أيس أحمد بن المؤيد وصنوه القاسم عما كان كاتبوه من اجتماع الكلمة وتقرير القول. وسار أحمد من الروضة إلى بلاده وادعة وجهاتها وقاسم إلى شهارة.
وفي هذه الأيام طلع حسن بن المتوكل من اللحية إلى ضوران بجميع خزائنه، فتلقاه صنوه يوسف بالرحب والسعة وكل منهم أمير نفسه، ثم لما تقاربت جيوش صاحب المنصورة إلى ذمار واجه الحسن وسلم الأمر.
وفي هذا الشهر لما قصد اليافعي المحاربة للرصاص، واستولى على البيضاء خلفه الرصاص بالمغزى إلى جبل العر، فدخله وخرب فيه مرفد والمتارس التي في الطريق التي كان بناها في الحرب الأول، وهرب ابن العفيف وانتهبها، ثم عاد الرصاص إلى بلاده، فكان ذلك أعظم واقع عليه، لتعاظم نفسه.
وفي هذه الأيام مات السيد إسماعيل بن إبراهيم بن جحاف بحبور وكان المذكور قاضياً فيها وحاكماً، لكنه كان شططاً في أحكامه، يميل عن تنفيذ ما اتضح وجهه لمن وصله بره واستخف بمن لم يهاديه ويحكم بالحكم له.
والأسعار ارتفعت[136/ب] بصنعاء، بلغ القدح البر عشرة، والذرة ثمانية وتسعة.
وفي أول هذه السنة سارع الناس إلى قطع أشجار جبل ضِيْن ، بعد أن كانت من أول مُخَدَّمة، فلم يبق فيه شيء، ولكنه حصل في ثمار بلادهم الضعف، ونزل في أكثرها البرَدَ في المطر فأزالها.
وفي هذه الأيام بآخر شهر شعبان تحرك إبراهيم وتبعه عبد الله بن يحيى الذي كان بالعدين بالتقدم من يريم، فدخلوا إلى ذمار، وأرسل إبراهيم إلى زراجة بأدب وأهم بخراب القرية؛ لأجل ما وقع منهم من عدم ضيافة صنوهم القاسم بن المهدي ورجم أصحابه.
وإسحاق كاتب إلى يوسف من أجل أنه يسلم الأمر ويتوعده إن لم يدخل في ذلك من جانب صنوه محمد، فبقي يوسف حائراً في أمره عاضاً على يده لعلمه أنه لا يقدر على مقابلته وحده، وقد قيل إنه سلم الأمر اضطراراً.
وفي خامس رمضان وصل جماعة عسكر وقائد معهم نحو ستة أنفار من صاحب المنصورة إلى بلاد حجة ليتسلموها ويقبضوها. ولم يمروا على صاحب عمران حسين بن محمد الذي كان بسط عليها، فلحق لهم جماعة للرجوع إلى عنده وأنه مسلم للأمر، فلما وصلوا إليه خلع نفسه من دعواه، وأنه داخل تحت[137/أ] أوامر صاحب المنصورة، وأمر خطيبه بتحويل الخطبة لصاحب المنصورة محمد بن أحمد بن الحسن في يوم الجمعة خامس رمضان، ومحى رسمه الأول عن الخطبة. وقال لهم: ابقوا حتى يعود جواب صاحب المنصورة من جهة بلاد حجة، فإنه يريد إبقاه على إمرتها، فسخر كثير برأيه هذا. وقال العاقل: حيث كان يأتي على هذا لو تقدم رسوله وكتابه مع الأولين بالمواجهة والتسليم وإبقاه على هذه البلاد من غير ترسيم لكان أقرب إلى الانطلاق، لكنه كان في سكرته حتى أفاق. وانظر وتعجب من التفرق كيف مآله، وما يرجع إليه أحواله، فإن صاحب المنصورة سهل عليه أمرهم، والتقط الأول فالأول منهم وهلم جرا، وضعفت شوكتهم، وإلا فلو كانوا جميعاً يداً واحدة ما كان يقدر عليهم. وما أشبه هذا بعمل سنان باشا مع عيال مطهر، فإنه لما جمع عصيه وقال لبعض خاصته: من يقدر على كسر هذه؟ فقالوا: لا يقدر أحد عليه، ثم فرقها واحدة واحدة ، فقال: فهكذا نقدر على كسرها. فقالوا: نعم، فلو أنهم أغاروا جميعاً بعساكرهم على حسين بن علي صاحب إب وجبلة كانوا الغالبين[137/ب]، فلما أفردوه هنالك بعد أن كان طلب منهم الغارات فلم تحصل، حصل ما حصل ووقع ما وقع من المقتلة العظيمة والحالة المستنكرة، والحال أن صاحب المنصورة وإن كان واحداً، لكنه قد اجتحف بلاد اليمن الأسفل والبنادر، فليس حسين وحده بكفء له وإنما كفؤه جميع اليمن الأعلى.
هذا بالنظر إلى العادات لا خوارقها، فالله تعالى يخرق العادة بالنصر لمن يشاء.
وفي هذه الأيام سابع رمضان والى يوسف صاحب ضوران إلى صاحب المنصورة بالاضطرار، بعد أن كان متصلباً في رسائله وكتبه بأن يجب على الناس الإنكار على دولة محمد بن أحمد بن الحسن. وأنه قد بقي على حسين بن علي، وما زال يستغيث بالغارة فلم يجبه أحد، إلا هو بعث بغارة في آخر أمره وما نفعته؛ لأنها وصلت إلى المخادر وقد انقضى عمل جبلة. وكان في بعض رسائله يدعي التبريز في العلم والكمال، ومرة اتفقت به في سنة حجه أيام زمان أحمد بن الحسن أو صنوه محمد فذكر لي سائلاً في بعض الأحاديث أجبته، ثم قال: الذهب محرم على الرجال والنساء جميعاً، فقلت له: أما الرجال فلا شك وأما النساء فلا لحديث: ((هذان محرمان على ذكور أمتي حِلٌ لإناثها )) ، قال: لكن حديث التسوير من النار قاضٍ بالتحريم وهو يعارض[138/أ] هذا، فقلت له: الإجماع على الحل للنساء وحديث السوار حمله العلماء على منع الزكاة منهن، والوعيد لأجل الزكاة، فهذا وجه تمشية الأحاديث المذكورة في هذا الباب.
وقد سلَّم الدعاة جميعاً لصاحب المنصورة، وخلعوا أنفسهم اضطراراً من غير قتال، خشية من الوقوع فيما وقع لصاحب جبلة.
وفي هذه الأيام رأيت كتاباً لصاحب المنصورة يذكر فيه أنه بلغه طلوع حسن بن المتوكل بخزائنه إلى ضوران، وأنه إذا هو يريد الفتنة عرف ذلك، وتوهم أنه سيقاتل أصحابه وأصناه الذين بعثهم إلى ذمار وحسن بن المتوكل قد كان أولاً ربما بنى على هذا. فلما بلغه الحادث مع ابن أخيه حسين بن علي الاستيلاء عليه ترك ما كان أهم به. وحسين بن علي بن المتوكل قد كان صالح وأجاب إلى جناب صاحب المنصورة على يد إسحاق بن المهدي بجبلة، وجعل له بعض تلك الجهة، ثم لما بلغه غارة يوسف رجع عما كان فعله أولاً إلى القتال، فجرى ما جرى. وكتب صاحب المنصورة بخطه في شهر شعبان أنه[138/ب] يريد الطلوع والاتفاق بالأصناء والأولاد إلى معبر أو ذمار، فلو كان هذا قبل ما قد جرى من الفتنة الكائنة بجبلة كان ذلك هو الذي أراده القاسم بن المؤيد صاحب شهارة وكافة الأعيان من السادة والقضاة، وأنه لا يقدم ولا يحجم في شيء حتى يكون على اجتماع كلمة، فلم يسعد إليه المذكور، وجزم بالقتال من غير تردد في الأمور، وصده عن تمام الطلوع فتنة يافع. وصدقت التجربة في اختلاع كل سادس من الخلفاء، فكان كل من قام من هؤلاء هو في طبقة السادس من قيام الإمام القاسم، فخلعوا أنفسهم، هذا حسن بن المتوكل وصنوه يوسف وحسين بن محمد صاحب عمران، وحسين بن عبد القادر صاحب كوكبان، خلعوا أنفسهم جميعاً وبقي صاحب المنصورة، وصاحب صعدة أيضاً خلع نفسه وأجاب محمد. وأما صاحب شهارة فإنه بعد وصوله شهارة وما جرى في اليمن الأسفل بجبلة وأيس من الاجتماع بقي على توقفه بشهارة، ولكنه مع ذلك لم ينفذ بلاده الأصلية للضعف معه ومع الناس من هذا الغلاء والشدة.
[139/أ] وجاء سبب تضاعف أمر صاحب المنصورة بانصرافه إلى مفاتحة المشرق.
وفي شهر رمضان بعث صاحب المنصورة محمد بن المهدي رسلاً إلى رؤساء اليمن الأعلى بأنهم يرسلون من أصحابهم عسكراً لقصد المشرق، وأرسل المقدمات من أصحابه إلى تلك الجهة، فأرسل إلى بلاد أبين ولحج ولده يحيى وإلى الجهة التي يقرب إليها آخرون.
وأما ولده إسماعيل فباقي في قعطبة، فكان ذلك على رؤساء أهل اليمن الأعلى، وعلى من معهم أشق شيء للغلاء في الأسعار والشدة، وأنه لا يحملهم إلى تلك الجهة إلا بما لا بد منه مما لا يقدرون عليه، فوعدوه بذلك وعرفوا ضعف رأيه وتثاقلوا. وقالوا إذا كان ولا بد فبعد رفع الثمرة من بعد عيد عرفة، وإلا فالأولى ترك تلك الجهة، وعدم التشاغل بها لعدم المصلحة للمسلمين وللدولة فيها. وكان قد أرسل ولده إبراهيم إلى ذمار، وكذلك إسحاق إلى يريم، فاستقروا فيها وتصرفوا في ولايتها، ولم يبق لإسماعيل بن عبدالله الذي كان ولاه ذمار بحضور إبراهيم تصرف ولا كلام.
وفي نصف رمضان فما بعده إلى نصف شوال تناهى السعر بصنعاء، بلغ القدح البر إلى أربعة عشر حرفاً، والذرة إلى اثني عشر، والشعير إلى ثمانية،و قريب أوائل الثمار، فتهون السعر في شهر القعدة.
وفي هذه الأيام أرجعت المجابي في أسواق صنعاء والأبواب على ما كانت سابقاً، بعد أن كان أزالها المؤيد في زمانه.
وحسن[139/ب] بن المتوكل لم يلبث بضوران، بل عاد بسرعة إلى بلاده جهة تهامة واللحية، وكان الموجب لطلوعه كثرة مكاتبات حسين بن علي بن المتوكل بالغارة عليه، فوصل ضوران وقد انقضى الأمر، فعاد راجعاً، وأجاب إلى محمد بن المهدي مضطراً.
وفي حادي عشر شهر رمضان ظهر نجم الذنب وقت السحر بالمشرق، وكان ميله إلى جهة الجنوب يميل إلى المغرب، فالقدرة لله تعالى، وبقي كذلك نحو نصف شهر، ثم غرب من المشرق واضمحل، وهو كما ورد في الأثر علامة الغلاء في الأسعار. واتفق عند طلوعه هذا الغلاء العظيم، فلله الحكمة في ذلك، ولكن قد فرج الله بصلاح الثمار وكمال حصادها يكون لعيد عرفة بشهر الحجة إن شاء الله تعالى.
وكان الغلاء الكبير بصنعاء وبلادها وبلاد القبلة إلى صعدة وبلاد ذمار، فأما المغارب فأهون وكذلك تهامة، لكن لعسرة الطرق إلى صنعاء لا تطلع إليها حبوبها ولا ميرتها ، وإلا فإنها في أسفال المغارب بثلاثة حروف ونصف، كل قدح من الذرة إلى أربعة لا زيادة، وأما البر فمعدوم فيها؛ لأنها لا تزرعه والله يهون الأسعار، ويصلح البلاد.
واستقرت الدولة والمملكة لمحمد بن أحمد بن الحسن، وخربت القراديع التي كان نصبها الدعاة، وبقت اليد لواحد، وكان الأمر كما قال الشاعر :
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
[140/أ] وفي شهر رمضان يوم الإثنين آخر يوم فيه توفي الشريف عبد الله الوشلي بمحله شبام كوكبان، كان السيد هو الخطيب بجامع شبام، وكان له معرفة في الفقه، زاهداً يتعلق بالسبب والبيع والشراء في حانوت بسوق شبام رحمه الله. ولما مات المؤيد محمد بن المتوكل ودعا الدعاة من كل مكان اعتذر عن الخطبة وصلاة الجمعة، فعذره صاحب كوكبان، وخطب مكانه القاضي يحيى بن حسن الحيمي، وكان مرضه قدر يومين لا زيادة.
وفي ليلة العيد وصل حسن بن عبد القادر بن الناصر بن عبدالرب من صنعاء وقت العشاء ليلة الثلاثاء، بعد أن كان نزل إلى المنصورة وجعل له بعض ولاية لاعة، فتغير منه صنوه حسين، وقال: ولايته قد سبقت من صاحب المنصورة. وحسن هذا هو الكبير في السن، وكان من وقت موت والدهم بحضرة المؤيد، ثم لما مات دخل صنعاء وسكنها إلى هذا التأريخ، ونزل إلى المنصورة ثم عاد.
وجاء الخبر من حضرموت بأن الغلاء في الأسعار والقحط كان أعظم من سائر اليمن، فإنه بلغ السعر عندهم كل قدح يفوق ثلاثين حرفاً، ثم هون الله ذلك، وأقبلت الثمرة فنزل عن ذلك إلى مائة بقشة، ولعله ينزل السعر عند تناهي الصراب في جميع اليمن إن شاء الله.
وفي خامس عشر شهر شوال يوم الجمعة خطب القاسم بن المؤيد بشهارة لمحمد بن المهدي صاحب المنصورة، ولم يبق معارض لمحمد بن المهدي أحمد بن الحسن بن الإمام القاسم، وتلقب بالناصر. وسبب موالاة القاسم صاحب شهارة بذله له بالتولية له في[140/ب] جهة القبلة، مما كان إلى حسين بن محمد بن أحمد أبو طالب وبلاد عفار، وجعل له ربع المخا وغير ذلك، فانخرط في الإجابة. وكان قد بعث والياً إلى الشحر يقال له: الفقيه أحمد القمادي، فوصل إليه، فأخرجه صاحب حضرموت والشحر علي بن بدر، وقال: البلاد بلادنا، وزلجه بالمصروف طريق الجوف، فخرج وعاد خائباً مما ولاه، ولم يحصل له ما كان يهواه، إلا أنه خطب للناصر وأرسل له بهدية قدر أربع من الخيل.
وقوَّى رؤوسهم خلاف يافع هذه المرة، وإلا فهم أقرب للانقياد للدولة، ليسوا كيافع.
والمشرق قد تغلق بابه من مدة والده، فتوليته لا تحصل إلا بعمل آخر، والوقت لا يحتمل، فإنه كان عليه أولاً أن يقرر أمور اليمن الذي بين يديه، ثم إذا تمكن من بعد واجتمعت الكلمة معه وإليه كان على صفة أخرى. وهذا الوقت لما فاتح بلاد يافع خرج منهم طائفة إلى أطراف بلاد الشعيب يريدون حفظ أطراف بلادهم والتقدم إلى غزو قعطبة إن أمكنهم، فأمر بالزيادات إلى قعطبة.
ووصل في العشر الآخرة من شهر شوال إلى صنعاء حسين بن علي بن المتوكل الذي كان بجبلة، بعد أن فسح له من المنصورة إلى بيته ببلاد صنعاء والروضة، وهو فريداً ليس معه إلا من يخدمه. ودخل معه أيضاً زيد بن المتوكل إلى صنعاء من حضرة صاحب المنصورة، وكان حال دخولهم وحسين بن المتوكل قد خرج عن صنعاء قبلهم بيومين إلى جهة بلاد زراجة طريق ذمار، قيل: لحديث بينه وبين إبراهيم بن أحمد بن الحسن، وترك أكثر أصحابه بصنعاء. وكان دخول زيد إليها في غفلته.
[141/أ] وفي هذه المدة حكى لنا بعض أهل المدينة المباركة أنهم وجدوا داخل القبة رجلاً دريوشاً ، فسأله الطواشية ، فأخفى نفسه، وما زال يدخل ويخرج والأبواب مغلقة، فقال بعضهم: لعله ولي، وبعضهم لعله ساحر، ولم يقدروا لدفعه.
وفي آخر شوال بيوم السبت سادس وعشرين سار محسن بن المهدي من الغراس إجابة لصنوه لما طلبه الغارة إلى بلاد قعطبة، فخرج بمن حضر معه وعزمه وقد كان بلغ الخبر أنه اتفق بين يافع وبين إسماعيل بن الناصر محمد بن المهدي وقعة بقعطبة، وذلك أن يافع قصدت قعطبة فثبت لهم إسماعيل ومن معه في البيوت ورموهم بالبنادق، وطالت المحاصرة قدر اثني عشر يوماً والحرب عمال، فراح منهم كثير ولم يفت من أصحاب إسماعيل إلا نحو عشرة لتحصنهم في البيوت. وكان وصول عبد الله من جبلة غارة، فوصل إلى مسخيره ولم يتمكن من النفوذ؛ لكثرة يافع وإحاطتهم بقعطبة، ثم لما كان ذلك وقع المصالحة على أن كلاً منهم يرتفع عن قعطبة، فخرج إسماعيل إلى عند صنوه عبد الله، ويافع ارتفعت إلى بلادهم، وسكنوا منهم طائفة في أطراف بلادهم. ثم إن يافع لما رأوا قعطبة فرغت عن العسكر، قصدوا تلك البيوت التي وقع الحرب منها فأضربوا بعضها. ثم حصل من يافع المغزى على يحيى بن الناصر وهو بلحج، فوقع الحرب وثبت لهم وقتل منهم الكثير نحو ما وقع في قعطبة. فلما وقعت هذه الحوادث كرس الناصر الكتب إلى البلاد العليا بالمدد، فسار من صاحب ثلاء القاسم بن المتوكل نحو أربعمائة ومن صاحب كوكبان مثلهم ومن صاحب البستان، وكان عزمهم في عشرين من شهر القعدة.
وتجرم صاحب المنصورة من حسين بن المتوكل صاحب صنعاء، وقال: إنه أرسل بدراهم إلى يافع، فأشار عليه السيد الحسن بن المطهر الجرموزي صاحب المخا وكان عنده أنه لا ينبغي هذا الوقت إلا الاحتمال، وأنه ربما ذهب[141/ب] عليه بعض بلاده، فما ينبغي إلا التسكين والاجتماع ليكون الأمر واحداً، مع أن حسين قد أجاب الناصر من جملة غيره، إلا أنه يريد الهَنْجَمَة لأجل ما نقص عليه من بلاده، والله يصلح أحوال المسلمين كافة.
وسار حجاج تهامة بغير أمير، وقال الناصر: في حسن بن المتوكل كفاية في تزليجه للحاج إلى حلي على ما كان في الزمان الأول، قبل دولة المتوكل، وفي أول دولته، فإن العهدة كانت على صاحب جازان في تزليج الحاج إلى حلي.
وفي آخر القعدة كان الصراب للزرائع، فتهونت الأسعار، بلغ القدح البر إلى خمسة حروف، والذرة إلى مائة بقشة، وكذلك الشعير، وما زال السعر ينزل، فتراجع الناس بعدما لحقهم من الشدة الطويلة، فلله الحمد والمنة، وهذا مع كبر القدح، وصغر البقش في الضربة، فيكون على حساب الدولة الأولة دولة محمد بن القاسم نصف قدح والدراهم زائدة النصف يصح السعر بعشرين بقشة.
ولما لم يجهز أمير حاج مع حجاج طريق تهامة وصل الحجاج إلى أبي عريش وصبيا، ثم إنه ترجح لهم العود فعادوا، وأما حجاج السراة من بني عضيَّة فساروا على عادتهم، وكذلك سار من جاء طريق البحر. وحسن بن المتوكل ما تم منه تزليج عسكر إلى حلي، وقال: العادة الأولة قد تغيرت، وتلك الجهة قد دخلت في أطراف بلاد أحمد بن زيد، فالأولى الترك مع ما قد تجدد في زمان المتوكل من انقلاب العادة الأولة.
وجاء خبر بأن بعض المراكب لما رجعوا من المخا ووصلوا إلى البحر صادفهم الفرنج فنهبوهم[142/أ] أموالهم، ولا قوة إلا بالله.
وفي هذه الأيام شهر الحجة، أول العشر دخل عبد الله وغيره من أجناد الناصر إلى بلاد قعطبة، ثم إن يافع تحركت وتكاتبت واجتمعت، وتواعدوا لقصدهم إليها. ولما تشاغل الناصر هنالك بالمشرق هان الأمر على المعارضين، وتثاقلوا عن الإمداد مع ضعف المواد معهم، وحملوا السهل، وربما ظهر من يوسف صاحب ضوران أنه باق على دعوته، وكذلك صاحب صعدة، وظهر ميل إبراهيم بن المهدي عن صنوه وأظهر التجرم منه بتخلفه عليه في الذي كان وضعه له من البلاد، ولم يخرج من ذمار. وأما إسحاق فخرج من يريم إلى العثارب وصار يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وطلب الناصر ولده إسماعيل إلى عنده.
وفي ثالث عيد عرفة المباركة وصلت كتب من الشريف أحمد بن زيد صاحب مكة المشرفة مضمونها أنه وصل كتاب من سلطان الإسلام يذكر فيه أنه وصل إليه كتب من الشيخ معوضة بن محمد بن معوضة العفيف وغيره من مشائخ يافع يذكرون فيها أن المؤيد باليمن وأقاربه قد ضعفت دولتهم. وأنه حصل بينهم وبينه حروب وهزموهم المرة بعد المرة، واستولوا على ما يليهم من بلادهم، وأن السلطان يبعث طائفة من قبله إلى اليمن وهم عون لهم عليهم، وأن الشريف يبعث بطائفة من قبله إلى اليمن،[142/ب] وأنه يتحقق أمور اليمن، فإن كان على ما قالت يافع فلا بأس، والله أعلم ما يخرج بعده. وكان في علم الله ترك الصَّر هذه السنة إلى مكة، فربما يتقوى عند الشريف صحة الخبر بالركة. وكان وصول الكتب إلى حضرة السلطان في شهر ربيع من هذه السنة، والله أعلم.
وجاء خبر أن صاحب المنصورة الناصر صَالَحَ يافع لما رأى أن النهضة تحتاج إلى قوة والعسكر الذين قد كان اجتمعوا مع إخوته تفرق بعضهم، ولم يصل إلى قعطبة إلا البعض نحو خمس عشرة مائة مع عبد الله ومحسن، وتفالت منهم كثير حال عزمهم من ذمار، وضاعوا واختلف عليه إخوته لا سيما إبراهيم، فإنه بذمار متغير الخاطر، وصنوه إسحاق لما تخلف عليهم فيما كان وضع لهم، وتثاقل مَنْ طلَبَه مِنْ أولاد المتوكل، وعدم سرعة نفوذهم مع هذه الأخبار أيضاً من مكة أحمد بن زيد. ولما ذكر له من أجل كثرة رجوعه في أوضاعه وولايته المرة بعد المرة وأن فتح يافع لا مصلحة فيه، فكان جوابه مغالطة، فقال: إن ولايته وعطاه إنما هو لمن ناصحه وأجابه ووصل للقتال والمراكزة ليافع، فأما من لم يكن كذلك فلا حظ له في ولاية ولا غيرها، وأن رجوعه فيما رجع لأجل ذلك وبذل العطاء لمشائخ الحجرية وأسقط عنهم بعض المطالب قصداً لتأليفهم ومعونتهم.
ووصل خبر نصف شهر الحجة أن محمد بن أحمد بن الحسن الناصر ترجح له مصالحة المشرق، كما سبق ذكره. ولما بلغه تثاقل من طلب من البلاد العليا وميل صنوه إبراهيم أمر ولده إسماعيل بالعزم ومعه من قوم الحجرية بتنفيذ الأوامر[143/أ] في البلاد العليا. وكتب إلى صنوه الحمزة بالغرا س أنه يدخل صنعاء لتنفيذ الأوامر فيها، فجمع مشائخ بني الحارث، فامتنعوا عن الدخول، وقالوا نحصل من القبائل ما تحصل ولكن على وجه آخر، فأصابوا. وكان حسين بن المتوكل قد رتب القصر وغيره تلك الليلة، وأرسل يومئذٍ الشيخ ابن مذيور الحيمي إلى الحيمة بولايتها، ومنع مطالبها أن لا تصير إلى حسين بن المتوكل. وحسين بن المتوكل أرسل الفقيه أحمد بن جميل إليها. وكان حسين بن المتوكل قبل العيد بأول الشهر قد أرسل ابن أخيه حسين بن علي بن المتوكل إلى عتمة، فوصل إلى هنالك، ثم رجع إلى ضوران ولم يتم له الدخول إليها؛ لأنها بلاد حسين بن حسن، وهو مأمور من أخيه الحسين بالتقدم إلى إجابة الناصر صاحب المنصورة، وجمع عسكراً من عتمة، هذا في الظاهر. وإسماعيل خرج من المنصورة متوجهاً حيث كان أمره والده حتى وصل الدمنة. وخرج زيد بن المتوكل من صنعاء آخر نهار الأربعاء سادس وعشرين شهر الحجة، قيل: إلى الجهة التي كان جعلها له الناصر بلاد كُسْمِة في ريمة، لما بلغه أن الناصر يريد توليتها وقبضها.
وفي ليلة الأحد أول يوم لسنة ثمان وتسعين وألف مات القاضي العارف محمد بن علي العنسي ثم العياني ثم الصنعاني[143/ب] بداره غربي صنعاء ببير العزب.
كان المذكور عارفاً بعلوم العربية وأصول الفقه، مدرساً فيهما. وله أيضاً في علم الفقه على مذهب الهدوية آخر مدته، واشتغل بالفقه من بعد مدرساً أيضاً فيه، ويتولى القضاء في بعض الحالات بولاية المتوكل على الله ومن بعده، كذلك أشرف على نيابة القضاء لكن من غير انبساط كثير، فقد يعتذر من البعض، وقد يتولى القضاء للبعض على حسب المقتضى. وكان لا يترك التدريس مستمراً في المسجد الذي بالبستان بباب السبحة، ومن حضر إلى هنالك للفتوى أفتاه، هذا ما كان عليه مدته مقرراً للقواعد فيما درسه من النحو والأصول والفقه، لم يُقْبِلْ على شيء غير ذلك من المطالعات، والتوسع في المصنفات. وكان قراءته في النحو على القاضي محمد النهمي، وعلى الفقيه عبد الرحمن الحيمي، وعلى الفقيه أحمد بن صالح بن أبي الرجال، وفي الفقه شرح البحر على السيد أحمد بن علي الشامي. وقبر بخزيمة غربي صنعاء، رحمه الله تعالى.
وكتب صاحب المنصورة إلى صاحب كوكبان برد الولاية له ورد العمل عليه، ولا يكون لحسن صنوه عمل، وأنه يتقدم إلى حدة لمحاصرة حسين بن المتوكل بصنعاء، وكان أراد ذلك حين وصله خبر مخالفة ولده عبد الله.
ودخلت سنة ثمان وتسعين وألف
استهلت بالأحد، وجاء التحقيق أن يوسف بن المتوكل يريد الرجوع عن الموالاة بعد أن كان والى الناصر صاحب المنصورة، وسبب ذلك أن يافع كاتبت إليه. وكان قد استنكر على الناصر التخلفات في أموره والمناقضات فقال: هذا لا يركن عليه في شيء من الأمور، وأن يافع كاتبت بأنهم مطيعون ومُسَلِّمون فلم يقبل منهم الناصر.
[144/أ] وعلي بن أحمد صاحب صعدة جاء خبره أنه يريد مثل ذلك أظهر دعوته أيضاً، ورجع عن موالاته للناصر، وكاتب إلى قاسم صاحب شهارة بالاتفاق على المشاورة، وأن سبب ذلك اضطراب أمور الناصر وتناقض أعماله، كما قدح به يوسف.
والناصر صار مشتغلاً بمفاتحة يافع، وكان هذه المدة منه مجرد حفظ أطراف البلاد بالرتب لا غير ذلك، وصار يكاتب إلى البلاد العليا بالإمداد، ولم يحصل له المراد، بل يواعدونه المواعيد مع كثرة الترداد، ولم يظهروا إلى الآن التحول. ويافع تضرروا بالمحاصرة وعدم دخولهم إلى البلاد للأسباب . ومنعهم من دخول عدن، وأجاب الناصر على يافع أنه لا يقبل منهم إلا من وصل مواجهاً إلى بين يديه.
وفي هذه المدة لما كثرت الضرائب للدراهم وصغرت السكة بلغ صرف القرش إلى اثني عشر حرفاً ونصف وإلى ثلاثة عشر حرفاً وإلى أربعة عشر وخمسة عشر، ثم ما زال يزداد الصرف إلى أن بلغ إلى خمسة وعشرين حرفاً، فحصل مع التجار تضرر من جهة ما باعوه، والصرف كان بعشرة وبتسعة وثمانية، وكان فيه مهلة في المُخْلَص ، فانتقص البائع والمشتري، فالمشتري باع البضاعة المشتراه بربحها بعددي على أصل صرف القرش الأول، مثلاً بحرف في العشرة الحروف، وكان المقضى على أصل صرف[144/ب] القرش، مثلاً بثلاثة عشر حرفاً، فخسر المشتري حينئذٍ حرفين اثنين. والبائع حيث قبض عشرة حروف يوم باع أو تسعة من العددي صرف القرش تأريخ البيع، وأراد أن يصطرف القرش للموسم الآخر انتقص ثلاثة حروف فتحصل الخسارة عليهم من الجانبين وربح آخرون، وهو من كان في يده القروش وصرفها عند ارتفاع الصرف قدر حاجته في مصاريفه. ومما كان بيعه بالقرش مثل تجار الهند إلى بلادهم، وأهل البُن لأن بيعهم بالقرش، ومن باع بالقرش من التجار وقبضه حال البيع أو أمهل فيه ولم يقبض العددي فهؤلاء لا ينقص عليهم، لكن هم القليل؛ لأن القبض والبيع أكثره بالعددي فلا يحصل العدل إلا لو كانت الضربة بالميزان للدراهم لا يزيد ولا ينقص كما توزن القروش، فهذا لا يحصل للجميع الخسران، وتكون الضربة واحدة مستقرة إما صغيرة أو كبيرة.
وفي هذه الأيام أول شهر محرم الحرام تم حصاد الثمار، وكان أكثر ذلك الذرة، فتهونت الأسعار، واستقر السعر للقدح الذرة مائة بقشة على كبر القدح وصغر الدراهم، فكان على الزمان الأول نصف قدح، والبقشة على النصف زيادة على هذا يأتي بالقدح الأول، والدرهم الأول كل قدح بعشرين، فللَّه الحمد.
[145/أ] وصاروا يضربون مع القروش كل بقشة كبيرة من الأولة، والضرائب بلغت إلى نحو أربعة عشر ضربة: في صنعاء ضربتين، وفي الغراس واحدة، وفي كوكبان وفي عمران ، وفي ذمار، وفي يريم، وفي رداع، وفي المنصورة، ومع زيد بن المتوكل في بلاد ريمة، وفي اللحية. وصار قبال كل ضربة للدولة في كل يوم قدر ثمانمائة حرف وألف حرف، وأحقرها كل يوم خمسمائة حرف للدولة غير الملاحيق والآخر للضرابين محصول كبير معهم في ذلك. وصار القروش يأتي بها التجار والبانيان يضرب لهم عند المتقبل لدار الضرب مع ما يحصل معها من القروش من الدولة. وأكثر من صار يبدل القروش ويجعلها بيع وشراء البانيان. والسبب في ذلك أنهم صاروا يضربون البقشة أولاً نحاساً ويغطسونها بالفضة غطساً من أعلا الدارس يدخل البقشة نحو السدس فضة فقط، ومتى استعملت البقشة ظهر داخلها نحاساً على حاله؛ لأنها إنما تحلى بالفضة، فالقرش يخرج منها في التحقيق بخمسين حرفاً.
وأهل الحيمة لما رأوا الاشتجار حاصل في بلادهم، وإرسال حسين بن المتوكل ابن أخيه إبراهيم بن المؤيد بعسكر ما وسعهم إلا التسليم إلى حسين بن المتوكل.
ووصل أمر للشيخ ابن خليل بأنه يسوق محصول بلاد همدان من الطعام إلى مخزان صنعاء، فبلغ صنوه محسن وهو في بلاد العثارب، فقال: هذا محال، فإن البلاد بلاده، ولا يساق إلا على جاري العادة إلى الغراس. وكتب إلى صنوه الحمزة أنه يمنع ابن خليل عن ذلك، فمنعه، وقد كان أهم محسن بالطلوع لولا بعض العقال، قال: لا يصلح له، وصار مع هذا الارتباش إخوته يغيروا على الناصر الذين هم محسن وإبراهيم مع أولاد المتوكل وغيرهم، فمنعوا جميعاً على كل أمر يأتي مخالف لجاري عادتهم.
وإسماعيل طلع إلى جبلة وسكن بها لما بلغه سكون حسين بن علي[145/ب] في عتمة ثم نزول زيد إلى ريمة، وصده ذلك عن الطلوع، حيث كان أمر أولاً إلى اليمن الأعلى لأن إبراهيم في ذمار في نفسه من جهة ما تغير عليه، ويخشى حيث طلع من جانب حسين بن علي من عتمة، وزيد بن المتوكل لا يدخلون جبلة، فصار صاحب المنصورة الناصر في حيرة من جانب عيال المتوكل ومن جانب صنوه إبراهيم ومن جانب يافع، فاستقر كل مكانه، والله يصلح أحوال المسلمين.
وفي ليلة رابع عشر محرم خسفت القمر في برج الجوزاء وجاء الحجاج من بني عضيَّة الذين طريقهم السراة، فأخبروا بعموم صلاح الثمار اتصلت من اليمن إلى الشام، وأن الكيلة بمكة ستة كبار، وأن الشريف أحمد بن زيد كان بالحجاز بعد أن دخل بلاد نجد كما سبق عاد خرج بنفسه إلى بلاد عنزة؛ لأجل تعديهم في الطريق ، فأمنها وانتهب عليهم كثيراً من مواشيهم، وأدخلها مكة، وقبض على جماعة من مشائخ تلك الجهة إلى مكة. وكان دخوله قبيل الموسم، وأن حاج اليماني ضعيف إلى العام لم يحج إلا بنو عضيَّة الذين جاؤا السراة وهم قليل. والشامي كان حجه قوياً زائداً على العادة، أميرهم الباشا صالح في قوة خيل فوق ألف عنان، وبضائع الشام كثيرة، ولم يكن لها طالب من اليمن لعدم دخول التجار هذا العام. وحاج المصري كان دون العادة؛ لأنه حصل بمصر ما حصل من الموت والطاعون، نعوذ بالله منه، فهلك كثير بمصر، بحيث غلقت بعض بيوته، فالقدرة لله سبحانه، والخيرات شاملة ورخص الأسعار ورخص البضائع.
[146/أ] وجاء الخبر أن علي بن أحمد خطب بصعدة لنفسه، وخلع صاحب المنصورة، وكذلك يوسف صاحب ضوران حذف خطبة الناصر صاحب المنصورة، وصاحب صنعاء حسين بن المتوكل بنى على مثل ذلك، فتغير الناس من هذا الأمر، لا يكون سبب الفتنة ورد الأمر الأول الذي كان استقر وسكن بعض السكون جذعة. وأما قاسم صاحب شهارة، فأجاب على علي بن أحمد صاحب صعدة بعدم الاتفاق، وأنه لا يثق بأحد على الإطلاق.
ووصل رسول من حسين بن عبد القادر بأن الولاية له، وأن صنوه حسن معزول عن المشاركة، وأنه ينزل من كوكبان إلى حدة لمحاصرة حسين بن المتوكل، فكان أهم بذلك، ثم بلغه خلاف ولده عبد الله وصنوه إسحاق على الناصر، فترك ذلك وسكن. وسبب هذا الأمر اضطراب أوامر صاحب المنصورة وتناقضها، بحيث لم يبرم أمراً من الأمور، بل يناقضه من عزل وتولية، ثم له فزَّات كثيرة للرؤساء والسادة، والتوعدات المتواترة على أشياء غير موجبة، ووضع الزناجير في الرقاب والمعاقبات المجلدة، والتشديدات الغليظة، فنفرت نفوس كثيرٌ من الأعيان والرؤساء والقادات الكبار من المشائخ والنقباء والعقال، ولم يصبر على حاله إلا القليل لما يبذله من المال والبرطيل ، وهم على حذر منه في الأفاعيل، لكن غلبهم حب المال، مع أن بذله ليس بعام، بل لمن شاء واختار. ومنهم من يصل إليه من الوافدين والمساكين فلا يصلهم بشيء، ومنهم من يحول له على الولاة فلا يجدي خطه في شيء.[146/ب] وحرك هذه الأيام صاحب المخا السيد حسن بن مطهر الجرموزي وصادره فيما عنده وتوعده وتهدده وحبسه وطلب العذر فلم يعذره، وبذل له عشرة آلاف قرش حسبما طلبه فلم يقبله. ولما ظهر ليوسف هذه الأحوال وهو بضوران استنكره منه، وكثر الشكا عليه. وكان قد كتب إليه أهل يافع أنهم منقادون لما يجب من الشريعة وأنهم مُسَلِّمون للواجبات، حافظون للطرقات، فما الوجه لغزوهم من صاحب المنصورة، فوقع هذا عند يوسف وبعث برسالة إلى القضاة وإلى إخوته، وقال: هذا
لا يجوز لصاحب المنصورة فعله، فأجابوا عليه بأن ذلك كما قال، وإنما غلب هذا الرجل للأمر المحال، وتكليف الناس ما لا يطاق ولا يكاد ينال. ووافق هذا أيضاً بعض أولاده وإخوته الذين هم: عبد الله بن محمد بن أحمد بن الحسن، وعمه إسحاق بن أحمد بن الحسن، وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن، وعلي بن حسين بن أحمد بن الحسن مع ما جرى أيضاً من التوعد لهم من صنوهم والمناقضات في الولايات. وكان من المقدور أن عبد الله ولده تراخى عليه سبار العسكر الذين عنده بقعطبة فكاتب والده بحاجة الناس إلى المصروف. وأن منهم[147/أ] من قد هرب من حضرته، فلما وصل الرسول إليه تهدده، وقال: المصروف قد صرنا في جمعه، ولكن عبد الله لا بد من مؤاخذته، وسأصنع به وأصنع، وأفعل من النكال ما يراه أفظع، وهذا الزنجير الكبير -وأشار إليه- قد أهبته له، وأنت -يشير إلى الرسول- لك الزنجير الصغير. فلما بلغ ولده عبد الله هذا الكلام، وما هو بانٍ عليه من النكال والخصام، مع ما قد رأوه مما جرى مع صنوهم حسن من الحبس الطويل قال: هذا من تكليف ما لا يطاق، وكيف وهو يريد استفتاح جبال يافع، فما مراده إلا إلقاؤهم إلى التهلكة، مع عدم الرعاية والوفاء. وزاد اتفق أنه جهز ولده إسماعيل إلى جبلة وجعل أمرها إليه، وعبد الله هو الذي فتحها واستولى عليها، فقال لسان حاله وإسراره: أصبح قيامه معه لا دين ولا دنيا، وأظهر الندم والاستغفار عما وقع منه في جبلة وما جرى. وكاتب يوسف وقال هو الأولى بالاتباع، وأجابه. وكذلك إسحاق وعبد الله بن يحيى، وعلي بن حسين، وأما إبراهيم بن أحمد بن حسن فهو قد باينه من قبلهم، فاجتعموا على هذا، وارتفع عبد الله من قعطبة إلى إب. فلما وصلت كتبهم إلى يوسف أظهر الدعوة، وكاتب إلى صنوه الحسين بن المتوكل صاحب صنعاء وجزموا بالخلع للمذكور، فخلعوه وخطبوا ليوسف بصنعاء وذمار وضوران وإب. وجاءت كتب يافع بالإجابة ليوسف، فكان هو السادس من الإمام القاسم،
وكل سادس مخلوع في الغالب. ووافقهم يحيى بن محمد بن الحسين أيضاً. واختلف أهل صنعاء فيما بينهم وتخوفوا من جانب صاحب المنصورة، وقالوا: لا يحصل عليهم منه انتصار، فيحصل ما يحصل من الخلل، وقد يحصل من أولاده وإخوته انتقاض فيما فعلوه من الإجابة ليوسف، فصاروا في حالة عجيبة، وقد كان شد أهل جبلة بحللهم من جبلة خشية لا يقع فيها مثل العملة الأولة، وكذلك بعض أهل ذمار رحلوا عنها، فعند أن بلغه هذا الحادث بقي في حالة عجيبة وتغير مزاجه وتحدث بالخروج من المنصورة، وجعل للعسكر الذين عنده زيادات في الجوامك ومن دخل معهم، وصار المذكور يقدم رجلاً ويؤخر أخرى؛ خشية من خلاف يافع وابن شعفل وأطراف الحجرية. وعند ذلك أرسل ولداً له صغيراً يسمى محسن بجماعة إلى ذي أشرق، وهو في ولاية صنوه إسحاق، فتلقاه بالحرب والمنع عن دخول بلاده، فوقعت الهزيمة في أصحاب الناصر وانتهبوا السلاح وأسروا جماعة ومن جملتهم ولده محسن، ثم أرجع محسن إلى عند والده. فأطبقت البلاد إلى تعز [148/أ] ليوسف، وازدادت الحيرة مع الناصر في منصورته، وعند ذلك تابع حسين بن المتوكل الإمداد بالعسكر إلى ذمار وإلى عند عبد الله بن الناصر وإسحاق، فتقوَّت أيديهم. وكان قد أرسل الناصر والياً إلى حراز ووالياً إلى الحيمة، فمنع عن ذلك حسين بن المتوكل وجهز جماعة عسكر، فأخرجوهم عنها. ولما حدث هذا الأمر كان حسين بن حسن ومحسن بن أحمد بن الحسن باقين على إجابة صاحب المنصورة. بعثوا بطائفة من عسكرهم إلى بعدان ، فخرج عليهم عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن فاحتربوا فيه وهزموهم وقتلوا منهم واستولوا عليهم. وكان من جملة القتلى ولد مسمار من أصحاب حسين بن حسن، ثم إن حسين بن حسن عوض بطائفة من عسكره رئيسهم ولده قاسم بن حسين، فوصلوا إلى إريان ما بين بعدان وسمارة ويريم وسكنوا فيها، لمَّا لم يجدوا مدخلاً إلى بعدان، فتلقاهم في إريان علي بن حسين بن أحمد بن الحسن، وعبد الله بن يحيى
وعبد الله بن الناصر ووقع الحرب الشديد، فاستولوا عليهم أجمع وأسروهم وقتلوا منهم وانتهبوا جميع محطتهم، وقبضوا ولد حسين بن حسن: القاسم بن حسين ، وعند هذا ذكر رجل مجنون: هذا صاحب المنصورة قد كان سبرت له، لكنه ما أحسن لنفسه. [148/ب]. والحمزة بن أحمد بن الحسن صاحب الغراس كرر الطلب لقبائل بني الحارث وهمدان على أنه يدخل بهم صنعاء، فمنعوا أنفسهم وقالوا: ما ندخل، ويحصل بسبب قبائلنا فيها الظلم للمسلمين، ولا ندخل بينكم أيضاً إلا من استقر عليه أحد واتفق الناس عليه من السادة والقضاة والعقال، فنحن مع الجماعة، فأصابوا وأحسنوا وما قصروا ووافقوا الشرع الشريف.
وفي هذه الأيام ظهر حيوان منكر قال الناس: إنه السبسب، فيه ضراوة، فضرَّ كثيراً من الناس، وأكلهم في النهار والليل من صدفه منفرداً، إلا أن يكونوا جماعة، في بني مطر وضوران وسنحان وقاع صنعاء، وقد قتل منها بنو مطر وسنحان اثنين، وفي طريق الغراس قتل واحد منها وبقي واحد منها في شعوب يدور، أكل صعباً بشعوب، وآخر بقاع صنعاء العدني، وظهر في بلاد حضور.
قال من رآه من الناس: وصفته أنه عريض الصدر، عريض الجبهة، دقيق الخرطوم، له أنياب ظاهرة، عريض الذنب، مسلوب من مؤخره، وكبره ما بين الضبع والكلب، إلا أنه أطول منها. وصار يثب لمن ظفر به إلى النحر ولا يأكل إلا بني آدم سلطه فالله يدفع ضرره وخوف كثيراً من الناس، وأكلت جماعة من الناس. وقد خرج هذا الحيوان في مدة محمد باشا في سنحان، وقتلوه تلك المدة، ثم لم يظهر إلى هذا التأريخ .
وفي ليلة سابع شهر صفر وقت العشاء خَرَّ نجم من المغرب إلى المشرق، فسمع له حركة من شدة خريره، سمعه كل الجهات، ورأوه كل يقول هو في جهته.
وفي نصف شهر صفر وصل الزوار من المدينة المشرفة فأخبروا أن حال دخولهم مكة جهز الشريف أحمد بن زيد ولده بعسكر كثير وخيل طريق تهامة التي إلى جهة القنفذة وحلي، ولا يعلمون أين قصدهم[149/أ].
وفي العشر الأخرى من صفر وصل الخبر أنه اتفق حرب في الجند ما بين إسحاق بن المهدي وحسن ولد صاحب المنصورة وصنوه محسن الذي كان أسره إسحاق، ثم أرجعه عند والده في الحرب الأول. وكان هذا الحرب الآخر في الجند، فانكشف عن قتل كثير من الجانبين، ثم كاد أن يغلب إسحاق ومن معه، فجاءت الغارة من حسين بن علي بن المتوكل ومن عبد الله بن محمد بن الحسن، فوقعت الهزيمة في أصحاب صاحب المنصورة، واستولوا على المحطة وأسروا الحسن وصنوه محسن مرة ثانية. وحضر أيضاً في الحرب علي بن حسين بن أحمد بن الحسن في جانب يوسف، ثم رجع كل إلى مكانه، وعند ذلك أذعن إسماعيل بن محمد بن أحمد بن الحسن بالمواجهة وهو في جبلة، لما رأى أن قد صار في حكم المحتاز في جبلة من جميع الجوانب من أعلى ومن أسفل إلى يد صنوه عبدالله، وشرط رجوعه إلى والده.
ووصلت كتب حسين بن حسن إلى يوسف بأنه يلتقي هو وإياه إلى بعض الطريق، ولعل يوسف لا يساعد، لئلا تكون خديعة. ومحسن بن المهدي كتب إلى يوسف أنه مجيب له بشرط ولاية حراز، فولاه حراز، وقال: يسكن برداع حتى يتم المشروط. وأرسل السيد صالح حيدرة لولاية حراز الذي رجع متسابقاً، فلما وصل إلى صنعاء وكان حسين بن المتوكل قد ضمن ليحيى بن محمد بأنه تكون حراز إليه، ويحيى بن محمد اضطرب عليه الحال، وقال يريد العزم إلى حراز ليحفظه، وكان إبراهيم بن المؤيد أيضاً قد دخل أطراف حراز فكتب حسين بن المتوكل إلى إبراهيم أنه يخرج من حراز ويهب له ولاية ثلث الحيمة، وسار يحيى بن محمد إلى حراز. وقال: إنه إذا دخله حفظه من جانب حسن بن المتوكل لا يستولي عليه، وقيل: إن حسن بن المتوكل يريد القصد إلى ملحان أيضاً، وهو في ولاية يحيى بن محمد.
[149/ب] وعلى الجملة إن الأمور في اضطراب، وقتال على الملك بلا شك، فالله يدافع بدفاعه ويسكِّن ثائرة هذه الفتنة التي عقباها عليهم وعلى المسلمين وخيمة.
وحال كتب الأحرف وصلت كتب إلى حسين بن المتوكل أن حسين بن حسن واجه إلى يوسف، واستكملت المواجهة والقبض على بني المهدي أحمد بن الحسن، وبقي صاحب المنصورة في منصورته وإخوته وأولاده قد خالفوا عليه وقبض على من قاتل معه ووقع في حرب الجَنَد القتل الكثير، قيل: نحو مائتين من الجانبين، وقيل: أكثر، فلا قوة إلا بالله. وكان أكثر من أجاش به صاحب المنصورة من الحجرية؛ لأن العسكر كانوا قليلاً عنده. ووصل محسن بن أحمد بن الحسن من رداع إلى ضوران مواجهاً، غير أنه قال: يتوقف حتى تستقر الأمور، ثم افتسح من يوسف إلى محله الغراس لافتقاد بيوت والده، فسار من ضوران ومر صنعاء تلقاه حسين بن المتوكل وأكرمه، ثم خرج إلى محله الغراس، وأرسل بعض عسكره إلى الجوف، لتغير حصل فيه.
ولقد غيرت هذه الدولة حالها، وسعت في خراب ملكها وأعزَّت عليها غيرها، وحصل خفضهم لما كان يرفعهم، وضرهم ما كان ينفعهم، وغاب عنهم من السعد والإقبال ما كان يحضرهم، وخذلهم من الكل ما كان ينصرهم، وانفتحت عليهم الأيام، وقلبت لهم وجوهها، وكشفت لهم مكرها، وأبرزت لهم مكروهها، وأغارت عليهم الغير، فسبتهم وسلبتهم، وغالبتهم فغلبتهم، وأذلت أنفسهم العزيزة، وهدمت معاقلهم الحريزة، وطمست على أموالهم المكنوزة، وصارت الدنيا عليهم بعد أن كانت لهم، وجعلت ظلهم هجيرهم بعد أن كان هجيرهم ظلهم، وانطفئ الملك وعفى السلطان، ومشى عليهم الدهر وجرى عليهم [150/أ]الزمان، وجاهرهم من استحالات الناس حالات، ومن تلونهم ألوان وتخلفات، شعراً:
والناس أعوان من والته دولته .... وهم عليه إذا عادته أعوان
والجرموزي السيد حسن الذي كان بالمخا سلم ما سلم من المال لصاحب المنصورة، وحمل باقي ما معه من المحصول وشد بخزانته وأثاثه من المخا طريق تهامة، وخرجت من بيت الفقيه طريق الحيمة حوائجه وجواريه إلى صنعاء، وهو بقي برأسه مرسماً به في المنصورة.
وجاء الخبر بثامن ربيع الأول أن مدينة تعز دخلها أصحاب يوسف وملكوها. وكان فيها من قبل صاحب المنصورة المتولي لها الشيخ ابن راجح الآنسي، وكا[ن] دخولها ولم يجر فيها قتال ولا انتهاب، وإنما حصل طرف قتال خارجها ما بين أصحاب يوسف وأصحاب صاحب المنصورة، وهو أن ولده إسماعيل كان بعد خروجه من جبلة سكن خارج المدينة، فقصده حسين بن علي بن المتوكل، وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن ومن معهم من العسكر، فاتفق طرف حرب، قتل من أصحاب إسماعيل ثلاثة، ثم انهزم إلى الدمنة، فعند ذلك واجه أهل تعز وتبع حسين بن علي ومن معه حتى بلغوا الدمنة. وإسماعيل ترفع إلى حصن هناك. وواجهت تلك الجهة أيضاً إلى حسين بن علي، وبعض الحجرية واجهوا إلى يوسف. وعند هذه الأخبار تحرك[150/ب] القاسم بن المؤيد صاحب شهارة، وقال: أما إذا كان الأمر هكذا وقد انتصب يوسف وهو حدث صغير السن فالأمر مشكل. وكان قد كاتبه صاحب صعدة علي بن أحمد وكان علي بن أحمد، قد انتصب للأمر في جهاته، وأنه لا بأس بالتراود هو وإياه على ما يصلح، ويريد أن يحصل الاجتماع بقاسم، وأنه يسلم له الأمر ويكونوا يداً واحدة، وقيل: أنه كاتبهم حسين بن حسن صاحب رداع، فالله أعلم ما يكون منهم.
ووصل إلى ضوران رسول من عبد الله بن الناصر أنه يحتاج من يوسف دراهم للعسكر، فقال للرسول: لم يكن معه خزانة ولا مادة، البلاد قد تقسمت.
وعند ذلك في عشرين شهر ربيع الأول سلم قاسم بن المتوكل صاحب ثلاء لصنوه يوسف. وزيد بن المتوكل سار من بلاد ريمة إلى تهامة، فاستولى على زبيد وواجه إليه. وكاتب صاحب المخا إلى يوسف.
وخرج الفرنج ببضاعة أدخلوا بعضها المخا ثم ركزوا في باب المندب لتلقي العماني وتجار عمان، فتحير النعمان عنهم[151/أ]. وزيد بن المتوكل بعد دخوله إلى زبيد سار إلى المخا، فدخله من غير قتال وقد كان الشيخ نعمة الله اللاهوري الذي ولاه الناصر في المخا فخرج منه. وجاء الخبر بأن حسين بن علي وإسحاق وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن قصدوا إلى جهة المنصورة. وكان إسماعيل بن الناصر بعد رجوعه استقر بحدود جبل المنصورة مما يلي الدمنة، فلم يشعر إلا بوصول الثلاثة بمن معهم من العسكر، فحصل الحرب فيما بينهم، وجاءت غارة والده من المنصورة، فوقعت الهزيمة في أصحاب يوسف. وكان الحرب في سوق السبت تحت المنصورة بأطراف الدمنة، فوقع القتل الكثير في المنهزمين من أصحاب يوسف. وانهزم حسين بن علي وإسحاق وعبد الله بن يحيى إلى الزيلعي وذي أشرق، واختلفت الأخبار في حسين بن علي وإسحاق فقيل: أنه وقع فيهم صوائب، وقيل: أنه استولى عليهما. وأما عبد الله بن يحيى فهرب، وكان هذا في آخر شهر ربيع الأول.
ومن العجائب أنه جاء خبر هذا الحادث قبل حصوله بنحو نصف شهر، ثم وقع كما قالوا.
وجاء خبر أنه خرج باشا إلى جهة جدة، وأن أحمد باشا الذي في جدة المتولي عليها معزول.
[151/ب] ووصلت كتب صاحب صعدة علي بن أحمد إلى قضاة صنعاء وغيرهم بأنهم يجيبونه في دعوته، وأن النية معه إلى الخروج إلى جهة اليمن من صعدة لتكون اليد له، وأن الناصر ليس بأهل، وأنه أراد أن يأخذ ذلك بالسيف، وحصل ما حصل بسببه وأمْرِه بجبلة من المقتلة المنكرة. وأن يوسف دعا إلى الرضا وأنه لا يصلح وأنه قد دعا إلى نفسه راضٍ لنفسه بما دعا غير مشروط بالرضا من غيره، فحصل الأمر العجيب من هذا الاختلاف، كلما أشرف السكون من جانب انتقض من جانب.
وجاءنا كتاب من علي بن أحمد هذا بمثل ذلك، وأنه استمد الرأي في ذلك بعد إبرامه، فكان كما قال الأول في المثل "ذرينا شعير مات شير"، فأجبت عليه بما معناه أن الأولى أن تكون أموركم مبنية على التسكين، وحفظ ما تحت يده من بلاده الأولة انتساباً إلى الأولين، وليكن الأمر من الجميع على طريق الاحتساب، لعدم كمال الشروط التامة، ولأجل يكون في ذلك الصلاح بتسكين ثائرة الفتنة، فإنه قد ذكر العلماء كالنجري من الهدوية في معياره، وعبد السلام من الشافعية في قواعده أن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، وذكر الزمخشري في تفسير سورة الكهف أن الشرائع مصالح، وأن هذه المسألة كلها ظنية، وارتكاب المقطوع بالمظنون لا يجوز من القتل والقتال، وغصوب الأموال[152/أ] وأذية المسلمين. والمحافظة على بلادكم أولى من خروجكم. مع أن أحمد بن زيد صاحب مكة بلغ أنه جهز إلى بيشة ويخشى إذا خرجتم من اختلال بلادكم. وكان قد ساعد محسن بن المهدي صاحب الغراس بالولاء إلى جانب يوسف والخطبة، ثم لما بلغه هزيمة الجماعة في الدمنة رجع عن ذلك، وقال: هو متوقف في هذه الساعة حتى تقرر الأمور.
وقاسم بن المتوكل صاحب ثلاء خرج إلى طيبة وكاتب صنوه حسين بن المتوكل أنه يلقاه إلى هنالك لمفاوضة قواعده، فلما تراخى ترجح له عاد إلى ثلاء، ولأجل أنه بلغه خلاله ما حصل من الحادث في الدمنة من هزيمة أصحاب يوسف، وكذلك صاحب كوكبان قد كان تقارب إلى إجابة يوسف، فلما بلغهم ذلك توقفوا على الأصل.
وجاء بعض الكتب إلى بعضهم فذكر تحقيق الواقعة، قال: إن حسين بن علي بن المتوكل وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن وإسحاق صالوا على إسماعيل بن محمد الناصر بن المهدي أحمد بن الحسن وهو في موضع في الدمنة يقال له: (أم قُريش) جبل فيه قرى قريب من وادي الدمنة لم يكن بالمرتفع ديار بني السلمي. وأنه رتب أصحابه على الطريق في بيوت ومكامن، فلما طلع أول القوم بخيلهم صبت عليه البنادق من كل جانب والطريق في الوسط[152/ب]، فراح كثير من الخيالة، منهم الأمير فرج الذي كان مع علي بن المتوكل، ومنهم أحمد بن الفقيه ومحمد بن جميل الظليمي ومنهم ولد من أولاد الشيخ عامر الصايدي وسيد من بني الديلمي من أهل السر وكثير من أهل الخيل والعسكر، وكانت مقتلة، قيل: جملتهم نحو ثلاثين نفراً، وقيل: أكثر وأكثرهم من أهل الخيل؛ لأنهم أول القوم. وبقي إسماعيل في تلك الليلة في حكم المحاصر قدر أربعة أيام، ثم جاءت غارة عبد الله بن الناصر من قبل يوسف وهو كان في إب، فلما وصل اشتد الحصار على صنوه إسماعيل، فخاطب بالمواجهة وواجه لما قلَّ عليه وعلى من معه الماء والطعام، وأن عبد الله بن يحيى وقع فيه صائبة، وقيل: أنه هرب، وقيل: أن هذا حرب آخر غير الأول، وأن القتل الكثير كان في الأول في سوق السبت، وهذا بعده، ولما وصل عبد الله بن محمد مغيراً ترفع صنوه إسماعيل إلى الجبل وحاصره وواجه إليه، والله أعلم.
ولم يبق إلا صاحب المنصورة في أضيق من حلقة الفاس في منصورته، لم يخرج منها، فالله أعلم ما ينتهي الحال بينه وبينهم، فلا قوة إلا بالله.
[153/أ]وكان الناصر قد استعان بأهل الحجرية في هذا الحرب الحاصل فأجاشه صهره ابن مغلس بقومه من أهل الحجرية، فلما كثروا حصل ما حصل من هزيمة أصحاب يوسف. وكان قبل ذلك قد طلب منهم مهلة قدر شهر، فلم يحصل إسعاد، وصاروا هنالك متراكزين الآن، وقل المدد من عند يوسف ومن صنوه الحسين لما نفدت الخزائن وقلَّ المدخول معهم وضعفت الضربة معهم التي كان يمدون بها، حتى بلغ الحال معهم العجب في قل المدد؛ لأجل تفرق البلاد بينهم واختلاف آرائهم، لكن أهل اليمن قد استمدوا من البلاد اليمنية فيما احتاجوا له ما يكفيه عن الغارة.
وجزم محسن صاحب الغراس بالخطبة ليوسف، فخطب له الجمعة أول شهر ربيع الثاني، وظهر سبب ذلك أنه وصل كتاب من المنصورة إلى الحمزة صنوه بأن الولاية له، وأنه لم يبق لمحسن أمر، فحصل التغير مع محسن. وكتب الناصر إلى قبائل بني حشيش وبني الحارث وهَمْدان بأن الولاية للحمزة، والحمزة لما وصلت الولاية له توعد القاضي عبد الواسع الخطيب وخوَّفَه، فهرب القاضي وصار إلى صنعاء، ثم إن محسن دخل صنعاء يوم السبت عاشر شهر ربيع الآخر. ولم يتم لحمزة مراده. والضربة غيَّرها صاحب المنصورة، وجعل إلى ما كانت عليه في زمن والده أحمد بن الحسن. واستقر الضرب للقرش عنده منها للخمسة الأحرف، وصعدة كذلك غيروها، ولم تسلك فيها ضربة غيرهم أصلاً، ولأجل هذا وقل الضروب[153/ب]، والضربة في بلاد يوسف كسدت وفترت، ولم يبق فيها محصول كما كانت، ولم تبق ضربته إلا الشيء الحقير في بعض الأوقات، وصارت تضمحل وتصغر، حتى صارت البقشة الخمس بقشة صغيرة، بلغ صرف القرش إلى سبعة وعشرين حرفاً منها.
وحسن بن المتوكل استولى على الضامر من بلاد حراز وتصرف فيه، لاتصاله ببلاده بمساقط حراز من جهة الغرب مما يلي الحقار وبلاد لعسان. وسبب عزل الناصر لصنوه محسن من بلاد الغراس وتولية الحمزة عزمه من رداع وموالاته ليوسف ووصوله إليه إلى ضوران حال مروره، فلما بلغه ذلك عزله عن البلاد.
وفي هذه الأيام تقرر زيد بن المتوكل في المخا بعد أن قرر عمله واستولى عليه وخطب فيه لأخيه يوسف، واستولى في المخا على علي بن يحيى بن حسين بن المؤيد ، وأرسل به إلى ضوران تحت الأسر، فوصل ضوران.
وظهر خبر من رجل خصيص أن صاحب المنصورة الناصر كتب إلى أحمد بن زيد أنه يمده بغارة، أو أنه إذا غلبوه فإنه ربما يرحل إلى بلاده مكة ويستعين به في المخرج، هكذا أخبرني به من له اتصال واختصاص بجناب صاحب المنصورة. وأنه يريد الخروج من المنصورة هذه الأيام إلى السهل، فإن جاء وله مطمع في الاستيلاء على بلاد تعز ثم النفوذ إلى غيره فذاك، وإن لم يحصل عرَّج إلى تهامة وسار جهة الشريف ولو إلى صبيا ويستمد من هناك من رئيسهم، أو إلى اللحية؛ لأن صاحبها حسن بن المتوكل من أعوانه وأتباعه، فهذا من العجب. وصاحب كوكبان سلم الأمر ليوسف وخطب له، وعلي بن أحمد صاحب صعدة كتب إلى صاحب[154/أ] المنصورة بإجابة دعوته وأنه صار مشغولاً بنفسه.
وفي نصف شهر ربيع الآخر واجه حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم أبو طالب صاحب عمران إلى يوسف بن المتوكل. وصاحب شهارة فتح المخازين حق المتوكل والمؤيد والده التي بشهارة، وتصرف فيها وقضى ما عليه من الدين من المدة السابقة منها. وسلم الأمرَ في سادس عشر شهر ربيع هذا حسن بن المتوكل لصنوه يوسف، وكذلك حسين بن حسن صاحب رداع جاءت كتبهم في يوم واحد بالتسليم ليوسف.
وفي عشرين شهر ربيع الآخر عاد حسين بن علي وإسحاق ومن معهم لقصد صاحب المنصورة، فتلقاهم محسن بن محمد صاحب المنصورة وارتكز الحرب ، وخرج صاحب المنصورة في الأثر لمظاهرة ولده محسن وحصل الحرب. فراح من الجانبين قدر عشرين نفراً، وقيل: أكثر من ذلك، ثم عاد صاحب المنصورة إلى محله واكتفَّ الحرب وواجه كثير من أهل الحجرية إلى أصحاب يوسف، وصار حسين بن علي بن المتوكل وإسحاق يضايقون صاحب المنصورة ويزحفون عليه[154/ب]، فخرب صاحب المنصورة المحمولة؛ لأجل لا يطلعون حصن الدملوة. وقبائل المشرق استولوا على بلاد لحج، وحصل في اليمن الأسفل من الربش ما لم يحصل مثله، فلا قوة إلا بالله.
واستقر أصحاب يوسف: حسين بن علي بن المتوكل ومن إليه خارج المنصورة في المطرح الذي طرح فيه الرجبي أيام خلافه عليه، فكان عقب ذلك وقربوا من المنصورة، فحصل حرب بينهم قتل فيه جماعة من أصحاب حسين بن علي وإسحاق كثير نحو خمسين نفراً من الجانبين، وأكثرهم من أصحاب صاحب المنصورة، ثم هزموا إليها، وهتفوا بالكتب للغارة عليهم والزيادات من يوسف. وصاحب المنصورة كاتب إلى يافع بأنهم يعينوه على عيال الإمام المتوكل ومن انضاف إليهم، وبذل لهم ولاية عدن وبلاد لحج، فلم يسعدوه، وقالوا: المراد حفظ بلادنا.
وحصلت الحوزة على المنصورة من جميع الجوانب وطرح بعض القوم في محل يقال له: قدس. وخرج السيد حسن الجرموزي رسولاً بالخوض بالصلح، فكان خروجه من الفرج له، فلم يكن همه إلا النجاة من حبال صاحب المنصورة، بعد ما حصل معه ما حصل من الترسيم والضيقة. ولم يبق لصاحب المنصورة من البلاد التي حوله مادة بل ينفق مما جمعه من الدُّخن على من عنده ممن بقي من الخاصة. وعلى الجملة أن أكثر اليمن قد صار مجيباً ليوسف والتهائم والجبل، ولم يبق إلا صاحب صعدة، ويوسف أصغر أولاد المتوكل سِنُّه في نحو خمس وعشرين سنة ، والملك لله يؤتيه من يشاء، والله يصلح البلاد والعباد.
[155/أ] وفي ثامن شهر جمادى الأولى كان تحويل سنة العالم لدخول الشمس أول درجة الحمل، وزحل قد خرج من السنبلة، والمشتري في برج القوس، وكذا المريخ والجوزهر في العقرب، والقمر في الجوزاء، والزهرة وعطارد في الثور.
وجاء الخبر هذه الأيام أن صاحب المنصورة غزا بعض المحاط عليه وهي محطة رئيسهم فيها السيد محمد الديلمي، كان قد حفظ بعض الطرق فمنع الداخل والخارج إلى المنصورة، فاستولى عليه، وكان بعض المحاط قد حطوا على الماء خارج المنصورة، فشرع التضرر مع أهل المنصورة من الماء، فاتفق أن وقع مطر أملى البرك داخل المنصورة ومصابُّ المواجل في المنصورة فيها شجر البنج ، فيكون الماء فيه تغير وركة، ولا يزال في جبل المنصورة السخمة والسحاب[155/ب]. ولما ضايق صاحب المنصورة تلك الجنود صار محتازاً ولم يحصل له الخروج منها، فبقي فيها حائراً والمحاط في قدس وغيره ليس بينهم وبينه إلا بلغ المدفع، ولم يقربوا إلى المنصورة خشية من المدافع. وعند ذلك كتب قاسم صاحب شهارة وهو باق على الأصل الأول من موالاة صاحب المنصورة يذكر له التأسي بمن مضى، وأنه يصبر وأنه لا يصلح إلا الاحتمال، وأنه يتوجه النظر فيما يسكن ثائرة الفتنة، فأجاب عليه أنه طالب للشريعة، وأنهم يجتمعون إلى مكان متوسط للنظر فيما فيه صلاح الإسلام، وأن الأمر الذي نقم عليه قابل للحق فيه، فعرض القاسم مضمون جوابه هذا على أولاد المتوكل وغيرهم، وهذه أمور متباعدة، فلو كان هذا من أول الأمر، والأمر كما قال الأول:
أمور يضحك الجهال منها .... ويبكي من عواقبها الحليم
وهذه الفتنة الثائرة بهم زادت على فتنة أولاد المطهر بن شرف الدين؛ لأن تلك الفتنة لم يبلغ حروبها إلى هذا، إنما وقع منها حرب واحد بين لطف الله بن مطهر وعلي بن يحيى لا غير.
وفي نصف شهر جمادى الأولى وصل إسماعيل بن محمد الناصر ولد صاحب المنصورة إلى ضوران، أرسله صنوه عبد الله ومن معه من الحاضرين هناك[156/أ]. ولما وصل كتاب القاسم صاحب شهارة إلى حسين بن المتوكل والقضاة بصنعاء وأجابوا جميعاً أن طلب الاجتماع قد كان حاولنا فيه وأردناه فلم يحصل من صاحب المنصورة إليه التفات، وأعرض عنه وطلب غزو المشرق والتجهيز عليهم من غير نظر إلى اجتماع ولا استشارة في القصد لهم. فلما كان ذلك منه سكنوا، وقال بعضهم: القصد ليافع يحتاج إلى تروي أولاً ويجمع ما يحتاج إليه من الخزانة مع ضعف السنة وغلاء الأسعار، وليس في هذا عجلة، وكان المطلوب الآن غيره، وأما الآن فلم يبق للاجتماع فائدة بعد إجابة أكثر اليمن ليوسف.
وفي ثامن عشر شهر جمادى الأولى وصل الخبر من أصحاب يوسف المحاصرين على المنصورة أنهم لم يشعروا ثاني عشر يوم في شهر جمادى الأولى إلا بمغزى من صاحب المنصورة إلى محطة حسين بن المتوكل، فوقع الحرب بينهم، وكادوا يستولون على حسين بن علي، لولا غارة عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن من محطته فوقع الحرب. قتل من أصحاب صاحب المنصورة جماعة نحو اثني عشر نفراً منهم: إسماعيل الذانبي، وكان قد خرج صاحب المنصورة عقبهم، فانكسروا إلى وجهه. وراح من أصحاب حسين بن علي جماعة نحو ذلك القدر. ثم لما دخل أصحاب صاحب المنصورة أغلقوا الباب وأمروا برمي المدافع وقد كان شحنوها بشيء من المسامير والسلاسل، فطفت عليهم المدفع ولم يصبهم ورموا بآخر فتكسر المدفع، ثم رجعوا إلى محلهم سالمين ولم يرح منهم إلا من راح حال الحرب، والله أعلم.
[156/ب] وطالت الفتنة هذه فيما بين المذكورين، فهذا إلى هذا التأريخ سلخ جمادى الأولى منها سنة كاملة، وجرى ذلك بينهم كما جرى مع ملوك الطوائف .
قال الصفدي في شرح اللامية عند أول بيت منها في قوله:
أصالة الرأي أغنتني عن الخطلِ
ما لفظه: لما استولى اسكندر على ملك فارس كتب إلى أرسطو يأخذ رأيه في ذلك، فكتب إليه الرأي أن توزع ممالكهم بينهم وكل من وليته ناحية سمه بالملك، وأفرده في ملك ناحية، وأعقد له التاج على رأسه وإن صغر ملكه، فإن المسمى بالملك لا يخضع لغيره ولا ينتسب أن يقع بينهم تغالب على الملك، فيعود حربهم لك حرباً بينهم، فإن دنوت منهم دانوا لك، وإن نأيت تعززوا بك، وفي ذلك شاغل لهم عنك وأمان لإحداثهم بعدك شيئاً. فلما بلغ الإسكندر ذلك علم أنه الصواب، وفرق القوم في الممالك، فسمَّوا مُلوك الطوائف، فيقال: إنهم لم يزالوا برأي أرسطو مختلفين أربعمائة سنة، ولم ينتظم لهم أمر، انتهى كلامه.
وجاء خبر آخر شهر جمادى الأولى أنه كان بعد الحرب الأول تعقب ذلك أرسل صاحب المنصورة عسكراً من المنصورة على سعيد قاضي، وهو في محل قريب من عبد الله بن يحيى، فاحتربوا هنالك، ثم انكسر أصحاب صاحب المنصورة إلى الدملوة ثم اصطلحوا ثلاثة أيام.
وطلع جماعة من الهنود الواصلين بالبز من المخا إلى صنعاء خشية منهم على ما معهم لما رأوا أعمال المخا بسبب زيد بن المتوكل مجعوثة .
[157/أ] وجاء خبر أن الزريقة من الحجرية والوا إلى صاحب المنصورة، ووعدوه بالقيام معه والإعانة بدفع المحطة التي عليه من ولده وغيره، فعند ذلك كتب حسين بن علي وعبد الله بن يحيى إلى يوسف بالإمداد بالعسكر، لئلا يحصل ما يحصل باجتماع القبائل. فكتب يوسف إلى صنوه حسين صاحب صنعاء ويحيى بن محمد، فأرسل حسين بجماعة عسكر نحو أربعمائة رئيسهم شيخهم الشيخ صلاح بن خليل الهمداني. وفي خلاله هرب من أصحاب حسين بن علي بن المتوكل النقيب البرطي الملقب الفرحة بجماعة من أصحابه إلى المنصورة، وصارت المنصورة يدخلها يومئذٍ من طريق القماطرة والزريقة ما يحتاج إليه مما يجلب، فاسترجع بسبب ذلك وركدت المراكزة حينئذٍ.
قيل: وسبب هرب النقيب الفرحة أنه كان أرسله إلى المنصورة على صفة أنه يستخرج له بعض شيء من المال، فسار إلى هنالك، ووصف لصاحب المنصورة أنه إذا بذل له من المال وصل مواجهاً أو انتقل من محطته وتنحى إلى الدمنة، فأعطاه ألف دينار من الذهب وألف حرف عددي من الفضة وخرج بها إلى حسين بن المتوكل، فرجع حسين عن ذلك القول وأراد أن يأخذها منه ولا يتم منه ما قال، فأبى النقيب، وقال: هذه أمانة لا يعذر فيها إلا بتمام قوله الأول، فانسل هارباً وأعادها جميعاً، فسمح صاحب المنصورة للنقيب بالعددي وقبض الذهب. ثم إن النقيب لازمه وما زال يخرج إلى الغزو إلى المحطة في الليل[157/ب].
ووصل الخبر بأنه خرج عسكر صاحب المنصورة إلى أطراف المحطة، فجرى حرب وقتل من قتل من الجانبين.
وحصل قران بين الزهرة وعطارد في برج الثور شوهد قرانهما وقت المغرب في المغرب عقب غروب الشمس.
وفي هذه الأيام وصل خبر أن الشريف أحمد بن غالب خرج من بيشة بأمر الشريف أحمد بن زيد إلى نواحي ذهبان وأطراف بلاد قَحْطَان ، رأس بلاد الحرامية.
وفي يوم الإثنين ثاني شهر جمادى الأخرى اتفق حرب عظيم يوم الإثنين على محطة حسين بن علي وعبد الله بن يحيى بن محمد بن حسن، وكل عاد إلى محله.
وفي هذه الأيام السيد حسين بن زيد بن علي بن جحاف الذي كان متولياً ببندر عدن من قبل صاحب المنصورة طلبه الناصر إلى المنصورة، فصادره بجميع ما معه، وخرج منها لا يملك مما جمعه شيئاً حتى مماليكه. وهو الذي اختار هذا، فإنه لما عزل من زبيد وبيت الفقيه أيام أحمد بن الحسن تاقت نفسه إلى الولاية، فقصد باب صاحب المنصورة، فولاه عدن، ثم خرج منه عطل. وولايات صاحب المنصورة ليس لها أمل لأنه سريع الانقلاب فيها، والمصادرة فيما جُمِع منها.
[158/أ] ثم خرج الناصر يوم ثاني إلى محطة ولده عبد الله وصنوه إسحاق، فوقع حرب أعظم من الأول واستمر ذلك اليوم الذي خرجوا فيه عليهم إلى الليل من ضحوة النهار إلى يوم ثاني، ثم عاد إلى المنصورة. وقد راح من الجانبين كثير ومصاويب وصل جماعات منهم إلى صنعاء وإلى البلاد العليا سايرين بلادهم وضايقوا المنصورة، ورموا بالبنادق إلى داخلها، فأصابوا جارية في حجرة الدار حاملة لشيء من الطعام، فسقطت في حجرة الدار ميتة، لا قوة إلا بالله.
وحصل في هذا الحرب الإعانة من أصحاب ابن مغلس من قبائل الحجرية، فكثروا قلهم فوقع ما وقع، وصار أصحاب يوسف يستمدون بالكتب بالغارة، وقد تعذرت؛ لأن ذلك الحادث زاد الناس عدم الرغبة إلى العزم وقل المدد، لضعف الدراهم وعدم الإنتفاع بها، ولأنه لم يكن مصدقاً مع يوسف غير صنوه حسين صاحب صنعاء، فأما غيره وإن قدو الوافي الظاهر فهم غير منجدين ولا واصلين ولا ناهضين، بل صاروا محافظين لبلادهم، ويقول لسان حالهم إنه إن حصل نصرة ليوسف فقد والوه، وإن حصل خلافه فهم لم يجر منهم محاربة لصاحب المنصورة.
وجاءت أخبار من الواصلين عقب الحربين المذكورين أنه غزا محمد بن أحمد بن الحسن الناصر إليهم، فاحتربوا.
وفي هذه الأيام بنصف شهر جمادى الأخرى ضعفت الضريبة مع حسين بن المتوكل وغيره، وتعذرت القروش والدراهم الأولة، وامتنع التجار عن تسليم القروش؛ لأجل قلتها معهم، ومن معه بقية منها يريد إذا حصل له عوض من الموسم الهندي، ولعدم المصلحة فيها وصغر بقشها[158/ب] وارتفاع الصرف فيها، بلغ القرش خمسة وثلاثين حرفاً وأكثر، فلم يبق معهم خراج فيها. فأمر حسين بن المتوكل البانيان على تسليم قروش، فامتنعوا، فأمر بجماعة منهم الحبوس والحصون، وقال: لا بد لهم من التسليم، فقالوا: لا خراج لهم، فلم يعذرهم، وغلقوا حوانيتهم، وهم الذين كانوا يبذلون الشفعاء في قبول القروش للضربة، ولكنهم لما عرفوا بضعفها بعد وصغرها امتنعوا.
وفي هذه الأيام ظهر خبر بأن السلطان محمد بن إبراهيم خان قُتِل في حرب النصارى من الفرنج ، فكان رزءاً عظيماً في الإسلام، رحمه الله وأنه انتصب بعده صنوه سليم بن إبراهيم بن أحمد خان . وأخبرني الشيخ إبراهيم المدني الذي خرج من حضرة أحمد بن زيد بكتب في الأيام الأولة في شهر القعدة الماضية وهو إلى الآن باقي باليمن، فقال: إن التقاويم في تلك الجهة من أهل الفلك أن السلطان محمد يموت في هذه السنة، وأنه يقوم بعده صنوه سليم، وسيفتح فتوحات كثيرة، والله أعلم بالغيب.
ورأيت في القصيدة التي ذكرها حسين بن سامي الهتاري المدني في كتابه الذي صنفه المسمى (النور الساطع بلوامع الجفر الجامع) في ذكر طريق معرفة الحرفي قوله:
وسابعة بالروم مع أرض طيبة .... حوادث أجناد بكل أذيةِ
وثامنة بالروم دامت مكائد .... لهم وبهند السند أيضاً وكوفة
وتاسعة التسعون حال مكيدة .... بمكة في الأشراف شراً بفتنةِ
وختم رأس القرن للسيل شدة .... وللحرب إيقاد وكل بمكةِ
والذي اتفق من الفتنة في اليمن بين الأشراف في سنة ثمان وتسعين وألف. وأما الروم فوقع فيه فتنة الفرنج، وانتصر عليهم السلطان.
وفي المنظومة المكية لابن بسطام قوله في سياق مكة المشرفة، بعد أن ذكر سعد بن زيد وما يقع معه فيها:
يردها من الغرب جيش العريم .... وزرق العيون وحمر الشعر
وهذا يكون إلى عام قاف .... ومن بعد قاف يكون الفخر
وفى بعد من زمرى بها .... يكون مليك بأقصى هجر
يبيد الأئمة وأوطانهم .... ويخرجهم من حصون شذر
وهذا قد تقدم في الثمانين، والألف خروج الباشا حسين إلى مكة وإخراج سعد وصنوه أحمد عنها كما سبق، إن كان هو المراد، ثم صفح عنهم[159/أ] السلطان وعفا عنهم. وأما بعد إلى رأس المائة المشار إليه بالقاف فما قد اتفق شيء منه، والله أعلم بذلك.
وفي يوم الخميس تاسع عشر شهر جمادى الأخرى اتفق مغزى من صاحب المنصورة على ولده عبد الله فاستولى عليه وأدخله المنصورة وحبسه فيها، وسبب ذلك أنهم تفرقوا بمحاطهم، كل منهم حط بجهة متباينة، فكان ينال منهم بالغزوات، ويوثب عليهم جوار المنصورة. وظهر الوباء في فصل الصيف، فمرض كثير ومات من مات من العساكر. وجاء التحقيق واستفاضت الأخبار بأن صاحب المنصورة الناصر لما ضاق به الحال لم يجد بداً من الاستنصار بقبائل الحجرية، وبذل المال لمشائخهم، فأرسل بعض النقباء معه إليهم، فأجابوه، وهذا الرجل يسمى رباح، فاستمالهم واجتمعوا له وجمعهم إلى قريب المنصورة من ناحية بين الجبال لا يشعر بهم أهل المحطة. وكتب إلى الناصر صاحب المنصورة بذلك، فخرج صاحب المنصورة منها لمفاتحة الحرب إلى محطة ولده عبد الله وصنوه إسحاق، فشرع الحرب، فانكسر لهم والذي معه القليل من عسكره، ثم تبعوهم إلى قريب المنصورة، فلما حصل ذلك وهم في آخر الحرب والرمي؛ إذ أقبلت عليهم القبائل من كل فج عميق وأحاطوا بهم من خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، وحالوا ما بينهم وبين محطتهم ووقع الحرب والضرب، فقتل كثير من أصحابهم، ولم يفلت منهم إلا من هرب أو واجه وأسروا ولده عبد الله وصنوه إسحاق وأسروا منهم وأقبلوا على محطتهم انتهبوها، فلما شعر بذلك أهل المحطة الأخرى وهم حسين بن علي بن المتوكل وعبدالله بن يحيى بن محمد بن الحسن لم يكن همهم إلا الارتحال، وحمل ما خف من الأثقال، حتى بلغوا إلى بلاد الأحمدي وجبل سامع على مسافة يوم، وأرادوا العزم إلى تعز[159/ب] فتدرك الأحمدي بأنهم يستقرون ولا عليهم بأس، فسكنوا ثم لم يشعروا إلا بإحاطة القبائل عليهم فحاربوهم هنالك. وعند ذلك واجه جميع اليمن الأسفل للناصر، ونوروا النيران حتى بلغت إلى سمارة، ولم يبق إلا المدن؛ لأجل الرتب فيها. فلما حدث هذا الحادث شلت قبائل اليمن الأعلى رؤوسها وهابوا الناصر، ونفدت الخزائن مع الدولة
اليوسفية . وظهرت فترتهم وقل ما بأيديهم من المال والرجال، فالملك لله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وجاء الخبر بوصول الجنود العثمانية إلى مكة وخروجهم عنها طريق اليمن في هذه الأيام بأول رجب، وأن أحمد بن غالب الشريف الأمير المكي قد بلغ إلى بلاد قحطان ووادي ذهبان رأس بلاد الحجاز. فمن الناس كثير قال: في ذلك فرج على المسلمين من هذه الفتنة التي طالت باليمن من غير مصلحة للمسلمين، ولأن الظاهر أنها لا تنقطع فيما بينهم؛ لأنهم قد اشتجروا على البلاد، وكل منهم يريد بلاد الآخر.
وجاء خبر آخر أن أهل الحجرية بعد تمام الواقع من الحرب والاستيلاء على المذكورين صالوا على المنصورة، فانتهبوها وحوزوا صاحبها.
وجاء خبر أن حسين بن علي وعبد الله بن يحيى واجهوا، وطلب لهم الأمان الشيخ الأحمدي ودخلوا إلى المنصورة. وكتب صاحب المنصورة إلى صاحب شهارة ووادعة القاسم وأحمد أبناء المؤيد بن القاسم -لأنهما على الولاء المتقدم لصاحب المنصورة، والخطبة- بالاخبار بالحادث والإستيلا على المذكورين. وأحمد بن المؤيد كتب إلى حسين بن محمد بن أحمد أبو طالب صاحب عمران بأنه يدخل في إجابة الناصر، وإلا فهو متقدم إليه، فبقي المذكور في حيرة من أجل ذلك بين إقدام وإحجام، وعند ذلك أمر يوسف جماعة من عسكر جبل ضوران وبلاد آنس بالغارة ورئيسهم العبد فرحان، فساروا إلى ذمار. وبلغهم أن قد دخل حسين بن علي بن المتوكل وعبد الله بن يحيى المنصورة تحت الأسر، فسكنوا بذمار، وقالو: إلى عند من نصل[160/أ] بعد ارتفاعهم والاستيلاء عليهم ومواجهة اليمن الأسفل؟ فاستقروا هنالك، وبقي يوسف في حيرة وسُقِطَ في يده، ولا سيما وصنوه زيد بالمخا قد واجه إلى صاحب المنصورة الناصر فتغلق اليمن الأسفل جميعه إلى سمارة.
وصاحب شهارة باقي على الأصل، فلم يبق إلا حوزته بلاد ضوران وصنعاء، ولعلهم يواجهوا، والله أعلم.
واستفاضت الأخبار بصنعاء وغيرها بخروج أحمد بن زيد وأحمد بن غالب شريف مكة ومعهم جيوش وأمراء من العرب والترك كثير. وأن أولهم دخل صبيا، ثم جاء الخبر قدموا صبيا إلى صنعاء.
وفي يوم الجمعة ثاني عشر شهر رجب أمر الدولة بأن البقشة التي كان حسابها خمسة كبار تكون بقشتين، فضعفها وصغرها، ففرح البعض وتغير البعض من الناس، الفقراء استراحوا بذلك والأغنياء تضرروا؛ لأن عليهم كسر فيها وارتبشت أحوالهم. وغلق كثير من أهل البيع والشراء حوانيتهم، واضطرب الحال في التعامل بذلك، وضربوا ضربة أخرى تكون أكثر من الأولة قليلاً، وقالوا نتعامل بهذه وهذه كل شيء بحسابه، فلذلك حصل الاضطراب في التعامل. وهذا من الضرابين حيلة لما تناهت الأولى في الصغر الذي لم يمكن ضربتها، ولم يبق لهم مصلحة لعدم تمكن تصغيرها، فلما ضربوا الضربة الجديدة صاروا يصغرونها قليلاً قليلاً لأجل تثبيت المصحلة، وهي مفسدة في الحقيقة وبخس، فلا قوة إلا بالله، وجعلوا الوقية يدخلها ثلث نحاس وثلث جسد وثلث فضة، وقد يزيد على ذلك في الغش.
وبلغت الأخبار أن صاحب المنصورة يريد التجهيز على يوسف إلى ضوران وصنعاء، وقال: نقصدهم ونحوزهم كما حازونا وضاررونا، فجاء أخبار أن الخارج من عساكر السلطنة وفيهم الشريف أحمد بن زيد وأحمد بن غالب وغيرهما، ففرح الناس به، فلعله يحصل التفريج عن المسلمين من طول هذه الفتنة، ويكون على أيديهم فك هذه المحنة، وتكون كدولة عيال مطهر بن شرف الدين لما اختلفوا اختل ملكهم وانتقل إلى غيرهم، فسكنت الأمور. والظاهر أنه لا يُسكِّن هذه الفتنة التي قد قامت فيهم إلا يد أخرى، وإلا فقريب المحال اجتماعهم.
[160/ب] وفي يوم الجمعة عشرين شهر رجب خطب في الغراس للناصر، ولم يبق إلا ضوران وصنعاء وذمار لا غير.
وبعض العسكر الذين كانوا حاطين على المنصورة لازموا مع الناصر، وبعثهم بآداب إلى اليمن الأسفل، بسبب إجابتهم ليوسف. وبعضهم أذن له في العزم إلى بلادهم، وأما أخوه وولده وحسين بن علي وعبد الله بن يحيى فشدد في الترسيم عليهم داخل المنصورة تحت الحفظ.
ووصل الخبر ثاني وعشرين شهر رجب إلى صنعاء بأن أحمد بن غالب قد بلغ إلى برارة ما بين جبل رازح وبين أبي عريش، وهذه البلاد إلى جهة صاحب اليمن قد دخلها نزل إليها من بلاد قحطان، ولعله يريد طريق تهامة يخرج إلى درب ملوح ثم إلى تهامة البدوي ثم إلى غرابي الشرف والواعظات طريق بطن تهامة في بلاد مور يخرج إلى مدينة مور، ثم إلى بلاد الضحي وبلاد اللحية ثم إلى بيت الفقيه، والله أعلم.
ووصل الخبر هذه الأيام بآخر شهر رجب إلى اليمن أن السلطان محمد بن عثمان نصره الله على الفرنج من النصارى عبدة الصليب، وأنه بعد خروجه عليهم العام الماضي لما وقع منهم ما وقع من الصولة على المسلمين في جزيرة الأندلس، وتجهز السلطان عليهم بنفسه، وحث المسلمين على الجهاد في سبيل الله، فاستولى عليهم، وقتل منهم قتلاً ذريعاً، وسباهم واسترد البلاد التي كان استولوا عليها، وزاد معها غيرها، ثم عاد إلى استنبول وقد دوخ بلادهم وقمع رؤوسهم.
وفي هذه الأيام بعد [أن] استولى محمد بن أحمد صاحب المنصورة على أصحاب يوسف كما سبق، وتكاثرت كتب يوسف إلى صنوه حسين وإلى صاحب عمران وكوكبان يوقفوا وواعدوه بالتجهيز من غير جزم منهم، وأما صنوه حسين فجمع من أمكنه جمعه من بني حشيش وغيرهم، وجهز معهم رئيساً ابن أخيه قاسم بن أحمد بن المتوكل ، وساروا ومرادهم المحافظة على حدود اليمن الأعلى من نواحي يريم وسمارة، مع أن العسكر الذي أرسلهم صاحب المنصورة إلى جبلة مع ولده يحيى متماكرين وتواطئهم مع صاحبهم يوسف.
ويحيى بن حسين السحولي الذي كان يخطب بصنعاء لما بلغه حادث المنصورة هرب يوم وصله الخبر إلى بلاده عمران، واستقر فيها خائفاً مترقباً[161/أ] إذا حصل من صاحب المنصورة قوة يد؛ لأجل ما جرى منه من الخطب والاستحداد فيها، وكان قد سبقه هارباً ابن أخيه محمد بن إبراهيم السحولي وهو الخطيب في الأصل بصنعاء، لما أمر بالخلع لصاحب المنصورة، فامتنع وسار بلاده هارباً.
وفي آخر يوم بشهر رجب ترجح لقبائل بني الحارث وهمدان أن نوَّروا في بلادهم النار ونصَّروا لصاحب المنصورة محمد بن أحمد بن الحسن.
قيل: إنها جاءتهم كتب منه، فأجابوها لما رأوا ضعف صاحب ضوران وصنوه، وكان صنوه حسين وهو يبالغون في تجهيز عسكر من عندهم ويبذلون لهم الجوامك مع قلة ما في أيديهم فيحصلون ذلك بالجهد الجهيد من معادن وما يجدون من دور الضرب معهم على تقالل محصولها بعد أن تغيرت الضربة فيها، والانكسار حصل معهم لما حولوها وجعلوا الخمس الأولة على النصف من الضربة الآخرة، فانكسروا فيها، والكسر كثير من أهل البيع والشراء، وتقالل الداخل والخارج بالأسباب، واضطربت الأحوال، وكلما تكلفوا على إصلاح شيء انتقض من الجانب الآخر، فإن بالأمس كان جمعوا عسكراً من بلاد آنس ومن بني الحارث وصلوا إلى بعض الطريق وتفالتوا ورجعوا أرسالاً من غير مبالاة وراحت الدراهم التي بذلوها لهم ضائعة. وكذلك مع الأولين تخاذلوا فيما بينهم وتماكروا، وعلى الجملة إنما التأم لهم أمر يريدونه بعد أن كان جرى ذلك قبل الاستيلاء من صاحب المنصورة، فإنه بلغ صاحب المنصورة الحالة الركيكة التي أيس منه أكثر الناس، ثم كان الاستيلاء منه بسبب أنه بذل أكثر ما تبقى معه في خزائنه لقبائل الحجرية ومشائخها، وأباح لهم ما انتهبوه على المحطة التي كانت عليه فيها، والسبب الثاني تخاذل العسكرين فيما بينهم، فإنهم لما رأوا القبائل كثرت عليهم دخلوا في بعضهم البعض أنهم مع صاحب المنصورة[161/ب] كون أكثر العسكر الذين معهم من قبائل بني الحارث وهمدان وهي بلاد أحمد بن الحسن، فمالوا إليه. ثم إن البلاد أكثرها مع غير أولاد المتوكل وهم صاروا مع أنفسهم في بلادهم، وإنما غاية الأمر مرامهم في الإجابة تارة لهذا وتارة لهذا، لأجل لا يحصل عليهم الخلل من الجانبين، بل من قوي منهم فهم معه، فلذلك لم يرفعوا رأساً في معونة يوسف بعسكر مع كثرة مطالبته لهم، وإنما صاروا يواعدونه مواعيد عرقوب. وهم في خلال ذلك مكاتبون إلى صاحب المنصورة، وأنهم معه ولا يتأتى منهم إلى جنابه ما يخشى ولا ما يدفعه. وصاروا يأكلون
محصول البلاد، ويجمعون الخزائن منها والزاد. ويوسف صاحب ضوران وصنوه لم يبق معهم ما يخزن ولا ما يجمع، بل بلغوا في نفقاتهم إلى العدم والنفاد، مثلما بلغ إليه محمد صاحب المنصورة وأبلغ، والله يتدارك المسلمين بسكون ثائرة الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
وفي يوم الإثنين سادس شهر شعبان خرج الأمير حسين بن عبدالقادر صاحب كوكبان من شبام طريق المحويت، وباب الأهجر بعساكره وأتباعه ولم يعرف أحد ما سببه، ثم نزل من المحويت طريق الطور في شدة الحر وجمرة القيض وأول مبادي مطر الخريف وطلع جبل أذرع، سكن فيه بقية شعبان ثم عاد إلى كوكبان.
وفي هذه الأيام وقعت المراكزة على المخا من القبائل مع عينة يسيرة من العسكر، فخاف أهل البندر من النهب إذا دخل؛ لأنه غير حريز، وفيه يومئذٍ زيد بن المتوكل والسيد حسن الجرموزي. وأكثر مراكب الهند توقفت خارج البندر ، وامتنعوا عن الدخول من البحر لمَّا عرفوا بذلك، والبعض قد كان دخل ولم ينزل أحد من التجار من اليمن الأعلى خشية على أموالهم. ووصلت[162/أ] الرتب والعينات إلى سد مشورة رأس العدين فيها ابن فرحان من الذين كانوا أولاً من أصحاب يوسف ، ثم لما أسروا والوا الناصر واختاروا الخدمة معه، وهم مراكزون لزيد بن محمد بن الحسن بن القاسم الذي في العدين، والله أعلم.
وفي رأس سمارة رتبة من قبل صاحب المنصورة، وفي يريم علي بن حسين والأغا فرحان وجماعة عسكر معه من أصحاب يوسف، وكل يراعي منهم الفتنة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ووصل خبر بأن عبد الله بن محمد بن الناصر لما رَسَّم به والده ومنع الداخل والخارج عنده غير خدَّام واحد يخدمه، وأمر في بعض الليالي أن يحرق مخزان البارود الذي تحت بيت والده ومن فيه، ففعل ذلك، فحرق نصف الدار وسلم والده؛ لأنه كان في النصف الآخر الذي سلم من الحريق، أراد بمكيدة لوالده، ففطن به قبل حصول ما أراده، فلما حصل منه ذلك أمر به والده إلى حصن الدملوة وشدد عليه بزنجير لما اطلعوه وقيده في الحصن المذكور.
ووصل خبر بأن ابن فرحان قبض عليه زيد بن محمد بن الحسن أسيراً من غير حرب، وأن جماعة عسكر من غربان كان أرسلهم صاحب المنصورة إلى بلاد يريم وهم ثمانية أنفار بأدب على سبب مواجهتم للمنصور يوسف، فقبض عليهم علي بن حسين بن أحمد بن الحسن وفرحان وحبسهم، ثم أطلقهم وساروا بيوتهم. وجملة الرتبة في رأس سمارة نحو ستين نفراً أيضاً من غربان، كان أراد فرحان وعلي بن حسين يقصدوهم، فكتبوا إليهم أنكم لا تعجلوا، والأولى التوقف منكم حتى ننظر ما يكون وأنه لا يحصل منهم تعدي. وبعث الناصر على الشيخ الأحمد واليوسفي أطراف الحجرية بآداب بسبب مواجهتم وإدخالهم أصحاب يوسف المنصور بلادهم، فتغيروا من ذلك وقيل: أن بيت الأحمدي أمر بخرابه. ووصل جماعات من العسكر من أهل الشام وغيرهم الذين كانوا مع صاحب المنصورة بالطماعات معهم ومروا صنعاء، وكذلك جماعة ممن اختلط بهم من عسكر أصحاب يوسف نهبوا أيضاً وساروا بلادهم بطماعات من النقد والسلاح، فلا قوة إلا بالله.
وفي ثالث عشر شهر شعبانها وصلت الأخبار أن عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن هرب من المنصورة هو وجماعة من أصحابه، فنجى وخرج من حبال محمد الناصر، فضربت الطبلخانات في ضوران وصنعاء والطلاعات. وأما عبد الله ولد الناصر فشدد عليه في حصن الدملوة، قيل: بذلك السبب، وقيل: بغيره. وقد كان هذا محمد بن أحمد الملقب الناصر المذكور أمر بعض القبائل أن يقصدوا إلى المخا لأخذه ونهبه، فاجتمعوا طمعاً منهم في أخذ أموال المسلمين، فثبت لهم زيد بن المتوكل وعنده من العسكر نحو سبعمائة، وضربت المدافع وخرجوا فيهم، فانهزموا وقتلوا منهم جماعة وولوا الأدبار وحمى الله البندر. وواجهت يومئذٍ رتبة سمارة إلى علي بن حسين بن أحمد بن الحسن وفرحان، ودخلوا في طاعة يوسف وواجه ولد حسين بن حسن إلى يوسف، وعند اتفاق هذه الأمور الثلاثة سكن رجيف الناس وزال عنهم ما كانوا يظنونه من تسليط الناصر عليهم. ومنع بعض أهل اليمن الأسفل عند ذلك الآداب التي كان جعلها عليهم.
وفي هذه الأيام استفتح صاحب المنصورة بيت الفقيه بتهامة[163/أ]، ثم إن زيد بن المتوكل خرج لقصد من في موزع فاحتربوا وقتل منهم، وانهزم أصحاب صاحب المنصورة من موزع، وأسر منهم جماعة، وكان القتل أكثره في قبائل الحجرية الذي أجاش بهم.
ووصل كتاب هذه الأيام من الشريف أحمد بن زيد بن محسن صاحب مكة إلى الناصر والمنصور بأن صر العام الماضي وصر هذه السنة يسلموه وأنه لا يعذرهم عنه.
وفي هذه الشهر مرت جراد، جاءت من جهة الشام.
وفي عشرين شهر شعبان وصل الخبر أن حسين بن علي بن المتوكل خرج من حبس صاحب المنصورة.
ووصل الخبر أن فرحان لما نزل بمن معه من العسكر المنصوري بسمارة والمخادر قصد إلى إب، ودخله عنوة، ووقع حرب وانتهبت بعض المدينة. وكان أراد التقدم إلى جبلة، لولا وصول غارة من المنصورة قد كان ركب لها يحيى بن الناصر.
وفي أول شهر رمضان الكريم من هذا العام مضى علينا رجل صوفي على قدم ............ قال: إنه سائح في أرض اليمن وأنه قد دار زوايا الصوفية بتهامة وما يليها من الجبال، وأن أصله من البلاد التي تقرب بلاد حَلِي ومكة وتبالة، وأنه وأهل بلاده على مذهب الزيدية، وقد ذكر لي أنه اتفق بالَمَراوِعَة ببعض بني الأهدل الصوفية وبقي هنالك عندهم بعض المدة، ثم بالبلاد التي تقارب بلاد الصلبة بشيخ هناك يقال له: أبو طلحة له مكاشفات عدة، وأنه اتفق بالعوبلي ببلاد ريمة وما له من المقام بجهته والنذور والانبساط بما حصل له من الفتوحات في هذه المدة. وذكر أنه حضر على مجلس طعامه، فاجتمع كثير على طعامه، فلم ينقص السمن من أصله ولم يزد عليه. وذكر أنه اتفق بالرجل الذي يقال له: عبد الله بجبل جبع مساقط بلاد لاعة، وأنه قد تقرر هنالك وابتنى بيتاً ومسجداً يسكنه، وأنه لا يتفق به إلا من أراد هو لوقفته أو طالب ملازمته، وأنه ينسل من حضرتهم فلا يدري بجهته ويسمع صوته من بعد فيه ذكر الله تعالى، وأنه يسكن في بلاد الهيجة [163/ب] هناك ولا يضره الأسد مع قربه منه، ثم يعود داره، وأنه أحيا في جبع مالاً يزرعه وجعل له أُجراء يزرعونه ولا يأكل إلا منه، والنذور التي تفد إليه لا يأكلها إلا أصحابه، فهذا دأبه. وذكر أنه مر إلى بلاد آنس فوجد فيها ناصر الدين الذي سبق الإشارة إليه في دولة المتوكل، وأنه ابتدع أشياء من التحريمات بما هو حلال، كما سبق، فذكر لي: أنه زاد مع ذلك مما يقوله تحريمه للخل؛ لأن أصله الخمر والخمر نجس فيلزمه أن كل تلبس النجاسات في الأصل نجس وجميع الحيوانات تلبس بالدم في الرحم فيلزمه نجاسة بني آدم والأنعام وهذا لا قائل به، وتحريمه لما يفعله الفلاحون من تكريم المال بالأرواث . وقال: هو نجس فيحرم الحب لأجل ذلك، وحرم القهوة وحرم أشياء كثيرة مما أحله الله تعالى من المباحات، فهذا من البدع الكاذبة في الإسلام والتحريم لما أحل الله
تعالى كما قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكُمْ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذِبَ} .
وقال: إنه يعتمد في مذهبه بكتاب أحكام الهادي لا غيره، فضاع عليه أكثر الفقه لأن أحكام الهادي لمسائل يسيرة، وقال المذكور: إنه دار كثيراً من المساجد والربط باليمن الأعلى، وأنه بات في مسجد ببني مطر ومسجد الشمس بوَقَش ، فوجد في أحدهما جماعة يصلون في الليل بعمائم خضر أحداث يأتمون برجل شائب وهو في زاوية المسجد، وأنه ظهر عند ذلك نور وضوء أدرك أشخاصهم وهو يراهم فأردا القيام للسلام على إمامهم فلم يتمكن من القيام أصلاً وكأن شيئاً جذب رجله للقعود. وقال: إنه زار النبي شعيب بن مهدم برأس جبل القاهر بحضور وبقي فيه برهة، وسألته عن التسريج الذي يظهر في بعض دعائم المسجد، فأخبرني أن الأمر كذلك، وأنه يحدث عند شدة السخم والسحاب، وإذا وضع الإنسان أنامله قريب اللهبة تلك وهي خضراء ظهرت اللهبة تلك في جميع أصابعه، ولا يحس لها حريق بل باردة وإن هذا من عجائب قدرة الله، فهو القادر على كل شيء[164/أ]. وذكر لي المذكور أنه ذكر له بعض صوفية تهامة فقال: عجيباً لكم يا زيدية كيف لا تزورون الأحياء ممن يستحق الزيارة ويستمد منه الدعاء؟ وصرتم تزورونه إذا مات، وعجيباً لكم فإنكم تزورون وتطلبون ولا تبذلون شيئاً من الفتوحات ولا شيئاً من النذور، والأمر كما قاله فإن هذا حالهم ودأبهم.
والقاضي جباري لما أرسله يوسف إلى صاحب شهارة أجاب عليه أنه يخوض في المصالحة والاجتماع إن شاء الله من بعد انسلاخ شهر رمضان، إذا حصل من صاحب المنصورة ويوسف وهو سيسعى في صلاح السيدين، ويبعد خروج السيد محمد من منصورته، ويبعد أيضاً من السيد يوسف مساعدته والدخول في إجابته بعد ما جرى بينهما من هذه الفتنة والحروب، وكذلك يبعد من السيد علي بن أحمد صاحب صعدة الخروج منها ومعونته.
ووصل يحيى بن محمد بن أحمد بن حسن الذي كان بجبلة من قبل والده صاحب المنصورة إلى ضوران تحت الحفظ ومعه زيد بن محمد بن الحسن بن القاسم؛ لأنه واجه على يديه. كان وصوله برمضان منها.
وأهل الهند لما تكاملت مراكبهم رسوا في المرسى في باب المخا، ولم يخرجوا إلى البندر أصلاً، وصاروا يبيعوا ممن وصل إليهم والمشترين القليل لانقطاع طريق المخا، وإنما صار يصل من يصل من البحر من اللحية أو من طريق الساحل من تجار تهامة والبانيان، فأما تجار البلاد العليا فلم يسافروا، ثم أخرجوا باقي مراكبهم بعد واقعة موزع وهزيمتهم، وتحولت الطريق إلى المخا من تهامة يومئذٍ.
وفي هذه السنة توفي القاضي العارف علي بن محمد الخولاني الشافعي، قاضي مدينة تعز باليمن الأسفل رحمه الله، وكان هو القاضي الحاكم بالشريعة ببلاد تعز، المرفوع إليه بتلك الديار وكان مشاركاً مع فقه الشافعي بالأصول والفقه هو الغالب عليه.
اتفقت به مرة بصنعاء لما طلع إليها في[164/ب] ابتداء أيام أحمد بن الحسن لتقرير ما هو له من السبارات في تلك الجهة، رحمه الله.
وفي شهر رمضان خرج صاحب المنصورة إلى قدس وأظهر الإعداد والبذل لمن يخرج معه من الصفراء والبيضاء، فاجتمع كثير من أهل الأطماع، وأهم بالتقدم إلى تعز، ثم إنه عاقه ألم في رأسه أوجب عوده إلى المنصورة، فسكنت الأمور بعض السكون، وأما تعز فإنه قوى رتبته. وعبد الله بن يحيى بن محمد استقر بجبلة.
وفي هذه الأيام ازدادت الضربة إلى الضعف والركة، فجعلوا في الوقية قفلة فضة والباقي نحاس وجسد مخلوط، بحيث أن بعضها يظهر فيها النحاس والحمرة حال الضربة فأما إذا بقت بعض أيام لم يبق بها انتفاع، وبلغ صرف القرش بها إلى ثلاثين حرفاً. واستوت ضريبة صاحب المنصورة وضريبة يوسف في الضعف، وظهرت للدولة الركة المفرطة خصوصاً حسين بن المتوكل؛ لأن معظم الدورة عليه، ومبالغ الجهد في إمداد العسكر الذين باليمن ومعاونة صنوه يوسف. كل ذلك لتحمل صاحبه وزيره زيد الجملولي في حمله على ذلك لأجل أنه يسلم من صاحب المنصورة؛ لأنه كان حاول في طلبه إلى حضرته وحبسه وإزالته عن يوسف، وظهر ظلمه في صنعاء في طلب المعاون من أهل البيع والشراء والتجار ومشاطرة أموالهم بالقرض الذي لا يقضى، والمعونات، والتعجيل في الزكوات، وطلبهم للقروش منهم للضربة كرهاً وغصباً، وصاروا يجأرون بالدعاء بسبب ذلك لما لم يجدوا من ينصفهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي يوم الثلاثاء[165/أ] ثامن عشر شهر شوال اتفق قران بين الزهرة وزحل في برج الميزان.
وحصل في هذا اليوم وهو الثلاثاء ثامن عشر شوال دخول الناصر جبلة، واستولى على عبد الله بن يحيى وفرحان بعد حرب جرى هنالك، وجاء عليهم بجمع لا طاقة لهم بهم، أكثرهم من الحجرية، فسُقِطَ في يد صاحب ضوران وصاحب صنعاء لضعف ما عندهم من المال والرجال، وعدم نفوذ الأوامر والكلام، وبقوا في حالة عجيبة من هذا الجاري، وعرفوا أنه بعد ذلك إليهم آتٍ. وكان الأمر كما في الحديث الذي رواه ......... عن أبي ذر عنه÷ قال:((وكانت صحف إبراهيم وموسى عبراً كلها، منها: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب، وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف لا يعمل)) .
وجاءت كتب الناصر إلى أولاد المتوكل أنه لا سبيل إلى الاختيار والاجتماع بعدما قد جرى من النزاع فيما بينهم والحروب، وليس معه إلا السيف لمن لم يسلم الأمر. وأنه قد خرج من بلاد تعز إلى جهة جبلة، وكان ما ذكر من الحادث بجبلة. وكان قد أرسل حسين بن المتوكل بالجامكية لأصحابه الذين في جهة اليمن، فلما بلغهم في خلاله رجع الرسول من الطريق بما معه واسترجعوا الدراهم التي كان قد جمعوها إلى مكة، لما حصل حادث جبلة. ولم يتم تجهيز أمير حاج من قبلهم كالعام الماضي وربما أنهم يراسلون إليه في المصالحة والتسليم قهراً عليهم، فإن لم يفعلوا ذلك اجتحفهم. وكان خروجه من المنصورة في عيد الفطر بأول شهر شوال إلى قدس ثم إلى الجند ثم إلى القاعدة والحوض الأشرف خارج مدينة تعز، وبنى على الارتحال بنفسه إلى البلاد العليا بجموع كثيرة من قبائل الحجرية أكثرهم ومن غيرهم[165/ب]، وسار بعض قبائل الحجرية لمحاصرة بندر المخا، فحاصروه حتى بلغ بعد الوقعة التي وقعت والهزيمة فيهم في موزع، فانعطفوا ثانياً بزيادة جمع جمعوه، حتى أن السعر بلغ في المخا المبلغ العظيم، وصاروا في حالة ضعيفة. وقد كان خرج من عسكر زيد البعض عقب وقعة موزع والحال عجيب! وظهر عن زيد بن علي الجملولي أنه كان أرسل في رمضان رجلاً بشيء من أرصاد السحر أن يوضع بأرباع المنصورة وأرباع قصره ففطن به صاحب المنصورة وطلبها من المذكور، وتعقب ذلك خروجه منها. واستولى حال وصوله جهات تعز على أموال ابن راجح وقبضها وانتهب ما هنالك من المنقولات للشيخ ابن راجح.
ومن ضعف رأي زيد بن علي الجملولي أنه حمل حسين على دراهم وكتاب إلى يافع ليكون عوناً لهم على صاحب المنصورة، فقبضوا الدراهم وواعدوهم وليس مرادهم إلا حفظ بلادهم، وكان يوسف قد جهز زيد بن محمد بن حسن في عسكر للزيادة إلى جبلة، فلما وصلوا إلى ذمار بلغهم دخول الناصر، إليها وهرب عبد الله وفرحان عنها، فعند ذلك سكنوا بذمار وكاتبوا إلى الناصر بالتسليم. وواجه صنوه إبراهيم صاحب ذمار وزيد بن علي الجملولي لما بلغه دخول جبلة. وهرب عبد الله بن يحيى، شد بعض حوائجه إلى بيته بالأهنوم في البيت الآخر في القصر، وراح عليه سرقة من الدراهم وبعضها راح في الخراب عقب ذلك، وتتابع عليه الأدبار وأراد الهرب إلى شهارة، فمنعه حسين بن المتوكل، فأراد العزم للحج ولم يتم له[166/أ] ثم إنه ترجح له وسار إلى ضوران عند يوسف بن المتوكل.
وفي يوم الجمعة ثامن وعشرين بشهر شوال دخل محسن بن أحمد بن الحسن من الغراس إلى صنعاء. وذكر لحسين بن المتوكل أنه في نية الخروج للقيا صنوه الناصر محمد بن أحمد بن الحسن صاحب المنصورة، وأنه ما يسعه إلا الخطبة والتسليم للأمر والموالاة لصنوه وإلا فهو أول من يحاصر صنعاء، وأن القبائل التي حول صنعاء قد والوا جميعاً إلى جناب الناصر، فيخشى منهم عن المدينة الضرر إن لم يوالي. والأمر كما ذكره فإن الليلة الأولة ليلة الجمعة نورت جميع بلاد سنحان والرحبة حين ظهرت النار في جبل نقم، فما وسعه إلا الانخراط في سلك الإجابة للناصر، وخطبوا هذه الجمعة المذكورة آخر جمعة في شوال للناصر.
وكان حال الخطبة وركز في الجامع سبعة بنادقية من العبيد بفتائلهم عالقة مقابل الخطيب، فلما ذكر الخطيب الناصر وضعوا بنادقهم وصلوا مع الناس. واتصلت الإجابة إلى شهارة، فأما شهارة وبلادها فالخطبة فيها للناصر مستمرة؛ لأنها إلى قاسم بن المؤيد وهو إلى جناب الناصر، فزال بسبب ذلك عن الناس الحرج، واطمأنت قلوبهم من الحادث وحصل لهم الفرج، والله يصلح ما فيه الصلاح.
وكل هذه الفتنة هذه المدة سببها ولده عبد الله بن الناصر، فإنه الذي بعثها، وإلا فكانت هادئة ساكنة، وقد وقع في عمله، والله يصلح أحوال المسلمين.
ولما بلغ يوسف صاحب ضوران هذا الأمر لم يرتضه لنفسه، وقال: لا يسمح بترك دعوته، وكان المحمل له على ذلك القاضي جباري الذَّماري، فأمر أهل بلاد آنس أنهم[166/ب] يعينونه، فأجابوه في الظاهر. وأخرج بعض رتبة ضوران خشية لا يحصل منهم الميل إلى الناصر، فسار بعضهم إلى الناصر، وتفاقم الأمر بينهم. وحصل مع حسين صنوه التردد بعد هذا يريد الرجوع إلى صنوه، لكنه لم يكن في يده مال ولا رجال فبقي في حيرة وتغير من تنصير المدينة وغيرها. ولعن المحارب للناصر ومبغضه كما هو عادة المنصرين، وأنه كاره للناصر وإنما دخل في ذلك مضطراً إليه.
ولما وصل الناصر إلى نواحي بني سرح وآل عَمَّار شرقي المخادر تحير فيه. وبنو الجرموزي شدوا حوائجهم وخزائنهم من دار صنعاء الذي كان وصل إليه من المخا خشية على ذلك من الناصر إذا تمكن من الطلوع إليها. ولما وصل الناصر إلى يريم قبض على ابن أخيه علي بن حسين وأرسل به إلى المنصورة تحت الحفظ. وصاحب عمران حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم لما بلغه طلوع الناصر جدد دعوته لنفسه للإمارة والملك كالمرة الأولة، وكل ذلك خشية على ما قد بسط عليه من بلاد حجة؛ لأن الناصر قد أظهر أنه معزول عنها وهي الغبطة معه، مع أن خمر قد كان الناصر جعله إلى صنوه إسماعيل بن محمد بن أحمد، إلا أنه وصل إليه صنوه منعه عن التصرف بالقهر. وإبراهيم بن حسين خرج من ظفير حجة إلى حورة، ثم نزل تهامة واستقر بحيس لتأمين طريق المخا من قاسم صاحب شهارة والناصر. ويحيى بن الناصر دخل زبيد واستقر فيه بأمر والده، قيل: إنه مأمور إلى المخا زيادة على من أرسل الناصر إليه للاستيلاء عليه وعلى تلك الجهة. واتفق بطريقه بالقاضي أحمد بن ناصر بن عبد الحق الحيمي الذي أرسله يوسف إلى المخا، فقبض عليه وأرسله إلى الناصر. وقد كان خالف على الرتبة التي من أصحاب يوسف خارج المخا القبائل فاستولوا عليهم.
وجاء خبر من صعدة[167/أ] أن علي بن أحمد المتولي فيها كان قد أهم بالخروج إلى الجهات اليمانية يدعو إلى نفسه، فعاقه المرض هناك وحصل عند مرضه قتل بسوق صعدة فيما بين سحار، فقتل نحو خمسة أو ستة أنفار منهم فيما بينهم بقتول سابقة لهم. وعلي بن أحمد مريضاً لم يخرج أحد يفك فيما بينهم، وسلمت المدينة من النهب، فلم يحصل فيها ولا أسواقها شيء من السلب. ووصل واصل من ضوران يحقق أمر يوسف فقال: قد بلغ في الركة والضعف الحد الذي لا مزيد عليه وتقالل الناس حوله، لم يبق له متابع ولم يبق في يده شيء من المال ولا الرجال وأنه لما فتح على من عنده المشورة أجمعوا على أنه لا مصلحة له في مقاومة الناصر، بل التسليم أولى له إلا القاضي جباري فحمسه، فصار المذكور في الحيرة، وقد قرب الناصر منه، وشد من ضوران بعض حلله خشية لا يحصل فيه حرب يكون بسببه الانتهاب.
وحال بلغ يوسف قضية جبلة وهرب عبد الله بن يحيى وفرحان ووصولهم إلى ضوران فسح لأولاد الناصر الذين كانوا لديه، منهم: حسن وصل إلى الغراس وصنعاء، ومنهم يحيى وإسماعيل نزلوا للقيا والدهم، ولقد كان مشدداً عليهم في الترسيم التشديد العظيم بالحرس في الطرق حولي الحصين، على كل طريق جماعة، حتى حصل لهم الفرج والنفس. وكذلك فسح لجميع من كان من أصحاب الناصر، ومنهم من سار فلم يعترضه، ولم يبق عنده إلا جماعة[167/ب] يسيرة من خاصة أصحابه، مع أن منهم من أهل العهد هربوا مثل الخطيب وهو السيد أحمد بن محمد الجلال، فإنه هرب وامتنع عن الخطبة بالمرة، وسار بيته بالجراف مخراف صنعاء.
وفي سادس شهر القعدة وصل زيد بن محمد بن حسن إلى داره بصنعاء على صفة الهارب من ذمار، لما أيس عما كان أمره يوسف به من ملاقاة الناصر إلى ذلك المقام.
وسبب خروج الناصر من المنصورة أن قبائل الحجرية وصلوا إليه يشكون ما قد نالهم من المغاز في بلادهم بسبب الحروب، وأنه ربما يحصل مثل الذي قد كان أولاً فيها، وأنه يتوجه عليه صيانتهم والخروج من المنصورة وحدود الحجرية والتقدم إلى غيرها، وأنهم بين يديه، فأخذ عليهم المواثيق، وكان سبب خروجه، واستقر الآن في بلاد بعدان، وتوقف فيها هذه الأيام وعاد كثير من أهل الحجرية إلى بلادهم، ولم يبق معه إلا العسكر ومن انضاف إليهم من سائر البلاد وبعض أعيان الحجرية من المشائخ ومن يتعلق بهم، وطلع إلى جبل حب وتزوج هنالك من بنات الشيخ الجماعي .
ووصل رسول من مكة وهو الشريف أحمد بن هزاع بكتب مضمونها من جهة أنها بلغت الأخبار إلى حضرة السلطان، وأن أشراف اليمن يفردون الأمر لواحد منهم، ويتركون الفتنة التي طالت بينهم. وأنه بلغ رجوع الحاج العام الماضي وأنه إذا كان لخوف في الطريق فيسير معهم الشريف أحمد بن هزاع إلى مكة، واستمد الصرّ. فكان يوسف قد جمع بعض شيء من محصول المخا وغيره[168/أ]، ثم حصل طلوع الناصر واستيلائه على جبلة والهزيمة لأصحاب يوسف، فلم يتم مما كان أراده ورجعت الدراهم.
ولما تفاقم الأمر على السيد حسن بن مطهر الجرموزي والي المخا وعرف معاملة الناصر له خاف، فهرب من المخا وحمل ما معه من بقية المال وبقية أهله في البحر وتوجه مكة بحراً. ولما استولى الناصر على اليمن الأسفل ولاَّه الولاة من تحت يده، فجعل ولاية العدين للسيد حسن بن محمد بن أحمد بن الإمام الحسن المؤيدي، الذي كان والده في زمن جده الحسن بن القاسم متولياً له. وكان السيد حسن المذكور ساكناً بالعدين على ما معه من المال، وإب وجبلة جعل عليها العمال، لتكون اليد عليهم من غير مخالفة ولا قتال.
وفي يوم السبت ثالث عشر شهر القعدة سار محسن بن المهدي أحمد بن الحسن صاحب الغراس والرحبة إلى حضرة صنوه، لأجل خلل حصل في بلاده عليه ولاقياً لصنوه، وسار صنوه الحمزة معه. وكان الحمزة هذا عند الناصر حال طلوعه من اليمن، ثم إنه حصل منه تعدٍ على بعض الناس، فشكوه إلى الناصر، فأرسل له فهرب إلى الغراس الشهر الماضي، فأرسل له من الغراس فأخرجوه من الغراس على حمار وساقوه معهم إلى عند الناصر، وكذلك محسن لعله مطلوب.
ووصلت آداب على جماعات من قبل الناصر، وكذلك على اليهود والبانيان بسبب الضربة المغشوشة.
وفي نصف شهر القعدة وصل الفقيه محمد بن عبد الله بن عزالدين الأكوع الذي كان سار من صنعاء، يخبر بأن الناصر سكن هذه المدة بجهة بعدان لتقرير الأمور.
وزيد بن المتوكل خرج من المخا يريد إلى بلاد ريمة، فلم يتم له.
وفي ثامن عشر شهر القعدة وصل الخبر إلى صنعاء بأن الناصر طلع من اليمن الأسفل إلى يريم.
وفي عشرين شهر القعدة وصل عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن إلى صنعاء في حالة منكوسة ضعيفة في ثلاثة أنفار لا غير[168/ب] بعد أن كان مخارجة وحركاته في الجنود بين يديه، والبلاد العدينية تنساق إليه، والكلمة العالية معه في تلك البلاد اليمنية، فالقدرة لله تعالى والحكمة، ومن رأى حاله وما عليه وجميع من خالف على الناصر من الذلة اعتبر بهذه الدنيا وعرف أنها كسراب بقيعة.
وفي يوم الجمعة عشرين شهر القعدة دخل الناصر ذمار وجهز على يوسف إلى ضوران عساكره، فوصلوا إلى رُصَابة . وكان أصحاب يوسف من بلاد آنس قد جعلهم رتبة في المَنْشِيَّة ونحوها، فلما قرب منهم جنود الناصر ورأوا جهران قد أشعلوا النيران ونصروا للناصر هربوا إلى بيوتهم في آنس، فسُقط في يد يوسف ولم يبق في يده أحد كتب إلى الناصر بالمواجهة والإجابة. وكان الناصر قد كتب إلى قبائل بني حشيش بالوصول إلى حضرته لمحاصرة يوسف قبل هذه المواجهة وانحسم الاختلاف بالأمر الغالب ليوسف ومن معه، فالله يسكن الأمور، ويصلح أحوال الجمهور.
وزيد الجملولي سار إلى حضرة الناصر بذمار قيل: بطلاب منه له، وقيل: بل ابتداءً من قبل نفسه، فلما وصل إلى هنالك أمر الناصر بقطع رأسه، وحسين بن علي باقٍ بالمخا ما روي أنه قد خطب للناصر فيه.
وفي عشية الثلاثاء ثالث وعشرين شهر القعدة خرج حسين بن المتوكل من صنعاء إلى جهة القبلة، لما بلغه قتل صاحبه وصهره زيد الجملولي بذمار، فإنه لما وصل إلى الناصر أمر بضرب عنقه بعد أن طيف به في سكك ذمار والمرفع خلفه، وقال الناصر: أنه السبب في هذا الحروب والفتن التي جرت والخلاف عليه، وهذه الضرائب، وأن كافة الناس شكوا ظلمه[169/أ] فيهم.
ويوسف بعد التسليم للناصر خرج من ضوران إلى حضرة الناصر بطلاب له. والناصر كان سكونه بدار الأمير سهيل رأس ذمار من جهة الغرب.
وجاء طلاب ليحيى بن محمد، وصل به محمد بن محمد كاني التركي، فسار إلى حضرته.
وفي يوم الثلاثاء بعد العصر ثالث وعشرين شهر القعدة خرج حسين بن المتوكل من صنعاء لما بلغه قتل صهره زيد بن علي الجملولي وما وقع معه. وزاد حسين بن المتوكل نفوراً ما بلغه مع ذلك أن الناصر يريد تولية ولده إسماعيل بصنعاء وبلادها، فخرج من صنعاء إلى جهة القبلة وحال خروجه ولم يبق في يده من المال شيء؛ لأنه قد كان نفد ما معه فيما كان ينفقه على العسكر الذين يجهزهم إلى اليمن لأجل الناصر. وعند خروجه من صنعاء انتهب دار الضرب الذي كان معه بالقصر وكذلك بواقي ما كان في بيت للجمولي في القصر ولم يبق في القصر أحد من أصحاب حسين بن المتوكل.
ووصل سعيد شاوش إلى صنعاء بأنه يقبض السلاح الذي ابتاع من خزانة القصر وبطلاب جماعة وآداب عليهم، فساروا ومنهم من كان قد هرب. ومن جملة المطلوبين جعفر بن مطهر الجرموزي، فسار وهو خائف، وكان قد طالت ولايته في العدين في زمان المتوكل، وشكا أهل العدين به في الزيادات التي زادها عليهم، فلم يشكهم.
ووصل طلاب لعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن فهرب ولحق بحسين بن المتوكل؛ لأنه عرف أن ما بعد الطلب إلا السجن لما قد جرى منه من الحروب المرة الأولى والثانية. وكان هربه إلى ذيبين عند أصهارهم بني زبيبة. وكذلك هرب أحمد شمسان إلى قبائله بني جبر، وطلب الفقيه يحيى حسين السحولي الناظر على الوقف، فهرب أيضاً من بعض الطريق بعد خروجه من صنعاء، قيل إنه سار طريق اللحية؛ لأنه أقرب وبلغه شدة غضب الناصر عليه لأجل الخطبة التي خطبها في الخلع له وإقامة يوسف. والقاضي جباري هرب من ضوران إلى قبة المهدي أحمد بن الحسن بالغراس يريد الجُوْرَة ، ثم إنه أمنه الناصر[169/ب] وبلغ أن الناصر برز بالوطاق في الديلمي شرقي ذمار يريد بلاد يافع، لما حصل منه من التعدي في أطراف البلاد وقد كان برز به أولاً في منقذة جهة صنعاء والقبلة حتى رفعه إلى هنالك. ويوسف بن المتوكل وصل إلى صنعاء وكان صحبه إسماعيل إلا أنه تقدم قبيله، وسبب ذلك أنه أمره الناصر بأنه لا يعود إلى ضوران.
وفي يوم الإثنين تاسع وعشرين شهر القعدة وصل إسماعيل بن الناصر إلى صنعاء متولياً لها وحاكماً. وتمزق محصول المخا هذه السنة بعضه مع الجرموزي وبعضه مع زيد بن المتوكل وبعضه مما بقي مع حسين بن علي.
وجهز الناصر إبراهيم صنوه إلى بلاد ريمة وكسمة للاستيلاء على زيد بن المتوكل؛ لأنه بعد طلوع حسين من المخا تغلب فيها، ولم يسلم الأمر.
وخرج الأمير حسين بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين صاحب كوكبان إلى الطويلة متخوفاً.
وجاء خبر تسليم الأمر للناصر من حسن بن المتوكل صاحب اللحية، وأنه قبض على السيد حسن الجرموزي في البحر بما معه من المال والبز والحوائج، ولم يتم له الهرب إلى مكة.
ورجع عامة الجند وأصحابه إلى كوكبان وشبام بعد أن ذكر له السادة والأعيان أنه ما كان يصلح منه العزم على ذلك الوجه، وخرج من الطويلة جهة تهامة متوجهاً إلى جهة صعدة. وهرب حسين بن الناصر طريق باب الأهجر وطريق تهامة حتى طلع جبل رازح ودخل صعدة، وانتُهِبَ بعضُ خزائنه التي سار فيها.
وتثاقل حسين بن محمد بن أحمد أبو طالب عن الوصول إلى الناصر من بلاد خمر؛ لأنه يومئذٍ فيها وقد طلبه الناصر ووعد بالوصول، والسبب أنه حصل معهم ومع غيرهم التشوش مما وقع مع زيد الجملولي والتحرك مع الناصر إلى جهة المشرق، فاستشقوا ذلك؛ لأنه أظهر الأمر لهم بأنهم يتقدمون إليه ومن لم يمتثل عزله عن البلاد[170/أ]، واستولى إبراهيم بن المهدي على بيت السيد حسن الجرموزي ببلاد آنس، وقبض ما فيه من المال.
ووصل حسين بن علي إلى الروضة هارباً من المخا، وجاء طريق بيت الفقيه، ثم خرج إلى مفحق بالحيمة ونزل من حضور[إلى] قاع صنعاء الغربي، ولم يدخل صنعاء ومعه نحو عشرة أنفار وهو متأثر بمرض.
وتمزق أولاد المتوكل ومن كان معهم في الجهات كل على وجهه متفرقين، ليس همهم إلا النجاة، والناصر استقر بذمار وصرف همته إلى الجهات اليافعية ، فأول من أرسل السيد صلاح بن محمد في جماعة من العسكر طريق بلاد لحج، ويحيى بن محمد بعد وصوله ذمار آخر شهر القعدة أرسله طريق رداع أو قعطبة.
وكان حركة أهل المشرق إلى أطراف بلاد اليمن الأسفل سبباً لكسر همة الناصر إلى النفوذ من ذمار إلى صنعاء وغيرها، وسبباً أيضاً في كسر الخوف الذي كان قد حصل مع بني المتوكل ومن مال إليهم من الناس في البلاد العليا. وسبب هذه الحركة إلى جهة حدود يافع ما جرى من قصدهم إلى لحج وما وقع منهم من الحرب لرتبة لحج. قيل: وسبب تحركهم أنه قد كان حصل من يوسف مصالحتهم بترك بلادهم لهم، والناصر قال: لا يمكن ذلك، فحصل ما حصل، واستأصلوا رتبة لحج وقتلوهم، لم يسلم منهم إلا دون العشرة وجملتهم فوق المائة. وقد كان قتلوا منهم جماعة بالبنادق من داخل البيوت لما كثروا عليهم، ولما بلغ يافع تحرك الناصر إليهم هربوا من لحج إلى بلادهم.
وفي أول شهر الحجة وصل الخبر بأن صالح الرصاص مات في جهاته، وعند ذلك بعث الناصر رسله إلى العسكر، فسار بعضهم قبل عيد النحر وبعضهم وعد لبعد العيد.
والضربة التي من أولاد المتوكل كسرها وأرجع الضربة إلى الخمس الأولة الكبيرة[170/ب] وضرب دراهم صغار عن بقشة صغيرة، فكان الحرف ثمانية كبار بالخمس الجديدة وبالصغيرة الحرف قدر أربعين بقشة، وكان صرف القرش بأربعة حروف من الكبيرة بعد أن قد بلغ صرف القرش بالصغيرة قدر خمسة وثلاثين حرفاً. وكان ذلك هو الضرائب الأولة، فإذا استمروا عليها ولم ينقصوها انتفع الناس بها، وإن نقصوها كانت مثل الأولة.
وفي هذه الأيام بشهر الحجة جعل الناصر ولاية بلاد كوكبان إلى أحمد بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين ، وقد كان معه ولاية سابقة من والده المهدي أحمد بن الحسن، لكنه تركها أحمد بن الناصر رعاية لابن أخيه حسين بن عبد القادر بن الناصر، لما كان والده عبد القادر قد جعل الأعمال عليه في مدته، فلم يستحسن أن يخرجه من تلك المرتبة التي كان دخلها. فلما رأى أن كوكبان قد خلي عن الأمير بخروج حسين وعزمه منه وفزع أعيان كوكبان إليه أرسل إلى الناصر صنوه مهدي لتقرير ذلك، فقرره وولاه.
[171/أ] وفي يوم الأحد ثاني عشر شهر الحجة توفي القاضي العلامة علي بن جابر الهبل بصنعاء وكان قاضياً فيها وحاكماً من زمان المتوكل من بعد موت القاضي حسن حابس إلى هذا التاريخ. وكانت أحكامه محروسة، مقررة مأنوسة، صاحب قرار في أعمال الشريعة وصبر. وكان معرفته في علم الفقه فقيهاً محققاً وليس له في سائر الفنون ما يعتمد عليه لاشتغاله بالفقه. وقبر بمقبرة باب اليمن، قريب مسجد وهب بن منبه رحمه الله تعالى، وقد بلغ في السن قريب المائة ممتعاً بسمعه وبصره.
وفي تاسع عشر شهر الحجة وصل نقيب من عند الناصر إلى صنعاء بالقبض على وطاق حيدر، وقد كان في بيت زيد بن المتوكل، فقبضوا الخيام وحملوها وغير ذلك، وحصل مع الساكنين في بيته ما حصل وذلك بسبب أنه لم يسلم الأمر للناصر.
وجاء خبر أنه لما قرب منه إبراهيم بن المهدي خرج من كسمة بريمة طريق تهامة.
ووصل الخبر بأن العسكر الذين اجتعموا برداع نحو خمسمائة لا غير.
وجاء خبر أن قبائل بني جبر وغيرهم بنواحي ذيبين منعوا عن وصول إسماعيل بن زبيبة وعن وصول أحمد شمسان، وقالوا: أنهم في جيرتهم ، ثم إنهم وصلوا بعد ذلك لما وضع الأمان لأحمد شمسان.
[171/ب] وفي عشرين شهر الحجة وصل خبر بأنه اتفق مراكزة بين إبراهيم بن المهدي وبين زيد بن المتوكل بكسمة بريمة بني الصياغ، فقتل جماعة من أصحابهم، وثبت زيد بن المتوكل بجبل كسمة لهم، وقيل لم يحدث شيء من ذلك، وأنه كان أراد الفتنة فمنع أهل البلاد، ثم سلم لما وصل إبراهيم بن المهدي وخرج إلى حضرة الناصر، ووصل إلى ذمار بجماعة قليلة بعد أن تفرق أصحابه، وحكم إبراهيم على بلاد ريمة.
وحكم المنجمون بأن الشمس تكسف بآخر شهر الحجة يوم الأربعاء تاسع وعشرين في برج العقرب بالجوزهر الذي هو الذنب، وحصل قران يومئذٍ بين الزهرة وزحل في برج الميزان، وسيحصل قران الزهرة والمشتري في برج القوس في أول السنة الآتية بآخر محرم.
وسلم حسن بن المتوكل صاحب اللحية الأمر للناصر، وقبض على السيد حسن الجرموزي صاحب المخا ولم يتركه.
وجاء خبر أن صاحب صعدة علي بن أحمد لما وصل حسين بن المتوكل وعبد الله بن يحيى أجاب عليهم فيما ذكروه من الاستعانة به في تحريك الفتنة، فقال: لا يسعنا هذا ولا مصلحة للمسلمين، ولا لنا يا أهل هذا البيت فيها، وقد كفى بما وقع، والدنيا عند الله حقيرة والمقصود فيها السعي في الصلاح ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح، فَسُقِط في أيديهم، وتحسروا في أنفسهم، وخابت آمالهم فيما كانوا يظنوه من مطابقة هواهم، والتحقق عما نقموه وشكوه.
وخرج هذه المدة من يافع رجل بكتب إلى أحمد بن زيد يذكرون فيها أن عيال الإمام قد اختلفوا واشتجروا[171/أ] وأن قد سبقت منهم كتب أولة مثل ذلك وأن المبادرة مطلوبة، وأنكم إذا جهزتم من جهتكم عينة يدخلون من تهامة ونحن نفتح من جهة المشرق إلى حدود البنادر وإلى حيس فعلتم ذلك، فظفر بها أصحاب الناصر، وأتوا بالكتب إلى حضرته، فطوق الزنجير في رقبته واعتقله في بعض معاقله، قيل: وهذا الرجل سيد.
ومن هذه الأيام وصل الخبرأن الناصر خرج الديلمي طرف قاع القبتين لاستدعاء حسين بن حسن صاحب رداع باللقيا للمفاوضة من أجل المشرق، فخرج الناصر من ذمار إلى ذلك المكان والتقوا هناك ورجع كل إلى محله. وكان جملة الحديث من حسين بن حسن أن المشرق يحتاج في مخرجه إلى النصاب الكامل، ولم يكن عندهم ما يغني مما اجتمع مع يحيى بن محمد ومحسن.
وفي آخر شهر الحجة أبطلت السكة من الدراهم الصغيرة وأعيدت الضربة الأولة التي كانت زمان المتوكل، كل بقشة خمس من الضربة الكبيرة، فرجع صرف القرش إلى أربعة حروف.
وفي هذه الأيام كان سعر القدح الصنعاني بصنعاء مع كبر القدح من عشرين بقشة أربع خماسيات والبر من حرف، بعد أن كان القدح في هذا التأريخ أيام صراب الثمار من أربعة حروف، والبر من ثمانية، فنزل بسبب هذه الضربة النصف، وكذلك سائر البضائع، إلا أن أهل الأسباب الذي كان اجتمع معهم من الضربة الأولة حصل عليهم الكسر خصوصاً التُجار، فإن استمرت هذه الضربة على حالة واحد فالمصلحة ظاهرة مع الناس، والله يصلح الأمور.
وأرسل قاسم صاحب شهارة إلى بيت الجملولي بسَيْرَان فوجدوا أشياء كثيرة من الذهب والقروش، فطبع عليها وسار إلى السودة استقر فيها.
وكسفت الشمس في يوم الأربعاء تاسع وعشرين شهر الحجة في برج العقرب طلعت كاسفة، وكان الكسوف فيها من أسفلها قدر نصفها بالذنب، فالقدرة لله تعالى.
ودخلت سنة تسع وتسعين وألف
استهلت بالجمعة بالرؤية وبالخميس على الحساب.
وفي رابع هذا الشهر وصلت أخبار الحجاج من مكة المشرفة أنه خرج باشا وجند كثير معه، فتخوف الشريف أحمد بن زيد منهم، وخرج من مكة إلى الطائف ،وأخبروا أن الحج كان مباركاً تاماً، والشامي والمصري فيهما قوة وعساكر كثيرة، وأن السلطان استفتح العام الماضي من بلاد النصارى جهات زائدة على ما كان أولاً، واسترد ما قد كان فعل الفرنج، كما سبق ذكره، وأن الباشا الجديد إلى جدة وصل متولياً وسار الأول معزولاً.
وأمور مكة ساكنة والخيرات عامة، ورخص الأسعار متصلة، إلا أنه كان حصل قبل الحج في ذهبان شهران حرب من القبائل حولي بيشة وبين أصحاب الشريف الذي خرجهم إلى جهاتهم، فراح من أصحاب الشريف جماعة وفيهم الشريف عبد الله بن بشر، فجهز الشريف عساكره عليهم، فقتلوا منهم طائفة وانتهبوهم، وبلغت يد الشريف إلى ذهبان وحدود عبيدة زيادة على بلاد بيشة.
والناصر بلغت جنوده إلى حدود (جبل حرير)، وحدود بلاد يافع استقر فيه السيد صلاح الديلمي بمن معه من العسكر، وأهل الحيمة ومن إليهم من جهة أخرى.
وكان الشيخ الشريف عبد الغفارمن آل باعلوي هذه الأيام بصنعاء، وهو يسكن بحضرموت وبالجوف، ولهم فيه معتقد، وكثير ما يختلف من حضرموت إلى صنعاء طريق الجوف. رأيته ظاهره الصلاح والتسليم، ويحب الإصلاح فيما بين المسلمين. ذكر قرب الطريق الشرقية من حضرموت إلى الجوف، إلا أنها في بعض المراحل مقاطع، وقال: إن من حضرموت إلى أطراف الجوف نحو عشرة أيام وأقل من ذلك وإلى نجد كذلك. ومن العجائب أنه يسير بغير نعل، حافي، وهو شافعي في المذهب، قد وَخَطَه الشيب[173/أ] وله قدرة على الأسفار فيما بين هذه الجهات، وفيه أخلاق طيبة، ولا يسأل أحداً بل إن أُعطي شيئاً قبله من غير سؤال.
وجعل الناصر ولاية بلاد السودة إلى قاسم بن المؤيد صاحب شهارة، فوصل إليها وأمره بالتجهيز، وجعل إليه محصول بلاد عفار وأخرجها عن يد قاسم بن المتوكل. وجعل أمر بلاد ثلاء إلى واليها الأول الفقيه حسين بن يحيى الثلائي، فذكر الفقيه حسين الثلائي أنه لا يمكن التصرف فيها ما دام قاسم بن المتوكل بثلاء؛ لأنه يخشى من المعارضة فيها. وبلاد كحلان ولاها بعض أولاد الهادي بن الحسن بن شرف الدين الذي كان قد تولاها في المدة الماضية آخر دولة المتوكل. وخرجت عن يد حسين بن محمد بن أحمد أبو طالب لأجل تثاقله عن التجهيز، وعند ذلك عاد حسين بن محمد المذكور من خمر إلى عمران، وأجاب على الناصر أن التجهيز لا يمكنه إلا لو كانت البلاد بنظره، فأما والحال أن قد صارت بلاد خمر إلى صنوه إسماعيل ، وكحلان خرج من يده، وبلاد حجة قد صار محصولها إلى حضرته وبعضها إلى قاسم بن المؤيد فلا يجد ما يقوم بالعسكر.
وصار الرؤساء والمطلوبين من أصحابهم يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى، ومنهم من يعتذر بجمع الثمرة. وأما الذين قد ساروا أولاً مثل أهل الحيمة وبعض العسكر من غيرهم فوقفوا منهم في رداع، ومنهم في حدود جبل حرير، وكلما كتب إليهم الناصر قالوا: يلحق جميع العسكر والرؤساء، وهم يتقدمون جميعاً، والله يصلح للمسلمين ما فيه الصلاح.
وفي أول الشهر مات يحيى بن الناصر بزبيد[173/ب]، وكان قد جعل والده نظره وما حوله من تهامة إليه.
ومات ولد حسين بن المتوكل بصعدة بحضرة والده، وكان سار صحبته.
وجهز قاسم بن المتوكل عسكراً من عنده إلى المشرق إجابة للناصر، لما عرف أن الناصر قد بنى على عزله إن لم يجهز، فأرسل بنحو أربعمائة، فما قصر في رأيه، وتدارك أمر بقية بلاده.
وحسن بن المتوكل قد كان خرج من اللحية يريد الوصول إلى حضرة الناصر لإجابته، فكتب إليه الناصر بأنه يتوقف هذه الساعة في جهاته، والمطلوب إنما هو المعونة بعسكر أو مال.
وسار المطلوبين من العسكر وغيرهم من خولان صنعاء وسنحان وغيرها بعد تمام الثمرة معهم ما وسعهم إلا العزم لإجابة الناصر، فساروا في نصف شهر محرم. وكذلك صاحب كوكبان جهز محطة من عنده نحو سبعمائة ورئيسهم مهدي بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين. وصاحب عمران كذلك أرسل عسكره، وتتابع الناس إلى حضرة الناصر.
وكان قد رتب قبائل الرصاص طرف بلادهم بالزهراء؛ لأنهم أظهروا الخلاف مع يافع، فخرج الذين قد كان اجتمعوا برداع إلى الخريص ببلاد قيفة وتقربوا منهم وهم قدر ألف نفر مع يحيى بن محمد ومحسن بن المهدي أحمد بن الحسن، فهربوا منها، وتقرب العسكر إلى المعسال. وجاءت كتب يافع بالمواجهة، فلم يجب عليهم الناصر بجواب، وقال: لا بد من دخول البلاد، وأخذ ما قد أخذوه على الناس وما جرى منهم سابقاً من العناد.
ووصل كتاب من الناصر إلى يوسف وهو بصنعاء أنه يمتنع من التقدم في المحراب يوم الجمعة للصلاة، فإن في ذمته ما قد جرى عليه من الخروج والحروب والديون اللازمة، وليتقدم غيره وهو يعزم شهارة، فترك المذكور التقدم وامتثل وتأخر للصلاة في المؤخر. ورجع إلى الناصر من جهة العزم إلى شهارة، وأنه لا يعرفها لأنه ولد بضوران، وتلك الديار وقد صنعاء أوفق في البقاء، والحركة تعسر عليه في هذه المدة، ويلزمه لوازم شاقة، وأن ينظر وصايا من صنوه يريد افتقادها وتنفيذها[174/أ].
وأخبرني بعض الحجاج الذين جاءوا طريق تهامة قال: لما وصلوا إلى أبي عريش -طرف بلاد صاحب اليمن- بقوا منتظرين لوصول أمير حاج على ما قد كان بنى عليه يوسف بن المتوكل بتجهيزه، فلما أزف الوقت ولم يصل في وقته اجتمع أحمد بن مهيا وجمع قبائل من الحرامية بصبيا، وأفاض عليهم شأن الحجاج، فقالت الحرامية وأهل البلاد: إن كان مع الحجاج أحد أمير من صاحب اليمن فلا بد من تسليم المعتاد ثلاثين كورجة وقدر مائتي قرش ويسلم حق العام الماضي مع هذا العام دخلوا وساروا آمنين إلى بيت الله الحرام. وإن لم يكن أحد أمير دخل الناس والبلاد بلاد الشريف، ولو لم يصر إليهم شيء من الأصل، ويدخل مع الناس الشريف أحمد بن مهيا الذي من قبل أحمد بن زيد فإنه يكفي الحجاج، وإلا فلا حرج عليهم. فدخل كثير من الحجاج مع أحمد بن مهيا إلى بيت الله الحرام، ورجع من رجع وهم القليل، مع أن الحجاج من أصلهم لم يكونوا كما كانوا، وحجوا وعادوا طريق الحرامية بلاد الحجر، ومعهم في العودة شريف الخلا أخذ منهم المعتاد من المجبا لا غيره.
ووصل إلى حضرة الناصر بعض شعراء صنعاء، فقال: لا حظ لكم عندنا؛ لأن ألسنتكم طالت علينا فرجعوا بغير شيء، والسنة حرمانهم، كما جاء في الحديث النبوي: ((احثوا في وجوه المداحين التراب )) أي: احرموهم.
وفي هذه الأيام بآخر شهر محرم وصل إلى حضرة الناصر أصحاب يحيى بن محمد يشكون منه في عدم الوفاء بالجوامك، وأنه أعطاهم من الدراهم الأولة، وقد كسدت لا تنفعهم. وقد كان شكوه مرة أولة وأمر له بدراهم من عنده، وأنه يريد أن لا يسلم لهم من الجديدة بقدر حساب الأولة، وينقص، فيجعل الثلاثة الأولة بحرف من الجديدة، فعند ذلك عزله وجعل صنوه عبد الله بن محمد الصغير في السن مكانه وولاه بلاده.
قيل: وكذلك عزل صنوه محسن بن المهدي.
وفي أول شهر صفر تكامل إرسال العسكر إلى حضرة الناصر المشرق، آخرهم أصحاب قاسم بن المؤيد وأصحاب حراز، ولم يبق إلا صاحب عمران فإنه ما زال يتثاقل.
وأمر الناصر إلى ولده إسماعيل بالخروج على صاحب عمران، فقدم إسماعيل مراجعته والأعذار له والتلويم بأنه ما ينبغي منه ذلك، فأجاب أن قد تفرقت بلاده، بلاد خمر مع صنوه إسماعيل وغيرها، فلأجل ذلك اعتذر وكان ما عنده لا يقوم بالعسكر مع عدم انخراطهم وشروطهم بالمحاسبة لهم، فتثاقل عنه إسماعيل، وظهر أن والده لما تحقق أعذاره رأى الأمر فقبض دفعته، فلم يعذر ولا قبل منه قوله، فلم يسعه إلا الإرسال بعينة من القبائل، وبعث معهم ابن أخيه القاسم ، وعزموا إلى حضرة الناصر، وانتهى يومئذٍ جميع المطلوبين من القبائل والعساكر، وما زالوا إلى الجهات الشرقية بالأمر القاهر.
وحصل هذه السنة في بندر المخا كساد البز الخارج من البحر؛ لأجل قلة نزول التجار إلى هنالك.............. في البحر وتحريقها بما فيها بالنار عداوة للإسلام، ولكن لما كان البز كثيراً من العام الماضي والذي قبله؛ لأنه كان باليمن العالي اكتفى التجار والناس به، ولعله يحصل لهم رأس مالهم فيه في الذي بقي معهم منه بعد أن كان بعضه قد باعوه برأس المال ديناً إلى هذا العام.
وجاءت كتب صاحب صعدة علي بن أحمد بالتسليم للأمر إلى جناب الناصر، وخطب له بصعدة، واطلق الناصر صنوه إسحاق من حبس المنصورة، ووصل إلى صنعاء. وكذلك ولده عبد الله أخرجه من حصن الدملوة وطلع إلى حصن ذمرمر محلهم، ولكنه تحت الحفظ، وأمر بالترسيم عليه بذمرمر. ولم يبق للناصر معارض يومئذٍ ولم تبق الشغلة معه إلا لبلاد يافع، وأنه لا بد من دخول بيارقه وأعلامه إليه، ولم يسعدهم إلى عدم دخوله، وإلا فقد كان جاءت كتبهم بالتسليم للأمر لما قد وقع منهم من القضية في لحج، فلم يقبل منهم، والله يصلح كل شأن.
قائمة المصادر والمراجع
أولاً: المخطوطات
- إبراهيم بن عبد الله بن إسماعيل الحوثي:
1- نفحات العنبر بفضلاء اليمن الذين في القرن الثاني عشر، محفوزظة بدار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء، رقم 2636.
- إبراهيم بن القاسم بن الإمام المؤيد:
2- طبقات الزيدية الكبرى، محفوظة بدار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء، رقم 2672.
- أحمد بن صالح بن ابي الرجال:
3- مطلع البدور ومجمع البحور، محفوظة بدار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء، رقم 171.
- أحمد بن عبد الله الجنداري:
4- الجامع الوجيز في وفيات العلماء أولي التبريز، محفوظة بدار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء، رقم 2524.
- أحمد محمد الشرفي:
5- اللآلئ المضيئة الملتقطة من اللواحق الندية في أخبار الأئمة الزيدية، مكتبة الأستاذ عبد الوهاب علان.
- الحسن بن عبد الرحمن بن أحمد:
6- كتاب المواهب السنية مما مَنَّ الله من الفواكه الجنية من أغصان الشجرة المتوكلية، محفوظة بدار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء، رقم 2626.
- الحسين بن ناصر بن عبد الحفيظ المهلا:
7- حسنة الزمان في ذكر محاسن الأعيان، محفوظة بدار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء، رقم 2536.
- عامر بن محمد بن عبد الله الرشيد:
8- بغية المريد وأنس الفريد إلى معرفة أنساب الأئمة الأعلام السادة الكرام ذرية السيد الجليل علي بن محمد بن الرشيد، مكتبة الأستاذ عبد السلام الوجيه.
- عيسى بن لطف الله:
9- روح الروح فيما جرى بعد المائة التاسعة من الفتن والفتوح، (الجزآن 1-2) مصورة ، ط2، دمشق، دار الفكر، 1401هـ /1981م، (ج3) محفوظة بدار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء، رقم 2519.
- محسن بن الحسن بن القاسم بن أحمد، أبو طالب:
10-السحر المبين وفتور ألحاظ العين فيما سنح من أخبار اليمن وأهله الميامين من اثنتين وتسعين بعد ألف من السنين إلى وفاء الخمسين، محفوظة بدار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء، رقم 2553.
11-طسيب أهل الكساء الذي على جودي النجاة رسا، محفوظة بمكتبة الأوقاف، (المكتبة الشرقي)، صنعاء، رقم 2145.
- محمد بن إبراهيم المفضل:
12-السلوك الذهبية في خلاصة السيرة المتوكلية اليحيوية، محفوظة بدار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء، رقم 2564.
- محمد بن عبد الله بن علي بن الإمام عز الدين المؤيدي:
13- التحفة العنبرية في المجددين من أبناء خير البرية.
- محمد بن علي العمراني:
14-خبر النبيه بخبر افتتاح المنصور وبنيه، محفوظة بدار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء، رقم 2538.
- مطهر بن محمد الجرموزي:
15-تحفة الأسماع والأبصار.
16-الجوهرة المنيرة في جمل من عيون السيرة، محفوظة بدا رالمخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء.
17- النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة، مكتبة اليمن الكبرى (مخطوط منشور).
- يحيى بن الحسين بن القاسم:
18-أصول فرق الإسلام، مخطوط ضمن مجموع رقم61، مكتبة الأوقاف (المكتبة الشرقية).
19- أنباء الزمن في تاريخ اليمن، مكتبة الوالد العلامة محمد بن محمد المنصور.
20- الزهري، في أعيان العصر، ضمن مجموع رقم 66/ محفوظة بدار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء.
21- الزهر الناعم في اتباع سنة أبي القاسم، ضمن مجموع رقم 46، مكتبة الأوقاف (المكتبة الشرقية).
22-كتاب في الدين تركوا الملك واتبعوا طريق الزهادة، ضمن مجموع رقم 61، مكتبة الأوقاف (المكتبة الشرقية.
23-المستطاب في تاريخ علماء الزيدية الأطياب (مكتبة الوالد العلامة أحمد بن محمد زبارة).
24-- يحيى بن علي الحبسي:
25-تتمة الإفادة في تاريخ الأئمة السادة، محفوظة بدار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء، رقم 35.
ثانياً: المصادر والمراجع المطبوعة
- إبراهيم بن القاسم بن الإمام المؤيد:
26-طبقات الزيدية الكبرى، ويسمى: بلوغ المراد إلى معرفة الإسناد، تحقيق: عبد السلام الوجيه، عمَّان، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، ط:1، 1421هـ/2001م.
- إبراهيم بن محمد الصبحي
27-بلاد الحجاز في القرن السابع عشر الميلادي، رسالة ماجستير غير منشورة، القاهرة، جامعة عين شمس.
- أحمد بن محمد الشجري:
28-طبقات الخواص أهل الصدق والإخلاص، مصر، المطبعة الميمنية، على نفقة الحاج عبادي حسن الكتبي بعدن، د. ت.
- أحمد بن أحمد النعمي
29-حوليات النعمي التهامية، تحقيق ودراسة: د. حسين العمري، دمشق، دار الفكر، 1407هـ/ 1987م.
- أحمد بن الحسين بن علي البيهقي:
30-السنن الكبرى، حيدر أباد، مطبعة مجلس دار المعارف العثمانية، 1355هـ.
- أحمد زين دحلان
31-خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام من زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى وقتنا هذا بالتمام، مصر، المطبعة الخيرية، 1305هـ.
- أحمد عبد الرحيم مصطفى
32-في أصول التاريخ العثماني، القاهرة، دار الشروق، ط:2،1413هـ/1993م.
- أحمد بن عبد الله الرازي
33-تاريخ مدينة صنعاء، تحقيق ودراسة: د. حسين العمري، بيروت، دار الفكر المعاصر، دمشق، دار الفكر، ط:3، 1409هـ/1989م.
- أحمد بن عبد الوهاب النويري
34-نهاية الرب في فنون الأدب، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، د.ت.
- أحمد علي دخيل
35-مائة وصية للإمام علي عليه السلام، بيروت، دار المرتضى، ط:2، 2001م.
- أحمد بن علي القلقشندي
36-صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، دت.
-أحمد بن علي بن محمد، ابن حجر العسقلاني:
37-لسان الميزان، دار الكتب العلمية، د. ت
38-المطالب العلية في رواية المسانيد الثمانية، دار الكتب العلمية، د.ت.
- أحمد قبش:
39-مجمع الحكم والأمثال في الشعر، دمشق، دار العروبة، 1979م.
ـ أحمد بن محمد الأبشيهي:
40-المستطرف في كل فن مشتظرف، تحقيق: مفيد محمد قميحة، بيروت، دار الكتب العلمية، ط:2، 1986م.
- أحمد بن محمد الجرافيي:
41-حوليات العلامة الجرافي، تحقيق ودراسة: د. حسين العمري، بيروت، دار الفكر المعاصر، دمشق، دار الفكر ،1412هـ/ 1992م.
- أحمد بن محمد بن الحسن الحيمي:
42-طيب السمر في أوقات السحر، تحقيق: عبد الله الحبشي، صنعاء، مكتبة الإرشاد، 1410هـ/1990م.
- أحمد بن محمد الشامي:
43-تاريخ اليمن الفكري في العصر العباسي، بيروت، دار النفائس، 1407هـ/1987م.
- أحمد بن محمد الشرفي:
44-عدة الأكياس في شرح معاني الأساس، صنعاء، دار الحكمة اليمانية، ط:1، 1995م.
- أحمد بن محمد الخفاجي:
45-ريحانة الألبَّاء وزهرة الحياة الدنيا، تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو، القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1386هـ/1967م
- أحمد بن محمد القمري التلمساني:
46-نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: د. إحسان عباس، بيروت، دار صادر، ط:1، 1968م.
- أحمد بن محمد الميداني:
47-مجمع الأمقال، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، بيروت، دار الفكر، ط:3 1393هـ/1972م.
- أحمد الهاشمي:
48-جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط:3، د.ت.
- أحمد بن محمد بن جابر البلاذري:
49-فتوح البلدان، نشره ووضع ملاحقه وفهارسه: د. صلاح الدين المنجد، مكتبة النهضة المصرية، مطبعة لجنة البيان العربي، د.ت.
- أحمد بن يحيى المرتضى، الإمام المهدي:
50-المنية والأمل في شرح الملل والنحل، تحقيق: د. محمد جواد مشكور، بيروت، دار الندر للطباعة والنشر والتوزيع، ط:2، 1410هـ/1990م.
- د. إسماعيل عبد الله محرم:
51-دودة الجيش الأفريقية (الجدمي) أهميتها وسلوكها، ذمار، الهيئة العامة للبحوث والإرشاد الزراعي، عدن، قسم الإعلام الزراعي، 1991م.
- إسماعيل بن علي الأكوع
52-البلدان اليمنية عند ياقوت الحموي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط:2، 1408هـ/ 1988م.
53- المدارس الإسلامية في اليمن، دمشق، دار الفكر، 1400هـ/1980م.
- إسماعيل بن محمد أمين البغدادي
54-هدية العارفين. أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، استانبول، 1951م.
- إسماعيل بن محمد العجلوني:
55-كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط:2، 1352هـ.
- أكرم حسن العُلَبي:
56-التقويم، دراسة للتقويم والتوقيت والتاريخ مع جداول مفصلة لمقابلة التاريخ الهجري بالملادي، بيروت، المصادر، ط:1، 1411هـ/1991م.
- أكمل الدين إحسان أوغلو وآخرون:
57-الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، استانبول، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، 1999م.
- د. أيمن فؤاد السيد:
58-مصادر تاريخ اليمن في العصر الإسلامي، القاهرة، المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، 1974م.
- د. بديع محمد جمعة، د. أحمد الخولي:
59-الشاه عباس الكبير، بيروت، النهضة العربية للطباعة والنشر، 1980م.
- بروس بالوك، ريا الصكار:
60-جامع الحسن بن القاسم في ضوران، دراسة تاريخية ومعمارية لجامع يمني من القرن السابع عشر الميلادي، المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، 2002م.
- ج. ج. لور يمر:
61-دليل الخليج، القسم الجغرافي، ترجمة: المكتب الثقافي لحاكم قطر، بيروت، دار العربية، 1969م.
- جمال الدين الشيال:
62-تاريخ دولة أباطرة المغول الإسلامية في الهند، الإسكندرية، مطبعة التقدم، 1968م.
- جمال الدين، ابن نباتة المصري:
63-ديوان ابن نباتة، بيروت، دار إحياء التراث العربي، د.ت.
- الحارث بن سعيد، أبو فراس الحمداني:
64-ديوان أبي فراس، رواية أبي عبد الله الحسين بن خالويه، بيروت، دار بيروت للطباعة والنشر، 1979م.
- حبيب بن أوس الطائي، أبو تمام:
65-ديوان الحماسة، القاهرة، مكتبة محمد علي صبيح الكتبي، ط:2، د.ت.
66-ديوان أبي تمام، شرح وتعليق: د. شاهين عطية، بيروت، دار صعب، د.ت.
- الحسن بن أحمد الهمداني:
67-الإكليل، حققه وعلق عليه: محمد بن علي الأكوع، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر، 1407هـ/1986م.
68-صفة جزيرة العرب، تحقيق: محمد بن علي الأكوع، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 1403هـ/1983م.
- حسن محمود الشافعي:
69-العملة وتاريخها، دراسة تحليلية عن نشاة العملة وتطورها وهواية جمعها، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980م.
- حسين بن أحمد السياغي:
70-قانون صنعاء في القرن الثاني عشر الهجري، طبع على نفقة القاضي حسين بن أحمد السياغي، د.ت.
- د. حسين الباشا:
71-الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار، القاهرة، دار النهضة العربية، 1978م.
- د. حسين بن عبد الله العمري:
72-الإمام الشوكاني رائد عصره، دراسة في فقهه وفكره، دمشق، دار الفكر، 1411هـ/1990م.
73-الأمراء العبيد والمماليك في اليمن، بحث تاريخي مقارن بين الشرق والغرب حتى القرن العشرين، بيروت، دار الفكر، 1409هـ/1989م.
74-تاريخ اليمن الحديث والمعاصر، من المتوكل إسماعيل إلى المتوكل يحيى حميد الدين، دمشق، دار الفكر، بيروت، دار الفكر المعاصر، ط:1، 1418هـ/1997م.
- د. حسين بن عبد الله العمري، القاضي محمد بن أحمد الجرافي:
75-العلامة والمجتهد المطلق الحسن بن أحمد الجلال، حياته وآثاره، دراسة ونصوص محققة، دمشق، ط:1، 1421هـ/2000م.
- د. حسين بن عبد الله العمري وآخرون:
76-في صفة بلاد اليمن عبر العصور من القرن السابع قبل الميلاد إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1410هـ/1990م.
- د. حسين بن عبد الله العمري:
77-مائة عام من تاريخ اليمن الحديث، دمشق، دار الفكر، ط:2، 1408هـ/ 1988م.
78-مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني، دمشق، دار المختار للتأليف والطباعة والنشر 1400هـ/ 1980م.
79-المؤرخون اليمنيون في العصر الحديث، دمشق، دار الفكر، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1409هـ/1988م.
- حسين بن عبد الله الويسي:
80-اليمن الكبرى، كتاب جغرافي جيولوجي تاريخي، ج1، صنعاء، مكتبة الإرشاد، ط:2، 1412هـ/1991م.
- حسين بن محمد الحضرمي:
81-الاداب المحققة في معتبرات البندقة، تحقيق ودراسة: عبد الله أحمد محيرز، عدن، وزارة الثقافة والإعلام، د.ت.
- حمد الجاسر:
82-بلاد ينبع: لمحات تاريخية جغرافية وانطباعات خاصة، الرياض، دار اليمامة، (د. ت).
- حمزة علي لقمان:
83-تاريخ القبائل اليمنية، صنعاء، دار الكلمة، 1406هـ/ 1985م.
- حياة البسام:
84-الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم في اليمن، جده،الدار السعودية للنشر والتوزيع 1406هـ/1986م.
- رشيد يوسف عطاء الله:
85-تاريخ الآداب العربية، تحقيق: د. علي نجيب عطوي، بيروت، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، ط:1، 1985م.
- زهير بن محمد بن علي، البهاء:
86-ديوان البهاء زهير، تحقيق: محمد طاهر الجبلاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار المعارف، د.ت.
- زين رشيد علي الشافعي:
87-الروض الزاهر في سيرة التاريخ والنسب الطاهر للأسر القرشية العدنانية بمنطقةى جازان، الرياض، 1420هـ/1990م.
- ساطع الحصري:
88-البلاد العربية والدولة العثمانية، بيروت، دار العلم للملايين، ط:3، 1965م.
- سعيد أحمد برجاوي:
89-الإمبراطورية العثمانية، تاريخها السياسي والعسكري، بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، 1993م.
- سعيد عوض باوزير:
90-صفحات من التاريخ الحضرمي، مصر، مطابع دار الكتاب العربي، ط:1، 1373هـ/1954م.
- سليمان بن الأشعث، أبو داود:
91-سنن أبي داود، مصر، مطبعة البابي الحلبي وأولاده، 1371هـ/ 1952م.
- سليمان الباروني:
92-مختصر تاريخ الأباضية، تونس، المطبعة السلفية،ط2،(د. ت).
- د. سيد مصطفى سالم:
93-الفتح العثماني الأول لليمن (1538-1635م)، معهد البحوث والدراسات العربية، ط:3، 1977م.
94-المؤرخون اليمنيون في العهد العثماني الأول، القاهرة، المطبعة العالمية، 1971م.
95-وثائق يمنية (دراسة وثائقية تاريخية) القاهرة، دار الكتب المصرية، المطبعة الفنية، 1982م.
- صلاح البكري
96-حضرموت وعدن وإمارات الجنوب العربي، القاهرة، مطبعة المدني، المؤسسة السعودية بمصر، 1380هـ/ 1960م.
- طرفة بن العبد:
97-ديوان طرفة بن العبد، تحقيق: فوزي عطية، بيروت، دار سعب، 1980م.
- د. عبد الأمير الأعسم:
98-الفيلسوف نصير الدين الطوسي مؤسس المنهج الفلسفي في علم الكلام الإسلامي، بيروت، دار الأندلس،ط2، 1980م.
- عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي:
99-الدر المنثور في التفسير بالمأثور، بيروت، دار الفكر، 1993م.
100-المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق: فؤاد علي منصور، بيروت، دار الكتب العلمية، ط:1، 1998م.
- عبد الرحمن البرقوقي:
101-شرح ديوان المتنبي، بيروت، دار الكتاب العربي، د. ت.
- عبد الرحمن بن خلدون:
102-مقدمة ابن خلدون، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط:4، د.ت.
- عبد العزيز بن سرايا، صفي الدين الحلِّي:
103-ديوان صفي الدين الحلِّي، دار صادر، بيروت، 1962م.
- عبد العزيز سيد الأهل:
104-من الشعر المنسوب إلى الإمام الوصي علي بن أبي طالب، بيروت، دار بيروت للطباعة والنشر،1973م.
- عبد القاهر بن طاهر البغدادي:
105-الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم، بيروت، دار الآفاق الجديدة، ط2، 1977م.
- عبد الكريم العزيز:
106-التشكيلات المركزية العثمانية والإدارة المحلية في اليمن، صنعاء، دار الكتب الوطنية، 2003م.
- عبد الله بن علي الوزير:
107-تاريخ طبق الحلوى وصحاف المن والسلوى، تحقيق: محمد عبد الرحيم جازم، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 1405هـ/ 1985م.
- عبد الله بن محمد الحبشي:
108-مصادر الفكر العربي الإسلامي في اليمن، صنعاء، مركز الدراسات اليمنية، د.ت.
- عبد الله بن محمد العبد لكاني:
109-حماسة الظرفاء من أشعار المحدثين والقدماء، تحقيق: محمد جبار المعيبد، بغداد، دار الحرية للطباعة، 1973م.
- عبد الواسع بن يحيى الواسعي:
110-تاريخ اليمن المسمى فرجة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن، صنعاء، مكتبة اليمن الكبرى للطباعة والنشر والتوزيع، ط:2، 1991م.
- ابن عذارى المراكشي:
111-البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ومراجعة: ج. س، كولان، إ. ليفي بروفنسال، بيروت، دار الثقافة، ط:3، 1983م.
- عز الدين بن الأثير:
112-اللباب في تهذيب الأنساب، بيروت، دار صادر، د. ت.
- علي بن الحسين، أبو الفرج الأصفهاني:
113-كتاب الأغاني، تحقيق: إبراهيم الأبياري، القاهرة، دار الشعب، 1969-1971م.
- علي بن الحسين بن علي المسعودي:
114-مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت، دار الفكر، ط:5، 1393هـ/1973م.
- علي بن أبي طالب:
115-كتاب الجفر الجامع والنور اللامع، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، د.ت.
116-ديوان الإمام علي بن أبي طالب، تحقيق: د. محمد عبد المنعم خفاجي، بيروت، دار ابن زيدون، د.ت.
- علي بن عبد العزيز الخضيري:
117-علي بن المقرب العيوني حياته وشعره، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1401هـ/1981م.
- عمرو بن بحر الجاحظ:
118-كتاب الحيوان، تحقيق: فوزي عطوي، بيروت، دار صعب، ط:3، 1982م.
- القاسم بن محمد:
119-الاعتصام بحبل الله المتين، صنعاء، مكتبة اليمن الكبرى، د.ت.
- كارل بروكلمان:
120-تاريخ الأدب العربي، نقله إلى العربية: د. السيد يعقوب بكر، د. رمضان عبد التواب، مصر، دار المعرفة، 1975م.
- المبارك بن محمد بن محمد، ابن الأثير الجزري:
121-أسد الغابة في معرفة الصحابة، دار المعرفة، 1997م.
122-النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: محمد أحمد الزاوي، محمود محمد الطناحي، بيروت، دار الكتب العلمية، ط:2، 1979م.
- مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي:
123-التحف شرح الزلف، صنعاء، مكتبة مركز بدر العلمي للطباعة والنشر والتوزيع، 1417هـ/1997م.
- محسن بن الحسن أبو طالب:
124-الشذور العسجدية في الخلافة المهدوية الأحمدية (ضمن كتاب تاريخ اليمن عصر الاستقلال عن الحكم العثماني الأول) تحقيق: عبد الله محمد الحبشي، صنعاء، مطابع المفضل للأوفست، 1411هـ/1990م.
- محمد بن أحمد الحجري:
125-مساجد صنعاء عامرها وموفيها، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط:2، 1398هـ.
- محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي:
126-تذكرة الحفاظ، دار الصميعي، د.ت.
127-سير أعلام النبلاء، دار الفكر، د.ت.
- محمد بن أحمد العقيلي:
128-تاريخ المخلاف السليماني، الرياض، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، ط:2،1405هـ/1982م.
- محمد بن إسماعيل البخاري:
129-صحيح البخاري، دار مطابع الشعب، د.ت.
- محمد بن إسماعيل بن القاسم، المؤيد بالله:
130-مذكرات المؤيد بالله محمد بن إسماعيل، حققها واستخرجها من مسودة المؤلف: عبد الله الحبشي، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، د. ت.
- محمد بن إسماعيل الكبسي:
131-جواهر الدر المكنون وعجائب السر المخظون، تحقيق: زيد بن علي الوزير، منشورات العصر الحديث، 1408هـ/1988م.
- محمد أمين بن فضل الله المحبي:
132-خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، بيروت، دار صادر، د.ت.
133-نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة، تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو، القاهرة، مطبعة عيسى الحلبي 1971م.
- محمد بن جرير الطبري:
134-تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك) بيروت، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، 1987م.
- محمد بن الحسين بن موسى، الشريف الرضي:
135-ديوان الشريف الرضي، بيروت، دار صادر، د.ت.
- محمد بن سعيد بن منيع:
136-الطبقات الكبرى (طبقات ابن سعد) بيروت، دار الكتب العلمية، 1997م.
- محمد بن عبد الرحمن السخاوي:
137-الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، بيروت، دار مكتبة الحياة، د.ت.
- محمد عبد العال:
138-البحر الأحمر والمحاولات البرتغالية الأولى للسيطرة عليه، نصوص جديدة مستخلصة من مشاهدات المؤرخ اليمني (بامخرممة) كما سجلها في مخطوط (قلادة النحر) الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980م.
- محمد عبد القادر بتمطرف:
139-الجامع، بغداد،ـ دار الحرية للطباعة، 1980م.
- محمد بن عبد الكريم الشهرستاني:
140-الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني، بيروت، دار صعب، 1406هـ/ 1986م.
- محمد علاء الدين منصور:
141-تاريخ إيران بعد الإسلام، د.ت.
- محمد بن علي الشوكاني:
142-البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، د.ت (يتبعه ملحق محمد بن محمد زبارة).
- محمد بن عمر الرازي:
143-اعتقاد فرق المسلمين والمشركين، ومعه كتاب المرشد الأمين إلى اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، تقديم: طه عبد الرؤوف سعد، مصطفى الهواري، القاهرة، شركة الطباعة الفنية المتحدة 1398هـ/1978م.
- محمد بن عيسى الترمذي:
144-الجامع الصحيح، تحقيق وتعليق: إبراهيم عطوه عوض، مصر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1385هـ/ 1965م.
- د. محمد محمد الحاج الكمالي:
145-الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى وأثره في الفكر الإسلامي سياسياً وعقائدياً، صنعاء، دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر، 1411هـ/ 1991م.
- محمد بن محمد بن يحيى زبارة:
146-أئمة اليمن، ج1، تعز، مطبعة الناصرية، 1372هـ/ 1952م.
147- أئمة اليمن بالقرن الرابع عشر للهجرة ووفيات أعلام أعوامهم إلى سنة 1375هـ، الدار اليمنية للنشر والتوزيع، 1984م.
148-نزهة النظر في رجال القرن الرابع عشر، تحقيق ونشر: مركز الدراسات والبحوث اليمنية، شارك في التحقيق: عبد الله بن عبد الكريم الجرافي، 1979م.
149- نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف، مج1، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، د.ت. مج2-3، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، بيروت، دار الآداب، 1405هـ/1985م.
- محمد بن هاشم:
150-تاريخ الدولة الكثيرية، قام بالإشراف على طبعه محمد بن علي الجفري على نفقة الخاصة السلطانية، 1367هـ/ 1948م.
- محمد بن يزيد بن ماجة:
151- سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، 1395هـ/1975م.
- محمود شوكت:
152-التشكيلات والأزياء العسكرية العثمانية منذ بداية تشكيل الجيش العثماني حتى سنة 1825هـ، ترجمة عن التركية: يوسف نعيسة، د. محمود عامر، دمشق: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، 1988م
- محمود بن عبد الله الألوس:
153-روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، تحقيق: د. محمد السيد الجليند، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط:2، 1404هـ.
- محمود علي السالمي:
154-محاولات توحيد اليمن بعد خروج العثمانيين، الشارقة، دار الثقافة العربية للنشر، 2001م.
- محي الدين عبد القادر بن شيخ:
155-تاريخ النور السافر عن أخبار القرن العاشر، د. ج1، د.ت.
- مصطفى بن عبد الله، حاجي خليفة:
156-كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، تحقيق: عبد الرحمن محمد قاسم النجدي، بيروت، دار المكتبة العلمية، ط:2، 1992م.
- مطهر بن علي الإرياني:
157-ديوان فوق الجبل، القاهرة، دار الهنا، 1973م.
- مطهر بن محمد الجرموزي:
158-تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار، تحقيق: عبد الحكيم الهجري، عمَّان، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، 1423هـ/ 2002م.
- ممتاز العارف:
159-الأحباش بين مأرب وأكسوم (لمحات تأريخية من العلاقات العربية الحبشية ونشوء أثيوبيا الحديثة (بيروت، صيدا، المكتبة العصرية، 1975م.
- نشوان بن سعيد الحميري:
160-الحور العين، تحقيق: كمال مصطفى، صنعاء، المكتبة اليمنية، بيروت، دار آزال للطباعة والنشر، 1985م.
- هاشم معروف الحسيني:
161-بين التصوف والتشيع، بيروت، دار القلم، 1979م.
- وزارة الإعلام، سلطنة عُمان:
162-عُمان في التاريخ (ندوة عُمان في التاريخ المنعقدة خلال الفترة من 24- 27/9/1974)، لندن، دار اميل للنشر المحدودة، 1995م.
- يحيى بن الحسين بن القاسم:
163-بهجة الزمن في تاريخ اليمن، ج1، تحقيق: أمة الغفور الأمير، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة صنعاء، 1997م.
164-غاية الأماني في أخبار القطر اليماني، تحقيق: د. سعيد عاشور، القاهرة، دار الكاتب العربي، 1388هـ/ 1968م.
- يحيى بن يحيى العنسي:
165-المعالم الزراعية في اليمن، المركز الفرنسي للدراسات اليمنية، المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية، 1998م.
- يوسف بن عبد الله بن محمد، الحافظ بن عبد البر:
166-الاستيعاب في معرفة الأصحاب، دار الكتب العلمية، د.ت.
ثالثاً: الدوريات
167- مجلة الإكليل: عدد خاص بصنعاء، مجلة دورية، تصدرها وزارة الإعلام والثقافة،صنعاء، العددان 2،3، السنة الثانية،1403هـ/ 1983م.
168- مجلة العرب: الجزء التاسع، 1392هـ/1972م.
169- مجلة كلية الآداب: جامعة الملك سعود، العدد الأول، المجلد الخامس عشر، 1408هـ/ 1988م.
رابعاً: المراجع الأجنبية:
A. S. TRTTTON: THE RTSE OF THE TMAMS OF SANAA, HYPERION PRESS, TN .WESTPORT, ONNE T UT
PLAFATR, R. L: AHISTORY OF ARAbia Felix Or yemen, Bombay, Ed ation So iety Press 1859. U.S.A. North arolina, 1978.
R.B. Serjeant and Ronald Lew o k: Sana,a AN ARABIAN ISLAMI ITY, Landon 1983.
خامساً: المعاجم والموسوعات
أطلس العالم الصحيح: جماعة من أساتذة الجغرافيا والتاريخ، بيروت، دار مكتبة الحياة، د.ت.
الأعلام (قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين): خير الدين الزركلي، بيروت، ط:3، 1970م، أخرى: بيروت، دار العلم للملايين، ط: 5، 1980م.
أعلام المؤلفين الزيدية: عبد السلام بن عباس الوجيه، عمَّان، مؤسسة الإمام زيدي بن علي الثقافية، 1420هـ/ 1999م.
تاج العروس من جواهر القاموس: مرتضى الزبيدي، القاهرة، المطبعة الخيرية، 1306هـ.
التعداد العام للمساكن والسكان لعام 1986م: الجمهورية العربية اليمنية، رئاسة مجلس الوزراء، الجهاز المركزي للتخطيط.
تقويم البلدان: أبو الفداء، إسماعيل بن محمد، اعتنى بتصحيحه وطبعه: رينود، البارون ماك، كوكين ديسلان، باريس، دار الطباعة السلطانية، 1940م.
دائرة المعارف الإسلامية: أصدرها بالإنكليزية والفرنسية والألمانية أئمة المستشرقين في العالم، إعداد وتحرير: إبراهيم زكي خور رشيد وآخرون، القاهرة، دار الشعب، د.ت.
دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: حسن الأمين، بيروت، ط:2، 1393هـ/1973م.
دائرة المعارف: بطرس البستاني، بيروت، دائرة المعرفة، د.ت.
الرائد: جبران مسعود، بيروت، دار العلم للملايين، 1978م.
القاموس الإسلامي: أحمد عطية الله، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1390هـ/1970م.
القاموس المحيط: محمد بن يعقوب الفيروزابادي، المطبعة المصرية، ط:3،1352هـ/1933م.
لسان العرب المحيط: ابن منظور، قدم له: الشيخ عبد الله العلايلي، إعداد وتصحيح: يوسف خياط، بيروت، دار لسان العرب، د.ت.
مجموع بلدان اليمن وقبائلها: محمد بن أحمد الحجري، تحقيق: إسماعيل بن علي الأكوع، بيروت، دار النفائس، 1404هـ/1984م.
مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، بيروت، دار الكتب العلمية، د.ت.
المعجم الأدبي: جبور عبد النور، بيروت، دار العلم للملايين، 1979م.
معجم البلدان: ياقوت الحموي، بيروت، دار صادر للطباعة والنشر، دار بيروت للطباعة والنشر، 1376هـ/ 1957م.
معجم البلدان والقبائل اليمنية: إبراهيم أحمد المقحفي، صنعاء، دار الكلمة، ط:2، 1406هـ/1985م، أخرى: صنعاء، دار الكلمة، بيروت، المؤسسة الجامعية، ط:3، 1422هـ/2002م.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية: حمد الجاسر، الرياض، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، 1397هـ/1977م.
معجم الدولة العثمانية: د. حسين مجيب المصري، مكتبة الأنجلو المصرية، د. ت.
المعجم الذهبي فارسي- عربي: د. محمد التونجي، بيروت، دار العلم للملايين، 1969م.
المعجم السبئي: ا.ف.ل بيستون وآخرون، بيروت، دار نشر بيترز لوفان الجديدة، مكتبة لبنان، 1982م.
المعجم الفلكي: أمين فهد المعلوف، القاهرة، مبطعة دار الكتب المصرية، 1354هـ/1935م.
معجم قبائل العرب القديمة والحديثة: عمر رضا كحالة، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1412هـ/ 1991م.
المنجد في اللغة والأدب والعلوم: بيروت، المطبعة الكاثوليكية، ط:19، د.ت.
موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية: د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، ط: 6، 1974م.
الموسوعة العربية الميسرة: إشراف: د. محمد شفيق غربال، دار الشعب ومؤسسة فرانللين للطباعة والنشر، 1959م.
الموسوعة اليمنية: إعداد وإشراف وتحرير: أحمد جابر عفيف وآخرون، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1412هـ/1992م.
هجر العلم ومعاقله في اليمن: إسماعيل بن علي الأكوع، بيروت، دار الفكر المعاصر، دمشق، دار الفكر، 1416هـ/1995م.