الكتاب : الهجرة والوصية المؤلف : لإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم بن اسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام |
الهجرة والوصية
تأليف
الإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم بن اسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
وبعد:
فاستجابة لقول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال:24]ولقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، [آل عمران:104]ولقوله تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، ولقوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33]ولقوله تعالى: {إنما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة:55].
ولقول رسول الله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم :((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))، ولقوله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم : ((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى))، ولقوله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم : ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء))، ولقوله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم : (( من سرّه أن يحيا حياتي؛ ويموت مماتي؛ ويسكن جنة عدن التي وعدني ربي؛ فليتول علياً وذريته من بعدي؛ وليتولّ وليه؛ وليقتد بأهل بيتي؛ فإنهم عترتي؛ خُلقوا من طينتي؛ ورُزقوا فهمي وعلمي )) الخبر- وقد بيّن صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم بأنهم علي؛ وفاطمة؛ والحسن والحسين وذريّتهما عليهم السلام، عندما جلَّلهم صلى اللّه عليه وآله وسلم بكساءٍ وقال: ((اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) - .
استجابةً لذلك كله كان تأسيس مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية بصعدة.
ففي هذه المرحلة الحرجة من التاريخ ؛ التي يتلقى فيها مذهب أهل البيت(ع) مُمثلاً في الزيدية، أنواعَ الهجمات الشرسة من أعدائه الظاهرين ومن أدعيائه المندسين، رأينا المساهمة في نشر مذهب أهل البيت المطهرين صلوات الله عليهم عَبْر نَشْرِ ما خلّفه أئمتهم الأطهار عليهم السلام وشيعتهم الأبرار رضي الله عنهم، على أن نقدمها للقارئ الكريم نقيّة خالصة من الشوائب، لتصل العقيدة الصافية إليه سليمةً خاليةً من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، وما ذلك إلا لثِقَتِنا وقناعتنا بأن العقائد التي حملها أهل البيت(ع) هي مراد الله تعالى في أرضه، ودينه القويم، وصراطه المستقيم، وهي تُعبِّر عن نفسها عبر موافقتها للفطرة البشرية السليمة، ولما ورد في كتاب الله عز وجل وسنة نيبه صلى الله عليه وآله وسلم.
واستجابةً من أهل البيت صلوات الله عليهم لأوامر الله تعالى، وشفقة منهم بأمة جدهم صلى الله عليه وآله وسلم، كان منهم تعميدُ هذه العقائد وترسيخها بدمائهم الزكية الطاهرة على مرور الأزمان، وفي كل مكان، ومن تأمّل التاريخ وجَدهم قد ضحّوا بكل غالٍ ونفيس في سبيل الدفاع عنها وتثبيتها، ثائرين على العقائد الهدَّامة، منادين بالتوحيد والعدالة، توحيد الله عز وجل وتنزيهه سبحانه وتعالى، والإيمان بصدق وعده ووعيده، والرضا بخيرته من خَلْقِه.
ولأن مذهبهم صلوات الله عليهم دينُ الله تعالى وشرعه، ومرادُ رسول الله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم وإرثه، فهو باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومنْ عليها، وما ذلك إلا مصداق قول رسول الله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم: ((إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)).
"واعلم أن الله جل جلاله لم يرتض لعباده كما علمتَ إلا ديناً قويماً، وصراطاً مستقيماً، وسبيلاً واحداً، وطريقاً قاسطاً، وكفى بقوله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وقد علمتَ أن دين الله لا يكون تابعاً للأهواء: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون:71]، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32]، {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
وقد خاطبَ سيد رسله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم بقوله عز وجل: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(112)وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(113)} [هود:112ـ113]، مع أنه صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم ومن معه من أهل بدر، فتدّبر واعتبر إن كنت من ذوي الاعتبار، فإذا أحطت علماً بذلك، وعقلت عن الله وعن رسوله ما ألزمك في تلك المسالك، علمتَ أنه يتحتم عليك عرفانُ الحق واتباعه، وموالاة أهله، والكون معهم، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، ومفارقةُ الباطل وأتباعه، ومباينتهم {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، في آيات تتلى، وأخبار تملى، ولن تتمكن من معرفة الحق وأهله إلا بالإعتماد على حجج الله الواضحة، وبراهينه البيّنة اللائحة، التي هدى
الخلق بها إلى الحق، غير معرّج على هوى، ولا ملتفت إلى جدال ولا مراء، ولا مبال بمذهب، ولا محام عن منصب، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135]"([1]).
وهنا يتشرَّف مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية بصعدة بتقديم مجموعة من كتب أهل البيت المطهرين عليهم السلام وكتب شيعتهم الأبرار رضي الله عنهم، ومنها هذا الكتاب الذي بين يديك.
وأخيراً يتوجه العاملون بمركز أهل البيت(ع) والمنتسبون إليه بالشكر والعرفان لكل من ساهم في إنجاح هذا العمل، وفي مقدّمتهم عالم العصر، شيخ الإسلام وإمام أهل البيت الكرام/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى وأطال بقاه، سائلين الله عز وجل أن يجعله من الأعمال الخالصة المقبولة لديه، وأن يثبّتنا على نهج محمد وآله محمد.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
إبراهيم بن مجدالدين بن محمد المؤيدي
مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية
اليمن- صعدة، ت(511816)، ص ب (91064)
ـــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة التحقيق]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الطيب الأمين محمد صلى الله عليه وعلى آله الغر الميامين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً:
وبعد:
فإننا نُقدّم هذا الكتاب العظيم إلى عشاق العلم والمعرفة من المسلمين عموماً، وإلى الشيعة الصادقين خصوصاً؛ حيث أنهم المعينون بتطبيق ما يأتيهم عن أهل بيت نبيهم؛ لامتثالهم أمر الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد تضمّن هذا الكتاب القيم وصية الإمام محمد بن القاسم عليه السلام لأولاده وأهله، وضمّن وصيته ما ينبغي لكل أبٍ حنون أن يوصي به أبنائه من تقوى الله وطاعته، والإبتعاد عن محارمه، وكل ما يصلح دينهم ومعائشهم، فكيف بوصية تكون من أبٍ كمحمد بن القاسم؛ إذ يعد من كبار أهل البيت عليهم السلام وعلمائهم وسادات العارفين بالله، فقد أوصى عليه السلام بنيهِ بتقوى الله وطاعته واجتناب محارمه، ثم لم يكتف عليه السلام بذلك بل أوصاهم بما يحفظ أخلاقهم من الإنحراف والزيغ، وبما يحفظ الطابع المتميز لدى السلالة النبوية الطاهرة من الأخلاق العالية والرجولة والشهامة والنجدة، ورأى عليه السلام أنه لا يتم لهم الحفاظ على ذلك إلا بهجرة المدن والقرى وسكنى البادية، لما عايَن بالتجربة والخبرة والدراسة الميدانية أن الفساد والفجور قد غلب على أهل المدن والقرى، وأنهم لا يستطيعون الإلتزام بما أوصاهم به من حفظ دينهم وأخلاقهم ورجولتهم في أجواء الفساد والمنكر، وأن الهجرة هي الواجب على كل مسلم حين يطغى
الفساد ويستفحل، ولم يبقَ له عذر شرعي في البقاء، وهي على أهل بيت النبوة أوجب.
فأوصى عليه السلام بنيه بهجرة المدن والقرى بعد أن طاف أغلب البلدان، وعاين ما فيها من المنكر والبعد عن الدين، واستخبر عليه السلام من يثق فيهم عن البلاد التي لم يصلها ولا عاينها، فرأى أن المنكر والشر وفساد الأخلاق قد عمّ وطمّ، فأشفق على أولاده وعلى دينهم من الإنحراف والزيغ، وأوصاهم بهجرة جميع المدن والقرى، واستقصى وأبلغ في ذلك، وأوصاهم بسكنى البادية ورغّبهم في سكناها، فذكر أوصافها الجميلة المحببة، ووصفها وصفاً بديعاً، وصفاً تميل إليه النفوس التواقة إلى معالي الأخلاق، وذكر لهم فوائد البادية من الناحية الصحيحة والمعيشية والإجتماعية والأخلاقية التي ينبغي أن يقصدها كل عاقل، وزاد في ترغيبهم في سكنى البادية بأن ذكر لهم أنها كانت مسكن آبائهم وأجدادهم ومساكن الأنبياء عليهم السلام من قبلهم ومساكن الأشراف وأهل الرجولات من قبائل العرب، حتى كان يقال ويعتقد أنه لا يتم لقبيلة شرف إلا إذا كان لها بادية تتبدى إليها وتنزلها.
وذكر لهم عليه السلام مساوئ المدن والقرى التي ينبغي أن ينفر عنها كل عاقل، ذكر مساوءها من مختلف النواحي:
* فمن الناحية الدينية لا غبار على فساد الدين وانتشار المنكر آنذاك.
* ومن الناحية الأخلاقية ذكر عليه السلام سوء الأخلاق فيها وفشوّه حتى أصبحت منكرات الأخلاق عادة لا تنكر، بسبب تجمعهم من مختلف البلدان والأجناس، فلم يبقَ عندهم حتى الحياء الذي يكون بسبب تعارف الناس وارتباطهم بنسب أو عرق، لأنهم أصبحوا أخلاطاً لا تربطهم رابطة، فالعزيز عندهم ذليل، والشريف وضيع، والوضيع شريف.
* ومن الناحية الصحية ذكر عليه السلام قذرَ شوارعها ونتنها وفساد الجو بأبخرة الكرابيس؛ والنجاسات في الأزقة والطرق؛ وذكر عليه السلام ضيق المعيشة في المدن والقرى وبخل أهلها وشحهم.
وجعل عليه السلام السعادة في سكنى البادية وإرتيادها، واستطرد عليه السلام في ذكر أوصافها وفوائدها من جميع النواحي:
* فالمعيشة فيها سهلة بين أهل كرام.
* والجو فيها نقي بعيد عن الكدر والوخامة.
* وفيها يترعرع الإنسان على الرجولة وكرم الأخلاق.
ثم أوصى عليه السلام أولاده بالسياسة الأسرية الناجحة، وكيف يسوسون أهلهم وحرمهم وجواريهم وغلمانهم، فقد أبدى عليه السلام بدائع النصائح وغرر الحكم، ومن يتأملها يجدها دستور حياة ينبغي لكل مسلم بل لكل إنسان أن يجعلها دستور حياته.
وما أوصى به عليه السلام من هجرة المدن والقرى لأحرى أن يطبقه الإنسان في عصرنا هذا؛ حيث أصبح فسادها أكثر بكثير مما ذكره عليه السلام في زمانه.
وقد يرى عشاق المدن ومريدوها أن هذه دعوة إلى الإنغرالية، والتقوقع؛ ففي المدن رغد العيش والقرب من مصادر الثقافة والعلوم.
فإنّا نقول: بل في هجرة المدن الفرار بدين الإنسان وأخلاقه ورجولته، والمدن وإن كان فيها بعض مظاهر الرفاهية فإن فيها من المساوئ ما يفوق ذلك بأضعاف مضاعفة حتى من النواحي غير الدينية، فلقد أثبتت الدراسات البيئية والصحية والإجتماعية الحديثة والمسوحات الجغرافية والسكانية أن تكدس السكان وتراكمهم في المدن أصبح يشكل خطورة من الناحية الصحية والإجتماعية والإقتصادية؛ خصوصاً في مدن الدول النامية والفقيرة، وانتشار الإنحراف والبطالة في أوساط الشبان، وكذا حتى المدينة الحديثة في الدول المتطورة وإن كانت قد استطاعت السيطرة على كثير من المشاكل التي يخلقها إزدحام السكان إلا أنها لم تستطع التخلص من الخطر الذي يهدد صحتهم بسبب الضجيج وأدخنة المصانع والسيارات، علاوة على ما قد وصلت إليه مجتمعات مدنهم من الإنحطاط ورذالة الأخلاق.
فالحالة المعيشية أصبحت في المدن الحديثة صعبة ومعقدة، ولا يستطيع الإنسان أن يوفر لنفسه أدنى معيشة إلا بجهد وعناء كبيرين، خصوصاً مع انعدام الشفقة والكرم والعطف لدى أهالي المدن.
أما دعوى أن في سكنى المدن القرب من مصادر الثقافة والعلوم فهذا غير صحيح، لأن تعقيد الحياة في المدينة وصعوبتها أصبح مشْغَلة ومضْيَعة للوقت وملْهَاة عن اكتساب العلوم والإبداع فيها، لأن الإنسان إذا ما راقب نفسه فسيجدها منشغلة بسفاسف الأمور ذاهلاً عما لأجله وُجِد في هذه الحياة الدنيا، إلا إذا أراد الزاعمون بمصادر الثقافةِ الثقافةَ الزائفة في الصحف والمجلات، الذي من اعتمد على بناء ثقافته منها ستكون ثقافته مشوهة وهشة خصوصاً الثقافة الدينية إلا ما كان منها مختصاً بالدراسات العلمية البحتة.
وقد يُشْكل حين يذكر عليه السلام أيضاً القرى والهجرة منها، لكن لعله عليه السلام يريد القرى التي أصبحت تشبه المدن في نظامها في عمرانها وتلاصق بيوت أهلها، وانتظامها على شكل شوارع وسكك بحيث يؤدي نظام تلاصق البيوت وتراص السكك إلى أن يقع الإنسان في بعض المعاصي التي تكون بالسماع على الأقل كالغناء والكلام الفاحش، فلا يستطيع الإنسان في ظل ذلك النظام الإستقلال بأهله وتربيتهم بسبب الإختلاط وتأثير المحيط الإجتماعي.
أما إذا كانت البيوت منفردة كل في ناحية بحيث يستطيع الإنسان الإحتراز عن سماع المعاصي وحفظ أهله والإستقلال بتربيتهم، وسوسهم على الأخلاق السامية والشهامة؛ فلا بأس بذلك كما يُفهم من كلامه عليه السلام.
وحين يتأمل القارئ وصيته عليه السلام يجد أنه قد سبق عليه السلام ما طرحته الدراسات الحديثة عن مساوئ المدينة ومضارّها؛ فإن دل ذلك على شئ فإنما يدل على عظمة أئمة أهل البيت عليهم السلام وموسوعيتهم العلمية والفكرية حتى كادت حجّيتهم ترجح حتى في مسائل الحياة والمعيشة، لعلو كلامهم ودقته في ذلك، وما هذا إلا فضل من الله وبسْطة، والله يؤتي فضله من يشاء والله واسع عليم.
ـــــــــــــــــــ
[ترجمة المؤلف عليه السلام ]
هو محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، العالم النحرير، كان بالغاً في العلم والفضل وخصال الكمال جميعاً مبلغ الأئمة السابقين، وكان ورعاً فاضلاً مجاهداً في سبيل الله، بلغ في الزهد والورع منزلة رفيعة.
قال الإمام المنصور بالله القاسم بن علي عليه السلام في كتاب التنبيه والدلائل:
سمعت أبي يقول حين سأله جماعة من شيعة القاسم عليه السلام عن إمامة محمد بن القاسم وتوافر شروطها، فقال: حدثني أبي عبدالله بن محمد وعمي عبدالله بن الحسين بن القاسم قال: سمعت أبي القاسم وهو يقول: صحبت الصوفية أربعين سنة، ودُرْت المشرق والمغرب ولم أرَ رجلاً أكْيَس ورعاً من ابني محمد.
وعن إمامته عليه السلام قال الإمام المنصور بالله عليه السلام فيما رواه عن أبيه قال: قال أبي رحمة الله عليه: كان محمد بن القاسم صلوات الله عليه قد باع من الله نفسه، فخرج إلى الحيرة هو وأخوه سليمان بن القاسم فنزل على أشهب بن ربيعة فبايعه وأخذ له بيعة كبيرة، وكانت له بيعة باليمن، وأخذ له ابن الحروي بيعة بمصر، وكتب إليه وهو بالحجاز يخبره بمن بايع له وبكثرة أنصاره، فلم يرَ صلوات الله عليه التخلّف بعد ما اتصل به من علم ذلك ما اتصل، فخرج إلى مصر ثم ورد عليه كتاب ابن الحروي يخبره فيه أن جيوش بني العباس قد ضبطت البلاد وأن من كان بايعه قد ذهب ونكث بيعته، ولم يكن رحمه الله صحبه من الحجاز إلا شرْذمة - تقل عن مكافحة العساكر- من ولد الحسن والحسين وجعفر وعقيل وجماعة من قريش ونفر من العرب يسير، فكَرِه صلوات الله عليه أن يلقي بشرذمة من المؤمنين قليلة إلى التهلكة.
وقال الإمام القاسم عليه السلام وكانت له بيعة بطبرستان وبيعة بكرمان، وكان صلوات الله عليه حريصاً مجتهداً في الأمر حتى علت سنه ولزمه مرض في ركبتيه أزمنه فزال عنه فرض القيام عند ذلك.
وقال الإمام القاسم أيضاً: قال أبي رحمة الله عليه لمن سأله: وأما الهادي رحمة الله عليه فلم يقم حتى آل عمه إلى الحال الذي سقط عنه فرض القيام بما تقدم ذكره أولاً، وكان قيام الهادي قبل وفاة عمه عليهما السلام بسنة، وعمه يومئذٍ زمن لا يقوم، وله إذ ذاك من السنين نيفاً وثمانين سنة رحمة الله ورضوانه عليهما، انتهى من كتاب التنبيه والدلائل.
وقد ورد في سيرة الهادي عليه السلام لعلي بن محمد بن عبيد الله العباسي العلوي أن الإمام محمد بن القاسم كان من المشيعين للهادي عليه السلام عند خروجه إلى اليمن ضمن مشائخه وعمومته.
وكان يقول محمد بن القاسم لإبن أخيه الهادي: يا أبا الحسين لو حمَلتني ركبتاي لجاهدت معك يابني، أشركنا الله في كل ما أنت فيه وفي كل مشهد تشهده وفي كل موقف تقفه، فكان عليه السلام مجاهداً في سبيل الله لا يخاف الله لومة لائم، ومُطَارَداً من بني العباس، وقد تنقّل في أكثر البلدان فقد أقام ببغداد، والبصرة، ودخل الأهواز، وخراسان، والشام، ومصر، والمغرب، وسكن آخر مدته بادية الحجاز حيث كان يفضل سكناها لما رأى من إنتشار المنكر في الأمصار، كما كان يفضل ذلك والده القاسم بن إبراهيم وهو ما أوصى به أولاده في هذه الوصية التي بين يديك أخي القاريء، وقد تفرّغ عليه السلام في بادية الحجاز لتدريس وإملاء العلوم على أولاده وأبناء إخوته حيث كان أستاذ الإمام الهادي عليهم وشيخه من بعد والده الحسين بن القاسم.
وقد بلغ عليه السلام مبلغاً عظيماً في علمه وزهده وورعه كما وصفه بذلك والده القاسم.
وكان مهاباً في آل أبي طالب محترماً، وفي ذلك ما يقول الإمام القاسم بن علي قال: حدثني أبي قال: حدثني أبوالقاسم طاهر بن يحيى بن الحسن الحسني قال: كان بنوا أبي طالب إذا أتى محمد إلى جماعتها لا يتكلم بين يديه منها متكلم إلا من بعد كلامه.
ومازال عليه السلام مجاهداً في سبيل الله ناشراً علمه حتى وافته المنية في أواخر سنة (284هـ) واشتهر عليه السلام بالتأليف والتصنيف فمن مؤلفاته:
1- الأصول الثمانية مختصر في أصول الدين.
2- تفسير القرآن الكريم وهو ضمن تفسير المصابيح.
3- تفسير بعض الآيات القرآنية وتفسير سورة يس.
4- شرح شروط الإيمان شرحَ فيه خطبة أمير المؤمنين (بني الإيمان على خمس دعائم).
5- الشرح والتبيين في أصول الدين.
6- الهجرة والوصية وهو هذا الذي بين يديك.
7- أجوبة على أسئلة في حكاية موسى في القرآن.
وهو السائل عليه السلام لوالده القاسم في كتاب العالم والوافد.
* مصادر الترجمة:
1ـ أنوار اليقين.
2ـ الحدائق الوردية.
3ـ التنبيه والدلائل.
4ـ سيرة الإمام الهادي.
5ـ الجزء الأول من تفسير المصابيح المطبوع.
6ـ الإمام الهادي والياً وفقيهاً ومجاهداً.
ولا يسعنا في الأخير إلا أن ندعوَ كل من لديه قدرة على التحقيق أن يساهم في إخراج التراث العلمي المظلوم لأهل البيت بأمانة؛ دون مسخ أو تحريف، لا كما يفعل المحققون الممحقون من مَسْخ لما يخرجونه إما بإثقال الكتاب بحواش بعضها توهن من بعض ما يُطرح في الكتاب، أو تتضمن رأياً مناقضاً لقناعة المؤلف وما طرحه، أو بَتْر نص من مؤلف آخر، وطرحه وتوجيهه في صورة رد على صاحب الكتاب، أو مسخ الكتاب بمقدمات مطوّلة، وحشو من الكلام لا طائل تحته حتى قد تقارب أحياناً في حجمها حجم الكتاب، وقد تتضمن أحياناً طرحاً مخالفاً لمضمون ما في الكتاب، أو توجيهاً خاطئاً لما ورد في الكتاب، والبعض يُراد منه الإيهام بتوفر القدرة العلمية والفكرية للمحقق في المناقشة والإستدراك والإستنباط، وكل ذلك يقلل من شأن الكتاب ويتوّه قارئه خصوصاً الكتيبات الصغيرة، والمختصرات التي يؤلفها الأئمة للمبتدئين من الطلاب والعوّام من الناس، فيكون ما تكلمنا عليه من المسخ أشد خطراً على هؤلاء لعدم توفر المقدرة العلمية لديهم لمعرفة الصحيح من السقيم، والضعيف من القوي، وخصوصاً مع عدم توفر الأساتذة الأكفاء، وقد تُقْرأ غالباً على شكل انفرادي فيعيش بما فيها من المسخ من يقرأها ممن ذكرنا في إرتجاج فكري واعتقاد مشوّه لأهل البيت عليهم السلام وعلومهم الفيّاضة.
أما المحققون الذي ليس لهم القدرة على التحقيق فلا ينبغي أن يتصدروا لذلك، وبقاء الكتاب مخطوطاً أفضل بكثير من إخراجه في حالة يُرثى لها.
ـــــــــــــــــ
وختاماً أسأل الله العلي القدير أن يجعله من الأعمال الخالصة المقبولة لديه، وأن يثبّتنا على نهج محمد وآله الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
عبدالله ناصر أحمد عامر
مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية
اليمن - صعدة- ت(511816)ص ب(91064)
ـــــــــــــــــ
[مقدمة المؤلف]
وبه نستعين، الحمد لله رب العالمين، هادي من اهتدى من المهتدين، وولي رشد من رشد من الراشدين، هو الله الذي دل على وحدانيته وربوبيته، بما أراهم من شواهد آياته في أرضه وسماواته، وبما أظهر لهم في أنفسهم من آثار قدرته بتقديره وتدبيره إياهم، وحكمته في تأليف خلق أعضائهم وأبدانهم، باطنها وظاهرها، وما في ذلك وفي حواسهم الخمس، من أبصارهم التي بها يبصرون، وشوامهم التي بها يميزون بين الأرياح الطيبة، والمشمومات المنتنة، وحاسة الذوق من اللسان والفم، التي بها يميزون ويفهمون مذاق كل ما له طعم، وحاسة السمع التي يدركون بها كل مسموع من الأصوات، ويفهمون ما فيه من ضر ونفع، (والحاسة) الخامسة التي في جميع البدن، وهي حاسة اللمس اللامسة، التي بها يوجد كل حر وبرد، ويابس ورطب، وخشن ولين، مع ما لا يحصى ولا يؤتى عليه بعدد.
ومن آثار حكمته وتدبيره في جميع كل ما صنع ودبر من الإنسان وغير الإنسان، وجميع ما في الأرض، برها وبحرها، من الدواب، والطير، والحيوان المختلفة في صورها، وهيئاتها وتركيبها، وأغذيتها، وأصواتها، وظلها، وكل ما في السماوات والأرض من الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوان، والشمس، والقمر، والنجوم، وما يحدث الله بجريها وطلوعها وأفولها من تغير الزمان، وما تدرك به الليالي والأيام، من العدد والحساب، وإحاطة الفلك بذلك كله، ودوره على أعلاه وأسفله، دائماً لا يفتر طرفة عين، عند فكر من فكر ونظر، ولا في غفلة الغافلين، وما في الحيوان في البر والبحر، من الإنسان، وغير الإنسان من عجيب صنعته، أزواج الإناث والذكران، وتصريف نسولهم في الأرحام، وما يكون منها يبيض في العش والأكنان، واختلاف أحوالها في الصور والهيئات والاعتدال والألوان، التي إنما تحيط العقول والفكر إذا اجتهدت وتفرغت لإجالة التفهم والنظر بقليل من كثير، وصغير من كبير ما يحيط به صانعها، الذي صنع كل عجيب حكمة، فابتدع، فلا بد أن يفهم كل ناظر نظر ومفكر عاقل فكر أن لما ذكرنا من المبتدعات مبتدع، إذ لا بد لكل موضوع مصنوع محدث من واضع، كما لا بد باضطرار لكل مُدَبَّر من مُدَبِّر، وكما لا بد لكل مرفوع وإن لم نر من رفعه من رافع، وكذلك كل مصوَّرٍ أو مبني وإن لم نر من صوره وبناه، فلا بد له من مصوِّر بانٍ، وكذلك فلا بد للإنسان وغير الإنسان من الحيوان من خالق خلقهم، ومصوِّر صورهم، وتولى
صنعهم وتدبيرهم، وابتداعهم، وتصويرهم، وذلك فهو الله، الواحد الحكيم، الأول قبل كل أول، والقديم الجواد الذي كل من فضل جوده، الرؤوف الرحيم الذي هو أرحم وأرأف بجميع ما خلق من الوالد الرحيم بولده، بل رحمة الآباء والأمهات من فضل رحمته، ولا بد لكل مُدبَّر محكَم مصرَّفٍ من مُدبِّر حكيمٍ مصرِّف، وبلا شك فلا بد لكل ما وُجد مُبْتَدعاً محدَثاً مُصوَّراً مصنوعاً مؤلفاً، من مبتدعٍ صانع محدث مؤلِّف مصوِّر بل قد شهدت فطرُ العقول عند كمال فطرتها قبل جولانها بالنظر وغوص الفكر أنه رب كل الأشياء مما في الأرض وفي السماء، وولي صنعتها، وتلك في جميع الناس وكل البشر سودانهم وحمرانهم من كل الأجناس معرفة طباع وفطرة، إذ لا يحتاج معها إلى نظر وفكرة، وهو الله الذي لا تشبهه جميع الأشياء، ولا تشبهه في شيء من صفاتها، لأنه لو أشبه شيئاً من أجزائها أو كلها، للحق به ما يلحق بها من صفاتها وأسمائها، حتى يكون بكثير مما وصفت به موصوفاً إذ كان كل شبيه لما يشبهه مثيلاً، ولحاله أو ببعضها معروفاً، والله تبارك وتعالى الواحد الحق في الواحدانية، الأول الذي لا مثل له في القدم والسبق والأولية، البعيد من شبه ما براء وفطر وصنع من البرية، بل هو الله الذي ليس كمثله شيء كما قال سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:11]، وهو الله ذو القوة التي لا تبلغها قوة، والقدرة العالية فوق قدرة كل قدير، كل من خلق سبحانه من خليقته فهم مفطورون على معرفته بأبين
معرفة، أنه ليس له نظير ولا صفة، كما يعرف الأطفال بإلهام الله إياها، بغير فهم ولا فكرة، بل بما ركب فيهم من غريزية الطباع والفطرة.
وكذلك يقال فيما قد اتفقت به الأخبار، وجاء في كثير من الآثار: (إن الملائكة والجن والإنس والبهائم كلها والأطفال، مفطورون على معرفة الصانع الإله البارئ ذي الجلال والإكرام) فللملائكة في المعرفة به وبجلاله وعظمته، أفضل مما للجن والإنس، والبهائم في معرفتها بربوبيته خلاف معرفة ذوي العقول المكلفين، وهي معرفة طباع وولوه غريزية، لا كمعرفة ذوي العقول الناطقين، وكل بني آدم من أهل الإيمان والمشركين، فيثبتون الله صانعهم وصانع كل جميع ما يرون، لا يشكون في ذلك جحوداً لصانعهم ولا يمترون، وإن ضلوا بعبادة الأوثان، وقد ذكر الله ذلك عن مشركي أهل الجاهلية في آي من القرآن إذ يقول سبحانه:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[ لقمان: 25]وقال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}[الإسراء: 67]، فهو الله الأول قبل كل أول، وهو الله الآخر الباقي بعد كل ما خلق وجعل، وهو الله المعروف الظاهر في فطرة العقول بأيقن الإيقان، وهو الله الباطن الخفي عن درك العيون، كما قال سبحانه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الحي القيوم ذي العظمة والجلال، الذي لم يزل ولا شيء غيره ولا يزال، كان قبل كل خلق وزمان، ولا يزال إلى غير غاية ولا ميقات أوان، لا يتبدل ولا يتغير، ولا يلم به عرض من الأعراض فيتحول، جل عن ذلك وتقدس من ليس له نظير ولا مثيل، فاطر كل موجود، وليس محيط به شيء من الأشياء، جل وعلا عن صفة المحدود، ذو البقاء والثبات والدوام، لا تجري عليه ولا تناله ساعات الليالي والأيام.
وكيف يجري عليه أو يحيط به، من ليس بينه وبينه مشابهة ولا صلة، وما هو سبحانه خلقه وصنعه، ولم يزل متقدماً قبله، وإذ الليالي والأيام وما مضى وبقي من الزمان، عدد حركات الفلك ودور الشمس والقمر والنهار علامته ظهور الشمس، وجريها في السماء فوق الأرض، ووجودها. والليل فعلامته تغيب الشمس تحت الأرض وفقدها، والشهر فهو قطع القمر للفلك ونزوله في جميع بروجه، فإذا أتى على بروجه كلها بسيره وجريه ودوره فذلك شهر.
والسنة:هي نزول الشمس ودورها على جميع منازلها من الفلك، فإذا نزلت في جميع منازل البروج وقطعت الفلك فذلك سنة، وبدور هذه النجوم وبالسنة والشهر والليلة واليوم، يدبر الله سبحانه ما خلق.
والزمان: فهو عدد حركات جري الشمس والقمر والفلك، وهذا العدد وقته حساب القمر الذي وقته الله للإنسان وغير الإنسان، قال الله سبحانه: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11].
والكتاب هاهنا فهو: العلم من الله بما يعطي خلقه ويهب لهم من الأعمار، فيكون معلوماً عنده علماً لا يتغير.
فشبهه الكتاب يثبت ثبات ما لا زيادة فيه ولا نقصان، كثبات ما رقم بالخط من الحساب، تمثيلاً من الله سبحانه لبيان علمه بما كتب، فهو في اللسان العربي لا يحتمل غلطاً ولا زيادة ولا نقصاناً بعد تصحيحه ورقمه، ولا يتوهم من يعقل أن الكتاب هاهنا خط من الخطوط، بل هو الأمر الثابت في علم الله وحكمته، وقال تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5]يريد بالحسبان: الحساب، فليس شيء مما خلق الله تبارك وتعالى في الأرض ولا في السماء إلاَّ وهو يجري عليه الزمان من الإنسان وغير الإنسان، غير أن السماوات من المخلوقات هي أبعد في الضعف والبلاء والآفات، لأن السماء أكرم بنية من الأرض، وهكذا فضل الله بعض الخلق على بعض.
وكذلك ما في الأرض أوهى(يابني): وأضعف مما في السماء السفلاء، وما في السماء من نجومها وملائكتها أقوى وأبقى بتبقية الله مما في الأرض السفلاء من الإنسان وغير الإنسان، قال الله تبارك وتعالى وهو يصف ضعف الإنسان وبدء خلقه، ثم قوته في أوسط عمره، ورجوعه إلى الضعف والبلاء في آخر مدته وأيامه {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم: 54] فسبحان خالق الأرض والسماء، الذي ليس لغيره دوام ولا بقاء، كل ما سواه فإلى زوال وفناء، هو معمر المعمرين، ومفني من مات وهلك من الميتين، لا تجري عليه سبحانه مدد الأزمنة والدهور، وهو مدبر الخلق والأمور، وإليه المنقلب والمعاد والمصير.
وبعد يابني وولدي: فهذه وصيتي لكم واختياري، حين كبرت سني وجربت الأمور وأدبر عمري، وأشرفت على الرجوع إلى صانعي وإلهي وخالقي، وخفت أن يحول الموت الذي لا بد منه لكل مخلوق بيني وبينكم، فتبقوا أغماراً جهلاء بما فيه رشدكم، وألاَّ تجدوا بعدي من يفهمكم ما فيه صلاحكم، في أموركم ومعايشكم، لما سترون من اختلاف أخبار الناس عليكم في الأديان، ومصالح المعاش والآداب، وأخبار البلدان، واختلاف الناس في هذا كله قليله وكثيره إنما هو باتباع أهوائهم، واختلاف عقولهم وآرائهم، وما قبلوا من غيٍّ أو رشادٍ أو خطأٍ، والخطأ الغالب عليهم من آبائهم، إذ حقت الفرقة لكم بالوفاة، وأن تبقوا بعدي بين قرابة وعامة أكثرهم جفاة، وكنتم أحداث الأسنان، لم تخبروا حوادث الدهر والزمان، ولم تفهموا أمور الناس واختلافهم في الأديان، ولا كيف التأني في المعائش ومصالح الإنسان، وما يحسن من الأمور والأخلاق، ومواضع البُلَغِ والإرفاق.
فرأيت يابني إن أضع لكم إن أبقاكم الله ما تحتاجون أعظم الحاجة في أصول الدين طرفاً، وأن أرسم لكم الصواب إن شاء الله تعالى، وبعون الله وهدايته، في أمر معايشكم والإختيار لكم، ولمن لعل الله أن يهبكموه من نسل بعدكم.
ومن قبل وصيتي من ولدِ جدكم القاسم بن إبراهيم رحمة الله عليه يزول به عنكم شكوك الحيرة، وتكفون به إن شاء الله في الإختيار والإعتبار، والإعتبار طول الأمد في التجارب والخبرة ولم أضع لكم ما وضعت من وصيتي إياكم في هذا الكتاب إلاَّ بعد طلوعي في العمر على الستين سنة.
[خبرته عليه السلام بالبلدان وطبائع أهلها]
وبعد والحمد لله ما أحطت بكثير مما لا يستغنى عن خبرته من أمر الدين والدنيا، حتى أتيت فيه على أكثر ما يحتاج إليه في البحث والخبرة، وبعد أن نظرت في كثير من علم العرب، وكثير من علم العجم، وبعد أن خبرت بالمحاضرة وتخبرت بالمسألة أخبار كثير من البلدان والأمم، فمن الأمم من خبرته بالمشاهدة والمعاينة والمجاورة والمساكنة، ومنهم من تخبرت عنه من يخبره ممن يجاوره ويساكنه ممن أثق بخبره وفهمه وصدق حديثه، حتى كأني رأيتهم في بلدانهم، وكأني عاينت جميع أمورهم وشأنهم، ومن البلدان ما رأيته عياناً، وسكنته زماناً.
فأما الذين فهمت شأنهم وأديانهم وآدابهم وأخلاقهم، فالعرب من اليمن ومن نزار، الأبرار منهم والفجار، والفرس، وأهل خراسان، والسند، والروم، والسودان، فهؤلاء الأجناس والعرب منهم قد خبرتهم في بلدانهم وأوطانهم، وفهمت ما هم عليه من مذاهبهم وأخلاقهم، فأمَّا من سميت من أجناس العجم، فقد خبرت بعضهم في بلدانهم، وفهمت كثيراً مما هم عليه في أرضهم من شأنهم.
فمما سكنت وخبرت وتخبرت من أرض العجم، العراق أقمت به سنين ببغداد والبصرة حيناً وزماناً، ودخلت الأهواز ورأيت أهل كورٍ كثيرة من أهل خراسان، وفهمت برؤيتهم والأخبار عنهم ما هم عليه أو أكثره في بلدانهم من الأخلاق والشأن، ودخلت بعض أرض السودان من البجة، وطرفاً من مواضع الحبش.
وأما المغرب والبربر والتحرير([2]) والبحرين فإن أبي رحمه الله كان قد أقام بمواضع من أرض المغرب دهراً، وسار إلى أقصاها أشهراً.
(والشام) وغيرها من بلدان الإسلام، فقد بحثت عنها بحثاً شافياً حتى كنت بالإستخبار عنها، وبالفتش والعناية وما كان لأبي عنها من الإختبار، فصرت عن معاينتها مستغنياً مكتفياً، ولو كانت الخبرة والعلم في الأمور والبلدان لا يكتفى فيها بصحيح الخبر والإستغناء في فهمها إلاَّ بالعيان؛ لما فهم أحد ما لم يعاين، ولا كان له بغائب إيقان، ولكثرة الأمم وبلدان العرب والعجم عن أن تدرك بالعيان وتفهم، ولكن كل غائب يثبت عنه صحيح الخبر، فذلك يشفي فيه ويدرك به منه مثل ما يدرك بالمعاينة والنظر.
ولو لم يكن ما ذكرنا يدرك ويفهم إلاَّ بالعيان؛ لقصر عن ذلك أطول عمر الإنسان وسأنبئكم إن شاء الله تعالى عن كثير مما صح عندي من أخبار الأمم وشأنها وأخبار كثيرة مجملة من أخبار بلدانها، إذا جاء وقت الإخبار عنه في مواضعه ([3])، فتمسكوا إن شاء الله بفهم ما أخبركم به، فإن في ذلك كفاية لكم كافية، وخبرة قد كفيتكم تحصيلها شافية، فلست آلوكم تحصيلاً لصحيح الأخبار، وما لم يدرك مثله أو بعضه إلاَّ بعد إختلاف أخبار الناس أو بعد عمر طويل وأعمار.
فتفهموا إن شاء الله ولا قوة إلاَّ بالله ما سأبينه لكم، والتوفيق والمعونة من عند الله، تستغنوا بتحصيل ما حصلت لكم من الخبر، عن انتظار التجارب التي لا يحصل لكم منها يقين الفهم إلاَّ بعد طول العمر.
وأنا سأضرب لكم مثلاً جامعاً في قبول ما كفاكم الله خبرته حتى جمعته لكم في آخر عمري معاً، وذلك من المثل فيَّ وفيكم، وفيما ألقيه من محصول حقائق الأخبار في الدين والدنيا إليكم.
(مثل): رجل كان له ولدٌ([4]) صغارٌ جهالٌ أغمار، يحتاجون إلى خبرة الأمور في الدين والدنيا كثيرة واختبارهم لذلك يسلب بينه وبينهم مسافة بعيدة مسيرتها ستون سنة، وكان أبوهم قد أخبرهم خبرها، ودخلها وعاين أكثرها فأخبرهم عنها، وهو والدهم الذي لا شك في نصحه لهم، وعطفه بالرأفة والرحمة والرقة عليهم، فرأى أن يفهمهم ما يحتاجون إلى فهمه، لما خشي أن لا يبلغوه ولا يحيطوا فيه بمثل اختباره وعلمه، فشرح خبر تلك البلاد لهم، وعلم أن ما أحاط هو به مما يحتاجون إليه ولا يستغنون عنه، لن يدركوه إلاَّ في آخر أعمارهم التي شبهها بمسافة البلد.
والبلد فمثل الأمور التي لا يستغنون عن خبرتها ولا يستغني عنها أحد، لأني لم أفهم الأمور التي سأشرحها لكم إلاَّ بعد طول التعمير، والمسافة إلى الإحاطة بالتجارب التي لم أدركها إلاَّ بعد التمييز من الفهم والنظر ستين سنة أو نحوها.
فإنكم إن لم تكتفوا بما أخبرت وجرّبت وأردتم إختبار ذلك لأنفسكم، لم تفهموا منه بعض ما فهمت إلاَّ بعد أن تعمّروا شبيهاً مما عمرت عند إخلاق جدتكم إنِ اللهُ عمّركم وأخّركم، وحينئذ لا يبقى إلاَّ اليسير من أعماركم، فمن كان منكم عقله صحيحاً، يثبت ما في الأصل فسيعلم إن شاء الله أني لم آله إلاَّ رحمة له من الغلط نظراً ونصحاً، بل لعلي أن أكون بسبقي لكم أقوى منكم فهماً، وأحسن تفقداً للأمور وتفهماً، والله أسأل أن يهبكم ألباباً وعقولاً وعلماً.
فخذوا يابني ما قد كفاكم الله به اختباره، واقبلوه وأقروه في العمل به من قلوبكم قراره، والله أسأل لكم العون والرشاد، والتوفيق في أمور دينكم ودنياكم للصواب والسداد، فإنه لا يجتهد لكم قريب ولا بعيد من بعدي في النصح لكم والنظر والشفقة عليكم من الغلط إجتهادي، والله أسأل لي ولكم العون بالرشد والتوفيق، ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم، عليه توكلت وهو رب العرش الكريم، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وعلى الأبرار من ذريته وآله.
فأول: ما أنا قائل لكم، وشاهد به معكم وقبلكم، أن الله ربي وربكم، وخالقي وخالقكم ربنا ورب آبائنا الأولين، وأنه خالق السماوات والأرضين وما بينهما من الخلق أجمعين، الذي أحياني وأحياكم بعد أن لم نكن شيئاً، وهو الذي يميتني ويميتكم سبحانه ولن يزال حياً، فأشهد وتشهدون ألاَّ رب ولا إله غيره وأن إليه منقلبي ومنقلبكم، ومعادنا ومعاد كل مخلوق ومصيره، وأنه إلهنا الذي خلقنا وبرأنا وخلق قبلنا أمهاتنا وآبائنا، فعطفهم بالرأفة والرحمة علينا، فمن إحسانه ونعمه ونعم الآباء وإحسانهم إلينا، وأشهد وتشهدون معاً، أحياء وعند الوفاة ويوم النشور أن محمداً رسول الله وخيرته ومصطفاه، وأنه قد بلغ رسالات ربه، وصدع مجتهداً صابراً مجاهداً بتبليغ ما أمر به فلم يقصر في شيء من أمر الله وطاعته ولم يزل مجتهداً مجداً في الله طول حياته، حتى صار إلى الله راضياً مرضياً، مقدساً رفيعاً عند الله زكياً، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً، وزاده الله من زيادات كرماته تشريفاً وتعظيماً، وأشهد وتشهدون أن إلى الله المنقلب والمصير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
ــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في توحيد الله وطاعته ]
فأول ما أنا موصيكم به حب الله وتقواه وطاعة خالقكم وبارئكم، الذي صنعكم وفطركم، وصوركم فأحسن صوركم، خلقاً من بعد خلق في ظلم الأرحام، كما قال الله سبحانه وتعالى وهو يخبر عن خلق الإنسان: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12)ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14)} [المؤمنون: 12ـ14] فهكذا كما قال تبارك وتعالى أنشأكم وقدركم، وفي هذه التارات والطبقات من التصوير نقلكم وصوركم، فهو أولى بكم من آبائكم وأمهاتكم، إذ ليس للوالدين فيكم حجة غير الحركة التي كانت بها النطفة في الرحم، ثم كان سبحانه هو الذي دبرها وصرفها وبلغها، حتى أتم من خلقه ما أراد أن يتم، رأفة ورحمة وجوداً وكرماً، فوهبكم لآبائكم، وابتداؤكم بخلقكم من غير حاجة منه إليكم، بل لما أراد من الإفضال والجود عليكم، ثم لم تزالوا تقلبون في نعمه وفضله، وعطاياه وكرمه، صغاراً وكباراً، ليلاً ونهاراً، ومع كل نفس وطرفة عين، يعرفكم سبحانه في أول ما ذكرنا وآخره، أنه ربكم ومالكِكُم، ومدبركم ورازقكم، إذ ليس من نعمة أنعمها أب وأم عليكم إلاَّ وهي منه، لا صنع فيها لصانع ولا لوالد، غير أنه أجرى ذلك على يدي الوالدين وأوصله إليكم،
والذي أوصل إليكم بالوالدين من النعم فنعمه فيما ظهر وبطن أكثر من ذلك أضعافاً وأعظم، إذ هي مع كل نفس ولمحة عين وطرفة، وفي كل نوم وهدوء، وعند كل سكون وحركة ونعمة، كما قال تبارك وتعالى أكبر وأوفر وأدوم من أن تعد وتحصى، قال الله سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]وقال: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الإنفطار: 6ـ 8 ]وقال جل وتقدس {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21)ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ(22)كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ(23)} [عبس: 17ـ 23] فذكر نعمة الصنع الأولى التي ابتدأ بها الإنسان طولاً منه وامتناناً، وتفضلاً من خلقه له وصنعه إياه، ثم ثنى بذكر النعمة في طعامه الذي به غذاءه، ومنه مادته وبه أدامه وأبقاه، فقال تبارك وتعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25)ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا(26)فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27)وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28)وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا(29)وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30)وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31)مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ(32)} [عبس: 24ـ 32] يعني سبحانه بلغة لكم في الغذاء الذي به دوامكم في هذه الدنيا وبقاؤكم، وبلغة لأنعامكم، إذ ما أنزله من السماء فصبه صباً هو الذي أنبت به ما ذكر أنه شق الأرض عنه شقاً من الحب والعنب.
والحب: فهو الحبوب كلها، المتغذى بها من البر وغيره من الحبوب التي أنبتها للعباد وكثرها، وبثها في البلاد، فلم يجعلها للمطيعين دون العاصين، بل منَّ بها على البشر كلهم أجمعين.
والقضب: فهو القضب المعروف الذي أنبته الله في الأرض كلها، وجعله غذاء ومتعة لدواب أهلها.
والزيتون: فهو شجر الزيت الذي به يأتدمون.
والنخل: فمنه الرطب والتمر الذي يأكلون.
وحدائق غلباً: والحدائق هي الأرضون التي تضم الأشجار كلها، التي جعل الله لبني آدم منافعها.
والغُلْب: من الحدائق فهي الملتفة العامرة القوية التي قد استغلبت واغلولبت، فهي غلب قد تمت والتلفت وكملت.
والأب: فهو الأصول التي جعلها الله للبهائم والمواشي نابتة عند المطر وبعده، وفي أوقات الجدب من الأشجار النابتة والأصول القوية الثابتة التي بها قوام دوابهم وبهائمهم التي خولهم الله إياها وجعلها قوام معائشهم.
فمن أولى يابني أن يشكر أبداً، ويطاع في كل ما به أمر ممن أنشأنا وأنشأكم، وخلقنا وخلقكم فصور، وعدل وركب الأبدان فسوى وقدر، وأحكم كلما خلق غاية الإحكام بحكمته في جميع ما بطن وظهر ؟.
فهو سبحانه أولى وأحق بنا من الآباء والأمهات؛ لأنه الصانع لنا المصور المنعم علينا بجميع النعم الظاهرات والخفيات.
فأين وإلى أين المعدل عن إعظامه وإجلاله وشكره، فياويل لمن غفل عن اتباع ما أمر، والانتهاء عما نهى، فنهانا عما لا يرضاه، وأمرنا بأداء ما يرضيه فلهى، ساهياً عما يحق ويحب من تسبيحه، وخشيته وذكره.
فعليكم يابني أبداً ما بقيتم، وما بلغته قوتكم وما استطعتم باستشعار حبه، والكلف بذكره في باطن ضمائركم، وخوفه ورهبته في علانيتكم وخفي سرائركم، وأن يكون حياؤكم منه أكثر من حيائكم من أمهاتكم وآبائكم، ومحبتكم له أعظم أضعافاً لا يؤتى على عددها من محبتكم لأولادكم وأحبابكم.
فمن ذا وأين ذا الذي هو أولى بكم ومن جميع الخلق بالتقوى والطاعة، والمودة والحب من الله الإله البر الرؤوف الرب الكريم، الذي يحتمل منا مالا يحتمله أباؤنا البررة، ويحلم عنا مع وجوب عظيم حقه علينا فيما نفرط فيه من طاعته وإغفالنا ذكره، ولولا فضله وحلمه ورأفته وكرمه، لما حلم عنا ولا أخرنا طرفة عين، إذ خالفناه وعصيناه فيما عنه نهانا وبه أمرنا.
فابدؤا يابني بطاعته وتقواه يكف الله بطاعته وخشيته كل من يطيعه منكم ويخشاه جميع ما يهمه منكم من أمر آخرته ودنياه، فقد رأيتم كيف كرم الله ورحمته، ولطفه وإحسانه ورأفته بجميع خلقه، مع معاصيهم وظلمهم لأنفسهم، بإغفال عظيم ما يجب عليهم من واجب حقه، لا يقطع بذلك عنهم ما يتصل بهم ليلاً ونهاراً من عطايا نعمه ورزقه، فاتقوا الله ربكم وبارئكم، ذا الإحسان والنعم عليكم، معطي جميع النعم دقيقها وجليلها والخيرات كلها، عباده وخلقه من أهل الأرض والسماوات، فلله سبحانه الدنيا والآخرة، ومنه تعالى النعم فمنها الظاهرة والباطنة، فاتقوا الله فالوصية لكم يابني أفضل وأجزل من كل نفيس وعظيم من العطية.
[معنى التقوى ]
فتقوى الله يابني فهي: الانتهاء عن كل ما حرم الله من جميع المعصية، وطاعته، والمصير إليها، والإيثار لها والصبر عليها، والنجاة في الدنيا والآخرة لها من كل عظيمة وبلية.
ألا ترون يابني كيف يقول الله سبحانه لرسوله وهو يذكر ما الرسول عليه من طاعته وحبه، فأمره أن يقول عنه تعالى لأتباعه أصحابه فيما كانوا يزعمون أنهم عليه من حب الله، فقال الله لنبيه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] ثم أخبرهم بالذي يتبعونه عليه، وما الحب لله الذي أمرهم به، فقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}[آل عمران:32] فخبرهم تقدس ذكره أن من لم يطعه ويطع الرسول فقد كفر، وأنه لا يحب إلاَّ المطيع له ولرسوله.
يبين ما ذكرت لكم في آخر قول الله سبحانه هاهنا فآخره موصول منه سبحانه في هذا الأمر بما قبله من القول، بين فيه أن الحب له طاعته وطاعة رسوله، ثم قال سبحانه: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}[آل عمران:32] يعني سبحانه فإن أعرضتم وتوليتم عن طاعتي وطاعة رسولي التي بها أمرتم {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:32].
فعليكم يابني: بطاعة الله وتقواه، وبغض وعداوة من عصاه، فتنجوا بإذن الله يابني بطاعة الله من كل بلاء وشر، وتظفرون بالفوز والملك الباقي الأكبر، من ثواب الله لمن أحبه الله بالطاعة، وتنجوا يابني بتقواه من عذاب النار والخلد فيها، الذي حل بأهل المعصية ومن يتهاون بأمر الله فعصاه وخالفه.
فحرّموا على أنفسكم في أيامكم القصيرة ومدة حياتكم اليسيرة ما حرم الله، واتقوه بالانتهاء عن معاصيه وعظائمها وكبائرها التي عظم، فإنه لم يحرم سبحانه إلاَّ خبيثاً قبيحاً، كتحريمه لحم الخنزير والميتة وحرم الدم المسفوح، فأي خبيث أو ممقوت منتن غثيث، أخبث من الميتة والدم المنتن المسفوح، وكذلك ما حرم من الخنزير لنتنه وقبحه، فهو أقبح من كل مقبوح، وقد عوض بتحريم لحم الخنزير والميتة والدم، إحلال ما لا يحصى من لحوم الطير والدواب والبهائم.
ـــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في ترك الزنا]
وحرم سبحانه الزنا فإن الزنا يابني عند الله من أكبر الكبائر وأعظم الفحشاء، لما في ذلك من فساد الأنساب وخراب الدنيا، والدخل في الأولاد والأرحام، وبطلان ما حكم الله به في ذلك من الأحكام، فليس في الزنا إربة في شهوة إلاَّ وفي النكاح أفضل منها، بل في الزنا أعظم المعصية في مواقعة الفاحشة العظمى الكبيرة التي أكد الله النهي عنها، وإنما يزني الزاني بمرأة من النساء قد أحل الله بالنكاح أجمل منها جمالاً، وأفضل منها حالاً، وأكمل فيما يتوق إليه الرجل من المرأة كمالاً.
فلولم يحرم الله الزنا في كتبه جميعاً، لكان في المعقول أنه لا يجوز ولا يحسن ولا يصلح في معقول جميع البشر كلهم معاً أن يأتي فاسق ظالم متعد في حرمة غيره ما يكره أنه يؤتى إليه في امرأته وحرمته.
كيف وقد حرم الله الزنا في جميع كتبه وأحكامه، وحرَّمته جميع رسله، فالحذر له الحذر فإنه من أعظم ما نهى الله عنه وزجر، والبعد منه البعد في الكبير والصغير، فإن الله وله الحمد قد عصم أباكم منه صغيراً وكبيراً، فلم يأت ولله المنة عليه في ذلك زنا قط جهرة ولا سراً.
قال الله تبارك وتعالى في الزنا وتحريمه، والنهي عنه وتعظيمه: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] وقرن الزنا بالكبائر والفواحش العظام الكبار، ووعد عليه وعليها الخلود في عذاب النار، فقال في الزنا، وفيما وعد من العذاب عليه وعليها، وقرنه بالشرك وعبادة الأصنام وقتل النفس التى نهى الله عنها الحرام، وهو يصف حال من نجى من عذاب النار، من أوليائه وأهل طاعته الأبرار، وأن صفتهم وما به نجاهم الانتهاء عن هذه المعاصي العظائم الكبار، فقال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] فحرم الله قتل النفس إلاَّ بالحق، وحرم قتلها ظلماً، وأحله إذا كان المقتول كافراً ظالماً، ولم يحل الزنا في فقر ولا غنى، ولا أباحه قط سراً ولا علناً.
فالحذر له الحذر والهرب منه الهرب، يابني فإن الله قد أغناكم عنه غنى واسعاً، موجوداً بالنكاح لكرائم النساء، وجعل منه بدلا في كل ناحية وفج من فجاج الدنيا، بالأزواج الحلال الحسان، بالمهور اليسيرة، والأثمان في ملك اليمين القليلة، قال الله سبحانه وتعالى في صفة المؤمنين، وهو يخبر منهم عن الناجين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(7)وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ(10)الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(11)} [المؤمنون: 1ـ 11].
فأخبر الله سبحانه وتعالى في هؤلاء الآيات أن من فعل فيها وفيما وصف منها ما به أمر، وانتهى عما نهى عنه في هؤلاء الآيات وازدجر، كان عنه سبحانه راضياً، وجعله للفردوس([5]) في جنات النعيم وارثاً، وكان فيها باقياً مخلداً.
فماذا يابني في هذه العشر الآيات من الوصايا من الله الشرائف الكريمات، فأي وصايا لا تبلغها وصايا، قد أمرت بفضائل الخيرات والمكارم ونهت عن منكر جليل من فاحش البلايا.
وكم يابني لسيدي وسيدكم، ومولاي ومولاكم، في كتابه من هذا القرآن العظيم الذي نزل على نبيه من وصية ووصية جامعة واعظة بليغة، وعظات حكيمة نافعة، فقفوا إذا قرأتموه على وصايا الله فيه الجامعة.
ــــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في ترك اللواط]
تعرفوا إذا وقفتم وتفهمتم الأمور كلها الضارة والنافعة واحذروا يابني عصمكم الله الخطيئة والفاحشة العظماء التي ليست خطية ولا فاحشة أعظم منها فوق الأرض ولا تحت السماء، وهي الفاحشة الكبرى، وقد نهى الله عنها وزجر في مواضع كثيرة من القرآن نهياً، وتحريماً مؤكداً مكرراً وهي من أنكر المنكر عند من آمن وكفر، من كل أسود وأحمر، وهي إتيان الذكور، وذلك عند الله من أفحش الكبائر والشرور، ولو لم ينزل الله من ذلك نهياً وتحريماً؛ لكان ذلك في معقول البشر والخلق كلهم جميعاً جراماً، وخروجاً من المعقول كبير مضيعاً قبيحاً هائلاً منكراً أن يكون ذكراً يركب وينكح ذكر؛ لأن الذكران إنما خلقهم الله لمزاوجة الإناث، لما في ذلك مما أراد الله سبحانه بالناس من النماء والتناسل والكثرة والانبثاث، فاعلين لا مفعولاً بهم، والفعل منهم إنما أحله الله لهم في أزواجهم وملك أيمانهم، فقال تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:1].
وقال في تحريم إتيان الذكور مردداً، وفيما عاقب به من فعل ذلك وما هو عليه من سخطه لمن آتاه مؤكداً وهو يذكر عن نبيه لوط، وما كان من إنكاره على قومه لهذا الذنب العظيم عند الله المسخوط {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] وقال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}[الشعراء:165-166].
وقال سبحانه عن لوط صلى الله عليه وسلم، فيما كان ينهاهم عنه من الذنب الأعظم المسخوط: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55]. وقال سبحانه وهو يخبر عن تدميره لهم، وما عذبهم به من الخسف بهم، ورميهم بالحجارة قبل الخسف، وما حل بهم من الدمار والحتف: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82].
[ذكر ما جاء من الأخبار في اللواط وعقوبته ]
وفي الخبر الثابت الصحيح وما أنزل الله من الحجارة والعذاب الأليم: أن ملكاً من الملائكة أمر بقلع أرض قوم لوط سخطاً من الله سبحانه عليهم، فيما كانوا يأتون من عظيم الفاحشة، فقلع أرضهم بهم من أسفلها، وحملها بهم على جناحه عند الصبح حتى أقلها، وأمر الله نبيه لوطاً أن لا يلتفت إليهم لأن لا يرى عقوبتهم وهولها، فيفزع صلى الله عليه وسلم ويذعر لما يرى بعذابهم من الفضاعة والهول الأكبر.
وذلك أنه ذكر أن الملك لما قلع أرضهم بجناحه وهم فوقها، رماهم الله بحجارة من سجيل وهو يقلبهم وأرضهم في الهوى.
ورموا في ما ذكر من الأخبار بشهب من النيران فأشعلتهم، وأخذتهم الحجارة من السجيل فرضختهم، ثم قلب الملك حين علا بهم في الجو أرضهم فجعل عاليها سافلها عقاباً لهم.
فأي أمة بجرم أو ذنب ممن أهلك من الأمم دمروا بمثل هذا التدمير، وعذبوا لشدة سخط الله عليهم بمثل هذا العذاب الهائل الكبير.
وكذلك ذكر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه أتي بذكرين من الرجال أتيا الفاحشة من اللواط فأمر بهما فرفعا إلى أعلا سور حائط عال ثم نكسا فطرحا إلى الأرض من فوق السور وأتبعا بالحجارة رمياً، حكماً منه عليه السلام فيهما بمثل ما أمكنه بشبيه عقوبتهما بما فعل الله بقوم لوط في مثل فعلهما وخطيئتهما.
وجاء الخبر المنقول الثابت الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اقتلوا الفاعل والمفعول به)) ([6]) ولم يجعل لقتله تأخيراً عنه، ولم يأمر فيه بضرب ولا حد من الحدود إلاَّ القتل([7]) الحذر يابني في الحداثة من أسنانكم والكبر لهذه الخطيئة العظمى والذنب الأكبر، فإنه عند الله سبحانه من أكبر الكبائر وأنكر المنكر، فاحرسوا منها أنفسكم وذراريكم، واحذروا أن يخلو بهم في صغرهم أحد ممن تجهلون خبرهم من جميع من يأوي إليكم، حتى تكمل عقول أولادكم، ويفهموا ما حرم الله عليهم، وما في هذا ومثله من عقوبة خالقهم وسخط بارئهم، لأن هذه العظيمة من الفواحش مما قد سلم الله والدكم ولله المنة عليه صغيراً وكبيراً منها، فلم يأت ذكراً ولم يأته ذكر ولله المنة عليه في ذلك الأكبر، وبالله عصمة من عصم وسلامة من سلم.
ــــــــــــــــــــ
[ وصيته عليه السلام في ترك الخمر وكل مسكر ]
وأحذركم يابني ثم أحذركم وأنذركم يابني عصمكم الله ثم أنذركم، الخطيئة المحرمة في كتاب الله وهي باب إذا أدخله إبليس العبد طرحه دخوله في كل بلية من مساخط الله، فإنها أم الخطايا وباب البلايا الذي يفضي بمن دخله إلى كل شر، ويوقعه في كل فاحشة ومنكر.
وهذه الخطيئة التي حذرتكم فهي ما نهى الله عنه وحرمه من شرب المسكر فإن الله لم يحرمه إلاَّ لما فيه من الشرور، وما يحمل عليه ويصير إليه من شربها من قبائح الأمور، فإن الله سبحانه قد بين العلة التي حرمها لها، وسماها اسماً جامعاً.
فافهم الله سبحانه واسمع من كان ذا فهم وعقل سامعاً ـأن العلة التي حرم لها الخمر، هي ما ذكر أنها تحمل عليه، ويصير إليه من شربها من قبائح الفعل والمنكر فقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].
فذكر تبارك وتعالى فعل الخمر، وما تحمل من شربها من قبائح الأمر عندما يصير إليه من السكر، وما يوقع سكر الخمر بين من سكر بشربها من العداوة والبغضاء والنسيان لذكره، وما يصد به السكر من سكر عن الصلاة لله والذكر.
فزعم من فسق من سفهاء هذه الأمة ومن جهل اللسان العربي من هذه العامة أن الخمر إنما هي بما عمل من العنب، وليس ما قالوا في هذا بمعروف في اللسان عند العرب، إنما الخمر في عربي اللسان، وما يفهم عند العرب في البيان، ما خمر بالتعفين حتى أسكر، وقد يخرج اسم الخمر في اللسان أن يكون ما أفسد العقل وخامر، فكل مخامر للعقل بالإسكار من الأشربة فهي خمر.
والمخامرة فهي المخالطة، وما خالط من الأشربة العقل بالإسكار وخامره فهو خمر مخامر، وكذلك يفعل في المخامرة للعقل كل شراب مسكر، فما خامر وأسكر العقل كمخامرة الخمر وإسكارها ففعل فعلها كان عند من فهم عن الله مثلها، وإنما حرمت الخمر لمخامرتها للعقل بالإذهاب والسكر، وما تحمل عليه من الإثم والشرور والمنكر.
ولا فرق بين إسكار الأنبذة والخمر، بل النبيذ أشد للعقل إذهاباً ومخامرة وإسكاراً، فيما أخبرني به من شربهما جميعاً ممن يدعي ملة الإسلام، وممن سألته من النصارى، فكل هؤلاء يزعمون أن النبيذ إذا شربوه كان أشد في السكر من خالص الخمر.
والنبيذ فيما يقولون أشد للعقل مخامرة بالفساد والسكر، وأحمل لمن شربه على أبواب الفضائح والفجور والكفر.
ـــــــــــــــــــــــــ
[ذكر ما جاء من الأخبار في تحريم الخمر وكل مسكر ]
وفي الخبر المنقول الذي لا شك فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه حرم كلما أسكر قليله كتحريمه من كثيره، وأنه أقام الحد على من شرب الخمر، وعلى الشارب لغيره من النبيذ نبيذ الفضيخ ([8]) والتمر)) فأجرى هذه الأشربة كلها التي تسكر مجرى الخمر، لأن فعلها فعل واحد في المخامرة للعقل بالإذهاب والسكر، وما تحمل عليه ويوقع فيه من شربها من الفجور والإثم والشر.
فأجمعوا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام )) ([9]) وأنه صلى الله عليه وآله وسلم حد من شرب النبيذ والخمر حداً واحداً.
وكذلك ذكرت العامة عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول: (الخمر خمسة أشياء، من العنب والتمر والبر والشعير والعسل )، فأجرى هذه الأشياء الخمسة إذا عمل منها المسكر مجرى الخمر وسماها خمراً.
وقد أخبرنا غير مرة أن الخمر في اللسان العربي الشراب المخامر المخالط للعقل للإفساد والسكر.
وذكر أن عمر بن الخطاب قال في ابنه عبيدالله بن عمر، بلغني أن عبيدالله وأصحاباً له شربوا شراباً لهم لأسألن عنه، فإن كان يسكر حددته وحددت أصحابه حد الخمر، فسأل عنه عمر فأخبر أنهم شربوا شراباً يسكر، فلم يسأل عن الشراب قليلاً شربوا منه أو كثيراً وحد ابنه عبيدالله وأصحابه، ورأى الشراب إذا كان يسكر خمراً.
وأجمع أهل المدينة وفقهاؤهم وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى برجل شرب مسكراً لم يذكروا أنه كان خمراً، فلما أيقن صلى الله عليه وآله وسلم أنه شارب، وذلك أنهم ذكروا في الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالرجل أن يُسْتَنْكَه ويُشَمّ ريحُ الشراب منه، فلما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن ريح الشراب موجود من الرجل، ثم لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من شربه أو أقل، وحكم عليه بأن يضرب حداً، ودعا بالسوط فأتي بسوط يابس قاحل، وإنما كانت السياط حينئذ تعمل من جلود الإبل، فخشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ضرب بذلك السوط أن يقتله، ولم يرد قتله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما أراد أن يؤدبه وينكله فقال: (( ائتوني بسوط دون هذا )) فأتي بسوط ليس بالقاحل اليابس ولا بالمارن المفرط في اللين فأمر بالرجل فحد وجلد في ظهره ثمانين.
فاحذروا يابني ثم احذروا شرب الكثير والقليل بل أقل القليل من كل شراب أسكر، فإن الشراب المسكر باب كل بلية وفسق وفجور وشر.
ولا اختلاف بين هذه الأمة الخاصة منهم والعلماء والجهلة من العامة أن السكر حرام، ثم ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) وحرم الله الخمر التي تخامر العقل بالسكر.
وأجمعت الأمة على تحريم قليلها وكثيرها وما الخمر في الإسكار وما تحمل عليه من المعاصي الكبار إلاَّ كغيرها.
وقد ذكرت علماء العامة والخاصة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التغليظ في النهي عن شرب المسكر والتحريم لكل ما أسكر، فإنه قال صلى الله عليه وآله وسلم في الشارب: ((إنْ شرب فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاضربوا عنقه))([10]) فأجراه صلى الله عليه وآله وسلم في حكم الله وحكمه بعد ثلاث مرار وشرب الرابعة مجرى أهل الكفر والجحدان والمعاندة، فأباح دمه ولم ير له حرمة المؤمن ولا من هو على الملة.
وروي عن النعمان بن بشير أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من الحنطة خمر، ومن الشعير خمر، ومن التمر خمر، ومن الزبيب خمر، ومن العسل خمر)).
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: (الخمر من خمسة أشياء من التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل).
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قام على المنبر بالمدينة فقال: (يا أيها الناس نزل تحريم الخمر حين نزل وهي من خمسة أشياء من التمر والعنب والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل ).
وروت العامة جميعاً لا اختلاف بينهم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)).
ورووا عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل مسكر حرام)) ([11]).
وذكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من مات وهو مدمن خمر لقي الله وهو كعابد وثن))([12]).
وذكر عن مرثد بن عبدالله اليزني عن ديلم الحميري قال سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت يا رسول الله: إنا بأرض باردة نعالج فيها علاجاً شديداً، وإنا نتخذ شراباً من القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، فقال هل يسكر، قلت: نعم قال فاجتنبوه، ثم جئته من بين يديه فقلت له مثل ذلك، فقال هل يسكر؟ قلت: نعم، قال: فلا تشربوه، قلت: يا رسول الله فإن الناس غير تاركيه، قال: فإن لم يتركوه فاقتلوهم.
وروى ابن علية عن ليث عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((كل مسكر حرام))، قال وقال ابن عمر كل مسكر خمر.
وروى لنا بعض المحدثين عن أبي بكر عن وكيع عن الأوزاعي عن أبي كثير أنه قال سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((الخمر من هاتين الشجرتين العنبة والنخلة)).
وحدثنا بعض المحدثين عن جعفر الرماني قال حدثنا علي بن قادم قال حدثنا عبيدالله بن عمر القرشي الجزري قال حدثنا زهير قال حدثنا حميد الطويل عن أنس عن أبي عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهيل بن البيضاء أنهم كانوا في نفر من أصحابهم في بيت أبي طلحة وأنس يسقيهم حتى كاد أن يأخذ فيهم الشراب، قال فمر رجل من المسلمين، فقال ألا هل شعرتم أن الخمر قد حرمت، قالوا فوالله ما قالوا حتى نتبين أو نعلم، قال فقالوا يا أنس كفيء ما بقي في آنيتك، قال فهرقتها، فما عادوا فيها حتى لقوا الله، قال وإنما كان الشراب من البسر والتمر، قال أنس هي كانت خمرنا يومئذ.
وحدثني بعض المحدثين، قال حدثنا جعفر الرماني قال حدثنا عبيدالله بن موسى قال أخبرنا سفيان عن الأعمش عن محارب بن دثار عن جابر بن عبدالله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الزبيب والتمر هي الخمر)).
حدثنا بعض المحدثين عن جبير بن عبد الواحد قال حدثنا عباد بن يعقوب قال حدثنا خالد بن حيان الخراز عن زيد بن راشد عن الحسن عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من شرب مسكراً نجس ونجست صلاته أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقيقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال))([13]).
قال خالد بن حيان عن زيد بن راشد عن الحسن عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مسكراً ولم يقل خمراً. ولكفى من الخبر في تحريم الله من الأشربة لجميع السكر بقوله سبحانه في التنزيل، وهو يذكر النعمة فيما أخرج لعباده من ثمر الشجر المأكول: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] فقدم السكر وأعلم عباده أنه عنده من المسخوط المنكر بكلام بليغ عند العرب يفهمونه من المقدم والمؤخر، لأن ذكر المسكر في هذه الآية بعد ذكر النعمة في مأكول الثمر من الكلام المفهوم عند العرب تقدم أو تأخر، كأنه عني سبحانه ومن ثمرات النخيل والأعناب رزقاً حسناً، تذكيراً لهم بالنعمة في حسن الرزق، ثم قال تتخذون منه سكراً، سخطاً منه تعالى بما يصرف الثمر إليه أهل الفسق من تهيئته مسكراً، إذ كان المسكر عند الله مسخوطاً منكراً، وإنما نزل القرآن باللغة العربية التي هي أبلغ عند العرب في البيان، فيؤخر عن موضعه، ومعناه متقدم مع أول الكلام في مكانه، إذ كان أبلغ في اتساق بلاغة اللسان، وما هو عند العرب أجود في تصريف نظم البيان، كقوله سبحانه: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى}[طه:129] فآخر هذا الكلام مع أوله، وإن كان قد دخل بينه نظم البلاغة وفرق بين فواصله، فإنما أراد تبارك وتعالى: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً.
ففي هذا يابني ما نبهكم وكفاكم، فالحذر من قليل شرب المسكر وكثيره، لما هو مسخوط محرم عند ربكم ومولاكم.
فالحذر يابني من المسكر قليله وكثيره، الحذر الحذر، فإنه حبالة إبليس التي أوقع بها من لا نظر له لنفسه من الخاصة والعامة في كل منكر وفجور وشر، ولو لم ينزل الله عنه نهياً ولا فيه تحريماً لكان السكر والمسكر عند كل ذي لب عاقل ـ منكراً عظيماً لما يصير إليه من شربه من فقد عقله، والإفتضاح بذهاب فهمه وخبله، وكشف عورته والتمرغ في سلحه وبوله، مع ما هو أعظم من ذلك عظماً، من إتيان الفجور عند السكر الذي جعله الله مسخوطاً عنده محرماً.
فلم أعلم والحمد لله لكم أباً ولا جداً إلى علي عليه السلام أعلمه يشرب قط نبيذاً ولا مسكراً، بل كلهم يرى ذلك من أعظم الفواحش منكراً، ومن عظائمها وكبارها فسقاً وخبثاً وشراً، تولاكم الله يابني بالإنتهاء والإزدجار والحذر والإجتناب والإعتزال لكل ما أسخط خالقكم وربكم ذا الكبرياء والعزة والجلال، وسلمكم الله مما قد عم أهل زمانكم ودهركم من الشرور والحيرة والخذلان بارتكاب كبائر المعصية، وما يستبيحون بجهلهم وظلمهم لأنفسهم، وقلة يقينهم بما حذرهم الله من عقابه من المنكرات والفواحش المهلكة المردية.
ـــــــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في هجر المدن والقرى]
فليس النجاة لكم ولمن معكم إلاَّ الهرب في البوادي والأودية والجبال منهم، والتحبب إلى خالقكم بهجرتهم والبعد عنهم، فإن في مساكنتهم والاختلاط بهم، فساد القلوب والخبال الأكبر، لما هم عليه وفيه من فعل كل فجور وفسق وشر، إلاَّ أقل القليل منهم.
فالهرب الهرب والبعد البعد عنهم، فإن المدن والقرى موضع اللؤم والشر والبلايا، بما تجمع وتضم من شرار الناس والأوغاد، وما ينضم فيها ويأوي إليها من أخلاط الأجناس، وسقاط شرارهم من كل بلاد فيها، وفيها سقاط الأمم، ورذلات العرب والعجم، من حمران الأجناس وسودانهم المغتربين عن بلدانهم وأوطانهم، والمختلفين في عقولهم وهمهم، وألوانهم ومذاهبهم، وأخلاقهم ودياناتهم، فالحياء والإحتشام عندهم وبينهم مرفوض ومطروح، وكلهم فغريب عن بلده وموضعه، لا يستحي من خنا ولا خزي أتاه وركبه ولا فضوح، ولكل جنس منهم ضمته هذه القرى والمدن في بلده وأصله طباع وخلق، وهو عندهم كيس محمود، وعند من يعقل همج قبيح، فلسودانهم في الطرب والزفن واللعب والمنازعة إلى ما يغلب على طباعهم في بلادهم من الشرور وقبائح الأمور ما لا يبلغه في الطرب والزفن واللعب نواهق الحمير، والحمران أجناسهم مذاهب أخرى كثيرة لا تحصى من كل شر وبلاء، وفسق ومجون وخنا، من إتيان كثير منهم للذكور وشهوة من لا تشتهيه الحمير، ولا البهائم الخنازير منها ولا غير الخنازير، من إتيان الذكران، وهذا البلاء وهذه الفاحشة العظمى فيما بلغني فأصلها وبدؤها ومخرجها من أرض
العراق وفارس وخراسان، إلاَّ من عصم الله من الأمم، أو من كفه وردعه عن ذلك دين وورع وطباع كرم، مع ما تضم المدن والقرى من عساكر المتغلبة والسلاطين، وما ينظم إلى العساكر ويأوي إليها من سقاط الناس والأجناس والشياطين، وما في المدن والقرى من منكرات الفواحش والبلاء، واستجازتهم كبارهم وصغارهم اللفظ بالفحش والخنا، فهو بين كبارهم وصغارهم عادة قد أجروا أنفسهم عليها لا يستوحشون منها، ولا يعظمونها ولا يتناهون عنها.
فالمنكرات بينهم لإكثارهم منها ولحاجتهم فيها معروفة، والقبائح لظهورها بينهم لا يستوحشون منها بل هي مألوفة، والغالب على كل مكان عند القرى والمدن السفساف والسفل الذين لا يستحيون من غيّ ولا ردى ولا من فضائح العمى، يبولون ويتغوطون على أبوابهم وفي أفنيتهم ولا يطهرون ما يسكنون من بيوتهم، ويكشفون في أفنيتهم وأزقتهم البول والخلاء ما أمروا به من ستر عوراتهم، فهم كالبهائم التي لا تنطق ولا تعقل، وكل من لم يتنح عنهم ويبعد منهم فهو مشارك لهم في سوء فعلهم، وآثم ظالم لنفسه في مجاورتهم والاختلاط بهم، لأن أقل ما لله عليه إذا لم يمكنه الإنكار على من يسخطه سبحانه ويعصيه فلم يستطع منهم من مساخط الله تبارك وتعالى أن يهاجر عنهم ويبعد عنهم في أوسع أرض الله تبارك وتعالى، قال في تنزيله ووحيه، وما عهد فيه إلى عباده محذراً في تركهم أمره ونهيه وهو يذكر من توفاه الملائكة ممن رضي من المستضعفين وغيرهم بمجاورة أهل الظلم والمعصية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء:97].
فتفهموا يابني قول ملائكة الله ربكم لمن ظلم نفسه بمساكنة من فسق وعصى ربه، فإنما عنى بقولهم {فِيمَ كُنْتُمْ}[النساء:97] أي ما فعلتم في أيام حياتكم فيما أمرتم به من الإنكار على من جاهر بالمعصية خالقكم وربكم، فقال الظلمة الخاسرون عند الندامة والحسرة وهم يعتذرون: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [النساء:97] فلم تكذبهم الملائكة فيما ذكروا من استضعافهم وضعفهم، وقالت الملائكة لهم محتجين عليهم لربهم، مبكتين لهم موقعين على ما ارتكبوا من عظيم ذنبهم في المجاورة والمساكنة، وترك الإنتقال عن أهل المعصية والمجاهرة {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}[النساء:97].
ثم أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة الذين خاطبهم عندما توفتهم رسله من الملائكة فذكر تعالى سخطه عليهم وحكمه فيهم فقال: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97] فلو لم ينزل الله نهياً عن مساكنة أهل المعصية، لكان ينبغي لمن عقل أن يفر ويهرب بنفسه وولده وحرمه من مجامع الناس وقراهم ومدنهم لظهور فساد الناس في المدن والقرى، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، وهم أظهر الناس فسقاً، وألأمهم لؤماً وأدقهم أخلاقاً.
فالكرم والكريم يابني في المدن والقرى عند أكثر أهلها غير مرضي ولا ممدوح، وذو الدناءة والبخل واللؤم عندهم مقبول مرضي غير معيب ولا مفضوح، وما بالقرى والمدن في الكبار والصغار من منكرات المجون والشرور والفحشاء أكبر وأعم وأظهر من أن يؤتى له على عدد وإحصاء، مع ما في القرى والمدن يابني من فساد اللغة والكلام واللسان، واختلاط غثاء الناس من الحمران والسودان، تبرج الحرم لفساد من بالقرى من العرب وسفساف العجم، فالغيرة من أهل المدن أو أكثرهم على الحرم متروكة مطروحة، والحرم بتبرجها في الأسواق والطرق مفضوحة.
فأفٍ يابني ثم أفٍ لمن كان ذا حرية وكرم وأنف، سكن في هذا الدهر المدن والقرى، ما دامت على مثل ما هي عليه من ذكرهم هذا من المنكرات التي ذكرنا فيها والفحشاء، وما غلب على أهلها الكبار منهم والصغار والنساء من الخنا([14]) والساس والفساد واللؤم والدناءة والنذلات والردى، فأين أنتم يابني عن طاعة ربكم فيما أمركم به ودلكم عليه من المهاجرة وترك المجاورة لمن يسخطه ويعصيه، والإمتثال لمسالك أهل الشرف من آبائكم وسلفكم وأولكم في ترك المدن والقرى ومجاورة أهلها، والتنحي إلى البادية والإعتزال عن سفساف([15]) القرى وغوغائها وسفلها.
ـــــــــــــــــــ
[ذكره عليه السلام هجرة والده القاسم عليه السلام ]
فأقرب من به في ذلك تقتدون وبفعله في الهجرة عن القرى والمدن تأنسون، جدكم الأقرب أبي وأبوكم القاسم بن إبراهيم رضي الله عنه ورحمه، وقبل عزلته وهجرته منه، وقد كان رحمه الله زماناً طويلاً من عمره بالمدن مدن الحجاز ومدينة مصر ساكناً داعياً إلى طاعة الله، فلما لم ير في أهل القرى والمدن إلى طاعة الله ربه وحقه ومرضاته مستجيباً، ولم ير فيها إلاَّ غرقا في الجهل والمعاصي لا تائباً إلى ربه ولا منيباً، ورأى القرى والمدن أصل كل منكر وضلال، وتجمع الفجار والفساق والأرذال الدناة والأفسال([16])، تبرأ إلى الله منهم، وهاجر إلى البادية والجبال عنهم، فوفقه الله للصواب في ذلك وأرشده، وأراه له الخيرة في دنياه وأسعده، فخلا بنفسه وأهله وولده، وجرى حكمه عليهم وعلى من تحت يده، فصار ـ نظراً واختياراً، بعد أن أحاط بالمدن والقرى وأهلها اختباراً ـ إلى بادية المدينة وجبالها، وتنحى عن المدينة وأهلها وحل في جبل من باديتها يسمى قُدْساً([17])، فكان به حيناً وكنا به معه أطفالاً صغاراً، لا يعاين فسقاً ولا فجوراً ولا منكراً، ثم انتقل إلى (وادي الرس) وجباله، فكان خالياً فيه بولده وعياله، ما أمرنا فيه من أمر أطعناه، وما عرفنا في الدين من حق أو قول في الهدى والصواب قبلناه.
ثم انتقل إلى فرع آخر من جبل يسمى (الأشعر)([18]) من جبال جهينة، بعد أن أقام عمراً طويلاً وسنين كثيرة في (وادي مزينة) فكان منه بجبل وفرع يدعى فرع السور حتى توفي فيه رحمة الله عليه وقبض، وكان قد عاهد الله وأعطاه من نفسه أن لا يسكن هو ولا أحد يطيعه من ولده ما بقي حياً مجامع الناس بين المدن والقرى، لما ذكرت لكم يابني قبل هذا من قولي وفسرت، مما تجمع القرى والمدن من أهل الفسق والفواحش والمنكر والردى، وما في أهل المدن والقرى والمدائن من أهل الفسق والفواحش، من الجهل والمعاندة في الدين، وما بها وفي أهلها من الفساد والمفسدين، وأهل المجاهرة بكبائر المعاصي والظلم المعتدين.
ـــــــــــــــــــــ
[ذكره عليه السلام صفات البادية وأهلها ]
فجعل الله الروح والراحة في بدنه، وأعقبه سكنى البادية واعتزال الناس العفاف والصلاح في أهله وولده، فأقام في البادية والجبال قبل وفاته نحواً من أربعين سنة لم يخل فيها قط من لطائف الله وصنع الله، وسعة رزقه مع البعد والتطهر عن شرار خلقه، في أطيب مساكن في تلك الأودية الطاهرة، والجبال والبوادي الصحيحة البريئة من الوخامة التي تكون في المدن من الأرياح المنتة، والسكك القذرة والأزقة والطرق التي فيها غير طاهرة، وأبخرة الكرابيس([19]) والنجاسات المفسدة للجو والهوى المؤرثة للأمراض والوباء، بل كنا معه رحمه الله في أطيب الغذاء مما يكون في البادية في أطيب المساكن والمحال من أودية البوادي والفروع التي فيها من الجبال نتنسم صافي الهوى، ونشرب أكثر مدة دهرنا ماء الغمام والسماء، وننال فيها بلطف الله طيب الغذاء، مما يكون في البادية من سمين لحوم الماشية، وما جعل الله في المواشي من أشربة اللبن الخالصة السائغة في أطيب الساحات طيباً، وأطهرها طهارةً، وأفسحها منظرةً، وأصفاها هواءً، وأقلها كدراً، لا يسمع خنا ولا يرى فسقاً ولا منكراً، ولا صوتاً ملعوناً، كبَراً([20]) ولا وتراً، مع قوم نختلط بهم أحسن قوم جواراً، وحرمهم فأشد حرم الناس استتاراً، من خير أبناء من العرب وأهل البادية، أشكر قوم للمعروف شكراً، وآلفهم إلفاً، وأحسنهم جواراً، ومن جاورهم فاعتزلهم، وكف الأذى والمكروه عنهم، كثر ثناؤهم عليه، وشكرهم له، وسلم منهم، وكانوا له إذا أحسن قليلاً إليهم، وبث أقل المعروف فيهم كالخول والأعوان، إذا استكفاهم بعض الأمور كفوه، وإن استعانهم على نائبة تنوبه أعانوه.
[ذكره عليه السلام صفات أهل المدن والقرى ]
وأهل القرى يابني وسفساف من في المدن من سكانها كلهم تجارهم وصناعهم وغيرهم، وكذلك من اختلط بالأسواق والقرى من العرب وجاورهم، فهؤلاء كلهم ليسوا بذوي حرية ولا ذمام، ولا يتخلقون بخلق من أخلاق الكرام، ولا يوفون بموعد وعدوه، ولا يوجدون حق الجوار لمن جاوره، وإن استعانهم جارهم على نائبة لم يعينوه، وإن وعدوه وعداً أخلفوه، وإن قالوا له قولاً لم يصدقوه، وكلما كان عليهم فيه أدنى كلفة وأقلها لم يكتلفوه، وليس للجار عندهم غير الخداع له والمنافقة، فإنهم إذا لقوه تملقوا وإن استرفقهم بسلف أو رفق لم يرفقوه، وكذلك كل من اختلط بالقرى من العرب فهو في اللؤم ودقة النظر وسوء الأدب كأهل القرى والأسواق يتخلقون بأخلاقهم، ويفسدون بفسادهم.
فالبعد يابني عن أهل القرى والمدن لكم ولمن معكم خير من قربهم وأسلم لكم في دينكم وفيما بين ربكم وبينكم، وليست العزلة عن المواضع التي تجمع أخلاط الناس ويحيط بكم ما فيها من شرور الأشرار وما فيهم من الدنس والأنجاس كالبوادي التي تتسع بأهلها وتضم من فيها من سكانها، كما تجمع القرى وتضم وتخلط بين من فيها من رذالة أشرارها وسفلها، لأن كل ساكن في البادية فهو وحده يمكنه أن يكون في عزلة وناحية.
وسكان القرى متضامون في السكك والدور، مجتمعون يرى بعضهم ما في بعض من الفساد والمنكر والشرور، يأنس بعضهم ببعض فيما يفعلون من منكرات الفجور، ثم لا يجد من يسكن بينهم بداً من مضامتهم ورؤيتهم، ومعاينة فواحشهم وفسقهم، وما يبتلى به من سوء جوارهم، ونذالة أخلاقهم، ولؤم كبارهم وصغارهم، واستحسانهم بينهم لِلؤم الأخلاق، وقلة إنكارهم للدناءة والخنا، وما فيهم من فواحش الريب والبلاء، أعظم وأكبر من أن يؤتى له على صفة أو يحصى، يتكلم سفاسفهم وأهل أسواقهم، وأكبر كبارهم وصغارهم، بأفحش الفحش وأعور الكلام علانية جهاراً، فلا ترى أحداً منهم أنه يجب عليه أن يكون منه لما سمع من ذلك إنكاراً، فنساؤهم وأكثرهم في الأسواق متبرجات، وأكثر اللواتي لا يخرجن متطلعات من الكوى والأجنحة غير مستحيات.
فَلِمَ تروا يابني هذا ومثله ظهر في القرى وعم حتى لا ينكره منكر من أهل القرى، ولا يحتشم منهم محتشم، فأنا أخبركم يابني لِمَ كان هذا في القرى والمدن بلا غلط ولا توهِم، وذلك إنما هو لأن القرى والمدن تجمع وتضم من رذالات الأجناس، وحشو سفساف الناس، وسقاط العجم وشرارهم، فيجتمعون ويختلطون غرباء عن أوطانهم وبلدانهم، فمنهم من هو مملوك مرقوق، ومنهم من هو غير مملوك وهو لئيم الأصل، قليل الحياء للمجون والدناءة والجفاء والمروق والعتاوة والفسوق، فقد اختلطوا وماج بعضهم في بعض، حلوا بالشرور لقلة الحياء، ولؤم الأمهات والآباء، ولأن بعضهم لا يعرف بعضاً، جميع القرى في الأرض ومن اختلط بهم، فمن كان له أصل أو نسب من قريش والعرب، أو من له حرية نفس من العجم، أو من كرام أجناس الأمم، فلغلبة من ذكرنا من القرى من سقاط الناس ورذالة الأمم والأجناس قد غمر هؤلاء في كثرتهم، وقلوا وصار العدد والمال واليسر في الرذالة والسفل، وافتقد كل من له حرية، وقل عددهم، وصار من له أصل ودين بين هؤلاء الذين ذكرنا قد خمل وذل، لأن الغلبة في الدنيا الدنية وهذه الدار الأولى من الدنيا الدنية إنما هي للحشو الأكثر في العدد، ولا سيما إذا لم يكن لسلاطين الحق والعدل على السفساف والرعاع بحكم الله يد.
فالناس اليوم يابني في مدن القرى مختلطون، يموجون ويختلط بعضهم في بعض كما تموج أمواج البحر بالماء، ليس فيهم ولا منهم محق يقوى عليهم، وأحكام الله وآدابه في كتابه لا تنفذ فيهم، فقد اخلتط علية ([21]) من في المدن والقرى بسفلهم، وطال اختلاطهم وثواهم بينهم حتى جروا على سيرتهم، وصاروا لا يستقبحون قبيحاً، ولا يرون دناءة ولا فاضحاً فضوحاً، والإلف للغلبة السفلة، وصارت السفل لكثرتهم وغلبتهم قد رهقتهم الذلة، واحتاج هؤلاء الذين لهم أصول وحرية إلى أولئك فكلهم في مذهبه وخلقه هالك.
قد استحسن من في القرى والمدن من بقايا كرام الناس ما يستحسن من غلب على القرى والمدن من سفل الأجناس لغلبة الغوغاء والرذالة وسقاط الأمم والسفلة على القرى وكثرة عددهم فيها، فقد غرق بينهم وخزي وذل وقل كل من آوى إليها من أهل الدين والحسب، وكاد أن يبطل بل قد بطل كل ذي دين ونسب.
فالمهرب المهرب يابني من القرى والمدن، الهرب الهرب فلو لم تهربوا منها وتباعدوا إلا لذل الأحرار وفقرهم بها، وأن السفساف من لا خطر له ولا دين قد غلبوا وكثروا وحازوا جميع معايشها، فذكرهم بالقرى والمدن الذكر الرفيع العالي، وفيهم اليسر والثروة والعدد والأموال، وتوارثوا مع ذلك الحيرة في الدين والضلال، ممن كان قبلهم في القرون الخوال، من أهل الشرف في أخلاقهم، والعلو في ولادتهم وأنسابهم، لأمور عرضت من حسد وضغائن حالت بينهم وبين طاعة ربهم لا يمكننا شرحها كلها، ومن فَهِمَ فروعها فتدبَّرها فهم أصولها، فقد اشتبه أهل الأرض في معصية الله ورسوله، ومخالفتهم لأنبيائه صلوات الله عليهم وتنزيله، فكلهم أو أكثرهم ضال عن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في مذهبه واعتقاده وقوله وفعله.
ـــــــــــــــــــــــ
[توجعه عليه السلام من زمانه لما فيه من البلاء والمنكر ]
فيا لها حسرة ! ويا لها مصيبة في الإسلام ما أعظمها وأجلها! ويا لها أمة من العرب والعجم ما أغفلها عما أمرت به في كتاب ربها ! وما أبطلت من حدود الله ونبذت من عهوده لحيرة جهلها، وما لبست عليها ظلمة بني أمية وغيرهم، معاندة للإسلام لما كانت عليه ظلمة بني أمية من حيرة جهلها، وعداوة نبي الله بجحودها وظلالها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فقد أُصِبْنَا وغُبِنّا بما لم يُصَبْ به أحدٌ ولم يجتح مجتاح ولا مغبون، فأي مصيبة يابني أو بلية أو جائحة نزلت بأحد أو رزية أصيب بها أحد فيما مضى من الدهر وبقي أعظم من مصيبة من لم يطع خالقه فيخشاه ويتقي، فيقوم بما أمره الله به من طاعته، ويؤثر رضاه بمباعدة أهل معصيته.
وإذ قد أصبحنا يابني وأصبحتم، وخُلِقْنَا في عصرنا هذا وخُلِقْتُم في هذا الوقت والحين والزمان، الذي لم يكن في الدنيا عصر ولا زمن أوحش ولا أبلى ولا أهول منه منذ خلق الله البشر والإنسان، بل لم يكن مثله منذ برأ الله البرية الآدمية ولا الجان، وكل دهر أو زمان أو عصر أهله ومن خلق فيه أعظم بلية من دهرنا، وما قد غلب وعم على أهل ملتنا من الجهل والضلال في الدين، إذ قد صارت الخاصة والعامة في أرض الله وبلاده مفسدين، ولما أمر الله به رسوله في كتابه وعلى لسان نبيه جاحدين، فأكثر الناس ضال تائه عن الله ورسوله وهو يحسب أنه مهتدي، ناقض دينه الذي أمره الله به ورسوله وهو فرح ويعتدي، قد رضي من دينه بالتمني على الله مع تقصيره لنجاة المخلصين الذين كانوا بتقواهم وطاعتهم برحمة الله ورضوانه مخصوصين، فرجوا وأملوا إذ زعموا وجهلوا وضلوا أن يكونوا من أهل الطاعة لله ولم يتقوه كما اتقوا، ولم يعملوا من الصالحات كما عملوا، وغرهم الشيطان فأضلهم وأغواهم، إذ لبّس عليهم علماء السوء الراكنون إلى غرور دنياهم، فأغفلوا ونسوا ما قال ربهم ومولاهم لمن هو خلافهم، ومن كان بعيداً من مثل
خطاياهم، ومن لم يركب ما ارتكب أهل هذا الزمان من كبائر الفواحش والعصيان، إذ تمنوا في أيام الرسول ورجوا طرفاً من الرجاء والأماني، فقال سبحانه لهم على لسان نبيه منبهاً ومحذّراً أن يتمنى متمن عليه مع المقام على الذنوب وترك التوبة أن يكون لهم غافراً، فقال سبحانه في ذلك للمؤمنين وهو ينهاهم أن يكونوا بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في التمني على الله للمغفرة وعفوا السيئات متشبهين، فنهاهم وحذرهم أن يكونوا لمثل ما يتمنون متمنين {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، فلم يوجب الرحمة لأحد من خلقه بالأماني، ولم يوجبها إلاَّ لمن عمل الصالحات وآمن من كبائر العصيان.
كذلك قال أيضاً سبحانه في موضع آخر من محكم كتابه وهو يذكر ما لهم من الرحمة والغفران لمن كان ذا تقوى وإيمان {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف: 156] فأخبر سبحانه أن رحمته التي وسعت كل شيء لا يكتبها إلاَّ للمتقين.
وقال تبارك وتعالى في موضع ثالث من محكم كتابه: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وحاشا الله العدل الحكيم أن يكون من عصاه وفجر في دينه كالمطيعين الأبرار، وقال في موضع رابع في محكم كتابه، وهو يخبر عن حكمه الذي لا يحكم أبداً بغيره بين عباده: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] وما نزل في القرآن من حكمه بالعقاب على أهل المعصية، وحكمه بالثواب والعفو لأهل التقوى والطاعة أبين وأوضح، وأكثر وأظهر من أن يعمى عنه إلاَّ من خدع نفسه وغرها، ومات عقله وهلك ودمر.
وإنما يابني جرى هذا التبيين مني والكلام في هذا الموضع لأن لا تغلطوا في مثل ما غَلِطَتْ فيه من التمني على الله جهلةُ العوام.
ــــــــــــــــــ
[عودته عليه السلام إلى ذكر الهجرة وما جاء فيها]
وسنعود إلى ما كنا فيه من اعتزال جماعة الناس في المدن والقرى والهجرة إلى الله عنهم، والتقرب إليه بالبعد منهم، وسأذكر لكم يابني بعد ما ذكرت لكم من تنزيل الله وما ذكرت فيه من قول ملائكته للمستضعفين الذين لم يهاجروا عمن يشاقه ويعصيه أن يقولوا لمن هذه صفته ممن يتوفون {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 97] يعني الملائكة صلوات الله عليهم، بقولهم لمن يتوفون (فيم كنتم) ماذا فعلتم فيما أمرتم به من إنكار المنكر، والأمر بالمعروف لمن جاورتم {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ}[النساء:97] فلم تقل ملائكة الله كذبتم، ولكنهم قالوا: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}[النساء:97] فاحتجت ملائكة الله على المتوفين الذين ساكنوا العاصين، بما كانوا مستضعفين وعليه قادرين من الهجرة عن العصاة في أرض الله الواسعة، وأن يكونوا لهم غير مجاورين، قال الله أحكم الحاكمين: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97] وقال تبارك وتعالى منبهاً دالاً لعباده المؤمنين على مجانبة العاصين، وأن يكونوا في بلاده الواسعة لعبادته معتزلين متوحدين {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56].
ــــــــــــــــــــ
[ذكر هجرة الأنبياء عليهم السلام ]
فلم يزل الأنبياء والصالحون منذ كانت الدنيا إذا بلغوا رسالات ربهم قومهم فلم يتوبوا من خطاياهم يهاجرون عنهم ويتنحون.
فذكر الله عن خليله إبراهيم ورسوله، وإبراهيم في كرامته على الله وقدره عند الله، وهو يذكر سبحانه مهاجرته من مدن قومه وقراهم، إذ أبوا عليه ما بعثه الله به إليهم مما فيه رشدهم وهداهم، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لما أيس منهم هاجر إليه تبارك وتعالى عنهم، فلما رآهم مقيمين على الأمر المذموم عند الله المسخوط، وآمن له ابن أخيه لوط، قال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26].
ــــــــــــــــــــ
[هجرة إبراهيم وابن أخيه لوط عليهما السلام]
وكانت هجرته صلى الله عليه وآله وسلم هو ولوط ابن أخيه إلى البادية والجبال، لا إلى ما يجمع الناس ويضمهم من المدن والقرى التي تورث الغفلة لمن فيها ويأوي إليها من أهل الضلالات والجهل والمعاصي والخبال، فهاجر بنفسه وابن أخيه وسارة زوجته ومماليكه ومن يجري حكمه عليه، حتى نزل بالبادية من جبل بيت المقدس فتفرغ هناك خالياً بنفسه، ومن أطاعه ممن تحت يديه، وصار إلى ذلك المكان من جبل بيت المقدس، وهو يؤمئذ جبل خال ليس فيه قرية ولا عمران، منفرداً معتزلاً لأهل المنكر والفواحش والعصيان، فكان منه في خلاء وبادية، اتخذ فيها حيوان الماشية من الغنم والحمير والإبل، فبارك الله فيما اقتنى من ذلك وملكه وكثره.
ــــــــــــــــ
[قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام في هجرتهما]
فذكر في صحيح الخبر أنما اتخذ من ذلك نما وانتشر حتى صارت معه أقاطيع كثيرة من الغنم، وفنون وعدة من الإبل، فكانت ثلاثمائة، وقال بعضهم ستمائة من الإناث، والذكران، والحمير، واتخذ من الرقيق صلى الله عليه وآله وسلم رجالاً ونساء كانوا له خولاً تحت يده، فعلمهم طاعة الله وعبادته فآثروا أوامره وطاعته، فبارك الله في خوله ورقيقه، فتناسلوا حتى بلغوا مائتين في عددهم، ملئوا محالهم الذي هو فيه صلى الله عليه وآله وسلم هو وهم من باديتهم وبلدهم.
واتخذ ابن أخيه لوط خولاً وحيواناً من الماشية كثيراً، وحفر إبراهيم لكثرة ماشيته بياراً شتى، ثم إنه كان بين حشمه وبين حشم لوط تضايق، لكثرة ما أنمى الله لهم من الحيوان، فضاقت بهم المياه، فأوقع ضيق المياه بين الخول لكثرة مواشيهم تنازعاً، وكان هو وابن أخيه قد حفروا بياراً ومياهاً كثيرة في بوادي الجبال وغور الأرض، يتقلبون فيها شتاء وصيفاً، خالين بطاعة الله وتقواه، سائحين بذكره وعبادته في تلك الخلوات والمحال الطاهرات.
فلما تنازع رعاته ورعاة ابن أخيه مما كثر من ماشية لوط ومواشيه، فقال إبراهيم عليه السلام لابن أخيه قول الأنبياء الكرام: يا ابن أخي لا أحب أن تقع الضغائن بين خولك وخولي، فانظر ما في أيدينا من المياه التي حفرنا وبوادينا فاختر أي الناحيتين شئت، إن شئت فاختربوا دينا التي في غور فلسطين، وإن شئت فاختر الجبال المقدسة التي نكون بها صائفين، فخيره صلى الله عليه وآله وسلم أي البلدين شاء ومياههما ما كان منها جبلياً أو غوراً وسهلاً.
فاختار لوط عليه السلام غور فلسطين ومياهها وسهلها وبواديها، فاعتزل فيها فصار بخوله وماشيته إليها.
ــــــــــــــــــ
[مقام إبراهيم عليه السلام في بيت المقدس وخروجه منه للدعوة إلى ربه]
وأقام إبراهيم في جبل بيت المقدس، وكان ابن أخيه يغشاه بنفسه ويتردد إليه، وفرقوا بين من كان معهم من الخول والرعاء لأن لا يقع بينهم من التنازع والتضايق مثل ما يقع بين أهل الجهل والعمى. وكان يخرج صلى الله عليه وآله وسلم داعياً إلى ربه فيما خوله الله من آفاق البلاد، فخرج قبل مهاجرته من بلده ومولده وهي أرض خراسان (حران) والجزيرة إلى العراق، داعياً إلى الله وإلى توحيده فحبسه نمرود ملك العراق زماناً، ثم خلصه الله.
ــــــــــــــــــــ
[قصة إبراهيم عليه السلام مع فرعون مصر ]
وكان قد خرج بعد هجرته ومصيره بيت المقدس إلى أرض مصر داعياً إلى الله، فَهمَّ به فرعون أن يقتله، فرأى في منامه ملكين نزلا من السماء قد مليا مابين السماء والأرض ينهيانه ويزجرانه أن يعرض له، فاستيقظ فزعاً وأرسل إلى إبراهيم فأجازه وحباه وأعطاه وأهدى إليه هدايا كثيرة كانت فيها هاجر جارية كانت عند فرعون من قبط مصر فوهبها إبراهيم زوجته (ابنة عمه سارة)، وكانت سارة عاقراً لا تلد، فأقامت هاجر مملوكة لسارة زماناً حتى عجزت سارة، وارتفع الحيض عنها وقعدت عن الولد، فكلمت إبراهيم في أن تهب له هاجر جاريتها، وقالت لإبراهيم لعل الله أن يهب لك منها ولداً نبئياً، فوطي إبراهيم هاجر جاريته فوهب الله منها إسماعيل صلى الله عليه فسرت سارة به وأحبته وربته وتبنته، فشكر الله لها ما فعلت بإبراهيم، ووهبها من نفسها إسحاق بعد كبر سنها وارتفاع حيضها.
ــــــــــــــــ
[قصة سارة مع هاجر]
فلما رأت سارة هبة الله لها في إسحاق أبغضت إسماعيل بعد حبه، وباعدته وأمه بعد تقريبها وتقريبه، وألحت على إبراهيم بن عمها في تبعيد هاجر عنها، وإبعاد إسماعيل ابنها، وقالت اخرج عني الأمة وولدها، وضربتها وآذتها، وأساءت إليها بعد ما كانت عليه من إكرامها وإكرام ابنها.
فلما ألح البلاء منها على هاجر أخذت بيد ابنها إسماعيل، وتنحت وتغيبت عن سارة، فلم تدرِ أين تذهب، وقعدت تبكي تحت بعض الشجر، فنزل عليها ملك من السماء فقال: يا هاجر ياجارية سارة ما تصنعين هاهنا ؟ فشكت إليه ما تلقى وابنها من سارة من الضرب والأذى، فقال لها الملك يا هاجر أمة سارة ارجعي إلى مولاتك فتعبدي([22]) لها، واصبري على ما ينالك من أذاها، فإن الله جاعل لك ولابنك فرجاً ومخرجاً، وجاعل ابنك هذا نبيئاً، وواهب لك منه نسلاً كثيراً لا يحصى عددهم يكونون وحش الإنس، ويكون لهم نبأ وشأن، وتكون أيديهم مبسوطة بالقوة والبأس على كل الأمم والأجناس.
وهذا من قصة إبراهيم وإسماعيل وسارة وهاجر مثبت في التوراة التي أنزلها الله على موسى.
ــــــــــــــــــ
[نزول إبراهيم عليه السلام بهاجر وإسماعيل إلى مكة وبناء الكعبة والحرم ]
ثم إن الله أمر إبراهيم بإخراج هاجر وإسماعيل إلى مكة، ومكة يومئذ بادية، خلاء وواد من أودية تهامة خواء ليس بها دار ولا بناء فأنزل إبراهيم إبنه إسماعيل وهاجر في موضع الكعبة، وكان بمكة قوم من اليمن من جرهم، فأمر إبراهيم ابنه إسماعيل أن يتزوج فيهم، فتزوج منهم امرأة ووهب الله منها ولده، وكثر بمكة ذريته وعدده.
وبنى إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وآلهما كما ذكر الله الكعبة، ورفعا منها القواعد من البيت، ودعا إبراهيم وإسماعيل لذريتهما كما ذكر الله من الدعوة، وقال الله مخبراً في كتابه عن دعاء إبراهيم خليله لذرية إسماعيل ابنه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 227] إلى آخر الآية.
ووضع إبراهيم أعلام الحرم، وشرف الله إسماعيل بمكة حتى انتشر في البلاد خبره، وعظم شرفه وقدره بما أظهر بأبيه وبه بمكة من أعلام النبوة، وما ظهر بهما وعلى أيديهما بالبراهين البينة وبالحج، واستجابة الناس لإبراهيم إذ أذن بالحج إليه، وألبس الله البيت الهيبة والعظمة عند كل من قدم ووفد عليه، وجعل الحرم أمناً لا يخاف أحد فيه، فأمنت الوحوش النافرة حواليه، مع آيات بينات قد ذكرها الله في القرآن، وبينها في تنزيله بأحسن البيان.
ـــــــــــــــــــ
[تكاثر ولد إسماعيل عليه السلام ]
فلبث ولد إسماعيل بمكة وحواليها وفي بواديها حتى ضاقت بهم لكثرتهم بوادي الحجاز، وزحم بعضهم بعضاً وكلما غزت([23]) قبيلة، زحمت ودفعت عنها الأخرى، وانتشروا في البوادي والبراري حتى بلغوا في البوادي ما شرف على العجم، العراق، وبلغوا من ناحية الشام ومصر واليمن، وأقصى ما يتصل بهذه البلدان من البوادي والبراري، وصلحت مكة لِخيارهم وأشرافهم، ولآبائهم وأبنائهم من قريش وبني كنانة.
فلم يزالوا كذلك حتى أخرج الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وجاء على يده بما جاء من النبوة والدين والخير والهدى.
ونشر الله ولد إسحاق عليه السلام بالشام، فكانوا بالبوادي بالشام لا في القرى أصحاب ماشية وسير وسياحة في طلب ما يصلح مواشيهم من المرعى، فأخرج الله منهم من أخرج وذكر في بني إسحاق من الأنبياء، فلم تزل البوادي وما بعد من القرى في أول الزمان وآخره مساكن للرسل والأنبياء والصالحين والأتقياء.
ــــــــــــــــــــــ
[ذكر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة]
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد مهاجرته إلى المدينة من ترغيبه عليه السلام في سكنى البادية والشعاب والأودية ما لا اختلاف على رواية الناس فيه.
فذكر عن عائشة وغيرها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كان يَتَبَدّى إلى أطراف المدينة وبواديها وتلاعها([24]) )).
وكذلك روت العامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كان إذا كان في أيام الشتاء والمطر تبدى))، ثم قالت عائشة وغيرها إلى هذه التلاع والشعاب إلى حول المدينة.
وقالوا: إنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يتبدأ إلى أطراف تراعها([25]) ونواحي البادية حولها.
وذكروا في الخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول ـ بعد مهاجرته، وبعد إعزاز الله له وظهور حكمه وأمره، وهو يرغب من معه وحوله في التخلي والتفرد، والاعتزال في الشعاب والبادية والتنحي ـ: ((إن أغبط الناس عندي لمؤمن في بطن وادٍ من هذه الأودية، أو شعب من هذه الشعاب، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، حتى تأتيه الوفاة)).
هذا يابني قوله وترغيبه في اعتزال الناس في أيامه ومع ظهور حكمه، والناس يومئذ هم الناس ليس فيهم الآفات والعاهات التي في البشر اليوم ولا الأدناس.
وذكر عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما لا اختلاف بين العلماء الأخيار فيه أنه قال عليه السلام: ((إذا كان المطر قيظاً([26]) والولد غيظاً([27]) وفاض اللئام([28]) فيضاً، وغيظ الكرام غيظاً، فأعنز عفر([29]) في جبل وعر، خير من ملك بني النضر))، وهذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفة أزمنة تكون بعده، ومنها الزمان الذي نحن وأنتم يابني فيه.
فقد لعمري فاض في زماننا وقبله بحين طويلٍ اللئام فيضاً، وغيظ الكرام غيظاً فأعنز عفر يابني كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جبل وعر خير من ملك بني النضر، وبنو النضر يابني هم قريش، فأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الأعنز العفر، والسكنى بها في الجبل الوعر، خير لأهل التقوى والبر من الاختلاط في مثل هذا الزمان وما أشبهه بأهل المنكر والشر.
ولم يزل عقاب الله يابني فيما مضى إنما يقع بالأمم في المدن والقرى، وكذلك وعيد الله فإنما هو لهم، قال الله لا شريك له: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ(97)أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ(98)أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)} [الأعراف: 98].
وقال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]، وقال تبارك وتعالى في موضع آخر وهو يذكر عذابه لأهل القرى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4]، وقال عز وجل في موضع رابع من كتابه: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ} [الأنبياء: 11].
وذكر تعذيب الله لأهل القرى في مواضع كثيرة من القرآن لما لم يزل عليه أهل القرى من كثرة الفساد فيهم والمنكر والعصيان.
ولم يكن أهل القرى يابني أكثر شراً ولا فساداً، ولا أشد الخلق مخالفة عن الهدى ولا عناداً، منهم في زماننا ودهرنا هذا، مع ما في القرى يابني من فساد اللسان وظهور العجمة واللكنة عن البيان.
ـــــــــــــــ
[ما في أهل البادية من الصفات الحميدة ]
وأهل البادية فلو لم يكن فيهم مع ما يرغب به عاقل لبيب في أن يأوي إليهم إلاَّ لثباتهم في الكلام، وفصاحة ألسنتهم، وما هم عليه أكثر أهل البادية من الإقتصار على أقل الكفاف في معيشتهم، والزهد في الدنيا الظاهر في لباسهم وآنيتهم، والجود والسخاء بقليل ذات أيديهم، وبذلهم وكرمهم إذا نزل بهم حق ينوبهم، أو آوى إليهم ضيف يأويهم، فالمقل منهم حينئذ في الجود بما في يده كالمكثر، والفقير في الإجتهاد بما يمكن في أداء الحق الذي نزل به وإكرام الضيف الذي حل بفنائه كالمؤسر، يؤثره عند ذلك على نفسه وعياله، ويبذل ويجود بما لا يجود به القروي من ماله، هذا مع إقبال أهل البادية على شغلهم، ومعائش أنفسهم وعيالهم، وافتراقهم في منازلهم ومحالهم.
فكل إنسان منهم يمكنه([30]) أن يكون وحده، وأن يحجز حرمته عن الفساد وولده.
وهذا ما لا يمكن يابني في أهل القرى لأن أهل القرى لا يقدر بعضهم عن الإعتزال عن بعض، لأنهم في سكك ودور وبناء، مع طيب البادية يابني وصحة الأبدان فيها وغذائها، وطيب نسيم رياحها وصفاء هوائها ومائها، وما فرش الله فيها فيما لا تبلغه فرش الملوك من رمالها وبطحائها التي ليست فيها ولا قربها أنتان ولا أنجاس، ولا يغشاها ولا يقاربها من لا حياء له ممن في القرى من غوغاء الناس.
ومع ما في البادية يابني من المناظر الحسنة من الشجر المختلف والنبات، والدواب من الوحوش الهاملات، وخلوة القلب بالفكر فيما وضع الله لخلقه من العبر والآيات، وما يرون فيها ويعاينون من الجبال التي نصبها الله الشوامخ الراسيات، وما في أهلها وسكانها من فصيح الكلام واللغات، ومعرفة من جاورهم بغريب العربية والبلاغات.
مع ما في البادية يابني من إمكان اتخاذ المواشي ذوات الأرحام، من الإبل والبقر والحمير والأغنام، التي لا يتكلف لشيء منها كلفة، ولا يؤتى لما جعل الله فيها من المعايش والغناء عن الناس على صفة، تكون للرجل بالبادية الناقة الواحدة فتصير نوقاً كثيرة بالتناسل وإبلاً، وتكون للرجل الشاة الواحدة والشاتان والخمس شياه، فتعود بالتناسل في غير طويل من الزمان مالاً وأغناماً كثيرة، لا يتكلف صاحبها لها علفاً ولا مؤنة، وقد تكون له البقرة أو الأتان من الحمير فيرزقه الله تناسلها ونتاجها حتى تصير مالاً ذا عدد كثير، والشاة الواحدة والناقة المفردة لا يقوى عليها ولا على علفها ومؤنتها في مدينة ولا قرية، لما يلزم لها وفيها من الغرامة والنفقة الثقيلة، فليس لشيء مما ذكرنا مما رفق الله ومنَّ به على الإنسان من الإناث ذوات الأرحام ومتناسل الحيوان، تناسل بالقرى والمدن ولا رعي ولا مكان.
والماشية يابني فيها وفي تناسلها ودرها وألبانها، وما يرفق الله عليكم من أثمان جلوبتها وأسمانها معائش رائقة، وبلغ ومعونة من الله مباركة نافعة، يكف الله بها وجوهكم عن بخلاء الناس ولئامهم، وأهل الدناءات والشح من عوامهم، فإن لم يكن لكم مع الماشية في البادية شيء من البيار والمزارع استغنى كل واحد إن شاء الله منكم وارتفق وانتفع.
ـــــــــــــــــــــ
[ذكر إعتزال الأشراف من أسلافه عليه السلام وغيرهم للمدن والقرى]
ولم يزل من مضى يابني من الأسلاف من قومكم في قديم الزمان، تكون لهم البوادي ويتخذونها ويسكنونها في كل بلدة وبكل مكان، ولم يزل الأشراف قط يتبوؤن البادية ويعتزلون عن القرى والمدن في الصحاري والبرية في كل ناحية.
فاعتزل في أول الدهر والناس حينئذ ناس في أكبر الشأن والأمر، بنو حسن فَتَبَدَّوْا، أولهم زيد بن الحسن بن علي عليهم السلام في بادية من المدينة تسمى البطحاء على أربعة أميال، فاحتفر بها بياراً، وبنى بها مساكن متباعدة بعضها من بعض ودوراً، فلم يزل بها بنو حسن بن زيد حتى فرقتهم منها هذه الفتن التي وقعت بالحجاز فكانوا أصح قوم أبداناً، وأجلدهم جلداً وأظهرهم وأنظرهم ألواناً.
واتخذ يابني عمكم عبدالله بن الحسن فيما مضى من الدهر والزمن بادية لنفسه وولده من سويقة([31]) وأكنافها وأوديتها وشعابها، فاحتفر بياراً وعيناً بالحَزْرَة([32]) في قربها، فيها بنو عبدالله بن الحسن بن الحسن إلى اليوم، وبعضهم قد اتسعوا وحلوا في بوادي ينبع والغور.
فبنو عمكم بنو عبدالله بن الحسن يابني منذ نزلوا البادية، أكثر قومكم عدداً، وأجلدهم جلداً، وأوسعهم منازل وبلداً، وأكثرهم في معائشهم ارتفاقاً بالمواشي من الإبل والغنم، فأقربهم لمجاورتهم العرب إلى أخلاق الحرية والكرم، قد دربتهم وخرجتهم البادية وأهلها، فجلدوا واشتدت أبدانهم في منازلهم إن حضروا، وقووا على السفر إذا احتاجوا إلى أن يسافروا فهان وخف عليهم في السفر سرى الليل، وكبارهم وصغارهم يركبون صعاب الرواحل وصعاب الخيل، رجال ذووا رجلة، مخشوشنون بأدنى اللباس والغذاء مكتفون، قد زال عنهم بسكنى البادية الإسترخاء، والتفكك والوهن والكسل، والكسح والتركك، لا يشبهون من في المدينة وقربها من قومهم في لباس أولئك برقيق الثياب، وقلة صبرهم عن لين الطعام وبارد الشراب، قد زال عنهم في البادية ما لزم أكثر الطالبيين بالبادية ([33]) من قبيح الألقاب، ولا يعرفون ما يعرف أولئك بالمدينة من اللعب بالحمام، لأن هؤلاء الذين بالبادية([34]) جيرانهم وأخدامهم العرب الأحرار الكرام، ومن بالمدينة من آل أبي طالب فأخدانهم([35]) وجيرانهم المولّدون([36]) من السودان والسفل اللئام، فكل من هؤلاء وهؤلائك بمن نشأ معه وجاوره مقتد متأس، فقد ترك من بالمدينة من العبيد والسفل، من جاورهم وخادنهم من آل أبي طالب بهم في الدناءة والسقوط ـ متشبهاً متمثلاً بمذاهبهم محتذياً.
ولآل الحسين بوادي العقيق والعريض في البوادي والخلوات.
ولآل جعفر بوادي الفرش([37]) وبوادي الغور فلكل بطن منهم بوادي ومعتزلات، ولهم منازل في البوادي والخلوات.
ولآل عثمان باديتان، وادي بدر وبلد يسمى دعان([38]) .
ولآل عمر بادية الخلائق والحمراء.
ولآل أبي بكر بوادي ثمر والأجار.
ولآل طلحة بواد.
ولبني مخزوم وتيم بوادي حول مكة.
ولبني عامر من قريش وفهر بواد كثيرة.
وكان يقال لا يتم شرف قوم من الأشراف حتى تكون لهم بادية.
ولم يزل يابني كل من يتمعض([39]) ويأنف ويتمرأ ([40]) وإن لم يكن ذا دين من بطون أشراف قريش إلاَّ ولهم بادية، بل لكل بطن منهم بواد ومعتزلات، ومنازل في البوادي وخلوات.
[ذكره عليه السلام عداوة أهل مكة والمدينة لأهل البيت عليهم السلام وتحذيره أبنائه من سكانها]
واعلموا يابني أنكم لو لم تعتزلوا المدن في هذا الزمان والقرى، إلاَّ لغلبة عداوتكم وعداوة آبائكم على سكان المدن وما هم عليه جميعاً من مخالفتكم ومخالفة أسلافكم في الرأي والتدبير، ولا أعلم في أهل المدن كلهم أشد لكم بغضاً ومقتاً وعداوة من أهل قصبة المدينة ومكة، ففيهم أصل عداوتكم وبغضائكم، وأهلها الذين علَّموا أهل الآفاق التدين بخلاف دينكم وآرائكم، ولا تسكنوا في هذا الزمان قصبة المدينة ولا مكة، وعليكم ما بقيتم بسكنى ما حول المدينة من البادية، والمجاورة في بوادي الحجاز من أهل الكفاف والعفاف من العرب في البوادي، ولا تختلطوا ولا تجاورا من العرب أهل اللصوصية والفتنة، ولا تكثروا دخول مكة والمدينة إلاَّ لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو لحج بيت الله الحرام، أو لأخذ حاجة تحتاجون إليها من الأسواق أو لفتنة هائجة مخوفة غالبة تخافون معها انقطاع الميرة والطعام، فإن كان عندكم ذخيرة، وكانت عندكم بلغة ونفقة وميرة، ففي البادية من الأودية والجبال والفروع والمحال في شواهق الجبال ما يعزكم عند كل فتنة إن شاء الله تعالى.
وكذلك فلا تسكنوا مدن العراق ولا مدينة الكوفة فإنهم قد صاروا إلى غاية العداوة والنفاق، وليس لكم بلد ولا لأولادكم أتقى من بوادي الحجاز تولاكم الله بالتوفيق والرشاد في الدين والدنيا وسكنى البلاد.
واعلموا يابني أن ذكر البلاد وأخبارها، وذكر الأمم والأجناس وأمورها، سأشرح ([41]) لكم إن شاء الله منه ما قد ذكرت لكم في أول كتابي هذا إني سأشرحه وأبين لكم فيه بالخبرة والتجربة ما قد كفيتكم المؤنة فيه، فأوضح لكم إن شاء الله ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم، عليه توكلت لي ولكم وفيه وهو رب العرش الكريم.
وإنما دعاني هاهنا إلى ذكر البادية ما عرض في وصيتي لكم من ذكر الهجرة عن جماعات المدن والقرى والفجرة الغاوية، فلما أعلمتكم أنه لا مهرب منهم ولا هجرة إلى الله عنهم إلاَّ إلى البادية تعزلكم عند كل فتنة، وما هو أسلم عند الفتن من القرى والمدن، لأن أهل الفتنه إنما يطلبون الغنائم والنهوب في أماكن القرى وطرقها، والناس فلا يطلبون من اعتزل في أودية البوادي وجبالها الصعبة الرواسي، ولذلك وضعت لكم ووصفت لكم تفضيل البوادي وما فيها من المرفق والعزلة عن أهل العداوة لربكم ولكم.
ــــــــــــــــــــ
[عودته عليه السلام إلى الوصية بطاعة الله]
وسأعود إن شاء الله تعالى إلى ما ابتدأت به من وصيتكم بطاعة الله خالقكم وربكم، وحذر معصية بارئكم وإلهكم، والآن آخذ من وصيتكم في إتمام النسق الأول، حتى إن شاء الله وسلّم وأعان ووفّق وفهّم، آتي لكم على صفة ما تحتاجون إليه، وإلى تمييز ما تعملون إن شاء الله تعالى عليه، في معرفة البلدان ومن حولكم من الأمم والأجناس، وبعض ما تحتاجون إليه إن شاء الله لأنفسكم، ومن وهبه الله لكم من أولادكم وأهلكم وحشمكم، وما لا تستغنون عنه من الرأي في سياسة حرمكم وخدمكم، فتفهموا إن شاء الله بإقبال وصيتي، واقبلوا ما قد صفيت لكم اختياره من تجربتي، فلا شك إن شاء الله تعالى عندكم وعند غيركم في أني لم آلكم تسديداً ونصحاً، وتفهيماً لما أوصيكم به وإيضاحاً لذلك وشرحاً.
وسأوصيكم وأنبئكم يابني ببعض ما أوصى الله به ونبيه عليه في الكتاب من صالح العمل وجميل الأخلاق والآداب، فإنه لا وصية في كل حين أحسن من وصية الله تعالى، ولا تعليم ولا تنبيه لجميل خلق ولا أدب أحسن ولا أفضل من تعليم الله وتفهيمه.
ــــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في ترك الكذب]
فمما نهاكم الله عنه وزجر: الكذب في القول والشهادة والخبر، فلا تقولوا يابني زوراً ولا كذباً ولا تخبروا خبراً باطلاً، فإن الله يمقت الباطل والكذب وقوله، ولا يجب ولا يهدي أهله، يقول الله في كتابه وهو يذكر ما يحل بمن كذب من سخطه وعقابه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105]، وقال سبحانه وهو ينهى عن الكذب وشهادة الزور، وهو يصف عباده الناجين، ويخبر سبحانه وهو ينهى عن الكذب أحد كبائر الذنوب التي يعذب عليها المعذبين: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] ولكفى بقول الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28] نهياً عن الكذب لمن كان ذا عقل من أولي الألباب، فلو لم ينزل الله عن ذلك نهياً لكان الكذب منكراً، قولاً كان الكذب أو شهادة أو خبراً، ولكان ينبغي أن يتركه من كان ذا نسب وحسب حراً.
وقد قال جدكم القاسم بن إبراهيم رحمة الله عليه في النهي عن الكذب شعراً، فقال رضي الله عنه:
ما لكريم النصاب والكذب .... ذاك فعال اللئام في الحسب
لو أعطي الحرُّ أن يفه كذباً .... ملك جميع الملوك من عرب
ما رضي الحُرُّ أن يميل به .... لزعمة من زعائم الكذب
والزور أمرٌ قلاه خالقنا .... وذمَّهُ في مُنْزَلِ الكتبِ
والعبد إلف له يقلبه .... يميل منه في كل منقلبِ
يكذب إما لرغبة طمعاً .... أو رهبة للمجون واللعب
أعيذ نفسي ومن ولدت ومن .... أحببت من قول كل مكتذب
[وصيته عليه السلام في ترك كثرة الضحك والمزاح]
فإياكم يابني ثم إياكم: وكثرة الضحك والمزاح، فإن الإفراط في ذلك مما لا يفعله أهل المروءة والعقل والصلاح، وكثرة الضحك والمزاح فإن ذلك لا يوجد ولا يكون إلاَّ في أهل السخافة وقلة الدين لا فيمن اتقى وأصلح، ولم يزل الصالحون من الرسل والأنبياء وذوي الديانة من أهل المروءة والتقاء، يقل مزاحهم ولعبهم وفرحهم وطربهم، وإنما يعرف أهل اللب والعقل والصلاح والرزانة والوقار والخشوع بترك اللعب وكثرة الفرح والطرب والمزاح.
وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر ضحكه أن تبدوا ناجذاه، والناجذان فهما ما يلي النابين من الأضراس، وذلك هو التبسم لا غير في مفهوم جميع الناس.
وكانت تقول العرب في قديم الزمان: أن بني هاشم كانوا يعرفون بقلة الإنهماك في الضحك، وإن ضحكهم كان يكون تبسماً تنزهاً منهم عن القهقهة في ضحكهم وتكرماً، حتى اختلطوا بأهل المزح من الأجناس وقاربوا بالحضانة والولادة سفساف الناس، فانهمكوا في دهركم هذا مفرطين في سرف المزح والضحك، وانهتك به في مروءته من آل أبي طالب وغيرهم من انهتك.
فإياكم يابني ثم إياكم، والتمقت بكثرة المزح والفرح والضحك عند خالقكم وإلهكم ومولاكم، فإنه سبحانه يقول في كتابه فيما أدب به عباده من كريم آداب ابتداء منه بالاستحسان والرضى، قول قوم قارون لقارون فيما مضى {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}[القصص:76] وقال في موضع آخر من كتابه ذَّاماً للمرحين: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37].
ــــــــــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في ترك السرقة وأداء الأمانة]
وأما يابني ما كره الله من السرق والخيانة وترك أداء الأمانة، فقد كان هذا في الجاهلية عند أهلها من الكفار مذموماً، وكان من فعله في الجاهلية لئيماً معاقباً مقيتاً ملوماً، ثم حكم الله في السارق بقطع يده لسخطه عليه، فقال فيما نزل على نبيه من كتابه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]، وقال مؤكداً لأمره في أداء الأمانة إلى أهلها مرغباً في تكرمة تأدية الأمانة وفعلها {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58].
فوالله يابني إنه ليستحسن من الرجل الكافر والعجمي الخبيث المحتقر أداء الأمانة إذا استؤمن عليها، فكيف بالمستأمن من ذوي الشرف والحسب، ألاَّ يؤدي أمانته إلى من وثق به واسترسل إليه فيها، ولقد ذكر الله أداء الأمانة عن بعض كفرة أهل الكتاب منبهاً بذلك لذوي الورع في الدين والألباب، فقال سبحانه: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75] ذماً منه سبحانه لمن ترك أداء الأمانة وإن كان كافراً، وأداء الرجل يابني لأمانته فمن صيانته لنفسه وتكرمته لها، ولم تزل الخيانة مذمومة مسخوطة في جميع الأديان والأمم كلها.
ــــــــــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في الصدق في القول والوعد]
وأوصيكم يابني بالصدق في الوعد والأخبار، فإن الصدق عند الله من كرم صالح الأبرار، وقد أمر الله بالصدق في مواضع كثيرة من القرآن وحلا به ووصف أهل الصلاح والإيمان، فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب: 35] فجعل سبحانه الصدق صفة لصالح الرجال والنساء، ودليلاً على الإسلام والإيمان من أشرف الصفات، وجعل الصدق للإسلام والإيمان علامة ثانية من العلامات، وقال تعالى أيضاً وهو يصف حدود صفات من رضي عنه من أهل التقوى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(16)الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ(17)} [آل عمران: 17] فجعل الصدق سبحانه والصبر والقنوت وهو الدعاء من الداعي قائماً لله، والإنفاق فيما رزق وترك البخل من صفات المتقين الأبرار.
وقد ذكر الله الصدق بالرضا منه والوصية منه به، وكرر ذلك تكرار بعد تكرار، وذكر صدق الوعد فريضة، وجعله من فاضل الأعمال الصالحة، التي مدح بها إسماعيل نبيه صلى الله عليه، فقال تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54]، فكان صدق الوعد مما رضي به عن إسماعيل نبيه صلى الله عليه وآله وجعله له مدحاً شريفاً سنيا.
[وصيته عليه السلام في العمل بوصايا القرآن]
ولكفاكم يابني بوصايا الله في القرآن أدباً ووصايا، فإن الله تبارك وتعالى قد أمر عباده في كتابه من صواب الرشد والحكمة بما هو أفضل مما وهبهم الله من العطايا، ففيه فانظروا، ومنه فاقبلوا وبنوره فاستنيروا، وما أمرتم به في الكتاب أن تفعلوه فافعلوا، فليس خير يبتغى إلاَّ والقرآن به آمر، ولا شر يتقى إلاَّ وكتاب الله عنه ناه زاجر.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36].
فما هذا يابني في هذه الآية من جوامع الوصايا بالخير والمعروف والكرم، إذ بدأ في وصايا هذه الآية بأوجب الحقوق، وبين حق الخالق وعبادة الله وترك الإشراك به، إذ حقه الواجب الأعظم، ثم ثنى تبارك وتعالى بعد ذكر عبادته وإيجاب عظيم حقه بالوصية بحق من حقه بعده، من أوجب حقوق خلقه، بحق الوالدين الذين منهما خلق الولد، وهما اللذان ربياه صغيراً، وغذّواه برزق الله، وكانا في الشفقة عليه والمحبة له والإحسان إليه على ما لا يبلغه بعد الله غيرهما أحد، ثم وصى في هذه الآية سبحانه بالرأفة والرحمة، والصلة بعد الوالدين والإحسان إليهما إلى ذوي الرحم الأقربين، والإحسان إلى ذوي القربى فهو العطف عليهم كما قلنا بالرأفة والرحمة والصلة لمحتاجهم ومضطرهم بالعطية والهبة، والصبر على ما لا تخلوا القربى منه بالحسد و النفاسة على القريب إذا بان عليهم بفضل أو رياسة، أو كان في بُلغ الدنيا أكثر قليلاً منهم سعة وجِدَة، فلا يخلون حينئذ من تنقصه وعيبه والوقيعة فيه، وحينئذ يجب الصبر منه على ذلك للقربى والصفح عنهم، وترك مكافأتهم، وذلك الإحسان الذي فرض الله لهم عليه.
واليتامى فقد أوصى الله في هذه الآية بهم والإحسان إليهم والرحمة لهم، مما بلوا به من الصغر من فقد والديهم.
ثم أوصى سبحانه في هذه الآية بالمساكين، وهم ذوا العسرة والفقر الشديد، والسُّؤال المحتاجون فأمر بالإحسان إليهم، والإحسان فهو نفعهم وما يتصدق به عليهم.
ثم أوصى الله سبحانه بابن السبيل، وهو المسافر الغريب، الضعيف الذليل، الذي قد تغرب عن وطنه وبلده، وانقطع به في بلغه وزاده، وقلة ذات يده، فأمر تعالى بالإحسان إليه، والإحسان فهو الدفع عنه إلى ابن السبيل فهو ضيافته ورفده، حتى يخرج من غربته وتضمه بلده.
ثم أوصى تبارك وتعالى بحفظ الجار ذي القربى في النسب وقريب الجوار، وأوصى أيضاً بالجار الجنب وهو المتنحي منزله إلى الجار الأجنبي، والأجنبي فهو المتنحي عن ذي القرابة والنسب، والإحسان عما يغمه ويؤذيه، واحتمال بعض خطاياه أوحسده، مالم يصل إلى ما يسخط الله تعالى فيركب كبائر معاصيه.
ثم أوصى تبارك وتعالى بحفظ الصحبة من صاحب الجنب، وهو المصاحب في السفر الأجنبي الذي ليس منزله منك بقريب، وليس بينك وبينه معرفة ولا قرابة، فأوجب سبحانه له حقاً بالرفاقة والصحابة.
ثم أوصى سبحانه في هذه الآية بوصية شريفة عنده مكرمة، من الإحسان إلى المماليك العبيد الذين خولهم من يملكهم، والمملوك فهو إنسان كمالكه، وإن كان الله قد جعلهم سخرة لهم، والإحسان إليهم فهو أن لا يقصر في النفقة عليهم عما يغنيهم ويكفيهم، وأن يكسو في البرد والقرّ ما يدفيهم، وأن يكسو في الصيف ما يواريهم، ويتجاوز لهم إلاَّ في حد من حدود الله، يغفر ذنوبهم، ولا يفرط الفرط الشديد المسرف في شتمهم وسبهم، فإن غلبوا بالمجانة والمعصية فبيعهم أصلح وأسلم، وأشبه بالإحسان وأكرم من تعذيبهم وضربهم، إلاَّ أن يرجو المالك أن ينفع فيهم تأديبهم، فيؤدبهم ويعاقبهم عقاباً وسطاً، ولا يصير من أدبهم إلى أدب مسرف مفرط ويكون لله سخطاً.
ولكن بما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المماليك من الخبر، دلالة على رضى الله سبحانه في الرفق بالمماليك لمن فهم ونظر.
فإنه قد صح في منقول الآثار وما لا شك فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأخبار أنه أوصى في مرضه ونزول موته، فقال نظراً لأمته: ((أوصيكم بالضعيفين المرأة والمملوك)) ([42]).
وذكر أيضاً عنه في الوصية بالمماليك أنه قال للأحرار وهو يوصيهم بما ملكت أيديهم، ويعلمهم أن من يملكون بَشَرٌ كهم يؤذيهم ما يؤذيهم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أرقاكم أرقاكم لم يخلقوا من حجر ولم ينحتوا من شجر، أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون))([43]).
فقال الله سبحانه في آخر هذه الآية والوصية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36] والله سبحانه لا يحب ولا يرضى للإنسان الضعيف الفاني التكبر والإختيال. لأنه وضع الإنسان في الدنيا موضع الوهن والصغار، والإنحطاط في كل حال.
فكم يابني في هذه الآية من وصية حكيمة، ومصالح للناس رضية كريمة، وقال الله سبحانه وهو يوصي من هو به رؤف رحيم من هذا الإنسان: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] فكم في القرآن الحكيم وتنزيل الله الكريم من موعظة شافية كافية لقوم يعقلون، ففيه يابني فانظروا، وبنوره في ظلمة حيرة دهركم فاستنيروا، ففيه الدلالة إلى كل رشد وخير، جعلكم الله ممن اهتدى في ظلم هذا الدهر وحيرته بضياء كتاب الله المبين.
ولكفاكم يابني بنهي الله عز وجل عن كل شر ومنكر ترغيبا منه تعالى في كل خير وبر، بقوله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7،8] فلا أقل ولا أصغر لو كان عند الله سبحانه من الخير والشر في حكمه شيء لصغره وحقارته يسقط ويحتقر من مثاقيل الذر، ولكفى في النهي عما حرم الله من الحرام بقوله ونهيه في آخر سورة الأنعام لنبيه، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151)وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(152)} [الأنعام:151ـ152].
والفحشاء يابني التي نهى الله عنها فهو كل فاحش من القبيح مستنكر، وذلك فيما قد ألهم الله معرفته كل غوي وبر، وليس يفعل أحد شيئاً صغر ولا كبر من الفحشاء والقبيح، إلاَّ وقد ركب في طباعه وألهم معرفة ذلك كل أبيض وأسود، أعجمي وفصيح، ألا تستمعون لقول الله تبارك وتعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)} [الشمس: 7ـ 10] فركب الله يابني كل نفس ومعقولها قبل ما عملت من عملها معرفة ألهمها إياها، تفهم بها ما تأتي من برها وإثمها، وكذلك الفواحش كلها والنفس لما تفعل منها منكرة، و كذلك إذا اتقت وبرت فقد ألهمت النفس وعرفت الأعمال الصالحة البرة، وفيما ذكر الله سبحانه من النهي في القرآن عن المنكر والفحشاء والعصيان، ما أغنى وكفى عن تفسيرنا له بالبيان.
وسأعود يابني إن شاء الله إلى ذكر جمل أوصيكم بما أوصى الله به فيها من الطاعة وفعلكم لها وأثرتكم إياها هي الغنائم الكبرى في الدنيا، وبها النجاة عند الله، والظفر بثواب الله، وحسن جزائه في الدار الأخرى.
وسأذكر لكم يابني من ذلك إن شاء الله جملاً مختصرة إن عملتم بها رجوت أن يكون فيها نجاتكم عند المعاد إلى الله في الدار الآخرة.
ـــــــــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في توحيد الله واعتقاد وما يليق بجلاله وعظمته]
فأول إن شاء الله ذلك ذكر بارئكم وخالقكم وربكم، والفكرة في وحدانيته وجلاله وعظمته وأن لا تتوهموه مشبهاً لشيء من خلقه وبريته، ولا مثلاً ولا مشاكلاً لشيء مما خلق في أرضه وسماواته، وأن تعلموا إذا فكرتم فجالت بكم الفكر في جميع ما يدرك العقل والحواس، ويحيط به مما ظهر أوغاب أفهام الأولين والآخرين من الناس، من كل حيوان حي من ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو شمس منيرة، أو نور من الأنوار مضي، أو معظم مشرق مستحسن بهي، أرضياً كان ذلك أو سماوياً تجول به في قلوبكم فكرة، أو تهِمُوه في دنياً أو آخره، أن تعلموا أن ربكم وإلهكم وصانعكم وصانع كل شيء خلاف لهذا كله، وأنه غير مشبه لشيء من الأِشياء كلها التي خلق في سماواته وأرضه، وأن حقيقة الإيمان به أنه هو الله الذي هو خلاف الأشياء كلها، لا يُشاكله ولا يشابهه شيء مما في السموات العلى، ولا مما في أرضها وسفلها.
وحقيقة الإيمان به أبداً، والصواب والحمد لله فيها والهدى، أنه خلاف ما أدركته العقول أو خطر بالبال في الكرم والعظمة والكبرياء والجلال، حقيقة اليقين في المعرفة أنه لا يدرك بحيطة ولا تحديد، ولا تمثيل ولا صفة، وكيف يوصف من لا تدركه العقول، ولا الفكر ولا الحواس، ومن تعالى وجل عن شبه أهل السماء من الملائكة، وتقدس وعلا عن أن يشبه الأنوار ذات البهاء المضيئة، وحاش لله أن يشبه أو يماثل الإنسان الذي هو من الصور الأرضية، بل هو سبحانه الواحد الحق في الوحدانية، والذي لا تدركه الأبصار، ولا يوصف بحدود ولا أقطار، ولا تقاس عظمته وجلاله وقدرته بشبه ولا مقدار، أعظم من كل شيء عظمته عظماً، وأكرم من تدركه الأوهام أو تناله الفكر كرماً، كل كبير معه صغير، وكل معظم عند ذكره حقير.
فإلهكم يابني وربكم فسبحوا واذكروا وحبه والوله إليه فاستشعروا، ونعمه عليكم فافهموها وإن لم تحصوها واشكروا، وشكركم له وحمدكم فإنما هو بالطاعة والعمل الصالح، لا بالإقرار واللسان، بل بالركوع والسجود والتسليم لأمره والخضوع، والفكرة فيما أبدى من حججه وآياته، وما أراكم من برهان ربوبيته في أرضه وسماواته، فاسمعوا لإلهكم العظيم، وبارئكم الكريم وأطيعوه، واخشوا من خالقكم الرؤوف الرحيم بكم واخضعوا، واحمدوه بألسنتكم وسبحوه، واسجدوا له واركعوا، فإنما حمده وشكره عبادته وطاعته، وذكره واتباع ما يحب ويرضيه، واجتناب كلما نهى عنه من سخطه ومعاصيه، ومولاة أوليائه ومحبة أحبائه من رسله، وأنبيائه، ومعاداة أعدائه والإيمان به وبملائكته والتصديق برسله وكتبه.
ــــــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في الصلاة]
وبعد الإعتقاد منكم يابني بالإيقان والإيمان فخذوا أنفسكم بما أمركم به من تطهير الأعضاء والأبدان، فإذا توضأتم فاسبغوا الوضوء حتى تنظفوا ما أمرتم به من كل عضو.
واعلموا أن الوضوء هو التطهر الأصغر، وأن أجلّ منه في الطهارة والأكبر ([44]) التطهر والتنظف من كبائر المعاصي، وأن ذلك هو الباب الأكبر الذي من دخله صار إلى النجاة.
واعلموا يابني أن الصلاة إنما وضعت وفرضت لذكر الله تعالى والثناء عليه، والفكرة في جلاله وعظمته وما يقرب إليه، فمن كان حظه من صلاته القعود والقيام، ولم يكن مفكراً في صلاته بالذكر لجلال ربه وعظمته وما يقرب إليه، وما أنعم به عليه من عظيم نعمه، وما وعد من كريم الثواب في طاعته، وما خوفه به من أليم عذابه على معصيته، فمن لم يكن هكذا فهو ساه في صلواته، وإنما وضعت الصلاة لذكر الله، قال الله سبحانه وتعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وقال عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ(4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ(5)} [الماعون: 5]، والسهو عنها فهو السهو عن ذكر الله تعالى فيها، والإقبال بالفكر والقلب عليها.
فافهموا يابني رحمكم الله قول ربكم ودلالته لعباده وخلقه، على ما في الصلاة والركوع والسجود من رضاه وتعظيم حقه، إذ يقول سبحانه لنبيه وهو يرغبه في الصلاة ويدعوه إليها، ويخبره عن الفضائل في الصلاة وما جعل فيها، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].
والصلاة يابني فهي السجود والركوع، والخضوع لله والخشوع، وتمامها وقوامها ونظامها ذكر الله فيها، وإقبال القلب لذكره فيها، ألا ترون كيف يقول الله عز وجل: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]والصلاة فلها موقع كريم عند الله، وهي في جميع الأديان عند أهلها مما يقرب إلى الله تعالى.
وقد رغب فيها يابني في مواضع كثيرة من القرآن، وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من يتبعه من أهل الإيمان، وقال تعالى منبهاً لنبيه وأوليائه لما في الصلاة من المعونة لهم على تفريج غمومهم وكروبهم، مع ما فيها من القربة إليه ورضاه {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] وكبرها يابني الذي ذكر الله هاهنا فهو ثقلها على أهل القسوة واللهو الغافلين، فلا تدعوا يابني الأخذ بحضكم منها، والإستكثار من نوافلها، وقلة الغفلة عنها، فإن فيها الروح والفرج من الغموم، وكيف لا تكون كذلك وإنما أقيمت وتفرغ فيها لذكر الله الكريم، وأي شغل من الأشغال أو عمل من الأعمال أشرف شرفاً وأجل قدراً من عمل يشتغل العبد فيه من الدنيا ودنسها، ويقبل في صلاته على الخضوع لله صامداً لخالقه وربه ذاكراً.
فهي كما جاء أنه كان في الأذان الأول([45]) النداء بها (حي على خير العمل) وهو خير ما أقبل عليه الإنسان وبه اشتغل، قال الله سبحانه الحكيم العليم، وهو يدعو إلى الصلاة والركوع والسجود أبناء خليله ونبيه إسماعيل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(77)وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:77ـ 78] فدلهم اختصاصاً لحبه سبحانه لأبيهم إبراهيم وإسماعيل على عمل من أعمال البر يحبه ويرضاه سماه عبادة وخيراً وفلاحاً.
ألا ترون يابني كيف يقول {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحج:77] ولكفى بهؤلاء الكلمات في هذه الآية دليلاً على فضل الصلاة والفلاح.
يابني في جميع القرآن فهو الربح والأرباح، فما سمعتم في القرآن قد أفلح، فمعناه قد ربح أو أربح، والمفلحون فهم الرابحون.
وفي الصلاة يابني وفضلها ورضوان الله عمن فعلها من أهلها ما بدا الله بها في صفة المؤمنين، وجعلها أول فريضة على المسلمين، وقدمها قبل غيرها في شرائع الدين، ألا ترون أن الكافر المشرك إذا تاب من شركه وأسلم، كان أول ما يؤمر به أن يبتديه الصلاة لربه وبارئه، قال الله لا شريك له وهو يقدم الصلاة في منزل القرآن، عند ذكره وصفته لأعمال أهل الإيمان: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(7)وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)} [المؤمنون: 1ـ 9] فذكر سبحانه صفات المؤمنين التي كانوا بها عنده في الآخرة ناجين، فبدأ فيها بالصلاة عند ذكر أولها، ثم ختم بالمحافظة عليها عند صفاتهم في آخرها.
فتفهموا يابني وفقكم الله في هذه الآيات ما ذكر الله سبحانه من هذه الأعمال.
فتفهموا يابني وفقكم الله في هذه الآيات ما ذكر الله سبحانه من هذه الأعمال الصالحات التي ورثهم بها الفردوس، وهي ستة أعمال من الحسنات، فقد كفاكم الله الدلالة على النجاة بها إن فعلتموها نجوتم وفزتم بجميع الخيرات، وما ذكر الله به الصلاة من فضلها فهو في آيات لا نحصيها من القرآن، ولا نأتي هاهنا على ذكرها كلها.
وذكر يابني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يرغب في كثرة الركوع والسجود لله ويدعو إليه، ويقول:((الصلاة خير موضوع فمن شاء استكثر ومن شاء أقل))([46]).
وذكر أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر من نوافل الصلاة ليلاً ونهاراً، ويقول: عليه السلام: (( جعلت قرة عيني في الصلاة)).
وذكر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه: كان من كثرة صلاته ونوافله ليلاً ونهاراً يصلي حتى ورمت قدماه، فقيل يا نبي الله ما يحملك على هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال عليه السلام: (( أفلا أكون عبداً شكوراً)) ([47]).
فالصلاة يابني الصلاة الصلاة فإن فيها فرج غموم قلوبكم، وأنس وحشتكم، ورضوان ربكم، فلا تغفلوا ما بقيتم عنها، واستكثروا ما استطعتم منها، فقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لكثرة رغبته فيها، يكثر الصلاة في ليله ونهاره كثيراً، وأنه كان يلزم ذلك مقيماً ومسافراً، حتى أنه كان ليصلي نوافله على ظهر دابته يركع ويسجد، ويكبر ويتشهد حيث توجهت الدابة.
وذكر أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ((إن أغبط الناس عندي لمؤمن ببطن واد من هذه الأودية أو شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة حتى تأتيه الوفاة)).
وقال الله تبارك وتعالى لنبيه مرغباً له ولمن تبعه في التقرب بالصلاة إليه، وأخبره أن الصلاة حسنات يذهبن السيئات، فتفهموا قوله تعالى تعلموا أنها من كرائم القربات لديه، إذ يقول سبحانه لنبيه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود: 114] وذكر تبارك وتعالى ما يرضى في الصلاة ويحب بقوله تعالى عند ذكر الكافر الناهي عن الصلاة: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، وقال تبارك وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى(14)وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15)بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(16)وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17)إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى(18)صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(19)}[الأعلى: 14ـ 19]، وذكر الصلاة فدل على فضلها عند مدحه لإسماعيل نبيه وابن خليله صلى الله عليه حين أخبر أنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً، وقال تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسلياً له عن الرغبة في الدنيا، وأمره له بما هو أنفع وأربح وأكبر من الدنيا كلها قدراً من الصبر على
الصلاة التي تقرب بها من الله، إذ هي أعظم ثواباً من جميع الدنيا وزهرتها التي يمد إليها الإنسان عينيه، قال عز وجل: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131)وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى(132)} [طه: 131ـ 132]، فرغب الله نبيه يابني في الصلاة ونهاه أن يمد عينيه إلى ما متع به المغرور زهرة دنياه، وأخبره بما أعد في الآخرة من الرزق الباقي لأوليائه، ودله على ما يناله به ويعطاه من التقرب إليه بالصلاة والصبر عليها، وأمر أهله منها بما يرضيه، فقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}[طه:132]، وأعلمه أن رضاه في التقرب إليه بالصلاة له، وأنه يرزقه ولا يحتاج إلى رزق فيسأله جل عن ذلك من يُطْعِم ولا يُطْعَم الله البعيد من شبه خلقه العلي الأكرم.
ــــــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في ذكر اللَّه ]
وعليكم يابني بذكر خالقكم وبارئكم فإن ذلك مما يحق له سبحانه عليكم، وذكركم له بالليل والنهار، فعمل صالح لم يزل من أعمال الأبرار، ومن الأولى بأن يذكر ولا ينسى، وأن يثنى عليه ويسبح في الصباح والمساء ممن خلقكم وفطركم بعد إذ لم تكونوا شيئاً، ومن لولاه تبارك وتعالى ما كان أحد منكم حياً، ومن يغذوكم في كل حين برزقه ونعمه، ويجود عليكم بفضله وكرمه، فنعمه عليكم تروح وتغدوا متصلة، فمن أولى منه جل جلاله سبحانه بأن لا تكون أنفسكم عن ذكره غافلة، فاحمدوه وكبروه وسبحوه فأكثروا ذكره بالغدو والآصال، فإن ذكره وتسبيحه وتكبيره من صالح الأعمال، فإن([48]) يقول سبحانه لعباده المؤمنين، وهو يأمرهم أن يكونوا له من الذاكرين، إذ لا يرضى لعباده أن يكونوا عصاة كافرين، بل الذي يرضى لهم أن يشكروه وهو أشكر الشاكرين، فقال سبحانه لعباده المؤمنين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41)وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا(42)}[الأحزاب:42]، وقال تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}[البقرة: 152]، وقال سبحانه في الذكر وأمر عباده به في السفر والحضر وبعد إفاضتهم من عرفات، وبعد الوقوف له يوم الحج الأكبر: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ(198) ثُمَّ
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(199)فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 198ـ 200] فأمرهم تبارك وتعالى بعد قضاء مناسكهم بذكره وأن لا يدعوا ذكره في سائر سببهم وأن يكثروا من ذكره كما يكثرون أو أشد من ذكر آبائهم، وأمها تهم، وقال تبارك وتعالى يابني، وهو يأمر عباده بعد الصلاة له بذكره على كل حال من أحوالهم، قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء: 103]، وقال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يأمره بتسبيحه وتكبيره في علانيته وسره: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف:205]، فأمره تبارك وتعالى بذكره على كل حال.
وذكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاَّ الله والله أكبر كتب الله له بها عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات))([49]).
وذكر عن علي عليه السلام من وجوه كثيرة حديث مشهور معروف عند أهل البيت عليهم السلام والعامة، وقد سمعته غير مرة أن علياً عليه السلام قال لفاطمة عليها الرضوان إن الطحن واختدامك نفسك قد جهدك فلو أتيت أباك فسألتيه خادماً فقالت فانطلق معي، قال فأتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت له فقال: (( ألا أدلكما على عمل خير لكما من ذلك تسبحان الله إذا أويتما إلى فراشكما ثلاثاً وثلاثين، وتحمدانه ثلاثاً وثلاثين، وتكبرانه أربعاً وثلاثين فتلكما مائة على اللسان وألف في الميزان)) ([50])، قال علي عليه السلام فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد كل صلاة فريضة وعند كل نوم، فقال له رجل ولا ليلة صفين يا أمير المؤمنين فقال ولا ليلة صفين.
وذكر يابني عن جدكم الحسن بن علي عليهما السلام حديث معروف عنه قال سمعه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من صلى صلاة الصبح ثم جلس يذكر الله إلى أن تطلع الشمس كان له ستراً وحجاباً من النار)) ([51]).
واذكروا قول الله سبحانه وهو يرغّب في الذكر ويدعو إليه عبادَه المؤمنين ونبيَّه خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}[الأعراف: 205]، وقال سبحانه وهو يأمر نبيه وعباده أن يكونوا له مسبحين {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ(39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ(40)}[ق:39]، يعني تبارك وتعالى أدبار الصلاة عند الفراغ منها، وقال لنبيه عليه السلام {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ(17)وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ(18)} [الروم: 17ـ 18]،
ــــــــــــــــــــــ
[قصة سليمان عليه السلام وأمره بضرب أعناق الخيل]
وقال وهو يخبر عن نبيه سليمان صلى الله عليه وسلم، ويذكر ما كان عليه من ذكر ربه وتسبيحه قبل توار الشمس بالحجاب، وهو سقوط عين الشمس، وقد عرض عليه ما أعطاه الله من أجناس الخيل الفاضلة الجياد، والعرب تسمي الخيل خير، فشغله صلى الله عليه وسلم العجب بفضل ما أعطاه الله من أجناس الخيل عن تسبيحه كل عشية يذكر الله حتى توارت الشمس بالحجاب، فأمر حين أغفله العجب بها والنظر إليها عن تسبيح الله وذكره يوم عرضت عليه ساعة من العشي حتى ذهب وقت تسبيحه برد الخيل عليه آسفاً على غفلته بالنظر إليها والعجب بها حتى توارت بالحجاب، يعني الشمس، فردت الخيل عليه، فأمر بضرب أعناقها ومسحها بالسوق وعرقبتها، قال الله سبحانه {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}[ص: 33]، والمسح الضرب بالسيف لأعناقها، وسوقها قطعها بالسيوف أسفاً إذ شغلته عن ذكر الله، لأن ثواب تسبيحة واحدة أكبر وأفضل من الخيل أسفاً على فوات تسبيحه ساعة واحدة.
وقال الله وهو يثني على المؤمنين والمؤمنات بالذكر له في الأوقات: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35].
فلا تدعوا يابني تعاهد الذكر لله، والتسبيح بالبكر والعشيات قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.
ــــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في الحج]
والحج فقد علمتم ما جاء فيه من الثواب، وأنه قيل أن أقل ما للحاج الخالص النية فيه من عظيم ثواب الله، وأنه يخلف عليه نفقته، ويخلف بالحفظ له في أهله ومهمه وولده، حتى يرجع من سفره لحجته، وأن الحجة المبرورة ليس جزاؤها إلاَّ الجنة، وأن الحج والعمرة ينفيان الفقر كما ينفي الكير خبث الحديد، فلا تدعوه ما أمكنكم إن شاء الله تعالى.
[وصيته عليه السلام في الصدقة]
والصدقة فقد رغب الله فيها ودل عباده المؤمنين عليها، فقال في صفة ما يرضى عن المؤمنين والمؤمنات {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
ــــــــــــــــــــــ
[وصيته عليه السلام في صلة الرحم]
وصلة الرحم والتغافل عما يكون من ذوي الأرحام من الظلم فمن وجه البر والخير، وفي ذلك من الأجر وثواب الله الكبير مالا يخفى على ذوي الألباب والتفكير، قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء: 1] وقال: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}[الرعد: 21]، وقال تبارك وتعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:36]، فإذا أوصى الله به في هذه الآية من الوصايا التي ترضيه، ويثيب عليها الثواب العظيم الكبير، وبر الأرحام وصلتها مما يعمر الله به الديار، ويزاد به في البقاء والأعمار، فلا تزهدوا في البر لذوي أرحامكم والصلة، فإن ذلك من أبواب البر عند الله العظام الفاضلة.
ولا بد يابني من أن يكون في القرابة وذوي الرحم بعض من يحسد ويقطع ويظلم، فإذا كان ذلك من أحد منكم، ولم يكن في الدين فاسقاً ولا سفيهاً عاهراً فاجراً، فصلوا القاطع وإن قطع، واحملوا عنه وإن آذاكم وجهل وظلم، فإن ذلك من الإحسان عند الله والله مع المحسنين، والصبر على ذلك عنهم من الكرم والحلم الذي وصف الله به المؤمنين، قال الله تعالى في دفع السيئة بالحسنة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: 34]، وهذا في الأبعدين وفي الناس أجمعين، فكيف في ذوي الرحم الأقربين.
واعلموا يابني أنه لا بد أن يكون بين ذوي الأرحام من الشيطان والنزعات وبعض ما يسمع منهم مما يؤذي النفوس في بعض الأوقات، فمن صبر لذلك حين أحرقه الأذى فتغافل وكظم حتى يهدأ الغضب ويطفأ، كان محموداً عند الله محسناً وبالحلم والصبر بعد مغتبطاً، وكان المحسن عند الله معاناً، قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
وذكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله المتقين أنه قال: ((ليس الواصل من يصل من وصله، إنما الواصل من يصل من قطعه))([52]).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن عمه، وابن أبيه وأمه، والناصر لله وله ولدينه علي بن أبي طالب رحمة الله عليه: ((يا علي ألا أدلك على أكرم الأخلاق وأحبها إلى الله، قال بلى يا نبي الله، قال: تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك)) ([53])، ولم يصل أحد الرحم ويعفو منها عمن أساء وظلم، إلا طال بإذن الله عمره وكثر رزقه ووسع الله له، فلا تزهدوا في صلة الأرحام، فإن ذلك من الإيمان والإٍسلام، وأخلاق ذوي المروءة والحلم وأفعال الكرام.
ومن قطع يابني من ذوي رحمه من قطعه كان قاطعاً مثله وشريك في ظلمه، فمن صبر على غيظ قطيعة ذوي رحم كان عند الله محسناً مأجوراً، ولما أمره الله به من صلة الرحم مؤتمراً مشكوراً، وكان الله بعونه معه وله معيناً، لأن الله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النحل:128]، وقال الله سبحانه وهو يصف المؤمنين، ويخبر عن ما لهم من الثواب والفوز يوم الدين {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ(21)وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ(23)سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(24)}[الرعد:21،24]، فبدأ تبارك وتعالى في صفة عباده المؤمنين بالصلة لما أمر الله به أن يوصل، والذي أمر الله به أن يوصل فهو ذو الرحم، والرحم الواجب عند الله صلتها، ثم ذكر من بعد الصلة للرحم ما يرضى من الصبر ابتغاء وجهه سبحانه على المكاره، والكظم على الغيظ، والإنفاق سراً وعلانية، وأن يدرؤا بالحسنة
السيئة من ذوي الرحم وغيره، فلا يجازوا من أساء بإساءته، ثم أخبر تعالى أن لهم عقبى الدار وهو ثوابه جل جلاله للأبرار فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}[الرعد:23]، فأخبر أنه لا يلحق بهم مع رضاه عنهم من الآباء والأزواج والذرية إلاَّ من عمل من الصلاح والصالحات مثل عملهم، ثم أخبر عن الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وهي صلة الرحم، أن عليهم بقطيعة الرحم والفساد في الأرض اللعنة، ولهم سوء الدار، وهو عذاب النار نعوذ بالله ونستجيره منها، ونسأله العون على ما يبعدنا من تقواه عنها.
فعليكم يابني بما أمر الله به أن يوصل من صلة الرحم، والصبر على ما لا بد أن يرى من قطيعة بعضهم بالإحتمال والحلم ترشدوا، وبذلك تسعدوا، وتعانوا عليهم وتوفقوا وتسددوا، فلستم تجازون معصية من عصى الله بقطيعتكم مثل طاعة الله في صلته، والتزين بالبر والحلم عمن أفرط منهم في قطيعته، وتوقي ما يقولون به على قطيعتكم من المعاصي والدناءة والعيوب، ولزوم العفاف والصلاح، واجتناب الكبائر من الذنوب، فإن الناس ليسوا عنهم وعنكم بغافلين، وسيبين لكم إذا فعلتم ما أمرتكم به من الحلم والصلة للرحم أنكم لهم في الفضل والخير فائتون، ولا تختلطوا بهم بالإنهماك اختلاط من يغفل الحذر والتحرز، ولا تنقبضوا عنهم من انقباض من تكبر عليهم، ولا تعززوا فاستعملوا الصبر لهم، والإعراض عنهم عندما لا بد أن يكون من نزغات الشيطان بالحسد، وذلك في القرابة قديماً وحديثاً ما لا يخلو منه أحد.
[وصيته عليه السلام في سياسة النساء]
وهذا ما أصنع لكم يابني من الرأي الذي جربت من سياسية النساء الحرائر منهم والإماء وما ينبغي أن يجربن([54]) عليه ويفعل في أمرهن، لأنهن في آدابهن وعقولهن وأخلاقهن قد تنكرن وتغيرن في زمانهن هذا ودهرهن.
فخيرتهن يابني ذوات العفاف والدين، ومن اختار منهن ذوات العفة والصلاح والدين فهو الرابح الراشد غير الخاسر ولا المغبون، ومن مال منهم إلى - الحُسْن والجمال - وإن لم يكن لمن كان منهن حسن جميل ولا صلاح في دينها، وتحجب وصيانة عند أوليائها، واستقامة في مذاهبهم في الصلاح والأدب والدين والحجاب، كان خاسراً مغبوناً، وبدى له من أخلاقهن في الدين والأخلاق ما لم يزل معه نادماً محزوناً.
فينبغي لمن أراد تزويج الحرائر أن يتثبت تثبتاً شديداً في المساءلة عن صلاحهن، ودينهن، وسيرة أوليائهن، ورجالهن من الآباء والإخوة، ونسائهن ذوات القرابة لهن، فإن كانوا أهل عفاف ومروءة وطهارة، وحجاب لحرمهم فسيرة نسائهم ([55]) في أنفسهن لا تشكّوا كسيرة رجالهن وأوليائهن، وإن كانوا أعفاء صلحاء فالنساء لا يكدن يكن إلاَّ على سيرة أوليائهن ورجالهن، وإن كان أولياؤهن الغالب عليهم وعلى نسائهم سوء السيرة وترك التحجب، فاحذروا يابني الدخول فيهن والتزوج لهن، فإن الغالب عليهن ما يغلب على رجالهن، إن كان شراً فشراً، وإن كان خيراً فخيراً.
فمن أراد منكم يابني خطبة امرأة تُذْكر بجمال أو غنى، فليسأل عن وليَّها وعفافه، ومذهبه في دينه وصلاحه، فإن كان ذا عفاف وصلاح، ومقالة في دينه بالهدى والصواب، وكان لحرمته ذا صيانة بها، وكانت المرأة التي هو وليها ذات عقل وجمال، وحمدٍ في دينها بالثناء عليها في الصيانة لنفسها، واستقامة الأحوال، ففيها لمن رغب منكم الرغبة، ورجوت بإذن الله أن تحمدوا بالدخول في تزوجها العاقبة، وأن تروا منها المحبة أكثر.
ثم استخارة الله قبل خطبتها والدخول في ملاكها مراراً كثيرة، وكان توكلكم في أمرها على الدعاء إلى الله في الإقدام على تزويجها بالخيرة.
وقد ذكر عن رسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((تتزوج المرأة على جمالها وعلى حسبها ومالها وتتزوج على دينها)) ([56])، ثم قال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( فعليك بذات الدين تربت يداك، يعني عليه السلام فإن فاتت ذات الدين، وآثرت عليها ذات الحسب والجمال والمال خسرت في دينك ودنياك، فعليك يابني بذات الدين فإن جمعت مع الدين حسباً أو جمالاً أو مالاً ففيها بلا شك الرغبة بالحق اليقين.
واعلموا يابني أن سياسة النساء الحرائر منهن والإماء إنما هي على ما يجربن عليه أول ما يدخلن بيوتهن، ونظرن إلى من يملكهن بإجراءهن على الحجاب والصيانة، وساسهن بحوز الدواخل عليهن جرين له على ذلك ما دامت بينه وبينهن الصحابة، وحذرن في ذلك خلاف ما أجراهن عليه، وإن هو أراهن سهولة عند دخول الدواخل عليهن اغتررن فيه وأجرينه على إدخال من لا يفهمه، ولا يحيط بغيبه من حشم أهلهن وجاراتهن، وموالياتهن اللواتي متى سهل لهن إدخال مثل ما ذكرنا كان حرياً أن يكون ذلك داعياً إلى فسادهن عليه، ولم يأمن أن يكون منهن المفسدات للمرأة والمصغرات عندها جميل ما يفعل، والمحسنات عندها ما لا يحسن ولا يجمل.
فرأس سياسة النساء حرائرهن والإماء شدة الضبط والحجاب، وأن لا يؤذن لهن في إدخال من لا يفهمون سرها ولا يأمنون إفسادها وشرها.
يابني وقد ذكر عن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((النساء عيٌ وعورات فاستروا عيهن بالسكوت وعوراتهن بالبيوت)) ([57]) يريد سترهن بالبيوت الحجاب لهن عن الدواخل، وإلزامهن بالحجاب الصموت.
واعلموا يابني أن المرأة وإن حجبها زوجها غاية الحجاب، فربما غفل الزوج عن المملوك المحقور عنده اتكالاً على ذلته وأنه يفرق منه ويخافه ويهابه، فيدعوه الإسترسال بمحقرة العبد والاتكال على ذلة المملوك وهيبته له بالملكة والرق أن يدخله على حرمه وامرأته، حتى يأنس بهن ويألفهن، ويأنسن به، وهو ذكر من الذكران، وقد ركب الله في طبع الإناث الصغو إلى الذكور، فيقع في غفلته عن الحذر للوغد والعبد ومحقرته له ما يكره من الأمور.
وكم وكم من امرأة شريفة جميلة حسينة قد دعاها دخول الوغد ومحقرته وألفه وإقباله عليها وإدباره إلى أعظم الريبة.
فلا يدخلنَّ على ما تحجبون من نسائكم وحرمكم ـ من تحتقرون من أوغاد العبيد، فإن ذلك إن فعلتموه لم يؤمن أن يسهل عليهن من محادثتهن لهم، وأنسهم بهن مما يدعوهن إلى المحذور المشقي الهائل الشديد.
فاحجبوا يابني عن نسائكم وحرمكم ذكران الرقيق المحقور منهم والغوي والرشيد، الفحول منهم والخصيان، فهم لا يؤمنون على داهية ولا فحشاء ولا عدوان، وإنما المرأة على ما جعلت عليه من وهنها وضعفها، ووليها ما لم تتق الله صاغية إلى الرجال لميلها وإلفها.
ولذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه نهى الرجل عن الخلوة مع امرأة)) ([58])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ثالثهما الشيطان))، والغالب على الرجال والنساء الميل من الذكر والأنثى، والصغو من الأنثى إلى الذكر إلاَّ من عصمه الله بالخشية والتقوى والبر.
فاحذروا يابني، الحذر الحذر كل الحذر من أن تدخلوا أبداً على الحرم رجلاً كان خصياً أو فحلاً، قبيحاً كان أو وضياً صبيحاً، وكم عسى أن يتردد ويدخل ويحادث ويألف حتى لا يؤمن منه ما لا يخاف ولا يتوهم ولا يعرف، فإن عصم الله من يدخل عليه من النساء بالطهارة والخوف لله والتقوى، لم يؤمن إذا كثر دخول المماليك عليهن أن يظن بهن من السوء ما لم يكن فيهن ولا منهن، وأقل ما في دخول المماليك على النساء ما لا يجوز ولا يحتمله غيور من وقوع أبصار المماليك على محاسنهن وصور أبدانهن، وأن يصفوا لمن لا يدخل من شرار الناس صفتهن، وهذا مالا يحتمله أهل الغيرة والأنف، فمكروه فيما بقي من الدهور وسلف.
وتعرفوا يابني عند نسائكم وحرمكم بالغيرة والتغلظ والتشدد في الحجاب، وانهوهن عن كثرة القيام بالليل ورفع الأصوات، ومروهن بالتحجب والتستر وخفض الصوت، فإن في الغفلة عما حذرتكم ما خير به الموت، ولا تطمعوا أحداً من مماليككم وجيرانكم في التقرب من أبواب دوركم، ولا حيث يسمعون أصوات حرمكم، فإن هذا رأس السياسة للنساء حرائرهن والإماء، فمن تراخى في الحجاب وتقريب المماليك والأصحاب من بيوت الحرم وأبوابهن، لم يؤمن من أن يتولد من غفلته ما ذكرت فيهن من الفضائح.
والذي أمرتكم به هو الذي لم يزل عليه كل غيور من الرجال وصالح، حاطكم الله تعالى وحاط لكم، وحفظكم وحفظ عليكم، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم، ولا تطمعوا النساء في زيارة القرائب، فربما جاء من الغفلة عن ذلك وتسهيله بعض المكاره والمصائب([59]).
تم الكتاب والحمد لله المنعم الوهاب
ــــــــــــــــــــــ
([59]) - تمّ لنا بحمد الله تعالى قراءة هذا الكتاب الجليل على سيّدنا ومولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى وأطال بقاه، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
علي بن مجدالدين بن محمد المؤيدي، إسماعيل بن مجدالدين بن محمد المؤيدي، وكتب/ إبراهيم بن مجدالدين بن محمد المؤيدي؛ وفقه الله تعالى.